بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢١ ـ سورة الأنبياء

سماها السلف «سورة الأنبياء» ، ففي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود قال : «بنو إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، هن من العتاق الأول وهنّ من تلادي». ولا يعرف لها اسم غير هذا.

ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيئا ومريم ولم يأت في سور القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سورة من سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام. فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيئا في قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) إلى قوله : (وَيُونُسَ وَلُوطاً) [الأنعام : ٨٣ ـ ٨٦] فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء ؛ وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية ، على أن من الحقائق المسلّمة أن وجه التسمية لا يوجبها.

وهي مكية بالاتفاق. وحكى ابن عطية والقرطبي ، الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في «الإتقان» استثناء قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء : ٤٤] ، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان ، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية ، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز ، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها. وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح. وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية فالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.


وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل ، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣] ، كما سيأتي بيانه ، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف [٥٧] (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعرى لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف. وقد عدّت الزخرف ثانية وستين في النزول.

وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشرة وفي عدّ أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة.

أغراض السورة :

والأغراض التي ذكرت في هذه السورة هي :

ـ الإنذار بالبعث ، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا.

ـ وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من الماء.

ـ والتحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله.

ـ والتذكير بأن هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.

ـ وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم‌السلام.

ـ والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه رحمة للعالمين.

ـ والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع لا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة.

ـ وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة ، وذكر


من أشراط الساعة فتح يأجوج وماجوج.

ـ وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.

ـ ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزى كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل.

ـ ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذ لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.

ـ وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى.

ـ وما يكرهه على فعل ما لا يريد.

ـ وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء.

ـ وأعقب ذلك بتذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ.

ـ ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء.

ـ وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحوال قومه.

ـ وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم.

ـ وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا.

ـ وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم.

ـ وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة ، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١))

افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذرين ، فإن المراد بالناس مشركو مكة ، والاقتراب مبالغة في القرب ، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم.

وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم


بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس ، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة ، وهي هيئة المغير والمعجّل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفا للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارّين معرضين عن اقتراب العدوّ منهم ، فالكلام تمثيل.

والمراد من الحساب إما يوم الحساب ، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع ، أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوا جزاء أعمالهم ، وذلك من الحساب. وفي هذا تعريض بالتهديد بقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر.

أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣] وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضا فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.

واللام في قوله (لِلنَّاسِ) إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله (حِسابُهُمْ) لأن تقديره : حساب لهم. والضمير عائد إلى الناس فصار قوله (لِلنَّاسِ) مساويا للضمير الذي أضيف إليه (حساب) فكأنه قيل : اقترب حساب للناس لهم فكان تأكيدا لفظيا ، وكما تقول : أزف للحي رحيلهم ، أصله أزف الرحيل للحيّ ثم صار أزف للحي رحيلهم ، ومنه قول العرب : لا أبا لك ، أصله لا أباك ، فكانت لام (لك) مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام. قال الشاعر :

أبا لموت الذي لا بد أني

ملاق لا أباك تخوّفيني

وأصل النظم : اقترب للناس الحساب. وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعرّف الناس تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين ، ولما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يكنّى عنهم بالناس كثيرا في القرآن ، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف فصار مثل : اقترب حساب للناس الحساب ، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه. ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى (من) أو بمعنى (إلى) متعلقة ب (اقْتَرَبَ) فيكون المجرور ظرفا


لغوا ، وعن ابن مالك أنه مثّل لانتهاء الغاية بقولهم : «تقربت منك».

وجملة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) حال من الناس ، أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم. والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده.

والغفلة : الذهول عن الشيء وعن طرق علمه ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) في سورة [الأنعام : ١٥٦] ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) في [سورة الأعراف : ١٤٦].

والإعراض : صرف العقل عن الاشتغال بالشيء. وتقدم في قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة [النساء : ٦٣] ، وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) في سورة [الأنعام : ٦٨].

ودلت (في) على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم ، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها ، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم. والمعنى : أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه.

وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه ، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلا عنه ، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به. فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث.

[٢ ، ٣] (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣))

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ).

جملة مبينة لجملة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم ، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيرا لهم بالنظر والاستدلال اشتغلوا عنه باللعب


واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) في سورة [البقرة : ١٧١].

والذكر : القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير.

والمحدث : الجديد. أي الجديد نزوله متكررا ، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكرا واحدا فلم يعبئوا به لانتحلوا لأنفسهم عذرا كانوا ساعتئذ في غفلة ، فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صدا.

ونظير هذا قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) في سورة [الشعراء : ٥] ، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسياق النظم.

ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) في سورة [النساء : ١٦٤].

وجملة (اسْتَمَعُوهُ) حال من ضمير النصب في (يَأْتِيهِمْ) وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم.

وجملة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال لازمة من ضمير الرفع في (اسْتَمَعُوهُ) مقيّدة لجملة (اسْتَمَعُوهُ) لأن جملة (اسْتَمَعُوهُ) حال باعتبار أنها مقيّدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلّا لصار الكلام ثناء عليهم. وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادة لقطع معذرتهم المستفاد من قوله (مُحْدَثٍ) كما علمت.

و (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال من المبتدأ في جملة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) وهي احتراس لجملة (اسْتَمَعُوهُ) أي استماعا لا وعي معه.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ).

جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفا على جملة (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] إلى آخرها ، لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم


بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها. فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم.

وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى (لِلنَّاسِ) وليست جملة (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) عطفا على جملة (اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لما يأتيهم من ذكر.

و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو الجماعة لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى ، ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم ، وللنداء على قبح ما هم متصفون به.

وجملة (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بدل من (النَّجْوَى) لأن ذلك هو ما تناجوا به ، فهو بدل مطابق. وليست هي كجملة (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) من جملة (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) في سورة [طه : ٦٢ ـ ٦٣] فإن تلك بدل بعض من كل لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى.

ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به لئلا يتصدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرد عليهم لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية يرومون بها أن يضللوا الدهماء ، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام فاختلوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجوهم بذلك ليدخلوا الشك في قلوبهم.

والنجوى : المحادثة الخفية. والإسرار : هو الكتمان والكلام الخفي جدا. وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) في سورة [براءة : ٧٨] ، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولا ل (أَسَرُّوا) في قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) في [سورة طه : ٦٢] ، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها لأن شأن التشاور في المهم كتمانه كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده.

والاستفهام في قوله (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فكيف تؤمنون بنبوته وهو أحد منكم.

وكذلك الاستفهام في قوله (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم.

والمعنى : أنه لما كان بشرا مثلكم فما تصديقكم لنبوءته إلا من أثر سحر سحركم به


فتأتون السحر بتصديقكم بما يدعوكم إليه.

وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة ، لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه ، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسماع دعوته فجعلوه إتيانا ، لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها ، وجعلوا كلامه سحرا فنهوا من ناجوهم عن الاستماع إليه. وهذا كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) في سورة [فصلت : ٢٦].

وقوله (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) في موضع الحال ، أي تأتون السحر وبصركم سليم ، وأرادوا به العلم البديهي ، فعبروا عنه بالبصر لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤))

أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فبعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر ، فالتعريف في (الْقَوْلَ) للاستغراق ، وبذلك كان هذا تذييلا ، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وقرأ الجمهور قل بصيغة الأمر ، وقرأ حمزة والكسائي ، وحفص ، وخلف (قالَ) بصيغة الماضي ، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة ، أي قال الرسول لهم ، حكى الله ما قاله الرسول لهم ، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور قل ربي يعلم القول لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله.

وإنما لم يقل يعلم السرّ لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السرّ وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسرّ وغيره بناء على متعارف الناس. وأما قوله في سورة [الفرقان : ٦] (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار ، وكان قول الذين كفروا : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان : ٤] صادرا منهم تارة جهرا وتارة سرا فأعلمهم الله باطلاعه على سرّهم. ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى.

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥))


(بَلْ) الأولى من كلام الله تعالى إضراب انتقال من حكاية قول فريق منهم (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الأنبياء : ٣] إلى حكاية قول آخر من أقوال المشركين ، وهو زعمهم أنّ ما يخبر عنه ويحكيه هو أحلام يراها فيحكيها ، فضمير (قالُوا) لجماعة المشركين لا لخصوص القائلين الأولين.

و (بَلْ) الثانية يجوز أن تكون من الكلام المحكي عنهم وهي إضراب انتقال فيما يصفون به القرآن. والمعنى : بل افتراه واختلقه من غير أحلام ، أي هو كلام مكذوب.

ثم انتقلوا فقالوا (هُوَ شاعِرٌ) أي كلامه شعر ، فحرف (بل) الثالثة إضراب منهم عن كلامهم وذلك مؤذن باضطرابهم وهذا الاضطراب ناشئ عن ترددهم مما ينتحلونه من الاعتلال عن القرآن. وذلك شأن المبطل المباهت أن يتردد في حجته كما قيل : الباطل لجلج ، أي ملتبس متردّد فيه.

ويجوز أن تكون (بل) الثانية والثالثة مثل (بل) الأولى للانتقال في حكاية أقوالهم. والتقدير : بل قالوا افتراه بل قالوا هو شاعر ، وحذف فعل القول لدلالة القول الأول عليهما ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المحكي كلام جماعات من المشركين انتحلت كل جماعة اعتلالا.

والأضغاث : جمع ضغث بكسر الضاد ، وهو الحزمة من أعواد أو عشب أو حشيش مختلط ثم أطلق على الأخلاط مطلقا كما في سورة يوسف [٤٤] (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أرادوا أن ما يخبركم به من أنه أوحي إليه ومن أخبار البعث والحساب ويوم القيامة هو أحلام يراها.

وفرعوا على ترددهم أو فرع كل فريق على مقالته نتيجة واحدة وهي المطالبة أن يأتيهم بمعجزة تدل على صدقه غير هذا القرآن من نوع ما يحكى عن الرسل السابقين أنهم أتوا به مثل انقلاب العصا حية.

ومن البهتان أن يسألوا الإتيان بآية يكون الادعاء بأنها سحر أروج في مثلها فإن من أشهر أعمال السحرة إظهار ما يبدو أنه خارق عادة. وقديما قال آل فرعون في معجزات موسى : إنها سحر ، بخلاف آية إعجاز القرآن.

ودخلت لام الأمر على فعل الغائب لمعنى إبلاغ الأمر إليه ، أي فقولوا له : ائتنا بآية ، والتشبيه في قوله (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) في موضع الحال من ضمير (فَلْيَأْتِنا) أي


حالة كون هذا البشر حين يأتي بالآية يشبه رسالته رسالة الأولين ، والمشبه ذات والمشبه به معنى الرسالة وذلك واسع في كلام العرب. قال النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل من ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل أو حالة كون الآية كما أرسل الأولون ، أي به.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

استئناف ابتدائي جوابا على قولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] ، والمعنى: أن الأمم التي أرسل إليها الأولون ما أغنت فيهم الآيات التي جاءتهم كما وددتم أن تكون لكم مثلها فما آمنوا ، ولذلك حق عليهم الإهلاك فشأنكم أيها المشركون كشأنهم. وهذا كقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) في سورة [الإسراء: ٥٩].

وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم ، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها. و (ما) نافية. و (من) في قوله تعالى (مِنْ قَرْيَةٍ) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من حرف (ما).

ومتعلق (آمَنَتْ) محذوف دل عليه السياق ، أي ما آمنت بالآيات قرية.

وجملة (أَهْلَكْناها) صفة ل (قَرْيَةٍ) ، وردت مستطردة للتعريض بالوعيد بأن المشركين أيضا يترقبون الإهلاك.

وذكرت القرية هنا مرادا بها أهلها ليبنى عليها الوصف بإهلاكها لأن الإهلاك أصاب أهل القرى وقراهم ، فلذلك قيل (أَهْلَكْناها) دون (أهلكناهم) كما في سورة [الكهف: ٥٩] (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ).

وفرعت جملة (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) على جملة (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) مقترنة باستفهام الإنكار ، أي فهم لا يؤمنون لو أتيناهم بآية كما اقترحوا كما لم يؤمن الذين من قبلهم الذين جعلوهم مثالا في قولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] وهذا أخذ لهم بلازم قولهم.


(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧))

عطف جواب على جواب. والمقصود من هذا إبطال مقصودهم من قولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣] إذا أرادوا أنه ليس بأهل للامتياز عنهم بالرسالة عن الله تعالى ، فبيّن خطأهم في استدلالهم بأن الرسل الأولين الذين اعترفوا برسالتهم ما كانوا إلا بشرا وأن الرسالة ليست إلا وحيا من الله لمن اختاره من البشر.

وقوله (إِلَّا رِجالاً) يقتضي أن ليس في النساء رسلا وهذا مجمع عليه. وإنما الخلاف في نبوءة النساء مثل مريم أخت موسى ومريم أم عيسى. ثم عرّض بجهلهم وفضح خطأهم فأمرهم أن يسألوا أهل الذكر ، أي العلم بالكتب والشرائع السالفة من الأحبار والرهبان.

وجملة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) إلخ معترضة بين الجمل المتعاطفة.

وتوجيه الخطاب لهم بعد كون الكلام جرى على أسلوب الغيبة التفات ، ونكتته أن الكلام لما كان في بيان الحقائق الواقعة أعرض عنهم في تقريره وجعل من الكلام الموجه إلى كل سامع وجعلوا فيه معبّرا عنهم بضمائر الغيبة ، ولما أريد تجهيلهم وإلجاؤهم إلى الحجة عليهم غيّر الكلام إلى الخطاب تسجيلا عليهم وتقريعا لهم بتجهيلهم.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨))

الجسد : الجسم الذي لا حياة فيه ، وهو يرادف الجثة. هذا قول المحققين من أئمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) [طه : ٨٨]. وقد تقدم هناك ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) [ص : ٣٤]. قيل هو شق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه ، أي ما جعلناهم أجراما غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشر التي خاصتها أكل الطعام ، وهذا رد لما يقولونه (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] مع قولهم هنا (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣].

وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] ، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين


كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة ، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجسادا بلا أرواح ، وهذا من السخافة بمكانة.

وأما قوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالا بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة ، لقطع معاذير الضالين ، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فما ذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم. فهذا وجه زيادة (وَما كانُوا خالِدِينَ).

وأتي في نفي الخلود عنهم بصيغة (ما كانُوا) تحقيقا لتمكن عدم الخلود منهم.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

(ثُمَ) عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي. والمعنى : وأهمّ مما ذكر أنّا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم. ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار. فالتبشير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن الله صادقه وعده من النصر ، والإنذار لمن ماثل أقوام الرسل الأولين.

والمراد بالوعد وعدم النصر على المكذبين بقرينة قوله تعالى (فَأَنْجَيْناهُمْ) المؤذن بأنه وعد عذاب لأقوامهم ، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين ، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥]. وفي هذا تقريع للمشركين ، أي إن كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثل ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه. وهذا كقوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) في سورة [يونس : ١٠٢].

وانتصب الوعد ب (صَدَقْناهُمُ) على التوسع بنزع حرف الجر. وأصل الاستعمال أن يقال : صدقناهم في الوعد ، لأن (صدق) لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل «صدقني سنّ بكره» (١).

__________________

(١) في «مجمع الأمثال» للميداني يضرب مثلا في الصدق. وأصله أن رجلا ساوم آخر في بكر وهو الفتى من الإبل ، وقال : ما سنه؟ قال : بازل ، وهو الكهل من الإبل فنفر البعير فدعاه صاحبه هدع هدع وهو صوت تسكن به الصغار من الإبل ، فقال المساوم : «صدقني سن بكره».


والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى (مَنْ نَشاءُ) احتباك ، والتقدير : فأنجيناهم ومن شئنا وننجي رسولنا ومن نشاء منكم ، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية من آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة.

وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان ، ولذلك لم يقل : ونهلك المسرفين ، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حلّ بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد.

والمسرفون : المفرطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

استئناف جواب عن قولهم (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون ، وتجهيلا لألبابهم التي لم تدرك عظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان.

وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقا ، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عموا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء : ٢ ـ ٣] كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية.

ولقصد هذا الإيقاظ صدّرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل (أَنْزَلْنا) بحرف (إلى) شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور ب «إلى» هو المنزّل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم. وذلك أبلغ من أن يقال : لقد أنزلنا لكم.

وتنكير (كِتاباً) للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين : كونه كتاب هدى ، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مدانيه.

والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح ، ويطلق على السمعة والصيت كقوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ) زكرياء [مريم : ٢]. وقد أوثر هذا المصدر هنا وجعل معرفا


بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاما موجها فيصح قصد المعنيين معا من كلمة (الذكر) بأن مجيء القرآن مشتملا على أعظم الهدى ، وهو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم ، ومجيئه بلغتهم ، وفي قومهم ، وبواسطة واحد منهم ، سمعة عظيمة لهم كما قال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥] ـ وقال ـ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) [البقرة : ١٥١].

وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين. وفي «تفسير الطبري» هنا قال جماعة : معنى «فيه ذكركم» أنه الشرف ، أي فيه شرفكم. وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور ، وقد فسر بمثل ذلك قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

وعلى المعنيين يكون لتفريع قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أحسن موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هداه فلم يهتد ينكر عليه سوء عقله ، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفا.

وأيضا فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرف التحقيق قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) في سورة [العنكبوت : ٥١] ، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي.

[١١ ـ ١٤] (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤))

عطف على قوله (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأنبياء : ٦] أو على قوله تعالى (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ، وهو تعريض بالتهديد.

ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صدق رسله وعده وهو خبر يفيد ابتداء التنويه بشأن الرسل ونصرهم وبشأن الذين آمنوا بهم. وفيه تعريض بنصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر إهلاك المكذبين له تبعا لذلك ، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصف ما حل بهم ليكون ذلك مقصودا بذاته ابتداء اهتماما به ليقرع أسماعهم ، فهو تعريض بإنذار


المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة ، وأن الله ينشئ بعدهم أمّة مؤمنة كقوله تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) في سورة [إبراهيم : ١٩].

و (كم) اسم ، له حقّ صدر الكلام لأن أصله اسم استفهام عن العدد ، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز لأن الشيء الكثير من شأنه أن يستفهم عنه ، والتقدير : قصمنا كثيرا من القرى ف (كم) هنا خبرية. وهي واقعة في محل نصب بفعل (قَصَمْنا).

وفي (كم) الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى ، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم أي الشرك إيماء إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم ، فيعلم المشركون التهديد بأن ذلك حالّ بهم لا محالة بحكم العموم ، وأن هذا ليس مرادا به قرية معينة ، فما روي عن ابن عباس : «أن المراد بالقرية (حضوراء) ـ بفتح الحاء ـ مدينة باليمن قتلوا نبيئا اسمه شعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبيء بني إسرائيل فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم». فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية ، والتقدير : قصمنا كثيرا. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) في سورة [الأنعام : ٦].

وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ).

ووجه اختيار لفظ (قَرْيَةٍ) هنا نظير ما قدمناه آنفا في قوله تعالى (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأنبياء : ٦].

وحرف (من) في قوله تعالى (مِنْ قَرْيَةٍ) لبيان الجنس ، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام (كم).

والقصم : الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع. واستعير للاستيصال والإهلاك القوي كإهلاك عاد وثمود وسبأ.

وجملة (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) معترضة بين جملة (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) وجملة (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) إلخ. فجملة (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) إلخ تفريع على جملة (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ).

وضمير (مِنْها) عائد إلى (قَرْيَةٍ).


والإحساس : الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.

والبأس : شدة الألم والعذاب. وحرف (من) في قوله (مِنْها يَرْكُضُونَ) يجوز أن يكون للابتداء ، أي خارجين منها ، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل (يركضون) معنى (يهربون) ، أي من البأس الذي أحسوا به فلا بدّ من تقدير مضاف ، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية. وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق.

والركض : سرعة سير الفرس ، وأصله الضرب بالرّجل فيسمى به العدو ، لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرّجل وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيها لسرعة سيرهم بركض الأفراس.

و (مِنْها) ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع.

ودخلت (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويرا لشدة الفزع. وليست (إذا) الفجائية برابطة للجواب بالشرط لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط ، و (إذا) الفجائية قد تكون رابطة للجواب خلفا من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه.

وجملة (لا تَرْكُضُوا) معترضة وهي خطاب للراكضين بتخيل كونهم الحاضرين المشاهدين في وقت حكاية قصتهم ، ترشيحا لما اقتضى اجتلاب حرف المفاجأة وهذا كقول مالك بن الرّيب :

دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي

بذي الطبسين فالتفتّ ورائيا

أي لما دعاه الهوى ، أي ذكّره أحبابه وهو غاز بذي الطّبسين التفت وراءه كالذي يدعوه داع من خلفه فتخيل الهوى داعيا وراءه.

وتكون هذه الجملة معترضة بين جملة (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) وبين جملة (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

ويجوز جعل الجملة مقول قول محذوف خوطبوا به حينئذ بأن سمعوه بخلق من الله تعالى أو من ملائكة العذاب. وهذا ما فسر به المفسرون ويبعده استبعاد أن يكون ذلك واقعا عند كل عذاب أصيبت به كل قرية. وأيا ما كان فالكلام تهكم بهم.


والإتراف : إعطاء الترف ، وهو النعيم ورفه العيش ، أي ارجعوا إلى ما أعطيتم من الرفاهية وإلى مساكنكم.

وقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) من جملة التهكم. وذكر المفسرون في معنى (تُسْئَلُونَ) احتمالات ستة. أظهرها : أن المعنى : ارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعيم لتروا ما آل إليه فلعلكم يسألكم سائل عن حال ما أصابكم فتعلموا كيف تجيبون لأن شأن المسافر أن يسأله الذين يقدم إليهم عن حال البلاد التي تركها من خصب ورخاء أو ضد ذلك ، وفي هذا تكملة للتهكم.

وجملة (قالُوا يا وَيْلَنا) إن جعلت جملة (لا تَرْكُضُوا) معترضة على ما قررته آنفا تكون هذه مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) كأن سائلا سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين لأن شأن الهارب الفزع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين فيقرون بظلمهم وينشئون التلهف والتندم بقولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

وإن جعلت جملة (لا تَرْكُضُوا) مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) جوابا لقول من قال لهم (لا تَرْكُضُوا) علىوجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيّناه غير مرة ، أي قالوا : قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا. فاعترفوا بذنبهم. قال تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) في سورة [الملك : ١١].

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

تفريع على جملة (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء : ١٤] ، فاسم (تِلْكَ) إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى (قالُوا يا وَيْلَنا) [الأنبياء : ١٤] ، وتأنيثه لأنه اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم ، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يدعون بها على أنفسهم.

وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) [الأنبياء : ١٣] لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر ، بخلاف الكلام المسوق جوابا فإنه لا داعي إلى إعادته.

والمعنى : فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم.


وسمي ذلك القول دعوى لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل ، والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) في [سورة يونس : ١٠]. أي فما زال يكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفّوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد ، أي أهلكناهم.

وحرف (حَتَّى) مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ).

والحصيد : فعيل بمعنى مفعول ، أي المحصود ، وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا.

والحصد : جزّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد. وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد.

والخامد : اسم فاعل من خمدت النار تخمد ـ بضم الميم ـ إذا زال لهيبها.

شبهوا بزرع حصد ، أي بعد أن كان قائما على سوقه خضرا ، فهو يتضمن قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة ، كما شبه بالزرع في قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) في سورة [الفتح : ٢٩]. ويقال للناشئ : أنبته الله نباتا حسنا ، قال تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) في سورة [آل عمران : ٣٧].

فللإشارة إلى الشبهين شبه البهجة وشبه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحصيد.

وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس كما شبه بالنار في قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) في سورة [المائدة : ٦٤] ، وقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) في سورة [البقرة: ١٧]. فحصل تشبيهان بليغان وليسا باستعارتين مكنيتين لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوّم حقيقة الاستعارة خلافا للعلّامتين التفتازانيّ والجرجاني في «شرحيهما للمفتاح» متمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى (جَعَلْناهُمْ) ، فجعلا ذلك استعارتين مكنيتين إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهب قوتها وحذف المشبه بهما ورمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود فكان (حَصِيداً) وصفا في المعنى للضمير المنصوب في (جَعَلْناهُمْ) ، فالحصيد هنا وصف ليس منزلا منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩] ، وبذلك لم يكن قوله تعالى (حَصِيداً) من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى (خامِدِينَ) الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر ، ومبنى الاستعارة على


تناسي التشبيه. وهذا تكلف منهما ولم أدر ما ذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف.

وانتصب (حَصِيداً خامِدِينَ) على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر ، فإن مفعولي (جعل) أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفا لأولهما كما هو ظاهر.

[١٦ ، ١٧] (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧))

كثير في القرآن الاستدلال بإتقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نظمهما وسننها وفطرها ، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى في سورة [الحجر: ٨٥] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ). وقد بيّنا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا.

وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المناسبة بين خلق ما في السماوات والأرض ملتبسا بالحق ، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عمّتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام ، وإلى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقى فيها النفوس جزاء ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقا.

فلذلك كثر أن تعقب الآيات المبينة لما في الخلق من الحقّ بالآيات التي تذكر الجزاء والحساب ، والعكس ، كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) في آخر سورة [المؤمنين : ١١٥] ، وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) آخر [الحجر : ٨٥] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) في سورة [ص : ٢٦ ـ ٢٨] ، وقوله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) في سورة [الدخان : ٣٧ ـ ٤٠] ، وقوله


تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) في سورة [الأحقاف : ٣] إلى غير هذه من الآيات.

فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلكين ، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كلّ مخلوق ما به قوامه ، فإذا كانت تلك سنة الله في خلق العوالم ظرفها ومظروفها ، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تتخلف في ترتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال ، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به ، وإذا علّمهم أنهم لا يفوتون ذلك بالموت بل إن لهم حياة آخرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها ، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به.

ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة ، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض.

وحسبك تعقيب ذلك بالتفريع بالفاء في قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الآيات ختام سورة [آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١].

ولأجل هذا اطرد أو كاد أن يطرد ذكر لفظ (وَما بَيْنَهُما) بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به لأن أشرفه هو نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف. فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعبا منظورا فيه إلى رد اعتقاد معتقد ذلك ولكنه بني على النفي أخذا لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعبا.

واللعب : العمل أو القول الذي لا يقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة ولا تحصيل نفع أو دفع ضر. وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل : «لا بد للعاقل من حمقة يعيش بها». ويرادفه العبث واللهو ، وضده : الجد. واللعب من الباطل إذ ليس في عمله حكمة فضده الحقّ أيضا.


وانتصب (لاعِبِينَ) على الحال من ضمير (خَلَقْنَا) وهي حال لازمة إذ لا يستقيم المعنى بدونها.

وجملة (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) مقررة لمعنى جملة (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) تقريرا بالاستدلال على مضمون الجملة ، وتعليلا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لعبا ، أي عبثا بأن اللعب ليس من شأننا أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو لكان ما يلهو به حاصلا في أشرف الأماكن من السماوات فإنها أشد اختصاصا بالله تعالى إذ جعل سكانها عبادا له مخلصين ، فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو لدن مضافا إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى من (لَدُنَّا) ، أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عالم الغيب الذي هو أشد اختصاصا بنا إذ هو عالم الملائكة المقربين.

فالظرفية المفادة من لدن ظرفية مجازية. وإضافة لدن إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل كقوله تعالى (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) في سورة [القصص : ٥٧] ، وقوله تعالى : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) في سورة [آل عمران : ٨] ، أي لو أردنا أن نتخذ لهوا لما كان اتخاذه في عالم شهادتكم. وهذا استدلال باللزوم العرفي لأن شأن من يتخذ شيئا للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى.

وجملة (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) إن جعلت (إن) شرطية فارتباطها بالتي قبلها ارتباط الشرط بجزائه المحذوف الدال عليه جواب (لو) وهو جملة (لَاتَّخَذْناهُ) فيكون تكريرا للتلازم ؛ وإن جعلت (إن) حرف نفي كانت الجملة مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من (لو) ، أي ما كنا فاعلين لهوا.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

(بل) للإضراب عن اتخاذ اللهو وعن أن يكون الخلق لعبا إضراب إبطال وارتقاء ، أي بل نحن نعمد إلى باطلكم فنقذف بالحق عليه كراهية للباطل بله أن نعمل عملا هو باطل ولعب.

والقذف ، حقيقته : رمي جسم على جسم. واستعير هنا لإيراد ما يزيل ويبطل الشيء من دليل أو زجر أو إعدام أو تكوين ما يغلب ، لأن ذلك مثل رمي الجسم المبطل بشيء


يأتي عليه ليتلفه أو يشتته ، فالله يبطل الباطل بالحقّ بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله ، وبأن أوجد في عقولهم إدراكا للتمييز بين الصلاح والفساد ، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين ، وبأن يخلق مخلوقات يسخرها لإبطال الباطل ، قال تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) في سورة الأنفال [١٢].

والدمغ : كسر الجسم الصلب الأجوف ، وهو هنا ترشيح لاستعارة القذف لإيراد ما يبطل ، وهو استعارة أيضا حيث استعير الدمغ لمحق الباطل وإزالته كما يزيل القذف الجسم المقذوف ، فالاستعارتان من استعارة المحسوسين للمعقولين.

ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحقّ الباطل عند وروده لأن للحقّ صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح ، قال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) إلى قوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) في سورة الرعد [١٧].

والزاهق : المنفلت من موضعه والهالك ، وفعله كسمع وضرب ، والمصدر الزهوق. وتقدم في قوله تعالى : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) في سورة براءة [٥٥] وقوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) في سورة الإسراء [٨١].

وعند ما انتهت مقارعتهم بالحجج الساطعة لإبطال قولهم في الرسول وفي القرآن ابتداء من قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) إلى قوله تعالى : (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٣ ـ ٥]. وما تخلل ذلك من المواعظ والقوارع والعبر. ختم الكلام بشتمهم وتهديدهم بقوله تعالى : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) ، أي مما تصفون به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

والويل : كلمة دعاء بسوء. وفيها في القرآن توجيه لأن الويل اسم للعذاب.

[١٩ ، ٢٠] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

عطف على جملة (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء : ١٧] مبيّنة أن كل من في السماوات والأرض عباد لله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقيام بما خلقوا


لأجله ، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحجية القرآن.

فاللام في (وَلَهُ) للملك ، والمجرور باللام خبر مقدم. و (مَنْ فِي السَّماواتِ) مبتدأ ، وتقديم المجرور للاختصاص ، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد ردا على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية.

و (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعم العقلاء وغيرهم وغلّب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول.

وقوله تعالى (وَمَنْ عِنْدَهُ) يجوز أن يكون معطوفا على (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به. ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) حالا من المعطوف عليه.

ويجوز أن يكون (مَنْ عِنْدَهُ) مبتدأ وجملة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) خبرا.

وما صدق (من) جماعة كما دل عليه قوله تعالى (لا يَسْتَكْبِرُونَ) بصيغة الجمع.

(وَمَنْ عِنْدَهُ) هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة.

وعلى كلا الوجهين في موقع جملة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركون.

والاستحسار : مصدر كالحسور وهو التعب ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاستيخار ، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم ، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقل ذلك العمل ، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد ، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرج مخرج الغالب في أمثاله. فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسورا ضعيفا. وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي.

وجملة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بيان لجملة (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لأن من لا يتعب من عمل لا يتركه فهو يواظب عليه ولا يعيا منه.

والليل والنهار : ظرفان. والأصل في الظرف أن يستوعبه الواقع فيه ، أي يسبحون


في جميع الليل والنهار.

وتسبيح الملائكة بأصوات مخلوقة فيهم لا يعطلها تبليغ الوحي ولا غيره من الأقوال.

والفتور : الانقطاع عن الفعل.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١))

(أم) هذه منقطعة عاطفة الجملة على الجملة عطف إضراب انتقالي هو انتقال من إثبات صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحجية دلالة القرآن إلى إبطال الإشراك ، انتقالا من بقية الغرض السابق الذي تهيأ السامع للانتقال منه بمقتضى التخلص ، الذي في قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] كما تقدم ، إلى التمحض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدد الآلهة. وهذا الانتقال وقع اعتراضا بين جملة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] وجملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣]. وليس إضراب الانتقال بمقتض عدم الرجوع إلى الغرض المنتقل إليه.

و (أم) تؤذن بأن الكلام بعدها مسوق مساق الاستفهام وهو استفهام إنكاري ، أنكر عليه اتخاذهم آلهة.

وضمير (اتَّخَذُوا) عائد إلى المشركين المتبادرين من المقام في مثل هذه الضمائر. وله نظائر كثيرة في القرآن. ويجوز جعله التفاتا عن ضمير (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء : ١٨] ، ويجوز أن يكون متناسقا مع ضمائر (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) [الأنبياء : ٥] وما بعده.

ووصف الآلهة بأنها من الأرض تهكم بالمشركين ، وإظهار لأفن رأيهم ، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالم الأرض أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب تعريضا بأن ما كان مثل ذلك لا يستحق أن يكون معبودا ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) في [الصافات : ٩٥].

وذكر الأرض هنا مقابلة لقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] لأن المراد أهل السماء ، وجملة (هُمْ يُنْشِرُونَ) صفة ثانية ل (آلِهَةً).

واقترانها بضمير الفصل يفيد التخصيص أن لا ينشر غير تلك الآلهة. والمراد : إنشار


الأموات ، أي بعثهم. وهذا مسوق للتهكم وإدماج لإثبات البعث بطريقة سوق المعلوم مساق غيره المسمى بتجاهل العارف ، إذ أبرز تكذيبهم بالبعث الذي أخبرهم الله على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة تكذيبهم استطاعة الله ذلك وعجزه عنه ، أي أن الأولى بالقدرة على البعث شركاؤهم فكأنّ وقوع البعث أمر لا ينبغي النزاع فيه فإن نازع فيه المنازعون فإنما ينازعون في نسبته إلى الله ويرومون بذلك نسبته إلى شركائهم فأنكرت عليهم هذه النسبة على هذه الطريقة المفعمة بالنكت ، والمشركون لم يدّعوا لآلهتهم أنها تبعث الموتى ولا هم معترفون بوقوع البعث ولكن نزلوا منزلة من يزعم ذلك إبداعا في الإلزام. ونظيره قوله تعالى في سورة [النحل : ٢١] في ذكر الآلهة : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢))

جملة مبينة للإنكار الذي في قوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) [الأنبياء : ٢١] ولذلك فصلت ولم تعطف.

وضمير المثنى عائد إلى (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنبياء : ١٩] من قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنبياء : ١٩] أي لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى ولم يكن جميع من فيها ملكا لله وعبادا له لفسدت السماوات والأرض واختل نظامهما الذي خلقتا به.

وهذا استدلال على بطلان عقيدة المشركين إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاء له في تدبير الخلق ، أي أنه بعد أن خلق السماوات والأرض أقام في الأرض شركاء له ، ولذلك كانوا يقولون في التلبية في الحج «لبيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك» وذلك من الضلال المضطرب الذي وضعه لهم أئمة الكفر بجهلهم وترويج ضلالهم على عقول الدهماء.

وبذلك يتبين أن هذه الآية استدلال على استحالة وجود آلهة غير الله بعد خلق السماوات والأرض لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله هو خالق السماوات والأرض ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) في سورة [الزمر : ٣٨] ، وقال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) في سورة الزخرف [٩]. فهي مسوقة لإثبات الوحدانية لا لإثبات وجود الصانع إذ لا نزاع فيه عند المخاطبين ، ولا لإثبات انفراده بالخلق إذ لا نزاع فيه كذلك ، ولكنها


منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم.

والفساد : هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء. ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيهما. فمن صلاح السماء نظام كواكبها ، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها ، ونظام النور والظلمة. ومن صلاح الأرض مهدها للسير ، وإنباتها الشجر والزرع ، واشتمالها على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب ، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح.

ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفا بصفات الإلهية المعروفة آثارها ، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف ، ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقدر لأن الآلهة لو استوت في تعلقات إراداتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثا للاستغناء بواحد منهم ، ولأنه إذا حصل كائن فإن كان حدوثه بإرادة متعددين لزم اجتماع مؤثرين على مؤثّر واحد وهو محال لاستحالة اجتماع علتين تامتين على معلول واحد. فلا جرم أن تعدد الآلهة يستلزم اختلاف متعلقات تصرفاتها اختلافا بالأنواع ، أو بالأحوال ، أو بالبقاع ، فالإله الذي لا تنفذ إرادته في بعض الموجودات ليس بإله بالنسبة إلى تلك الموجودات التي أوجدها غيره.

ولا جرم أن تختلف متعلقات إرادات الآلهة باختلاف مصالح رعاياهم أو مواطنهم أو أحوال تصرفاتهم فكل يغار على ما في سلطانه.

فثبت أنّ التعدد يستلزم اختلاف الإرادات وحدوث الخلاف.

ولما كان التماثل في حقيقة الإلهية يقتضي التساوي في قوة قدرة كل إله منهم ، وكان مقتضيا تمام المقدرة عند تعلق الإرادة بالقهر للضد بأن لا يصده شيء عن استئصال ضده ، وكل واحد منهم يدفع عن نفسه بغزو ضده وإفساد ملكه وسلطانه ، تعين أنه كلما توجه واحد منهم إلى غزو ضده أن يهلك كلّ ما هو تحت سلطانه فلا يزال يفسد ما في السماوات والأرض عند كل خلاف كما قال تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) في سورة المؤمنون [٩١].

فلا جرم دلت مشاهدة دوام السماوات والأرض على انتظامهما في متعدد العصور والأحوال على أنّ إلهها واحد غير متعدد.

فأما لو فرض التفاوت في حقيقة الإلهية فإن ذلك يقتضي رجحان بعض الآلهة على


بعض ، وهو أدخل في اقتضاء الفساد إذ تصير الغلبة للأقوى منهم فيجعل الكل تحت كلا كله ويفسد على كل ضعيف منهم ما هو في حوزته فيكون الفساد أسرع.

وهذا الاستدلال ـ باعتبار كونه مسوقا لإبطال تعدّد خاص ، وهو التعدد الذي اعتقده أهل الشرك من العرب واليونان الزاعمين تعدد الآلهة بتعدد القبائل والتصرفات ، وكذا ما اعتقده المانوية من الفرس المثبتين إلهين أحدهما للخير والآخر للشّر أو أحدهما للنور والآخر للظلمة ـ هو دليل قطعي.

وأما باعتبار ما نحاه المتكلمون من الاستدلال بهذه الآية على إبطال تعدد الآلهة من أصله بالنسبة لإيجاد العالم وسمّوه برهان التمانع ، فهو دليل إقناعي كما قال سعد الدين التفتازانيّ في «شرح النسفية». وقال في «المقاصد» : «وفي بعضها ضعف لا يخفى».

وبيانه أن الاتفاق على إيجاد العالم يمكن صدوره من الحكيمين أو الحكماء فلا يتم الاستدلال إلا بقياس الآلهة على الملوك في العرف وهو قياس إقناعي.

ووجه تسميته برهان التمانع أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الإله هو فرض أن يتمانع الآلهة ، أي يمنع بعضهم بعضا من تنفيذ مراده ، والخوض فيه مقامنا غنيّ عنه.

والمنظور إليه في الاستدلال هنا هو لزوم فساد السماوات والأرض لا إلى شيء آخر من مقدمات خارجة عن لفظ الآية حتى يصير الدليل بها دليلا قطعيا لأن ذلك له أدلة أخرى كقوله تعالى (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، وسيجيء في سورة المؤمنون [٩١].

وأما الاستدلال ببرهان التمانع فللمتكلمين في تقريره طريقتان ذكرهما صاحب «المواقف».

الأولى : طريقة الاستدلال بلزوم التمانع بالفعل وهي الطريقة المشهورة. وتقريرها : أنه لو كان للعالم صانعان متماثلان في القدرة ، فلا يخلو إما أن تتفق إرادتاهما وحينئذ فالفعل إن كان بإرادتيهما لزم اجتماع مؤثرين تامين على مؤثر ـ بفتح المثلثة ـ واحد وهو محال لامتناع اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد. وإن كان الفعل بإحدى الإرادتين دون الأخرى لزم ترجيح إحداهما بلا مرجح لاستوائهما في الصفة والموصوف بها ، وإما أن تختلف إرادتاهما فيلزم التمانع ، ومعناه أن يمنع كل منهما الآخر من الفعل لأن الفرض أنهما مستويان في القدرة.


ويرد على الاستدلال بهاته الطريقة أمور :

أحدها أنه لا يلزم تساوي الإلهين في القدرة بل يجوز عقلا أن يكون أحدهما أقوى قدرة من الآخر ، وأجيب عنه بأن العجز مطلقا مناف للألوهية بداهة. قاله عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي».

الأمر الثاني : يجوز أن يتفق الإلهان على أن لا يريد أحدهما إلا الأمر الذي لم يرده الآخر فلا يلزم عجز من لم يفعل.

الأمر الثالث : يجوز أن يتفق الإلهان على إيجاد الأمر المراد بالاشتراك لا بالاستقلال.

الأمر الرابع : يجوز تفويض أحدهما للآخر أن يفعل فلا يلزم عجز المفوّض لأن عدم إيجاد المقدور لمانع أراده القادر لا يسمّى عجزا ، لا سيما وقد حصل مراده ، وإن لم يفعله بنفسه.

والجواب عن هذه الثلاثة الأخيرة أنّ في جميعها نقصا في الألوهية لأن الألوهية من شأنها الكمال في كل حال.

إلا أن هذا الجواب لا يخرج البرهان عن حد الإقناع.

الطريقة الثانية : عول عليها التفتازانيّ في «شرح العقائد النسفية» وهي أنّ تعدد الإلهين يستلزم إمكان حصول التمانع بينهما ، أي أن يمنع أحدهما ما يريده الآخر ، لأن المتعددين يجوز عليهم الاختلاف في الإرادة. وإذا كان هذا الإمكان لازما للتعدد فإن حصل التمانع بينهما إذ تعلقت إرادة أحدهما بوجود شخص معين وتعلقت إرادة الآخر بعدم وجوده ، فلا يصح أن يحصل المرادان معا للزوم اجتماع النقيضين ، وإن حصل أحد المرادين لزم عجز صاحب المراد الذي لم يحصل ، والعجز يستلزم الحدوث وهو محال ، فاجتماع النقيضين أو حدوث الإله لازم لازم لازم للتعدد وهو محال ، ولازم اللازم لازم فيكون الملزوم الأول محالا ، قال التفتازانيّ : وبه تندفع الإيرادات الواردة على برهان التمانع.

وأقول يرد على هذه الطريقة أن إمكان التمانع لا يوجب نهوض الدليل ، لأن هذا الإمكان يستحيل وقوعه باستحالة حدوث الاختلاف بين الإلهين بناء على أنّ اختلاف الإرادة إنما يجيء من تفاوت العلم في الانكشاف به ، ولذلك يقل الاختلاف بين الحكماء. والإلهان نفرضهما مستويين في العلم والحكمة فعلمهما وحكمتهما يقتضيان


انكشافا متماثلا فلا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر فلا يقع بينهما تمانع ، ولذلك استدل في المقاصد على لزوم حصول الاختلاف بينهما بحكم اللزوم العادي.

بقي النظر في كيفية صدور الفعل عنهما فذلك انتقال إلى ما بنيت عليه الطريقة الأولى.

وإن احتمال اتفاق الإلهين على إرادة الأشياء إذا كانت المصلحة فيها بناء على أنّ الإلهين حكيمان لا تختلف إرادتهما ، وإن كان احتمالا صحيحا لكن يصير به تعدد الإله عبثا لأن تعدد ولاة الأمور ما كان إلا لطلب ظهور الصواب عند اختلافهما ، فإذا كانا لا يختلفان فلا فائدة في التعدد ، ومن المحال بناء صفة أعلى الموجودات على ما لا أثر له في نفس الأمر ، فالآية دليل قطعي.

ثم رجع عن ذلك في «شرح النسفية» فحقق أنها دليل إقناعي على التقديرين ، وقال المحقق الخيالي إلى أنها لا تكون دليلا قطعيا إلا بالنظر إلى تحقيق معنى الظرفية من قوله تعالى (فِيهِما) ، وعين أن تكون الظرفية ظرفية التأثير ، أي لو كان مؤثر فيهما ، أي السماوات والأرض غير الله تكون الآية حجة قطعية. وقد بسطه عبد الحكيم في «حاشيته على الخيالي» ولا حاجة بنا إلى إثبات كلامه هنا.

والاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا اللهُ) استثناء من أحد طرفي القضية لا من النسبة الحكمية ، أي هو استثناء من المحكوم عليه لا من الحكم. وذلك من مواقع الاستثناء لأن أصل الاستثناء هو الإخراج من المستثنى منه فالغالب أن يكون الإخراج من المستثنى باعتبار تسلط الحكم عليه قبل الاستثناء وذلك في المفرغ وفي المنصوب ، وقد يكون باعتباره قبل تسلط الحكم عليه وذلك في غير المنصوب ولا المفرغ فيقال حينئذ إن (إلا) بمعنى غير والمستثنى يعرب بدلا من المستثنى منه.

وفرع على هذا الاستدلال إنشاء تنزيه الله تعالى عن المقالة التي أبطلها الدليل بقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عما يصفونه به من وجود الشريك.

وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار لتربية المهابة.

ووصفه هنا برب العرش للتذكير بأنه انفرد بخلق السماوات وهو شيء لا ينازعون فيه بل هو خالق أعظم السماوات وحاويها وهو العرش تعريضا بهم بإلزامهم لازم قولهم بانفراده بالخلق أن يلزم انتفاء الشركاء له فيما دون ذلك.


(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣))

الأظهر أن هذه الجملة حال مكملة لمدلول قوله تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠] كما تقدم عند قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الأنبياء : ٢١] إلخ .. فالمعنى أن من عنده وهم المقربون من المخلوقات هم مع قربهم يسألون عما يفعلون ولا يسألونه عما يفعل ، أي لم يبلغ بهم قربهم إلى حدّ الإدلال عليه وانتصابهم لتعقب أفعاله. فلما كان الضمير المرفوع بالنيابة عن الفاعل مشعرا بفاعل حذف لقصد التعميم ، أي لا يسأل سائل الله تعالى عما يفعل. وكان ممن يشملهم الفاعل المحذوف هم من عنده من المقربين ، صحّ كون هذه الجملة حالا من (مَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] ، على أن جملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) تمهيد لجملة (وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

على أن تقديمه على جملة (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) اقتضته مناسبة الحديث عن تنزيهه تعالى على الشركاء فكان انتقالا بديعا بالرجوع إلى بقية أحوال المقربين.

فالمقصود أن من عنده مع قربهم ورفعة شأنهم يحاسبهم الله على أعمالهم فهم يخافون التقصير فيما كلفوا به من الأعمال ولذلك كانوا لا يستحسرون ولا يفترون.

وبهذا تعلم أن ليس ضمير (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) براجع إلى ما رجع إليه ضمير (يَصِفُونَ) [الأنبياء : ٢٢] لأن أولئك لا جدوى للإخبار بأنهم يسألون إذ لا يتردد في العلم بذلك أحد ، ولا براجع إلى (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الأنبياء : ٢١] لعدم صحة سؤالهم ، وذلك هو ما دعانا إلى اعتبار جملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) حالا من (مَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩].

والسؤال هنا بمعنى المحاسبة ، وطلب بيان سبب الفعل ، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل ، وتخلّص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». فكونهم يسألون كناية عن العبودية لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يفعل وما لا يفعل وبمظنة التعرض للخطإ في بعض ما يفعل.

وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة أو تطلب العلم كما في قوله تعالى (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في [البقرة : ٣٠] ، ولا سؤال الدعاء ، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرة بسؤال الله تعالى ، ولا لتطلب


مخلص من ملام. وفي هذا إبطال لإلهية المقربين التي زعمها المشركون الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله تعالى ، بطريقة انتفاء خاصية الإله الحق عنهم إذ هم يسألون عما يفعلون وشأن الإله أن لا يسأل. وتستخرج من جملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) كناية عن جريان أفعال الله تعالى على مقتضى الحكمة بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقد إذا أتقن الناظر التدبّر فيها أو كشف له عما خفي منها.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤))

جملة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) تأكيد لجملة (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الأنبياء : ٢١]. أكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاما لفظاعته وليبنى عليه استدلال آخر كما بني على نظيره السابق ؛ فإن الأول بني عليه دليل استحالة من طريق العقل ، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابقها ولا حقها ، فلقن الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي ، هاتوا دليلا على أنّ لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل.

والبرهان : الحجة الواضحة. وتقدم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة النساء [١٧٤].

والإشارة في قوله تعالى (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) إلى مقدّر في الذهن يفسره الخبر. والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه ، كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) في سورة لقمان [١١] ، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة. وإضافة (ذِكْرُ) إلى (مَنْ مَعِيَ) من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكّرون ـ بفتح الكاف ـ.

والمعية في قوله تعالى (مَنْ مَعِيَ) معيّة المتابعة ، أي من معي من المسلمين ، فما صدق (من) الموصولة الأمم ، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي ، أي الذكر المنزل لأجلكم. فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠]. والمراد بقوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) القرآن ، وأما قوله تعالى : (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة : التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان. وهذا كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا


إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) في [آل عمران : ١٨].

وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، أي لا ترج منهم اعترافا ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانيا ، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون علمه.

والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها.

وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلا عليهم بأن قليلا منهم يعلمون الحق ويجحدونه ، أو إيماء إلى أن قليلا منهم تهيّأت نفوسهم لقبول الحقّ. وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل ما عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوبا فيه سورة طه فأقبل على قراءته بشراشره فما أتمها حتى عزم على الإسلام.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

لما أظهر لرسوله أن المعاندين لا يعلمون الحق لإعراضهم عن تلقّيه أقبل على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأييد مقاله الذي لقّنه أن يجيبهم به وهو قوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) [الأنبياء : ٢٤] ، فأفاده تعميمه في شرائع سائر الرسل سواء من أنزل عليه كتاب ومن لم ينزل عليه كتاب ، وسواء من كان كتابه باقيا مثل موسى وعيسى وداود ومن لم يبق كتابه مثل إبراهيم.

وليس ذكر هذه الجملة لمجرد تقرير ما قبلها من آي التوحيد وإن أفادت التقرير تبعا لفائدتها المقصودة. وفيها إظهار لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر وقطع دابره إصلاحا لعقولهم بأن يزال منها أفظع خطل وأسخف رأي ، ولم تقطع دابر الشرك شريعة كما قطعه الإسلام بحيث لم يحدث الإشراك في هذه الأمّة.

وحرف (من) في قوله تعالى (مِنْ رَسُولٍ) مزيد لتوكيد النفي.


وفرع فيما أوحي إليهم أمره إياهم بعبادته على الإعلان بأنه لا إله غيره ، فكان استحقاق العبادة خاصا به تعالى.

وقرأ الجمهور إلا يوحى إليه بمثناة تحتية مبنيا للنائب ، وقرأه حفص وحمزة والكسائي بالنون مبنيا للفاعل ، والاستثناء المفرّع في موضع الحال.

[٢٦ ـ ٢٩] (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

عطف قصة من أقوالهم الباطلة على قصة أخرى. فلما فرغ من بيان باطلهم فيما اتخذوا من دون الله آلهة انتقل إلى بيان باطل آخر وهو اعتقادهم أن الله اتخذ ولدا. وقد كانت خزاعة من سكان ضواحي مكة يزعمون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وشاركهم في هذا الزعم بعض من قريش وغيرهم من العرب. وقد تقدم عند قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) في سورة النحل [٥٧].

والولد اسم جمع مفرده مثله ، أي اتخذ أولادا ، والولد يشمل الذكر والأنثى ، والذين قالوا اتخذ الله ولدا أرادوا أنه اتخذ بنات ، قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) [النحل : ٥٧].

ولما كان اتخاذ الولد نقصا في جانب واجب الوجود أعقب مقالتهم بكلمة (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن ذلك فإن اتخاذ الولد إنما ينشأ عن الافتقار إلى إكمال النقص العارض بفقد الولد كما قال تعالى في سورة يونس [٦٨] (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ).

ولما كان المراد من قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] أنهم زعموا الملائكة بنات الله تعالى أعقب حرف الإضراب عن قولهم بالإخبار بأنهم عباد دون ذكر المبتدأ للعلم به. والتقدير : بل الملائكة عباد مكرمون ، أي أكرمهم الله برضاه عنهم وجعلهم من عباده المقربين وفضلهم على كثير من خلقه الصالحين.

والسبق ، حقيقته : التقدم في السير على سائر آخر. وقد شاع إطلاقه مجازا على


التقدم في كل عمل. ومنه السبق في القول ، أي التكلم قبل الغير كما في هذه الآية. ونفيه هنا كناية عن عدم المساواة ، أي كناية عن التعظيم والتوقير. ونظيره في ذلك النهي عن التقدم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١] فإن التقدم في معنى السبق.

فقوله تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) معناه لا يصدر منهم قول قبل قوله ، أي لا يقولون إلّا ما أذن لهم أن يقولون. وهذا عام يدخل فيه الردّ على زعم المشركين أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله إذا أراد الله عقابهم على أعمالهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما سيصرح بنفيه.

وتقديم (بِأَمْرِهِ) على (يَعْمَلُونَ) لإفادة القصر ، أي لا يعملون عملا إلا عن أمر الله تعالى فكما أنهم لا يقولون قولا لم يأذن فيه كذلك لا يعملون عملا إلا بأمره.

وقوله تعالى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) تقدم نظيره في سورة البقرة [٢٥٥].

وقوله تعالى (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) تخصيص بالذكر لبعض ما شمله قوله تعالى (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) اهتماما بشأنه لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله.

وحذف مفعول (ارْتَضى) لأنه عائد صلة منصوب بفعل ، والتقدير : لمن ارتضاه ، أي ارتضى الشفاعة له بأن يأذن الملائكة أن يشفعوا له إظهارا لكرامتهم عند الله أو استجابة لاستغفارهم لمن في الأرض ، كما قال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) في سورة الشورى [٥]. وذلك الاستغفار من جملة ما خلقوا لأجله فليس هو من التقدم بالقول.

ثم زاد تعظيمهم ربهم تقريرا بقوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ، أي هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره.

و (مِنْ) في قوله تعالى (مِنْ خَشْيَتِهِ) للتعليل ، والمجرور ظرف مستقر ، وهو حال من المبتدأ. و (مُشْفِقُونَ) خبر ، أي وهم لأجل خشيته ، أي خشيتهم إياه.

والإشفاق : توقع المكروه والحذر منه.

والشرط الذي في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) إلخ ... شرط


على سبيل الفرض ، أي لو قاله واحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرر من شدة خشيتهم. فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادّعوا لهم الإلهية بأنهم ادعوا لهم ما لا يرضونه ولا يقولونه ، وأنهم ادعوا ما يوجب لقائله نار جهنم على حد (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

وعدل عن (إن) الشرطية إلى (من) الشرطيّة للدلالة على العموم مع الإيجاز. وأدخل اسم الإشارة في جواب الشرط لتحقيق التعليق بنسبته الشرط لأداته للدلالة على جدارة مضمون الجزاء بمن ثبت له مضمون الشرط ، وفي هذا إبطال لدعوى عامة النصارى إلهية عيسى عليه‌السلام وأنهم يقولون عليه ما لم يقله. ثم صرح بما اقتضاه التعريض فقال تعالى (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل ذلك الجزاء وهو جهنم يجزي المثبتين لله شريكا. والظلم : الشرك.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠))

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)

قرأ الجمهور (أَوَلَمْ) ـ بواو بعد الهمزة ـ وهي واو العطف ، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب. وقرأ ابن كثير ا لم ير بدون واو عطف. قال أبو شامة : ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة. قلت : معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزم قراء مكة رواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير ، وأهملت غير قراءته.

والاستفهام على كلتا القراءتين إنكاري ، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر.

والرؤية تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية. والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار ، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جدير أيضا بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله.

والرّتق : الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء.

والفتق : ضده ، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.


والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة.

ثم إن قوله تعالى (كانَتا) يحتمل أن تكونا معا رتقا واحدا بأن تكون السماوات والأرض جسما ملتئما متصلا. ويحتمل أن تكون كل سماء رتقا على حدتها ، والأرض رتقا على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى (فَفَتَقْناهُما).

وإنما لم يقل نحو : فصارتا فتقا ، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما ، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي.

والرتق يحتمل أن يراد به معان تنشأ على محتملاتها معان في الفتق ، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتق المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض ، والفتق هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلا من السماء ويرى البرق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها ، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها ، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق ، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة ، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالة على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى : (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) في سورة فاطر [٩].

وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية ، وكان الاستفهام أيضا إنكاريا متوجها إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات. واحتمل أن يراد بالرتق معان غير مشاهدة ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية ، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما ، أي الاتصال والانفصال. ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة ، أي كانت السماوات والأرض رتقا واحدا ، أي كانتا كتلة واحدة ثم انفصلت السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) في سورة هود[٧].

ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع ، أي كانت السماوات رتقا في حد ذاتها وكانت الأرض رتقا في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الله الأرض ، وهذا كقوله تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ


لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) في سورة فصّلت [٩ ـ ١٢].

وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريريا عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوبا بالإنكار على ذلك.

وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضا الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [الإسراء : ٩٩].

ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد. وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق والفتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥].

ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور ، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نورا أضاء الموجودات.

ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيرا أو عماء كما جاء في الحديث : «كان في عماء» ، فكانت جنسا عاليا متحدا ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق ، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد. ثم خلق الله من ذلك الجنس أبعاضا وجعل لكل بعض مميزات ذاتية فصيّر كل متميز بحقيقة جنسا فصارت أجناسا. ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعا. وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق ، وبعض من الصوفية وهو صاحب «مرآة العارفين» جعل الرتق علما على العنصر الأعظم يعني الجسم الكل ، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش. ذكر ذلك الحكيم الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب «معارج النور في أسماء الله الحسنى» المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام ١١٨٥ ه‍ في مقدمات كتابه «معارج النور» وفي رسالة له سماها «رسالة الفتق والرتق».


والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعا ، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وكل عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير.

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)

زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله. وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات. وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابسا لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة ، ولذلك كان استمرار الحمى مفضيا إلى الهزال ثم إلى الموت.

وجعل هنا بمعنى خلق ، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال.

و (مِنَ الْماءِ) متعلق ب (جَعَلْنا). و (من) ابتدائية. وفرع عليه (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) إنكارا عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١))

هذا من آثار فتق الأرض في حد ذاتها إذ أخرج الله منها الجبال وذلك فتق تكوين ، وجعل فيها الطّرق ، أي الأرضين السهلة التي يتمكن الإنسان من المشي فيها عكس الجبال.

والرواسي : الجبال ، لأنها رست في الأرض ، أي رسخت فيها.

والميد : الاضطراب. وقد تقدم في أول سورة النحل.

وتقدم في أول سورة النحل أن معنى (أَنْ تَمِيدَ) أن لا تميد ، أو لكراهة أن تميد.

والمعنى : وجعلنا في الأرض فجاجا. ولما كان (فِجاجاً) معناه واسعة كان في المعنى وصفا للسبيل ، فلما قدم على موصوفه انتصب على الحال. والمقصود إتمام المنة بتسخير سطح الأرض ليسلكوا منها طرقا واسعة ولو شاء لجعل مسالك ضيقة بين الجبال كأنها الأودية.


والفجاج : جمع فجّ. والفج : الطريق الواسع.

والسبل : جمع سبيل ، وهو : الطريق مطلقا.

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) مستأنفة إنشاء رجاء اهتداء المشركين إلى وحدانية الله فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة. ويجوز أن يراد بالاهتداء الاهتداء في السير ، أي جعلنا سبلا واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم ، فتكون هذه منة أخرى وهو تدبير الله الأشياء على نحو ما يلائم الإنسان ويصلح أحواله.

فقوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) من الكلام الموجه.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢))

لما ذكر الاعتبار بخلق الأرض وما فيها ناسب بحكم الطباق ذكر خلق السماء عقبه ، إلا أن حالة خلق الأرض فيها منافع للناس. فعقب ذكرها بالامتنان بقوله تعالى : (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء : ٣١] وبقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء : ٣١].

وأمّا حال خلق السماء فلا تظهر فيه منفعة فلم يذكر بعده امتنان ، ولكنه ذكر إعراضهم عن التدبر في آيات خلق السماء الدالة على الحكمة البالغة فعقب بقوله تعالى : (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ). فأدمج في خلال ذلك منة وهي حفظ السماء من أن تقع بعض الأجرام الكائنة فيها أو بعض أجزائها على الأرض فتهلك الناس أو تفسد الأرض فتعطل منافعها ، فذلك إدماج للمنة في خلال الغرض المقصود الذي لا مندوحة عن العبرة به.

والسقف ، حقيقته : غطاء فضاء البيت الموضوع على جدرانه ، ولا يقال السقف على غطاء الخباء والخيمة. وأطلق السقف على السماء على طريقة التشبيه البليغ ، أي جعلناها كالسقف لأن السماء ليست موضوعة على عمد من الأرض ، قال تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) وقد تقدم في أول سورة الرعد [٢].

وجملة (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) في موضع الحال. وآيات السماء ما تشتمل عليه السماء من الشمس والقمر والكواكب والشهب وسيرها وشروقها وغروبها وظهورها وغيبتها ، وابتناء ذلك على حساب قويم وترتيب عجيب ، وكلها دلائل على الحكمة البالغة فلذلك سماها آيات. وكذلك ما يبدو لنا من جهة السماء مثل السحاب والبرق والرعد.


(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)

لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرّفة الجزأين لإفادة القصر ، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء ، لأنهم لما عبدوا الأصنام ، والعبادة شكر ، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية.

ولكون المنة والعبرة في إيجاد نفس الليل والنهار ، ونفس الشمس والقمر ، لا في إيجادها على حالة خاصة ، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل.

وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تفيض النور على الموجودات ، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة ، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة ، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض.

وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجّه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية ، فخلق النهار تبع لخلق الشمس وخلق الأرض ومقابلة الأرض لأشعة الشمس ، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم.

وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس ، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة. وكل ذلك من المنن.

(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكرا مجملا في بعضها الذي هو آيات السماء ، ومفصلا في بعض آخر وهو الشمس والقمر ، كان المقام مثيرا في نفوس السامعين سؤالا عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم ، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير


فيه لا يلاقي فضاء سير غيره.

وضمير (يَسْبَحُونَ) عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر. وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القمر والكوكب.

وقال في «الكشاف» : «إنه روعي فيه وصفها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضا ضمير العقلاء ، يعني فيكون ذلك ترشيحا للاستعارة».

وقوله تعالى (فِي فَلَكٍ) ظرف مستقر خبر عن (كُلٌ) ، و (كُلٌ) مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، أي كل تلك ، فهو معرفة تقديرا. وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلا من المذكورات مستقر في فلك لا يصادم فلك غيره ، وقد علم من لفظ (كل) ومن ظرفية (في) أن لفظ (فَلَكٍ) عام ، أي لكل منها فلكه فهي أفلاك كثيرة.

وجملة (يَسْبَحُونَ) في موضع الحال.

والسبح : مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض ، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم.

والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم ، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب. ويغلب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر.

والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر وهو الموج المستدير بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد. والأصل الأصيل في ذلك كله فلكة المغزل ـ بفتح الفاء وسكون اللام ـ وهي خشبة مستديرة في أعلاها مسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغزل.

ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) فيه محسّن بديعي فإن حروفه تقرأ من آخرها على الترتيب كما تقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة ، ومثله قوله تعالى : (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدّثر : ٣] بطرح واو العطف ، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف ، وهذا النوع سمّاه السكاكي «المقلوب المستوي» وجعله من أصناف نوع سمّاه القلب.

وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته. وسمّاه الحريري في


«المقامات» «ما لا يستحيل بالانعكاس» وبنى عليه المقامة السادسة عشرة ووضح أمثلة نثرا ونظما ، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة ، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها ، وكلما زادت طولا زادت ثقلا.

قال العلامة الشيرازي في «شرح المفتاح» : وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال. قلت : ولم يذكروا منه شيئا وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن.

ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زار العماد الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد : «سر فلا كبا بك الفرس» ففطن القاضي أن فيه محسن القلب فأجابه على البديهة : «دام علا العماد» وفيه محسن القلب.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤))

عنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣] ، وقولهم : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) [الأنبياء : ٥] وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يرجونه أو يدبرونه قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) في سورة الطور [٣٠] ، وقال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) في [الأنفال : ٣٠].

وقد دلّ على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريب المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتمّ شماتتهم ، أو كأنهم لا يموتون أبدا فلا يشمت بهم أحد ، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون.

وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا يشمتون به فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمت حتى أهلك الله رءوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام.

ففي قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) طريقة القول بالموجب ، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا


بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم ، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجب ، أي ما هم بخالدين حتى يوقنوا أنهم يرون موتك. وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذار لهم بأنهم لا يرى موته منهم أحد.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥))

جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين.

ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها ، وهي (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤]. ووجه إعادتها اختلاف القصد فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين.

واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن.

وذوق الموت ذوق آلام مقدماته وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد.

والمراد بالنفس النفوس الحالّة في الأجساد كالإنسان والحيوان. ولا يدخل فيه الملائكة لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيّدا بوصف المجردات ، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة. وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة : إما لفظية كما في قوله تعالى (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) في سورة المائدة [١١٦]. وإما تقديرية كما في قوله تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) في آل عمران [٢٨].

وجملة (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة ، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشرّ جميع الأحياء ، فعلّم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخلد. وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقد قال يوم انتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرفيق الأعلى : «ليرجعنّ رسول الله فيقطّع أيدي قوم وأرجلهم» حتى حضر أبو بكر رضي‌الله‌عنه وثبته الله في ذلك الهول فكشف عن وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبّله وقال : «طبت حيا وميتا والله لا يجمع الله عليك موتتين». وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد :


رأيت المنايا لم يدعن محمدا

ولا باقيا إلّا له الموت مرصدا

وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشرّ وأن الدنيا دار ابتلاء.

والبلوى : الاختبار. وتقدم غير مرة. وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر ، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة ، إطلاق مجازي ، لأن ابتناء النظام عليه دل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه. أشبه اختبار المختبر ليعلم أحوال من يختبرهم.

و (فِتْنَةً) منصوب على المفعولية المطلقة توكيدا لفعل (نَبْلُوكُمْ) لأن الفتنة ترادف البلوى.

وجملة (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) إثبات للبعث ، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر.

وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر. وأمّا احتمال القصر فلا يقوم هنا إذ ليس ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتهم.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

هذا وصف آخر لما يؤذي به المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يرونه فهو أخص من أذاهم إياه في مغيبه ، فإذا رأوه يقول بعضهم لبعض : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ).

والهزؤ ـ بضم الهاء وضم الزاي ـ مصدر هزأ به ، إذا جعله للعبث والتفكه. ومعنى اتّخاذه هزؤا أنهم يجعلونه مستهزأ به فهذا من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، أو هو مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق. وتقدم في سورة [الكهف : ١٠٦] قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً).

وجملة (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) مبيّنة لجملة (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) فهي في معنى قول محذوف دل عليه (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) لأن الاستهزاء يكون بالكلام. وقد انحصر اتخاذهم إياه عند رؤيته في الاستهزاء به دون أن يخلطوه بحديث آخر في شأنه.

والاستفهام مستعمل في التعجيب ، واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، بقرينة الاستهزاء.

ومعنى (يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) يذكرهم بسوء ، بقرينة المقام ، لأنهم يعلمون ما يذكر به


آلهتهم مما يسوءهم ، فإن الذكر يكون بخير وبشّر فإذا لم يصرح بمتعلقه يصار إلى القرينة كما هنا وكما في قوله تعالى الآتي : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٠]. وكلامهم مسوق مساق الغيظ والغضب ، ولذلك أعقبه الله بجملة الحال وهي (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) ، أي يغضبون من أن تذكر آلهتهم بما هو كشف لكنهها المطابق للواقع في حال غفلتهم عن ذكر الرحمن الذي هو الحقيق بأن يذكروه. فالذكر الثاني مستعمل في الذكر بالثناء والتمجيد بقرينة المقام. والأظهر أن المراد بذكر الرحمن هنا القرآن ، أي الذكر الوارد من الرحمن. والمناسبة الانتقال من ذكر إلى ذكر. ومعنى كفرهم بذكر الرحمن إنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥]. وأيضا كفرهم بما جاء به القرآن من إثبات البعث.

وعبر عن الله تعالى باسم (الرَّحْمنِ) تورّكا عليهم إذ كانوا يأبون أن يكون الرحمن اسما لله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) في سورة [الفرقان : ٦٠].

وضمير الفصل في قوله تعالى : (هُمْ كافِرُونَ) يجوز أن يفيد الحصر ، أي هم كافرون بالقرآن دون غيرهم ممن أسلم من أهل مكة وغيرهم من العرب لإفادة أنّ هؤلاء باقون على كفرهم مع توفر الآيات والنذر.

ويجوز أن يكون الفصل لمجرد التأكيد تحقيقا لدوام كفرهم مع ظهور ما شأنه أن يقلعهم عن الكفر.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧))

جملة (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) معترضة بين جملة (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٣٦] وبين جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) ، جعلت مقدمة لجملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي). أمّا جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) فهي معترضة بين جملة (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦] وبين جملة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [الأنبياء : ٣٨] ، لأن قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦] يثير في نفوس المسلمين تساؤلا عن مدى إمهال المشركين ، فكان قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) استئنافا بيانيا جاء معترضا بين الجمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها. فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد فالله تعالى به المكذبين.


ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهيج حنق المسلمين عليهم فيودّوا أن ينزل بالمكذبين الوعيد عاجلا فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين. وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام. والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيدا للثانية.

والعجل : السرعة. وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلّة الإنسانية. شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه ، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية ، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين ، فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة. ونحوه قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩]. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه. وأما من فسر العجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد.

وجملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) هي المقصود من الاعتراض. وهي مستأنفة.

والمعنى : وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين ، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.

وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل ، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله ، ولكل أجل كتاب. فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد.

وحذفت ياء المتكلم من كلمة (تَسْتَعْجِلُونِ) تخفيفا مع بقاء حركتها فإذا وقف عليه حذفت الحركة من النون.

[٣٨ ـ ٤٠] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠))


نشأ عن ذكر استبطاء المسلمين وعد الله بنصرهم على الكافرين ذكر نظيره في جانب المشركين أنهم تساءلوا عن وقت هذا الوعد تهكما ، فنشأ به القولان واختلف الحالان فيكون قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) عطفا على جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) [الأنبياء : ٣٧]. وهذا معبّر عن مقالة أخرى من مقالاتهم التي يتلقون بها دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء وعنادا.

وذكر مقالتهم هذه هنا مناسب لاستبطاء المسلمين النصر. وبهذا الاعتبار تكون متصلة بجملة (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦] فيجوز أن تكون معطوفة عليها.

وخاطبوا بضمير الجماعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، ولأجل هذه المقالة كان المسلمون يستعجلون وعيد المشركين.

واستفهامهم استعملوه في التهكم مجازا مرسلا بقرينة إن كنتم صادقين لأن المشركين كانوا موقنين بعدم حصول الوعد.

والمراد بالوعد ما توعدهم به القرآن من نصر رسوله واستئصال معانديه. وإلى هذه الآية ونظيرها ينظر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر حين وقف على القليب الذي دفنت فيه جثث المشركين وناداهم بأسمائهم (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] أي ما وعدنا ربنا من النصر وما وعدكم من الهلاك وعذاب النار.

وجملة (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). ما ذا يكون جوابهم عن تهكمهم. وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره.

وجواب (لو) محذوف ، تقديره : لما كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم ، ونحو ذلك مما يحتمله المقام. وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦]. وحذف جواب (لو) كثير في القرآن. ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب.

و (حين) هنا : اسم زمان منصوب على المفعولية لا على الظرفية ، فهو من أسماء الزمان المتصرفة ، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عدوا تأخيره دليلا على تكذيبه.


وجملة (لا يَكُفُّونَ) مضاف إليها (حين). وضمير (يَكُفُّونَ) فيه وجهان : أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائدا إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام ، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه : الإمساك وهو حقيقته ، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة [الأنفال : ٥٠] (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذار بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لقوه يوم بدر.

وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس :

نعرّض للسيوف إذا التقينا

وجوها لا تعرض للطام

ولأن الأدبار يأنف الناس من ضربها لأن ضربها إهانة وهزي ، ويسمى الكسع.

والوجه الثاني : أن يكون ضمير (يَكُفُّونَ) عائدا إلى الذين كفروا ، والكفّ بمعنى الدّرء والستر مجازا بعلاقة اللزوم ، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم. أي حين تحيط بهم النار مواجهة ومدابرة. وذكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم.

وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميع من لدينا كتبهم من المفسرين. والوجه الأول أرجح معنى ، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) ولقوله تعالى (سَأُرِيكُمْ آياتِي) [الأنبياء : ٣٧] كما تقدم.

وقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) عطف على (لا يَكُفُّونَ) أي لا يكف عنهم نفح النار ، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب. وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصا منها ولا يجدون نصيرا من أحلافهم.

و (بل) للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم ، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة ، وهو أشدّ على النفوس لعدم التهيّؤ له والتوطن عليه ، كما قال كثيّر :


فقلت لها يا عز كل مصيبة

إذا وطنت يوما لها النفس ذلت

وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

وفاعل (تَأْتِيهِمْ) ضمير عائد إلى الوعد. وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى : (حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) باعتبار الوقعة أو نحو ذلك ، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة. وأمّا على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين لأن الحين في معنى الساعة.

والبغتة : المفاجأة ، وهي حدوث شيء غير مترقب.

والبهت : الغلب المفاجئ المعجز عن المدافعة ، يقال : بهته فبهت. قال تعالى في سورة [البقرة : ٢٥٨] (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي غلب. وهو معنى التفريع في قوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) وقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا تؤخر عنهم. وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أنظروا زمنا طويلا لعلهم يقلعون عن ضلالهم.

وما أشدّ انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) في [الأنفال : ٤٢] ، وقال تعالى: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤]. ولا شك في أن المستهزئين مثل أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف ، كانوا ممن بغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك.

وأما إذا أريد بضمير (تَأْتِيهِمْ) الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة بغتة. وأما أولئك المستهزءون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

عطف على جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) [الأنبياء : ٣٧] تطمين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له. ومناسبة عطفها على جملة (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) [الأنبياء : ٣٩]


إلى آخرها ظاهرة.

وقد تقدم نظير هذه الآية في أوائل سورة الأنعام.

[٤٢ ـ ٤٤] (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤))

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)

بعد أن سلّي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على استهزائهم بالوعيد أمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظا لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم.

والاستفهام إنكار وتقريع ، أي لا يكلؤهم منه أحد فكيف تجهلون ذلك ، تنبيها لهم إذا نسوا نعمه.

وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل : من يكلؤكم في جميع الأوقات.

وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام.

وذكر النهار بعده للاستيعاب.

ومعنى (مِنَ الرَّحْمنِ) من بأسه وعذابه.

وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب.

فالإضراب الأول قوله تعالى : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يرجى منهم الانتفاع بالقوارع ، أي أخّر السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورّطوا في العذاب عرفوا أن لا كالئ لهم.


ثم أضرب إضرابا ثانيا ب (أم) المنقطعة التي هي أخت (بل) مع دلالتها على الاستفهام لقصد التقريع فقال : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ، أي بل ألهم آلهة. والاستفهام إنكار وتقريع ، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا. وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء.

وجملة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) مستأنفة معترضة. وضمير (يَسْتَطِيعُونَ) عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم. والمعنى : كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول.

ثم أضرب إضرابا ثالثا انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخذ الله إياهم بالعذاب فجرّأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد ، وهو قوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) ، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل ، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء ، ولكن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مداها حتى طالت أعمار آبائهم. وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم ، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمد علمه.

وقد وجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) ، ثم أعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) الآية في سورة [يونس : ٢٢].

و (يُصْحَبُونَ) إما مضارع صحبه إذا خالطه ولازمه ، والصحبة تقتضي النصر والتأييد ، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعل المبنيّ للنائب مرادا به الله تعالى ، أي لا يصحبهم الله ، أي لا يؤيدهم ؛ فيكون قوله تعالى : (مِنَّا) متعلقا ب (يُصْحَبُونَ) على معنى (من) الاتصالية ، أي صحبة متصلة بنا بمعنى صحبة متينة. وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفا لقصد العموم ، أي لا يصحبهم صاحب ، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حماية الجار فيكون قوله تعالى : (مِنَّا) متعلقا ب (يُصْحَبُونَ) على معنى (من) التي بمعنى (على) كقوله تعالى : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) [غافر : ٢٩].


وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه ، أي من السوء.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) لحاضرين في الأذهان وهم كفار قريش.

وقد استقريت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفار قريش.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)

تقريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلا على تكذيب وقوعه حتى قالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأنبياء : ٣٨] تهكما وتكذيبا. فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) إلى قوله تعالى : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنبياء : ٣٩ ـ ٤١] فرّع على ذلك كله استفهاما تعجيبيا من عدم اهتدائهم إلى أمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالا على قربه بحصول أماراته.

والرؤية علمية ، وسدت الجملة مسدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر ، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها ، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة ، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد ، فمن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى ، وكفى بذلك دليلا على تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعناية ربه به كما دلّ عليه فعل (نَأْتِي).

فالإتيان تمثيل بحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتل ويأسر كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦].

والتعريف في (الْأَرْضَ) تعريف العهد ، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في [سورة يوسف : ٨٠] (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي أرض مصر.

والنقصان : تقليل كمية شيء.

والأطراف : جمع طرف ـ بفتح الطاء والراء ـ. وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته ، وضده الوسط.

والمراد بنقصان الأرض : نقصان من عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين ، والقرينة


المشاهدة.

والمراد : نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة ، ومن هاجر منهم إلى الحبشة ، ومن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية ، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين. وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد.

وجملة (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة. والاستفهام إنكاري ، أي فكيف يحسبون أنهم غلبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم.

واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) دون الفعلية لدلالتها بتعريف جزأيها على القصر ، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون ، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص ، ولما خلت بلدتهم من عدد كثير منهم.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

استئناف ابتدائي مقصود منه الإتيان على جميع ما تقدم من استعجالهم بالوعد تهكما بقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [الأنبياء : ٣٨] ، من التهديد الذي وجه إليهم بقوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٣٩] إلخ ... ومن تذكيرهم بالخالق وتنبيههم إلى بطلان آلهتهم بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله تعالى : (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) [الأنبياء : ٤٢ ـ ٤٤] ، ومن الاحتجاج عليهم بظهور بوارق نصر المسلمين ، واقتراب الوعد بقوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الأنبياء : ٤٤] ، عقب به أمر الله رسوله أن يخاطبهم بتعريف كنه دعوته ، وهي قصره على الإنذار بما سيحلّ بهم في الدنيا والآخرة إنذارا من طريق الوحي المنزل عليه من الله تعالى وهو القرآن ، أي فلا تعرضوا عنه ، ولا تتطلبوا مني آية غير ذلك ، ولا تسألوا عن تعيين آجال حلول الوعيد ، ولا تحسبوا أنكم تغيظونني بإعراضكم والتوغل في كفركم.

فالكلام قصر موصوف على صفة ، وقصره على المتعلّق بتلك الصفة تبعا لمتعلقه فهو قائم مقام قصرين. ولم يظهر لي مثال له من كلام العرب قبل القرآن.

وهذا الكلام يستلزم متاركة لهم بعد الإبلاغ في إقامة الحجة عليهم وذلك ذيل بقوله تعالى : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ). والواو للعطف على (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ


بِالْوَحْيِ) عطف استئناف على استئناف لأن التذييل من قبيل الاستئناف.

والتعريف في (الصُّمُ) للاستغراق. والصمم مستعار لعدم الانتفاع بالكلام المفيد تشبيها لعدم الانتفاع بالمسموع بعدم ولوج الكلام صماخ المخاطب به. وتقدم في قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) في [سورة البقرة : ١٨]. ودخل في عمومه المشركون المعرضون عن القرآن وهم المقصود من سوق التذييل ليكون دخولهم في الحكم بطريقة الاستدلال بالعموم على الخصوص.

وتقييد عدم السماع بوقت الإعراض عند سماع الإنذار لتفظيع إعراضهم عن الإنذار لأنه إعراض يفضي بهم إلى الهلاك فهو أفظع من عدم سماع البشارة أو التحديث ، ولأن التذييل مسوق عقب إنذارات كثيرة.

واختير لفظ الدعاء لأنه المطابق للغرض إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا كما قال : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) [يوسف : ١٠٨].

والأظهر أن جملة (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) كلام مخاطب به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس من جملة المأمور بأن يقوله لهم.

وقرأ الجمهور (وَلا يَسْمَعُ) ـ بتحتية في أوله ورفع (الصُّمُ) ـ. وقرأه ابن عامر ولا تسمع ـ بالتاء الفوقية المضمومة ونصب (الصُّمُ) ـ خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذه القراءة نص في انفصال الجملة عن الكلام المأمور بقوله لهم.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

عطف على جملة (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥] والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي أنذرهم بأنهم سيندمون عند ما ينالهم أول العذاب في الآخرة. وهذا انتقال من إنذارهم بعذاب الدنيا إلى إنذارهم بعذاب الآخرة.

وأكد الشرط بلام القسم لتحقيق وقوع الجزاء.

والمسّ : اتصال بظاهر الجسم.

والنفحة : المرة من الرضخ في العطية ، يقال نفحه بشيء إذا أعطاه.


وفي مادة النفح أنه عطاء قليل نزر ، وبضميمة بناء المرة فيها ، والتنكير ، وإسناد المسّ

إليها دون فعل آخر أربع مبالغات في التقليل ، فما ظنك بعذاب يدفع قليله من حلّ به إلى الإقرار باستحقاقه إياه وإنشاء تعجبه من سوء حال نفسه.

والويل تقدم عند قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في [سورة البقرة : ٧٩] ، وعند قوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) في أول [سورة إبراهيم : ٢].

ومعنى (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إنا كنا معتدين على أنفسنا إذ أعرضنا عن التأمل في صدق دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالظلم في هذه الآية مراد به الإشراك لأن إشراكهم معروف لديهم فليس مما يعرفونه إذا مستهم نفحة من العذاب.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

يجوز أن تكون الواو عاطفة هذه الجملة على جملة (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) [الأنبياء : ٤٦] إلخ لمناسبة قولهم (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء : ٤٦] ، ولبيان أنهم مجازون على جميع ما أسلفوه من الكفر وتكذيب الرسول بيانا بطريق ذكر العموم بعد الخصوص في المجازين ، فشابه التذييل من أجل عموم قوله تعالى (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ، وفي المجازى عليه من أجل قوله تعالى (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها).

ويجوز أن تكون الواو للحال من قوله (رَبِّكَ) [الأنبياء : ٤٦] ، وتكون نون المتكلم المعظّم التفاتا لمناسبة الجزاء للأعمال كما يقال : أدّى إليه الكيل صاعا بصاع ، ولذلك فرع عليه قوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً).

ويجوز أن تكون الجملة معترضة وتكون الواو اعتراضية.

والوضع حقيقته : حط الشيء ونصبه في مكان ، وهو ضد الرفع. ويطلق على صنع الشيء وتعيينه للعمل به وهو في ذلك مجاز.

والميزان : اسم آلة الوزن. وله كيفيات كثيرة تختلف باختلاف العوائد ، وهي تتّحد في كونها ذات طبقين متعادلين في الثقل يسميان كفتين ـ بكسر الكاف وتشديد الفاء ـ تكونان من خشب أو من حديد ، وإذا كانتا من صفر سميتا صنجتين ـ بصاد مفتوحة ونون ساكنة ـ ، معلق كل طبق بخيوط في طرف يجمعهما عود من حديد أو خشب صلب ، في


طرفيه عروتان يشد بكل واحدة منهما طبق من الطبقين يسمى ذلك العود (شاهين) وهو موضوع ممدودا ، وتجعل بوسطه على السواء عروة لتمسكه منها يد الوازن ، وربما جعلوا تلك العروة مستطيلة من معدن وجعلوا فيها إبرة غليظة من المعدن منوطة بعروة صغيرة من معدن مصوغة في وسط (الشاهين) فإذا ارتفع الشاهين تحركت تلك الإبرة فإذا ساوت وسط العروة الطويلة على سواء عرف اعتدال الوزن وإن مالت عرف عدم اعتداله ، وتسمى تلك الإبرة لسانا ، فإذا أريد وزن شيئين ليعلم أنهما مستويان أو أحدهما أرجح وضع كلّ واحد منهما في كفّة ، فالتي وضع فيها الأثقل منهما تنزل والأخرى ذات الأخف ترتفع وإن استويتا فالموزونان مستويان ، وإذا أريد معرفة ثقل شيء في نفسه دون نسبته إلى شيء آخر جعلوا قطعا من معدن : صفر أو نحاس أو حديد أو حجر ذات مقادير مضبوطة مصطلح عليها مثل الدرهم والأوقية والرّطل ، فجعلوها تقديرا لثقل الموزون ليعلم مقدار ما فيه لدفع الغبن في التعاوض ، ووحدتها هو المثقال ، ويسمى السّنج ـ بفتح السين المهملة وسكون النون بعدها جيم ـ.

والقسط ـ بكسر القاف وسكون السين ـ اسم المفعول ، وهو مصدر وفعله أقسط مهموزا. وتقدم في قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في [سورة آل عمران : ١٨].

وقد اختلف علماء السلف في المراد من الموازين هنا : أهو الحقيقة أم المجاز ، فذهب الجمهور إلى أنه حقيقة وأن الله يجعل في يوم الحشر موازين لوزن أعمال العباد تشبه الميزان المتعارف ، فمنهم من ذهب إلى أن لكل أحد من العباد ميزانا خاصا به توزن به أعماله ، وهو ظاهر صيغة الجمع في هذه الآية وقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) في [سورة القارعة : ٦ ـ ٧].

ومنهم من ذهب إلى أنه ميزان واحد توزن فيه أعمال العباد واحدا فواحدا ، وأنه بيد جبريل ، وعليه فالجمع باعتبار ما يوزن فيها ليوافق الآثار الواردة في أنه ميزان عام.

واتفق الجميع على أنه مناسب لعظمة ذلك لا يشبه ميزان الدنيا ولكنه على مثاله تقريبا. وعلى هذا التفسير يكون الوضع مستعملا في معناه الحقيقي وهو النصب والإرصاد.

وذهب مجاهد وقتادة والضحّاك وروي عن ابن عباس أيضا أن الميزان الواقع في القرآن مثل للعدل في الجزاء كقوله (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) في [سورة الأعراف : ٨] ، ومال إليه الطبري. قال في «الكشاف» : «الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنّصفة


من غير أن يظلم أحد» ه. أي فهو مستعار للعدل في الجزاء لمشابهته للميزان في ضبط العدل في المعاملة كقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥].

والوضع : ترشيح ومستعار للظهور.

وذهب الأشاعرة إلى أخذ الميزان على ظاهره.

وللمعتزلة في ذلك قولان ففريق قالوا : الميزان حقيقة ، وفريق قالوا : هو مجاز. وقد ذكر القولين في «الكشاف» فدل صنيعه على أن القولين جاريان على أقوال أئمتهم وصرح به في «تقرير المواقف».

وفي «المقاصد» : «ونسبة القول بانتفاء حقيقة الميزان إلى المعتزلة على الإطلاق قصور من بعض المتكلمين» ه.

قلت : لعلّه أراد به النسفيّ في «عقائده».

قال أبو بكر بن العربي في كتاب «العواصم من القواصم» : «انفرد القرآن بذكر الميزان ، وتفردت السنة بذكر الصراط والحوض ، فلما كان هذا الأمر هكذا اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال إن الأعمال توزن حقيقة في ميزان له كفّتان وشاهين وتجعل في الكفتين صحائف الحسنات والسيئات ويخلق الله الاعتماد فيها على حسب علمه بها. ومنهم من قال إنما يرجع الخبر عن الوزن إلى تعريف الله العباد بمقادير أعمالهم. ونقل الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان يميل إلى هذا.

وليس بممتنع أن يكون الميزان والوزن على ظاهره وإنما يبقى النظر في كيفية وزن الأعمال وهي أعراض فها هنا يقف من وقف ويمشي على هذا من مشى. فمن كان رأيه الوقوف فمن الأول ينبغي أن يقف ، ومن أراد المشي ليجدنّ سبيلا مئتاء (١) إذ يجد ثلاثة معان ميزانا ووزنا وموزونا ، فإذا مشى في طريق الميزان والوزن ووجده صحيحا في كلّ لفظة حتى إذا بلغ تمييز الموزون ولم يتبين له لا ينبغي أن يرجع القهقرى فيبطل ما قد أثبت بل يبقي ما تقدم على حقيقته وصحته ويسعى في تأويل هذا وتبيينه اه.

وقلت : كلا القولين مقبول والكلّ متفقون على أن أسماء أحوال الآخرة إنما هي تقريب لنا بمتعارفنا والله تعالى قادر على كل شيء. وليس بمثل هذه المباحث تعرف قدرة

__________________

(١) بكسر الميم وبهمزة ساكنة بعدها ومد في آخره : الطريق العام المسلوك.


الله تعالى ولا بالقياس على المعتاد المتعارف تجحد تصرفاته تعالى.

ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي وأن بيانه بقوله (الْقِسْطَ) في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحا.

وتقدم ذكر الوزن في قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) في [سورة الأعراف : ٨].

والقسط : العدل ، ويقال : القسطاس ، وهو كلمة معرّبة من اللغة الرومية (اللاطينية). وقد نقل البخاري في آخر «صحيحه» ذلك عن مجاهد.

فعلى اعتبار جعل الموازين حقيقة في آلات وزن في الآخرة يكون لفظ القسط الذي هو مصدر بمعنى العدل للموازين على تقدير مضاف ، أي ذات القسط ، وعلى اعتبار في الموازين في العدل يكون لفظ القسط بدلا من الموازين فيكون تجريدا بعد الترشيح. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله فإنه مصدر صالح لذلك.

واللام في قوله تعالى (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) تحتمل أن تكون للعلة مع تقدير مضاف ، أي لأجل يوم القيامة ، أي الجزاء في يوم القيامة. وتحتمل أن تكون للتوقيت بمعنى (عند) التي هي للظرفية الملاصقة كما يقال : كتب لثلاث خلون من شهر كذا ، وكقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] أي نضع الموازين عند يوم القيامة.

وتفريع (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) على وضع الموازين تفريع العلة على المعلول أو المعلول على العلة. والظلم : ضد العدل ، ولذلك فرع نفيه على إثبات وضع العدل. و (شَيْئاً) منصوب على المفعولية المطلقة ، أي شيئا من الظلم.

ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم ، أي شيئا من الظلم.

ووقوعه في سياق النفي دلّ على تأكيد العموم من فعل (تُظْلَمُ) الواقع أيضا في سياق النفي ، أي لا تظلم بنقص من خير استحقته ولا بزيادة شيء لم تستحقه ، فالظلم صادق بالحالين والشيء كذلك.

وهذه الجملة كلمة جامعة لمعان عدة مع إيجاز لفظها ، فنفي جنس الظلم ونفي عن كل نفس فأفاد أن لا بقاء لظلم بدون جزاء.

وجملة (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) في موضع الحال. و (إن) وصيلة دالة على


أن مضمون ما بعدها من شأنه أن يتوهم تخلف الحكم عنه فإذا نصّ على شمول الحكم إياه علم أن شموله لما عداه بطريق الأولى. وقد يرد هذا الشرط بحرف (لو) غالبا كما في قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في [آل عمران : ٩١]. ويرد بحرف (إن) كما هنا ، وقول عمرو بن معد يكرب :

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رديت بردا

وقد تقدم في سورة آل عمران.

وقرأ الجمهور (مِثْقالَ) بالنصب على أنه خبر (كانَ) وأن اسمها ضمير عائد إلى (شَيْئاً). وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة.

وقرأ نافع وأبو جعفر (مِثْقالَ) مرفوعا على أن (كانَ) تامّة و (مِثْقالَ) فاعل.

ومعنى القراءتين متّحد المآل ، وهو : أنه إن كان لنفس مثقال حبّة من خردل من خير أو من شرّ يؤت بها في ميزان أعمالها ويجاز عليها.

وجملة (أَتَيْنا بِها) على القراءة الأولى مستأنفة ، وعلى القراءة الثانية إما جواب للشرط أو مستأنفة وجواب الشرط محذوف. وضمير (بِها) عائد إلى (مِثْقالَ حَبَّةٍ). واكتسب ضميره التأنيث لإضافة معاده إلى مؤنث وهو (حَبَّةٍ).

والمثقال : ما يماثل شيئا في الثقل ، أي الوزن ، فمثقال الحبة : مقدارها. والحبة : الواحدة من ثمر النبات الذي يخرج من السنبل أو في المزادات التي كالقرون أو العبابيد كالقطاني.

والخردل : حبوب دقيقة كحبّ السمسم هي بزور شجر يسمى عند العرب الخردل. واسمه في علم النبات (سينابيس). وهو صنفان بري وبستاني. وينبت في الهند ومصر وأوروبا. وشجرته ذات ساق دقيقة ينتهي ارتفاعها إلى نحو متر. وأوراقها كبيرة. يخرج أزهارا صفرا منها تتكون بزوره إذ تخرج في مزادات صغيرة مملوءة من هذا الحب ، تخرج خضراء ثم تصير سوداء مثل الخرنوب الصغير. وإذا دقّ هذا الحب ظهرت منه رائحة معطّرة إذا قربت من الأنف شما دمعت العينان ، وإذا وضع معجونها على الجلد أحدث فيه بعد هنيهة لذعا وحرارة ثم لا يستطيع الجلد تحملها طويلا ويترك موضعه من الجلد شديد الحمرة لتجمّع الدم بظاهر الجلد ولذلك يجعل معجونه بالماء دواء يوضع على المحل المصاب باحتقان الدم مثل ذات الجنب والنزلات الصدرية.


وجملة (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) عطف على جملة (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) ومفعول (كَفى) محذوف دل عليه قوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً). والتقدير : وكفى الناس نحن في حال حسابهم.

ومعنى كفاهم نحن حاسبين أنهم لا يتطلعون إلى حاسب آخر يعدل مثلنا. وهذا تأمين للناس من أن يجازى أحد منهم بما لا يستحقه. وفي ذلك تحذير من العذاب وترغيب في الثواب.

وضمير الجمع في قوله تعالى (حاسِبِينَ) مراعى فيه ضمير العظمة من قوله تعالى (بِنا) ، والباء مزيدة للتوكيد ، وأصل التركيب : كفينا الناس ، وهذه الباء تدخل بعد فعل (كفى) غالبا فتدخل على فاعله في الأكثر كما هنا وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) في [سورة النساء : ٧٩]. وتدخل على مفعوله كما في الحديث : «كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكل ما سمع».

وانتصب (حاسِبِينَ) على الحال أو التمييز لنسبة (كَفى). وتقدمت نظائر هذا التركيب غير مرّة منها في قوله تعالى (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) في [سورة النساء : ٧٩].

[٤٨ ـ ٥٠] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

عطف على جملة (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) إلى قوله تعالى : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] لإقامة الحجة على المشركين بالدلائل العقلية والإقناعية والزجرية ، ثم بدلائل شواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة الشاهدة بتنظير ما أوتيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أوتيه سلفه من الرسل والأنبياء ، وأنه ما كان بدعا من الرسل في دعوته إلى التوحيد تلك الدعوة التي كذبه المشركون لأجلها مع ما تخلل ذلك من ذكر عناد الأقوام ، وثبات الأقدام ، والتأييد من الملك العلّام ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلاقيه من قومه بأن تلك سنة الرسل السابقين كما قال تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) في سورة [الإسراء : ٧٧]. فجاء في هذه الآيات بأخبار من أحوال الرسل المتقدمين.

وفي سوق أخبار هؤلاء الرسل والأنبياء تفصيل أيضا لما بنيت عليه السورة من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) يوحى إليهم [الأنبياء : ٧] الآيات ، ثم قوله تعالى :


(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا) يوحى (إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] ، ثم قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥]. واتصالها بجميع ذلك اتصال محكم ولذلك أعقبت بقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

وابتدئ بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم العرب ولأن أثر إتيان موسى عليه‌السلام بالشريعة هو أوسع أثر لإقامة نظام أمة يلي عظمة شريعة الإسلام.

وافتتاح القصة بلام القسم المفيدة للتأكيد لتنزيل المشركين في جهل بعضهم بذلك وذهول بعضهم عنه وتناسي بعضهم إياه منزلة من ينكر تلك القصة.

ومحل التنظير في هذه القصة هو تأييد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب مبين وتلقي القوم ذلك الكتاب بالإعراض والتكذيب.

والفرقان : ما يفرّق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل. وقد سمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأن فيه كان مبدأ ظهور قوة المسلمين ونصرهم. فيجوز أن يراد بالفرقان التوراة كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) في [سورة الصافات : ١١٧].

والإخبار عن الفرقان بإسناد إيتائه إلى ضمير الجلالة للتنبيه على أنه لم يعد كونه إيتاء من الله تعالى ووحيا كما أوتي محمد عليه الصلاة والسلام القرآن فكيف ينكرون إيتاء القرآن وهم يعلمون أن موسى عليه‌السلام ما جاء إلا بمثله. وفيه تنبيه على جلالة ذلك الموتى.

ويجوز أن يراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المعجزة والسحر كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) في [سورة غافر : ٢٣]. ويجوز أن يراد به الشريعة الفارقة بين العدل والجور كقوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) في [سورة البقرة : ٥٣].

وعلى الاحتمالات المذكورة تجيء احتمالات في قوله تعالى الآتي : (وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ). وليس يلزم أن تكون بعض هذه الصفات قسيما لبعض بل هي صفات متداخلة ، فمجموع ما أوتيه موسى وهارون تتحقق فيه هذه الصفات الثلاث.

والضياء : النور. يستعمل مجازا في الهدى والعلم ، وهو استعمال كثير ، وهو المراد هنا وقد قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) في [سورة المائدة : ٤٤].


والذكر أصله : خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه. ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله ، فقوله تعالى (لِلْمُتَّقِينَ) يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول ، أي الذين اتصفوا بتقوى الله ، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه ، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربّهم. ويجوز أن يكون اللام للعلة ، أي ذكر لأجل المتقين ، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين.

ووصفهم بما يزيد معنى المتقين بيانا بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) وهو على نحو قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في [سورة البقرة : ٢ ـ ٣].

والباء في قوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) بمعنى (في). والغيب : ما غاب عن عيون الناس ، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس.

والإشفاق : رجاء حادث مخوف. ومعنى الإشفاق من الساعة : الإشفاق من أهوالها ، فهم يعدّون لها عدّتها بالتقوى بقدر الاستطاعة.

وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ). فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب ، وهؤلاء هم فرعون وقومه.

وقد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشئ هو عنه ، وهو المقابلة بقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته. ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في [سورة النحل : ٤٤].

ووصف القرآن بالمبارك يعمّ نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير ؛ فالقرآن كلّه خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته ، وهو أيضا خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية ، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحدّاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فما استطاعوا. وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان ، وانتفع به من آمنوا به وفريق


ممن حرموا الإيمان. فكان وصفه بأنه مبارك وافيا على وصف كتاب موسى عليه‌السلام بأنه فرقان وضياء.

وزاده تشريفا بإسناد إنزاله إلى ضمير الجلالة. وجعل الوحي إلى الرسول إنزالا لما يقتضيه الإنزال من رفعة القدر إذ اعتبر مستقرّا في العالم العلوي حتى أنزل إلى هذا العالم.

وفرّع على هذه الأوصاف العظيمة استفهام توبيخي تعجيبي من إنكارهم صدق هذا الكتاب ومن استمرارهم على ذلك الإنكار بقوله تعالى : (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). ولكون إنكارهم صدقه حاصلا منهم في حال الخطاب جيء بالجملة الاسمية ليتأتى جعل المسند اسما دالا على الاتّصاف في زمن الحال وجعل الجملة دالة على الثبات في الوصف وفاء بحق بلاغة النظم.

[٥١ ـ ٥٧] (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧))

أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه ، لأن إبراهيم كان هو المثل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذ أقام للتوحيد هيكلا بمكة هو الكعبة وبجبل (نابو) من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينة تسمى يومئذ (لوزا) ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة (أورشليم) في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد ، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهدا على بطلان الشرك الذي كان مماثلا لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقطع دابره. وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدّهم إبراهيم على قومه ، وكفى بذلك حجة عليهم. وأيضا فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى.

وتأكيد الخبر عنه بلام القسم للوجه الذي بيناه آنفا في تأكيد الخبر عن موسى وهارون ، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم


أوتي رشدا وهديا.

وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.

والرشد : الهدى والرأي الحق ، وضده الغي ، وتقدم في قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) في [سورة البقرة : ٢٥٦]. وإضافة (الرُّشْدُ) إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي الرشد الذي أرشده. وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد ، أي رشدا يليق به ؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم ، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى ، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به. وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.

وزاده تنويها وتفخيما تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي آتيناه رشدا عظيما على علم منا بإبراهيم ، أي بكونه أهلا لذلك الرشد ، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه ، أي علم من سريرته صفات قد رضيها وأحمدها فاستأهل بها اتخاذه خليلا. وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] وقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤].

وقوله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن نؤتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا. ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.

و (إِذْ قالَ) ظرف لفعل (آتَيْنا) أي كان إيتاؤه الرشد حين قال لأبيه وقومه : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) إلخ ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه ، أي حين نزول الوحي إليه بالدعوة إلى توحيد الله تعالى ، فذلك أول ما بدئ به من الوحي.

وقوم إبراهيم كانوا من (الكلدان) وكان يسكن بلدا يقال له (كوثى) بمثلثة في آخره بعدها ألف. وهي المسماة في التوراة (أور الكلدان) ، ويقال : أيضا إنها (أورفة) في (الرها) ، ثم سكن هو وأبوه وأهله (حاران) وحاران هي (حرّان) ، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح ١٢ من التكوين لقوله فيه : «اذهب من أرضك ومن


عشيرتك ومن بيت أبيك». ومات أبوه في (حاران) كما في الإصحاح ١١ من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من (حاران) لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان. وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة ، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صورا مجسمة.

والاستفهام في قوله تعالى : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) يتسلط على الوصف في قوله تعالى: (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) فكأنه قال : ما عبادتكم هذه التماثيل؟. ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادئ الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها. وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيدا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلا مستعلما ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) ؛ فإن شأن السؤال بكلمة (ما) أنّه لطلب شرح ماهية المسئول عنه.

والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية. والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي.

والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي (بعل) وهو أعظمها ، وكان مصوغا من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس ، وعبدوا رموزا للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح : ودّا ، وسواعا ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا ، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى. وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور (إخوان الكلدان) صنما اسمه (نسروخ) وهو نسر لا محالة.

وجعل العكوف مسندا إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركا لهم في ذلك فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم ، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى : (أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) فيه معنى دوامهم على ذلك.

وضمن (عاكِفُونَ) معنى العبادة ، فذلك عدّي باللام لإفادة ملازمة عبادتها.

وجاءوا في جوابه بما توهّموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق ، ولذلك لم يلبث أن أجابهم : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مؤكدا ذلك بلام القسم.

وفي قوله تعالى : (كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ) من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية ، إيماء


إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنّه ضلال بواح لا شبهة فيه ، وأكد ذلك بوصفه ب (مُبِينٍ). فلما ذكروا له آباءهم شرّكهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتّباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سنن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة.

ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالا ، وإيقانهم أن آباءهم على الحق ، شكّوا في حال إبراهيم أنطق عن جد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) ، فعبروا عنه (بِالْحَقِ) المقابل للعب وذلك مسمى الجدّ. فالمعنى : بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح ، فاستفهموا وسألوه (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ). والباء للمصاحبة. والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحا ، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّف معه وتجنب نسبته إلى الباطل استجلابا لخاطره لما رأوا من قوة حجته.

وعدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكنا في اللعب ومعدودا من الفريق الموصوف باللعب.

وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) لإبطال أن يكون من اللاعبين ، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات ، أي وليست تلك التماثيل أربابا إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥] فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلّا مربوبة مخلوقة وليست أربابا ولا خالقة. فضمير الجمع في قوله تعالى (فَطَرَهُنَ) ضمير السماوات والأرض لا محالة.

فكان جواب إبراهيم إبطالا لقولهم (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) مع مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق. وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي.

وقوله تعالى : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) إعلام لهم بأنه مرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم ، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.


ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القسم ، كقول الفرزدق :

شهد الفرزدق حين يلقى ربه

أن الوليد أحقّ بالعذر

ثم انتقل إبراهيم عليه‌السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلنا عزمه على ذلك بقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) مؤكدا عزمه بالقسم ، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها.

والتاء تختص بقسم على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف : ٨٥].

وسمى تكسيره الأصنام كيدا على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد.

والكيد : التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) في [سورة يوسف : ٢٨].

وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه ، وهذا من عزمه عليه‌السلام لأن المبادرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلا ، والمقصود من تغيير المنكر : إزالته بقدر الإمكان ، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة.

و (مُدْبِرِينَ) حال مؤكدة لعاملها. وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) في [سورة براءة : ٢٥].

[٥٨ ـ ٦١] (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١))

الضميران البارزان في (فَجَعَلَهُمْ) وفي (لَهُمْ) عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل ، وضمير (لَعَلَّهُمْ) عائد إلى قوم إبراهيم ، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الروم : ٩].


والجذاذ ـ بضم الجيم ـ في قراءة الجمهور : اسم جمع جذاذة ، وهي فعالة من الجذّ ، وهو القطع مثل قلامة وكناسة ، أي كسرهم وجعلهم قطعا. وقرأ الكسائي (جُذاذاً) ـ بكسر الجيم ـ على أنه مصدر ، فهو من الإخبار بالمصدر للمبالغة.

قيل : كانت الأصنام سبعين صنما مصطفة ومعها صنم عظيم وكان هو مقابل باب بيت الأصنام ، وبعد أن كسرها جعل الفأس في رقبة الصنم الأكبر استهزاء بهم.

ومعنى (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير. ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم.

وضمير (لَهُمْ) عائد إلى الأصنام من قوله (أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧]. وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء ، ومثله ضمائر قوله بعده (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣].

وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام.

وقول قومه (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) يدل على أنهم لم يخطر ببالهم أن يكون كبير الآلهة فعل ذلك ، وهؤلاء القوم هم فريق لم يسمع توعد إبراهيم إياهم بأن يكيد أصنامهم والذين (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) هم الذين توعد إبراهيم الأصنام بمسمع منهم.

والفتى : الذكر الذي قوي شبابه. ويكون من الناس ومن الإبل. والأنثى : فتاة ، وقد يطلقونه صفة مدح دالة على استكمال خصال الرجل المحمودة.

والذكر : التحدث بالكلام.

وحذف متعلق «يذكر» لدلالة القرينة عليه ، أي يذكرهم بتوعد. وهذا كقوله تعالى: (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦] كما تقدم.

وموضع جملتي (يَذْكُرُهُمْ) و (يُقالُ لَهُ) في موضع الصفة ل (فَتًى).

وفي قولهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) دلالة على أن المنتصبين للبحث في القضية لم يكونوا


يعرفون إبراهيم ، أو أن الشهداء أرادوا تحقيره بأنه مجهول لا يعرف وإنما يدعى أو يسمى إبراهيم ، أي ليس هو من الناس المعروفين.

ورفع (إِبْراهِيمُ) على أنه نائب فاعل (يُقالُ) ، لأن فعل القول إذا بني إلى المجهول كثيرا ما يضمن معنى الدعوة أو التسمية ، فلذلك حصلت الفائدة من تعديته إلى المفرد البحت وإن كان شأن فعل القول أن لا يتعدّى إلا إلى الجملة أو إلى مفرد فيه معنى الجملة مثل قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠].

ومعنى (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) على مشاهدة الناس ، فاستعير حرف الاستعلاء لتمكن البصر فيه حتى كأنّ المرئي مظروف في الأعين.

ومعنى (يَشْهَدُونَ) لعلهم يشهدون عليه بأنه الذي توعد الأصنام بالكيد.

[٦٢ ـ ٦٧] (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) ُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧))

وقع هنا حذف جملة تقتضيها دلالة الاقتضاء. والتقدير : فأتوا به فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا.

وقوله تعالى (بَلْ) إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك ، فنفى أن يكون فعل ذلك ، لأن (بل) تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه.

وقوله تعالى (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الخبر مستعمل في معنى التشكيك ، أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يبق صحيحا من الأصنام إلا الكبير. وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية ، وذلك تدرّج إلى دليل الوحدانية ، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم ، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأولى على نية أن يكر على ذلك كله


بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه ، ولذلك قال (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) تهكّما بهم وتعريضا بأن ما لا ينطق ولا يعرب عن نفسه غير أهل للآلهية.

وشمل ضمير (فَسْئَلُوهُمْ) جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائما. والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثا عظيما مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعله بهم. وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب ، فخلقه خارق العادة عند تحدّي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه.

وأما ما روي في «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منه في ذات الله ـ عزوجل ـ قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا). وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال : من هذه؟ قال : أختي. فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني ...» وساق الحديث.

فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) حيث قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، لأن (بل) إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه.

فقولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) سؤال عن كونه محطم الأصنام ، فلما قال : (بَلْ) فقد نفى ذلك عن نفسه ، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب. غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم ، فهذا الإضراب كان تمهيدا للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بآخره. ولذلك قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) الآية.

أما الإخبار بقوله (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) فليس كذبا وإن كان مخالفا للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها ، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء ، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهّد لذلك كلاما هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال : لو كان هذا إلها لما رضي بالاعتداء على شركائه ، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعل لذلك ، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلب الإلهية عن جميعهم بقوله (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) كما تقدم. فالمراد من الحديث


أنها كذبات في بادئ الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها. وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه. فإذا كان الخبر يعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضا أو مزحا أو نحوهما.

وأما ما ورد في حديث الشفاعة «فيقول إبراهيم : لست هناكم ويذكر كذبات كذبها» فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاما خلافا للواقع بدون إذن من الله بوحي ، ولكنه ارتكب قول خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف.

وقوله تعالى (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض ، أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى:(فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، أي فقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون.

وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في : ركب القوم دوابهم ، ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه ، أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم. فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ). وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف. والجملة مفيدة للحصر ، أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظلم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمّن فعل بها ذلك ، ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم.

والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير ، كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره.

وفعل (نُكِسُوا) مبني للمجهول ، أي نكسهم ناكس ، ولمّا لم يكن لذلك النكس فاعل إلّا أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى : انتكسوا على رءوسهم. وهذا تمثيل.

والنكس : قلب أعلى الشيء أسفله وأسفله أعلاه ، يقال : صلب اللص منكوسا ، أي مجعولا رأسه مباشرا للأرض ، وهو أقبح هيئات المصلوب. ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصبا على قدميه فإذا نكّس صار انتصابه كأنه على رأسه ، فكان قوله

هنا (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) تمثيلا لتغيّر رأيهم عن الصواب كما قالوا (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ


الظَّالِمُونَ) إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرءوس منكوسين. فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع. وحرف (على) للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رءوسهم بأن انكبوا انكبابا شديدا بحيث لا تبدو رءوسهم. وتحتمل الآية وجوها أخرى أشار إليها في «الكشاف».

والمعنى : ثم تغيرت آراؤهم بعد أن كادوا يعترفون بحجة إبراهيم فرجعوا إلى المكابرة والانتصار للأصنام ، فقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ، أي أنت تعلم أن هؤلاء الأصنام لا تنطق فما أردت بقولك (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) إلا التنصل من جريمتك.

فجملة (لَقَدْ عَلِمْتَ) إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ).

وجملة (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) تفيد تقوي الاتصاف بانعدام النطق ، وذلك بسبب انعدام آلته وهي الألسن.

وفعل (عَلِمْتَ) معلق عن العمل لوجود حرف النفي بعده ، فلما اعترفوا بأن الأصنام لا تستطيع النطق انتهز إبراهيم الفرصة لإرشادهم مفرعا على اعترافهم بأنها لا تنطق استفهاما إنكاريا على عبادتهم إياها وزائدا بأن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر.

وجعل عدم استطاعتها النفع والضر ملزوما لعدم النطق لأن النطق هو واسطة الإفهام ، ومن لا يستطيع الإفهام تبين أنه معدوم العقل وتوابعه من العلم والإرادة والقدرة.

و (أُفٍ) اسم فعل دالّ على الضجر ، وهو منقول من صورة تنفس المتضجّر لضيق نفسه من الغضب. وتنوين (أُفٍ) يسمى تنوين التنكير والمراد به التعظيم ، أي ضجرا قويا لكم. وتقدم في [سورة الإسراء : ٢٣] (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ).

واللام في (لَكُمْ) لبيان المتأفّف بسببه ، أي أف لأجلكم وللأصنام التي تعبدونها من دون الله.

وإظهار اسم الجلالة لزيادة البيان وتشنيع عبادة غيره.

وفرّع على الإنكار والتضجر استفهاما إنكاريا عن عدم تدبرهم في الأدلة الواضحة من العقل والحس فقال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).


[٦٨ ، ٦٩] (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩))

لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مخلصا إلا بإهلاكه. وكذلك المبطل إذا قرعت باطله

حجة فساده غضب على المحقّ ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته والتشفّي منه ، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عجزوا عن المعارضة. واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعاقب به وأفظعه.

والتحريق : مبالغة في الحرق ، أي حرقا متلفا.

وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملكهم ، وهو (النمروذ) ، إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام. قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كردي اسمه (هينون) ، واستحسن القوم ذلك ، والذي أمر بالإحراق (نمروذ) ، فالأمر في قولهم (حَرِّقُوهُ) مستعمل في المشاورة.

ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم ، وأنهم دبّروه ليبغتوه به خشية هروبه لقوله تعالى : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) [الأنبياء : ٧٠].

ونمروذ هذا يقولون : إنه ابن (كوش) بن حام بن نوح ، ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن (كوش). فالصواب أن (نمروذ) من نسل (كوش). ويحتمل أن تكون كلمة (نمروذ) لقبا لملك (الكلدان) وليست علما. والمقدر في التاريخ أن ملك مدينة (أور) في زمن إبراهيم هو (ألغى بن أورخ) وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في [سورة البقرة : ٢٥٨].

ونصر الآلهة بإتلاف عدوّها.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن كنتم فاعلين النصر ، وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم.

وجملة (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) مفصولة عن التي قبلها إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم (حَرِّقُوهُ) فأشبهت جمل المحاورة ، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق. وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى ، أي فألقوه في النار قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم


إذ وجّه إلى النار تعلّق الإرادة بسلب قوة الإحراق ، وأن تكون بردا وسلاما إن كان الكلام على الحقيقة ، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقى فيك بحرّك.

وأما كونها سلاما فهو حقيقة لا محالة ، وذكر (سَلاماً) بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد ، فعقب ذكره بذكر السلام لذلك. وعن ابن عباس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وإنما ذكر (بَرْداً) ثمّ أتبع ب (سَلاماً) ولم يقتصر على (بَرْداً) لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صيّر النار بردا.

و (عَلى إِبْراهِيمَ) يتنازعه (بَرْداً وَسَلاماً). وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له ، ويجوز أن يتعلق بفعل الكون.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

تسمية عزمهم على إحراقه كيدا يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه. ولعلّ قصدهم من ذلك أن لا يفرّ من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم.

والأخسر : مبالغة في الخاسر ، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة.

وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر ، وهو قصر للمبالغة كأنّ خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم. والمراد بالخسارة الخيبة. وسميت خيبتهم خسارة على طريقة الاستعارة تشبيها لخيبة قصدهم إحراقه بخيبة التاجر في تجارته ، كما دل عليه قوله تعالى : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) ، أي فخابوا خيبة عظيمة. وذلك أن خيبتهم جمع لهم بها سلامة إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعدوه للعقاب معجزة وتأييدا لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذابا كما دلّ عليه قوله تعالى في [سورة الحج : ٤٤] (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ). وقد عدّ فيهم قوم إبراهيم ، ولم أر من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول. والظاهر أن الله سلّط عليهم الأشوريين فأخذوا بلادهم ، وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون ، وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلّطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة ٢٢٨٦ قبل المسيح.


[٧١ ـ ٧٣] (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار ، هي نجاته من الحلول بين قوم عدوّ له كافرين بربّه وربهم ، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد (الكلدان) إلى أرض (فلسطين) وهي بلاد (كنعان).

وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. واستصحب إبراهيم معه لوطا ابن أخيه (هاران) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم. وكانت سارة امرأة إبراهيم معهما ، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته.

وانتصب (لُوطاً) على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطا لم يكن مهددا من الأعداء لذاته فيتعلّق به فعل الإنجاء.

وضمن (نَجَّيْناهُ) معنى الإخراج فعدّي بحرف (إلى).

والأرض : هي أرض فلسطين. ووصفها الله بأنه باركها للعالمين ، أي للناس ، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن. وورد في التوراة : أن الله قال لإبراهيم : إنها تفيض لبنا وعسلا.

والبركة : وفرة الخير والنفع. وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في [سورة آل عمران : ٩٦].

وهبة إسحاق له ازدياده له على الكبر وبعد أن يئست زوجه سارة من الولادة.

وهبة يعقوب ازدياده لإسحاق بن إبراهيم في حياة إبراهيم ورؤيته إياه كهلا صالحا.

والنافلة : الزيادة غير الموعودة ، فإن إبراهيم سأل ربه فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أراد الولد فولد له إسماعيل كما في [سورة الصافات : ١٠٠] ، ثم ولد له إسحاق عن غير مسألة كما في سورة هود فكان نافلة ، وولد لإسحاق يعقوب فكان أيضا نافلة.

وانتصب (نافِلَةً) على الحال التي عاملها (وَهَبْنا) فتكون حالا من إسحاق ويعقوب شأن الحال الواردة بعد المفردات أن تعود إلى جميعها.


وتنوين (كُلًّا) عوض عن المضاف إليه. والمعنى : وكلّهم جعلنا صالحين ، أي أصلحنا نفوسهم. والمراد إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، لأنهم الذين كان الحديث الأخير عنهم. وأما لوط فإنما ذكر على طريق المعية وسيخص بالذكر بعد هذه الآية.

وإعادة فعل «جعل» في قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) دون أن يقال : وأئمة يهدون ، بعطف (أَئِمَّةً) على (صالِحِينَ) ، اهتماما بهذا الجعل الشريف ، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار.

ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول.

وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق.

والأئمة : جمع إمام وهو القدوة والذي يعمل كعمله. وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر.

وجملة (يَهْدُونَ) في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة ، أي أنهم أئمة هدى وإرشاد.

وقوله (بِأَمْرِنا) أي كانوا هادين بأمر الله ، وهو الوحي زيادة على الجعل. وفي «الكشاف» : «فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاهتداء بالمهدي أميل» اه.

وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان ويشمل هذا شئون الإيمان وشعبه وآدابه.

وأما قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات. وقد شملها قوله تعالى (فِعْلَ الْخَيْراتِ).

و (فِعْلَ الْخَيْراتِ) مصدر مضاف إلى (الْخَيْراتِ) ، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله ، وأما الفاعل فتبع له ، أي أن يفعلوا هم ويفعل قومهم الخيرات ،


حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم ، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه.

واعتبار المصدر مصدرا لفعل مبني للنائب جائز إذا قامت القرينة. وهذا ما يؤذن به صنيع الزمخشري. على أن الأخفش أجازه بدون شرط.

ويجوز أن يكون (فِعْلَ الْخَيْراتِ) هو الموحى به ، أي وأوحينا إليهم هذا الكلام ، فيكون المصدر قائما مقام الفعل مرادا به الطلب ، والتقدير : افعلوا الخيرات ، كقوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤].

وتخصيص (إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وبالزكاة صلاح المجتمع لكفاية عوز المعوزين.

وهذا إشارة إلى أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم عليه‌السلام.

ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بيّن.

ثم خصّهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دلّ عليه فعل الكون المفيد تمكّن الوصف ، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوءة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال يوسف : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف : ٣٨] وقال تعالى في الثناء على إبراهيم : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٣٥].

[٧٤ ، ٧٥] (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

عطف على جملة (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١]. وقدّم مفعول (آتَيْنا) اهتماما به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعا لذكر إبراهيم تنبيها على أنه بعث بشريعة خاصة ، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم ، وإلى أنه كان في مواطن غير المواطن التي حلّ فيها إبراهيم ، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله.


ولأجل البعد أعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على (آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١] ، ولم يعد في قصة نوح عقب هذه.

وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة. وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد. وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك.

والحكم : الحكمة ، وهو النبوءة ، قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢].

والعلم : علم الشريعة ، والتنوين فيها للتعظيم.

والقرية (سدوم). وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود والمراد من القرية أهلها كما مر في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) في [سورة يوسف : ٨٢].

والخبائث : جمع خبيثة بتأويل الفعلة ، أي الشنيعة. والسّوء ـ بفتح السين وسكون الواو ـ مصدر ، أي القبيح المكروه. وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر وهو أعم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر.

[٧٦ ، ٧٧] (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

لما ذكر أشهر الرسل بمناسبات أعقب بذكر أول الرسل.

وعطف (وَنُوحاً) على (لُوطاً) [الأنبياء : ٧٤] ، أي آتينا نوحا حكما وعلما ، فحذف المفعول الثاني لآتينا [الأنبياء : ٧٤] لدلالة ما قبله عليه ، أي آتيناه النبوءة حين نادى ، أي نادانا.

ومعنى (نادى) دعا ربه أن ينصره على المكذبين من قومه بدليل قوله (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

وبناء (قَبْلُ) على الضمّ يدل على مضاف إليه مقدر ، أي من قبل هؤلاء ، أي قبل الأنبياء المذكورين. وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أولياءه سنته المرادة له


تعريضا بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسله شاذّة ولا فاذّة.

وأهل نوح : أهل بيته عدا أحد بنيه الذي كفر به.

والكرب العظيم : هو الطوفان. والكرب : شدّة حزن النفس بسبب خوف أو حزن.

ووجه كون الطوفان كربا عظيما أنه يهول الناس عند ابتدائه وعند مدّه ولا يزال لاحقا بمواقع هروبهم حتى يعمهم فيبقوا زمنا يذوقون آلام الخوف فالغرق وهم يغرقون ويطفون حتى يموتوا بانحباس التنفس ؛ وفي ذلك كله كرب متكرر ، فلذلك وصف بالعظيم.

وعدي (نَصَرْناهُ) بحرف (من) لتضمينه معنى المنع والحماية ، كما في قوله تعالى: (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) [المؤمنون : ٦٥] ، وهو أبلغ من تعديته ب (على) لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المنعة والحماية فلا يناله العدوّ بشيء. وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة.

ووصف القوم بالموصول للإيماء إلى علة الغرق الذي سيذكر بعد. وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) علة لنصر نوح عليه‌السلام لأن نصره يتضمن إضرار القوم المنصور عليهم.

والسّوء ـ بفتح السين ـ تقدم آنفا.

وإضافة قوم إلى السوء إشارة إلى أنهم عرفوا به. والمراد به الكفر والتكبر والعناد والاستسخار برسولهم.

و (أَجْمَعِينَ) حال من ضمير النصب في (فَأَغْرَقْناهُمْ) لإفادة أنه لم ينج من الغرق أحد من القوم ولو كان قريبا من نوح فإن الله قد أغرق ابن نوح.

وهذا تهديد لقريش لئلا يتكلوا على قرابتهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي أنه لما قرأ على عتبة بن ربيعة [سورة فصّلت : ١٣] حتى بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فزع عتبة وقال له : ناشدتك الرّحم.

[٧٨ ، ٧٩] (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ


الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شهدين (٧٨) ففهّمنا سليمان وكلّا آتينا حكما وعلما شروع في عداد جمع من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلا. وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه ، بمناسبة ذكر ما فضل الله به موسى وهارون من إيتاء الكتاب المماثل للقرآن وما عقب ذلك. ولم يكن بعد موسى في بني إسرائيل عصر له ميزة خاصة مثل عصر داود وسليمان إذ تطور أمر جامعة بني إسرائيل من كونها مسوسة بالأنبياء من عهد يوشع بن نون. ثم بما طرأ عليها من الفوضى من بعد موت (شمشون) إلى قيام (شاول) حميّ داود إلا أنه كان ملكا قاصرا على قيادة الجند ولم يكن نبيئا ، وأما تدبير الأمور فكان للأنبياء والقضاة مثل (صمويل).

فداود أول من جمعت له النبوءة والملك في أنبياء بني إسرائيل. وبلغ ملك إسرائيل في مدة داود حدّا عظيما من البأس والقوة وإخضاع الأعداء. وأوتي داود الزبور فيه حكمة وعظة فكان تكملة للتوراة التي كانت تعليم شريعة ، فاستكمل زمن داود الحكمة ورقائق الكلام.

وأوتي سليمان الحكمة وسخر له أهل الصنائع والإبداع فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتها مثل.

وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف سلك إيتاء الفرقان والهدى والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم.

وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون (داوُدَ) عطفا على (نُوحاً) في قوله (وَنُوحاً) [الأنبياء : ٧٦] ، أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان ... إلى آخره. ف (إِذْ يَحْكُمانِ) متعلّق ب (آتينا) المحذوف ، أي كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرا من مظاهر حكمهما وعلمهما.

والحكم : الحكمة ، وهو النبوءة. والعلم : أصالة الفهم. و (إِذْ نَفَشَتْ) متعلق ب (يَحْكُمانِ).


فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء ، والجمع بين المصالح والتفاضل بين مراتب الاجتهاد ، واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق ، فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل.

وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس ، وكان ابنه سليمان حينئذ يافعا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء. فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم ، والآخر راعي غنم لجماعة ، فدخلت الغنم الحرث ليلا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث ، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فقصّ أمرهما على سليمان ، فقال : لو كنت أنا قاضيا لحكمت بغير هذا. فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له : بما ذا كنت تقضي؟ قال : إني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال : وما هو؟ قال : أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه ، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم لراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له. فقال داود : وفّقت يا بني. وقضى بينهما بذلك.

فمعنى (نَفَشَتْ فِيهِ) دخلته ليلا ، قالوا : والنفش الانفلات للرعي ليلا. وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى (غَنَمُ الْقَوْمِ). وكذلك كان الحرث شركة بين أناس. كما يؤخذ مما أخرجه ابن جرير في «تفسيره» من كلام مجاهد ومرة وقتادة ، وما أخرجه ابن كثير في «تفسيره» عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم. وهو ظاهر تقرير «الكشاف». وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث.

واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي عالمين وقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ومقتضى وقوع الحكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد ، إذ أن الحكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أوتيه داود وسليمان ، فذلك من القضاء بالاجتهاد. وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام ووقوعه في مختلف المسائل.


وقد كان قضاء داود حقا لأنه مستند إلى غرم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم ، وأصل الغرم أن يكون تعويضا ناجزا فكان ذلك القضاء حقا. وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي.

وكان حكم سليمان حقا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين فهو يشبه الصلح. ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب ، وقد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف ، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب.

ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من (العريض) على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة : لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع؟ فقال محمد : لا والله ، فقال عمر : والله ليمرنّ به ولو على بطنك ، ففعل الضحاك.

وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما ، فكان قضاء سليمان أرجح.

وتشبه هذه القضية قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحرّة إذ قضى أول مرة بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره ، فلما لم يرض الأنصاري قضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل ، فاستوفى للزبير حقه. وإنما ابتدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضى بينهما بالفصل ، فكان قضاء النبي مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان.

فمعنى قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أنه ألهمه وجها آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام ، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق. وذلك أنه أرفق بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح ، والمرجحات لا تنحصر ، وقد لا تبدو للمجتهد ، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به ، وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان. وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير ، وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة.


وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد ، وفي العمل بالراجح ، وفي مراتب الترجيح ، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المعارض لقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) في معرض الثناء عليهما.

وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلا في رجوع الحاكم عن حكمه ، كما قال ابن عطية وابن العربي ؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة ، فلا ينبغي أن يكون تأصيلا وأن ما حاولاه من ذلك غفلة.

وإضافة (حكم) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين.

وتأنيث الضمير في قوله (فَفَهَّمْناها) ، ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ ، على تأويل الحكم في قوله تعالى : (لِحُكْمِهِمْ) بمعنى الحكومة أو الخصومة.

وجملة (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورا وإنما كان حكم سليمان أصوب.

وتقدمت ترجمة داود عليه‌السلام عند قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في [سورة النساء : ١٦٣] ، وقوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ) في [سورة الأنعام : ٨٤].

وتقدمت ترجمة سليمان عليه‌السلام عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في [سورة البقرة : ١٠٢].

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)

هذه مزية اختصّ بها داود وهي تسخير الجبال له وهو الذي بينته جملة (يُسَبِّحْنَ) فهي إما بيان لجملة (سَخَّرْنا) أو حال مبينة. وذكرها هنا استطراد وإدماج.

(وَالطَّيْرَ) عطف على (الْجِبالَ) أو مفعول معه ، أي مع الطير يعني طير الجبال.

و (مَعَ) ظرف متعلق بفعل (يُسَبِّحْنَ) ، وقدم على متعلّقه للاهتمام به لإظهار كرامة داود ، فيكون المعنى : أن داود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبال تسبّح مثل تسبيحه. وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] إذ التأويب الترجيع ، مشتق من الأوب وهو الرجوع. وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرّد تغريدا مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له. ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلا له بعد أن أوتي النبوءة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله ، ولا يعرف لداود بعد أن أوتي النبوءة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان من


قبل النبوءة راعيا. فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية (زيف) الذي به كهف كان يأوي إليه داود مع أصحابه الملتفّين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فارا من الملك شاول (طالوت) حين تنكر له شاول بوشاية بعض حساد داود ، كما حكي في الإصحاحين ٢٣ ـ ٢٤ من سفر صمويل الأول. وهذا سرّ التعبير ب (مع) متعلقة بفعل (سَخَّرْنا) هنا. وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) [الأنبياء : ٨١] إذ عدي فعل التسخير الذي نابت عنه واو العطف بلام الملك. وكذلك جاء لفظ (مع) في آية [سورة سبأ : ١٠] (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ).

وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده.

وجملة (وَكُنَّا فاعِلِينَ) معترضة بين الإخبار عما أوتيه داود. وفاعل هنا بمعنى قادر ، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه. وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل ، أي وكنا قادرين على ذلك.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

وامتن الله بصنعة علّمها داود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع ، أي دروع السرد. قيل كانت الدروع من قبل داود ذات حراشف من الحديد ، فكانت تثقل على الكماة إذا لبسوها فألهم الله داود صنع دروع الحلق الدقيقة فهي أخف محملا وأحسن وقاية.

وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داود لابسا درعا حرشفيا ، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داود فاستعمل العرب دروع السرد. واشتهر عند العرب ، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله:

شمّ العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سوابغ قد شكت لها حلق

كأنها حلق القفعاء مجدول (١)

__________________

(١) القفعاء : بقاف ففاء فعين : بزرة صحراء نبت ينبسط على وجه الأرض يشبه حلق الدروع.


وكانت الدروع التّبعية مشهورة عند العرب فلعل تبّعا اقتبسها من بني إسرائيل بعد داود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف ، وقد جمعها النابغة بقوله :

وكلّ صموت نثلة تبّعية

ونسج سليم كلّ قمصاء ذائل

أراد بسليم ترخيم سليمان ، يعني سليمان بن داود ، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخرا لها.

واللبوس ـ بفتح اللام ـ أصله اسم لكل ما يلبس فهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول. وغلب إطلاقه على ما يلبس من لامة الحرب من الحديد ، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لبوس على الثياب. وقال ابن عطية : اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي.

ومعي لبوس للبئيس كأنه

روق بجبهة ذي نعاج مجفل (١)

وقرأ الجمهور ليحصنكم بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ (لَبُوسٍ). وإسناد الإحصان إلى اللبوس إسناد مجازي. وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ـ بالمثناة الفوقية ـ على تأويل معنى (لَبُوسٍ) بالدرع ، وهي مؤنثة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب لنحصنكم بالنون.

وضمائر الخطاب في (لَكُمْ) ، ليحصنكم ، (مِنْ بَأْسِكُمْ ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) موجهة إلى المشركين تبعا لقوله تعالى قبل ذلك : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [الأنبياء : ٥٠] لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره.

والإحصان : الوقاية والحماية. والبأس : الحرب.

ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) مستعملا في استبطاء عدم الشكر ومكنّى به عن الأمر بالشكر.

وكان العدول عن إيلاء (هل) الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن ل (هل) مزيد اختصاص بالفعل ، فلم يقل : فهل تشكرون ، وعدل إلى (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) ليدلّ العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار ، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله

__________________

(١) البئيس : الشجاع ، وذو النعاج : الثور الوحشي معه نعاجه أي إناثه فهو مجفل من الصائد.


تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) في آية تحريم الخمر [المائدة : ٩١].

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))

عطف على جملة (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) [الأنبياء : ٧٩] بمناسبة تسخير خارق للعادة في كلتا القصتين معجزة للنبيين عليهما‌السلام.

والأرض التي بارك الله فيها هي أرض الشام. وتسخير الريح : تسخيرها لما تصلح له ، وهو سير المراكب في البحر. والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح ملك سليمان من غزو أو تجارة بقرينة أنها مسخرة لسليمان فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هو ملكها.

وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدّرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين ، فوقع في الكلام اكتفاء اعتمادا على القرينة. وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ [١٢] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ).

ووصفها هنا ب (عاصِفَةً) بمعنى قوية. ووصفها في سورة ص [٣٦] بأنها (رُخاءً) في قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ). والرخاء : الليلة المناسبة لسير الفلك. وذلك باختلاف الأحوال فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة وإذا أراد اللين سارت رخاء ، والمقام قرينة على أن المراد المواتاة لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها كما إذا كان هو راكبا في البحر فإنه يريدها رخاء لئلا تزعجه وإذا أصدرت مملكته بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة وهذا بيّن بالتأمل.

وعبر (بِأَمْرِهِ) عن رغبته وما يلائم أسفار سفائنه وهي رياح موسمية منتظمة سخرها الله له.

وأمر سليمان دعاؤه الله أن يجري الريح كما يريد سليمان : إما دعوة عامة كقوله (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥] فيشمل كل ما به استقامة أمور الملك


وتصاريفه ، وإما دعوة خاصة عند كل سفر لمراكب سليمان فجعل الله الرياح الموسمية في بحار فلسطين مدة ملك سليمان إكراما له وتأييدا إذا كان همه نشر دين الحقّ في الأرض.

وإنما جعل الله الريح تجري بأمر سليمان ولم يجعلها تجري لسفنه لأن الله سخر الريح لكل السفن التي فيها مصلحة ملك سليمان فإنه كانت تأتيه سفن (ترشيش) ـ يظن أنها طرطوشة بالأندلس أو قرطجنة بإفريقية ـ وسفن حيرام ملك صور حاملة الذهب والفضة والعاج والقردة والطواويس وهدايا الآنية والحلل والسلاح والطيب والخيل والبغال كما في الإصحاح ١٠ من سفر الملوك الأول.

وجملة (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان. والمناسبة أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم وما هو منها لائق بمصلحة سليمان فيجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه إذ قال : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) [ص : ٢٠].

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

هذا ذكر معجزة وكرامة لسليمان. وهي أن سخر إليه من القوى المجردة من طوائف الجنّ والشياطين التي تتأتّى لها معرفة الأعمال العظيمة من غوص البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ومن أعمال أخرى أجملت في قوله تعالى : (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ). وفصّل بعضها في آيات أخرى كقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ : ١٣] وهذه أعمال متعارفة. وإنما اختصّ سليمان بعظمتها مثل بناء هيكل بيت المقدس وبسرعة إتمامها.

ومعنى (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أن الله بقدرته سخرهم لسليمان ومنعهم عن أن ينفلتوا عنه أو أن يعصوه ، وجعلهم يعملون في خفاء ولا يؤذوا أحدا من الناس ؛ فجمع الله بحكمته بين تسخيرهم لسليمان وعلمه كيف يحكمهم ويستخدمهم ويطوعهم ، وجعلهم منقادين له وقائمين بخدمته دون عناء له ، وحال دونهم ودون الناس لئلا يؤذوهم. ولما توفّي سليمان لم يسخر الله الجنّ لغيره استجابة لدعوته إذ قال : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥]. ولما مكّن الله النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجنيّ الذي كاد أن يفسد عليه صلاته وهمّ بأن يربطه ، ذكر دعوة سليمان فأطلقه فجمع الله له بين التمكين من الجنّ


وبين تحقيق رغبة سليمان.

وقوله (لَهُمْ) يتعلق ب (حافِظِينَ) واللام لام التقوية. والتقدير : حافظينهم ، أي مانعينهم عن الناس.

[٨٣ ، ٨٤] (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

عطف على (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الأنبياء : ٧٨] أي وآتينا أيوب حكما وعلما إذ نادى ربه. وتخصيصه بالذكر مع من ذكر من الأشياء لما اختصّ به من الصبر حتى كان مثلا فيه. وتقدمت ترجمة أيوب في سورة الأنعام.

وأما القصة التي أشارت إليها هذه الآية فهي المفصلة في السفر الخاص بأيوب من أسفار النبيئين الإسرائيلية. وحاصلها أنه كان نبيئا وذا ثروة واسعة وعائلة صالحة متواصلة ، ثم ابتلي بإصابات لحقت أمواله متتابعة فأتت عليها ، وفقد أبناءه السبعة وبناته الثلاث في يوم واحد ، فتلقى ذلك بالصبر والتسليم. ثم ابتلي بإصابة قروح في جسده وتلقى ذلك كله بصبر وحكمة وهو يبتهل إلى الله بالتمجيد والدعاء بكشف الضر. وتلقى رثاء أصحابه لحاله بكلام عزيز الحكمة والمعرفة بالله ، وأوحى الله إليه بمواعظ. ثم أعاد عليه صحته وأخلفه مالا أكثر من ماله وولدت له زوجه أولادا وبنات بعدد من هلكوا له من قبل.

وقد ذكرت قصته بأبسط من هنا في سورة ص ، ولأهل القصص فيها مبالغات لا تليق بمقام النبوءة.

و (إذ) ظرف قيّد به إيتاء أيوب رباطة القلب وحكمة الصبر لأن ذلك الوقت كان أجلى مظاهر علمه وحكمته كما أشارت إليه القصة. وتقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ) [الأنبياء : ٧٦] فصار أيوب مضرب المثل في الصبر.

وقوله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ـ بفتح الهمزة ـ على تقدير باء الجر ، أي نادى ربه بأني مسني الضر.

والمسّ : الإصابة الخفيفة. والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حلّ به من الضر كالمس الخفيف.


والضرّ ـ بضمّ الضاد ـ ما يتضرر به المرء في جسده من مرض أو هزال ، أو في ماله من نقص ونحوه.

وفي قوله تعالى : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) التعريض بطلب كشف الضرّ عنه بدون سؤال فجعل وصف نفسه بما يقتضي الرحمة له ، ووصف ربه بالأرحمية تعريضا بسؤاله ، كما قال أمية بن أبي الصلت :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه عن تعرضه الثناء

وكون الله تعالى أرحم الراحمين لأن رحمته أكمل الرحمات لأن كل من رحم غيره فإما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو للثواب في الآخرة أو دفعا للرقة العارضة للنفس من مشاهدة من تحق الرحمة له فلم يخل من قصد نفع لنفسه ، وإما رحمته تعالى عباده فهي خلية عن استجلاب فائدة لذاته العلية.

ولكون ثناء أيوب تعريضا بالدعاء فرع عليه قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ). والسين والتاء للمبالغة في الإجابة ، أي استجبنا دعوته العرضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضرّ ، إشارة إلى سرعة كشف الضرّ عنه ، والتعقيب في كل شيء بحسبه ، وهو ما تقتضيه العادة في البرء وحصول الرزق وولادة الأولاد.

والكشف : مستعمل في الإزالة السريعة. شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة.

والموصول في قوله تعالى : (ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) مقصود منه الإبهام. ثم تفسيره ب (من) البيانية لقصد تهويل ذلك الضرّ لكثرة أنواعه بحيث يطول عدّها. ومثله قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] إشارة إلى تكثيرها. ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣] ، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضرّ وينسون شكره على عظيم النعم ، أي كشفنا ما حلّ به من ضرّ في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته.

والإيتاء : الإعطاء ، أي أعطيناه أهله ، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته. وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل ، يعني بموت أولاده وبناته ، وهو على تقدير مضاف بيّن من السياق ، أي مثل أهله بأن رزق أولادا بعدد ما فقد ، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابنا وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سنّ العقم.


وانتصب (رَحْمَةً) على المفعول لأجله. ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويها بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل. والمراد رحمة بأيوب إذ قال (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

والذكرى : التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه. وهو معطوف على (رَحْمَةً) فهو مفعول لأجله ، أي وتنبيها للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم.

وبما في (الْعابِدِينَ) من العموم صارت الجملة تذييلا.

[٨٥ ، ٨٦] (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

عطف على (وَأَيُّوبَ) [الأنبياء : ٨٣] أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حكما وعلما.

وجمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لاشتراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ). جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب.

فأما صبر إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ فقد تقرّر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢] ، وتقرر بسكناه بواد غير ذي زرع امتثالا لأمر أبيه المتلقى من الله تعالى ، وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة.

وأما إدريس فهو اسم (أخنوخ) على أرجح الأقوال. وقد ذكر أخنوخ في التوراة في سفر التكوين جدّا لنوح. وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صدّيق نبيء وقد وصفه الله تعالى هنا فليعدّ في صف الصابرين. والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب. وقد عدت من صبره قصص ، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم.

وأما ذو الكفل فهو نبيء اختلف في تعيينه ، فقيل هو إلياس المسمّى في كتب اليهود (إيليا).

وقيل : هو خليفة اليسع في نبوءة بني إسرائيل. والظاهر أنه (عوبديا) الذي له كتاب


من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار.

والكفل ـ بكسر الكاف وسكون الفاء ـ ، أصله : النصيب من شيء ، مشتق من كفل إذا تعهد. لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع. وذلك أن اليسع لما كبر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال : من يتكفل لي بثلاث أستخلفه : أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب. فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه (عوبديا) ، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين. وقد عد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره (انظر سفر الملوك الأول الإصحاح ١٨. ورؤيا عوبديا صفحة ٨٩١ من الكتاب المقدس). وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيئا. وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام.

وجملة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) تعليل لإدخالهم في الرحمة ، وتذييل للكلام يفيد أن تلك سنة الله مع جميع الصالحين.

[٨٧ ، ٨٨] (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

عطف على (وَذَا الْكِفْلِ) [الأنبياء : ٨٥]. وذكر ذي النون في جملة من خصّوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما في قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له.

و (ذو النون) وصف ، أي صاحب الحوت. لقب به يونس بن متى ـ عليه‌السلام ـ. وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس.

وذهابه مغاضبا قيل خروجه غضبان من قومه أهل (نينوى) إذ أبوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته ، فالمغاضبة مفاعلة. وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس. وقيل : إنه أوحي إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدّة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبان من عدم تحقق ما أنذرهم به ، فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غضب غريب. وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس أيضا واختاره ابن جرير. والوجه أن يكون (مُغاضِباً)


حالا مرادا بها التشبيه ، أي خرج كالمغاضب. وسيأتي تفصيل هذا المعنى في سورة الصافات.

وقوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) يقتضي أنه خرج خروجا غير مأذون له فيه من الله. ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل هو إليها يرسل الله غيره إليهم. وقد روي عن ابن عباس أن (حزقيال) ملك إسرائيل كان في زمنه خمسة أنبياء منهم يونس ، فاختاره الملك ليذهب إلى أهل (نينوى) لدعوتهم فأبى وقال : هاهنا أنبياء غيري وخرج مغاضبا للملك. وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل.

ومحلّ العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة.

ومعنى (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قيل نقدر مضارع قدر عليه أمرا بمعنى ضيّق كقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦] وقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧] ، أي ظن أن لن نضيّق عليه تحتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة ، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقط تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهادا منه ، فعوتب بما حلّ به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله. وفي «الكشاف» : أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاوية : «لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال : وما هي؟ فقرأ معاوية هذه الآية وقال : أو يظن نبيء الله أن الله لا يقدر عليه؟ قال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة». يعني التضييق عليه.

وقيل (نَقْدِرَ) هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القدرة ، أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذن. ونقل هذا عن مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج. وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ.

وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرة بدافع الغضب عن غير تأمل في لوازمه وعواقبه ، قالوا : وكان في طبعه ضيق الصدر.

وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته. والتقدير : أفظن أن لن نقدر عليه؟ ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر. قال منذر بن سعيد في «تفسيره» : وقد قرئ به.

وعندي فيه تأويلان آخران وهما : أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه


في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلا عادة ، وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة ، أي ظن بعد أن ابتلعه الحوت.

وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده ، ولذلك قال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) مبالغة في اعترافه بظلم نفسه ، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف ، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف ، أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه ، ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله.

و (أَنِّي) مفسرة لفعل (نادى).

وتقديمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنّى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء.

والظلمات : جمع ظلمة. والمراد ظلمة الليل ، وظلمة قعر البحر ، وظلمة بطن الحوت. وقيل : الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧].

وقد تقدم أنا نظن أن «الظلمة» لم ترد مفردة في القرآن.

والاستجابة : مبالغة في الإجابة. وهي إجابة توبته مما فرط منه. والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقي في بطن الحوت إلا ساعة قليلة ، وعطف بالواو هنا بخلاف عطف (فَكَشَفْنا) على (فَاسْتَجَبْنا) وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطئ فتقاياه فخرج يسبح إلى الشاطئ.

وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه. وشاع بين الناس تسمية صنف من الحوت بحوت يونس رجما بالغيب.

وجملة (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) تذييل. والإشارة ب (كَذلِكَ) إلى الإنجاء الذي أنجي به يونس ، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غموم بحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة. وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغمّ والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم.

واعلم أن كلمة (فَنُجِّيَ) كتبت في المصاحف بنون واحدة كما كتبت بنون واحدة


في قوله في [سورة يوسف : ١١٠] (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ). ووجّه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفى مع الأحرف الشجرية وهي ـ الجيم والشين والضاد ـ فلما أخفيت حذفت في النطق فشابه إخفاؤها حالة الإدغام فحذفها كاتب المصحف في الخطّ لخفاء النطق بها في اللفظ ، أي كما حذفوا نون (إن) مع (لا) في نحو «إلا فعلوه» من حيث إنها تدغم في اللام.

وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبار من اعتبارات الأداء. وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ـ بنون واحدة وبتشديد الجيم ـ على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء. وأنكر ذلك عليهما أبو حاتم والزجّاج وقالا : هو لحن. ووجّه أبو عبيد والفراء وثعلب قراءتهما بأن (نُنْجِي) سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بقي ورضي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٨] بتسكين ياء (بَقِيَ). وعن أبي عبيد والقتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم.

ووجّه ابن جني متابعا للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة : ننجّي ـ بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ـ فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نجي. وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نجّي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل ، أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله (وَكَذلِكَ).

وانتصب (الْمُؤْمِنِينَ) على المفعول به على رأي من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به. كما في قراءة أبي جعفر (لِيَجْزِيَ) ـ بفتح الزاي ـ (قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية : ١٤] بتقدير ليجزى الجزاء قوما. وقال الزمخشري في «الكشاف» : إن هذا التوجيه بارد التعسف.

[٨٩ ، ٩٠] (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ)

كان أمر زكرياء الذي أشار إليه قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ) آية من آيات الله في عنايته


بأوليائه المنقطعين لعبادته فخصّ بالذكر لذلك. والقول في عطف وزكرياء كالقول في نظائره السابقة.

وجملة (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) مبيّنة لجملة (نادى رَبَّهُ). وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيها له بالمنفرد الذي لا قرين له. قال تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٥] ، ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له ، قال الحارث بن هشام :

وعلمت أني إن أقاتل واحدا

أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي

فشبه من لا ولد بالفرد لأن الولد يصيّر أباه كالشفع لأنه كجزء منه. ولا يقال لذي الولد زوج ولا شفع.

وجملة (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ثناء لتمهيد الإجابة ، أي أنت الوارث الحق فاقض عليّ من صفتك العلية شيئا. وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها ، كما قال أيوب (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء : ٨٣] ، ودلّ ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية [سورة مريم : ٦] (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ). حذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها. والتقدير : يرثني الإرث الذي لا يداني إرثك عبادك ، أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرّف قدرتك ، أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيرا أبديا فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف.

وإصلاح زوجه : جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقرا.

وتقدم ذكر زكرياء في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم.

(إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)

جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين ، وما أوتوه من النصر ، واستجابة الدعوات ، والإنجاء من كيد الأعداء ، وما تبع ذلك ، ابتداء من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨]. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين. وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب ، أي ما استحقّوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدّهم في تحصيلها.

وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبهم وهجّيراهم.


والمسارعة : مستعارة للحرص وصرف الهمة والجدّ للخيرات ، أي لفعلها ، تشبيها للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجادّ في مسالكه.

والخيرات : جمع خير ـ بفتح الخاء وسكون الياء ـ وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات. والخير ضدّ الشرّ ، فهو ما فيه نفع. وأما قوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠] فيحتمل أنه مثل هذا ، ويحتمل أنه جمع خيرة ـ بفتح فسكون ـ الذي هو مخفف خيّره المشدّد الياء ، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية. وقد تقدم الكلام على (الْخَيْراتِ) في قوله تعالى : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) في [سورة براءة : ٨٨]. وعطف على ذلك أنهم يدعون الله رغبة في ثوابه ورهبة من غضبه ، كقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩].

والرغب والرهب ـ بفتح ثانيهما ـ مصدران من رغب ورهب. وهما وصف لمصدر (يَدْعُونَنا) لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه ، أو يقدر مضاف ، أي ذوي. رغب ورهب ، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه.

وذكر فعل الكون في قوله تعالى : (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) مثل ذكره في قوله تعالى : (كانُوا يُسارِعُونَ).

والخشوع : خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] الآية. هذه هي مريم ابنة عمران. وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالبا ، وأيضا لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكا وزورا ، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) الذي هو في حكم الصلة أيضا ، فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا ، لأن كلا الأمرين موجب ثناء. وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيم قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حمل أنثى دون قربان ذكر ، ليرى الناس مثالا من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ


مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩].

والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين. وأطلق هنا تمثيلا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيها لهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ. وقد قيل : إن الملك نفخ مما هو له كالفم.

والظرفية المفادة ب (في) كون مريم ظرفا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل (فِيها) ولم يقل (فيه) للإشارة إلى أن الحمل الذي كوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها. وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.

والروح : هو القوة التي بها الحياة ، قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، أي جعلت في آدم روحا فصار حيا. وحرف (من) تبعيضي ، والمنفوخ روح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة.

وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي.

وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [سورة المؤمنين : ٥٠] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً). وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ١ ـ ٢].

وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس. وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية علم أن كل واحد آية خاصة. ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة ، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

(إِنَ) مكسورة الهمزة عند جميع القراء ، فهي ابتداء كلام. واتفقت القراءات المشهورة على رفع (أُمَّتُكُمْ). والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق. وحذف القول في مثله شائع في القرآن.


والخطاب للأنبياء المذكورين في الآيات السابقة. والوجه حينئذ أن يكون القول المحذوف مصوغا في صيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. والتقدير : قائلين لهم إن هذه أمتكم إلى آخره. والمقول محكي بالمعنى ، أي قائلين لكلّ واحد من رسلنا وأنبيائنا المذكورين ما تضمنته جملة (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ).

فصيغة الجمع مراد بها التوزيع ، وهي طريقة شائعة في الإخبار عن الجماعات. ومنه قولهم : ركب القوم دوابهم ، فتكون هذه الآية جارية على أسلوب نظيرها في سورة المؤمنين. وفيه ما يزيد هذه توضيحا فإنه ورد هنالك ذكر عدة من الأنبياء تفصيلا وإجمالا ، كما ذكروا في هذه السورة. ثم عقب بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون : ٥١] وأنّ ـ بفتح الهمزة وبكسرها ـ (هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥٢] ، فظاهر العطف يقتضي دخول قوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) في الكلام المخاطب به الرسل ، والتأكيد عن هذا الوجه لمجرد الاهتمام بالخبر ليتلقاه الأنبياء بقوة عزم ، أو روعي فيه حال الأمم الذين يبلغهم ذلك لأن الإخبار باتحاد الحال المختلفة غريب قد يثير تردّدا في المراد منه فقد يحمل على المجاز فأكد برفع ذلك. وهو وإن كان خطابا للرسل فإن مما يقصد منه تبليغ ذلك لأتباعهم ليعلموا أن دين الله واحد ، وذلك عون على قبول كل أمة لما جاء به رسولها لأنه معضود بشهادة من قبله من الرسل.

ويجوز أن تكون الجملة استئنافا والخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي أن هذه الملة ، وهي الإسلام ، هي ملة واحدة لسائر الرسل ، أي أصولها واحدة كقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] الآية. والتأكيد على هذا لردّ إنكار من ينكر ذلك مثل المشركين.

والإشارة بقوله تعالى : (هذِهِ) إلى ما يفسره الخبر في قوله تعالى : (أُمَّتُكُمْ) كقوله تعالى : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨]. فالإشارة إلى الحالة التي هم عليها يعني في أمور الدين كما هو شأن حال الأنبياء والرسل. فما أفادته الإشارة من التمييز للمشار إليه مقصود منه جميع ما عليه الرسل من أصول الشرائع وهو التوحيد والعمل الصالح.

والأمة هنا بمعنى الملة كقوله تعالى : (قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ، وقال النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع


وأصل الأمة : الجماعة التي حالها واحد ، فأطلقت على ما تكون عليه الجماعة من الدين بقرينة أن الأمم ليست واحدة.

و (أُمَّةً واحِدَةً) حال من (أُمَّتُكُمْ) مؤكدة لما أفادته الإشارة التي هي العامل في صاحب الحال. وأفادت التمييز والتشخيص لحال الشرائع التي عليها الرسل أو التي دعا إليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى كونها واحدة أنها توحّد الله تعالى فليس دونه إله. وهذا حال شرائع التوحيد وبخلافها أديان الشرك فإنها لتعدد آلهتها تتشعب إلى عدة أديان لأن لكل صنم عبادة وأتباعا وإن كان يجمعها وصف الشرك فذلك جنس عام وقد أومأ إلى هذا قوله تعالى : (وَأَنَا رَبُّكُمْ) ، أي لا غيري. وسيأتي بسط القول في عربية هذا التركيب في تفسير سورة المؤمنين.

وأفاد قوله تعالى : (وَأَنَا رَبُّكُمْ) الحصر ، أي أنا لا غيري بقرينة السياق والعطف على (أُمَّةً واحِدَةً) ، إذ المعنى : وأنا ربكم ربا واحدا ، ولذلك فرع عليه الأمر بعبادته ، أي فاعبدون دون غيري. وهذا الأمر مراعى فيه ابتداء حال السامعين من أمم الرسل ، فالمراد من العبادة التوحيد بالعبادة والمحافظة عليها.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣))

عطف على جملة (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] أي أعرضوا عن قولنا. و (تَقَطَّعُوا) وضمائر الغيبة عائدة إلى مفهوم من المقام وهم الذين من الشأن التحدّث عنهم في القرآن المكي بمثل هذه المذام ، وهم المشركون. ومثل هذه الضمائر المراد منها المشركون كثير في القرآن. ويجوز أن تكون الضمائر عائدة إلى أمم الرسل. فعلى الوجه الأول الذي قدمناه في ضمائر الخطاب في قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء : ٩٢] يكون الكلام انتقالا من الحكاية عن الرسل إلى الحكاية عن حال أممهم في حياتهم أو الذين جاءوا بعدهم مثل اليهود والنصارى إذ نقضوا وصايا أنبيائهم. وعلى الوجه الثاني تكون ضمائر الغيبة التفاتا.

ثم يجوز أن تكون الواو عاطفة قصة على قصة لمناسبة واضحة كما عطف نظيرها بالفاء في سورة المؤمنين. ويجوز كونها للحال ، أي أمرنا الرسل بملة الإسلام ، وهي الملة الواحدة ، فكان من ضلال المشركين أن تقطعوا أمرهم وخالفوا الرسل وعدلوا عن دين


التوحيد وهو شريعة إبراهيم أصلهم. ويؤيد هذا الوجه أن نظير هذه الآية في سورة المؤمنين جاء فيه العطف بفاء التفريع.

والتقطع : مطاوع قطّع ، أي تفرقوا. وأسند التقطع إليهم لأنهم جعلوا أنفسهم فرقا فعبدوا آلهة متعددة واتخذت كل قبيلة لنفسها إلها من الأصنام مع الله ، فشبه فعلهم ذلك بالتقطع.

وفي «جمهرة الأنساب» لابن حزم : «كان الحصين بن عبيد الخزاعي ، وهو والد عمران بن حصين لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله : يا حصين ما تعبد؟ قال : عشرة آلهة ، قال : ما هم وأين هم؟ قال : تسعة في الأرض وواحد في السماء. قال : فمن لحاجتك؟ قال : الذي في السماء ، قال : فمن لطلبتك؟ قال : الذي في السماء ، قال : فمن لكذا؟ فمن لكذا؟ كلّ ذلك يقول : الذي في السماء ، قال رسول الله : فالغ التسعة». وفي كتاب الدعوات : من «سنن الترمذي» : «أنه قال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء».

والأمر : الحال. والمراد به الدين كما دل عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) في [سورة الأنعام : ١٥٩].

ولمّا ضمن (تَقَطَّعُوا) معنى توزّعوا عدّي إلى «دينهم» فنصبه ، والأصل : تقطعوا في دينهم وتوزعوه.

وزيادة (بَيْنَهُمْ) لإفادة إنهم تعاونوا وتظاهروا على تقطّع أمرهم. فربّ قبيلة اتخذت صنما لم تكن تعبده قبيلة أخرى ثم سوّلوا لجيرتهم وأحلافهم أن يعبدوه فألحقوه بآلهتهم. وهكذا حتى كان في الكعبة عدة أصنام وتماثيل لأن الكعبة مقصودة لجميع قبائل العرب. وقد روي أن عمرو بن لحي الملقب بخزاعة هو الذي نقل الأصنام إلى العرب.

وجملة (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال يجيش في نفس سامع قوله تعالى (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) وهو معرفة عاقبة هذا التقطع.

وتنوين (كُلٌ) عوض عن المضاف إليه ، أي كلّهم ، أي أصحاب ضمائر الغيبة وهم المشركون. والكلام يفيد تعريضا بالتهديد.

ودلّ على ذلك التفريع في قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) [الأنبياء : ٩٤] إلى آخره.


(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤))

فرّع على الوعيد المعرض به في قوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٤] تفريع بديع من بيان صفة ما توعدوا به ، وذلك من قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧] الآيات.

وقدم وعد المؤمنين بجزاء أعمالهم الصالحة اهتماما به ، ولوقوعه عقب الوعيد تعجيلا لمسرة المؤمنين قبل أن يسمعوا قوارع تفصيل الوعيد ، فليس هو مقصودا من التفريع ، ولكنه يشبه الاستطراد تنويها بالمؤمنين كما سيعتنى بهم عقب تفصيل وعيد الكافرين بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] إلى آخر السورة.

والكفران مصدر أصله عدم الاعتراف بالإحسان ، ضد الشكران. واستعمل هنا في حرمان الجزاء على العمل الصالح على طريقة المجاز لأن الاعتراف بالخير يستلزم الجزاء عليه عرفا كقوله تعالى : وما تفعلوا من خير فلن تكفروه [آل عمران : ١١٥] فالمعنى : أنهم يعطون جزاء أعمالهم الصالحة.

وأكد ذلك بقوله : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) مؤكدا بحرف التأكيد للاهتمام به.

والكتابة كناية عن تحققه وعدم إضاعته لأن الاعتناء بإيقاع الشيء يستلزم الحفظ عن إهماله وعن إنكاره ، ومن وسائل ذلك كتابته ليذكر ولو طالت المدة. وهذا لزوم عرفي. قال الحارث بن حلزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

وذلك مع كون الكتابة مستعملة في معناها الأصلي كما جاءت بذلك الظواهر من الكتاب والسنة.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

جملة معترضة ، والمراد بالقرية أهلها. وهذا يعم كلّ قرية من قرى الكفر ، كما قال تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) [الكهف : ٥٩].


والحرام : الشيء الممنوع ، قال عنترة :

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

أي : منعت أي منعها أهلها.

أي ممنوع على قرية قدّرنا إهلاكها أن لا يرجعوا ، ف (حَرامٌ) خبر مقدم و (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) في قوة مصدر مبتدأ. والخبر عن (أنّ) وصلتها لا يكون إلّا مقدّما ، كما ذكره ابن الحاجب في «أماليه» في ذكر هذه الآية.

وفعل (أَهْلَكْناها) مستعمل في إرادة وقوع الفعل ، أي أردنا إهلاكها.

والرجوع : العود إلى ما كان فيه المرء ؛ فيحتمل أن المراد رجوعهم عن الكفر فيتعين أن تكون (لا) في قوله تعالى : (لا يَرْجِعُونَ) زائدة للتوكيد ، لأن (حرام) في معنى النفي و (لا) نافية ونفي النفي إثبات ، فيصير المعنى منع عدم رجوعهم إلى الإيمان ، فيؤول إلى أنهم راجعون إلى الإيمان. وليس هذا بمراد فتعين أن المعنى : منع على قرية قدرنا هلاكها أن يرجعوا عن ضلالهم لأنه قد سبق تقدير هلاكها. وهذا إعلام بسنة الله تعالى في تصرفه في الأمم الخالية مقصود منه التعريض بتأييس فريق من المشركين من المصير إلى الإيمان وتهديدهم بالهلاك. وهؤلاء هم الذين قدّر الله هلاكهم يوم بدر بسيوف المؤمنين.

ويجوز أن يراد رجوعهم إلى الآخرة بالبعث ، وهو المناسب لتفريعه على قوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٣] فتكون (لا) نافية. والمعنى : ممنوع عدم رجوعهم إلى الآخرة الذي يزعمونه ، أي دعواهم باطلة ، أي فهم راجعون إلينا فمجازون على كفرهم ، فيكون إثباتا للبعث بنفي ضده ، وهو أبلغ من صريح الإثبات لأنه إثبات بطريق الملازمة فكأنه إثبات الشيء بحجة. ويفيد تأكيدا لقوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٣].

وجملة (أَهْلَكْناها) إدماج للوعيد بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.

وفعل (أَهْلَكْناها) مستعمل في أصل معناه ، أي وقع إهلاكنا إياها. والمعنى : ما من قرية أهلكناها فانقرضت من الدنيا إلا وهم راجعون إلينا بالبعث. وقيل (حَرامٌ) اسم مشترك بين الممنوع والواجب ، وأنشدوا قول الخنساء :

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا

على شجوه إلا بكيت على صخر


وفي كتاب «لسان العرب» «في حديث عمر : في الحرام كفارة يمين : هو أن يقول الرجل : حرام الله لا أفعل ، كما يقول : يمين الله لا أفعل ، وهي لغة العقيليين» اه. ورأيت في مجموعة أدبية عتيقة (من كتب جامع الزيتونة عددها ٤٥٦١) : أن بني عقيل يقولون حرام الله لآتينك كما يقال يمين الله لآتينك انتهى. وهو يشرح كلام «لسان العرب» بأن هذا اليمين لا يختص بالحلف على النفي كما في مثال «لسان العرب».

فيتأتى على هذا وجه ثالث في تفسير قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ويمين منا على قرية ، فحرف (على) داخل على المسلطة عليه اليمين ، كما تقول : عزمت عليك ، وكما يقال : حلفت على فلان أن لا ينطق. وكقول الراعي :

إني حلفت على يمين برّة

لا أكتم اليوم الخليفة قيلا

وفتح همزة «أنّ» في اليمين أحد وجهين فيها في سياق القسم.

ومعنى (لا يَرْجِعُونَ) على هذا الوجه لا يرجعون إلى الإيمان لأن الله علم ذلك منهم فقدر إهلاكهم.

وقرأ الجمهور (وَحَرامٌ) ـ بفتح الحاء وبألف بعد الراء ـ. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وحرم ـ بكسر الحاء وسكون الراء ـ ، وهو اسم بمعنى حرام.

والكلمة مكتوبة في المصحف بدون ألف ومروية في روايات القراء بوجهين ، وحذف الألف المشبعة من الفتحة كثير في المصاحف.

[٩٦ ـ ٩٧] (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

(حتى) ابتدائية. والجملة بعدها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب ولكن (حتّى) تكسبه ارتباطا بالكلام الذي قبله. وظاهر كلام الزمخشري : أن معنى الغاية لا يفارق (حتّى) حين تكون للابتداء ، ولذلك عني هو ومن تبعه من المفسرين بتطلب المغيّا بها هاهنا فجعلها في «الكشاف» غاية لقوله (وَحَرامٌ) فقال : «(حتّى) متعلقة ب (حَرامٌ) وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة» اه. أي : فهو من تعليق الحكم على أمر لا يقع كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف: ٤٠] ، ويتركب على كلامه الوجهان اللذان تقدما في معنى الرجوع من قوله تعالى : (أَنَّهُمْ لا


يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] ، أي لا يرجعون عن كفرهم حتى ينقضي العالم ، أو انتفاء رجوعهم إلينا في اعتقادهم يزول عند انقضاء الدنيا. فيكون المقصود الإخبار عن دوام كفرهم على كلا الوجهين. وعلى هذا التفسير ففتح يأجوج وماجوج هو فتح السدّ الذي هو حائل بينهم وبين الانتشار في أنحاء الأرض بالفساد ، وهو المذكور في قصة ذي القرنين في سورة الكهف.

وتوقيت وعد الساعة بخروج يأجوج وماجوج أن خروجهم أول علامات اقتراب القيامة.

وقد عدّه المفسرون من الأشراط الصغرى لقيام الساعة.

وفسّر اقتراب الوعد باقتراب القيامة ، وسمّيت وعدا لأن البعث سمّاه الله وعدا في قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤].

وعلى هذا أيضا جعلوا ضمير (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) عائد إلى «يأجوج وماجوج» فالجملة حال من قوله (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ).

وبناء على هذا التفسير تكون هذه الآية وصفت انتشار يأجوج وماجوج وصفا بديعا قبل خروجهم بخمسة قرون فعددنا هذه الآية من معجزات القرآن العلمية والغيبية. ولعل تخصيص هذا الحادث بالتوقيت دون غيره من علامات قرب الساعة قصد منه مع التوقيت إدماج الإنذار للعرب المخاطبين ليكون ذلك نصب أعينهم تحذيرا لذرياتهم من كوارث ظهور هذين الفريقين فقد كان زوال ملك العرب العتيد وتدهور حضارتهم وقوتهم على أيدي يأجوج وماجوج وهم المغول والتتار كما بيّن ذلك الإنذار النبوي في ساعة من ساعات الوحي. فقد

روت زينب بنت جحش أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فزعا يقول : «لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج وماجوج هكذا» وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها.

والاقتراب على هذا اقتراب نسبي على نسبة ما بقي من أجل الدنيا بما مضى منه كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١].

ويجوز أن يكون المراد بفتح يأجوج وماجوج تمثيل إخراج الأموات إلى الحشر ، فالفتح معنى الشق كقوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤] ، ويكون اسم يأجوج وماجوج تشبيها بليغا. وتخصيصهما بالذكر لشهرة كثرة


عددهما عند العرب من خبر ذي القرنين. ويدلّ لهذا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله لآدم (يوم القيامة) أخرج بعث النار ، فيقول : يا رب ، وما بعث النار (١)؟ فيقول الله : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. قالوا : يا رسول الله وأيّنا ذلك الواحد (٢)؟ قال : أبشروا ، فإن منكم رجلا ومن يأجوج وماجوج تسعمائة وتسعة وتسعين».

أو يكون اسم يأجوج ومأجوج استعمل مثلا للكثرة كما في قول ذي الرمة :

لو أن يأجوج وماجوج معا

وعاد عاد واستجاشوا تبّعا

أي : حتى إذا أخرجت الأموات كيأجوج ومأجوج على نحو قوله تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧] ، فيكون تشبيها بليغا من تشبيه المعقول بالمعقول. ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، (جدث) بجيم ومثلثة ، أي من كل قبر في معنى قوله تعالى : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) [الانفطار : ٤] فيكون ضميرا (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) عائدين إلى مفهوم من المقام دلّت عليه قرينة الرجوع من قوله تعالى: (لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] أي أهل كل قرية أهلكناها.

والاقتراب ، على هذا الوجه : القرب الشديد وهو المشارفة ، أي اقترب الوعد الذي وعده المشركون ، وهو العذاب بأن رأوا النار والحساب.

وعلامة التأنيث في فعل (فُتِحَتْ) لتأويل يأجوج وماجوج بالأمة. ثم يقدر المضاف وهو سدّ فيكتسب التأنيث من المضاف إليه.

ويأجوج وماجوج هم قبيلتان من أمة واحدة مثل طسم وجديس.

وإسناد فعل (فُتِحَتْ) إلى (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) بتقدير مضاف ، أي فتح ردمهما أو سدّهما. وفعل الفتح قرينة على المفعول.

وقرأ الجمهور (فُتِحَتْ) بتخفيف التاء الفوقية التي بعد الفاء. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بتشديدها.

وتقدم الكلام على يأجوج وماجوج في سورة الكهف.

__________________

(١) البعث مصدر بمعنى المفعول ، أي : المبعوثين إلى النار.

(٢) أي الذي بقي من الألف.


والحدب : النشز من الأرض ، وهو ما ارتفع منها.

و (يَنْسِلُونَ) يمشون النّسلان ـ بفتحتين ـ وفعله من باب ضرب ، وأصله : مشي الذئب. والمراد : المشي السريع. وإيثار التعبير به هنا من نكت القرآن الغيبية ، لأن يأجوج وماجوج لما انتشروا في الأرض انتشروا كالذئاب جياعا مفسدين.

هذا حاصل ما تفرق من كلام المفسرين وما فرضوه من الوجوه ، وهي تدور حول محور التزام أنّ (حتى) الابتدائية تفيد أن ما بعدها غاية لما قبلها مع تقدير مفعول (فُتِحَتْ) بأنه سدّ يأجوج وماجوج. ومع حمل يأجوج وماجوج على حقيقة مدلول الاسم ، وذلك ما زج بهم في مضيق تعاصى عليهم فيه تبيين انتظام الكلام فألجئوا إلى تعيين المغيّا وإلى تعيين غاية مناسبة له ولهاته المحامل كما علمت مما سبق.

ولا أرى متابعتهم في الأمور الثلاثة.

فأما دلالة (حتى) الابتدائية على معنى الغاية ، أي كون ما بعدها غاية لمضمون ما قبلها ، فلا أراه لازما. ولأمر ما فرق العرب بين استعمالها جارّة وعاطفة وبين استعمالها ابتدائية ، أليس قد صرح النحاة بأن الابتدائية يكون الكلام بعدها جملة مستأنفة تصريحا جرى مجرى الصواب على ألسنتهم فما رعوه حق رعايته فإن معنى الغاية في (حتى) الجارّة (وهي الأصل في استعمال هذا الحرف) ظاهر لأنها بمعنى (إلى). وفي (حتّى) العاطفة لأنها تفيد التشريك في الحكم وبين أن يكون المعطوف بها نهاية للمعطوف عليه في المعنى المراد.

فأما (حتى) الابتدائية فإن وجود معنى الغاية معها في مواقعها غير منضبط ولا مطرد ، ولما كان ما بعدها كلاما مستقلا تعيّن أن يكون وجودها بين الكلامين لمجرد الربط بين الكلامين فقد نقلت من معنى تنهية مدلول ما قبلها بما بعدها إلى الدلالة على تنهية المتكلم غرض كلامه بما يورده بعد (حتى) ولا يقصد تنهية مدلول ما قبل (حتى) بما عند حصول ما بعدها (الذي هو المعنى الأصل للغاية). وانظر إلى استعمال (حتى) في مواقع من معلقة لبيد (١).

__________________

(١) بيت : حتى إذا سلخا جمادي سنة ...

وبيت : حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ...

ومصراع : ... حتى إذا سخنت وخف عظامها.


وفي قوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤] فإن قول الرسول ليس غاية للزلزلة ولكنه ناشئ عنها ، وقد مثلت حالة الكافرين في ذلك الحين بأبلغ تمثيل وأشدّه وقعا في نفس السامع ، إذ جعلت مفرعة على فتح يأجوج وماجوج واقتراب الوعد الحقّ للإشارة إلى سرعة حصول تلك الحالة لهم ثم بتصدير الجملة بحرف المفاجأة والمجازاة الذي يفيد الحصول دفعة بلا تدرّج ولا مهلة ، ثم بالإتيان بضمير القصة ليحصل للسامع علم مجمل يفصله ما يفسّر ضمير القصة فقال تعالى: (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخره.

والشخوص : إحداد البصر دون تحرك كما يقع للمبهوت.

وجملة : (يا وَيْلَنا) مقول قول محذوف كما هو ظاهر ، أي يقولون حينئذ : يا ويلنا.

ودلت (في) على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف ، أي كانت لنا غفلة عظيمة ، وهي غفلة الإعراض عن أدلة الجزاء والبعث.

و (يا وَيْلَنا) دعاء على أنفسهم من شدة ما لحقهم.

و (بَلْ) للإضراب الإبطالي ، أي ما كنا في غفلة لأننا قد دعينا وأنذرنا وإنما كنا ظالمين أنفسنا بمكابرتنا وإعراضنا.

والمشار إليه ب (هذا) هو مجموع تلك الأحوال من الحشر والحساب والجزاء.

[٩٨ ـ ١٠٠] (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

جملة (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) جواب عن قولهم (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [الأنبياء : ٩٧] إلى آخره. فهي مقول قول محذوف على طريقة المحاورات. فالتقدير : يقال لهم : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم.

وهو ارتقاء في ثبورهم فهم قالوا : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [الأنبياء : ٩٧] فأخبروا بأن آلهتهم وهم أعزّ عليهم من أنفسهم وأبعد في أنظارهم عن أن يلحقهم سوء صائرون إلى مصيرهم من الخزي والهوان ، ولذلك أكد الخبر بحرف التأكيد لأنهم كانوا بحيث ينكرون ذلك.


و (ما) موصولة وأكثر استعمالها فيما يكون فيه صاحب الصلة غير عاقل. وأطلقت هنا على معبوداتهم من الأصنام والجنّ والشياطين تغليبا ، على أن (ما) تستعمل فيما هو أعمّ من العاقل وغيره استعمالا كثيرا في كلام العرب.

وكانت أصنامهم ومعبوداتهم حاضرة في ذلك المشهد كما دلّت عليه الإشارة (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها).

والحصب : اسم بمعنى المحصوب به ، أي المرمي به. ومنه سميت الحصباء لأنها حجارة يرمى بها ، أي يرمون في جهنم ، كما قال تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] أي الكفار وأصنامهم.

وجملة (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) بيان لجملة (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). والمقصود منه : تقريب الحصب بهم في جهنم لما يدلّ عليه قوله (وارِدُونَ) من الاتصاف بورود النار في الحال كما هو شأن الخبر باسم الفاعل فإنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال.

وقد زيد في نكايتهم بإظهار خطئهم في عبادتهم تلك الأصنام بأن أشهدوا إيرادها النار وقيل لهم : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها).

وذيل ذلك بقوله تعالى : (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي هم وأصنامهم.

والزفير : النفس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغمّ. وهو هنا من أحوال المشركين دون الأصنام. وقرينة معاد الضمائر واضحة.

وعطف جملة (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) اقتضاه قوله (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) لأن شأن الزفير أن يسمع فأخبر الله بأنهم من شدة العذاب يفقدون السمع بهذه المناسبة.

فالآية واضحة السياق في المقصود منها غنية عن التلفيق.

وقد روى ابن إسحاق في «سيرته» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد الحرام فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم في مجلس من رجال قريش ، فتلا رسول الله عليهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ثم قام رسول الله وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي (١) قبل أن يسلم فحدثه الوليد بن المغيرة

__________________

(١) بكسر الزاي وفتح الموحدة وسكون العين وفتح الراء مقصورا : السيّئ الخلق.


بما جرى في ذلك المجلس فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فاسألوا محمدا أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبدوهم؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فحكي ذلك لرسول الله ، فقال رسول الله : إن كلّ من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشيطان الذي أمرهم بعبادتهم ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] ه.

وقريب من هذا في «أسباب النزول» للواحدي ، وفي «الكشاف» مع زيادات أن ابن الزبعرى لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر هذا وزاد فقال : خصمت وربّ هذه البنيّة ألست تزعم أن الملائكة عباد مكرمون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيرا عبد صالح ، وهذه بنو مليح (١) يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى يعبدون المسيح ، وهذه اليهود يعبدون عزيرا ، فضجّ أهل مكة (أي فرحا) وقالوا : إن محمدا قد خصم. ورويت القصة في بعض كتب العربية وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لابن الزبعرى : ما أجهلك بلغة قومك إني قلت (وَما تَعْبُدُونَ) ، و (ما) لما لا يعقل ولم أقل «ومن تعبدون».

وإن الآية حكت ما يجري يوم الحشر وليس سياقها إنذارا للمشركين حتى يكون قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] تخصيصا لها ، أو تكون القصة سببا لنزوله.

[١٠١ ـ ١٠٣] (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

جملة (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعا إليه مقابلة حكاية حال الكافرين وما يقال لهم يوم القيامة بحكاية ما يلقاه الذين آمنوا يوم القيامة وما يقال لهم. فالذين سبقت لهم الحسنى هم الفريق المقابل لفريق القرية التي سبق في علم الله إهلاكها ، ولما كان فريق القرية هم المشركين فالفريق المقابل له هم المؤمنون. ولا علاقة لهذه الجملة بجملة (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] ولا

__________________

(١) بضم الميم وفتح اللام : بطن من خزاعة.


هي مخصصة لعموم قوله تعالى : (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بل قوله تعالى : و (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) عام يعم كل مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح.

والسبق ، حقيقته : تجاوز الغير في السير إلى مكان معين ، ومنه سباق الخيل ، واستعمل هنا مجازا في ثبوت الأمن في الماضي ، يقال كان هذا في العصور السابقة ، أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم من الملازمة ، أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا ، أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله ، أي بتوفيقه وتقديره ، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان.

والحسنى : الحالة الحسنة في الدين ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] أو الموعدة الحسنى ، أي تقرّر وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى. وتقدم في سورة يونس.

وذكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم. وذكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف ، وهو سبق الحسنى من الله.

واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم ، والرفعة تشبه بالبعد.

وجملة (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) بيان لمعنى مبعدون ، أي مبعدون عنها بعدا شديدا بحيث لا يلفحهم حرّها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها ، والصوت يبلغ إلى السمع من أبعد مما يبلغ منه المرئي.

والحسيس : الصوت الذي يبلغ الحس ، أي الصوت الذي يسمع من بعيد ، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتها ، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها.

وعقّب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم. وجيء فيه بما يدل على العموم وهو (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) وما يدلّ على الدوام وهو (خالِدُونَ).

والشهوة : تشوق النفس إلى ما يلذّ لها.

وجملة (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ) خبر ثان عن الموصول.


والفزع : نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم وهو قريب من الجزع. والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيئول إليه أمره ، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم.

وذلك مفاد قوله تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل : ٨٧].

والتلقي : التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة. والصيغة تشعر بتكلف لقائه وهو تكلف تهيؤ واستعداد.

وجملة (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) مقول لقول محذوف ، أي يقولون لهم : هذا يومكم الذي كنتم توعدون ، تذكيرا لهم بما وعدوا في الدنيا من الثواب ، لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر. أي هذا يوم تعجيل وعدكم. والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم وتمييزه بأنه اليوم الحاضر.

وإضافة (يوم) إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم وكون فائدتهم حاصلة فيه كقول جرير :

يا أيها الراكب المزجي مطيته

هذا زمانك إني قد خلا زمني

أي هذا الزمن المختص بك ، أي لتتصرف فيه.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانه إبطالا لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيم (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠].

والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) [الأنبياء : ١٠٠] وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] الآية.

وقد رتّب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة. وأصل الجملة : نعيد


الخلق كما بدأنا أول خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعدا علينا. فحوّل النظم فقدم الظرف بادئ ذي بدء للتشويق إلى متعلقه ، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباق إذ جعل ابتداء خلق جديد وهو البعث مؤقتا بوقت نقض خلق قديم وهو طي السماء.

وقدم (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ) وهو حال من الضمير المنصوب في (نُعِيدُهُ) للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضل تمكّن. وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث ، فليس قوله (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) متعلقا بما قبله من قوله تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنبياء : ١٠٣].

وعقب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعدا على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب ، فعدي بحرف (على) في قوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْنا) أي حقا واجبا.

وجملة (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) مؤكّدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نفوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله.

والمراد بقوله (فاعِلِينَ) أنه الفاعل لما وعد به ، أي القادر. والمعنى : إنا كنا قادرين على ذلك.

وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).

والطّيّ : ردّ بعض أجزاء الجسم الليّن المطوق على بعضه الآخر ، وضدّه النشر.

والسجل : بكسر السين وكسر الجيم هنا ، وفيه لغات. يطلق على الورقة التي يكتب فيها ، ويطلق على كاتب الصحيفة ، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف ، أي صاحب السجل ، وقيل سجل : اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها.

ولا يحسن حمله هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطيّ إليه ولا إردافه لقوله للكتاب أو (لِلْكُتُبِ) ، ولا حمله على معنى الملك الموكل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهورا فكيف يشبه بفعله. فالوجه : أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها ، وذلك عمل معروف. فالتشبيه بعمله رشيق.


وقرأ الجمهور للكتاب بصيغة الإفراد ، وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف (لِلْكُتُبِ) ـ بضم الكاف وضم التاء ـ بصيغة الجمع. ولما كان تعريف السجل وتعريف الكتاب تعريف جنس استوى في المعرّف الإفراد والجمع. فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة ، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السجل مفردا ففيها حسن التفنن بالتضاد.

ورسمها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يحذف في مثله.

واللام في قوله للكتاب لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول طي.

ومعنى طي السماء تغيير أجرامها من موقع إلى موقع أو اقتراب بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليكتب الكاتب في إحدى صفحتيها ، وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي ، وهو انقراض له أحوال كثيرة وصف بعضها في سور من القرآن.

وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها ، وفي [سورة الزمر : ٦٧] (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). ومسألة دثور السماوات (أي اضمحلالها) فرضها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر (انكسمائس) الملطي و (فيثاغورس) و (أفلاطون).

وقرأ الجمهور (نَطْوِي) بنون العظمة وكسر الواو ونصب (السَّماءَ). وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنيا للنائب وبرفع (السَّماءَ).

والبدء : الفعل الذي لم يسبق مماثله بالنسبة إلى فاعل أو إلى زمان أو نحو ذلك. وبدء الخلق كونه لم يكن قبل ، أي كما جعلنا خلقا مبدوءا غير مسبوق في نوعه.

وخلق : مصدر بمعنى المفعول.

ومعنى إعادة الخلق : إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق باعتبار أنه فرد من جنس إذا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي مثل سيرتها في جنسها ، أي في أنها عصا من العصيّ.

وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أن


إعادة خلق الأجسام شبّهت بابتداء خلقها. ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام على أن التشبيه صالح للمماثلة في غير ذلك. روى مسلم عن ابن عباس قال : «قام فينا رسول الله بموعظة فقال : يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) الحديث. فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق. وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا.

وانتصب (وَعْداً) على أنه مفعول مطلق ل (نُعِيدُهُ) لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة. ويجوز كونه مفعولا مطلقا مؤكدا لمضمون جملة (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).

[١٠٥ ، ١٠٦] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في [سورة الزمر : ٧٣ ـ ٧٤] (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) إلى قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة. ولها ارتباط بقوله تعالى : ا فلا ترون (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الأنبياء : ٤٤].

وإن كان المراد أرضا من الدنيا ، أي مصيرها بيد عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لقوا فيها الأذى ، وهي أرض مكة وما حولها ، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].

على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح. وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين. وفي حديث أبي داود والترمذي عن ثوبان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها».


وقرأ الجمهور (فِي الزَّبُورِ) بصيغة الإفراد وهو اسم للمزبور ، أي المكتوب ، فعول بمعنى مفعول ، مثل : ناقة حلوب وركوب. وقرأ حمزة بصيغة الجمع زبور بوزن فعول جمع زبر ـ بكسر فسكون ـ أي مزبور ، فوزنه مثل قشر وقشور ، أي في الكتب.

فعلى قراءة الجمهور فو غالب في الإطلاق على كتاب داود قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في [سورة النساء : ١٦٣] وفي [سورة الإسراء : ٥٥] ، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داود لأنه لم يذكر وعد عامّ للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله. وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليه‌السلام : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الأعراف : ١٢٨] فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل.

والزبور : كتاب داود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود. ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير. ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب (فويدو) أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا : «صديقين يرشون أرص» بشين معجمة في «يرشون» وبصاد مهملة في «أرص» ، أي الصديقون يرثون الأرض. والمقصود : الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مثل هذا الوعد في القرآن في [سورة النور : ٥٥] في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر في الكتب لفرق من العباد الصالحين.

ومعنى (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة. فبعد أن ألقيت إليهم الأوامر وعدوا بميراث الأرض ، وقيل المراد ب (الذِّكْرِ) كتاب الشريعة وهو التوراة.

قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء : ٤٨] فيكون الظرف في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) مستقرّا في موضع الحال من الزبور. والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدّث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة. وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة: ٢١] ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من الملك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داود. فإن ملك داود أحد مظاهره. بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوما صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقهم الله وعده فملكوا الأرض


ببركة رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيئهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتقدم آنفا.

وجملة (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) تذييل للوعد وإعلان بأن قد آن أوانه وجاء إبانه. وفإن لم يأت بعد داود قوم مؤمنون ورثوا الأرض ، فلما جاء الإسلام وآمن الناس بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد بلغ البلاغ إليهم.

فالإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ فِي هذا) إلى الوعد الموعود في الزبور والمبلّغ في القرآن.

والمراد بالقوم العابدين من شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ قوم المشعر بأن العبادة هي قوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في آخر [سورة يونس : ١٠١]. فكأنه يقول : فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله. والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم.

والعبادة : الوقوف عند حدود الشريعة. قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠]. وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم ، فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف.

وما أشبه هذا الوعد المذكور هنا ونوطه بالعبادة بالوعد الذي وعدته هذه الأمة في القرآن : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور : ٥٥ ـ ٥٦].

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديق دعوته. فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم ووشك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لم يكن بدعا من الرسل ، وذكروا إجمالا ، ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل ، وتخلّل ذلك بمواعظ ودلائل.


وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وذكر ما أوتوه من الكرامات ، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها ، وذلك كونها رحمة للعالمين ، فهذه الجملة عطف على جملة (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٩١] ختاما لمناقب الأنبياء ، وما بينهما اعتراض واستطراد.

ولهذه الجملة اتصال بآية (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣].

ووزانها في وصف شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزان آية : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [الأنبياء : ٤٨] وآية : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١] والآيات التي بعدهما في وصف ما أوتيه الرسل السابقون.

وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ومدح مرسله تعالى ، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.

فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به ، ذكر فيه الرسول ، ومرسله ، والمرسل إليهم ، والرسالة ، وأوصاف هؤلاء الأربعة ، مع إفادة عموم الأحوال ، واستغراق المرسل إليهم ، وخصوصية الحصر ، وتنكير (رَحْمَةً) للتعظيم ، إذ لا مقتضى لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل : إلا لنرحم العالمين ، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعا لظهور أنّ المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصيا ، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب ، وهي :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا : «أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل» دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا غير. وهي غير خصوصية إنما هي وفرة معان. وليس تنكير «حبيب ومنزل» إلا للوحدة لأنه أراد فردا معيّنا من جنس الأحباب وفردا معينا من جنس المنازل ، وهما حبيبه صاحب ذلك المنزل ، ومنزله.


واعلم أن انتصاب (رَحْمَةً) على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لطيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها ، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله ، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله ، ويدلّ لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إنما أنا رحمة مهداة» (١).

وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين : الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة ، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.

فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلاميذه أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس : «زين الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق» اه. وذكره عنه عياض في «الشفاء». قلت : يعني أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه. قالت عائشة : «كان خلقه القرآن». ولهذا خصّ الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء ، وكذلك في القرآن كله ، قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] وقال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم ليّنا. وفي حديث مسلم: أن رسول الله لما شجّ وجهه يوم أحد شقّ ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم فقال : «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة».

وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته ، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى (لِلْعالَمِينَ) متعلق بقوله (رَحْمَةً).

والتعريف في (لِلْعالَمِينَ) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم. والعالم :

__________________

(١) رواه محمد بن طاهر المقدسي في كتاب «ذخيرة الحفاظ» عن أبي هريرة يصفه بالضعف.


الصنف من أصناف ذوي العلم ، أي الإنسان ، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢]. فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إمّا لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين ، فالحنيفية شريعة إبراهيم عليه‌السلام كانت رحمة خاصة بحالة الشخص في نفسه وليس فيها تشريع عام ، وشريعة عيسى عليه‌السلام قريبة منها في ذلك ؛ وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدّة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات ، وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٥٤] ، فإن كثيرا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقال : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إلى آيات كثيرة.

لا جرم أن الله تعالى خصّ الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطابا منه لموسى عليه‌السلام : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) النبي الأمي [الأعراف : ١٥٦ ـ ١٥٧] الآية. ففي قوله تعالى : (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.

وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها ، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحّض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة ، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم.


فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر. قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحجّ : ٧٨] وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة».

وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.

وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة. ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم ، وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.

هذا وإن أريد بالعالمين في قوله تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به. إذ هو مخلوق لأجل الإنسان ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وقال تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النحل : ٥ ـ ٧].

وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك. ولذلك كره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله ، وعدّ فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغرو ونحوه.

ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث «الموطأ» عن أبي هريرة مرفوعا : «أن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش فنزل في بئر فملأ خفّه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب فغفر الله له».

أما المؤذي والمضرّ من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم. وهي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨))


عقب الوصف الجامع لرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث ما لها من الأثر في أحوال البشر بوصف جامع لأصل الدعوة الإسلامية في ذاتها الواجب على كلّ متبع لها وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى وإبطال إلهية ما سواه ، لنبذ الشرك المبثوث بين الأمم يومئذ. وللاهتمام بذلك صدرت جملته بالأمر بأن يقول لهم لاستصغاء أسماعهم.

وصيغت الجملة في صيغة حصر الوحي إليه في مضمونها لأن مضمونها هو أصل الشريعة الأعظم ، وكل ما تشتمل عليه الشريعة متفرع عليه ، فالدعوة إليه هي مقادة الاجتلاب إلى الشريعة كلّها ، إذ كان أصل الخلاف يومئذ بين الرسول ومعانديه هو قضية الوحدانية ولذلك قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

وما كان إنكارهم البعث إلا لأنهم لم يجدوه في دين شركهم إذ كان الذين وضعوا لهم الشرك لا يحدثونهم إلا عن حالهم في الدنيا فما كان تصلبهم في إنكار البعث إلا شعبة من شعب الشرك. فلا جرم كان الاهتمام بتقرير الوحدانية تضييقا لشقة الخلاف بين النبي وبين المشركين المعرضين الذين افتتحت السورة بوصف حالهم بقوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء : ١ ـ ٣].

وأفادت (إنما) المكسورة الهمزة وإتلاؤها بفعل (يُوحى) قصر الوحي إلى الرسول على مضمون جملة (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). وهو قصر صفة على موصوف. و (أنما) المفتوحة الهمزة هي أخت «إنما» المكسورة الهمزة في إفادة القصر لأن (أنما) المفتوحة مركبة من (أنّ) المفتوحة الهمزة و (ما) الكافّة. كما ركبت (إنّما) المكسورة من (إن) المكسورة الهمزة و (ما) الكافّة. وإذ كانت (أنّ) المفتوحة أخت (إن) المكسورة في إفادة التأكيد فكذلك كانت عند اتصالها ب (ما) الكافّة أختا لها في إفادة القصر. وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) في سورة العقود [٩٢].

وإذ قد أتليت (أنما) المفتوحة بالاسم الجامع لحقيقة الإله ، وأخبر عنه بأنه إله واحد فقد أفادت أن صاحب هذه الحقيقة مستأثر بالوحدانية فلا يكون في هذه الحقيقة تعدد أفراد

فأفادت قصرا ثانيا ، وهو قصر موصوف على صفة.

والقصر الأول إضافي ، أي ما يوحى إلى في شأن الإله إلا أن الإله إله واحد. والقصر الثاني أيضا إضافي ، أي في شأن الإله من حيث الوحدانية. ولما كان القصر


الإضافي من شأنه ردّ اعتقاد المخاطب بجملة القصر لزم اعتبار ردّ اعتقاد المشركين بالقصرين.

فالقصر الأول لإبطال ما يلبسون به على الناس من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى التوحيد ثم يذكر الله والرحمن ، ويلبسون تارة بأنه ساحر لأنه يدعو إلى ما لا يعقل ، قال تعالى : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٤ ـ ٥] فيكون معنى الآية في معنى قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥].

ثم إن كلا القصرين كان كلمة جامعة لدعوة الإسلام تقريبا لشقة الخلاف والتشعيب. وعلى جميع هذه الاعتبارات تفرع عليها جملة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

والاستفهام حقيقي ، أي فهل تسلمون بعد هذا البيان. وهو مستعمل أيضا في معنى كنائي وهو التحريض على نبذ الإشراك وعلى الدخول في دعوة الإسلام.

واسم الفاعل مستعمل في الحال على أصله ، أي فهل أنتم مسلمون الآن استبطاء لتأخر إسلامهم. وصيغ ذلك في الجملة الاسمية الدالة على الثبات دون أن يقال : فهل تسلمون ، لإفادة أن المطلوب منهم إسلام ثابت. وكأنّ فيه تعريضا بهم بأنهم في ريب يترددون.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩))

أي فإن أعرضوا بعد هذا التبيين المفصّل والجامع فأبلغهم الإنذار بحلول ما توعّدهم الله به.

والإيذان : الإعلام ، وهو بوزن أفعل من أذن لكذا بمعنى سمع. واشتقاقه من اسم الأذن ، وهي جارحة السمع ، ثم استعمل بمعنى العلم بالسمع ثم شاع استعماله في العلم مطلقا.

وأما (آذن) فهو فعل متعد بالهمزة وكثر استعمال الصيغتين في معنى الإنذار وهو الإعلام المشوب بتحذير. فمن استعمال أذن قوله تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)


[البقرة : ٢٧٩] ، ومن استعمال (آذن) قول الحارث بن حلزة :

آذنتنا ببينها أسماء

وحذف مفعول (آذَنْتُكُمْ) الثاني لدلالة قوله تعالى (ما تُوعَدُونَ) عليه ، أو يقدر : آذنتكم ما يوحى إليّ لدلالة ما تقدم عليه. والأظهر تقدير ما يشمل المعنيين كقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) [هود : ٥٧].

وقوله تعالى : (عَلى سَواءٍ) (على) فيه للاستعلاء المجازي ، وهو قوة الملابسة وتمكّن الوصف من موصوفه.

و (سواء) اسم معناه مستو. والاستواء : المماثلة في شيء ويجمع على أسواء. وأصله مصدر ثم عومل معاملة الأسماء فجمعوه لذلك ، وحقّه أن لا يجمع فيجوز أن يكون (عَلى سَواءٍ) ظرفا مستقرا هو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى (آذَنْتُكُمْ) أي أنذرتكم مستوين في إعلامكم به لا يدعي أحد منكم أنه لم يبلغه الإنذار. وهذا إعذار لهم وتسجيل عليهم كقوله في خطبته «ألا هل بلّغت».

ويجوز أن يتعلق المجرور بفعل (آذَنْتُكُمْ) قال أبو مسلم : الإيذان على السواء : الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] انتهى. يريد أن هذا مثل بحال النذير بالحرب إذ لم يكن في القرآن النازل بمكة دعاء إلى حرب حقيقية. وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون (عَلى سَواءٍ) حالا من ضمير المتكلم.

وحذف متعلق (آذَنْتُكُمْ) لدلالة قوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) عليه ، ولأن السياق يؤذن به لقوله قبله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) [الأنبياء : ٩٦] الآية. وتقدم عند قوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) في [سورة الأنفال : ٥٨].

وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) يشمل كل ما يوعدونه من عقاب في الدنيا والآخرة إن عاشوا أو ماتوا.

و (إن) نافية وعلق فعل (أَدْرِي) عن العمل بسبب حرف الاستفهام وحذف العائد. وتقديره : ما توعدون به.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠))

جملة معترضة بين الجمل المتعاطفة. وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى بقرينة


المقام. والمقصود من الجملة تعليل الإنذار بتحقيق حلول الوعيد بهم وتعليل عدم العلم بقربه أو بعده ؛ علل ذلك بأن الله تعالى يعلم جهرهم وسرّهم وهو الذي يؤاخذهم عليه وهو الذي يعلم متى يحلّ بهم عذابه.

وعائد الموصول في قوله تعالى : (ما تَكْتُمُونَ) ضمير محذوف.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١))

عطف على جملة (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٩]. والضمير الذي هو اسم (لعلّ) عائد إلى ما يدل عليه قوله تعالى : (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من أنه أمر منتظر الوقوع وأنه تأخر عن وجود موجبه ، والتقدير : لعل تأخيره فتنة لكم ، أو لعل تأخير ما توعدون فتنة لكم ، أي ما أدرى حكمة هذا التأخير فلعله فتنة لكم أرادها الله ليملي لكم إذ بتأخير الوعد يزدادون في التكذيب والتولّي وذلك فتنة.

والفتنة : اختلال الأحوال المفضي إلى ما فيه مضرة.

والمتاع : ما ينتفع به مدة قليلة ، كما تقدم في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) في [سورة آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧].

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

استئناف ابتدائي بعد ما مضى من وصف رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإجمال أصلها وأمره بإنذارهم وتسجيل التبليغ. قصد من هذا الاستئناف التلويح إلى عاقبة أمر هذا الدين المرجوة المستقبلة لتكون قصة هذا الدين وصاحبه مستوفاة المبدأ والعاقبة على وزان ما ذكر قبلها من قصص الرسل السابقين من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨] إلى هنا.

وفي أمر الله تعالى نبيئه عليه الصلاة والسلام بالالتجاء إليه والاستعانة به بعد ما قال له : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] رمز إلى أنهم متولّون لا محالة وأن الله سيحكم فيهم بجزاء جرمهم لأن الحكم بالحق لا يغادرهم ، وإن الله في إعانته لأن الله إذا لقن عباده دعاء فقد ضمن لهم إجابته كقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] ونحو ذلك ، وقد صدق الله وعده واستجاب لعبده فحكم في هؤلاء


المعاندين بالحق يوم بدر.

والمعنى : قل ذلك بمسمع منهم إظهارا لتحديه إياهم بأنه فوّض أمره إلى ربه ليحكم فيهم بالحق الذي هو خضد شوكتهم وإبطال دينهم ، لأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

الباء في قوله تعالى (بِالْحَقِ) للملابسة. وحذف المتعلّق الثاني لفعل (احْكُمْ) لتنبيههم إلى أن النبي على الحق فإنه ما سأل الحكم بالحق إلا لأنه يريده ، أي احكم لنا أو فيهم أو بيننا.

وقرأ الجمهور قل بصيغة الأمر. وقرأ حفص (قالَ) بصيغة الماضي مثل قوله تعالى : قل ربي يعلم القول [الأنبياء : ٤] في أول هذه السورة. ولم يكتب في المصحف الكوفي بإثبات الألف. على أنه حكاية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (رَبِ) منادى مضاف حذفت منه ياء المتكلم المضاف هو إليها وبقيت الكسرة دليلا على الياء.

وقرأ الجمهور ـ بكسر الباء ـ من (رَبِ). وقرأه أبو جعفر ـ بضم الباء ـ وهو وجه عربيّ في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كأنهم جعلوه بمنزلة الترخيم وهو جائز إذا أمن اللبس.

وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله تعالى (وَرَبُّنَا) لتضمنها تعظيما لشأن المسلمين بالاعتزاز بأن الله ربّهم.

وضمير المتكلم المشارك للنبي ومن معه من المسلمين. وفيه تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا من مربوبية الله في شيء حسب إعراضهم عن عبادته إلى عبادة الأصنام كقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١].

والرحمن عطف بيان من (رَبُّنَا) لأن المراد به هنا الاسم لا الوصف تورّكا على المشركين ، لأنهم أنكروا اسم الرحمن (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان : ٦٠].

وتعريف (الْمُسْتَعانُ) لإفادة القصر ، أي لا أستعين بغيره على ما تصفون ، إذ لا ينصرنا غير ربنا وهو ناظر إلى قوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].


وفي قوله تعالى : (عَلى ما تَصِفُونَ) مضاف محذوف هو مجرور (على) ، أي على إبطال ما تصفون بإظهار بطلانكم للناس حتى يؤمنوا ولا يتبعوكم ، أو على إبطال ما يترتب عليه من أذاهم له وللمؤمنين وتأليب العرب عليه.

ومعنى (ما تَصِفُونَ) وما تصدر به أقوالكم من الأذى لنا. فالوصف هنا هو الأقوال الدالة عن الأوصاف ، وقد تقدم في سورة يوسف. وهم وصفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفات ذم كقولهم : مجنون وساحر ، ووصفوا القرآن بأنه شعر وأساطير الأولين ، وشهروا ذلك في دهمائهم لتأليب الناس عليه.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢٢ ـ سورة الحج

سميت هذه السورة سورة الحجّ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرج أبو داود ، والترمذي عن عقبة بن عامر قال : «قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : نعم». وأخرج أبو داود ، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصّل ، وفي سورة الحجّ سجدتان. وليس لهذه السورة اسم غير هذا.

ووجه تسميتها سورة الحجّ أنّ الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه‌السلام بالدعوة إلى حجّ البيت الحرام ، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع ، وتقريعا للذين يصدّون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحجّ على المسلمين بالاتفاق ، وإنما فرض الحجّ بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.

واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية ، أو كثير منها مكي وكثير منها مدني.

فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله (هذانِ خَصْمانِ) إلى (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ١٩ ـ ٢٢]. قال ابن عطيّة : وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.

وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن : هي مدنية إلا آيات (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) ولا نبيء إلى قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) [الحج : ٥٢ ـ ٥٥] فهن مكيات.


وعن مجاهد ، عن ابن الزبير : أنها مدنية. ورواه العوفي عن ابن عباس.

وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكيّ وبعضها مدنيّ وهي مختلطة ، أي لا يعرف المكيّ بعينه ، والمدنيّ بعينه. قال ابن عطيّة : وهو الأصح.

وأقول : ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور : إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها ، بل أرادوا أن كثيرا منها مكيّ وأن مثله أو يقاربه مدني ، وأنه لا يتعين ما هو مكيّ منها وما هو مدنيّ ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. قال ابن عطية : روي عن أنس بن مالك أنه قال : «نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس» وساق الحديث الذي سيأتي. يريد ابن عطيّة أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة.

ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [الحج : ١] جار على سنن فواتح السور المكيّة. وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة. ومع هذا فليس الافتتاح ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بمعيّن أن تكون مكية ، وإنما قال ابن عباس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يراد به المشركون. ولذا فيجوز أن يوجّه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، فإن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الحج : ٢٥] يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صدّ المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة. وكذلك قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٣٩ ـ ٤٠] فإنه صريح في أنه نزل في شأن الهجرة.

روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيئهم ليهلكن فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٣٩ ـ ٤٠] ، وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) [الحج : ٥٨] ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك.

وأحسب أنه لم تتعيّن طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة. ولعلّ ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل ذلك كثير.


وقد قيل في قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] إنه نزل في وقعة بدر ، لما في «الصحيح» عن علي وأبي ذرّ : أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذرّ يقسم على ذلك.

ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي ، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة.

وروى الترمذي وحسّنه وصححه عن ابن أبي عمر ، عن سفيان عن ابن جدعان ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ١ ـ ٢] ، قال : أنزلت عليه هذه وهو في سفر؟ فقال : «أتدرون ...» وساق حديثا طويلا. فاقتضى قوله : أنزلت عليه وهو في سفر؟ أن هذه السورة أنزلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة.

وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غروة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس ، فالظاهر من قوله «أنزلت وهو في سفر» أنّ عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلّا عام خيبر وهو عام سبعة ، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة «أنزلت عليه وهو في سفر» في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما روى الترمذي وحسّنه وصححه أيضا عن محمد بن بشار ، عن يحيي بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين قال : كنا مع النبي في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ١ ـ ٢] إلى آخره. فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن ، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة : ليس بالقوي. وقال فيه ابن خزيمة : سيّئ الحفظ ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة. وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال : أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر ، ولم يسنده ابن عطية.

وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال : سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا


ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها.

وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين. وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأنّ سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها.

وعدّت آياتها عند أهل المدينة ومكة : سبعا وسبعين. وعدها أهل الشام : أربعا وسبعين. وعدها أهل البصرة : خمسا وسبعين. وعدها أهل الكوفة : ثمانا وسبعين.

ومن أغراض هذه السورة :

ـ خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله.

ـ والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتّباعا لوساوس الشياطين ، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي الآخرة.

ـ وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس.

ـ وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلّة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطوارا.

ـ وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات ، فالله هو القادر على كل ذلك ، فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.

ـ وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبّر عن الامتثال لقول الرسول عليه الصلاة والسلام.

ـ ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.

ـ والتعريض بالمشركين بتكبّرهم عن سنّة إبراهيم عليه‌السلام الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدّين.

ـ وتذكير لهم بما منّ الله عليهم في مشروعية الحجّ من المنافع فكفروا نعمته.


ـ وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب.

ـ وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرّهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم ، وفي ذلك تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام والذين آمنوا ، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.

ـ وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة.

ـ وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال.

ـ وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه.

ـ وسلّى الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكنّ الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن.

ـ وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر ، ووصف الكفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به ، والثناء على المؤمنين وأن الله يسّر لهم اتّباع الحنيفية وسمّاهم المسلمين.

ـ والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم.

ـ وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١))

نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يوم نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة ، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته ، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله ، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به ، ليستبدلوا ذلك بضده.


وأول فريق من الناس دخولا في خطاب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم. وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم.

وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافا إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يتّقى لعظمته بالخالقية ، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.

وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيّد.

وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأن لها مناسب للمقام. وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائص ، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية.

وجملة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيده حرف التوكيد الواقع في مقام خطاب لا تردد للسامع فيه.

والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثرا في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ٢].

والزلزلة حقيقتها : تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض. وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض.

والساعة : علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي ، قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) إلى قوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [الزلزلة : ١ ـ ٦].

وإضافة (زَلْزَلَةَ) إلى (السَّاعَةِ) على معنى (في) ، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة.

فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر. والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة ، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى


الساعة إضافة حقيقية فيكون في معنى قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] الآية.

ويجوز أن تكون الزلزلة مجازا عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة ، قال تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤] أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) [البقرة : ٢١٤]. وفي دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأحزاب : «اللهم اهزمهم وزلزلهم».

والإتيان بلفظ (شَيْءٌ) للتهويل بتوغله في التنكير ، أي زلزلة الساعة لا يعرّف كنهها إلّا بأنها شيء عظيم ، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة (شَيْءٌ) وهي التي نبّه عليها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) في [سورة البقرة : ٢٢٩].

والعظيم : الضخم ، وهو هنا استعارة للقوي الشديد ، والمقام يفيد أنه شديد في الشرّ.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

جملة (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ) إلخ ... بيان لجملة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئا عظيما وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب.

ويتعلق (يَوْمَ تَرَوْنَها) بفعل (تَذْهَلُ). وتقديمه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة : تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم ترون زلزلة الساعة. فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رؤية تلك الزلزلة بالإمكان.

وضمير النصب في (تَرَوْنَها) يجوز أن يعود على (زَلْزَلَةَ) [الحج : ١] وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة.

ورؤيتها : رؤية ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه


ومشاهدة أهوال العذاب. وقرينة ذلك قوله (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) إلخ.

والذهول : نسيان ما من شأنه أن لا ينسى لوجود مقتضى تذكره ؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه ، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل. قاله شيخنا الجدّ الوزير قال : وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب ، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره. وكلّ ذلك يدل بدلالة الأولى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية.

والتحقت هاء التأنيث بوصف (مُرْضِعَةٍ) للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل ، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع ، كما يقال : هي ترضع. ولو لا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال : كلّ مرضع ، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس. وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته «الكافية» بقوله :

وما من الصفات بالأنثى يخص

عن تاء استغنى لأنّ اللفظ نص

وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد

كذي غدت مرضعة طفلا ولد

والمراد : أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد ، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعا ، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن علقه على طريقة الكناية.

وزيادة كلمة (كلّ) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها. ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة. وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه ، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها ، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة. وهذا من بديع الكناية


عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأولى ، فهو لزوم بدرجة ثانية ، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء.

و (ما) في (عَمَّا أَرْضَعَتْ) موصولة ما صدقها الطفل الرضيع. والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل ، وحذف مثله كثير.

والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول.

وقوله (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) هو كناية أيضا كقوله (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ). ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين.

والحمل : مصدر بمعنى المفعول ، بقرينة تعلقه بفعل (تَضَعُ) أي تضع جنينها.

والتعبير ب (ذاتِ حَمْلٍ) دون التعبير : بحامل ، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر. فلا يقال : امرأة حامل ، بل يقال : ذات حمل قال تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] ، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع.

والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ).

والخطاب في (تَرَى النَّاسَ) لغير معيّن ، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس ، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله (يَوْمَ تَرَوْنَها) ، وإنما أوثر الإفراد هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع. وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله (وَتَرَى) لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] وقوله (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨].

وقرأ الجمهور (سُكارى) ـ بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف ـ. ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ. وقوله بعده (وَما هُمْ بِسُكارى) قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

وقرأه حمزة والكسائي (سُكارى) بوزن عطشى في الموضعين. وسكارى وسكرى


جمع سكران. وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر ، وقياس جمعه سكارى. وأما سكرى فهو محمول على نوكى لما في السكر من اضطراب العقل. وله نظير وهو جمع كسلان على كسالى وكسلى.

وجملة (وَما هُمْ بِسُكارى) في موضع الحال من الناس.

و (عَذابَ اللهِ) صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجع ، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبن ملائكة العذاب.

وجملة (وَما هُمْ بِسُكارى) في موضع الحال من (النَّاسَ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣))

عطف على جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الحج : ١] ، أي الناس فريقان : فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه ، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته. وهذا الفريق هم أئمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدّون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه.

والاقتصار على ذكرهم إيماء إلى أنهم لو لا تضليلهم قومهم وصدهم إياهم عن متابعة الدين لاتّبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولها في الفطرة.

وقيل : أريد ب (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي ، فتكون (من) الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل من تصدق عليه الصلة.

والمجادلة : المخاصمة والمحاجّة. والظرفية مجازية ، أي يجادل جدلا واقعا في شأن الله. ووصف الجدل بأنه بغير علم ، أي جدلا ملتبسا بمغايرة العلم ، وغير العلم هو الجهل ، أي جدلا ناشئا عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء.

واتباع الشيطان : الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عرض على نظر واستدلال.

وكلمة (كل) في قوله (كُلَّ شَيْطانٍ) مستعملة في معنى الكثرة. كما سيأتي قريبا عند قوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) [الحج : ٢٧] في هذه السورة. وتقدم في تفسير قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) في [سورة البقرة : ١٤٥].


والمريد : صفة مشبهة من مرد ـ بضم الراء ـ على عمل ، إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل ، وكأنه محول من مرد بفتح الراء ـ بمعنى مرن ـ إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية ، فالمريد صفة مشبهة ، أي العاتي في الشيطنة.

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

جملة (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) إلى آخرها صفة ثانية ل (شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [الحج: ٣] ، فالضمير المجرور عائد إلى (شَيْطانٍ). وكذلك الضمائر في (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ).

وأما الضميران البارزان في قوله (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) فعائدان إلى (من) الموصولة ، أي يضل الشيطان متوليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير.

واتفقت القراءات العشر على قراءة (كُتِبَ) ـ بضم الكاف ـ على أنه مبني للنائب. واتفقت أيضا على ـ فتح الهمزتين ـ من قوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ).

والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم ، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير ، فأطلق على لزوم ذلك فعل (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي وجب عليه ، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة. قال الحارث بن حلّزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

والضمير في (أَنَّهُ) عائد إلى (شَيْطانٍ) [الحج : ٣] وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل (كُتِبَ) ، إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة ، والمصدران المنسبكان من قوله (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) وقوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) نائب فعل (كُتِبَ) ومفرع عليه بفاء الجزاء ، أي كتب عليه إضلال من تولاه. والتولي : اتّخاذ ولي ، أي نصير ، أي من استنصر به.

و (من) موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابت لا على التعليق بالشرط. وهي مبتدأ ثان ، والضمير المستتر في قوله (تَوَلَّاهُ) عائد إلى (من) الموصولة.

والضمير المنصوب البارز عائد إلى (شَيْطانٍ) [الحج : ٣] ، أي أن الذي يتخذ الشيطان وليا فذلك الشيطان يضله.

والفاء في قوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) داخلة على الجملة الواقعة خبرا عن (من) الموصولة


تشبيها لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشبه الموصول بالشرط قصدا لتقوية الإخبار. والمصدر المنسبك من قوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبرا عن (من) الموصولة. والتقدير : فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير. وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ. والتقدير : ثابتان.

ويجوز أن تجعل الفاء في قوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) فاء تفريع ويجعل ما بعدها معطوفا على (مَنْ تَوَلَّاهُ) ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع. والتقدير: كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتولّيه وترتب إيصاله متوليه إلى عذاب السعير.

هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات.

واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في [سورة براءة : ٦٣] (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) لأن مقتضى فعل العلم غير مقتضى فعل (كتب). فلذلك كانت (من) في قوله (مَنْ يُحادِدِ) شرطية لا محالة وكان الكلام جاريا على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله (أَنَّهُ) ضمير شأن.

ولما كان الضلال مشتهرا في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل (يُضِلُّهُ) لظهور المعنى.

وذكر متعلق فعل (يَهْدِيهِ) وهو (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهدي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب.

وفي الجمع بين (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) محسن الطباق بالمضادة. وقد عدّ من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) النضر بن الحارث. وقيل نزلت فيه ؛ كان كثير الجدل يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت ترابا. وعد منهم أيضا أبو جهل ، وأبيّ بن خلف. ومن قال : إن المقصود بقوله (مَنْ يُجادِلُ) معينا خص الآية به ، ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى


أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)

أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة ، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم ، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه. وهو الخلق الأول. قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥]. فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب ، ثم كونه من ماء. ثم خلقه أطوارا عجيبة ، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه ، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه.

ودخول المشركين بادئ ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث ، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم.

وجعل ريبهم في البعث مفروضا ب (إن) الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبه كما في قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥].

والظرفية المفادة ب (في) مجازية. شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف.

وجملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جوابا لهذا الشرط بل هي دليل الجواب ، والتقدير : فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت ، أو التقدير : فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب.

والذي خلق من تراب هو أصل النوع ، وهو آدم ـ عليه‌السلام ـ وحواء ، ثم كونت


في آدم وزوجه قوة التناسل ، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب (ثم).

والنطفة : اسم لمني الرجل ، وهو بوزن فعلة بمعنى مفعول ، أي منطوف ، والنطف : القطر والصب. والعلقة : القطعة من الدم الجامد اللين.

والمضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ مثله ، وهي فعلة بمعنى مفعولة بتأويل : مقدار ممضوغة. و (ثم) التي عطف بها (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي.

و (من) المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد.

وكون الإنسان مخلوقا من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مدة الحيض جزءا هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين ، وهذا الجزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي (المبيض) ـ بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان ـ لأنه مقر بيضات دقيقة هي حبيبات دقيقة جدا وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت ، مودعة في كرة دقيقة كالغلاف لها يقال لها (الحويصلة) ـ بضم الحاء بصيغة تصغير حوصلة ـ تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحويصلة ، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى (بوق فلوبيوس) لشبهه بالبوق ، وأضيف إلى (فلوبيوس) اسم مكتشفه وهو البرزخ بين المبيض والرحم ، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي. وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل ، وبعد أربعين يوما تصير البيضة علقة في حجم نملة كبيرة طولها من ١٢ إلى ١٤ مليمتر ، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لحم هي المسماة (مضغة) طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جدا كالخطوط ، ثم يزداد التشكل يوما فيوما إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفع للخروج وهو الولادة.

فقوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) صفة (مُضْغَةٍ). وذلك تطور من تطورات المضغة. أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة ، أي غير ظاهر فيها شكل الخلقة ، ثم تكون مخلّقة ، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف ، ولذلك


لم يذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة ، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة. وإذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لا زمان للمضغة ، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت.

والتخليق : صيغة تدل على تكرير الفعل ، أي خلقا بعد خلق ، أي شكلا بعد شكل.

وقدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال ، وذكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم. فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام.

ولذلك عقب بقوله تعالى (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلا واضحا على إمكان الإحياء بعد الموت.

واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدر من فعل ونحوه تدل عليه جملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) إلخ ، وهو فعل : فاعلموا ، أو فنعلمكم ، أو فانظروا.

وحذف مفعول (لِنُبَيِّنَ) لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة ، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا.

وجملة (وَنُقِرُّ) عطف على جملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ). وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم ، مع تفاوت القرار. فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر ، ومنها ما يزيد على ذلك ، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد.

والأجل : الأمد المجعول لإتمام عمل ما ، والمراد هنا مدة الحمل.

والمسمّى : اسم مفعول من سماه ، إذا جعل له اسما ، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيها لضبط الأمور غير المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب ، بتسمية الشخص بوجه شبه يميزه عما شابهه. ومنه قول الفقهاء : المهر المسمّى ، أي المعيّن من نقد معدود أو عرض موصوف ، وقول الموثقين : وسمّى لها من الصداق كذا وكذا.


ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبل وضعه. والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام ، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض ، وكلّ معين في علم الله تعالى. وتقدم في قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) في [سورة البقرة : ٢٨٢].

وعطف جملة (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) بحرف (ثم) للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود. وقوله (طِفْلاً) حال من ضمير (نُخْرِجُكُمْ) ، أي حال كونكم أطفالا. وإنما أفرد (طِفْلاً) لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع.

وجملة (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) مرتبطة بجملة (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) ارتباط العلّة بالمعلول ، واللام للتعليل. والمعلّل فعل (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).

وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة علم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل. وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).

وحرف (ثم) في قوله : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) تأكيد لمثله في قوله (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً). هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي.

وإنما جعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) فجعل «الأشد» كأنه الغاية المقصودة من تطويره.

والأشدّ : سن الفتوة واستجماع القوى. وقد تقدم في [سورة يوسف : ٢٢] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً).

ووقع في [سورة المؤمن : ٦٧] (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) ، فعطف طور الشيخوخة على طور الأشد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير ، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة ، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال ، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد ، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفرا يردون إلى أرذل العمر ، وهو طور الشيخوخة بقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى


أَرْذَلِ الْعُمُرِ).

وجيء بقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءا ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث. والمعنى : ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار. وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم ، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن [٦٧] : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ).

وقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) هو عديل قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى). وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب.

وجعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصودا عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية. قال تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس : ٦٨] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم.

وقوله (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) أي بعد ما كان علمه فيما قبل أرذل العمر.

و (من) الداخلة على (بعد) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة (من) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب (من) في قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) في [سورة النحل : ٧٠].

والآيتان بمعنى واحد فذكر (من) هنا تفنّن في سياق العبرتين.

و (شَيْئاً) واقع في سياق النفي يعم كل معلوم ، أي لا يستفيد معلوما جديدا. ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد ، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك.

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).


عطف على جملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام.

وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالة مشاهدة فلذلك افتتح بفعل الرؤية ، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غير مشاهد فقيل في شأنه (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) الآية. ومحل الاستدلال من قوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) ، فهو مناسب قوله في الاستدلال الأول (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت.

والهمود : قريب من الخمود ، فهمود الأرض جفافها وزوال نبتها ، وهمود النار خمودها.

والاهتزاز : التحرك إلى أعلى ، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى.

وربت : حصل لها ربو ـ بضمّ الراء وضم الموحدة ـ وهو ازدياد الشيء يقال : ربا يربو ربوا ، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر. وقرأ أبو جعفر وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة ، أي ارتفعت. ومنه قولهم : ربأ بنفسه عن كذا ، أي ارتفع مجازا ، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو ربوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم.

والزوج : الصنف من الأشياء. أطلق عليه اسم الزوج تشبيها له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى ، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجا فيسمى كلّ واحد منهما زوجا بهذا المعنى ، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين ، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكرا ولا أنثى ، فأطلق هنا على أنواع النبات.

والبهيج : الحسن المنظر السارّ للناظر ، وقد سيق هذا الوصف إدماجا للامتنان في أثناء الاستدلال امتنانا بجمال صورة الأرض المنبتة ، لأن كونه بهيجا لا دخل له في الاستدلال ، فهو امتنان محض كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦] وقوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥].


[٦ ، ٧] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

فذلكة لما تقدم ، فالجملة تذييل.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه ، ومن إحياء الأرض بعد موتها وانبثاق النبت منها.

وإفراد حرف الخطاب المقترن باسم الإشارة لإرادة مخاطب غير معيّن على نسق قوله (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) [الحج : ٥] على أن اتصال اسم الإشارة بكاف خطاب الواحد هو الأصل.

والمجرور خبر عن اسم الإشارة ، أي ذلك حصل بسبب أن الله هو الحق إلخ .. والباء للسببية فالمعنى : تكوّن ذلك الخلق من تراب وتطور ، وتكوّن إنزال الماء على الأرض الهامدة والنبات البهيج بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره. ويجوز أن تكون الباء للملابسة ، أي كان ذلك الخلق وذلك الإنبات البهيج ملابسا لحقيّة إلهيّة الله. وهذه الملابسة ملابسة الدليل لمدلوله ، وهذا أرشق من حمل الباء على معنى السببية وهو أجمع لوجوه الاستدلال.

والحق : الثابت الذي لا مراء فيه ، أي هو الموجود. والقصر إضافي ، أي دون غيره من معبوداتكم فإنها لا وجود لها ، قال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [الحج : ٢٣] وهذا الاستدلال هو أصل بقية الأدلة لأنه نقض للشرك الذي هو الأصل لجميع ضلالات أهله كما قال تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧].

وأما بقية الأمور المذكورة بعد قوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ، فهي لبيان إمكان البعث.

ووجه كون هذه الأمور الخمسة المعدودة في هذه الآية ملابسة لأحوال خلق الإنسان وأحوال إحياء الأرض أن تلك الأحوال دالة على هذه الأمور الخمسة : إما بدلالة المسبب على السبب بالنسبة إلى وجود الله وإلى ثبوت قدرته على كل شيء ، وإما بدلالة التمثيل على الممثّل والواقع على إمكان نظيره الذي لم يقع بالنسبة إلى إحياء الله الموتى ، ومجيء


الساعة ، والبعث. وإذا تبين إمكان ذلك حق التصديق بوقوعه لأنهم لم يكن بينهم وبين التصديق به حائل إلا ظنهم استحالته ، فالذي قدر على خلق الإنسان عن عدم سابق قادر على إعادته بعد اضمحلاله الطارئ على وجوده الأحرى ، بطريقة.

والذي خلق الأحياء بعد أن لم تكن فيها حياة يمكنه فعل الحياة فيها أو في بقيّة آثارها أو خلق أجسام مماثلة لها وإيداع أرواحها فيها بالأولى. وإذا كان كذلك علم أن ساعة فناء هذا العالم واقعة قياسا على انعدام المخلوقات بعد تكوينها ، وعلم أن الله يعيدها قياسا على إيجاد النسل وانعدام أصله الحاصل للمشركين في وقوع الساعة منزّل منزلة العدم لانتفاء استناده إلى دليل.

وصيغة نفي الجنس على سبيل التنصيص صيغة تأكيد ، لأن (لا) النافية للجنس في مقام النفي بمنزلة (إنّ) في مقام الإثبات ولذلك حملت عليها في العمل.

[٨ ـ ١٠] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

عطف على جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) [الحج : ٥] كما عطفت جملة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) على جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الحج : ١]. والمعنى : إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة ، فالناس بعد ذلك فريقان : فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقى في ريب ، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أئمّة الشرك وزعماء الباطل.

وجملة (لا رَيْبَ فِيها) [الحج : ٧] معترضة بين المتعاطفات ، أي ليس الشأن أن يرتاب فيها ، فلذلك نفي جنس الريب فيها ، أي فالريب.

المعنيّ بهذه الآية هو المعنيّ بقوله فيما مضى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [الحج : ٣] ، فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة ، فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث.


ودافعهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدم علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين.

ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث علم علمهم ما يجادلون فيه ، وانتفاء الهدى ، وانتفاء تلقي شريعة من قبل ، والتكبر عن الاعتراف بالحجة ، ومحبة إضلال الناس عن سبيل الله. فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة. ومن أساطين هذا الفريق من عدّوا في تفسير الآية الأولى مثل : النضر بن الحارث ، وأبي جهل ، وأبيّ بن خلف.

وقيل : المراد من هذه الآية بمن يجادل في الله : النضر بن الحارث. كرر الحديث عنه تبيينا لحالتي جداله ، وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل ، كما قيل : إن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل. وروي ذلك عن ابن عباس. وقيل : هو الأخنس بن شريق. وتقدم معنى قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في نظير هذه الآية. وقيل المراد ب (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [الحج : ٣] المقلدون ـ بكسر اللام ـ من المشركين الذين يتّبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر ، والمراد ب (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً) المقلّدون ـ بفتح اللام ـ أئمة الكفر.

والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله ، أي ولا هدى هو مهدي به. وتلك مجادلة المقلّد إذا كان مقلدا هاديا للحق مثل أتباع الرسل ، فهذا دون مرتبة من يجادل في الله بعلم ، ولذلك لم يستغن بذكر السابق عن ذكر هذا.

والكتاب المنير : كتب الشرائع مثل : التوراة والإنجيل ، وهذا كما يجادل أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير.

والمنير : المبين للحق. شبه بالمصباح المضيء في الليل.

ويجيء في وصف (كِتابٍ) بصفة (مُنِيرٍ) تعريض بالنضر بن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وبين كتاب أخبار رستم ، وكتاب أخبار إسفنديار المظلمة الباطلة.

والثّني : ليّ الشيء. يقال : ثنى عنان فرسه ، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها. ويطلق أيضا الثّني على الإمالة.


والعطف : المنكب والجانب. و (ثانِيَ عِطْفِهِ) تمثيل للتكبر والخيلاء. ويقال : لوى جيده ، إذا أعرض تكبرا. وهذه الصفة تنطبق على حالة أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا.

واللام في قوله (لِيُضِلَ) لتعليل المجادلة ، فهو متعلّق ب (يُجادِلُ) أي غرضه من المجادلة الإضلال.

وسبيل الله : الدّين الحق.

وقوله (لِيُضِلَ) ـ بضم الياء ـ أي ليضلل الناس بجداله. فهذا المجادل يريد بجدله أن يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه.

وإفراد الضمير في قوله (عِطْفِهِ) وما ذكر بعده مراعاة للفظ (من) وإن كان معنى تلك الضمائر الجمع.

وخزي الدنيا : الإهانة ، وهو ما أصابهم من القتل يوم بدر ومن القتل والأسر بعد ذلك. وهؤلاء هم الذين لم يسلموا بعد. وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما ابنا عفراء. وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يخطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره.

وينطبق الخزي أيضا على ما حلّ بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبرا في موضع يقال له : الأثيل قرب المدينة عقب وقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة :

صبرا يقاد إلى المنية متعبا

صبر المقيّد وهو عان موثق

وإذ كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محالة كان قوله تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القرآن.

وإذاقة العذاب تخييل للمكنيّة.

وجملة (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) مقول قول محذوف تدل عليه صيغة الكلام وهي جملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من ضمير النصب في قوله تعالى (وَنُذِيقُهُ).

و (قَدَّمَتْ) بمعنى : أسلفت. جعل كفره كالشيء الذي بعث به إلى دار الجزاء قبل أن يصل هو إليها فوحده يوم القيامة حاضرا ينتظره قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا


حاضِراً) [الكهف : ٤٩].

والإشارة إلى العذاب والباء سببية. و (ما) موصولة. وعطف على (ما) الموصولة قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لأنه في تأويل مصدر ، أي وبانتفاء ظلم الله العبيد ، أي ذلك العذاب مسبب لهذين الأمرين فصاحبه حقيق به لأنه جزاء فساده ولأنه أثر عدل الله تعالى وأنه لم يظلمه فيما أذاقه.

وصيغة المبالغة تقتضي بظاهرها نفي الظلم الشديد ، والمقصود أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد فصيغت له زنة المبالغة ، وكذلك التزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن ، وقد اعتاد جمع من المتأخرين أن يجعلوا المبالغة راجعة للنفي لا للمنفي وهو بعيد.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١))

هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المعرض عنها إعراضا تاما ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام. فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخير عقب ذلك علموا أن دينهم القديم ليس بحق وأنّ آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق ، وإن أصابهم شرّ من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه. وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضبا من مفارقتهم عبادتها كما حكى الله عن عاد إذ قالوا لرسولهم (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤].

فالعبادة في قوله تعالى (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) [الحج : ١٢].

والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة ، ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء.


وفي رواية الحسن : أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل : عبد الله بن أبي بن سلول ، وهذا بعيد لأنّ أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ). وممن يصلح مثالا لهذا الفريق العرنيّون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلمّا صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذّود وفروا ، فألحق بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطلب في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا.

وفي حديث «الموطأ» : أن أعرابيا أسلم وبايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصابه وعك بالمدينة ، فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقيله بيعته فأبى أن يقيله ، فخرج من المدينة فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها» فجعله خبثا لأنه لم يكن مؤمنا ثابتا. وذكر الفخر عن مقاتل أن نفرا من أسد وغطفان قالوا : نخاف أن لا ينصر الله محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) [الحج : ١٥] الآيات.

وعن الضحاك : أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم ، منهم : عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعبّاس بن مرداس قالوا : ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيرا عرفنا أنه حق ، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل. وهذا كله ناشئ عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية ، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية. وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبّر عن ذلك قوله تعالى (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها.

وحرف الشيء طرفه وجانبه سواء كان مرتفعا كحرف الجبل والوادي أم كان مستويا كحرف الطريق. ويطلق الحرف على طرف الجيش ويجمع على طرف بوزن عنب قال في «القاموس» : ولا نظير له سوى طل وطلل.

وقوله تعالى : (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) تمثيل لحال المتردد في عمله ، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جبل أو حرف واد فهو متهيّئ لأن يزل عنه إلى أسفله فينقلب ، أي ينكب.

ومعنى اطمأن : استقر وسكن في مكانه. ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطمأنينة. وتقدم في قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في [سورة البقرة : ٢٦٠].


والمعنى : استمر على التوحيد فرحا بالخير الذي أصابه ، واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمنا إذا زال عنه التردد. وحال هؤلاء قريب من حال المؤلّفة قلوبهم.

والانقلاب : مطاوع قلبه إذا كبّه ، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسفله كما يقلب القالب ـ بفتح اللام ـ. فالانقلاب مستعمل في حقيقته ، والكلام تمثيل. وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله (عَلى وَجْهِهِ) أي سقط وانكب عليه ، كقول امرئ القيس :

يكب على الأذقان دوح الكنهبل

وكقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبّه الله على وجهه».

وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضا الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف.

ويطلق الانقلاب كثيرا على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها ، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون. ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه : انقلب على عقبيه لا على وجهه ، كما قال تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه.

والفتنة : اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له ، وهي مقابل الخير.

وجملة (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) بدل اشتمال من جملة (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ).

وجملة (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) معترضة بين جملة (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) وجملة (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) [الحج : ١٢] التي هي في موضع الحال من ضمير (انْقَلَبَ) أي أسقط في الشرك.

والخسران : تلف جزء من أصل مال التجارة ، فشبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله ، وثني على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به ، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال.

وتعليق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف. والتقدير خسر خير الدنيا وخير


الآخرة.

فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة ، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجوّ له.

والمبين : الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل. والمراد أنه خسران شديد لا يخفى.

والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند إليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان.

وضمير (هُوَ) ضمير فصل ، والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي. ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم ، والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه. وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢))

جملة (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) إلخ حال من ضمير (انْقَلَبَ) [الحج : ١١].

وقدم الضر على النفع في قوله (ما لا يَضُرُّهُ) إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنبا للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه ، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسبا أنها لا تضره. وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى : (وَما لا يَنْفَعُهُ) أي فهو مخطئ في دعائه الأصنام لتزيل عنه الضر فينتفع بفعلها.

والمعنى : أنها لا تفعل ما يجلب ضرّا ولا ما يجلب نفعا.

والإشارة في قوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ) إلى الدعاء المستفاد من (يَدْعُوا).

والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدّم في قوله (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج : ١١].

والبعيد : المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال ، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لاغناء له.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))


جملة في موضع حال ثانية ، ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام. فبعد أن بيّن لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر. فموضع الارتقاء هو مضمون جملة (ما لا يَضُرُّهُ) [الحج : ١٢] كأنه قيل : ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضرّ. وذلك أن عبادة الأصنام تضرّه في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار.

ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضرا ناشئا عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ولم يقل : لمن يضر ولا ينفع ، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله (ما لا يَضُرُّهُ) [الحج : ١٢] وقوله (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ).

وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحّضه للضرّ وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلّا الضر.

واللام في قوله (لَمَنْ) لام الابتداء ، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها ، فلام الابتداء تفيد مفاد (إنّ) من التأكيد.

وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة (من الموصولة. والأصل : يدعو من لضره أقرب من نفعه).

ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على (من) الموصولة ويكون فعل (يَدْعُوا) معلقا عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب.

وجملة (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه ، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادرا كان مذمة وغضاضة ، فأما أن يكون ذلك منه مطردا فذلك شر الموالي.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

هذا مقابل قوله (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٩] وقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١]. فالجملة معترضة ، وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب


الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين.

وجملة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) تذييل للكلام المتقدم من قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج : ٨] إلى هنا ، وهو اعتراض بين الجمل الملتئم منها الغرض. وفيها معنى التعليل الإجمالي لاختلاف أحوال الناس في الدنيا والآخرة.

وفعل الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سنة نظام هذا العالم ، وتبيينه الخير والشرّ ، وترتيبه الثواب والعقاب ، وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى.

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥))

موقع هذه الآية غامض ، ومفادها كذلك. ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالا.

فيحتمل أن يكون موقعها استئنافا ابتدائيا أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج : ٨] الآية ، وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١]. وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطئوا نصر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجّلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون.

ويحتمل أن يكون موقعها تذييلا لقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] الآية بعد أن اعترض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد : أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١] هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إن بقوا على الإسلام.

فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاء ، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل (لَنْ يَنْصُرَهُ) بالمجرور بقوله (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١]. فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده ، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم ، وهؤلاء مشركون مترددون.

ويترجح هذا الاحتمال بتغيير أسلوب الكلام ، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله


(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ) [الحج : ١١] ولم تورد فيه جملة (وَمِنَ النَّاسِ) كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق. فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله (مَنْ كانَ يَظُنُ) إلخ إظهارا في مقام الإضمار ؛ فإن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ذلك الفريق فيقال بعد قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [الحج : ١٤] ، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) إلخ ... عائدا الضمير المستتر في قوله (فَلْيَمْدُدْ) على (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١].

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين ، أحدهما : بعد معاد الضمير ، وثانيهما : التنبيه على أنّ عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين.

وضمير النصب في (يَنْصُرَهُ) عائد إلى (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] على كلا الاحتمالين.

واسم (السَّماءِ) مراد به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضا أخذا بما رواه القرطبي عن ابن زيد (يعني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم) أنه قال في قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) قال : هي السماء المعروفة ، يعني المظلة. فالمعنى : فلينط حبلا بالسماء مربوطا به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئا من إزالة غيظه.

ومفعول (لْيَقْطَعْ) محذوف لدلالة المقام عليه. والتقدير : ثم ليقطعه ، أي ليقطع السبب.

والأمر في قوله (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) للتعجيز ، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرط لا يقع كقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣].

وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نسجت على إيجاز بديع ، شبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارهم الإسلام على حنق ، أو حالة تردّدهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم : عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سبل الانفراج ، فامددوا حبلا بأقصى ما يمدّ إليه حبل ، وتعلّقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخرّوا إلى الأرض ، وذلك تهكم بهم


في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم ، وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة.

ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطئوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومرتابين في نيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضرّ الله ولا رسوله ولا يكيد الدين وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم ، ولعلّ هؤلاء من المنافقين.

فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف ، والمناسبة ظاهرة.

ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير (يَنْصُرَهُ اللهُ) عائدا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج.

ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضا بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. قال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ٢٣ ـ ٢٤] الآية.

والسبب : الحبل. وتقدم في قوله (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) في [سورة البقرة : ١٦٦].

والقطع : قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس.

و (ما) مصدرية ، أي غيظه.

والاستفهام ب (هَلْ) إنكاري ، وهو معلق فعل (فَلْيَنْظُرْ) عن العمل ، والنظر قلبي ، وسمي الفعل كيدا لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه.

وقرأ الجمهور (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ـ بسكون لام ـ ليقطع وهو لام الأمر. فإذا كان في أول الكلمة كان مكسورا ، وإذا وقع بعد عاطف غير (ثمّ) كان ساكنا مثل (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) [آل عمران : ١٠٤]. فإذا وقع بعد (ثم) جاز فيه الوجهان. وقرأه ابن عامر ، وأبو عمرو وورش عن نافع ، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب ـ بكسر اللام ـ.


(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

لما تضمنت هذه الآيات تبيين أحوال الناس تجاه دعوة الإسلام بما لا يبقى بعده التباس عقبت بالتنويه بتبيينها ، بأن شبه ذلك التبيين بنفسه كناية عن بلوغه الغاية في جنسه بحيث لا يلحق بأوضح منه ، أي مثل هذا الإنزال أنزلنا القرآن آيات بيّنات.

فالجملة معطوفة على الجمل التي قبلها عطف غرض على غرض. والمناسبة ظاهرة ، فهي استئناف ابتدائي. وعطف على التنويه تعليل إنزاله كذلك بأن الله يهدي من يريد هديه أي بالقرآن. فلام التعليل محذوفة ، وحذف حرف الجر مع (أن) مطّرد.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

فذلكة لما تقدم ، لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مثارا لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان ، وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدّعي أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك.

فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة ، إذ لم تفدهم الحجج في الدنيا.

وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض ، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه ، لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى : ١٥] وذلك من قبيل الكناية التعريضية.

وذكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود.

وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين ، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل الملل ، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.


فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين : إلها للخير ، وإلها للشرّ ، وهم أهل فارس. ثم هي تتشعب شعبا تأوي إلى هذين الأصلين. وأقدم النحل المجوسية أسسها (كيومرث) الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم عليه‌السلام ، ولذلك يلقب أيضا بلقب (جل شاه) (١) تفسيره : ملك الأرض. غير أن ذلك ليس مضبوطا بوجه علمي وكان عصر (كيومرث) يلقب (زروان) أي الأزل ، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة : الزروانية وهي تثبت إلهين هما (يزدان) و (أهرمن). قالوا : كان يزدان منفردا بالوجود الأزلي ، وأنه كان نورانيا ، وأنه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة ثم حدث له خاطر في نفسه : أنه لو حدث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي (أهرمن) وهو إله الظلمة مطبوعا على الشرّ والضرّ. وإلى هذا أشار أبو العلاء المعرّي بقوله في لزومياته :

قال أناس باطل زعمهم

فراقبوا الله ولا تزعمن

فكّر يزدان على غرّة

فصيغ من تفكيره أهرمن

فحدث بين (أهرمن) وبين (يزدان) خلاف ومحاربة إلى الأبد. ثمّ نشأت على هذا الدّين نحل خصّت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة (زرادشت) الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح ، وبه اشتهرت المجوسية. وقد سمي إله الخير (أهورامزدا) أو (أرمزد) أو (هرمز) ، وسمي إله الشرّ (أهرمن) ، وجعل إله الخير نورا ، وإله الشر ظلمة. ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النّور.

ووسّع شريعة المجوسية ، ووضع لها كتابا سمّاه «زندافستا». ومن أصول شريعته تجنّب عبادة التماثيل.

ثم ظهرت في المجوس نحلة «المانوية» ، وهي المنسوبة إلى (ماني) الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة ٢٣٨ وسنة ٢٧١ م.

وظهرت في المجوس نحلة (المزدكية) ، وهي منسوبة إلى (مزدك) الذي ظهر في زمن قباذ بين سنة ٤٨٧ وسنة ٥٢٣ م. وهي نحلة قريبة من (المانوية) ، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسيّة قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس.

__________________

(١) لعل صواب العبارة «جهان شاه».


وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار ، وبأن لها كتابا ، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب. ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أي في الاكتفاء بأخذ الجزية منهم دون الإكراه على الإسلام كما يكره المشركون على الدخول في الإسلام.

وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) في [سورة النحل : ٥١].

وأعيدت (إنّ) في صدر الجملة الواقعة خبرا عن اسم (إنّ) الأولى توكيدا لفظيا للخبر لطول الفصل بين اسم (إن) وخبرها. وكون خبرها جملة وهو توكيد حسن بسبب طول الفصل. وتقدم منه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) في [سورة الكهف : ٣٠]. وإذا لم يطل الفصل فالتوكيد بإعادة (إن) أقل حسنا كقول جرير :

إنّ الخليفة أنّ الله سربله

سربال ملك به تزجى الخواتيم

ولا يحسن إذا كان مبتدأ الجملة الواقعة خبرا ضمير اسم (إنّ) الأولى كما تقول : إن زيدا إنه قائم ، بل لا بد من الاختلاف ليكون المؤكد الثاني غير الأول فتقبل إعادة المؤكد وإن كان المؤكّد الأول كافيا.

والفصل : الحكم ، أي يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من تصحيح الديانة.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا للإعلام بإحاطة علم الله بأحوالهم واختلافهم والصحيح من أقوالهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية. وهي مرتبطة بمعنى قوله (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) إلى قوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) [الحج : ١٢ ، ١٣] ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية. وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من


دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه.

وما وقع بين هاتين الجملتين استطراد واعتراض.

والرؤية : علمية. والخطاب لغير معين.

والاستفهام إنكاريّ. أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستفهام تقريريا ، لأنّ حصول علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل. وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين.

وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه ، وهو حسن وإن أباه الزمخشري ، وقد حققناه في المقدمة التاسعة ، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي ، ولو لا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم.

ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله ، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع. وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى ، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلا في حالهم كحال المخلوقات الأخرى.

وجملة (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) معترضة بالواو.

وجملة (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) مكنّى بها عن ترك السجود لله ، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله ، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار. فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به.

وجملة (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) اعتراض ثان بالواو.

والمعنى : أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة.


وجملة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرف التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل ، فتغني (أنّ) غناء حرف التعليل أو السببية.

وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء.

[١٩ ـ ٢٢] (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢))

مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة (هذانِ خَصْمانِ) موقع الاستئناف البياني. لأن قوله (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [الحج : ١٨] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى ، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك ، فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [الحج : ١٨] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [الحج : ١٨] من كون أولئك فريقين : فريق يسجد لله تعالى ، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين ، ومثلها كثير في الكلام.

والاختصام : افتعال من الخصومة ، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال : خاصمه واختصما ، وهو من الأفعال المقتضية جانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحدا. وتقدم قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) في [سورة النساء : ١٠٥]. واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاء جلبته ، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيدا للتفصيل في قوله (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ).

فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين.

ووقع في «الصحيحين» عن أبي ذرّ : أنه كان يقسم أنّ هذه الآية (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبة بن الحارث الذين


بارزوا يوم بدر شيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة.

وفي «صحيح البخاري» عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس بن عبادة : وفيهم نزلت (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة. وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عبادة ، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون (هذانِ) إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنزّل حضور قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد ، وهو استعمال في كلام البلغاء ، ومنه قول الأحنف بن قيس : «خرجت لأنصر هذا الرجل» يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين.

والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم ، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية. ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين. والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازا مرسلا لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة.

واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص : ٢١] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى : (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).

ومعنى (فِي رَبِّهِمْ) في شأنه وصفاته ، فالكلام على حذف مضاف ظاهر. وقرأ الجمهور هذان ـ بتخفيف النون ـ. وقرأه ابن كثير ـ بتشديد النون ـ وهما لغتان.

والتقطيع : مبالغة القطع ، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته. والمراد : قطع شقّة الثوب. وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده ، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار. والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شئون الآخرة.

والحميم : الماء الشديد الحرارة.


والإصهار : الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس ، يقال : أصهره وصهّره.

وما في بطونهم : أمعاؤهم ، أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم.

والمقامع : جمع مقمعة ـ بكسر الميم ـ بصيغة اسم آلة القمع. والقمع : الكف عن شيء بعنف. والمقمعة : السوط ، أي يضربون بسياط من حديد.

ومعنى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) أنهم لشدة ما يغمهم ، أي يمنعهم من التنفس ، يحاولون الخروج فيعادون فيها فيحصل لهم ألم الخيبة ، ويقال لهم : ذوقوا عذاب الحريق.

والحريق : النار الضخمة المنتشرة. وهذا القول إهانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه.

[٢٣ ، ٢٤] (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفا بالواو على جملة (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩] لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] بأن يقال : والذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم الله جنات ... إلى آخره. فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلا مفتتحا بحرف التأكيد ومتوّجا باسم الجلالة ، والبليغ لا تفوته معرفة أنّ هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة.

فقوله : (يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ مقابل قوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢]. وقوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) يقابل قوله (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩]. وقوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) مقابل قوله : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩]. وقوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) مقابل قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٢٢] فإنه من القول النكد.


والتحلية وضع الحلي على أعضاء الجسم. حلّاه : ألبسه الحلي مثل جلبب.

والأساور : جمع أسورة الذي هو جمع سوار. أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) في [سورة الكهف : ٣١].

و (من) في قوله (مِنْ أَساوِرَ) زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يحلّون أساور معرّضا للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي ، ولذلك ف (أَساوِرَ) في موضع المفعول الثاني ل (يُحَلَّوْنَ).

(وَلُؤْلُؤاً) قرأه ناقع ، ويعقوب ، وعاصم ـ بالنصب ـ عطفا على محل (أَساوِرَ) أي يحلون لؤلؤا أي عقودا ونحوها. وقرأه الباقون ـ بالجرّ عطفا على اللفظ ـ والمعنى : أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ.

وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر لؤلؤ مخالفة لمكتوب المصحف. والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجبا على من يروي بما يخالفه. وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف ، والذين قرءوه بالنصب خالفوا أيضا خط المصحف واعتمدوا روايتهم.

وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأنّ التأكيد تعلّق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف.

واللؤلؤ : الدّر. ويقال له الجمان والجوهر. وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقراق تستخرج من أجواف حيوان مائي حلزوني مستقرّ في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غلافه صدفا ، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه. وهذا الحيوان يوجد في عدّة بحار : كبحر العجم وهو المسمّى بالبحرين ، وبحر الجابون ، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية ، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات ، ويستخرجه غوّاصون مدرّبون على التقاطه من قعر البحر بالغوص ، يغوص الغائص مشدودا بحبل بيد من يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط. وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علس أو الأعشى :


لجمانة البحريّ جاء بها

غوّاصها من لجّة البحر

نصف النّهار الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري

وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة :

فجاء بها ما شئت من لطميّة

على وجهها ماء الفرات يموج

وقد أشارت إليه آية [سورة النحل : ١٤] (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها).

ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد (يُحَلَّوْنَ) بصيغة الاسم دون (يلبسون) لتحصيل الدلالة على الثّبات والاستمرار كما دلّت صيغة (يُحَلَّوْنَ) على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة ، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل : يحلّون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه.

والحرير : يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا. وأصل اسم الحرير اسم لخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفّها لفّا بعضها إلى بعض مثل كبّة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدّة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه. وإنما تحصّل الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيطلقونها خيطا واحدا طويلا. ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان. وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديما وحديثا ، وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريبا حيث يكثر شجر التوت ، لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان علفه ورق التّوت ، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التّوت. وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصّلون الحرير إلّا من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية. وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب ، ثم نقل بزر دود الحرير الذي يتولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الأمبراطور (بوستنيانوس) بين سنة ٥٢٧ وسنة ٥٦٥ م. ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف. وعرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي.

ومعنى (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أن الله يرشدهم إلى أقوال ، أي يلهمهم


أقوالا حسنة يقولونها بينهم ، وقد ذكر بعضها في قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] وفي قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر : ٧٤].

ويجوز أن يكون المعنى : أنهم يرشدون إلى أماكن يسمعون فيها أقوالا طيبة. وهو معنى قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٤]. وهذا أشد مناسبة بمقابلة مما يسمعه أهل النار في قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٢٢].

وجملة (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) معترضة في آخر الكلام ، والواو للاعتراض ، هي كالتكملة لوصف حسن حالهم لمناسبة ذكر الهداية في قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) ، ولم يسبق مقابل لمضمون هذه الجملة بالنسبة لأحوال الكافرين وسيجيء ذكر مقابلها في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥] وذلك من أفانين المقابلة. والمعنى : وقد هدوا إلى صراط الحميد في الدنيا ، وهو دين الإسلام ، شبه بالصراط لأنه موصل إلى رضى الله.

والحميد من أسماء الله تعالى ، أي المحمود كثيرا فهو فعيل بمعنى مفعول ، فإضافة (صِراطِ) إلى اسم «الله» لتعريف أيّ صراط هو. ويجوز أن يكون (الْحَمِيدِ) صفة ل (صِراطِ) ، أي المحمود لسالكه. فإضافة صراط إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، والصراط المحمود هو صراط دين الله. وفي هذه الجملة إيماء إلى سبب استحقاق تلك النعم أنه الهداية السابقة إلى دين الله في الحياة الدنيا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

هذا مقابل قوله (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) [الحج : ٢٤] بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابل في الأحوال المذكورة في آية (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩] كما تقدم. فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني. والمعنى : كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبب استحقاق المشركين ذلك العذاب كفرهم وصدّهم عن سبيل الله.


وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام ، وتهويل أمر الإلحاد فيه ، والتنويه به وتنزيهه عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعدوان.

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به.

وجاء (يَصُدُّونَ) بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهروهم على ذلك الصد ووافقوهم.

أما صيغة الماضي في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٢٤].

وسبيل الله : الإسلام ، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار ، كما حقق اهتداء المؤمنين إليه لهم نعيم الجنّة.

والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به ، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام ، وذكر بنائه ، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم. والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ. ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت. والمعروف من ذلك أنهم منعوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمرا وقال لصاحبه أميّة بن خلف : انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت ، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعرفه. فقال له أبو جهل : أتطوف بالكعبة آمنا وقد أوتيتم الصباة؟ (يعني المسلمين). ومن ذلك ما صنعوه يوم الحديبية. وقد قيل : إنّ الآية نزلت في ذلك. وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة.

ووصف المسجد بقوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكف فيه ، أي المستقرّ في المسجد ، والبادي ، أي البعيد عنه إذا دخله.

والمراد بالعاكف : الملازم له في أحوال كثيرة ، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيرا في المسجد الحرام ، بدليل مقابلته بالبادي ، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازا بعلاقة اللزوم العرفي. وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم ، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من


الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة.

وقرأ الجمهور (سَواءً) ـ بالرفع ـ على أنه مبتدأ و (الْعاكِفُ فِيهِ) فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والجملة مفعول ثان ل (جَعَلْناهُ). وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل (جَعَلْناهُ).

والعكوف : الملازمة. والبادي : ساكن البادية.

وقوله (سَواءً) لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجدا إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي : الطواف ، والسّعي ، ووقوف عرفة.

وكتب (وَالْبادِ) في المصحف بدون ياء في آخره ، وقرأ ابن كثير والبادي بإثبات الياء على القياس لأنه معرف ، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفا باللام ، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها. وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل. ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف.

وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف. والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير.

وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دور مكة إثباتا ولا نفيا لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره. ويلحق به ما هو من تمام مناسكه : كالمسعى ، والموقف ، والمشعر الحرام ، والجمار. وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد. ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلّا ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة.

وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال : فكان عمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون : إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه. وكانت دور مكة تدعى السوائب في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما.

وقال مالك والشافعي : دور مكة ملك لأهلها ، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم ، ولهم إكراؤها للناس ، وإنما تجب المواساة عند الضرورة ، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله


عمر فهو من المواساة. وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجنا. وقال أبو حنيفة : دور مكة لا تملك وليس لأهلها أن يكروها. وقد ظنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحا. والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها. ووجه ذلك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما منّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي. ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم.

وخبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) محذوف تقديره : نذقهم من عذاب أليم ، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحادا بظلم فإن جملة (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) تذييل للجملة السابقة لما في (من) الشرطية من العموم.

والإلحاد : الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور. والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس.

والباء في (بِإِلْحادٍ) زائدة للتوكيد مثلها في (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]. أي من يرد إلحادا وبعدا عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته.

والباء في (بِظُلْمٍ) للملابسة. فالظلم : الإشراك ، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام.

و (من) في قوله : (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة (من) وقوعها بعد نفي أو نهي. ولك أن تجعلها للتبعيض ، أي نذقه عذابا من عذاب أليم.

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

عطف على جملة (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [الحج : ٢٥] عطف قصة على قصة.

ويعلم منها تعليل الجملة المعطوفة عليها بأن الملحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره حتى أمر ببنائه ، والتخلص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين وكفرانهم نعمة الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحجّ.


و (إذ) اسم زمان مجرد عن الظرفية فهو منصوب بفعل مقدّر على ما هو متعارف في أمثاله. والتقدير : واذكر إذ بوّأنا ، أي اذكر زمان بوّأنا لإبراهيم فيه كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، أي اذكر ذلك الوقت العظيم ، وعرف معنى تعظيمه من إضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية دون المصدر فصار بما يدلّ عليه الفعل من التجدد كأنه زمن حاضر.

والتبوئة : الإسكان. وتقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها) [يوسف : ٥٦].

والمكان : الساحة من الأرض وموضع للكون فيه ، فهو فعل مشتق من الكون ، فتبوئته المكان : إذنه بأن يتخذه مباءة ، أي مقرا يبني فيه بيتا ، فوقع بذكر (مَكانَ) إيجاز في الكلام كأنه قيل : وإذ أعطيناه مكانا ليتخذ فيه بيتا ، فقال : مكان البيت ، لأنّ هذا حكاية عن قصة معروفة لهم. وسبق ذكرها فيما نزل قبل هذه الآية من القرآن.

واللام في (لِإِبْراهِيمَ) لام العلة لأنّ إبراهيم مفعول أول ل (بَوَّأْنا) الذي هو من باب أعطى ، فاللام مثلها في قولهم : شكرت لك ، أي شكرتك لأجلك. وفي ذكر اللام في مثله ضرب من العناية والتكرمة.

و (الْبَيْتِ) معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولو لا هذه النكتة لكان ذكر (مَكانَ) حشوا. والمقصود أن يكون مأوى للدين ، أي معهدا لإقامة شعائر الدين.

فكان يتضمن بوجه الإجمال أنه يترقب تعليما بالدين فلذلك أعقب بحرف (أن) التفسيرية التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه. وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل معلما للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركا ، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس ، لإعلان التوحيد كما بيناه عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) في [سورة آل عمران : ٩٦].

وقوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) مؤذن بكلام مقدّر دلّ عليه (بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ). والمعنى : وأمرناه ببناء البيت في ذلك المكان ، وبعد أن بناه قلنا لا تشرك بي شيئا وطهّر بيتي.


وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة تشريف للبيت. والتطهير : تنزيهه عن كل خبيث معنى كالشرك والفواحش وظلم الناس وبثّ الخصال الذميمة ، وحسّا من الأقذار ونحوها ، أي أعدده طاهرا للطائفين والقائمين فيه.

والطواف : المشي حول الكعبة ، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة.

والمراد بالقائمين : الداعون تجاه الكعبة ، ومنه سمي مقام إبراهيم ، وهو مكان قيامه للدعاء فكان الملتزم موضعا للدعاء. قال زيد بن عمرو بن نفيل :

عذت مما عاذ به إبراهيم

مستقبل الكعبة وهو قائم

والركّع : جمع راكع ، ووزن فعّل يكثر جمعا لفاعل وصفا إذا كان صحيح اللام نحو : عذّل وسجّد.

والسجود : جمع ساجد مثل : الرقود ، والقعود ، وهو من جموع أصحاب الأوصاف المشابهة مصادر أفعالها.

[٢٧ ، ٢٨] (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) ِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

(وَأَذِّنْ) عطف على (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) [الحج : ٢٦]. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.

والتأذين : رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل ، أي أكثر الإخبار بالشيء. والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. ولكونه بمعنى الإخبار يعدّى إلى المفعول الثاني بالباء.

والناس يعمّ كل البشر ، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك.

والمراد بالحجّ : القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحجّ علما بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلا


إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع.

وفي تعليق فعل (يَأْتُوكَ) بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية. روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل إصبعيه في أذنيه ونادى : «إن الله كتب عليكم الحجّ فحجّوا». وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين. وقد كان إبراهيم رحّالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه.

وجملة (يَأْتُوكَ) جواب للأمر ، جعل التأذين سببا للإتيان تحقيقا لتيسير الله الحج على الناس. فدل جواب الأمر على أنّ الله ضمن له استجابة ندائه.

وقوله (رِجالاً) حال من ضمير الجمع في قوله (يَأْتُوكَ).

وعطف عليه (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) بواو التقسيم التي بمعنى (أو) كقوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب ، إذ الراكب لا يكون راجلا ولا العكس. والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقا للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جوابا للأمر ، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم.

ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله (رِجالاً) ثم ذكر بعده (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين.

و (رِجالاً) : جمع راجل وهو ضد الراكب.

والضامر : قليل لحم البطن. يقال : ضمر ضمورا فهو ضامر ، وناقة ضامر أيضا. والضمور من محاسن الرواحل والخيل لأنه يعينها على السير والحركة.

فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال : وعلى كلّ راحلة.

وكلمة (كلّ) من قوله (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) مستعملة في الكثرة ، أي وعلى رواحل كثيرة. وكلمة (كلّ) أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك ، وقول النابغة :


بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

أي : بها وحش كثير في رمال كثيرة.

وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة :

جادت عليه كلّ بكر حرة

فتركن كلّ قرارة كالدرهم

سحا وتسكابا فكلّ عشية

يجري عليها الماء لم يتصرم

وتقدم عند قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) في [سورة البقرة : ١٤٥]. ويأتي إن شاء الله في سورة النمل.

و (يَأْتِينَ) يجوز أن يكون صفة ل (كُلِّ ضامِرٍ) لأن لفظ (كل) صيره في معنى الجمع. وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث ، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل : يأتون ، لأنّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه.

ويجوز أن تجعل جملة (يَأْتِينَ) حالا ثانية من ضمير الجمع في (يَأْتُوكَ) لأنّ الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف ، فصار المعنى : يأتوك جماعات ، فلما تأوّل ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث.

وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة. وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالا بأولادهم وأزوادهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم.

والفجّ : الشقّ بين جبلين تسير فيه الركاب ، فغلب الفجّ على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تسلك بين الجبال.

والعميق : البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر ، فأطلق على البعيد مطلقا بطريقة المجاز المرسل ، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه. وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط ، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت.

وقوله (لِيَشْهَدُوا) يتعلق بقوله (يَأْتُوكَ) فهو علّة لإتيانهم الذي هو مسبب على


التأذين بالحجّ فآل إلى كونه علّة في التأذين بالحجّ.

ومعنى (لِيَشْهَدُوا) ليحضروا منافع لهم ، أي ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم إذ يحصّل كلّ واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه‌السلام من الثواب. فكني بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين. وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.

وتنكير (مَنافِعَ) للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحجّ فوائد جمّة للناس : لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج ، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل.

وخص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وذلك هو النحر والذبح للهدايا. وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها. وقد بيّنته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا ، وبيّنه الإسلام بما فيه شفاء.

وحرف (عَلى) متعلّق ب (يَذْكُرُوا) ، وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة ، أي على الأنعام. وهو على تقدير مضاف ، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها.

و (ما) موصولة ، و (مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) بيان لمدلول (ما). والمعنى : ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام. وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأنّ الله رزقهم تلك الأنعام ، وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها ، وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم ، ولذلك فرع عليه (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ).

فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم عليه‌السلام فيكون الخطاب في قوله (فَكُلُوا) لإبراهيم ومن معه.

وقد عدل عن الغيبة الواقعة في ضمائر (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، إلى الخطاب بذلك في قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) إلخ. على طريقة الالتفات أو على تقدير قول محذوف مأمور به إبراهيم عليه‌السلام.


وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا.

ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [الحج : ٢٩].

ويحتمل أن تكون جملة (فَكُلُوا مِنْها) إلخ معترضة مفرّعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريع الخبر على الخبر تحذيرا من أن يمنع الأكل من بعضها.

والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلّق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حجّ البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣].

والبائس : الذي أصابه البؤس ، وهو ضيق المال ، وهو الفقير ، هذا قول جمع من المفسرين. وفي «الموطأ» : في باب ما يكره من أكل الدواب ، قال مالك : سمعت أن البائس هو الفقير اه. وقلت : من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أنّ الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غير مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد. وعن ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه ، والفقير : الذي تكون ثيابه نقيّة ووجهه وجه غني.

فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليه‌السلام.

وقرأ ورش عن نافع ، وقنبل عن ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ـ بكسر لام ـ (لْيَقْضُوا). وقرأه الباقون ـ بسكون اللام ـ. وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد (ثم) ، كما تقدم آنفا في قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج : ١٥].

و (ثم) هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أنّ المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه. وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهر إذ هما نسكان أهم من نحر الهدايا ، وقضاء التّفث محول على أمر مهم كما سنبينه.


والتفث : كلمة وقعت في القرآن وتردّد المفسرون في المراد منها. واضطراب علماء اللغة في معناها لعلّهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به. قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلّا من التفسير ، أي من أقوال المفسرين. فعن ابن عمر وابن عبّاس : التفث: مناسك الحجّ وأفعاله كلها. قال ابن العربي : لم صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة. قلت : رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة. ونسبة الجصّاص إلى سعيد. وقال نفطويه وقطرب: التفث : هو الوسخ والدرن. ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس ، واختاره أبو بكر بن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت :

حفّوا رءوسهم لم يحلقوا تفثا

ولم يسلّموا لهم قملا وصئبانا

ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أئمة اللّغة قالوا : لم يجىء في معنى التفث شعر يحتج به. قال نفطويه : سألت أعرابيا : ما معنى قوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ، فقال : ما أفسّر القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك ، أي ما أدرنك.

وعن أبي عبيدة : التّفث : قصّ الأظفار والأخذ من الشارب وكل ما يحرم على المحرم ، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك : رمي الجمار.

وعن صاحب «العين» والفراء والزجاج : التفث الرمي ، والذبح ، والحلق ، وقصّ الأظفار والشارب وشعر الإبط. وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضا.

وعندي : أن فعل (لْيَقْضُوا) ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسخا ولا ظفرا ولا شعرا. ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفا. وأن موقع (ثمّ) في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أنّ المعطوف ب (ثمّ) أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة ، فلا جرم أن التفث هو من مناسك الحجّ وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية : «فلمّا قضيت بعون الله التفث ، واستبحت الطيب والرفث ، صادف موسم الخيف ، معمعان الصيف».

وقوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي إن كانوا نذورا أعمالا زائدة على ما تقتضيه فريضة الحجّ مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكا أو إطعام فقير أو نحو ذلك.

والنذر : التزام قربة لله تعالى لم تكن واجبة على ملتزمها بتعليق على حصول


مرغوب أو بدون تعليق ، وبالنذر تصير القربة الملتزمة واجبة على الناذر. وأشهر صيغة : لله عليّ ... وفي هذه الآية دليل على أن النذر كان مشروعا في شريعة إبراهيم ، وقد نذر عمر في الجاهلية اعتكاف ليلة بالمسجد الحرام ووفى به بعد إسلامه كما في الحديث.

وقرأ الجمهور (وَلْيُوفُوا) ـ بضم التحتية وسكون الواو بعدها ـ مضارع أوفى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَلْيُوفُوا) ـ بتشديد الفاء وهو بمعنى قراءة التخفيف لأن كلتا الصيغتين من فعل وفي المزيد فيه بالهمزة وبالتضعيف.

وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذانا بأنّهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمّى في الإسلام طواف الإفاضة.

والعتيق : المحرر غير المملوك للناس. شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه. وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعا بدون درج لئلا يدخله إلّا من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح. وأخرج الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال : «إنما سمّى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبّار قطّ».

واعلم أنّ هذه الآيات حكاية عما كان في عهد إبراهيم عليه‌السلام فلا تؤخذ منها أحكام الحجّ والهدايا في الإسلام.

وقرأ الجمهور (ثُمَّ لْيَقْضُوا) ـ و (لْيُوفُوا) ـ و (لْيَطَّوَّفُوا) بإسكان لام الأمر في جميعها. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : (وَلْيُوفُوا) ـ و (لْيَطَّوَّفُوا) ـ بكسر اللام فيهما ـ. وقرأ ابن هشام عن ابن عامر ، وأبو عمرو ، وورش عن نافع ، وقنبل عن ابن كثير ، ورويس عن يعقوب : (ثُمَّ لْيَقْضُوا) ـ بكسر اللّام ـ. وتقدّم توجيه الوجهين آنفا عند قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج : ١٥].

وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَلْيُوفُوا) بفتح الواو وتشديد الفاء من وفّى المضاعف.

[٣٠ ، ٣١] (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))


(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)

اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد ، والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده. فالإشارة مراد بها التنبيه ، وذلك حيث يكون ما بعده غير صالح لوقوعه خبرا عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى : ذلك بيان ، أو ذكر ، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال. والمشهور في هذا الاستعمال لفظ (هذا) كما في قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] وقول زهير :

هذا وليس كمن يعيا بخطبته

وسط النّدي إذا ما قائل نطقا

وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله.

فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره ، أي ذلك بيان ونحوه. وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر ، قال : هذا وقد كان كذا وكذا.

وجملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ) إلخ ... معترضة عطفا على جملة (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : ٢٦] عطف الغرض على الغرض. وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بني على أساسها.

وضمير (فَهُوَ) عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ). والكلام موجّه إلى المسلمين تنبيها لهم على أنّ تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتها ، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر. فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحجّ عليهم ، أي قبل فتح مكة.

والحرمات : جمع حرمة ـ بضمتين ـ : وهي ما يجب احترامه.

والاحترام : اعتبار الشيء ذا حرم ، كناية عن عدم الدخول فيه. أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه ، والحرمات يشمل كل ما أوصى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها.

وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : المسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم ما دام محرما ، فقصره على الذوات دون الأعمال.


والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحجّ ، كالغسل في مواقعه ، والحلق ومواقيته ومناسكه.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)

لما ذكر آنفا بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي وبعض ما في بطونها. وقد ذكر في سورة الأنعام.

واستثني منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في [سورة الأنعام : ١٤٥] في قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان.

وجيء بالمضارع في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزول سورة الحجّ بأنه تلي فيما مضى ولم يزل يتلى ، ويشمل ما عسى أن ينزل من بعد مثل قوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) الآية في [سورة العقود : ١٠٣].

والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]. وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله ، وهو الأوثان.

واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات (هذا حَلالٌ) مثل الدم وما أهلّ لغير الله به ، وقولهم لبعض : (هذا حَرامٌ) مثل البحيرة ، والسائبة. قال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [النحل : ١١٦].

والرّجس : حقيقته الخبث والقذارة ، وتقدم في قوله تعالى : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) في [سورة الأنعام : ١٤٥].

ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ.

و (من) في قوله من الأوثان بيان لمجمل الرجس ، فهي تدخل على بعض أسماء


التمييز بيانا للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعمّ أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى (من) البيانية.

و (حُنَفاءَ لِلَّهِ) حال من ضمير (فَاجْتَنِبُوا) أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله ، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة ، أي تكونوا على ملّة إبراهيم حقا ، ولذلك زاد معنى (حُنَفاءَ) بيانا بقوله (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). وهذا كقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠].

والباء في قوله (مُشْرِكِينَ بِهِ) للمصاحبة والمعية ، أي غير مشركين معه غيره.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركا تمثيلا بديعا إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.

قال في «الكشاف» : «يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرّق بأن صور حال المشرك بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرّق مزعا في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة ، وإن كان مفرقا فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة». أ. ه.

يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها ، فتوزعته أنواع المهالك ، ولا يخفى عليك أنّ في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها.

والسحيق : البعيد فلا نجاة لمن حل فيه.

وقوله : (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) تخيير في نتيجة التشبيه ، كقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩]. أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان : قسم شركه ذبذبة وشكّ ، فهذا مشبّه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلّا انتهبها منه آخر ، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه. وقسم مصمّم على الكفر مستقر فيه ، فهو مشبّه بمن ألقته الريح في واد سحيق ، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا


يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير ، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول.

والخرور : السقوط. وتقدم في قوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) في [سورة النحل : ٢٦].

و (فَتَخْطَفُهُ) مضاعف خطف للمبالغة ، الخطف والخطف : أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة. والهويّ : نزول شيء من علو إلى الأرض. والباء في (تَهْوِي بِهِ) للتعدية مثلها في : ذهب به.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر (فَتَخْطَفُهُ) ـ بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة ـ مضارع خطّف المضاعف. وقرأه الجمهور ـ بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة ـ مضارع خطف المجرّد.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢))

(ذلِكَ) تكرير لنظيره السابق.

الشعائر : جمع شعيرة : المعلم الواضح مشتقة من الشعور. وشعائر الله : لقب لمناسك الحجّ ، جمع شعيرة بمعنى : مشعرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله.

فمضمون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) إلخ ... أخص من مضمون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) [الحج : ٣٠] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام. أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي. وتقدم ذكرها في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) في [سورة البقرة : ١٥٨]. فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله ، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره. وهي معالم الحجّ : الكعبة ، والصفا والمروة ، وعرفة ، والمشعر الحرام ، ونحوها من معالم الحجّ.

وتطلق الشعيرة أيضا على بدنة الهدى. قال تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] لأنهم يجعلون فيها شعارا ، والشعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعنا حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نذرت للهدي ، فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس.

فعلى التفسير الأول تكون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) إلى آخرها عطفا على


جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) [الحج : ٣٠] إلخ. وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر.

وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) عطفا على جملة (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] تخصيصا لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله.

وضمير (فَإِنَّها) عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى : فإن تعظيمها من تقوى القلوب.

وقوله (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله : (الْقُلُوبِ) فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله. فالتقدير : فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب ، أي لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب.

وإضافة (تَقْوَى) إلى (الْقُلُوبِ) لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

جملة (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) حال من الأنعام في قوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) [الحج : ٣٠] وما بينهما اعتراضات أو حال من (شَعائِرَ اللهِ) [الحج : ٣٢] على التفسير الثاني للشعائر. والمقصود بالخبر هنا : هو صنف من الأنعام ، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

وضمير الخطاب موجّه للمؤمنين.

والمنافع : جمع منفعة ، وهي اسم النفع ، وهو حصول ما يلائم ويحفّ. وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هديا.

وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعا لا يتلفها ، وهو رد على المشركين إذ كانوا إذا قلّدوا الهدي وأشعروه حظروا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه ، وغير ذلك.

وفي «الموطّأ» : «عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها؟ فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، ويلك في الثانية


أو الثالثة».

والأجل المسمّى هو وقت نحرها ، وهو يوم من أيام منى. وهي الأيام المعدودات.

والمحلّ : ـ بفتح الميم وكسر الحاء ـ مصدر ميمي من حلّ يحلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه. وهو كناية عن نهاية أمرها ، كما يقال : بلغ الغاية ، ونهاية أمرها النحر أو الذبح.

و (إِلى) حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة ، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأنّ الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ ، والحجّ قصد البيت. قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] ، فالهدايا تابعة للكعبة ، قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها ، وإنما المناحر : منى ، والمروة ، وفجاج مكة أي طرقها بحسب أنواع الهدايا ، وتبيينه في السنة.

وقد جاء في قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : ٢٦].

[٣٤ ، ٣٥] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا).

عطف على جملة (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣].

والأمة : أهل الدين الذين اشتركوا في اتباعه. والمراد : أنّ المسلمين لهم منسك واحد وهو البيت العتيق كما تقدم. والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ جعلوا لأصنامهم مناسك تشابه مناسك الحج وجعلوا لها مواقيت ومذابح مثل الغبغب منحر العزّى ، فذكرهم الله تعالى بأنه ما جعل لكل أمّة إلّا منسكا واحدا للقربان إلى الله تعالى الذي رزق الناس الأنعام التي يتقربون إليه منها فلا يحق أن يجعل لغير الله منسك لأنّ ما لا يخلق الأنعام المقرّب بها ولا يرزقها الناس لا يستحق أن يجعل له منسك لقربانها فلا تتعدد المناسك.


فالتنكير في قوله (مَنْسَكاً) للإفراد ، أي واحدا لا متعددا ، ومحلّ الفائدة هو إسناد الجعل إلى ضمير الجلالة.

وقد دل على ذلك قوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) وأدلّ عليه التفريع بقوله (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). والكلام يفيد الاقتداء ببقيّة الأمم أهل الأديان الحق.

و (عَلى) يجوز أن تكون للاستعلاء المجازي متعلقة ب (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) مع تقدير مضاف بعد (عَلى) تقديره : إهداء ما رزقهم ، أي عند إهداء ما رزقهم ، يعني ونحرها أو ذبحها.

ويجوز أن تكون (عَلى) بمعنى : لام التعليل. والمعنى : ليذكروا اسم الله لأجل ما رزقهم من بهيمة الأنعام.

وقد فرع على هذا الانفراد بالإلهية بقوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي إذ كان قد جعل لكم منسكا واحدا فقد نبهكم بذلك أنه إله واحد ، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة. وهذا التفريع الأول تمهيد للتفريع الذي عقبه وهو المقصود ، فوقع في النظم تغيير بتقديم وتأخير. وأصل النظم : فلله أسلموا ، لأن إلهكم إله واحد. وتقديم المجرور في (فَلَهُ أَسْلِمُوا) للحصر ، أي أسلموا له لا لغيره. والإسلام : الانقياد التام ، وهو الإخلاص في الطاعة ، أي لا تخلصوا إلا الله ، أي فاتركوا جميع المناسك التي أقيمت لغير الله فلا تنسكوا إلّا في المنسك الذي جعله لكم ، تعريضا بالرد على المشركين.

وقرأ الجمهور (مَنْسَكاً) ـ بفتح السين ـ وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بكسر السين ـ ، وهو على القراءتين اسم مكان للنّسك ، وهو الذبح. إلا أنه على قراءة الجمهور جار على القياس لأن قياسه الفتح في اسم المكان إذ هو من نسك ينسك ـ بضمّ العين ـ في المضارع. وأما على قراءة الكسر فهو سماعي مثل مسجد من سجد يسجد ، قال أبو عليّ الفارسي : ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب.

(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)).

اعتراض بين سوق المنن ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحاب هذه الصفات هم المسلمون.


والمخبت : المتواضع الذي لا تكبّر عنده. وأصل المخبت من سلك الخبت. وهو المكان المنخفض ضد المصعد ، ثم استعير للمتواضع كأنه سلك نفسه في الانخفاض ، والمراد بهم هنا المؤمنون ، لأنّ التواضع من شيمهم كما كان التكبّر من سمات المشركين قال تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥].

والوجل : الخوف الشديد. وتقدّم في قوله تعالى : (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) في [سورة الحجر : ٥٢].

وقد أتبع صفة (الْمُخْبِتِينَ) بأربع صفات وهي : وجل القلوب عند ذكر الله ، والصّبر على الأذى في سبيله ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق. وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود من جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود من لم يخل بواحدة منها عند إمكانها. والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأنّ ذلك هو دأب المخبتين. وأما الإنفاق على الضيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب كما تقدّم عند قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠].

وهو نظير الإنفاق على الندماء في مجالس الشراب. ونظير إتمام الإيسار في مواقع الميسر ، كما قال النّابغة :

أني أتمم أيساري وأمنحهم

مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

والمراد بالصبر : الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام. وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبّة فمما تشترك فيه النفوس الجلدة من المتكبرين والمخبتين. وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقا بأدب الإسلام قال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٦] الآية.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

عطف على جملة (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) [الحج : ٣٤] أي جعلنا منسكا للقربان والهدايا ، وجعلنا البدن التي تهدى ويتقرب بها شعائر من شعائر الله.

والمعنى : أنّ الله أمر بقربان البدن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه‌السلام وجعلها


جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ. وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجعل الإلهي يمنا وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله ، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة (لَكُمْ).

والبدن : جمع بدنة بالتحريك ، وهي البعير العظيم البدن. وهو اسم مأخوذ من البدانة ، وهي عظم الجثّة والسمن ، وفعله ككرم ونصر ، وليست زنة بدنة وصفا ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف ، وجمعه بدن. وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خشب جمع خشبة ، وثمر جمع ثمرة ، فتسكين الدال تخفيف شائع ، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي.

وفي «الموطأ» : «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة» فقول الرجل : إنها بدنة ، متعين لإرادة هديه للحجّ.

وتقديم (الْبُدْنَ) على عامله للاهتمام بها تنويها بشأنها.

والاقتصار على البدن الخاص بالإبل لأنها أفضل في الهدي لكثرة لحمها ، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة ، واسم ذلك هدي.

ومعنى كونها من شعائر الله : أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهدي في جلده إشعارا.

قال مالك في «الموطأ» : «كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هديا من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة ، يقلّده قبل أن يشعره ... يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ...» بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر.

وقد عدها في جملة الحرمات في قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ) في سورة العقود [٢].

وتقديم (لَكُمْ) على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم ، وتقديم (فِيها) على متعلّقه وهو (خَيْرٌ) للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.

والخير : النّفع ، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجلالها ونعالها وقلائدها. وما يحصل للمهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم


النّحر ، وخير الآخرة من ثواب المهدين ، وثواب الشكر من المعطين لحومها لربّهم الذي أغناهم بها.

وفرع على ذلك أن أمر الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.

وصوافّ : جمع صافّة. يقال : صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به. ولعلّهم كانوا يصفّونها في المنحر يوم النّحر بمنى ، لأنه كان بمنى موضع أعدّ للنحر وهو المنحر.

وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبد الله في حجّة الوداع قال فيه : «ثم انصرف رسول الله إلى المنحر فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده ثم أعطى الحربة عليّا فنحر ما غبر ، أي ما بقي وكانت مائة بدنة» وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة.

وانتصب (صَوافَ) على الحال من الضمير المجرور في قوله (عَلَيْها). وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مشاهد البدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالا. وقريب منه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف : ٤].

ومعنى (وَجَبَتْ) سقطت ، أي إلى الأرض ، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعا إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر من هديه ، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة.

والأمر في قوله (فَكُلُوا مِنْها) مجمل ، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب ، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه. وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب.

واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة.

فقال مالك : يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة ، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاء الصيد ونذر المساكين ، والحجّة لمالك صريح الآية. فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة.


وقال أبو حنيفة : يأكل من هدي التمتّع والقران ، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه.

وقال الشافعي : لا يأكل من لحوم الهدايا بحال مستندا إلى القياس ، وهو أن المهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه. كذا قال ابن العربي. وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة.

وقال أحمد : يؤكل من الهدايا الواجبة إلّا جزاء الصيد والنذر.

وأما الأمر في قوله : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فقال الشافعي : للوجوب ، وهو الأصح. قال ابن العربي وهو صريح قول مالك. وقلت : المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثما.

والقانع : المتصف بالقنوع ، وهو التذلل. يقال : قنع من باب سأل. قنوعا ـ بضم القاف ـ إذا سأل بتذلّل.

وأما القناعة ففعلها من باب تعب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب. ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي :

العبد حرّ إن قنع (١)

والحر عبد إن قنع (٢)

فاقنع ولا تقنع فما

شيء يشين سوى الطمع

وللزمخشري في «مقاماته» : «يا أبا القاسم اقنع من القناعة لا من القنوع ، تستغن عن كل معطاء ومنوع». وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك : «والقانع هو الفقير».

والمعترّ : اسم فاعل من اعترّ ، إذا تعرّض للعطاء ، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء ، يقال : اعترّ ، إذا تعرّض. وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك : «وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر ، أي فتكون من عرا إذا زار» والمراد زيارة التعرض للعطاء.

وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف (الْمُعْتَرَّ) على (الْقانِعَ) ، فدل العطف على

__________________

(١) بكسر النون.

(٢) بفتح النون.


المغايرة ، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج : ٢٨].

وجملة و (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس. والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن. ولو لا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجز من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له.

وقوله (كَذلِكَ) هو مثل نظائره ، أي مثل ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم.

ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) خلقناها مسخرة لكم استجلابا لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ)

جملة في موضع التعليل لجملة (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج : ٣٦] ، أي دلّ على أنّا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتّقوه.

والنيل : الإصابة. يقال ناله ، أي أصابه ووصل إليه. ويقال أيضا بمعنى أحرز ، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] وقوله : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) [التوبة : ٧٤].

والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمروة. قال الحسن : كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرّحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانا لله تعالى ، يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج.

وفي قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) إيماء إلى أن


إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا ينتفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنّحر أو الذبح وإن المقصد من شرعها انتفاع الناس المهدين وغيرهم.

فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحريم صيام يوم النّحر : «يوم تأكلون فيه من نسككم» فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم.

وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدي من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم ، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجلالها وقلائدها.

كما أومأ إليه قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) [المائدة : ٩٧].

وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعا أو ظنا قريبا من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحجّ ، فما يبقى منها حيّا يباع وينفق ثمنه في سدّ خلة المحاويج أجدى من نحره أو ذبحه حين لا يرغب فيه أحد ، ولو كانت اللحوم التي فات أن قطعت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفّن فينتفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج.

وقد ترددت في الجواب عن ذلك أنظار المتصدّين للإفتاء من فقهاء هذا العصر ، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهديها.

أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج ، لينتفع بها المحتاجون في عامهم ، أوفق بمقصد الشارع تجنبا لإضاعة ما فضل منها رعيا لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦] وقوله : و (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) ، جمعا بين المقاصد الشرعية.

وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلبا لفضيلة المبادرة ، فإن التقوى التي


تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.

وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحبس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع ، وهي المعاوضة لربع الحبس إذا خرب.

وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل ، ومعنى التعليل فيه أقوى ، وعلّته انتفاع المسلمين ، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج : ٣٦].

واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدعون أحدا يأكله. وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادا ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين ، وكان المصريّون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة.

وقرأ الجمهور (يَنالَ) ، و (يَنالُهُ) بتحتية في أولهما. وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل. وربما كانوا يقذفون بمزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد.

ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدّق ببعضها على المحتاجين.

و (يَنالُهُ) مشاكلة ل (يَنالَ) الأول ، استعير النيل لتعلّق العلم. شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيها وجّهه الحصول في كلّ وحسنته المشاكلة.

و (من) في قوله (مِنْكُمْ) ابتدائية. وهي ترشيح للاستعارة ، ولذلك عبّر بلفظ (التَّقْوى مِنْكُمْ) دون : تقواكم أو التقوى. مجردا مع كون المعدول عنه أوجز لأنّ في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة.

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)).

تكرير لجملة : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) [الحج : ٣٦] ، وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخّرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة ، فصار مدلول الجملتين مترادفا. فوقع التأكيد. فالقول في جملة (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ) كالقول في أشباهها.


وقوله (عَلى ما هَداكُمْ عَلى) فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن ، أي لتكبّروا الله عند تمكنكم من نحرها. و (ما) موصولة ، والعائد محذوف مع جارّه. والتقدير : على ما هداكم إليه من الأنعام.

والهداية إليها : هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاة التوحيد لا يفارقون ذلك المكان ، والخطاب للمسلمين.

وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

استئناف بياني جوابا لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية ، فإنه توعّد المشركين على صدّهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم ، وبشّر المؤمنين المخبتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة. وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا ، وهل ينتصر لهم من أعدائهم أو يدّخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة. فكان المقام خليقا بأن يطمئن الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضا مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم ، وحذف مفعول (يُدافِعُ) لدلالة المقام.

فالكلام موجه إلى المؤمنين ، ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر ، وإما لتنزيل غير المتردد منزلة المتردّد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه.

والتعبير بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم.

وقرأ الجمهور لفظ (يُدافِعُ) بألف بعد الدال فيفيد قوّة الدفع. وقرأه أبو عمرو ، وابن كثير ، ويعقوب (يُدافِعُ) بدون ألف بعد الدال.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) تعليل لتقييد الدفاع بكونه عن الذين


آمنوا ، بأن الله لا يحب الكافرين الخائنين ، فلذلك يدفع عن المؤمنين لردّ أذى الكافرين : ففي هذا إيذان بمفعول (يُدافِعُ) المحذوف ، أي يدافع الكافرين الخائنين.

والخوّان : الشديد الخون ، والخون كالخيانة ، الغدر بالأمانة ، والمراد بالخوّان الكافر ، لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناس على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم.

والكفور : الشديد الكفر : وأفادت (كلّ) في سياق النفي عموم نفي محبة الله عن جميع الكافرين إذ لا يحتمل المقام غير ذلك. ولا يتوهم من قوله (لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) أنه يحب بعض الخوانين لأن كلمة (كلّ) اسم جامد لا يشعر بصفة فلا يتوهم توجه النفي إلى معنى الكلية المستفاد من كلمة (كُلَ) وليس هو مثل قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] الموهم أن نفي قوّة الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩))

جملة وقعت بدل اشتمال من جملة : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) [الحج : ٣٨] لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم فإنه إذا أذن لهم بمقاتلتهم كان متكفلا لهم بالنصر.

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم (أُذِنَ) بالبناء للنائب. وقرأه الباقون بالبناء إلى الفاعل.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وأبو جعفر يقاتلون ـ بفتح التاء الفوقية ـ مبنيا إلى المجهول. وقرأه البقية ـ بكسر التاء ـ مبنيا للفاعل.

والذين يقاتلون مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين لأنهم إذا قوتلوا فقد قاتلوا. والقتال مستعمل في المعنى المجازي إما بمادته ، وإما بصيغة المضي.

فعلى قراءة ـ فتح التاء ـ فالمراد بالقتال فيه القتل المجازي ، وهو الأذى. وأما على قراءة يقاتلون ـ بكسر التاء ـ فصيغة المضي مستعملة مجازا في التهيّؤ والاستعداد ، أي أذن للذين تهيّئوا للقتال وانتظروا إذن الله.

وذلك أنّ المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديدا فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه ، فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر


بالقتال ، فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذنا لهم بالتهيّؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى عقب هذا : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٤٠].

والباء في (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أراها متعلقة ب (أُذِنَ) لتضمينه معنى الإخبار ، أي أخبرناهم بأنهم مظلومون. وهذا الإخبار كناية عن الإذن للدفاع لأنك إذا قلت لأحد : إنك مظلوم ، فكأنك استعديته على ظالمه ، وذكرته بوجوب الدفاع ، وقرينة ذلك تعقيبه بقوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ، ويكون قوله : (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) نائب فاعل (أُذِنَ) على قراءة ضم الهمزة أو مفعولا على قراءة ـ فتح الهمزة ـ. وذهب المفسرون إلى أن الباء سببية وأن المأذون به محذوف دل عليه قوله (يُقاتَلُونَ) ، أي أذن لهم في القتال. وهذا يجري على كلتا القراءتين في قوله (يُقاتَلُونَ) والتفسير الذي رأيته أنسب وأرشق.

وجملة (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) عطف على جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) أي أذن لهم بذلك وذكروا بقدرة الله على أن ينصرهم. وهذا وعد من الله بالنصر وارد على سنن كلام العظيم المقتدر بإيراد الوعد في صورة الإخبار بأن ذلك بمحل العلم منه ونحوه ، كقولهم : عسى أن يكون كذا ، أو أن عندنا خيرا ، أو نحو ذلك ، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه.

وتوكيد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيقه أو تعريض بتنزيلهم منزلة المتردد في ذلك لأنهم استبطئوا النصر.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)

بدل من (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ) [الحج : ٣٩] ، وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى ، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ١٩١].

و (بِغَيْرِ حَقٍ) حال من ضمير (أُخْرِجُوا) ، أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم


الموجب إخراجهم ، فإن للمرء حقا في وطنه ومعاشرة قومه ، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولّد بين قوم هو مساو لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغلبة لسكانه ، كما قال عمر بن الخطاب : «إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام». ولا يزول ذلك الحق إلّا بموجب قرره الشّرع أو العوائد قبل الشرع. كما قال زهير :

فإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء

فمن ذلك في الشرائع التغريب والنّفي ، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخلع ، وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكا من الردع غير ذلك.

ولذلك قال تعالى : (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) فإن إيمانهم بالله لا ينجر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم. فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) استثناء من عموم الحق ، ولما كان المقصود من الحق حقا يوجب الإخراج ، أي الحقّ عليهم ، كان هذا الاستثناء مستعملا على طريقة الاستعارة التهكمية ، أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله ، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يتخيّل أنه حق عليهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه. ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وشاهده قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)

اعتراض بين جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] إلخ وبين قوله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ٤١] إلخ. فلما تضمنت جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩]


إلخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع ، مع التنويه بهذا الدفاع ، والمتولّين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين ، وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة. والواو في قوله ولو لا دفاع الله الناس إلى آخره ، اعتراضية وتسمى واو الاستئناف ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] إلخ.

و (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، أي حرف يدل على امتناع جوابه ، أي انتفائه لأجل وجود شرطه ، أي عند تحقق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين. والمعنى:لو لا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصرى المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوية لملّة الشرك ولهدموا معابدهم من صوامع ، وبيع ، وصلوات ، ومساجد ، يذكر فيها اسم الله كثيرا ، قصدا منهم لمحو دعوة التوحيد ومحقا للأديان المخالفة للشرك. فذكر الصوامع ، والبيع ، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتّعريف في (النَّاسَ) تعريف العهد ، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة.

ويجوز أن يكون المراد : لو لا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك (كما قاتل داود جالوت ، وكما تغلّب سليمان على ملكة سبأ). لمحق المشركون معالم التوحيد (كما محق بختنصر هيكل سليمان) فتكون هذه الجملة تذييلا لجملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] ، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال ، فالتعريف في (النَّاسَ) تعريف الجنس.

وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه أذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع. وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب دفاع. وقرأ الباقون (دَفْعُ) ـ بفتح الدال وبدون ألف ـ. و (بَعْضَهُمْ) بدل من (النَّاسَ) بدل بعض. و (بِبَعْضٍ) متعلق ب دفاع والباء للآلة.

والهدم : تقويض البناء وتسقيطه.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر (لَهُدِّمَتْ) ـ بتخفيف الدال ـ. وقرأه الباقون ـ


بتشديد الدال ـ للمبالغة في الهدم ، أي لهدّمت هدما ناشئا عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثرا.

والصوامع : جمع صومعة بوزن فوعلة ، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت ، كان الرهبان يتّخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم ، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين. من أجل ذلك سمّيت الصومعة المنارة. قال امرؤ القيس :

تضيء الظلام بالعشيّ كأنها

منارة ممسى راهب متبتّل

والبيع : جمع بيعة ـ بكسر الباء وسكون التحتية ـ مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها ، ولعلها معرّبة عن لغة أخرى.

والصلوات : جمع صلاة وهي هنا مراد بها كنائس اليهود معرّبة عن كلمة (صلوثا) (بالمثلثة في آخره بعدها ألف). فلمّا عربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك. وعن مجاهد ، والجحدري ، وأبي العالية ، وأبي رجاء أنهم قرءوها هنا (وَصَلَواتٌ) بمثلثة في آخره. وقال ابن عطية : قرأ عكرمة ، ومجاهد صلويثا ـ بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء ـ (أي المثلثة كما قال القرطبي) وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة.

والمساجد : اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنوا مسجد قباء ومسجد المدينة.

وجملة (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة. فلذلك قيل برجوع صفة (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) إلى (صَوامِعُ ، وَبِيَعٌ ، وَصَلَواتٌ ، وَمَساجِدُ) للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير (فِيهَا).

وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيرا ، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله ، لمحو ذكر اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيرا ، أي دون ذكر الأصنام. فالكثرة مستعملة في الدوام


لاستغراق الأزمنة ، وفي هذا إيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله.

قال ابن خويزمنداد من أئمة المالكية (من أهل أواخر القرن الرابع) «تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نارهم» اه.

قلت : أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما منع هدمها عقد الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين ، وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة.

وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأنّ صوامع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها ، وكانت أشهر عندهم ، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها ، وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع. وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها ، وتأخير المساجد لأنها أعم ، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالا للفائدة.

وقوله (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) عطف على جملة ولو لا دفاع الله الناس ، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم. وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله ، فكأنهم نصروا الله ، ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد. وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) تعليل لجملة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ، أي كان نصرهم مضمونا لأنّ ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة. والقوة مستعملة في القدرة : والعزّة هنا حقيقة لأنّ العزّة هي المنعة ، أي عدم تسلّط غير صاحبها على صاحبها.

بدل من (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) وما بينهما اعتراض. فالمراد من (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ٤١] المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم. وعن عثمان : «هذا والله ثناء قبل بلاء» ، أي قبل اختبار ، أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم. ومعنى (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ٤١] أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج: ٣٩].

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))


(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)

ويجوز أن يكون بدلا من (مِنْ) الموصولة في قوله : (مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] فيكون المراد : كل من نصر الدين من أجيال المسلمين ، أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله : وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوام نصرهم ، وانتظام عقد جماعتهم ، والسلامة من اختلال أمرهم ، فإن حادوا عن ذلك فقد فرّطوا في ضمان نصرهم وأمرهم إلى الله.

فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس ، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم ، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم.

والتمكين : التوثيق ، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك ، والأرض للجنس ، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم. وقد تقدم قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) في [سورة الأعراف : ١٠] ، وقوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) في [سورة يوسف : ٥٦].

والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شئون الدين : إما بكونه معروفا للأمة كلها ، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائر الأمة. وإما بكونه معروفا لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه.

والمنكر : ما شأنه أن ينكر في الدين ، أي أن لا يرضى بأنه من الدين. وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها ، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شئون عاداتهم مما هو في منطقة المباح ، ولا ما يفعلون في شئون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية ، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين.


والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أول ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال ، ولتكون معرفة المعروف دليلا على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء ، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس.

(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)

عطف على جملة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] ، أو على جملة (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٤٠] ، والمآل واحد ، وهو تحقيق وقوع النصر ، لأنّ الذي وعد به لا يمنعه من تحقيق وعده مانع ، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر.

والعاقبة : آخر الشيء وما يعقب الحاضر. وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسما. وفي حديث هرقل «ثم تكون لهم العاقبة».

وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء.

[٤٢ ـ ٤٤] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤))

لما نعى على المشركين مساويهم في شئون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدّهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه ، عطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقصد من ذلك تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمثيلهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله ، وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم ، ونظير هذه الآية إجمالا وتفصيلا تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها.

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله : (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) إلخ إذ التقدير : فلا عجب في تكذيبهم ، أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم.

وقوم إبراهيم هم الكلدان ، وأصحاب مدين هم قوم شعيب ، وإنما لم يعبّر عنهم بقوم شعيب لئلا يتكرر لفظ قوم أكثر من ثلاث مرات.

وقال : (وَكُذِّبَ مُوسى) لأن مكذّبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل.


وقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) معناه فأمليت لهم ، فوضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذهم هو الكفر بالرسل تعريضا بالنذارة لمشركي قريش.

والأخذ حقيقته : التناول لما لم يكن في اليد ، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم ، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاء ذلك الإملاء بالتناول ، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده ، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم ، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في [سورة الأنبياء : ٧٠] (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) مشير إلى سوء عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد ، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك.

ومناسبة عدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذكر فيها من أخذوا من الأقوام ، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبها بمشركي قريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه. وألجئوه إلى الخروج من موطنه (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩]. فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٤٠] مناسبة لذكر قوم إبراهيم.

والإملاء : ترك المتلبّس بالعصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نجا ثم يؤخذ بالعقوبة.

والفاء في (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أخر لهم ، وهو تعقيب موزع ، فلكل قوم من هؤلاء تعقيب إملائه ، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة ، فلذلك عطف فعله بحرف المهلة.

وعطفت جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ ، وهو استفهام تعجيبي ، أي فأعجب من نكيري كيف حصل. ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة محنة ، وبالحياة هلاكا ، وبالعمارة خرابا فهو عبرة لغيرهم.

والنكير : الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي ينكر عليه :

و (نَكِيرِ) ـ بكسرة في آخره ـ دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا.

وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم ، فإن


الله عاقب على المنكر بأشد العقاب ، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله ، وقد قال الحكماء: إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية ، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم.

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))

تفرع ذكر جملة (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) على جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الحج : ٤٤] فعطفت عليها بفاء التفريع ، والتعقيب في الذكر لا في الوجود ، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره ، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع ، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العدد شمولا للأقوام الذين ذكروا من قبل في قوله : (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [الحج : ٤٢] إلى آخره فيكون لتلك الجملة بمنزلة التذييل.

و (فَكَأَيِّنْ) اسم دال على الإخبار عن عدد كثير.

وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر. والتقدير : كثير من القرى أهلكناها ، وجملة (أَهْلَكْناها) الخبر.

ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره (أَهْلَكْناها) والتقدير : أهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها ، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها (كأيّن) بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية ، وعلى الوجه الأول فجملة (أَهْلَكْناها) في محل جر صفة ل (قَرْيَةٍ). وجملة (فَهِيَ خاوِيَةٌ) معطوفة على جملة (أَهْلَكْناها) ، وقد تقدم نظيره في قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ) نبيء في [سورة آل عمران : ١٤٦].

وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون ، منهم من ذكر في القرآن مثل عاد وثمود. ومنهم من لم يذكر مثل طسم وجديس وآثارهم باقية في اليمامة.

ومعنى (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار. وجملة (عَلى عُرُوشِها) خبر ثان عن ضمير (فَهِيَ) والمعنى : ساقطة على عروشها ، أي ساقطة جدرانها فوق سقفها.

والعروش : جمع عرش ، وهو السقف ، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله


تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) في [سورة البقرة : ٢٥٩].

والمعطلة : التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع ، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا. وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئارا في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشرب منها إلا بئرا واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه‌السلام.

والقصر : المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقا.

والمشيد : المبنيّ بالشّيد ـ بكسر الشين وسكون الياء ـ وهو الجصّ : وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رصّ به.

والقصور المشيّدة : وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرة مثل : قصر غمدان في اليمن ، وقصور ثمود في الحجر ، وقصور الفراعنة في صعيد مصر ، وفي «تفسير القرطبي» يقال : «إن هذه البئر وهذا القصر بحضر موت معروفان. ويقال : إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور ـ بفتح الحاء ـ. وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول عليه‌السلام. وكان صالح معهم ، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حنظلة بن صفوان رسولا فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشا». يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة (كأيّن) تنافي إرادة قرية معيّنة.

وقرأ الجمهور (أَهْلَكْناها) ـ بنون العظمة ـ : وقرأه أبو عمرو ويعقوب أهلكتها ـ بتاء المتكلم ـ.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))

تفريع على جملة (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الحج : ٤٥] وما بعدها.

والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائها ، والتعجيب متعلّق بمن سافروا منهم ورأوا شيئا من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا ، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه


قوله تعالى : (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها). فالمقصود بالتعجيب هو حال الذين ساروا في الأرض ، ولكن جعل الاستفهام داخلا على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جعل كالعدم فكان التعجيب من انتفائه ، فالكلام جار على خلاف مقتضى الظاهر.

والفاء في (فَتَكُونَ) سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير ، أي لم يسيروا سيرا تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها ، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض. وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتا وفي هذا المعنى قال المعرّي :

وقيل أفاد بالأسفار مالا

فقلنا هل أفاد بها فؤادا

وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات ، فهي تفيد كل ذي همّة في شيء فوائد تزيد همته نفاذا فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة.

وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مفيض الدم ـ وهو مادة الحياة ـ على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل ، ولذلك قال : (يَعْقِلُونَ بِها) وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال : (يَعْقِلُونَ بِها) فأشار إلى أن القلوب هي العقل.

ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سيرهم في الأرض منزلة المعدوم.

وأما ذكر الآذان فلأنّ الأذن آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها ؛ على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ما علمه المسافرون علما سبيله سماع الأخبار.

وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت


منهم آثارها فلهم قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها وهذا كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١].

والفاء في جملة (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) تفريع على جواب النفي في قوله : (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ، وفذلكة للكلام السابق ، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم.

والضمير في قوله (فَإِنَّها) ضمير القصة والشأن ، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعد الضمير ، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب ، أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات ، والمدرك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصمّ ، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل.

واستعير العمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسّة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه.

والتعريف في (الْأَبْصارُ) ، و (الْقُلُوبُ) ، و (الصُّدُورِ) تعريف الجنس الشامل لقلوب المتحدّث عنهم وغيرهم ، والجمع فيها باعتبار أصحابها.

وحرف التوكيد في قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه.

وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانها بحرف التوكيد.

والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائيّ للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمى ، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه ، فالقصر ترشيح للاستعارة.

ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبداعة النظم.

و (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) صفة ل (الْقُلُوبُ) تفيد توكيدا للفظ (الْقُلُوبُ). فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]. ووزان القيد في قوله :


(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] فهو لزيادة التقرير والتشخيص.

ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضا بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهممع شدّة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فالآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبيّ» ، فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحبّ الأشياء إليه.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

عطف على جملة (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) [الحج : ٤٢] عطف القصة على القصة فإن من تكذيبهم أنهم كذبوا بالوعيد وقالوا : لو كان محمد صادقا في وعيده لعجّل لنا وعيده ، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء ، كما حكى الله عنهم في قوله : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، وقال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [السجدة : ٢٨] فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) [الحج : ٤٤] الآية.

وحكي (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء وتوركا على المسلمين.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود إبلاغه إياهم.

والباء من قوله (بِالْعَذابِ) زائدة لتأكيد معنى الاستعجال بشدّته كأنه قيل يحرصون على تعجيله. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) في أول [سورة الرعد : ٦].

ولما كان استعجالهم إياه تعريضا منهم بأنهم موقنون بأنه غير واقع أعقب بقوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، أي فالعذاب الموعود لهم واقع لا محالة لأنه وعد من الله والله لا يخلف وعده. وفيه تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لئلا يستبطئونه.

وقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) عطف على جملة (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، فإن الله توعدهم بالعذاب وهو صادق على عذاب الدنيا والآخرة وهم إنما استعجلوا عذاب الدنيا تهكما وكناية عن إيقانهم بعدم وقوعه بلازم واحد ، وإيماء إلى عدم


وقوع عذاب الآخرة بلازمين ، فردّ الله عليهم ردا عاما بقوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، وكان ذلك تثبيتا للمؤمنين ، ثم أعقبه بإنذارهم بأن عذاب الآخرة لا يفلتون منه أيضا وهو أشدّ العذاب.

فقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) خبر مستعمل في التعريض بالوعيد ، وهذا اليوم هو يوم القيامة.

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُالْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٣ ـ ٥٤].

وليس المراد بقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) إلى آخره استقصار أجل حلول العذاب بهم في الدنيا كما درج عليه أكثر المفسرين لعدم رشاقة ذلك على أن هذا الاستقصار يغني عنه قوله عقب هذا : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها) [الحج : ٤٨].

والخطاب في (تَعُدُّونَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. وقرأ الجمهور (تَعُدُّونَ) بالفوقية ، وقرأه ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي مما يعدون ـ بياء الغائبين ـ. أي مما يعده المشركون المستعجلون بالعذاب.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨))

عطف على جملة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧] أو على جملة (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج : ٤٧] باعتبار ما تضمنه استعجالهم بالعذاب من التعريض بأنهم آيسون منه لتأخّر وقوعه ، فذكّروا بأن أمما كثيرة أمهلت ثمّ حلّ بها العذاب. فوزان هذه الآية وزان قوله آنفا : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٥] إلخ ؛ إلا أن الأولى قصد منها كثرة الأمم التي أهلكت لئلا يتوهّم من ذكر قوم نوح ومن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال. وهذه الآية القصد منها التذكير بأنّ تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله ، ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإمهال ثم الأخذ بعده المناسب للإملاء من حيث إنه دخول في القبضة بعد بعده عنها.

وأما عطف جملة (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الحج : ٤٥] ـ بالفاء ـ وعطف جملة (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) ـ بالواو ـ فلأن الجملة الأولى وقعت بدلا من جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الحج : ٤٤] فقرنت ـ بالفاء ـ التي دخلت نظيرتها على الجملة


المبدل منها ، وأما هذه الجملة الثانية فخليّة عن ذلك فعطفت بالحرف الأصلي للعطف.

وجملة (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) تذييل ، أي مصير الناس كلهم إليّ. والمصير مصدر ميمي ل (صار) بمعنى : رجع ، وهو رجوع مجازي بمعنى الحصول في المكنة.

وتقديم المجرور للحصر الحقيقي ، أي لا يصير الناس إلا إلى الله ، وهو يقتضي أنّ المصير إليه كائن لا محالة ، وهو المقصود من الحصر لأن الحصر يقتضي حصول الفعل بالأحرى فهو كناية عن عدم الإفلات.

[٤٩ ـ ٥١] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

استئناف بعد المواعظ السالفة والإنذارات ، وافتتاحه ب (قُلْ) للاهتمام به ، وافتتاح المقول بنداء الناس للفت ألبابهم إلى الكلام. والمخاطبون هم المشركون.

والغرض من خطابهم إعلامهم بأن تكذيبهم واستهزاءهم لا يغيظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يصدّه عن أداء رسالته ، ففي ذلك قمع لهم إذ كانوا يحسبون أنهم بتكذيبهم واستهزائهم يملّونه فيترك دعوتهم ، وفيه تثبيت للنبي وتسلية له فيما يلقاه منهم.

وقصر النبي على صفة النذارة قصر إضافي ، أي لست طالبا نكايتكم ولا تزلفا إليكم فمن آمن فلنفسه ومن عمى فعليها.

والنذير : المحذّر من شرّ يتوقع.

وفي تقديم المجرور المؤذن بالاهتمام بنذارتهم إيماء إلى أنهم مشرفون على شرّ عظيم فهم أحرياء بالنذارة.

والمبين : المفصح الموضح ، أي مبين للإنذار بما لا إيهام فيه ولا مصانعة.

وفرع على الأمر بالقول تقسيم للناس في تلقي هذا الإنذار المأمور الرسول بتبليغه إلى مصدق ومكذّب لبيان حال كلا الفريقين في الدنيا والآخرة ترغيبا في الحالة الحسنى وتحذيرا من الحالة السّوأى فقال تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ) إلى آخره ... فهذا إخبار من الله تعالى كما يقتضيه قوله (فِي آياتِنا).


والجملة معترضة بالفاء.

والمغفرة : غفران ما قدموه من الشرك وما يتبعه من شرائع الشرك وضلالاته ومفاسده. وهذه المغفرة تفضي إلى نعيم الآخرة ، فالمعنى : أنهم فازوا في الدار الآخرة.

والرّزق : العطاء. ووصفه بالكريم يجمع وفرته وصفاءه من المكدرات كقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [فصلت : ٨] ذلك هو الجنة.

والرزق منه ما هو حاصل لهم في الدنيا ، فهم متمتعون بانشراح صدورهم ورضاهم عن ربهم ، وأعظمه ما يحصل لهم في الآخرة.

والذين سعوا هم الفريق المقابل للذين آمنوا ، فمعناه : والذين استمروا على الكفر ، فعبر عن الاستمرار بالسعي في الآيات لأنه أخص من الكفر ، وذلك حال المشركين المتحدث عنهم.

والسّعي : المشي الشديد. ويطلق على شدّة الحرص في العمل تشبيها للعامل الحريص بالماشي الشديد المشي في كونه يكدّ للوصول إلى غاية كما قال تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى) [النازعات : ٢٢ ـ ٢٣] فليس المراد أن فرعون خرج يمشي وإنما المراد أنه صرف عنايته لإحضار السحرة لإحباط دعوة موسى. وقال تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٦٤].

والكلام تمثيل ، شبهت هيئة تفننهم في التكذيب بالقرآن وتطلب المعاذير لنقض دلائله من قولهم : هو سحر ، هو شعر ، هو أساطير الأولين ، هو قول مجنون ، وتعرضهم بالمجادلات والمناقضات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بهيئة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالوصول.

والمعاجز : المسابق الطالب عجز مسايره عن الوصول إلى غايته وعن اللحاق به ، فصيغ له المفاعلة لأنّ كل واحد يطلب عجز الآخر عن لحاقه. والمعنى : أنهم بعملهم يغالبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم لا يشعرون أنهم يحاولون أن يغلبوا الله وقد ظنوا أنهم نالوا مرادهم في الدنيا ولم يعلموا ما لهم من سوء العاقبة.

وقرأ الجمهور (مُعاجِزِينَ) ـ بألف بعد العين ـ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو معجزين ـ بفتح العين وتضعيف الجيم ـ ، أي محاولين إعجاز الله تعالى وهم لا يعلمون.


والتصدير باسم الإشارة في قوله (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) للتنبيه على أن المخبر عنهم جديرون بما سيرد بعد اسم الإشارة من الحكم لأجل ما ذكر قبله من الأوصاف ، أي هم أصحاب الجحيم لأنّهم سعوا في آياتنا معاجزين. ومن أحسن ما يفسر هذه الآية ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان (١) فالنّجاء النّجاء ، فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا (٢) وانطلقوا على مهلهم (٣) ، وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتّبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحقّ».

[٥٢ ـ ٥٤] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

عطف على جملة (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الحج : ٤٩] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقب قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٨] إلخ ... وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك ، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفه من الرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنة الله في رسله عليهم‌السلام.

فقوله : (مِنْ رَسُولٍ وَلا) نبيء نص في العموم ، فأفاد أنّ ذلك لم يعد أحدا من

__________________

(١) العريان : المجرد من الثياب ـ والنذير العريان مثل أصله : أن أحد القوم إذا رأى عدوا يريد غرة قومه ولم يجد شيئا يشير به نزع ثوبه فألوى به أي لوح.

(٢) أدلجوا بهمزة قطع مفتوحة وبسكون الدال أي : ساروا في دلجة الليل ، أي : ظلامه.

(٣) المهل ـ بفتحتين ـ عدم العجلة ، أي : انطلقوا غير فزعين.


الأنبياء والرسل.

وعطف نبيء على (رَسُولٍ) دالّ على أنّ للنبي معنى غير معنى الرسول :

فالرسول : هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة. والنبي : من أوحى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقة أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول ، وهو التحقيق.

والتمنّي : كلمة مشهورة ، وحقيقتها : طلب الشيء العسير حصوله. والأمنية : الشيء المتمنّى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلّهم صالحين مهتدين ، والاستثناء من عموم أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو (مِنْ رَسُولٍ) ولا نبيء ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلّا في حال إذا تمنّى أحدهم أمنية ألقى الشيطان فيها إلخ ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خير محض والشيطان دأبه الإفساد وتعطيل الخير.

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي دون أن نرسل أحدا منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.

والإلقاء حقيقته : رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيها للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) [طه : ٨٧] وقوله : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) [النحل : ٨٦] وكقوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) [طه : ٩٦] على ما حققناه فيما مضى.

ومفعول (أَلْقَى) محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد ، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح ، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد. فالتقدير : أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.

ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادّها ، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم ، فإلقاء الشيطان بوسوسته : أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان ، ويلقي في قلوب أئمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم ، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البرهان ، والله تعالى يعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي ، ويفضح وساوس الشيطان وسوء فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ


الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦]. فالله بهديه وبيانه ينسخ ما يلقي الشيطان ، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح ، ويزيد آيات دعوة رسله بيانا ، وذلك هو إحكام آياته ، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رين على قلبه ، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران.

وقد فسر كثير من المفسرين (تَمَنَّى) بمعنى قرأ ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتا نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواء ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقى الشيطان في أمنيته ، أي في قراءته ، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدم امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده.

وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم ، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير :

تمنى كتاب الله أول ليله

تمني داود الزبور على مهل

فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.

ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدي قومه أو حرص على ذلك فلقي منهم العناد ، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يقصر النبي من حرصه أو أن يضجره ، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحا إلى قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥].

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) للترتيب الرتبي ، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نسخ ما يلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهدى ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخا.


وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) معترضة.

ومعنى هذه الآية : أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان ، كما حكى الله عن المشركين قولهم : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤١ ـ ٤٢] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم ، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم ، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن ، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم ، وذلك هو الصبر الذي في قوله : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤٢] وقوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٦]. وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمر الله رسله فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن ، فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان وتثبت الآيات السالفة. فالنسخ : الإزالة ، والإحكام : التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف ، أي ينسخ آثار ما يلقي الشيطان ، ويحكم آثار آياته.

واللامان في قوله (لِيَجْعَلَ) وفي قوله (وَلِيَعْلَمَ) متعلقان بفعل (فَيَنْسَخُ اللهُ) فإن النسخ يقتضي منسوخا ، وفي يجعل ضمير عائد إلى الله في قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ).

والجعل هنا : جعل نظام ترتب المسببات على أسبابها ، وتكوين تفاوت المدارك ومراتب درجاتها. فالمعنى : أنّ الله مكّن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال ، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيمان بحسب اختلاف القابليات. فهذا كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠].

ولام (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) [القصص : ٨]. وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء ، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنة من افتتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان ، وعن استماع ما أحكم الله به آياته ، فيستمر كفرهم ويقوى.


وأما لام (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فهي على أصل معنى التّعليل ، أي ينسخ الله ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون أنه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدى كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم.

و (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المتردّدون في قبول الإيمان. و (الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) هم الكافرون المصممون على الكفر. والفريقان هم المراد ب (الظَّالِمِينَ) في قوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). فذكر (الظَّالِمِينَ) إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علّة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم ، أي كفرهم.

والشقاق : الخلاف والعداوة.

والبعيد هنا مستعمل في معنى : البالغ حدّا قويا في حقيقته. تشبيها لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١] أي دعاء كثير ملح.

وجملة (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) معترضة بين المتعاطفات.

و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم المؤمنون بقرينة مقابلته ب (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وبقوله (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). فالمراد بالعلم الوحي والكتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم.

وإطلاق (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) على المؤمنين تكرر في القرآن.

وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم ، وهو علم الدّين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإن نور النّبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول. ولذلك تجد من يصحب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد يكون قبل الإيمان جلفا فإذا آمن انقلب حكيما ، مثل عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم».

وضمير (أَنَّهُ الْحَقُ) عائد إلى العلم الذي أوتوه ، أي ليزدادوا يقينا بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل ، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي. ويجوز أن يكون ضمير (أَنَّهُ) عائدا إلى ما


تقدم من قوله (فَيَنْسَخُ اللهُ) إلى قوله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ، أي أن المذكور هو الحق ، كقول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان كالمذكور.

وقوله (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) معناه : فيزدادوا إيمانا أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكم كما آمنوا بالأصل.

والإخبات : الاطمئنان والخشوع. وتقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحج : ٣٤] ، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠].

وبما تلقيت في تفسير هذه الآية من الانتظام البيّن الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنهله عن علالته ، والسالم من التكلّفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السّنّة ، وتلقاه منهم فريق من المفسرين حبا في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص ، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم ، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير ، وابن شهاب ، ومحمد بن كعب القرطبي ، وأبي العالية ، والضحاك وأقربها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس في ناد من أندية قريش كثير أهله من مسلمين وكافرين ، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بأن ذكر آلهتهم بخير ، وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة ، فلما سجد في آخر السورة سجد كلّ من حضر من المسلمين والمشركين ، وتسامع الناس بأن قريشا أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة ، فرجع من مهاجرة الحبشة نفر منهم عثمان بن عفان إلى المدينة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم ، فأعلمه جبريل عليه‌السلام فاغتمّ لذلك فنزل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية تسلية له.

وهي قصة يجدها السامع ضغثا على إبالة ، ولا يلقي إليها النّحرير باله. وما رويت


إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة ، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسندها إلى ابن عباس سند مطعون. على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيبا لها قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] وفي معرفة الملك. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مسكة من عقل أن يجتمع في كلام واحد تسفيه المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] إلى قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣] فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها «الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى». وهل هذا إلا كلام يلعن بعضه بعضا. وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتها (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم : ٦٢] لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون ، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين ، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها : أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعزّى فرصة للدخل لاختلاق كلمات في مدحهنّ ، وهي هذه الكلمات وروّجوها بين الناس تأنيسا لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان.

وفي «شرح الطيبي على الكشاف» نقلا عن بعض المؤرّخين : أن كلمات «الغرانيق ...» (أي هذه الجمل) من مفتريات ابن الزّبعرى. ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل عليه قصة آلهة العرب (أي قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] إلخ) فجعل يتلو : اللّات والعزّى (أي الآية المشتملة على هذا) فسمع أهل مكة نبيء الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودنوا يستمعون فألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فإن قوله : «دنوا يستمعون فألقى الشيطان» إلخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات. ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس. وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوت المحاكى.

وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أنّ المشركين سجدوا في آخر


سورة النجم لما سجد المسلمون ، وذلك مروي في الصحيح ، فذلك من تخليط المؤلفين.

وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.

وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة.

فالوجه : أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام ، إنما هي من اختلافات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى ، وأنهم عمدوا إلى آية ذكرت فيها اللات والعزّى ومناة فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خصّوا سورة النجم بهذه المرجفة لأنهم حضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلبا لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة ، فزعموا أن (تَمَنَّى) بمعنى : قرأ ، والأمنية : القراءة ، وهو ادّعاء لا يوثق به ولا يوجد له شاهد صريح في كلام العرب. وأنشدوا بيتا لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي‌الله‌عنه :

تمنّى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

وهو محتمل أن معناه تمنّى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكّن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل. ولهذا جعله تمنيا لأنه أحب ذلك فلم يستطع. وربما أنشدوه برواية أخرى فظنّ أنه شاهد آخر ، وربما توهموا الرواية الثانية بيتا آخر. ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في «الأساس». وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) في سورة [البقرة : ٧٨].

وجملة (إِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) معترضة. والواو للاعتراض ، والذين أوتوا العلم هم المؤمنون. وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) في سورة [الروم : ٥٦]. وكما في سورة [سبأ : ٦] (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ). فإظهار لفظ (الَّذِينَ آمَنُوا) في مقام ضمير (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) لقصد مدحهم بوصف الإيمان ، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم. وعكسه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي


مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر : ٣]. فالمراد بالهدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر.

وكتب في المصحف (لَهادِ) بدون ياء بعد الدال واعتبارا بحالة الوصل على خلاف الغالب. وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

لمّا حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرّسل يكون عليهم فتنة. خصّ في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمّهم مع جملة الكافرين بالرسل ، فخصّهم بأنهم يستمر شكّهم فيما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة ، فالذين كفروا هنا هم مشركوا العرب بقرينة المضارع في فعل (لا يَزالُ) وفعل (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) الدّالين على استمرار ذلك في المستقبل.

ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين : إن ضمير (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام ، والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) [الحج : ٥٤].

و (السَّاعَةُ) علم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن ، واليوم : يوم الحرب ، وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب. ومنه دعيت حروب العرب المشهورة «أيام العرب».

والعقيم : المرأة التي لا تلد ؛ استعير العقيم للمشئوم لأنهم يعدّون المرأة التي لا تلد مشئومة.

فالمعنى : يأتيهم يوم يستأصلون فيه قتلا : وهذا إنذار بيوم بدر.

[٥٦ ـ ٥٩] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ


حَلِيمٌ (٥٩))

آذنت الغاية التي في قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) [الحج : ٥٥] أن ذلك وقت زوال مرية الذين كفروا ، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية : وعن ما ذا يلقونه عند زوالها ، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) إلى آخر ما فيها من التفصيل ، فهي استئناف بياني.

فقوله (يَوْمَئِذٍ) تقدير مضافه الذي عوّض عنه التنوين : يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق ، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.

وجملة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) اشتمال من جملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

والحكم بينهم : الحكم فيما اختلفوا فيه من ادّعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل ، الدال عليه قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [الحج : ٥٤] وقوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) [الحج : ٥٥] فقد يكون الحكم بالقول ، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق ، وقد فصل الحكم بقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلخ ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدلّ على تفصيل أصله ، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم.

وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه. وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويها بشأن الهجرة ، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر.

والتعريف في (الْمُلْكُ) تعريف الجنس ، فدلّت جملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون ملكا لله ، كما تقدم في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] أي لا ملك لغيره يومئذ.

والمقصود بالكلام هو جملة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) إذ هم البدل. وإنما قدمت جملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) تمهيدا لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه.

وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالكفر والتكذيب بالآيات.


والمهين : المذل ، أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه.

وقرن (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو (أما) ، كأنه قيل : وأما الذين كفروا ، لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيرا لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل.

والرزق : العطاء ، وهو كل ما يتفضّل به من أعيان ومنافع ، ووصفه بالحسن لإفادة أنه يرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه.

وجملة (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) بدل من جملة (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) ، وهي بدل اشتمال ، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم ، ولذلك وصف المدخل ب (يَرْضَوْنَهُ).

ووقعت جملة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) معترضة بين البدل والمبدل منه ، وصريحها الثناء على الله. وكنايتها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين.

وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويرا لعظمة رزق الله تعالى. وجملة : (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) تذييل ، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شأن هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم ، وهو حليم بهم فيما لاقوه فهو يجازيهم بما لقوه من أجله. وهذه الآية تبيّن مزية المهاجرين في الإسلام.

وقرأ نافع (مُدْخَلاً) ـ بفتح الميم ـ على أنه اسم مكان من دخل المجرد لأن الإدخال يقتضي الدخول. وقرأ الباقون ـ بضم الميم ـ جريا على فعل (لَيُدْخِلَنَّهُمْ) المزيد وهو أيضا اسم مكان للإدخال.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتا لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأنّ ما بعده غير صالح لأن يكون خبرا عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيره عند قوله :


(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج : ٣٠].

وجملة (وَمَنْ عاقَبَ) إلخ ، معطوفة على جملة (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحج : ٥٨] الآية.

والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقا بقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) إلى قوله : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٣٩ ـ ٤٠] ، فإنه قد جاء معترضا في خلال النّعي على تكذيب المكذبين وكفرهم النعم ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات ، ثمّ عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلا يرضونه.

وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده.

وما صدق (من) الموصولة العموم لقوله فيما سلف (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] ، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جزاء على اعتداء سابق كما دلّ عليه أيضا قوله (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩].

وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] إلى أسلوب الإفراد في قوله (وَمَنْ عاقَبَ) للإشارة إلى إرادة العموم من هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنّة من سنن الله تعالى في الأمم.

ولما أتي في الصلة هنا بفعل (عاقَبَ) مع قصد شمول عموم الصلة للذين أذن لهم بأنهم ظلموا علم السامع أنّ القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق.

وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلا للعدوان المجزى عليه ، أي أن لا يكون أشدّ منه.

وسمّي اعتداء المشركين على المؤمنين عقابا في قوله (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم. ويعلم أنّ ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٤٠].

ومعنى (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) المماثلة في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين


وأرغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن. ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه ، إما بالقتال فهو إخراج كامل ، أو بالأسر.

و (ثُمَ) من قوله : (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) عطف على جملة (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ، ف (ثم) للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءا بالظلم كما يقال «البادئ أظلم». فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين. ومعنى الآية في معني قوله : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة : ١٣].

وكان هذا شرعا لأصول الدفاع عن البيضة ، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض ، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عوقبوا به ، وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حيرة في تلئيم معانيها.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قضيا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك أوفق بالحق. ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له : بم دام ملككم؟ فقال : لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب ، فليس ذكر وصفي (لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين.

ويجوز أن يكون تعليلا للوعد بجزاء المهاجرين اتباعا للتعليل في قوله : (إِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج : ٥٩] لأن الكلام مستمر في شأنهم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١))

ليس اسم الإشارة مستعملا في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله ، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر ، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدّين على ضدّه وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة ، فضرب له مثلا بتغليب


مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة ، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها ، لما تقرر من اشتهار التضادّ بين الليل والنهار ، أي الظلمة والنور ، وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول المرّار السّلمي :

وكتيبة لبّستها بكتيبة حتى

إذا التبست نفضت لها يدي

فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله : (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ) إلخ.

ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريرا لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلخ ، مرتبطة بجملة (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) إلخ ، ولذلك يصح جعل (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلخ متعلقا بقوله (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) [الحج : ٦٠].

والإيلاج : الإدخال. مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيها لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر ، فإيلاج الليل في النهار : غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل ، وإيلاج النهار في الليل : غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار. فالمولج هو المختفي ، فإيلاج الليل انقضاؤه. واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجا ، وكذلك تقلّص ضوء النهار يحصل تدريجا ، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلا فيه شيئا فشيئا.

والباء للسببية ، أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلّة المسلمين ، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حينا بعد أن كان أمرهما على العكس حينا آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي ، فصار حاصل المعنى : ذلك بأن الله قادر على نصرهم.

والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلّب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالبا ، ويصير ذلك الغالب مغلوبا. مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادّة ولا تلزم طريقة واحدة كقدرة الصناع من البشر. وفيه إدماج التنبيه بأنّ العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله ، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل.

وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار لأن الكفر ضلالة اعتقاد ، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة ، ولأنّ الإيمان نور يتجلّى به


الحق والاعتقاد الصحيح ، فصاحبه كالذي يمشي في النهار ، ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل ، أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك ، ولذلك ابتدئ في الآية بإيلاج الليل في النهار ، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار.

وقوله : (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية. وتقدم في سورة [آل عمران : ٢٧] (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ).

وعطف (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من علم أنه ناصره لا محالة ، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))

اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف. ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون. وهذا على حمل الباء في قوله : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) على معنى السببية ، وهو محمل المفسرين. وسيأتي في سورة لقمان في نظيرها : أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ).

والحق : المطابق للواقع ، أي الصدق ، مأخوذ من حقّ الشيء إذا ثبت : والمعنى : أنه الحق في الإلهيّة ، فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي.

وأما القصر في قوله وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائيّ لعدم الاعتداد بباطل غيرها حتى كأنه ليس من الباطل. وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأنّ المقام مقام مناضلة وتوعد ، وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضا.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر تدعون بالتاء الفوقيّة على الالتفات إلى خطاب المشركين لأنّ الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم. وقرأ البقية بالتحتية على طريقة


الكلام السابق.

وعلوّ الله : مستعار للجلال والكمال التام.

والكبر : مستعار لتمام القدرة ، أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣))

انتقال إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس بمناسبة ما جرى من قوله (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) [الحج : ٦٢] الآية. والمقصود : التعريض بشكر الله على نعمه وأن لا يعبدوا غيره كما دلّ عليه التذييل عقب تعداد هذه النعم بقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) [الحج : ٦٦] ، أي الإنسان المشرك. وفي ذلك كله إدماج الاستدلال على انفراده بالخلق والتدبير فهو الرب الحق المستحق للعبادة. والمناسبة هي ما جرى من أن الله هو الحق وأن ما يدعونه الباطل ، فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

والخطاب لكلّ من تصلح منه الرؤية لأنّ المرئيّ مشهور.

والاستفهام : إنكاري ، نزلت غفلة كثير من الناس عن الاعتبار بهذه النعمة والاعتداد بها منزلة عدم العلم بها ، فأنكر ذلك العدم على الناس الذين أهملوا الشكر والاعتبار.

وإنما حكي الفعل المستفهم عنه الإنكاري مقترنا بحرف (لم) الذي يخلّصه إلى المضي ، وحكي متعلقه بصيغة الماضي في قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو الإنزال بصيغة الماضي كذلك ولم يراع فيهما معنى تجدّد ذلك لأن موقع إنكار عدم العلم بذلك هو كونه أمرا متقررا ماضيا لا يدّعى جهله.

و (فَتُصْبِحُ) بمعنى تصير فإن خمسا من أخوات (كان) تستعمل بمعنى : صار.

واختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من إقامة أقوات الناس والبهائم بذكر لونه الأخضر لأنّ ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضا موجب شكر على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦].

وإنما عبّر عن مصير الأرض خضراء بصيغة تصبح مخضرة مع أن ذلك مفرّع على


فعل (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) الذي هو بصيغة الماضي لأنه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة ، ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم فلان عليّ فأروح وأغدو شاكرا له.

وفعل تصبح مفرّع على فعل (أَنْزَلَ) فهو مثبت في المعنى. وليس مفرّعا على النفي ولا على الاستفهام ، فلذلك لم ينصب بعد الفاء لأنه لم يقصد بالفاء جواب للنفي إذ ليس المعنى : ألم تر فتصبح الأرض. قال سيبويه : «وسألته (يعني الخليل) عن (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال : هذا واجب (أي الرفع واجب) وهو تنبيه كأنك قلت : أتسمع : أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا اه.

قال في «الكشاف» : «لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه (أي الكلام) إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب»اه.

والمخضرّة : التي صار لونها الخضرة. يقال : اخضرّ الشيء ، كما يقال : اصفرّ الثمر واحمرّ ، واسودّ الأفق : وصيغة افعلّ مما يصاغ للاتصاف بالألوان.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) في موقع التعليل للإنزال ، أي أنزل الماء المتفرّع عليه الاخضرار لأنه لطيف ، أي رفيق بمخلوقاته ، ولأنه عليم بترتيب المسببات على أسبابها.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤))

الجملة خبر ثان عن اسم الجلالة في قوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [الحج : ٦٣] للتنبيه على اختصاصه بالخالقية والملك الحقّ ليعلم من ذلك أنه المختصّ بالمعبودية فيرد زعم المشركين أنّ الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم ، والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض.

وإنما لم تعطف الجملة على التي قبلها مع اتحادهما في الغرض لأن هذه تتنزّل من الأولى منزلة التذييل بالعموم الشامل لما تضمنته الجملة التي قبلها ، ولأن هذه لا تتضمن تذكيرا بنعمة.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) عطف على جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي


الْأَرْضِ). وتقديم المجرور للدلالة على القصر. أي له ذلك لا لغيره من أصنامكم ، إن جعلت القصر إضافيا ، أو لعدم الاعتداد بغنى غيره ومحموديته إن جعلت القصر ادعائيا.

ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره ، وهو معنى الغنى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محلّ ولا إلى مخصّص بالوجود دون العدم والعكس تنبيها على أنّ افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها.

وأما وصف (الْحَمِيدُ) بمعنى المحمود كثيرا ، فذكره لمزاوجة وصف الغنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه.

وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجّهون الحمد لغير الله تعالى. وأكد الحصر بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقا لنسبة القصر إلى المقصور كقول عمرو بن معد يكرب : «إني أنا الموت». وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))

هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقه قوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، فهو من عداد الامتنان والاستدلال ، فكان كالتكرير للغرض ، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف. وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره. وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير. والتقدير : فهو الرب الحق.

وجملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) مستأنفة كجملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [الحج : ٦٣].

والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة.

والتسخير : تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لو لا ذلك التسخير ، وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل ، والإبل ، والبقر ، والغنم ونحوها بأن جعل الله فيها طبع


الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان ، ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يعذّر الانتفاع به لو لا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلّب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره ، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان ، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن ، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعجل ، ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة ، ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار ، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض ، وما لا يحصى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير.

وقد تقدم القول في التسخير آنفا في هذه السورة. وتقدّم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما ، وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير.

وجملة (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) في موضع الحال من (الْفُلْكَ) وإنما خصّ هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لو لا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغرق.

وقوله (بِأَمْرِهِ) هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحا لحملها ، وأوحى إلى نوحعليه‌السلام معرفة صنعها ، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة إتقانها.

والإمساك : الشدّ ، وهو ضد الإلقاء. وقد ضمّن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر (عن) أو (من).

ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلّبها على المخلوقات الأرضية وحطمها إياها لو لا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سنن ونظم تمنع من تسلط بعضها على بعض ، كما أشار إليه قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠]. فكما سخّر الله للناس ما ظهر على وجه الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان ، وكما سخّر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها ، ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذّر الضبط ، كذلك سخّر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك


المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي تقديره.

ولفظ (السَّماءَ) في قوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس فيكون كلا شاملا للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علما كالكواكب السيّارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان.

ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط فيكون المعنى : أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاما يمنعها من الخرور على الأرض ، فيكون قوله (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) امتنانا على الناس بالسلامة مما يفسد حياتهم ، ويكون قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) احتراسا جمعا بين الامتنان والتخويف ، ليكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربّهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض. وقد أشكل الاستثناء بقوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) فقيل في دفع الإشكال : إن معناه إلا يوم القيامة يأذن الله لها في الوقوع على الأرض. ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها. وفيما جعلنا ذلك احتراسا دفع للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى.

ويجوز أن يكون لفظ (السَّماءَ) بمعنى المطر ، كقول معاوية بن مالك :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وقول زيد بن خالد الجهني في حديث «الموطأ» : «صلّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية على إثر سماء كانت من اللّيل» ، فيكون معنى الآية : أن الله بتقديره جعل لنزول المطر على الأرض مقادير قدّر أسبابها ، وأنه لو استمر نزول المطر على الأرض لتضرّر الناس فكان في إمساك نزوله باطّراد منة على الناس ، وكان في تقدير نزوله عند تكوين الله إياه منة أيضا. فيكون هذا مشتملا على ذكر نعمتين : نعمة الغيث ، ونعمة السلامة من طغيان المياه.

ويجوز أن يكون لفظ السماء قد أطلق على جميع الموجودات العلوية التي يشملها لفظ (السَّماءَ) الذي هو ما علا الأرض فأطلق على ما يحويه ، كما أطلق لفظ الأرض على سكانها في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١]. فالله يمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء ، ويمسك ما فيها من القوى كالمطر والبرد والثلج والصواعق من الوقوع على


الأرض والتحكك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب. فيكون موقع (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) بعد قوله تعالى : (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) كموقع قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) في [سورة الجاثية : ١٢ ـ ١٣].

ويكون في قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إدماجا بين الامتنان والتخويف : فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس ، ومنه ما هو مكروه ، وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الآخرين وأوجز ، فهو لذلك أنسب بالإعجاز.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) استثناء من عموم متعلقات فعل (يُمْسِكُ) وملابسات مفعوله وهو كلمة (السَّماءَ) على اختلاف محامله ، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعا ملابسا لإذن من الله : هذا ما ظهر لي في معنى الآية.

وقال ابن عطيّة : «يحتمل أن يعود قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد (أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذا من قوله تعالى : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] ونحوه فكأنه أراد : إلا بإذنه فيمسكها» اه. يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف.

والإذن حقيقته : قول يطلب به فعل شيء ، واستعير هنا للمشيئة والتكوين ، وهما متعلّق الإرادة والقدرة.

وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة : البرّ ، والبحر ، والجوّ.

وموقع جملة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) موقع التعليل للتسخير والإمساك باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم.

والرءوف : صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة ، وهي صفة تقتضي صرف الضر.

والرّحيم : وصف من الرحمة ، وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه. وقد تتعاقب الصفتان ، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه.


(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)

بعد أن أدمج الاستدلال على البعث بالمواعظ والمنن والتذكير بالنعم أعيد الكلام على البعث هنا بمنزلة نتيجة القياس ، فذكّر الملحدون بالحياة الأولى التي لا ريب فيها ، وبالإماتة التي لا يرتابون فيها ، وبأن بعد الإماتة إحياء آخر كما أخذ من الدلائل السابقة. وهذا محل الاستدلال ، فجملة (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) عطف على جملة (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) [الحج : ٦٥] لأن صدر هذه من جملة النعم فناسب أن تعطف على سابقتها المتضمنة امتنانا واستدلالا كذلك.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)

تذييل يجمع المقصد من تعداد نعم المنعم بجلائل النعم المقتضية انفراده باستحقاق الشكر واعتراف الخلق له بوحدانية الربوبية.

وتوكيد الخبر بحرف (إنّ) لتنزيلهم منزلة المنكر أنهم كفراء.

والتعريف في (الْإِنْسانَ) تعريف الاستغراق العرفي المؤذن بأكثر أفراد الجنس من باب قولهم : جمع الأمير الصاغة ، أي صاغة بلده ، وقوله تعالى : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ٣٨]. وقد كان أكثر العرب يومئذ منكرين للبعث ، أو أريد بالإنسان خصوص المشرك كقوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦].

والكفور : مبالغة في الكافر ، لأنّ كفرهم كان عن تعنّت ومكابرة.

ويجوز كون الكفور مأخوذا من كفر النعمة وتكون المبالغة باعتبار آثار الغفلة عن الشكر ، وحينئذ يكون الاستغراق حقيقيا.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧))

هذا متصل في المعنى بقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما


رَزَقَهُمْ) [الحج : ٣٤] الآية. وقد فصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٣٧ ـ ٣٨] إلى هنا ، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) [الحج : ٣٤] الآية ليبنى عليه قوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ). فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة ، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا منسكا واحدا يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعزّى ، قال النّابغة :

وما هريق على الأنصاب من جسد

 .........................

(أي دم). وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) [الحج : ٣٤] كما تقدم آنفا.

فالجملة استئناف. والمناسبة ظاهرة ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.

والمنسك ـ بفتح الميم وفتح السين ـ : اسم مكان النّسك بضمهما كما تقدّم. وأصل النّسك العبادة ويطلق على القربان ، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان. والضمير في (ناسِكُوهُ) منصوب على نزع الخافض ، أي ناسكون فيه.

وفي «الموطأ» : «أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح ، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، فقال الله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) الآية ، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اه.

قال الباجي في «المنتقى» : «وهو قول ربيعة». وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه ، أي نزلت في سنة تسع ، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.

وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها ، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ما أعطيه


من الحجج كاف في قطع منازعة معارضيه ، فالمعارضون هم المقصود بالنهي ، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحجج وجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل : فلا تترك لهم ما ينازعونك به ، وهو من باب قول العرب : لا أعرفنّك تفعل كذا ، أي لا تفعل فأعرفك ، فجعل المتكلم النهي موجها إلى نفسه ، والمراد نهي السامع عن أسبابه ، وهو نهي للغير بطريق الكناية.

وقال الزجاج : هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله ، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه. وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله. وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعد ما سيق لهم من الحجج.

واسم (الْأَمْرِ) هنا مجمل مراد به التوحيد بالقرينة ، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرر الحجّ الذي هو من مناسكهم ، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم ، فكان قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) كشفا لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ ، وهو رمز التوحيد ، وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعنّ في أمر الحجّ بعد هذا. وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحج : ٧٢] ، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بها وبالمدينة في أول مقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ ، فيبعد تفسير المنازعة بمنازعة أهل الكتاب.

وقوله (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) عطف على جملة (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ). عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمر بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المكابرة تجافي الاقتناع ، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين ، وفي حذف مفعول (ادْعُ) إيذان بالتعميم.

وجملة (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك. وعلى مستعارة للتمكن من الهدى.

ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية ؛ شبه الهدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالا ، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال


إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان. وفي هذا الخبر تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة.

[٦٨ ، ٦٩] (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩))

عطف على جملة (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) [الحج : ٦٧]. والمعنى : إن تبيّن عدم اقتناعهم بالأدلة التي تقطع المنازعة وأبوا إلا دوام المجادلة تشغيبا واستهزاء فقل : الله أعلم بما تعملون.

وفي قوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) تفويض أمرهم إلى الله تعالى ، وهو كناية عن قطع المجادلة معهم ، وإدماج بتعريض بالوعيد والإنذار بكلام موجّه صالح لما يتظاهرون به من تطلب الحجّة : ولما في نفوسهم من إبطال العناد كقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) [السجدة : ٣٠].

والمراد (بِما تَعْمَلُونَ) ما يعملونه من أنواع المعارضة والمجادلة بالباطل ليدحضوا به الحق وغير ذلك.

وجملة (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام مستأنف ليس من المقول ، فهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس خطابا للمشركين بقرينة قوله (بَيْنَكُمْ). والمقصود تأييد الرسول والمؤمنين.

وما كانوا فيه يختلفون : هو ما عبر عنه بالأمر في قوله (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) [الحج : ٦٧].

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج : ٦٩] ، أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلا على حساب عمله ، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به.

و (ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه.


والاستفهام إنكاري أو تقريري ، أي أنك تعلم ذلك ، وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدرا مما تلاقيه منهم.

وجملة (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) بيان للجملة قبلها ، أي يعلم ما في السماء والأرض علما مفصلا لا يختلف ، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنقصان.

واسم الإشارة إلى العمل في قوله (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أو إلى (ما) في قوله : (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الحج : ٦٩].

والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال : إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة ، وإما على الحقيقة ، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتابا لائقا بالمغيبات.

وجملة (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) بيان لمضمون الاستفهام من الكتابة عن الجزاء.

واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور. ولك أن تجعلها بيانا لجملة (يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل (يَعْلَمُ) ، أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب ، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث.

وتقديم المجرور على متعلّقه وهو (يَسِيرٌ) للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانه في جانب علم الله تعالى.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١))

يجوز أن يكون الواو حرف عطف وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة بما تفرّع عليها عطف غرض على غرض.

ويجوز أن يكون الواو للحال والجملة بعدها حالا من الضمير المرفوع في قوله (جادَلُوكَ) [الحج : ٦٨] ، والمعنى : جادلوك في الدين مستمرين على عبادة ما لا يستحق العبادة بعد ما رأوا من الدلائل ، وتتضمن الحال تعجيبا من شأنهم في مكابرتهم وإصرارهم.

والإتيان بالفعل المضارع المفيد للتجدّد على الوجهين لأن في الدلائل التي تحفّ بهم والتي ذكّروا ببعضها في الآيات الماضية ما هو كاف لإقلاعهم عن عبادة الأصنام لو كانوا يريدون الحق.


و (مِنْ دُونِ) يفيد أنهم يعرضون عن عبادة الله ، لأن كلمة (دُونِ) وإن كانت اسما للمباعدة قد يصدق بالمشاركة بين ما تضاف إليه وبين غيره. فكلمة (دون) إذا دخلت عليها (من) صارت تفيد معنى ابتداء الفعل من جانب مباعد لما أضيف إليه (دون). فاقتضى أن المضاف إليه غير مشارك في الفعل. فوجه ذلك أنهم لما أشربت قلوبهم الإقبال على عبادة الأصنام وإدخالها في شئون قرباتهم حتى الحج إذ قد وضعوا في شعائره أصناما بعضها وضعوها في الكعبة وبعضها فوق الصفا والمروة جعلوا كالمعطلين لعبادة الله أصلا.

والسلطان : الحجة. والحجة المنزّلة : هي الأمر الإلهي الوارد على ألسنة رسله وفي شرائعه ، أي يعبدون ما لا يجدون عذرا لعبادته من الشرائع السالفة : وقصارى أمرهم أنهم اعتذروا بتقدم آبائهم بعبادة أصنامهم ، ولم يدّعوا أن نبيئا أمر قومه بعبادة صنم ولا أن دينا إلهيا رخص في عبادة الأصنام.

و (ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) ، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأنّ الاعتقاد الجازم لا يكون إلّا عن دليل ، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه. وتقديم انتفاء الدليل الشرعي على انتفاء الدليل العقلي لأنّ الدليل الشرعي أهمّ.

و (ما) التي في قوله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) نافية. والجملة عطف على جملة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي يعبدون ما ذكر وما لهم نصير فلا تنفعهم عبادة الأصنام. فالمراد بالظالمين المشركون المتحدّث عنهم ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن سبب انتفاء النصير لهم هو ظلمهم ، أي كفرهم. وقد أفاد ذلك ذهاب عبادتهم الأصنام باطلا لأنهم عبدوها رجاء النصر. ويفيد بعمومه أن الأصنام لا تنصرهم فأغنى عن موصول ثالث هو من صفات الأصنام كأنه قيل : وما لا ينصرهم ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) [الأعراف : ١٩٧].

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا).

عطف على جملة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [الحج : ٧١] لبيان


جرم آخر من أجرامهم مع جرم عبادة الأصنام ، وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن.

والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات لقوله (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ).

والمنكر : إما الشيء الذي تنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسما ، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء ، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام. والمحملان آئلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغيظ والغضب عند ما يتلى عليهم القرآن ويدعون إلى الإيمان. وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثره بواطنهم فظهر على وجوههم. كما في قوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرّتهم به. ولأجل هذه الكناية عدل عن التصريح بنحو : اشتدّ غيظهم ، أو يكادون يتميزون غيظا ، ونحو قوله : (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [النحل : ٢٢].

وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارها إياها ، إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها.

والخطاب في قوله (تَعْرِفُ) لكلّ من يصلح للخطاب بدليل قوله (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا).

والتعبير ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) إظهار في مقام الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يكون (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزّل به سلطانا ، فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علّة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر.

والسّطوّ : البطش ، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدّة الغضب والغيظ من سماع القرآن.

و (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ) يجوز أن يكون مرادا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] ، أي كذّبوا الرسول.

ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القرآن من المسلمين والرسول ، أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرءوا عليهم القرآن ، أو لعلّ السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة.


وجملة (يَكادُونَ يَسْطُونَ) في موضع بدل الاشتمال لجملة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) لأن الهمّ بالسطو مما يشتمل عليه المنكر.

(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار.

والتفريع بالفاء ناشئ من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ. ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظا.

ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) ، أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبيّنة لكفرهم ، وفرع عليها وعيدهم بالنار.

والاستفهام مستعمل في الاستئذان ، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم.

وشرّ : اسم تفضيل ، أصله أشرّ : كثر حذف الهمزة تخفيفا ، كما حذفت في خير بمعنى أخير.

والإشارة ب (ذلِكُمُ) إلى ما أثار منكرهم وحفيظتهم ، أي بما هو أشد شرّا عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم ، أي فإن كنتم غاضبين لما تلي عليكم من الآيات فازدادوا غضبا بهذا الذي أنبّئكم به.

وقوله (النَّارُ) خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ). والتقدير : شرّ من ذلكم النّار.

فالجملة استئناف بياني ، أي إن سألتم عن الذي هو أشدّ شرا فاعلموا أنه النار.

وجملة (وَعَدَهَا اللهُ) حال من النّار ، أو هي استئناف.

والتعبير عنهم بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) إظهار في مقام الإضمار ، أي وعدها الله إياكم لكفركم.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس مصيرهم هي ، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه ، فتكون الجملة إنشاء ذمّ معطوفة على جملة الحال على تقدير القول. ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم ، أي بئس المصير هي لمن صار إليها ، فتكون الجملة تذييلا


لما فيها من عموم الحكم للمخاطبين وغيرهم وتكون الواو اعتراضية تذييلية.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣))

أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بأن إله الناس واحد وأن ما يعبد من دونه باطل ، أعقبت تلك كلها بمثل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها.

والخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للمشركين لأنهم المقصود بالردّ والزجر وبقرينة قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) على قراءة الجمهور (تَدْعُونَ) بتاء الخطاب.

فالمراد ب (النَّاسُ) هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن. ويجوز أن يكون المراد ب (النَّاسُ) جميع الناس من مسلمين ومشركين.

وفي افتتاح السورة ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وتنهيتها بمثل ذلك شبه بردّ العجز على الصدر. ومما يزيده حسنا أن يكون العجز جامعا لما في الصدر وما بعده ، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصة للخطبة والحوصلة للدرس.

وضرب المثل : ذكره وبيانه ؛ استعير الضرب للقول والذكر تشبيها بوضع الشيء بشدّة ، أي ألقي إليكم مثل. وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في [سورة البقرة : ٢٦].

وبني فعل (ضُرِبَ) بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صرّح فيها بفاعل ضرب المثل نحو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في [سورة البقرة : ٢٦] و (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) في [سورة النحل : ٧٥] و (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً) في [سورة الزمر : ٢٩] و (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) في [سورة النحل : ٧٦]. إذ أسند في تلك المواضع وغيرها ضرب المثل إلى الله ، ونحو قوله: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) في [سورة النحل : ٧٤]. و (ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) في [سورة يس : ٧٨] ، إذ أسند الضرب إلى المشركين ، لأنّ المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالين :


أحدهما : أن يقدّر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثل تشبيها تمثيليا ، أي أوضح الله تمثيلا يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكلّ أحد.

والثاني : أن يقدّر الفاعل المشركين ويكون المثل بمعنى المماثل ، أي جعلوا أصنامهم مماثلة لله تعالى في الإلهية.

وصيغة الماضي في قوله (ضُرِبَ) مستعملة في تقريب زمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول ، نحو قوله تعالى : (لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) [النساء : ٩] ، أي لو شارفوا أن يتركوا ، أي بعد الموت.

وجملة (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى آخرها يجوز أن تكون بيانا لفعل (ضُرِبَ) على الاحتمال الأول في التقدير ، أي بين تمثيل عجيب.

ويجوز أن تكون بيانا للفظ (مَثَلٌ) لما فيها من قوله : (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) على الاحتمال الثاني.

وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) لاسترعاء الأسماع إلى مفاد هذا المثل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية ، أي استمعوا استماع تدبّر.

فصيغة الأمر في (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول ، وفي التعجيب على الاحتمال الثاني. وضمير (لَهُ) عائد على المثل على الاحتمال الأول لأنّ المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة ، وعائد على الضّرب المأخوذ من فعل (ضُرِبَ) على الاحتمال الثاني على طريقة (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، أي استمعوا للضرب ، أي لما يدلّ على الضرب من الألفاظ ، فيقدر مضاف بقرينة (فَاسْتَمِعُوا) لأن المسموع لا يكون إلّا ألفاظا ، أي استمعوا لما يدلّ على ضرب المثل المتعجّب منه في حماقة ضاربيه.

واستعملت صيغة الماضي في (ضُرِبَ) مع أنه لمّا يقل لتقريب زمن الماضي من الحال كقوله : (لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) [النساء : ٩] ، أي لو قاربوا أن يتركوا ، وذلك تنبيه للسامعين بأن يتهيئوا لتلقي هذا المثل ، لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها.

والمثل : شاع في تشبيه حالة بحالة ، كما تقدّم في قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ


ناراً) في [سورة البقرة : ١٧] ، فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفيّ ينبئ عنه قوله : (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) وقوله (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). فشبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكّة بالخصوص بعظماء ، أي عند عابديها. وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذّر عليهم خلق أضعف المخلوقات ، وهو الذباب ، بله المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض. وقد دلّ إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة لأنّ نفي الخلق يقتضي محاولة إيجاده ، وذلك كقوله تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) كما تقدم في [سورة النحل : ٢١]. ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئا لم يستطيعوا أخذه منه ، ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم ، فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف توسم بالإلهية ، ورمز إلى الهيئة المشبه بها بذكر لوازم أركان التشبيه من قوله (لَنْ يَخْلُقُوا) وقوله (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) إلى آخره ، لا جرم حصل تشبيه هيئة الأصنام في عجزها بما دون هيئة أضعف المخلوقات فكانت تمثيلية مكنية.

وفسر صاحب «الكشاف» المثل هنا بالصفة الغريبة تشبيها لما ببعض الأمثال السائرة. وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده اقتصادا منه في الغوص عن المعنى لا ضعفا عن استخراج حقيقة المثل فيها وهو جذيعها المحكّك وعذيقها المرجب ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلا بأمر خطير ، وكم ترك الأول للأخير.

وفرع على التهيئة لتلقي هذا المثل الأمر بالاستماع له وإلقاء الشراشر لوعيه وترقب بيان إجماله توخّيا للتفطّن لما يتلى بعد.

وجملة (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) إلخ بيان ل (مَثَلٌ) على كلا الاحتمالين السابقين في معنى (ضُرِبَ مَثَلٌ) ، فإن المثل في معنى القول فصحّ بيانه بهذا الكلام.

وأكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو (إن) ، وأكد ما فيه من النفي بحرف توكيد النفي (لن) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لمضمون الخبر ، لأنّ جعلهم الأصنام آلهة يقتضي إثباتهم الخلق إليها وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في إقحام الذين ادعوا لها الإلهية لأنّ نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأحرى لأن الذي يفعل شيئا يكون فعله من بعد أيسر عليه.

وقرأ الجمهور (تَدْعُونَ) بتاء الخطاب على أن المراد بالنّاس في قوله : (يا أَيُّهَا


النَّاسُ) خصوص المشركين. وقرأه يعقوب ـ بياء الغيبة ـ على أن يقصد ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) جميع الناس وأنّهم علموا بحال فريق منهم وهم أهل الشرك. والتقدير : إن الذين يدعون هم فريق منكم.

والذّباب : اسم جمع ذبابة ، وهي حشرة طائرة معروفة ، وتجمع على ذبّان ـ بكسر الذال وتشديد النون ـ ولا يقال في العربية للواحدة ذبّانة.

وذكر الذّباب لأنه من أحقر المخلوقات التي فيها الحياة المشاهدة. وأما ما في الحديث في المصورين قال الله تعالى : «فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة» فهو في سياق التعجيز لأنّ الحبّة لا حياة فيها والذرة فيها حياة ضعيفة.

وموقع (لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) موقع الحال ، والواو واو الحال ، و (لو) فيه وصلية. وقد تقدّم بيان حقيقتها عند قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في [سورة آل عمران : ٩١]. أي لن يستطيعوا ذلك الخلق وهم مفترقون ، بل ولو اجتمعوا من مفترق القبائل وتعاونوا على خلق الذباب لن يخلقوه.

والاستنقاذ : مبالغة في الإنقاذ مثل الاستحياء والاستجابة.

وجملة (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) تذييل وفذلكة للغرض من التمثيل ، أي ضعف الداعي والمدعو ، إشارة إلى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) إلخ ، أي ضعفتم أنتم في دعوتهم آلهة وضعفت الأصنام عن صفات الإله.

وهذه الجملة كلام أرسل مثلا ، وذلك من بلاغة الكلام.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤))

تذييل للمثل بأن عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين ، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم ، وإذ هموا بالبطش برسوله.

والقدر : العظمة ، وفعل قدر يفيد أنه عامل بقدره. فالمعنى : ما عظموه حق تعظيمه إذ أشركوا معه الضعفاء العجز وهو الغالب القوي. وقد تقدّم تفسيره في قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) في [سورة الأنعام : ٩١].

وجملة (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) تعليل لمضمون الجملة قبلها ، فإن ما أشركوهم مع الله


في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل. والعدول عن أن يقال : ما قدرتم الله حقّ قدره ، إلى أسلوب الغيبة ، التفات تعريضا بهم بأنّهم ليسوا أهلا للمخاطبة توبيخا لهم ، وبذلك يندمج في قوله : (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم.

وتوكيد الجملة بحرف التوكيد ولام الابتداء مع أن مضمونها مما لا يختلف فيه لتنزيل علمهم بذلك منزلة الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب العلم حين أشركوا مع القوي العزيز ضعفاء أذلة.

والقويّ : من أسمائه تعالى. وهو مستعمل في القدرة على كلّ مراد له. والعزيز : من أسمائه ، وهو بمعنى : الغالب لكلّ معاند.

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥))

لما نفت الآيات السابقة أن يكون للأصنام التي يعبدها المشركون مزية في نصرهم بقوله: (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [الحج : ٧١] ، وقوله : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج : ٧٣] ونعى على المشركين تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله : (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) [الحج : ٧٢] ، وقد كان من دواعي التكذيب أنهم أحالوا أن يأتيهم رسول من البشر : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] أي يصاحبه ، (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] أعقب إبطال أقوالهم بأن الله يصطفي من شاء اصطفاءه من الملائكة ومن الناس دون الحجارة ، وأنه يصطفيهم ليرسلهم إلى الناس ، أي لا ليكونوا شركاء ، فلا جرح أبطل قوله (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) جميع مزاعمهم في أصنامهم.

فالجملة استئناف ابتدائي ، والمناسبة ما علمت.

وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله (اللهُ يَصْطَفِي) دون أن يقول : نصطفي ، لإفادة الاختصاص ، أي الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم تصطفون وتنسبون إليه.

والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل : هو يصطفي من الملائكة رسلا ، لأن


اسم الجلالة أصله الإله ، أي الإله المعروف الذي لا إله غيره ، فاشتقاقه مشير إلى أن مسماه جامع كل الصفات العلى تقريرا للقوّة الكاملة والعزّة القاهرة.

وجملة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) تعليل لمضمون جملة (اللهُ يَصْطَفِي) لأن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء. وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصمّاء.

والسميع البصير : كناية عن عموم العلم بالأشياء بحسب المتعارف في المعلومات أنها لا تعدو المسموعات والمبصرات.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

جملة مقرّرة لمضمون جملة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج : ٧٥] وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربّهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية.

و (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) مستعار لما يظهرونه ، (وَما خَلْفَهُمْ) هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يخفيه يجعله وراءه.

ويجوز أن يكون (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) مستعارا لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه ، (وَما خَلْفَهُمْ) مستعارا لما مضى وعبر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه.

وضمير (أَيْدِيهِمْ) و (خَلْفَهُمْ) عائدان : إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) [الحج : ٦٧] ، وإما إلى الملائكة والناس. وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة.

وبني فعل (تُرْجَعُ) إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلّا بالله تعالى ، فهو يمهل الناس في الدنيا وهو يرجع الأمور إليه يوم القيامة.

وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي ، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين. والتعريف في (الْأُمُورُ) للاستغراق ، أي كل أمر. وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعا لما قبله من قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

لما كان خطاب المشركين فاتحا لهذه السورة وشاغلا لمعظمها عدا ما وقع اعتراضا في خلال ذلك ، فقد خوطب المشركون ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أربع مرات ، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم ، ختمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يصلح أعمالهم وينوّه بشأنهم.

وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال.

والمراد بالركوع والسجود الصلوات. وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية. وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) تنبيه على أنّ الصلاة عماد الدين.

والمراد بالعبادة : ما أمر الله النّاس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج.

وقوله (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة ، وحسن المعاملة كصلة الرّحم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وسائر مكارم الأخلاق ، وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى.

والرجاء المستفاد من (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحدّ الموجب للفلاح فيما حدّد الله تعالى ، فهذه حقيقة الرجاء. وأما ما يستلزمه الرجاء من تردّد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تحيل الشكّ على الله تعالى.

واعلم أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) إلى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) اختلف الأئمّة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القرآن. والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في «الموطأ» و «المدوّنة» ، وأبي حنيفة ، والثوري.


وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة ، وروى الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وفقهاء المدينة ، ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه. وقال ابن عبد البر في «الكافي» : «ومن أهل المدينة قديما وحديثا من يرى السجود في الثانية من الحجّ قال : وقد رواه ابن وهب عن مالك». وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصّل منها شيء» ، فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب ، وكذلك ابن رشد في «المقدمات» : فما نسبه ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب.

وروى الترمذي عن ابن لهيعة عن مشرح (١) عن عقبة بن عامر قال : «قلت يا رسول الله فضلت سورة الحجّ لأنّ فيها سجدتين؟ قال : نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» اه. قال أبو عيسى : هذا حديث إسناده ليس بالقويّ اه ، أي من أجل أن ابن لهيعة ضعّفه يحيى بن معين ، وقال مسلم : تركه وكيع ، والقطّان ، وابن مهدي. وقال أحمد : احترقت كتبه فمن روى عنه قديما (أي قبل احتراق كتبه) قبل.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ)

الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدّين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسّره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». وأن ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ، وفسّره لهم بمجاهدة العبد هواه(٢) ، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية.

ومعنى (في) التعليل ، أي لأجل الله ، أي لأجل نصر دينه كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت

__________________

(١) مشرح ـ بميم مكسورة فشين معجمة ساكنة هو ابن عاهان المعافري تابعي توفى سنة ١٢٠ ه‍.

(٢) رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله بسند ضعيف.


امرأة النار في هرّة» أي لأجل هرة ، أي لعمل يتعلق بهرّة كما بيّنه بقوله : «حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا».

وانتصب (حَقَّ جِهادِهِ) على المفعول المطلق المبيّن للنوع ، وأضيفت الصفة إلى الموصوف ، وأصله : جهاده الحقّ ، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة ، أي حق الجهاد لأجله ، وقرينة المراد تقدّم حرف (في) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢].

والحق بمعنى الخالص ، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير.

والآية أمر بالجهاد ، ولعلّها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأنّ السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ ولأنه تقدم آنفا قوله : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) [الحج : ٦٠] ، فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر ، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة.

(هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)

جملة (هُوَ اجْتَباكُمْ) إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج : ٧٧] إلخ ، أي لأنه لما اجتباكم ، كان حقيقا بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها.

والاجتباء : الاصطفاء والاختبار ، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه. فيظهر أن هذا موجّه لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتّحاد الوصف في الأجيال كما هو الشأن في مخاطبات التشريع.

وإن حمل قوله (هُوَ اجْتَباكُمْ) على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظا فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة.

وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠].


وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدّين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله دينا لا حرج فيه لأنّ ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله ، وقد امتنّ الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن ، منها قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥]. ووصفه الدين بالحنيف ، وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفيّة السّمحة».

والحرج : الضيق ، أطلق على عسر الأفعال تشبيها للمعقول بالمحسوس ثمّ شاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية كما هنا.

والملّة : الدين والشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في [سورة النحل : ١٢٣]. وقوله : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) في [سورة يوسف : ٣٨].

وقوله (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) زيادة في التنويه بهذا الدّين وتحضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر ، وهو معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا دعوة أبي إبراهيم» (١) أي بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] ، وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أنّ هذا الدّين دين إبراهيم ، أي أنّ الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومعلوم أن للإسلام أحكاما كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم ، جعل كأنه عين ملّة إبراهيم ، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) على الحال من (الدِّينِ) باعتبار أن الإسلام حوى ملّة إبراهيم.

ثم إن كان الخطاب موجّها إلى الذين صحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة ، لأنّ غالب الأمة يومئذ من العرب المضرية وأمّا الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنّهم من العرب القحطانيين ؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قبل الأمهات.

وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] ، ولأنه أبو النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرئ قوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ

__________________

(١) رواه أبو داود الطيالسي عن عبادة بن الصامت.


أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] بزيادة وهو أبوهم.

ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال : ملّة أبيك إبراهيم.

والضمير في (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) عائد إلى الجلالة كضمير (هُوَ اجْتَباكُمْ) فتكون الجملة استئنافا ثانيا ، أي هو اجتباكم وخصّكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم.

و (قَبْلُ) إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه. والاسم الذي أضيف إليه (قَبْلُ) محذوف ، وبني (قَبْلُ) على الضم إشعارا بالمضاف إليه. والتقدير : من قبل القرآن. والقرينة قوله (وَفِي هذا) ، أي وفي هذا القرآن.

والإشارة في قوله (وَفِي هذا) إلى القرآن كما في قوله تعالى : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأحقاف : ٤] ، أي وسماكم المسلمين في القرآن. وذلك في نحو قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] وقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر : ١٢].

واللّام في قوله (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) يتعلّق بقوله (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج : ٧٧] أو بقوله (اجْتَباكُمْ) أي ليكون الرسول ، أي محمد عليه الصلاة والسلام شهيدا على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به ، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على النّاس ، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون. ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا ، وقدمت شهادة الأمة في آية [البقرة : ١٤٣] (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ؛ لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدّين الذي جاء به الرسول. فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم ، وآية البقرة صدّرت بالثناء على الأمّة فكان ذكر شهادة الأمة أهمّ.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)

تفريع على جملة (هُوَ اجْتَباكُمْ) وما بعدها ، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.


والاعتصام : افتعال من العصم ، وهو المنع من الضرّ والنجاة ، قال تعالى : (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] ، وقال النابغة :

يظل من خوفه الملاح معتصما

بالخيزرانة بعد الأين والنجد

والمعنى : اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم.

وجملة (هُوَ مَوْلاكُمْ) مستأنفة معلّلة للأمر بالاعتصام بالله لأنّ المولى يعتصم به ويرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته.

والمولى : السيد الذي يراعي صلاح عبده.

وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير. أي نعم المدبر لشئونكم ، ونعم الناصر لكم. ونصير : صيغة مبالغة في النصر ، أي نعم المولى لكم ونعم النصير لكم. وأما الكافرون فلا يتولّاهم تولي العناية ولا ينصرهم.

وهذا الإنشاء يتضمّن تحقيق حسن ولاية الله تعالى وحسن نصره. وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على الأمر بالاعتصام به.

وهذا من براعة الختام ، كما هو بيّن لذوي الأفهام.


محتوى الجزء السابع عشر من كتاب تفسير التحرير والتنوير

٢١ ـ سورة الأنبياء

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).................................. ٧

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)......... ٩

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلى (تُبْصِرُونَ)........... ١٠

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).................... ١٢

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا) إلى (الْأَوَّلُونَ)............ ١٢

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)................................ ١٤

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ) إلى (تَعْلَمُونَ)............. ١٥

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ)......................... ١٥

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)..................... ١٦

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ).................................. ١٧

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً) إلى (ظالِمِينَ)............. ١٨

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)......................... ٢١

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ) إلى (فاعِلِينَ)......... ٢٣

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)...... ٢٥

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ) إلى (لا يَفْتُرُونَ)........ ٢٦

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ)....................................... ٢٨

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).......... ٢٩

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)............................................. ٣٤

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ) إلى (مُعْرِضُونَ)......... ٣٥

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).......... ٣٦


(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) إلى (الظَّالِمِينَ)............ ٣٧

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما).................. ٣٩

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)................................... ٤٢

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).... ٤٢

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ).......................... ٤٣

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)................................ ٤٤

(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)...................................................... ٤٤

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)....................... ٤٦

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ)............... ٤٧

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) إلى (كافِرُونَ).................... ٤٨

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).......................... ٤٩

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إلى (يُنْظَرُونَ)...................... ٥٠

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) إلى (يَسْتَهْزِؤُنَ)............ ٥٣

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) إلى (الْعُمُرُ)........................ ٥٤

(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ).................... ٥٦

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ)................... ٥٧

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)................ ٥٨

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) إلى (حاسِبِينَ)......... ٥٩

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً) إلى (مُنْكِرُونَ)................. ٦٤

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) إلى (مُدْبِرِينَ)................. ٦٧

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) إلى (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)......... ٧١

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) إلى (تَعْقِلُونَ)......................... ٧٣

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إلى (إِبْراهِيمَ).................... ٧٧


(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ).......................................... ٧٨

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) إلى (عابِدِينَ).............. ٧٩

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) إلى (الصَّالِحِينَ)................. ٨١

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ) إلى (أَجْمَعِينَ).................... ٨٢

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ) إلى (وَعِلْماً)............... ٨٤

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)........................... ٨٧

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ).............. ٨٨

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) إلى (عالِمِينَ)........................... ٨٩

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ)....... ٩١

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إلى (لِلْعابِدِينَ).......................... ٩٢

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) إلى (الصَّالِحِينَ).............. ٩٤

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى) إلى (الْمُؤْمِنِينَ)........ ٩٥

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ) إلى (زَوْجَهُ).................. ٩٨

(إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ).......... ٩٩

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها) إلى (آيَةً لِلْعالَمِينَ)..... ١٠٠

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)................................ ١٠١

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ)...................................... ١٠٣

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) ١٠٥

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).................................. ١٠٥

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) إلى (ظالِمِينَ)............ ١٠٧

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ) إلى (لا يَسْمَعُونَ).......... ١١١

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها) إلى (تُوعَدُونَ)................ ١١٣

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا) إلى (كُنَّا فاعِلِينَ).......... ١١٥


(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ) إلى (عابِدِينَ)................. ١١٨

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)............................................ ١٢٠

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)................... ١٢٤

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ)......... ١٢٦

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ)................................. ١٢٧

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ).................................... ١٢٨

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)................. ١٢٨

٢٢ ـ سورة الحج

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)......................... ١٣٥

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ)................. ١٤٠

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)................. ١٤١

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) إلى (شَيْئاً)............ ١٤٣

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) إلى (بَهِيجٍ).......... ١٤٧

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ) إلى (الْقُبُورِ).................. ١٤٩

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا) إلى (لِلْعَبِيدِ)............ ١٥٠

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ) إلى (الْمُبِينُ).................. ١٥٣

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ).................................. ١٥٦

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)................... ١٥٦

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي) إلى (يُرِيدُ)........ ١٥٧

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إلى (يَغِيظُ)................ ١٥٨

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)........................... ١٦١

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى) إلى (شَهِيدٌ)............... ١٦١


(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) إلى (يَشاءُ)...................... ١٦٣

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (الْحَرِيقِ)................ ١٦٥

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلى (الْحَمِيدِ)................. ١٦٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ) إلى (أَلِيمٍ)................. ١٧٠

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ) إلى (السُّجُودِ).................. ١٧٣

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) إلى (الْفَقِيرَ)............. ١٧٥

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)...................... ١٧٩

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)............................ ١٨٢

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا) إلى (مُشْرِكِينَ بِهِ)............ ١٨٣

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ) إلى (سَحِيقٍ)................ ١٨٤

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)........................... ١٨٥

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)................... ١٨٦

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما) إلى (أَسْلِمُوا)............... ١٨٧

(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى (يُنْفِقُونَ).............. ١٨٨

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا) إلى (تَشْكُرُونَ)..... ١٨٩

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ)...................... ١٩٣

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)............... ١٩٥

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).................. ١٩٦

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)................... ١٩٧

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)...................... ١٩٨

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) إلى (عَزِيزٌ)............. ١٩٩

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) إلى (الْمُنْكَرِ).................... ٢٠٣

(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)......................................................... ٢٠٤


(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) إلى (نَكِيرِ)............. ٢٠٤

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ) إلى (مَشِيدٍ)................ ٢٠٦

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ) إلى (الصُّدُورِ)............ ٢٠٧

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) إلى (تَعُدُّونَ).................. ٢١٠

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)................. ٢١١

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى (الْجَحِيمِ).......... ٢١٢

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا) إلى (مُسْتَقِيمٍ)................... ٢١٤

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) إلى (عَقِيمٍ)................... ٢٢٢

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى (حَلِيمٌ)..................... ٢٢٢

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ) إلى (غَفُورٌ)......... ٢٢٤

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلى (سَمِيعٌ بَصِيرٌ)....................... ٢٢٦

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلى (الْكَبِيرُ)................. ٢٢٨

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً خَبِيرٌ)............... ٢٢٩

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)................ ٢٣٠

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) إلى (رَحِيمٌ)......................... ٢٣١

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).................................... ٢٣٥

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)........................................................ ٢٣٥

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ) إلى (مُسْتَقِيمٍ)............... ٢٣٥

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) إلى (تَخْتَلِفُونَ)..................... ٢٣٨

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَ) إلى (يَسِيرٌ)................. ٢٣٨

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) إلى (نَصِيرٍ)........................... ٢٣٩

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ) إلى (آياتُنا)............. ٢٤٠

(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ) إلى (الْمَصِيرُ)................... ٢٤٢


(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إلى (وَالْمَطْلُوبُ)...................... ٢٤٣

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).................................... ٢٤٦

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)................ ٢٤٧

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)........................ ٢٤٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) إلى (تُفْلِحُونَ)............. ٢٤٩

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ)............................................... ٢٥٠

(هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) إلى (عَلَى النَّاسِ)........... ٢٥١

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) إلى (النَّصِيرُ).................... ٢٥٣

التحرير والتنوير - ١٧

المؤلف:
الصفحات: 261