علاقة اليهود والنصارى بالمؤمنين

عداوة اليهود وإيمان القساوسة والرهبان

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

الإعراب :

(تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (أَعْيُنَهُمْ) لأن (تَرى) هاهنا من رؤية العين.

(لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) : في موضع نصب على الحال من ضمير (لَنا) كقولهم : مالك قائما.

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) : (بِما قالُوا):ما مصدرية وهي مع الفعل بعدها في تقدير المصدر ، وتقديره : بقولهم. (جَنَّاتٍ) مفعول ثان لأثابهم (تَجْرِي) جملة فعلية في موضع نصب على الوصف لجنات. (خالِدِينَ فِيها) : حال من الهاء والميم في (فَأَثابَهُمُ).


البلاغة :

(عَداوَةً ... ومَوَدَّةً) بينهما طباق.

(تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) معناه : تمتلئ من الدمع حتى تفيض ، استعار الفيض الذي هو الانصباب لامتلاء العين بالدمع حتى تفيض مبالغة ؛ لأن الفيض : أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، وهو من إقامة المسبب مقام السبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء ، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من الدمع من أجل البكاء (الكشاف : ١ / ٤٧٩).

المفردات اللغوية :

(النَّاسِ) هم اليهود العرب ومشركو العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل. (عَداوَةً) اعتداء وبغضاء ، والعداوة ضد المسالمة والمحبة (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم الذين جعلوا مع الله إلها آخر كعبدة الأوثان من أهل مكة ، وسبب عداوتهم للمؤمنين : هو زيادة كفرهم وجهلهم وإغراقهم في اتباع الهوى (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ) أي قرب مودتهم للمؤمنين بسبب أن منهم (قِسِّيسِينَ) جمع قسّ وقسّيس ، وهو أحد رؤساء النصارى ، العالم بالدين والكتب فوق الشماس ودون الأسقف ، والقسيسون : علماء النصارى (وَرُهْباناً) عبادا ، جمع راهب : وهو العابد المتفرع للعبادة في دير أو صومعة. (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن اتباع الحق ، كما يستكبر اليهود وأهل مكة.

(ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) القرآن (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) تمتلئ دمعا حتى يتدفق من جوانبها ، لكثرته (آمَنَّا) صدّقنا بنبيك وكتبك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المقربين الذين يشهدون بربوبيتك وألوهيتك وبتصديق نبيك.

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) لم لا نبادر إلى الإيمان مع وجود مقتضيه (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) القرآن (أَنْ يُدْخِلَنا) الجنة (مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) المؤمنين.

(فَأَثابَهُمُ) جازاهم (بِما قالُوا) أي بما أعلنوا من اعتقاد.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن أمية الضمري ، وكتب معه


كتابا إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه ، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين ، ثم أمر جعفر بن أبي طالب ، فقرأ عليهم سورة مريم ، فآمنوا بالقرآن ، وفاضت أعينهم من الدمع ، فهم الذين أنزل الله فيهم : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) إلى قوله : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي ثلاثين رجلا من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ عليهم سورة يس ، فبكوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم الآية.

وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ..) وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه (١). قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي : المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به.

قال الطبري : والصواب في ذلك من القول عندي : أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى : أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسمّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي ، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى ، فأدركهم الإسلام ، فأسلموا لما سمعوا القرآن ، وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه (٢).

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أحوال أهل الكتاب ، فأوضح مخازي اليهود وعيوبهم ، ومن أهمها قولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة ٥ / ٦٤] ، (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) [آل

__________________

(١) أسباب النزول للسيوطي ، أسباب النزول للواحدي.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ٣.


عمران ٣ / ١٨١] ، وأبان زيف عقيدة النصارى في التثليث وتأليه المسيح ، ذكر هنا موقفهم في العداوة والمحبة من المؤمنين ، ونبه على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين ، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة ، بل إنهم أشد عداوة من المشركين لتقديم ذكرهم على ذكر المشركين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن مردويه عن أبي هريرة : «ما خلا يهودي بمسلم قط إلا همّ بقتله» وذكر تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.

التفسير والبيان :

أقسم الله تعالى بذاته على أن أشد الناس المعاصرين للتنزيل عداوة للمؤمنين هم اليهود ؛ لأن كفرهم كفر عناد وجحود وهضم للحق ، بل إن عداوتهم أشد من عداوة المشركين لتقديمهم في الذكر ، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء ، حتى هموا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرة ، وسموه وسحروه ، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين ، ثم يليهم في العداوة والبغضاء المشركون عبدة الأوثان لجهلهم بحقائق الدين ، وبالإله الحق ، وبالنبوات ، والفريقان متشابهان في الكفر والعتو والبغي وغلبة الحياة المادية وحب الذات.

وأشد ما لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى ، كان من يهود الحجاز ، ومن مشركي العرب في الجزيرة ، وخاصة أهل مكة والطائف.

ووالله إن أقرب الناس محبة ومودة للمؤمنين : (الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى) أي قالوا : إنهم أتباع المسيح والإنجيل ، فكان فيهم في الجملة مودة للإسلام وأهله ، لما في قلوبهم على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [الحديد ٥٧ / ٣٧] وفي الإنجيل : «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر».

وقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النصارى خيرا ، فتلقى نصارى الحبشة المؤمنين


المهاجرين إليها بالحماية والتكريم ، هربا من أذى المشركين ، ورد هرقل ملك الروم النصارى كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردا حسنا ، بعد أن حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام ، وكان المقوقس عظيم القبط في مصر أحسن منه ردا ، فأرسل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدية ، وبعد فتح مصر والشام أسلم كثير من النصارى في تلك البلاد ، لما رأوا في الإسلام من مزايا ، وأسلم أصحمة النجاشي ملك الحبشة مع بطانته ، ولما مات صلّى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الجنازة على الغائب ونعاه للناس.

وكان سبب مودة النصارى للمؤمنين : أنه يوجد فيهم قسيسون (علماء) ورهبان (عبّاد) يدعون للإيمان والفضيلة والتواضع ، والزهد والتقشف ، ولا يستكبرون عن سماع الحق والإنصاف وينقادون له ، فوصفهم الله بالعلم والعبادة والتواضع ، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتّباعه ، والإنصاف.

وإذا سمعوا شيئا من القرآن المنزل على الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكوا بكاء حارا غزيرا تعاطفا مع كلام الله ، وما عرفوا من الحق ، مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يبادرون لقبول دعوة الإيمان قائلين : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، والمراد به إنشاء الإيمان والدخول فيه أي آمنا بك وبرسلك وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاكتبنا مع من يشهد بصحة هذا المنزل على الأنبياء ومنهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويشهد لك بالوحدانية. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة ، كما قال تعالى في خصائص أمة المصطفى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة ٢ / ١٤٣].

ثم أكدوا قولهم فقالوا : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ ..) إنكار استبعاد أي ولا مانع يمنعنا من الإيمان بالله ، واتباع الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة بصحبة الصالحين أتباع هذا النبي الكريم الذين ثبت لنا صلاحهم وصحة إيمانهم.


وهؤلاء الذين آمنوا من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران ٣ / ٢٠٠] وفي قوله تعالى أيضا : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا : آمَنَّا بِهِ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) إلى قوله : (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص ٢٨ / ٥٢ ـ ٥٥].

لذا جازاهم الله على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق ، فقال : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ...) أي جعل جزاءهم دخول الجنة دار النعيم ، التي تجري من تحتها الأنهار ، أي تسيل مياهها من تحت أشجارها ، وهم ماكثون فيها أبدا ، وهذا هو جزاء المحسنين : الذين أحسنوا في اتباعهم الحق وانقيادهم له مهما كان مصدره ، ونعيم الآخرة يصعب علينا معرفته وتحديده ، لقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٧].

أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ، أي جحدوا بها وخالفوها ، وأنكروا وحدانية الله ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأولئك هم أهل النار والداخلون فيها ، والمقيمون إقامة دائمة فيها.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات مثل عال دقيق للإنصاف والحق والعدل ، إذا أنها قسمت الناس إلى فريقين : فريق المؤمنين والموالين لهم وجزاؤهم جنات النعيم ، وفريق المشركين والكفار الموالين لهم من اليهود وجزاؤهم نيران الجحيم.

إنه إنصاف من الناس لأنفسهم وإنصاف من الله تعالى لهم.

لقد أنصف جماعة من النصارى أنفسهم بسبب إذعانهم لدين الحق والتوحيد ، فآمنوا بالله ورسوله وبالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم كانوا يعلّمون الناس أصول الدين


الصحيح من توحيد الله تعالى والتصديق بجميع الأنبياء والدعوة إلى الفضائل والأخلاق الحميدة ، وكانوا يتعبدون بإخلاص في الأديرة والصوامع ويخشعون لخالق الأرض والسماء ، وليس لهم مطمع في مصالح دنيوية ، أو رئاسة فارغة ، ولم تعمهم العصبية لدين ما عن ولائهم لدين آخر ، ولم تحجبهم عن إعلان إيمانهم بالله ورسله وبما أنزل الله. فتراهم بما استقر في جوانحهم من إيمان صحيح بالله وبالأنبياء يصغون إصغاء تدبر وإمعان وإنصاف للحقائق لما أنزل إلى الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتفيض أعينهم بالدموع ، بسبب ما وجدوا من تطابق الحق الذي عرفوه وما سمعوه في القرآن الكريم ، فسألوا الله أن يتقبل منهم ، وجددوا إيمانهم بالله وبرسله ، وطلبوا أن يكونوا من جملة الشاهدين بحق على صدق وصحة دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والشاهدين بالحق من قوله عزوجل ، والشاهدين على سائر الأمم يوم القيامة بتبليغ أنبيائهم لهم رسالة الله الحقة.

وهذه أحوال العلماء العاملين المنصفين يذعنون للحق ويستجيبون للإيمان الصحيح ، وتخشع جوارحهم لذكر الله ، كما قال سبحانه وتعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الزمر ٣٩ / ٢٣] وقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال ٨ / ٢].

والخلاصة : لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود ، ويضاهيهم المشركون ، وأن أقرب الناس مودة للمؤمنين هم نصارى ذلك الزمان.

ومن علائم إنصاف أولئك النصارى الذين آمنوا بدعوة الإسلام إيمانا جريئا عدا اعترافهم بصحة المنزل من القرآن في شأن عيسى عليه‌السلام وإثبات البعث


والحساب ، هو إنكارهم عدم الإيمان بالحق حينما قالوا : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) فدلّ ذلك على استبصارهم في الدين ومعرفتهم الحق ، وانصياعهم له ، دون عتو ولا استكبار ولا إعراض مثلما فعل اليهود والمشركون.

وكان الإنصاف من الله تعالى : أنه جازى أولئك المؤمنين بدينهم الحق وبدين الإسلام الحق المصدق له والمكمل له ، كما قال سبحانه : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ...) وهذا دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالتهم ، فأجاب الله سؤلهم وحقق طمعهم ، وذلك عدل الله وفضله أنه يمنح رضوانه وجنته لمن آمن بإخلاص وعمل صالحا بصدق ويقين. وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة.

والعدل يقضي أيضا أن الذين كفروا من اليهود والنصارى والمشركين ، وكذبوا بالدلائل الواضحة على وجود الله ووحدانيته وصدق أنبيائه ، أولئك أصحاب الجحيم ، أي النار الشديدة الاتقاد.

إباحة الطيبات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))

الإعراب :

(حَلالاً) حال مما رزقكم الله ، كما قال الزمخشري ، أو مفعول به ل (كُلُوا) ، و (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) حال منه ، وسوغ مجيء الحال من النكرة تقدمها عليها.


المفردات اللغوية :

(لا تُحَرِّمُوا) لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم (طَيِّباتِ) ما تستطيبه الأنفس ، وهي ما لذّ وطاب من الحلال (وَلا تَعْتَدُوا) تتجاوزوا أمر الله ولا تتخطوا الحدود المقررة شرعا ، أو لا تسرفوا في تناول الطيبات ، أو لا تعتدوا بتحريم الطيبات (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا (حَلالاً) حال كون ما رزقكم الله من الحلال لا من الحرام (طَيِّباً) غير مستقذر ولا نجس.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة ، منهم عثمان بن مظعون ، قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: «لكني أصوم وأفطر ، وأصلّي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني».

وفي رواية السدي : أنهم كانوا عشرة ، منهم ابن مظعون وعلي بن أبي طالب.

وأخرج بن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة ، وقدامة تبتّلوا فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهمّوا بالاختصاء ، وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الآية.

فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمفقال : «إن لأنفسكم حقا ، وإن لأعينكم حقا ، وإن لأهلكم حقا ، فصلوا وناموا ، وصوموا وأفطروا ، فليس منا


من ترك سنتنا» فقالوا : اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن ابن مسعود : أن رجلا قال : إني حرمت الفراش ، فتلا هذه الآية وقال : نم على فراشك ، وكفر عن يمينك.

والخلاصة : اتفقت الروايات على أن هذه الآية نزلت في قوم من الصحابة هموا أن يلازموا الصوم وقيام الليل ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا يناموا على الفراش.

المناسبة :

بدئت سورة المائدة بالأمر بإيفاء العقود ، وذلك يشمل التزام حدود الله وما أحله الله واجتناب ما حرمه ، ثم نص تعالى على عدم إحلال ما حرم الله بقوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وهذه الآية لبيان النوع المقابل وهو تحريم ما أحل الله. وهي أيضا مرتبطة بما قبلها ، فبعد أن مدح الله النصارى بأنهم أقرب مودة للمؤمنين بسبب وجود قسيسين ورهبان منهم ، فهم بعض المؤمنين بأن في هذا ترغيبا في الرهبانية وتحسينا للتقشف والزهد ، وذلك بترك الطيّبات من الطعام واللباس والنساء. فنهاهم تعالى عن منع أنفسهم من الطيبات ، كالذي فعله القسيسون والرهبان ، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم ، وساح في الأرض بعضهم (١).

التفسير والبيان :

يا أيها المؤمنون لا تحرموا على أنفسكم ولا تمنعوها من الطيبات : وهي ما تستلذه الأنفس ، لما فيها من المنافع ، بأن تتركوا التمتع بها تقربا إلى الله ، ولا تتعدوا حدود ما أحل الله إلى ما حرم عليكم ، أو : ولا تسرفوا في تناول

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ٦


الطيبات ، أو : ولا تعتدوا بتحريم الطيبات ، فكان الاعتداء شاملا أمرين : الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه ، كقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف ٧ / ٣١] والاعتداء بتجاوزه إلى غيره من الخبائث.

وسبب النهي عما ذكر أن الله يبغض المعتدين ويعاقب المتجاوزين حدود شرعه ، وتحريم حلاله ولو بقصد عبادته ، سواء كان التحريم بيمين أو نذر أو بغيرهما.

وفي هذا انسجام مع مبدأ وسطية الإسلام واعتداله ، فلا إسراف ولا تقتير ، ولا امتناع عن المادية ولذائذ الحياة المشروعة ، ولا رغبة في الرهبانية والزهد المؤدي إلى الكبت وتعذيب النفس وإضعاف الجسد وحرمانه ، كما لا إغراق في الشهوات وانتهاب اللذات فوق القدر المعتاد المتوسط.

وبعد أن نهى تعالى عن منع النفس من طيبات الحياة ، أمر بنحو إيجابي على سبيل الإباحة بالأكل مما أحلّ الله لكم وطاب ، مما رزقكم الله من الحلال ، لا من المحرّمات بنفسها كالميتة والدّم المسفوح ولحم الخنزير ، ولا من الحرام بطريق الكسب كالرّبا والقمار والسرقة والسّحت وغير ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.

وهذا يدلّ على أنّ الرّزق يتناول الحلال والحرام ، ووجود الحرام للاختبار ومعرفة مدى مجاهدة النفس بحملها على ما أحلّه الله ، ومنعها مما حرّمه الله.

ثم وضع الله ظابطا ليس في العبادة وحدها ، وإنما في الأمور المعاشية المعتادة أيضا ، وهو الأمر بتقوى الله ، والاعتصام بحدود الله ، أي فاتّقوا الله الذي آمنتم به في كل شؤون المعيشة والحياة من أكل وشرب ولباس ونساء وغيرها ، ولا تتجاوزوا المشروع في تحليل ولا تحريم.


والأمر بالتقوى هنا إنما ذكر للحثّ على المحافظة على ما أوصى به الله ، والمداومة عليه ؛ وإيراده عقب النّهي عن تحريم الطّيبات والأمر بالأكل من الرّزق الطيب الحلال : للدلالة على أنه لا منافاة ولا تغاير بين الاستمتاع بطيبات الرزق وبين التقوى.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة ٢ / ١٧٢] ، وقوله عزوجل : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف ٧ / ٣٢] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ : «إنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا طيّبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [المؤمنون ٢٣ / ٥١] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة ٢ / ١٧٢]». والمراد بالطّيّبات : الحلال ، كما قال النّووي.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية من أصول الإسلام الداعية إلى التّوسّط والاعتدال ، والأخذ باليسر والسّماحة ، والبعد عن التّنطّع في الدّين ، وعن الأخذ بمشاق الأعمال المضنية للنّفس البشرية ، ومراعاة متطلّبات الحياة ، ودواعي الفطرة السليمة السوية من إيفاء حقّ الرّوح والجسد.

وفيها دليل على حرمة الرّهبانية ، وقد صرّح القرآن بأنها مبتدعة ، وورد في السّنّة النّبويّة عنه عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الدارمي أنه قال : «إني لم أومر بالرّهبانية» ورواية أحمد : «إن الرهبانية لم تكتب علينا». وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس منّي». وأخرج مسلم عن أنس أنّ نفرا من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوا أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن


عمله في السّر ، فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على الفراش ؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال : «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني أصلّي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».

وخرّجه البخاري عن أنس أيضا بلفظ آخر ، قال : «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألون عن عبادته ؛ فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها ، فقالوا : وأين نحن من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر ، فقال أحدهم : أما أنا ، فإنّي أصلّي الليل أبدا. وقال آخر : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوّج أبدا. فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله ، إنّي لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلّي وأرقد ، وأتزوّج النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».

وهذا صريح في نبذ التّزمّت والتّشدّد والمبالغة في التّديّن ، وهو صريح أيضا في أنّ الإسلام دين اليسر والسّماحة ، أخرج الإمام أحمد عن أنس أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن هذا الدّين متين ، فأوغلوا فيه برفق». وأخرج أحمد أيضا عن أبي أمامة الباهلي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّي لم أبعث باليهوديّة ولا النّصرانية ، ولكنّي بعثت بالحنيفية السّمحة».

وقال علماء المالكية : في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها ردّ على غلاة المتزهّدين ، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين ؛ إذ كلّ فريق منهم قد عدل عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه (١) ؛ قال الطّبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيّبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقّة ، ولذلك ردّ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٢٦٢


النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التّبتّل على ابن مظعون (١) ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده ، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسنّه لأمته ، واتّبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدي هدي نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا كان كذلك تبيّن خطأ من آثر لباس الشعر والصّوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حلّه ، وآثر أكل الخشن من الطّعام ، وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.

وتأكّد مفهوم أوّل الآية بآخرها : (وَلا تَعْتَدُوا) فقد تضمن ذلك النّهي عن أمرين : أي لا تشددوا فتحرموا حلالا ، ولا تترخّصوا فتحلّوا حراما ، كما قال الحسن البصري.

وقال الإمام مالك : من حرّم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له ، أو شيئا مما أحلّ الله ، فلا شيء عليه ، ولا كفارة في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة : إنّ من حرّم شيئا صار محرّما عليه ، وإذا تناوله لزمته الكفارة. قال القرطبي : وهذا بعيد والآية تردّ عليه. وقال الشافعي وسعيد بن جبير : لغو اليمين تحريم الحلال.

وقوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) يشتمل التّمتّع بالأكل والشرب واللّباس والرّكوب ونحو ذلك. وخصّ الأكل بالذّكر ؛ لأنّه أعظم المقصود وأخصّ الانتفاعات بالإنسان. أمّا التّمتّع بالكماليات والتّرفه بالفاكهة ونحوها ، فرأى بعضهم صرف النفس عنها ، حتى لا يصير أسير شهواتها ، ومنقادا بانقيادها ، ورأى آخرون : أن تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها

__________________

(١) أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل ، فنهاه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.


ونشاطها بإدراك إرادتها ، والحقّ التوسّط والاعتدال في ذلك ؛ لأن في إعطاء النفس مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين.

وكان طعام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما وجد ، فتارة يأكل أطيب الطعام كاللحوم ، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير مع الملح أو الزيت أو الخل ، وأحيانا يجوع وأخرى يشبع ، فكان في عادته قدوة للموسر والمعسر ، أو الغني والفقير ، وينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف ، لقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطّلاق ٦٥ / ٧].

وكان يهتم بالشراب أكثر من الطّعام ، قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : «كان أحبّ الشراب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحلو البارد».

اليمين اللغو واليمين المنعقدة وكفّارتها

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

الإعراب :

(بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) يحتمل أن تكون «ما» مصدرية أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنّيّة ، ويحتمل أن تكون اسم موصول.

(مِنْ أَوْسَطِ) متعلّق بمحذوف ، صفة لمصدر محذوف ، أي إطعاما كائنا من أوسط.

(أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على إطعام ، إما باعتبار أن الكسوة مصدر أو على إضمار مصدر.


البلاغة :

(أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ ، والمراد عتق النفس.

المفردات اللغوية :

(بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو الكائن في اليمين : وهو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف ، كقول الإنسان : لا والله ، وبلى والله. (عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي قصدتم اليمين أو حلفتم عن قصد ، وتعقيد اليمين : المبالغة في توكيدها. (فَكَفَّارَتُهُ) الكفارة من الكفر وهو السّتر والتّغطية ، ثم صارت في الاصطلاح الشرعي اسما لما يزيل أثر اليمين من الذّنب والمؤاخذة عليه حال الحنث فيه. (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لكل مسكين مدّ (٦٧٥ غم). (مِنْ أَوْسَطِ) الوسط في الطعام والغالب في أقوات الناس ، لا الأعلى ولا الأدنى. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي ما يسمى كسوة عرفا وعادة كقميص وعمامة ورداء وإزار ، ولا يكفي في مذهب الشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد بل لا بدّ من التّعدّد : ثلاثة فأكثر. (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) عتق رقبة ، ويشترط كونها عند الجمهور غير الحنفية مؤمنة كما في كفارة القتل والظهار ، حملا للمطلق على المقيد. وهذه كفارة يمين الموسر.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) واحدا من خصال الكفارة المذكورة بأن كان معسرا معدما. (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) كفارته ، وظاهره أنه لا يشترط التتابع ، وهو مذهب المالكية والشافعية ، واشترط الحنفية والحنابلة التتابع لقراءة ابن مسعود «متتابعات». (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس ، كما تقدّم في سورة البقرة. (كَذلِكَ) أي مثل ما بيّن لكم ما ذكر. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أحكام شريعته. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتشكروه على ذلك.

سبب النّزول :

روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) في القوم الذين كانوا حرموا النّساء واللحم على أنفسهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ، فأنزل الله تعالى ذكره : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) الآية. علّق الطّبري على ذلك بقوله : فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا ما حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها ، فنزلت هذه الآية بسببهم (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١٠


وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن يعلى بن مسلم قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية .. قال : اقرأ ما قبلها فقرأت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ..) إلى قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).

المناسبة :

هذه متعلّقة بما قبلها ؛ لأن الله تعالى بعد أن نهى عن تحريم الطّيّبات بسبب قوم أرادوا الزّهد والتّقشّف والتّرهّب في الحياة تقرّبا إلى الله ، سألوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّا يصنعون بأيمانهم التي حلفوها ، فأجابهم الله عزوجل بإنزال حكم كفارة الأيمان.

التفسير والبيان :

لا مؤاخذة بالأيمان التي تحلف بلا قصد ، ولا يتعلّق بها حكم ، وهي اليمين اللغو : وهي التي تسبق على لسان الحالف من غير قصد ، قالت عائشة : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هو كلام الرحل في بيته : لا والله ، وبلى والله». وهذا مذهب الشافعي ، وقال باقي الأئمة (الجمهور) : هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظّنّ أن المخبر به كما أخبر ، وهو بخلافه ، في النّفي والإثبات. بدليل ما روي عن ابن عباس في لغو اليمين : أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك ، وهو مروي أيضا عن مجاهد : هو الرجل يحلف على الشيء أنه كذلك ، وليس كما ظنّ.

ولكن يؤاخذكم باليمين المنعقدة : وهي التي يحدث الحلف فيها على أمر في المستقبل بتصميم وقصد أن يفعله أو لا يفعله. وهناك نوع ثالث هي اليمين الغموس : وهي في رأي الحنفية : اليمين الكاذبة قصدا في الماضي أو في الحال. فتصير الأيمان ثلاثة أنواع : يمين لغو ، ويمين منعقدة ، ويمين غموس. أخرج الطبري عن أبي مالك قال : الأيمان ثلاث : يمين تكفر ، ويمين لا تكفر ، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها ، فأما اليمين التي تكفر : فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله ، فعليه


الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر : فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها : فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه ، فلا يكون كذلك ، فليس عليه فيه كفارة ، وهو اللغو (١).

واليمين المنعقدة : هي التي يكون الحلف فيها بالله أو بصفة من صفاته ، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ولا تنعقد اليمين بالحلف بغير الله من المخلوقات كنبيّ أو وليّ ، بل إنه حرام.

وقد اختلف الفقهاء في اليمين الغموس على رأيين ، فقال الحنفية والمالكية : لا كفارة فيها ؛ لأن جزاء الغموس الغمس في جهنم. وقال الشافعية وجماعة : تجب الكفارة فيها ؛ لأن الله يقول : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ومن تعمد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما ، وهو مؤاخذ به ؛ لأنه عقد قلبه على الكذب في اليمين ، وقد قال الله : (فَكَفَّارَتُهُ).

ورأى الحنفية والمالكية أن المؤاخذة بما كسبت القلوب هو عقاب الآخرة ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران ٣ / ٧٧] ، فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة. وروى البيهقي والحاكم عن جابر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة ، تبوّأ مقعده من النار» ، ولم يذكر الكفارة.

وروى البخاري ومسلم وغيرهما (الجماعة) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف على يمين صبر (٢) ، وهو فيها فاجر ، يقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله ، وهو عليه غضبان».

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١١.

(٢) اليمين الصبر : التي ألزم بها وأكره عليها ، والصبّر : الإكراه.


ثمّ بيّن الله تعالى نوع المؤاخذة على اليمين المنعقدة فقال : (فَكَفَّارَتُهُ) الضمير إما عائد على الحنث المفهوم من السياق ، أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف ، أي فكفارته نكثه. والحانث عليه الكفارة سواء أكان عامدا أم ساهيا وناسيا أم مخطئا ، أم نائما ومغمى عليه ومجنونا أم مكرها.

والكفارة على الموسر مخيّر فيها بين ثلاث خصال : إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين في رأي الجمهور مدّ طعام (قمح) والمدّ (٦٧٥ غم) من النوع المتوسط الغالب أكله على أهل البلد ، ليس بالأجود الأعلى ، ولا بالأردإ الأدنى ، وهو أكلة واحدة خبز ولحم ، لقول الحسن البصري ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما. وقدّره الحنفية بما يجب في صدقة الفطر وهو نصف صاع من برّ ، أو صاع من تمر أو شعير أو دقيق ، أو قيمة هذه الأشياء (والصاع ٢٧٥١ غم). وهو أكلتان مشبعتان : غداء وعشاء ، لقول علي رضي‌الله‌عنه : يغديهم ويعشيهم.

(أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي بحسب اختلاف البلاد والأزمنة كالطعام ، يعطي لكلّ فقير رداء متوسطا مثل «الجلابية» أو قميصا ؛ أو سروالا أو عمامة في رأي الشافعية ، ولم يجز الحنفية الكسوة بالسروال والعمامة ، لأن أدنى الكسوة عندهم : ما يستر عامة البدن.

(أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي عتق نفس ، إذ كان الرقيق موجودا ، بشرط أن تكون في رأي الجمهور مؤمنة ، مثل كفارة القتل الخطأ والظهار ، حملا للمطلق على المقيد. ولم يشترط الحنفية كونها مؤمنة فيجزئ إعتاق الكافرة ، عملا بإطلاق النّصّ الوارد هنا ، ويجب إبقاء موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه ، ويعمل بكلّ نصّ على حدة ؛ لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى ، فيقتصر على مورد النّص.


(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي من لم يستطع إطعاما أو كسوة أو عتق رقبة ، أو من لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة ، فعليه صيام ثلاثة أيام ، متتابعة في رأي الحنفية والحنابلة ، ولا يشترط التتابع في مذهب المالكية والشافعية.

ودليل الرأي الأول : ما أخرج الحاكم وابن جرير الطبري وغيرهم من طريق صحيح أن أبي بن كعب كان يقرأ هكذا «ثلاثة أيام متتابعات» ، وروي هذا أيضا عن ابن مسعود ، وهو ثابت في مصحف الربيع ، كما قال سفيان الثوري. ورواه ابن مردويه عن ابن عباس : «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات».

ورأى الفريق الثاني أن هذه قراءة شاذّة لا يحتجّ بها ، وإنما يحتجّ بالمتواتر.

والاستطاعة : أن يكون مالكا ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة ، وهذا ما اختاره ابن جرير : أنه الذي يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين.

وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم ، لزمه الإطعام وإلا صام.

ولا وقت للكفارة ، وإنما يستحبّ تعجيلها ، فإن مرض صام عند القدرة ، فإن استمرّ العجز يرجى له عفو الله ورحمته. وللوارث أن يتبرع بالكفارة.

(ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أي هذه كفارة اليمين الشرعية إذا حلفتم بالله أو بأحد أسمائه أو صفاته وحنثتم. وترك ذكر الحنث المعروف بأن الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف ، لا بالحلف نفسه ، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند الحنفية ، ويجوز بالمال إذا لم يعص الحانث عند الشافعي.

(وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي فبرّوا بها ولا تحنثوا. وقيل : وهو ما اختاره القرطبي : احفظوها بأن تكفّروها إذا حنثتم ، قال ابن جرير : معناه لا تتركوها


بغير تكفير. وأراد الأيمان التي يكون الحنث فيها معصية ومخالفة لما حدث القسم عليه.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي مثل ذلك البيان ، يبيّن الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه ، أي يوضحها ويفسّرها.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ليعدّكم بذلك إلى شكر نعمته فيها يعلمكم ويسهّل عليكم المخرج منه.

ويحرم الحنث في اليمين إذا كانت على فعل واجب أو ترك حرام ، ويندب الوفاء ويكره الحنث إذا تمّ الحلف على فعل مندوب أو مباح ، ويجب الحنث في اليمين والكفارة إذا حلف على معصية أو حرام ، لما رواه أصحاب الكتب الستة إلّا ابن ماجه عن عبد الرّحمن بن سمرة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فائت الذي هو خير ، وكفّر عن يمينك» ، ولحديث عائشة الذي رواه ابن ماجه : «من حلف في قطيعة رحم ، أو فيما لا يصلح ، فبرّه ألا يتمّ على ذلك» أي ألا يوفي به ، ولكن تجب عليه الكفارة.

وتجب الكفارة بالحنث في اليمين ، سواء أكانت في طاعة أم في معصية أم في مباح.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على حكم يمين اللغو واليمين المنعقدة.

أما يمين اللغو : وهي الجارية على اللسان دون قصد اليمين ، فلا كفارة فيها ، والحلف بها لا يحرّم شيئا ، إذ لا مؤاخذة فيها بنصّ القرآن ، وهو دليل الشافعي على أنّ هذه اليمين لا يتعلّق بها تحريم الحلال ، وأن تحريم الحلال لغو ، كما أن تحليل الحرام لغو ، مثل قول القائل : استحللت شرب الخمر. روي أن عبد الله بن


رواحة كان له أيتام وضيف ، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل ، فقال : أعشيتم ضيفي؟ فقالوا : انتظرناك ؛ فقال : لا ، والله لا آكل الليلة ؛ فقال ضيفه : وما أنا بالذي يأكل ؛ وقال أيتامه : ونحن لا نأكل ؛ فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال له : «أطعت الرّحمن وعصيت الشيطان» ، فنزلت الآية.

والأيمان في الشريعة بحسب المحلوف عليه نفيا وإثباتا على أربعة أقسام : يمينان يكفّران: وهو أن يقول الرّجل : والله لا أفعل فيفعل ، أو يقول : والله لأفعلنّ ثم لا يفعل ، وهذان لا اختلاف فيهما بين العلماء ؛ ويمينان لا يكفّران : وهو أن يقول الرّجل : والله ما فعلت وقد فعل ، أو يقول : والله لقد فعلت وما فعل ، وهذان مختلف فيهما بين أهل العلم:

فقال الجمهور : إن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا ، أو أنه فعل كذا وكذا وعند نفسه يرى أنه صادق على ما حلف عليه ، فلا إثم عليه ولا كفارة عليه. وقال الشافعي : لا إثم عليه وعليه كفّارة.

واتّفق العلماء على أن يمين اللغو لغو فيما إذا قال الرجل : لا والله ، وبلى والله ، في حديثه وكلامه غير المنعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي : وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.

وأما اليمين المنعقدة : وهي التي تحلف عن عمد وقصد وتصميم ، فتوجب الكفارة بالحنث فيها.

وهل اليمين الغموس يمين منعقدة أو لا؟ يرى الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب ، فلا تنعقد ولا كفارة فيها ، وإنما فيها الإثم ؛ لقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه» وهذا يدلّ على أن الكفارة إنما


تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله ، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله.

وقال الشافعي : هي يمين منعقدة ؛ لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله تعالى ، وفيها الكفارة.

ورجّح القول الأوّل ، لأن الأخبار دالّة على أن اليمين التي يحلف بها الرّجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفّرها ما يكفّر اليمين. من هذه الأخبار عدا ما تقدم : حديث البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : جاء أعرابي إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر ، قال : «الإشراك بالله» قال : ثم ما ذا؟ قال : «عقوق الوالدين» قال : ثم ما ذا؟ قال : «اليمين الغموس» قلت : وما اليمين الغموس؟ قال : «التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب». وخرّج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ، وحرّم عليه الجنّة» ، فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال : «وإن كان قضيبا من أراك».

والمحلوف به : هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى ، كالرّحمن والرّحيم والسّميع والعليم والحليم ، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا ، كعزّته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته ؛ لأنها يمين بقديم غير مخلوق ، فكان الحالف بها كالحالف بالذات.

وأما الحلف بحقّ الله وعظمة الله ، وقدرة الله ، وعلم الله ، ولعمر الله ، وايم الله ، ففيه اختلاف ، قال مالك : كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي : في : وحقّ الله وجلال الله وعظمة الله ، وقدرة الله : يمين إن نوى بها اليمين ، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين ؛ لأنه يحتمل : وحقّ الله : واجب الله


وقدرته النافذة ، وقال في أمانة الله : ليست بيمين ، ولعمر الله وايم الله : إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين.

وقال الحنفية : إذا قال : وعظمة الله وعزّة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله ، فحنث ، فعليه الكفارة.

والحلف بالقرآن أو المصحف يمين في المذاهب الأربعة ؛ لأن الحالف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه : وهو القرآن ، فإنه ما بين دفّتي المصحف بإجماع المسلمين.

ولا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل : إذا حلف بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انعقدت يمينه ؛ لأنه حلف بما لا يتمّ الإيمان إلا به ، فتلزمه الكفارة ، كما لو حلف بالله. ويرد عليه بما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه ، فناداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته.

وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف منكم ، فقال في حلفه باللات ، فليقل : لا إله إلا الله ، ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق».

وقال أبو حنيفة في الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النّبي أو من القرآن ، أو أشرك بالله ، أو كفر بالله : إنها يمين تلزم فيها الكفارة. ولا تلزم فيما إذا قال : واليهودية والنصرانية والنّبي والكعبة ، وإن كانت على صيغة الأيمان.

وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال : أقسم بالله أنها يمين واختلفوا إذا قال :


«أقسم ، أو أشهد ليكونن كذا وكذا» ولم يقل : بالله ، فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله ، وإن لم يرد بالله ، لم تكن أيمانا تكفّر.

وقال أبو حنيفة : هي أيمان في الموضعين.

وقال الشافعي : لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى.

وإذا قال : أقسمت عليك لتفعلنّ كذا ، فإن أراد سؤاله ، فلا كفّارة فيه ، وليست بيمين ، وإن أراد اليمين كان يمينا.

ومن حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة ، كقوله : وخلق الله ورزقه وبيته ، لا شيء عليه ؛ لأنها أيمان غير جائزة ، وحلف بغير الله تعالى.

أنواع الأيمان بحسب المحلوف عليه :

الأيمان باعتبار المحلوف عليه ثلاثة أنواع :

١ ـ يمين بالله تعالى ، كقوله : والله لأفعلنّ كذا ، حكمها أنها يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث.

٢ ـ يمين بغير الله تعالى ، كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والملوك والآباء ، حكمها أنها يمين غير منعقدة ، ولا كفارة فيها ، بل هي منهي عنها حرام ، كما دلّت الأحاديث المتقدمة.

٣ ـ يمين في معنى الحلف بالله ، يريد بها الحالف تعظيم الخالق ، كالحلف بالنذر والحرام والطّلاق والعتاق ، مثل : إن فعلت كذا فعليّ صوم شهر ، أو الحجّ إلى بيت الله الحرام ، أو الطّلاق يلزمني لا أفعل كذا ، أو إن فعلته فامرأتي طالق أو عبدي حرّ ، أو ما أملكه صدقة أو نحو ذلك ، وحكمها الصحيح أنه يجزئه كفارة يمين في جميع ذلك ، كما قال تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) ،


وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح عنه : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه» وهو رأي الشافعي وأحمد. وأوجب مالك وأبو حنيفة تنفيذ المحلوف عليه في حالة اليمين بالمشي إلى مكة ، فمن حلف على ذلك فعليه أن يفي به.

والأيمان في مذهب الحنفية مبنية على العرف والعادة ، لا على المقاصد والنّيّات ، فمن حلف لا يأكل لحما ، لا يحنث بأكل السّمك إلا إن نواه ؛ لأنه لا يسمّى لحما عرفا. وفي مذهب المالكية والحنابلة : المعتبر هو النّيّة ، وفي مذهب الشافعي : المعتبر صيغة اللفظ.

واتّفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوي تكون بحسب نيّة المستحلف ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة : «اليمين على نيّة المستحلف».

وقال جمهور العلماء : إذا انعقدت اليمين حلّتها الكفارة أو الاستثناء ، بشرط أن يكون متّصلا منطوقا به لفظا ؛ لما روى النسائي وأبو داود عن ابن عمر أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف فاستثنى ، فإن شاء مضى ، وإن شاء ترك عن غير حنث» فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه.

ولا خلاف أن الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى ؛ إذ هي رخصة من الله تعالى ، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله ، فقال الشافعي وأبو حنيفة : الاستثناء يقع في كلّ يمين كالطّلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى.

وأجاز جمهور الفقهاء تقديم الكفارة على الحنث ؛ لما خرّجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنّي والله إن شاء الله ، لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا كفّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» ولأن اليمين سبب الكفارة ، لقوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا


حَلَفْتُمْ) فأضاف الكفارة إلى اليمين ، والمعاني تضاف إلى أسبابها ، وأيضا فإن الكفارة بدل عن البرّ فيجوز تقديمها قبل الحنث.

إلا أنّ الشافعي قال : تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ، ولا تجزئ بالصّوم ، لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته.

وقال الحنيفة : لا تجزئ الكفارة قبل الحنث بوجه ما ؛ لما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من حلف على يمين ، ثم رأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير» زاد النسائي : «وليكفّر عن يمينه» ، ولأن الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع ، فلا معنى لفعلها قبل الحنث ، ومعنى قوله تعالى : (إِذا حَلَفْتُمْ) أي إذا حلفتم وحنثتم ، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ ، اعتبارا بالصّلوات وسائر العبادات.

ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير بالنسبة للموسر ، والطعام أفضل للبدء به ، وكان هو الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم.

ولا بدّ في رأي الجمهور من تمليك المساكين ما يخرج لهم من الطعام ، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرّفوا فيه ؛ لأنه أحد نوعي الكفارة ، فلم يجز فيها إلا التمليك ، كالكسوة.

وقال الحنفية : لو غداهم وعشاهم جاز ؛ لأن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك ، والإطعام لغة : هو التمكين من الأخذ ، لا التمليك ، ولأن المسكنة هي الحاجة ، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه.

ولا يجوز أن يطعم غنيّا ولا ذا رحم تلزمه نفقته ، ويجزئ في رأي مالك الإطعام لقريب لا تلزمه نفقته ، ولكنه مكروه.


ولا يجوز في مذهب مالك والشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد.

ولا يجوز عند الحنفية صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة ، أما إن صرفها إلى مسكين واحد عشرين يوما ، جاز ؛ لأن المقصود قد حصل.

وأدنى الكسوة في رأي الحنفية : ما يستر جميع البدن ، فيعطى لكل مسكين ثوب وإزار ، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء.

وتقدر الكسوة في مذهب الحنابلة ، بما تجزئ الصلاة فيه.

ويجزئ عند المالكية ما يطلق عليه اسم الكسوة من قميص أو إزار أو رداء أو جبّة أو سراويل أو عمامة.

وتجزئ القيمة عند الحنفية كما تجزئ في الزكاة ؛ لأن الغرض سدّ الخلّة (الحاجة) ورفع الحاجة. ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة في رأي الجمهور ، التزاما للنّص.

وأجاز الحنفية دفع الكفارة والنذور لا الزكاة إلى فقراء أهل الذّمّة ؛ لأنّ الذّمي الفقير يتناوله لفظ المسكنة ، ويشتمل عليه عموم الآية. ولا يجوز ذلك عند الجمهور ، كالزكاة.

واشترط الجمهور إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ، ليس فيها شرك لغيره ؛ لأنها قربة ، فلا يكون الكافر محلّا لها كالزّكاة ، وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيّد في عتق الرّقبة في القتل الخطأ. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافرة ، لأن مطلق اللفظ يقتضيها.

ومن أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف ، كانت الكفارة عند المالكية باقية عليه ، بخلاف مخرج المال في الزّكاة ليدفعه إلى الفقراء.

واختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف ، فقال الشافعي وأبو ثور : كفارات


الأيمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة : تكون في الثلث ، وكذلك قال مالك : إن أوصى بها.

والمراعاة في اليسار والإعسار وقت التكفير ، لا وقت الحنث ، فمن حلف وهو موسر ، فلم يكفّر حتى أعسر ، أو حنث وهو معسر ، فلم يكفّر حتى أيسر ، اعتبر وقت الكفارة.

والكفارة بصيام ثلاثة أيام للمعسر ، لا الموسر ، متتابعات عند الحنفية ، ولا يشترط التتابع عند الجمهور ، وإنما يستحبّ.

ومن أفطر في أيام الصيام ناسيا ، فعليه القضاء عند مالك ، ولا قضاء عليه عند الجمهور.

تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))


البلاغة :

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أريد بالاستفهام الأمر ، أي انتهوا ، وهو من أبلغ ما ينهى به ، لما فيه من الحض على الانتهاء. قال أبو السعود في تفسيره (٢ / ٥٦) : ولقد أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد ، حيث صدّرت الجملة ب (إِنَّما) وقرنا بالأصنام والأزلام ، وسمّيا رجسا من عمل الشيطان ، وأمر بالاجتناب عن عينهما ، وجعل ذلك سببا للفلاح ، ثم ذكر ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية ، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ إيذانا بأن الأمر في الزجر والتحذير قد بلغ الغاية القصوى.

والتعبير بقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوهُ) أبلغ من التعبير بلفظ حرم لأنه يفيد التحريم وزيادة وهو التنفير والإبعاد عنه بالكلية ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج ٢٢ / ٣٠].

المفردات اللغوية :

(الْخَمْرِ) كل شراب مسكر يخامر العقل (الْمَيْسِرِ) القمار (وَالْأَنْصابُ) الأصنام وهي حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها (وَالْأَزْلامُ) أي قداح الاستقسام : وهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام ، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية ، تفاؤلا أو تشاؤما (رِجْسٌ) خبيث مستقذر حسا أو معنى ، إما من جهة الطبع أو من جهة العقل ، أو من جهة الشرع كالخمر والميسر ، أو من كل تلك الاعتبارات كالميتة ؛ لأن النفس تعافها طبعا وعقلا ، ويعافها الشرع (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي من تزيينه (فَاجْتَنِبُوهُ) أي تجنبوا فعل الرجس. (الْعَداوَةَ) تجاوز الحق إلى الأذى (وَيَصُدَّكُمْ) يمنعكم بالاشتغال بهما (وَعَنِ الصَّلاةِ) خصها بالذكر تعظيما لها (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) عن إتيانها ، أي انتهوا. (وَاحْذَرُوا) المعاصي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الطاعة (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الإبلاغ الواضح (طَعِمُوا) ذاقوا طعمه وتلذذوا بالأكل أو الشرب ، والمراد أكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم. (إِذا مَا اتَّقَوْا) المحرمات (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثبتوا على التقوى والإيمان (وَأَحْسَنُوا) العمل (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي يثيبهم.

سبب النزول :

روى أحمد عن أبي هريرة قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وهم يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما ، فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية ، فقال الناس : ما حرم علينا ، إنما قال : إثم كبير ،


وكانوا يشربون الخمر ، حتى كان يوم من الأيام ، أمّ رجل من المهاجرين أصحابه في المغرب ، فخلط في قراءته ، فأنزل الله آية أشد منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء ٤ / ٤٣].

ثم نزلت آية أشد في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). قالوا : انتهينا ربنا ، فقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم ، وكانوا يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان ، فأنزل الله :

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) إلى آخر الآية.

وروى النسائي والبيهقي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا ، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته ، فيقول : صنع في هذا أخي فلان ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فيقول : والله لو كان أخي بي رؤفا رحيما ما صنع بي هذا ، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية.

فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان ، وقد قتل يوم أحد ، فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

وروى ابن جرير عن جماعة قالوا : نزلت هذه الآية (آية تحريم الخمر) بسبب سعد بن أبي وقاص ، وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما ، فضربه صاحبه بلحي جمل ، ففزر أنفه أو جرحه ، فنزلت فيهما.


وروى ابن جرير أيضا وابن مردويه عن سعد أنه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعانا ، فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم ، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل (فك جزور) فضرب به أنف سعد ، ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ..) الآية (١) وروى البخاري عن أنس قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فنزل تحريم الخمر ، فأمر مناديا ينادي ، فقال أبو طلحة : اخرج فانظر هذا الصوت! قال : فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت ، فقال : اذهب فأهرقها ـ وكان الخمر من الفضيخ (٢) ـ قال : فجرت في سكك المدينة ، فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم ، فأنزل الله عزوجل : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.

المناسبة :

لما نهى الله تعالى فيما تقدم : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) إلى قوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) وكان من جملة الأمور المستطابة : الخمر والميسر ، بيّن عزوجل أنهما غير داخلين في المحللات ، بل في المحرمات (٣).

الحكمة في التدرج بتحريم الخمر : كان العرب في الجاهلية مدمنين الخمر ، متعلقين بها أشد التعلق ، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة ، لم يقلع الكثير عنها ، وإنما عرّض تعالى بالتحريم في سورة البقرة ، ثم في سورة النساء في أوقات الصلاة ، فامتنعوا عن شربها نهارا ، وشربوها ليلا. روى ابن جرير عن

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ٢٢

(٢) الفضيخ : شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده ، من غير أن تمسه النار ، والمفضوخ : المشدوخ.

(٣) تفسير الرازي : ١٢ / ٧٩


أبي الميسرة قال : قال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [البقرة ٢ / ٢١٩] فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في النساء : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء ٤ / ٤٣] وكان منادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة : لا يقربن الصلاة السكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر : انتهينا انتهينا. وفي رواية ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن عمر قال: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا ، فتركها الناس.

التفسير والبيان :

نهى الله تعالى المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر ، فقال : يا أيها المؤمنون ، إن الخمر وكل شراب مسكر ، والقمار بمختلف أنواعه ، والأصنام التي تذبح القرابين عندها ، والأزلام قداح الاستقسام تفاؤلا وشؤما : قذر سخطه الله وكرهه ، وهو من عمل الشيطان أي تحسينه وتزيينه ، فاتركوا هذا الرجس ، رجاء أن تفوزوا وتفلحوا بتزكية أنفسكم ، وسلامة أبدانكم ، والتوادّ فيما بينكم.

والخمر : النّيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد ، وهي تطلق في رأي الجمهور على كل شراب مسكر خامر العقل وغطاه ، ويرى الحنفية : أن الخمر حرمت ، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب ، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط ، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا ؛ لأن اللغة في رأيهم لا تثبت من طريق القياس ، والحرمة عندهم


تتعدى إلى المسكر ؛ لأنها معلولة بالإسكار ، لا لأن المسكر خمر (١). وهو رأي ابن عمر.

ويرى الجمهور أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه (٢) ، فغير ماء العنب حرام بالنص : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) وهذا رأي عمر ، قال : إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر والعسل والشعير والحنطة ، والخمر : ما خامر العقل. وهو رأي ابن عباس أيضا ، وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشر : «إن من الحنطة خمرا ، وإن من الشعير خمرا ، وإن من الزبيب خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا» وقال أيضا فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنب. وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عمر : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام».

ورتب الجمهور على رأيهم أن كل المسكرات نجسة بقوله تعالى : (رِجْسٌ) وأن فيها الحد ، وكذلك يرى الحنفية أن المسكر غير المطبوخ وهو السّكر والفضيخ النيء ، والباذق : أي النصف المطبوخ ، ونقيع الزبيب والتمر غير المطبوخ نجس نجاسة مغلظة كالخمر وهو رأي أبي حنيفة في رواية راجحة عنه ؛ لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها ، فلا يعفى عنها أكثر من قدر الدرهم ، وأما المطبوخ وهو المثلث العنبي أو الطلاء (وهو المطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه) والجمهوري وهو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق فغير نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف.

وحرّم محمد الأشربة المسكرة كلها وبرأيه يفتي عند الحنفية ، لقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن جابر : «ما أسكر كثيره فقليله حرام». واتفق

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٤٦٢

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ١٥٠


الحنفية على أنه لا حدّ بشرب الأشربة المسكرة غير الخمر إلا بالإسكار ، لحديث علي فيما رواه العقيلي : «حرمت الخمر بعينها ، والسّكر من كل شراب» إلا أنه حديث معلول ، أو موقوف على ابن عباس.

وإذا صار النبيذ (نبيذ التمر والزبيب) مسكرا صار حراما ، فإن لم يتخمر ولم يسكر كالخشاف الطبيعي بنقعه في فترة يومين مثلا فهو حلال.

والميسر حرام أيضا ، وكل شيء من القمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز ، وورد عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : «الشطرنج من الميسر» وكذا النرد إذا كان على مال ، فإذا لم يكن الشطرنج أو النرد على مال فإن الجمهور حرموه أيضا لأنه موقع في العداوة والبغضاء ، وصادّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، وكره الشافعي الشطرنج ؛ لما فيه من إضاعة الوقت.

والأنصاب التي هي حجارة حول الكعبة رجس ؛ لأنهم كانوا يعظمونها ويذبحون عندها القرابين.

وكذا الأزلام رجس ؛ لأنهم كانوا يستقسمون بها ، وقد تقدم شرحها في الآية (٣) من سورة المائدة.

والرجس : القذر حسا ومعنى ، عقلا وشرعا ، والخمر وما ذكر بعدها موصوف بهذا الوصف ، مما يقتضي التحريم ، وتأكد ذلك بالأمر باجتناب الرجس ، وبقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي راجين الفلاح بهذا الاجتناب.

وتحريم الخمر والميسر من عدة نواح : صدّرت الجملة بإنما المفيدة للحصر ، وقرنا بالأصنام والأزلام وهي شنيعة قبيحة شرعا وعقلا ، وسميا رجسا من عمل الشيطان ، وذاك غاية القبح ، وأمر باجتناب أعيانهما وهو أشد تنفيرا من مجرد النهي أو لفظ التحريم ، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز ، ثم بيّن الله مضار


الخمر والميسر المعنوية : الشخصية والاجتماعية ، فقال : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ...) لذا قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفا : «الخمر أم الخبائث» وقال فيما رواه البزار عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : «مدمن الخمر كعابد الوثن» أي إن الشيطان لا يريد لكم من تعاطي الخمر والميسر إلا الإيقاع في العداوة بأن يعادي بعضكم بعضا بسبب الشراب ، والبغضاء بأن يزرع الكراهية والحقد والنفرة من بعضكم ، فيتحقق هدفه من التفريق والتشتيت بعد التأليف بالإيمان والجمع بأخوة الإسلام.

ويريد أيضا صرفكم بالسكر المذهب للعقل والاشتغال بالقمار عن ذكر الله الذي تطمئن به القلوب وتسعد به النفوس في الدنيا والآخرة ، وعن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتي تزكو بها النفوس ، وتتطهر القلوب.

فالخمر إذا أذهبت العقل ، هانت كرامة الإنسان على غيره ، وفقد القدرة على إدراك الخير والبعد عن الشر ، هذا فضلا عن أضرار الخمر الصحية في كل أعضاء جهاز الهضم والأعصاب ، بل قد يمتد الضرر إلى الأولاد ، فينشأ الواحد منهم معتوها ضعيف المدارك ، وكثيرا ما أدت الخمر إلى الطلاق وتدمير الأسرة.

والميسر الذي يؤدي إلى الربح بلا عمل ولا تجارة ، وخسارة الطرف الآخر يؤجج في النفس نار العداوة والبغضاء ، وكثيرا ما تقاتل المتقامران وحدث بينهما السباب والشتم والضرب الشديد.

والخلاصة : للخمر مضار كثيرة : شخصية صحية ، واجتماعية بزرع العداوة والبغضاء ، ودينية بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، ومالية بتبديد الأموال في الضار غير النافع. وكذا للقمار أضرار نفسية عصبية بإحداث توتر في الأعصاب وقلق واضطراب ، واجتماعية ودينية ومالية كالخمر تماما.

وقد نزل قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) كما تقدم في قبيلتين من


الأنصار شربوا الخمر وانتشوا ، فعبث بعضهم ببعض ، فلما صحوا ، ورأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فجعل الرجل يقول : لو كان أخي بي رحيما ما فعل هذا بي ، فحدثت بينهم الضغائن ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ) الآية. ولم يذكر في القرآن تعليل الأحكام الشرعية إلا بإيجاز ، أما هنا فإنه فصل في بيان الحكمة أو العلة ، فذكر ثلاث حكم ، ودل على تحريم الخمر والميسر بأكثر من دلالة ليشير إلى ضررهما وخطرهما.

ثم آكد الله تعالى التحريم وشدد في الوعيد ، فقال : (وَأَطِيعُوا اللهَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَاحْذَرُوا) أي أطيعوا كل ما جاء عن الله والرسول من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات ، واحذروا ما يصيبكم إذا خالفتم أمرهما من فتنة ووقوع في المهالك في الدنيا ، وعذاب في الآخرة ؛ إذ لم يحرم الله شيئا إلا لضرره الواضح ، كما قال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور ٢٤ / ٦٣].

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فإن أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به ، فإن رسول الله بلغكم ، فانقطعت حجتكم ، ومن أنذر فقد أعذر ، ولم يعد لكم مطمع في التعلل والاعتذار.

ثم أبان الله تعالى حكم الذين ماتوا قبل تحريم الخمر وهم يشربونها فقال : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كمن مات قبل تحريم الخمر والميسر كحمزة ، ولا على الأحياء الباقين في الحياة الذين شربوا الخمر وأكلوا الميسر قبل التحريم مثل عبد الله بن مسعود إثم ومؤاخذة ؛ إذ ليس للتشريع ولا للقانون أثر رجعي ، إذا ما اتقوا الله ، وآمنوا بما أنزل من الأحكام ، وعملوا الصالحات التي شرعت فيما مضى كالصلاة والصيام وغيرهما ، ثم اتقوا ما حرّم عليهم بعدئذ ، وآمنوا بما أنزل ، ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالح من الأفعال ، والله يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم وإخلاصهم وإتقانهم عملهم.


وبهذا يظهر أن المراد بالتقوى والإيمان الأولين : تحصيل أصل التقوى وأصل الإيمان ، والمراد بالآخرين منهما الثبات والدوام عليهما ، والمقصود بالتقوى الثالثة : اتقاء ظلم العباد وإحسان الأعمال والإحسان إلى الناس بمواساتهم بما رزقهم الله من الطيبات. وتقييد رفع الجناح بالإيمان والتقوى لبيان الواقع ، وهو الجواب عن سؤال بشأن مؤمنين خيف أن ينالهم شيء من الإثم.

يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم فيما تناولوه من المطعومات والمشروبات المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، وهذا ثناء عليهم ، كما أثنى على من مات قبل الصلاة إلى الكعبة في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ، إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة ٢ / ١٤٣].

وقد عرف مما تقدم أن هذه الآية عذر لمن مات وحجة على بقية الناس ؛ لأنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة : يا رسول الله ، فكيف بإخواننا الذين ماتوا ، وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت.

وقد أراد عمر بعد هذه الآية إقامة الحد على قدامة بن مظعون الجمحي وهو ممن هاجر إلى الحبشة ، حين شهد عليه الشهود بأنه شرب الخمر بعد التحريم بهذه الآية ، روى الزهري أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر ، وأراد عمر أن يجلده ، فقال قدامة : ليس لك ذلك ؛ لأن الله يقول : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله. وأجاب ابن عباس : إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا لمن غبر وحجة على الناس ؛ لأن الله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية ، ثم قرأ الآية الأخرى ، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؛ فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر ، فقال عمر : صدقت ماذا ترون ، فرأى علي والصحابة حده ، فجلد ثمانين جلدة.


فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ حدث تحريم الخمر في سنة ثلاث بعد الهجرة بعد وقعة أحد التي حدثت في شوال سنة ثلاث من الهجرة ، واستظهر ابن حجر أنها حرمت سنة ثمان من الهجرة. وأما حد الخمر فثبت بالسنة النبوية ، إما أربعون جلدة وهو رأي الشافعية ، وإما ثمانون جلدة وهو رأي الجمهور ، روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : «كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين» وروى مسلم عن علي رضي‌الله‌عنه قال : «جلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وعمر ثمانين ، وكلّ سنّة ، وهذا أحب إلي».

٢ ـ تضمنت الآية تحريم الخمر وكل مسكر ، والميسر وهو القمار بأنواعه ، والأنصاب وهي الأصنام أو النرد والشطرنج ، والأزلام وهي قداح الاستقسام ، يقال : كانت في البيت ـ أي البيت الحرام ـ عند سدنة البيت وخدّام الأصنام ؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة ، فيقبض منها شيئا ، فإن كان عليه «أمرني ربي» خرج إلى حاجته ، على ما أحب أو كره. قال ابن عطية : ومن هذا القبيل : هوى الزجر بالطير ، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم.

٣ ـ تم تحريم الخمر على التدرج ، كما عرفنا ؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها ، وأول ما نزل في شأنها : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل ١٦ / ٦٧]. ثم نزل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [البقرة ٢ / ٢١٩] والمنافع : هي في تجارتهم ، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعض الناس ، وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها ، فنزلت هذه الآية (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء ٤ / ٤٣] فتركها بعض


الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة ، حتى نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر.

وبه يتبين مع ما ذكر في أسباب النزول المتقدمة والأحاديث الواردة : أن شرب الخمر قبل هذه الآية كان مباحا معمولا به معروفا عندهم ، بحيث لا ينكر ولا يغيّر ، وأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقر عليه ، وهذا مالا خلاف فيه.

٤ ـ فهم الجمهور من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرّجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها.

وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين ، فرأوا أنها طاهرة ، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة ، قال : ولو كانت نجسة ، لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ، ولنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، كما نهى عن التخلي في الطرق.

وأجاب القرطبي : بأن الصحابة فعلت ذلك ؛ لأنه لم يكن لهم سروب (١) ولا آبان يريقونها فيها ، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم. وأيضا فإنه يمكن التحرز منها ، فإن طرق المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها ، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها.

وقوله تعالى : (رِجْسٌ) يدل على نجاستها ؛ فإن الرجس في اللسان العربي : النجاسة ، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت

__________________

(١) السرب : حفيرة تحت الأرض.


الشريعة ؛ فإن النصوص فيها قليلة ؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة (١).

٥ ـ دل قوله : (فَاجْتَنِبُوهُ) على الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه ، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. بدليل الأحاديث الواردة ، منها ما رواه مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الذي حرم شربها حرّم بيعها».

ومنها ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : في التداوي بالخمر : «إنه ليس بدواء ولكنه داء» ردا على طارق بن سويد الجعفي الذي قال : «إنما أصنعها للدواء». وهذا رأي الأطباء.

لكن أجاز الحنفية التداوي بالخمر والنجاسات والسموم إذا تعينت ، وعلم يقينا أن فيها شفاء للضرورة لقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام ٦ / ١١٩].

والحقيقة أنه ما أكثر الأدوية وشركات الدواء ومصانعه في عالم اليوم ، فإنهم صنعوا لأكثر الأمراض علاجا ، فلم يعد الشخص بحاجة أو ضرورة للتداوي بالخمر وغيرها مما حرم الله الانتفاع به وجعله نجسا ، روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم».

ولا يجوز لمسلم تملك الخمر ولا تمليكها من أحد ؛ لأن الشرع نهى عن الانتفاع بها ، وأمر باجتنابها.

٦ ـ أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم ، وفي ذلك دليل على تحريم بيع

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩


العذرات وسائر النجاسات ، وما لا يحل أكله ، لذا كره مالك والشافعي وغيرهما بيع زبل الدواب.

٧ ـ إن تخللت الخمر بنفسها طهرت وجاز أكل الخل باتفاق الفقهاء ، أما تخليل الخمر فلم يجزه جمهور الفقهاء ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استؤذن في تخليل خمر ليتيم ، فقال : «لا» ونهى عن ذلك ، فأراقها وليه عثمان بن أبي العاص. وأباح الحنفية تخليلها وأكل ما تخلل منها بمعالجة ، أي بإلقاء شيء فيها ، كملح أو غيره ؛ لأن التخليل يزيل الوصف المفسد ، ويجعل في الخمر صفة الصلاح ، والإصلاح مباح.

٨ ـ قال القرطبي : هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنّرد والشطرنج ، قمارا أو غير قمار ، لقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فكل لهو دعا قليلة إلى كثيرة ، وأوقع بينكم العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه ، وصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو كشرب الخمر ، وأوجب أن يكون حراما مثله. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة ، فتقوم تلك الغفلة المستوليد على القلب مكان السكر. سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال : كل ما صدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر (١).

٩ ـ حيثيات التحريم واضحة في الآية : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ ...) أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره ، فحذرنا منها ونهانا عنها. وسبب النزول المتقدم في عبث القبيلتين من الأنصار اللتين شربتا الخمر يؤكد هذا.

١٠ ـ قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) تأكيد للتحريم ، وتشديد في الوعيد ، وامتثال الأمر ، وكفّ عن المنهي عنه. فإن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٢٩١ ـ ٢٩٢


خالفتم فما على الرسول إلا البلاغ في تحريم ما أمر بتحريمه ، وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.

١١ ـ دلت آية (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على أن من فعل ما أبيح له حتى مات على فعله ، لم يكن له ولا عليه شيء ، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح ؛ لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع ، فلا حاجة للتخوف ولا للسؤال عن حال من مات ، والخمر في بطنه وقت إباحتها. وهذه الآية نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى ، فنزلت : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

١٢ ـ دل حديث البخاري المتقدم عن أنس في سبب نزول هذه الآية المتضمن أن الخمر كان من الفضيخ (المتخذ من البسر) : على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر ، وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه ؛ لأن الصحابة رحمهم‌الله هم أهل اللسان ، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر ؛ إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره.

١٣ ـ ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه ، حرم شربه ، قليلا كان أو كثيرا ، نيئا كان أو مطبوخا ، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره ، وأن من شرب شيئا من ذلك حدّ. فأما المستخرج من العنب ، المسكر النيء : فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره ، ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف أبو حنيفة وأبو يوسف في القليل مما عدا ما ذكر ، وهو الذي لا يبلغ الإسكار ، وفي المطبوخ المستخرج من العنب ، فأباحا القليل غير المسكر. والمعتمد في الفتوى هو رأي محمد رحمه‌الله بتحريم القليل والكثير من كل مسكر ، للحديث المتقدم الذي رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما عن ابن عمرو : «ما أسكر كثيره فقليله حرام». واتفق الحنفية على أن الحد في غير الخمر لا يجب إلا بالإسكار.


١٤ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات ، فضله بأجر الإحسان.

الصيد في حالة الإحرام وجزاء صيد البر

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

الإعراب :

(لَيَبْلُوَنَّكُمُ) : يبلونّ : فعل مضارع مبني ، وإنما بني لاتصاله بنون التأكيد ؛ لأنها أكّدت فيه الفعلية ، فردّته إلى أصله ، والأصل في الفعل البناء.

(مِنَ الصَّيْدِ) : من : إما للتبعيض ؛ لأن المحرّم صيد البر خاصة ، أو لبيان الجنس ؛ لأنه لما قال : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ) لم يعلم من أيّ جنس هو ، فبيّن فقال : (مِنَ الصَّيْدِ).

(بِالْغَيْبِ) حال أي غائبا.

(مُتَعَمِّداً) حال من الضمير المرفوع في (قَتَلَهُ). (فَجَزاءٌ) : مبتدأ وخبره محذوف وتقديره : فعليه جزاء. (مِنَ النَّعَمِ) صفة جزاء ، وتتعلق بالخبر المحذوف وهو فعليه ويجوز أن تتعلق ب (يَحْكُمُ) ويجوز أن تتعلق بالمصدر وهو (فَجَزاءٌ) وتعدّى بمن إلى النّعم. (هَدْياً)


حال من هاء (بِهِ) والضمير يعود للجزاء. (بالِغَ الْكَعْبَةِ) صفة لهدي وهو نكرة لأن الإضافة فيه في نية الانفصال ؛ لأن التنوين فيه مقدر وتقديره : بالغا الكعبة.

(أَوْ كَفَّارَةٌ) : عطف على جزاء. (طَعامُ مَساكِينَ) إما بدل من (كَفَّارَةٌ) ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : أو كفارة هي طعام.

(صِياماً) تمييز منصوب.

(مَتاعاً لَكُمْ) منصوب على المصدر ؛ لأن قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) بمعنى : أمتعتكم به إمتاعا ، فأقيم متاعا مقامه ؛ لأنه في معناه.

المفردات اللغوية :

(لَيَبْلُوَنَّكُمُ) ليختبرنكم ، والابتلاء : الاختبار. (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) أي يكون في متناول اليد ، وهو صغار الصيد. (وَرِماحُكُمْ) أي تصطاده الرماح وهو كبار الصيد ، وكان ذلك بالحديبية وهم محرمون ، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم ، والمراد به كثرة الصيد وسهولة أخذه.

(لِيَعْلَمَ اللهُ) يظهر علمه. (حُرُمٌ) محرمون بحج أو عمرة. (فَجَزاءٌ) فعليه جزاء. (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي شبهه في الخلقة ، والنعم : الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) رجلان عادلان لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به ، وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي‌الله‌عنهم في النعامة ببدنة ، وابن عباس وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة ، وحكم بالشاة أيضا ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام ؛ لأنه يشبهها.

(بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يبلغ به الحرم ، فيذبح فيه ويتصدق به على مساكين الحرم ، ولا يجوز أن يذبح حيث كان.

(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) أي ، أو عليه كفارة غير الجزاء وإن وجده هي (طَعامُ مَساكِينَ) من غالب قوت البلد : ما يساوي قيمة الجزاء ، لكل مسكين مد. (أَوْ عَدْلُ) مساو له مما يدرك بالعقل ، وبكسر العين : مساو له مما يدرك بالحس.

(وَبالَ أَمْرِهِ) ثقل جزاء أمره الذي فعله ، أي عاقبة أمره الثقيلة (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد قبل تحريمه. (عَزِيزٌ) غالب على أمره. (ذُو انْتِقامٍ) أي ينتقم ممن عصاه.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أبيح لكم أيها الناس حلالا كنتم أو محرمين ، وصيد البحر : ما يصاد منه مما يعيش فيه عادة ، والمراد بالبحر : الماء الكثير الذي يعيش فيه السمك كالأنهار والآبار والبرك ونحوها ، أي أحل لكم أن تأكلوا صيد البحر ، وهو ما لا يعيش إلا فيه كالسمك ، بخلاف ما يعيش فيه


وفي البر كالسرطان. (وَطَعامُهُ) ما قذف به ميتا إلى ساحله أو طفا على وجه الماء. (مَتاعاً) تمتيعا. (لَكُمْ) تأكلونه. (وَلِلسَّيَّارَةِ) المسافرين منكم يتزودونه ، جمع سيار : وهو المسافر. (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) وهو ما يعيش في البر من الوحش المأكول ، وحرم أن تصيدوه. (ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي محرمين ، فلو صاده حلال ، فللمحرم أكله في رأي جمهور العلماء ، كما بينت السنة ، إذا لم يصد له ولا من أجله. وأجاز الحنفية للمحرم أكل الصيد على كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ؛ لظاهر قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فحرم صيده وقتله على المحرمين ، دون ما صاده غيرهم. (تُحْشَرُونَ) تجمعون وتساقون إليه يوم الحشر.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل : أنها نزلت في عمرة الحديبية ، حيث ابتلاهم الله بالصيد ، وهم محرمون ، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم ، وكانوا متمكنين من صيدها ، أخذا بأيديهم ، وطعنا برماحهم ، وذلك قوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) فهموا بأخذها ، فنزلت هذه الآية.

المناسبة :

وجه النظم والربط بين الآيات أنه تعالى قال : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ثم استثنى الخمر والميسر من ذلك ، فصارا من المحرمات ، لا من المحللات ، ثم استثنى أيضا نوعا آخر وهو هذا النوع من الصيد : وهو صيد الإحرام ، وبيّن جزاءه ، فصار مستثنى مما أحل الله ، داخلا فيما حرمه ومنعه على المؤمنين.

التفسير والبيان :

يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، ليختبرنكم الله بإرسال كثير من الصيد ، أو ببعض الصيد وهو صيد البر ، تأخذونه بالأيدي أو تصطادونه بالرماح ، وهو بيان لحكم صغار الصيد وكباره. وخص الأيدي والرماح ؛ لأن الصيد يكون بهما غالبا. وتنكير قوله : (بِشَيْءٍ) للتحقير. وإنما امتحنوا بهذا الشيء الحقير


تنبيها على أن من لم يثبت أمام هذه الأشياء ، علما بأن الصيد طعام لذيذ شهي وخصوصا في الأسفار ، فكيف يثبت عند شدائد المحن؟! والامتحان بترك ما ينال بسهولة ، وهو طيب ، أشق على النفس وأدل على التقوى والخوف من الله ، من ترك ما لا ينال إلا بمشقة ، وهو قليل الأهمية.

وكذلك يكون الصيد بالفخ والحبالة ونحوها من الوسائل ، وما وقع فيها يكون لصاحبها ، فإن ألجأ الصيد إليها أحد كان صاحبها شريكه فيه.

ثم بيّن الله تعالى سبب الابتلاء أو الاختبار بقوله : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي يبتليكم الله حال إحرامكم ليظهر ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته أنه حاصل منهم في حال الحياة ، وأن صلابة الإيمان تظهر الخوف من الله تعالى في حال أسر والخفية كما في حال الجهر والعلانية. والخلاصة : إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر ، وإن كان هو عالما به منذ الأزل ، لتزكية النفوس وتطهيرها وصقلها.

(فَمَنِ اعْتَدى ...) أي فمن تجاوز حدود الله بعد هذا البيان الشافي في الصيد ، فله عذاب شديد الألم في الآخرة ؛ إذ هو لم يبال باختبار الله له ؛ لأن المخالفة بعد الإنذار مكابرة وعدم مبالاة.

ثم حرم الله تعالى صيد البر حال الإحرام ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وهذا النهي العام لكل مسلم ذكر وأنثى هو الابتلاء المذكور في الآية السابقة : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ).

فيا أيها الذين صدقوا بالله والرسول والقرآن ، لا تقتلوا صيد البر ـ والقتل يشمل كل ما يزهق الروح ـ وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، لا بالمباشرة ولا بالتسبب كالإشارة والدلالة ، ولا في حرم مكة والمدينة وإن لم تكونوا محرمين كما ثبت في


السنة ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض أصحابه : هل أشرتم؟ هل دللتم؟ قالوا : لا ، قال : إذن فكلوا.

فهذه الآية تدل على أن المحرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل الحرم وخارجه ، وعلى أن الحلال ممنوع من الصيد داخل الحرم.

ويرى الجمهور أنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ، ولا من أجله ؛ لما رواه النسائي والترمذي والدارقطني عن جابر : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم».

ورأى الحنفية : أن أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ؛ لظاهر قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فحرّم صيده وقتله على المحرمين ، دون ما صاده غيرهم ، ولحديث البهزي ـ واسمه زيد بن كعب ـ في رواية مالك وغيره عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر ، فقسمه في الرّفاق. وحديث أبي قتادة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : «إنما هي طعمة أطعمكموها الله» فقد أكل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي.

والمراد بالصيد : المصيد ، لقوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) واختلف العلماء في المراد بمدلوله ، فذهب الحنفية إلى أن المراد منه الحيوان المتوحش مطلقا ، سواء أكان مأكولا أم غير مأكول ؛ لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول ، وهو اسم عربي واضح الدلالة على معناه ، وقد كانت العرب تصطاد ، وتطلق اسم الصيد على كل ما تناولته أيديهم ورماحهم.

وخصه الشافعية بالمأكول ؛ لأنّ الذي يحرم أكله ليس بصيد ، فوجب أن لا يضمن ، وكونه ليس بصيد ؛ لأن الصيد : ما يحل أكله ؛ لقوله تعالى بعد هذه الآية : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ


الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) هذا ما ذكره الفخر الرازي دليلا للشافعي ، وهو في الواقع دليل ضعيف ؛ لأن هذه الآية إن دلت على شيء ، فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو المأكول ؛ لأن قوله : (مَتاعاً لَكُمْ) أي نفعا أعم من أن يكون من طريق الأكل أو من طريق الحلية مثلا.

وذكر الرازي أيضا دليلا آخر للشافعي وهو الحديث المشهور الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة : «خمس فواسق ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور» هذا اللفظ للبخاري ، وفي رواية «السبع الضاري» وفي رواية مسلم : «يقتلن في الحل والحرم». وفيها : «والغراب الأبقع» والسبع الضاري نص في المسألة ، ووصفت بكونها فواسق ، وحكم بحل قتلها ، وذكر هذا الحكم عقب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معللا بذلك الوصف ، وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها ، والفسق : الإيذاء ، وهي موجودة في السباع ، فوجب جواز قتلها (١). ويناقش هذا الدليل بأنه لا يصلح حجة على الحنفية القائلين : إن الصيد اسم عام يتناول المأكول وغير المأكول ، لا يخرج عنه شيء إلا ما أخرج الدليل ، وقد أخرج الدليل الخمس الفواسق ؛ لأنها فواسق ، لا لأنها ليست بصيد ولا لأنها غير مأكولة.

وبه يظهر أن ما أورده الرازي دليلا للشافعي من القرآن والخبر لا يصلح دليلا للدعوى ، وإنما الذي يصلح دليلا أن يثبت أن الصيد خاص بالمأكول ، فإن ثبت هذا كانت الآية حجة للشافعية ، وإلا فهي ظاهرة في العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص.

وقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) لفظ عام يشمل كل صيد بري وبحري ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٨٧


لكن جاء قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فأباح صيد البحر مطلقا.

ثم بيّن الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد فقال : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ ...) أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم ، متعمدا قتله ، فعليه جزاء من الأنعام ، مماثل لما قتله في الهيئة والصورة إن وجد ، وإن لم يوجد المثيل فتجب القيمة.

والمماثل للنعامة بدنة (ناقة) ولحمار الوحش بقرة ، وللظبي شاة ، وفي الطير قيمته ، إلا حمام مكة ، فإن في الحمامة شاة ، اتباعا للسلف في ذلك. روى الدارقطني عن جابر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفي الظبي شاة ، وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة (١)».

ويلاحظ أن ظاهر الآية ترتيب الجزاء على القتل العمد ، لكن يرى الجمهور غير أحمد أن الجزاء يترتب على قتل الصيد مطلقا ، سواء تعمد القاتل قتله أو أخطأ فيه ، وسواء كان متذكرا إحرامه أم ناسيا ، عملا بالثابت في السنة النبوية. وإنما خص العمد بالبيان القرآني لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود ، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك ، دون الخطأ. ويرى أحمد في رواية عنه : أنه لا شيء على المخطئ والناسي ، لأنه لما خصّ تعالى المتعمد بالذكر ، دل على أن غيره بخلافه.

والمراد بالمثل في رأي ابن عباس ومالك والشافعي ومحمد بن الحسن والإمامية : هو النظير ، لأن الله أوجب مثل المقتول مقيدا بكونه من النّعم ، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم ، وذلك لا يكون إلا بأن يكون من الحيوانات

__________________

(١) العناق : الأنثى من ولد المعز قبل بلوغ السنة ، والجفرة : الأنثى من ولد الضأن البالغة أربعة أشهر.


التي تماثل المقتول ، فلا تجب القيمة ، لأنها ليست من النعم. وأوجب عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم من الصحابة في النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، ونحو ذلك.

ورأى أبو حنيفة وأبو يوسف أن الواجب هو قيمة الصيد المقتول باعتبار كونه صيدا ، وتقدر القيمة في مكان الصيد وفي زمانه ، لأن القيمة تتفاوت باعتبار المكان والزمان ، لأن الله أوجب مثل المقتول مطلقا ، والنظير متعذر ، فينتقل إلى المثل في المعنى ، وقد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة ، قال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة ٢ / ١٩٤] والمراد من المثل : النظير بالنوع في المثليات ، والقيمة في القيميات. والحيوانات من القيميات ، فتجب قيمتها ، والأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلفت أنواعه ، وقد أهدر الشرع في ضمان المتلفات المماثلة في الصورة. ويؤيد الحنفية قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فإن اللجوء إلى حكمين اثنين من عدول المسلمين إنما يكون في شيء تختلف فيه الأنظار والخبرات ، وذلك في القيمة.

ثم قال تعالى عن تقدير الجزاء : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي يحكم بالجزاء من النعم في المثل أو بالقيمة في غير المثل على رأي الجمهور رجلان مؤمنان عدلان ، لأن تحديد المماثلة بين الصيد ومثيله يحتاج لتقدير خبيرين ، لخفائه على أكثر الناس.

ويذبح المثل في الحرام المكي لقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي إن الجزاء يكون هديا (شاة أو كبشا مثلا) وأصلا إلى الكعبة ، ويذبح في جوارها ، ويوزع لحمه على مساكين الحرم. فالمراد بالاتفاق : وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرّق لحمه على مساكين الحرم.


ثم رخص الشرع فخيّر بين ذبح الهدي أو إطعام المساكين أو الصيام ، فقال تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أي إن قاتل الصيد مخير بين الالتزام بمماثل من النعم ، أو بإخراج كفارة هي طعام مساكين لكل مسكين مد بقدر قيمة الصيد. أو بما يعادل ذلك الطعام من الصيام. والقول بالتخيير هو المقرر في المذاهب الأربعة ، لظاهر (أَوْ) التي هي للتخيير ، لكن التخيير في رأي الحنفية محصور بالقيمة ، فيخير المحكوم عليه بالقيمة : إن شاء اشترى بها هديا فذبح بمكة ، وإن شاء اشترى بها طعاما ، فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ، وإن شاء صام يوما عن كل من نصف صاع البر أو صاع التمر والشعير ، والحكمان في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف : يقدران قيمة الجزاء من هدي أو طعام أو صيام ، وقاتل الصيد مخير بفعل أي خصلة. وقال محمد بن الحسن والشافعي : بل الخيار للحكمين ، ومتى حكما بشيء التزمه القاتل.

والمراد من الكعبة : الحرم ، وإنما خصت بالذكر للتعظيم ، فلو ذبح الهدي في غير الحرم كان إطعاما ، والإطعام يجوز في الحرم وفي غيره. ويرى الشافعي أن الإطعام يكون في الحرم كالهدي. وهذا لم تتعرض له الآية.

وعلل تعالى إيجاب الجزاء بقوله : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي شرعنا الجزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وبال أمره أي ثقل فعله وسوء عاقبة أمره وهتكه لحرمة الإحرام.

والماضي معفو عنه : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أي لم يجعل إثما فيما وقع منكم في الجاهلية أو قبل هذا التحريم من قتل الصيد في حال الإحرام ، ولم يؤاخذكم عليه.

ولكن (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد هذا النهي ، فإن الله ينتقم منه في الآخرة لإصراره على المخالفة والذنب.


(وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب على أمره فلا يغلبه العاصي (ذُو انْتِقامٍ) يعاقب من اقترف الذنب بعد النهي عنه.

وأوجب الجمهور الكفارة على العائد ، فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل ، لأن عذابه في الآخرة لا يمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا.

وتدل الآية على أن الجزاء الدنيوي يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب ، فإن تكرر استحق المذنب جزاء الدنيا (الكفارة) والآخرة (نار جهنم).

وأما صيد البحر فحلال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) أي أبيح لكم صيد البحر ، أي اصطياده ، وطعامه الذي يلقيه ، فيجوز للمحرم تناول ما صيد من البحر ، سواء كان حيا أو ميتا ، قذفه البحر أو طفا على وجه الماء ، أو انحسر عنه الماء ، فهو كما أخبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة : «الطهور ماؤه ، الحل ميتته».

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي أحللنا لكم ذلك لتنتفعوا به ، مقيمين ومسافرين ، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج ، ومن كان مسافرا فليأكل من الطازج إن كان سفره في البحر ، أو من المحفوظ أو المثلّج إن كان سفره في البّر ، وصيود البحر فيها منفعة ومتعة في السفر والحضر ، سواء بالأكل أو بالادخار ، أو بالانتفاع بمنافع أخرى غير الأكل كاصطياد اللآلئ أو أخذ الزيت وما قد يفيد من العظم والسن والعنبر.

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أما صيد البر من الوحش والطير : وهو ما يكون توالده ومثواه في البر ، مما هو متوحش بأصل خلقته ، فحرام ذاته واصطياده منكم ما دمتم محرمين ، لا ما صاده غيركم ، فلا مانع من أكل ما صاده غيركم أو صدتموه وأنتم حلال في غير الإحرام. وقد عرفنا أن الجمهور يجيزون أكل المحرم الصيد البري إذا لم يصد له ولا من أجله ، للحديث المتقدم : «صيد البر لكم حلال


ما لم تصيدوه ، أو يصد لكم». وتوسع الحنفية فأجازوا أكل الصيد للمحرم على كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد من أجله ، عملا بظاهر الآية ، وبما رواه محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله : «تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم ، والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم ، فارتفعت أصواتنا ، فاستيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : فيم تتنازعون ، فقلنا : في لحم الصيد يأكله المحرم ، فأمرنا بأكله» وروى مسلم من حديث أبي قتادة قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجا ، وخرجنا معه ، فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال : خذوا ساحل البحر حتى تلقوني ، قال : فأخذوا ساحل البحر ، فلما انصرفوا قيل : يا رسول الله ، أحرموا كلهم إلا أبا قتادة ، فإنه لم يحرم ، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة ، فأصاب منها أتانا ، فنزلوا فأكلوا من لحمها ، قال : فقالوا : أكلنا لحما ونحن محرمون؟» إلخ القصة ، وفيها : «أنهم استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هل معكم أحد أمره أو أشار عليه بشيء ، قال : لا ، قال : فكلوا».

ثم ختم الله تعالى بيان حكم الصيد حال الإحرام بالأمر بالتقوى ، كما هو الشأن الغالب في تبيان الأحكام ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي اتقوا فيما نهاكم عنه من الصيد ومن جميع المعاصي كالخمر والميسر ، واخشوه واحذروه بطاعته فيما أمركم به من الفرائض ، فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر ، ومصيركم ومرجعكم إليه ، فيحاسبكم حسابا عسيرا ، يعاقب العاصي ، ويثيب الطائع. وهذا تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم ، والتذكير بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ الدنيا كلها دار ابتلاء واختبار ، وقد اختبر الله تعالى المؤمنين ليمتحن مدى صلابتهم في التمسك بأحكام دينهم وأصول شرعهم ، اختبرهم بالصيد مع


الإحرام وفي الحرم ، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة ، وشائعا عند الجميع منهم ، ومصدر رزق ومتعة وتسلية ، وذلك كما اختبر بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت ، فاحتالوا يوم الجمعة على صيد السمك بإقامة حواجز أمام حركة الجزر البحري بعد المد الحامل للسمك ، ثم أخذوا ما حجز يوم الأحد ، أما المؤمنون فقد امتثلوا المنع والحظر.

٢ ـ الصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس محلّهم ومحرمهم ، لقوله تعالى : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) أي ليكلفنكم ، والتكليف كله ابتلاء ، وإن تفاضل في الكثرة والقلة ، وتباين في الضعف والشدة.

٣ ـ احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن الصيد للآخذ لا لمن أثاره (المثير) لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا.

٤ ـ كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه ، لقوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) يعني أهل الإيمان ، لأن صدر الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه الجمهور ، لقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) والصيد عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب المالكية بأن الآية تضمنت أكل طعامهم ، والصيد نوع أخر ، فلا يدخل في عموم الطعام ، ولا يتناوله مطلق لفظه. لكن هذا الجواب ضعيف ، لأن الصيد كان مشروعا عند أهل الكتاب ، فيجوز لنا أكله ، لتناول اللفظ له ، فإنه من طعامهم كما ذكر القرطبي.

٥ ـ هل يجوز للمحرم ذبح الصيد؟ قال مالك وأبو حنيفة : لا يجوز ذبح المحرم للصيد ، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) فصار المحرم ليس أهلا لذبح الصيد. وقال الشافعي : ذبح المحرم للصيد جائز ، لأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم ، مضاف إلى محله وهو الأنعام ، فأفاد مقصوده من حلّ الأكل ، كذبح الحلال.


٦ ـ هل تستثنى السباع من صيد البر؟ للعلماء آراء ثلاثة :

قال مالك : كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها ، فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه. ولا بأس بقتل كل ما عدا ذلك على الناس في الأغلب ، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد ، وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة : «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية ، والغراب الأبقع ، والفأرة ، والكلب العقور ، والحديا». والخلاصة : أنه لا بأس بقتل المذكور في هذا الحديث ويقاس عليها السباع.

وأما قاتل الزّنبور والبرغوث والذباب والنمل ونحوه فيطعم قاتله شيئا في رأي مالك. وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور.

وقال أبو حنيفة : لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة ، سواء ابتدأه أو ابتدأهما ، وإن قتل غيره من السباع فداه ، فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه. ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحداة ، لأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خص دوابّ بأعيانها ، وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها ، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها. والخلاصة : لا بأس بقتل المذكور في الحديث ، ولا يقاس عليها السباع. أما الذئب فهو كالكلب.

وقال الشافعي : كل ما لا يؤكل لحمه ، فللمحرم أن يقتله ، وصغار ذلك وكباره سواء ، إلا السّمع وهو المتولد بين الذئب والضبع. وليس في الرّخمة والخنافس والقردان والحلم (الصغيرة من القردان) وما لا يؤكل لحمه شيء ، لأن هذا ليس من الصيد ، لقوله تعالى ، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فدل أن الصيد الذي حرّم عليهم : ما كان قبل الإحرام حلالا. أما القملة فتفدى


وإن كانت تؤذي ، لأنها مثل الشعر والظفر ولبس المخيط ، لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته ، فكأنه أماط بعض شعره ، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. والخلاصة : كل ما يؤذي مما ذكر في الحديث ونحوه من السباع ، وكذا الخنافس والقردان لا شيء في قتله.

٦ ـ صيد الحرم المكي والمدني : أي حرم مكة وحرم المدينة ، وزاد الشافعي حرم الطائف : لا يجوز قطع شجره ، ولا صيد صيده ، ومن فعل ذلك أثم ولا جزاء عليه في مذهبي مالك والشافعي ، ودليل التحريم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «اللهم إن إبراهيم حرّم مكة ، وإني أحرّم المدينة مثل ما حرّم به مكة ، ومثله معه ، لا يختلى خلاها (١) ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها» ودليل عدم أخذ الجزاء : عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا أو أوى محدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا (٢)» فأرسلصلى‌الله‌عليه‌وسلم الوعيد الشديد ، ولم يذكر كفارة.

وقال أبو حنيفة : صيد المدينة غير محرّم ، وكذلك قطع شجرها ، لحديث سعد بن أبي وقاص عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها ، فخذوا سلبه» أي ما يكون معه من متاع وسلاح ، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة ، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس : «ما فعل النّفير؟» فلم ينكر صيده وإمساكه.

__________________

(١) الخلى : النبات الرقيق ما دام رطبا ، ويختلى : يقطع.

(٢) عير : جبل بناحية المدينة. وأما ثور فهو جبل بمكة ، وذكره هنا وهم من الراوي وخطأ.

والصرف : التوبة ، والعدل : الفدية.


قال القرطبي : وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي ، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السّلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة ، فكم من محرّم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم.

٧ ـ ذكر الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد ، والمتعمد : هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام ، ولم يذكر المخطئ والناسي ، والمخطئ : هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا ، والناسي : هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.

فاختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال : منها قول الجمهور : يجب الجزاء على قتل صيد الإحرام مطلقا ، ذاكرا أم ناسيا ، وقد ثبت وجوب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة أي بما ورد من الآثار عن عمر وابن عمر ، ولأن الله تعالى أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد ، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له ، ولأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الضّبع فقال : «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقوله : «متعمدا» خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة.

وقال أحمد في رواية عنه والطبري : لا شيء على المخطي والناسي ، عملا بالنص القرآني.

٨ ـ حالة العود أو التكرار : إن قتل المحرم في إحرامه شيئا من الصيد ، ثم عاد إلى القتل مرة أخرى ، فعليه في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم) الجزاء كلما قتل ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ ، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...) الآية .. فالنهي دائم مستمر عليه ، ما دام محرما ، فمتى قتله ، فالجزاء لأجل ذلك لازم له.

٩ ـ دل قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) على أن الواجب


عليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النّعم. وهذا مؤيد لرأي الجمهور غير أبي حنيفة وأبي يوسف ، كما تقدم في تفسير الآية.

والجزاء إنما يجب بقتل الصيد ، لا بنفس أخذه ، كما قال تعالى ، فمن أخذ الصيد ثم حبسه بعد أن نتف ريشه أو قطع شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد ، فلا شيء عليه في مذهب مالك.

١٠ ـ جزاء الصيد شيئان : دواب وطير ، فيجزى عند الشافعي ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ، ففي النعامة : بدنة ، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش : بقرة ، وفي الظبي : شاة ، أي أن المثل في رأيه هو الأصل في الوجوب إن وجد ، فإن عدم يقوم المثل وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء في المتلفات.

وأقل ما يجزئ عند مالك : ما استيسر من الهدي وكان أضحية ، وذلك كالجذع من الضأن ، والثّنيّ مما سواه ، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ، ففيه إطعام أو صيام ، وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة ، فإن في الحمامة منه شاة ، اتباعا للسلف في ذلك.

وقال أبو حنيفة : إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة ، فيقوّم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله ، فيشتري الصائد بتلك القيمة هديا إن شاء ، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين ، كل مسكين نصف صاع من بر ، أو صاعا من شعير أو تمر.

١١ ـ من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام ، فماتت ، فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك : وفي صغار الصيد مثل ما في كباره ، وفي بيض النعامة عشر ثمن البدنة ، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن الشاة. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة ، بدليل ما أخرج الدار قطني عن كعب بن عجرة أن النبي


صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه. وروى عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في كل بيضة نعام : صيام يوم أو إطعام مسكين».

وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة : فقيمة لحمه أو عدله من الطعام ، لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله ، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره ، ولأن العلماء أجمعوا على اعتبار القيمة فيما لا مثل له.

١٢ ـ قال الشافعي والحسن البصري : إذا اتفق الحكمان لزم الحكم ، وإن اختلفا نظر في غيرهما ، ولا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام ، لأنه أمر قد لزم. وقال مالك : يخيّر الحكمان قاتل الصيد كما خيّره الله في أن يخرج (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ، أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ، ثم خيّر في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.

١٣ ـ هل يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين؟ فيه رأيان :

قال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين ، لأن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين ، ولأنه قد يتهم في حكمه لنفسه.

وقال الشافعي وأحمد : يكون الجاني أحد الحكمين لعموم الآية ، ولأن عمر فيما رواه ابن جرير حكّم معه جانيا محرما قتل ظبيا ، فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر.

١٤ ـ إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد ، فقال مالك وأبو حنيفة : على كل واحد جزاء كامل ، لأن قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ، فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) خطاب لكل قاتل ، وكل واحد من القاتلين قاتل نفسا على التمام والكمال ، بدليل قتل الجماعة بالواحد اتفاقا.


وقال الشافعي : عليهم كلهم كفارة واحدة ، لقضاء ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس بذلك ، روى الدارقطني أن موالي لابن الزبير قتلوا ضبعا ، فحكم عليهم ابن عمر بكبش.

١٥ ـ قال أبو حنيفة : إذا قتل جماعة صيدا في الحرم المكي ، وكلهم محلّون ، عليهم جزاء واحد ، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم ، على كل واحد جزاء كامل. ودليله أن الجناية في الإحرام على العبادة قد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلّون صيدا في الحرم ، فإنما أتلفوا دابة محرمة ، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة ، فإن كل واحد منهم قاتل دابة ، ويشتركون في القيمة.

وقال مالك : على كل واحد منهم جزاء كامل ، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم ، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام. قال ابن العربي : وأبو حنيفة أقوى منا.

١٦ ـ يرى المالكية أن الحكمين إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد ، ويرسل من الحلّ إلى مكة. وقال الشافعي : لا يحتاج الهدي إلى الحل ، وإنما يبتاع في الحرم ويهدى فيه. واتفقوا على أنه ينحر في مكة ويتصدق به فيها ، لقوله تعالى: (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ولم يرد الكعبة بعينها ، فإن الهدي لا يبلغها ، إذ هي في المسجد ، وإنما أراد الحرم.

أما الإطعام فيكون في رأي المالكية الراجح في الحرم وغيره ، وفي مذهب الشافعي : في مكة لأنه بدل عن الهدي ، وفي رأي أبي حنيفة : بموضع الإصابة مطلقا ، اعتبارا بكل طعام وفدية ، فإنها تجوز بكل موضع.

١٧ ـ الكفارة بإطعام مساكين إنما هي عن الصيد لا عن الهدي ، فيقوم الصيد ، وينظركم ثمنه من الطعام ، فيطعم لكل مسكين مدا أو يصوم مكان كل


مد يوما ، ويخير الجاني في رأي جمهور الفقهاء بين الخصال الثلاث (الهدي أو الإطعام أو الصيام) سواء كان موسرا أو معسرا ، لأن (أَوْ) للتخيير.

وقال الحنفية : يتصدق على كل مسكين بنصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو شعير ، والتخيير محصور بالقيمة ، يشتري بها هديا أو طعاما أو يصوم.

ووقت تقدير قيمة المتلف مختلف فيه ، فقال قوم وهو الصحيح عند المالكية : يوم الإتلاف ، وقال آخرون : يوم القضاء ، وقال آخرون : يلزم المتلف أكثر القيمتين من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. والأرجح الرأي الأول ، لأنه الوقت الذي تعلق به حق المتلف عليه.

١٨ ـ الصيام في رأي الجمهور : يصوم عن كل مدّ يوما ، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة. وقال أبو حنيفة : يصوم عن كل مدين (نصف صاع) يوما ، اعتبارا بفدية الأذى.

١٩ ـ صيد البحر حلال لكل محرم ، للآية : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) والمراد بالصيد هنا المصيد ، وأضيف إلى البحر ، لأنه السبب ، وأما طعام البحر فهو ما لفظه البحر أو ألقاه.

ويؤكل في رأي الجمهور كل ما في البحر من السمك والدواب ، وسائر ما في البحر من الحيوان ، سواء اصطيد أو وجد ميتا أو كان طافيا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البحر فيما رواه مالك والنسائي وغيرهما : «هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته» وأصح ما في الموضوع من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له «العنبر» خرجه الصحيحان ، وفيه : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرنا ذلك له فقال : «هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ، فأكله».

وقال أبو حنيفة : لا يؤكل السمك الطافي ، ويؤكل ما سواه من السمك ،


ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك ؛ لعموم قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ولما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا ما حسر (١) عنه البحر وما ألقاه ، وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه» قال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله ، عن وهب بن كيسان عن جابر ، وعبد العزيز ضعيف لا يحتجّ به.

٢٠ ـ الحيوان البرمائي : اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر ، هل يحل صيده للمحرم أم لا؟

قال مالك : كل ما يعيش في البر ، وله فيه حياة فهو صيد البر ، إن قتله المحرم وداه. ويجوز عنده أكل الضفادع والسلاحف والسرطان ، وقال في المدونة : الضفادع من صيد البحر (٢).

ولا يجوز أكل الضفادع في بقية المذاهب ، ويجوز عند الشافعي أكل خنزير الماء وكلب الماء ، ولا يجوز عنده التمساح ولا القرش والدّلفين (٣) ، وكل ماله ناب لنهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل كل ذي ناب.

٢١ ـ أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، لعموم قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ولما رواه الأئمة عن الصعب بن جثّامة الليثي أنه أهدى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودّان ، فرده عليه ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما في وجهه من الكراهة قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم».

__________________

(١) حسر ونضب وجزر : بمعنى واحد.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٢٠

(٣) القرش : دابة مفترسة من دواب البحر المالح ، والدلفين بالضم : دابة بحرية تنجي الغريق ، والعامة تقول : الدرفيل.


٢٢ ـ ما يأكله المحرم من الصيد البري : قال الجمهور : إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ، ولا من أجله ، لما رواه الترمذي والنسائي والدار قطني عن جابر : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» قال الترمذي : هذا أحسن حديث في الباب. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه.

وقال الحنفية : أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال سواء صيد من أجله أو لم يصد ، لظاهر قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فحرّم صيده وقتله على المحرمين ، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي وبحديث أبي قتادة المتقدمين.

وقال علي وابن عباس وابن عمر : لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ، لعموم قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) قال ابن عباس : هي مبهمة ، ولحديث الصعب بن جثّامة الليثي المتقدم. ووجه هذا الحديث في رأي الجمهور : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله ، فرده لذلك ، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة السابق ذكره(١).

٢٣ ـ إذا أحرم شخص وبيده صيد أو في بيته عند أهله ، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : إن كان في يده فعليه إرساله ، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وقال الشافعي في أحد قوليه : سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وجه القول بإرساله : قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) وهذا عام في الملك والتصرف كله.

ووجه القول بإمساكه : أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام ، فلا يمنع من استدامة ملكه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٠٣ وما بعدها.


٢٤ ـ إن صاد الشخص الحلال صيدا في الحل ، فأدخله الحرم ، جاز له في مذهب المالكية التصرف فيه بكل نوع ، من ذبحه ، وأكل لحمه ؛ لأنه معنى يفعل في الصيد ، فجاز في الحرم للحلال ، كالإمساك والشراء ، ولا خلاف فيها. وقال أبو حنيفة : لا يجوز.

٢٥ ـ إذا دلّ المحرم حلالا على صيد ، فقتله الحلال فقال مالك والشافعي وأبو ثور : لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأحمد : عليه الجزاء ؛ لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض ، فيضمن بالدلالة كالوديع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة.

وإذا دل المحرم محرما آخر ، فقال الحنفية وأشهب من المالكية : على كل واحد منهما جزاء ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي قتادة : «هل أشرتم أو أعنتم؟» وهذا يدل على وجوب الجزاء.

وقال مالك والشافعي وأبو ثور : الجزاء على المحرم قاتل ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فعلق وجوب الجزاء بالقتل ، فدل على انتفائه بغيره ، ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم ، كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. قال القرطبي : وهذا أصح.

٢٦ ـ إذا كانت شجرة نابتة في الحل ، وفرعها في الحرم ، فأصيب ما عليه من الصيد ، ففيه الجزاء ، لأنه أخذ في الحرم. وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل ، ففيه قولان عند المالكية : الجزاء نظرا إلى الأصل ، ونفيه نظرا إلى الفرع.


مكانة البيت الحرام والشهر الحرام وشأن الهدي والقلائد

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧))

الإعراب :

(الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ، كما تجيء الصفة كذلك (قِياماً) مفعول (جَعَلَ) الثاني.

(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) : (ذلِكَ) إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأمر كذلك. وإما منصوب على تقدير : فعل ذلك لتعلموا.

البلاغة :

(الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي البدن ذوات القلائد ، وهو عطف خاص على عام ؛ لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج معها أظهر ، على حد تعبير الزمخشري (الكشاف : ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦).

المفردات اللغوية :

(جَعَلَ اللهُ) إما جعلا تكوينيا خلقيا أو تشريعيا (الْكَعْبَةَ) هي البيت المربع المرتفع ، الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما‌السلام ، وسميت كعبة لعلوها وارتفاع شأنها وتربيعها ، وأكثر بيوت العرب مدورة.

(قِياماً لِلنَّاسِ) ما يقوم به أمرهم ويصلح شأنهم من أمر دينهم بالحج إليه ، ودنياهم بتوفير الأمن فيه لداخله وعدم التعرض له ، وجبي ثمرات كل شيء إليه. (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، قياما لهم بأمنهم من القتال فيها (وَالْهَدْيَ) ما يهدي إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه (وَالْقَلائِدَ) أي ذوات القلائد من الهدي : وهي الأنعام التي كانوا يضعون القلادة على أعناقها إذا ساقوها هديا ، وخصها بالذكر لعظم شأنها. والهدي والقلائد قيام للناس بأمن صاحبهما من التعرض له (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ..) الجعل المذكور لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.


المناسبة :

قال الرازي : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها : هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم ، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير ، فكذلك هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة (١).

التفسير والبيان :

صيّر الله الكعبة التي هي البيت الحرام لتكون سببا لقوام الناس في إصلاح أمورهم دينا ودنيا ، حيث جعله الله مثابة للناس وأمنا ، فيه يأمن الخائف وينجو اللاجئ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٧] ، وبه يطعم البائس الفقير بجعل مناسك الحج سببا لعمارة واد غير ذي زرع ، وإلا لما أقام فيه أحد ، وقد جعل الله الدعاء فيه مقبولا ، والحسنات فيه مضاعفة لتشتد رغبة الناس فيه ، كما أن اجتماع الناس من أقطار بعيدة فيه يحقق منافع دنيوية كثيرة لا تحققها المؤتمرات الحالية ، وكذلك تحقق أعمال الحج منافع : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) دينية بالتجرد عن مظاهر الدنيا ، والتقرب إلى الله ، واتقاء محظوراته ، والمبادرة إلى امتثال أمره ، وتذكر أهوال المحشر بالتجرد والاجتماع ، والوقوف بين يدي الله ، فتشتد الخشية ويعظم الخوف ، ويحظى الناس بالخير والسعادة ، والراحة والطمأنينة. قال سعيد بن جبير : «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة ، أصابه».

وقال ابن زيد في هذه الآية التي جعل الله فيها هذه الأربعة قياما للناس : كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ، ولم يكن في العرب ملوك يدفع بعضهم عن بعض ، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٩٩ ، ط بيروت.


بعض ، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد ، فلو لقي الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه ، فلا يعرض له (١).

(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) معطوف على الكعبة ، أي وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس ، أي فيه صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة ، فيأمن الناس على أنفسهم وأموالهم ومعايشهم وتجاراتهم ، وتهدأ النفوس ، وتخمد نار الحروب ، وينصرفون إلى العبادة والحج وصلة القربى ، وتحصيل الأقوات كفاية العام.

(وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) جعلهما الله أيضا قياما للناس ؛ فيذبح الهدي المسوق إلى الحرم ، والإبل المقلدة بلحاء الشجر حتى لا يتعرض لها بسوء ، فتكون نسكا لمن قدّمها تقوّم له دينه ، وتكفر ذنبه ، وتطهر نفسه وماله ، وتجعله آمنا على نفسه ، وتفرّق لحومها على الفقراء ، فتكون سببا لغناهم ودفع غائلة الجوع والفقر عنهم ؛ لأن الله أوقع في قلوب الناس تعظيم البيت الحرام ، فكل من قصده أصبح آمنا من جميع المخاوف.

وذلك الجعل المذكور والتدبير اللطيف بتشريع الحج وما فيه من مناسك ومنافع دليل على أن الله تعالى عالم بكل ما في السموات والأرض من أسرار وأوضاع حالية أو مستقبلية ، وتشريع تلك التشريعات لحكم يعلمها الله ، والله تعالى علّام بكل شيء صغير أو كبير ، سرّ أو علن ، باطن أو ظاهر.

والحق أن موسم الحج لو استفيد منه لحقق ـ فضلا عن تطهير النفوس وتزكيتها وغسل الذنوب والتخلص منها ـ منافع كثيرة جدا من الناحية العامة ، فهو دعامة للإسلام ، وسبب لتقوية أواصر الصلات ، وتنمية الشعور بنعمة الأخوة الإسلامية : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات ٤٩ / ١٠] وإذكاء روح الدين

__________________

(١) ـ تفسير الطبري : ٧ / ٥٠


والتعاون بين جميع المسلمين دولا وشعوبا وأفرادا في المشارق والمغارب ، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية.

فقه الحياة أو الأحكام :

لا بد في حياة الأمم والشعوب والأفراد من فترات راحة واستجمام ، وإحساس بالأمن والاطمئنان والاستقرار ، فكان من حكمة الله تعالى أن جعل البيت الحرام والحرم كله والشهر الحرام ، وذبائح الهدي والقلائد قياما للناس ، لصلاح أمر دينهم ودنياهم ، وقد أوضحت أحوالها.

وذلك لأن الناس مخلوقون بغرائز ، منها التحاسد والتنافس ، والتقاطع والتدابر ، وهي تحملهم على تسخين أجواء حياتهم إما بالتقاتل والتنازع الداخلي ، وإما بالمعارك والحروب الخارجية ، فكان لا بد من فترات فاصلة تذكرهم بضرورة العودة إلى التآلف والتوادد ، والسلام والأمن ، وردّ الظالم عن المظلوم ، وهذا يحدث عادة وفي كل زمان بالمصالحات والمهادنات ، وفي الماضي بفترات الأشهر الحرم ، وقد نسخ ذلك ، ولكن تعظيم البيت الحرام وجعله حرما آمنا ما يزال قائما. أما في الداخل فلا بد لهم من خليفة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة ٢ / ٣٠] ليحقق التناصف والعدل ، ويقضي بين الخصوم ، ويعاقب الجناة ، وينشر السلم والأمن ، ويرعى الحرمات ويدفع الخطر عن البلاد والعباد ، روى ابن القاسم عن مالك : أن عثمان رضي‌الله‌عنه كان يقول : «ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن».

فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والأرض ، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، والله لطيف بالعباد.


الترهيب من عقاب الله والترغيب بفعل الطيب

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

البلاغة :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أطلق اسم المصدر وأراد به التبليغ للمبالغة ، فهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ. (الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) بينهما طباق. قال الزمخشري : وهو عام في حلال المال وحرامه ، وصالح العمل وطالحه ، وصحيح المذاهب وفاسدها ، وجيد الناس ورديئهم.

المفردات اللغوية :

(شَدِيدُ الْعِقابِ) لأعدائه (غَفُورٌ) لأوليائه (رَحِيمٌ) بهم (تُبْدُونَ) تظهرون من العمل (وَما تَكْتُمُونَ) تخفون منه ، فيجازيكم به (الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) الحلال والحرام والحسن والقبيح والجيد والرديء (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) سرّك (فَاتَّقُوا اللهَ) في ترك الخبيث وفعل الطيب (الْأَلْبابِ) العقول (تُفْلِحُونَ) تفوزون.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠٠):

(قُلْ لا يَسْتَوِي) : أخرج الواحدي والأصبهاني في الترغيب عن جابر : أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر تحريم الخمر ، فقام أعرابي فقال : إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي ، فاعتقبت منها مالا ، فهل ينفع ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله


تعالى؟ فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لا يقبل إلا الطيب ، فأنزل الله تعالى تصديقا لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ : لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وفي رواية أخرى : «إن الله عزوجل حرّم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ، إلا إن الخمر لعن شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها ، فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله ، إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي ، فاقتنيت من بيع الخمر مالا ، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيّب» (١).

المناسبة :

حذرنا الله تعالى في الآية السابقة من انتهاك حرمة أربعة أشياء ببيان سعة علم الله المحيط بكل شيء ، ثم نبّه في هذه الآيات على عقوبة المخالفة ، وأن الرسول لا يملك الهداية والتوفيق ولا الثواب ، وإنما عليه البلاغ ، وأن الحكمة والعدل يقضيان بالتمييز بين الطيب والخبيث أو البر والفاجر.

التفسير والبيان :

اعلموا أيها الناس أن الله الذي لا تخفى عليه خافية ، شديد العقاب لمن خالف أوامره فأشرك بالله وفسق وعصى ربه ، وهو غفار لذنوب من أطاعه رحيم به ، فلا يؤاخذه بما سبق إيمانه ولا بما عمل من سوء بجهالة ثم تاب وأصلح عمله. وهذا يقتضي أن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف ، وأنه تعالى لم يخلقنا عبثا ، بل لا بد من جزاء العاصي ، وإثابة الطائع.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٢٠ ، وللسيوطي.


وفي تقديم العقاب على الرحمة دلالة على أن جانب الرحمة أغلب ؛ لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث ، لذا قال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة ٥ / ١٥] وقد ذكر الله في هذه الآية أمام العقاب وصفين من أوصاف الرحمة ، وهو كونه غفورا رحيما ، قال الرازي : وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة ، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة (١).

وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة ، ثم يؤول أمر الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية إلى الله خالق الخلق الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم ما يظهره الإنسان وما يكتمه في جوانح نفسه ، فإذا بلّغ الرسول بقي الأمر من جانبكم.

وهذا وعيد شديد مؤكد لما سبق في الآية [٩٧] : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) وتهديد لمن يخالف أوامر الله ، وإبطال لمخاوف المشركين من معبوداتهم الباطلة.

ولما زجر الله تعالى عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ، وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم أتبعه بالتكليف بقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال : (قُلْ : لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ).

فليس من الحكمة والعدل التسوية بين الجيد والرديء ، وبين البر والفاجر ، كما قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨] وقال عزوجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢١].

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٠٢


قل لهم أيها الرسول : لا يستوي أبدا الرديء والجيد ، والضار والنافع ، والفاسد والصالح ، والحرام والحلال ، والظالم والعادل ، ولو أعجبك أيها المشاهد كثرة الخبيث من الناس أو المفسدين أو الأموال الحرام كالربا والرشوة والخيانة ، وقلة الطيب من الصالحين والأبرار وأهل الاستقامة!

فاتقوا الله يا أهل العقول ، واحذروا تسلط الشيطان عليكم ، فتغتروا بكثرة أهل الباطل والفساد أو كثرة المال الحرام ، فإن العاقل هو الذي يتذكر ويعي ويحذر ، وتقوى الله هي سبيل الفلاح والفوز والنجاة ، وإحراز خيري الدنيا والآخرة.

والأمر بالتقوى تأكيد لما سبق من الترغيبات الكثيرة في الطاعة ، والتحذيرات من المعصية.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكرت الآية أن مهمة التكليف تنتهي بمجرد تبليغ الأحكام الشرعية ، ويبقى أمر التزامها والوقوف عند حدودها على الإنسان المكلف بحمل الأمانة.

وفي التزام الطاعة واجتناب المعصية تكمن الخطورة ، وتظهر البطولة ، ويعرف مدى الجهاد الذي جاهد به الإنسان نفسه ليحملها على الاستقامة ، ويحجبها عن الانحراف ، وتقديرا لهذه المخاطر والمواقف الصعبة لاختيار الحل الأفضل ، رغب الله تعالى في الطاعة ونفر من المعصية في هذه الآيات في أربعة مواضع : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ وَاللهُ يَعْلَمُ قُلْ : لا يَسْتَوِي فَاتَّقُوا اللهَ).

فأين يفر الإنسان من رقابة الله له وعلمه الشامل المحيط بكل شيء ، أظهره أو أخفاه في قلبه؟


وقد نقلت أقوال في تفسير الخبيث والطيب ، فقيل : الحلال والحرام ، وقيل : المؤمن والكافر ، وقيل : الرديء والجيد ، والصحيح كما قال القرطبي : أن اللفظ عام في جميع الأمور ، يتصّور في المكاسب والأعمال ، والناس ، والمعارف من العلوم وغيرها ، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر ، والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة. قال الله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) [الأعراف ٧ / ٥٨].

وقد استنبط علماء المالكية حكما طريفا من الآية (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) وهو أن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق ، ولا بتغير بدن أي ببيع المبيع إلى آخر ، ويرد الثمن على المشتري إن كان قبضه البائع ، وإن تلف في يده ضمنه ؛ لأنه لم يقبضه على الأمانة ، وإنما قبضه بشبهة عقد ، ويؤيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».

وتطبيقات هذا المبدأ كثيرة في الفقه ، منها : إذا بنى الغاصب في البقعة المغصوبة أو غرس ، فإنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس ، لأنه خبيث ، ثم ردّها على صاحبها ؛ خلافا لقول أبي حنيفة : لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو داود عن عروة بن الزبير : «ليس لعرق ظالم حق» والعرق الظالم : أن يغرس الرجل في أرض غيره ، ليستحقها بذلك.

والخطاب في قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمته ، فإن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعجبه الخبيث.


النهي عن كثرة السؤال فيما لم ينزل به وحي

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

الإعراب :

(عَنْ أَشْياءَ) هي ممنوعة من الصرف ؛ لأن الألف في آخرها للتأنيث ، وهي اسم للجمع ، وليست بجمع شيء. وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كبيت وأبيات. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه جمع شيء. بالتخفيف مثل طبيب وأطباء ، وشريف وشرفاء. فال ابن الأنباري : والمختار هو الأول.

المفردات اللغوية :

(إِنْ تُبْدَ) تظهر (تَسُؤْكُمْ) تزعجكم لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) المعنى إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينزل القرآن بإبدائها ، ومتى أبداها ساءتكم ، فلا تسألوا عنها قد (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عن مسألتكم فلا تعودوا (قَدْ سَأَلَها) أي الأشياء (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي سأل عنها جماعة سابقون أنبياءهم ، فأجيبوا ببيان أحكامها (ثُمَّ أَصْبَحُوا) صاروا.

سبب النزول :

تعددت أسباب نزول هذه الآية ، منها سؤال اختبار وتعجيز ، وتعنت واستهزاء وسخف ، ومنها سؤال استفهام واسترشاد عن تكرار بعض الفرائض. فمن الأول : ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول عن أنس بن مالك قال : خطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة ، فقال رجل : من أبي؟ قال : فلان ، فنزلت هذه الآية : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ). وروي أيضا عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) حتى فرغ من الآية كلها. وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة. وأخرج البخاري أيضا عن أنس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : «فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل ، فقال : أين مدخلي يا رسول الله؟ قال : «النار» فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي يا رسول الله؟ فقال : «أبوك حذافة».

ومن الثاني : ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج ، فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم». وفي رواية : «فأنزل الله هذه الآية».

ومثل ذلك روى أحمد والترمذي والحاكم عن علي قال : «لما نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قالوا : يا رسول الله ، في كل عام؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله ، في كل عام؟ قال : لا ، ولو قلت : نعم ، لوجبت ، فأنزل الله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)».

وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس.

قال الحافظ ابن حجر : لا مانع أن تكون نزلت في الأمرين ، وحديث ابن عباس في ذلك أصح إسنادا. وقال الطبري : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل ، كمسألة ابن حذافة إياه : من أبوه؟ ومسألة سائله إذ قال : إن الله فرض عليكم الحج ، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل.


المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أن مهمة الرسول مجرد البلاغ ، ومهمة المبلّغين هي تنفيذ التكاليف والانقياد له ، دون أن يكثروا عليه السؤال عما لم يبلغه لهم ، ناسب أن ينهاهم صراحة عن السؤال فيما لا تكليف فيه ، لئلا يكون ذلك سببا للإلزام بتكاليف ثقيلة ، ومطالب جديدة شديدة.

التفسير والبيان :

يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله : لا تسألوا عن أشياء غيبية أو خفية أو لا فائدة منها ، أو عن أمور دقيقة في الدين ، أو عن تكاليف سكت عنها الوحي ، فيشق التكليف بها على بقية المؤمنين ، فيكون السؤال سببا في التشديد والإساءة والكثرة.

وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة والشائكة أو التكاليف الصعبة حين ينزل القرآن ، يظهرها الله لكم على لسان رسوله. وقال ابن كثير : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق ، وقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه : «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرّم من أجل مسألته» ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة ، فسألتم عن بيانها ، بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.

أي أن المسؤول عنها إما التكاليف الصعبة المنهي عن السؤال فيها ، أو عن غيرها مما فيه لكم حاجة وقد نزل بها الوحي.

وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعا وهات ، وكره لكم ثلاثا : قيل


وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» ورواه مسلم أيضا عن أبي هريرة بلفظ آخر. قال كثير من العلماء : المراد بقوله : «وكثرة السؤال» التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات ، وتشقيق المولدات ، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف.

يفهم من ذلك أن السؤال لإيضاح المجمل الغامض من القرآن مباح ، مثل السؤال عن البيان الشافي في تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة. أما السؤال عما لا يفيد أو عن حكم مسألة لم تحرّم أو لم يكلف بها المسلمون ، أو عما لا حاجة إلى السؤال فيه وكان في الإجابة عنه زيادة كلفة ومشقة ، فهو حرام.

(عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي عفا الله عما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا الله عنه وسكت عليه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها ، والله غفور لمن أخطأ في السؤال وتاب ، حليم لا يعاجلكم بالعقوبة على ما فرطتم أو قصّرتم فيه. روى الدار قطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ، رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها».

ثم بيّن الله تعالى حالة بعض الأقوام السابقين مثل قوم صالح الذين سألوا عن مسائل ثم أهملوا حكمها ، فقال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ..) أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم ، فأجيبوا عنها ، ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ، أي بسببها ، والمعنى : أني بينت لهم ، فلم ينتفعوا بها ؛ لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، بل على وجه الاستهزاء والعناد. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة : عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم».


وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية تنهى وتحرم كل أنواع الأسئلة (١) ما عدا السؤال عما ينفعهم أو يحتاجون إليه أو عن توضيح المجمل في القرآن أثناء تنزل الوحي ، وقد نزلت جوابا عن جميع الأسئلة التي سئل عنها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إما امتحانا له ، وإما استهزاء.

وقد التزم الصحابة بعدئذ هذا الأدب فامتنعوا عن السؤال ، واقتصروا على ما يبلغهم إياه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عباس : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) [البقرة ٢ / ٢١٧] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة ٢ / ٢٢٢] وشبهه ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

أما الأسئلة الشرعية اليوم فجائزة للعلم والبيان ، قال ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله ، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ، ونفى الجهل عن نفسه ، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه ، فلا بأس به ، فشفاء العيّ السؤال ؛ ومن سأل متعنتا غير متفقة ولا متعلم ، فهو الذي لا يحلّ قليل سؤاله ولا كثيره (٢)

__________________

(١) وهي السؤال عما لا ينفع في الدين مثل : من أبي؟ والسؤال الزائد عن الحاجة كالسؤال عن الحج : أكل عام؟ والسؤال عن صعاب المسائل كما جاء في النهي عن الأغلوطات ، والسؤال عن علة الحكم في التعبدات كالسؤال عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ، وسؤال التكلف والتشدد في الدين كسؤال بني إسرائيل عن أحوال البقرة ، وسؤال التعنت والإفحام ، والسؤال عن المتشابهات مثل السؤال عن استواء الله.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٢٣


ومن أمثلة الأسئلة عما كانوا بحاجة إليه : أنه تعالى بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ، ولم يذكر عدة المرأة التي لا حيض لها ولا حامل ، فسألوا عنها فنزل : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) [الطلاق ٦٥ / ٤] فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ، فأما ما مسّت الحاجة إليه فلا. وبهذا يوفق بين أول الآية : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ..) وبين الجملة التالية : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فأول الآية نهي عن السؤال ، والجملة التالية تبيح السؤال ، والمعنى : وإن تسألوا عن غيرها فيما مسّت الحاجة إليه. فحذف المضاف ، ولا يصحّ حمله على غير الحذف. قال الجرجاني : الكناية في (عَنْها) ترجع إلى أشياء أخر ؛ كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون ٢٣ / ١٢] يعني آدم ، ثم قال : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) [المؤمنون ٢٣ / ١٣] أي ابن آدم ؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين ، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم ، دل على إنسان مثله ، وعرف ذلك بقرينة الحال. والمعنى : وإن تسألوا عن أشياء مما أنزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم ، أو مسّت حاجتكم إلى التفسير ، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم (١).

وقد عفا الله عن الأسئلة التي سلفت منهم قبل هذا النهي ، فضلا من الله ورحمة ، وإن كرهها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تعودوا لأمثالها.

وتغلب المقارنة والتذكير والعبرة في آي القرآن وسرد أحكامه كما فعل هنا بقوله : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ..) أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها ، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها ، وقالوا : ليست من عند الله ، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة ، وقوم موسى رؤية الله جهرة ، وأصحاب عيسى المائدة. وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم.

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.


والتوفيق بين ما ذكر من كراهية السؤال والنهي عنه وبين قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٤٣] : أن النهي منصب على ما لم يتعبد الله به عباده ولم يذكره في كتابه ، والأمر موجه لما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب العمل به.

ما حرّمه الجاهليون من الماشية والإبل

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

المفردات اللغوية :

(ما جَعَلَ) ما شرع شيئا من هذه الأحكام التي كان العرب يفعلها في الجاهلية ، ولا أمر بالتبحير والتسبيب وغير ذلك ، ولكنهم يفترون ويقلدون في تحريمها كبارهم.

البحيرة هي الناقة التي كانوا يبحرون أذنها ، أي يشقونها شقا واسعا ، إذا نتجت خمسة أبطن إناثا آخرها أنثى وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها. فإن كان آخرها ذكرا نحروه تأكله الرجال والنساء. وقيل : غير ذلك بأن آخرها ذكر.

والسائبة الناقة التي كانت تسيّب بنذرها لآلهتهم الأصنام ، فتعطى للسدنة ، وترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها شيء ، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف.

والوصيلة الشاة أو الناقة التي تصل أخاها ، فإذا بكرت في أول النتاج بأنثى كانت لهم ، وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل : غير ذلك.

والحامي : الفحل الذي يضرب في مال صاحبه فيولد من ظهره عشرة أبطن ، فيقولون : حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.


روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة : التي يمنع درّها للطواغيت ، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة : التي كانوا يسيبونها لآلهتهم ، فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ، ليس بينهما ذكر. والحام : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ، ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه ، فلا يحمل عليه شيء ، وسموه الحامي.

(يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي يختلقون الكذب في ذلك ، وفي نسبته إلى الله. (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أن ذلك افتراء ؛ لأنهم قلدوا فيه آباءهم. (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) أي إلى حكمه من تحليل ما حرمتم. (حَسْبُنا) كافينا. (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الدين والشريعة. (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) استفهام إنكاري. (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحق.

المناسبة :

كما نهى تعالى ومنع الناس من السؤال والبحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها ، وبيّن ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه بغير إذن ربهم ، وأن ذلك باطل ، وأن التقليد باطل أيضا مناف للعلم والدين.

التفسير والبيان :

ما شرع الله أصلا تحريم هذه الأشياء الأربعة ، وما حرّم البحيرة ولا السائبة ، ولا الوصيلة ، ولا الحامي ، ولكن أهل الجاهلية بتحريمهم ما حرموا يفترون على الله الكذب ، حيث ما كانوا يفعلون ما يفعلون ، وينسبونه إلى شرع الله ، وأكثرهم لا يفعلون أن ذلك افتراء على الله ، وتعطيل للعقل والفكر ، وكفر ووثنية وشرك ، والله لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده.

وكان أول من حرم هذه المحرمات ، وشرع للعرب عبادة الأصنام هو عمرو بن لحيّ الخزاعي ، فهو الذي غيّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيّب السائبة وحمى الحامي.


روى البخاري من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ، ورأيت عمرا يجرّ قصبه ـ أمعاءه ـ وهو أول من سيّب السوائب»(١).

وروى الطبري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأكثم بن الجون : «يا أكثم ، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه ـ أمعاءه ـ في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ، فقال أكثم : أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ، إنك مؤمن ، وهو كافر ، إنه أول من غيّر دين إسماعيل ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي» (٢).

ثم ناقشهم القرآن بقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا ..) أي إذا قيل للمشركين : تعالوا إلى العمل بما أنزل الله من الأحكام المؤيدة بالبراهين ، وإلى الرسول المبلّغ لها والمبين لمجملها ، أجابوا : يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم لنا أئمة قادة مشرّعون ، ونحن لهم تبع.

فردّ الله عليهم مستفهما استفهاما إنكاريا : أيكفيهم ذلك ، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا من الشرائع ، ولا يهتدون إلى مصلحة أو خير أصلا في الدين والدنيا ، فهم يتخبطون في ظلمات الوثنية وخرافة المعتقدات ، ويشرعون لأنفسهم بحسب أهوائهم ، من وأد البنات ، وشرب الخمور ، وظلم الأيتام والنساء ، وارتكاب الفواحش والمنكرات ، وشن الحروب لأتفه الأسباب ، وإثارة العداوة والبغضاء.

وهذا تنديد بالتقليد الأعمى والتعصب الموروث من غير وعي ولا إدراك ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٠٧.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ٥٦ ، ابن كثير ، المكان السابق.


كما قال تعالى في آيات كثيرة منها : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ، وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة ٢ / ١٧٠]

فقه الحياة أو الأحكام :

الله تعالى خالق الخلق هو مصدر الشرائع والأنظمة كلها للناس ، وكل شرع لم يشرعه الله فهو مرفوض ، وقد نفى الله تعالى في هذه الآيات تشريع أهل الضلال في الجاهلية ، وأعلن لهم : ما سمّى الله ، ولا سنّ ذلك حكما ، ولا تعبّد به شرعا ، وإن علم به وأوجده بقدرته وإرادته خلقا ، فإن الله خالق كل شيء من خير وشر ، ونفع وضرّ ، وطاعة ومعصية.

ولو عقل الجاهليون لما فعلوا أصل الكفر والوثنية والشرك ، ولما ضللوا أنفسهم بتحريم ما حرموا ، فأي هدف يرتجى ، وأي نفع يؤمّل ، وأي مصلحة تعود عليهم من عبادة حجر لا يضرّ ولا ينفع ، ومن تحريم أشياء لا فائدة ولا جدوى من تعطيل منافعها ، وحجرها للأصنام؟!!

ولو عقلوا أيضا لنظروا وفكروا فيما ورثوه ، فاختاروا الصالح ، وأعرضوا عن الفاسد ، ولكنه التقليد الأعمى للآباء والأسلاف من غير روية ولا إمعان ، ولا دراية ولا تفكير ، فالتقليد أمر ضار ، مناف للعلم والدين ، مناقض للعقل والمصلحة.

وفضلا عن ذلك إنهم يحرمون بأهوائهم ويقلدون آباءهم ، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لإرضاء ربهم وإطاعة خالقهم ، من دون دليل ولا برهان على ما يقولون ، وإنما هو محض الكذب والافتراء على الله ، كما قال تعالى : (وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا ، افْتِراءً عَلَيْهِ ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ.


وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام ٦ / ١٣٨ ـ ١٣٩] حقا إنه تعالى حكيم عليم بالتحريم والتحليل ، ولكن المشكلة تكمن في إهمال العقل وتعطيل الفكر ، إنها آفة العقل المعطل لدى زعماء الجاهلية وأتباعها!!

والخلاصة : لقد حرموا على أنفسهم من الأنعام ما لم يحرمه الله ، اتباعا منهم خطوات الشيطان ، فوبخهم الله تعالى بذلك ، وأخبرهم أن كل ذلك حلال ، فالحرام من كل شيء : ما حرمه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنص أو دليل ، والحلال منه : ما أحله الله ورسوله كذلك.

وقد استدل أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه بهذه الآية في منعه الأحباس ورده الأوقاف ، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها ، وقاس على البحيرة والسائبة. غير أن هناك فرقا بيّنا بين الأوقاف الإسلامية للأراضي والدور ونحوها ، وبين هذه الأحباس التي لا معنى لها ، وقد عابهم الله أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم ، وعطلوا المنافع والمصالح للناس في تلك الإبل من غير فائدة.

لذا قرر جمهور العلماء القول بجواز الأحباس والأوقاف ؛ لما روي أن ابن عمر في رواية النسائي استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احبس الأصل وسبّل الثمرة» أي اجعلها وقفا وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه ، وهو حديث صحيح. وقد أجمع الصحابة على مشروعية الوقف ، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ، وعائشة وفاطمة ، وعمرو بن العاص ، وابن الزبير ، وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف ، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروي أن أبا يوسف قبل أن يرجع عن قول أبي حنيفة في ذلك قال


لمالك بحضرة الرشيد : إن الحبس لا يجوز ، فقال له مالك : هذه الأحباس أحباس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه.

وأما قول شريح : «لا حبس عن فرائض الله» فليس الوقف حبسا عن الفرائض ، قال الطبري : الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته ، على ما أذن الله به على لسان نبيه ، وعمل به الأئمة الراشدون رضي‌الله‌عنهم ، ليس من الحبس عن فرائض الله ، ولا حجة في قول شريح ، ولا في قول أحد يخالف السنة ، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق.

والمجيزون للوقف لا يجيزون أن ينتفع الواقف بوقفه ؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه ، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته ؛ وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف ، أو افتقر هو أو ورثته ، فيجوز لهم الأكل منه كسائر الفقراء.

وهل حق التصرف في منافع الموقوف للواقف أو لغيره؟ قال الشافعي وأبو يوسف : يحرم على الواقف ملكه ، إلا أنه يجوز له أن يتولى صدقته ، فيفرّقها ويوزعها بين المستحقين ؛ لأن عمر رضي‌الله‌عنه لم يزل يلي صدقته ، حتى قبضه الله عزوجل ، وكذلك علي وفاطمة كانا يليان صدقاتهما.

وقال مالك : لا يتم الوقف حتى يتولاه غير الواقف ، فيقبضه ويتصرف بمنافعه من كراء وقسمة بين المساكين المستحقين ، ما عدا الخيل والسلاح.


التفويض إلى الله تعالى

بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

الإعراب :

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : (أَنْفُسَكُمْ) : منصوب على الإغراء ، أي : احفظوا أنفسكم ، كما تقول : عليك زيدا. (لا يَضُرُّكُمْ) : في موضع الجزم ، لأنه جواب : (عَلَيْكُمْ). وكان ينبغي أن يفتح آخره ، إلا أنه أتى به مضموما تبعا لضم ما قبله.

المفردات اللغوية :

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي احفظوها وقوموا بصلاحها (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها.

سبب النزول :

ذكر الواحدي عن ابن عباس : كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل هجر وعليهم منذر بن ساوى ، يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا فليؤدوا الجزية ، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى ، والصابئين والمجوس ، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام ، وكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية ، فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلمت العرب ، وأما أهل الكتاب والمجوس فأعطوا الجزية ، فقال منافقو العرب : عجبا من محمد يزعم أن الله يبعثه


ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ، ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، فلا نراه إلا قبل من مشركي أهل هجر ما ردّ على مشركي العرب ، فأنزل الله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) يعني من ضل من أهل الكتاب (١).

هذه رواية ، وقيل : المراد غير أهل الكتاب ، لما روى الإمام أحمد قال : قام أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه ، يوشك الله عزوجل أن يعمهم بعقابه» قال : وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس : إياكم والكذب ، فإن الكذب مجانب الإيمان.

وقد روى هذا الحديث أيضا أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحة وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصّديق ، وقد رجح رفعه الدار قطني وغيره.

ولما روى الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال : «أتيت أبا ثعلبة الخشني ، فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أيّة آية؟ قلت : قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال : أما والله ، لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما : الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا ، يعملون كعملكم» وزيد في رواية : «قيل : يا رسول الله ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٢١


أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال : بل أجر خمسين منكم» ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ، ثم قال : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ثم نعى على المشركين تقليدهم الآباء : (قالُوا : حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وندّد بإعراضهم عن الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب ، وبقوا مصرين على جهلهم مقيمين على ضلالهم ، لما بيّن كل ذلك قال الله للمؤمنين : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالهم ، بل أصلحوا أنفسكم ، ونفذوا تكاليف الله ، وأطيعوا أوامره ونواهيه.

والخلاصة : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب التحذير منه.

التفسير والبيان :

يأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ويخبرهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبا منه أو بعيدا.

يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، احفظوا أنفسكم من المعاصي ، وتقربوا إلى ربكم بخالص الأعمال ، وخلّصوها من العقاب ، ولا يضركم ضلال غيركم إذا اهتديتم إلى الحق ، وإلى الله رجوعكم ، فيخبركم بأعمالكم ، ويجازي كل عامل بعمله : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وليس في هذه الآية دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنا ، بل توجب الآية أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب


العاصي ، فهي تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية مثل قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر ٧٤ / ٣٨] (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

ظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب إذا استقام الإنسان ، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤] لو لا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين ، كما تقدم في سبب النزول.

وعلى كل حال يمكن فهم الآية بغير الرجوع إلى السنة ، فهي تطالب المؤمن أولا ببناء الذات والتسلح بفضائل الأعمال والاعتماد على النفس في كل أنواع القربات ، واجتناب المعاصي والسيئات.

وذلك لأن هناك آيات كثيرة تطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا تعارض بين الموضوعين ، فهذه الآية في تكوين الشخصية والذات المسلمة ، وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النطاق الاجتماعي فهي توجب التناصح والتعاون على الخير وإقرار الفضيلة ، ومقاومة الشر ومحاربة الرذيلة والمنكر.

قال سعيد بن المسيب : معنى الآية : لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما إن كانت الآية نازلة في حق غير المسلمين فلا إشكال والمعنى : عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب متعين متى وجد رجاء القبول ، أو رد الظالم ولو بعنف ، فإن خاف الآمر ضررا في خاصته ، أو فتنة يدخلها على المسلمين ، أو الوقوع في التهلكة بأن يعلم يقينا أو يظن ظنا قويا بعدم جدوى نصحه إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر ، سقطت هذه الفريضة.


ودلت الآية على توجيه إنذار عام ؛ إذ قال تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إن مصير الخلائق جميعا واحد ، مصير المؤمنين ومصير المخالفين ، وهو تعالى يجازيكم بأعمالكم.

الشهادة على الوصية حين الموت

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

الإعراب :

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) مبتدأ ، و (إِذا حَضَرَ) ظرف له ومعمول له ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه (الْوَصِيَّةِ) لوجهين : أحدهما ـ أنه مضاف إليه ، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف.

والثاني ـ أنه مصدر ، والمصدر لا يعمل فيما قبله.

(حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من (إِذا) وقيل : العامل فيه (حَضَرَ).

(اثْنانِ) خبر المبتدأ ، وتقديره : شهادة بينكم شهادة اثنين ، ولا بد من هذا التقدير ؛ لأن شهادة لا تكون هي الاثنين.


(أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) معطوف على قوله : (اثْنانِ). (تَحْبِسُونَهُما) جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة (آخَرانِ).

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) : اعتراض بين الصفة والموصوف ، واستغنى عن جواب (اثْنانِ) بما تقدم من الكلام : لان معنى (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) في معنى الأمر ، وإن كان لفظه لفظ الخبر. واستغنى عن جواب (إِذا) أيضا بما تقدم من الكلام وهو قوله : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) لأن معناه : ينبغي أن يشهدوا إذا حضر أحدكم الموت. (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) الفاء فيه لعطف جملة على جملة ، ويجوز أن يكون جواب شرط ؛ لأن (تَحْبِسُونَهُما) في معنى الأمر ، فهي جواب الأمر الذي دل عليه الكلام ، كأنه قال : «إن حبستموهما أقسما».

(لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) جواب لقوله : (فَيُقْسِمانِ) لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم. والهاء في (مُصِيبَةُ) تعود على الشهادة ، إلا أنه عاد الضمير بالتذكير ، لأنها في المعنى : قول ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.

(فَآخَرانِ) : إما خبر مبتدأ مقدر وهو الأوليان ، وتقديره : فالأوليان آخران. ويقومان : صفة (فَآخَرانِ). وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالشاهدان آخران ، و (الْأَوْلَيانِ) بدل من ضمير (يَقُومانِ). وإما مبتدأ ، و (يَقُومانِ) : صفة له ، و (الْأَوْلَيانِ) : خبره. ومعنى (الْأَوْلَيانِ) : الأقربان إلى الميت.

(لَشَهادَتُنا) اللام : جواب لقوله : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) ؛ لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم.

(أَنْ يَأْتُوا) : في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : أدنى بأن يأتوا.

البلاغة :

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) جملة خبرية لفظا ، إنشائية معنى ، يراد بها الأمر ، أي ليشهد بينكم.

المفردات اللغوية :

(شَهادَةُ) هي إخبار عن علم بواقعة بواسطة الحس البصري (المشاهدة) أو السمعي (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسبابه ، وقوله : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ... اثْنانِ) خبر بمعنى الأمر اي ليشهد اثنان عدلان ، وإضافة شهادة لبين على الاتساع (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير ملتكم (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم ؛ لأن المسافر يضرب الأرض برجليه (تَحْبِسُونَهُما) توقفونهما ، وهي صفة : (آخَرانِ مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) صلاة العصر واعتبارها للتغليظ (فَيُقْسِمانِ) يحلفان (إِنِ


ارْتَبْتُمْ) شككتم فيهما أي في صدقهما فيما يقران به (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) أي ويقولان : لا نشتري بالله عوضا نأخذه بدله من الدنيا ، بأن نحلف به أو نشهد كذبا لأجله.

(وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المقسم له أو المشهود له ذا قرابة منا. (إِنَّا إِذاً) إن كتمناها (الْآثِمِينَ) العاصين (عُثِرَ) اطلع بعد حلفهما (اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي ارتكبا فعلا يوقع في الإثم من خيانة أو كذب في الشهادة ، بأن وجد عندهما مثلا ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) في توجه اليمين عليهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) الوصية ، وهم الورثة (الْأَوْلَيانِ) بالميت ، أي الأقربان إليه لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق وبورثته أرحم (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) على خيانة الشاهدين ويقولان : (لَشَهادَتُنا) يميننا (أَحَقُ) أصدق (مِنْ شَهادَتِهِما) يمينهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) تجاوزنا الحق في اليمين.

(ذلِكَ) الحكم المذكور من رد اليمين على الورثة (أَدْنى) أقرب إلى (أَنْ يَأْتُوا) أي الشهود أو الأوصياء (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة ، أو أقرب إلى ان (يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) على الورثة المدعين ، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم ، فيفتضحوا ويغرموا فلا يكذبوا (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك الخيانة والكذب (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به سماع قبول (الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعته. والله لا يهديهم إلى سبيل الخير.

سبب النزول :

روى البخاري والدار قطني والطبري وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال : «كان تميم الداري وعدي بن بدّاء رجلين نصرانيين ، يتّجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها ، فلما هاجر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حوّلا متجرهما إلى المدينة ، فخرج بديل السهمي مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة ، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل ، فكتب وصية بيده ، ثم دسّها في متاعه وأوصى إليهما ، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا (إناء من فضة منقوشا بالذهب) ثم حجراه كما كان ، وقدما المدينة على أهله ، فدفعا متاعه ، ففتح أهله متاعه ، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به ، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه ، فقالوا : هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا.


فقالوا لهما : هذا كتابه بيده ، قالوا : ما كتمنا له شيئا ، فترافعوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ..) إلى قوله : (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر : بالله الذي لا إله إلا هو ، ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا ، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب ، فقال أهله : هذا من متاعه ، قالا : نعم ، ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا ، فكرهنا أن نكذب نفوسنا ، فترافعوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) فأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه.

ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يقول : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء (١).

والخلاصة : اتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآية هو تميم الداري وأخوه عدي النصرانيان حين خرجا إلى الشام للتجارة ومعهما بديل بن أبي مريم من بني سهم مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما مهاجرا.

المناسبة :

حكم سبحانه في الآية السابقة أن المرجع والمصير إليه بعد الموت ، وأنه يحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم يوم القيامة ، فناسب أن يذكر ما تتطلبه الوصية قبل الموت من إشهاد ، حفاظا عليها وإثباتا لها لتنفيذها.

التفسير والبيان :

يا من صدقتم بالله ورسوله ، ليشهد المحتضر على وصيته اثنين عدلين من

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ٧٥


الرجال المسلمين ، فقوله (مِنْكُمْ) أي من المؤمنين وقوله : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي اقترب منه وظهرت أمارات الموت ، أو يشهد للضرورة اثنين آخرين من غير المؤمنين في حال السفر ، وذلك يدل على تأكيد الوصية والإشهاد عليها.

وهناك في الكلام حذف تقديره : إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ، ودفعتم إليهما ما معكم من المال ، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة ، فارتابوا في أمرهما ، وادعوا عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما بعد الصلاة.

ووقت الشهادة : بعد صلاة العصر ؛ لأنها كانت معهودة للتحليف عندها وكان ذلك وقت القضاء وفصل الدعاوي ، وكونها عقب الصلاة للتغليظ والتهويل ؛ لقوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي تقفونهما وتستوثقون منهما وتقدمونهما للحلف بعد العصر ، كما فعل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع تميم وأخيه. وروي عن ابن عباس أن الشاهدين إذا كانا غير مسلمين ، فالمراد بالصلاة : صلاة أهل دينهما. ورجح الطبري أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين ؛ لأن الله تعالى عرّف هذه الصلاة بالألف واللام ، ولا يكون ذلك عند العرب إلا في معروف إما في جنسه أو عينه ، وأما اليهود والنصارى فلهم صلوات عديدة غير واحدة ، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك في عرف القضاء والناس.

وإن شككتم في صدق الشاهدين وإقرارهما فيحلفان بقولهما : لا نشتري بيمين الله عوضا نأخذه من الدنيا بأن نحلف به كذبا ، والمراد بالثمن عند الأكثرين : المثمون وضمير (مُصِيبَةُ) يعود إلى القسم المفهوم من (فَيُقْسِمانِ) والمعنى : لا نستبدل بصدق القسم بالله وصحته عرضا من الدنيا ، ولو كان المقسم له أو المشهود له من أقاربنا ، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريبا منا ، على معنى أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا ، وأنهم داخلون


تحت قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(١). أما الأمين فيصدق بلا يمين.

والخلاصة : أن يحلف الشاهد بأن يقول الحق ، ويشهد بالعدل ، ولا يتأثر بعوض مالي يأخذه عوضا عن يمينه ، ولا بمراعاة قريب له إن كانت الشهادة له. (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ..) أي ويقولون في يمينهما أيضا : لا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر بحفظها وإظهارها من وقت التحمل إلى الأداء ، كما قال : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) فإنا إن فعلنا ذلك ، واشترينا بالقسم ثمنا أي عوضا أو راعينا به قريبا ، أو كتمنا شهادة الله ، كنّا من العاصين المتحملين إثما كبيرا نعاقب عليه.

(فَإِنْ عُثِرَ) أي اطلع على أمارة كذبهما أو خيانتهما وكتمانهما وأنهما فعلا ما أوجب الإثم ، فترد اليمين إلى الورثة ، فيحلف رجلان يقومان مقام الشاهدين ، الأوليان بالميت أي من أقاربه الذين هم أحق بالإرث إن لم يوجد مانع شرعي ، فيحلفان بالله لشهادتنا أي يميننا أحق وأصدق من أيمانهما ، وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي الحكم على الشاهدين بالخيانة ، إنا إذا اعتدينا أو خوناهما وهما ليسا بخائنين لمن الظالمين ، أي المبطلين الكاذبين. فالمراد بقوله : (لَشَهادَتُنا) اليمين ، كما قال تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) [النور ٢٤ / ٦] ، والمراد بقوله : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أي من الذين استحقت عليهم الوصية أو استحق عليهم الإيصاء ، والأوليان بالميت : الأقربان منه.

وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٨٨


وحكمة تشريع هذه الشهادة وهذه الأيمان : هي مطابقة الشهادة واليمين للواقع ، لقوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى ...) أي أقرب أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها الحقيقي بلا تبديل ولا تغيير ، خوفا من عذاب الله ، وهذه حكمة تغليظ الشهادة بكونها بعد العصر ، أو خوفا من ردّ اليمين على الورثة ، وفي ذلك الخزي والفضيحة بين الناس ، فيظهر كذبهم بين الناس ، فيكون الخوف من عذاب الله أو من ردّ اليمين مدعاة الصدق والبعد عن الخيانة.

ثم طوّق الله هذا التشديد على صدق الشهادة بباعث ذاتي دائم وهو تقوى الله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا ..) أي راقبوا الله واحذروا عقابه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تأخذوا مالا عليها وأن تخونوا من ائتمنكم ، واسمعوا سماع تدبر وقبول لهذه الأحكام واعملوا بها ، وإلا كنتم من الفاسقين : المتمردين الخارجين عن دائرة حكم الله وشرعه ، المطرودين من هدايته ، المستحقين لعقابه ، والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان.

فقه الحياة أو الأحكام :

أكثر المفسرين ـ كما قال الطبري ـ على أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، ومن ادعى النسخ فعليه البيان ، ثم صوّب الطبري القول بالنسخ ، لأن المعمول به بين أهل الإسلام قديما منذ بعثة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعد ذلك : أن إثبات الحق يكون إما ببينة المدعي أو بيمين المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه ، وأن من ادعى سلعة في يده أنها له اشتراها من المدعي : القول قول المدعي بيمينه ، إذا لم يكن لمن هي في يده بيّنة تثبت مدعاه (١).

وقد استنبط العلماء من هذه الآيات الثلاث ما يأتي من الأحكام :

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ٨١


١ ـ الحض على الوصية والاهتمام بأمرها في السفر والحضر.

٢ ـ الإشهاد عليها لإثباتها وتنفيذها.

٣ ـ الأصل كون الشاهدين مسلمين عدلين.

٤ ـ جواز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة أو الحاجة. وقد اختلف العلماء في هذا الحكم ، فقال الجمهور من الفقهاء : قوله سبحانه : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) منسوخ ؛ لقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة ٢ / ٢٨٢] ، وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من المؤمنين كما هو الظاهر [الطلاق ٦٥ / ٢] وآية الدين التي فيها : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ..) من آخر ما نزل ، فهي ناسخة لما ذكر هنا ، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة ، فجازت في الماضي شهادة أهل الكتاب ، أما اليوم فوجد المسلمون في كل مكان ، فسقطت شهادة الكفار ، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفسّاق لا تجوز ، والكفار فسّاق فلا تجوز شهادتهم ، فلا تجوز شهادة الكفار على المسلمين ، ولا على بعضهم بعضا ، للأدلة السابقة.

وقال أبو حنيفة : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض ، ولا تجوز على المسلمين : لأن آيات الشهادة بحسب السياق في كلها هي في الكلام عن المسلمين ، وأما فيما بينهم فتقبل شهادتهم لقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران ٣ / ٧٥] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال ، فيكون أمينا على قرابته وأهل ملته بالأولى. ولقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال ٨ / ٧٣] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض ، وهي أعلى رتبة من الشهادة. وما روي عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة زنيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائتوني بأربعة منكم يشهدون».

ثم إن أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة ، وتقع بينهم


الجنايات والاعتداءات ، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم ، ويتخاصمون إلى قضاة المسلمين ، فإذا لم يحكم بينهم بشهودهم المرضيين عندهم ، ضاعت حقوقهم ، ووقع الظلم والفساد ، فالحاجة ماسة إلى قبول شهادتهم بعضهم على بعض.

هذا هو الأرجح والمقبول عمليا. وكذلك في شهادة الكفار على المسلمين يؤخذ بقول الإمام أحمد : تجوز للضرورة حيث لا يوجد مسلم كالسفر ؛ لقوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) قال ابن تيمية : وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع : هو ضرورة ، يقتضي قبولها في كل ضرورة ، حضرا وسفرا. ولو قيل : تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون ، لكان له وجه ؛ إذ قد يقرب أجل المسلم في الغربة ، ولا يجد مسلما يشهده على نفسه ، وربما وجبت عليه زكوات وكفارات ، وربما كان عنده وودائع أو ديون في ذمته ، فإذا لم يشهد غير المسلمين ضاعت عليه مهماته ومصالحه.

٥ ـ وآية (تَحْبِسُونَهُما) أصل في حبس من وجب عليه حق ؛ لأن التوثق للحقوق المالية إما بالرهن وإما بالكفالة ، فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بالحبس حتى يحمله السجن على الوفاء بالحق ، أو يتبين أنه معسر.

أما التوثق للحق البدني الذي لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ، فلا يمكن إلا بالسجن ، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشّريد عن أبيه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» عرضه : يعزر بالتوبيخ ، وعقوبته : حبسه.

٦ ـ دل قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) على مشروعية اختيار الوقت الذي يؤثر في نفوس الشهود حالفي الأيمان رجاء أن يصدقوا في كلامهم. قال أكثر العلماء : يريد بالآية بعد صلاة العصر ؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك


الوقت ، ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. جاء في الحديث الصحيح «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر ، لقي الله ، وهو عليه غضبان».

٧ ـ الآية أصل في التغليظ في الأيمان ، بأن يقول الحالف ما يرجى ان يكون رادعا له عن الكذب.

والتغليظ يكون بأربعة أشياء :

أ ـ الزمان كما هو مذكور في الآية.

ب ـ المكان : كالمسجد والمنبر ، خلافا للبخاري والحنفية حيث يقولون : لا يجب استحلاف أحد عند منبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها.

وقال مالك والشافعي : أيمان القسامة بين الركن والمقام في مكة لمن كان فيها أو في توابعها ، وعند المنبر النبوي لمن كان في المدينة وتوابعها. وتغلظ الأيمان في الدماء والطلاق والعتاق في رأي الشافعي.

ج ـ الحال : ذكر مظرّف وابن الماجشون وبعض الشافعية : أنه يحلف قائما مستقبل القبلة ؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة : يحلف جالسا.

د ـ التغليظ باللفظ : قالت طائفة : يحلف بالله لا يزيد عليه ؛ لقوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) وقوله : (قُلْ : إِي وَرَبِّي) وقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ).

وقال مالك : يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي حق ، وما ادّعاه علي باطل ، لما رواه أبو داود عن ابن عباس أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل حلّفه : «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ، ماله عندك شيء» يعني للمدعي.


وقال الحنفية : يحلف بالله لا غير ، فإن اتهمه القاضي ، غلظ عليه اليمين ، فيحلفه «بالله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور».

وزاد الشافعية : التغليظ بالمصحف. وقال أحمد : لا يكره ذلك.

٨ ـ قدر المال الذي يحلف به : قال مالك : لا تكون اليمين في أقل من ثلاثة دراهم ، قياسا على حد القطع في السرقة. وقال الشافعي : لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة ، وكذلك عند منبر كل مسجد.

٩ ـ الأصل قبول أخبار الشهود وتصديقهم دون يمين لقول الله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) وشرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما ، فإذا لم يكن الشاهدان عدلين وارتاب الحاكم بقولهما حلّفهما ، بدليل قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ومتى لم يقع ريب فلا يمين. وأصبح تحليف الشهود السمة العامة في المحاكم الحالية. وسبب الريبة في الآية : هو الاحتياط ؛ لقبول شهادة الكافر بدلا عن شهادة المسلم للضرورة. وقد حلف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع.

١٠ ـ تجيز الآية شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم : وهذا مخالف للمقرر في الشريعة : أن البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر. وهو محض العدل ، وقد أجاب الجمهور بأن حكم الآية هذا منسوخ.

وأما جواب القائلين بأن الآية محكمة غير منسوخة : فهو قبول يمين المدعي بسبب العثور على خيانة المدعى عليه واستحقاقه الإثم ، وهذا موافق للأصول حيث يتقوى جانب المدعي بالشاهد ، أو بنكول خصمه عن اليمين ، أو قوة جانبه باللوث (القرينة على القتل) ، أو قوة جانبه بشهادة العرف في تداعى


الزوجين ، ومنها العثور على الخيانة ، فإن اليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة.

١١ ـ الآية تدل على مشروعية اليمين المردودة ، أي رد اليمين من المدعى عليه إلى المدعي.

١٢ ـ أولى الورثة المدعين بقبول اليمين منهم فيما يتعلق بالتركة : أقربهم إلى الميت ؛ لقوله تعالى : (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي يميننا أحق من يمينهما. وهذا يدل على أن الشهادة يصح أن تكون بمعنى اليمين ، مثل قوله تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) [النور ٢٤ / ٦].

سؤال الرسل يوم القيامة عن أثر دعوتهم

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

المفردات اللغوية :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) هو يوم القيامة. (فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ) أي يقول هم توبيخا لقومهم : ما الذي أجبتم به حين دعوتم إلى التوحيد. (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ما غاب عن العباد وذهب عنهم علمه لشدة هول يوم القيامة وفزعهم.

المناسبة :

الآية استمرار في التهديد والتخويف والزجر ، فبعد أن أمر الله بالتقوى. وحذّر من إخفاء شيء من الوصية أو غيرها ، أعقب ذلك بالتحذير من الحساب يوم القيامة ، أي اتقوا الله واذكروا دائما يوم يجمع الله الرسل. وعادة القرآن أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والأحكام والتكاليف ، كما ذكر هنا ، أتبعها إما بالإلهيات ، وإما بشرح أحوال الأنبياء ، أو بشرح أحوال القيامة ، ليؤكد


ما تقدم ، وهنا أتبع الشرائع بوصف أحوال القيامة ، ثم ذكر في الآية بعدها أحوال عيسى.

التفسير والبيان :

اذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل يوم القيامة ، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم ، ويسألهم عما أجيبوا به من أممهم ، يسألهم عن نوع الإجابة ، أهي إجابة إيمان وإقرار ، أم إجابة إنكار وإعراض؟ وذلك كما قال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف ٧ / ٦] وقال سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣] وهذا سؤال للطرفين : للرسل وللمرسل إليهم.

وقال تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير ٨١ / ٨ ـ ٩] وهذا سؤال للشاهد دون المتهم للتوبيخ وإنكار الفعل.

وذلك يختلف باختلاف مواقف القيامة وأحوالها ، فبعضها يسأل الله الرسل للشهادة على أممهم ، وبعضها يسأل الأمم ، وقد يسأل الخصم وقد يسأل الشهود ، وقد يسأل الفريقان.

ويسألهم أيضا : ما ذا عملوا بعدكم وما أحدثوا بعدكم؟ فأجابوا قائلين للربّ عزوجل : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، بطريق التأدب مع الله جلّ جلاله ، أي لا علم لنا بالنسبة لعلمك المحيط بكل شيء ، العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء ، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كعدم العلم ، إنك أنت علام الغيوب ، أي ما غاب عن الناس وذهب عنهم لشدة هول يوم القيامة ، أو لسعة علم الله بظواهر الأمور وبواطنها.

وبهذا يجمع بين الرأيين في تفسير الآية وتوضيح الجواب ، وهما ما يأتي :


الأول ـ يراد به نقصان علمهم بالنسبة إلى علم الله تعالى ، وهذا رأي ابن عباس ، وهو الأصح ، قالوا : لا علم لنا ؛ لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا ، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا.

الثاني ـ انعدام علمهم بسبب ما يتعرضون له من هول ذلك اليوم وفزعهم ويذهلون عن الجواب. وهذا رأي الحسن البصري ومجاهد والسّدّي ، جاء في الخبر : «إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة ، فلا يبقى نبيّ ولا صدّيق إلا جثا لركبتيه» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني ، فقلت : يا جبريل ، ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟ فقال لي : يا محمد : لتشهدنّ من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة».

فقه الحياة أو الأحكام :

الثابت في القرآن الكريم أن الله تعالى يسأل الرسل عن القيام بواجبهم في التبليغ ، ويسأل أقوامهم عن مدى إجابتهم دعوة الرسل ونوع الإجابة أهي إجابة إقرار أم إجابة إنكار؟

والله في هذه الآية يوجّه السؤال للأنبياء بقوله مثلا : ما ذا أجبتم في السرّ والعلانية؟ ليكون هذا توبيخا للكفار ، فيقولون أي الرسل على سبيل النفي الحقيقي : لا علم لنا ، فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها.

وقال ابن جريج : معنى قوله : (ما ذا أُجِبْتُمْ؟) : ما ذا عملوا بعدكم؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب.

قال الماوردي : فإن قيل : فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعنه جوابان :

أحدهما ـ أنه سألهم ليعلّمهم ـ أي الرسل ـ ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني ـ أنه أراد أن يفضحهم ـ أي أقوامهم ـ بذلك على رؤوس الأشهاد ، ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.


ودلت الآية كما قال الرازي على جواز إطلاق لفظ العلام على الله ، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه. أما (العلامة) فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ، ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث.

التّذكير بمعجزات عيسى عليه‌السلام

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

الإعراب :

في ضمير (فَتَنْفُخُ فِيها) وجهان : أحدهما ـ أن يعود على الهيئة ، وهي مصدر في معنى «المهيّأ» لأن النّفخ إنما يكون في المهيأ لا في الهيئة. والثاني ـ أن يعود على الطير ؛ لأنها تؤنث.

ومن قرأ طائرا جاز أن يكون جمعا كالباقر والحامل ، فيؤنث الضمير في (فِيها) لأنه يرجع إلى معنى الجماعة.

المفردات اللغوية :

(أَيَّدْتُكَ) قويتك. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبريل عليه‌السلام الذي يؤيّد به الله رسله


بالتّعليم الإلهي والتّثبيت في مواطن الضّعف التي قد يتعرّض البشر لها. (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) في حالتي الطّفولة والكهولة أو الضعف والقوة. (الْكِتابَ) كلّ ما يكتب. (وَالْحِكْمَةَ) العلم النافع. (وَالتَّوْراةَ) الكتاب الذي أنزله الله على موسى ، وفيه الشرائع والأحكام. (وَالْإِنْجِيلَ) الكتاب الذي أنزله الله على عيسى ، وفيه المواعظ والأخلاق.

(وَإِذْ تَخْلُقُ) تجعل الشيء بمقدار معين بإذن الله وإرادته ، ويستعمل الخلق في إيجاد الله الأشياء بتقدير معين في علمه. (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كصورته ، والكاف : اسم بمعنى مثل ، مفعول به. (بِإِذْنِي) بإرادتي. (الْأَكْمَهَ) من ولد أعمى ، وقد يطلق أيضا على من طرأ له العمى بعد الولادة. (الْأَبْرَصَ) البرص : بياض بقع في الجسد لعلّة مرضية. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) حين همّوا بقتلك. (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات. (سِحْرٌ) السّحر : هو تمويه وتخييل ، به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أمرتهم على لسانه ، والحواريون ، خلصاء عيسى وصحبه المخلصون. (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) أي عيسى.

المناسبة :

كان المقصود من قوله تعالى للرّسل : (ما ذا أُجِبْتُمْ) توبيخ من تمرّد من أممهم ، وأشدّ الأمم حاجة إلى التّوبيخ واللّوم : النّصارى الذين ألّهوا عيسى عليه‌السلام ؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء ، وأما النّصارى فتعدّى طعنهم إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به ، وهو اتّخاذ الزّوجة والولد ، لذا كانت هذه الآيات مذكّرة بأنواع النّعم على عيسى عليه‌السلام ، وهي بالتالي معجزات أيّده الله بها لإظهار صدقه ، كما أيّد سائر الأنبياء بالمعجزات ، والمقصود منه : توبيخ النّصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم ، فإنّ كلّ واحدة من تلك النّعم تدلّ على أنّ عيسى بشر عبد الله وليس بإله.


التفسير والبيان :

الآيات تذكير بالنّعم والمعجزات الباهرات وخوارق العادات التي أجراها الله على يدي عيسى عليه‌السلام بإرادة قاطعة من الله وحده.

اذكر يا عيسى نعمتي عليك في خلقي إيّاك من أم بلا أب ، وجعلي إيّاك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء.

ونعمتي على والدتك حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة ، إذ أنطقتك في المهد فشهدت ببراءة أمّك.

وأيّدتك بروح القدس وهو في الأصحّ جبريل عليه‌السلام ، وجعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك.

و (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك ، وتبرّؤ أمك من كلّ عيب وتهمة من الظلمة : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) [مريم ١٩ / ٣٠ ـ ٣١].

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي الخط والفهم ، فتقرأ الكتب وتفهم ما فيها من العلم النافع لك في الدّين والدّنيا. والحكمة تشمل العلوم النظرية والعلوم العملية. وعلّمتك التّوراة : (وهي المنزلة على موسى بن عمران كليم الله) والإنجيل (وهو ما أوحيته إليك من المواعظ والحكم). وذكر هذان الكتابان بعد ذكر الكتب للتشريف والتعظيم.

وإذ تصنع الطيور ، بأن تصوّر من الطّين وتشكّل على هيئة الطائر ، بإذني وإرادتي لك في ذلك ، ثم تنفخ فيها أي في تلك الصورة التي شكّلتها ، فتكون طيرا بإذني لك في ذلك ، وهو طائر ذو روح يطير بإذن الله وخلقه ، فأنت تفعل التقدير والنفخ والله هو الذي يكوّن الطّير. ولم يكن ذلك مطلقا ، وإنما في حالات فردية معدودة لا تقع إلا بإرادة الله.


وتبرئ الأكمة الذي ولد أعمى ، وتشفي الأبرص من المرض الجلدي ، وتحيى الموتى ، وكل ذلك بإذني وأمري ، فأنت تدعوهم من قبورهم ، فيقومون أحياء بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته.

وكففت عنك بني إسرائيل حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوّتك ورسالتك من الله ، فكذّبوك واتّهموك بأنك ساحر ، وهمّوا بقتلك وصلبك ، فنجّيتك منهم ، ورفعتك إليّ ، وكفيتك شرّهم.

وقد عبّر تعالى عن كل تلك النّعم التي امتنّ الله بها على عيسى بصيغة الماضي للدّلالة على وقوعه.

وإذ ألهمت الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي عيسى ، فجعلت لك أصحابا وأنصارا ، فقالوا : آمنّا بالله وبرسوله ، أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا ، واشهد بأنّا مسلمون منقادون لله سرّا وعلانية.

ويلاحظ أن الوحي قد يأتي بمعنى الإلهام كما تقدّم بيانه ، كما قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص ٢٨ / ٧] وهو وحي إلهام بلا خلاف ، وكما قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النحل ١٦ / ٦٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن تذكير عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته ، وإن كان لهما متذكرا لأمرين : أحدهما ـ ليتلو على الأمم ما خصّهما به من الكرامة ، وميّزهما به من علو المنزلة. والثاني ـ ليؤكّد به حجّته ، ويردّ به جاحده.

ثم عدّد تعالى نعمه على عيسى عليه‌السلام وهي ثمان ، منها معجزات أيّده الله بها : وهي الكلام في المهد ، وخلق الطير ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء


الموتى ، ومنع أذى اليهود عنه ، فلم يقتلوه ولم يصلبوه ، ولكن شبّه لهم.

والنّعم الثلاث الباقية تستلزمها عادة النّبوة والرّسالة : وهي التّأييد والتّقوية بجبريل روح القدس عليه‌السلام ، والتّعليم الإلهي بالكتابة والفهم والوحي وإنزال الإنجيل ، ومعرفة ما أنزل على من تقدّمه مثل موسى الكليم عليه‌السلام ، وإلهام الحواريين الإيمان بالله وبعيسى عليه‌السلام.

وكلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات تدلّ على صدق رسالة عيسى ، وكلّها بمراد الله ومشيئته وقدرته.

ولم ينفرد عيسى بالمعجزات الدّالة على صدقه ، فهذا هو الشأن المتّبع مع كلّ الأنبياء والرّسل ؛ لأن البشر لا يصدّقون عادة بنبوّة النّبي إلا بأشياء خارقة للعادة ، وهي المسمّاة بالمعجزات ، ولكلّ عصر ما يناسبه من المعجزة ، فقد كان عصر عيسى مزدهرا بالطّب والعلوم والمعارف ، فأجرى الله على يديه ما يفوق الطّب البشري والمعرفة والثقافة البشرية. وكان زمان موسى فيه السّحر والشّعوذة فأيّده الله تعالى بما يفوق سحر السّحرة ، باليد والعصا وفلق البحر وتفجير الماء من الحجر ينابيع هي اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط (قبائل بني إسرائيل). وزمان النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتهر بالتّفوق البياني في الكلام شعرا ونثرا وخطابة ، فأنزل الله عليه القرآن الكريم مشتملا على أرفع البيان وأسمى الفصاحة ، وأبلغ البلاغة ، فكان إعجاز القرآن البياني معجزة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبد الدّهر.

والغرض من إيراد معجزات عيسى عليه‌السلام هو كما بيّنت تنبيه النّصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم بتأليه بشر عادي مولود كسائر البشر ، يأكل ويشرب ويقضي حاجته كغيره من الناس.


إنزال المائدة على بني إسرائيل بطلب الحواريين

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

الإعراب

(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قرئ بالتّاء والنّصب ، والتقدير فيه : هل تستطيع سؤال ربّك ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف ١٢ / ٨٢] أي : أهل القرية وأهل العير.

(عَلَيْها) في موضع الحال.

(لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لَنا) بتكرار العامل.

المفردات اللغوية :

(الْحَوارِيُّونَ) أصحاب المسيح الخلّص. (يَسْتَطِيعُ) يفعل ويرضى ويجيبك إن سألته. (مائِدَةً) المائدة : هي الخوان إذا كان عليه الطّعام. قال لهم عيسى. (تَطْمَئِنَ) تسكن قلوبنا بزيادة اليقين. (وَنَعْلَمَ) نزداد علما. (صَدَقْتَنا) في ادّعاء النّبوة. (اللهُمَ) أي يا الله. (عِيداً) يوما نفرح به ونعظّمه ونشرّفه. (وَآيَةً مِنْكَ) دليلا آخر أو علامة على قدرتك ونبوّتي.


المناسبة :

هذه قصة المائدة التي لا يعرفها النصارى إلا من القرآن ، وهي نعمة تاسعة ومعجزة بعد النّعم الثماني المتقدّمة ، إذ تمّ إنزال المائدة بطلب عيسى عليه‌السلام ، علامة على قدرة الله وتصديق الناس بنبوّته ، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها.

التفسير والبيان :

اذكر يا محمد وقت قول الحواريين أصحاب عيسى المخلصين إذ قالوا لعيسى : هل يفعل ربّك ويرضى أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء.

والمقصود بكلمة الاستطاعة ، مع أن الطلب صادر من الحواريين وهم مؤمنون يعلمون أن الله قادر على كلّ شيء : أنه هل يفعل ذلك ، وهل يجيبك إلى مطلبك أو لا؟ فأرادوا علم المعاينة والمشاهدة والاطمئنان بعد توافر الاعتقاد والعلم بقدرة الله تعالى ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة ٢ / ٢٦٠] ، لأن علم النّظر والخبر قد تدخله الشّبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة المحسوس لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) كما قال إبراهيم : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(١) [البقرة ٢ / ٢٦٠].

قال السّدّي : هل يستطيع ربّك أي هل يطيعك ربّك إن سألته ، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع ، والسّين زائدة (٢).

وقال الطّبري : الأولى في المعنى عندي بالصّواب : هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٦٥

(٢) تفسير الرازي : ١٢ / ١٢٩

(٣) تفسير الطّبري : ٧ / ٨٤


وقال بعضهم : في الآية محذوف على قراءة : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) وتقديره : هل تستطيع سؤال ربّك؟ فأجابهم عيسى : اتّقوا الله أن تطلبوا مثل هذا الطلب الذي يشبه ما طلبه الإسرائيليون من موسى عليه‌السلام ، إن كنتم مؤمنين أي إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة.

قالوا معتذرين عن سؤالهم : نريد أن نأكل منها ؛ فنحن بحاجة إلى الطّعام ، وتزداد قلوبنا اطمئنانا ويقينا بقدرة الله وبصدق نبوّتك ؛ لأن علم الحسّ والمشاهدة أقوى دلالة على المطلوب من العلم النظري القائم على التسليم بالبراهين ، ونكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها ، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية وبكمال القدرة ، ولك بالنّبوة ، فيكون ذلك سببا للإيمان أو ازدياد الإيمان.

وإنما سأل عيسى وأجيب ، ليلزموا الحجّة بكمالها ، ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا.

قال عيسى : يا ربّنا المالك أمرنا والمتولّي شؤوننا ، أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء ، وتكون لنا عيدا أي يكون يوم نزولها عيدا ، قيل : هو يوم الأحد ، ومن ثم اتّخذه النّصارى عيدا.

لأوّلنا وآخرنا ، أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا. وآية منك ، أي علامة من لدنك تدلّ على كمال قدرتك وصدق نبوّتي.

وارزقنا منها ومن غيرها رزقا طيّبا نغذي به أجسامنا ، وأنت خير الرّازقين ، أي خير من أعطى ورزق ؛ لأنك الغني الحميد ، الذي ترزق من تشاء بغير حساب. ويلاحظ أن عيسى أخّر بدعائه طلب فائدة المائدة عن طلب الفائدة الدّينية والاجتماعية ، بعكس ما طلب الحواريون ؛ إذ قدّموا الأكل على غيره.


(قالَ اللهُ : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرّة أو مرارا ، ووعده الحقّ وقوله الصدق ، وقد نزلت.

لكن هذا الوعد مقرون بالجزاء حين المخالفة : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ ..) أي من يكفر بالله بعد نزول هذه المائدة ، فإني أعذّبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين : عالمي زمانهم ؛ لأنه لم يبق بعد هذا الدّليل الحسي عذر لمن يكفر أو يستهزئ بآيات الله وأدلّته الدّالة على وجوده وقدرته.

أما الطّعام فقيل : إنه خبز ولحم ، أو خبز وسمك ، قال الطّبري : والصواب من القول فيما كان على المائدة ، فأن يقال : كان عليها مأكول ، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا ، وجائز أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة ، وغير نافع العلم به ، ولا ضار الجهل به (١).

جاء في حديث ذكره السّيوطي : أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما ، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد ، فخانوا وادّخروا ، فمسخوا قردة وخنازير ،

فقه الحياة أو الأحكام :

قصة المائدة نعمة تاسعة من النّعم التي عدّدها الله وامتنّ بها على عيسى عليه‌السلام وقومه ، والذي عليه الجمهور وهو الحق : أنها نزلت فعلا ، لقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) قيل : إنها نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية ، فجعلوا الأحد عيدا.

وهي آية بيّنة على قدرة الله ، وعلى إجابته دعاء المخلص من عباده ، وعلى صدق نبوة عيسى ، وأنه عبد لله ورسوله ؛ لأنه لو كان إلها لما كان بحاجة أن يطلب شيئا من أحد ، فالدّعاء إلى الله منه ، وإجابة الدّعاء من ربّه دليل آخر

__________________

(١) تفسير الطّبري : ٧ / ٨٨


على عبوديّته وبشريّته وفقره وحاجته إلى الله ، وليعلم النّصارى بطلان قولهم وادّعائهم التّالية.

والذي دفع الحواريين إلى سؤال إنزال المائدة أربعة أسباب :

١ ـ الحاجة الدّاعية إلى الأكل منها ، لأن عيسى عليه‌السلام كان إذا خرج اتّبعه خمسة آلاف أو أكثر ، بعضهم كانوا أصحابه ، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون ، فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ، ولم يكن معهم نفقة ، فجاعوا وقالوا للحواريين : قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء ، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء ، فقال عيسى لشمعون : قل لهم : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأخبر بذلك شمعون القوم ، فقالوا له : قل له : (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) الآية.

وقال الماوردي : نأكل منها ، أي ننال بركتها ، لا لحاجة دعتهم إليها ، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا إلى الطعام لم ينهوا عن السؤال.

٢ ـ اطمئنان القلب إلى أن الله تعالى بعث عيسى إليها نبيّا.

٣ ـ العلم بأن عيسى رسول الله ، أي ازدياد الإيمان بك وعلما برسالتك.

٤ ـ الشهادة أنها آية من عند الله ، ودلالة وحجّة على نبوّتك ، وصدق ما جئت به. وبالرّغم من إنزال المائدة السّماوية ، وامتنان الله على النّصارى بها ، فإنّهم جحدوا تلك النّعمة وكفروا بعد نزولها ، فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر : إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة : المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، قال الله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).


تبرئة عيسى من مزاعم النصارى

ألوهيته وألوهية أمه

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

الإعراب :

(أَنِ اعْبُدُوا أَنِ) : إما مفسرة بمعنى «أي» فلا يكون لها موضع من الإعراب. وإما مصدرية في موضع جرّ على البدل من (ما) في قوله تعالى : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ).

(ما دُمْتُ) في موضع نصب على الظرف ، والعامل فيه (شَهِيداً). و (ما) في «ما دام» : مصدرية ظرفية زمانية ، وتقدير الآية : وكنت عليهم شهيدا مدّة دوامي فيهم.

(هذا يَوْمُ يَنْفَعُ يَوْمُ) بالرّفع : خبر المبتدأ الذي هو (هذا). و (هذا) : إشارة إلى يوم القيامة. والجملة من المبتدأ والخبر في موضع نصب بقال ، وتحكى بعده الجملة. ويجوز


أن يكون في موضع نصب ، وهذا ضعيف كما قال الأنباري ، لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى مبني كالفعل الماضي ، أو أضيف إلى «إذ» كقوله تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [هود ١١ / ٦٦]. و (يَنْفَعُ) فعل مضارع معرب ، فلا يبنى الظرف لإضافته إليه ، فلهذا كان هذا القول ضعيفا.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً خالِدِينَ) : منصوب على الحال من الضمير المجرور في (لَهُمْ). و (أَبَداً) : منصوب ، لأنه ظرف زمان.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قالَ اللهُ) اذكر إذ يقول له هذا يوم القيامة توبيخا لقومه. (سُبْحانَكَ) تنزيها لك عما لا يليق بك من شريك وغيره. (ما يَكُونُ لِي) ما ينبغي لي أن أتجاوز حقّي وقدري ومنزلتي ، و (لِي) : للتّبيين. (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي تعلم سرّي وما أخفيه ، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. (شَهِيداً) رقيبا كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به. (تَوَفَّيْتَنِي) قبضتني ورفعتني إلى السماء. (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) الحفيظ لأعمالهم المراقب لأحوالهم ، تمنعهم من القول به ، بما أقمت لهم من الأدلّة على ألوهيتك.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) على الكفر والجحود. (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك ، مكذّبين لأنبيائك ، وأنت مالكهم تتصرّف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك. (وَإِنْ تَغْفِرْ) لمن آمن منهم. (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القوي القادر على الثواب والعقاب. (الْحَكِيمُ) في صنعه الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.

(هذا) أي يوم القيامة. (الصَّادِقِينَ) في الدّنيا كعيسى عليه‌السلام. (صِدْقُهُمْ) ينفعهم صدقهم في هذا اليوم ؛ لأنه يوم الجزاء. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته. (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه. (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن المطر والنّبات والرّزق وغيرها. (وَما فِيهِنَ) أتى به للتغليب أي تغليب العاقل على غير العاقل. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الله قادر على كل شيء ، ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب.

المناسبة :

بعد أن عدّد الله تعالى النّعم على عيسى عليه‌السلام ، ذكر أنه سيوجه له سؤالا خطيرا يوم القيامة توبيخا لقومه وتقريعا لهم على افترائهم ، وتعريفا لهم بأنه سيتبرّأ من ذلك الإفك العظيم وهو القول بالتّثليث ثمّ التّأليه.


التفسير والبيان :

هذه الآيات تصوّر مناقشة وسؤالا يتضمّن تهديد النّصارى وتوبيخهم وتقريعهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. والخطاب في ذلك للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

اذكر يا محمد للناس يوم الحشر الذي يوجّه الله فيه السؤال لعيسى قائلا له : أأنت قلت للناس : اتّخذوني مع أمي إلهين من دون الله ، أي متجاوزين بذلك توحيد الله إلى القول بالشرك : وهو اتّخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى ، سواء اعتقد المشرك أن الشريك يضرّ وينفع مستقلّا بذلك ، أو بإقدار الله إيّاه وتفويضه الأمر إليه ، أو بالوساطة عند الله بماله من التّأثير والكرامة ، كما قال تعالى حاكيا فعلهم : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ، وَيَقُولُونَ : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس ١٠ / ١٨] ، وقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزّمر ٣٩ / ٣].

وهذا السؤال ليس استفهاما وإن خرج مخرج الاستفهام ، وإنما هو توبيخ لمن ادّعى ألوهيّة عيسى ، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التّكذيب ، وأشدّ في التوبيخ والتّقريع ، أو لتعريفه أن قومه غيّروا بعده ، وادّعوا عليه ما لم يقله. والآية ترشد إلى أنهم اتّخذوا مريم وابنها إلهين ، لعبادتهم لها ، وتقديسهم إيّاها ، ولقولهم : إنها لم تلد بشرا ، وإنما ولدت إلها ، فلأجل البعضية صارت بمثابة من ولدته ، ويجعلها بعضهم أحد الأقانيم الثلاثة : الأب والابن والرّوح القدس.

فأجاب عيسى بتلقي الحجة من الله : (سُبْحانَكَ) أي أنزهك عما لا يليق بك ، وعن أن يكون معك إله آخر ، فأثبت له التّنزيه عن المشاركة في الذّات والصّفات وعما أضيف إليه ، وأبان أنه خاضع لعزّته ، خائف من سطوته.

ثم برّأ نفسه عن القول الباطل فقال : ليس من شأني ولا مما يصحّ أن يقع منّي أن أقول قولا لا حقّ لي بقوله ، ثم أكّد النّفي القاطع بأن ذلك القول إن كان قد


صدر منّي فقد علمته ؛ لأن علمك محيط بكلّ شيء ، فأنت تعلم سرّي وما أخفي في نفسي ، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذّاتية في نفسك ، إنك أنت المحيط بالغيبيات ، ما كان منها وما هو كائن وما سيكون.

هذا جواب عيسى ، لم يقل : بأني قلته أو ما قلته ، وإنّما فوّض ذلك إلى علم الله المحيط بكلّ شيء ، وإن قلته فأنت عالم به ، وهذا مبالغة في الأدب ، وفي إظهار الذّلّ والخضوع لله.

ثم حكى الله قول عيسى : ما قلت لهم في شأن الاعتقاد والعبادة إلا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله ربّي وربّكم ، وأني عبد من عبادك مثلهم ، وكنت المراقب على أحوالهم أشهد على ما يفعلون وأمنعهم من القول الباطل وأطالبهم بقول الحق ، فلما توفيتني ، أي قبضتني إليك ، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم ، الحافظ عليهم ، وأنت الشهيد على كل شيء ، فتشهد لي حين كنت فيهم. وفي هذا تعريف له بأفعال أتباعه وأقوالهم واعتقادهم.

وأغلب المفسرين على أن المراد بقوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) وفاة الرّفع إلى السماء ، لقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) قال الحسن البصري : الوفاة في كتاب الله عزوجل على ثلاثة أوجه :

وفاة الموت ، وذلك قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [المائدة ٥ / ١١٧] يعني وقت انقضاء أجلها.

ووفاة النوم ؛ قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام ٦ / ٦٠] يعني الذي ينيمكم.

ووفاة الرّفع ؛ قال الله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران ٣ / ٥٥].

ثم فوض عيسى الأمر كله إلى الله فقال : إن تعذب المسيء عدلت ، وإن تغفر


له مع كفره ، فالملك ملكك ولا اعتراض لأحد عليك ، وأنت القوي القادر على الثواب والعقاب ، الحكيم الذي لا تجازي إلا بحكمة وصواب.

وهنا تساؤل : كيف جاز لعيسى عليه‌السلام أن يقول : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) والله لا يغفر الشرك؟

والجواب : أن المقصود من قوله تفويض الأمور كلها إلى الله ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، وترك التّعرّض والاعتراض بالكليّة.

وأما قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فهو تقرير للواقع الذي دل عليه الدليل السمعي شرعا ، وإن كان يجوز عقلا في رأي أهل السنة المغفرة للمسيء وتعذيب الطائع ، بحسب الإرادة والمشيئة المطلقة. وأما المعتزلة فيقولون : إن العقاب حق الله على المذنب ، وليس في إسقاطه مضرة على الله.

ودل كلام عيسى على أنه لا يتضمن شيئا من الشفاعة لأتباعه ؛ لأن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئا.

وختم الله تعالى السورة وهذا النقاش بقوله : (قالَ اللهُ : هذا يَوْمُ) أي إن هذا وهو يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه صدق الصادقين في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأفعالهم في الدنيا.

وجزاء الصادقين جنات تجري من تحتها الأنهار أي من تحت غرفها وأشجارها ، خالدين وماكثين فيها أبدا ، ثوابا من عند الله ، وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا ، وهم راضون عن الجزاء الذي أثابهم به ، ذلك الظفر هو الظفر العظيم الذي عظم خيره وكثر ، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.

ثم ذكر تعالى ما يناسب دعوى النصارى أن عيسى إله ، فأخبر تعالى أن


ملك السموات والأرض له ، دون عيسى ودون سائر المخلوقات ، وأن كل ما فيهما ملك لله ، وأن الله قادر قدرة مطلقة على كل شيء ، والمملوك المقدور عليه من الله هو عبد لله ، كائن بخلق الله وتكوينه ، سواء عيسى ومريم وغيرهما ، ولا معنى للعبودية إلا ذلك ، فثبت بهذا أنهما عبدان مخلوقان لله ؛ لأن الملك والقدرة لله وحده لا شريك له.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات الصادرة بصورة سؤال وجواب تعليم وإرشاد ، وتوبيخ وتقريع للنصارى الذين اتخذوا عيسى إلها ، وادعوا لأمه شيئا من القدسية والألوهية لأنها ولدت عيسى فهو بعض منها. فأول من يتبرأ من هذه الدعوى هو عيسى عليه‌السلام نفسه ؛ فهو لا يدعي لنفسه ما ليس من حقها ، بمعنى أنه مربوب وليس برب ، وعابد بشر وليس بمعبود إله.

ولو ادعى لنفسه وأمه الألوهية ، لكان الله أعلم بذلك : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) المعنى تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، أو تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم ، أي تعلم سرّي وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ، ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك.

ولم يقل إلا ما أمره الله به من عبادة الله وحده ، والله هو صاحب المشيئة المطلقة والإرادة الكاملة في إثابة من شاء ، وتعذيب من شاء.

وفي يوم القيامة لا ينتفع الناس إلا بصدقهم في الدنيا ، بالعمل المخلص لله ، وتركهم الكذب عليه وعلى رسله ، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم ، وإن كان نافعا في كل الأيام ؛ لوقوع الجزاء فيه.

وثواب الصادقين هو الخلود في جنات النعيم التي تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار.


وملك السموات والأرض وما فيهن لله دون عيسى ودون سائر المخلوقات ، مما يدل على أن عيسى عبد لله ومملوك لله ومخلوق منه ، ولا معنى للعبودية إلا أن الإنسان كائن بتكوين الله.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام

مكية وهي مائة وخمس وستون آية ، وهي السورة السادسة من القرآن الكريم.

تسميتها :

تسمى سورة الأنعام ، لورود ذكر الأنعام فيها : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً .. وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ..) [الآيتان : ١٣٨ ، ١٣٩].

نزولها وفضلها :

نزلت جملة واحدة لاشتمالها على أصول الاعتقاد ، قال ابن عباس : «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح» وروى ابن عمررضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد» والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين. ولكن لا مانع من أن يكون بعض آياتها مدنيا ، ثم أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعه في موضعه من السورة.

مناسبتها لما قبلها :

تضمنت كل من سورتي المائدة والأنعام محاجة أهل الكتاب في مواقفهم


وعقائدهم ، كما ذكر فيهما أحكام المطعومات المحرّمة والذبائح ، والرد على أهل الجاهلية بتحريم بعض الأنعام تقرّبا إلى الأوثان.

ما اشتملت عليه :

قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجّة المشركين ، وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنّشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة ؛ لأنها في معنى واحد من الحجّة ، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلّمون أصول الدّين ؛ لأن فيها آيات بيّنات تردّ على القدريّة (١).

هذه السّورة شأنها كشأن السّور المكيّة عنيت بأصول العقيدة والإيمان : وهي إثبات الألوهية ، والوحي والرّسالة ، والبعث والجزاء.

وتعتمد في ترسيخ العقيدة بهذه الأصول على أسلوبي التّقرير والتّلقين.

أما أسلوب التّقرير : فهو يعرض أدلة وجود الله وتوحيده في صورة المسلّمات البديهية ، بالاعتماد على التصريح بالخلق لله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) أو بضمير الغائب : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ..).

وأما أسلوب التلقين : فهو إيراد الحجج بتعليمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقينها إياه لعرضها على الخصوم ، وذلك بطريق السؤال والجواب ، مثل : (قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قُلْ : لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ (وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٨٣


عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، قُلْ : إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ..).

ومجمل ما اشتملت عليه هذه السورة هو ما يأتي :

١ ـ إثبات أصول الاعتقاد عن طريق الإقناع والتأثير والمناظرة والجدل ، والجواب عن سؤال ، كوجود الله وتوحيده وصفاته وآياته في الأنفس والآفاق ، وتأثير العقيدة في العمل.

٢ ـ إثبات النبوة والرسالة والوحي والرد على شبهات المشركين بالأدلة العقلية والعلمية والحسية.

٣ ـ إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٤ ـ تبيان أصول الدين والأخلاق والآداب الاجتماعية أو الوصايا العشر المقررة في كل رسالة إلهية.

٥ ـ الدين من عهد آدم إلى محمد عليهما‌السلام واحد في أصله ووسائله وغاياته ، فتجزئته ، والإيمان ببعضه وترك بعضه ، وتفرقته بالمذاهب والآراء الشخصية مصادم لأصل الدين.

٦ ـ السعادة والشقاوة والجزاء الأخروي على الحسنات والسيئات منوطة بالأعمال البشرية.

٧ ـ الناس ضمن السنن الإلهية والأقدار عاملون بالإرادة والاختيار ، فلا جبر ولا إكراه ، ولا تعارض بين إرادة الله وما يكسبه الإنسان ؛ لأن قدر الله معناه ربط المسببات بالأسباب ، على وفق علمه وحكمته.

٨ ـ العدل الإلهي يقتضي التفاوت بين الأمم والأفراد ، فيهلك الله الظالمين ، وينعم على الطائعين ، ويمكّن للأصلح في إرث الحياة.


٩ ـ الله مصدر التشريع والتحليل والتحريم ، فلا يحق لإنسان الافئتات على حق الله في ذلك.

١٠ ـ على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل ، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة الله وعلمه وعظمته.

١١ ـ الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار ، ليعلم المفسد من المصلح ، والجزاء ينتظر الجميع ، والله يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه ، ورحمة الله وسعت كل شيء.

أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

الإعراب :

(الظُّلُماتِ) مفعول (جَعَلَ) وهو يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى خلق. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلٌ) : مبتدأ مرفوع ، و (مُسَمًّى) : صفته. وخبره : (عِنْدَهُ). وجاز أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة ؛ لأنه وصفه بمسمى ، والنكرة إذا وصفت قربت من المعرفة ، فجاز أن يكون مبتدأ كالمعرفة.


(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ هُوَ) : كناية عن الأمر والشأن. و (اللهُ) : مبتدأ ، وخبره : إما (يَعْلَمُ) ، وتقديره : الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وإما أن يكون خبره (فِي السَّماواتِ) ويكون المعنى : هو المعبود في السموات.

البلاغة :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) صيغة تفيد القصر ، أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله.

(جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) بينهما طباق.

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد قيام الأدلة على قدرته. وإظهار كلمة (بِرَبِّهِمْ) بوضعه موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح ، كما أن إضافته إليهم لتربية المهابة والتذكير بمصدر النعمة.

(سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الثناء بالجميل على الفعل الاختياري الحسن ، تعليما لأصول الإيمان والثناء.

والمدح أعم من الحمد ؛ لأنه يحصل للعاقل ولغير العاقل ، والحمد أعم من الشكر ؛ لأن الأول تعظيم الفاعل لأجل الإنعام عليك أو على غيرك ، وأما الشكر فهو لأجل الإنعام الواصل إليك.

والفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب : أن الخلق هو التقدير والعلم النافذ في جميع الكليات والجزئيات. والفاطر : الموجد المبدع ، وفيه إشارة إلى صفة القدرة. والرب : مشتمل على الأمرين (١).

(خَلَقَ) الخلق : التقدير ، أي جعل الشيء بمقدار معين بحسب علمه تعالى. (وَجَعَلَ) اي انشأ ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية ، والجعل عام يشمل الإنشاء مثل قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ويشمل التشريع والتقنين ، كما في قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة ٥ / ٩٧] أي شرع ، ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان (٢). وخص السموات والأرض بالذكر ؛ لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٤٢.

(٢) مثل قوله تعالى : وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف ٧ / ١٨٩] وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء ١٧ / ٦] وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦ / ١] لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار.


(الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي أنشأ كل ظلمة ونور ، وجمع الظلمات وأفرد النور لكثرة أسبابها ، والنور واحد وإن تعددت مصادره. وقدمت الظلمات على النور ، لأنها أسبق في الوجود ، فقد وجدت مادة الكون المظلمة أولا. أما السبب في جمع السموات وإفراد الأرض مع أن الأرضين كثيرة وهي سبع كالسماوات لقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ١٢] فهو أن السماء فاعل مؤثر ، والأرض قابل متأثر ، والمؤثر متعدد يحصل بسببه الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة ، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، واختلت مصالح العالم ، أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول (١). وهذا الخلق والإبداع ، والإنشاء من دلائل وحدانية الله.

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) مع قيام هذا الدليل. (يَعْدِلُونَ) يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) بخلق أبيكم آدم منه. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حكم به ، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه ، والأجل : المدة المضروبة للشيء.

(ثُمَّ أَنْتُمْ) أيها الكفار. (تَمْتَرُونَ) تشكّون في البعث ، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم ، ومن قدر على الابتداء ، فهو أقدر على الإعادة.

(وَهُوَ اللهُ) مستحق للعبادة. (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ما تسرون وما تجهرون به بينكم. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) تعملون من خير وشر.

التفسير والبيان :

كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض ، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر ، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا ، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت ، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة ، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل : أحمد الله ، لإفادة الثبوت والدوام ، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٤٨


لله تعالى ، سواء استحضر ذلك بقلبه أم لا ، أما إن قال : أحمد الله مع غفلة القلب عن استحضار المعنى كان كاذبا.

والمراد بالسموات : العوالم العلوية التي نراها فوقنا ، والمراد بالأرض : الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا : اسم للجنس ، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، وكذلك النور ، ومثله : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر ٤٠ / ٦٧].

وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار ، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور ، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر ، أما النور فهو واحد متعدد المصدر ، ولكون النور أشرف ، كقوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ). وجعل هنا : بمعنى خلق ، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين : ظلمة الليل ، وبالنور : نور النهار ، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين : هما النور وهو الخالق للخير ، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري : المراد منهما الكفر والإيمان (١).

وقال قتادة عن سبب التقديم : إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور ، فقد وجدت مادة الكون أولا ، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون ، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور ، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ ، كما قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل ١٦ / ٧٨].

ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره ، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك ، مع أنه غير خالق

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٨٦


ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.

ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ..) أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين ، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب ، كما خلق سائر أحياء الأرض ، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات ؛ لأن الدم من الغذاء ، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات ، فالمرجع إلى نبات الطين.

ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات ، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور ، فصار قضاء الله أجلين : الأول : ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ ، وهو رأي الحسن.

وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أجل الموت ، والأجل المسمى هو أجل القيامة.

وكل أجل مسمى عند الله ، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص ، ولا يعلمه غيره ، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا ، فالمقصود من الأجلين : أجل الدنيا والإنسان ، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل ١٦ / ٦١].

(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث. تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة ، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين ، وتكاثرت الذرية ، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين ، وهيأ له فيه ظروف الحياة ، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض ، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء ، فهو على الإعادة أقدر.


وأقام الله تعالى دليلا آخر على وجوده ووحدانيته ، فقال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ..) أي أنه المدعو الله ، القائم في السموات والأرض المعبود فيها ، المعروف بالألوهية ، يعبده ويوحده كل من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس ، أي أنه المتصف بهذه الصفات المعروفة ، المعترف له بها في السموات والأرض ، ونظير هذه الآية : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف ٤٣ / ٨٤] أي هو إله من في السماء ، وإله من في الأرض.

(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) تأكيد وتقرير لما قبله ، يعلم السر والجهر ، ويستوي في علمه الخفاء والعلانية ، فهو خبر بعد خبر وصفة بعد صفة ، أو حال. وقيل : المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر ، فيكون قوله : (يَعْلَمُ) متعلقا بقوله : (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ، ويعلم ما تكسبون. واختار الطبري قولا ثالثا : أن قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ).

(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي يعلم جميع أعمالكم خيرها وشرها ، ويجازيكم عليها.

فقه الحياة أو الأحكام :

المقصود من هذه الآيات إيراد الدلائل على وجود الله ووحدانية الصانع ؛ لأن تقدير السموات والأرض بمقادير مخصوصة ، لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار ، وهو الله.

ويستنبط من الآيات ما يلي :


١ ـ الله تعالى هو المستحق لجميع أنواع المحامد على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.

٢ ـ إثبات الألوهية ؛ لأن الحمد كله لله فلا شريك له.

٣ ـ إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته ، بإخباره عن خلق السموات والأرض ، أي الإيجاد والاختراع والإنشاء والإبداع ، والخلق يكون بمعنى الاختراع ، ويكون بمعنى التقدير ، وكلاهما مراد هنا ، وذلك دليل على حدوثهما ؛ فإنه تعالى رفع السماء بغير عمد ، وجعلها مستوية من غير عوج ، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين ، وزينها بالنجوم ، وأودعها السحاب والغيوم علامتين ، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات ، وبثّ فيها من كل دابة ، وجعل فيها الجبال أوتادا ، وسبلا فجاجا ، وأجرى فيها الأنهار وشقّ البحار ، وفجّر فيها العيون والآبار من الأحجار ، كل ذلك دالّ على وحدانيته وعظيم قدرته.

وأتبع خلق الجواهر والذوات بخلق الأعراض والمستلزمات ، وهي جعل الظلمات.

٤ ـ الكفار جاحدون نعمة الله عليهم ، فبالرغم من أن الله وحده خلق هذه الأشياء ، يجعلون لله عدلا وشريكا. والتعبير ب «ثم» دليل على قبح فعل الكافرين ؛ لأن معنى الآية : أن خلقه السموات والأرض قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبيّن ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم.

٥ ـ ابتداء خلق الإنسان من طين ؛ لأن المراد من قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) آدمعليه‌السلام ، والخلق نسله ، والفرع يضاف إلى أصله.

وفي إيراد خلق الإنسان بعد خلق السموات والأرض : بيان خلق العالم الكبير


بعد خلق العالم الصغير وهو الإنسان ، وجعل فيه ما في العالم الكبير. وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون ٢٣ / ١٢ ـ ١٣].

٦ ـ حدّد الله تعالى أجل الدنيا وأجل القيامة ، وأجل الإنسان بالموت والبعث ، فلا يعلم الإنسان متى يموت ، ومتى يبعث. فالمراد من قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حكم أجلا وهو أجل الدنيا أو الموت ، وقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل ابتداء القيامة والآخرة.

٧ ـ الله المعظم وهو المعبود في السموات وفي الأرض ، وهو المنفرد بالتدبير فيهما ، وهو الذي يعلم سرّ العباد وجهرهم في السموات وفي الأرض ، فلا يخفى عليه شيء. وكل ذلك مع مراعاة القاعدة : وهي تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة.

والله يعلم ما يكسبه كل إنسان من خير أو شر ، والكسب : الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ، ولهذا لا يقال لفعل الله : كسب.

سبب كفر الناس بآيات ربّهم وإنذارهم بالعقاب

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))


الإعراب :

(كَمْ) خبرية اسم للعدد ، منصوب بأهلكنا ، لا بفعل (يَرَوْا) لأن الاستفهام وما يجري مجراه له صدر الكلام ، فلا يعمل فيه ما قبله.

البلاغة :

(مِنْ قَرْنٍ) أي من أهل قرن ، فهو مجاز مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال.

(ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) عبّر عن المطر بالسماء من قبيل المجاز المرسل ، وعلاقته السببية ؛ لأن المطر ينزل من السماء.

المفردات اللغوية :

(وَما تَأْتِيهِمْ) أي أهل مكّة. (مِنْ) صلة زائدة لاستغراق الجنس. (آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) هي الآيات القرآنية المرشدة إلى وجود الله ووحدانيته والمثبتة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مُعْرِضِينَ) متولّين عنها ، والإعراض : التولّي عن الشيء. (بِالْحَقِ) القرآن أو دين الله الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. والحق في الأصل : الأمر الثابت المتحقّق في نفسه. (أَنْباءُ) أخبار ، والمراد هنا عواقب استهزائهم ، والأنباء : ما تضمّن القرآن من وعد بنصر الله لرسله ، ووعيد لأعدائه بالهزيمة في الدّنيا والعذاب في الآخرة.

(أَلَمْ يَرَوْا) في رحلاتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وغيرهما. (مِنْ قَرْنٍ) أمّة من الأمم الماضية ، والقرن من الناس : القوم الذين يعيشون في زمان واحد ، ومدّته مائة سنة. وجمعه قرون ، وقد جاء في القرآن مفردا وجمعا. (مَكَّنَّاهُمْ) أعطيناهم مكانا بالقوة والسّعة ، ومكّنه في الأرض أو في الشيء : جعله متمكّنا من التّصرّف فيه. ومكّن له : أعطاه أسباب العزّة والتّمكّن في الأرض مثل قوله تعالى : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) [النور ٢٤ / ٥٥] ، وقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) [القصص ٢٨ / ٥٧] ، (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) أي المطر النازل من السماء. (مِدْراراً) متتابعا غزيرا. (مِنْ تَحْتِهِمْ) تحت مساكنهم. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) بتكذيبهم الأنبياء. (قَرْناً آخَرِينَ) أمّة أو جماعة آخرين.

المناسبة :

تكلّم الله تعالى في الآيات السابقة أوّلا عن التّوحيد ، وثانيا في المعاد


والبعث ، وثالثا فيما يثبت الأمرين بالدّلائل الواضحة ، ثمّ ذكر هنا ما يتعلّق بالنّبوة ، فأبان سبب إعراض الكفار عن آيات ربّهم بعد إتيان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وهو إشراكهم بالله وتكذيبهم الرّسل ، وأنذرهم عاقبة التّكذيب بالحقّ بدليل ما حلّ بالأمم قبلهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن المشركين المعاندين أنهم كلّما أتتهم معجزة وحجّة دامغة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام ، أعرضوا عنها ، ولم ينظروا فيها ، ولم يبالوا بها.

وما تأتي المشركين يا محمد بأي آية من آيات القرآن المنزّلة من ربّهم الذي ربّاهم ، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوّة ، وكفل لهم رزقهم ، وأنعم عليهم بكل شيء في أنفسهم وفي الأرض والسماء ، تلك الآيات الدّالة على بديع صنع الله ، ما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها استهزاء ، كما قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢].

وفسّر القرطبي الآية بالعلامة كانشقاق القمر ونحوها ، وكذلك فسّر ابن كثير الآية بالمعجزة والحجّة على وحدانية الله.

وسبب ذلك الإعراض عن النّظر في آيات الله : تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم ، وهو دين الإسلام الذي أتى به خاتم الأنبياء.

ثمّ هدّدهم وتوعّدهم على تكذيبهم بالحقّ بقوله : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) أي بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التّكذيب ، وسيجدون عاقبة أمرهم وهزئهم ، كالقتل والسّبي والطّرد من البلاد ، وقد تحقّق ذلك ، فنزل بهم القحط ، وحلّت بهم الهزيمة يوم بدر وفتح مكّة.


قال الرّازي : رتّب تعالى أحوال هؤلاء الكفار على مراتب ثلاث : إعراض عن التّأمّل في الدّلائل والتّفكّر في البيّنات ، وكونهم مكذّبين بها ، ثم كونهم مستهزئين بها ، وكلّ مرتبة أشدّ مما قبلها ؛ لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذّبا به ، بل يكون غافلا عنه ، والمكذّب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ الاستهزاء (١).

ثمّ بيّن الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا ..) أي ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بالحقّ أنّا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة قبلهم ، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط ، الذين كذّبوا رسلهم ، بالرّغم من إعطائهم من أسباب القوة والسّعة في الرّزق والاستقلال والملك ، ما لم نعطهم مثله. والقرن : الأمّة من الناس ، الذين يعيشون في عصر واحد مائة سنة. والرؤية في قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا) رؤية القلب.

امتازوا بالغنى عن كفار قريش ، فكانت الأمطار تنزل عليهم بكثرة وغزارة وتتابع ، وكانت الأنهار تجري من تحت مساكنهم.

فلما كفروا بأنعم الله أهلكناهم بسبب ذنوبهم وتكذيبهم رسلهم ، وأوجدنا من بعدهم قوما آخرين ، وجيلا جديدا يعمرون البلاد ، ويكونون أجدر بشكر النّعمة.

أي إن ذنوبهم التي أدّت إلى الهلاك نوعان : تكذيب الرّسل ، وكفران النّعم ، كما قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) [عاصمتها] (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص ٢٨ / ٥٨ ـ ٥٩].

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٥٧


والغرض من هذا وعظ أهل مكّة وتحذيرهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدّنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السّالفة ، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا ، وأكثر أموالا وأولادا ، واستعلاء في الأرض وعمارة لها.

فقه الحياة أو الأحكام :

موقف الكفار من دعوات الأنبياء للإصلاح يتميّز بالإعراض والعناد ، ويهمل العقل والفكر ، ويقوم على التّهكّم والاستهزاء ، وهذا ليس من سمات الرّجال العقلاء الذين يعتمدون على تقليد الأسلاف بدون رويّة ولا تفكّر.

من مظاهر هذا الموقف : تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلّوا بها على توحيد الله جلّ وعزّ من خلق السّموات والأرض وما بينهما ، سواء أكانت الآية قرآنية ، أم معجزة من معجزات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أيّده الله بها ، ليستدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به ، كانشقاق القمر ونحوه ، أم حجّة وبرهانا من الكون يرشد إلى ضرورة الاعتراف والإيمان بوجود إله واحد قديم حيّ غني عن جميع الأشياء ، قادر لا يعجزه شيء ، عالم لا يخفى عليه شيء من أحوال الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم وغير ذلك.

ومن مظاهر موقفهم أيضا : تكذيبهم مشركي مكّة بالحقّ الثّابت من عند الله وهو القرآن وإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن الله تعالى توعّدهم بالعقاب وأنذرهم بالعذاب ، فأمر نبيّه بالصّبر ، وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وهو العذاب الذي سينزل بهم في الدّنيا كيوم بدر ، والعذاب المنتظر لهم يوم القيامة.

وذكّرهم الحقّ تعالى بأحوال من قبلهم ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا ...) أي ألا يعتبرون بمن أهلك الله من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم ، والمعنى : ألم يعرفوا ذلك ، فالله تعالى أمرهم بكلّ أسباب القوّة والسّعة والتّمكّن في الأرض أكثر مما مكّن لأهل مكّة من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسّعة


والجنود ، ووفرة الأمطار ، وينابيع الأرض ، وجريان الأنهار من تحت دورهم ومساكنهم ، استدراجا وإملاء لهم ، ثم أهلكهم الله بخطيئاتهم وسيّئاتهم التي اقترفوها وبكفرهم الذي لازموه.

ويفهم من ذلك أنّ الذّنوب سبب الانتقام وزوال النّعم ، فليحذر هؤلاء وأمثالهم من الإهلاك والدّمار. والإنذار عامّ لكلّ زمان ومكان ، فهذا إنذار لكفار قريش وكلّ الكفار أنه سينزل بهم من العذاب مثلما نزل بأمم سابقة جزاء استهزائهم بأنبيائهم.

عناد الكفار والرّدّ على طلبهم بإنزال كتاب أو إرسال ملك

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

المفردات اللغوية :

(كِتاباً) أي صحيفة مكتوبة ذات غرض واحد. (قِرْطاسٍ) ورق أو رقّ يكتب عليه. (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أبلغ من (عاينوه) لأنه أنفى للشّك. (سِحْرٌ) أي خداع وتمويه لا حقيقة له ، ويقولون ذلك تعنتا وعنادا.

(لَوْ لا أُنْزِلَ) هلا. (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لتّم أمر هلاكهم. (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون لتوبة أن معذرة ، كعادة الله فيمن قبلهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي المنزل إليهم. (لَجَعَلْناهُ) أي الملك. (رَجُلاً) أي على صورة رجل ، ليتمكّنوا من رؤيته ، إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك. (لَلَبَسْنا) لسترنا وغطّينا ، والمراد : جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه. (ما يَلْبِسُونَ) على أنفسهم ، بأن يقولوا : ما هذا إلا بشر مثلكم ، فيلتبس الأمر عليهم فلم يدروا أملك هو أم إنس ، فلم يوقنوا أنه ملك ولم يصدّقوا به ، وقالوا : ليس هذا ملكا ، كما التبس على أنفسهم من حقيقة أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.


سبب النزول :

نزول الآية (٧):

(وَلَوْ نَزَّلْنا ...) قال الكلبي : إن مشركي مكّة قالوا : يا محمد ، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنّك رسول الله ، فنزلت هذه الآية.

وقال في رواية أخرى : نزلت في النّضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء ١٧ / ٩٠].

نزول الآية (٨):

(وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ ..) : روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب ، والنّضر بن الحارث بن كلّدة ، وعبدة بن عبد يغوث ، وأبيّ بن خلف ، والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).

وإذا كانت قد أنزلت سور من القرآن تتضمن اقتراح المشركين إنزال ملك أو كتاب أو إنزال القرآن جملة واحدة ، قبل هذه الآية ، فلا مانع يمنع من تأكيد بيان هذا الاقتراح في مناسبة أخرى ، إظهارا لعنادهم وتعنّتهم.

المناسبة :

ذكرت الآيات السابقة بعض المواقف من عناد المشركين ، وتستمر الآيات هنا في بيان شبهات جحودهم وعنادهم ومكابرتهم للحقّ ومنازعتهم فيه ، تلك


الشّبهات الموجّهة إلى الوحي وبعثة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصاروا منكرين أصول الدّين الثلاث : التّوحيد والبعث ونبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

التفسير والبيان :

يبيّن الله تعالى في هذه الآيات أسباب إعراض المشركين عن الإيمان ، وتذرّعهم بشبهات واهية ، ومطالبتهم إنزال صحيفة مكتوبة وإرسال ملك يؤيّد النّبي ويصدّقه ، وهم في الحقيقة معرضون لا تؤثّر فيهم الحجج والبراهين ، ولا يجديهم تنفيذ مقترحاتهم.

إن علّة تكذيبهم بالحقّ هي إعراضهم عن آيات الله وسدّ كلّ منافذ النّظر والفكر ، وتعطيل كلّ طاقات الوعي والإدراك ، فلو أنزلنا عليك يا محمد كتابا مدوّنا في ورق أو نحوه أو معلّقا بين السّماء والأرض ، فعاينوه ورأوا نزوله ولمسوه بأيديهم ، لقالوا : ما هذا إلا سحر مبين أي خداع وتمويه وتضليل لا حقيقة فيه. وإنما قال : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) لأن اللمس أقوى الدّلالات الحسيّة وأبعدها عن الخداع ؛ لأن البصر يخدع بالتخيّل. والتّعبير بقوله : (نَزَّلْنا) بالتّشديد ، وقوله : (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) وهو لا يكون إلا فيه ، وقوله : (فَلَمَسُوهُ) للمبالغة وتأكيد النزول ، ثم يعرضون عنه قائلين : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وهذا كما قال تعالى في مكابرتهم للمحسوسات : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) [أي حبست ومنعت] (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر ١٥ / ١٤ ـ ١٥] ، وقوله سبحانه : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ، يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطّور ٥٢ / ٤٤].

هذا هو الرّدّ على اقتراحهم الأوّل وهو تنزيل كتاب من السّماء ، ثم ردّ الله على اقتراحهم الثاني وهو إنزال ملك من السّماء يرونه ويكون مؤيّدا له ، فقال تعالى : (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي هلا أنزل الله مع الرّسول ملكا


يكون معه نذيرا ومؤيّدا له ونصيرا ، كأنّهم فهموا أن الرّسالة السّماوية تتنافى مع البشرية ، وهم يعلمون أنّ الرّسول بشر ، كما قال تعالى : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٣٣] ، وقال : (وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ، لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٧] ومضمون ردّ الاقتراح الثّاني من جهتين :

أوّلا ـ (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً ..) أي ولو أنزل الله ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم ، ثم لا يمهلون ليؤمنوا ، بل لجاءهم من الله العذاب ، كما قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر ١٥ / ٨] ، وقال : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان ٢٥ / ٢٢].

ثانيا ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ..) أي ولو أنزلنا مع الرّسول البشر ملكا ، لكان متمثلا بصورة الرّجل ، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه ، ثم يعود الأمر كما كان ؛ ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه ، الذي يلبسون على أنفسهم ويختلط الأمر عليهم باستنكار جعل الرّسول بشرا ؛ فإن هذا الرّجل سيقول لهم : إنّي رسول الله ، كما يقول محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عباس في الآية : يقول : لو أتاهم ملك ، ما أتاهم إلا في صورة رجل ؛ لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور.

وقال قتادة : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) يقول : ما لبّس قوم على أنفسهم ، إلا لبّس الله عليهم ، واللّبس إنما هو من الناس.

فقه الحياة أو الأحكام :

إنّ إجابة المطالب المادية القائمة على التّعنّت والعناد ، مثل إنزال المائدة على


بني إسرائيل ، وإنزال كتاب مكتوب في قرطاس أي صحيفة ، وإنزال ملك من الملائكة لا تحقق الغرض ، وسيظلّ الكافرون المشركون على موقفهم من الكفر والإعراض.

وهذا ما ردّ الله به على الاقتراح الأوّل للمشركين بإنزال كتاب ، فلو أنزله وعاينوه ومسّوه باليد كما اقترحوا ، لإزالة الرّيب والإشكال عنهم ، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم. وهذه الآية جواب لقولهم : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء ١٧ / ٩٣] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذّبوا به.

ثمّ ردّ الله على اقتراحهم الثاني بإنزال ملك : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قال ابن عباس : لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. وقال الحسن البصري وقتادة : لأهلكوا بعذاب الاستئصال ؛ لأن الله أجرى سنّته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن ، أهلكه الله في الحال.

وتكملة الرّدّ : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلّا بعد التّجسيم بالأجسام الكثيفة ؛ لأن كلّ جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ؛ فلو جعل الله تعالى الرّسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ، ولما أنسوا به ، ولخافوا منه ومن مكالمته ، فلا تتحقق المصلحة ؛ ولو تمثّل بصورة بشر لقالوا : لست ملكا ، وإنما أنت بشر ، فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم ، وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر ، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين ، وأتى جبريل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية الكلبي.

أي إن هدفهم لا يتحقق فلو نزل بصورته الحقيقية لما أطاقوا رؤيته ، ولو نزل بصورة رجل ، التبس الأمر عليهم وقالوا : هذا ساحر مثلك.


عاقبة المستهزئين والمكذّبين

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

الأعراب :

(فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ما كانُوا) : في موضع رفع ؛ لأنه فاعل (فَحاقَ) وتقديره : حاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزئون. و (ما) : مصدرية ، أي عقاب استهزائهم.

(ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عاقِبَةُ) : اسم كان المرفوع. و (كَيْفَ) : خبر كان المنصوب. وإنما قال : كان ، ولم يقل كانت لوجهين :

أحدهما ـ لأن (عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) في معنى : مصيرهم ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.

والثاني ـ لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي ، فجاز تذكير فعلها ، كقولهم : حسن دارك ، واضطرم نارك.

البلاغة :

(اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ) تنكير (بِرُسُلٍ) للتكثير والتّفخيم.

المفردات اللغوية :

(اسْتُهْزِئَ) الاستهزاء : السّخرية ، والاستهزاء بشخص : احتقاره والتّهكّم عليه ، ويتبعه الضّحك غالبا. (فَحاقَ) نزل وأحاط بهم فلم يكن لهم منه مفرّ. والمراد أحاط العذاب بالساخرين ، فكذا بمن استهزأ بك. (عاقِبَةُ) مصير أو آخر الأمر ، مثل قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر ٣٥ / ٤٣] والحيق : ما ألم بالإنسان من مكر أو سوء يعمله.

المناسبة :

كانت اقتراحات بعض كفار مكّة كإنزال ملك من الملائكة مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم


أو إنزال ملك بالرّسالة ، صادرة على سبيل الاستهزاء ، وكان يضيق قلب الرّسول بسماع ذلك ، فأنزل الله هاتين الآيتين للتّخفيف عما يلاقيه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سوء الأدب والهزء والسّخرية ، وإنزال العذاب هو سنّة الله الثابتة في المكذّبين أنبياءهم.

فهذه تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذّبه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدّنيا والآخرة.

التّفسير والبيان :

لقد استهزأ الأقوام الغابرون ـ وهذا تعبير بصيغة القسم من الله ـ بأنبيائهم الكرام ، كما قال تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الحجر ١٥ / ١١] وذلك معاداة للإصلاح ودعوات الحقّ والتّوحيد والاستقامة ، فليس كفار قريش منفردين بهذا الموقف ، لكن كان جزاؤهم وجزاء أمثالهم من الساخرين إحاطة العذاب بهم.

وهذا إرشاد للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان سنّة الله في المكذّبين ، وتسلية له حتى لا يضيق قلبه ذرعا ، وتبشير له بالنّصر وحسن العاقبة ، وقد أهلك الله خمسة من رؤساء قريش في يوم واحد ، وهذا ما امتنّ الله به على نبيّه بقوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر ١٥ / ٩٥].

وقل يا محمد للمشركين : فكّروا في أنفسكم ، وانظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية الذين كذّبوا رسله وعاندوهم ، من العذاب والنّكال والعقوبة في الدّنيا ، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وقوم لوط ، انظروا واعتبروا ، كيف كان عاقبة المكذّبين ، مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة ، وكيف نجّى الله رسله وعباده المؤمنين.


فقه الحياة أو الأحكام :

الاستهزاء بالرّسل عادة قديمة معروفة ، وكذلك نزول العذاب والهلاك بأولئك الأقوام المستهزئين بأنبيائهم أمر ثابت ، وحق مقرر ، وجزاء عادل.

والتاريخ أصدق شاهد ، فلينظر كل ساخر ليعرف ما حلّ بالكفرة قبله من العقاب وأليم العذاب. والمكذّبون هنا : من كذّب الحقّ وأهله ، لا من كذّب بالباطل.

ويؤخذ من الآية أن السّفر مندوب إليه إذا كان على سبيل العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الدّيار.

أدلة أخرى لإثبات الوحدانية والبعث

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))


الإعراب :

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ) اللام : لام جواب القسم ، وهي جواب (كَتَبَ) لأنه بمعنى : أوجب ، ففيه معنى القسم.

(الَّذِينَ خَسِرُوا) إما مبتدأ ، وخبره : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ودخلت الفاء في خبر (الَّذِينَ) لأن كل اسم موصول بجملة فعلية إذا وقع مبتدأ ، فإنه يجوز دخول الفاء في خبره ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم. وإما منصوب على البدل من الكاف والميم في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) وهو بدل الاشتمال ، وإليه ذهب الأخفش ، والوجه الأول أوجه.

وقال الزمخشري : إنه منصوب على الذم ، أو مرفوع ، أي أريد الذين خسروا أنفسهم أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ يُصْرَفْ) مبني للمجهول ، ونائب الفاعل مقدر تقديره : من يصرف عنه العذاب يومئذ. وقرئ مبنيا للمعلوم ، وفاعله : الله تعالى ، وحذف المفعول وتقديره : من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه. والوجه الأول أوجه : لأنه أقل إضمارا ، وكلما كان الإضمار أقل ، كان أولى.

البلاغة :

(السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من صيغ المبالغة.

المفردات اللغوية :

(كَتَبَ) فرض وأوجب إيجاب تفضل وكرم (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ليحشرنكم ، والمقصود من الكلام : ليجازينكم بأعمالكم (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك. (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي تركوا ما يقتضيه العقل والعلم والمصلحة الحقيقية ، وعرّضوا أنفسهم للعذاب. (ما سَكَنَ) ثبت. من السكون : ضد الحركة ، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله ، أي له ما سكن وما تحرك ، مثل قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ١٦ / ٨١] أي والبرد. والمقصود : له تعالى كل شيء ، فهو ربه وخالقه ومالكه. (وَلِيًّا) ناصرا.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. (يُطْعِمُ) يرزق. (وَلا يُطْعَمُ) لا يرزق أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بعبادة غيره. (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة. (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي من يبعد عنه العذاب.

(رَحِمَهُ) أي نجّاه من العذاب والأهوال ، وأراد له الخير. (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) النجاة الظاهرة.


المناسبة :

هذه الآيات تأكيد لما سبق في إثبات أصول الدين الثلاثة : إثبات وجود الصانع وتوحيده ، وتقرير البعث والمعاد والجزاء ، وتقرير النبوة ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بإقامة الأدلة عليها بطريق السؤال والجواب ، وهذا نمط آخر في الإثبات ، لترسيخ العقيدة في القلب ، واجتذاب الأنظار واستمالة السامع حتى لا يمل.

وإذا ثبت كون الله هو الخالق والمبدع والمنشئ للسموات والأرض وما فيهما من كل متحرك وساكن ، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر ، وثبت أنه تعالى الملك المطاع ، والملك المطاع : من له الأمر والنهي على عبيده ، ولا بد حينئذ من مبلّغ ، والمبلّغ هو النبي ، فكانت بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق أمرا لازما ، وبذلك كانت الآية وافية بإثبات هذه الأصول الثلاثة.

التفسير والبيان :

قل يا محمد للمشركين من قومك : لمن هذه السموات والأرض ، ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ ، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق ، كما حكى تعالى عنهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥].

(قُلْ : لِلَّهِ) هذا هو الجواب إما بالنيابة عنهم ، لأنهم مقرّون بذلك ، وإما بطريق الإلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه.

ومن صفات هذا الخالق التي ترغب في طاعته : صفة الرحمة ، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلقه. ومن مقتضيات الرحمة : الحشر يوم القيامة بلا شك للثواب والعقاب ؛ لأنه متى عرف الإنسان ما قد ينتظره أقبل على الخير وكفّ عن الشر ، فكان إيجاد هذا الوازع النفسي طريقا لتهذيب النفوس والرحمة


بالعباد ، ولو لا خوف العذاب يوم القيامة ، لامتلأت الدنيا فسادا وفوضى وإجراما ، ولضجّ العالم ، واختل نظام المجتمع ، فصار التهديد بهذا اليوم من مظاهر الرحمة. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لما خلق الخلق ، كتب كتابا عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي» أي لما أظهر قضاءه ، وأبرزه لمن شاء ، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه ، مقتضاه خبر حق ووعد صدق أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه.

وأخص الذين خسروا أنفسهم بإفسادها وتعطيلها استخدام العقل والعلم وعدم اهتدائها بالتذكير ، كما أخصهم بالذم والتوبيخ من بين المجموعين إلى يوم القيامة ؛ وسبب الخسارة : أنهم لا يؤمنون ، أي لا يصدقون بالبعث والمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم. هذا هو الواقع ، لكن قوله تعالى جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم أنفسهم ، والأمر على العكس.

والجواب كما ذكر الزمخشري : معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر ، فهم لا يؤمنون.

وليس ملك السموات والأرض مجرد ملك فراغ ، وإنما هو ملك شامل لكل شيء فيهما من ساكن ومتحرك ، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره ، لا إله إلا هو. وخص بالذكر ما سكن بالليل والنهار وإن كان داخلا في عموم ما في السموات والأرض ، للدلالة على تصرفه تعالى بهذه الخفايا.

ثم إن كان ما في السموات والأرض خاضع لرقابة الله وتصرفه ، فهو السميع المحيط سمعه بكل دقيق وكبير ، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء ، وهو أيضا العليم المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم ، والشامل سمعه كل مسموع كأقوال عباده وأصواتهم. والذي وسع علمه كل معلوم كحركات


المخلوقات وأسرارهم ، وكا ذلك مؤد إلى الرقابة الإلهية والتصرف التام بكل شيء.

ثم أمر الله نبيه المبلّغ شرعه أمرا بما لزم عما سبق وبما هو نتيجة له ، فقال له : قل يا محمد : لا أتخذ وليا ناصرا ينفعني أو يدفع ضررا عني إلا الله وحده لا شريك له ، فإنه فاطر السموات والأرض ، أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق ، وهذا مثل قوله تعالى : (قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر ٣٩ / ٦٤].

وأما خلق السموات والأرض فكانتا أولا كتلة دخانية واحدة ، ثم فصلتا ، وهذا فيه أيضا فطر وشق ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء ٢١ / ٣٠].

وإن الله أيضا هو الذي يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم ، لأنه تعالى منزّه عن الحاجة إلى كل ما سواه ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات ٥١ / ٥٦ ـ ٥٨].

وفي هذه دلالة واضحة ترشد البشر إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله تعالى وحده ، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب ، لا من أي مخلوق سواه ، سواء أكان بشرا أم صنما ووثنا ، وسواء أكان البشر حاكما أم غير حاكم ، فأرزاق العباد بيد الله تعالى وحده.

وإذ قامت لك يا محمد ولغيرك الأدلة على من يستحق الألوهية والعبادة واتخاذه وليا ، فقل لهم : إني أمرت من ربي المتصف بهذه الصفات أن أكون أول من أسلم وخضع وذلّ وانقاد لله من هذه الأمة ، ونهيت عن الشرك بالله أيا كان نوع الشرك ، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرب إلى الله زلفى.


ثم أمر الله نبيه ببيان جزاء من خالف الأمر والنهي السابقين فقال له :(قُلْ : إِنِّي أَخافُ ..) أي قل لهم : إني أخشى إن عصيت الله ربي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم ، ويجازيهم على ما يستحقون. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله. وإذا كان هذا الإنذار موجها لنبي الله ، فما بال الناس الآخرين؟!

من يدفع عنه ذلك العذاب يومئذ ، فقد رحمه‌الله ونجا ، وذلك هو الفوز الساحق الظاهر الذي لا فوز أعظم منه ، كما قال تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران ٣ / ١٨٥]. والفوز : حصول الربح ونفي الخسارة.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات تثبت أصول الاعتقاد : وهي التوحيد ، والبعث والجزاء ، والنبوة ، وهي أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين ، وأولها انتزاع الاعتراف بالخالق ، وهم يعترفون بذلك وأن خالق السموات والأرض هو الله. وإذا لم يعترفوا فالحجة قائمة عليهم.

وإذا ثبت أن لله ما في السموات والأرض ، وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم ، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ، ويبعثهم بعد الموت.

ولكنه تعالى كتب على نفسه الرحمة ، أي وعد بها فضلا منه وكرما ، فلذلك أمهل الناس حتى يعودوا لرشدهم ، وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه ، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.


ومن رحمته الإمهال إلى يوم القيامة ، والاعلام بالجمع يوم القيامة ، لإثابة الطائعين وتعذيب العاصين ، وهذا الإنذار المسبق رحمة أيضا من الله بعباده ؛ لأنهم إذا علموا بأنه لا إفلات من الحساب ، فكروا في أنفسهم ، وأصلحوا أعمالهم ، وصححوا إيمانهم.

ثم ذم الله تعالى الخاسرين أنفسهم بإهمالهم ما يقتضيه العقل والعلم من الإيمان الصحيح والاستقامة على دين الله وشرعه ، وهؤلاء الخاسرون على الإطلاق لاختيارهم الكفر هم غير المؤمنين.

ومن الاحتجاج على المشركين : أن لله ما سكن وما تحرك في الكون. قال ابن عباس: نزلت الآية : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لأن كفار مكة أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة ، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا ، وترجع عما أنت عليه ، فنزلت الآية (١) أي قال الله تعالى : أخبرهم أن جميع الأشياء لله ، فهو قادر على أن يغنيني.

وإذ قامت الأدلة على الإله الحق فكل إنسان مأمور بعبادته واتخاذه وليا ناصرا له في تحقيق النفع ودفع الضرر ، وإسلام الوجه له والانقياد لأوامره ، فهو الرزاق المطعم ، يرزق ولا يرزق ، وكذلك كل إنسان منهي عن الشرك واتخاذ الأنداد والوسطاء.

وعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب الله يوم القيامة ، فإنه عذاب شديد ، ومن ينجو منه فقد شملته الرحمة والعناية الإلهية ، وذلك أعظم فوز ونجاح للإنسان. اللهم اجعلني وذريتي وأبي وأمي وأهلي ومشايخي من الفائزين.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٢


قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق

ومجادلة المشركين في تعدد الآلهة

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

الإعراب :

(أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي : استفهام في محل رفع مبتدأ ، و (أَكْبَرُ) خبره ، و (شَهادَةً) تمييز منصوب ، و (فَوْقَ) منصوب على الظرف ، لا في الكاف ، بل في المعنى الذي تضمنه لفظ : (الْقاهِرُ) كما تقول : زيد فوق عمرو في المنزلة ، و (اللهُ شَهِيدٌ) مبتدأ وخبر.

(وَمَنْ بَلَغَ) : في موضع نصب ؛ لأنه معطوف على الكاف والميم في (لِأُنْذِرَكُمْ) أي ولأنذر من بلغه القرآن ، فحذف العائد ، كقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١] أي : بعثه الله.

وقال تعالى : (آلِهَةً أُخْرى) ولم يقل : أخر لأن الآلهة جمع ، والجمع يقع عليه التأنيث ، ومنه قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف ٧ / ١٨٠] وقوله : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه ٢٠ / ٥١].

المفردات اللغوية :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ) يصيبك ، والمس أعم من اللمس ، فيقال مسّه السوء أي أصابه. (بِضُرٍّ) الضر : كل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله ، كالمرض والفقر. والضر يعقب الألم والحزن عادة. (بِخَيْرٍ) الخير : كل ما فيه نفع حقيقي طاهر في الحاضر أو المستقبل ، كالعقل والعلم ، والعدل ، والمساواة والحرية ، والصحة والغنى. والشر ضده : وهو ما لا نفع فيه أصلا أو ما كان ضرره أكبر من نفعه.

(الْقاهِرُ) القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء مع الاستعلاء. (الْحَكِيمُ) في خلقه.


سبب النزول :

نزول مطلع الآية (١٩):

(قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) : أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال : جاء النحام بن زيد ، وقروم بن كعب ، وبحري بن عمر ، فقالوا : يا محمد ، ما نعلم مع الله إلها غيره ، فقال : لا إله إلا الله ، بذلك بعثت ، وإلى ذلك أدعو ، فأنزل الله في قولهم : (قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الآية.

وقال الكلبي : إن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنك رسول ، كما تزعم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الحسن البصري وغيره : إن المشركين قالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية.

المناسبة :

بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن من مقتضى رحمته إمهال الناس للحساب يوم القيامة ، وصرف العذاب والفوز بنعيم الآخرة ، ثم أردف ذلك ببيان مقتضى الرحمة في الدنيا من جلب الخير والنفع ، ودفع الشر والضرر ، وأنه لا يملك أحد التصرف في الدنيا سوى الله وحده.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه مالك الضر والنفع ، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، لا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه.


فيقول بما معناه : وإن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو حزن أو ذل ونحوه ، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى ؛ لأنه القادر على كل شيء ، وكذلك إن يحصل كل خير من صحة أو غنى أو عز ونحوه ، فهو أيضا من الله ، لكمال قدرته على كل شيء ، ولأنّه القاهر الغالب صاحب العزة والسلطان والكبرياء ، وهو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجبابرة ، وعنت له الوجوه ، ودانت له الخلائق ، وقهر كل شيء ، وهو الحكيم في جميع أفعاله ، الخبير بمواضع الأشياء ، فلا يعطي إلا من يستحق ، ولا يمنع إلا من يستحق. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر ٣٥ / ٢]. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي الغني.

ثم أيّد الله نبيه بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلها ، وأصحها وأصدقها : وهي شهادة الله بين نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين ، شهادة تدل على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكشف حال أعدائه ، فهو تعالى العالم بما جاء به هذا الرسول وما هم قائلون له. وتقدير الكلام : أي شهيد أكبر شهادة؟ فوضع (شيئا) مقام (شهيد) ليبالغ في التعميم. والجواب : الله أكبر شهادة ، وهو شهيد بيني وبينكم ، أو الله شهيد بيني وبينكم ، وإذا كان هو الشهيد بينه وبينهم ، فأكبر شيء شهادة شهيد له.

والآية تتضمن ردا قاطعا على المشركين الذين كانوا يقولون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يشهد لك بأنك رسول الله؟

ثم أوضع الله مهمة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تلقي الوحي وتبليغه للناس جميعا ، فقال : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ ..) أي أنزل الله على هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة من عذاب الله إذا كفرتم أو عصيتم ، وأبشركم بالجنة إذا آمنتم وأطعتم ، وكذا لأنذر


وأبشر كل من بلغة القرآن من العرب والعجم ، فهو نذير لكل من بلغه ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود ١١ / ١٧].

أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال : من بلغه القرآن فكأنما شافهته به ، ثم قرأ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ)».

وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال : «من بلغة القرآن فقد أبلغه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وروى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله».

وروى ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي قال : «من بلغه القرآن فكأنما رأى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وهذه الكلمة مروية أيضا عن سعيد بن جبير. ثم أعلن الله براءته من المشركين القائلين بتعدد الآلهة ، مبينا أن الواجب إعلان الشهادة بالوحدانية لله عزوجل فقال : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ..) وهذا استفهام إنكاري واستبعاد وتوبيخ وتقريع ، فإنكم أيها المشركون تقرون بوجود آلهة أخرى مع الله ، وإني لا أشهد شهادتكم ، كما قال تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) [الأنعام ٦ / ١٥٠].

وأصرح بأن الإله هو إله واحد ، وهو الله عزوجل ، وإني أتبرأ مما تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرها.

فقه الحياة أو الأحكام :

كل من يملك شيئا فله حق التصرف المطلق فيه ، وكل من أوجد شيئا فهو القادر على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، والله مالك السموات والأرض ومن فيهن


وهو الخالق لكل شيء ، فهو وحده القادر على جلب النفع لخلقه ودفع الضرر عن مخلوقاته ، وأنت يا محمد وكل إنسان في الوجود إن تنزل بك شدة من فقر أو مرض فلا رافع ولا صارف له إلا هو ؛ وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة ، فهو الكامل القدرة على كل شيء من الخير والضر.

والله أيضا هو القاهر الغالب المهيمن على عباده ، ولكنه قهر بحكمة في أمره ، وخبرة تامة دقيقة بأعمال عباده.

والله أكبر وأعظم وأصدق شيء يشهد ، فهو شاهد حق بانفراده بالربوبية ، وقد أقام الأدلة والبراهين في النفس والكون على توحيده ، فقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم ، وأودع في الفطرة الإنسانية ما يرشد إلى الإيمان بإله واحد متصف بصفات الكمال ، وشهد العدول والعقلاء بوحدانيته ، كما قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، وَالْمَلائِكَةُ ، وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران ٣ / ١٨].

وشهد الله بصدق رسالة الرسول : بإخباره في قرآنه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح ٤٨ / ٢٩] (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة ٢ / ١١٩].

وشهد الله أيضا بتأييده بالمعجزات التي من أهمها القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى الدائمة إلى يوم القيامة. وشهدت الكتب السابقة له ، وبشرت الرسل المتقدمون به ، وذلك ما يزال قائما في كتب اليهود والنصارى.

كل هذه الشهادات المؤيدات تدل على أن الله شهيد بين نبيه محمد وبين المشركين على أنه بلغهم الرسالة ، وأدى الأمانة ، وصدق القول ، ونصح للأمة ، وعلى أن الله شهيد في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأنداد.

والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بتبليغ القرآن والسنة ؛ لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ


بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة ٥ / ٦٧]. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلّغوا عني ولو آية» وقال مقاتل : «من بلغه القرآن من الجن والإنس ، فهو نذير له».

ومما أوحي إلى النبي الذي ينذر به : أن القول بالتوحيد هو الحق الواجب ، وأن القول بالشرك باطل مردود.

وقد اشتدت حملة القرآن على الشرك والمشركين ، فوبخهم وقرعهم وأنكر عليهم في هذه الآية وغيرها اتخاذ آلهة أخرى مع الله ، وإن فرض أنهم طالبوا النبي بالشهادة على شركهم ، فإنه لا يشهد شهادتهم ، أو لا يشهد معهم. وإذ ثبت إبطال الشرك ، فالقول بالوحدانية هو الأمر المتعين ، والقول بتوحيد الله والبراءة عن الشرك هو ما يقوله النبي والمؤمنون.

وقد دل الكلام : (قُلْ : لا أَشْهَدُ ..) الآية على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه :

أولها ـ قوله : (قُلْ : لا أَشْهَدُ) أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء.

وثانيها ـ قوله : (قُلْ : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وكلمة (إِنَّما) تفيد الحصر ، والواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء.

وثالثها ـ قوله : (إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء(١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٧٩.


معرفة أهل الكتاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والافتراء على الله

وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

الإعراب :

(الَّذِينَ خَسِرُوا) إما نعت لقوله : (الَّذِينَ) قبله. وفاء : (فَهُمْ) عاطفة جملة على جملة ، وإما مبتدأ مرفوع على استئناف الكلام ، وخبره : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والفاء جواب.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مَنْ) مبتدأ مرفوع ، وهي بمعنى الاستفهام المتضمن للتوبيخ والنفي والمعنى : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. و (أَظْلَمُ) : خبر المبتدأ ، إلا أنه يفتقر إلى تمام ، وتمامه : (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) لأن «من» المصاحبة لأفعل التفضيل من تمامه ، وهي بمعنى ابتداء الغاية. (إِنَّهُ) ضمير الشأن.

(لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) اسم (تَكُنْ) المرفوع ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ قالُوا) خبر (تَكُنْ) المنصوب ، كأنه قال : لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. ومن قرأ بالياء «يكن» ونصب (فِتْنَتُهُمْ) ، جعل اسم يكن (أَنْ قالُوا) كأنه قال : لم يكن فتنتهم إلا مقالتهم. وأما تذكير يكن فلوجهين : أحدهما ـ لأن تأنيث الفتنة غير حقيقيّ ، والثاني : لأن القول هو الفتنة في المعنى ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.

(وَاللهِ رَبِّنا رَبِّنا) : وصف لقوله : (وَاللهِ) ومن قرأ بالنصب فعلى النداء المضاف ، وتقديره : يا ربّنا. و (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) جواب القسم ، و (رَبِّنا) اعتراض وقع بين القسم وجوابه.

البلاغة :

(كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فيه ما يسمى بالتشبيه المرسل المجمل.


(الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) فيه إيجاز بالحذف ، أي تزعمونهم شركاء.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) تعجب من كذبهم الغريب.

المفردات اللغوية :

(يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون محمدا بنعته في كتابهم. (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) القرآن. (نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) توبيخا. (كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء لله. (فِتْنَتُهُمْ) كفرهم ، والمعنى المراد : ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم ، وقاتلوا عليه ، وافتخروا به. ويجوز أن يكون المراد : ثم لم يكن جوابهم ومعذرتهم إلا أن قالوا ، فسمي فتنة لأنه كذب.

(كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بنفي الشرك عنهم. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يفترونه على الله من الشركاء ، يفترون ألوهيتها وشفاعتها.

المناسبة :

كانت الآيات السابقة بسبب سؤال موجه من المشركين لليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام ، فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته ، فبيّن الله تعالى فيما سبق أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها ، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم : إنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام ؛ لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم ؛ لما روي أنه لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية ، فكيف هذه المعرفة؟

فقال : يا عمر ، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني ؛ لأني لا أدري ما صنع النساء ، وأشهد أنه حق من الله تعالى (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٧٩


التفسير والبيان :

إن الذين آمنوا آتيناهم الكتاب في الماضي وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي وأنه خاتم الرسل ، كما يعرفون أبناءهم ، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرسل المتقدمين والأنبياء ؛ فإن صفته في كتبهم واضحة ، وإن الرسل كلهم بشّروا بوجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته.

لهذا كان السبب في إنكار نبوته : ما قاله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ..) أي إن إنكارهم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناشئ من خسارتهم أنفسهم ، مثل إنكار المشركين بعد قيام الأدلة القاطعة على نبوته ، فكل من الفريقين أهمل ما يقتضيه العقل والعلم والتاريخ ، وآثر المشركون وعلماء اليهود والنصارى الحفاظ على مراكزهم في قومهم وتعصبهم لما عندهم ، على الإيمان بنبوة هذا الرسول النّبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فهم إن أسلموا فقدوا زعامتهم ، وتساووا مع بقية المسلمين.

هؤلاء من المشركين وأهل الكتاب الجاحدين الذين خسروا أنفسهم ، لتعلقهم بحظوظ دنيوية حقيرة ، ولضعف إرادتهم ، وإهمالهم أخبار الأنبياء السابقين ، هم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم الذين جمعوا بين أمرين متناقضين ، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة والبرهان الصحيح حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ، ولا آباؤنا ، وقالوا : والله أمرنا بها ، وقالوا : والملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ، ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا يدلّ على أن إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خسارة للنفس ، ثم أبان تعالى أن


الافتراء على الله ظلم للنفس : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ..) أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله ، فادعى أن الله أرسله ، ولم يكن أرسله ، ثم لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته ، ولا أحد أظلم لنفسه ممن زعم أن لله ولدا أو شريكا.

ويلاحظ أن المشركين جمعوا بين التكذيب على الله ، والتكذيب بآيات الله الدالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعاقبة الظلم : عدم الفلاح ، فلا يفلح المفتري ولا المكذب ، ولا يفوز أحدهما أو كلاهما وكل ظالم يوم القيامة ـ يوم الحساب والجزاء.

وزيادة في الملامة والتبكيت يسأل المشركون المفترون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريح وإنكار ، فقال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ..) أي واذكر يا محمد يوم نحشر أولئك المشركين جميعا سواء عبدة الأوثان أو أهل الكتاب وكل من ظلم نفسه وغيره ، ثم نقول للذين أشركوا وهم أشدّ الناس ظلما : أين الشركاء من الأصنام والأنداد المعبودة من دون الله ، التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم ونصراؤكم من دون الله ، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، ويشفعون لكم عنده ، أين هم فلا يرون معكم؟ كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص ٢٨ / ٦٢] وقال تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام ٦ / ٩٤].

ولكنهم يحارون فلا يجدون جوابا مقنعا ، فيبادرون إلى إنكار الشرك. (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ...) أي لم تكن عاقبة شركهم أو كفرهم أو ـ كما صوب الطبري ـ لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبارنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ، إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة : ما كنا مشركين.


وهنا تساؤل ذكره الزمخشري : كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور ، وعلى أن الكذب والجحود لا نفع فيه؟ ثم أجاب : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما ، حيرة ودهشة. وهناك حالة مماثلة : يقولون وهم يعذبون في النار : ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود ولم يشكّوا فيه.

ولكن هذا الإنكار حاصل منهم في بعض مواقف الحشر ، توهما منهم أن ذلك ينفعهم ، أما في موقف آخر فيعترفون بالشرك ، كما قال تعالى : (قالُوا : رَبَّنا ، هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [النحل ١٦ / ٨٦] وقال تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء ٤ / ٤٢].

سئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فقال : أما قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام ، قالوا : تعالوا لنجحد : (قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء ٤ / ٤٢]. أي أنهم في الحقيقة يعترفون بواقعهم ، وفي الظاهر وحال التخبط في الإجابة ينكرون الشرك ، فتارة يكذبون ، وتارة يصدقون ، (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) وذلك كله بسبب الدهشة والحيرة.

وتأويل الفتنة في تفسير ابن عباس : هي الشرك في الدنيا ، لكن على تقدير مضاف : هو كلمة (عاقبة) أي أن أمر الشرك آل إلى نقيض المطلوب : وهو التبرؤ منه وتركه عند المحنة.

وما أحرج مواقف المجابهة بالحقائق وإظهار الكذب مواجهة ، فيا له من خزي وعار! وهذا ما قاله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي تأمل


وتعجب من كذبهم الصريح ، بإنكارهم الشرك ، وكذبهم باليمين الفاجرة بإنكار ما صدر عنهم.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ثم انظر وتأمل أيضا كيف ذهب عنهم أو غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك ، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوثه منهم.

ونظيره قوله تعالى : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا) [غافر ٤٠ / ٧٣ ـ ٧٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات مشهدين أو موقفين من مشاهد ومواقف الكفار.

المشهد الأول ـ أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون ما يدلّ على صفة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة أمره ، وصدقه ، ورسالته ، ولكنهم قوم معاندون ، خسروا أنفسهم وضيعوا مصالحهم الحقيقية.

المشهد الثاني ـ أن المشركين عبده الأوثان ومنهم الذين اتخذوا عيسى إليها أو أبنا لله هم قوم ظلمة ، لافترائهم الكذب على الله بأن نسبوا إليه ما ليس له ، ولتكذيبهم بالمعجزات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصدق محمد في نبوته.

ويحشر الجميع من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يوم القيامة ويسألون سؤال توبيخ وإنكار ، وسؤال إفضاح لا إفصاح عن الشركاء مع الله الذين زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله ، فما يكون قولهم أو معذرتهم أو حجتهم أو عاقبة شركهم إلا التبرؤ من الشرك. وهذا غاية الكذب ، إذ ظللوا أنفسهم وزعموا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى ، وكذب المنافقون باعتذارهم بالباطل ، وبكل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.


مواقف من عناد المشركين حول القرآن الكريم

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

الإعراب :

(مَنْ يَسْتَمِعُ مَنْ) : مبتدأ مرفوع ، وخبره : (مِنْهُمْ) ووحد الفعل : (يَسْتَمِعُ) لأنه حمله على لفظ (مَنْ). ولو حمل على المعنى لكان جائزا حسنا كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ).

(أَنْ يَفْقَهُوهُ) تقديره : كراهية أن يفقهوه ، فحذف المضاف. وقيل : تقديره : لئلا يفقهوه. (أَساطِيرُ) قيل : واحدها أسطورة ، وقيل : إسطارة ، وقيل : هو جمع الجمع واحدة أسطار ، وأسطار : جمع سطر بفتح الطاء ، كجمل وأجمال ، وجيل وأجيال.

البلاغة :

(وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) عبر بالأكنة في القلوب ، والوقر في الآذان ، وهو تمثيل بطريق الاستعارة ، لإعراضهم عن القرآن.

(يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم.

(يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ) بينهما جناس ناقص.

المفردات اللغوية :

(مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) إذا قرأت. (أَكِنَّةً) أغطية ، جمع كنان : وهو الغطاء ، كأسنة وسنان. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) ألا يفهموا القرآن. (وَقْراً) صمما وثقل سمع ، فلا يسمعونه سماع قبول. (آيَةٍ) علامة دالة على صدق الرسول. (يُجادِلُونَكَ) يخاصمونك وينازعونك. (أَنْ) ما. (هذا) القرآن. (أَساطِيرُ) أكاذيب وخرافات ، جمع أسطورة. (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي ينهون


الناس عن اتباع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) يتباعدون عنه ويعرضون ، فلا يؤمنون به. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) ما يهلكون بالنأي عنه إلا أنفسهم ؛ لأن ضرره عليهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٥):

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ) : قال ابن عباس : إن أبا سفيان بن حرب ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأمية ، وأبيا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ، ما يقول محمد؟ قال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول ، إلا أني أراه يحرك شفتيه يتكلم بشيء ، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأول ، وكان يحدث قريشا ، فيستملحون حديثه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

نزول الآية (٢٦):

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ ...) : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتباعد عما جاء به.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد أبي هلال قالت : نزلت في عمومة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا عشرة ، فكانوا أشد الناس معه في العلانية ، وأشد الناس عليه في السر.

قال مقاتل بعد ذكر رواية الحاكم : وذلك أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يردون سؤال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو طالب :


والله ، لا وصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ، ما عليك غضاضة

وأبشر وقرّ بذاك منك عيبونا

وعرضت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذاري سبّة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فأنزل الله تعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية (١).

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى أحوال الكفار في الآخرة وما يكونون عليه من اضطراب ، فمرة ينكرون الشرك ، وأخرى يقرون به ، أتبعه هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعضهم.

التفسير والبيان :

من هؤلاء الكفار فريق يجيء ليستمع إلى قراءتك القرآن ، والحال أنه لا تجزي عنهم شيئا ، ولا يستفيدون شيئا ؛ لأنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن ، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم ، كما قال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة ٢ / ١٧١]. أي إن إقامة الحواجز دون فهم القرآن وقبوله وتدبر معانيه ، كان بسبب التقليد الأعمى وإعراضهم الناشئ عن تصميم وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمل وإمعان ، ليميزوا بين الحق والباطل.

وهذا ما قررته الآية التالية : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها ، فلا فهم

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٣


عندهم ولا إنصاف ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال ٨ / ٢٣].

حتى إنهم إذا جاؤوك يحاجونك ويناظرونك في الحق وفي دعوتك قالوا : ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم ، وما هو إلا نوع من الترهات والخرافات والقصص الأسطورية التي تدون وتشغل أذهان العامة.

وهم بالإضافة إلى تكذيبهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد للقرآن ، ويبعدون هم عنه ، فيجمعون بين الفعلين القبيحين ، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع.

أو أن الآية نزلت في أبي طالب ، كان ينهى الناس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤذى أو أن يقتل ، ويتباعد عنه.

وعاقبة ذلك أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الصنيع ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، وهم لا يشعرون بذلك ، بل يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين ، إما في ساحات القتال كبدر وغيرها ، أو ببلاء ونقمة خاصة ، وسيتبعها هلاك الآخرة. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات عبرة وعظة بليغة تستوقف النظر والتأمل ، إذ ما أصعب حجب الحقائق عن الإنسان وتركه يتيه في ظلمات الأهواء ويتردد في موج الضلالات.

فهؤلاء الكفار أذكياء وزعماء يسمعون ويفهمون ، ولكن لما كانوا لا ينتفعون


بما يسمعون ، ولا ينقادون إلى الحق ، كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم.

وقد أخبر الله تعالى عن أوضاع عنادهم وردهم الآيات بغير حجة ؛ لأنهم لمّا رأوا القمر منشقا قالوا : هذا سحر ، ولمّا وجدوا القرآن معجزة سما ببلاغته عن فنون كلامهم وقولهم ، قالوا : هذا أساطير الأولين.

وموقف الكفار يجمع كل فصول القبح والاستغراب والاستهجان ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) عام في جميع الكفار ، ينهون عن اتباع محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينأون عنه ، فلا يكتفون بإعراضهم ، وإنما يصدون الناس عن دعوة الإسلام ، وهم بهذا ما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر ، وحملهم أوزار الذين يصدّونهم.

أما موقف أبي طالب فالله أعلم به ، والرواية المشهورة : ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله لعمه : «قل : لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لو لا تعيّرني قريش يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٢٨ / ٥٦].

حال المشركين أمام النار أو كيفية هلاكهم

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))


الإعراب :

(وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ) النصب فيهما بتقدير أن ، لتكون مع الفعل مصدرا ، فتعطف بالواو مصدرا على مصدر ، وتقديره : يا ليت لنا ردا وانتفاء من التكذيب وكونا من المؤمنين. والنصب على أنه جواب التمني ؛ لأن التمني ينزل منزلة الأمر والنهي والاستفهام في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة.

ويجوز فيهما الرفع : إما عطفا على (نُرَدُّ) فجعل كله مما يتمناه الكفار يوم القيامة ، فيكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء وهي : أن يردوا ، وألا يكونوا قد كذبوا ، وأن يكونوا من المؤمنين.

وإما الرفع على القطع والاستئناف ، فإنه يجوز في جواب التمني الرفع على العطف والاستئناف ، فلا يدخلان في التمني ، وتقديره : يا ليتنا نرد ، ونحن لا نكذب ، ونحن نكون من المؤمنين.

ويجوز رفع (نُكَذِّبَ) ونصب (نَكُونَ) والرفع على ما تقدم من العطف على (نُرَدُّ). والنصب يكون على جواب التمني على ما تقدم ، فيكون داخلا في التمني.

البلاغة :

(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تأكيد بمؤكدين هما : «إن» و «اللام» للإشارة إلى أن الكذب طبيعتهم.

المفردات اللغوية :

(إِذْ وُقِفُوا) عرضوا ، يقال : وقف على الشيء : عرفه وتبينه وجواب (لَوْ) محذوف تقديره في آخر الآية : لرأيت هولا أو عجبا أو مشقات ونحو ذلك. (بَدا لَهُمْ) ظهر لهم (يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) يكتمون ، بقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، بشهادة جوارحهم (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الشرك (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في وعدهم بالإيمان (وَقالُوا) أي منكرو البعث (إِنْ هِيَ) ما هي (بِمَبْعُوثِينَ) بعث الموتى : نشرهم ليوم البعث ، أي القيامة. ونشر الميّي : عاش بعد الموت.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وينأى عن طاعته ويبتعد عنه ، بأنهم يهلكون أنفسهم ، شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية ، وصدور بعض التمنيات منهم بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالح الأعمال ، ولكن الله كذبهم فيما يقولون.


التفسير والبيان :

يذكر الله تعالى حال الكفار إذا تبينوا يوم القيامة وعرفوا النار ، وشاهدوا أهوالها وفظائعها ، فلو رأيتهم أيها السامع وما بهم من هول وفزع لرأيت عجبا يصعب وصفه ، حين تعرضهم ملائكة العذاب على النار ، ثم يدخلونها ويعاينون شدتها ، فيندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا قائلين : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ...) أي يا ليتنا نرجع إلى الحياة الدنيا ، ولا نكذب بآيات الله وحججه الدالة على وحدانيته وصدق رسله ، ونؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين ، ونتوب من ذنوبنا ، ونعمل صالحا يرضي الله سبحانه.

فرد الله عليهم بقوله (بَلْ) للإضراب الإبطالي لهذا التمني ، وللإضراب عن إرادة الإيمان ، فحالهم لم تتغير ، وإنما ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة ، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة ، وتظهر حقيقتهم ؛ لأنهم كانوا يخفون الكفر ولا يبدونه ، أما المؤمن الحقيقي فيعلن إيمانه ولا يكتمه ، ويتحملون عاقبة كفرهم من العقاب الشديد ، كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٨] فهي لا تخفى على أنفسهم ولا على ربهم ، وقال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزمر ٣٩ / ٤٧ ـ ٤٨].

ثم كذّبهم الله صراحة في هذا الندم أو التمني ، فقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا ...) أي لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهاهم الله عنه من الكفر والعناد والنفاق والمعاصي ، فإن العصيان مستقر في أنفسهم ، فديدنهم العناد ، وطبعهم الكذب ، ولو ردّوا إلى الدنيا لأنكروا مرة أخرى البعث والحساب والجزاء ، وأقروا بحياة الدنيا ولم يؤمنوا بالآخرة ، وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط ، نعيش ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة ، بل لا


آخرة ، وما نحن بمبعوثين ، أي ما هذه إلا الحياة الدنيا ، ثم لا معاد بعدها. وهؤلاء هم الماديون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب.

فقه الحياة أو الأحكام :

الحقائق الإيمانية لا تتغير ولا تتبدل ، ولا بد من حدوثها ؛ فإن وعد الله حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وسرعان ما تنكشف هذه الحقائق ، ويفتضح الكفر والكفار ، وينالون عذاب النار ، فلو تراهم يعذبون في جهنم لرأيت أسوا حال ، أو لرأيت منظرا رهيبا هائلا ، أو لرأيت أمرا عجبا.

ولا يجدون مناصا أو مفردا من عذاب الله ، ويتخبطون ، ويتأملون ، ويتمنون العودة إلى دار الدنيا لتصحيح العقيدة وإصلاح العمل ، وترك التكذيب بآيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته ، وصدق رسله ، ليكونوا مع صف المؤمنين في الدنيا ، وفي حال أحسن من حالهم في الآخرة ، في جنان الله وروضاته. ولكنهم يتمنون هذا الشيء ضجرا وقلقا ، مع علمهم باليأس من العودة ، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لما كذبوا ولآمنوا ، فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان ، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه ، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا من النار.

وهم أمام العذاب وفي وسط النار يظهر لهم حقيقة ما كانوا يخفونه من الكفر والمعاصي ، ولو ردّوا لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك ؛ لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون ، وقد عاين إبليس رأس الكفر ما عاين من آيات الله ثم عاند.

ودل قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) على الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل ، وإنكارهم البعث ، كما دل على كذبهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ، ويكونون من المؤمنين.


وأرشد قوله تعالى : (وَقالُوا : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) إلى ما قالوا في الدنيا ، وإلى أنهم قوم ماديون ، لا يؤمنون بالآخرة ، ولو ردّوا لعادوا إلى الكفر ، واشتغلوا بلذة الحال ، فهم قوم معاندون ، أبت نفوسهم الأمارة بالسوء إلا المكث على الضلال والنفاق ، والمكر والكيد ، والكفر والمعاصي.

ألا فليتأمل العاقل مصير هؤلاء ، وما يؤول إليه حالهم من الاضطراب والقلق وتمني الخلاص من العذاب الشديد ، ولكن عدل الله يتنافى مع إعفائهم من العقاب ، ورحمته بالخلائق جعلته يحذرهم وينذرهم ما يلاقونه في المستقبل المنتظر.

حال المشركين أمام ربهم في الآخرة

وحقيقة الدنيا

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

الإعراب :

(وَلَوْ تَرى ...) : جواب (لَوْ) محذوف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن ، وتقديره : لعلمت حقيقة ما يصيرون إليه. و (عَلى رَبِّهِمْ) أي على سؤال ربهم ، فحذف المضاف.

(بَغْتَةً) منصوب على المصدر في موضع الحال. والهاء في (فِيها) تعود على (ما) لأنه يريد ب (ما) الأعمال ، كأنه قال : على الأعمال التي فرطنا فيها.


(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) : (ما) : نكرة في موضع نصب على التمييز بساء. وفي (ساءَ) : ضمير مرفوع يفسره ما بعده كنعم وبئس. وقيل : «ما» في موضع رفع بساء.

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) الدار : مبتدأ ، و (الْآخِرَةُ) : صفة له ، و (خَيْرٌ) : خبر المبتدأ. وقرئ ولدار الآخرة خير وتقديره : ولدار الساعة الآخرة خير ، ولا بد من هذا التقدير ؛ لأن الشيء لا يضاف إلى صفته ، فوجب تقدير موصوف محذوف ، وهذه الإضافة في نية الانفصال.

البلاغة :

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا اللعب واللهو نفسه مبالغة.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) الاستفهام للتوبيخ.

المفردات اللغوية :

(وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) عرضوا على الله ، لرأيت أمرا عظيما (قالَ) لهم على لسان الملائكة توبيخا (أَلَيْسَ هذا) البعث والحساب (بَلى وَرَبِّنا) إنه لحق (تَكْفُرُونَ) به في الدنيا كفروا بلقاء الله بالبعث (حَتَّى) غاية للتكذيب (السَّاعَةُ) القيامة : وهي موعد انقضاء أجل الدنيا والحياة وخراب العالم ، وبدء الحياة الأخرى (بَغْتَةً) فجأة (يا حَسْرَتَنا) هي شدة التألم والندم على ما فات ، ونداؤها مجاز ، أي هذا أو انك فاحضري (عَلى ما فَرَّطْنا) قصرنا مع القدرة على الفعل (فِيها) أي الدنيا.

(أَوْزارَهُمْ) جمع وزر : وهو الحمل الثقيل ، ويطلق شرعا على الإثم والذنب ، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره ، والمراد بقوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) تحمل مسئولية أفعالهم ، بأن تأتيهم ذنوبهم عند البعث في أقبح شيء صورة ، وأنتنه ريحا ، فتركبهم (أَلا ساءَ) بئس (ما يَزِرُونَ) يحملونه حملهم ذلك (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الاشتغال بها (لَعِبٌ) عمل لا يحقق نفعا ولا يدفع ضررا (وَلَهْوٌ) ما يشتغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، والمقصود أنه تعالى جعل أعمال الدنيا المحضة لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعني ، ولا يعقب منفعة دائمة ، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة ، أما الطاعة وكل ما يعين عليها فمن أمور الآخرة. (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الشرك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنوا.


المناسبة :

لما حكى الله تعالى عن الكفار إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة ، بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة ، ثم ذكر حقيقة الدنيا ومقارنتها بالآخرة.

التفسير والبيان :

ولو ترى حال المشركين حين تقفهم الملائكة بين يدي ربهم ، لوجدت هول أمرهم ، ورأيت أمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف.

وظاهر الآية غير مراد قطعا ؛ لأنه استعلاء على ذات الله تعالى ، وهو باطل بالاتفاق ، وإنما هذا من قبيل المجاز ، فهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه ، وهم موقوفون ومحبوسون بوساطة الملائكة ، امتثالا لأمر الله فيهم ، كما قال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٣٧ / ٢٤]. وعبر بهذا التعبير : (وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) للدلالة على أن أمرهم مقصور على الله ، لا يتصرف فيهم غيره.

ثم يناقشهم الله على لسان الملائكة قائلا لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟) أي أليس هذا المعاد بحق ، وليس بباطل كما كنتم تظنون.

أجابوا : بلى وربنا ، أي أنه الحق الذي لا شك فيه ، وأكدوا قولهم باليمين بالله ، فشهدوا على أنفسهم بكفرهم ، والمقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين.

فرد الله عليهم : ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه ، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت. وعبر بلفظ الذوق ؛ للدلالة على أنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به.

ثم أخبر تعالى بخبر عام : وهو خسارة من كذب بلقاء الله ، وخيبته إذا


جاءته الساعة بغتة ، وندامته على ما فرط من العمل للآخرة ، وما أسلف من قبيح القول. وسبب الخسارة : إنكار البعث والجزاء الذي يفسد الفطرة الإنسانية ، ويؤدي إلى الشر والإثم ؛ لأن هذا الإنكار يحصرهمّ الكافرين في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها ، والتنافس في متاعها ، والغرور بالمجد والاستعلاء والسلطة على الآخرين.

هؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة ، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم ، يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم على ظهورهم ، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة ، وبئس شيئا يزرون وزرهم ، كقوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٧]. قال ابن عباس : الأوزار : الآثام والخطايا. أما قوله : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) فمعناه :بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه.

ذكر ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي : أن الأعمال القبيحة أعمال الظالم تتمثل بصورة رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح ، يحمله صاحبه يوم القيامة. وعن عمرو بن قيس الملائي : تتمثل الأعمال الصالحة بصورة رجل حسن الصورة طيب الريح ، يحمله صاحبها يوم القيامة (١).

ثم جعل الله تعالى غالب أعمال الحياة الدنيا لعبا لا يفيد ، ولهوا يشغل عن المصلحة الحقيقية ، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل ، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة ، والآخرة خير وأبقى ، خير لمن اتقى الكفر والمعاصي ، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني ، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو ، وزوال ، ومزرعة للآخرة ، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١١٤


وقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات تقرير واقعي لحال من وقع في قبضة الحاكم الذي يقضي في جريمته ، وإذا كان الغالب على حال المتهمين الإنكار بين يدي قاضي الدنيا ، فإن المتهم إذا لم يجد مفرا من الإقرار بجريمته ، بادر إلى الاعتراف بكل ما عمل.

وهكذا شأن الكفار والمشركين إذا قدّموا للحساب بين يدي الله ، أدركوا ألا فائدة من الإنكار ، وحينئذ إذا سئلوا عن البعث والمعاد ، أقسموا بالله أنه حق ثابت ، فيكون الحكم الصادر في حقهم تنفيذ العقاب المقرر عليهم ، جزاء وفاقا على كفرهم.

والنقاش يحدث من قبل الملائكة ، تقول لهم بأمر الله : أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون : (بَلى وَرَبِّنا) إنه حق. ولا تناقض بين هذا التساؤل وبين قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) لأن السؤال يكون بواسطة الملائكة ، والمراد بقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) : أنه لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.

ودلت الآيات على توضيح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما ـ حصول الخسران للمكذبين بالبعث والقيامة والجزاء والحساب. والثاني ـ حمل الأوزار العظيمة على ظهورهم.

والمراد من الخسران : فوت الثواب العظيم وحصول العقاب الشديد وفي قولهم : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا) إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب ، أي أنهم قوم مقصرون. وقوله : (فِيها) أي في الصفقة ، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها ؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع ، بدليل قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة ٢ / ١٦].


وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب الشديد ، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران.

ودل قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) على قسمة أعمال الدنيا إلى قسمين : أعمال لا خير فيها ولا نفع ، وهي أمور الدنيا المحضة ، وهي الغالبة في أعمال الناس ، وأعمال الآخرة التي لا لهو فيها ولا لعب وهي أفعال المتقين الأخيار ، الذين عمروا دنياهم بصلاح الأعمال وخير الأقوال ، روى ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة ـ وقال : حديث حسن غريب ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا ملعونة ملعون. ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله ، أو أدّى إلى ذكر الله ، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر ، وسائر الناس همج لا خير فيه».

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها».

وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء».

ودل قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على أن الإنسان لا يفكر غالبا تفكيرا يتفق مع حقيقة مصلحته ، وإنما قد يرتكب ما يلحق بنفسه الضرر ، ودل أيضا على أن الزهد في الدنيا ، أي عدم استيلاء حبها على قلبه أمر مرغوب فيه.

وأشارت هذه الآية : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ..) إلى أن منكري البعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها ، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها ، ولكن يلاحظ أن هذه الحياة نفسها لا يمكن ذمها ؛ لأنها بإرادة الله وحكمته ، وخلقه وإيجاده ، ولأنه لا يمكن التوصل إلى السعادة الأخروية إلا فيها ، وإنما المقصود أن الذات الحياة الدنيا وطيباتها لا دوام لها ، ولا يبقى منها


عند انقراض الحياة إلا الحسرة والندامة ، كاللهو واللعب يلتذ به ، ثم بعد انتهائه لا يبقى منه إلا الندامة.

وأومأ قوله تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) بصدد مقارنتها بالحياة الدنيا إلى أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا ، وأن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة.

ونتيجة المقارنة بين الدنيا والآخرة يتبين منها أن سعادات الدنيا وخيراتها مشوبة بعيوب كثيرة ونقصانات عديدة ، وأن سعادات الآخرة مبرأة عنها ، مما يدل قطعا على أن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأحرى وأولى.

حزن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

الإعراب :

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بالتشديد ، أراد به : لا ينسبونك إلى الكذب ؛ لأنهم لا يعرفونك بذلك ، وإنما يعرفونك بالصدق ، وكانوا يسمونه «محمدا الأمين» قبل النبوة. وتقرأ بالتخفيف ، ومعناه : لا يصادفونك كاذبا ولا يجدونك كاذبا.


(مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ) : فيها وجهان : أحدهما ـ أن تكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره : ولقد جاءك مجيء من نبأ المرسلين ، ويكون الفعل (جاءَكَ) دالا على المصدر المحذوف ، وهذا مذهب سيبويه. والثاني ـ أن تكون زائدة ، وتقديره : ولقد جاءك نبأ المرسلين ، وهو مذهب الأخفش.

(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) إن : شرط ، وجوابه محذوف ، وتقديره : إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فافعل ذلك.

البلاغة :

(كُذِّبَتْ رُسُلٌ) نوّن كلمة (رُسُلٌ) للتكثير والتفخيم.

المفردات اللغوية :

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ) قد : للتحقيق ، وإنه : الضمير للشأن (لَيَحْزُنُكَ) الحزن : ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب ، أو حدوث مكروه. الذين يقولون لك من التكذيب (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في السر ، لعلمهم أنك صادق ، والتكذيب : الرمي بالكذب.

(بِآياتِ اللهِ) القرآن (يَجْحَدُونَ) الجحود : إنكار ما ثبت في القلب ، أو إثبات ما نفي فيه. (لِكَلِماتِ اللهِ) هي وعده ووعيده ، وعده للرسل بالنصر ، ووعيده لأعدائهم بالخذلان ، كما قال تعالى في إنجاز الوعد : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٣] وقال عزوجل في إنزال الوعيد : (أَمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر ٥٤ / ٤٤ ـ ٤٥] (نَبَإِ) النبأ : هو الخبر ذو الشأن العظيم (كَبُرَ) عظم وشق عليه وقعة (إِعْراضُهُمْ) الإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له ، والمراد : إعراضهم عن الإسلام ، وقد كبر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعراضهم لحرصه عليهم (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) صار في مقدورك باستكمال الأسباب التي تمكنك من فعله (أَنْ تَبْتَغِيَ) تطلب ما فيه كلفة ومشقة ، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله ، وفي الشر كابتغاء الفتنة (نَفَقاً) سربا في الأرض ، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج (أَوْ سُلَّماً) مصعدا أو مرقاة ، مأخوذ من السلامة ، لأنه الذي يسلمك إلى مكان صعودك ، وتذكيره أفصح من تأنيثه. (بِآيَةٍ) معجزة مما اقترحوا. المعنى : أنك لا تستطيع ذلك ، فاصبر حتى يحكم الله (وَلَوْ شاءَ اللهُ) هدايتهم (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ولكن لم يشأ ذلك ، فلم يؤمنوا (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) بذلك ، الجهل هنا : ضد


العلم ، وليس كل جهل عيبا ؛ لأن الإنسان محدود العلم ، وإنما العيب بجهل ما يجب عليه علمه ، أو ما ينبغي عليه معرفته من الكمال في حقه.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٣):

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) : روى الترمذي والحاكم عن علي : أن أبا جهل قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). وهذا مروي أيضا عن أبي ميسرة.

وقال السّدّي : التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري ، فقال أبو جهل : والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة ، فما ذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا فإن الروايتين متفقتان على أن الآية قد نزلت في أبي جهل.

وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، كان يكذب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلانية ، وإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد من أهل الكذب ، ولا أحسبه إلا صادقا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

المناسبة :

الآيات استمرار في مناقشة الكفار ومشركي مكة ودعوتهم إلى الإسلام ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٣ ، أسباب النزول للسيوطي.


ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث. ناقش الله تعالى أولا فريقا من الكفار ينكر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان ينكر رسالة البشر ، ويطلب أن يكون الرسول من جنس الملائكة. ثم ناقش ثانيا فريقا آخر ينكر البعث والحشر والنشر بعد الموت ، ثم ذكر هنا الرد على من كان يؤذي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول ، متهما إياه بالكذب في الظاهر ، أو أنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.

التفسير والبيان :

يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له ، ومخالفتهم إياه ، وإيلامه بالإعراض عن دعوته ، فيقول : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم ، كما جاء في قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦] و (باخِعٌ نَفْسَكَ) أي مهلكها ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٣٥ / ٨].

ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر : هو العناد والجحود ، كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ..) أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع ، فأنت الصادق الأمين في نظرهم ، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة ، ولكنهم يعاندون الحق ، ويجحدون بآيات الله ، ويردونها بصدودهم.

روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقي أبا جهل فصافحه ، فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال : والله ، إني لأعلم إنه لنبي ، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

وقال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.

هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه ،


كل منهم يعلم حقيقة أن محمدا رسول الله ، ولكنهم يعارضون الحق ويقاومونه عنادا منهم واستكبارا وحفاظا على مراكزهم بين الناس.

لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم ، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم ، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا ، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة ، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين ، كما نصر رسله الكرام السابقين.

ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل ، فقال : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده ، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين ، وكذا وعيده لا حق بالكافرين ، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات.

ونظير هذه قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [فاطر ٣٥ / ٤] وقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) [الحج ٢٢ / ٢].

والآية تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تسلية ، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم ، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٥] وقال أيضا : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١٠].

وقد تحقق فعلا أثر الصبر ، ونجحت دعوة الإسلام ، وانتشرت في المشارق والمغارب ، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا ؛ لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب ، ويؤذن بالفرج : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الانشراح ٩٤ / ٥ ـ ٦].


ثم أكدّ لله تعالى عدم تبديل كلماته بقوله : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد أخبرناك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ثم نصر الله لهم كما قال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر ٤٠ / ٥١] وقال أيضا : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم ٣٠ / ٤٧] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين ، كما قال تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج ٢٢ / ٤٠] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧].

وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب إعراض قومه عن دعوته ، فقال له : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ ...) أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك ، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض ، فتسير فيه ، أو سلّما في أجواء السماء ، فترقى فيها إلى ما فوقها ، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك ، فأت بها ، ولكنك مجرد رسول من عندنا ، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا ، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عزوجل.

ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما : تفجير ينبوع في الأرض ، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك ، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ، قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي ، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٠ ـ ٩٣] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر ، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.


كل ذلك مرهون بإرادة الله ومشيئته ، فلو شاء الله تعالى هدايتهم ، لهداهم ، بأن يخلق فيهم الإيمان كالملائكة ، أو بأن يخلقهم مستعدين للإذعان للحق والإقرار بهدايات الرسل وما جاؤوا به من خير للعالم ، ولكن شاء الله اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم ، كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس ١٠ / ٩٩] وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ...) [هود ١١ / ١١٨ ـ ١١٩].

قال ابن عباس في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.

وإذا عرفت يا محمد سنة الله في خلق الإنسان ، وأنه لا تبديل لخلق الله ، فلا تكونن أحد الجاهلين لسننه في ذلك ، فتتأمل ما يكون مخالفا تلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.

فقه الحياة أو الأحكام :

الحقيقة المستقرة في أذهان الكفار الذين عادوا دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صادق أمين ، ما عرفوا عليه كذبا ولا خيانة ، لذا فإنهم لا ينسبون إليه الكذب في الأمر الواقع نفسه ، ولكنهم يزعمون أن ما جاء به من أخبار الغيب والإيمان بالبعث والجزاء كذب غير واقع. قال الرازي : ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، ثم ذكر أربعة وجوه في نفي التكذيب وإثبات الجحود وهي :

١ ـ إنهم ما كانوا يكذبونه في السر ، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ، ويجحدون القرآن والنبوة.


٢ ـ إنهم لا يقولون : إنه كذاب ؛ لأنهم جربوه الدهر الطويل ، وما وجدوا منه الكذب البتة ، وسموه بالأمين ، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة ، واعتقدوا أنه تخيل كونه رسولا من عند الله.

٣ ـ إن القوم ما كذبوك ، وإنما كذبوني ، لأن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل ، فهم بالرغم من ظهور المعجزات المؤيدة لدعواه ، كذبوه ، فكان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له.

٤ ـ إنهم لا يخصونك بالتكذيب ، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ، ويقولون في كل معجزة : إنها سحر ، فهم بهذا يكذبون جميع الأنبياء والمرسلين (١).

أما المواساة والتسلية للنبي وأمره بالصبر كما أمر جميع الرسل فهي أمور ضرورية للنجاح والغلبة. وفي الآية بشارة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على القوم المكذبين الظالمين.

ولا تبديل لوعد الله بالنصر لرسله والمؤمنين ، ووعيده للكافرين والفاسقين والعصاة ، فذلك مبدأ عام اقتضاه العدل والحكمة وضرورة التفرقة بين الطائعين والمخالفين.

وأما محاولات تحقيق مطالب واقتراحات المشركين عن غير طريق الله ، على سبيل الافتراض ، فإنها فاشلة خائبة ؛ لأن كل معجزة تظهر على يد نبي أو رسول تكون بإرادة الله وإذنه ، ولو لا ذلك لما حدثت.

وأمر الهداية مرجعه إلى الله ، فلو شاء لهدى الناس جميعا ، بأن خلقهم مؤمنين وطبعهم عليه ، وكذلك كفرهم بمشيئة الله.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥


فلا تكونن أيها الرسول بحرصك على إسلام قومك ، ومحاولة تلبية مطالبهم وتنفيذ مقترحاتهم من الجاهلين بسنن الله في خلقه ، ولا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين.

ولا يشتد حزنك عليهم إذا كانوا لا يؤمنون ؛ لأنك لا تستطيع هدايتهم.

رفض المشركين دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومطالبتهم بتنزيل آية

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

الإعراب :

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) : (الْمَوْتى) : في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه (يَبْعَثُهُمُ) وتقديره : يبعث الله الموتى يبعثهم ، كقولهم ، مررت بزيد وعمرا كلمته. أي وكلّمت عمرا كلمته ، فتكون قد عطفت جملة فعلية على جملة فعلية ، فيكون معطوفا على قوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ). ويجوز أن يكون (الْمَوْتى) في موضع رفع ، كقولهم : مررت بزيد وعمرو كلمته ، والوجه الأول وهو النصب أوجه.

البلاغة :

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فيه استعارة ؛ لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم.

المفردات اللغوية :

(يَسْتَجِيبُ) دعاءك إلى الإيمان ، يقال : أجاب الداعي واستجاب له ، واستجاب دعاءه : لبّاه وقام بما دعاه إليه تدريجيا ، والفرق بين يستجيب ويجيب أن الأول فيه قبول لما دعي إليه والثاني قد يكون بالمخالفة. (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم واعتبار (وَالْمَوْتى) أي الكفار ، شبههم بهم في عدم السماع (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) في الآخرة (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يردون ، فيجازيهم بأعمالهم.


(وَقالُوا) أي كفار مكة (لَوْ لا) هلا وهي تفيد الحث على حصول ما بعدها (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الآية : المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه كناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن نزولها بلاء عليهم ؛ لأنهم سيهلكون إن جحدوها.

المناسبة :

نزلت هذه الآية بعد وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد ، ولمّا بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن الناس صنفان متفاوتان في الاستعداد لقبول الهداية الإلهية : صنف يختار الهدى على الضلال ، وصنف بالعكس ، بيّن هنا أن الصنف الأول : هم الذين يسمعون الدلائل والبينات سماع تدبر وفهم ، وأن الصنف الثاني : لا يفقهون ولا يسمعون ، وإنما هم كالأموات.

التفسير والبيان :

لا يكبر عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك ؛ فإنه لا يستجيب لدعائك إلا الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر ووعي ، فيصغون إلى الحق ويتبعون الرشاد.

أما الكفار المعرضون الذين تحرص على أن يصدقوك : فهم في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا ، ولا يعقلون دعاء ، ولا يفقهون قولا ؛ لأنهم لا يتدبرون حجج الله ، ولا يعتبرون آياته ، ولا يتذكرون ، فالسبب في عدم قبولهم الإيمان وعدم تركهم الكفر أنهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا فيما أنزل الله ، فصاروا بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، أي إنهم موتى القلوب ، فشبههم الله بأموات الأجساد.

والقصد من قوله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) إيراد مثل لقدرته تعالى على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ، ثم إليه يرجعون للجزاء ، فالله وحده القادر على إحيائهم بالإيمان ، وأنت لا تقدر على هدايتهم.


ومن مظاهر عنادهم : مطالبتهم بإنزال آية من ربهم خارقة للعادة ، كالناقة والعصا والمائدة ، وتفجير الينابيع ، وإنشاء البساتين المخضرة المحفوفة بأشجار النخيل والعنب ، وإسقاط السماء قطعا عليهم ، والإتيان بوفد أو جماعة من الملائكة ، وإيجاد بيت من زخرف ، وإنزال كتاب من السماء.

فرد الله عليهم بقوله : (قُلْ : إِنَّ اللهَ قادِرٌ ...) أي قل لهم أيها النبي : إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا ، ولكن حكمته تقتضي تأخير ذلك ، لأنه لو أنزلها على وفق ما طلبوا ، ثم لم يؤمنوا ، لعاجلهم بالعقوبة ، كما فعل بالأمم السابقة ، كما قال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ، فَظَلَمُوا بِها ، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء ١٧ / ٥٩] وقال : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٤].

ومعنى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية ، ولكن حكمته اقتضت صرفه عن إنزالها ، وأكثر هؤلاء القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب ، فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم ، ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة ، وحينئذ يعطيهم الله المطلوب على أكمل الوجوه ، فإنزال آية مما اقترحوا يكون سببا في هلاكهم إن لم يؤمنوا.

يعني أن طلبهم آية مادية مع وجود هذه الآيات البينات القرآنية إنما هو محاولة تعجيز الرسول ، فلو فرض حدوثها لما آمنوا ولقالوا : إنها سحر ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام ٦ / ٧] وقالوا : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ، وَيَقُولُوا : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر ٥٤ / ٢].


فقه الحياة أو الأحكام :

الاستجابة لدعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتطلب سماع آيات القرآن سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق ، وهذا منهج المؤمنين الذين يقبلون ما يسمعون ، فينتفعون به ويعملون.

أما الإعراض عن الدعوة فمنشؤه تعطيل طاقات الحواس ، فهم لا يسمعون سماع تدبر ، ولا يتفهمون الآيات فهم إمعان وروية ، فصاروا كأنهم موتى لموت قلوبهم ، لا موتى أجساد ، وهذا سبيل الكفار.

وأما مطالبتهم تنزيل آية مادية محسوسة من ربهم فليس إلا تعنتا بعد ظهور البراهين ، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله ، لما فيه من الإخبار بالمغيبات ، وسلامته من التناقض ، وسمو نظمه.

ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله عزوجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده ، ولا ينزل آية بسبب الطلب المتعنت المتعصب ، أو لتعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه لا يقدر على شيء من إنزال الآيات أو غيرها إلا بمشيئة الله وإرادته.

كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التفريط بشيء في القرآن

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))


الإعراب :

(ما مِنْ دَابَّةٍ) و (ما مِنْ شَيْءٍ) من في المكانين : صلة زائدة تفيد التأكيد.

البلاغة :

(يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أكد الطيران بالجناحين وهو لا يكون عادة إلا بهما ، لدفع توهم المجاز ، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ). (صُمٌّ وَبُكْمٌ) تشبيه بليغ ، أي كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام ، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.

المفردات اللغوية :

(دَابَّةٍ) الدابة : كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان. والدبّ : المشي الخفيف (طائِرٍ) الطائر : كل ذي جناح يطير في الهواء ، وجمعه طير. (أُمَمٌ) جمع أمة ، وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل أو زمان أو مكان. والمقصود من قوله : (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أنها كالإنسان في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها (ما فَرَّطْنا) ما تركنا ، التفريط في الأمر : التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت (فِي الْكِتابِ) هنا : اللوح المحفوظ (يُحْشَرُونَ) الحشر : الجمع والسّوق ، وبعد الحشر يقضي الله بينهم ، ويقتص للجماء من القرناء ، ثم يقول لأنواع الحيوان : كونوا ترابا. (بِآياتِنا) القرآن (صُمٌ) عن سماعها سماع قبول (وَبُكْمٌ) عن النطق بالحق (فِي الظُّلُماتِ) المراد هنا الكفر (صِراطٍ) طريق ، والطريق المستقيم : هو دين الإسلام.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنه قادر على إنزال الآيات وسائر المعجزات وأنه لو كان إنزالها مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها ، ذكر الدليل على ذلك : وهو رعايته وعنايته ورحمته وفضله على كل ما يدب على الأرض ، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات ، لم يبخل بإظهار هذه المعجزات لو كان فيها مصلحة للمكلفين.

التفسير والبيان :

لا يوجد نوع من أنواع الدواب والطيور إلا وهي أمم مخلوقة أمثالكم أيها الناس وهي أيضا أصناف مصنفة مثلكم ، لها أرزاقها وآجالها ونظامها وأحوالها


وطبائعها ، والله تعالى يدبرها ويرعى شأنها ويحسن إليها.

وخص دواب الأرض بالذكر ؛ لأنها المرئية للكفار ، أما ملكوت السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده ، وفيه من الكائنات الحية ما لا يدرك حقيقته إلا الله ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) [الشورى ٤٢ / ٢٩].

ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب : وهو اللوح المحفوظ : (وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة) أي أن علم جميع المخلوقات عند الله ، ولا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره ، سواء كان في البر أو في البحر أو في الجو ، كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود ١١ / ٦]. والأظهر عند الرازي وجماعة : أن المراد بالكتاب : القرآن ؛ لأن اللام للعهد السابق ، والمعهود السابق : هو القرآن.

ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة ، ويجازي كلا منها ، كما قال : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير ٨١ / ٥]. روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال : «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال : لا ، قال : «لكن الله يدري وسيقضي بينهما». وذكر عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة». وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا ، فلذلك يقول الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ ٧٨ / ٤٠].


أما الكافرون الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على الوحدانية وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم : وهو الذي لا يسمع ، أبكم : وهو الذي لا يتكلم ، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول : ولا ينطقون بما عرفوا من الحق ، وهم يتخبطون في ظلمات : ظلمة الشرك والوثنية ، وظلمة عادات الجاهلية ، وظلمة الجهل والأمية ، فكيف يهتدي مثل الأصم والأبكم إلى الطريق ، أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ، ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة ٢ / ١٧ ـ ١٨] فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكير فيه.

والله هو المتصرف في خلقه بما شاء ، فمن شاء إضلاله أضله ولم يلطف به ؛ لأنه ليس من أهل اللطف ، ومن شاء هدايته لطف به ، وهداه إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام ؛ لأنه من أهل اللطف. والقول باللطف مذهب المعتزلة.

فالإضلال والهداية بمشيئة الله حسب علمه أزلا بالمخلوقات ، فمن أضله فلإعراضه عن دعوة الله الحق ، واستكباره عن النظر في الدلائل الموصلة إلى الرشاد ، ومن هداه ، أي وفّقه إلى التفكير الجادّ واستخدام السمع والبصر والفؤاد أي العقل ، فلأنه نظر نظرة مستقلة ، دون تأثر بعوامل التقليد الموروثة.

فقه الحياة أو الأحكام :

الله قادر على كلّ شيء ، رحيم بالمخلوقات ، فكل الدواب والطيور جماعات مثل الجماعات الإنسانية ، في أن الله خلقهم ، وتكفّل بأرزاقهم ، فلا ينبغي أن تظلموهم ، أو تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به ، قال الزجاج في قوله : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص.

وهذا يرشدنا إلى ضرورة البحث والدرس في طبائع الحيوان ، والاستفادة


منها ، فإن جميع ما في الأرض مخلوق لمصلحتنا ومنفعتنا.

ودل قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي للجزاء على أن البهائم تحشر كما يحشر الناس يوم القيامة ، روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء ـ التي لا قرن لها ـ من الشاة القرناء».

ودل قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ) أن كل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها ، والكفار لا يهتدون ولا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم ، وهم في ظلمات الكفر يتيهون.

وأرشد قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ ...) إلى أن الضلالة والهداية إلى الإسلام بمشيئة الله ، على وفق علمه وحكمته واطلاعه الأزلي على حال كل إنسان ، والله شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله ، ولكن لم يأمره به ، وإنما دعاه إلى الإيمان ، وأراد هداية المؤمن القائم على دين الإسلام ، لينفذ فيه فضله. والمشيئة في الآية راجعة إلى الذين كذبوا ، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.

قال الرازي : وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة ، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. ومشيئة الهدى والضلال ، وإن كانت مجملة في هذه الآية ، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات ، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات (١) ، أي أن المجمل الغامض يفسر في ضوء الواضح المعلل.

وأما دلالة قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فهي تختلف باختلاف القولين في تفسير الكتاب ، فعلى القول بأن المراد منه : الكتاب المحفوظ في

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٢٢١ ، وانظر أيضا : ٢ / ٤٨ ـ ٥٣


العرش ، تكون الآية دالة على إحاطة علم الله بجميع أحوال المخلوقات كلا وتفصيلا تاما ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني : «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». وعلى القول الثاني الذي استظهره الرازي بأن المراد منه القرآن ، تكون الآية دالة على كمال الشريعة وإحاطة القرآن بجميع أصول الأحكام ومبادئ الإسلام وأخلاق الدين.

اللجوء إلى الله وحده في الشدائد

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

الإعراب :

(قُلْ : أَرَأَيْتَكُمْ) التاء هنا : ضمير مرفوع متصل في موضع رفع فاعل ، والكاف والميم لمجرد الخطاب ، ولا موضع لهما من الإعراب.

(مِنْ قَبْلِكَ مِنْ) : صلة زائدة.


البلاغة :

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) فيه قصر صفة على موصوف ، أي لا تدعون غيره لكشف الضر.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ) كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتَكُمْ) أي أخبروني ، وهو أسلوب عربي يفيد التعجب والاستغراب مما يأتي بعده (السَّاعَةُ) القيامة المشتملة على العذاب بغتة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي يزيل ما تدعونه إلى أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه (إِنْ شاءَ) كشفه (وَتَنْسَوْنَ) تتركون (ما تُشْرِكُونَ) به من الأصنام فلا تدعونه. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) رسلا فكذبوهم (بِالْبَأْساءِ) بالشدة والعذاب والقوة وشدة الفقر ، وتطلق أيضا على الحرب والمشقة ، والبأس : الشدة في الحرب (وَالضَّرَّاءِ) من الضر : ضد النفع ، وهو المرض (يَتَضَرَّعُونَ) يتذللون ، والتضرع : إظهار الضراعة والخضوع بتكلف (مُبْلِسُونَ) متحسرون يائسون من النجاة (دابِرُ الْقَوْمِ) آخرهم الذي يكون في أدبارهم.

المناسبة :

بعد أن أوضح الله تعالى غاية جهل أولئك الكفار ، وأن علمه تعالى محيط بما في الكون ، أبان شيئا آخر من حال الكفرة وهو أنه إذا نزلت بهم بلية أو محنة ، فإنهم يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه ، ولا يتمردون على طاعته ، وذلك تأثرا منهم بالفطرة التي أودع فيها توحيد الله والحاجة إليه.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه الفعال لما يريد ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، وأنه لا معقب لحكمه ، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه ، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء.

قل أيها الرسول للمشركين : أخبروني إن أتاكم عذاب الله ، مثل الذي نزل


بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف ، والريح الصرصر العاتية ، والصاعقة ، والطوفان ، أو أتتكم القيامة بأهوالها وخزيها ونكالها ، أتدعون غير الله لكشف ما نزل بكم من البلاء؟ أم تدعون آلهتكم الأصنام التي تفزعون إليها ، إن كنتم صادقين في اتخاذكم آلهة معه؟

ثم أجابهم عن هذا التساؤل الموجّه للتبكيت والإلزام بقوله : (بَلْ) للإبطال لما تقدم. والجواب أنكم في وقت الشدة والمحنة والضرورة لا تدعون أحدا سوى الله ، فأنتم تدعونه لكشف وإزالة ما نزل بكم من الضرر ، وهو يكشف ذلك على وفق حكمته ومشيئته ، وتنسون ما تشركون أي تتركون آلهتكم ، ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله ، كقوله عزوجل : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء ١٧ / ٦٧] وقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٥] وقوله : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) [لقمان ٣١ / ٣٢].

وذلك أن الله تعالى أودع في فطرة الإنسان التوحيد والإذعان للخالق الحقيقي ، الباهر القدرة الذي تفوق قدرته كل شيء ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأما الشرك فهو شيء عارض موروث في الأقوام البدائية ، حتى إذا نزلت المحنة تضرعوا إلى الله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم ٣٠ / ٣٠].

ثم ضرب الله المثل بالأمم السابقة وعقد قياسا للعبرة ، وللإعلام بأن من سنته التشديد على عباده ، ليرجعوا عن غيهم ، ويعودوا إلى رشدهم فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا ...) أي لقد أرسلنا رسلا إلى أمم قبلك ، فدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله ، فلم يستجيبوا لهم ، فاختبرناهم بالبأساء والضراء ، أي بالفقر وضيق العيش ،


والمرض والسقم والألم ، لعلهم يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون ؛ إذ الشدائد تصقل النفوس ، وتنبت الرجال وتهذب الأخلاق. وهذه الآية متصلة بما قبلها اتصال الحال بحال قريبة منها ؛ لأن المشركين سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم ، فكانوا متعرضين لأن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم.

ثم أكد تعالى الحض على التضرع فقال : فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وظهرت بوادر العذاب ، ولكن لم يفعلوا وقست قلوبهم ، أي ما رقّت ولا خشعت ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، فلم يعتبروا ، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشرك والفجور والمعاندة والمعاصي ، ووسوس لهم بان يبقوا على ما كان عليه آباؤهم.

ثم نزل بهم العقاب مقرونا ببيان سببه وحيثياته ، فقال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا (١) ..) أي لما أعرضوا عما ذكّرهم به رسلهم من الإنذار والبشارة ، وتناسوه ، وجعلوه وراء ظهورهم ، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم ، فتحنا عليهم أبواب الرزق وألوان رخاء العيش والصحة والأمن وغير ذلك مما يختارون ، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد والأرزاق ، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال ، فإذا هم آيسون من النجاة ومن كل خير.

فهلك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإبقاء على الشرك واستوصوا ، فلم يبق منهم أحد ، والثناء الخالص لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته ، ومعاقبة أهل الكفر والفساد. وهذا يشير إلى أن إبادة المفسدين نعمة من الله ، وأن في الضراء والبأساء عبرة وعظة ، وأن الانغماس في الترف وسعة المعيشة قد يكون استدراجا ومقدمة للعقاب ، وأن ذكر الله واجب في خاتمة كل أمر.

__________________

(١) ليس المراد به النسيان الغالب على الإنسان ، وإنما بمعنى تركوا ما ذكّروا به.


روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج». ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ...) الآية. وفي رواية الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان : «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب ، وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك منه استدراج».

أما المؤمن فلا يغتر بالنعمة ويصبر عند النقمة ، روى مسلم عن صهيب مرفوعا : «عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له».

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية : (قُلْ : أَرَأَيْتَكُمْ ...) حجة دامغة للمشركين ، وهي مثل بارع في محاجّتهم ومجادلتهم ، فهم عند الشدائد يرجعون إلى الله ، وسيرجعون إليه يوم القيامة أيضا ، فلم هذا الإصرار على الشرك في حال الرفاهية؟! مع أنهم في وقت الشدة يتناسون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب ، وهذا دليل على اعترافهم به. ومن رحمة الله تعالى بعباده تذكيره بأحوال الأمم السابقة للعبرة والعظة ، وأنه يؤدب عباده بالبأساء (المصائب في الأموال) والضّراء (المصائب في الأبدان) وبما شاء : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٣]. من أجل أن يرجعوا عما هم عليه من كفر وعصيان ، ويثوبوا إلى رشدهم.

ولكن العناد يصحب الكفر غالبا ، لذا عاتب الله تعالى الكفار على ترك الدعاء ، وأخبر عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب ، وربما تضرعوا بغير إخلاص ، أو حين مباشرة العذاب ، وهو غير نافع لهم حينئذ.

ويفهم من ذلك أن الدعاء مأمور به في حال الرخاء والشدة ، قال الله


تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٦٠] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ـ أي دعائي ـ (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠] وهذا وعيد شديد.

وأما وجود العناد من الكفار فدل عليه قوله تعالى : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي صلبت وغلظت ، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية. وهم في ذلك متأثرون بالشيطان : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها.

والإنعام على عبد ليس دليل الرضا عليه ، وإنما إذا وجدت النعمة مع البقاء على المعصية ، كان ذلك استدراجا من الله تعالى ، كما قال : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم ٦٨ / ٤٥]. قال بعض العلماء : رحم الله عبدا تدبر هذه الآية : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً). وقال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وقال الحسن البصري : والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا ، فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه ، وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها ، إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه».

وإن تدمير الأقوام وإهلاك الأمم مأساة في عرفنا ، ولكن في تقدير الله عبرة وعظة حتى لا يستشري الفساد. وتضمنت آية (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ ...) على وجوب ترك الظلم ؛ لما يؤدي إليه من العذاب الدائم ، وتضمنت أيضا وجوب حمد الله تعالى الذي يعاقب الظلمة ، حتى لا يدوم الفساد ، وينضب عنصر الخير.


من أدلّة القدرة الإلهية والوحدانيّة ومهام الرّسل المرسلين

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

الإعراب :

(مَنْ إِلهٌ مَنْ) : مبتدأ ، و (إِلهٌ) خبره ، و (غَيْرُ) صفة له. (يَأْتِيكُمْ بِهِ) الهاء تعود على معنى الفعل أي ما أخذ منكم.

(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَمَنْ) : مبتدأ ، وخبره : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ودخلت الفاء في خبر المبتدأ ؛ لأن (فَمَنْ) اسم موصول بالفعل بمنزلة الذي ، كما تقدّم.

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (خَتَمَ) طبع. (نُصَرِّفُ) نبين ونكرر على وجوه مختلفة. (الْآياتِ) الدّلالات على وحدانيتنا. (يَصْدِفُونَ) يعرضون عنها فلا يؤمنون. (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) ليلا أو نهارا. (الظَّالِمُونَ) الكافرون ، أي ما يهلك إلا هم.

(مُبَشِّرِينَ) من آمن بالجنة. (وَمُنْذِرِينَ) من كفر بالنار. (يَمَسُّهُمُ) المسّ : اللمس باليد ، ويطلق على ما يصيب الإنسان بما يسيء غالبا من ضرّ أو شرّ. (يَفْسُقُونَ) يخرجون عن الطاعة.


المناسبة :

الآيات متصلة بما قبلها في موضوع واحد ، وهو إثبات القدرة الإلهية ، وإقامة الدليل على وجود الله وتوحيده ، وبيان مهام الرّسل أو وظائفهم ، مما يؤدي إلى إبطال الشرك وعبادة الأصنام.

التفسير والبيان :

قل أيها الرّسول لهؤلاء المشركين المكذبين المعاندين : أخبروني عما أنتم فاعلون إن سلبكم الله نعمة السمع والبصر ، والفؤاد ، فالسمع مفتاح المعرفة والتّفاهم مع الآخرين ، والبصر لرؤية الأشياء والتّحكّم فيها والسّيطرة عليها ، والقلب أو الفؤاد محلّ الحياة والعقل والعلم ، فلو تعطلت هذه القوى اختلّ أمر الإنسان وضاعت مصالحه في الدّنيا والدّين. وإذا كان الله هو المنعم بهذه النّعم ، وجب أن لا يستحق التّعظيم والثّناء والعبوديّة إلا الله تعالى.

والختم على القلب : الطّبع عليه ، بحيث يصبح غير قابل لنفاذ الهداية إليه ، ولا لتعقل الأمور وإدراك النّفع والضّرر ، والحقّ والباطل.

وقوله : (يَأْتِيكُمْ بِهِ) معناه يأتيكم بما أخذ منكم ، أي لا إله غيره يأتيكم بما سلب منكم.

انظر كيف نبيّن الآيات ، ونوضّحها ، ونفسّرها ، ونكررها بألوان مختلفة وأساليب متعدّدة ، من إعذار وإنذار ، وترغيب وترهيب ، ونحو ذلك ، دالّة على أنه لا إله إلا الله ، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال ، فلو كان ما تعبدونه آلهة تنفع أو تضرّ لردّت عليكم هذا ، وإن كنتم تعلمون أنها لا تقدر على شيء ، فلما ذا تدعونها ، والدّعاء عبادة ، والعبادة لا تكون إلا لله الواحد القهّار.

وانظر كيف يصدفون أي يعرضون ، وقل لهم أيها الرّسول : أخبروني إن


أتاكم عذاب الله بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به ، أو جهرة أي ظاهرا عيانا تعاينونه وتنظرون إليه ، أخبروني ماذا أنتم فاعلون؟ ولا يهلك إلا الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك بالله ، وأصرّوا على الكفر والعناد ، أي إنما يحيط العذاب بالظالمين أنفسهم بالشّرك بالله ، وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له.

ثم بيّن وظائف الرّسل فقال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ ..) أي إنّ مهمة الرّسل محصورة ببشارة المؤمنين بالجنة والخيرات ، وإنذار من كفر بالله بالنار والعقوبات ، ثم بيّن مصير الفريقين :

فمن صدّق الرّسل وآمن بقلبه بما جاؤوا به ، وأصلح عمله باتباعه إياهم فلا خوف عليهم في المستقبل من عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله ، على ما فاتهم في الماضي ، وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدّنيا ؛ لأن الله يحفظهم من كلّ فزع ، كما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ، هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٣] ، ولا يحزنون في الدّنيا مثل حزن المشركين في شدّته وطول مدّته ، وإنما يصبرون على ما أصابهم ، ويلتمسون الأجر عند الله ، ويتأملون العوض منه ، لأن الله تعالى أرشدهم للشكر عند النعمة والصبر عند النقمة ، وتفويض الأمر للخالق ، كما قال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد ٥٧ / ٢٢ ـ ٢٣].

ومن كذب بآيات الله التي أرسلنا بها الرّسل ، ينالهم العذاب بما كفروا وجحدوا بما جاءت به الرّسل ، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته ، وارتكبوا المنهيّات المحظورات ، وكان جزاء كفرهم وفسادهم في الدّنيا بأنواع النّقمة ، وفي


الآخرة بألوان الغضب والسّخط في جهنم. أما خير الدّنيا الذي ينعم به الكافر فمتاع قليل ، وشيء تافه حقير إذا قورن بخير الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

الله الذي خلق الخلق ، وزوّدهم بمفاتيح المعرفة من السّمع والبصر والعقل ، قادر على أن يسلبهم إيّاها ، وإذا سلبت من يستطيع تعويضهم عنها؟ لا أمل بغير الله. وإذا عذبوا فجأة أو عيانا ظاهرا بسبب كفرهم ومعاصيهم ، فإن عدل الله يقتضي ألا يهلك إلا الظالمين أنفسهم بالشّرك بالله ، وينجي المؤمنين الأتقياء من ذلك العذاب.

ووظائف الرّسل محصورة بالتبشير والإنذار ، أي بالترغيب والترهيب ، قال الحسن البصري : مبشرين بسعة الرّزق في الدّنيا والثواب في الآخرة ؛ يدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف ٧ / ٩٦].

والإنسان وحده هو الذي يسجّل لنفسه ما يستحق من نعمة أو نقمة ، فإذا آمن بالله ربّا وأصلح عمله ، حظي بالأمان والسعادة والسرور ، وإذا كذّب بآيات الله المنزلة على رسله ، مسّه العذاب بكفره وفسقه.

انحصار مصدر علم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي ومهمته في الإنذار

وطرد الضعفاء

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى


رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

الإعراب :

جملة (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌ) حال من ضمير (يُحْشَرُوا) بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. (بِالْغَداةِ) إنما دخلت الألف واللام على «الغداة» لأنها نكرة عند جميع العرب. وأما غدوة فأكثر العرب يجعلها معرفة ويمنعها من الصّرف. ومنهم من يجعلها نكرة ويصرفها.

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) من الأولى للتبعيض ، ومن الثانية زائدة. و (شَيْءٍ) : في موضع رفع ؛ لأنه اسم (ما) ومثله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

(فَتَطْرُدَهُمْ) منصوب ؛ لأنه جواب النفي.

(فَتَكُونَ) جواب النّهي ، وتقديره : ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، فتكون من الظالمين ، وما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم.

(أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَهؤُلاءِ) : في موضع نصب بفعل مقدر ، يفسّره: (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) كما تقول : أزيدا مررت به ، فإن الاختيار فيه النّصب ؛ لأن الاستفهام يقتضي الفعل ويطلبه ، وهو أولى به من الاسم.

البلاغة :

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) في الجملتين ما يسمى ردّ الصدر على العجز.

المفردات اللغوية :

(خَزائِنُ) جمع خزانة وخزينة : وهي ما يخزن فيها الشيء الذي يراد حفظه ومنع التصرف


فيه. و (خَزائِنُ اللهِ) : التي منها يرزق ، والمراد : ليست أرزاق العباد بيدي. (الْغَيْبَ) ما غاب علمه عن جميع الخلق ، واستأثر الله بعلمه. (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) المراد بهما هنا الكافر والمؤمن أو الضّال والمهتدي. (وَأَنْذِرْ) خوّف. (بِهِ) أي بالقرآن. (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) غيره. (وَلِيٌ) ناصر ينصرهم. (وَلا شَفِيعٌ) وسيط يتشفع لهم. والمراد بقوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ...) المؤمنون العاصون. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الله بإقلاعهم عما هم فيه ، وعمل الطاعات.

(تَطْرُدِ) الطرد : الإبعاد. (بِالْغَداةِ) أو الغدوة كالبكرة : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. (وَالْعَشِيِ) آخر النهار ، أو من المغرب إلى العشاء. والمراد جميع الأوقات. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يريدون بعبادتهم وجه الله تعالى أي ذاته ، لا شيئا من أعراض الدّنيا ، وهم الفقراء ، وكان المشركون طعنوا فيهم ، وطلبوا أن يطردهم ليجالسوه ، وأراد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، طمعا في إسلامهم.

(حِسابِهِمْ) أي حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة.

(فَتَنَّا) ابتلينا واختبرنا. (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي الشريف بالوضيع ، والغني بالفقير ، بأن قدّمناه بالسّبق إلى الإيمان. (لِيَقُولُوا) أي الشّرفاء والأغنياء منكرين معترضين. (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) أنعم الله عليهم بنعم كثيرة ، أهمها الهداية ، أي لو كان ما هم عليه هدى ، ما سبقونا إليه.

(مِنْ بَيْنِنا) أي من دوننا.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) له ، فيهديهم؟ بلى.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٢):

(وَلا تَطْرُدِ ..) : روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال : لقد نزلت هذه الآية في ستة : أنا وعبد الله بن مسعود وأربعة قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطردهم ، فإنا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء ، فوقع في نفس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله ، فأنزل الله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وسأذكر رواية أخرى لمسلم في الموضوع.

وروى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : «مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده خبّاب بن الأرتّ وصهيب وبلال وعمار ،


فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ لو طردت هؤلاء لاتّبعناك ، فأنزل الله فيهم القرآن : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) إلى قوله : (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)».

وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر عن عكرمة قال : جاء عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم بن عدي ، والحارث بن نوفل (١) في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب ، فقالوا له : لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد ، كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتّباعنا إيّاه ، فكلّم أبو طالب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ فأنزل الله : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ...) الآية إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) ـ وكانوا بلالا ، وعمار بن ياسر ، وسالما مولى أبي حذيفة ، وصالحا (٢) مولى أسيد ، وابن مسعود ، والمقداد بن عمرو (٣) ، وواقد بن عبد الله الحنظلي وأشباههم ـ فأقبل عمر ، فاعتذر من مقالته ، فنزل : * وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية.

ويلاحظ أن هذه الرّوايات مختلفة ، فبعضها ذكر نزول الآية إلى نهاية الآية [٥٣] ، وبعضها أدخل الآيتين [٥٤ ـ ٥٥]. والرّواية الأولى ذكرت ابن مسعود مع أئمة قريش ، والرّواية الأخيرة ذكرته مع المطلوب طردهم.

المناسبة :

هذه الآية تتمة لما قبلها : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ومبيّنة لحدود وظائف الرّسل بكونهم مجرّد مبشرين ومنذرين ، فالله يأمر رسوله بأن يقول

__________________

(١) في رواية : والحارث بن عامر ، وقرظة بن عبد عمر بن نوفل.

(٢) وفي رواية : «وصبيحا».

(٣) وفي رواية : والمقدام بن عبد الله ، وعمرو بن عمرو ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد.


لهؤلاء الأقوام : إنما بعثت مبشرا ومنذرا ، وليس لي أن أتحكّم على الله ، ومأمور أن أنفي عن نفسي أمورا ثلاثة : ليس عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولست ملكا من الملائكة. والفائدة من نفي هذه الأحوال : إظهار الرّسول تواضعه لله وعبوديته له ، ردّا على اعتقاد النصارى في عيسى عليه‌السلام ، وإظهار عجزه عن الإتيان بالمعجزات المادية القاهرة القوية ، فهذا من قدرة الله اللائقة به ، ويعني ذلك أنه لا يدعي الألوهية ولا الملكية.

التفسير والبيان :

كان المشركون يطلبون من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزات ماديّة قاهرة ، جهلا منهم بمهمّة الرّسول ورسالته ، فأنزل الله : قل أيها الرّسول لهؤلاء : لست أملك خزائن الله ولا أقدر على قسمتها وتوزيعها والتّصرّف فيها ، فهذا لله وحده يعطي منها لعباده ما يشاء على وفق الحكمة وضمن قيد الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى النتائج والمسببات.

ولا أقول لكم : إني أعلم الغيب ، فذاك لله عزوجل ، ولا أطّلع منه إلا ما أطلعني عليه ، كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

ولا أدّعي أني ملك من الملائكة ، إنما أنا بشر من البشر ، يوحى إليّ من الله عزوجل ، فلا أستطيع أن آتي بما لا يقدر عليه البشر.

والمعنى في هذه الأمور الثلاثة : أني لست أدّعي الألوهية ، ولا علم الغيب ، ولا الملكيّة ، حتى تطلبوا مني ما ليس في طاقتي وقدرتي ، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ القرآن وبيانه ، ولست في هذا مبتدعا ، إنما سبقني إلى الرّسالة رسل كثيرون قبلي.


ووظيفة الرّسول : اتّباع الوحي ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه.

ثم وبّخهم الله على ضلالهم مبيّنا لهم أنه لا يستوي الضّال والمهتدي فقال : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل للمشركين المكذبين : هل يستوي من اتّبع الحق وهدي إليه ، ومن ضلّ عنه وحاد عن الحقّ.

أفلا تتفكرون فتميّزوا بين ضلال الشّرك وهداية الإسلام ، وتعقلوا ما في القرآن من أدلّة توحيد الله وإيجاب اتّباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد ١٣ / ١٩].

وخلاصة ما سبق : إثبات قدرة الله المطلقة التي تنفي وجود مثلها لأحد ، مما يدلّ على وجود الله ووحدانيته ، وإثبات كون القرآن والمعجزات المؤيدة لصدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي من الله وحده ؛ لأنه لا يستطيع الرّسول التّصرف في شيء خارج الحالات المعتادة ، ولا الإتيان بشيء مثل القرآن أو تنزيل الآيات الغريبة ، وإجراء المعجزات الخارقة للعادة.

هذه حقيقة الرّسالة ، ثم أمر الله نبيّه بإنذار المؤمنين سوء الحساب والجزاء فقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ ..) أي وأنذر يا محمد بالوحي أو بالقرآن الذين يؤمنون بالله ويخافون من الحشر وأهواله وشدّة الحساب يوم القيامة ، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال ، عند لقاء الله ، ويعتقدون بأنه ليس لهم فيه وليّ ولا شفيع ولا حميم ولا نصير : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ٨٢ / ١٩] ، لعلهم يتقون أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عزوجل ، قال ابن عبّاس : معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدّنيا ، وينتهوا عن الكفر والمعاصي.


فهؤلاء المؤمنون بالله وبالغيب وباليوم الآخر هم الذين ينتفعون بالقرآن. أما المادّيون الذين لا يؤمنون بغير المادّة ، فقد حجبوا عن أنفسهم نور الهداية الإلهية ، فطبع الله على قلوبهم وأصمّهم وأعمى أبصارهم. وهذا مثل قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ، وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [فاطر ٣٥ / ١٨].

ثم منع الله نبيّه من تقريب كفار قريش وأشرافهم المترفين ، ومن تنحية المؤمنين المستضعفين وطرد الضّعفاء من الناس ، فقال : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ...) أي لا تبعد عنك هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات ، بل اجعلهم جلساءك وخلصاءك ، وصفاتهم أنهم مؤمنون حقّ الإيمان ، موحّدون ربّهم دون شائبة شرك ، يدعون ربّهم بالغداة والعشي أي في الصّباح والمساء وجميع الأوقات ، يخلصون في طاعتهم وعبادتهم ، فلا يقصدون إلا إرضاء الله تعالى ، ولا يريدون من عبادتهم إلا ذات الله وحقيقته ؛ لأنه المستحق للعبادة. ونظير الآية قوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ، وَاتَّبَعَ هَواهُ ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف ١٨ / ٢٨].

وموقف هؤلاء المشركين له شبيه بموقف قوم نوح حين قال أشرافهم له : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود ١١ / ٢٧] ، وقوله لهم : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) [هود ١١ / ٢٩].

ثم حصر الله تعالى حساب هؤلاء بربّهم ، كما قال تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء ٢٦ / ١١٣] ، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم ، فقال تعالى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بعد أن شهد الله لهم بالإخلاص


وبإرادة وجه الله في أعمالهم. وإن كان الأمر كما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر ، وإن كان لهم باطن غير مرض بأن كانوا غير مخلصين ، فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك ، كما أن حسابك عليك ، لا يتعدّاك إليهم (١) ، كما قال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٥٢ / ٢١] ، وقال : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدّثر ٧٤ / ٣٨] ، وقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤ ، الإسراء ١٧ / ١٥ ، فاطر ٣٥ / ١٨ ، الزمر ٣٩ / ٧].

والجملتان وهما (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بمنزلة جملة واحدة ، ومؤدّاهما واحد ، ولا بدّ منهما جميعا ، كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ، ولا هم بحساب صاحبه.

فلما ذا تطردهم؟ لأن الطّرد جزاء ، والجزاء بعد الحساب والمحاكمة ، والحساب على الله ، وما عليك إلا البلاغ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢].

فإن طردتهم والحالة هذه ، فتكون بطردهم من زمرة الظالمين أنفسهم ، لأن الطّرد ـ كما ذكرت ـ لا يكون إلا بذنب ، والحساب على الذّنب إلى الله ، لا إليك.

والخلاصة : ذكر الله غير المتقين من المسلمين ، وأمر بإنذارهم ليتقوا ، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم ، وأمر الله نبيّه بتقريبهم وإكرامهم ، وألا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك.

ثم أوضح الله تعالى أن مقال المشركين في شأن الضعفاء ابتلاء من الله واختبار فقال : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ابتلينا واختبرنا وامتحنّا بعضهم ببعض ، لتكون العاقبة أن يقول الأقوياء من الكفار في حقّ الضعفاء من المؤمنين : أهؤلاء الصّعاليك من العبيد والموالي والفقراء خصّهم الله بهذه النّعمة

__________________

(١) الكشّاف : ١ / ٥٠٧


العظمى من جملتنا؟ كقوله تعالى : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر ٥٤ / ٢٥] ، وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف ٤٦ / ١١]. والمعنى : أنهم لما اختبروا بهذا ، فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار ، وصار مثل قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨].

وبعبارة أخرى : إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين : أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ، ولما يسعدهم عنده من دوننا ، ونحن المقدّمون والرؤساء ، وهم العبيد والفقراء؟! إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحقّ ، ممنوعا عليهم من بينهم بالخير. وافتتانهم هو سبب هذا القول ؛ لأنه لا يقول مثل هذا القول إلا مخذول مفتون.

ثم ردّ الله عليهم قولهم الناشئ عن العتو والاستكبار ، فقال : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)؟ أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر ، فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره ، فيخذله ويمنعه التوفيق.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام الاعتقادية المهمة جدّا وهي :

١ ـ إن الرّسول ليس عنده خزائن الله ، ولا يملك التّصرّف في الكون ، فلا يستطيع إنزال ما اقترحوه من الآيات.

٢ ـ إنه لا يعلم الغيب مثل بقية البشر.

٣ ـ إنه ليس بملك يشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدلّ بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء ، كما استدلوا بقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧].


(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم ٦٦ / ٦].

وأما القائلون بتفضيل بني آدم على الملائكة فاستدلّوا بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البيّنة ٩٨ / ٧] بالهمز : من برأ الله الخلق ، وبقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما أخرجه أبو داود : «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل (١).

٤ ـ إنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.

٥ ـ لا يعمل إلا بالوحي ، أي لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. وبهذا تمسّك القائلون بأنه لم يكن للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتهاد ، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النّجم ٥٣ / ٣ ـ ٤] ، وقال نفاة القياس : وإذا كان لا يعمل إلا بالوحي ، فوجب ألا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النّازل عليه.

والصحيح لدى الأصوليين أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد ، والقياس على المنصوص ، والقياس أحد أدلّة الشرع. والأدلّة السابقة مخصوصة بالقرآن ، للرّدّ على من زعم أنّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتري القرآن من عند نفسه ، ولإثبات كون القرآن منزلا عليه بالوحي الإلهي.

٦ ـ مهمّة الرّسول كغيره من الرّسل الموصوفين بكونهم مبشرين ومنذرين : هي الإنذار لقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا).

٧ ـ الرّسول بحكم كونه بشرا مال فترة بحسب اجتهاده إلى إبعاد الفقراء والعبيد من مجلسه ، طمعا في إسلام الزعماء والقادة ، وإسلام قومهم ، ورأى أن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٨٩ ، ٦ / ٤٣٠


ذلك لا يفوّت أصحابه شيئا ، ولا ينقص لهم قدر ، فمال إليه ، فأنزل الله الآية : (وَلا تَطْرُدِ ..) فنهاه عما همّ به من الطّرد ، لا أنه أوقع الطّرد. وقد روينا في سبب النزول قصّتهم ، ويحسن ذكر رواية أخرى هي ما رواه مسلم في صحيحة عن سعد بن أبي وقاص قال : كنّا مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستّة نفر ، فقال المشركون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطرد هؤلاء عنك ، لا يجترءون علينا ؛ قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسمّيهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدّث نفسه ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).

وهذا دليل آخر على كون القرآن من عند الله تعالى ، إذا يستحيل عقلا أن يهمّ النّبيّ بشيء ، ثم ينهى نفسه عنه ، لو لم يكن النّهي عن الفعل من عند ربّه.

٨ ـ في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) إشارة إلى تبدل ميزان القوى ومراكز الناس ؛ فإن حالات التّفوّق والنّعم لن تدوم للكفار ، وأحوال الضعف التي مرّ بها المؤمنون وصبروا عليها لا بدّ أن تتبدّل ، وسيصبح الأقوياء أذلّة ، والضّعفاء أعزّة بالإسلام ، ويعلو الحقّ ، وتتأيّد دولة الله في الأرض ، ويصبح أتباعها هم الأئمة الوارثين ، قال تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٧] ، وقال : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص ٢٨ / ٥].

٩ ـ وفي الآية : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا) أيضا إيماء إلى أنّ ترك المشركين للإيمان لم يكن إلا عنادا وجحودا ناشئا عن الاستعلاء والاستكبار ، لا عن حجّة وبرهان. وفيها كذلك أن كلّا من فريقي المؤمنين والكافرين مبتلى بصاحبه ، فالكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على سبقهم في الإسلام


والظفر بالخير والنّعمة ، وفقراء الصحابة كانوا يرون الكفار في سعة ورفاه ، فيقولون : كيف حال هؤلاء الكفار ، مع أنّا في هذه الشّدة والضيق؟!

بعض أحوال رحمة الله تعالى

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥))

الإعراب :

(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالفتح فيهما ، تكون الأولى بدلا من (الرَّحْمَةَ) وهو بدل الشيء من الشيء ، وهو هو ، و (الرَّحْمَةَ) : في موضع نصب بكتب. وتكون الثانية خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : فأمره أنه غفور رحيم. ويجوز أن يجعل مبتدأ ، ويقدّر لها خبر ، تقديره : فله أنه غفور رحيم ، أي : فله غفران ربّه.

ومن قرأ بالكسر فيهما فمن وجهين : أحدهما ـ أن (كَتَبَ) تؤول إلى قال ، وتقديره : قال : إنه من عمل. والثاني ـ على الاستئناف. والكسر بعد الفاء أقيس ؛ لأن ما بعد الفاء يجوز أن يقع فيه الاسم والفعل.

(وَلِتَسْتَبِينَ) الواو : عطف على فعل مقدر ، وتقديره : ليفهموا ولتستبين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين ، إلا أن الثاني حذف ؛ لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد.

(سَبِيلُ) بالرفع فاعل. (لِتَسْتَبِينَ) ولا ضمير فيه ، والتاء في الفعل لتأنيث السبيل ؛ لأنها مؤنثة ، كما قال تعالى : (قُلْ : هذِهِ سَبِيلِي). ومن قرأ بالياء جعل السبيل مذكّرا ، كما قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ..). ومن نصب سبيل كانت التاء للخطاب ، وهو مفعول به.


المفردات اللغوية :

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلامة وبراءة من العيوب والآفات. والسّلام : من أسماء الله تعالى الدّالة على تنزيهه عما لا يليق به من النّقص والعجز والفناء. واستعمل السلام في التّحية ، أي السلامة من كل ما يسوء وتأمينه من كلّ أذى ، وهو شعار الإسلام ، ودليل الودّ والصّفاء ، وتحية الله تعالى وملائكته لأهل الجنة ، وتحيتهم فيما بينهم.

(كَتَبَ) فرض وأوجب وقضى. (أَنَّهُ) ضمير الشأن. (بِجَهالَةٍ) سفه وخفة تقابل الحكمة والروية والتعقل. (وَلِتَسْتَبِينَ) تتضّح وتظهر. (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) طريق المجرمين الذين أجرموا في حقّ أنفسهم وارتكبوا الجرائم التي هي المخالفات الشرعية.

سبب النّزول :

قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم ، فكان إذا رآهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدأهم بالسّلام ، وقال : «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».

وقال ماهان الحنفي : أتى قوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنّا أصبنا ذنوبا عظاما ، فما إخاله ردّ عليهم بشيء ، فلما ذهبوا وتولوا ، نزلت هذه الآية : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا)(١).

المناسبة :

بعد أن نهى الله تعالى رسوله عن طرد المستضعفين ، طمعا في إسلام الكبراء من قومه ، أمره بأن يكرم جميع المسلمين بهذا النوع من الإكرام ، وهو التّحية والسّلام والقبول بأمان وإعزاز.

التفسير والبيان :

وإذا جاءك أيها الرّسول الذين يؤمنون بالله ورسله ويصدقون بكتبه ،

__________________

(١) أسباب النّزول للنّيسابوري ١٢٥ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٤٣٥


تصديقا في القلب والعمل ، سائلين عن ذنوبهم ، هل لهم منها توبة ، فقل لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي أمان من الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة ، وأكرمهم بتبليغ سلام الله إليهم ، أو ابدأهم بالسّلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم ، وبشّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم.

ولهذا ذكر الله علّة ما سبق ، فقال : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجبها على نفسه الكريمة ، تفضّلا منه وإحسانا وامتنانا.

وقد جمعت في تفسير الآية : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بين السّببين اللذين ذكرا في سبب نزولها كما تقدّم ، قال بعضهم : نزلت في قوم أقدموا على ذنوب ، ثم جاءوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظهرين للندامة والأسف ، فنزلت هذه الآية فيهم.

وقال بعضهم : نزلت في أهل الصّفّة الذين سأل المشركون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طردهم وإبعادهم ، فأكرمهم الله بهذا الإكرام.

قال الرّازي : والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها ، فكلّ من آمن بالله ، دخل تحت هذا التّشريف (١).

ثم أبان الله تعالى طريق قبول التوبة فقال : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) أي إنه من ارتكب منكم ذنبا أو خطيئة بجهالة كغضب شديد أو شهوة جامحة أو سفه وخفة غير مقدر سوء العاقبة أو من غير قصد ، ثم تاب مخلصا لله في توبته ، ورجع عن ذلك الذّنب وندم ، وأصرّ على عدم العودة إليه في المستقبل ، وأصلح عمله ، وأتبع السّيئة بالحسنة لمحو أثرها ، فشأنه تعالى في معاملته أنه يغفر له ذنبه ، لأنه واسع المغفرة والرّحمة. ونظير الآية قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [النساء ٤ / ١٧]. قال بعض

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٣ / ٢


السّلف : كلّ من عصى الله فهو جاهل. وقال الحكم بن أبان بن عكرمة : الدّنيا كلّها جهالة.

وخلاصة شروط التوبة الصادقة أربعة : النّدم الحقيقي على الذّنب ، والعزم على عدم العود إليه مستقبلا ، وردّ المظالم إلى أهلها ، وإتباعها بالعمل الصالح.

ثم أبدى الله سبحانه وتعالى تفضّلا منه طريقه في البيان وهو تفصيل آيات القرآن لمعرفة مناهج الطاعة والبعد عن مسلك أهل الاجرام فقال : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ).

والمعنى : ومثل ذلك التّفصيل البيّن البديع لدلائل التّوحيد والنّبوة والقضاء والقدر ، نفصّل آيات القرآن وحقائق الشريعة ، وتقرير كلّ حقّ ينكره أهل الباطل ، ليتّضح للمؤمنين طريق المجرمين ، وإذا اتّضح سبيلهم كان كلّ ما عداه وما خالفه هو سبيل المؤمنين ، وذكر أحد القسمين يدلّ على الثاني ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ١٦ / ٨١] ولم يذكر البرد ، ولأن بيان خاصية أحد الضّدين يدلّ ضمنا على خاصية القسم الآخر ، فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة أهل الحقّ والإيمان أيضا لا محالة.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدلّ الآيتان على ما يلي :

١ ـ إكرام الله للمستضعفين الذين نهى الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم ، فكان إذا رآهم بدأهم بالسّلام.

ويستفاد منه احترام الصّالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم ، فإن في ذلك غضب الله ، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه.

٢ ـ إمكان قبول التوبة من الله على عباده الذين وقعوا في الذّنوب ، ثمّ تابوا


وأصلحوا العمل في المستقبل ، كما قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه ٢٠ / ٨٢] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد عن أبي هريرة : «أتدري ما حقّ الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال : «أتدري ما حقّ العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم».

٣ ـ سعة رحمة الله بعباده ، فقد أوجب الله تعالى على نفسه الرّحمة تفضّلا منه وإحسانا ، وأخبر بذلك بخبره الصدق ، ووعده الحقّ ، ليعلم العباد مدى رحمة الله ، كما قال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٦].

٤ ـ القرآن الكريم فصّلت فيه كلّ أحكام الدّين : فكما فصّل الله في هذه السّورة دلائله على وجوده ووحدانيته ، فصّل أيضا الآيات لعباده في كلّ ما هم بحاجة إليه من أمر الدّين.

حسم الجدل بين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

الإعراب :

(أَنْ أَعْبُدَ) أن وصلتها في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجرّ ، وتقديره: نهيت أن أعبد.


المفردات اللغوية :

(نُهِيتُ) منعت وزجرت وصرفت بما أودع في من أدلّة العقل وبما أوتيت من أدلّة السّمع. والنّهي : المنع من الشيء والزّجر عنه. (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعبدون غيره ، هذا هو المراد ، وأصل الدّعاء : النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضّرّ. (لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) أي لا أسير في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتّباع الهوى في عبادة الأصنام ، دون اتّباع الدّليل ، وهو بيان سبب الضّلال الذي وقعوا فيه ، وتنبيه لكلّ من أراد إصابة الحقّ ومجانبة الباطل. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضالّ ، وما أنا من الهدى في شيء. (بَيِّنَةٍ) البيّنة : كلّ ما يتبيّن به الحقّ من الحجج العقلية أو الأدلّة الحسية ، ومن ذلك سميت الشهادة بيّنة. (يَقُصُّ الْحَقَ) يذكره ، والقصص : ذكر الخبر أو تتبع الأثر. (الْفاصِلِينَ) الحاكمين ، والفصل : القضاء والحكم.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٧):

(قُلْ : إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) قال الكلبي : نزلت في النّضر بن الحارث ورؤساء قريش ، كانوا يقولون : يا محمد ، ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم ، فنزلت هذه الآية.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة ما يدلّ على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق ولتستبين سبيل المجرمين ، ذكر في هذه الآية انه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم.

التفسير والبيان :

قل يا أيها الرّسول لهؤلاء المشركين : إنّي نهيت وزجرت وصرفت عن عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضّرّ ، من صنم أو وثن أو عبد صالح مهما علا شأنه أو ملك من الملائكة ، وقد صرفت عن هذا كله بأدلّة العقل والأدلّة الحسيّة وبالآيات القرآنية المانعة من عبادة ما تعبدون من دون الله. وفي هذا استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة.


قل : لا أتّبع أهواءكم في سلوك طريقتكم القائمة على اتّباع الهوى دون اتّباع الدّليل ، وإن اتّبعت أهواءكم فأنا ضالّ ، وما أنا من الحقّ والهدى على شيء. وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء.

فإن عبادة غير الله ضلال وشرك ، يترفّع عنها العاقل الواعي ، وعبادة الله تعالى يدلّ عليها الحجّة والبرهان ، والفكر والمنطق الصحيح.

ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبّه على ما يجب اتّباعه بقوله : (قُلْ : إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قل لهم أيها الرّسول : إنّي فيما أخالفكم فيه على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليّ ، وعلى حجّة عقلية واضحة ، ، وشاهد صدق ، والحال أنكم كذبتم بالحقّ الذي جاءني من الله ، أي كذبتم بالقرآن وجحدتم وجود الله حيث أشركتم به غيره ، وكذبتم بالبيّنات ، واتّبعتم الهوى والضلال ، وسرتم على منهج التّقليد الأعمى الذي لا دليل فيه.

ما عندي الذي تستعجلون به وهو العذاب ، فليس إنزاله بمقدور لي ، وما الحكم إلا لله أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله ، إن شاء عجّل لكم ما سألتموه من ذلك ، وإن شاء أنظركم وأجلّكم ، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرّعد ١٣ / ٨].

والله يقصّ الحقّ ، أي يقصّ على رسوله القصص الحقّ في وعده ووعيده وجميع أخباره ، وهو خير الفاصلين أي خير الحاكمين الذين يفصلون في القضايا بين عباده ، وينفذ أمره متى شاء إصدار الحكم.

وكان عليه الصّلاة والسّلام يخوّف قومه بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك ، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب. فقال تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ...) أي قل أيها الرّسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ


عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢] : قل لهم : لو كان مرجع ذلك العذاب إليّ ، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك ولتمّ فصل القضاء بيني وبينكم ، ولتخلّصت سريعا ، وانقضى الأمر إلى آخره ، والله أعلم بالظالمين الذين لا أمل في صلاحهم ورجوعهم إلى الإيمان والحقّ والعدل ، لذا فإن إنزال العذاب بيده تعالى لا بيدي ، والله أعلم كيف يعاقبهم ، ومتى يعاقبهم ، وعلى أي نحو يجازيهم : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ، وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٤].

وقد أثير اعتراض : وهو كيف يوفق بين هذه الآية : (قُلْ : لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ، لا يشرك به شيئا»؟ والجواب : أن هذه الآية عند سؤالهم العذاب ، ففيها دلالة على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له ، لأوقعه بهم ؛ وأما الحديث : فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين : وهما جبلا مكّة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا ، فلهذا استأنى بهم ، وسأل الرّفق لهم بالرّغم من أنه عرض عليه عذابهم واستئصالهم.

وقصة الحديث : هي ما رواه الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال : لقد لقيت من قومك ، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني ، فنظرت ، فإذا فيها جبريلعليه‌السلام ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال ، وسلّم علي ، ثم قال : يا محمد ، إن الله


قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا».

فقه الحياة أو الأحكام :

الحقّ والباطل لا يجتمعان ؛ لأن الحقّ قائم على الدّليل والعقل ، والباطل منبعث من الأهواء والشهوات ، لذا يستحيل على رسول الله أن يتّبع أهواء قومه في عبادة الأصنام والأوثان ، فهم يعبدونها بمحض الهوى والتّقليد ، لا على سبيل الحجّة والدّليل ، وهم كانوا ينحتون الأصنام ، ويقبح عقلا أن يعبد العامل الصانع معموله ومصنوعه.

وليس إيقاع العذاب بمقدور النّبي عليه الصّلاة والسّلام كغيره من البشر ، وإنما الأمر والحكم في ذلك لله وحده.

ودلّ قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به ، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به ، وكذلك في جميع الأفعال ؛ لأن نصّ الآية يفيد الحصر ، بمعنى أنه لا حكم إلا لله.

وكذلك وقت عقوبة الظالمين ومقدارها لا يعلم به غير الله ، فهو تعالى يعلم ذلك ، ويؤخّره إلى وقته ، ويقدره حسبما يشاء ، يفعل كلّ ذلك بموجب الحكمة ، وهو العالم بكلّ شيء ، يعجّل ما تعجيله أصلح ، ويؤخّر ما تأخيره أصلح.


كمال علم الله تعالى وقهره العباد

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

الإعراب :

(مِنْ وَرَقَةٍ) : من زائدة من وجه ، وغير زائدة من وجه ، لأنها قد أفادت معنى العموم ، و (وَرَقَةٍ) : في موضع رفع فاعل (تَسْقُطُ).

(وَلا حَبَّةٍ) أي ولا تسقط من حبّة في ظلمات الأرض. (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) صفة لحبّة ، وتقديره : كائنة في ظلمات الأرض.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) استثناء منقطع ، وتقديره : إلا هو «كائن» في كتاب مبين. والجار والمجرور في موضع رفع ؛ لأنه خبر المبتدأ.

(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) التأنيث على تقدير : جماعة رسلنا. ومن قرأ : توفّاه رسلنا بالتّذكير ، على تقدير : جمع رسلنا. كقولك : قامت الرجال وقام الرجال. وهكذا في كلّ جماعة يجوز تذكير الفعل وتأنيثه ، فالتذكير على معنى الجمع ، والتأنيث على معنى الجماعة.

(مَوْلاهُمُ الْحَقِ مَوْلاهُمُ) : في موضع جرّ على البدل من اسم الله تعالى ، و (الْحَقِ) : صفة لمولاهم. ويجوز نصب (الْحَقِ) إما على المصدر ، أو بتقدير : أعني.


البلاغة :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) استعار المفاتح للأمور الغيبية كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات. قال الزمخشري في الكشاف : ١ / ٥٠٩ : جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ؛ لأن المفاتح يتوصّل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالإغلاق والأقفال ، والمراد أن الله تعالى وحده هو العالم بالمغيبات ، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ، فهو المتوصل إلى ما في المخازن.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) استعار توفي الموت للنوم لما بينهما من التشابه في زوال الإحساس والتمييز.

(وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) والليل والنهار بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَعِنْدَهُ) أي الله تعالى. (مَفاتِحُ) جمع مفتح أي مخزن ، أو مفتاح : وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال ، والمراد هنا : خزائن الغيب أو الطّرق الموصلة إليه. (الْبَرِّ) الأرض اليابسة. (الْبَحْرِ) المكان المتّسع للماء الكثير. (يَتَوَفَّاكُمْ) التّوفي : الأخذ التّام الكامل ، أو استيفاء الشيء أو إحصاء عدده ، ثم أطلق التّوفي على الموت ؛ لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما ، كما أطلق على النوم ، وليس ذلك موتا حقيقة ، بل هو قبض الأرواح عن التّصرّف بالنّوم كما يقبضها بالموت. (جَرَحْتُمْ) عملتم وكسبتم بالجوارح ، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشّرّ ، والاجتراح : فعل الشّرّ خاصة ، كما في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [الجاثية ٤٥ / ٢١].

(يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) يوقظكم من النوم في النهار. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ليقضى : ينفذ ، والأجل : هو أجل الحياة. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي بالبعث ، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به. (حَفَظَةً) ملائكة تحصي أعمالكم وهم الكرام الكتبة من الملائكة : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١١].

(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) هم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) يقصّرون فيما يؤمرون به. (ثُمَّ رُدُّوا) أي الخلق. (مَوْلاهُمُ) مالكهم. (الْحَقِ) الثابت العدل ليجازيهم. (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ فيهم. (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدّنيا ، لحديث وارد بذلك.

المناسبة :

الآيات متّصلة بما قبلها ؛ لأنه تعالى قال في الآية الأولى : (وَاللهُ أَعْلَمُ


بِالظَّالِمِينَ) ثم ذكر هنا مدى سعة علمه وقدرته ، فعنده مفاتح الغيب ، وهو المتصرّف في الخلق أجمعين ، وهو القاهر فوق عباده ، وهو الحافظ المتوفي ، وهو المحاسب خلقه في أسرع وقت.

التفسير والبيان :

خزائن الغيب ومفاتيحها التي يتوصّل بها إلى علم الغيب عند الله ، وهو المتصرّف فيها ، وهو عالم الغيب والشهادة ، ولا يعلم بالغيب أحد سواه ، وينفذ منها ما يراه في الوقت المناسب لحكمته.

والغيبيات التي اختصّ الله بها خمس ، روى البخاري عن ابن عمر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)» [لقمان ٣١ / ٣٤].

وجاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك.

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : من زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل ٢٧ / ٦٥].

وفي معناها أيضا قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

ويعلم سبحانه حديث النفس ، ويعلم السر وأخفى ، فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [النمل ٢٧ / ٧٤ ـ ٧٥] وقال : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر ٤٠ / ١٩].


وجملة (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) توكيد للجملة السابقة.

ثم فصّل تعالى ما أجمل ، وعدّد بعض نواحي العلم التي يحيط بها فقال : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ..) أي يعلم الأشياء المشاهدة لكم ، كما يعلم المغيبات ، فيعلم كل ما هو كائن في البر والبحر ، فعلمه محيط بجميع الموجودات بريها وبحريها ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

ويعلم سقوط أي ورقة من أوراق الشجر في أي مكان وزمان ، في البر والبحر ، ويعلم الحركات حتى من الجمادات ، وبالأولى الحيوانات ، ولا سيما المكلفون منهم من الجن والإنس ، ويعلم الأحوال المتعلقة بالذوات ؛ إذ سقوط الورق حال من الأحوال.

ويعلم ما تسقط من حبة في ظلمات الأرض ، سواء بفعل الإنسان كالزارع ، أو الحيوان كالنمل ، أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض ، ويعلم ما يسقط من الثمار ، رطبا ويابسا ، حيا وميتا ، وهكذا علم كل الكائنات مكنون ثابت في كتاب واضح لا يمحى هو اللوح المحفوظ ، الذي سجل في كل شيء ، وسجل عدده ووقت وجوده وفنائه. وجعل الكتاب مبينا ؛ لأنه يبين عن صحة ما هو موجود فيه ، قبل أن يخلق الله الخلق ، وهذا قول الزجاج ، كما قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد ٥٧ / ٢٢]. واختار الرازي وصوب أن الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير (١).

والخلاصة : أنه تعالى يعلم الغيب والشهادة ، والظاهر والباطن ، والرطب واليابس ، والسر وأخفى وكل شيء في الكائنات ، يعلم بالكليات وبالجزئيات.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ١١


ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر قدرته وتصرفه في الكون والمراحل التي يمر بها الإنسان في أحوال المعيشة والموت والبعث وعند الحساب في الدار الآخرة فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ..) أي أن الله يتوفى عباده في منامهم بالليل أي بالنوم ، وهذا هو التوفي الأصغر ، كما قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر ٣٩ / ٤٢] فذكر في كل من هاتين الآيتين حكم الوفاتين : الصغرى ، ثم الكبرى.

ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار ، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم ، في حال سكونهم وحال حركتهم ، كما قال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد ١٣ / ١٠].

ثم بعد هذا التوفي بالنوم والعلم بأعمالكم في النهار ، يبعثكم في النهار أي يثيركم ويرسلكم فيه ، على ما هو الأظهر الذي رجحه ابن كثير ، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي.

هذا التقلب في الليل والنهار لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي في علمه تعالى لكل واحد منكم ، فإن الآجال والأعمار محدودة ومقدرة مكتوبة سابقا.

ثم إلى الله مرجعكم يوم القيامة بعد تمام الآجال ، ثم يخبركم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا ، ويجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

والله هو القاهر فوق عباده أي هو الذي قهر كل شيء ، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء ، وهو القادر على البعث ؛ لأن من قدر على بعث من توفي بالنوم قادر على بعث من توفي بالموت ، وهو المتصرف بعباده ، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة.


وهو الحافظ الذي يرسل حفظة من الملائكة ليلا ونهارا يحفظون بدن الإنسان ، ويحصون أعماله ، ولا يفرطون بشيء منها ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١٢] (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٧ ـ ١٨]. وفي معنى الآية قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي بأمره [الرعد ١٣ / ١١].

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون».

والحكمة في كتابة الحفظة الملائكة أعمال الإنسان مع أن الله أعلم بكل شيء : هي الإتيان بدليل مادي محسوس لإقامة الحجة على الإنسان ، ولان المرء إذا عرف تدوين أعماله انزجر عن الممنوعات ، وأقدم على الطاعات ، كما قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩].

يرسل عليكم الحفظة الملائكة لإحصاء الأعمال ، حتى إذا حان الأجل ، قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة ، هؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت ، كما قال تعالى : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة ٣٢ / ١١] قال ابن عباس وغيره : لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد ، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم.

والحال أن هؤلاء الملائكة الحفظة لا يفرطون أي لا يقصرون في حفظ روح


المتوفى ، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عزوجل ، إن كان من الأبرار ففي عليين ، وإن كان من الفجار ففي سجين ، عياذا بالله من ذلك.

ثم يرد هؤلاء الذين تتوفاهم الرسل إلى الله ، أي إلى حكمه وجزائه ، إلى الله مولاهم ، أي مالكهم الذي يلي أمورهم ، الحق أي العدل الذي لا يحكم إلا بالحق ، ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره ، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، وهو أسرع الحاسبين ، يحاسب الكل في أسرع وقت وأقصره ، ولا يشغله حساب عن حساب ، جاء في الحديث : «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة».

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [النمل ٢٧ / ٧٨] وقوله : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد ١٣ / ٤١] وقوله : (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر ٣٩ / ٤٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، كلا وجزءا ، واختص بعلم خمسة أمور لا يعلمها إلا هو : وهي علم الساعة ، ووقت تنزيل الغيث (المطر) ومقداره ، وعلم ما يكنّ في الأرحام بأوصاف وطبائع معينة ، وعلم المستقبل ، وعلم آجال الناس.

وعلمه محيط بكل حركة وسكنة ، وجماد وحيوان ونبات ، وسرّ الإنسان وحديث النفس وخلجات القلب.

والله تعالى عنده علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه ، لا يملكها إلا هو ، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، ولا يكون ذلك من


إفاضته إلا على رسله ، بدليل قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) [آل عمران ٣ / ١٧٩] وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

٢ ـ قال العلماء : أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده ، فمن قال : إنه ينزّل الغيث غدا وجزم فهو كافر ، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال : إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر ، فإن لم يجزم وقال : إن النّوء (١) ينزل الله به الماء عادة ، وأنه سبب الماء عادة ، وأنه سبب الماء على ما قدّره وسبق في علمه ، لم يكفر ، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به ، فإن فيه تشبها بكلمة أهل الكفر ، وجهلا بلطيف حكمته ؛ لأنه ينزل متى شاء ، مرة بنوء كذا ، ومرة دون النّوء (٢).

والكهانة (ادعاء معرفة الماضي وعلم الغيب) والعرافة (ادعاء معرفة الماضي والمستقبل) كذب يتنافى كل منهما مع أصل معرفة الله الغيب وانحصار ذلك به ، جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» والعرّاف : هو الحازر والمنجّم الذي يدعي علم الغيب ، ويستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها ، وقد يستعين بالنجوم وغيرها ، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا فن العيافة ، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة.

قال ابن عبد البر : من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسّحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء ، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء ، وعلى الزمر واللعب والباطل كله.

__________________

(١) النوء : سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر ، وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٢


٣ ـ الإشارة للكتاب المبين أي اللوح المحفوظ : لتعتبر الملائكة بذلك ، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه ، تعالى عن ذلك.

٤ ـ الله المتصرف في الإنسان بنومه وهو الموتة الصغرى ، وبموته الحقيقي وهو الموتة الكبرى ، والفرق بينهما أن النوم فيه قبض الروح عن التصرف ، وأما الموت ففيه قبض نهائي للروح عن الحركة وسلخها من الجسد ، ففي النوم تبقى الحياة ، بدليل بقاء الحركة والتنفس ، فإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته ، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس.

٥ ـ إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم ، فإنه أحصى كل شيء عددا ، وعلمه وأثبته ، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة ، ثم يرجعون إليه فيجازيهم.

وقد دلت الآية على الحشر والنشر بالبعث ؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.

٦ ـ في تحديد الأجل المسمى للحياة والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء تأييد لما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من العذاب ، وأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، فمن نجا من الأول لم يسلم من الآخر.

والله في كل الأحوال هو القاهر فوق عباده فوقية مكانة ورتبة ، لا فوقية مكان وجهة.

٧ ـ لله ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات ، وهناك مهام أخرى للملائكة متعلقة بالبشر ، منها قبض الأرواح ، ولملك الموت أعوان يسلّون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها ، قبضها ملك الموت.

والمتوفي على الحقيقة هو الله ، لكن قد ينسب التوفي تارة إلى ملك الموت


الذي يأتمر بأمر الله مثل : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة ٣٢ / ١١] ، وتارة إلى الملائكة ؛ لأنهم يتولون ذلك ، كما في هذه الآية : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وتارة إلى الله مثل : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر ٣٩ / ٤٢] (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) [الجاثية ٤٥ / ٢٦] (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك ٦٧ / ٢].

٨ ـ الحكم المطلق لله وحده يوم القيامة ، أي القضاء والفصل ، والله أسرع الحاسبين ، أي لا يحتاج إلى فكرة وروية.

القدرة الإلهية على الإنجاء من الظلمات

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤))

الإعراب :

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) إما منصوب على المصدر ، أو منصوب على الحال ؛ لأن معناه: ذوي تضرع. (لَئِنْ أَنْجانا) اللام لام القسم.

المفردات اللغوية :

(ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الحسية كظلمة الليل والغيوم والمطر وما يصحبها من أخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار ، والمعنوية كظلمة الجهل بالطرق ، وفقد الدلائل ، والمراد أهوالهما ومخاوفهما في أسفاركم. (تَضَرُّعاً) علانية ومبالغة في الضراعة : وهي الذل والخضوع ، والمراد : ما صدر عن الحاجة الشديدة والإخلاص. (وَخُفْيَةً) خفاء وسرا. (مِنْ هذِهِ) الظلمات والشدائد. (الشَّاكِرِينَ) نعمة الله مع الانضمام لصف المؤمنين. (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) غم شديد.

المناسبة :

بيّن سبحانه فيما سبق بعض الأدلة على ألوهيته من إحاطة علمه ، وشمول قدرته ، واستعلائه على خلقه بالقهر ، وحفظه أعمالهم عليهم ، وأضاف هنا نوعا


آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ، وكمال الرحمة والفضل والإحسان.

التفسير والبيان :

يمتن الله تعالى على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر ، أي الحائرين التائهين المتعرضين لأهوال المخاطر والمخاوف في البر والبحر.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين غفلوا عن آيات التوحيد : من ينجيكم من أهوال الأسفار ومخاوفها إذا ضللتم في أنحاء الأرض البرية والبحرية؟ فحينئذ لا تجدون ملجأ غير الله تدعونه علانية وسرا ، بخشوع وخوف واستغاثة وضراعة وتذلل ، حال كونكم تقسمون : لئن أنجانا الله من هذه الشدائد والظلمات أو الضائقة التي وقعت بنا ، لنكونن من شاكري النعمة ، المقرين بتوحيد الله ، المخلصين له العبادة ، دون إشراك.

ونظير الآية كثير في القرآن مثل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس ١٠ / ٢٢].

ومثل : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء ١٧ / ٦٧].

قل : الله هو الذي ينجيكم مرارا من هذه الأهوال ، ومن كلّ كرب وغمّ ، ثم مع ذلك أنتم بعدئذ تشركون بالله غيره ، فتخلفون وعدكم بالإيمان ، وتخونون العهد مع الله ، وتحنثون بالقسم الذي حلفتموه.


فقه الحياة أو الأحكام :

لا يثبت الإنسان غالبا على العهد ، ولا يفي بالوعد ، ولا يستقرّ على حال الاستقامة ، فتراه بطبعه غدارا خائنا ، يلجأ إلى الله وقت الشدة والخوف ، وينسى الله بعد النجاة ، ويعود إلى ضلالة وجهله. والواجب الذي يمليه العقل والوفاء بالجميل والإخلاص أن يستمر الإنسان على أصل العقيدة الصحيحة والإيمان الحق والعبادة لمن أنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها ، لا سيما في أحوال الأزمات والمحن.

وهذه حال من الأحوال التي ذكرتها الآية : وهي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك ودعوتم الله ، وأقسمتم : لئن أنجانا الله من هذه الشدائد ، لنكونن من الطائعين المستقيمين.

وهذا توبيخ من الله لأولئك المشركين في دعائهم إياه عند الشدائد ، ثم يدعون معه غيره في حالة الرخاء ، كما قال : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).

إنه مثل ضربه الله ، بقصد التقريع والتوبيخ لمن تعهد بالإيمان ونبذ الشرك ؛ لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة ، وحب الإخلاص ، والمشركون قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك ، فحسن أن يقرّعوا ويوبخوا على هذا المنهج ، وإن كانوا مشركين قبل النجاة.

وفي الآية إيماء إلى أن من أشرك في عبادة الله تعالى غيره ، فهو لم يعبده ؛ لأن شرط العبادة الإخلاص ، والتوحيد أساس العبادة.

والآية صريحة بأنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في وقت المحنة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ، ولا تعويل إلا على فضل الله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات ؛ إذ لا يقبل عقلا أن يأتي الإنسان بأمور


أربعة عند حصول الشدائد : وهي الدعاء ، والتضرع ، والإخلاص بالقلب ، والتزام الاشتغال بالشكر ، ثم يرتد على عقبيه ، ويعمل بنقيض هذه الأمور بعد النجاة وإحراز السلامة من الله تعالى وحده الذي يهيئ الأسباب للإنجاء من المخاوف ، أو يغمر عباده بواسع الرحمة والفضل ، وبدقائق اللطف والإلهام.

القدرة الإلهية على تعذيب العصاة

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))

الإعراب :

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) إما منصوب على المصدر أو على الحال.

البلاغة :

(فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من السماء كالحجارة والصيحة. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالخسف. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) يخلطكم ، من اللّبس ، والمراد : يخلط عليكم أمركم خلط اضطراب واختلاف. وفيه حذف تقديره : يلبس عليكم أمركم. (شِيَعاً) جمع شيعة ، أي يجعلكم فرقا مختلفة الأهواء. (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالقتال. (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نبين لهم الدلالات على قدرتنا ، ونحو لها من نوع من أنواع الكلام إلى آخر ، ترسيخا للمعنى وتأكيدا له. (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) يعلمون أن ما هم عليه باطل ، والفقه : فهم الشيء بدليله وعلته ، فهما يؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ والعمل الأفضل.


(وَكَذَّبَ بِهِ) بالقرآن. (وَهُوَ الْحَقُ) الصدق. (بِوَكِيلٍ) هو الذي توكل أو تفوض إليه الأمور ، والمراد : لست مفوضا في شأنكم ، فأجازيكم ، إنما أنا منذر ، وأمركم إلى الله. (نَبَإٍ) خبر. (مُسْتَقَرٌّ) وقت يقع فيه ويستقر ، ومنه عذابكم. (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد لهم.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً ..) الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف» قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبدا : أن يقتل بعضنا بعضا ، ونحن مسلمون ، فنزلت : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ، وَهُوَ الْحَقُّ ، قُلْ : لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

وروى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية : (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ) إلخ ، فقال : «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».

المناسبة :

بعد أن بيّن سبحانه أنه القادر على إنجاء المشركين وغيرهم من المخاوف والأهوال ، بيّن كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من طرق مختلفة ، ليعتبروا ويتعظوا ، وهو نوع آخر من دلائل التوحيد ، ممزوج بنوع من التخويف.

التفسير والبيان :

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين : الله هو القادر على إنزال العذاب عليكم بألوان مختلفة ، تارة من فوقكم كالرجم بالحجارة كما حدث لقوم لوط


وأصحاب الفيل ، والصيحة وهي الصوت الشديد المهلك ، كما حدث لثمود وهم أصحاب الحجر (واد بين المدينة والشام) ، والطوفان كما حدث لقوم نوح ، وتارة من تحتكم كالزلزال والبركان والخسف المعهود فيما سبق كما حدث لقارون ، وتارة أن يخلط عليكم أمركم ويجعلكم فرقا مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم : أن ينشب القتال بينهم ، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. وعن ابن عباس : أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم ، ومن تحت أرجلكم ، أي عبيدكم وسفلتكم.

قال الطبري : وأولى التأويلين (١) في ذلك بالصواب عندي قول من قال : عنى بالعذاب من فوقهم : الرجم ، أو الطوفان ، وما أشبه ذلك ، مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم ؛ ومن تحت أرجلهم : الخسف وما أشبهه ، وذلك وأن المعروف في كلام العرب من معنى : فوق وتحت الأرجل هو ذلك دون غيره ، وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك (التأويل الثاني) وجه صحيح ، غير أن الكلام إذا تنوزع في تأويله ، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره ، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها(٢).

وإني أؤيد الطبري ؛ لأن ظاهر اللفظ يقضي بحمله على المعروف المشهور ، وإن كان لا مانع من الأخذ بعموم اللفظ ، مما يحدث في المستقبل ؛ لأن القرآن معجزة الدهر ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه. وقد شهد العصر الحديث ويلات رهيبة من مشاهد القتال ، من الجو والبر والبحر ، مما يشيب منه الإنسان.

__________________

(١) التأويل الأول للعذاب من فوقهم : الرجم ؛ ومن تحتهم : الخسف ، والتأويل الثاني للعذاب من فوقهم : أئمة السوء ، ومن تحت أرجلهم : الخدم وسفلة الناس ، وهذا مروي عن ابن عباس.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ١٤٢


روى البخاري والنسائي عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بوجهك». (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : «أعوذ بوجهك». (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه أهون ـ أو : أيسر».

وإنما كان التفريق والاقتتال أهون ؛ لأن ما قبله أشد وهو عذاب الاستئصال.

وروى الإمام أحمد عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت ربي عزوجل أربعا ، فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة ، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها ، وسألت الله عزوجل أن لا يلبسهم شيعا ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعنيها».

ويؤيده ـ مع بعض الفارق ـ ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعوت ربي عزوجل أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع الله عنهم اثنتين ، وأبي علي أن يرفع عنهم اثنتين ، دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأن لا يلبسهم شيعا ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع اثنتين : القتل والهرج» فجعل الأمرين الأخيرين اثنين ، وفي رواية أحمد : واحدا.

وروى مسلم ما يؤيد رواية أحمد ، وهي رواية أخرى لأحمد من حديث


ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله زوي (١) لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة (٢) ، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم (٣) ، وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة ، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا».

وقد تحقق خبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اتساع أرجاء البلاد الإسلامية إلى المشارق والمغارب ، وفي وقوع بأسهم بينهم بالتفرق والاقتتال. أما تسلط عدوهم عليهم فمرهون بوحدتهم واجتماع كلمتهم ، وما حدث من زوال ملكهم عن بعض البلاد كالأندلس وفلسطين فكان بسبب تفرقهم وتشتت وحدتهم وتمزق صفوفهم وتفرق جمعهم ، بدليل ما روى أبو داود والبيهقي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : من قلة نحن يومئذ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل : يا رسول الله ، وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت».

ثم أمر الله تعالى بالنظر في الدلائل والبينات ، فقال : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي انظر أيها الرسول كيف نبين ونوضح الدلائل بوجوه مختلفة ، إما بطريقة الحس ، وإما بطريقة العقل ، وإما بالإخبار بالغيب ، لعلهم يفهمون

__________________

(١) زوي : جمع.

(٢) السنة العامة : البلاء العام كالجماعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح العاتية.

(٣) البيضة : العزة ومستقر الملك أو كيان البلاد واستقلالها.


ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه ، فتحدث عندهم العبرة والعظة وتصحيح أحوالهم.

ولكن قوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم قريش كذبوا بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان أو بالعذاب الذي هدوا به ، والحال أنه الحق الصدق أي الذي ليس وراءه حق ، فالقرآن حق ثابت لا شك فيه ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والعذاب لا بد أن ينزل بهم ، فكل منهما يثبته الحس والعقل والوجدان.

ثم لا سبيل إلى إجبارهم على الإيمان ، فقل لهم أيها الرسول : إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام ٦ / ١٠٤] أي أحفظ عليكم أعمالكم ، ولست بموكل بكم ، كقوله : (وَقُلِ : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩] وقوله : (فَذَكِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢].

وقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ٤٥] أي إنما علي البلاغ ، وعليكم السمع والطاعة ، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفني شقي في الدنيا والآخرة.

وأخيرا جاء التهديد والوعيد على التكذيب بالقرآن أو بالعذاب ، فقال تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ..) أي لكل خبر يخبر به وقت استقرار ووقوع وحصول لا بد منه ولو بعد حين ، قال ابن عباس وغيره : «لكل نبأ حقيقة» أي لكل خبر وقوع ولو بعد زمن ، كقوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص ٣٨ / ٨٨] وقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد ١٣ / ٣٨]. هذا تهديد ووعيد أكيد ، أتبعه بتهديد آخر فقال :

وسوف تعلمون صدق الخبر وحقيقة الوعد والوعيد ، وعد رسوله بالنصر


عليهم ، ووعيده لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

قدرة الله تعالى شاملة لجانبي الرحمة والفضل ، والعذاب والعقاب ، فهو قادر على إمداد خلقه بمختلف أنواع السعة والرزق والسلامة والنجاة ، كما أبان في الآيات السابقة ، وهو قادر أيضا على إنزال مختلف أنواع العذاب كما ذكر في هذه الآيات ، ومثل العذاب من فوق الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح ؛ كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح ، ومثل العذاب من تحت الزلزال والبركان ، والخسف والرجفة ؛ كما فعل بقارون وأصحاب مدين ، ومثل العذاب الشديد الدائم : أن يخلط عليكم الأمر ، فيفرق صفوفكم ، ويجعلكم مختلفي الأهواء ، ويفرق بين الأمراء على طلب الدنيا ، وإيقاع الحرب والقتل في الفتنة.

والآية عامة في المسلمين والكفار ، وقد تحقق كل ذلك في الوجود ، فاستولى العدو على ديارنا وأنفسنا وأموالنا ، واستولت الفتنة علينا بقتل بعضنا بعضا ، واستباحة بعضنا أموال بعض. وما أسوأ حال العرب والمسلمين منذ تخلّوا عن تعاليم دينهم ، وأصبحوا تبعا للأعداء ، وجسّدوا فيما بينهم الفرقة والخلاف.

وأما مصير الذين كذبوا بالقرآن ، وهو القصص الحق ، فليس أمرهم منوطا بنبيّ الله ، فما هو إلا منذر وقد بلّغ ما أمره به ربه ، وإنما أمرهم راجع إلى الله ، ولكل إنذار وقت ، ولكل خبر حقيقة ، ولكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدّم وتأخر. وهذا شامل للعذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وهذا وعيد من الله تعالى للكفار ، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث ، ووعيد لهم في الدنيا ، كما حدث لهم في بدر وغيرها من المعارك الحربية التي استأصلت الكفر والشرك من الحجاز.


ولا يفرحنّ المسلمون بهذا الوعيد ؛ فإنهم يستحقون العقاب أيضا إذا تخلوا عن قرآنهم ؛ لأن التخلي عنه قريب من التكذيب به ، فيشملهم الوعيد والإنذار : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت ٤١ / ٥٢ ـ ٥٣].

الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن وعذابهم

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

الإعراب :

(وَلكِنْ ذِكْرى) يجوز فيها النصب والرفع ، فالنصب على المصدر وتقديره : ذكّركم ذكرى. والرفع على أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، وتقديره : ولكن عليهم ذكرى.

(أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) مفعول لأجله ، وتقديره : لئلا تبسل أي لئلا تسلّم نفس للهلاك وترهن بسوء عملها.


البلاغة :

(فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وضع الظاهر. (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) موضع الضمير. معهم لتسجيل شناعة ما ارتكبوا عليهم ، حيث كذبوا واستهزءوا بدلا من التصديق والتعظيم. (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) فيه ما يعرف بالسجع.

المفردات اللغوية :

(يَخُوضُونَ) المراد به هنا الاسترسال في الحديث ، وقد استعمله القرآن أيضا في المشاركة في الباطل مع أهله ، وأصل الخوض : الدخول في الماء سيرا أو سباحة. (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) أي يتكلمون في القرآن استهزاء. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) انصرف عنهم ولا تجالسهم. (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) أي ينسيك وجوب الإعراض عنهم ، فقعدت معهم. (بَعْدَ الذِّكْرى) المراد هنا التذكر. (وَلكِنْ ذِكْرى) المراد هنا التذكير والموعظة. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الخوض.

(وَذَرِ) اترك ولا تتعرض لهم. (لَعِباً وَلَهْواً) باستهزائهم به. (وَذَكِّرْ بِهِ) عظ بالقرآن الناس. (أَنْ تُبْسَلَ) لئلا تبسل نفس ، أي تسلّم إلى الهلاك ، وتحبس في النار ، وتمنع من الثواب. والبسل : حبس الشيء ومنعه بالقوة ، ومنه شجاع باسل ، أي يحمي نفسه ويمنعها. (بِما كَسَبَتْ) عملت. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره. (وَلِيٌ) ناصر. (وَلا شَفِيعٌ) يمنع عنها العذاب. (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) تفد كل فداء. (لا يُؤْخَذْ مِنْها) ما تفدى به. (شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ماء بالغ نهاية الحرارة ، أي شديد الحرارة. (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) شديد الألم أو مؤلم. (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بكفرهم.

سبب النزول :

روى الطبري عن السدي في آية (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ...) قال : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، فسبوه واستهزءوا به ، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل.

وروى الطبري أيضا عن سعيد بن جبير ومجاهد أنهما قالا في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ...) : الذين يكذبون بآياتنا (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١٤٨ ، تفسير الرازي : ١٣ / ٢٥


وروى عن ابن عباس وابن سيرين : أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل ، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء.

ولما قال المسلمون : إن قمنا كلما خاضوا ، لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف ، فنزل : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) أي يتقون الله من حساب الخائضين من شيء أي إثم إذا جالسوهم. و (مِنْ) : صلة زائدة.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السالفة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس عليه أن يكون حفيظا رقيبا على أعمال المكذبين بآيات الله ، وإنما هو مبلّغ ، وأن الزمان سيخبرهم بعاقبة تكذيبهم ، أبان في هذه الآيات وجوب إعراض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين عن مجالس المشركين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في القرآن والرسول.

التفسير والبيان :

وإذا رأيت يا محمد وكل سامع مسلم الذين يخوضون في آيات القرآن بالتكذيب والاستهزاء ، فانصرف عنهم ولا تجالسهم ، حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء والتكذيب. ومثلهم من يخوض في القرآن بتأويله تأويلا باطلا نابعا من البدع والأهواء والآراء الفاسدة ، لا تجالسهم واتركهم. وهذا مروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما.

وكذلك لا تجالس كل من يحرف القرآن ويؤول آياته لتكفير مسلم وتضليل مهتد.

فإذا خاضوا في حديث آخر ، فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم.


وإن أنساك الشيطان أيها المسلم النهي والمنع ، فجلست مع الخائضين ناسيا ، فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.

والخطاب للرسول وكل سامع مسلم.

ويجوز وقوع النسيان على النبي بغير وسوسة الشيطان ؛ لقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف ١٨ / ٢٤] وقد وقع النسيان من آدم عليه‌السلام : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه ٢٠ / ١١٥] ومن موسى عليه‌السلام : (قالَ : لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) [الكهف ١٨ / ٧٣] وثبت في الكتب الستة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سها في الصلاة وقال : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني».

أما في تبليغ الوحي والدين المنزل من الله ، فإن الأنبياء معصومون عن نسيان شيء مما أمرهم الله بتبليغه من حلال أو حرام ؛ لقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة ٧٥ / ١٦ ـ ١٩].

وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل التصرف فيه ، والسلطان عليه ؛ لقوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل ١٦ / ٩٩ ـ ١٠٠].

فإن تجنبوا مجالسة الخائضين ، فلا يحاسبون على خوضهم ، وبرئوا من عهدتهم ، وتخلصوا من إثمهم. وقال آخرون (مجاهد والسدي وابن جريج) : بل معناه : وإن جلسوا معهم ، فليس عليهم من حسابهم من شيء ، وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [٤ / ١٤٠].


(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا وموعظة ، لعلهم يتقون الخوض في آياتنا ، ويذكرون الله.

وعلى التفسير الثاني لمجاهد ومن وافقه : يكون المراد هذه الآية : أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه ، لعلهم يتقون ذلك ، ولا يعودون إليه. وقال الزمخشري : ولكن عليهم أثناء مجالستهم أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون ، بالقيام عنهم ، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم ، لعلهم يجتنبون الخوض حياء ، أو كراهة لمساءتهم. وروي أن المسلمين قالوا : لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن ، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، وأن نطوف ، فرخص لهم.

ثم أكد الله تعالى ترك المستهزئين بقوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ ..) أي دع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين وأعرض عن هؤلاء المشركين الذين يتلاعبون بدينهم بعبادة الأصنام ، يصنعونها ثم يأكلونها ، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد وهذا هو اللعب ، وشغلوا أنفسهم عن العمل المفيد وهذا هو اللهو ، وغرتهم الدنيا الفانية ، وآثروها على الحياة الباقية ، واشتغلوا بلذات الدنيا الحقيرة ، فخاضوا في آيات الله بدلا عما كان يجب عليهم من فهمها وتدبرها وامتثالها. وهو كقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر ١٥ / ٣].

وذكّر الناس بالقرآن وعظهم به لئلا تحبس عن الخير ، وتمنع في جهنم نفس بما عملت ، وتسلم إلى الهلاك ، وترتهن بعملها الذي صدر منها في الدنيا ، كقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر ٧٤ / ٣٨ ـ ٣٩].

وقوله : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي والحال لا قريب ولا أحد يشفع فيها ، ولا ناصر ينصرها ، كقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ


وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨] وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٥٤].

وكما لا تنفع الشفاعة والوساطة ، لا ينفع بذل الفداء : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن بذلت كل فداء أو مبذول ، ما قبل منها ، كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة ٢ / ١٢٣].

وهذا إبطال لمبدأ من مبادئ الوثنية : وهو رجاء النجاة في الآخرة كما في الدنيا بتقديم الفدية الى لله تعالى ، أو بشفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء عند الله تعالى.

وهذا الإبسال والإهلاك والعذاب في النار كان بسوء صنعهم ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ..) أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا هم الذين جوزوا وعذبوا بسبب عملهم في الدنيا ، وجزاؤهم شراب من حميم ، أي ماء شديد الحرارة يحرق البطون ويقطع الأمعاء ، كقوله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يلي :

١ ـ وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن أو بالنبيّ أو بأحكام الإسلام ، ومجالس المتأولين آيات القرآن بغير حق ، وتحريفها عن مواضعها. قال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله ، تركت مجالسته وهجر ، مؤمنا كان أو كافرا.

٢ ـ إذا علم الرجل من الآخر منكرا ، وعلم أنه لا يقبل منه وعظا


ولا نصحا ، فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه ، كما قال القرطبي (١).

٣ ـ قال ابن العربي : وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل (٢). ومنع المالكية الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع ، ومجالسة الكفار وأهل البدع ، وألا تعتقد مودّتهم ، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم (٣).

٤ ـ لا يطرأ النسيان أصلا على الأنبياء فيما يجب عليهم تبليغه من أحكام الشرع ، لعصمتهم عن ذلك ، وإنما يمكن طروء النسيان عليهم في الأمور العادية كالسهو أثناء الصلاة ونحو ذلك.

وليس النسيان من قبيل وجود السلطة والتصرف من الشيطان على الإنسان ، فتسلطه محصور في المشركين والكافرين ، لا في المؤمنين.

٥ ـ الأظهر أن آية (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ ...) ليست منسوخة ، ومعناها الدائم : ليس عليكم شيء من حساب المشركين ، وعليكم بتذكيرهم وزجرهم ، فإن أبوا فحسابهم على الله.

٦ ـ الاستهزاء في الدين ليس مسوّغا في أي شرع أو ملة ، والمستهزئون ما هم إلا لاعبون لاهون غرتهم الحياة الدنيا أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، وإن تأصل الكفر فيهم أفسد عليهم فطرتهم ، فحجب عنهم كل خير.

٧ ـ القرآن خير مذكر للإنسان من تعريض نفسه للهلاك والعذاب في نار جهنم ، والمسلم الحق : من اتخذ القرآن إماما وسنة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهجا ، لا من اغترّ بالأماني والأوهام.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ١٢

(٢) أحكام القرآن للقرطبي : ٢ / ٧٣١

(٣) تفسير القرطبي : ٧ / ١٣


٨ ـ لا يقبل في الآخرة فداء ولا نصرة ناصر ولا شفاعة شفيع إلا بإذن الله وإرادته ، لقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه ٢٠ / ١٠٩] وقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ..) [سبأ ٣٤ / ٢٣] وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ٢١ / ٢٨].

مزايا الإيمان بالله ومخازي الشرك

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

الإعراب :

(حَيْرانَ) حال من هاء (اسْتَهْوَتْهُ) وهو ممنوع من الصرف كعطشان ، وهو لا ينصرف معرفة ولا نكرة ؛ لأن فعلان فعلى أشبه ما في آخره ألف التأنيث الممدودة ، وما في آخره ألف التأنيث الممدودة لا ينصرف معرفة ولا نكرة ، فكذلك ما كان على : فعلان فعلى. وجملة التشبيه حال من ضمير (نُرَدُّ).

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر ، وتقديره : وبأن أقيموا.

(وَيَوْمَ يَقُولُ : كُنْ فَيَكُونُ يَوْمَ) : منصوب من أربعة أوجه : إما لأنه معطوف على


السموات ، أو على الهاء في (وَاتَّقُوهُ) ، أو لأنه ظرف وقع خبرا عن المبتدأ وهو : (قَوْلُهُ الْحَقُ) وتقديره : قوله الحق يوم يقول. و (قَوْلُهُ) : مبتدأ و (بِالْحَقِ) : صفته ، و (يَوْمَ يَقُولُ) : خبره أي مستقر يوم يقول ، أو منصوب بتقدير فعل هو : واذكر يوم يقول. وكن فيكون ، أي : فهو يكون ، ولهذا كان مرفوعا.

(يَوْمَ يُنْفَخُ) في نصبه وجهان : إما بدل من قوله : (يَوْمَ يَقُولُ) ، أو متعلق بقوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ) أي وثبت له الملك يوم ينفخ.

(عالِمُ الْغَيْبِ) مرفوع لأنه صفة (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أو على تقدير مبتدأ محذوف تقديره : هو عالم الغيب ، أو حملا على المعنى ، وتقديره : ينفخ فيه عالم الغيب ، كأنه قال : يوم ينفخ. ويجوز الجرّ بدلا من هاء (قَوْلُهُ).

البلاغة :

(أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) الاستفهام للإنكار. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) عبر بالرد على الأعقاب عن الشرك لزيادة تقبيح الفعل وتشنيعه.

(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) بينهما جناس اشتقاق.

(ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) و (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(أَنَدْعُوا) أنعبد. (ما لا يَنْفَعُنا) بعبادته. (وَلا يَضُرُّنا) بتركها وهو الأصنام. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) نرجع مشركين ، والمقصود بهذا التعبير كل رجوع وتحول مذموم. (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أضلته وذهبت بعقله وهواه ، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن ، وأن الجن تظهر لهم في القفار وتتلون بألوان مختلفة وتذهب بالعقل ، فيهيم على وجهه حتى يهلك ، وهذه الشياطين التي تتلون تسمى الغيلان والأغوال والسعالى. (حَيْرانَ) متحيرا تائها لا يدري أين يذهب. (لَهُ أَصْحابٌ) رفقة. (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) أي ليهدوه الطريق ، يقولون له : (ائْتِنا) فلا يجيبهم فيهلك. (هُدَى اللهِ) هو الإسلام وما عداه ضلال. (لِنُسْلِمَ) بأن نسلم أو أمرنا كي نسلم ، والإسلام : الإخلاص. (وَأَنْ) أي بأن أقيموا الصلاة. (تُحْشَرُونَ) تجمعون يوم القيامة للحساب. (وَيَوْمَ يَقُولُ : كُنْ فَيَكُونُ) هو يوم القيامة يقول للخلق : قوموا فيقوموا. (قَوْلُهُ الْحَقُ) الصدق الواقع لا محالة. (الصُّورِ) لغة : القرن وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض ، ثم ينفخ فيه أخرى ، فإذا هم قيام ينظرون. والمراد هنا النفخة الثانية من


إسرافيل. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب وما شوهد. (الْحَكِيمُ) في خلقه. (الْخَبِيرُ) ببواطن الأشياء كظواهرها.

سبب النزول :

قال السدي : قال المشركون للمسلمين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ، فأنزل اللهعزوجل : (قُلْ : أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا).

المناسبة :

المقصود من هذه الآية : (قُلْ : أَنَدْعُوا ...) الردّ على عبدة الأصنام ، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك : (قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

التفسير والبيان :

قل لهم أيها الرسول : أنعبد من دون الله النافع الضارّ ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا ، ونرد على أعقابنا إلى الشرك والكفر ، بعد أن أنقذنا الله منه ، وهدانا للإسلام؟ فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض وذهبت بعقله ، وأصبح حيران تائها لا يدري كيف يسير؟ والحال أن له أصحابا على الجادة المستقيمة يدعونه إلى طريق الهدى ، قائلين له : (ائْتِنا).

ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل : إنه رجع إلى الخلف ، ونكص على عقبيه ، ورجع القهقرى. والسبب : أن الأصل في الإنسان هو الجهل ، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم ، قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل ١٦ / ٧٨] فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى ، يقال له : ردّ على عقبيه.


والمقصود بالآية ضرب مثل مفاده : أن من يرتد مشركا بعد الإيمان ، كمن جعله الجنون هائما على وجهه ، ضالا في الطرقات ، حيران لا يهتدي ، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم ، وهم ينادونه : ائتنا ، وعد إلينا ، فإنا على الطريق الصحيح ، فلا يستجيب لهم. فهذا مثل من يتبع آلهة الأصنام ويعبدها من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء ، حتى يأتيه الموت ، فلا يجد إلا الندامة والهلاك ، علما بأن له صاحبا مخلصا وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوا إلى الطريق الحق وهو الإسلام.

قال الزمخشري : وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده أن الجن تستهوي الإنسان ، والغيلان تستولي عليه ، كقوله : (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة ٢ / ٢٧٥] فشبه الضال عن طريق الإسلام بالتابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إلى الدين الحق ، فلا يلتفت إليهم (١).

وقوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) أي أضلته في الأرض ، والشياطين: هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها ، وهو يرى أنه في شيء ، فيصبح وقد رمته في هلكة.

أدعهم أيها الرسول لدين الحق ، وقل لهم : إن هدى الله في قرآنه هو الهدى ، وطريق الإسلام هو الحق ، وهو الصراط المستقيم ، لا ما تدعون إليه من أهوائكم.

وقل لهم : وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين ، أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له ، فأسلمنا.

وأمرنا بأن أقيموا الصلاة ، أي أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة : وهي الإتيان بها على الوجه الأكمل الذي شرعت من أجله ، وهو تزكية النفس بمناجاة الله ، والنهي عن الفحشاء والمنكر.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥١٢


وأمرنا أيضا بالتقوى : وهي اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه ، أي نحن مأمورون بأمور ثلاثة : هي الإخلاص لله دون إشراك ، وإقامة الصلاة وعبادة الله وحده دون غيره ، والتقوى في جميع الأحوال ، سرا وعلنا ، فهو الذي إليه تحشرون أي تجمعون يوم القيامة ، وإليه وحده المرجع والمآب ، فيحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليه ، فليس من العقل ولا من الحكمة ولا من المصلحة أن يعبد غيره.

والله هو خالق السموات والأرض ومالكهما ومدبرهما ومن فيهما ، وخلقه قائم على الحق والعدل والحكمة : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدّخان ٤٤ / ٣٨ ـ ٣٩] ، (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران ٣ / ١٩١].

وقوله هو الحق أي قضاؤه هو الحق ، حين يقول للشيء يوم القيامة : (كُنْ فَيَكُونُ) وأمره كلمح البصر أو هو أقرب. ويوم يقول : منصوب إما عطفا على قوله : (وَاتَّقُوهُ) وتقديره : واتقوا يوم يقول : (كُنْ فَيَكُونُ) وإما على قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي وخلق يوم يقول : (كُنْ فَيَكُونُ).

وأمره التكويني : (كُنْ) وأمره التكليفي سواء : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف ٧ / ٥٤]. ومن كان أمره التكويني مطاعا ، كان أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة ، فالخلق حق ، والأمر حق.

ولله الملك المطلق والتصرف التام في ملكه. وقوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) جملتان محلهما الجر ، على أنهما صفتان لرب العالمين.

ويوم ينفخ في الصور يصعق كل من في السموات والأرض ، ويهلك حتى


الملك الذي نفخ فيه ، ثم ينفخ فيه مرة أخرى ، فإذا الكل قيام ينظرون ، أي ينتظرون ما سيفعل بهم ، فالنفخة الأولى للإماتة ، والثانية للنشر والحشر.

وقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إما بدل من قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ : كُنْ فَيَكُون يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وإما ظرف لقوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ) كقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر ٤٠ / ١٦] أي أن الملك يوم الحشر والنشر من القبور يوم النفخ في الصور لله تعالى وحده.

أما الصور فالمراد به ما جاء في الأخبار الصحيحة ، روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : قال أعرابي : يا رسول الله ما الصور؟ قال : «قرن ينفخ فيه». وروى مسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن إسرافيل قد التقم الصور ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر ، فينفخ». وقال ابن مسعود : «الصور كهيئة القرن ينفخ فيه».

والنفخات ثلاث كما جاء في حديث الصور عن أبي هريرة : «ينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين.» (١).

ومن صفاته تعالى : أنه عالم الغيب (أي ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس الذي نراه) وعن ابن عباس : الغيب والشهادة : السرّ والعلانية. وهو الحكيم في خلقه ، فلا يفعل ولا يشرع لعباده إلا ما فيه الحكمة والمصلحة ، وهو الخبير بأحوالهم المطلع على سرائرهم أو نياتهم أو ضمائرهم ، وأقوالهم.

وإذا كان الله هو المتصف بهذه الصفات : خالق السموات والأرض ، وقوله الحق تكوينا وتكليفا ، وله الملك وحده في الدنيا والآخرة يوم يحشر الخلائق ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٤٦


وهو عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها ، إذا كان كذلك فهو الأجدر بالعبادة ، ولا ينبغي لعاقل أن يدعو أو يعبد غيره : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن ٧٢ / ١٨] ، (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام ٦ / ٤١].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الثبات على الحق والهداية بعد معرفتهما ، والبعد عن الضلال والشرك بعد تفنيد ما فيهما من زيغ وانحراف.

٢ ـ هدى الله في آيات قرآنه هو الهدى الحق ، والمسلم مأمور بإخلاص العبادة لله صاحب الهدى ورب العوالم كلها من إنس وجن ، وبإقامة الصلاة وإتمامها على وجهها الأكمل ، وبالتقوى ، أي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات المحظورات.

٣ ـ العبادة لا تكون إلا لمن يملك النفع والضر ، وهو الله وحده ، والله هو الخالق بالحق ، والرازق ، والآمر أمرا تكوينيا وتكليفيا ، فأمره مطاع ، وهو المالك ملكا مطلقا لكل تصرف في خلقه في الدنيا والآخرة ، وهو عالم الغيب (ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس المشاهد) وهو الحكيم في خلقه ، الخبير بأحوالهم الدقيقة والعظيمة.

قال أهل السنة في تفسير الحق : الله تعالى مالك لجميع المحدثات ، مالك لكل الكائنات ، وتصرف المالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق ، فكان ذلك التصرف حسنا على الإطلاق وحقا على الإطلاق.

وقال المعتزلة : معنى كونه حقا : أنه واقع على وفق مصالح المكلفين ، مطابق لمنافعهم.


٤ ـ دلّ قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) على سرعة الخلق والتكوين ، وسرعة الحساب والبعث.

٥ ـ دلّت الآيات التي ذكرت أوصاف الله تعالى المتقدمة على أنه لا معبود بحق إلا الله وحده.

٦ ـ ثبت بالإجماع أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه‌السلام ، فهو النافخ ، والله عزوجل يحيي النفوس. قال أبو الهيثم : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط ، وطلب لها تأويلات. وقال ابن فارس : الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه.

الجدال بين إبراهيم عليه‌السلام وبين آزر وسبب ترك الشرك

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))


الإعراب :

(لِأَبِيهِ آزَرَ) آزر : بدل مجرور من (لِأَبِيهِ) كأنه اسم له ، وهو ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف ، وهو أيضا على مثال (أفعل) نحو : أحمد ، ومن قرأ بالضم جعله منادى مفردا وتقديره : يا آزر أتتخذ أصناما آلهة استفهام توبيخ.

(وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) : (وَلِيَكُونَ) : معطوف على مقدر ، تقديره : ليستدل وليكون من الموقنين ، واللام تتعلق بفعل مقدر تقديره : ليستدل وليكون من الموقنين أريناه الملكوت.

(بازِغَةً) منصوب على الحال ؛ لأن (رَأَى) هنا بصرية من رؤية العين ، لا قلبية.

البلاغة :

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) حكاية حال ماضية ، أي أريناه.

(لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فيه تعريض بضلال قومه.

(وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(إِبْراهِيمُ) خليل الرحمن ، أبو الأنبياء ، العاشر من أولاد سام ، جد العرب ، وأبو إسماعيل ، المولود في بلدة «أور» أي النور من بلاد الكلدان ، وهي المعروفة الآن باسم «أورفة» جنوب الحدود التركية المجاورة للحدود السورية. (آزَرَ) أبو إبراهيم ، وهو لقبه واسمه تارح ، أو تارخ ، ومعناه متكاسل. (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟) تعبدها ، والاستفهام للتوبيخ. (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) باتخاذها. (فِي ضَلالٍ) عن الحق ، والضلال : العدول عن الطريق الموصل إلى الهدف. (مُبِينٍ) بيّن واضح. (وَكَذلِكَ) أي كما أريناه ضلال أبيه وقومه نري إبراهيم. (مَلَكُوتَ) ملك وسلطان وعظمة ، أراه الله عظمة السموات والأرض ليستدل بذلك على وحدانية الله. وجملة (وَكَذلِكَ) وما بعدها اعتراض وعطف على : قال.

(جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أظلم أو ستره بظلمته. (رَأى كَوْكَباً) نجما مضيئا ، قيل : هو الزهرة أو المشتري. (أَفَلَ) غاب بعد ظهوره. (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أن أتخذهم أربابا ؛ لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال ؛ لأنهما من شأن الحوادث ، فلم ينجع فيهم ذلك. (بازِغاً) طالعا ، وبزوغ القمر : ابتداء طلوعه. (يَهْدِنِي رَبِّي) يثبتني على الهدى. (مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) تعريض لقومه بأنهم على ضلال ، فلم يؤثر فيهم ذلك. (هذا أَكْبَرُ) من الكوكب والقمر. (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث ، فقالوا له : ما تعبد؟


(وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) قصدت بعبادتي وطلب حاجتي وجه الله وحده ، مع إخلاص العبودية. (فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أخرجهما إلى الوجود أو أبدعهما أو خلقهما لا على مثال سابق. (حَنِيفاً) مائلا عن الضلال والشرك إلى الدين القيم.

المناسبة :

ذكر الله تعالى هنا قصة إبراهيم مع أبيه آزر في إبطال الوثنية ، للاحتجاج على مشركي العرب ، لأن جميع الطوائف والملل تعترف بفضله ، فالمشركون يقرّون بأنهم من أولاده ويعترفون بفضله ، ويدّعون أنهم من ملته ، واليهود والنصارى كلهم معظمون له ، معترفون بجلالة قدره ، وإذا كان إبراهيم يجادل قومه ويناقشهم في عبادة الأوثان ، مرة بعد مرة ، فعلى العرب أحفاده أن يرجعوا عن غيهم ، ويدركوا خطأهم في عبادة الأوثان.

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ، تعبدها من دون الله؟! مع أن الله هو الذي خلقك وخلقها ، فهو المستحق للعبادة دونها.

قال ابن كثير : والصواب أن اسم أبيه آزر.

إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام ، أي السالكين مسلكك والسائرين على طريقتك ، في ضلال واضح ، أي تائهين ، لا يهتدون إلى الطريق القويم الذي يسلكونه ، بل هم في حيرة وجهل ، وأمركم في الجهالة والضلال بيّن واضح لكل ذي عقل سليم ، وأي ضلال أوضح من عبادتكم صنما من حجر أو شجر أو معدن ، تنحتونه بأيديكم ، ثم تعبدونه وتقدسونه ، كقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟) [الصافات ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦] وأنتم أسمى من الصنم شأنا ، وأعلى مكانة ، فأنتم تعقلون ، والأصنام صماء لا تعقل ولا تدفع عن نفسها الضر ، ثم تتخذونهم آلهة معبودة؟!


والتعبير بالضلال المبين : معناه الانحراف عن طريق الاستقامة ، كما قال تعالى لنبيه محمد : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى ٩٣ / ٧].

وكما أرينا إبراهيم ضلال أبيه وقومه في عبادتهم الأصنام والأوثان ، أريناه مرة بعد أخرى ملكوت السموات والأرض ، أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الخلق والصنع ، فاطلع على أسرار الكون وخفاياه من أرض وسماء ، ليستدل بذلك على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وسعة علمنا : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل ٢٧ / ٨٨].

نعرّف إبراهيم ذلك ونبصره ونوفقه ، ونرشده بما شرحنا صدره وسددنا نظره ، وهديناه لطريق الاستدلال ، وليكون ممن أيقن تمام الإيقان أن شيئا من الأصنام والشمس والقمر والكواكب لا يصح أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثا أحدثها ، وصانعا صنعها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ، فتكون تلك الآيات دالة على الألوهية والربوبية ، وحجة على المشركين الضالين. واليقين : علم قطعي يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل.

ثم أوضح الله تعالى ما رآه إبراهيم من ملكوت السموات والأرض ، فقال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) أي لما أظلم عليه الليل ، رأى كوكبا عظيما متميزا عن سائر الكواكب بإشراقه ولمعانه ، وهو كوكب المشتري أو الزهري ، قال : هذا ربي ، أي قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه ، تمهيدا للإنكار عليهم ولإقامة الحجة عليهم ، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم نقضه بالحس والعقل.

فلما غرب هذا الكوكب ، قال إبراهيم : ما هذا بإله ، ولا أحب ما يغيب ويختفي! لأن الإله له السيطرة على الكون ، وهو السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يغفل ؛ إذ كيف يغيب الإله ويستتر؟ قال تعالى (لِمَ تَعْبُدُ


ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٤٢]. وهذا تعريض بجهل قومه في عبادة الكواكب ، قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول.

ثم انتقل إبراهيم من إبطال ألوهية الكوكب إلى إبطال ألوهية القمر الأكثر إضاءة ، فلما رآه بازغا طالعا قد عم ضوءه الكون ، قال : هذا ربي ، فلما غاب كذلك ، كما غاب الكوكب في الليلة الماضية ، قال إبراهيم مسمعا قومه : ما هذا أيضا بإله ، ولئن لم يهدني ربي ويوفقني للإصابة الحق في توحيده ، لأكوننّ من القوم الضالين ، الذين اخطؤوا الطريق ، فلم يصيبوا الهدى ، وعبدوا غير الله. وفي هذا تعريض قريب من التصريح بضلال قومه وتنبيه لهم على أن من اتخذ القمر إلها ضال أيضا ، وإرشاد إلى توقف معرفة العقيدة على الوحي الإلهي ، ثم صرح في المرة الثالثة بالبراءة من شرك قومه.

فلما رأى الشمس بازغة طالعة ، وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا وإضاءة ، قال إبراهيم : هذا (١) هو الآن ربي! هذا أكبر من الكواكب والقمر قدرا ، وأعظم ضوءا ونورا ، فهو أولى بالربوبية.

فلما غابت الشمس كما غاب غيرها ، صرح إبراهيم بعقيدته ، وتبرأ من شرك قومه ، قائلا : أنا بريء من عبادة الكواكب وموالاتهن ، إني توجهت في عبادتي لخالق الأرض والسماء (٢) ، وخالق هذه الكواكب ، مائلا عن الضلال إلى الحق والدين القيم ، دين التوحيد ، ولست من زمرة المشركين الذي يتخذون مع الله إلها آخر ، وإنما أعبد خالق هذه الأشياء ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء ، ، وخالق كل شيء ، وربه ومليكه وإلهه ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي

__________________

(١) إنما قال : هذا عن الشمس وهي مؤنثة ؛ لأنه أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه.

(٢) وقال : وجهت وجهي للذي فطر ، ولم يقل : إلى الذي ؛ لأنه تعالى متعال عن الحيز والجهة ، والمقصود : توجيه القلب لطاعته.


خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٤].

والظاهر مما تقدم أن قوم إبراهيم كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ، ويتخذون الكواكب أربابا آلهة ، والإله : هو المعبود ، والرب : هو السيد المالك المربّي المدبر المتصرف. والعبادة : هي التوجه بالدعاء والتعظيم لخالق الخلق. وليس للخلق إله ولا رب سوى الله.

وموقف إبراهيم كان موقف الممثل للمجادل البارع على سبيل الافتراض أنه غير مؤمن ، أما في الحقيقة والواقع فلم يكن إبراهيم ناظرا في مقام إثبات الألوهية والربوبية ؛ لأن الله قال في حقه : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٥١ ـ ٥٢] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل ١٦ / ١٢٠ ـ ١٢٣] وقال تعالى : (قُلْ : إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ١٦١]. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل مولود يولد على الفطرة» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء» وقال الله في قرآنه المجيد : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم ٣٠ / ٣٠] وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) [الأعراف ٧ / ١٧٢].


فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة ، قانتا لله حنيفا ، ولم يك من المشركين ، ناظرا في هذا المقام ، بل هو أولى بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا شك ولا ريب.

ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا : قوله تعالى فيما يأتي : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ...)(١).

فقه الحياة أو الأحكام :

من أجل إثبات ألوهية الله وربوبيته ناظر إبراهيم وجادل ، وأفحم بالحجة والبرهان ، وله أربع مناظرات :

الأولى ـ مناظرته مع أبيه ، حيث قال له : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٤٢] وحكى القرآن خبر هذه المناظرة هنا ، فقال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...).

الثانية ـ مناظرته مع قومه ، وهو قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...).

الثالثة ـ مناظرته مع ملك زمانه ، فقال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة ٢ / ٢٥٨].

الرابعة ـ مناظرته مع الكفار بالفعل ، وهو قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) [الأنبياء ٢١ / ٥٨].

وهذا يدل على قوة إبراهيم ومقدرته في الجدل والمناظرة ، وحضور البديهة لإفحام الخصم ، وإثبات مراده بالبرهان القاطع.

وكان إبراهيم عليه‌السلام بارعا في هذا المقام ، حيث أبطل عبادة الكواكب

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢


والقمر والشمس ؛ لأنها تغيب وتختفي ، وشأن الإله ألا يغيب ولا يستتر ، ولا يتخلى عن إشرافه لملكوته ، وقد تنازل مع خصمه بهذا الأسلوب على سبيل الافتراض ، ثم نقض وجهة نظر الخصم وكان في كل ذلك ـ كما أوضحت ـ مناظرا لا ناظرا ، فعقيدته مستقرة في قلبه بالفطرة والإلهام والإرشاد الإلهي والعقل والحس.

وأما قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) فمعناه : لئن لم يثبتني على الهداية ، وقد كان مهتديا. وفي التنزيل : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ١ / ٦] أي ثبتنا على الهداية.

وتدرج إبراهيم من اختبار نماذج ثلاثة لألوهية الكواكب إلى إثبات ألوهية الله الحق وربوبيته ، بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عزوجل وحده. وذكر الوجه ؛ لأنه أظهر ما يعرف به الإنسان صاحبه. وكان تدرجه من التعريض بجهل قومه وبطلان الوثنية ، إلى سلخ محبته عن الآفلين ، إلى الإنذار بالضلال والحيرة ، إلى التصريح بالبراءة من الشرك ومن المشركين ، إلى إعلان عقيدته بعد هدم أساس الشرك.

قال الرازي : وليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة ، لكن الثنوية يثبتون إلهين : أحدهما ـ حكيم يفعل الخير ، والثاني ـ سفيه يفعل الشر. وأما الاشتغال بعبادة غير الله فهناك كثرة : منهم عبدة الكواكب ، ومنهم قوم غلاة ينكرون الإله الصانع ، وهم الدهرية الخالصة والنصارى يعبدون غير الله ، إذ يعبدون المسيح ، ومنهم عبدة الأصنام (١).

ولا دين أقدم من دين عبادة الأصنام ؛ لأن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٣٥


تاريخهم مفصلا هو نوح عليه‌السلام ، وقد جاء بالرد على عبدة الأصنام (١) ، كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا : (لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح ٧١ / ٢٣] وسبب قولهم أن الإنسان البدائي توهم في صموت الصنم سرا يصلح أن يوصل إلى الله تعالى ، أوتوهم في ظهور بعض مخلوقات الله من شجر أو شمس أو قمر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه من توجه إليها.

وأدرك قوم إبراهيم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، وإنما قلدوا آباءهم ، لذا اتخذوا الأصنام آلهة معبودة لا أربابا مدبرين ، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لتأثيرها السبي في الأرض.

وقلد العرب آباءهم في عبادة الأصنام قائلين : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣].

ولا يسع المؤمن إلا التنديد بكل مظاهر الوثنية وأشكالها وطقوسها ، وحصر العبادة بفاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل ، كما أعلن إبراهيم عليه‌السلام الذي قال في التماثيل : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ، وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٥٦].

وجميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته ؛ لأنها محدثة ممكنة ، وكل محدث ممكن هو محتاج إلى الصانع.

ودل قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) على أحكام ذكرها الرازي :

١ ـ دلت هذه الآية على أن الله تعالى ليس بجسم ؛ إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا أبدا ، فكان آفلا أبدا.

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.


٢ ـ ودلت الآية على أنه تعالى ليس محلّا للصفات المحدثة ، وإلا لكان متغيرا ، وحينئذ يحصل معنى الأفول ، وذلك محال.

٣ ـ ودلت أيضا على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل ، لا على التقليد ، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.

٤ ـ ودلت كذلك على أن معارف الأنبياء بربهم قائمة على الاستدلال لا بالبداهة أو الضرورة ، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال.

٥ ـ ودلت على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته ؛ إذ لو أمكن معرفتها بطريق آخر ، لما عدل إبراهيم عليه‌السلام إلى هذه الطريقة(١).

المحاجة بين إبراهيم وقومه

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٥٥ ـ ٥٦


الإعراب :

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) : (إِلَّا) : استثناء منقطع (شَيْئاً) : منصوب على المصدر ، كقولك : إلا أن يشاء مشيئة. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) : (عِلْماً) : منصوب على التمييز.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) : (الَّذِينَ) : مبتدأ ، و (أُولئِكَ) : بدل من (الَّذِينَ) أو مبتدأ ثان ، و (الْأَمْنُ) : مبتدأ ثالث أوثان. و (لَهُمُ) : خبر (الْأَمْنُ). والأمن وخبره : خبر (أُولئِكَ). وأولئك وخبره : خبر (الَّذِينَ).

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) منصوب بنرفع على الظرف ، أو بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : إلى درجات. ومن قرأ بغير تنوين ، كان (دَرَجاتٍ) مفعولا به ، والعامل فيه (نَرْفَعُ) وأضافها إلى (مَنْ).

المفردات اللغوية :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) جادلوه في دينه ، وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها. والمحاجة : المجادلة والمغالبة ، وتطلق الحجة على ما يدلي به الخصم لإثبات دعواه أو الرد على دعوى خصمه ، والحجة : إما دامغة لا تقبل النقض ، أو داحضة واهية لا تثبت شيئا ، فتسمى شبهة. (أَتُحاجُّونِّي) أي أتجادلونني. (فِي اللهِ) في وحدانية الله. (وَقَدْ هَدانِ) تعالى إليها.

(وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي تشركونه به من الأصنام أن تصيبني بسوء لعدم قدرتها على شيء. (إِلَّا) لكن. (أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) من المكروه ، يصيبني فيكون. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل شيء.

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) هذا فتؤمنوا. (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) بالله ، وهي لا تضر ولا تنفع. (وَلا تَخافُونَ) أنتم من الله. (أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) في العبادة. (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بعبادته. (سُلْطاناً) حجة وبرهانا ، وهو القادر على كل شيء. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من الأحق بالأمن والسلامة ، أنحن أم أنتم ، أي وهو نحن فاتبعوه. (وَلَمْ يَلْبِسُوا) يخلطوا. (إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) المراد به هنا الشرك في العقيدة أو العبادة ، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه ، لأنه الظلم الأكبر. (الْأَمْنُ) من العذاب. (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) التي احتج بها إبراهيم على وحدانية الله من أفول الكوكب ونحوه. (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أرشدناه لها ، حجة. (عَلى قَوْمِهِ) المشركين. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) في العلم والحكمة. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه. (عَلِيمٌ) بخلقه.


سبب النزول : نزول الآية (٨٢):

(الَّذِينَ آمَنُوا) أخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال : حمل رجل من العدو على المسلمين ، فقتل رجلا ، ثم حمل فقتل آخر ، ثم قال : أينفعني الإسلام بعد هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فضرب فرسه فدخل فيهم ، ثم حمل على أصحابه ، فقتل رجلا ، ثم آخر ، ثم آخر ، ثم قتل ، قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية.

المناسبة :

الآيات استمرار في مناظرات إبراهيم عليه‌السلام ، وهي هنا جدال بينه وبين قومه فيما ذهب إليه من التوحيد ، ولما أفحمهم في المناظرة ، تمسكوا بالتقليد ، واستهجنوا جعل الآلهة إلها واحدا ، وخوفوه بالآفات والبليات ، لما طعن في ألوهية هذه الأصنام.

التفسير والبيان :

جادله قومه في مبدأ التوحيد ، فهو حين أثبته لهم بالأدلة القاطعة في حدود مستواهم الفكري ، وأثبت لهم وجوب عبادة الله وحده ، حاجوه ببيان شبهاتهم في شركهم ، فقالوا : إن تعدد الآلهة لا ينافي الإيمان بالله ؛ لأنهم شفعاء عنده ، وتمسكوا بالتقليد للآباء وبنحو ذلك. فرد الله عليهم بقوله :

(قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ)؟ أي أتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا الله ، وقد بصرني وهداني إلى الحق ، وأنا على بينة منه ، فكيف ألتفت إلى مزاعمكم وضلالكم في شرككم وتقليدكم فيه أسلافكم من غير حجة؟


ومن أدلة بطلان مذهبكم أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا ، وأنا لا أخافها ولا أرهبها ولا أبالي بها ؛ لأنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، ولا تنصر ولا تشفع ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تمهلون ، بل عاجلوني بذلك.

لا أخاف ما تشركون به أبدا إلا إذا شاء الله شيئا في إصابة مكروه لي ، فإنه يقع حتما ؛ لأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عزوجل ، وهو القادر على كل شيء.

ثم علل تعالى ما سبق فقال : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه بجميع الأشياء ، فلا تخفى عليه خافية ، فلربما أنزل بي مكروها بسبب الدعوة إلى نبذها وتحطيمها.

أفلا تتذكرون هذا وما بينته لكم فتؤمنوا ، أي أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة ، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذا شبيه بما احتج به هود عليه‌السلام على قومه عاد : (قالُوا : يا هُودُ ، ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ، قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود ١١ / ٥٣ ـ ٥٦].

وكيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم ، ما لم ينزل به حجة بيّنه بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة؟ وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن الله واحد أحد فرد صمد ، فإشراككم وافتئاتكم هو الذي ينبغي أن يخاف.

وفي (كَيْفَ) معنى الإنكار ، أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام ، وهم


لا يخافون الله عزوجل ؛ أي كيف أخاف ميتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء؟! قال ابن عباس وغيره عن قوله (سُلْطاناً) أي حجة ، أي لا دليل يثبته ، كقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى ٤٢ / ٢١] وقوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم ٥٣ / ٢٣].

وإذا كان هذا هو الحقيقة والواقع ، فأي الفريقين : فريق الموحدين وفريق المشركين أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ، وأجدر بالأمن وعدم الخوف على نفسه في الدنيا من جراء عقيدته؟ أي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد من بيده الضر والنفع ، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟ والتصريح بالفريقين دون الاكتفاء بقول : (فأينا أحق بالأمن) للدلالة على أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك ، لا خاصة لهم ، وللبعد عن تخطئتهم صراحة حتى لا ينفروا من الإصغاء ، ويلجأوا إلى العناد.

إن كنتم تعلمون ، أي إن كنتم على علم وبصيرة بهذا الأمر ، فأخبروني بذاك ، وفي هذا دفع لهم إلى الاعتراف بالحق.

ثم أجاب الله تعالى عمن هو أحق بالأمن فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي الذين صدقوا بوجود الله ووحدانية ، وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ، ولم يشركوا به شيئا ، ولم يخطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة.

روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال أصحابه : وأينا لهم يظلم نفسه ، فنزلت : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) هذه رواية البخاري. وأما رواية الإمام أحمد : «لما نزلت هذه الآية : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك


على الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسه؟ قال : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان ٣١ / ١٣] إنما هو الشرك».

وتلك الحجة القوية التي احتج بها إبراهيم عليه‌السلام على قومه من قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أرشدنا إليها إبراهيم ووفقناه لها ، ليقنع قومه. وهذا يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى.

إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات في الدنيا في العلم والحكمة ، وهي درجة الإيمان ، ودرجة العلم ، ودرجة الحكمة والتوفيق ، درجة النبوة ، ما لم يحظ بها غيرهم ، كما قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة ٢ / ٢٥٣] وفي الآخرة بالجنة والثواب. والمراد من الآية : أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب ما آتاه من الحجة.

إن ربك حكيم في قوله وفعله وصنعه ، عليم بشؤون خلقه ، وبمن يهديه ومن يضله ، وإن قامت عليهم الحجج والبراهين ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧]. والله يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم ، لا بموجب الشهوة والمجازفة ، فإن أفعال الله منزهة عن العبث والباطل.

ويلاحظ أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الأكمل الصحيح إلا عن طريق الوحي ، وعلم الأنبياء بالوحي بدهي لا نظري ، فقد علّمهم كل ما يحتاجون إليه من الأدلة العقلية والنقلية.


فقه الحياة أو الأحكام :

علّم الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام كل أنواع الحجج العقلية التي يفحم بها قومه ، ويبطل شبهاتهم ومزاعمهم بدليل قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ).

منها أنهم خوفوه بالأصنام ، فكان الرد عليهم بقوله : لا خوف منها أصلا ؛ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر ، والأصنام جمادات لا تقدر على شيء من نفع أو ضر.

وأما ما قد يصاب به الإنسان من المصائب ، فإما أن يكون بسبب ذنب ، فيعاقب عليه ، وإما أن يكون ابتلاء واختبارا بمحن الدنيا ، فيعرف الصبر عليها ومدى تماسك الإيمان وقت الشدة ، وإما أن يكون تسليطا لبعض الظلمة على غيرهم ، حتى يكون ظلمهم سببا لإهلاكهم.

أما قيام الأنبياء بواجباتهم في الدعوة لإثبات التوحيد وإبطال الشرك فلا يكون سببا لاستحقاق العقاب وإنزال العذاب ، خلافا لما يتوهم المشركون عبدة الأوثان ؛ فإن الوثنية كلها نابعة من الوهم والخرفة.

والمحاجة والجدال محمود كل منهما إذا كانا بقصد تقرير الدين الحق ، وهما مذمومان إذا كانا لتقرير الدين الباطل.

وإذا كان الشرك بالله مصدر المخاوف والأوهام ، فلا غرابة في أن المشركين يعيشون دائما في قلق واضطراب وخوف من مغيبات القدر والمستقبل. أما المؤمنون الموحدون فلهم الأمن المطلق بشرط وجود الوصفين : وهما الإيمان ، وهو كمال القوة النظرية ، وعدم الإيمان بالظلم ، وهو كمال القوة العملية. والمراد من الظلم هنا : هو الشرك ؛ لأنه الظلم الأكبر ، ولقوله تعالى حكاية عن لقمان ،


إذ قال لابنه وهو يعظه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) والمراد هنا : الذين آمنوا بالله ، ولم يثبتوا لله شريكا في العبادة.

أما الفاسق فيحتمل أن يعذبه الله ، ويحتمل أن يعفو عنه.

ودل قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى. ويؤكده قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي أن الله تعالى هو الذي رفع درجات إبراهيم بسبب أنه آتاه الحجة.

إبراهيم أبو الأنبياء وخصائص رسالاتهم والاقتداء بهديهم

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))


الإعراب :

(كُلًّا) منصوب بهدينا ، وكذلك (نُوحاً) : منصوب بهدينا ، وهو منصرف وإن كان قد اجتمع فيه العجمة والتعريف لخفة الوزن ؛ لأن خفة الوزن قام مقام أحد السببين ، فكأنه بقي سبب واحد ، والسبب الواحد لا يمنع الصرف ، فانصرف. وهاء (ذُرِّيَّتِهِ) تعود على نوح ، ولا يجوز أن تعود على إبراهيم ؛ لأن بعده لوطا ، ولم يكن من ذرية إبراهيم ، وإنما كان من ذرية نوح.

و (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) : منصوبان بهدينا ، وهما غير منصرفين للعجمة والتعريف.

(وَالْيَسَعَ) ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف.

(لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) الباء في (بِها) تتعلق (بِكافِرِينَ) ، والباء في (بِكافِرِينَ) زائدة لتأكيد النفي ، كأنه قال : ليسوا بها كافرين ، وهو خبر (ليس).

(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) هاء (اقْتَدِهْ) : للسكت ، ودخلت بيانا للحركة ، وصيانة لها عن الحذف. ومن قرأ بكسر الهاء جعلها كناية عن المصدر ، أي : اقتد الاقتداء.

المفردات اللغوية :

(وَوَهَبْنا لَهُ) لإبراهيم (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق (كُلًّا) منهما (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي نوح (وَسُلَيْمانَ) ابن داود (وَيُوسُفَ) ابن يعقوب (وَإِلْياسَ) ابن أخي هرون أخي موسى (وَإِسْماعِيلَ) ابن إبراهيم (وَالْيَسَعَ) السلام زائدة (وَلُوطاً) ابن هارون أخي إبراهيم (وَكلًّا) منهم (فَضَّلْنا) بالنبوة.

(وَمِنْ آبائِهِمْ ..) عطف على (كلًّا) أو على (نُوحاً) ومن : للتبعيض ؛ لأن بعضهم لم يكن له ولد ، وبعضهم كان في ولده كافر (وَاجْتَبَيْناهُمْ) اخترناهم واصطفيناهم (ذلِكَ) الدين الذي هدوا إليه (لَحَبِطَ) لبطل عنهم عملهم (الْكِتابَ) أي الكتب (وَالْحُكْمَ) الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بهذه الثلاثة : الكتب والحكمة والنبوة (هؤُلاءِ) أي أهل مكة. (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) هيأنا لها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) هم المهاجرون والأنصار.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها ودافع عنها ، عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه ؛ وأولها ـ قوله :


(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) وثانيها ـ قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) وثالثها ـ قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ ..) أي أنه جعله عزيزا في الدنيا ؛ لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته ، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة.

التفسير والبيان :

أكرم الله نبيه إبراهيم عليه‌السلام ، فوهب له إسحاق ، بعد أن كبر في السن ، وأيس هو وامرأته «سارة» من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك وقالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قالُوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ؟ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود ١١ / ٧٢ ـ ٧٣].

بشروهما أيضا بنبوته ، وبأن له نسلا وعقبا ، كما قال تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات ٣٧ / ١١٢] وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة ، وقال : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود ١١ / ٧١].

وكان هذا مجازاة ومكافأة لإبراهيم عليه‌السلام حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم ، وهاجر من بلاده ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عزوجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه ، على دينه ، لتقرّبهم عينه ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) [مريم ١٩ / ٤٩] وقال هاهنا : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، كُلًّا هَدَيْنا) أي جعلنا له إسحاق ويعقوب ولدين صالحين ومن الأنبياء ، وهدينا كلا منهما كلا هدينا إبراهيم بالنبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة.


وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل ؛ لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته «سارة» جزاء إيمانه وإحسانه ، وكمال إسلامه وإخلاصه ، بعد ابتلائه بذبح ولده «إسماعيل» الذي لم يكن له ولد سواه ، على كبر سنّه ، ومثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وهناك سبب آخر لذكر إسحاق دون إسماعيل : وهو أن المقصود بالذكر أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، وأما إسماعيل فليس من صلبه نبي إلا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإبراهيم من سلالة نوح ، وكما هداه الله ، هدى جده نوحا قبله ، فأتاه النبوة والحكمة ، وهذه نعمة من أعظم النعم ، فهو من سلالة نبي ، وأولاده أنبياء ، فجعل من ذريته داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، فهي ذرية طيبة : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران ٣ / ٣٤].

وإنما ذكر نوحا ؛ لأنه جد إبراهيم ، كما تقدم ، مما يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه ، فهو كريم الآباء ، شريف الأبناء ، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا ، كما قال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [الحديد ٥٧ / ٢٦].

وهدى الله كذلك من ذرية إبراهيم إلى النبوة والحكمة زكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وكل منهم من الصالحين قولا وعملا. وعود الضمير إلى إبراهيم ؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله ، ويجوز عوده إلى نوح ؛ لأنه أقرب المذكورين.

وهدى أيضا من ذريته إسماعيل ابنه الصلبي وجد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واليسع ، ويونس ، ولوطا ، وكلا منهم فضلناه على العالمين.

لكن يأتي إشكال هنا وهو أن لوط عليه‌السلام ليس من ذرية إبراهيم ، وإنما هو ابن أخيه هاران بن آزر ، اللهم إلا أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليبا ، كما


في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ، إِذْ قالَ لِبَنِيهِ : ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ : إِبْراهِيمَ ، وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، إِلهاً واحِداً ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة ٢ / ١٣٣] فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا ، وكما قال : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) [الحجر ١٥ / ٣٠ ، ص ٣٨ / ٧٣] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة ؛ لأنه كان متشبها بهم ، فعومل معاملتهم ، ودخل معهم تغليبا ، وإلا فهو كان من الجن ، وطبيعته من النار ، والملائكة من النور.

وفي ذكر عيسى عليه‌السلام في ذرية إبراهيم ، أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ؛ لأن عيسى عليه‌السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه‌السلام من طريق أمه «مريم» فإنه لا أب له. ومثل ذلك دخول الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما في ذرية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما أولاد فاطمة رضي‌الله‌عنها ؛ لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للحسن بن علي : «إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فسماه ابنا ، فدل على دخوله في الأبناء.

ويلاحظ أن الله تعالى ذكر أولا أربعة من الأنبياء وهم : نوح ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء : داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوطا ، والمجموع ثمانية عشر. والترتيب بينهم غير معتبر ؛ لأن حرف الواو لا يوجب الترتيب.

وحكمة جعل الأنبياء في الآية ثلاثة أقسام هي ما يأتي :

١ ـ داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون : وهؤلاء جمعوا بين النبوة والرسالة وبين الملك والإمارة والحكم ، فداود وسليمان كانا ملكين ، وأيوب


كان أميرا ، ويوسف كان وزيرا وحاكما متصرفا ، وموسى وهارون كانا حاكمين ، ولم يكونا ملكين. وقد ذكرهم القرآن على طريقة الترقي في هدى الدين ؛ فأفضلهم موسى وهارون ، ثم أيوب ويوسف ، ثم داود وسليمان.

وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة ، وبين هداية الدين وإرشاد الناس.

٢ ـ زكريا ويحيى وعيسى وإلياس : وهؤلاء امتازوا بالزهد في الدنيا ، فوصفهم الله بالصالحين.

٣ ـ إسماعيل واليسع ويونس ولوط : وهؤلاء لم يكونوا ملوكا كالقسم الأول ، ولا زهادا كالقسم الثاني ، وإنما لهم أفضلية على العالمين في زمانهم ، فالمنفرد منهم أفضل من قومه ، والموجود منهم اثنان فأكثر أفضل من أقوامهم ، وقد يكون أحدهم أفضل من الآخر ، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له ، وموسى أفضل من أخيه ووزيره هارون ، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى عليهم‌السلام.

ثم ذكر الله تعالى فضله على هؤلاء الأنبياء ، فقال : (وَمِنْ آبائِهِمْ ...) أي وهدينا بعض آبائهم ، وذرياتهم ، وإخوانهم ، لا كلهم ؛ إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير ، كأبي إبراهيم ، وابن نوح ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ ، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد ٥٧ / ٢٦].

ثم وصفهم الله بما خصهم به فقال : ولقد (اجْتَبَيْناهُمْ ...) أي ولقد اصطفيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة ، وهديناهم إلى الصراط المستقيم : وهو الدين الحق القويم.


ذلك الهدى الذي هدى به هؤلاء الأنبياء والمرسلين لإصابة الدين الحق ، هو هدى الله الخالص وتوفيقه ، دون هداية من عداه. والهداية نوعان : إما هداية محضة من الله لا تنال بالسعي والكسب وهي النبوة ، وهي المشار إليها في قوله تعالى لنبيه : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى ٩٣ / ٧]. وإما هداية تنال بالسعي والكسب مع التوفيق الإلهي لنيل المراد.

ولو أشرك هؤلاء المهتدون بربهم ، مع فضلهم ورفعتهم درجات ، لبطل أجر عملهم كغيرهم في حبوط أعمالهم ، وهو تشديد في أمر الشرك وتغليظ لشأنه ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ..) [الزمر ٣٩ / ٦٥] وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع ، كقوله : (قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٨١] وقوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ٢١ / ١٧] وقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر ٣٩ / ٤].

أولئك المذكورون ، رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد لله تعالى ، وهم الذين آتيناهم الكتاب (أراد جنس الكتاب) : وهو ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى ، وآتيناهم الحكم : أي الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين ، ويتفرع عنه الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات ، والنبوة ، أي جعلناهم أنبياء يوحى إليهم من الله حكمه وأمره ودينه ، وبعضهم أوتي النبوة صبيا كيحيى وعيسى عليهما‌السلام ، وبعضهم جمع العطايا الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) [الشعراء ٢٦ / ٨٣] وقال حكاية عن موسى : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١] وقال عن داود : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ)


[ص ٣٨ / ٢٦] وقال في داود وسليمان : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء ٢١ / ٧٩].

ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين حكموا بالتوراة ، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.

فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة هؤلاء المشركون من أهل مكة ، فقد وكلنا برعايتها وعنايتها ، ووفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين ، آمنوا بها وعملوا بأحكامها ودعوا الناس إليها ، آمن بعضهم فورا ، وسيؤمن بعضهم بعدئذ. أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) يعني أهل مكة ، يقول : إن يكفروا بالقرآن ، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ، يعني أهل المدينة والأنصار (١).

والأصح أن المراد بالموكلين بها هم أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا. ثم ربط الله تعالى بين هؤلاء الأنبياء وخاتم النبيين ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ...) أي أولئك الأنبياء المذكورون الثمانية عشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة ، وما أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان هم أهل الهدى الكامل من الله ، لا غيرهم ، فبهداهم اقتده ، أي اقتد واتبع هداهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والأخلاق الحميدة.

وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به. قال البخاري عند هذه الآية بسنده عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : أفي ص سجدة؟ فقال : نعم ، ثم تلا : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) إلى قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ثم قال : هو منهم.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١٧٥


وقل أيها الرسول لمن أرسلناك إليهم : لا أطلب على تبليغ القرآن أجرا من مال ولا غيره من المنافع الخاصة ، كما أن جميع الرسل قبلي لم يطلبوا أجرا على التبليغ والهدى ، كما قال تعالى : (قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى ٤٢ / ٢٣].

وما هذا القرآن إلا تذكير وموعظة للعالمين ، وإرشاد وهدى للمتقين. وهذا تصريح بعموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس قاطبة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أنعم الله على نبيه إبراهيم الخليل عليه‌السلام بنعم كثيرة ، ذكر في الآية السابقة منها اثنتين وهما قوة الجدل وإفحام الخصوم بالحجة البالغة ، ورفع درجاته في الدنيا والآخرة ، وذكر في هذه الآية أنه ابن نبي وأبو الأنبياء ، فهو كريم الأصل شريف الفرع ، وهو في أشرف الأنساب.

ودلت الآية كما ذكر سابقا على أن أولاد البنات داخلون في ذرية الإنسان ، لذا قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة : كل ذي رحم محرم ، ويسقط عنده ابن العمّ والعمة وابن الخال والخالة ؛ لأنهم ليسوا بمحرمين. وقال الشافعي : القرابة : كل ذي رحم محرم وغيره ، فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره.

وقال مالك : لا يدخل في ذلك ولد البنات.

وذكر الله في هذه الآية ثمانية عشر نبيا ، وهناك سبعة آخرون في القرآن وهم آدم أبو البشر ، وإدريس ، وهود ، وذو الكفل ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد خاتم النبيين ، فيصبح المجموع خمسة وعشرين نبيا تجب معرفتهم والإيمان بهم ؛ لأن الله


تعالى نص على أسمائهم في القرآن الكريم ، وهم كما ذكرت في تفسير الآية (١٦٣) من سورة النساء :

آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

والآية تدل على أن أول رسول شرع الله له الأحكام من حلال وحرام هو نوحعليه‌السلام.

ودلت الآية على أن مهام الأنبياء متفاوتة ، فمنهم من جمع الله له النبوة والملك والقضاء بين الناس ، ومنهم من جمع الله له النبوة والحكم ، ومنهم من قصره على النبوة فقط ، كما تقدم. ومن هؤلاء الأنبياء من بقي له أتباع كأتباع الديانات الثلاث : اليهودية والنصرانية والإسلام ، ومنهم من انقرض أتباعه وهم إسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط.

والأنبياء أفضل من الملائكة ؛ لقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم‌السلام : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) والعالم : اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل فيه الملائكة ، فهذا القول يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين.

ودل قوله تعالى : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة ، فالآباء : هم الأصول ، والذريات : هم الفروع ، والإخوان : فروع الأصول. والمراد بالهداية : الهداية إلى الثواب والجنة ، والهداية إلى الإيمان والمعرفة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٨٥


وإذا تنكر قوم لرسالة نبي ، فإن الله تعالى يهيء لها أقواما آخرين ، كما هيأ أهل المدينة عوضا عن أهل مكة.

ودل قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) على إبطال الشرك وإثبات التوحيد ، كما دل قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) على وجوب اتباع هدي الأنبياء المشترك وهو أصل التوحيد وعبادة الله والفضائل والأخلاق الشريفة وجميع الصفات الحميدة.

واحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأن الله أمره بأن يقتدي بهم بأسرهم.

إثبات النبوة

وإنزال الكتب على الأنبياء ومهمة القرآن

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

الإعراب :

(إِذْ قالُوا : ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ..) الآية (٩١) : (مِنْ) زائدة للتأكيد والعموم ، و (شَيْءٍ) : في موضع نصب بأنزل. و (نُوراً) منصوب على الحال من الكتاب أو


من الضمير المجرور في (بِهِ). و (هُدىً) عطف عليه. وكذلك (تَجْعَلُونَهُ) في موضع نصب على الحال. و (قَراطِيسَ) منصوب بتجعلونه ، وتقديره : تجعلونه في قراطيس ، إلا أنه لما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه.

(فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) يلعبون : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول في (ذَرْهُمْ).

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) اللام : لام كي ، تتعلق بفعل مقدر تقديره : ولتنذر أم القرى أنزلناه.

البلاغة :

(ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) مبالغة في إنكار نزول شيء من الوحي على أحد من الرسل.

(مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) استفهام للتوبيخ والتقريع.

(أُمَّ الْقُرى) مكة المكرمة ، وفيه استعارة حيث شبهت بالأم ؛ لأنها أصل المدن والقرى.

المفردات اللغوية :

(وَما قَدَرُوا اللهَ) أي ما عرفوا الله حق المعرفة ، وما عظموه حق عظمته ، والضمير عائد إلى اليهود أو إلى مشركي قريش (إِذْ قالُوا) للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خاصموه في القرآن (قَراطِيسَ) واحدها قرطاس : وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره ، والمراد : يكتبون الكتاب في دفاتر مقطعة (تُبْدُونَها) أي ما يحبون إبداءه منها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) مما فيها كنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود في القرآن (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) من التوراة ببيان ما التبس عليكم واختلفتم فيه. (قُلِ اللهُ) أنزله إن لم يقولوه ، لا جواب غيره (فِي خَوْضِهِمْ) أباطيلهم.

(مُبارَكٌ) فيه بركة ، أي زيادة وسعة ، بارك الله فيه بما امتاز به عما قبله من الكتب في النظم والمعنى (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله من الكتب (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) مكة ، سميت بذلك ؛ لأنها قبلة أهل القرى كلها ، ولأنها مكان أول بيت وضع للناس ، والفعل معطوف على معنى ما قبله ، أي أنزلناه للبركة والتصديق ، ولتنذر به أم القرى : مكة ، ومن حولها ، أي سائر الناس (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) يصدّقون بالعاقبة ويخافونها (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بهذا الكتاب ، وذلك أن أصل الدين : خوف العاقبة ، فمن خافها ، لم يزل به الخوف حتى يؤمن (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) خوفا من عقاب الآخرة. وخص الصلاة ؛ لأنها عماد الدين ، ومن حافظ عليها حافظ على أخواتها.


سبب النزول :

نزول الآية (٩١):

(وَما قَدَرُوا اللهَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال له : مالك بن الصّيف ، فخاصم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السّمين؟» وكان حبرا سمينا ، فغضب ، وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له أصحابه : ويحك ، ولا على موسى ، فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية. وهو خبر مرسل ، وأخرج ابن جرير الطبري نحوه عن عكرمة.

وقال ابن عباس في رواية الوالبي : قالت اليهود : يا محمد ، أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم ، قالوا : والله ، ما أنزل الله من السماء كتابا ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) ويؤيده قول الحسن وسعيد بن جبير: الذي قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ) هو أحد اليهود ، قال : لم ينزل الله كتابا من السماء ، وقال السدي : اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال : هو مالك بن الصيف.

وقال محمد بن كعب القرظي : أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن امره ، وكيف يجدونه في كتبهم ، فحملهم حسد محمد أن كفروا بكتاب الله ورسوله ، وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وذكر عن ابن عباس في رواية أخرى : أن آية : (إِذْ قالُوا : ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) يعني مشركي قريش. وهذا هو الراجح ، كما سأبين.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٢٥ وما بعدها.


المناسبة :

إن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد ، ولما حكى تعالى عن إبراهيمعليه‌السلام أنه ذكر دليل التوحيد ، وإبطال الشرك ، وأبان الله تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة ، شرع بعده في تقرير أمر النبوة ، فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حيث أنكروا النبوة والرسالة ، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات (١).

التفسير والبيان :

إن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله : وهم إما قريش أو طائفة من اليهود ، كما ذكر في سبب النزول ، ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق تعظيمه ؛ إذ كذبوا رسله إليهم ، وقالوا : ما أنزل الله كتابا من السماء.

قال ابن كثير : والأول (أي نزولها في قريش) أصح ؛ لأن الآية مكية ، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه من البشر (٢) ، كما قال : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس ١٠ / ٢] وقال عزوجل : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا : أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً. قُلْ : لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٤ ـ ٩٥] وقال هاهنا : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا : ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

والواقع أن من عرف الله حقيقة ، وأدرك أنه القادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، ووسعت رحمته كل شيء ، أيقن أن الإنسان بأشد الحاجة إلى الكتاب

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٧٢

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٥٦


الإلهي ، والاهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين ، لإحراز السعادة الأبدية ، وتحقيق الرقي الإنساني مادة ومعنى ، فقد كان البشر البدائيون فوضى ، والعالم يئن من الاضطراب والقلق ، فكانت رسالة الرسل أداة تنظيم المجتمع ، وواسطة الرقي ، وسبيل الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي ، والحد من غطرسة الحاكم وظلم الفرد والجماعة ، فمن أنكر رسالة الرسل ما عرف الله حق المعرفة ، ولا قدرة حق قدره.

ثم ذكر الله الدليل الحسي على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش ، وأمر الله نبيه محمدا أن يقول لهم : من أنزل كتاب التوراة على موسى بن عمران ، الذي كان نورا بدد الظلام ، وهدى للناس الذين أخرجهم من الضلال إلى نور الحق ، وصاروا خلقا آخر بسبب الاهتداء بهدي الله ، وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام ٦ / ١٥٧].

وقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) هذا لليهود الذين أخفوا صفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرها من الأحكام ، والمعنى : تجعلون جملتها قراطيس أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم ، وتحرفون منها ما تحرفون ، وتبدلون منها ما تبدلون ، وتقولون : هذا من عند الله ، أي في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله.

وإذا جرينا على أن الأصح في سبب نزول هذه الآية وهو كونها في مشركي قريش ، فيظهر إشكال ، إذ كيف يكون الخطاب في أول الآية : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) لقريش ، ونهايتها (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) لليهود؟

والجواب : إذا كان سبب النزول هو اليهود ، فأول الآية وآخرها فيهم ، وإذا كان سبب النزول هو مشركي قريش ، فتأويل الآية : من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس ، وقد كانت كذلك حتى غيروها وحرّفوها ، ونسوا حظا كثيرا منها ، وجعلوها قراطيس مقطعة ، يبدونها عند الحاجة ، فإذا استفتي أحد


أحبارهم (علمائهم) في مسألة ، أظهر منها ما يتفق مع هواه ، وأخفى كثيرا من أحكام الكتاب ، والسبب أن الكتاب محجور عليه بأيديهم ، ولم يكن في أيدي العامة نسخ منه ، وهذا الإخفاء محصور فيما تذكروه ، لا ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس ، وإجلاء اليهود إلى العراق ، وهو ما أشار إليه تعالى بقوله : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة ٥ / ١٣] ثم كرر ذلك في الآية التالية بعدها فقال : (فَنَسُوا حَظًّا) وقد كتموا صفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبشارة به ، وحكم الزنى وهو الرجم.

فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود أشد أعداء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا المعنى منسجم مع قراءة يجعلونه بالياء ، أما على قراءة (تَجْعَلُونَهُ) بالتاء ، فيكون الله قد أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ هذه الآية على اليهود وغيرهم بالخطاب لهم.

قال مجاهد : قوله تعالى : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) خطاب للمشركين ، وقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) لليهود ، وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا ...) للمسلمين.

قال القرطبي : وهذا يصح على قراءة من قرأ يجعلونه قراطيس بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود ، ويكون معنى (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) على وجه المنّ عليهم بإنزال التوراة.

والخلاصة : أن الآية (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ ..) إن كانت واردة في حق قريش ، فيمكن جعل أولها فيهم ، وآخرها في اليهود ، على قراءة الياء يجعلونه. وأما على قراءة التاء فلا تفهم إلا بجعلها كلها لليهود.

وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الخطاب : إما في حق العرب ، كما قال مجاهد : هذا خطاب للعرب ، وفي رواية عنه : للمسلمين ، ومآلهم


واحد ، لأن ما علمه العرب نقلوه إلى سائر المسلمين. وكما قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب ، والمعنى : وعلمكم الله بالقرآن من أخبار السابقين ، وأنباء اللاحقين ، ما لم تكونوا تعلمون ذلك ، لا أنتم ولا آباؤكم. وفي ذلك امتنان من الله على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بإنزال هذا القرآن عليهم لبيان أصول الاعتقاد مع الدليل ، وإتمام مكارم الأخلاق ، وتشريع العبادات لتزكية النفوس وتطهيرها ، والمعاملات لنفع الأفراد والجماعات ، وتقرير أصول الحياة كالحرية والكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس ، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى أو بالعمل الصالح.

وقال الزمخشري وغيره : الخطاب في هذه الآية : (وَعُلِّمْتُمْ ..) لليهود ، أي علمتم على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أوحى الله إليه ما لم تعلموا أنتم مع أنكم حملة التوراة ، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل ٢٧ / ٧٦]. وأضاف الزمخشري بصيغة التضعيف قائلا : وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش ، كقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس ٣٦ / ٦] (١).

وعلى رأي الزمخشري يكون المقصود المنّ على اليهود بإنزال التوراة فيهم.

ثم قال الله لنبيه : (قُلِ : اللهُ) أي قل يا محمد : الله أنزل الكتاب على موسى ، وهذا الكتاب عليّ ، أو قل : الله علمكم الكتاب ، قال ابن عباس : أي قل : الله أنزله. قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة.

(ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥١٦


يلعبون ، حتى يأتيهم من الله اليقين (الموت) فسوف يعلمون ، ألهم العاقبة ، أم لعباد الله المتقين؟!

ثم حدد تعالى مهمة القرآن فقال : (وَهذا كِتابٌ ..) أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه ، يهدي إلى الحق وإلى سواء السبيل ، كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى ، وقد جعلناه كثير البركة والخير ، ومؤيدا لما تقدمه من الكتب ، ومهيمنا عليها ، يبشر بالجنة والثواب والمغفرة من أطاع الله ، وينذر بالنار والعقاب من عصى الله ، ولينذر أهل أم القرى : مكة ، ومن حولها من سائر الناس ، أي من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم ، كما قال تعالى في آية أخرى : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨] وقال : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] وقال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود ١١ / ١٧] وقال : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١] وقال : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ : أَأَسْلَمْتُمْ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران ٣ / ٢٠] وثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة».

ولهذا قال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي كل من آمن بالبعث والمعاد وقيام الساعة أو اليوم الآخر يؤمن ويصدق بصحة هذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن. هؤلاء المؤمنون هم الذين يحافظون على صلواتهم ، أي يقيمون ما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها ، ويسرعون إلى كل أمر آخر أمروا به.


فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تعظيم الله واجب ، ومن مقتضى تعظيمه الاعتراف بإنزاله الكتب السماوية على أنبيائه ، رحمة بعبادة ، وإصلاحا لشأنهم.

٢ ـ الواجب على العالم إظهار جميع ما علمه من أحكام الله ، ويحرم عليه إظهار بعضها ، وإخفاء بعضها الآخر.

٣ ـ إن إيراد نبوة موسى عليه‌السلام لإلزام كفار قريش في قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

٤ ـ اللفظ وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف أي بالواقعة التي ذكر فيها أن الله يبغض الحبر السمين ، ثم يكون المراد : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ولما كان كفار قريش واليهود والنصارى مشتركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردا على سبيل أن يكون بعضه خطابا مع كفار مكة ، وبقيته يكون خطابا مع اليهود والنصارى (١).

٥ ـ القرآن الكريم كتاب مبارك كثير الخير والعطاء ، مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية في صورتها الأصلية الصحيحة ، ومهيمن عليها ، وناسخ لما خالفه منها ، ومبشر المحسنين بالجنة والمغفرة ، ومنذر الكافرين والفاسقين بالنار والعذاب فيها.

٦ ـ أفادت الآية كغيرها مما ذكر عموم بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجن والإنس ، جميع

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٧٦


أجناس البشر والطوائف والأقوام ، دون تفرقة ولا تمييز بين جنس وآخر ، أو عنصر وآخر ، أو زمن أو مكان دون غيره.

٧ ـ الإيمان بالآخرة أصل الدين ، ومن آمن بها آمن بالقرآن. والصلاة عماد الدين ، ومن أقامها أقام الدين كله ، ومن هدمها هدم الدين كله.

افتراء الكذب على الله وعقابه

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

الإعراب :

(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الظالمين. والهاء والميم في (أَيْدِيهِمْ) : تعود على (الْمَلائِكَةُ).

و (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) : جملة فعلية في موضع نصب بفعل مقدر ، تقديره : يقولون: أخرجوا أنفسكم ، فحذف يقولون وحذف القول في كلامهم كثير. و (الْيَوْمَ) منصوب بأخرجوا ، وقيل : بتجزون.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) : فرادى : في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في (جِئْتُمُونا) ولا ينصرف لأن في آخره ألف التأنيث.


والكاف في (كَما) في موضع نصب ؛ لأنها وصف لمصدر محذوف ، تقديره : ولقد جئتمونا منفردين مثل حالكم أول مرة.

(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) منصوب على الظرف ، تقديره : لقد تقطع ما بينكم ، على أن تكون «ما» نكرة موصوفة ، ويكون (بَيْنَكُمْ) صفته ، فحذف الموصوف ، ولا تكون موصولة على مذهب البصريين ، لأن الاسم الموصول لا يجوز حذفه ، وأجازه الكوفيون.

البلاغة :

(فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) : استعارة حيث شبه ما يعتورهم من كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الموت ولججه.

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ أَظْلَمُ) لا أحد أظلم (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) اختلق الكذب وحكى عنه ما لم يقله ، بادعاء النبوة مثلا ولم ينبأ ، أو اتخاذ الأنداد والشركاء. (وَمَنْ قالَ : سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وهم المستهزئون قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا (وَلَوْ تَرى) يا محمد (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) سكرات الموت ، جمع غمرة وهي الشدة. (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) إليهم بالضرب والتعذيب ، يقولون لهم تعنيفا : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) إلينا لنقبضها (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) المراد به هنا : يوم القيامة الذي يبعث فيه الناس للحساب والجزاء. وأصل اليوم : الزمن المحدود المعروف (٢٤ ساعة) (عَذابَ الْهُونِ) الهوان وهو الذل ، ومنه قوله تعالى: (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) [النحل ١٦ / ٥٩] والهون بالفتح : اللين والرفق ، ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان ٢٥ / ٦٣]. (تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) بادعاء النبوة والإيحاء كذبا (تَسْتَكْبِرُونَ) تتكبرون عن الإيمان بها. وجواب (وَلَوْ تَرى) : لرأيت أمرا فظيعا.

(فُرادى) جمع فرد ، أي منفردين عن الأهل والمال والولد (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي حفاة عراة غرلا (خَوَّلْناكُمْ) أعطيناكم ومنحناكم من الأموال ، والخول : الخدم والحشم. وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم : يراد به عدم الانتفاع بالشيء ، وتركه في الدنيا بغير اختياركم (ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي الأصنام ، يقال لهم ذلك توبيخا (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ) أي استحقاق عبادتكم (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالضم أي وصلكم ، أي تشتت جمعكم ، وفي قراءة النصب : ظرف ، أي وصلكم بينكم. والبين : الصلة ، والمسافة بين شيئين أو أشياء ، ويضاف إلى المثنى مثل : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات ٤٩ / ١٠] وإلى الجمع مثل : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء ٤ / ١١٤] ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر نحو : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف ١٨ / ٧٨].


(وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي غاب عنكم (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا من شفاعتها.

سبب النزول :

نزول الآية (٩٣):

(وَمَنْ أَظْلَمُ) : أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) قال : نزلت في مسيلمة. ومن قال : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان يكتب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيملي عليه : عزيز حكيم فيكتب : غفور رحيم ثم يقرأ عليه ، فيقول : نعم سواء ، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.

وأخرج الطبري عن السدي نحوه ، وزاد «قال : إن كان محمد يوحى إليه ، فقد أوحي إلى ، وإن كان الله ينزله ، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله ، قال محمد : سميعا عليما ، فقلت أنا : عليما حكيما.

نزول الآية (٩٤):

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) : أخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال : قال النضر بن الحارث : سوف تشفع إليّ اللات والعزى ، فنزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) إلى قوله : (شُرَكاءُ).

المناسبة :

الآيات استمرار في إثبات النبوة ، فلما بيّن الله تعالى أن القرآن كتاب نازل من عند الله على محمد ، وأنه مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى ، وكل من النبيين بشر ، ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة ، على سبيل الكذب والافتراء ، فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الآية ، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن نفي النبوة عن مدعيها


إثبات لمن أعطيها حقا ؛ لأن محمدا عليه‌السلام مؤمن بالله واليوم الآخر ، والمؤمن بذلك لا يعرّض نفسه للظلم الذي يوجب أشد العذاب ، ففي ذلك شهادة ضمنية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث بيّن عاقبة الكذب على الله.

التفسير والبيان :

لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فجعل له شريكا أو ولدا ، أو ادعى النبوة والرسالة ، ولم يرسله الله إلى الناس.

أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، والفرق بين هذا القول وبين ما قبله : أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه ، وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه ، ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام ، ففيه جمع بين كذبين : وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود.

أو قال : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله ، كمن قال من المشركين : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال ٨ / ٣١].

هذا وعيد من صدر عنه أحد الأشياء الثلاثة ، أما القولان الأولان (افتراء الكذب على الله ، وادعاء الوحي) فالمراد بهما : من ادعى النبوة ، مثل مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة ، والأسود العنسي في صنعاء باليمن ، وطليحة الأسدي في بني أسد ونحوهم ، وكان مسيلمة يقول : محمد رسول قريش ، وأنا رسول بني حنيفة.

والقول الثالث أريد به ما قاله النضر بن الحارث الذي قال : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وكان يقول في القرآن : إنه من أساطير الأولين ، وإنه شعر ، لو نشاء لقلنا مثله.

ثم ذكر تعالى نوع وعيد الظالمين أمثال هؤلاء فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ


الظَّالِمُونَ ..) أي ولو تبصر أيها الرسول وكل سامع وقارئ حين يكون الظالمون في سكرات الموت وغمراته وكرباته أو شدائده وآلامه ، لرأيت أمرا عجبا عظيما فظيعا لا سبيل إلى وصفه ، والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها إليهم لقبض أرواحهم بالضرب ومنتهى الشدة والعنف ، كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [محمد ٤٧ / ٢٧].

وتقول لهم الملائكة توبيخا وتأنيبا وتهكما حين قبض أرواحهم : أخرجوا أنفسكم وأرواحكم إلينا من أجسادكم ، وهذا دليل العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير إمهال. وسبب ذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والجحيم وغضب الله ، فتتفرق روحه في جسده وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ..).

أي اليوم تهانون غاية الإهانة ، كما كنتم تكذبون على الله ، وتستكبرون عن اتباع آياته ، والانقياد لرسله ، فلا تؤمنون بالآيات والرسل ، وتفترون على الله غير الحق. والمراد باليوم : وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع ، ويجوز أن يراد به : الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون : الهوان الشديد ، وإضافة العذاب إليه كقولك : رجل سوء ، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه.

قال الزمخشري في قوله : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : هذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم (الدائن) المسلّط ، يبسط يده إلى من عليه الحق ، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ، ويقول له : أخرج مالي عليك الساعة ، ولا أريم (أبرح) مكاني حتى أنزعه من أحداقك(١).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥١٧


ثم يقول الله تعالى لهم : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ...) أي ولقد أتيتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء والأولياء والشفعاء ، وعن الخدم والأملاك والأموال ، كما خلقناكم أولا من بطون أمهاتكم حفاة عراة غرلا (غير مختونين) ، وتركتم ما أعطيناكم من مال وولد وخدم وأثاث وقصور وغيرها من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدنيا وراء ظهوركم ، ولم تنتفعوا بها هنا ، إذ أنها لم تغن عنكم شيئا.

ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة ٢ / ١٧٤] لأن المراد : لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا. وتتمة الكلام تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم ، فقال : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ ...) أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الأصنام الذين زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله.

لقد تقطع بينكم ، أي لقد تقطع يوم القيامة ما كان بينكم من صلة الولاء والتعاطف والأسباب والوسائل ، والصلات والصدقات ، أي وقع التقطع بينكم ، وانزاح الضلال ، وغاب وذهب عنكم ما كنتم تفترونه من شفاعة الشفعاء ، ونداء الأوثان والشركاء ، ورجاء الأصنام ، ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) [القصص ٢٨ / ٦٢] ويقال لهم : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟) [الشعراء ٢٦ / ٩٢ ـ ٩٣].

والمراد بقوله : (أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي في استعبادكم ، واستحقاق عبادتكم ، والعبادة لهم فيكم ؛ لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها ، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.

والمقصود من الكلام في الجملة : إن آمالكم خابت في كل ما تزعمون


وتتوهمون ، فلا فداء ولا شفاعة ، ولا سبيل لدفع عذاب الله عنكم : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ٨٢ / ١٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن أعظم الفرى أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ، أو تفتري على الله كذبا فتدعي النبوة والوحي ، أو تنفي النبوة عن النبي ، كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تزعم القدرة على إنزال مثل ما أنزل الله.

قال القرطبي : ومن هذا النمط : من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن ، فيقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ؛ فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار ، وخلوّها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة ، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامّة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص ، فلا يحتاجون لتلك النصوص.

وقد جاء فيما ينقلون : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ؛ ويستدلون على هذا بالخضر ، وأنه استغنى بما تجلّى له من تلك العلوم ، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب ؛ فإنه يلزم منه هدّ الأحكام ، وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومما نحمد الله عليه أن أسطورة المتنبئين قد انتهت في بطون التاريخ ، ولم يكتب لها البقاء ؛ إذ ليس لها مقومات الحياة.

ودلت الآية على أن قبض روح الكافر في منتهى الشدة والعنف ، وأما قبض

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٩


روح المؤمن فيكون في يسر وسهولة ، كما دلت الأحاديث المتواترة عن أبي هريرة وغيره ؛ لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء الله ، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا ، ويقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهوانه ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والبيهقي عن أبي موسى الأشعري : «من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه».

ولا تنفع الأملاك والأموال ونعم الدنيا يوم الآخرة ، ثبت في الصحيح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت ، وما سوى ذلك فذاهب ، وتاركة للناس». فالأموال التي اكتسبها ، وأفنى عمره في تحصيلها تبقى وراء ظهره ، وما يبقى وراء الظهر لا ينتفع به : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ).

كذلك لا نفع في الشركاء والأصنام المعبودين من دون الله ، فكلها لا أثر لها في القيامة بين يدي الله والحساب : (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ذهب ما تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. وروى مسلم أن عائشة رضي‌الله‌عنها قرأت قول الله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقالت : يا رسول الله ، ووا سوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٧] لا ينظر الرجال إلى النساء ، ولا النساء إلى الرجال ، شغل بعضهم عن بعض».


قدرة الله الباهرة في الكون

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))

الإعراب :

(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً اللَّيْلَ) : مفعول أول ، و (سَكَناً) : مفعول ثان. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : عطف على (اللَّيْلَ) ، و (حُسْباناً) ، أي : ذا حساب هو مفعول ثان. وقال السيوطي : هو حال من مقدار أي يجريان بحسبان ، كما في آية الرحمن.

ومن قرأ : وجاعل الليل أضاف اسم الفاعل إلى الليل ، ويكون (سَكَناً) منصوبا بتقدير فعل مقدر ، تقديره : وجعل الليل سكنا. وكذلك يكون : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) منصوبين بتقدير (جَعَلَ).

(فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) : مرفوعان بالابتداء ، وخبرهما محذوف ، وتقديره : فمنكم مستقر ، ومنكم مستودع ، مستقر في الأرحام ، ومستودع في الأصلاب.


(وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) : أي فاستقر من النخل ، و (مِنْ طَلْعِها) : بدل منه ، أعني من النخل. و (قِنْوانٌ) : مرفوع بقوله : (مِنْ طَلْعِها) على قول من أعمل الثاني في نحو : قاما وقعد الزيدان ، وهو مذهب البصريين. ومرفوع بقوله : (وَمِنَ النَّخْلِ) على قول من أعمل الأول في نحو : قام وقعدا الزيدان ، وهو مذهب الكوفيين.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) بالنصب معطوف على قوله : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) وبالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، وتقديره : ولهم جنات. (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) اسم جنس ، جمع ثمرة ، كشجرة وشجر. ومن قرأه بالضم «ثمره» جعله جمع ثمار ، وثمار جمع ثمرة ، فجعله جمع الجمع.

البلاغة :

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) بينهما طباق (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) فيه رد العجز على الصدر.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا وجه لصرفكم عن الإيمان بعد قيام البرهان (فَأَخْرَجْنا بِهِ) فيه التفات عن الغيبة للاعتناء بشأن المخرج والإشارة إلى عظم النعم (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) عطف خاص على عام لمزيد الشرف.

المفردات اللغوية :

(فالِقُ) شاق ، والفلق والفرق والفتق بمعنى واحد : وهو الشق في الشيء مع الإبانة (الْحَبِ) الحنطة ونحوها مما يكون في السنبل والأكمام (النَّوى) جمع نواة ، وهي بزر التمر والزبيب ونحوهما ، والمعنى : إن الله شاق الحب عن النبات والبزر عن النخل والكرمة (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) النطفة والبيضة (مِنَ الْحَيِ). (ذلِكُمُ) الفالق المخرج هو (اللهَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان.

(فالِقُ الْإِصْباحِ) أي شاق عمود ضوء الصبح (وهو أول ما يبدو من نور النهار) عن ظلمة الليل. والإصباح : مصدر بمعنى الصبح (سَكَناً) تسكن فيه الخلائق من التعب.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بالنصب عطفان على محل (اللَّيْلَ). (حُسْباناً) حسابا للأوقات والحسبان والحساب : استعمال العدد في الأشياء والأوقات (ذلِكَ) المذكور (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في ملكه (الْعَلِيمِ) بخلقه.


(فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في الأسفار (قَدْ فَصَّلْنَا) بينا (الْآياتِ) الدلالات على قدرتنا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يتدبرون.

(أَنْشَأَكُمْ) خلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم (فَمُسْتَقَرٌّ) موضع قرار منكم في الرحم أو إقامة في الأرض ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) [البقرة ٢ / ٣٦ ، والأعراف ٧ / ٢٤] (وَمُسْتَوْدَعٌ) موضع الوديعة (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الفقه : فهم الشيء مع التعمق في التفكير (فَأَخْرَجْنا بِهِ) بالماء (خَضِراً) أي نباتا أخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة ونحوها (مِنْ طَلْعِها) الطلع : أول ما يبدوا ويظهر من زهر النخلة قبل أن ينشق عنه غلافه (قِنْوانٌ) عراجين ، جمع قنو ، وهو عذق الثمر ، وهو من النخيل كالعنقود من العنب ، والسنبلة من القمح (دانِيَةٌ) قريب بعضه من بعض ، وقريب التناول (جَنَّاتٍ) بساتين (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي متشابها في بعض الصفات كالورق ، وغير متشابه في بعض آخر كالثمر ، أي متشابه الورق والثمر وغير متشابه. (وَيَنْعِهِ) نضجه ، أي حين يينع ويبدو نضجه واكتماله ، والمراد : انظروا أيها المخاطبون نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر (أول ما يبدو) كيف هو ، وإلى نضجه إذا أدرك كيف يصبح (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصوا بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بها في الإيمان ، بخلاف الكافرين.

المناسبة :

بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد ، وقرر أمر النبوة ، وبعض أحوال البعث ، عاد هنا إلى بيان بعض الأدلة الدالة على وجود الصانع ، وهي تتلخص في الخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة ، والتقدير والتدبير لحركة الكواكب والنجوم وتقلب الليل والنهار.

التفسير والبيان :

عدّد الله تعالى في هذه الآيات بعض مظاهر قدرته الباهرة وحكمته البالغة ، فبدأ بالنبات وأخبر أنه فالق الحب والنوى ، أي يشقه بقدرته في التراب ، فينبت منه الزرع على اختلاف أصنافه من الحبوب ، والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها ، من النوى ، لذا فسر قوله : (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج النبات الحي


المتحرك من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت ، عن طريق ربط الأسباب بمسبباتها ، ببذر الحب والنوى في التراب ، وإرواء التراب بالماء. وذلك يدل على كمال قدرته ، وبديع حكمته.

فقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) معناه يخرج الزرع الأخضر والشجر النامي ، من الميت الجامد ، والمراد بالحياة هنا النمو والتغذية ، والميت : هو ما لا نماء فيه ولا يتغذى ، مثل التراب والحب والنوى وغيرهما من البذور ، والبيضة والنطفة. وإذا قيل في العلم الحديث : إن في النطفة والبيضة حياة فيراد بها الحياة النباتية أو الخلوية (حياة الخلية). وأما المقصود هنا فهي الحياة الظاهرية الحركية. وقيل في التفسير العلمي الحديث : المراد بخروج الحيوان من الميت أي تكونه من الغذاء ، فالحي ينمو بأكل أشياء ميتة ، والغذاء ميت لا ينمو.

وقوله تعالى : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معناه مخرج الحب والنوى من النبات ، والبيضة والنطفة من الحيوان. وقيل في التفسير العلمي الحديث : المراد بذلك الإفرازات مثل اللبن : وهو سائل ليس فيه شيء حي ، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية ، وهي تخرج من الحيوان الحي ، وهكذا ينمو الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي.

(ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فاعل هذا هو المتصف بكمال القدرة وبالغ الحكمة ، المحيي والمميت ، وهو الله الخالق وحده لا شريك له ، فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل ، فتعبدون معه غيره ، وتشركون به شريكا آخر لا يقدر على شيء من ذلك؟!

والله فالق الإصباح وجعل الليل سكنا أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح ، فيضيء الوجود ، ويستنير الأفق ، ويضمحل الظلام ، ويذهب


الليل بسواده وظلامه ، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه ، كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف ٧ / ٥٤] فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه ، فذكر أنه فالق الإصباح ، وقابل ذلك بقوله : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي ساجيا هادئا مظلما لتسكن فيه الأشياء ، ويستريح فيه المتعب من عمل النهار ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (١) ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ ٧٨ / ٩ ـ ١١].

ثم قال تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي ونظام الشمس والقمر للحساب وعدد الشهور والسنين ، وكلاهما يجري بحساب دقيق ، كما قال تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن ٥٥ / ٥] أي يجريان بحساب مقنن مقدر ، لا يتغير ولا يضطرب ، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس ١٠ / ٥] وقد جمع الله في هذه الآية ثلاث آيات سماوية ، كما جمع في آية (فالِقُ الْإِصْباحِ ...) ثلاث آيات أرضية وهي : فلق الصبح والتذكير به للتأمل في صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود ، وجعل الليل ساكنا ، نعمة من الله ليستريح الجسد ، وتسكن النفس ، وتهدأ من التعب العمل بالنهار ، وجعل الشمس والقمر حسبانا ، تحقيقا لحاجة الإنسان إلى معرفة حساب الأوقات من أجل العبادات ، والمعاملات ، والتواريخ.

ومن المعروف فلكيا أن للأرض دورتين : دورة تتم في أربع وعشرين ساعة لحساب الأيام ، ودورة تتم في سنة ضمن فصول أربعة ، لحساب السنة الشمسية.

__________________

(١) أي قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم.


(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي الجميع حاصل بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف ، الغالب على أمره ، العليم بكل شيء ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، والمقدّر له بموجب الحكمة : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر ٥٤ / ٤٩]. ويلاحظ أن الله تعالى يذكر كثيرا خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، ثم يختم الكلام بالعزة والعلم.

ثم أوضح تعالى فائدة النجوم ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ ..) أي أوجد النجوم وهي ما عدا الشمس والقمر من النّيرات للاهتداء بها في الأسفار ، فيستدل بها الإنسان على الطرق ، ويأمن من الضياع ، وينجو من الخطأ والحيرة. والنجوم كما يذكر الفلكيون تعد بالملايين ، وما اكتشف منها أقل بكثير مما لم يكتشف.

ونظرا لما في عالم السماء من العظمة والدقة في النظام وإبداع الصنع ، ختم الله تعالى الآية بقوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي بينا لكم الآيات القرآنية والآيات التكوينية لأهل العلم والنظر الذين يدركون سر عظمة هذه الآيات ، ويستدلون بها على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه ، فإن كان المراد بالآيات آيات التنزيل فالمعنى أن هذه الآيات وأمثالها نوضحها لأهل الفكر والعلم والنظر ، فيزدادون بها بحثا وعلما وإيمانا. وإن كان المراد بها آيات التكوين ، فالمعنى أن هذه الآيات يبينها الله ليستدل بها العلماء على عظمة الله تعالى ، ولا يدرك سر هذه الآيات غير العلماء كما قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر ٥٩ / ٢].

وبعد بيان آيات الله في الأرض والسماء ، ذكر تعالى آياته في الأنفس ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ...) أي أن الله تعالى خلقكم في الأصل من نفس واحدة هي آدمعليه‌السلام وهو الإنسان الأول الذي تناسل منه سائر البشر


بالتوالد والتزاوج ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء ٤ / ١].

وإنشاء جميع البشر من نفس واحدة يدل على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ووحدانيته ، كما يوجب شكر النعمة ، ويرشد إلى وحدة الأصل والنوع الإنساني ، مما يقتضي وجوب التعارف والتعاون بين الناس ؛ لأنهم من أصل واحد وأب واحد ، فهم إخوة ، وما على الإخوة إلا التآلف ، لا التناحر والتقاتل.

ثم بيّن الله تعالى كيفية تسلسل البشر والولادة في وقت معين لا يعلمه إلا الله فقال : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي لكم موضع استقرار في الأرحام ، وموضع استيداع في الأصلاب ، أو مستقر في الأرض ، ومستودع تحتها ، أو مستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت ، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع.

قد بينا آيات سنن الخلق الدالة على قدرتنا وإرادتنا ، وعلمنا وحكمتنا ، وفضلنا ورحمتنا ، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ، ويعون كلام الله ، ويدركون معناه ودقائقه.

وعبر بالعلم مع ذكر النجوم ، وبالفقه مع ذكر إنشاء بني آدم ، لأن استخلاص الحكمة من خلق البشر من نفس واحدة ، وتصريفهم في أحوال مختلفة يحتاج إلى دقة نظر ، وعمق فهم وفطنة ، وهذا هو معنى الفقه ، فكان ذلك مطابقا للحال. أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر ، فلا يتوقف على دقة النظر ، وعمق الفكر ، وإنما يكفي فيها وفي كل الأمور الفلكية شيء من المعرفة والخبرة والمشاهدة الظاهرية المعتمدة على الملاحظة والبصر.

ثم ذكر تعالى آية من آيات التكوين في النبات وهي إنزال الماء من السماء


وجعله سببا للإنبات ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ..) أي أن الله هو الذي أنزل بقدرته وتصريفه وحكمته من السحاب ماء بقدر ، مباركا ، ورزقا للعباد ، وإحياء وإغاثة للخلائق ، رحمة من الله بخلقه ، فأخرجنا بسبب هذا المطر أصناف النبات المختلف في شكله وخواصه وآثاره ، كما قال تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد ١٣ / ٤] وقال : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ٢١ / ٣٠].

وأخرجنا بالمطر زرعا وشجرا أخضر ، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر ، لهذا قال تعالى : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي يركب بعضه بعضا كالسنابل ونحوها. وهذا بيان لنوع من النبات لا ساق له ، ثم عطف عليه ماله ساق من الشجر فقال : (وَمِنَ النَّخْلِ ..)

أي ونخرج من طلع النخل عراجين أو عناقيد قريبة التناول ، ونخرج أيضا من ذلك الخضر جنات من أعناب.

وأخص من نبات كل شيء بعد التمر والعنب غيرهما من الفواكه والثمار ، وهو الزيتون والرمان ، متشابها في الورق والشكل ، قريبا بعضه من بعض ، ومتخالفا في الثمار شكلا وطعما وطبعا ، فمنها الحلو ومنها الحامض ، ومنها المز ، وكل ذلك دليل على قدرة الصانع.

انظروا نظرة اعتبار وإمعان إلى ثمر الشجر والنبات إذا أثمر كيف يكون ، وإلى نضجه واكتماله كيف يصير ، ويتحول من جفاف إلى ممتلئ ماء وخيرا وبركة ، لكل ثمر طعم ، وحجم ، ولون ، وقارنوا بين الثمار ، وفكروا في قدرة الخالق من العدم إلى الوجود ، بعد أن كان حطبا يابسا ، صار غضا طريا رطبا ، وغير ذلك من الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، كقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ


صِنْوانٍ ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد ١٣ / ٤].

إن في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته ، يستفيد منها المؤمنون المصدقون بالله والمتبعون رسله.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات خمسة أنواع من الأدلة على وجود الله الصانع وعلمه وقدرته وحكمته وهي ما يلي :

النوع الأول ـ مأخوذ من دلالة أحوال النبات والحيوان : فالله خالق الحب والنوى ، وشاق الحب والنوى لإنبات الزرع والشجر ، ومخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي ، كما قال : لزجاج ، ويخرج البشر الحي من النطفة ، والنطفة من البشر الحي كما قال المفسرون كالقرطبي ، ويخرج المؤمن من الكافر ، كما في حق إبراهيم عليه‌السلام ، والكافر من المؤمن ، كما في حق ولد نوح ، والعاصي من المطيع ، وبالعكس ، كما قال ابن عباس.

ودل هذا على أن الحي أشرف من الميت ، لذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل ، وعن القسم الثاني بصيغة الاسم ؛ تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي.

والنوع الثاني ـ مأخوذ من الأحوال الفلكية ، وهذا أدل على القدرة الإلهية ؛ لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ، ولأن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية. وتضمن هذا النوع ثلاث آيات فلكية لها صلة بالأرض وهي فلق نور الصبح ، أي شاقّ الضياء عن الظلام وكاشفه ، وخالق النور والظلمة ، وجاعل الليل سكنا أي محلا للسكون ، وجاعل الشمس والقمر آيتين للحساب


الذي يتعلق به مصالح العباد ، لأنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين ، وكل ذلك دليل على كمال قدرة الله تعالى وكونه فضلا من الله ورحمة وإحسانا على الخلق.

والنوع الثالث ـ ظاهرة سماوية وهو أنه تعالى خلق النجوم لمنافع العباد ، بالاهتداء بنورها إلى الطرق والمسالك ، في ظلمات البر والبحر ، حيث لا يرون شمسا ولا قمرا ، وذلك من أدلة كمال القدرة والرحمة والحكمة. ويستدل بالنجوم والكواكب والشمس والقمر أيضا على معرفة القبلة ، كما أن هذه الكواكب زينة للسماء : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات ٣٧ / ٦] وهي أيضا رجوم للشياطين : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ٦٧ / ٥] وهي كذلك مثار التفكير في عظمة السموات : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) [آل عمران ٣ / ١٩١] قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه : أن الله جعلها زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر (١).

والنوع الرابع ـ الاستدلال بأحوال الإنسان ، وخلق البشر من نفس واحدة هي آدمعليه‌السلام ، وإيداع أصول البشرية في الأصلاب والأرحام ، والتفكير في تكوين النفس : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٢١] وهذا من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه.

والنوع الخامس ـ مأخوذ من طريقة الإنبات وتنوع النبات واختلاف أصناف الفواكه والثمار : وهو إنزال المطر من السماء (السحاب) وإخراج مختلف أنواع النباتات والزروع بالماء ، وإيجاد الكثرة الهائلة من الثمار والفواكه

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٥٩


والأزهار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح ، وذلك من أجلّ أنواع النعم والإحسان ، ومن أعظم الدلائل على كمال القدرة الإلهية ، وحقا ما ختمت به الآيات : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) آمنا بالله ربا ، وعلمنا أنه الحق المبين ، وفقهنا وأدركنا بإمعان عظمة هذا الإله وسعة علمه ، وفضله وإحسانه ورحمته بالمخلوقات جميعا.

ويلاحظ أنه تعالى ذكر في هذا النوع أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وقدم الزرع على الشجر ؛ لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه ، لأن التمر غذاء العرب المهم ، وذكر العنب عقب النخل ؛ لأنه أشرف أنواع الفواكه ، للاستفادة منه بمجرد ظهوره حامضا ثم حصرما ، ثم عنبا ، ثم يدخر زبيبا سنة فأكثر ثم دبسا وخلا.

المزاعم المنسوبة إلى الله (الجن والولد والصاحبة)

وكونه لا تدركه الأبصار

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))


الإعراب :

(شُرَكاءَ الْجِنَ شُرَكاءَ) : منصوب لأنه مفعول أول. و (الْجِنَ) : مفعول ثان. واللام في (لِلَّهِ) تتعلق بشركاء. ويجوز أن نجعل (الْجِنَ) بدلا من (شُرَكاءَ) ، واللام في (لِلَّهِ) تتعلق ب (جعل). أو قرئ (الْجِنَ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم الجن.

المفردات اللغوية :

(وَخَرَقُوا) مثل اختلفوا ، والخرق والاختلاق للكلام : ابتداع الكذب. وأما الخلق: فهو فعل الشيء بتدبير ورفق. وأما الإبداع فهو إنشاء الشيء بلا اقتداء بأحد ، والبديع من أسمائه تعالى : أي مبدع الأشياء ومحدثها على غير مثال سابق ، ومنه البدعة في الدين ؛ لأنه لا نظير لها فيما سلف.

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه ، والإدراك : اللحاق والوصول إلى الشيء ، والبصر : حاسة الرؤية ، (اللَّطِيفُ) الرفيق بعباده وأوليائه (الْخَبِيرُ) بشؤون خلقه.

المناسبة :

بعد أن ذكر تعالى البراهين الخمسة على ثبوت الألوهية ، وكمال القدرة والرحمة ، ذكر عقب ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء من عالم الجن ، أو من اختراع نسل له من البنين والبنات.

التفسير والبيان :

هذه الآيات رد على مشركي العرب الذين عبدوا مع الله غيره ، وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن ، فجعلوهم شركاء له في العبادة ، وأما عبادتهم الأصنام فلم تكن إلا بطاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك ، كقوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً. لَعَنَهُ اللهُ ، وَقالَ : لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ


خُسْراناً مُبِيناً ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء ٤ / ١١٧ ـ ١٢٠].

ومعنى الآية : وجعل مشركو العرب شركاء من عالم الجن أطاعوهم فيما يأمرونهم به ، والجن : هم الملائكة فقد عبدوهم ، كما قال قتادة ، أو الشياطين فقد أطاعوهم في الشرك والمعصية ، كما قال الحسن البصري. وقال المجوس : إن للخير إلها وللشر إلها وهو إبليس ، أي أنهم سموه ربا.

جعلوا لله الجن شركاء له حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان ، والحال أنه خلقهم أي خلق المشركين وغيرهم ، فهو الخالق وحده لا شريك له ، فكيف يكون المخلوقون شركاءه ، وكيف يعبدون معه غيره؟ كقول إبراهيم : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦].

وخلاصة المعنى : أنه تعالى هو المستقل بالخلق وحده ، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.

واختلقوا لله بجهلهم وحمقهم بنين وبنات ، والمراد بقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أنهم لا يعلمون حقيقة ما يقولون ، ولكن جهلا بالله وبعظمته ، فإن مشركي العرب سموا الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود : عزيز ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس وتنزه وتعاظم الله عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والشركاء ؛ لأنه الخالق المدبر لها ، وليس كمثله شيء.

والله مبدع السموات والأرض وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق ، وكيف يكون له ولد ، والحال أنه لم تكن له صاحبة؟ والولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه ؛


لأنه خالق كل شيء ، فلا صاحبة له ولا ولد ، وهو مبدع الكائنات في السماء والأرض ، ومتسبب في إيجاد الذرية من طريق التوالد والتناسل.

وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أوجده ولم يلده ولادة ، كما تزعمون ، فما اخترعتم له من الولد ، فهو مخلوق له لا مولود منه ، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه؟ وهو الذي لا نظير له. وهذه الجملة مؤكدة لما سبق من نفي الولد.

والله محيط علمه بكل الأشياء ، وعلمه ذاتي له ، ولا يعلم أحد مثل علمه ، فلو كان له ولد لكان هو أعلم به ، ولأرشد إليه ، لكنه كذب وافتراء بلا دليل عقلي ولا وحي نقلي.

والخلاصة : نفى الله تعالى عن نفسه الولد ؛ لأنه مبدع السموات والأرض ، وهي غير مولودة ، ولأن الولد يأتي من ذكر وأنثى متجانسين ، والله لا يجانسه ولا يماثله شيء ، ولأن كل ما عدا الله لا يكافئه ، فكيف يكون له ولد كفؤ له؟

وإذ ثبت أنه لا ولد له ، فذلكم المتصف بما ذكر أيها المشركون هو الله ربّكم ، الذي لا إله إلا هو ، والذي خلق كل شيء ، ولا ولد له ولا صاحبة ، فما عليكم إلا أن تعبدوه وحده لا شريك له ، وتقروا له بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ولد له ولا والد ، ولا صاحبة له ولا نظير ، وكل من عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه.

وهو مع كل هاتيك الصفات حفيظ ورقيب على كل شيء ، يدبر كل ما سواه ، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.

أي لا حافظ إلا الله ، ولا يقضي الحاجات إلا الله.

والله سبحانه لا تراه الأبصار رؤية إحاطة وشمول تعرف كنهه ، كقوله :


(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة ٢ / ٢٥٥]. وقال ابن عباس : لا تدركه الأبصار في الدنيا ويراه المؤمنون في الآخرة ؛ لإخبار الله بها في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣].

وهو تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة وشمول ، فلا تخفى عليه طرفة عين ، ولا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه ، وإنما خص (الْأَبْصارُ) لتجنيس الكلام.

وهذه الآية إما مخصوصة بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣] وبالحديث الآتي الدال على رؤية الله عزوجل.

أو يقال : إنه لا تنافي بين الآيتين ؛ لأن نفي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم ، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء والإحاطة به لا يستلزم نفي رؤيته مطلقا.

وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنكم سترون ربكم يوم القيامة ، كما ترون القمر ليلة البدر ، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب» فالمؤمنون يرون ربهم ، وأما الكافرون فلا يرونه ؛ لقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ٨٣ / ١٥]. والله تعالى اللطيف أي الرفيق بعباده ، الخبير بهم المطلع على جميع أحوالهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

نزلت الآية : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) في مشركي العرب ، ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عزوجل.

والآية توبيخ وتقريع ورد قاطع على المشركين الذين جعلوا الجن شركاء لله ، ونسبوا لله البنين والبنات جهلا منهم بحقيقة الله. والمشركون أصناف :


١ ـ عبدة الأصنام القائلون : الأصنام شركاء لله في العبودية ، ولكن لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين.

٢ ـ عبدة الكواكب وكانوا في عهد إبراهيم عليه‌السلام ، وهم يقولون : إن الله فوض لها تدبير العالم الأسفل.

٣ ـ الثنوية أو المجوس القائلون بأن للعالم إلهين اثنين : أحدهما فاعل الخير ، والثاني فاعل الشر.

والحق أن جميع المخلوقات محدثة مخلوقة ، وكل محدث فله خالق وموجد ، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى.

والله تعالى مبدع السموات والأرض وخالقهما ، فكيف يكون له ولد ، والحال أنه لا صاحبة ولا زوجة له ، فكيف يأتي الولد؟ وهو خالق كل شيء ، وهو العليم بكل شيء ، فكيف يتخذ الولد والصاحبة؟

والخالق المدبر وهو الله هو المستحق للعبادة ، ولا يستحقها عاجز مخلوق.

ورؤية الله تعالى ثابتة للمؤمنين في عالم الآخرة ، ولكن دون إحاطة ولا شمول ولا حصر ولا كيفية ؛ إذ لو لم يكن جائز الرؤية لما حصل المدح لعظمة الله بقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لأن المعدوم لا تصح رؤيته.

والخلاصة : أن الآيات لنفي الشرك والشركاء وإبطال مزاعم المشركين على مختلف طوائفهم ، إذ لا حاجة لله للشريك والولد بأدلة كثيرة هي : كونه مبدع السموات والأرض ، والإبداع تكوين الشيء من غير مثال سبق ، ولا صاحبة له ، وخالق كل شيء ، ومحيط علمه بكل شيء ، ولا تتمكن الأبصار من الإحاطة برؤيته ؛ لأنه سبحانه منزه عن سمات الحدوث ، ومنها الإدراك ؛ بمعنى : الإحاطة والتحديد ، كما تدرك سائر المخلوقات.


ومن اتصف بهذه الصفات فهو المستحق للعبادة ، لذا أمر الله بعبادته وحده لا شريك له.

وأما رؤية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لربه في ليلة الإسراء في الدنيا فالصحيح أنها لم تحصل بالعين المجردة ، وإنما رآه بقلبه ورأى جبريل على حقيقته. وعن ابن عباس أنه رآه بعينيه ، وحجته قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم ٥٣ / ١١].

مبصّرات الوحي وقدرة الله على منع الشرك

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

الإعراب :

(وَلِيَقُولُوا : دَرَسْتَ) معطوف على فعل مقدر ، والتقدير : نصرف الآيات ليجحدوا وليقولوا ، أي ليصير عاقبة أمرهم إلى الجحود وإلى أن يقولوا هذا القول. وهذه اللام تسمى لام العاقبة عند البصريين ، ولا الصيرورة عند الكوفيين ، مثل اللام في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨] وما التقطوه ليكون لهم عدوا ، وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين ، ولكن صارت عاقبة التقاطهم إياه إلى العداوة والحزن.

البلاغة :

(بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) مجاز مرسل وعلاقته المسببية أي من باب تسمية المسبب باسم السبب ، والمراد بالبصائر : الحجج والبراهين التي تبصرون بها الحقائق.


(أَبْصَرَ ..) و (عَمِيَ) بينهما طباق.

(بَصائِرُ) و (أَبْصَرَ) بينهما جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(بَصائِرُ) أي حجج بيّنات وآيات واضحات ، وتطلق البصيرة على عدة معان : عقيدة القلب ، والمعرفة الثابتة يقينا ، والعبرة ، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية ، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن أدركها فآمن فثواب إبصاره له (بِحَفِيظٍ) رقيب لأعمالكم ، إنما أنا نذير.

(وَكَذلِكَ) كما بينا ما ذكر (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نبينها ونأتي بها على وجوه مختلفة بما يناسب المقام ، ليعتبروا (وَلِيَقُولُوا) أي الكفار في عاقبة الأمر ، فإن اللام لام العاقبة أو الصيرورة (دَرَسْتَ) قرأت كثيرا حتى حفظته ، أو درست كتب الماضين وجئت بهذا منها ، وفي الحديث : «كان يدارسه القرآن» يذاكره له حتى يحفظه ، وفي المدارسة معنى التذليل بكثرة القراءة.

(حَفِيظاً) رقيبا فتجازيهم بأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) موكّل مفوض في أمرهم ، فتجبرهم على الإيمان.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى الأدلة على توحيده وكمال قدرته وعلمه ، عاد إلى تقرير أمر الدعوة الإسلامية والرسالة وتبليغ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحي ربه.

التفسير والبيان :

قد جاءكم أيها الناس البصائر : وهي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول من البراهين العقلية والنقلية التي تثبت لكم العقيدة الحقة ، وتبين منهاج الحياة الأقوم ، ودستور النظام العام للجماعة ، وأصول الأخلاق والآداب.

فمن أبصر الحق فآمن فلنفسه ، ومن عمي عن الحق وضل وأعرض عن سبيله ، فعلى نفسه جنى ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَ


فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [يونس ١٠ / ١٠٨] وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤١ / ٤٦].

ومعنى قوله : (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أي إنما يعود وبالله عليه ، كقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ٢٢ / ٤٦].

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لست عليكم بحافظ ولا رقيب ، بل إنما أنا مبلّغ ومنذر ، والله يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي وكما فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان لتوحيد وأنه لا إله إلا هو ، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن ، لجهالة الجاهلين ، وليؤول الأمر بأن يقول المشركون والكافرون المكذبون : درست هذا وقرأته على غيرك ، أو دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب ، وتعلمت منهم ، وليس وحيا من عند الله.

أي إن تصريف الآيات وتقليبها على وجوه مختلفة بحسب المقامات يستهدف :

١ ـ أن يهتدي بها المستعدون للإيمان.

٢ ـ وأن يقول الجاحدون المعاندون : إنما درست هذا وقرأته على غيرك ، وليس هذا بوحي كما تزعم ، وزعموا أنه تعلم من غلام رومي حداد أعجمي وليس بعربي ، كان يصنع السيوف بمكة ، اسمه «قيس» كما حكى تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل ١٦ / ١٠٣].

٣ ـ (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق ، فيتبعونه ، والباطل فيجتنبونه ، فالبيان إنما يفيد أهل العلم المدركين الذين يستخدمون بصائرهم في مدلولات القرآن ، فهم الذين يتبين لهم بالتأمل حقيقة القرآن ودلائله. أما الجاهلون الذين لم يفهموا آيات القرآن ، فلا ينتفعون به.


ثم يأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتبع طريقته باتباع الوحي وتجنب المشركين بقوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي اقتد به واقتف أثره واعمل به ، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه ؛ لأنه لا إله إلا هو ، واعف عن المشركين واصفح عنهم ، واحتمل أذاهم واصبر عليهم حتى يفتح الله لك ، وينصرك عليهم.

ولو شاء الله ما أشرك المشركون ، بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره ، لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون ، له الحكمة في بقائهم في الضلال ، ولو شاء لهدى الناس جميعا ، بأن يخلقهم مستعدين للإيمان ، لكنه خلقهم مستعدين للكفر ، وترك لهم حرية الاختيار في أعمالهم.

(وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي وما جعلناك حافظا تحفظ أقوالهم وأعمالهم ، وما أنت بموكل على أرزاقهم وأمورهم والتصرف في قضاياهم.

أي لست عليهم بمسيطر ، وليس لك صفة الملوك القاهرين ، بل أنت بشير ونذير ، والله يجازيهم ويحاسبهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

آي القرآن المتقدمة حجج بيّنة ظاهرة تدل على صدق الرسالة ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومهمته التبليغ والإنذار ، لا القسر والقهر والإكراه ، ولا الرقابة على أعمال الناس ، فمن أبصر الحق وآمن بدعوة الإسلام والقرآن فلنفسه أبصر ، وإياها نفع ، ومن عمي عنه فعلى نفسه الوبال وإياها ضر.

ومن فضله تعالى أنه كما صرف الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة ، يصرف في غيرها على وجوه مختلفة للإقناع والعبرة والعظة ، ولإلزام المشركين بالحجة وليقولوا : درست ، أي وليصير قولهم : «درست»


صرّفناها ، فهي لام الصيرورة ، ولتبيان الحق لقوم يعلمون ويدركون معناها ويقدرون فحواها ومضمونها.

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بتبليغ الدعوة والرسالة الإلهية ، والمقصود من هذا الأمر بعد اتهام الكفار له بالافتراء أو مدارسة أقوام هو تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حدث عنده بسبب هذا الاتهام ، لئلا يصير قول الكفار سببا لفتوره في تبليغ الدعوة.

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور أيضا بالإعراض عن المشركين بعد قيامه بواجب التبليغ ، والله قادر على جعلهم مؤمنين موحدين غير مشركين ، ولم يجعل من مهام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرقابة على أعمالهم ، ولا التوكل بأمورهم ومصالحهم في دينهم ودنياهم ، وإنما مهمته التبليغ ، ليترك لهم حرية الاختيار والطواعية بقبول الإيمان ، وكأنه تعالى يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تلتفت إلى سفاهات الكفار ، ولا يثقلن عليك كفرهم ، فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت ، ولكني تركتهم مع كفرهم ، فلا تشغل قلبك بكلامهم.

ويحمل قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) أي عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر والإلجاء ، ويحمل مشيئة الله لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء (١).

النهي عن سب الأصنام والأوثان

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ١٣٨


آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))

الإعراب :

(وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) من قرأ أنها بالفتح ، ففيه وجهان :

الأول ـ أن تكون «أن» بمعنى لعل ، وتقديره : وما يشعركم إيمانهم ، لعل الآيات إذا جاءت لا يؤمنون. وقد جاءت «أن» بمعنى لعل ، قالوا : اذهب إلى السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي لعلك.

والثاني ـ أنها في موضع نصب بيشعركم ، ولا : زائدة ، وتقديره : وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت يؤمنون ، وهي المفعول الثاني.

ومن قرأ «إنها» بالكسر ، جعلها مبتدأ ، ووقف على قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ) وجعل «ما» استفهامية ، وفي (يُشْعِرُكُمْ) ضمير يعود إلى «ما» ويقدر مفعولا ثانيا محذوفا ، وتقديره : وما يشعركم إيمانهم. ولا يجوز أن تكون «ما» نافية هاهنا على تقدير : وما يشعركم الله إيمانهم ؛ لأن الله تعالى قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام ٦ / ١١١]. (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَنَذَرُهُمْ) عطف على لا يؤمنون ، داخل في حكم : (وَما يُشْعِرُكُمْ).

(كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ) : منصوب لأنه ظرف زمان ، والمراد بأول مرة: الدنيا.

المفردات اللغوية :

(يَدْعُونَ) يدعونهم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام ، وعبّر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين مجاراة لمعتقد الكفرة فيها.

(عَدْواً) اعتداء وظلما (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جهلا منهم بالله (كَذلِكَ) كما زينا لهؤلاء ما هم


عليه (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) من الخير والشر ، فأتوه (مَرْجِعُهُمْ) في الآخرة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فيجازيهم به.

(وَأَقْسَمُوا) أي كفار مكة (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي غاية اجتهادهم فيها (آيَةٌ) مما اقترحوا (وَما يُشْعِرُكُمْ) يدريكم بإيمانهم إذا جاءت أي أنتم لا تدرون ذلك (لا يُؤْمِنُونَ) لما سبق في علمي.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) نحول قلوبهم عن الحق ، فلا يفهمونه (وَأَبْصارَهُمْ) عنه ، فلا يبصرونه ولا يؤمنون (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي بما أنزل من الآيات (وَنَذَرُهُمْ) نتركهم (فِي طُغْيانِهِمْ) ضلالهم (يَعْمَهُونَ) يترددون متحيرين.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠٨):

(وَلا تَسُبُّوا) : قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسبوا ـ أي الكفار ـ الله ، فأنزل الله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ). وعبارة الواحدي عن قتادة : كان المسلمون يسبون أوثان الكفار ، فيردون ذلك عليهم ، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة ، لا علم لهم بالله.

وقال ابن عباس في رواية الوالبي : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سبّك آلهتنا ، أو لنهجونّ ربك ، فنهى الله أن يسبوا أوثانهم ، فيسبوا الله عدوا بغير علم.

نزول الآية (١٠٩):

(وَأَقْسَمُوا) : أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : «كلّم رسول الله قريشا ، فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود لهم الناقة ، فأتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا ، قال : فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا : نعم والله ، فقام رسول الله


يدعو ، فجاءه جبريل ، فقال له : إن شئت أصبح ذهبا ، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم (أي عذاب الاستئصال) ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتركهم حتى يتوب تائبهم ، فأنزل الله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) إلى قوله : (يَجْهَلُونَ)».

المناسبة :

الآية متعلقة بما قبلها من قول المشركين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما جمعت هذا من مدارسة الناس ومذاكرتهم ، وحينئذ لا يبعد أن يغضب بعض المسلمين لسماع ذلك ، فيسبوا آلهة الكفار على سبيل المعارضة ، فنهى الله تعالى عن هذا الصنع ، لأنه متى شتمت آلهتهم ، فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول.

التفسير والبيان :

ينهى الله تعالى رسوله والمؤمنين عن سب آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة ، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين ، وهو (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كما قال ابن عباس.

لا تسبوا أيها المسلمون آلهة المشركين التي يدعونها من دون الله ؛ إذ ربما نشأ عن ذلك سبّهم لله عزوجل عدوانا ، أي ظلما وتجاوزا منهم للحدّ في السباب والمشاتمة ، لإغاظة المؤمنين ، جهلا منهم بقدر الله تعالى وعظمته. وهذا يدل على أن الطاعة أو المصلحة إن أدت إلى معصية أو مفسدة تترك ، وقد أمر الله موسى وهارون باللطف في مخاطبة فرعون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه ٢٠ / ٤٤].

وكما زينا لهؤلاء القوم حب الأصنام والانتصار لها ، زينا لكل أمة من الأمم سوء عملهم من الكفر والضلال ، أي أن هذه سنة الله في خلقه ، يستحسنون


عاداتهم وتقاليدهم التي ساروا عليهم عن تقليد وجهل ، أو عن معرفة وعناد ، والله يتركهم وشأنهم.

وهذا التزيين أثر لاختيارهم دون جبر أو إكراه ، لا أن الله خلق في قلوبهم تزيينا للكفر والشر ، كما زين في قلوب آخرين الإيمان والخير ، وإلا كان الإيمان والكفر والخير والشر غريزة ، تعد الدعوة إلى الإصلاح بعدها نوعا من العبث ، والله منزه عنه ، وكان الثواب والعقاب وإرسال الرسل وإنزال الكتب لا معنى له ولا عدل فيه.

وبعد تركهم وشأنهم في الدنيا يكون معادهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث إلى ربهم ومالك أمرهم ، لا إلى غيره ، فيجازيهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وهذا إنذار وتهديد.

وهؤلاء المشركون حلفوا أيمانا مؤكدة بالله : لئن جاءتهم معجزة مادية وخارقة للعادة من الآيات الكونية التي يقترحونها ، ليصدقن بها أنها من عند الله ، وأنك رسول الله. وفي هذا إشارة إلى أنهم قوم معاندون ؛ لأنهم لم يروا أن هذا القرآن من جنس المعجزات أصلا ، وليس من هدفهم إلا التحكم في طلب المعجزات.

قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتا وعنادا وكفرا ، لا على سبيل الهدى والاسترشاد : إنما مرجع هذه الآيات إلى الله ، وهو القادر عليها ، إن شاء جاءكم بها ، وإن شاء ترككم فلا ينزلها إلا على موجب الحكمة ، كما قال : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [غافر ٤٠ / ٧٨].

ثم خاطب الله نبيه والمؤمنين الذين تمنوا مجيء آية مما اقترحوا ليؤمنوا : وما يدريكم إيمانهم؟ أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات ، فهم لا يؤمنون إذا جاءتهم


الآية ، لسبق علم الله بعدم إيمانهم ، فأنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وأنتم لا تدرون بذلك.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ..) أي وما يشعركم أنا نحوّل قلوبهم عن إدراك الحق والإيمان وأبصارهم عن إبصاره ، ونحول بينهم وبينه ، فلا يدركونه ، ولو جاءتهم كل آية. فلا يؤمنون ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة حين أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره ؛ لتمام إعراضهم عن إدراك الحقائق ، كما قال تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر ١٥ / ١٤ ـ ١٥].

والحقيقة أن من لم يقنعه ما ورد في القرآن من الأدلة العقلية والبراهين العلمية ، لا تقنعه الآيات الحسية التي يشاهدها.

وما يشعركم أيضا أنا نذرهم في طغيانهم ، أي نخليهم وشأنهم ، لا نكفهم عن الطغيان أي تجاوز الحد ، ونتركهم يترددون في طغيانهم متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات ، أهو الحق المبين أم السحر الخادع؟

فقه الحياة أو الأحكام :

المؤمنون منهيون عن مجاراة الكفار ومبادلتهم السباب والشتم والقبائح ، سدا لذرائع الفساد ، ومنعا من الوقوع في المفسدة ، وإن كانت هناك مصلحة مرتجاة ، وقصد ثواب ، فذلك مرجوح وقليل أمام الجرم الأعظم وهو سب الله ، والمفسدة الأغلب. وفي هذا تهذيب أخلاقي ، وسمو إيماني ، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق ، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه.

وحكم الآية ـ كما ذكر العلماء ـ باق في الأمة على كل حال ، فمتى كان الكافر في منعة وغير خاضع لسلطان الإسلام والمسلمين ، وخيف أن يسبّ الإسلام أو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الله عزوجل ، فلا يحل لمسلم أن يسبّ صلبانهم ولا دينهم


ولا كنائسهم ، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك ؛ لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية.

وهذا نوع من الموادعة ، ودليل على وجوب الحكم بسدّ الذرائع ، وفي الآية دليل أيضا على أن المحقّ قد يكف عن حق له إذا أدّى إلى ضرر يكون في الدّين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه قال : لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي : إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال ، وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول (١).

ويؤكد مدلول الآية : قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو : «لعن الله الرجل يسبّ أبويه ، قيل : يا رسول الله ؛ وكيف يسبّ أبويه؟ قال : يسبّ أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه» قال ابن العربي : فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور. وبهذا تمسك المالكية في سد الذرائع : وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور.

وأما المعاندون مشركون أو غيرهم فلن يؤمنوا مهما جاءتهم الآيات ، وقد طلب مشركو قريش من الرسول معجزات مادية ، وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا ، فبيّن الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك ، فالله تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٧٣٥


فهرس

الجزء السابع

 الموضوع

 الصفحة

علاقة اليهود والنصارى بالمؤمنين.................................................... ٥

عداوة اليهود وإيمان القساوسة والرهبان.............................................. ٥

إباحة الطيبات................................................................. ١٢

اليمين اللغو واليمين المنعقدة وكفارتها.............................................. ١٩

أنواع الإيمان بحسب المحلوف عليه........................................... ٢٩

تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام............................................. ٢٣

مكانة البيت الحرام والشهر الحرام وشأن الهدى والقلائد.............................. ٧٠

الترهيب من عقاب الله والترغيب بفعل الطيب...................................... ٧٤

النهي عن كثرة السؤال فيما لم ينزل به وحي........................................ ٧٩

ماحرمه الجاهليون من الماشية والإبل............................................... ٨٥

التفويض إلى الله تعالى بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.......................... ٩١

الشهادة على الوصية حين الموت.................................................. ٩٥

سؤال الرسل يوم القيامة عن أثر دعوتهم.......................................... ١٠٧

التذكير بمعجزات عيسى عليه السلام............................................ ١٠١

إنزال المائدة على بني إسرائيل بطلب الحواريين..................................... ١١٤

تبرئة عيسى من مزاعم النصارى ـ ألوهيته وألوهية أمة............................... ١١٤

سورة الأنعام

تسميتها ونزولها وفضلها.................................................. ١٢٦


ما اشتلمت عليه........................................................ ١٢٦

أدلة وجود الله ووحدانية والبعث................................................. ١٢٩

سبب كفر الناس بآيات ربهم وإنذارهم بالعقاب................................... ١٣٦

عاقبة المستهزئين والمكذبين..................................................... ١٤٦

أدلة أخرى لإثبات الوحدانية والبعث............................................ ١٤٨

قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصدق....... ١٥٥

مجادلة المشركين في تعدد الآلهة.................................................. ١٥٥

معرفة أهل الكتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم................................. ١٦١

الافتراء على الله وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة............................... ١٦١

مواقف من عناد المشركين حول القرآن الکرم..................................... ١٦٧

موقف المشرکن أمام النار أو كيفية هلاكهم...................................... ١٧١

موقف المشركين أمام ربهم في الآخرة أو كيفية حالهم في القيامة....................... ١٧٥

حقيقة الدنيا................................................................. ١٧٥

حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإغراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين...... ١٨١

رفض المشركين دعوة صلى الله عليه وآله وسلم ومطالبتهم بتنزيل آة.................. ١٨٩

كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التغريط بشيء في القرآن........................... ١٩٢

اللجوء إلى الله وحده في الشدائد................................................ ١٩٧

من أدلة القدرة الإلهية والوحدانية ومهام الرسل المرسلين............................. ٢٠٣

انحصار مصدر علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ومهمته في الإنذار......... ٢٠٦

طرد الضعفاء................................................................. ٢٠٦

بعض أحوال رحمة الله تعالى..................................................... ٢١٧

حسم الجدل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين...................... ٢٢١


كمال علم الله تعالى وقهرة العباد................................................ ٢٣٦

القدرة الإلهية على الإنجاء من الظلمات........................................... ٢٣٥

الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن وعذابهم................................... ٢٤٥

مزايا الإيمان بالله ومخازي الشرك................................................. ٢٥٢

الجدال بين إبراهيم عليه السلام وبين آزر وسبب ترك الشرك........................ ٢٥٩

الحاجة بين إبراهيم وقومه....................................................... ٢٦٨

إبراهيم أبو الأنبياء وخصائص رسالاتهم والاقتداء بهديهم............................ ٢٧٥

إثبات النبوة وإنزال الكتب على الأنبياء ومهمة القرآن.............................. ٢٨٥

افتراء لكذب على الله وعقابه................................................... ٢٩٤

قدرة الله الباهرة في الكون...................................................... ٣٠٢

المزاعم المنسوبة إلى الله (الجن والولد والصاحبة) وكونه لا تدركه الأبصار............... ٢١٢

مبصرات الوحي وقدرة الله على منع الشرك........................................ ٣١٨

النهي عن سبّ الأصنام والأوثان................................................ ٣٢٢

التفسير المنير - ٧

المؤلف:
الصفحات: 331