


بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
الحمد لله على أن
بيّن للمستهدين معالم مراده ، ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده ، فأنزل القرآن
قانونا عاما معصوما ، وأعجز بعجائبه فظهرت يوما فيوما ، وجعله مصدّقا لما بين يديه
ومهيمنا ، وما فرط فيه من شيء يعظ مسيئا ويعد محسنا ، حتى عرفه المنصفون من مؤمن
وجاحد ، وشهد له الراغب والمحتار والحاسد ، فكان الحال بتصديقه أنطق من اللسان ،
وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان ، وأبرز آياته في الآفاق فتبيّن للمؤمنين
أنه الحق ، كما أنزله على أفضل رسول فبشّر بأنّ لهم قدم صدق ، فبه أصبح الرسول
الأمّي سيد الحكماء المربين ، وبه شرح صدره إذا قال : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩] ،
فلم يزل كتابه مشعّا نيّرا ، محفوظا من لدنه أن يترك فيكون مبدّلا ومغيّرا. ثم قيض
لتبيينه أصحابه الأشداء الرحماء ، وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء ،
فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين ، وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين
والماخرين .
أما بعد فقد كان
أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد تفسير الكتاب المجيد ، الجامع لمصالح الدنيا والدين ،
وموثق شديد العرى من الحق المتين ، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها ،
والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها ، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع
، وتفاصيل من مكارم الأخلاق ، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره ، أو
مطالعة كلام مفسّره ، ولكني كنت على كلفي بذلك أتجهم التقحّم على هذا
__________________
المجال ، وأحجم عن
الزجّ بسية قوسي في هذا النضال. اتقاء ما عسى أن يعرّض له المرء نفسه من متاعب
تنوء بالقوة ، أو فلتات سهام الفهم وإن بلغ ساعد الذهن كمال الفتوّة ، فيقيت أسوّف
النفس مرة ومرة أسومها زجرا ، فإن رأيت منها تصميما أحلتها على فرصة أخرى ، وأنا
آمل أن يمنح من التيسير ، ما يشجّع على قصد هذا الغرض العسير ، وفيما أنا بين
إقدام وإحجام ، أتخيل هذا الحقل مرّة القتاد وأخرى الثّمام ؛ إذا أنا بأملي قد خيل
إليّ أنه تباعد أو انقضى ، إذا قدر أن تسند إليّ خطة القضا ، فبقيت متلهفا ولات حين مناص ، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية
متى أجمل الله الخلاص ، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان ، وأضرب المثل بأبي
الوليد ابن رشد في كتاب «البيان» ، ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه ، إلى
أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة ، فإذا الله قد منّ بالنقلة إلى خطة الفتيا ، وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا ،
فتحوّل إلى الرجاء ذلك اليأس ، وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة فهو يقضي بها
ويعلمها الناس . هنا لك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته ، واستعنت
بالله تعالى واستخرته ، وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط ، لا ينبغي أن يحول
بيني وبين نسج هذا النمط ، إذا بذلت الوسع من الاجتهاد ، وتوخيت طرق الصواب
والسداد. أقدمت على هذا المهم إقدام الشجاع على وادي السّباع ؛ متوسطا في معترك أنظار
__________________
الناظرين. وزائر
بين ضباح الزائرين ، فجعلت حقا عليّ أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من
سبقني إليها ، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها ، فإن
الاقتصار على الحديث المعاد ، تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.
ولقد رأيت الناس
حول كلام الأقدمين أحد رجلين : رجل معتكف فيما أشاده الأقدمون ، وآخر آخذ بمعوله
في هدم ما مضت عليه القرون ، وفي كلتا الحالتين ضرّ كثير ، وهنا لك حالة أخرى
ينجبر بها الجناح الكسير ، وهي أن نعمد إلى ما شاده الأقدمون فنهذبه ونزيده ،
وحاشا أن ننقضه أو نبيده ، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة ، وجحد مزايا سلفها
ليس من حميد خصال الأمّة ، فالحمد لله الذي صدّق الأمل ، ويسّر إلى هذا الخير ودلّ.
والتفاسير وإن
كانت كثيرة فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق بحيث لا حظّ لمؤلفه
إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل. وإن أهم التفاسير تفسير «الكشاف» و«المحرر
الوجيز» لابن عطية و«مفاتيح الغيب» لفخر الدين الرازي ، و«تفسير البيضاوي» الملخص من «الكشاف» ومن «مفاتيح
الغيب» بتحقيق بديع ، و«تفسير الشهاب الآلوسي» ، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتازانيّ على «الكشاف» ، وما كتبه الخفاجي على «تفسير البيضاوي» ، و«تفسير
أبي السعود» ، و«تفسير القرطبي» والموجود من «تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي» من تقييد تلميذه الأبيّ وهو بكونه تعليقا على «تفسير ابن عطية» أشبه منه بالتفسير ، لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن ، و«تفاسير الأحكام ،
وتفسير الإمام محمد ابن جرير الطبري» ، وكتاب «درة التنزيل» المنسوب لفخر الدين الرازي ، وربما ينسب للراغب
الأصفهاني. ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها ، وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم
في معاني كتابه وما أجلبه من المسائل العلمية ، مما لا يذكره المفسرون ، وإنما
حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يديّ من التفاسير في تلك الآية خاصة ، ولست
أدعي انفرادي به في نفس الأمر ، فكم من كلام تنشئه ، تجدك قد سبقك إليه متكلم ،
وكم من فهم تستظهره وقد تقدّمك إليه متفهّم ، وقديما قيل :
__________________
هل غادر الشعراء من متردّم
إنّ معاني القرآن
ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف موزّعة على آياته فالأحكام
مبينة في آيات الأحكام ، والآداب في آياتها ، والقصص في مواقعها ، وربما اشتملت
الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر. وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان
، ولكنّ فنّا من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونكته آية من آيات القرآن ، وهو فن
دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصّوا الأفانين الأخرى ،
من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية
من آي القرآن كلّما ألهمته بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبّر.
وقد اهتممت في
تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال ، واهتممت
أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض ، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين
الرازي ، وألّف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى : «نظم الدرر في تناسب
الآي والسور» إلا أنهما لم
يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع ، فلم تزل أنظار المتأملين لفضل القول تتطلع.
أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض ، فلا أراه حقا على المفسر.
ولم أغادر سورة
إلا بيّنت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على
بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع
جماله.
واهتممت بتبيين
معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة.
وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده ، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده
، فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير ،
ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير ، بحيث ساوى هذا التفسير
على اختصاره مطولات القماطير ، ففيه أحسن ما في التفاسير ، وفيه أحسن مما في
التفاسير. وسميته : «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب
المجيد». واختصرت هذا الاسم باسم «التحرير والتنوير من التفسير» وها أنا أبتدئ بتقديم مقدمات تكون عونا للباحث في التفسير ، وتغنيه
عن معاد كثير.
__________________
المقدمة الأولى
في التفسير والتأويل وكون التفسير علما
التفسير مصدر فسّر
بتشديد السين الذي هو مضاعف فسر بالتخفيف ، من بابي نصر وضرب الذي مصدره الفسر ،
وكلاهما فعل متعد فالتضعيف ليس للتعدية. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ
بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسّر عند السامع ، ثم قيل المصدران والفعلان متساويان
في المعنى ، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات ، قاله الراغب وصاحب «البصائر» ، وكأن وجهه أن بيان المعقولان يكلف الذي يبينه كثرة
القول ، كقول أوس بن حجر :
الألمعيّ الذي
يظن بك الظ
|
|
ن كأن قد رأى
وقد سمعا
|
فكان تمام البيت
تفسيرا لمعنى الألمعي ، وكذلك الحدود المنطقية المفسّرة للمواهي والأجناس ، لا
سيما الأجناس العالية الملقبة بالمقولات ، فناسب أن يخص هذا البيان بصيغة المضاعفة
، بناء على أن فعّل المضاعف إذا لم يكن للتعدية كان المقصود منه الدلالة على التكثير
من المصدر ، قال في «الشافية» : «وفعّل للتكثير غالبا» وقد يكون التكثير في ذلك مجازيّا
واعتباريا بأن ينزل كدّ الفكر في تحصيل المعاني الدقيقة ، ثم في اختيار أضبط
الأقوال لإبانتها منزلة العمل الكثير كتفسير صحار العبدي وقد سأله معاوية عن البلاغة فقال : «أن تقول فلا تخطئ ،
وتجيب فلا تبطئ» ثم قال لسائله أقلني : «لا تخطئ ولا تبطئ». ويشهد لهذا قوله تعالى
: (وَلا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : ٣٣].
فأما إذا كان فعّل
المضاعف للتعدية فإنّ إفادته التكثير مختلف فيها ، والتحقيق أن
__________________
المتكلم قد يعدل
عن تعدية الفعل بالهمزة إلى تعديته بالتضعيف لقصد الدلالة على التكثير لأن المضاعف
قد عرف بتلك الدلالة في حالة كونه فعلا لازما فمقارنته تلك الدلالة عند استعماله
للتعدية مقارنة تبعية ، ولذلك قال العلامة الزمخشري في خطبة «الكشاف» «الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما ، ونزّله
على حسب المصالح منجما» فقال المحققون من شراحه : جمع بين أنزل ونزل لما في نزل من
الدلالة على التكثير ، الذي يناسب ما أراده العلّامة من التدريج والتنجيم.
وأنا أرى أن
استفادة معنى التكثير في حال استعمال التضعيف للتعدية أمر من مستتبعات الكلام حاصل
من قرينة عدول المتكلم البليغ عن المهموز الذي هو خفيف إلى المضعف الذي هو ثقيل ،
فذلك العدول قرينة على المراد وكذلك الجمع بينهما في مثل كلام «الكشاف» قرينة على إرادة التكثير.
وعزا شهاب الدين
القرافي في أول «أنواء
البروق» إلى بعض مشايخه
أن العرب فرقوا بين فرق بالتخفيف وفرّق بالتشديد ، فجعلوا الأول للمعاني والثاني
للأجسام بناء على أن كثرة الحروف تقتضي زيادة المعنى أو قوته ، والمعاني لطيفة
يناسبها المخفف ، والأجسام كثيفة يناسبها التشديد ، واستشكله هو بعدم اطراده ، وهو
ليس من التحرير بالمحل اللائق ، بل هو أشبه باللطائف منه بالحقائق ، إذ لم يراع
العرب في هذا الاستعمال معقولا ولا محسوسا وإنما راعوا الكثرة الحقيقية أو
المجازية كما قررنا ، ودل عليه استعمال القرآن ، ألا ترى أن الاستعمالين ثابتان في
الموضع الواحد ، كقوله تعالى : (وَقُرْآناً
فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦]
قرئ بالتشديد والتخفيف ، وقال تعالى حكاية لقول المؤمنين : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥]
وقال لبيد :
فمضى وقدّمها
وكانت عادة
|
|
منه إذا هي
عرّدت إقدامها
|
فجاء بفعل قدّم
وبمصدر أقدم ، وقال سيبويه : «إن فعّل وأفعل يتعاقبان» على أن التفرقة عند مثبتها
، تفرقة في معنى الفعل لا في حالة مفعوله بالأجسام.
والتفسير في
الاصطلاح نقول : هو اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها
باختصار أو توسع. والمناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المنقول إليه لا يحتاج إلى
تطويل.
وموضوع التفسير :
ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه وما يستنبط منه ، وبهذه
الحيثية خالف علم
القراءات لأن تمايز العلوم ـ كما يقولون ـ بتمايز الموضوعات وحيثيات الموضوعات.
هذا وفي عد
التفسير علما تسامح ؛ إذ العلم إذا أطلق ، إما أن يراد به نفس الإدراك ، نحو قول
أهل المنطق : العلم إما تصور وإما تصديق ، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل
وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل ، وهذا غير مراد في عد العلوم ،
وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك
العلم وهي قضايا كلية ، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية ،
بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ
فهو من قبيل التعريف اللفظي وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام وليس من القضية.
فإذا قلنا إن يوم
الدين في قوله تعالى : ملك يوم الدين [الفاتحة : ٤] هو يوم الجزاء ، وإذا قلنا أن
قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] مع
قوله : (وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] يؤخذ
منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك ، لم يكن شيء من ذلك قضية ، بل الأول
تعريف لفظي ، والثاني من دلالة الالتزام ولكنهم عدوا تفسير ألفاظ القرآن علما
مستقلا أراهم فعلوا ذلك لواحد من وجوه ستة :
الأول
: أن مباحثه لكونها تؤدّي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية
، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها ومنشأ ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو
شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه ، ولا شك أن ما تستخرج منه القواعد
الكلية والعلوم أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما ، وهم قد عدوا تدوين الشعر
علما لما في حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية.
والثاني أن نقول : إن
اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة ،
لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم ، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا
يشترط فيها ذلك ، بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها ، والتفسير
أعلاها في ذلك ، كيف وهو بيان مراد الله تعالى من كلامه ، وهم قد عدوا البديع علما
والعروض علما وما هي إلا تعاريف لألقاب اصطلاحية.
والثالث أن نقول :
التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا ، وتفرّع
المعاني الجمة عنها نزّلها منزلة الكلية ، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم
مقام البرهان على المسألة ، وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل
مباحث التفسير
منزلة المسائل ، إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها ، وهنا راجع
إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين ،
لأن كونها قضايا إنما يجىء على مذهب بعض المنطقيين.
الرابع أن نقول : إن علم
التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦]
وتقرير قواعد التأويل عند تقرير (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ) [آل عمران : ٧]
وقواعد المحكم عند تقرير (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ،
فسمى مجموع ذلك وما معه علما تغليبا ، وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق
بالقرآن ، وجمعها ابن فارس ، وذكرها عنه في «الإتقان» وعني بها أبو البقاء الكفوي في «كلياته» ، فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه مسائل التفسير
بالقواعد الكلية.
الخامس
: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان
بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدءوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم
وحسرت دون كثرتها قواهم ، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع
قليلة.
السادس ـ وهو الفصل ـ :
أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم ،
وفيه كثرت مناظراتهم وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها
أساليب القرآن ودقائق نظمه ، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن
المجيد ، فمن أجل ذلك سمي علما.
ويظهر أن هذا
العلم إن أخذ من حيث إنه بيان وتفسير لمراد الله من كلامه كان معدودا من أصول
العلوم الشرعية وهي التي ذكرها الغزالي في الضرب الأول من العلوم الشرعية المحمودة
من كتاب «الإحياء» ، لأنه عد أولها الكتاب والسنة ، ولا شك أنه لا يعني بعلم
الكتاب حفظ ألفاظه بل فهم معانيها وبذلك صح أن يعد رأس العلوم الإسلامية كما وصفه
البيضاوي بذلك ، وإن أخذ من حيث ما فيه من بيان مكي ومدني ، وناسخ ومنسوخ ، ومن
قواعد الاستنباط التي تذكر أيضا في علم أصول الفقه من عموم وخصوص وغيرهما كان
معدودا في متممات العلوم الشرعية المذكورة في الضرب الرابع من كلام الغزالي ، وبذلك الاعتبار عد فيها إذ قال : «الضرب الرابع المتممات
وذلك في علم
__________________
القرآن ينقسم إلى
ما يتعلق باللفظ ، كعلم القراءات ، وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده
أيضا على النقل ، وإلى ما يتعلق بأحكامه كالناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ،
وكيفية استعمال البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه» وهو بهذا
الاعتبار لا يكون رئيس العلوم الشرعية.
والتفسير أول
العلوم الإسلامية ظهورا ، إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلىاللهعليهوسلم ، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله
عمر رضياللهعنه عن الكلالة ، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس
وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير ، وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب ، وعبد الله بن
مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضياللهعنهم ، وكثر الخوض فيه ، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي
السجية ، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم ، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك
مجاهد وابن جبير ، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.
وأما تصنيفه فأول
من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة ٨٠ ه والمتوفى سنة ١٤٩ ه. صنف
كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها أكثر روايته عن أصحاب ابن عباس
مثل عطاء ومجاهد ، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس ، لكن أهل الأثر
تكلموا فيها وهي «تفسير
محمد بن السائب الكلبي» المتوفى سنة ١٤٦ ه عن أبي صالح عن ابن عباس ، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى
لقب بكلمة «دروغدت» بالفارسية بمعنى الكذاب وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان
السّدّي عن الكلبي فهي سلسلة الكذب ، أرادوا بذلك أنها ضد ما لقبوه بسلسلة الذهب ، وهي مالك
عن نافع عن ابن عمر. وقد قيل إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي
الأصل ، الذي أسلم وطعن في الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي
__________________
طالب ، وقال إن
عليا لم يمت وإنه يرجع إلى الدنيا وقد قيل إنه ادعى إلهية علي.
وهنا لك رواية
مقاتل ورواية الضحاك ، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس ، وأصحها
رواية علي بن أبي طلحة ، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه» فيما يصدّر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق ، وقد
خرّج في «الإتقان» ، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات ، عن ابن أبي
طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس ، قد
اتخذها الوضّاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر
مجهول من الأخبار والنوادر ، لأشهر الناس في ذلك المقصد.
وهنا لك روايات
تسند لعلي رضياللهعنه ، أكثرها من الموضوعات ، إلا ما روي بسند صحيح ، مثل ما في
«صحيح
البخاري» ونحوه ، لأن
لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في «صحيح البخاري» عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس
في كتاب الله فقال : «لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النّسمة ، ما أعلمه إلا فهما
يعطيه الله رجلا في القرآن» ثم تلا حق العلماء في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا
يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه.
فمنهم من سلك مسلك
نقل ما يؤثر عن السلف ، وأول من صنف في هذا المعنى ، مالك بن أنس ، وكذلك الداودي
تلميذ السيوطي في «طبقات
المفسرين» ، وذكره عياض في
«المدارك» إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد
بن جرير الطبري.
ومنهم من سلك مسلك
النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي ، وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات
، فكثرت في كتبهم الموضوعات ، إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان أحدهما
بالمشرق ، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري ، صاحب «الكشاف» ، الآخر بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية ،
فألف تفسيره المسمى ب «المحرر
الوجيز» ، كلاهما يغوص
على معاني الآيات ، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام المفسرين إلا أن منحى
البلاغة والعربية بالزمخشري أخص ، ومنحى الشريعة على ابن عطية أغلب ، وكلاهما
عضادتا الباب ، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب.
وقد جرت عادة
المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل ، وهل هو مساو للتفسير
أو أخص منه أو
مباين؟ وجماع القول في ذلك أن من العلماء من جعلهما متساويين ، وإلى ذلك ذهب ثعلب
وابن الأعرابي وأبو عبيدة ، وهو ظاهر كلام الراغب ، ومنهم من جعل التفسير للمعنى
الظاهر والتأويل للمتشابه ، ومنهم من قال : التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى
معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي ، فإذا فسر قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الروم : ١٩]
بإخراج الطير من البيضة ، فهو التفسير ، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل ،
وهنا لك أقوال أخر لا عبرة بها ، وهذه كلها اصطلاحات لا مشاحة فيها إلا أن اللغة
والآثار تشهد للقول الأول ، لأن التأويل مصدر أوّله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة
، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من المعاني فساوى
التفسير ، على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول قال الأعشى :
على أنها كانت
تأوّل حبّها
|
|
تأوّل ربعيّ
السقاب فأصحبا
|
أي تبيين تفسير
حبها أنه كان صغيرا في قلبه ، فلم يزل يشب حتى صار كبيرا كهذا السقب أي ولد الناقة
، الذي هو من السقاب الربيعية لم يزل يشب حتى كبر وصار له ولد يصحبه قاله أبو
عبيدة ، وقد قال الله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] أي
ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه ، وقال صلىاللهعليهوسلم في دعائه لابن عباس : «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه
التأويل» ، أي فهم معاني القرآن ، وفي حديث عائشة رضياللهعنها : «كان صلىاللهعليهوسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي
يتأول القرآن» أي يعمل بقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣] فلذلك
جمع في دعائه التسبيح والحمد وذكر لفظ الرب وطلب المغفرة فقولها «يتأول» صريح في
أنه فسر الآية بالظاهر منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة
وقرب انتقاله صلىاللهعليهوسلم ، الذي فهمه منها عمر وابن عباس رضياللهعنهما.
المقدمة الثانية
في استمداد علم التفسير
استمداد العلم
يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدوّنيه لتكون عونا
لهم على إتقان تدوين ذلك العلم ، وسمى ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج
العلم لتلك المعلومات بطلب المدد ، والمدد العون والغواث ، فقرنوا الفعل بحرفي
الطلب وهما السين والتاء ، وليس كل ما يذكر في العلم معدودا من مدده ، بل مدده ما
يتوقف عليه تقومه ، فأما ما يورد في العلم من مسائل علوم أخرى عند الإفاضة في
البيان ، مثل كثير من إفاضات فخر الدين الرازي في «مفاتيح الغيب» فلا يعدّ مددا للعلم ، ولا ينحصر ذلك ولا ينضبط ، بل هو
متفاوت على حسب مقادير توسع المفسرين ومستطرداتهم ، فاستمداد علم التفسير للمفسر
العربي ، والمولّد ، من المجموع الملتئم من علم العربية وعلم الآثار ، ومن أخبار
العرب وأصول الفقه قيل : وعلم الكلام وعلم القراءات.
أما العربية
فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة
بالسجية والسليقة ، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ، أم
حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم
، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها. إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد
العربية طريقا لفهم معانيه ، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم لمن ليس بعربي
بالسليقة ، ويعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي ، وهي : متن اللغة ،
والتصريف ، والنحو ، والمعاني ، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتّبع من
أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم ، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل
والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند
المولدين ، قال في «الكشاف» : «ومن حق مفسر كتاب الله الباهر ، وكلامه المعجز أن
يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها ، وما وقع به التحدي
سليما من القادح ، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة
على مراحل» .
ولعلمي البيان
والمعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية ،
وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني وإظهار وجه الإعجاز ولذلك كان هذان
العلمان يسميان في القديم علم دلائل الإعجاز قال في «الكشاف» : «علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كلّ
ذي علم ، فالفقيه وإن برّز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام ، والمتكلم وإن بز
أهل الدنيا في صناعة الكلام ، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القريّة أحفظ ،
والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه ، واللغوي
وإن علك اللغات بقوة لحييه ، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على
شيء من تلك الحقائق ، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علما البيان
والمعاني ا ه» .
وقال في تفسير
سورة الزمر [٦٧] عند قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) : «وكم من آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول ،
قد ضيم وسيم الخسف ، بالتأويلات الغثة ، والوجوه الرثة ، لأن من تأوّلها ليس من
هذا العلم عير ولا نفير ، ولا يعرف قبيلا منه من دبير» يريد به علم البيان.
وقال السكاكي في
مقدمة القسم الثالث من كتاب «المفتاح» : «وفيما ذكرنا ما ينبّه على أن الواقف على تمام مراد
الحكيم تعالى وتقدس من كلامه مفتقر إلى هذين العلمين (المعاني والبيان) كلّ
الافتقار ، فالويل كلّ الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيهما راجل».
قال السيد
الجرجاني في «شرحه» : «ولا شك أن خواص نظم القرآن أكثر من غيرها فلا بد لمن
أراد الوقوف عليها ، إن لم يكن بليغا سليقة ، من هذين العلمين. وقد أصاب (السكاكي)
بذكر الحكيم المحزّ ، أي أصاب المحزّ إذ خصّ بالذكر هذا الاسم من بين الأسماء
الحسنى ، لأن كلام الحكيم يحتوي على مقاصد جليلة ومعاني غالية ، لا يحصل الاطلاع
على جميعها أو معظمها إلا بعد التمرس بقواعد بلاغة الكلام المفرغة فيه ، وفي قوله
ينبه إشارة إلى أن من حقه أن يكون معلوما ولكنه قد يغفل عنه ، وقوله فالويل كل
الويل تنفير ، لأنّ من لم يعرف هذين العلمين إذا شرع في تفسير القرآن واستخراج
لطائفه
__________________
أخطأ غالبا ، وإن
أصاب نادرا كان مخطئا في إقدامه عليه ا ه».
وقوله تمام مراد
الحكيم ، أي المقصود هو معرفة جميع مراد الله من قرآنه ، وذلك إما ليكثر الطلب
واستخراج النكت ، فيدأب كل أحد للاطلاع على غاية مراد الله تعالى ، وإما أن يكون
المراد الذي نصب عليه علامات بلاغية وهو منحصر فيما يقتضيه المقام بحسب التتبع ،
والكل مظنة عدم التناهي وباعث للناظر على بذل غاية الجهد في معرفته ، والناس متفاوتون
في هذا الاطلاع على قدر صفاء القرائح ووفرة المعلومات.
وقال أبو الوليد
ابن رشد في جواب له عمن قال إنه لا يحتاج إلى لسان العرب ما نصه : «هذا جاهل
فلينصرف عن ذلك وليتب منه فإنه لا يصح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان
العرب يقول الله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥]
إلا أن يرى أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤدبه الإمام على قوله ذلك بحسب ما يرى فقد
قال عظيما ا ه».
ومراد السكاكي من
تمام مراد الله ما يتحمله الكلام من المعاني الخصوصية ، فمن يفسر قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥]
بأنا نعبدك لم يطلع على تمام المراد لأنه أهمل ما يقتضيه تقديم المفعول من القصد.
وقال في آخر فن
البيان من «المفتاح» : «لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء
لمراد الله من كلامه من علمي المعاني والبيان ، ولا أعون على تعاطي تأويل
متشابهاته ، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره ، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه
، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقّها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى
من ليسوا من أهل هذا العلم ، فأخذوا بها في مآخذ مردودة ، وحملوها على محامل غير
مقصودة إلخ».
وقال الشيخ عبد
القاهر في «دلائل
الإعجاز». في آخر فصل
المجاز الحكمي : «ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم ، أن يتوهموا ألباب
الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها (أي على الحقيقة) ،
فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع
البلاغة وبمكان الشرف ، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير
طائل ، هنا لك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه ، وزند ضلالة قد قدحوا به».
وأما استعمال
العرب ، فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم ،
ليحصل بذلك لممارسة المولّد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القحّ «والذوق
كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ» قال شيخنا الجد الوزير «وهي
ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر
في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة ، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة
وهو يضعف ويقوى بحسب مثافنة ذلك التدبر» ا ه.
ولله دره في قوله
المقطوع ببلوغه غاية البلاغة المشير إلى وجوب اختيار الممارس لما يطالعه من كلامهم
وهو الكلام المشهود له بالبلاغة بين أهل هذا الشأن ، نحو «المعلقات» و«الحماسة» ونحو «نهج
البلاغة» و«مقامات الحريري» و«رسائل
بديع الزمان».
قال صاحب «المفتاح» قبيل الكلام على اعتبارات الإسناد الخبري «ليس من الواجب
في صناعته وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل ، أن يكون الدخيل
فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها ، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى
تحكيمات وضعية واعتبارات إلفية ، فلا بأس على الدخيل في علم المعاني ، أن يقلد
صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك
الذوق ا ه».
ولذلك ـ أي لإيجاد
الذوق أو تكميله ـ لم يكن غنى للمفسر في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في
الآية ببيت من الشعر أو بشيء من كلام العرب لتكميل ما عنده من الذوق ، عند خفاء
المعنى ، ولإقناع السامع والمتعلم الذين لم يكمل لهما الذوق في المشكلات.
وهذا ـ كما قلناه
آنفا ـ شيء وراء قواعد علم العربية ، وعلم البلاغة به يحصل انكشاف بعض المعاني
واطمئنان النفس لها ، وبه يترجح أحد الاحتمالين على الآخر في معاني القرآن ألا ترى
أنه لو اطّلع أحد على تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) [الحجرات : ١١] ،
وعرض لديه احتمال أن يكون عطف قوله : (وَلا نِساءٌ) على قوله : (قَوْمٌ) عطف مباين ، أو عطف خاص على عام فاستشهد المفسر في ذلك
بقول زهير :
وما أدري وسوف
إخال أدرى
|
|
أقوم آل حصن أم
نساء
|
كيف تطمئن نفسه
لاحتمال عطف المباين دون عطف الخاص على العام ، وكذلك
إذا رأى تفسير
قوله تعالى : (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]
وتردد عنده احتمال أن الباء فيه للتأكيد أو أنها للتبعيض أو للآلة وكانت نفسه غير
مطمئنة لاحتمال التأكيد إذ كان مدخول الباء مفعولا فإذا استشهد له على ذلك بقول
النابغة :
لك الخير إن
وارت بك الأرض واحدا
|
|
وأصبح جدّ الناس
يظلع عاثرا
|
وقول الأعشى :
فكلنا مغرم يهوى
بصاحبه
|
|
قاص ودان ومحبول
ومحتبل
|
رجح عنده احتمال
التأكيد وظهر له أن دخول الباء على المفعول للتأكيد طريقة مسلوكة في الاستعمال.
روى أئمة الأدب أن
عمر بن الخطاب رضياللهعنه قرأ على المنبر قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ
عَلى تَخَوُّفٍ) [النحل : ٤٧] ثم
قال ما تقولون فيها أي في معنى التخوف ، فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا ،
التخوف التنقص ، فقال عمر : وهل تعرف العرب ذلك في كلامها؟ قال نعم قال أبو كبير
الهذلي :
تخوّف الرّحل
منها تامكا قردا
|
|
كما تخوّف عود
النّبعة السّفن
|
فقال عمر : «عليكم
بديوانكم لا تضلوا ، هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم» وعن ابن عباس «الشعر
ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغتهم رجعنا إلى
ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه» وكان كثيرا ما ينشد الشعر إذا سئل عن بعض حروف
القرآن. قال القرطبي سئل ابن عباس عن السّنة في قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥]
فقال النعاس وأنشد قول زهير :
لا سنة في طوال
الليل تأخذه
|
|
ولا ينام ولا في
أمره فند
|
وسئل عكرمة ما
معنى الزنيم؟ فقال هو ولد الزنى وأنشد :
زنيم ليس يعرف
من أبوه
|
|
بغيّ الأمّ ذو
حسب لئيم
|
فمما يؤثر عن أحمد بن حنبل رحمهالله أنه سئل عن تمثل الرجل ببيت شعر لبيان معنى في القرآن فقال
: «ما يعجبني» فهو عجيب ، وإن صح عنه فلعله يريد كراهة أن يذكر
__________________
الشعر لإثبات صحة
ألفاظ القرآن كما يقع من بعض الملاحدة ، روى أن ابن الراوندي (وكان يزنّ
بالإلحاد) قال لابن الأعرابي : «أتقول العرب لباس التقوى» فقال ابن الأعرابي لا
بأس لا بأس ، وإذا أنجى الله الناس ، فلا نجّى ذلك الرأس ، هبك يا بن الراوندي
تنكر أن يكون محمد نبيا أفتنكر أن يكون فصيحا عربيا؟».
ويدخل في مادة
الاستعمال العربي ما يؤثر عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات على قوانين
استعمالهم ، كما روى مالك في «الموطأ» عن عروة بن الزبير قال : «قلت لعائشة ـ وأنا
يومئذ حديث السن ـ : أرأيت قول الله تعالى. (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] ،
فما على الرجل شيء أن لا يطوف بهما ، فقالت عائشة : كلا لو كان كما تقول ، لكانت
فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون
لمناة الطاغية ، وكانت مناة حذو قديد ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا
والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية ا ه» ، فبينت له ابتداء طريقة استعمال العرب لو كان
المعنى كما وهمه عروة ثم بينت له مثار شبهته الناشئة عن قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) الذي ظاهره رفع الجناح عن الساعي الذي يصدق بالإباحة دون
الوجوب.
وأما الآثار
فالمعنيّ بها ما نقل عن النبي صلىاللهعليهوسلم من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال ،
وذلك شيء قليل. قال ابن عطية عن عائشة «ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات
معدودات علمه إياهن جبريل» ، وقال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا
سبيل إليه إلا بتوقيف ، قلت : أو كان تفسيرا لا توقيف فيه ، كما بين لعدي بن حاتم
أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار ، وقال له «إنك لعريض الوسادة»
، وفي رواية «إنك لعريض القفا» وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من
بيان سبب النزول ، وناسخ ومنسوخ ، وتفسير مبهم ، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه
الرواية عن الرسول صلىاللهعليهوسلم ، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود
ومن الضالين النصارى ، ومثل كون المراد من قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١]
الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد ،
__________________
وكون المراد من
قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] الآية
، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خبّاب بن الأرت كما في «صحيح البخاري» في تفسير سورة المدّثر.
قال ابن عباس :
مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يمنعني إلا مهابته ، ثم سألته فقال هما حفصة وعائشة.
ومعنى كون أسباب النزول من مادة التفسير ، أنها تعين على تفسير المراد ، وليس
المراد أن لفظ الآية يقصر عليها ، لأن سبب النزول لا يخصص ، قال تقي الدين السبكي
: وكما أن سبب النزول لا يخصص ، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص ، كأن يرد خاص ثم
يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام ، نحو (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨]
وقد يكون المروي في سبب النزول مبيّنا ومؤوّلا لظاهر غير مقصود ، فقد توهم قدامة بن
مظعون من قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) [المائدة : ٩٣]
فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا ، روى أن عمر استعمل قدامة بن مظعون
على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال : إن قدامة شرب فسكر ، فقال عمر من يشهد
على ما تقول ، قال الجارود أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث ، فقال عمر يا
قدامة إني جالدك ، قال والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني ، قال عمر
ولم؟ قال لأن الله يقول : (لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) إلخ ، فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت
الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال لم تجلدني! بيني وبينك كتاب الله ، فقال
عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال : إن الله يقول في كتابه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم
اتقوا وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد ، فقال عمر ألا
تردون عليه قوله! فقال ابن عباس ، إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على
الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر ، وحجة على
الباقين لأن الله يقول : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) [المائدة : ٩٠] ،
ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى ، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا
وآمنوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر ، قال عمر صدقت. الحديث».
وتشمل الآثار
إجماع الأمة على تفسير معنى ، إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم
على أن المراد من
الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم ، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة
هي صلاة الجمعة ، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة
دون الدعاء ، والزكاة المال المخصوص المدفوع.
وأما القراءات فلا
يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها ، وإنما يكون في معنى
الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى ، فذكر القراءة
كذكر الشاهد من كلام العرب ، لأنها إن كانت مشهورة ، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية
، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية ، لأنها لا تكون صحيحة الرواية ، ولكن
من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح ، إذ لا يكون القارئ
معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته ، كما احتجوا على أن أصل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] أنه
منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالنصب كما في «الكشاف» وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في
أداء ألفاظ القرآن ، بل من حيث إنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.
وأما أخبار العرب
فهي من جملة أدبهم وإنما خصصتها بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو
فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص
والأخبار للموعظة والاعتبار ، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار ، فبمعرفة
الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني ، فنحو قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) [النحل : ٩٢]
وقوله : (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ) [البروج : ٤]
يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.
وأما أصول الفقه
فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير ، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي
والعموم وهي من أصول الفقه ، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير وذلك من جهتين : إحداهما : أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال
كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى
ومفهوم المخالفة ، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن
وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة
الثانية : أن علم الأصول
يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.
وقد عد عبد الحكيم
والآلوسي أخذا من كلام السكاكي ، في آخر فن البيان الذي
تقدم آنفا وما
شرحه به شارحاه التفتازانيّ والجرجاني. علم الكلام في جملة ما يتوقف عليه علم
التفسير ، قال عبد الحكيم : «لتوقف علم التفسير على إثبات كونه تعالى متكلما ،
وذلك يحتاج إلى علم الكلام».
وقال الآلوسي : «لتوقف
فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام» يعني من آيات التشابه في الصفات مثل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ، وهذا
التوجيه أقرب من توجيه عبد الحكيم ، وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في «شرح المفتاح» ، وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند
سلف الأمة قبل علم الكلام ، ولا أثر له في التفسير ، وأما معرفة ما يجوز وما
يستحيل فكذلك ، ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة
بعض المعاني ، وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير.
ولم نعدّ الفقه من
مادة علم التفسير كما فعل السيوطي ، لعدم توقف فهم القرآن ، على مسائل الفقه ، فإن
علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه ، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه عند
قصد التوسع في تفسيره ، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا
وعلوما ، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم ، ويوشك أن يكون
المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له
البيضاوي بقوله : «لا يليق لتعاطيه ، والتصدي للتكلم فيه ، إلا من برع في العلوم
الدينية كلها ، أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها».
تنبيه
: اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير الآثار المروية عن
النبي صلىاللهعليهوسلم في تفسير آيات ، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من
التفسير لا من مدده ، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من
معنى يفسر بعضا آخر منها ، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض ، كتخصيص
العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب
ولحن الخطاب ومفهوم المخالفة.
ذكر ابن هشام في «مغني اللبيب» ، في حرف لا ، عن أبي علي الفارسي ، أن القرآن كله
كالسورة الواحدة ، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى ، نحو : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦]
وجوابه : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] ه.
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه ، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته
على بعض وقد يستقل
بعضها عن بعض ، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع
نظائرها ، بله ما يقارب غرضها.
واعلم أن استمداد
علم التفسير من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم ، لأن
كونه رأس العلوم الإسلامية ، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال فأما
استمداده من بعض العلوم الإسلامية ، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم
من الإجمال ، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم.
المقدمة الثالثة
في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه
إن قلت أتراك بما
عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلىاللهعليهوسلم ولا عن أصحابه ، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا
وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه ، أن يفسر من آي القرآن بما لم
يؤثر عن هؤلاء ، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير ، وكيف
حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» ،
وفي رواية : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». والحديث الذي رواه
أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وكيف محمل
ما روى من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف؟ فقد روى عن أبي بكر الصديق أنه
سأل عن تفسير الأبّ في قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٣١] فقال :
«أيّ أرض تقلّني ، وأيّ سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي» ويروى عن سعيد بن
المسيّب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
قلت : أراني كما
حسبت أثبت ذلك وأبيحه ، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما
رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله؟ وهل يتحقق قول علمائنا «إن القرآن لا
تنقضي عجائبه» إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير؟ ولو لا ذلك لكان تفسير القرآن
مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة : «ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا
آيات معدودات علمه جبريل إياهن» كما تقدم في المقدمة الثانية.
ثم لو كان التفسير
مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا ، ونحن
نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة ، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك
الاستنباط برأيهم وعلمهم. قال الغزالي والقرطبي : لا يصح أن يكون كل ما قاله
الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلىاللهعليهوسلم لوجهين : أحدهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم
عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا
في التفسير على
وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، وسماع جميعها من رسول الله محال ، ولو كان
بعضها مسموعا لترك الآخر ، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله إنه سمعه من رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فرجع إليه من خالفه ، فتبين على القطع أن كل مفسر قال في
معنى الآية بما ظهر له باستنباطه.
روى البخاري في «صحيحه» عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ : هل عندكم شيء من الوحي
إلا ما في كتاب الله؟ قال : «لا والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة لا أعلمه إلا فهما
يعطيه الله رجلا في القرآن إلخ» وقد دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعبد الله بن عباس فقال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه
التأويل» واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن. وقد ذكر فقهاؤنا في
آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم ، قال
الغزالي في «الإحياء» : «التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن
يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا
للموفقين» قال : «ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات
القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد ، وأن ما وراء ذلك تفسير
بالرأي فهذا من الحجب العظيمة».
وقال فخر الدين في
تفسير قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) في سورة النساء [١٩] «وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين
إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنه المتأخرين من استخراج وجه آخر في
تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة ، وذلك لا
يقوله إلا مقلد خلف ـ بضم الخاء» وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢] هي
تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقيل له من قال هذا فغضب وقال : إنما قاله من علمه
يريد نفسه ، وقال أبو بكر ابن العربي في «العواصم» إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى
ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط
الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا
من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك؟ وهذا الإمام
الشافعي يقول : تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥].
قال شرف الدين
الطيبي في «شرح
الكشاف» في سورة الشعراء
: «شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال ، سليما من التكلف
عريا من التعسف» ، وصاحب «الكشاف» يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.
وأما الجواب عن
الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي فمرجعه إلى
أحد خمسة وجوه :
أولها
: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر
في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها ، وما لا بد منه من معرفة الناسخ
والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم ، لأنه لم
يكن مضمون الصواب كقول المثل : «رمية من غير رام» وهذا كمن فسر (الم) [البقرة : ١]! إن
الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك ، وأما ما روي عن الصديق رضياللهعنه فيما تقدم في تفسير الآية فذلك من الورع خشية الوقوع في
الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها ، ألم
تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن
الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد ،
أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا
للاحتمال الضعيف ، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن
الإصابة.
ثانيها
: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ
الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن
يعتمد على ما يبدو من وجه العربية فقط ، كمن يفسر قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النساء : ٧٩]
الآية على ظاهر معناها يقول إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على
الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله
تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] أو
بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩]
فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم
__________________
تكن عمياء ، فهذا
من الرأي المذموم لفساده.
ثالثها
: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على
وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف ،
فيجر شهادة القرآن لتقرير رأيه ويمنعه عن فهم القرآن حق فهمه ما قيّد عقله من
التعصب ، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه حتى إن لمع له بارق حق
وبدا له معنى يباين مذهبه حمل عليه شيطان التعصب حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك ،
وهو خلاف معتقدك؟ كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكن والاستقرار ، فإن خطر له
أن معنى قوله تعالى : (الْقُدُّوسُ) [الحشر : ٢٣] أنه
المنزه عن كل صفات المحدثات حجبه تقليده عن أن يتقرر ذلك في نفسه ، ولو تقرر لتوصل
فهمه فيه إلى كشف معنى ثان أو ثالث ، ولكنه يسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته
مذهبه. وجمود الطبع على الظاهر مانع من التوصل للغور. كذلك تفسير المعتزلة قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣]
بمعنى أنها تنتظر نعمة ربها على أن إلى واحد الآلاء مع ما في ذلك من الخروج عن
الظاهر وعن المأثور وعن المقصود من الآية.
وقالت البيانيّة
في قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٣٨]
إنه بيان ابن سمعان كبير مذهبهم . وكانت المنصورية أصحاب أبي منصور الكسف يزعمون أن المراد من قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ
ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤] أن
الكسف إمامهم نازل من السماء ، وهذا إن صح عنهم ولم يكن من ملصقات أضدادهم فهو
تبديل للقرآن ومروق عن الدين.
رابعها
: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن
ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين.
خامسها
: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل
ونبذ التسرع
__________________
إلى ذلك ، وهذا
مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء
غير عازيه إلى غيره ، وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في
القرآن ، ذكر ذلك في «المزهر» فأبى أن يتكلم في أنّ سرى وأسرى بمعنى واحد ، لأن
أسرى ذكرت في القرآن. ولا في أنّ عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن ،
وقال : الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه
في القرآن ا ه.
فهذا ضرب من الورع
يعتري بعض الناس لخوف ، وأنه قد يعتري كثيرا من أهل العلم والفضل ، وربما تطرق إلى
بعضهم في بعض أنواع الأحوال دون بعض ، فتجد من يعتريه ذلك في العلم ولا يعتريه في
العقل ، وقد تجد العكس ، والحق أن الله ما كلفنا في غير أصول الاعتقاد بأكثر من حصول
الظن المستند إلى الأدلة والأدلة متنوعة على حسب أنواع المستند فيه. وأدلة فهم
الكلام معروفة وقد بيناها.
أما الذين جمدوا
على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على
عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر ، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن
، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من
علومه ، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير ، وغلّطوا سلفهم فيما تأولوه ، إذ
لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم
على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم
يشترط عليهم أن يرووا له بلغهم في تفسيرها عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإن أرادوا بالمأثور ما روى عن النبي وعن الصحابة خاصة
وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» ، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير
فتيلا ، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن
عليّ بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع ، وقد ثبت عنه أنه قال : ما
عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد
الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروي عنه قولا برأيه على
تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل
ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود ، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقّة ،
ويقربون ما
بعد من الشّقّة.
إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها
ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد ، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا
ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأوّلوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم
بأقوالهم ، وهي ثابتة في «تفسير
الطبري» ونظرائه ، وقد
التزم الطبري في «تفسير» أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين ، لكنه لا
يلبث في كل آية أن يتلخص ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من
كلام العرب ، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك
طريق ليس بنهج ، وقد سبقه إليه بقيّ بن مخلد ولم نقف على «تفسيره» ، وشاكل الطبري فيه معاصروه ، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم ، فلله در الذين لم يحبسوا
أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين والزجاج
والرّمّاني ممن بعدهم ، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.
وإذ قد تقصينا
مثارات التفسير بالرأي المذموم وبينا لكم الأشباه والأمثال ، بما لا يبقى معه
للاشتباه من مجال ، فلا تجاوز هذا المقام ما لم ننبهكم إلى حال طائفة التزمت تفسير
القرآن بما يوافق هواها ، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سمّوه الباطن ،
وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض ، وأصل هؤلاء طائفة من
غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به ، وهم
يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق
، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية ، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام
هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين ، ويبين مراد الله. ولما توقعوا أن يحاجّهم
العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في
وجه بدعتهم ، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب
والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في
صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين ، وزعموا أن ذلك شأن
الحكماء ، فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو
خليط من ذلك ، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين
زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة ، وأنه يشبه
الخلق ـ تعالى
__________________
وتقدس ـ وكل علوي
يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها. ولهم في
التفسير تكلفات ثقيلة منها قولهم أن قوله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ) [الأعراف : ٤٦] أن
جبلا يقال له الأعراف هو مقر أهل المعارف الذين يعرفون كلا بسيماهم. وأن قوله
تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] أي لا
يصل أحد إلى الله إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة إما في أيام صباه ، أو بعد ذلك
، ثم ينجي الله من يشاء. وأن قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٤٣] أراد
بفرعون القلب.
وقد تصدى للرد
عليهم الغزالي في كتابه الملقب ب «المستظهري». وقال إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه
الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى ا ه. يعني والذي يتخذونه حجة لهم يمكن أن
نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن المعنى الظاهر هو الذي لا يمكن اختلاف
الناس فيه لاستناده للغة الموضوعة من قبل. وأما الباطن فلا يقوم فهم أحد فيه حجة على
غيره اللهم إلا إذا زعموا أنه لا يتلقى إلا من الإمام المعصوم ولا إخالهم إلا
قائلين ذلك. ويؤيد هذا ما وقع في بعض قراطيسهم قالوا : «إنما ينتقل إلى البدل مع
عدم الأصل ، والنظر بدل من الخبر فإن كلام الله هو الأصل فهو خلق الإنسان وعلمه
البيان والإمام هو خليفته ومع وجود الخليفة الذي يبين قوله فلا ينتقل إلى النظر ا
ه وبيّن ابن العربي في كتاب «العواصم» شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا.
فإن قلت فما روي :
أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن للقرآن ظهرا وبطنا ومطلعا». وعن ابن عباس أنه
قال : إن للقرآن ظهرا وبطنا. قلت لم يصح ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، بل المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه؟ على
أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال : «فظهره التلاوة وبطنه التأويل» فقد
أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية «تفسير القاشاني» وكثير من أقوالهم مبثوث في «رسائل إخوان الصفاء».
أما ما يتكلم به
أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن
ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدّعون أن كلامهم في ذلك
تفسير للقرآن ، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه ، وحسبكم
في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني ، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية.
ولعلماء الحق فيها رأيان : فالغزالي يراها مقبولة ، قال
في كتاب من «الإحياء» : إذا قلنا في قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» فهذا ظاهره أو
إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم ، والصفات الرديئة كالغضب
والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون
بالكلاب ، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة ، فقلب كهذا لا يقذف
فيه النور. وقال ولست أقوال إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة
المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه ، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على
البواطن من ذكر الظواهر ا ه فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من
تفسير لفظ عامّ في آية بخاصّ من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من «صحيح البخاري» عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨]
قال هم كفار قريش ، ومحمد نعمة الله : (وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم : ٢٨]
قال يوم بدر.
وابن العربي في
كتاب «العواصم» يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة
الباطنية وذكر «رسائل
إخوان الصفاء» أطلق القول في
إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره ، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي
في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال : «وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة
الليالي ، وعقدا في لبّة المعالي ، حتى أوغل في التصوف ، وأكثر معهم التصرف ، فخرج
عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة ا ه».
وعندي أن هذه
الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء : الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك
المعنى كما يقولون مثلا : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها
يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين
المعارف اللدنية ، (وَسَعى فِي خَرابِها) [البقرة : ١١٤]
بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى ، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه
بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر
فيها اسم الله ، وذكر الآية عند تلك
__________________
الحالة كالنطق
بلفظ المثل ، ومن هذا قولهم في حديث : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب» كما تقدم
عن الغزالي.
الثاني
: ما كان من نحو
التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك
من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال
في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ) [البقرة : ٢٥٥] من
ذلّ ذي إشارة للنفس يصير من المقربين الشفعاء ، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في
السمع ويتأوّله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا
ولقد أبدع.
الثالث
: عبر ومواعظ وشأن
أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم
إذا قرءوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظة فإذا أخذوا من قوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل : ١٦]
اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
ومن حكاياتهم في
غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر : هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد
صالحا إلا للنار. فجعل يبكي ويقول : إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار.
فنسبة الإشارة إلى
لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدّت عقولهم وتدبّرهم في حال من الأحوال
الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك ، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت
اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية
والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد
هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن
تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما ، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا
مناطه ، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.
وليس من الإشارة
ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة وفحوى الخطاب ، وفهم الاستغراق من لام التعريف
في المقام الخطابي ، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن
استدلالا لمشروعية أشياء ، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ
هذِهِ) [الكهف : ١٩]
ومشروعية الضمان من قوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢]
ومشروعية القياس من وله : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء :
١٠٥] ولا بما هو
بالمعنى المجازي نحو (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) [سبأ : ١٠] ـ (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ولا
ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤]
لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام
أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.
قال في «الكشاف» : وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب
للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة
وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.
هذا وإن واجب
النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينا وهو عند الله
عظيم قضى علىّ أن أنبه إلى خطر أمر تفسير الكتاب والقول فيه دون مستند من نقل صحيح
عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه
شروط الضلاعة في العلوم التي سبق ذكرها في المقدمة الثانية. فقد رأينا تهافت كثير
من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن فمنهم من يتصدى لبيان معنى الآيات على
طريقة كتب التفسير ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى
الآية جانبا ، جالبا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبا ، وقد دلت شواهد الحال
على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره ، وأن
لا يتعدّى طوره ، وأن يرد الأشياء إلى أربابها ، كيلا يختلط الخاثر بالزباد ، ولا
يكون في حالك سواد ، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة ، وإفحاش لأهل هذه
الغلطة ، فمن يركب متن عمياء ، ويخبط خبط عشواء ، فحق على أساطين العلم تقويم
اعوجاجه ، وتمييز حلوه من أجاجه ، تحذيرا للمطالع ، وتنزيلا في البرج والطالع.
المقدمة الرابعة
فيما يحق أن يكون غرض المفسر
كأني بكم وقد مر
على أسماعكم ووعت ألبابكم ما قررته من استمداد علم التفسير ، ومن صحة تفسير القرآن
بغير المأثور ، ومن الإنحاء على من يفسر القرآن بما يدعيه باطنا ينافي مقصود
القرآن ، ومن التفرقة بين ذلك وبين الإشارات ، تتطلعون بعد إلى الإفصاح عن غاية
المفسر من التفسير ، وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم
غاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم ، وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير
مقادير اتصال ما تشتمل عليه ، بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار
ما أوفى به من المقصد ، ومقدار ما تجاوزه ، ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من
يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه ، وبين من يفصل معانيه تفصيلا ، ثم
ينعطف القول إلى نموذج مما استخرجه العلماء من مستنبطات القرآن في كثير من العلوم.
إن القرآن أنزله
الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله
تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] فكان
المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية ، والجماعية ، والعمرانية ، فالصلاح
الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها ، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد
مصدر الآداب والتفكير ، ثم صلاح السريرة الخاصة ، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة ،
والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من
الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع ، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه ، ومن
شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة
الشهوات ومواثبة القوى النفسانية ، وهذا هو علم المعاملات ، ويعبر عنه عند الحكماء
بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذا هو حفظ نظام العالم
الإسلامي ، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع
، ورعي المصالح الكلية الإسلامية ، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة
القاصرة لها ، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
فمراد الله من
كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن
التي خاطبنا بها خطابا بيّنا وتعبّدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] سواء
قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشايخي
والسكاكي وهما من المعتزلة ، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إنّ الاطلاع على تمام
مراد الله تعالى غير ممكن ، وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا
العقلي ، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر
الاطلاع على تمامه.
وقد اختار الله
تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه ، ومستودعا لمراده ، وأن يكون العرب هم
المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها : منها كون لسانهم أفصح الألسن
وأسهلها انتشارا ، وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز لفظه ، ولتكون الأمة المتلقية
للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة ، ولم تقعد بها عن
النهوض أغلال التكالب على الرفاهية ، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه
بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن
يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم ، بل إن عموم الشريعة ودوامها
وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك ، نعم إن مقاصده تصفية
نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها ، فهم المخاطبون
ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة ، وكان كثير من القرآن
مقصودا به خطابهم خاصة ، وإصلاح أحوالهم قال تعالى : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها
أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] وقال :
(أَنْ تَقُولُوا
إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٦ ،
١٥٧] لكن ليس ذلك بوجه الاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.
أليس قد وجب على
الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها
الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور :
الأول
: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح ، وهذا أعظم سبب لإصلاح
الخلق ، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل ، ويطهر القلب
من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما ، وقد أشار إلى هذا المعنى
قوله تعالى : (فَما أَغْنَتْ
عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ
تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١] فأسند
لآلهتهم زيادة تتبيبهم ، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني
: تهذيب الأخلاق قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] وفسرت
عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلىاللهعليهوسلم فقالت : كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في «الموطأ»
بلاغا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق» وهذا المقصد قد فهمه
عامة العرب بله خاصة الصحابة ، وقال أبو خراش الهذلي مشيرا إلى ما دخل على العرب
من أحكام الإسلام بأحسن تعبير :
فليس كعهد الدار
يا أمّ مالك
|
|
ولكن أحاطت
بالرقاب السلاسل
|
وعاد الفتى
كالكهل ليس بقائل
|
|
سوى العدل شيئا
فاستراح العواذل
|
أراد بإحاطة
السلاسل بالرقاب أحكام الإسلام ، والشاهد في قوله وعاد الفتى كالكهل.
الثالث
: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٨]
ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب ، وجزئيا في المهم ، فقوله (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] ،
وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣]
المراد بهما! إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس. قال الشاطبي لأنه
على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع
فيه أمور كلية.
الرابع
: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة
وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله : (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣]
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : ١٥٩]
وقوله : (وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦]
وقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨].
الخامس
: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف :
٣] (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]
وللتحذير من مساويهم قال : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ
كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥]
وفي خلالها تعليم ، وكنا أشرنا إليها في المقدمة الثانية.
السادس
: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين ، وما يؤهلهم إلى
تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي
العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة
الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر ، ثم نوّه بشأن الحكمة
فقال : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩]
وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف ، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم ، وقد
لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم ، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل ،
إنما قصارى علومهم أمور تجريبية ، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه
تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله : (وَما يَعْقِلُها
إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] وقال
: (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] فنبه
إلى مزية الكتابة.
السابع
: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير ، وهذا يجمع جميع آيات
الوعد والوعيد ، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين ، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن
: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول ؛ إذ
التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي ، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه
ومتحدّى لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه : (قُلْ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨]
ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه. هذا ما بلغ إليه استقرائي
وللغزالي في «إحياء
علوم» الدين بعض من
ذلك.
فغرض المفسر بيان
ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا
يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن ، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل
فهم ، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى ، مع إقامة
الحجة على ذلك إن كان به خفاء ، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل ، فلا جرم كان
رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله ، ويعرف
اصطلاحه في إطلاق الألفاظ ، وللتنزيل اصطلاح وعادات ، وتعرض صاحب «الكشاف» إلى شيء من عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره.
فطرائق المفسرين
للقرآن ثلاث ، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي
للتركيب مع بيانه
وإيضاحه وهذا هو الأصل ، وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو
المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن ، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من
خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار
المخاطب أو تردده ، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة ،
وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى ، أو لأن زيادة فهم
المعنى متوقفة عليها ، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق
بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه ، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا
على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع كما أشرنا إليه في المقدمة
الثانية.
ففي الطريقة
الثانية قد فرع العلماء وفصلوا في الأحكام ، وخصوها بالتآليف الواسعة ، وكذلك
تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب «الإحياء» فلا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له
خدمة للمقاصد القرآنية ، وله مزيد تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله
تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤]
بما ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك ، والقول في ألفاظ القرآن
وما قاله أهل المذاهب في ذلك. وكذا أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع
الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي. وقد قال ابن العربي إنه
أملى عليها ثمانمائة مسألة. وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله
تعالى في خلق الإنسان : (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج : ٥] الآيات
فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية.
وفي الطريقة
الثالثة تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية : إما على أن بعضها يومئ
إليه معنى الآية ولو بتلويح ما كما يفسر أحد قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩]
فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله : (خَيْراً كَثِيراً). فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى
للآية إلا أن معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه ، وكذلك أن نأخذ
من قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر : ٧]
تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة
والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء.
وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية
لتقرير دليل قرآني مثل برهان
التمانع لتقرير
معنى قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
وكتقرير مسألة المتشابه لتحقيق معنى نحو قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧]
فهذا كونه من غايات التفسير واضح ، وكذا قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦] فإن القصد
منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها
وعللها بما هو مبين في علم الهيئة كان قد زاد المقصود خدمة.
وإمّا على وجه
التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع. وإما
على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧] أن
فناء العالم يكون بالزلازل ، ومن قوله : (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) [التكوير : ١]
الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم. وشرط كون ذلك مقبولا أن يسلك فيه
مسلك الإيجاز فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم ولا يصير الاستطراد كالغرض
المقصود له لئلا يكون كقولهم السّي بالسّيّ يذكر .
وللعلماء في سلوك
هذه الطريقة الثالثة على الإجمال آراء ، فأما جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق
بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية ، ويرون القرآن مشيرا إلى
كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في «فصل المقال» : «أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع
كلها على ظاهرها ، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل ، والسبب في ورود الشرع
بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق» وتخلّص إلى القول بأن
بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. وإلى مثل ذلك ذهب قطب الدين الشيرازي في «شرح حكمة الإشراق» ، وهذا الغزالي والإمام الرازي وأبو بكر ابن العربي
وأمثالهم صنيعهم يقتضي التبسط وتوفيق المسائل العلمية ، فقد ملئوا كتبهم من
الاستدلال على المعاني القرآنية بقواعد العلوم الحكمية وغيرها ، وكذلك الفقهاء في
كتب «أحكام
القرآن» ، وقد علمت ما
قاله ابن العربي فيما أملاه على سورة نوح وقصة الخضر ، وكذلك ابن جني والزجاج وأبو
حيان قد أشبعوا «تفاسيرهم» من الاستدلال على القواعد العربية ، ولا شك أن الكلام
الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن
معانيه تطابق الحقائق ، وكل ما كان من الحقيقة في علم من
__________________
العلوم وكانت
الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر
وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم ، وشرطه
أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية ، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل ، ولا يكون
تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
وأما أبو إسحاق
الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة : «لا يصح في مسلك الفهم
والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب ، فلا يتكلّف فيه فوق ما يقدرون عليه» وقال
في المسألة الرابعة من النوع الثاني : «ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على
مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد ، منها : أن كثيرا من الناس تجاوزوا في
الدعوى على القرآن الحدّ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم
الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم
يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أن
أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة.
نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب
ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة إلخ».
وهذا مبني على ما
أسسه من كون القرآن لما كان خطابا للأميين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه
وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم ، وأن الشريعة أمية. وهو أساس واه لوجوه ستة : الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب
من حال إلى حال وهذا باطل لما قدمناه ، قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩]. الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية
فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار
العلوم في الأمة. الثالث أن السلف قالوا : إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه
ولو كان كما قال الشاطبي لا نقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه. الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم
تف به الأسفار المتكاثرة.
الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون
المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما ما زاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه
أقوام ، وتحجب عنه أقوام ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده
فنحن نساعد عليه ، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند
ظواهر الآيات بل
قد بينوا وفصّلوا وفرّعوا في علوم عنوا بها ، ولا يمنعنا ذلك أن نقفي على آثارهم
في علوم أخرى راجعة لخدمة المقاصد القرآنية أو لبيان سعة العلوم الإسلامية ، أما
ما وراء ذلك فإن كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا ، لأن العلوم
العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه ، وإن كان فيما زاد على ذلك
فذلك ليس من التفسير لكنه تكملة للمباحث العلمية واستطراد في العلم لمناسبة
التفسير ليكون متعاطى التفسير أوسع قريحة في العلوم.
وذهب ابن العربي
في «العواصم» إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية
ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به
من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.
وأنا أقول : إن
علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب :
الأولى
: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم ، وتهذيب
الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية
: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة
: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب
والمنطق.
الرابعة
: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة
والميثولوجيا ، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.
المقدمة الخامسة
في أسباب النزول
أولع كثير من
المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن ، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت
لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك ، وأغربوا في ذلك وأكثروا
حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب ، وحتى رفعوا الثقة
بما ذكروا ، بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها
ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل ، فكان أمر
أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف ، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله
على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن. فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات
التفسير لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير ، وللاستغناء عن إعادة
الكلام عليه عند عروض تلك المسائل ، غير مدّخر ما أراه في ذلك رأيا يجمع شتاتها.
وأنا عاذر
المتقدمين الذين ألّفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها ، بأن كل من يتصدى لتأليف
كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي
قبسه ، ويمدّ نفسه ، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد ، ويقول زدني من حديثك يا سعد
، غير هيّاب لعاذل ، ولا متطلب معذرة عاذر ، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب ،
ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم
ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا ، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل
آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها ، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به
صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع
الأحكام.
نعم إن العلماء
توجسوا منها فقالوا إن سبب النزول لا يخصّص ، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها ،
ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من
ذلك ضر على عمومها
إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولكن
أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل
، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها
، وقد قال الواحدي في أول كتابه في «أسباب النزول» : «أما اليوم فكل أحد يخترع
للآية سببا ، ويختلق إفكا وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكر في الوعيد»
وقال : «لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا
التنزيل» ا ه.
إن من أسباب
النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز ، ومنها
ما يكون وحده تفسيرا ، ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية
أو نحو ذلك. ففي «صحيح
البخاري» أن مروان بن
الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول : «لئن كان كلّ امرئ فرح بما أتى ، وأحب أن يحمد بما
لم يفعل معذّبا لنعذّبنّ أجمعون» يشير إلى قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران : ١٨٨]
فأجاب ابن عباس قائلا : «إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه
وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما
أتوا من كتمانهم ، ثم قرأ ابن عباس : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) [آل عمران : ١٨٧ ،
١٨٨] الآيات».
وفي «الموطأ» عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال قلت لعائشة أم
المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨]
فما على الرجل شيء ألّا يطوف بهما ، قالت عائشة : كلا ، لو كان كما تقول لكانت فلا
جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة ،
وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن
ذلك فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ا ه.
ومنها ما ينبه
المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين
على تصوير مقام الكلام كما سننبهك إليه في أثناء المقدمة العاشرة.
وقد تصفّحت أسباب
النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها خمسة أقسام :
الأول
: هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلا بد
من البحث عنه للمفسر ، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة : ١١] ،
ونحو : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) [البقرة : ١٠٤]
ومثل بعض الآيات التي فيها : (وَمِنَ النَّاسِ) [البقرة : ٨].
والثاني
: هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا
تبيّن مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد ، ولكنها إذا
ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها ، مثل حديث عويمر
العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان ، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ
بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) [البقرة : ١٩٦]
الآية فقد قال كعب بن عجرة : هي لي خاصة ولكم عامة ، ومثل قول أم سلمة رضياللهعنها للنبي صلىاللهعليهوسلم : يغزو الرجال ولا نغزو فنزل قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢]
الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها
، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة ، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن
سبب النزول في مثل هذا لا يخصص ، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.
والثالث
: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها
وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا
وكذا ، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة
فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من «صحيح البخاري» في باب قول الله تعالى
: (إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧]
أن عبد الله بن مسعود قال : «قال رسول الله من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال
امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟
فقالوا كذا وكذا ، قال فيّ أنزلت ، لي بئر في أرض بن عمّ لي إلخ ، فابن مسعود جعل
الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عامّ ، والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذا قال :
«فيّ أنزلت» بصيغة الحصر.
ومثل الآيات
النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتتحة بقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ) [التوبة : ٥٨] ،
ولذلك قال ابن عباس : كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة. ومثل
قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ
مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥]
فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود مودة المؤمنين. وهذا القسم قد أكثر
من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره ، على أنّ ذكره قد يوهم
القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.
والرابع
: هو حوادث حدثت وفي القرآن تناسب معانيها سابقة أو لا حقة
فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات ، مع
أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين
الصحابة في كثير من أسباب النزول كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب
النزول من «الإتقان» فارجعوا إليه ففيه أمثلة كثيرة.
وفي «صحيح البخاري» في سورة النساء [٩٤] أن ابن عباس قرأ قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى
إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) بألف بعد لام السلام وقال كان رجل في غنيمة له (تصغير غنم)
فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه (أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم
بالسلام) وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك : (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) الآية. فالقصة لا بد أن تكون قد وقعت لأن ابن عباس رواها
لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما
بعدها فإن قبلها : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) [النساء : ٩٤]
وبعدها : (فَعِنْدَ اللهِ
مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ٩٤].
وفي تفسير تلك
السورة من «صحيح
البخاري» بعد أن ذكر نزاع
الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرّة قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت
في ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥]
الآية قال السيوطي في «الإتقان» عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم
إذا قال نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان
السبب في نزولها. وفيه عن ابن تيمية قد تنازع العلماء في قول الصحابي نزلت هذه
الآية في كذا هل يجري مجرى المسند أو يجري مجرى التفسير؟ فالبخاري يدخله في المسند
، وأكثر أهل المسانيد لا يدخلونه فيه ، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم
كلهم يدخلونه في المسند.
والخامس
: قسم يبين مجملات ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما
أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]
فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا ، ثم إذا علم أن
سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا
يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى
: (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢] شق
ذلك على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم (ظنوا أن الظلم هو
المعصية). فقال رسول الله : إنه ليس بذلك؟ ألا تسمع لقول لقمان لابنه : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)
[لقمان : ١٣]. ومن
هذا القسم ما لا يبين مجملا ولا يؤول متشابها ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع
بعض كما في قوله تعالى : في سورة النساء [٣] (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية ، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في
«الصحيح» عن عائشة أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت : «هذه
اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها
فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من
النساء سواهن».
هذا وإن القرآن
كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها ، وهذا الهدى قد يكون واردا قبل الحاجة ، وقد يكون
مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما ، وقد يكون مخاطبا به جميع من
يصلح لخطابه ، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية ، والحكمة في ذلك
أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها ، وليمكن تواتر الدّين ، وليكون لعلماء الأمة
مزية الاستنباط ، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزّل وأن يطيل
عمر النبي صلىاللهعليهوسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى ، ولذلك قال
تعالى : (وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] ،
فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله ، كذلك لا يجوز
تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد ؛ لأن ذلك قد يقضي إلى
التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله ، وقد اغتر بعض الفرق بذلك ، قال ابن
سيرين في الخوارج : إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على
المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب ، وقد قال الحورية لعليّ رضياللهعنه يوم التحكيم (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام : ٥٧] فقال
عليّ «كلمة حق أريد بها باطل» وفسرها في خطبة له في «نهج البلاغة».
وثمة فائدة أخرى
عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث
حوادث دلالة على
إعجازه من ناحية الارتجال ، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم ، فنزوله
على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.
المقدمة السادسة
في القراءات
لو لا عناية كثير
من المفسرين بذكر اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن حتى في كيفيات الأداء ، لكنت
بمعزل عن التكلم في ذلك ، لأن علم القراءات علم جليل مستقل قد خص بالتدوين
والتأليف ، وقد أشبع فيه أصحابه وأسهبوا بما ليس عليه مزيد ، ولكني رأيتني بمحل
الاضطرار إلى أن ألقي عليكم جملا في هذا الغرض تعرفون بها مقدار تعلق اختلاف
القراءات بالتفسير ، ومراتب القراءات قوة وضعفا ، كيلا تعجبوا من إعراضي عن ذكر كثير
من القراءات في أثناء التفسير.
أرى أن للقراءات
حالتين إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال ، والثانية لها تعلق به من جهات
متفاوتة.
أما
الحالة الأولى : فهي اختلاف القراء
في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل
والتحقيق والجهر والهمس والغنة ، مثل (عَذابِي) [الأعراف : ١٥٦]
بسكون الياء و (عَذابِي) بفتحها ، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢١٤]
بفتح لام يقول وضمها. ونحو : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤]
برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض ، ومزية القراءات من هذه الجهة
عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق
العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقّي ذلك
عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة ، وهذا غرض مهم جدا لكنه لا علاقة له
بالتفسير لعدم تأثيره في اختلاف معاني الآي ، ولم أر من عرف لفن القراءات حقه من
هذه الجهة ، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية ، فهي لذلك مادة كبرى
لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرءوا القرآن قرءوه بلهجات العرب الذين
كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف : المدينة ، ومكة ،
والكوفة ، والبصرة ، والشام ، قيل واليمن والبحرين ، وكان في هذه الأمصار
قراؤها من الصحابة
قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء ، لا في زيادة
الحروف ونقصها ، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان ، ويحتمل أن يكون
القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليري صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ
القرآن الذي أنزل بها ، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية
اختيارا ، وعليه يحمل ما يقع في «كتابي الزمخشري وابن العربي» من نقد بعض طرق القراء ، على أن في بعض نقدهم نظرا ، وقد
كره مالك رحمهالله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء ، وهي مروية عن مقرئ
المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر ، فدلت كراهته على أنه يرى
أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار.
وفي تفسير القرطبي
في سورة الشعراء [١] عن أبي إسحاق الزجاج : يجوز أن يقرأ «طسين ميم» بفتح النون من
«طسين» وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معديكرب ا ه مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت :
ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي
أجمع عليه أصحاب رسول الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم ، كان عبد الله بن مسعود منهم
، فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأثبته كتّاب المصحف ، رأى أن يحمل الناس على اتباعه
وترك قراءة ما خالفه ، وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور
الصحابة على ما فعله.
قال شمس الدين
الأصفهاني في المقدمة الخامسة من «تفسيره» «كان عليّ طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما». وقلت
: إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في
حياة الرسول ، وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار ، فصار المصحف الذي كتب
لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب
الإجماع.
قال الأصفهاني في «تفسيره» : «كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين
والأنصار واحدة ، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه ، ويقال إن زيد بن ثابت
شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل» ا ه. وبقي الذين قرءوا قراءات
مخالفة لمصحف عثمان يقرءون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدونهم شذاذا
ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في
مصاحف بعد أن أجمع
الناس على مصحف عثمان.
قال البغوي في
تفسير قوله تعالى : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) [الواقعة : ٢٩] عن
مجاهد وفي «الكشاف» و«القرطبي» ـ قرأ علي بن أبي طالب : «وطلح منضود» بعين في موضع الحاء
، وقرأ قارئ بين يديه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فقال : وما شأن الطلح؟ إنما هو «وطلع» وقرأ (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ١٠] فقالوا أفلا
نحولها؟ فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول ، أي لا تغير حروفها ولا تحول
عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف ، ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها.
وممن نسبت إليهم
قراءات مخالفة لمصحف عثمان ، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة
، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا.
ذكر الفخر في
تفسير قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ) من سورة النور [١٥] أن سفيان قال سمعت أمي تقرأ : «إذ
تثقفونه بألسنتكم» وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود ، ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت
مغفولا عنها بأيدي أصحابها ، منها ما ذكره الزمخشري في «الكشاف» في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود
كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج ، قال في «الكشاف» : لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام ، وقد أفرط الزمخشري في
توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النحاة وذلك من إعراضه عن معرفة
الأسانيد.
من أجل ذلك اتفق
علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف ـ
أي مصحف عثمان ـ وصح سند راويها فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها ، قال أبو بكر ابن
العربي : ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك
فهو شاذ ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه.
قلت : وهذه الشروط
الثلاثة هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد
التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح ، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه
الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية ، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف
المجمع عليه ، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرءوا قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [التكوير : ٢٤]
بظاء مشالة أي بمتهم ، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة.
على أن أبا علي
الفارسي صنف كتاب «الحجة» للقراءات ، وهو معتمد عند المفسرين وقد رأيت نسخة منه في
مكاتب الآستانة ، فالقراءات من هذه الجهة لا تفيد في علم التفسير والمراد بموافقة
خط المصحف موافقة أحد المصاحف الأئمة التي وجه بها عثمان بن عفان إلى أمصار
الإسلام إذ قد يكون اختلاف يسير نادر بين بعضها ، مثل زيادة الواو في (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) [آل عمران : ١٣٣]
في مصحف الكوفة ومثل زيادة الفاء في قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) في سورة الشورى [٣٠] : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) [العنكبوت : ٨] أو
إحسانا فذلك اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين
تلقّوا القرآن عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأنه قد أثبته ناسخو المصحف في زمن عثمان فلا ينافي
التواتر إذ لا تعارض ، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في
زمانين أو أزمنة ، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرءوا بأحد اللفظين أو الألفاظ.
وقد انحصر توفر
الشروط في الروايات العشر للقراء وهم : نافع بن أبي نعيم المدني ، وعبد الله بن
كثير المكي ، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي ، وعاصم بن أبي
النّجود الكوفي ، وحمزة بن حبيب الكوفي ، والكسائي عليّ بن حمزة الكوفي ، ويعقوب
بن إسحاق الحضرمي البصري ، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني ، وخلف البزار (بزاي
فألف فراء مهملة) الكوفي ، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة ، وإنما اختار لنفسه
قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة ، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا ،
وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن والأعمش ، مرتبة دون العشر ،
وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن.
والذي قاله مالك
والشافعي أن ما دون العشر لا تجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف
الذي كتب فيه ما تواتر ، فكان ما خالفه غير متواتر فلا يكون قرآنا ، وقد تروى
قراءات عن النبي صلىاللهعليهوسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح مثل «صحيح البخاري ومسلم» وأضرابهما إلا أنها لا يجوز لغير من سمعها من النبي صلىاللهعليهوسلم القراءة بها لأنها غير متواترة النقل فلا يترك المتواتر
للآحاد ، وإذا كان راويها قد بلغته قراءة أخرى متواترة تخالف ما رواه وتحقق لديه
التواتر وجب عليه أن يقرأ بالمروية تواترا ، وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا
عليها قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأنها غير منتسبة إلى أحد من أئمة الرواية في القراءات ،
ويكثر ذكر هذا العنوان في «تفسير
محمد بن جرير الطبري» وفي «الكشاف»
وفي «المحرر الوجيز» لعبد الحق ابن عطية ، وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني ،
فلا تحسبوا أنهم أرادوا بنسبتها إلى النبي صلىاللهعليهوسلم أنها وحدها المأثورة عنه ولا ترجيحها على القراءات
المشهورة لأن القراءات المشهورة قد رويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم بأسانيد أقوى وهي متواترة على الجملة كما سنذكره ، وما كان
ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن
غيرها لم يقرأ به النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم.
وأما
الحالة الثانية : فهي اختلاف القراء
في حروف الكلمات مثل (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] و (ملك
يوم الدين) و (ننشرها) و (نُنْشِزُها) [البقرة : ٢٥٩] (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بتشديد الذال أو (قَدْ كُذِبُوا) [يوسف : ١١٠]
بتخفيفه ، وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً
إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) [الزخرف : ٥٧] قرأ
نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد ، فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان ،
والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم ، وهي من هذه الجهة لها
مزيد تعلق بالتفسير لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في
القراءة الأخرى ، أو يثير معنى غيره ، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر
المعاني في الآية الواحدة نحو : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢]
بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة ، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة ، ونحو (لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣] و (لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، وقراءة : وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا [الزخرف
: ١٩] مع قراءة (الَّذِينَ هُمْ
عِبادُ الرَّحْمنِ) والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر ، تكثيرا للمعاني إذا
جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما
يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني ،
فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر ، وهذا نظير
التضمين في استعمال العرب ، ونظير التورية والتوجيه في البديع ، ونظير مستتبعات
التراكيب في علم المعاني ، وهو من زيادة ملائمة بلاغة القرآن ، ولذلك كان اختلاف
القراء في اللفظ الواحد من القرآن ، قد يكون معه اختلاف المعنى ، ولم يكن حمل أحد
القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجّحا ، وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي عليّ
الفارسي في كتاب «الحجة» أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى ،
ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) في سورة الحديد [٢٤] ، وقراءة نافع وابن عامر : «فإن الله
الغني الحميد»
بإسقاط هو أن من
أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة
نافع وابن عامر ، قال أبو حيان : «وما ذهب إليه ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك ، ألا
ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦]
بضم التاء أو سكونها».
وأنا أرى أن على
المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية
غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن. وهذا يبين لنا أن اختلاف
القراءات قد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام ففي
«صحيح
البخاري» أن عمر بن
الخطاب قال سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها
رسول الله ، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلّم فلبّبته بردائه فقلت من أقرأك
هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال أقرأنيها رسول الله ، فقلت كذبت فإن رسول الله
أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا
يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، فقال رسول الله اقرأ يا هشام فقرأ عليه
القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله : كذلك أنزلت ، ثم قال اقرأ يا عمر فقرأت
القراءة التي أقرأني فقال رسول الله كذلك أنزلت إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف
فاقرءوا ما تيسر منه» ا ه.
وفي الحديث إشكال
، وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين : أحدهما اعتبار الحديث منسوخا
والآخر اعتباره محكما.
فأما الذين
اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة ، منهم أبو بكر الباقلاني وابن عبد البرّ
وأبو بكر بن العربي والطبري والطّحاوي ، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان
ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرءوا القرآن بلغاتهم التي جرت
عادتهم باستعمالها ، ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل
القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة ، وقال ابن العربي دامت الرخصة مدة
حياة النبي
__________________
عليهالسلام ، وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي صلىاللهعليهوسلم ، واستدلوا على ذلك بقول عمر : إن القرآن نزل بلسان قريش ،
وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ) [الصافات : ١٧٨]
وهي لغة هذيل في حتى ، وبقول عثمان لكتّاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه
بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم ، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن ، أو أراد
أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ
بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها.
ولهم في تحديد
معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال : الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد ، أي
أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى
يحيطوا بالمعنى ، وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول
الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع
لغات ؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة
مرادفات أصلا ، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل (أُفٍّ) [الإسراء : ٢٣] و (جِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] و (أَرْجِهْ) [الأعراف : ١١١].
وقد اختلفوا في
تعيين اللغات السبع ، فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني هي من عموم
لغات العرب وهم : قريش ، وهذيل ، وتيم الرّباب ، والأزد ، وربيعة ، وهوازن ، وسعد
بن بكر من هوازن ، وبعضهم يعد قريشا ، وبني دارم ، والعليا من هوازن وهم سعد بن
بكر ، وجشم ابن بكر ، ونصر بن معاوية ، وثقيف ، قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب
عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما ، وقال أبو علي
الأهوازي وابن عبد البر وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش وهذيل وكنانة
وقيس وضبّة وتيم الرّباب ، وأسد بن خزيمة ، وكلها من مضر.
القول
الثاني : لجماعة منهم عياض
أن العدد غير مراد به حقيقته ، بل هو كناية عن التعدد والتوسع ، وكذلك المرادفات
ولو من لغة واحدة كقوله : (كَالْعِهْنِ
الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥]
وقرأ ابن مسعود (كالصوف المنفوش) ، وقرأ أبيّ (كُلَّما أَضاءَ
لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) [البقرة : ٢٠]
مرّوا فيه ـ سعوا فيه ، وقرأ ابن مسعود : (انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ـ أخرونا ـ
أمهلونا ، وأقرأ ابن مسعود رجلا : (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤]
فقال الرجل طعام اليتيم ، فأعاد له فلم يستطع أن يقول الأثيم فقال له ابن مسعود : أتستطيع
أن
تقول طعام الفاجر؟
قال نعم ، قال فاقرأ كذلك ، وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة.
القول
الثالث : أن المراد
التوسعة في نحو (وَكانَ اللهُ
سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء : ١٤٨] أن
يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول : «وكان الله
غفورا رحيما» أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر.
وأما الذين
اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب ، فقال جماعة منهم
البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي
والحلال والحرام ، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء ، والحقيقة والمجاز. أو أنواع
دلالته كالعموم والخصوص والظاهر والمؤول. ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث
على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة. وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من
الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض.
وذهب جماعة منهم
أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات
من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ ، وذهبوا في تعيينها
إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين
ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة ، وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه
كلمات من تلك اللغات ، لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير ، وهذا كما قال أبو
هريرة : ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى : (وَآتَتْ كُلَّ
واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) [يوسف : ٣١] ما
كنا نقول إلا المدية ، وفي البخاري إلا من النبي في قصة حكم سليمان بين
المرأتين من قول سليمان : (ايتوني بالسكين أقطعه بينكما) ، وهذا الجواب لا يلاقي
مساق الحديث من التوسعة ، ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في
القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب ، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر
الواسطي إلى خمسين لغة.
وذهب جماعة أن
المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة ، والمد والقصر ،
والهمز والتخفيف ، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن ،
وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدّمنا ، وهنا لك أجوبة أخرى
__________________
ضعيفة لا ينبغي
للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا.
وعندي أنه إن كان
حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون
مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون
هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن
يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة ، وقد ذكر الباقلاني احتمال
أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا
هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة
الأخيرة التي عرضها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب
الرخصة.
ومن الناس من يظن
المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات
، وذلك غلظ ولم يقله أحد من أهل العلم ، وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة
، فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل ، ولكنه أمر حصل إما بدون قصد أو
بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها
بشأنها بين العامة ، ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال : لقد فعل جاعل
عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي ، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه
السبعة هي المرادة في الحديث ، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها.
قال السيوطي : وقد
صنف ابن جبير المكي ـ وهو قبل ابن مجاهد ـ كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة
من كل مصر إماما ، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار
كانت إلى خمسة أمصار.
قال ابن العربي في
«العواصم» : أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد ، غير أنه عد
قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي ، قال السيوطي وذلك على رأس
الثلاثمائة. وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية
السبعة ، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة ، وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على
تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد
تعين أن الاختلاف
لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.
وأما صحة السند
الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة
لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح كما ذكر في «المزهر» أن حماد بن الزبرقان قرأ : إلا عن موعدة وعدها أباه [التوبة
: ١١٤] بالباء الموحدة وإنما هي «إيّاه» بتحتية ، وقرأ بل الذين كفروا في غرة [ص :
٢] بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي «عزة» بعين مهملة وزاي ، وقرأ : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] بعين
مهملة ، وإنما هي «يغنيه» بغين معجمة ، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه
من المصحف.
مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
قال أبو بكر بن
العربي في كتاب «العواصم» : اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ
التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ،
ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف ، وما كان نطقه صالحا لرسم
المصحف واختلف فيه فهو مقبول ، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى
التواتر ، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان ، مثل ما نقل من قراءة
ابن مسعود ، ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم ، فقد
صارت متواترة على التخيير ، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا ، وليس المراد ما
يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم
متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد آحاد ، وأقواها سندا ما كان له
راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي وابن عبد السلام
التونسي وأبو العباس ابن إدريس فقيه بجاية من المالكية ، والأبياري من الشافعية
بأنها غير متواترة ، وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن
فلانا قرأ بخلافه ، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت
بالتواتر كما علمت آنفا ، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين
في «البرهان» : هي متواترة ورده عليه الأبياري ، وقال المازري في «شرحه» : هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة ،
وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري ، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من
المالكية. وهذه مسألة
مهمة جرى فيها
حوار بين الشيخين ابن عرفة التونسي وابن لب الأندلسي ذكرها الونشريسي في «المعيار».
وتنتهي أسانيد
القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم : عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي
بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأبو الدرداء ، وزيد بن ثابت ،
وأبو موسى الأشعري ، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك
في علم القرآن.
وأما وجوه الإعراب
في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني نحو (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : ٣] بنصب حين
ورفعه ، ونحو : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى
يَقُولَ الرَّسُولُ) [الأحزاب : ١١]
بنصب (يقول) ورفعه ، ألا ترى أن الأمّة أجمعت على رفع اسم الجلالة في قوله تعالى :
(وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤]
وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما ، وقرأ بعض الرافضة (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُداً) [الكهف : ٥١]
بصيغة التثنية ، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما ، وقاتلهم الله.
وأما ما خالف
الوجوه الصحيحة في العربية ففيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب
فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة ، وبهذا نبطل كثيرا مما زيفه الزمخشري من
القراءات المتواترة بعلة أنها جرت على وجوه ضعيفة في العربية لا سيما ما كان منه
في قراءة مشهورة كقراءة عبد الله بن عامر قوله تعالى : (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل
أولادهم شركائهم) [الأنعام : ١٣٧] ببناء (زين) للمفعول وبرفع (قتل) ، ونصب (أولادهم) وخفض (شركائهم)
ولو سلمنا أن ذلك وجه مرجوح ، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق
التي تناكد التواتر كما قدمناه آنفا على ما في اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير
الذي يفيده الآخر ، لأن لإضافة المصدر إلى المفعول خصائص غير التي لإضافته إلى
فاعله ، ولأن لبناء الفعل للمجهول نكتا غير التي لبنائه للفاعل ، على أن أبا علي
الفارسي ألف كتابا سماه «الحجة» احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية.
ثم إن القراءات العشر
الصحيحة المتواترة قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة
أو كثرة المعاني أو الشهرة ، وهو تمايز متقارب ، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك
الآية رجحانا ، على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على
غيرها ، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري ، والعلامة
الزمخشري وفي أكثر
ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه.
وقد سئل ابن رشد
عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم
هذه القراءة أحسن ، أذاك صحيح أم لا؟ فأجاب : أما ما سألت عنه مما يقع في كتب
المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة
الإعراب وأصح في النقل ، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك ، كرواية ورش التي اختارها
الشيوخ المتقدمون عندنا (أي بالأندلس) فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما
فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع ، وقد تؤول ذلك فيما روي عن
مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.
وفي كتاب الصلاة
الأول من «العتبية» : سئل مالك عن النبر في القرآن فقال : إني لأكرهه وما
يعجبني ذلك ، قال ابن رشد في «البيان» يعني بالنبر هاهنا إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل
فكره ذلك واستحب فيه التسهيل على رواية ورش لما جاء من أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم تكن لغته الهمز (أي إظهار الهمز في الكلمات المهموزة بل
كان ينطق بالهمزة مسهلة إلى أحرف علة من جنس حركتها ، مثل : (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) [الكهف : ٩٤]
بالألف دون الهمز ، ومثل : الذيب في (الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] ومثل
: مؤمن في (مُؤْمِنٌ) [البقرة : ٢٢١].
ثم قال : ولهذا المعنى كان العمل جاريا في قرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام بالجامع
في الصلاة إلا برواية ورش ، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ زمن قريب ا ه.
وهذا خلف بن هشام
البزّار راوي حمزة ، قد اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين ، ومنهم شيخه
حمزة بن حبيب وميزها قراءة خاصة فعدت عاشرة القراءات العشر وما هي إلا اختيار من
قراءات الكوفيين ، ولم يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم إلا في قراءة
قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ) [الأنبياء : ٩٥]
قرأها بالألف بعد الراء مثل حفص والجمهور.
فإن قلت : هل يفضي
ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن
المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
قلت : حد الإعجاز
مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال ، وهو لا يقبل التفاوت ، ويجوز مع ذلك أن يكون
بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة
، أو تتعلق بزيادة الفصاحة ، أو بالتفنن مثل : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ
خَرْجاً
فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) [المؤمنون : ٧٢].
على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلىاللهعليهوسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به
حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم ، فتروى تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها بسبب
أن المتميزة هي البالغة البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة ، ولا يعكر ذلك على كونها
أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز. وأما الإعجاز فلا
يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن ،
وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه
معجزا. تنبيه : أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر
المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة ، وإن كانت
القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار
الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب
بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس.
ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد
الإسلام من هذه القراءات العشر ، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي
وبعض القطر المصري وفي ليبيا ، وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر
المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى ، وما يتبعه من البلاد
والسودان. وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد
المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان. وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ
بها في السودان المجاور مصر.
المقدمة السابعة
قصص القرآن
امتن الله على
رسوله صلىاللهعليهوسلم بقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف : ٣] فعلمنا
من قوله (أَحْسَنَ) ، أن القصص القرآنية لم تسق مساق الإحماض وتجديد النشاط ، وما يحصل من استغراب مبلغ تلك الحوادث من
خير أو شر ؛ لأن غرض القرآن أسمى وأعلى من هذا ، ولو كان من هذا لساوى كثيرا من
قصص الأخبار الحسنة الصادقة فما كان جديرا بالتفضيل على كل جنس القصص.
والقصة : الخبر عن
حادثة غائبة عن المخبر بها ، فليس ما في القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة في زمن
نزوله قصصا مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم. وجمع القصة قصص بكسر القاف ، وأما القصص
بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص ، وهو مصدر سمى به المفعول ، يقال : قص على فلان
إذا أخبره بخبر.
وأبصر أهل العلم
أن ليس الغرض من سوقها قاصرا على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب
الخير أو الشر ، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص في عناية الله بهم أو
التشويه بأصحابها فيما لقوه من غضب الله عليهم كما تقف عنده أفهام القانعين بظواهر
الأشياء وأوائلها ، بل الغرض من ذلك أسمى وأجل. إن في تلك القصص لعبرا جمة وفوائد
للأمة ؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها ويعرض عما عداه ليكون
تعرضه للقصص منزها عن قصد التفكه بها ، من أجل ذلك كله لم تأت القصص في القرآن
متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ ، بل كانت مفرقة موزعة على
مقامات تناسبها ، لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع ، هو ذكر
وموعظة لأهل الدين فهو بالخطابة أشبه. وللقرآن أسلوب
__________________
خاص هو الأسلوب
المعبر عنه بالتذكير وبالذكر في آيات يأتي تفسيرها ؛ فكان أسلوبه قاضيا للوطرين
وكان أجل من أسلوب القصاصين في سوق القصص لمجرد معرفتها لأن سوقها في مناسباتها
يكسبها صفتين : صفة البرهان وصفة التبيان ونجد من مميزات قصص القرآن نسج نظمها على
أسلوب الإيجاز ليكون شبهها بالتذكير أقوى من شبهها بالقصص ، مثال ذلك قوله تعالى
في سورة القلم : (فَلَمَّا رَأَوْها
قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها لأن ذلك
ممن حكايتها ولم تحك أثناء قوله : (إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) [القلم : ١٧]
وقوله : (فَتَنادَوْا
مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢].
ومن مميزاتها طي
ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله تعالى في سورة يوسف (٢٥) : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) فقد طوي ذكر حضور سيّدها وطرقه الباب وإسراعهما إليه لفتحه
، فإسراع يوسف ليقطع عليها ما توسمه فيها من المكر به لتري سيدها أنّه بها سوءا ،
وإسراعها هي لضد ذلك لتكون البادئة بالحكاية فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من
شكاية ، فدلّ على ذلك ما بعده من قوله : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها
لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) [يوسف : ٢٥]
الآيات.
ومنها أنّ القصص
بثت بأسلوب بديع إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي
جاء به القرآن من تشريع وتفريع فتوفرت من ذلك عشر فوائد :
الفائدة
الأولى : أن قصارى علم أهل الكتاب في ذلك العصر كان معرفة أخبار
الأنبياء وأيامهم وأخبار من جاورهم من الأمم ، فكان اشتمال القرآن على تلك القصص
التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم من أهل الكتاب تحديا عظيما لأهل الكتاب ،
وتعجيزا لهم بقطع حجتهم على المسلمين ، قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] فكان
حملة القرآن بذلك أحقّاء بأن يوصفوا بالعلم الذي وصفت به أحبار اليهود ، وبذلك
انقطعت صفة الأمية عن المسلمين في نظر اليهود ، وانقطعت ألسنة المعرّضين بهم بأنهم
أمة جاهلية ، وهذه فائدة لم يبينها من سلفنا من المفسرين.
الفائدة
الثانية : أن من أدب الشريعة معرفة تاريخ سلفها في التشريع من
الأنبياء بشرائعهم فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلا لهامة
التشريع الإسلامي
بذكر تاريخ
المشرعين ، قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦]
الآية. وهذه فائدة من فتوحات الله لنا أيضا. وقد رأيت من أسلوب القرآن في هذا
الغرض أنه لا يتعرض إلا إلى حال أصحاب القصة في رسوخ الإيمان وضعفه وفيما لذلك من
أثر عناية إلهية أو خذلان. وفي هذا الأسلوب لا تجد في ذكر أصحاب هذه القصص بيان
أنسابهم أو بلدانهم إذ العبرة فيما وراء ذلك من ضلالهم أو إيمانهم. وكذلك مواضع
العبرة في قدرة الله تعالى في قصة أهل الكهف : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) إلى قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْناهُمْ هُدىً) الآيات فلم يذكر أنهم من أي قوم وفي أي عصر. وكذلك قوله
فيها : (فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) [الكهف : ١٩] فلم
يذكر أين مدينة هي لأن موضع العبرة هو انبعاثهم ووصول رسولهم إلى مدينة إلى قوله :
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [الكهف : ٢١].
الفائدة
الثالثة : ما فيها من فائدة التاريخ من معرفة ترتب المسببات على
أسبابها في الخير والشر والتعمير والتخريب لتقتدي الأمة وتحذر ، قال تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما
ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] وما
فيها من فائدة ظهور المثل العليا في الفضيلة وزكاء النفوس أو ضد ذلك.
الفائدة
الرابعة : ما فيها من موعظة المشركين بما لحق الأمم التي عاندت رسلها
، وعصت أوامر ربها حتى يرعووا عن غلوائهم ، ويتعظوا بمصارع نظرائهم وآبائهم ، وكيف
يورث الأرض أولياءه وعباده الصالحين قال تعالى : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف : ١٧٦]
وقال : (لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١] وقال
:
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥]
وهذا في القصص التي يذكر فيها ما لقيه المكذبون للرسل كقصص قوم نوح وعاد وثمود
وأهل الرّسّ وأصحاب الأيكة.
الفائدة
الخامسة : أن في حكاية القصص سلوك أسلوب التوصيف والمحاورة وذلك أسلوب
لم يكن معهودا للعرب فكان مجيؤه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية
شديد التأثير في نفوس أهل اللسان ، وهو من إعجاز القرآن ؛ إذ لا ينكرون أنه أسلوب
بديع ولا يستطيعون الإتيان بمثله إذ لم يعتادوه ، انظر إلى حكاية أحوال الناس في
الجنة والنار والأعراف في سورة الأعراف ، وقد تقدم التنبيه عليه في المقدمة
الخامسة
فكان من مكملات
عجز العرب عن المعارضة.
الفائدة
السادسة : أن العرب بتوغل الأمية والجهل فيهم أصبحوا لا تهتدي عقولهم
إلا بما يقع تحت الحس ، أو ما ينتزع منه ففقدوا فائدة الاتعاظ بأحوال الأمم
الماضية وجهلوا معظمها وجهلوا أحوال البعض الذي علموا أسماءه فأعقبهم ذلك إعراضا
عن السعي لإصلاح أحوالهم بتطهيرها مما كان سبب هلاك من قبلهم ، فكان في ذكر قصص
الأمم توسيع لعلم المسلمين بإحاطتهم بوجود الأمم ومعظم أحوالها ، قال مشيرا إلى
غفلتهم قبل الإسلام : (وَسَكَنْتُمْ فِي
مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥].
الفائدة
السابعة : تعويد المسلمين على معرفة سعة العالم وعظمة الأمم والاعتراف
لها بمزاياها حتى تدفع عنهم وصمة الغرور كما وعظهم قوله تعالى عن قوم عاد : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] فإذا
علمت الأمة جوامع الخيرات وملائمات حياة الناس تطلبت كل ما ينقصها مما يتوقف عليه
كمال حياتها وعظمتها.
الفائدة
الثامنة : أن ينشئ في المسلمين همة السعي إلى سيادة العالم كما ساده
أمم من قبلهم ليخرجوا من الخمول الذي كان عليه العرب إذ رضوا من العزة باغتيال
بعضهم بعضا فكان منتهى السيد منهم أن يغنم صريمة ، ومنتهى أمل العامي أن يرعى
غنيمة ، وتقاصرت هممهم عن تطلب السيادة حتى آل بهم الحال إلى أن فقدوا عزتهم
فأصبحوا كالأتباع للفرس والروم ، فالعراق كله واليمن كله وبلاد البحرين تبع لسيادة
الفرس ، والشام ومشارفه تبع لسيادة الروم ، وبقي الحجاز ونجد لا غنية لهم عن
الاعتزاز بملوك العجم والروم في رحلاتهم وتجارتهم.
الفائدة
التاسعة : معرفة أن قوة الله تعالى فوق كل قوة ، وأن الله ينصر من
ينصره ، وأنهم إن أخذوا بوسيلتي البقاء : من الاستعداد والاعتماد ؛ سلموا من تسلط
غيرهم عليهم. وذكر العواقب الصالحة لأهل الخير. وكيف ينصرهم الله تعالى كما في
قوله : (فَنادى فِي
الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٧ ،
٨٨].
الفائدة
العاشرة : أنها يحصل منها بالتبع فوائد في تاريخ التشريع والحضارة
وذلك يفتق أذهان المسلمين للإلمام بفوائد المدنية كقوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ
لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [يوسف : ٧٦] في
قراءة من قرأ (دين) بكسر
الدال ، أي في شرع
فرعون يومئذ ، فعلمنا أن شريعة القبط كانت تخول استرقاق السارق. وقوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا
مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) [يوسف : ٧٩] يدل
على أن شريعتهم ما كانت تسوغ أخذ البدل في الاسترقاق ، وأن الحر لا يملك إلا بوجه
معتبر. ونعلم من قوله : (وَابْعَثْ فِي
الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الشعراء : ٣٦] ، (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ
حاشِرِينَ) [الشعراء : ٥٣] أن
نظام مصر في زمن موسى إرسال المؤذنين والبريح بالإعلام بالأمور المهمة. ونعلم من
قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ) [يوسف : ١٠] أنهم
كانوا يعلمون وجود الأجباب في الطرقات وهي آبار قصيرة يقصدها المسافرون للاستقاء
منها. وقول يعقوب : (وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] أن
بادية الشام إلى مصر كانت توجد بها الذئاب المفترسة وقد انقطعت منها اليوم.
وفيما ذكرنا ما
يدفع عنكم هاجسا رأيته خطر لكثير من أهل اليقين والمتشككين وهو أن يقال : لما ذا
لم يقع الاستغناء بالقصة الواحدة في حصول المقصود منها؟ وما فائدة تكرار القصة في
سور كثيرة؟ وربما تطرق هذا الهاجس ببعضهم إلى مناهج الإلحاد في القرآن. والذي يكشف
لسائر المتحيرين حيرتهم على اختلاف نواياهم وتفاوت مداركهم أن القرآن ـ كما قلنا ـ
هو بالخطب والمواعظ أشبه منه بالتآليف ، وفوائد القصص تجتلبها المناسبات فتذكر
القصة كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه ، فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن
سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى. كما لا يقال للخطيب في قوم ، ثم دعته
المناسبات إلى أن وقف خطيبا في مثل مقامه الأول فخطب بمعان تضمنتها خطبته السابقة
: إنه أعاد الخطبة ، بل إنه أعاد معانيها ولم يعد ألفاظ خطبته. وهذا مقام تظهر فيه
مقدرة الخطباء فيحصل من ذكرها هذا المقصد الخطابي. ثم تحصل معه مقاصد أخرى.
أحدها
: رسوخها في
الأذهان بتكريرها.
الثاني
: ظهور البلاغة ، فإن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه
أن يثقل على البليغ فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق مع تفنن في المعاني باختلاف
طرق أدائها من مجاز أو استعارات أو كناية. وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه
الفصاحة وسعة اللغة باستعمال المترادفات مثل : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ) [الكهف : ٣٦] ، (وَلَئِنْ رُجِعْتُ) [فصلت : ٥٠].
وتفنن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية ونحو ذلك كان من الحدود القصوى في
البلاغة ،
فذلك وجه من وجوه
الإعجاز.
الثالث
: أن يسمع اللاحقون من المؤمنين في وقت نزول القرآن ذكر القصة
التي كانت فاتتهم مماثلتها قبل إسلامهم أو في مدة مغيبهم ، فإن تلقي القرآن عند
نزوله أوقع في النفوس من تطلبه من حافظيه.
الرابع
: أن جمع المؤمنين جميع القرآن حفظا كان نادرا بل تجد البعض
يحفظ بعض السور فيكون الذي حفظ إحدى السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالما بتلك
القصة. كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت فيها تلك القصة.
الخامس
: أن تلك القصص تختلف حكاية القصة الواحدة منها بأساليب
مختلفة ويذكر في بعض حكاية القصة الواحدة ما لم يذكر في بعضها الآخر وذلك لأسباب :
منها تجنب التطويل
في الحكاية الواحدة فيقتصر على موضع العبرة منها في موضع ويذكر آخر في موضع آخر
فيحصل من متفرق مواضعها في القرآن كمال القصة أو كمال المقصود منها ، وفي بعضها ما
هو شرح لبعض.
ومنها أن يكون بعض
القصة المذكور في موضع مناسبا للحالة المقصودة من سامعيها ، ومن أجل ذلك تجد ذكرا
لبعض القصة في موضع وتجد ذكرا لبعض آخر منها في موضع آخر لأن فيما يذكر منها
مناسبة للسياق الذي سيقت له ، فإنها تارة تساق إلى المشركين ، وتارة إلى أهل
الكتاب ، وتارة تساق إلى المؤمنين ، وتارة إلى كليهما ، وقد تساق للطائفة من هؤلاء
في حالة خاصة ، ثم تساق إليها في حالة أخرى. وبذلك تتفاوت بالإطناب والإيجاز على
حسب المقامات ، ألا ترى قصة بعث موسى كيف بسطت في سورة طه وسورة الشعراء ، وكيف
أوجزت في آيتين في سورة الفرقان [٣٥ ، ٣٦] : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا
إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً).
ومنها أنه قد يقصد
تارة التنبيه على خطأ المخاطبين فيما ينقلونه من تلك القصة ، وتارة لا يقصد ذلك.
فهذه تحقيقات سمحت
بها القريحة ، وربما كانت بعض معانيها في كلام السابقين غير صريحة.
المقدمة الثامنة
في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها
هذا غرض له مزيد
اتصال بالقرآن وله اتصال متين بالتفسير ؛ لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع
كثيرة من فواتح السور ، ومناسبة بعضها لبعض فيغني المفسر عن إعادته.
معلوم لك أن موضع
علم التفسير هو القرآن لتبيان معانيه وما يشتمل عليه من إرشاد وهدي وآداب وإصلاح
حال الأمة في جماعتها وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها بفهم دلالته اللغوية
والبلاغية ، فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله تعالى كلاما عربيا إلى محمد صلىاللهعليهوسلم بواسطة جبريل على أن يبلّغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي
أوحى به إليه للعمل به ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرءوه منه في صلواتهم وجعل قراءته
عبادة.
وجعله كذلك آية
على صدق الرسول في دعواه الرسالة عن الله إلى الخلق كافة بأن تحدّى منكريه
والمترددين فيه من العرب وهم المخاطبون به الأولون بأنهم لا يستطيعون معارضته ،
ودعاهم إليها فلم يفعلوا. دعاهم أوّل الأمر إلى الإتيان بعشر سور مثله فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٣ ، ١٤].
ثم استنزلهم إلى أهون من ذلك عليهم فقال : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ) [يونس : ٣٨ ، ٣٩].
ثم جاء بأصرح من ذلك وأنذرهم بأنهم ليسوا بآتين بذلك فقال في سورة البقرة [٢٣ ، ٢٤]
: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) الآية. وقال : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس : ٢٠] (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٥١].
وقد بين النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك بقوله : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما
مثله آمن
عليه البشر ،
وإنّما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم
القيامة» وفي هذا الحديث معان جليلة ليس هذا مقام بيانها وقد شرحتها في تعليقي على
«صحيح
البخاري» المسمى : «النظر الفسيح عند
مضايق الأنظار في الجامع الصحيح».
فالقرآن اسم
للكلام الموحى به إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو جملة المكتوب في المصاحف المشتمل على مائة وأربع
عشرة سورة ، أولاها الفاتحة وأخراها سورة الناس. صار هذا الاسم علما على هذا
الوحي. وهو على وزن فعلان وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل غفران ، وشكران
وبهتان ، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان وحسان وعدنان. واسم قرآن
صالح للاعتبارين لأنه مشتق من القراءة لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١]. وقال
تعالى : (وَقُرْآناً
فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦]
فهمزة قرآن أصلية ووزنه فعلان ولذلك اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ قرآن مهموزا
حيثما وقع في التنزيل ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة
تخفيف المهموز وهي لغة حجازية ، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في
قراءته. وقيل هو قران بوزن فعال ، من القرن بين الأشياء أي الجمع بينها لأنه قرنت
سوره بعضها ببعض وكذلك آياته وحروفه وسمي كتاب الله قرآنا كما سمي الإنجيل الإنجيل
، وليس مأخوذا من قرأت ، ولهذا يهمز قرأت ولا يهمز القرآن فتكون قراءة ابن كثير
جارية على أنه اسم آخر لكتاب الله على هذا الوجه. ومن الناس من زعم أن قران جمع قرينة
أي اسم جمع ، إذ لا يجمع مثل قرينة على وزن فعال في التكثير فإن الجموع الواردة
على وزن فعال محصورة ليس هذا منها ، والقرينة العلامة ، قالوا لأن آياته يصدّق
بعضها بعضا فهي قرائن على الصدق.
فاسم القرآن هو
الاسم الذي جعل علما على الوحي المنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولم يسبق أن أطلق على غيره قبله ، وهو أشهر أسمائه
وأكثرها ورودا في آياته وأشهرها دورانا على ألسنة السلف.
وله أسماء أخرى هي
في الأصل أوصاف أو أجناس أنهاها في «الإتقان» إلى نيف وعشرين. والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة :
التنزيل ، والكتاب ، والفرقان ، والذّكر ، والوحي ، وكلام الله.
فأما الفرقان فهو
في الأصل اسم لما يفرق به بين الحق والباطل وهو مصدر ، وقد
وصف يوم بدر بيوم
الفرقان وأطلق على القرآن في قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١] وقد
جعل هذا الاسم علما على القرآن بالغلبة مثل التوراة على الكتاب الذي جاء به موسى
والإنجيل على الوحي الذي أنزل على عيسى قال تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ) إلى قوله : (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٣ ، ٤]
فوصفه أولا بالكتاب وهو اسم الجنس العام ثم عبّر عنه باسم الفرقان عقب ذكر التوراة
والإنجيل وهما علمان ليعلم أن الفرقان علم على الكتاب الذي أنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم.
ووجه تسميته
الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق
والباطل ، فإنّ القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها ، وحسبك ما اشتمل عليه
من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]
وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا وذلك أنه حكى صفة أصحاب
محمد صلىاللهعليهوسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) الآيات من سورة الفتح [٢٩] فلما وصفهم القرآن قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ) الآية ـ آل عمران [١١٠] فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف
الكمال.
وأما إن افتقدت
ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرّأة من اللّبس وبعيدة عن تطرق الشبهة ، وحسبك
قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا) [النساء : ٣] فإنك
لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى بله ما في الإنجيل. وهذا من مقتضيات كون
القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨]
وسيأتي بيان هذا في أول آل عمران.
وأما التنزيل فهو
مصدر نزّل ، أطلق على المنزّل باعتبار أن ألفاظ القرآن أنزلت من السماء قال تعالى
: (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت : ٢ ، ٣]
وقال: (تَنْزِيلُ الْكِتابِ
لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة : ٢].
__________________
وأما الكتاب فأصله
اسم جنس مطلق ومعهود. وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا قال تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] ،
وقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١] وإنما
سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة فأشبه التوراة لأنها كانت مكتوبة في زمن
الرسول المرسل بها ، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ولكنه
كتبه بعض أصحابه وأصحابهم ، وأن الله أمر رسوله أن يكتب كلّ ما أنزل عليه منه
ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم. وفي هذه التسمية
معجزة للرسول صلىاللهعليهوسلم بأن ما أوحى إليه سيكتب في المصاحف قال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩٢] ،
وقال : (وَهذا ذِكْرٌ)(مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ
لَهُ مُنْكِرُونَ) [الأنبياء : ٥٠]
وغير ذلك ، ولذلك اتخذ النبي صلىاللهعليهوسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه ومن أول ما ابتدئ
نزوله ، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ،
وزيد بن ثابت ، ومعاوية بن أبي سفيان. وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم
على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف.
وأما الذكر فقال
تعالى : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] أي
لتبينه للناس ، وذلك أنه تذكير بما يجب على الناس اعتقاده والعمل به.
وأما الوحي فقال
تعالى : (قُلْ إِنَّما
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥]
ووجه هذه التسمية أنه ألقي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بواسطة الملك وذلك
الإلقاء يسمى وحيا لأنه يترجم عن مراد الله تعالى فهو كالكلام المترجم عن مراد
الإنسان ، ولأنه لم يكن تأليف تراكيبه من فعل البشر.
وأما كلام الله
فقال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦].
واعلم أن أبا بكر رضياللهعنه لما أمر بجمع القرآن وكتابته كتبوه على الورق فقال للصحابة
: التمسوا اسما ، فقال بعضهم سمّوه إنجيلا فكرهوا ذلك من أجل النصارى ، وقال بعضهم
سمّوه السّفر فكرهوه من أجل أن اليهود يسمون التوراة السّفر ، فقال عبد الله بن
مسعود : رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسمّوه مصحفا (يعني أنه رأى كتابا غير
الإنجيل).
__________________
آيات القرآن
الآية : هي مقدار
من القرآن مركب ولو تقديرا أو إلحاقا ، فقولي ولو تقديرا لإدخال قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) [الرحمن : ٦٤] إذ
التقدير هما مدهامتان ، ونحو : (وَالْفَجْرِ) [الفجر : ١] إذ
التقدير أقسم بالفجر. وقولي أو إلحاقا : لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة
فقد عد أكثرها في المصاحف آيات ما عدا : الر ، والمر ، وطس ، وذلك أمر توقيفي وسنة
متبعة ولا يظهر فرق بينها وبين غيرها.
وتسمية هذه
الأجزاء آيات هو من مبتكرات القرآن ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧]
وقال : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١]. وإنما
سميت آية لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي صلىاللهعليهوسلم لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام
، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جعلت دليلا على أن القرآن منزل من عند الله
وليس من تأليف البشر إذ قد تحدّى النبي به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان
العربي فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره. فلذا لا يحق لجمل التوراة والإنجيل أن
تسمى آيات إذ ليست فيها هذه الخصوصية في اللغة العبرانية والآرامية ، وأما ما ورد
في حديث رجم اليهوديّين اللذين زنيا من قول الراوي : «فوضع الذي نشر التوراة يده
على آية الرجم» فذلك تعبير غلب على لسان الراوي على وجه المشاكلة التقديرية تشبيها
بجمل القرآن ، إذ لم يجد لها اسما يعبّر به عنها.
وتحديد مقادير
الآيات مروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقد تختلف الرواية في بعض الآيات وهو محمول على التخيير في
حد تلك الآيات التي تختلف فيها الرواية في تعيين منتهاها ومبتدإ ما بعدها ، فكان
أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم على علم من تحديد الآيات. قلت وفي الحديث الصحيح أن فاتحة
الكتاب السبع المثاني أي السبع الآيات. وفي الحديث : «من قرأ العشر الخواتم من آخر
آل عمران» ، وهي الآيات التي أولها : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩]
إلى آخر السورة.
وكان المسلمون في
عصر النبوءة وما بعده يقدّرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عددا من
الآيات كما ورد في حديث سحور النبي صلىاللهعليهوسلم أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين
آية.
قال أبو بكر ابن
العربي : «وتحديد الآية من معضلات القرآن ، فمن آياته طويل
وقصير ، ومنه ما
ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام» ، وقال الزمخشري : «الآيات علم توقيفي».
وأنا أقول : لا
يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعا لانتهاء نزولها ، وأمارته وقوع الفاصلة.
والذي استحصلته
أنّ الفواصل هي الكلمات التي تتماثل في أواخر حروفها أو تتقارب ، مع تماثل أو
تقارب صيغ النطق بها وتكرّر في السورة تكررا يؤذن بأنّ تماثلها أو تقاربها مقصود
من النظم في آياته كثيرة متماثلة ، تكثر وتقل ، وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام
المسجوع. والعبرة فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون وهي أكثر شبها بالتزام
ما لا يلزم في القوافي. وأكثرها جار على أسلوب الأسجاع.
والذي استخلصته
أيضا أنّ تلك الفواصل كلّها منتهى آيات ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتمّ فيه
الغرض المسوق إليه ، وأنّه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام ولم تقع عند انتهائه
فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلّا نادرا كقوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] ، فهذا
المقدار عد آية وهو لم ينته بفاصلة ، ومثله نادر ، فإنّ فواصل تلك الآيات الواقعة
في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعد ألف مدّ بعدها حرف ، مثل : شقاق ، مناص ،
كذّاب ، عجاب.
وفواصل بنيت على
حرف مضموم مشبع بواو ، أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة ، وبعد ذلك حرف ، مثل : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [ص : ٦٨] (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) [الإسراء : ٤٧] ، (نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٨٤] ،
(مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢].
فلو انتهى الغرض
الذي سيق له الكلام ، وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام تكون الآية غير منتهية
ولو طالت ، كقوله تعالى : (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) إلى قوله : (وَخَرَّ راكِعاً
وَأَنابَ) [ص : ٢٤] ، فهذه
الجمل كلّها عدّت آية واحدة.
واعلم أن هذه
الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز لأنّها ترجع إلى محسنات الكلام وهي من جانب
فصاحة الكلام ، فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل لتقع في الأسماع فتتأثّر
نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل ، كما تتأثر بالقوافي في الشعر وبالأسجاع في
الكلام المسجوع. فإنّ قوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ) بالقوافي (وَالسَّلاسِلُ
يُسْحَبُونَ) [غافر : ٧١] (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧٢] (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ
ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [غافر : ٧٣] (مِنْ دُونِ اللهِ) إلى آخر الآيات. فقوله : (فِي الْحَمِيمِ) متصل بقوله : (يُسْحَبُونَ) وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) متّصل بقوله (تُشْرِكُونَ). وينبغي الوقف عند نهاية كلّ آية منها.
وقوله تعالى : (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ) آية. وقوله : (مِنْ دُونِهِ) ابتداء الآية بعدها في سورة هود [٥٤].
ألا ترى أن من
الإضاعة لدقائق الشعر أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه فإنّ ذلك
إضاعة لجهود الشعراء ، وتغطية على محاسن الشعر ، وإلحاق للشعر بالنثر. وإنّ الفاء
السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة. ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن
محافظة هذه الدقائق فيكون مضيعا لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته. والعلّة
بأنّه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام ، فضول ، فإن البيان وظيفة ملقي درس لا
وظيفة منشد الشعر ، ولو كان هو الشاعر نفسه.
وفي «الإتقان» عن أبي عمرو قال بعضهم : الوقف على رءوس الآي سنة. وفيه
عن البيهقي في «شعب
الإيمان» : الأفضل الوقف
على رءوس الآيات وإن تعلّقت بما بعدها اتّباعا لهدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسنته ، وفي «سنن أبي داود» عن أم سلمة أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية يقول : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ثم يقف : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ). ثم يقف : (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١ ـ ٣]
ثم يقف.
على أن وراء هذا
وجوب اتّباع المأثور من تحديد الآي كما قال ابن العربي والزمخشري ولكن ذلك لا
يصدنا عن محاولة ضوابط تنفع الناظر وإن شذّ عنها ما شذّ. ألا ترى أنّ بعض الحروف
المقطعة التي افتتحت بها بعض السور قد عدّ بعضها آيات مثل : الم ، المص ، كهيعص ، عسق
، طسم ، يس ، حم ، طه. ولم تعد : الر ، المر ، طس ، ص ، ق ، ن ، آيات.
وآيات القرآن
متفاوتة في مقادير كلماتها فبعضها أطول من بعض ولذلك فتقدير الزمان بها في قولهم
مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية مثلا ، تقدير تقريبي ، وتفاوت الآيات في الطول
تابع لما يقتضيه مقام البلاغة من مواقع كلمات الفواصل على حسب ما قبلها من الكلام.
وأطول آية قوله
تعالى : (هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إلى قوله :
(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً) في سورة الفتح [٢٥] ، وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) إلى قوله : (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) في سورة البقرة [١٠٢].
ودونهما قوله
تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) في سورة النساء [٢٣].
وأقصر آية في عدد
الكلمات قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) في سورة الرحمن [٦٤] وفي عدد الحروف المقطعة قوله : (طه) [طه : ١].
وأما وقوف القرآن
فقد لا تساير نهايات الآيات ، ولا ارتباط لها بنهايات الآيات فقد يكون في آية
واحدة عدة وقوف كما في قوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ) (وقف) (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ
أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (وقف) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (وقف ، ومنتهى
الآية) في سورة فصلت [٤٧]. وسيأتي الكلام على الوقوف في آخر هذا المبحث.
فأما اختلف السلف
فيه من عدد آيات القرآن بناء على الاختلاف في نهاية بعضها ، فقد يكون بعض ذلك عن
اختلاف في الرواية كما قدمنا آنفا ، وقد يكون بعضه عن اختلاف الاجتهاد.
قال أبو عمرو
الداني في كتاب «العدد» : أجمعوا على أن عدد آيات القرآن يبلغ ستة آلاف آية ،
واختلفوا فيما زاد على ذلك ، فمنهم من لم يزد ، ومنهم من قال ومائتين وأربع آيات ،
وقيل : وأربع عشرة ، وقيل وتسع عشرة ، وقيل : وخمسا وعشرين ، وقيل : وستا وثلاثين
، وقيل : وستمائة وستة عشرة.
قال المازري في «شرح البرهان» : قال مكّيّ بن أبي طالب : قد أجمع أهل العدد من أهل
الكوفة والبصرة والمدينة والشام على ترك عد البسملة آية في أول كل سورة ، وإنما
اختلفوا في عدها وتركها في سورة الحمد لا غير ، فعدّها آية الكوفيّ والمكيّ ولم
يعدّها آية البصري ولا الشاميّ ولا المدنيّ. وفي «الإتقان» كلام في الضابط الأول من الضوابط غير محرر وهو آيل إلى ما
قاله المازري ، ورأيت في عد بعض السور أن المصحف المدني عدّ آيها أكثر مما في
الكوفي ، ولو عنوا عد البسملة لكان الكوفي أكثر.
وكان لأهل المدينة
عددان ، يعرف أحدهما بالأول ويعرف الآخر بالأخير ، ومعنى ذلك أن الذين تصدوا لعد
الآي بالمدينة من أئمة القراء هم : أبو جعفر يزيد بن القعقاع ،
وأبو نصاح شيبة بن
نصاح ، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السّلمي ، وإسماعيل بن جعفر بن كثير
الأنصاري ، وقد اتفق هؤلاء الأربعة على عدد وهو المسمى بالعدد الأول ، ثم خالفهم
إسماعيل بن جعفر بعدد انفرد به وهو الذي يقال له العدد الثاني ، وقد رأيت هذا ينسب
إلى أيوب بن المتوكل البصري المتوفى سنة ٢٠٠.
ولأهل مكة عدد
واحد ، وربما اتفقوا في عدد آي السورة المعينة ، وربما اختلفوا ، وقد يوجد اختلاف
تارة في مصاحف الكوفة والبصرة والشام ، كما نجد في «تفسير المهدوي» وفي كتب علوم
القرآن ، ولذلك تجد المفسرين يقولون في بعض السور عدد آياتها في المصحف الفلاني
كذا. وقد كان عدد آي السور معروفا في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم. وروى محمد بن السائب عن ابن عباس أنه لما نزلت آخر آية
وهي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١]
الآية قال جبريل للنبي صلىاللهعليهوسلم ضعها في رأس ثمانين ومائتين من سورة البقرة ، واستمر العمل
بعدّ الآي في عصر الصحابة ، ففي «صحيح البخاري» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا سرك أن تعلم جهل
العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام [١٤٠] : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا
أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية.
ترتيب الآي
وأما ترتيب الآي
بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبي صلىاللهعليهوسلم حسب نزول الوحي ، ومن المعلوم أن القرآن نزل منجّما آيات
فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة ، كما سيأتي قريبا ، وذلك الترتيب مما
يدخل في وجوه إعجازه من بداعة أسلوبه كما سيأتي في المقدمة العاشرة ، فلذلك كان
ترتيب آيات السورة الواحدة على ما بلغتنا عليه متعينا بحيث لو غيّر عنه إلى ترتيب
آخر لنزل عن حد الإعجاز الذي امتاز به ، فلم تختلف قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم في ترتيب آي السور على نحو ما هو في المصحف الذي بأيدي
المسلمين اليوم ، وهو ما استقرت عليه رواية الحافظ من الصحابة عن العرضات الأخيرة
التي كان يقرأ بها النبي صلىاللهعليهوسلم في أواخر سني حياته الشريفة ، وحسبك أن زيد بن ثابت حين
كتب المصحف لأبي بكر لم يخالف في ترتيب آي القرآن.
وعلى ترتيب قراءة
النبي صلىاللهعليهوسلم في الصلوات الجهرية وفي عديد المناسبات حفظ القرآن كلّ من
حفظه كلا أو بعضا ، وليس لهم معتمد في ذلك إلا ما عرفوا به من قوة الحوافظ ، ولم
يكونوا يعتمدون على الكتابة ، وإنما كان كتّاب الوحي يكتبون ما أنزل من
القرآن بأمر النبي
صلىاللهعليهوسلم ، وذلك بتوفيق إلهي. ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع
إليها المسلمون عند ما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع.
ولما جمع القرآن
في عهد أبي بكر لم يؤثر عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ولا أثر
عنهم إنكار أو اختلاف فيما جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم ، قال ابن
وهب : سمعت مالكا يقول : إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن الأنباري كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل
ويوقف جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على موضع الآية.
واتساق الحروف
واتساق الآيات واتساق السور كله عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها
تناسب في الغرض أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتصل ،
ومما يدل عليه وجود حروف العطف المفيدة الاتصال مثل الفاء ولكن وبل ومثل أدوات الاستثناء ، على أن وجود ذلك لا يعيّن اتصال ما
بعده بما قبله في النزول ، فإنه قد اتّفق على أن قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) نزل بعد نزول ما قبله وما بعده من قوله : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) إلى قوله : (وَأَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٥] قال
بدر الدين الزركشي : «قال بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا تطلب للآي
الكريمة مناسبة والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها أو
مستقلة ، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم».
على أنه يندر أن
يكون موقع الآية عقب التي قبلها لأجل نزولها عقب التي قبلها من سورة هي بصدد
النزول فيؤمر النبي بأن يقرأها عقب التي قبلها ، وهذا كقوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] عقب
قوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) في سورة مريم [٦٣] ، فقد روي أن جبريل لبث أياما لم ينزل
على النبي صلىاللهعليهوسلم بوحي ، فلما نزل بالآيات السابقة عاتبه النبي ، فأمر الله
جبريل أن يقول : (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فكانت وحيا نزل به جبريل ، فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها
، وكذلك آية : (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] عقب
قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) إلى قوله : (وَهُمْ فِيها
خالِدُونَ)
__________________
في سورة البقرة
[٢٥] ، إذ كان ردّا على المشركين في قولهم : أما يستحي محمد أن يمثل بالذباب
وبالعنكبوت؟ فلما ضرب لهم الأمثال بقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧]
تخلص إلى الرد عليهم فيما أنكروه من الأمثال. على أنه لا يعدم مناسبة ما ، وقد لا
تكون له مناسبة ولكنه اقتضاه سبب في ذلك المكان كقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) فهذه الآيات نزلت في سورة القيامة [١٦ ـ ١٩] في خلال توبيخ
المشركين على إنكارهم البعث ووصف يوم الحشر وأهواله ، وليست لها مناسبة بذلك ولكن
سبب نزولها حصل في خلال ذلك. روى البخاري عن ابن عباس قال : «كان رسول الله إذا
نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه يريد أن يحفظه فأنزل الله الآية
التي في : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] ا ه
، فذلك يفيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حرك شفتيه بالآيات التي نزلت في أول السورة.
على أنه قد لا
يكون في موقع الآية من التي قبلها ظهور مناسبة فلا يوجب ذلك حيرة للمفسر ؛ لأنه قد
يكون سبب وضعها في موضعها أنها قد نزلت على سبب وكان حدوث سبب نزولها في مدة نزول
السورة التي وضعت فيها فقرئت تلك الآية عقب آخر آية انتهى إليها النزول ، وهذا
كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ) إلى قوله : (ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٣٨ ،
٢٣٩] بين تشريعات أحكام كثيرة في شئون الأزواج والأمهات ، وقد ذكرنا ذلك عند هذه
الآية في التفسير.
وقد تكون الآية
ألحقت بالسورة بعد تمام نزولها بأن أمر الرسول بوضعها عقب آية معينة كما تقدم آنفا
عن ابن عباس في آية : (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١]
وكذلك ما روي في «صحيح مسلم» عن ابن مسعود أن أول سورة الحديد نزل بمكة ، ولم
يختلف المفسرون في أن قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحديد : ١٠] إلى
آخر السورة نزل بالمدينة فلا يكون ذلك إلا لمناسبة بينها وبين آي تلك السورة
والتشابه في أسلوب النظم ، وإنما تأخر نزول تلك الآية عن نزول أخواتها من سورتها
لحكمة اقتضت تأخرها ترجع غالبا إلى حدوث سبب النزول كما سيأتي قريبا.
ولما كان تعيين
الآيات التي أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بوضعها في موضع معين غير مروي إلا في عدد قليل ، كان حقا
على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا وإلا فليعرض
عنه ولا يكن من المتكلفين.
إن الغرض الأكبر
للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها ، فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة
الضالة واتباع الإيمان والإسلام ، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على
هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال
المجتمع في مدة الدعوة ، فكانت آيات القرآن مستقلا بعضها عن بعض ، لأن كل آية منه
ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه ، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه
فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة ، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال
الحاضرة على اختلافها وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة ولذلك تكثر في القرآن الجمل
المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك ؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد أو
تقويم معوج ، كقوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ) ـ إلى قوله ـ (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ
يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) [آل عمران : ٧٢ ،
٧٣] فقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللهِ) جملة معترضة.
وقوف القرآن
الوقف هو قطع
الصوت عن الكلمة حصة يتنفس في مثلها المتنفس عادة ، والوقف عند انتهاء جملة من جمل
القرآن قد يكون أصلا لمعنى الكلام فقد يختلف المعنى باختلاف الوقف مثل قوله تعالى
: (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦]
فإذا وقف عند كلمة (قاتَلَ) كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتلهم قومهم وأعداؤهم ، ومع
الأنبياء أصحابهم فما تزلزلوا لقتل أنبيائهم فكان المقصود تأييس المشركين من وهن
المسلمين على فرض قتل النبي صلىاللهعليهوسلم في غزوته على نحو قوله تعالى في خطاب المسلمين : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤]
الآية ، وإذا وصل قوله : (قاتَلَ) عند قوله (كَثِيرٌ) كان المعنى أنّ أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى
فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) إلى قوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران : ١٦٩ ،
١٧٠].
وكذلك قوله تعالى
: (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران : ٧]
الآية ، فإذا وقف عند قوله : (إِلَّا اللهُ) كان المعنى أن المتشابه الكلام الذي لا يصل فهم الناس إلى
تأويله وأن علمه ممّا اختصّ الله به مثل اختصاصه بعلم الساعة وسائر الأمور الخمسة
وكان ما بعده ابتداء كلام يفيد أنّ الراسخين يفوضون فهمه إلى الله
تعالى ، وإذا وصل
قوله : (إِلَّا اللهُ) بما بعده كان المعنى أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل
المتشابه في حال أنّهم يقولون آمنا به.
وكذلك قوله تعالى
: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق : ٤]
فإنّه لو وقف على قوله : (ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وابتدأ بقوله : (وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ) وقع قوله : (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤]
معطوفا على (اللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ) فيصير قوله : (أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) خبرا عن (اللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) ولكنّه لا يستقيم المعنى إذ كيف يكون للّاء لم يحضن حمل
حتى يكون أجلهن أن يضعن حملهنّ.
وعلى جميع
التقادير لا تجد في القرآن مكانا يجب الوقف فيه ولا يحرم الوقف فيه كما قال ابن
الجزري في «أرجوزته» ، ولكن الوقف ينقسم إلى أكيد حسن ودونه وكل ذلك تقسيم بحسب
المعنى. وبعضهم استحسن أن يكون الوقف عند نهاية الكلام وأن يكون ما يتطلب المعنى الوقف
عليه قبل تمام المعنى سكتا وهو قطع الصوت حصّة أقل من حصة قطعه عند الوقف ، فإنّ
اللغة العربية واضحة وسياق الكلام حارس من الفهم المخطئ ، فنحو قوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ
أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة : ١] لو
وقف القارئ على قوله : (الرَّسُولَ) لا يخطر ببال العارف باللغة أن قوله : (وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ
رَبِّكُمْ) تحذير من الإيمان بالله ، وكيف يخطر ذلك وهو موصوف بقوله :
(رَبِّكُمْ) فهل يحذر أحد من الإيمان بربّه.
وكذلك قوله تعالى
: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧]
فإنّ كلمة (بَناها) هي منتهى الآية والوقف عند (أَمِ السَّماءُ) ولكن لو وصل القارئ لم يخطر ببال السامع أن يكون (بَناها) من جملة (أَمِ السَّماءُ) لأنّ معادل همزة الاستفهام لا يكون إلّا مفردا.
على أنّ التعدد في
الوقف قد يحصل به ما يحصل بتعدد وجوه القراءات من تعدّد المعنى مع اتحاد الكلمات ،
فقوله تعالى : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ
قَدَّرُوها تَقْدِيراً) [الإنسان : ١٥ ،
١٦] فإذا وقف على (قَوارِيرَا) الأول كان (قَوارِيرَا) الثاني تأكيدا لرفع احتمال المجاز في لفظ (قَوارِيرَا) ، وإذا وقف على (قَوارِيرَا) الثاني كان المعنى الترتيب والتصنيف ، كما يقال : قرأ
الكتاب بابا بابا ، وحضروا صفا صفا ، وكان قوله (مِنْ فِضَّةٍ) عائد إلى قوله : (بِآنِيَةٍ مِنْ
فِضَّةٍ).
ولما كان القرآن
مرادا منه فهم معانيه وإعجاز الجاحدين به وكان قد نزل بين أهل اللسان ، كان فهم
معانيه مفروغا من حصوله عند جميعهم ، فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر
يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم بل
خاصّة بلغائهم من خطباء وشعراء ، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسّنات
الكلام من فنّ البديع ، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأسجاع
النثر ، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدّمناه عند الكلام على آيات القرآن
فكان عدم الوقف عليها تفريطا في الغرض المقصود منها.
لم يشتدّ اعتناء
السلف بتحديد أوقافه لظهور أمرها ، وما ذكر عن ابن النحاس من الاحتجاج لوجوب ضبط
أوقاف القرآن بكلام لعبد الله بن عمر ليس واضحا في الغرض المحتج به فانظره في «الإتقان» للسيوطي.
فكان الاعتبار
بفواصله التي هي مقاطع آياته عندهم أهمّ لأنّ عجز قادتهم وأولي البلاغة والرأي
منهم تقوم به الحجة عليهم وعلى دهمائهم ، فلما كثر الداخلون في الإسلام من دهماء
العرب ومن عموم بقية الأمم ، توجه اعتناء أهل القرآن إلى ضبط وقوفه تيسيرا لفهمه
على قارئيه ، فظهر الاعتناء بالوقوف وروعي فيها ما يراعى في تفسير الآيات فكان ضبط
الوقوف مقدمة لما يفاد من المعاني عند واضع الوقف.
وأشهر من تصدّى
لضبط الوقوف أبو محمّد بن الأنباري ، وأبو جعفر بن النحاس ، وللنكزاوي أو النكزوي
كتاب في «الوقف» ذكره في «الإتقان» ، واشتهر بالمغرب من المتأخرين محمّد بن أبي
جمعة الهبطي المتوفى سنة ٩٣٠.
سور القرآن
السورة قطعة من
القرآن معيّنة بمبدإ ونهاية لا يتغيران ، مسماة باسم مخصوص ، تشتمل على ثلاث آيات
فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة ، ناشئ عن أسباب النزول ، أو
عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة. وكونها تشتمل على ثلاث آيات مأخوذ
من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال : «جاء
الحارث بن خزيمة (هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة) بالآيتين من آخر
سورة براءة فقال : أشهد أني سمعتهما من رسول الله ، فقال عمر وأنا أشهد لقد
سمعتهما منه ، ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة» إلخ ،
فدل على أن عمر ما
قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقلّ مقدار سوره.
وتسمية القطعة
المعينة من عدة آيات القرآن سورة من مصطلحات القرآن ، وشاعت تلك التسمية عند العرب
حتى المشركين منهم ، فالتحدي للعرب بقوله تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود : ١٣] وقوله
: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] لا
يكون إلا تحديا باسم معلوم المسمّى والمدار عندهم وقت التحدي ، فإن آيات التحدي
نزلت بعد السور الأول ، وقد جاء في القرآن تسمية سورة النور باسم سورة في قوله
تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور : ١] أي
هذه سورة ، وقد زادته السنة بيانا. ولم تكن أجزاء التوراة والإنجيل والزبور مسماة
سورا عند العرب في الجاهلية ولا في الإسلام.
ووجه تسمية الجزء
المعين من القرآن سورة قيل مأخوذة من السّور بضم السين وتسكين الواو وهو الجدار
المحيط بالمدينة أو بمحلة قوم ، زادوه هاء تأنيث في آخره مراعاة لمعنى القطعة من
الكلام ، كما سموا الكلام الذي يقوله القائل خطبة أو رسالة أو مقامة. وقيل مأخوذة
من السؤر بهمزة بعد السين وهو البقية مما يشرب الشارب بمناسبة أن السؤر جزء مما
يشرب ، ثم خففوا الهمز بعد الضمة فصارت واوا ، قال ابن عطية : «وترك الهمز في سورة
هو لغة قريش ومن جاورها من هذيل وكنانة وهوازن وسعد بن بكر ، وأما الهمز فهو لغة
تميم ، وليست إحدى اللغتين بدالة على أن أصل الكلمة من المهموز أو المعتل ، لأن
للعرب في تخفيف المهموز وهمز المخفف من حروف العلة طريقتين ، كما قالوا أجوه وإعاء
وإشاح ، في وجوه ووعاء ووشاح ، وكما قالوا الذئب بالهمز والذيب بالياء. قال الفراء
: ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس مهموزا كما قالوا «رثأت الميت
ولبّأت بالحج وحلأت السويق بالهمز».
وجمع سورة سور
بتحريك الواو كغرف ، ونقل في «شرح القاموس» عن الكراع أنها تجمع على سور بسكون الواو.
وتسوير القرآن من
السنة في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقد كان القرآن يومئذ مقسما إلى مائة وأربع عشرة سورة
بأسمائها ، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن مسعود فإنه لم يثبت المعوذتين في سور
القرآن ، وكان يقول : «إنما هما تعوّذ أمر الله رسوله بأن يقوله وليس هو
__________________
من القرآن» ،
وأثبت القنوت الذي يقال في صلاة الصبح على أنه سورة من القرآن سماها سورة الخلع
والخنع ، وجعل سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة ، وكل ذلك استنادا لما فهمه من
نزول القرآن. ولم يحفظ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا ولا اختلفوا
في عدد سوره ، وأنها مائة وأربع عشرة سورة ، روى أصحاب «السنن» عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا نزلت الآية يقول : ضعوها في السورة التي يذكر فيها
كذا ، وكانت السور معلومة المقادير منذ زمن النبي صلىاللهعليهوسلم محفوظة عنه في قراءة الصلاة وفي عرض القرآن ، فترتيب
الآيات في السور هو بتوقيف من النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكذلك عزا ابن عطية إلى مكي بن أبي طالب وجزم به السيوطي
في «الإتقان» ، وبذلك يكون مجموع السورة من الآيات أيضا توقيفيا ،
ولذلك نجد في «الصحيح» أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ في الصلاة سورة كذا وسورة كذا من طوال وقصار ، ومن ذلك
حديث صلاة الكسوف ، وفي «الصحيح» أن رجلا سأل النبي صلىاللهعليهوسلم أن يزوجه امرأة فقال له النبي : «هل عندك ما تصدقها؟» قال
: لا ، فقال : «ما معك من القرآن؟» قال : سورة كذا وسورة كذا لسور سماها ، فقال : «قد
زوّجتكها بما معك من القرآن» وسيأتي مزيد شرح لهذا الغرض عند الكلام على أسماء
السور.
وفائدة التسوير ما
قاله صاحب «الكشاف» في تفسير قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] «إن
الجنس إذا انطوت تحته أنواع كان أحسن وأنبل من أن يكون ببّانا واحدا ، وإن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ
في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا».
وأما ترتيب السور
بعضها إثر بعض ، فقال أبو بكر الباقلاني : يحتمل أن النبي صلىاللهعليهوسلم هو الذي أمر بترتيبها كذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك من اجتهاد
الصحابة ، وقال الداني : كان جبريل يوقف رسول الله على موضع الآية وعلى موضع
السورة وفي «المستدرك» عن زيد بن ثابت أنه قال : «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن
من الرقاع» قال البيهقي : تأويله أنهم كانوا يؤلفون آيات السور. ونقل ابن عطية عن
الباقلاني الجزم بأن ترتيب السور بعضها إثر بعض هو من وضع زيد بن ثابت بمشاركة
عثمان ، قال ابن عطية : وظاهر الأثر أن السبع الطوال والحواميم والمفصل كانت مرتبة
في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكان من السور ما
__________________
لم يرتب فذلك هو
الذي رتب وقت كتابة المصحف.
أقول : لا شك أنّ
طوائف من سور القرآن كانت مرتبة في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم على ترتيبها في المصحف الذي بأيدينا اليوم الذي هو نسخة من
المصحف الإمام الذي جمع وكتب في خلافة أبي بكر الصديق ووزعت على الأمصار نسخ منه
في خلافة عثمان ذي النورين فلا شك في أنّ سور المفصل كانت هي آخر القرآن ولذلك
كانت سنة قراءة السورة في الصلوات المفروضة أن يكون في بعض الصلوات من طوال المفصل
وفي بعضها من وسط المفصل وفي بعضها من قصار المفصل ، وأن طائفة السور الطولى
الأوائل في المصحف كانت مرتبة في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم أول القرآن ، والاحتمال فيما عدا ذلك.
وأقول : لا شك في
أن زيد بن ثابت وعثمان بن عفان وهما من أكبر حفاظ القرآن من الصحابة ، توخّيا ما
استطاعا ترتيب قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم للسور ، وترتيب قراءة الحفاظ التي لا تخفى على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان زيد بن ثابت من أكبر حفاظ القرآن وقد لازم النبي صلىاللهعليهوسلم مدة حياته بالمدينة ، ولم يتردد في ترتيب سور القرآن على
نحو ما كان يقرؤها النبي صلىاللهعليهوسلم حين نسخ المصاحف في زمن عثمان. ذلك أن القرآن حين جمع في
خلافة أبي بكر لم يجمع في مصحف مرتب وإنما جعلوا لكل سورة صحيفة مفردة ولذلك عبروا
عنها بالصحف ، وفي «موطأ
ابن وهب» عن مالك أن ابن
عمر قال : «جمع أبو بكر القرآن في قراطيس». وكانت تلك الصحف عند أبي بكر ثم عند
عمر ثم عند حفصة بنت عمر أمّ المؤمنين ، بسبب أنها كانت وصيّة أبيها على تركته ،
فلما أراد عثمان جمع القرآن في مصحف واحد أرسل إلى حفصة فأرسلت بها إليه ولما نسخت
في مصحف واحد أرجع الصحف إليها ، قال في «فتح الباري» : «وهذا وقع في رواية عمارة بن غزية أن زيد بن ثابت قال :
أمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب فلما هلك أبو بكر وكان عمر ، كتبت ذلك
في صحيفة واحدة فكانت عنده» والأصح أن القرآن جمع في زمن أبي بكر في مصحف واحد.
وقد يوجد في آي من
القرآن ما يقتضي سبق سورة على أخرى مثل قوله في سورة النحل [١١٨] : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما
قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يشير إلى قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآية من سورة الأنعام [١٤٦] فدلت على أن سورة الأنعام
نزلت قبل سورة النحل ، وكذلك هي مرتبة في المصحف ، وقد ثبت أن آخر آية نزلت آية في
سورة البقرة أو في سورة النساء أو في براءة ، وثلاثتها في الترتيب مقدمة
على سور كثيرة.
فالمصاحف الأولى التي كتبها الصحابة لأنفسهم في حياة النبي صلىاللهعليهوسلم كانت مختلفة في ترتيب وضع السور.
وممن كان له مصحف
عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ، وروي أن أول من جمع القرآن في مصحف ، سالم مولى
أبي حذيفة. قال في «الإتقان» : إن من الصحابة من رتب مصحفه على ترتيب النزول ـ أي بحسب
ما بلغ إليه علمه ـ وكذلك كان مصحف عليّ رضياللهعنه وكان أوله (اقْرَأْ بِاسْمِ) [العلق : ١] ، ثم
المدثر ، ثم المزمل ، ثم التكوير ، وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني. ومنهم من رتب
على حسب الطول والقصر وكذلك كان مصحف أبيّ وابن مسعود فكانا ابتدأ بالبقرة ثم
النساء ثم آل عمران ، وعلى هذه الطريقة أمر عثمان رضياللهعنه بترتيب المصحف المدعو بالإمام.
أخرج الترمذي وأبو
داود عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي
من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطربسم الله
الرحمن الرحيم ، ووضعتموهما في السبع الطوال ، فقال عثمان : «كان رسول الله ممّا
يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض
من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت
الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها
شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبيّن لنا أنها منها ، فمن أجل
ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطربسم الله الرحمن الرحيم فوضعتهما في السبع
الطوال». وهو صريح في أنهم جعلوا علامة الفصل بين السور كتابة البسملة ولذلك لم
يكتبوها بين سورة الأنفال وسورة براءة لأنهم لم يجزموا بأن براءة سورة مستقلة ،
ولكنه كان الراجح عندهم فلم يقدموا على الجزم بالفصل بينهما تحريا.
وفي باب تأليف
القرآن من «صحيح
البخاري» عن عبد الله بن
مسعود أنه ذكر النظائر التي كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرؤهن في كل ركعة فسئل علقمة عنها فقال : عشرون سورة من
أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرها من الحواميم حم الدخان و (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] ، على
أن الجمهور جزموا بأن كثيرا من السور كان مرتبا في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم.
ثم اعلم أن ظاهر
حديث عائشة رضياللهعنها في «صحيح
البخاري» في باب تأليف
القرآن أنها لا ترى القراءة على ترتيب المصحف أمرا لازما فقد سألها رجل من العراق
أن تريه مصحفها ليؤلّف عليه مصحفه فقالت : «وما يضرك أيّة آية قرأت قبل ، إنما نزل
أول ما
نزل منه سورة فيها
ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام» وفي «صحيح مسلم» عن حذيفة أن النبي صلىاللهعليهوسلم صلّى بالبقرة ثم بالنساء ثم بآل عمران في ركعة. قال عياض
في «الإكمال» : «هو دليل لكون ترتيب السورة وقع باجتهاد الصحابة حين
كتبوا المصحف وهو قول مالك رحمهالله وجمهور العلماء» وفي حديث صلاة الكسوف أن النبي قرأ فيها
بسورتين طويلتين ولما كانت جهرية فإن قراءته تينك السورتين لا يخفى على أحد ممن
صلّى معه ، ولذلك فالظاهر أن تقديم سورة آل عمران على سورة النساء في المصحف
الإمام ما كان إلا اتباعا لقراءة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإنما قرأها النبي كذلك إما لأن سورة آل عمران سبقت في
النزول سورة النساء التي هي من آخر ما أنزل ، أو لرعي المناسبة بين سورة البقرة
وسورة آل عمران في الافتتاح بكلمة الم ، أو لأن النبي صلىاللهعليهوسلم وصفهما وصفا واحدا : «ففي حديث أبي أمامة أن النبي قال
اقرءوا الزّهراوين البقرة وآل عمران ، وذكر فضلهما يوم القيامة أو لما في «صحيح مسلم» أيضا عن حديث النوّاس بن سمعان أن النبي قال : «يؤتى
بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران ،
وضرب لهما ثلاثة أمثال» الحديث.
ووقع في «تفسير شمس الدين
محمود الأصفهاني الشافعي» ، في المقدمة الخامسة من أوائله «لا خلاف في أن القرآن يجب أن يكون متواترا
في أصله وأجزائه ، وأما في محله ووضعه وترتيبه فعند المحققين من أهل السنة كذلك ؛
إذ الدواعي تتوفر على نقله على وجه التواتر ، وما قيل التواتر شرط في ثبوته بحسب
أصله وليس شرطا في محله ووضعه وترتيبه فضعيف لأنه لو لم يشترط التواتر في المحل
جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن وما لم يتواتر يجوز سقوطه»
وهو يعني بالقرآن ألفاظ آياته ومحلها دون ترتيب السور.
قال ابن بطّال : «لا نعلم أحدا قال بوجوب القراءة على ترتيب السور في
المصحف بل يجوز أن تقرأ الكهف قبل البقرة ، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن
__________________
قراءة القرآن
منكسا ، فالمراد منه أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها». قلت أو يحمل النهي على
الكراهة.
واعلم أن معنى
الطولى والقصرى في السور مراعى فيه عدد الآيات لا عدد الكلمات والحروف ، وأن
الاختلاف ـ بينهم في تعيين المكي والمدني من سور القرآن خلاف ليس بكثير ، وأن
ترتيب المصحف تخللت فيه السور المكية والمدنية. وأما ترتيب نزول السور المكية
ونزول السور المدنية ففيه ثلاث روايات ، إحداها رواية مجاهد عن ابن عباس ،
والثانية رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس ، والثالثة لجابر بن زيد ولا يكون إلا
عن ابن عباس ، وهي التي اعتمدها الجعبري في منظومته التي سماها «تقريب المأمول في
ترتيب النزول» وذكرها السيوطي
في «الإتقان» وهي التي جرينا عليها في تفسيرنا هذا.
وأما أسماء السور
فقد جعلت لها من عهد نزول الوحي ، والمقصود من تسميتها تيسير المراجعة والمذاكرة.
وقد دل حديث ابن عباس الذي ذكر آنفا أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول إذا نزلت الآية : «ضعوها في السورة التي يذكر
فيها كذا» ، فسورة البقرة مثلا كانت تلقب بالسورة التي تذكر فيها البقرة. وفائدة
التسمية أن تكون بما يميز السورة عن غيرها. وأصل أسماء السور أن تكون بالوصف
كقولهم السورة التي يذكر فيها كذا ، ثم شاع فحذفوا الموصول وعوضوا عنه الإضافة
فقالوا سورة ذكر البقرة مثلا ، ثم حذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه فقالوا
سورة البقرة. أو أنهم لم يقدروا مضافا وأضافوا السورة لما يذكر فيها لأدنى ملابسة.
وقد ثبت في «صحيح
البخاري» قول عائشة رضياللهعنها : «لما نزلت الآيات من آخر البقرة» الحديث وفيه عن ابن
مسعود قال قرأ رسول الله النجم وعن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم. وما روي من
حديث عن أنس مرفوعا : «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء
وكذلك القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها آل عمران ـ وكذا القرآن كله» ،
فقال أحمد بن حنبل هو حديث منكر ، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ، ولكن ابن حجر أثبت صحته. ويذكر عن ابن عمر أنه كان يقول
مثل ذلك ولا يرفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، ذكره البيهقي في «شعب الإيمان» ، وكان الحجاج بن يوسف يمنع من يقول سورة كذا ويقول قل
السورة التي يذكر فيها كذا ، والذين صححوا حديث أنس تأوّلوه وتأوّلوا قول ابن عمر
بأن ذلك كان في مكة حين كان المسلمون إذا قالوا : سورة الفيل وسورة العنكبوت مثلا
هزأ بهم المشركون ، وقد روي أن هذا سبب نزول قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] فلما
هاجر
المسلمون إلى
المدينة زال سبب النهي فنسخ ، وقد علم الناس كلهم معنى التسمية. ولم يشتهر عن
السلف هذا المنع ولهذا ترجم البخاري في كتاب فضائل القرآن بقوله : «باب من لم ير
بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا» وأخرج فيه أحاديث تدل على أنهم
قالوا سورة البقرة ، سورة الفتح ، سورة النساء ، سورة الفرقان ، سورة براءة ،
وبعضها من لفظ النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعليه فللقائل أن يقول سورة البقرة أو التي يذكر فيها
البقرة ، وأن يقول سورة والنجم وسورة النجم ، وقرأت النجم وقرأت والنجم ، كما جاءت
هذه الإطلاقات في حديث السجود في سورة النجم عن ابن عباس.
والظاهر أن
الصحابة سموا بما حفظوه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أو أخذوا لها أشهر الأسماء التي كان الناس يعرفونها بها
ولو كانت التسمية غير مأثورة ، فقد سمى ابن مسعود القنوت سورة الخلع والخنع كما مر
، فتعيّن أن تكون التسمية من وضعه ، وقد اشتهرت تسمية بعض السور في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم وسمعها وأقرها وذلك يكفي في تصحيح التسمية.
واعلم أن أسماء
السور إما أن تكون بأوصافها مثل الفاتحة وسورة الحمد ، وإما أن تكون بالإضافة لشيء
اختصت بذكره نحو سورة لقمان وسورة يوسف وسورة البقرة ، وإما بالإضافة لما كان ذكره
فيها أوفى نحو سورة هود وسورة إبراهيم ، وإما بالإضافة لكلمات تقع في السورة نحو
سورة براءة ، وسورة حم عسق ، وسورة حم السجدة كما سماها بعض السلف ، وسورة فاطر.
وقد سموا مجموع السور المفتتحة بكلمة حم «آل حم» ، وربما سموا السورتين بوصف واحد
فقد سموا سورة الكافرون وسورة الإخلاص المقشقشتين.
واعلم أن الصحابة
لم يثبتوا في المصحف أسماء السور بل اكتفوا بإثبات البسملة في مبدأ كل سورة علامة
على الفصل بين السورتين ، وإنما فعلوا ذلك كراهة أن يكتبوا في أثناء القرآن ما ليس
بآية قرآنية ، فاختاروا البسملة لأنها مناسبة للافتتاح مع كونها آية من القرآن وفي
«الإتقان» أن سورة البينة سمّيت في مصحف أبيّ سورة أهل الكتاب ،
وهذا يؤذن بأنه كان يسمي السور في مصحفه. وكتبت أسماء السور في المصاحف باطراد في
عصر التابعين ولم ينكر عليهم ذلك. قال المازري في «شرح البرهان» عن القاضي أبي بكر الباقلاني : إن أسماء السور لما كتبت
المصاحف كتبت بخط آخر لتتميز عن القرآن ، وإن البسملة كانت مكتوبة في أوائل السور
بخط لا يتميز عن الخط الذي كتب به القرآن.
وأما ترتيب آيات
السورة فإن التنجيم في النزول من المعلوم كما تقدم آنفا ، وذلك في آياته وسوره
فربما نزلت السورة جميعا دفعة واحدة كما نزلت سورة الفاتحة وسورة
المرسلات من السور
القصيرة ، وربما نزلت نزولا متتابعا كسورة الأنعام ، وفي «صحيح البخاري» عن البراء بن عازب قال آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وربما
نزلت السورة ونزلت السورتان مفرقتان في أوقات متداخلة ، روى الترمذي عن ابن عباس
عن عثمان بن عفان قال : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ـ أي
في أوقات متقاربة ـ فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب الوحي فيقول ضعوا
هؤلاء الآيات في السورة كذا». ولذلك فقد تكون السورة بعضها مكيا وبعضها مدنيا.
وكذلك تنهية كل سورة كان بتوقيف من النبي صلىاللهعليهوسلم ، فكانت نهايات السور معلومة ، كما يشير إليه حديث «من قرأ
الآيات الخواتم من سورة آل عمران» وقول زيد بن ثابت «فقدت آخر سورة براءة». وقد
توفي رسول الله والقرآن مسوّر سورا معينة ، كما دل عليه حديث اختلاف عمر بن الخطاب
مع هشام بن حكيم بن حزام في آيات من سورة الفرقان في حياة النبي صلىاللهعليهوسلم كما تقدم في المقدمة الخامسة. وقال عبد الله بن مسعود في
سور بني إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء «هن من العتاق الأول وهنّ من
تلادي».
وقد جمع من
الصحابة القرآن كله في حياة رسول الله زيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأبو زيد ،
وأبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وعبد الله بن عمر ، وعبادة بن الصامت وأبو أيوب ،
وسعد بن عبيد ، ومجمّع بن جارية ، وأبو موسى الأشعري ، وحفظ كثير من الصحابة أكثر
القرآن على تفاوت بينهم.
وفي حديث غزوة
حنين لما انكشف المسلمون قال النبي صلىاللهعليهوسلم للعباس : «اصرخ يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السّمرة ، يا
أصحاب سورة البقرة» فلعل الأنصار كانوا قد عكفوا على حفظ ما نزل من سورة البقرة
لأنها أول السور النازلة بالمدينة ، وفي «أحكام القرآن» لابن العربي عن ابن وهب عن مالك كان شعارهم يوم حنين يا
أصحاب سورة البقرة.
وقد ذكر النحويون
في الوقف على تاء التأنيث هاء أن رجلا نادى : يا أهل سورة البقرة بإثبات التاء في
الوقف وهي لغة ، فأجابه مجيب : «ما أحفظ منها ولا آيت» محاكاة للغته.
المقدمة التاسعة
في أن المعاني التي تتحمّلها جمل القرآن تعتبر مرادة بها
إن العرب أمة جبلت
على ذكاء القرائح وفطنة الأفهام ، فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم
، وبخاصة كلام بلغائهم ، ولذلك كان الإيجاز عمود بلاغتهم لاعتماد المتكلمين على
أفهام السامعين كما يقال : لمحة دالّة ، لأجل ذلك كثر في كلامهم المجاز ،
والاستعارة ، والتمثيل ، والكناية ، والتعريض ، والاشتراك والتسامح في الاستعمال
كالمبالغة ، والاستطراد ومستتبعات التراكيب ، والأمثال ، والتلميح ، والتمليح ،
واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية ، واستعمال الاستفهام في
التقرير أو الإنكار ، ونحو ذلك. وملاك ذلك كله توفير المعاني ، وأداء ما في نفس
المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها ليسهل اعتلاقها بالأذهان ؛ وإذ قد كان القرآن وحيا من
العلّام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدّى بلغاء العرب بمعارضة
أقصر سورة منه كما سيأتي في المقدمة العاشرة ، فقد نسج نظمه نسجا بالغا منتهى ما
تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظا ومعنى بما يفي بأقصى ما يراد
بلاغة إلى المرسل إليهم. فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب ،
فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته ولم يسعهم إلا الإذعان ، سواء في ذلك من آمن
منهم مثل لبيد بن ربيعة وكعب بن زهير والنابغة الجعدي ، ومن استمر على كفره عنادا
مثل الوليد بن المغيرة. فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني
المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم. وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان
حقيقا بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ ، في أقلّ ما يمكن
من المقدار ، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه
الاعتبارات ، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى ،
فمعتاد البلغاء إيداع المتكلم معنى يدعوه إليه غرض كلامه وترك غيره والقرآن ينبغي
أن يودع من المعاني كل ما يحتاج السامعون إلى علمه وكل ما له حظ في البلاغة سواء
كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودا وكان ما هو أدنى
منه مرادا معه لا مرادا دونه سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال
والظهور أم كانت
متفاوتة بعضها أظهر من بعض ولو أن تبلغ حد التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى
المحتمل المرجوح. أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر ، مثل قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النساء : ١٥٧] أي
ما تيقنوا قتله ولكن توهموه ، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم
ذلك يقينا بل فهموه خطأ ، ومثل قوله : (فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف : ٤٢] ففي
كل من كلمة ذكر وربه معنيان ، ومثل قوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ
إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] ففي
لفظ رب معنيان. وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرا
للمعاني مع إيجاز اللفظ وهذا من وجوه الإعجاز. ومثاله قوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها
إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤]
بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري (أباه) بالباء الموحدة ، فنشأ احتمال فيمن هو
الوعد. ولما كان القرآن نازلا من المحيط علمه بكل شيء ، كان ما تسمح تراكيبه
الجارية على فصيح استعمال الكلام البليغ باحتماله من المعاني المألوفة للعرب في
أمثال تلك التراكيب ، مظنونا بأنه مراد لمنزله ، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو
غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية. وقد جعل الله القرآن كتاب الأمة كلها
وفيه هديها ، ودعاهم إلى تدبره وبذل الجهد في استخراج معانيه في غير ما آية كقوله
تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦]
وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣]
وقوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩]
وغير ذلك. على أن القرآن هو الحجة العامة بين علماء الإسلام لا يختلفون في كونه
حجّة شريعتهم وإن اختلفوا في حجية ما عداه من الأخبار المروية عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لشدة الخلاف في شروط تصحيح الخبر ، ولتفاوتهم في مقدار ما
يبلغهم من الأخبار مع تفرق العصور والأقطار ، فلا مرجع لهم عند الاختلاف يرجعون
إليه أقوى من القرآن ودلالته.
ويدل لتأصيلنا هذا
ما وقع إلينا من تفسيرات مروية عن النبي صلىاللهعليهوسلم لآيات ، فنرى منها ما نوقن بأنه ليس هو المعنى الأسبق من
التركيب ؛ ولكنا بالتأمل نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أراد بتفسيره إلا
إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن ، مثال ذلك ما رواه أبو سعيد
بن المعلّى قال : دعاني رسول الله وأنا في الصلاة فلم أجبه فلما فرغت أقبلت إليه
فقال : «ما منعك أن تجيبني؟ فقلت : يا رسول الله كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله تعالى
(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤]؟»
، فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال ، كقوله تعالى
: (الَّذِينَ
اسْتَجابُوا
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) [آل عمران : ١٧٢]
، وأن المراد من الدعوة الهداية كقوله : (يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ) [آل عمران : ١٠٤]
، وقد تعلق فعل (دَعاكُمْ) بقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) أي لما فيه صلاحكم ، غير أن لفظ الاستجابة لما كان صالحا
للحمل على المعنى الحقيقي أيضا وهو إجابة النداء حمل النبي صلىاللهعليهوسلم الآية على ذلك في المقام الصالح له ، بقطع النظر عن
المتعلّق وهو قوله : (لِما يُحْيِيكُمْ) وكذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)
[الأنبياء : ١٠٤]
إنما هو تشبيه الخلق الثاني بالخلق الأول لدفع استبعاد البعث ، كقوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ
بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥] وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ،
فذلك مورد التشبيه ، غير أن التشبيه لما كان صالحا للحمل على تمام المشابهة أعلمنا
النبي صلىاللهعليهوسلم أن ذلك مراد منه ، بأن يكون التشبيه بالخلق الأول شاملا
للتجرد من الثياب والنعال.
وكذلك قوله تعالى
: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] فقد
قال النبي صلىاللهعليهوسلم لعمر بن الخطاب لما قال له لا تصلّ على عبد الله ابن أبيّ
بن سلول فإنه منافق وقد نهاك الله عن أن تستغفر للمنافقين ، فقال النبي : «خيّرني
ربي وسأزيد على السبعين» فحمل قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] على
التخيير مع أن ظاهره أنه مستعمل في التسوية ، وحمل اسم العدد على دلالته الصريحة
دون كونه كناية عن الكثرة كما هو قرينة السياق لمّا كان الأمر واسم العدد صالحين
لما حملهما عليه فكان الحمل تأويلا ناشئا عن الاحتياط. ومن هذا قول النبي لأن
كلثوم بنت عقبة بن معيط حين جاءت مسلمة مهاجرة إلى المدينة وأبت أن ترجع إلى
المشركين فقرأ النبي قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام : ٩٥]
فاستعمله في معنى مجازي هو غير المعنى الحقيقي الذي سيق إليه ، وما أرى سجود النبي
صلىاللهعليهوسلم في مواضع سجود التلاوة من القرآن إلا راجعا إلى هذا الأصل
فإن كان فهما منه رجع إلى ما شرحنا تأصيله ، وإن كان وحيا كان أقوى حجة في إرادة
الله من ألفاظ كتابه ما تحتمله ألفاظه مما لا ينافي أغراضه.
وكذلك لما ورد عن
أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم ومن بعدهم من الأئمة مثل ما روي أن عمرو بن العاص أصبح
جنبا في غزوة في يوم بارد فتيمم وقال : الله تعالى يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] مع
أن مورد الآية أصله في النهي عن أن يقتل الناس بعضهم بعضا.
ومن ذلك أن عمر
لما فتحت العراق وسأله جيش الفتح قسمة أرض السواد بينهم قال : «إن قسمتها بينكم لم
يجد المسلمون الذين يأتون بعدكم من البلاد المفتوحة مثل ما وجدتم فأرى أن أجعلها
خراجا على أهل الأرض يقسم على المسلمين كلّ موسم فإن الله يقول : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] وهذه
الآية نزلت في فيء قريظة والنضير ، والمراد بالذين جاءوا من بعد المذكورين هم
المسلمون الذين أسلموا بعد الفتح المذكور.
وكذلك استنباط عمر
ابتداء التاريخ بيوم الهجرة ، من قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨]
فإن المعنى الأصلي أنه أسّس من أول أيام تأسيسه ، واللفظ صالح لأن يحمل على أنه
أسس من أول يوم من الأيام أي أحق الأيام أن يكون أول أيام الإسلام فتكون الأولية
نسبية.
وقد استدل فقهاؤنا
على مشروعية الجعالة ومشروعية الكفالة في الإسلام بقوله تعالى في قصة يوسف : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢] كما
تقدم في المقدمة الثالثة ، مع أنه حكاية قصة مضت في أمة خلت ليست في سياق تقرير
ولا إنكار ، ولا هي من شريعة سماوية ، إلا أن القرآن ذكرها ولم يعقبها بإنكار.
ومن هذا القبيل
استدلال الشافعي على حجّيّة الإجماع وتحريم خرقه بقوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥] مع
أن سياق الآية في أحوال المشركين ، فالمراد من الآية مشاقة خاصة واتّباع غير سبيل
خاصّ ولكن الشافعي جعل حجية الإجماع من كمال الآية.
وإن القراءات
المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضي إلى اختلاف المعاني
لممّا يرجع إلى هذا الأصل.
ثم إن معاني
التركيب المحتمل معنيين فصاعدا قد يكون بينهما العموم والخصوص فهذا النوع لا تردد
في حمل التركيب على جميع ما يحتمله ، ما لم يكن عن بعض تلك المحامل صارف لفظي أو
معنوي ، مثل حمل الجهاد في قوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) في سورة العنكبوت [٦] على معنيي مجاهدة النفس في إقامة
شرائع الإسلام ، ومقاتلة الأعداء في الذب عن حوزة الإسلام. وقد يكون بينها التغاير
، بحيث يكون تعيين التركيب للبعض منافيا لتعيينه للآخر بحسب إرادة المتكلم عرفا ،
ولكن صلوحية التركيب لها على البدليّة مع عدم ما يعيّن إرادة أحدها تحمل السامع
على الأخذ بالجميع
إيفاء بما عسى أن
يكون مراد المتكلم ، فالحمل على الجميع نظير ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك
على معانيه احتياطا. وقد يكون ثاني المعنيين متولدا من المعنى الأول ، وهذا لا
شبهة في الحمل عليه لأنه من مستتبعات التراكيب ، مثل الكناية والتعريض والتهكم مع
معانيها الصريحة ، ومن هذا القبيل ما في «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال : كان عمر
يدخلني مع أشياخ بدر فكأنّ بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء
مثله ، فقال عمر : إنه من حيث علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم قال : فما رئيت أنه
دعاني إلا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] فقال
بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل
شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : فما تقول؟ قلت : هو
أجل رسول الله أعلمه له ، قال (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) وذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ٣] فقال
عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول.
وإنّك لتمرّ بالآية
الواحدة فتتأمّلها وتتدبّرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف
الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي ، وقد تتكاثر عليك فلا تلك من كثرتها في
حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا
بذلك.
فمختلف المحامل
التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته ، من اشتراك وحقيقة ومجاز ،
وصريح وكناية ، وبديع ، ووصل ، ووقف ، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق ،
يجب حمل الكلام على جميعها كالوصل والوقف في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] إذا
وقف على (لا رَيْبَ) أو على (فِيهِ). وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦]
باختلاف المعنى إذا وقف على قوله (قاتَلَ) ، أو على قوله معه (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). وكقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) [آل عمران : ٧]
باختلاف المعنى عند الوقف على اسم الجلالة أو على قوله (فِي الْعِلْمِ) ، وكقوله تعالى : (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ
عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : ٤٦]
باختلاف ارتباط النداء من قوله : (يا إِبْراهِيمُ) بالتوبيخ بقوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ) ، أو بالوعيد في قوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
لَأَرْجُمَنَّكَ).
وقد أراد الله
تعالى أن يكون القرآن كتابا مخاطبا به كل الأمم في جميع العصور ، لذلك جعله بلغة
هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية ، لأسباب يلوح لي
منها ، أنّ تلك
اللغة أوفر اللغات مادة ، وأقلها حروفا ، وأفصحها لهجة ، وأكثرها تصرفا في الدلالة
على أغراض المتكلم ، وأوفرها ألفاظا ، وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة
العربية في نظم تراكيبها من المعاني ، في أقلّ ما يسمح به نظم تلك اللغة ، فكان
قوام أساليبه جاريا على أسلوب الإيجاز ؛ فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام
بلغاء العرب.
ومن أدق ذلك
وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه
دفعة. واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا. بله إرادة المعاني
المكنّى عنها مع المعاني المصرح بها ، وإرادة المعاني المستتبعات (بفتح الباء) من
التراكيب المستتبعة (بكسر الباء).
وهذا الأخير قد
نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان. وبقي المبحثان الأولان
وهما استعمال المشترك في معنييه أو معانيه ، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ،
محلّ تردد بين المتصدين لاستخراج معاني القرآن تفسيرا وتشريعا ، سببه أنه غير وارد
في كلام العرب قبل القرآن أو واقع بندرة ، فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملا من
محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في
حقيقته ومجازه ، ويعدون ذلك خطبا عظيما.
من أجل ذلك اختلف
علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من
مدلوله اختلافا ينبئ عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال. وقد
أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول
القرآن ، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم وليس
بدلالة اللغة. وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من
مستتبعات التراكيب لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة ، كدلالة المجاز
والاستعارة.
والحق أن المشترك
يصح إطلاقه على عدة من معانيه جميعا أو بعضا إطلاقا لغويا ، فقال قوم هو من قبيل
الحقيقة ونسب إلى الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجمهور المعتزلة.
__________________
وقال قوم هو
المجاز وجزم ابن الحاجب مراد الباقلاني من قوله في كتاب «التقريب والإرشاد» إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة ، ففهم
ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز وهذا لا يستقيم لأن القرينة التي هي من
علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي وهي لا تتصور في
موضوعنا ؛ إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة وإلا لاقتضت حقيقة المشترك
فارتفع الموضوع من أصله. وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق
اللفظ على معناه المجازي وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه ، فإن قرينة
المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وقرينة المشترك معينة للمعاني المرادة كلا
أو بعضا.
وثمة قول آخر لا
ينبغي الالتفات إليه وإنما نذكره استيعابا لآراء الناظرين في هذه المسألة ، وهو
صحة إطلاق المشترك على معانيه في النفي وعدم صحة ذلك في الإيجاب ، ونسب هذا القول
إلى برهان ، عليّ المرغيناني الفقيه الحنفي صاحب كتاب «الهداية» في الفقه ، ومثاره
ـ في ما أحسب ـ اشتباه دلالة اللفظ المشترك على معانيه بدلالة النكرة الكلية على
أفرادها حيث تفيد العموم إذا وقعت في سياق النفي ولا تفيده في سياق الإثبات.
والذي يجب اعتماده
أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني ، سواء في ذلك اللفظ المفرد
المشترك ، والتركيب المشترك بين مختلف الاستعمالات ، سواء كانت المعاني حقيقية أو
مجازية ، محضة أو مختلفة. مثال استعمال اللفظ المفرد في حقيقته ومجازه قوله تعالى
: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) [الحج : ١٨]
فالسجود له معنى حقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض ومعنى مجازي وهو التعظيم ، وقد
استعمل فعل (يَسْجُدُ) هنا في معنييه المذكورين لا محالة. وقوله تعالى : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة : ٢]
فبسط الأيدي حقيقة في مدّها للضرب والسلب ، وبسط الألسنة مجاز في عدم إمساكها عن
القول البذيء ، وقد استعمل هنا في كلا معنييه. ومثال استعمال المركّب المشترك في
معنييه قوله تعالى : (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١]
فمركب ويل له يستعمل خبرا ويستعمل دعاء ، وقد حمله المفسرون هنا على كلا المعنيين.
وعلى هذا القانون
يكون طريق الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون ، أو ترجيح بعضها على بعض ، وقد
كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل فلذلك كان الذي يرجّح معنى من المعاني
التي يحتملها لفظ آية من القرآن ، يجعل غير ذلك المعنى
ملغى. ونحن لا
نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع
الكلام العربي البليغ ، معاني في تفسير الآية ، فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا
معنيين فصاعدا فذلك على هذا القانون ، وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه
في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالا على إبطاله ، ولكن قد يكون ذلك لترجّح
غيره ، وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة ، فإن التفاسير اليوم
موجودة بين يدي أهل العلم لا يعوزهم استقراءها ولا تمييز محاملها متى جروا على هذا
القانون.
المقدمة العاشرة
في إعجاز القرآن
لم أر غرضا تناضلت
له سهام الأفهام ، ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى ، واقتنعت
بما بلغته من صبابة نزرا ، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن ، فإنه لم يزل شغل أهل
البلاغة الشاغل ، وموردها للمعلول والناهل ، ومغلى سبائها للنديم والواغل ، ولقد
سبق أن ألّف علم البلاغة مشتملا على نماذج من وجوه إعجازه ، والتفرقة بين حقيقته
ومجازه ،. إلا أنه باحث عن كل خصائص الكلام العربي البليغ ليكون معيارا للنقد أو
آلة للصّنع ، ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوّق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه
من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللّاحقون منهم
عن الإتيان بمثله.
قال أبو يعقوب
السكاكي في كتاب «المفتاح» «واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها
أعجب كلّ شاهد بناؤها واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها ، إلى أن قال : ثم
إذا كنت ممن ملك الذّوق وتصفحت كلام رب العزة أطلعتك على ما يوردك موارد العزة
وكشفت عن وجه إعجازه القناع» ا ه.
فأما أنا فأردت في
هذه المقدمة أن ألمّ بك أيها المتأمل إلمامة ليست كخطرة طيف ولا هي كإقامة المنتجع
في المربع حتى يظله الصّيف ، وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزا وتتبصر
منها نواحي إعجازه وما أنا بمستقص دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور ؛ فذلك له
مصنفاته وكل صغير وكبير مستطر. ثم ترى منها بلاغة القرآن ولطائف أدبه التي هي فتح
لفنون رائعة من أدب لغة العرب حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر ، وفتح عقول ،
وفتح ممالك ، وفتح أدب غض ارتقى به الأدب العربي مرتقى لم يبلغه أدب أمّة من قبل.
وكنت أرى الباحثين ممن تقدّمني يخلطون هذين الغرضين خلطا ، وربما أهملوا معظم الفن
الثاني ، وربما ألمّوا به إلماما وخلطوه بقسم الإعجاز وهو الذي يحق أن يكون البحث
فيه من مقدمات علم التفسير ، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولا
ونكتا أغفلها من
تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني ، والرّمّاني ، وعبد القاهر ،
والخطّابي ، وعياض ، والسكاكي ، فكونوا منها بالمرصاد ، وافلوا عنها كما يفلي عن
النار الرماد ، وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره
لمعاني القرآن بالغا حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه
البلاغة في آية المفسّرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار ، فالمفسر
بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته وما فاقت
به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية لئلا يكون المفسّر حين
يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسّر.
فمن أعجب ما نراه
خلوّ معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الاسمى إلا عيون التفاسير ،
فمن مقل مثل «معاني
القرآن» لأبي إسحاق
الزجاج و«المحرّر
الوجيز» للشيخ عبد الحق
بن عطية الأندلسي ، ومن مكثر مثل «الكشاف». ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية
خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن ، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه
التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب «أحكام القرآن» لإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد المالكي البغدادي ، وكما نراه
في مواضع من «أحكام
القرآن» لأبي بكر ابن
العربي.
ثم إن العناية بما
نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام
وهو كونه المعجزة الكبرى للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وكونه المعجزة الباقية ، وهو المعجزة التي تحدى بها
الرسول معانديه تحدّيا صريحا. قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥٠ ،
٥١] ولقد تصدى للاستدلال على هذا أبو بكر الباقلاني في كتاب له سماه أو سمّي «إعجاز القرآن» وأطال ، وخلاصة القول فيه أن رسالة نبينا عليه الصلاة
والسلام بنيت على معجزة القرآن وإن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات كثيرة إلا أن تلك
المعجزات قامت في أوقات وأحوال ومع ناس خاصة ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا
خاصا ، فأما القرآن فهو معجزة عامة ، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم
القيامة ، وإن كان يعلم وجه إعجازه من عجز أهل العصر الأوّل عن الإتيان بمثله
فيغني ذلك عن نظر مجدّد ، فكذلك عجز أهل كل عصر من العصور التالية عن النظر في حال
عجز أهل العصر الأول ، ودليل ذلك متواتر من نص
القرآن في عدة
آيات تتحدى العرب بأن يأتوا بسورة مثله ، وبعشر سورة مثله مما هو معلوم ، ناهيك أن
القرآن نادى بأنه معجز لهم ، نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤]
الآية فإنه سهّل وسجّل : سهّل عليهم أن يأتوا بمثل سورة من سوره ، وسجّل عليهم
أنهم لا يفعلون ذلك أبدا ، فكان كما سجّل ، فالتحدي متواتر وعجز المتحدّين أيضا
متواتر بشهادة التاريخ إذ طالت مدتهم في الكفر ولم يقيموا الدليل على أنهم غير
عاجزين ، وما استطاعوا الإتيان بسورة مثله ثم عدلوا إلى المقاومة بالقوة. قال الله
تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) الآية من سورة البقرة [٢٣ ، ٢٤]. وقال : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة يونس [٣٨] وقال : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) سورة هود [١٣ ، ١٤]. فعجز جميع المتحدّين عن الإتيان بمثل
القرآن متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توفر دواعيهم
عليها.
وقد اختلف العلماء
في تعليل عجزهم عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأنّ الله صرفهم عن معارضة
القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع
العرب ، ويعرف هذا القول بالصّرفة كما في «المواقف» للعضد و«المقاصد» للتفتازاني (ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء وهي مرة من
الصرف وضع بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص فصارت كالعلم بالغلبة) ولم ينسبوا
هذا القول إلّا إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض في «الشفاء» وإلى النّظام والشريف المرتضى وأبي إسحاق الاسفرائيني
فيما حكاه عنهم عضد الدين في «المواقف» ، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب «الفصل» ص ٧ جزء ٣ ، ص ١٨٤ جزء ٢ وقد عزاه صاحب «المقاصد» في شرحه إلى كثير من المعتزلة.
وأما الذي عليه
جمهرة أهل العلم والتحقيق واقتصر عليه أئمّة الأشعرية وإمام الحرمين وعليه الجاحظ
وأهل العربية كما في «المواقف» ، فالتعليل لعجز المتحدّين به بأنه بلوغ القرآن في درجات
البلاغة والفصاحة مبلغا تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله ،
وهو الذي نعتمده
ونسير عليه في هذه المقدمة العاشرة.
وقد بدا لي دليل
قوي على هذا وهو بقاء الآيات التي نسخ حكمها وبقيت متلوة من القرآن ومكتوبة في
المصاحف فإنّها لما نسخ حكمها لم يبق وجه لبقاء تلاوتها وكتبها في المصاحف إلّا ما
في مقدار مجموعها من البلاغة بحيث يلتئم منها مقدار ثلاث آيات متحدى بالإتيان بمثلها
مثال ذلك آية الوصية في سورة العقود.
وإنما وقع التحدي
بسورة أي وإن كانت قصيرة دون أن يتحداهم بعدد من الآيات لأن من أفانين البلاغة ما
مرجعه إلى مجموع نظم الكلام وصوغه بسبب الغرض الذي سيق فيه من فواتح الكلام
وخواتمه ، وانتقال الأغراض ، والرجوع إلى الغرض ، وفنون الفصل ، والإيجاز والإطناب
، والاستطراد والاعتراض ، وقد جعل شرف الدين الطيبي هذا هو الوجه لإيقاع التّحدّي بسورة دون أن يجعل بعدد من
الآيات.
وإذ قد كان تفصيل
وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها ، فنرى
ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات :
الجهة
الأولى : بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي
البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء
العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة ، بحيث يكثر فيه ذلك كثرة لا يدانيها شيء من كلام
البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.
الجهة
الثانية : ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام مما لم يكن
معهودا في أساليب العرب ، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.
الجهة
الثالثة : ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق
العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده
متفاوتة ، وهذه الجهة أغفلها المتكلمون في إعجاز القرآن من علمائنا مثل أبي بكر
الباقلاني والقاضي عياض.
وقد عد كثير من
العلماء من وجوه إعجاز القرآن ما يعد جهة رابعة هي ما انطوى
__________________
عليه من الإخبار
عن المغيّبات مما دل على أنه منزل من علّام الغيوب ، وقد يدخل في هذه الجهة ما عده
عياض في «الشفاء» وجها رابعا من وجوه إعجاز القرآن وهو ما أنبأ به من أخبار
القرون السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب
، فهذا معجز للعرب الأميين خاصة وليس معجزا لأهل الكتاب ؛ وخاصّ ثبوت إعجازه بأهل
الإنصاف من الناظرين في نشأة الرسول صلىاللهعليهوسلم وأحواله ، وليس معجزا للمكابرين فقد قالوا (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣].
فإعجاز القرآن من
الجهتين الأولى والثانية متوجه إلى العرب ، إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم
مباشرة ، ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي
عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم. ثم هو بذلك دليل على صدق المنزّل
عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره
لمعاصريه بتواتر الأخبار ، ولمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ. فإعجازه للعرب الحاضرين
دليل تفصيلي ، وإعجازه لغيرهم دليل إجمالي.
ثم قد يشارك خاصة
العرب في إدراك إعجازه كلّ من تعلم لغتهم ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة
البلاغة العربية في مختلف العصور ، وهذا معنى قول السكاكي في «المفتاح» مخاطبا للناظر في كتابه «متوسلا بذلك (أي بمعرفة الخصائص
البلاغية التي هو بصدد الكلام عليها إلى أن تتأنّق في وجه الإعجاز في التنزيل
منتقلا مما أجمله عجز المتحدّين به عندك إلى التفصيل».
والقرآن معجز من
الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور ، وهذا من جملة ما شمله
قول أئمة الدين : إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين ، لأنه قد يدرك
إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية
والعلمية والأخلاقية ، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه
شهادتهم بذلك.
وهو من الجهة
الرابعة ـ عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث ـ معجز لأهل عصر نزوله إعجازا
تفصيليا ، ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن ، وتعيّن صرف
الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها.
هذا ملاك الإعجاز
بحسب ما انتهى إليه استقراؤنا إجمالا ، ولنأخذ في شيء من تفصيل ذلك وتمثيله.
فأما الجهة الأولى
فمرجعها إلى ما يسمّى بالطرف الأعلى من البلاغة والفصاحة ، وهو المصطلح على تسميته
حدّ الإعجاز ، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة
والفصاحة ، وقد وصف أئمة البلاغة والأدب هذين الأمرين بما دوّن له علما المعاني
والبيان ، وتصدّوا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة
وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عدّ في أقصى درجاتها. وقد تصدى أمثال أبي
بكر الباقلاني وأبي هلال العسكري وعبد القاهر والسّكّاكي وابن الأثير ، إلى
الموازنة بين ما ورد في القرآن وبين ما ورد في بليغ كلام العرب من بعض فنون
البلاغة بما فيه مقنع للمتأمّل ، ومثل للمتمثّل. وليس من حظ الواصف إعجاز القرآن
وصفا إجماليا كصنعنا هاهنا أن يصف هذه الجهة وصفا مفصلا لكثرة أفانينها ، فحسبنا
أن نحيل في تحصيل كلياتها وقواعدها على الكتب المجعولة لذلك مثل «دلائل الإعجاز» ، و«أسرار
البلاغة» ، والقسم الثالث
فما بعده من «المفتاح» ، ونحو ذلك ، وأن نحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي
القرآن على التفاسير المؤلّفة في ذلك وعمدتها كتاب «الكشاف» للعلامة الزمخشري ، وما سنستنبطه ونبتكره في تفسيرنا هذا
إن شاء الله ، غير أني ذاكر هنا أصولا لنواحي إعجازه من هذه الجهة وبخاصة ما لم
يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره.
وحسبنا هنا الدليل
الإجمالي وهو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد
إلى معارضته ، اعترافا بالحق وربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح ، مع
أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا ، وترغيبا وزجرا ، قد خصّوا من بين
الأمم بقوة الذهن وشدة الحافظة وفصاحة اللسان وتبيان المعاني ، فلا يستصعب عليهم
سابق من المعاني ، ولا يجمع بهم عسير من المقامات.
قال عياض في «الشفاء» : «فلم يزل يقرّعهم النبي صلىاللهعليهوسلم أشدّ التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفّه أحلامهم ويحط
أعلامهم وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم
بالتكذيب والإغراء بالافتراء ، وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ٢٤] و (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر : ٢] و (إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان : ٤] و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥]
وقد قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) ، فما فعلوا ولا قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة
كشف عواره لجميعهم. ولمّا سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠]
الآية قال : والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمغدق وإنّ أعلاه
لمثمر وما هو بكلام بشر. وذكر
أبو عبيدة أن
أعرابيا سمع رجلا يقرأ (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] فسجد
وقال : سجدت لفصاحته ، (وكان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة اصدع في إبانتها
عن الدعوة والجهر بها والشجاعة فيها ، وكلمة (بِما تُؤْمَرُ) في إيجازها وجمعها) . وسمع آخر رجلا يقرأ : (فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] فقال
: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وكون النبي صلىاللهعليهوسلم تحدّى به وأنّ العرب عجزوا عن معارضته مما علم بالضرورة
إجمالا وتصدى أهل علم البلاغة لتفصيله.
قال السكاكي في «المفتاح» : «واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه ،
كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، أو كالملاحة ، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق
ليس إلا ، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين (المعاني والبيان) نعم
للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللّثام عنها لتجلى عليك ، أما نفس وجه
الإعجاز فلا» ا ه.
قال التفتازانيّ :
«يعني أن كل ما ندركه بعقولنا ففي غالب الأمر نتمكن من التعبير عنه ، والإعجاز ليس
كذلك لأنا نعلم قطعا من كلام الله أنه بحيث لا تمكن للبشر معارضته والإتيان بمثله
ولا يماثله شيء من كلام فصحاء العرب مع أن كلماته كلمات كلامهم ، وكذا هيئات
تراكيبه ، كما أنا نجد كلاما نعلم قطعا أنه مستقيم الوزن دون آخر ، وكما أنا ندرك
من أحد كون كل عضو منه كما ينبغي وآخر كذلك أو دون ذلك ، لكن فيه شيء نسميه
الملاحة ولا نعرف أنه ما هو ، وليس مدرك الإعجاز عند المصنف سوى الذوق وهو قوة
إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ووجوه محاسنه الخفية ، فإن كان حاصلا
بالفطرة فذاك وإن أريد اكتسابه فلا طريق إليه سوى الاعتناء بعلمي المعاني والبيان
وطول ممارستهما والاشتغال بهما ، وإن جمع بين الذوق الفطري وطول خدمة العلمين فلا
غاية وراءه ، فوجه الإعجاز أمر من جنس البلاغة والفصاحة لا كما ذهب إليه النظّام
وجمع من المعتزلة أن إعجازه بالصّرفة بمعنى أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب
قدرتهم عليها ، ولا كما ذهب إليه جماعة من أن إعجازه بمخالفة أسلوبه لأساليب
كلامهم من الأشعار والخطب والرسائل لا سيما في المقاطع مثل يؤمنون وينفقون ويعلمون
(قال السيد لا سيما في مطالع السور ومقاطع الآي) أو بسلامته من التناقض (قال السيد
مع طوله
__________________
جدا) أو باشتماله
على الإخبار بالمغيبات والكل فاسد». ا ه.
وقال السيد
الجرجاني فهذه أقوال خمسة في وجه الإعجاز لا سادس لها.
وقال السيد أراد
المصنف أن الإعجاز نفسه وإن لم يمكن وصفه وكشفه بحيث يدرك به لكن الأمور المؤدية
إلى كون الكلام معجزا أعني وجوه البلاغة قد تحتجب فربما تيسر كشفها ليتقوّى بذلك
ذوق البليغ على مشاهدة الإعجاز.
يريد السيد بهذا
الكلام إبطال التدافع بين قول صاحب «المفتاح» : يدرك ولا يمكن وصفه إذ نفى الإمكان ، وبين قوله نعم
للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها ، فأثبت تيسر وصف وجوه الإعجاز
، بأنّ الإعجاز نفسه لا يمكن كشف القناع عنه ، وأما وجوه البلاغة فيمكن كشف القناع
عنها.
واعلم أنّه لا شك
في أنّ خصوصيات الكلام البليغ ودقائقه مرادة لله تعالى في كون القرآن معجزا
وملحوظة للمتحدّين به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبيّن. وأن إشارات كثيرة في
القرآن تلفت الأذهان لذلك ويحضرني الآن من ذلك أمور : أحدها : ما رواه مسلم والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة (أي سورة الفاتحة) بيني
وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل : فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الله تعالى : حمدني عبدي. وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله تعالى أثنى علي عبدي. وإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال : مجدني عبدي ، وقال مرة : فوض إلي عبدي ، فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٢ ـ ٧]
، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
ففي هذا الحديث
تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام.
وحسن التقسيم من المحسنات البديعية ، مع ما تضمّنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في
قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال : «هذا بيني وبين عبدي» إذ كان ذلك مزيجا من القسمين
الذي قبله والذي بعده.
وفي القرآن مراعاة
التجنيس في غير ما آية والتجنيس من المحسنات ، ومنه قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ
عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦].
وفيه التنبيه على
محسّن المطابقة كقوله : (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)
[الحج : ٤].
والتنبيه على ما
فيه من تمثيل كقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها)(لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا
الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣]
وقوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم : ٢٥].
ولذا فنحن نحاول
تفصيل شيء مما أحاط به علمنا من وجوه الإعجاز :
نرى من أفانين
الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلّم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق
آخر منها ، وهو بمجرده معدود من الفصاحة ، وسماه ابن جني شجاعة العربية لأن ذلك
التغيير يجدد نشاط السامع فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل
إليه صار من أفانين البلاغة وكان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس ، وقد جاء منه
في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.
وكان للتشبيه
والاستعارة عند القوم المكان القصي والقدر العلي في باب البلاغة ، وبه فاق امرؤ
القيس ونبهت سمعته ، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله
: (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] وقوله
: (وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِ) [الإسراء : ٢٤]
وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وقوله
تعالى : (ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤] وقوله
: (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨]
إلى غير ذلك من وجوه البديع.
ورأيت من محاسن
التشبيه عندهم كمال الشّبه ، ورأيت وسيلة ذلك الاحتراس وأحسنه ما وقع في القرآن
كقوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ
ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ
مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥]
احتراس عن كراهة الطعام (وَأَنْهارٌ مِنْ
عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥]
احتراس عن أن تتخلله أقذاء من بقايا نحله.
وانظر التمثيلية
في قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٦٦]
الآية ففيه إتمام جهات كمال تحسين التشبيه لإظهار أن الحسرة على تلفها أشد. وكذا
قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ) ـ إلى قوله ـ (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) [النور : ٣٥] فقد
ذكر من الصفات ، والأحوال ما فيه مزيد وضوح المقصود من شدة الضياء ، وما فيه تحسين
المشبّه وتزيينه بتحسين شبهه ، وأين من الآيتين قول كعب :
__________________
شجّت بذي شبم من
ماء محنية
|
|
صاف بأبطح أضحى
وهو مشمول
|
تنفي الرّياح
القذى عنه وأفرطه
|
|
من صوب سارية
بيض يعاليل
|
إن نظم القرآن
مبني على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة ، فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية
التي يشاركها فيها الكلام العربي كله ، ولها دلالتها البلاغية التي يشاركها في
مجملها كلام البلغاء ولا يصل شيء من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها.
ولها دلالتها
المطويّة وهي دلالة ما يذكر على ما يقدّر اعتمادا على القرينة ، وهذه الدلالة
قليلة في كلام البلغاء وكثرت في القرآن مثل تقدير القول وتقدير الموصوف وتقدير
الصفة.
ولها دلالة مواقع
جمله بحسب ما قبلها وما بعدها ، ككون الجملة في موقع العلة لكلام قبلها ، أو في
موقع الاستدراك ، أو في موقع جواب سؤال ، أو في موقع تعريض أو نحوه. وهذه الدلالة
لا تتأتّى في كلام العرب لقصر أغراضه في قصائدهم وخطبهم بخلاف القرآن ، فإنه لما
كان من قبيل التذكير والتلاوة سمحت أغراضه بالإطالة ، وبتلك الإطالة تأتّى تعدد
مواقع الجمل والأغراض.
مثال ذلك قوله
تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ) [الجاثية : ٢٢] ـ
بعد قوله ـ (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١]
فإن قوله : (وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى آخره مفيد بتراكيبه فوائد من التعليم والتذكير ، وهو
لوقوعه عقب قوله : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) واقع موقع الدليل على أنه لا يستوي من عمل السيئات مع من
عمل الصالحات في نعيم الآخرة.
وإنّ للتقديم
والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبّه
على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله. وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على
استجلاء أمثاله. قال تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ
كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) ـ إلى قوله ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ
وَأَعْناباً) ـ إلى قوله ـ (وَكَأْساً دِهاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا كِذَّاباً) [النبأ : ٢١ ـ ٣٥]
فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً) أنّه الجنة لأنّ الجنة مكان فوز. ثم كان قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
كِذَّاباً) ما يحتمل لضمير (فيها) من قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أن يعود إلى (كَأْساً دِهاقاً)
وتكون (في)
للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما
يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج ، وأن يعود إلى (مَفازاً) بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون (في) للظرفية الحقيقة
أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا
يتأتّى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة (مَفازاً). ولم يؤخر (وَكَأْساً دِهاقاً) ولم يعقب بجملة : (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً) إلخ.
ومما يجب التنبيه
له أن مراعاة المقام في أن ينظّم الكلام على خصوصيات بلاغيّة هي مراعاة من مقومات
بلاغة الكلام وخاصّة في إعجاز القرآن ، فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات
تتساءل نفس المفسّر عن دواعيها وما يقتضيها فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها
متكلّفة أو مغصوبة ، ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية ، في حال أنّ
مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية ، مثال ذلك قوله تعالى
في سورة المجادلة [١٩] : (أُولئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ثم قوله : (أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢٢]
فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تطلّب
مقتضيه ويأتي بمقتضيات عامة مثل أن يقول : التنبيه للاهتمام بالخبر ، ولكن إذا
قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين والمؤمنين جميعا علمنا أن اختلاف حرف
التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين والمؤمنين جميعا ، فالأوّلون
لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون
بالإسلام فكأنّ الله يقول قد عرفنا دخائلكم ، وثاني الفريقين وهم المؤمنون نبّهوا
لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءكم هم
أيضا عدوّ لكم لأنهم حزب الشيطان والشيطان عدوّ الله وعدوّ الله عدوّ لكم! واجتلاب
حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون
فيها فيرعوون عن النفاق ، وتنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقا ليسوا من حزب الله
فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم فيحذروهم.
ومرجع هذا الصنف
من الإعجاز إلى ما يسمّى في عرف علماء البلاغة بالنّكت البلاغيّة فإنّ بلغاءهم كان
تنافسهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت ، وبذلك تفاضل بلغاؤهم ، فلما سمعوا
القرآن انثالت على كلّ من سمعه من بلغائهم من النكت التي تفطّن
لها ما لم يجد من
قدرته قبلا بمثله ، وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل
اللسان فعلم ألّا مبلغ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد
من ذوق زميله.
هذا كله بحسب ما
بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه.
ووراء ذلك نكت لا يتفطن إليها كل واحد ، وأحسب أنهم تآمروا وتدارسوا بينهم في
نواديهم أمر تحدي الرسول إيّاهم بمعارضة القرآن وتواصفوا ما اشتملت عليه بعض آياته
العالقة بحوافظهم وأسماعهم من النكت والخصائص وأوقف بعضهم بعضا على ما لاح له من
تلك الخصائص ، وفكروا وقدروا وتدبروا فعلموا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثلها إن
انفردوا أو اجتمعوا ، ولذلك سجل القرآن عليهم عجزهم في الحالتين فقال تارة : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]
وقال لهم مرّة : (لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨]
فحالة اجتماعهم وتظاهرهم لم تكن مغفولا عنها بينهم ضرورة أنهم متحدون بها.
وهذه الناحية من
هذه الجهة من الإعجاز هي أقوى نواحي إعجاز القرآن وهي التي يتحقق بها إعجاز أقصر
سورة منه. وفي هذه الجهة ناحية أخرى وهي ناحية فصاحة اللفظ وانسجام النظم وذلك
بسلامة الكلام في أجزائه ومجموعه مما يجزّ الثقل إلى لسان الناطق به ، ولغة العرب
لغة فصيحة وأهلها مشهورون بفصاحة الألسن. قال فخر الدين الرازي في «مفاتيح الغيب» : «إن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي ،
والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى وكما أن الإنسان الذي نوّر روحه
بالمعرفة ينبغي أن ينوّر جسمه بالنظافة ، كذلك الكلام ، ورب كلمة حكيمة لا تؤثر في
النفوس لركاكة لفظها».
وكان مما يعرض
لشعرائهم وخطبائهم ألفاظ ولهجات لها بعض الثقل على اللسان ، فأما ما يعرض للألفاظ
فهو ما يسمى في علم الفصاحة بتنافر حروف الكلمة أو تنافر حروف الكلمات عند
اجتماعها مثل : مستشزرات والكنهبل في معلقة امرئ القيس ، وسفنّجة والحفيدد في
معلقة طرفة ، وقول القائل : وليس قرب قبر حرب قبر.
وقد سلم القرآن من
هذا كله مع تفننه في مختلف الأغراض وما تقتضيه من تكاثر الألفاظ ، وبعض العلماء أورد
قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ) [يس : ٦٠] وقوله :
(وَعَلى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] وتصدي
للجواب ، والصواب أن ذلك غير وارد كما قاله المحققون لعدم بلوغه حد الثقل ، ولأن
حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلفه فيها
غيره مقدّم على
مراعاة خفة لفظه.
فقد اتفق أئمة
الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة
، فإن العرب لم يعيبوا معلقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة. قال أبو العباس المبرد : «وقد
يضطرّ الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى
المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جنبتا الكلام غطّتا على عواره وسترتا
من شينه».
وأما ما يعرض
للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلى فيها لسان قريش
ومن حولها من القبائل المذكورة في المقدمة السادسة وهو مما فسر به حديث : «أنزل
القرآن على سبعة أحرف» ، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفّها وتجنّب المكروه
من اللهجات ، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧].
ومما أعدّه في هذه
الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني
المقصودة ، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد في كلمات القرآن كلمة تقصر
دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها ، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها
مثل إيثار كلمة حرد في قوله تعالى : (وَغَدَوْا عَلى
حَرْدٍ قادِرِينَ) [القلم : ٢٥] إذ
كان جميع معاني الحرد صالحا للإرادة في ذلك الغرض ، أو مجازات أو استعارات أو
نحوها مما تنصب عليه القرائن في الكلام ، فإن اقتضى الحال تصرفا في معنى اللفظ كان
التصرف بطريق التضمين وهو كثير في القرآن مثل قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ
الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الفرقان : ٤٠]
فجاء فعل (أَتَوْا) مضمنا معنى مرّوا فعدي بحرف على ؛ لأن الإتيان تعدّى إلى
اسم القرية والمقصود منه الاعتبار بمآل أهلها ، فإنه يقال أتى أرض بني فلان ومرّ
على حي كذا. وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ بل هي معدودة من
دقائقه ونفائسه التي تقل نظائرها في كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن
الوفاء بجميعها.
وأما الجهة الثانية : وهي ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في أساليب الكلام
البليغ وهذه جهة مغفولة من علم البلاغة ، فاعلم أن أدب العرب نوعان شعر ونثر ،
والنثر خطابة وأسجاع كهّان ، وأصحاب هذه الأنواع وإن تنافسوا في ابتكار المعاني
وتفاوتوا في تراكيب أدائها في الشعر فهم بالنسبة إلى الأسلوب قد التزموا في أسلوبي
الشعر والخطابة
طريقة واحدة تشابهت
فنونها فكادوا لا يعدون ما ألفوه من ذلك حتى إنك لتجد الشاعر يحذو حذو الشاعر في
فواتح القصائد وفي كثير من تراكيبها ، فكم من قصائد افتتحت بقولهم : «بانت سعاد»
للنابغة وكعب بن زهير ، وكم من شعر افتتح ب :
يا خليليّ أربعا واستخبرا
وكم من شعر افتتح
ب :
يا أيها الراكب
المزجي مطيته
|
|
وقال امرؤ القيس
في معلقته :
|
وقوفا بها صحبي
عليّ مطيّهم
|
|
يقولون لا تهلك
أسى وتحمل
|
فقال طرفة في
معلقته بيتا مماثلا له سوى أن كلمة القافية منه «وتجلّد».
وكذلك القول في
خطبهم تكاد تكون لهجة واحدة وأسلوبا واحدا فيما بلغنا من خطب سحبان وقس بن ساعدة.
وكذلك أسجاع الكهان وهي قد اختصت بقصر الفقرات وغرابة الكلمات. إنما كان الشعر
الغالب على كلامهم ، وكانت الخطابة بحالة ندور لندرة مقاماتها. قال عمر «كان الشعر
علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه» فانحصر تسابق جياد البلاغة في ميدان الكلام
المنظوم ، فلما جاء القرآن ولم يكن شعرا ولا سجع كهان ، وكان من أسلوب النثر أقرب
إلى الخطابة ، ابتكر للقول أساليب كثيرة بعضها تتنوع بتنوع المقاصد ، ومقاصدها
بتنوع أسلوب الإنشاء ، فيها أفانين كثيرة فيجد فيه المطلع على لسان العرب بغيته
ورغبته ، ولهذا قال الوليد بن المغيرة لما استمع إلى قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم : «والله ما هو بكاهن ، ما هو بزمزمته ولا سجعه ، وقد
عرفنا الشّعر كله رجزه وهزجه ، وقريضه ومبسوطه ، ومقبوضه ما هو بشاعر».
وكذلك وصفه أنيس
بن جنادة الغفاري الشاعر أخو أبي ذر حين انطلق إلى مكة ليسمع من النبي صلىاللهعليهوسلم ويأتي بخبره إلى أخيه فقال : «لقد سمعت قول الكهنة فما هو
بقولهم ، ولقد وضعته على أقراء الشّعر فلم يلتئم ، وما يلتئم على لسان واحد بعدي أنه شعر» ثم
أسلم. وورد مثل هذه الصفة عن عتبة بن ربيعة والنّضر بن الحارث ، والظاهر أن المشركين
لما لم يجدوا بدّا من إلحاق القرآن بصنف من أصناف كلامهم ألحقوه بأشبه
__________________
الكلام به فقالوا
إنه شعر تقريبا للدّهماء بما عهده القوم من الكلام الجدير بالاعتبار من حيث ما فيه
من دقائق المعاني وأحكام الانتظام والنفوذ إلى العقول ، فإنه مع بلوغه أقصى حد في
فصاحة العربية ومع طول أغراضه وتفنن معانيه وكونه نثرا لا شعرا ترى أسلوبه يجري
على الألسنة سلسا سهلا لا تفاوت في فصاحة تراكيبه ، وترى حفظه أسرع من حفظ الشعر.
وقد اختار العرب الشعر لتخليد أغراضهم وآدابهم لأن ما يقتضيه من الوزن يلجئ إلى
التدريب على ألفاظ متوازنة فيكسبها ذلك التوازن تلاؤما فتكون سلسة على الألسن ،
فلذلك انحصر تسابق جياد البلاغة في الكلام المنظوم ، وفحول الشعراء مع ذلك
متفاوتون في سلاسة الكلام مع تسامحهم في أمور كثيرة اغتفرها الناس لهم وهي المسماة
بالضرورات ، بحيث لو كان لواحد من البشر أن يتكلف فصاحة لما يقوله من كلام ويعاود
تنقيحه وتغيير نظمه بإبدال لكلمات أو بالتقديم لما حقه التأخير أو التأخير لما
حقّه التقديم ، أو حذف أو زيادة ، لقضى زمنا مديدا في تأليف ما يقدّر بسورة من
متوسط سور القرآن ، ولما سلم مع ذلك من جمل يتعثر فيها اللسان. ولم يدع مع تلك
الفصاحة داع إلى ارتكاب ضرورة أو تقصير في بعض ما تقتضيه البلاغة ، فبني نظمه على
فواصل وقرائن متقاربة فلم تفته سلاسة الشعر ولم ترزح تحت قيود الميزان ، فجاء
القرآن كلاما منثورا ولكنه فاق في فصاحته وسلاسته على الألسنة وتوافق كلماته
وتراكيبه في السلامة من أقلّ تنافر وتعثر على الألسنة. فكان كونه من النثر داخلا
في إعجازه ، وقد اشتمل القرآن على أنواع أساليب الكلام العربي وابتكر أساليب لم
يكونوا يعرفونها وإن لذلك التنويع حكمتين داخلتين في الإعجاز : أولا هما ظهور أنه من عند الله ؛ إذ قد تعارف الأدباء في كل عصر أن
يظهر نبوغ نوابغهم على أساليب مختلفة كلّ يجيد أسلوبا أو أسلوبين. الثانية أن يكون في ذلك زيادة التحدي المتحدّين به بحيث لا يستطيع
أحد أن يقول إن هذا الأسلوب لم تسبق لي معالجته ولو جاءنا بأسلوب آخر لعارضته.
نرى من أعظم
الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين
مقصديه وهما : مقصد الموعظة ومقصد التشريع ، فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما
يحتاجون أن يعلموه وهو في هذا النوع يشبه خطبهم ، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج
منه العالم الخبير أحكاما كثيرة في التشريع والآداب وغيرها ، وقد قال في الكلام
على بعضه : (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران : ٧]
هذا من حيث ما لمعانيه من العموم والإيماء إلى العلل والمقاصد وغيرها.
ومن أساليبه ما
أسمّيه بالتفنن وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذليل
والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرير الكلم ، وكذلك الإكثار من
أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية فهو في القرآن
كثير ، ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه
، ومن أبدع أمثله ذلك قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ
قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٧ ـ ٢٠]
بحيث كان أكثر أساليب القرآن من الأساليب البديعة العزيز مثلها في شعر العرب وفي
نثر بلغائهم من الخطباء وأصحاب بدائه الأجوبة. وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين
المنتقل منه والمنتقل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه
بانتقاله إلا عند حصوله. وذلك التفنن مما يعين على استماع السامعين ويدفع سآمة
الإطالة عنهم ، فإن من أغراض القرآن استكثار أزمان قراءته كما قال تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ
عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠]
فقوله (ما تَيَسَّرَ) يقتضي الاستكثار بقدر التّيسّر ، وفي تناسب أقواله وتفنن
أغراضه مجلبة لذلك التيسير وعون على التكثير.
نقل عن أبي بكر بن
العربي أنه قال في كتابه «سراج المريدين» : «ارتباط آي القرآن بعضها مع بعض حتى
تكون كالكلمة الواحدة متّسعة المعاني منتظمة المباني ، علم عظيم» ونقل الزركشي عن
عز الدين بن عبد السلام : «المناسبة علم حسن ويشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع
في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط ،
والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة ، وما كان كذلك
لا يتأتى ربط بعضه بعض».
وقال شمس الدين
محمود الأصفهاني في «تفسيره» نقلا عن الفخر الرازي أنه قال : «إن القرآن كما أنه معجز
بسبب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه هو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته ، ولعل الذين
قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك».
إن بلاغة الكلام
لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية ، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدي بها تلك
التراكيب. فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من
التشويق إلى ما
يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه ، فإذا كان من مواقع البلاغة
نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني ، فإنّ السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها
يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني ، وإن لم يكنه عينه ، مثاله قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ
رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٦]
فإنّ الوقف على قوله (موسى) يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبيّن حديث موسى ، فإذا
جاء بعده (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) إلخ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة (موسى) من
قرينة من قرائن الكلام لأنه على سجعة الألف مثل قوله : (طُوىً) ، (طَغى) [النازعات : ١٧] ،
(تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] ،
إلخ.
وقد بينت عند
تفسير قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] أنّك
إن وقفت على كلمة (رَيْبَ) كان من قبيل إيجاز الحذف أي لا ريب في أنّه الكتاب فكانت
جملة (فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ) ابتداء كلام وكان مفاد حرف (في) استنزال طائر المعاندين أي
إن لم يكن كلّه هدى فإنّ فيه هدى ، وإن وصلت (فِيهِ) كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدا أنّ هذا الكتاب
كلّه هدى.
ومن أساليب القرآن
العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل
ونحوه ، ومما عدل فيه عن تكرير الصيغة قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤]
فجاء بلفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان فلم يقل قلبا كما تجنبا لتعدد صيغة
المثنى.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَقالُوا ما فِي
بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩]
فروعي معنى ما الموصولة مرّة فأتى بضمير جماعة المؤنث وهو (خالِصَةٌ) ، وروعي لفظ ما الموصولة فأتي بمحرم مذكّرا مفردا.
إن المقام قد
يقتضى شيئين متساويين أو أشياء متساوية فيكون البليغ مخيرا في أحدهما وله ذكرهما
تفننا وقد وقع في القرآن كثير من هذا :
من ذلك قوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً) بواو العطف في سورة البقرة [٣٥] ، وقوله في الأعراف [١٩] (فَكُلا) بفاء التفريع وكلاهما مطابق للمقام فإنه أمر ثان وهو أمر
مفرع على الإسكان فيجوز أن يحكى بكل من الاعتبارين ، ومنه قوله في سورة البقرة
[٥٨] : (وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) وفي سورة الأعراف [١٦١] : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ
اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها) فعبر مرة
بادخلوا ومرة
باسكنوا ، وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع. وهذا التخالف بين الشيئين يقصد
لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب ، فلا تكون
إعادتها مجرد تذكير.
قال في «الكشاف» في تفسير قوله تعالى : (قالَ)(رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي
السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في سورة الأنبياء [٤] : «ليس بواجب أن يجاء بالآكد في كل
موضع ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في
غيره ليفتنّ الكلام افتنانا».
ومنها اتساع أدب
اللغة في القرآن. لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر ، فهو الذي يحفظ وينقل
ويسير في الآفاق ، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني ، وكان غيره من
الكلام عسير العلوق بالحوافظ ، وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها
وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر ، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل
وهي الملح والمديح. ولهم من غير الشعر الخطب ، والأمثال ، والمحاورات : فأما الخطب
فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء ، وإنما يبقي
في السامعين التأثّر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي
ووقتي. وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها ، وأما المحاورات
فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الاهمية بحيث تنقل وتسير ، ومنها محاورات
نواد وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتديات وهي التي أشار إليها
لبيد بقوله :
وكثيرة غرباؤها
مجهولة
|
|
ترجى نوافلها
ويخشى ذامها
|
غلب تشذّر
بالذّحول كأنها
|
|
جنّ البديّ
رواسيا أقدامها
|
أنكرت باطلها
ويؤت بحقهما
|
|
عندي ولم يفخر
عليّ كرامها
|
وتلك مثل مجامعهم
عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض ، إذ
لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات
مسجوعة مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد. فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد
صالح لكل العقول ، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها
__________________
معط لكل فن ما
يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة ، فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال (أي
الكلم الجوامع) والقصص والتوصيف والرواية.
وكان لفصاحة
ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة
في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع ، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ
خفيف الانتقال والسير في القبائل ، مع كون مادته ولحمته هي الحقيقة دون المبالغات
الكاذبة والمفاخرات المزعومة ، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه ، وذلك تأثير
روحاني وليس بلفظي ولا معنوي.
وقد رأيت المحسنات
في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب ، وخاصة الجناس كقوله : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
والطباق كقوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ
تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [الكهف : ١٠٤] وقد
ألف ابن أبي الإصبع كتابا في «بديع القرآن». وصار لمجيئه نثرا أدبا جديدا غضا
ومتناولا لكل الطبقات. وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه
بالسّحر وبالشّعر : (أَمْ يَقُولُونَ
شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠].
مبتكرات القرآن
هذا وللقرآن
مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.
فمنها أنه جاء على
أسلوب يخالف الشعر لا محالة ، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون ، وأنا أضم إلى ذلك
أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة ، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه
وتلاوته ، وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع
لطرائقها القديمة في الكلام.
وأعدّ من ذلك أنه
جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة ، شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية ،
فلم يأت بعمومات شأنها التخصيص غير مخصوصة ، ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة
، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة ، مثاله
قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) [النساء : ٩٥]
وقوله : (وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠] فبين
أن الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى ، وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣].
ومنها أن جاء على
أسلوب التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة
التبويب والتصنيف وقد أومأ إليها في «الكشاف» إيماء.
ومنها الأسلوب
القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة ، وفي تمثيل الأحوال ، وقد كان
لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب إذ كان فن القصص مفقودا من أدب العربية إلا نادرا
، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحيّة التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر
بها ، فلما جاء القرآن بالأوصاف بهت به العرب كما في سورة الأعراف [٤٤] من وصف أهل
الجنة وأهل النار وأهل الأعراف : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) إلخ وفي سورة الحديد [١٣] : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ) الآيات.
ومما يتبع هذا أن
القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا
على الصيغة التي صدرت فيها ، فهو إذا حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة
تبلغ حد الإعجاز بالعربية ، وإذا حكى أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب
المعبر مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم بل يحكى حاصل كلامهم ،
وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ ،
فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية.
ومن هذا القبيل
حكاية الأسماء الواقعة في القصص فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في
الكلام من الفصاحة مثل تغيير شاول إلى طالوت ، وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى
آزر.
وكذلك التمثيل فقد
كان في أدب العرب الأمثال وهي حكاية أحوال مرموز لها بتلك الجمل البليغة التي قيلت
فيها أو قيلت لها المسماة بالأمثال ، فكانت تلك الجمل مشيرة إلى تلك الأحوال ، إلا
أنها لمّا تداولتها الألسن في الاستعمال وطال عليها الأمد نسيت الأحوال التي وردت
فيها ولم يبق للأذهان عند النطق بها إلا الشعور بمغازيها التي تقال لأجلها.
أما القرآن فقد
أوضح الأمثال وأبدع تركيبها كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨]
وقوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي
بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحج : ٣١] وقوله
: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) إلى قوله : (فَما لَهُ مِنْ
نُورٍ) [النور : ٣٩]
وقوله : (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) [الرعد : ١٤].
لم يلتزم القرآن
أسلوبا واحدا ، واختلفت سوره وتفننت ، فتكاد تكون لكل سورة لهجة خاصة ، فإن بعضها
بني على فواصل وبعضها ليس كذلك. وكذلك فواتحها منها ما افتتح بالاحتفال كالحمد ، و
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٠٤] ،
و (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢]
، وهي قريب مما نعبر عنه في صناعة الإنشاء بالمقدّمات. ومنها ما افتتح بالهجوم على
الغرض من أول الأمر نحو : (الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] و (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١].
ومن أبدع الأساليب
في كلام العرب الإيجاز وهو متنافسهم وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم ، وقد جاء القرآن
بأبدعه إذ كان ـ مع ما فيه من الإيجاز المبيّن في علم المعاني ـ فيه إيجاز عظيم
آخر وهو صلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معان متعددة كلها تصلح لها العبارة
باحتمالات لا ينافيها اللفظ ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه ، وبعضها إن
كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر فتحريك الأذهان إليه وإخطاره بها يكفي في حصول
المقصد من التذكير به للامتثال أو الانتهاء. وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة
التاسعة. ولو لا إيجاز القرآن لكان ما يتضمنه من المعاني في أضعاف مقدار القرآن ،
وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدق عن تفطن العالم
ويزيد عن تبصره ، (وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤].
إنك تجد في كثير
من تراكيب القرآن حذفا ولكنك لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه من لفظ أو
سياق ، زيادة على جمعه المعاني الكثيرة في الكلام القليل ، قال في «الكشاف» في
سورة المدثر : «الحذف والاختصار هو نهج التنزيل» قال بعض بطارقة الروم لعمر بن
الخطاب لما سمع قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ). [النور : ٥٢] «قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى
من أحوال الدنيا والآخرة» ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] الآية
، جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين ، ومن ذلك قوله : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩]
مقابلا أوجز كلام عرف عندهم وهو «القتل أنفى للقتل» ومن ذلك قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا
سَماءُ أَقْلِعِي) [هود : ٤٤] ولقد
بسط السكاكي في «المفتاح» آخر قسم البيان نموذجا مما اشتملت عليه هذه الآية من
البلاغة والفصاحة ،
وتصدى أبو بكر
الباقلاني في كتابه المسمى «إعجاز القرآن» إلى بيان ما في سورة النمل من الخصائص
فارجع إليهما.
وأعد من أنواع
إيجازه إيجاز الحذف مع عدم الالتباس ، وكثر ذلك في حذف القول ، ومن أبدع الحذف
قوله تعالى : (فِي جَنَّاتٍ
يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٠ ـ ٤٣]
أي يتذاكرون شأن المجرمين فيقول من علموا شأنهم سألناهم فقلنا ما سلككم في سقر.
قال في «الكشاف» قوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ) ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين ، أي
إن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ا
ه.
ومنه حذف المضاف
كثيرا كقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ). [البقرة : ١٧٧] وحذف الجمل التي يدل الكلام على تقديرها
نحو قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] إذ
التقدير فضرب فانفلق. ومن ذلك الإخبار عن أمر خاص بخبر يعمه وغيره لتحصل فوائد :
فائدة الحكم العام ، وفائدة الحكم الخاص ، وفائدة أن هذا المحكوم عليه بالحكم
الخاص هو من جنس ذلك المحكوم عليه بالحكم العام.
وقد تتبعت أساليب
من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب ، مثال
ذلك قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) [الطلاق : ١٠]
فإبدال (رسولا) من (ذكرا) يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول ، وأن مجيء الرسول هو
ذكر لهم ، وأن وصفه بقوله (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ
آياتِ اللهِ) يفيد أن الآيات ذكر. ونظير هذا قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ
رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [البينة : ١ ، ٢]
الآية وليس المقام بسامح لإيراد عديد الأمثلة من هذا ، ولعله يأتي في أثناء
التفسير.
ومن بديع الإيجاز
في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين ، وهو يرجع إلى إيجاز الحذف ، والتضمين أن
يضمّن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من
متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان.
ومن هذا الباب ما
اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى الأمثال ، وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في
كلام بلغاء العرب ، وهو الذي لأجله عدت قصيدة زهير في «المعلقات» فجاء في القرآن
ما يفوق ذلك كقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلى شاكِلَتِهِ)
[الإسراء : ٨٤]
وقوله : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النور : ٥٣]
وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون : ٩٦].
وسلك القرآن مسلك
الإطناب لأغراض من البلاغة ومن أهم مقامات الإطناب مقام توصيف الأحوال التي يراد
بتفصيل وصفها إدخال الروع في قلب السامع وهذه طريقة عربية في مثل هذا كقول ابن
زيّابة :
نبّئت عمرا
غارزا رأسه
|
|
في سنة يوعد
أخواله
|
فمن آيات القرآن
في مثله قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ
التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ
بِالسَّاقِ) [القيامة : ٢٦ ـ
٢٩] وقوله : (فَلَوْ لا إِذا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعة : ٨٣ ،
٨٤] وقوله : (مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم : ٤٣].
ومن أساليب القرآن
المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها أنه يرد فيه استعمال اللفظ المشترك في
معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإرادة ما يصلح منها ، واستعمال
اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما ، وبذلك تكثر معاني
الكلام مع الإيجاز وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر ودالة على أنه
منزل من لدن العليم بكل شيء والقدير عليه. وقد نبهنا على ذلك وحققناه في المقدمة
التاسعة.
ومن أساليبه
الإتيان بالألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف حروفها أو اختلاف حركات حروفها وهو
من أسباب اختلاف كثير من القراءات مثل : وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن
إناثا [الزخرف : ١٩] قرئ (عند) بالنون دون ألف وقرئ (عباد) بالموحدة وألف بعدها ،
ومثل : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ
يَصِدُّونَ) [الزخرف : ٥٧] بضم
الصاد وكسرها. وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة السادسة.
واعلم أن مما
يندرج تحت جهة الأسلوب ما سماه أئمة نقد الأدب بالجزالة ، وما سمّوه بالرّقّة
وبينوا لكل منهما مقاماته وهما راجعتان إلى معاني الكلام ، ولا تخلو سورة من
القرآن من تكرر هذين الأسلوبين ، وكل منهما بالغ غايته في موقعه ، فبينما تسمعه
يقول : (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣]
ويقول : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] إذ
تسمعه يقول : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] قال
عياض في «الشفاء» : إن عتبة بن ربيعة لما سمع هذه الآية أمسك بيده على فم النبي صلىاللهعليهوسلم وقال له : ناشدتك الله والرّحم إلّا ما كففت.
عادات القرآن
يحق على المفسر أن
يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه. وقد تعرض بعض السلف لشيء منها ، فعن ابن عباس :
كل كأس في القرآن فالمراد بها الخمر ، وذكر ذلك الطبري عن الضحاك أيضا. وفي «صحيح البخاري» في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة : ما سمى الله مطرا
في القرآن إلا عذابا ، وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨].
وعن ابن عباس أن كل ما جاء من (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : ٢١]
فالمقصود به أهل مكة المشركون.
وقال الجاحظ في «البيان»
: «وفي القرآن معان لا تكاد تفترق ، مثل الصلاة والزكاة ، والجوع والخوف ، والجنة
والنار ، والرغبة والرهبة ، والمهاجرين والأنصار ، والجن والإنس» قلت : والنفع
والضر ، والسماء والأرض.
وذكر صاحب «الكشاف» وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد
إلا أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة ، ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد
والاعتراض لمناسبة التضاد ، ورأيت منه قليلا في شعر العرب كقول لبيد :
فاقطع لبانة من
تعرّض وصله
|
|
فلشرّ واصل خلة
صرّامها
|
وأحب المجامل
بالجزيل وصرمه
|
|
باق إذا ظلعت
وزاغ قوامها
|
وفي الكشاف في
تفسير تعالى : (فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ) [الصافات : ٥٠ ،
٥١] الآية : «جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره». وقال فخر الدين في تفسير
قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ
اللهُ الرُّسُلَ) من سورة العقود [١٠٩] : «عادة هذا الكتاب الكريم أنه إذا
ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال
الأنبياء وأحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع».
وقد استقريت بجهدي
عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها ، ومنها أن كلمة هؤلاء إذا لم
يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يراد بها
المشركون من أهل
مكة كقوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْتُ
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) [الزخرف : ٢٩]
وقوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها
هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام : ٨٩]
وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب «الكليات» في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني
الكلمات ، وفي «الإتقان» للسيوطي شيء من ذلك.
وقد استقريت أنا
من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ قال دون حروف عطف ،
إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى ، انظر قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها) إلى قوله : (أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٠ ـ ٣٣].
وأما الجهة الثالثة من جهات الإعجاز وهي ما أودعه من المعاني الحكمية
والإشارات العلمية فاعلموا أن العرب لم يكن لهم علم سوى الشعر وما تضمنه من
الأخبار. قال عمر بن الخطاب : «كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه».
إن العلم نوعان
علم اصطلاحي وعلم حقيقي ، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار
على أن صاحبه يعد في صف العلماء ، وهذا قد يتغير بتغير العصور ويختلف باختلاف
الأمم والأقطار ، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.
وأما العلم
الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان ، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك
الحقائق النافعة عاجلا وآجلا ، وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على
أهل زمانهم ، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه. وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء
العرب ، لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات
المختلفة ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن ، ولم
يقل إلا صدقا كما أشار إليه فخر الدين الرازي.
وقد اشتمل القرآن
على النوعين ، فأما النوع
الأول فتناوله قريب لا
يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرا فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب
ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم ، وقد أشار إلى هذا
القرآن بقوله : (وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ
تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ
كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٥ ـ
١٥٧] وقال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] ونحو
هذا من محاجة أهل
الكتاب. ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في «الشفاء» : «ما أنبأ به من أخبار
القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا
الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك فيورده النبي صلىاللهعليهوسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه كخبر موسى مع
الخضر ، ويوسف وإخوته ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، ولقمان» إلخ كلامه ، وإن كان
هو قد ساقه في غير مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به صلىاللهعليهوسلم مع ثبوت الأمّيّة ، ومن حيث محاجته إياهم بذلك. فأما إذا
أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن
أدبهم مشتملا على التاريخ إلا بإشارات نادرة ، كقولهم درع عاديّة ، ورمح يزنيّة ،
وقول شاعرهم :
أحلام عاد
وأجسام مطهّرة
|
|
وقول آخر :
|
تراه يطوّف
الآفاق حرصا
|
|
ليأكل رأس لقمان
بن عاد
|
ولكنهم لا يأبهون
بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة ، فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلا كقوله :
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) [الأحقاف : ٢١]
وكقوله : (فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] ولهذا
يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم
، وإنما ذكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود
وقوم تبع ، كما أشرنا إليه في المقدمة السابعة في قصص القرآن.
وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين : قسم يكفي لإدراكه
فهمه وسمعه ، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس
شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم ، وكلا
القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمّيّ في موضع لم يعالج أهله دقائق
العلوم ، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من
الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص : [٤٩ ـ ٥٠] (قُلْ فَأْتُوا
بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ
أَهْواءَهُمْ) ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة
، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألّفوه.
قال ابن عرفة عند
قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ) في سورة آل عمران [٢٧] : «كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل
على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه
الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها
سائر العوام» أقول : وكذلك قوله تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠].
فمن طرق إعجازه
العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال ، قال في «الشفاء» : «ومنها جمعه لعلوم ومعارف
لم تعهد للعرب ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم
فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، والتنبيه على طرق الحجة العقلية ، والرد على فرق
الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
وقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١].
ولقد فتح الأعين
إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) [يس : ٧٠] وقوله :
(يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧]
وقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣]
وقال : (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩].
وهذا النوع من
الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي
قال في «الموافقات» : «إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأوّل إلّا على ما هو
متعارف عند العرب» ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين
اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت ، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل
العصور ، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ
عجزوا عن معارضته ، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة ، فهذا إعجاز
إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن.
وقد بيّنت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة.
وقد بدت لي حجة
لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي ـ أو
أعطي ـ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله
إليّ وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه :
الأولى أن قوله : «ما مثله آمن عليه البشر»
اقتضى أن كل نبيء
جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه فيؤمنون على مثل تلك
المعجزة ، «ومعنى آمن» عليه أي لأجله وعلى شرطه ، كما تقول على هذا يكون عملنا أو
اجتماعنا ،
الثانية أن قوله : «وإنما
كان الذي أوتيت وحيا» اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل
الأوّلين أفعالا لا أقوالا ، كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر ، وإبراء الأكمه
والأبرص ، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله
من جهتي اللفظ والمعاني ، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر
ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله : «فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا» إذ قد عطف
بالفاء المؤذنة بالترتب ، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون
أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين
يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء
تابعا لا محالة ، وقد تحقق ذلك لأن المعنيّ بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق
لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول ، ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم
تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع الأنبياء كلهم ، وقد أغفل بيان وجه التفريع في
هذا اللفظ النبوي البليغ.
وهذه الجهة من
الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته
ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز ، ولذلك فهو إعجاز حاصل من
القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
وإعجازه من هذه
الجهة للعرب ظاهر ، إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا
قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩]
وإعجازه لعامة الناس أن تجىء تلك العلوم من رجل نشأ أمّيّا في قوم أميين ، وإعجازه
لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا ، ولا قبل لهم بأن
يدّعوا أنهم علّموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان
مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين ، ولأنه جاء بنسخ دين
اليهودية والنصرانية ، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم ، فلو كان قد تعلم
منهم لأعلنوا ذلك وسجّلوا عليه أنه عقهم حق التعليم.
وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد
ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من دلائل كون القرآن منزلا من عند الله ،
وإن كان ذلك
ليس له مزيد تعلق
بنظم القرآن ودلالة فصاحته وبلاغته على المعاني العليا ، ولا هو كثير في القرآن ،
وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله. وقد جاء
كثير من آيات القرآن بذلك منها قوله : (الم غُلِبَتِ
الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢]
الآية روى الترمذي في تفسيرها عن ابن عباس قال كان المشركون يحبون أن يظهر أهل
فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم لأنهم
أهل كتاب فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ١ ـ ٤]
فخرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة ، فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على ذلك؟
قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان ، فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس
وأسلم عند ذلك كثير من قريش. وقوله : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً) [النور : ٥٥]
وقوله : (لِتَرْكَبُوها
وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨] فما
حدث بعد ذلك من المراكب منبّأ به في هذه الآية. وقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] نزلت
قبل فتح مكة بعامين. وقوله : (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) [الفتح : ٢٧].
وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدّي به في قوله تعالى في شأن القرآن : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) إلى قوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤]
فسجل أنهم لا يفعلون ذلك أبدا وكذلك كان ، كما بيناه آنفا في الجهة الثالثة.
وكأنك بعد ما
قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديرا على الحكم في اختلف فيه أئمة علم الكلام من
إعجاز القرآن للعرب هل كان بما بلغه من منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وما
احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تقف بها عدة ، ويزيدها النظر مع طول
الزمان جدة ، فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات
القرآن تتحملها بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا لعلّام الغيوب وهو مذهب
المحققين ، أو كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن الإتيان بمثله وأنه لو
لا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه مما يدخل تحت مقدور
البشر ، ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري وهو منقول في «شرح التفتازانيّ على
المفتاح» عن النظام
وطائفة من المعتزلة ، ويسمى مذهب أهل الصرفة ، وهو الذي قال به ابن حزم في كتابه
في «الملل
والنحل». والأول هو
الوجه الذي اعتمده أبو بكر الباقلاني في كتابه
«إعجاز القرآن» ، وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به ، وعلى
اعتباره دوّن أئمة العربية علم البلاغة ، وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على
التفصيل دون الإجمال ، فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال.
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
١ ـ سورة الفاتحة
سورة الفاتحة من
السور ذات الأسماء الكثيرة ، أنهاها صاحب «الإتقان» إلى نيف وعشرين بين ألقاب
وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من
أسمائها إلا فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، وأم القرآن ، أو أم الكتاب ، فلنقتصر
على بيان هذه الأسماء الثلاثة.
فأما تسميتها
فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وفاتحة مشتقة من
الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولوجه فصيغتها تقتضي أنّ موصوفها شيء يزيل
حاجزا ، وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول
بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل ، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى
الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب ، والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة : ٨]
وكذلك الطاغية في قوله تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ
فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] في
قول ابن عباس أي بطغيانهم. والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق. وإنما سمي
أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول لأن الآتي على وزن فاعلة بالمصدر الفتح
يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر ، وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل
ثم جعلت اسما لأول الشيء ، إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على
الفتح ، فالأصل فاتح الكتاب ، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من
الوصفيّة إلى الاسمية أي إلى معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة
لا على ذي وصف ، مثل الغائبة في قوله تعالى : (وَما مِنْ غائِبَةٍ
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [النمل : ٧٥] ومثل
العافية والعاقبة قال التفتازانيّ في «شرح الكشاف» : «ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت
التاء للنقل من الوصفيّة إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل ، يعني
لأنهم يقولون
فاتحة وخاتمة دائما في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة ، وذلك كقولهم
فلان خاتمة العلماء ، وكقول الحريري في المقامة الأولى : «أدّتني خاتمة المطاف
وهدتني فاتحة الألطاف». وأيّا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة
الأسماء الجنسية ، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه
السورة.
ومعنى فتحها
الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل
النبوي في ترتيب السور ، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في «الصحيح» واستفاض أن أول ما أنزل سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] ،
وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه. فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر
الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته.
وإضافة سورة إلى
فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة
الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى (الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٢ ـ ٧]
، بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي
سورة ذكر كذا ، وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك
ويوم الأحد وعلم الفقه ، ونراها قبيحة لو قال قائل إنسان زيد ، وذلك باد لمن له
أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه
الإضافة وبين ما هو قبيح فكان حقا أن أبيّن وجهه : وذلك أن إضافة العام إلى الخاص
تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني ، فهنا لك يجوز
التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار ، ثم تكسبها غلبة
الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك ، عوضا عن أن يقولوا الشجر الذي هو الأراك ،
ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا يوم هو الأحد وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم
يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان ؛ فأما إذا كان أحد المتضايفين غير اسم
جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال إنسان زيد ولهذا جعل قول الناس : شهر رمضان
علما على الشهر المعروف بناء على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى
آخر ، فتعيّن أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لو لا أنه شاع حتى
صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر.
ويصح عندي أن تكون
إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم مسجد الجامع ،
وعشاء الآخرة ، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب
فتكون الإضافة
بيانية ، ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف ، كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب
بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا ، ثم يضيفونه فيقولون باب جامع الصلاة. وأما
إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة
المسماة الفاتحة ، كما نقول : خطبة التأليف ، وديباجة التقليد.
وأما تسميتها أم
القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة ، من ذلك ما في «صحيح البخاري» في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ
عليه بأم القرآن ، وفي الحديث قصة ، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل
الشيء ومنشئة ، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» أي منقوصة
مخدوجة.
وقد ذكروا لتسمية
الفاتحة أمّ القرآن وجوها ثلاثة : أحدها : أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه ، يعني أن افتتاحه
الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ
فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشإ من حيث ابتداء
الظهور والوجود.
الثاني
: أنها تشتمل
محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا
لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه عن جميع النقائص ، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات
البعث والجزاء وذلك من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله : ملك يوم الدين ، والأوامر والنواهي من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، والوعد والوعيد من قوله : (صِراطَ الَّذِينَ) إلى آخرها ، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله ، وغيرها
تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل
بالأوامر والنواهي ، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله
الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ، ولما توقف تمام الامتثال على
الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على
هاته الأنواع فإن قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله : (يَوْمِ الدِّينِ) حمد وثناء ، وقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى قوله : (الْمُسْتَقِيمَ) من نوع الأوامر والنواهي ، وقوله : (صِراطَ الَّذِينَ) إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) و (الضَّالِّينَ) يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن ، وقد يؤيد هذا الوجه بما
ورد في الصحيح في : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) [الإخلاص : ١]
أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها أثناء على الله تعالى.
الثالث
: أنها تشتمل
معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني
القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها ، فالعلوم كالتوحيد
والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص ، والأحكام إما عمل الجوارح
وهو العبادات والمعاملات ، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب
الشريعة ، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام
ف (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد
له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) من اختصاص جنس
الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و (رَبِّ الْعالَمِينَ) يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها ، و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين ومالك يوم
الدين يشمل أحوال القيامة ، و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يجمع معنى الديانة والشريعة ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال.
قال عز الدين بن
عبد السلام في كتابه «حل الرموز ومفاتيح الكنوز» : الطريقة إلى الله لها ظاهر (أي
عمل ظاهر أي بدني) وباطن (أي عمل قلبي) فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة ، والمراد
من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف. ويجمع الشريعة
والحقيقة كلمتان هما قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فإياك نعبد شريعة وإياك نستعين حقيقة ، ا ه.
و (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب
، و (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة ، وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ) يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم
المحكية عنهم في القرآن ، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة ـ تصريحا وتضمنا ـ علم
إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على
حسب التمكن والقابلية. ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا
على التذكر لما في مطاويها.
وأما تسميتها
السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة ، ففي «صحيح البخاري» عن أبي سعيد ابن المعلّى «أن رسول الله قال
: (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني
__________________
والقرآن العظيم
الذي أوتيته» ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن
ذلك إلا الحسن البصري فقال : هي ثمان آيات ، وإلا الحسين الجعفي فقال : هي ست آيات ، وقال بعض الناس : تسع آيات
ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عدّ البسملة أدمج
آيتين.
وأما وصفها
بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنّى بضم الميم وتشديد النون ، أو مثنى مخفف مثنّى ، أو
مثنى بفتح الميم مخفف مثنى كمعنى مخفف معني ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد
الجرجاني في «شرح الكشاف» وكل ذلك مشتق من التثنية وهي بضم ثان إلى أول.
ووجه الوصف به أن
تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في «الكشاف». قيل : وهو مأثور عن عمر بن الخطاب ،
وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة ، ولعل التسمية بذلك كانت
في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرّت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر
كذا ثبت في حديث عائشة في «الصحيح» وقيل : العكس.
وقيل : لأنها تثنى
في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من
استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو (ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤]
وقولهم لبيك وسعديك ، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في
قوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً
مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] أي
مكرر القصص والأغراض ، وقيل : سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم
نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرّر النزول لا يعتبر قائله ، وقد اتّفق على
أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة.
وهذه السورة وضعت
في أول السّور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب ، مع ما تضمنته من
أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا وذلك شأن الديباجة من
__________________
براعة الاستهلال.
وهذه السورة مكية
باتفاق الجمهور ، وقال كثير إنها أول سورة نزلت ، والصحيح أنه نزل قبلها : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] وسورة
المدثر ثم الفاتحة ، وقيل نزل قبلها أيضا : (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] وسورة
المزمل ، وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة ، بخلاف سورة القلم ،
وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند
فرضها ، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور.
وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي صلىاللهعليهوسلم فاتحة الكتاب وأمر بأن تكون أول القرآن.
قلت : ولا يناكد
ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به
كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب.
وأغراضها قد علمت
من بيان وجه تسميتها أم القرآن.
وهي سبع آيات
باتفاق القراء والمفسرين ، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري ، قال هي ثمان آيات ،
ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي قال هي ست آيات ، ونسب إلى بعضهم غير معيّن أنها تسع آيات
، وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث «الصحيحين» عن أبي هريرة أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله عزوجل ، قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها
لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فأقول : حمدني عبدي ، فإذا قال : العبد (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، يقول الله : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال العبد : ملك يوم
الدين ، قال الله : مجّدني عبدي ، وإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٢ ـ ٧]
، قال الله : هؤلاء لعبدي ولعبد ما سأل» ا ه. فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث ، فعند
أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد : (أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ) آية ، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) جزء آية ، والحسن البصري عد البسملة آية وعد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية.
__________________
[١ ـ ٧] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))
الكلام على البسملة
[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١).
البسملة اسم لكلمة
باسم الله ، صيغ هذا الاسم على مادّة مؤلفة من حروف الكلمتين باسم والله على طريقة
تسمى النّحت ، وهو صوغ فعل مضي على زنة فعلل مؤلفة مادّته من حروف جملة أو حروف
مركّب إضافيّ ، مما ينطق به الناس اختصارا عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة
دوران ذلك على الألسنة. وقد استعمل العرب النحت في النّسب إلى الجملة أو المركب
إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس ، كما قالوا في النسبة إلى عبد
شمس عبشميّ خشية الالتباس بالنسب إلى عبد أو إلى شمس ، وفي النسبة إلى عبد الدار
عبدريّ كذلك وإلى حضر موت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة (أي النسب) إلى المضاف
من الأسماء : «وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسما بمنزلة جعفري ويجعلون فيه من حروف
الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف» ا ه ، فجاء من خلفهم من مولدي العرب
واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار
، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية. قال الراعي :
قوم على الإسلام
لمّا يمنعوا
|
|
ما عونهم
ويضيّعوا التهليلا
|
أي لم يتركوا قول
: لا إله إلا الله. وقال عمر بن أبي ربيعة :
لقد بسملت ليلى
غداة لقيتها
|
|
ألا حبّذا ذاك
الحبيب المبسمل
|
أي قالت بسم الله
فرقا منه ، فأصل بسمل قال بسم الله ثم أطلقه المولدون على قول بسم الله الرحمن
الرحيم ، اكتفاء واعتمادا على الشهرة وإن كان هذا المنحوت خليّا من الحاء والراء
اللذين هما من حروف الرحمن الرحيم ، فشاع قولهم بسمل في معنى قال بسم الله الرحمن
الرحيم ، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هلّل مصدر هو الهيللة وهو
مصدر قياسي لفعلل. واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي
ربيعة ولم يسمع
اشتقاق اسم مفعول.
ورأيت في «شرح ابن هارون
التونسي على مختصر ابن الحاجب» في باب الأذان عن المطرز في كتاب «اليواقيت» : الأفعال التي نحتت من أسمائها سبعة : بسمل في بسم الله
، وسبحل في سبحان الله ، وحيعل في حي على الصلاة ، وحوقل في لا حول ولا قوة إلا
بالله ، وحمدل في الحمد لله ، وهلّل في لا إله إلا الله ، وجيعل إذا قال : جعلت
فداك ، وزاد الطّبقلة في أطال الله بقاءك ، والدّمعزة في أدام الله عزك.
ولما كان كثير من
أئمة الدين قائلا بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على
المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور. وينحصر الكلام
عليها في ثلاثة مباحث. الأول
: في بيان أهي آية
من أوائل السور أم لا؟. الثاني
: في حكم الابتداء
بها عند القراءة. الثالث في تفسير معناها المختص بها.
فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [النمل : ٣٠] كما
أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في
الإسلام ، وروي فيه حديث : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو
أقطع» لم يروه أصحاب «السنن» ولا «المستدركات» ، وقد وصف بأنه حسن ، وقال الجمهور إن البسملة رسمها
الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة ، كما يؤخذ من محادثة ابن
عباس مع عثمان ، وقد مضت في المقدمة الثامنة ، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف
في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها ، وإنما اختلفوا في أن
البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة ، بمعنى أن الاختلاف
بينهم ليس في كونها قرآنا ، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد
في «البداية» ، فذهب مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة ـ
وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة ـ إلى أنها ليست بآية
من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل ، وذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد
وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة ، إلى أنها آية في
__________________
أول سورة الفاتحة
خاصة ، وذهب عبد الله بن المبارك والشافعي في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها
آية من كل سورة. ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء ، وأخذ منه صاحب «الكشاف» أنها ليست من السور عنده فعدّه في الذين قالوا بعدم
جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه. قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع
الفاتحة في الصلاة الجهرية وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في
الركعتين الأوليين. وأزيد فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئا عن
القراءة.
أما حجة مذهب مالك
ومن وافقه فلهم فيها مسالك : أحدها من طريق النظر ، والثاني من طريق الأثر ،
والثالث من طريق الذوق العربي.
فأما المسلك الأول : فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني
وتابعه أبو بكر ابن العربي في «أحكام
القرآن» والقاضي عبد
الوهاب في كتاب «الإشراف» ، قال الباقلاني : «لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق
إثباتها إما التواتر أو الآحاد ، والأول : باطل لأنه لو ثبت
بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين
الأمّة ، والثاني
: أيضا باطل لأن
خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن
كونه حجة يقينية ، ولصار ذلك ظنيا ، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن
دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف» ا ه وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية
التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال
لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها. زاد أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» فقال : يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها ،
والقرآن لا يختلف فيه ا ه. وزاد عبد الوهاب فقال : «إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين القرآن بيانا واحدا متساويا ولم تكن عادته في بيانه
مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان ؛ ولذلك قطعنا بمنع أن يكون
شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حمل جمل عند الإمام
المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول الله بيانا شافيا» ا ه.
وقال ابن العربي في «العارضة» : إن القاضي أبا بكر بن الطيب ، لم يتكلم من الفقه إلا في
هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول.
وقد عارض هذا
الدليل أبو حامد الغزالي في «المستصفى» فقال : «نفي كون البسملة من القرآن أيضا إن ثبت بالتواتر
لزم أن لا يبقى الخلاف (أي وهو ظاهر البطلان) وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنيا ،
قال : ولا يقال : إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا
يحتاج إلى الإثبات
لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن ، لأنّا نجيب بأن هذا وإن كان عدما إلا أن
كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فههنا لا يمكننا الحكم
بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو ، فثبت أن
الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا ه ، وتبعه على ذلك الفخر الرازي في «تفسيره» ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع
استدلال الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف ، وسنتكلم عن تحقيق ذلك
عند الكلام على مدرك الشافعي. وتعقب ابن رشد في «بداية المجتهد» كلام الباقلاني والغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به.
وأما المسلك الثاني : وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن
البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة :
الدليل
الأول : ما روى مالك في «الموطأ» عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي
هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي
فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فأقول : حمدني عبدي» إلخ ، والمراد في الصلاة القراءة في
الصلاة ووجه الدليل منه أنه لم يذكربسم الله الرحمن الرحيم.
الثاني
: حديث أبيّ بن كعب في «الموطأ» و«الصحيحين» أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : «ألا أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في
الإنجيل مثلها قبل أن تخرج من المسجد»؟
قال : بلى ، فلما
قارب الخروج قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبيّ فقرأت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) حتى أتيت على آخرها ، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها
البسملة.
الثالث
: ما في «صحيح
مسلم» و«سنن أبي داود» و«سنن
النسائي» عن أنس بن مالك
من طرق كثيرة أنه قال : صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد
لله رب العالمين لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) ، لا في أول قراءة ولا في
آخرها.
الرابع
: حديث عائشة في «صحيح مسلم» و«سنن
أبي داود» قالت : كان رسول
الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد الله رب العالمين.
الخامس
: ما في «سنن
الترمذي والنسائي» عن عبد الله بن مغفل قال : صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع
أحدا منهم يقول : (بسم الله الرحمن الرحيم) ، إذا أنت صليت فقل (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
السادس
ـ وهو الحاسم ـ :
عمل أهل المدينة ، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول
الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ
(بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة الجهرية ، وهل يقول عالم أن بعض السورة جهر
وبعضها سر ، فقد حصل التواتر بأن النبي والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية ، فدل
على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها.
وهناك دليل آخر لم
يذكروه هنا وهو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو معتبر مرفوعا إلى النبي ، وذلك قوله : «ففجئه الملك
فقال : اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارئ ـ إلى أن قال ـ فغطني الثالثة ثم قال
: (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١]
الحديث. فلم يقل فقال لي بسم الله الرحمن الرحيم (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء
الوحي.
وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه
على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة ، وذلك يوجب أن
يتكرر لفظان وهما (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في
باب البلاغة ، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في «تفسيره» وأجاب عنه بقوله : إن التكرار لأجل التأكيد كثير في
القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات. وأنا أدفع جوابه بأن
التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل ، ومقام الرثاء أو
التعديد أو التوكيد اللفظي ، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا
سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما ، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن
يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير
عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير ، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرّرين
بعدا يقصيه عن السمع ، وقد علمت أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار
، والقرب بين الرحمن والرحيم حين كررا يمنع ذلك.
وأجاب البيضاوي
بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد ، فقال السلكوتي
أشار بهذا إلى
الرد على ما قاله بعض الحنفية : إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو
جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضيا بذكر صفتي (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من
هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا : (بسم الله الحمد لله إلخ).
وأنا أرى في
الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية
من كل سورة فينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن كلّها متماثلة وذلك مما
لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح ، بل قد عد علماء
البلاغة أهمّ مواضع التأنق فاتحة الكلام وخاتمته ، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها
واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يدّعى أن فواتح سورة جملة واحدة
، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم
ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام.
وأما حجة مذهب
الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين
إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع
وضعيف السند أو واهيه إلا أمران : أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن
النبي عليه الصلاة والسلام قال : «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقول أم سلمة قرأ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الفاتحة وعدّ : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آية. الثاني :
الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله.
والجواب : أما عن
حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه
والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة ، وأما حديث أم سلمة
فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي ، وصحيح بعض
طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة ، ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة
من أم سلمة ، يعني أنه مقطوع ، على أنه روى عنها ما يخالفه ، على أن شيخ الإسلام
زكرياء قد صرح في «حاشيته على تفسير البيضاوي» بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما
روي بألفاظ تدل على أن (بِسْمِ اللهِ) آية وحدها ، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة ، على أن هذا
يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون.
وأما عن الإجماع
على أن ما بين الدفتين كلام الله ، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا
لا نزاع فيه ، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها ،
فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة.
وهذا كله بناء على
تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك
من صنع المتأخرين وهو صريح كلام عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي» ، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام
المفسرين والأصوليين والقراء كما في «لطائف الإشارات» للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا
يجرءون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذ بالكتابة باطل من أصله
ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحبر القرآن ، يرده أن المشاهد في مصاحف
السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشيا.
وقد احتج بعضهم
بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي؟ فقال كانت مدّا ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد (بِسْمِ اللهِ) ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم ، ا ه ، ولا حجة في هذا لأن
ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى أنس ، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية
القراءة لشهرة البسملة.
وحجة عبد الله بن
المبارك وثاني قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال : «بينا رسول الله بين أظهرنا
ذات يوم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال :
أنزلت عليّ سورة آنفا فقرأبسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١]
السورة ، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها
في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ولذلك لم يكتبوا آمين
في الفاتحة.
والجواب عن الحديث
أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة
لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقدير أستعيذ باسم الله وحذف متعلق الفعل
، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنسا بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع
رسول الله بسمل في الصلاة. فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته
اضطرابا يوجب سقوطها.
والحق البين في
أمر البسملة في أوائل السور ، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون
الفصل مناسبا
لابتداء المصحف ، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن ، وقد روى أبو داود في «سننه» والترمذي وصححه عن ابن عباس أنه قال : قلت لعثمان بن عفان
: «ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني
فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطرابسم الله الرحمن الرحيم» ، قال
عثمان كان النبي لما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له ضع هذه
الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل
ذلك ، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما أنزل
من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها ،
فظننت أنها منها ، فمن هناك وضعتها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطربسم الله
الرحمن الرحيم».
وأرى في هذا دلالة
بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غير الأنفال وبراءة إلا حين جمع القرآن في
مصحف واحد زمن عثمان ، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها
زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة
الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وعلى أن البسملة
مختلف في كونها آية من أول كل سورة غير براءة ، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط ،
أو ليست بآية من أول شيء من السور ؛ فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند
الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة. ورووا ذلك عمن تلقّوا ، فأما الذين منهم
يروون اجتهادا أو تقليدا أن البسملة آية من أول كل سورة غير براءة ، فأمرهم ظاهر ،
وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها ، وأما
الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم
البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها
تعلّل بالتيمن باقتفاء أثر كتّاب المصحف ، أي قصد التشبه في مجرد ابتداء فعل
تشبيها لابتداء القراءة بابتداء الكتابة. فتكون قراءتهم البسملة أمرا مستحبا
للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف ، فقراءة البسملة عند هؤلاء
نظير النطق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور من آخر المفصّل ، ولا
يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة ، وهؤلاء إذا قرءوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم
على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد. وبهذا تعلم أنه لا
ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قول لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب «الكشاف» والبيضاوي.
واختلفوا في قراءة
البسملة في غير الشروع في قراءة سورة من أولها ، أي في قراءة البسملة بين
السورتين.
فورش عن نافع في
أشهر الروايات عنه وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف ، لا يبسملون
بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبّه بفعل كتّاب المصحف خاص بالابتداء ، وبحملهم
رسم البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل ، إذ لو كانت
البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة ،
فكان صنيعهم وجيها لأنهم جمعوا بين ما رووه عن سلفهم وبين دليل قصد التيمن ، ودليل
رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة.
وقالون عن نافع
وابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال
وبراءة ، وعدوه من سنة القراءة ، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم ، إذ ليس
جميعهم من أهل الاجتهاد ، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كتّاب المصحف في
الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها.
واتفق المسلمون
على ترك البسملة في أول سورة براءة وقد تبين وجه ذلك آنفا ، ووجّهه الأئمة بوجوه
أخر تأتي في أول سورة براءة ، وذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» أن مؤرّجا السّدوسي البصري سمع رجلا يقول : «أمير المؤمنين
يردّ على المظلوم» فرجع مؤرج إلى مصحفه فردّ على براءةبسم الله الرحمن الرحيم ،
ويحمل هذا الذي صنعه مؤرج ـ إن صح عنه ـ إنما هو على التمليح والهزل وليس على
الجد.
وفي هذا ما يدل
على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلا كما
تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة ، فإن قراءتها في الصلاة
تجري على أحكام النظر في الأدلة ، وليس مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه ،
وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام
رواية القرآن من تواتر ودونه ، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير ، فالقارئ يقرأ كما
روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرؤه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم ، فالقراء
تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد ، ويوضح غلط من ظن
أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء ، كما يوضح
__________________
تسامح صاحب «الكشاف» في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء. وإنما اختلف
المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها ، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم
غالبا في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في
المسائل ، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشايخهم بين أهل ذلك العصر ولو
من قبل ظهور المجتهد مثل سبق نافع بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول
مالك بعدم جزئيتها ؛ لأن مالكا تلقى أدلة نفي الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو
عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم ، وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا
لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقا علينا أن لا نتعرض
لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل [٣٠] : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا
الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين.
واعلم أن متعلق
المجرور في (بِسْمِ اللهِ) محذوف تقديره هنا أقرأ ، وسبب حذف متعلق المجرور أن
البسملة سنة عند ابتداء الأعمال الصالحة فحذف متعلق المجرور فيها حذفا ملتزما
إيجازا اعتمادا على القرينة ، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر
بقوله : (فَأَلْقَوْا
حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) [الشعراء : ٤٤]
وذكر صاحب «الكشاف» أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم : «باسم اللات
باسم العزّى» فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفا مستقرا
مثل الظروف التي تقع أخبارا ، ودليل المتعلق ينبئ عنه العمل الذي شرع فيه فتعين أن
يكون فعلا خاصا من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلّق العام مثل
أبتدئ لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة
فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل ، ولا يجري في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل
يقدر اسما نحو كائن أو مستقر أم فعلا نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف
الواقعة أخبارا أو أحوالا بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في
الأخبار والحالية ، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف
لغو ، والأصل فيه أن يعدى الأفعال ويتعلق بها ، ولأن مقصد المبتدئ بالبسملة أن
يكون جميع عمله ذلك مقارنا لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر
__________________
متعلق الجار لفظا
دالا على الفعل المشروع فيه. وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل ، فالابتداء من
هذه الجهة أقل عموما ، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه
أن يلغز به. وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمعرّس
«بالرفاء والبنين» وقول المسافر عند حلوله وترحاله «باسم الله والبركات» وقول
نساء العرب عند ما يزففن العروس «باليمن والبركة وعلى الطائر الميمون» ولذلك كان
تقدير الفعل هاهنا واضحا. وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليبتدئ
بها كلّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه ، والحذف من قبيل
الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام ، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو
عندك خير ، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله
:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
من المساواة دون
الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق. وإذ قد كان المتعلق محذوفا تعين أن يقدر
في موضعه متقدّما على المتعلّق به كما هو أصل الكلام ؛ إذ لا قصد هنا لإفادة
البسملة الحصر ، ودعوى صاحب «الكشاف» تقديره مؤخرا تعمق غير مقبول ، لا سيما عند حالة الحذف ،
فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل.
والباء باء
الملابسة والملابسة ، هي المصاحبة ، وهي الإلصاق أيضا فهذه مترادفات في الدلالة
على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠]
وقولهم : «بالرفاء والبنين» وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها ، قال سيبويه
: الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب «الكشاف» : «وهذا
الوجه (أي الملابسة) أعرب وأحسن» أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية
وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى.
والاسم لفظ جعل
دالا على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها ، وجعله أئمة البصرة مشتقا من السمو
وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل الاسم في كلام العرب
هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به ، وهذا اعتداد بالأصل والغالب ، وإلا
فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا فجار علم للفجرة.
__________________
فأصل صيغته عند
البصريين من الناقص الواوي فهو إما سمو بوزن حمل ، أو سمو بوزن قفل فحذفت اللام
حذفا لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي ، لأنه
لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدرا على الحرف المحذوف كما في نحو قاض
وجوار ، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكنا نقلوا سكونه للمتحرك
وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن ؛ إذ العرب لا تستحسن الابتداء
بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف ، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطرا ثانيا من
التخفيف وهو عود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيد
ودم لا تخلو من ثقل ، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف
وإلا لاجتلبوها في يد ودم وغد.
وقد احتجوا على أن
أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال ، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو
المتطرفة إثر ألف الجمع ، وبأنه جمع على أساميّ وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام
ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافي وأماني ، وبأنه صغّر على سمي.
وأن الفعل منه سمّيت ، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي. وبأنه يقال سمى
كهدى ؛ لأنهم صاغوه على فعل كرطب فتنقلب الواو المتحركة ألفا إثر الفتحة وأنشدوا
على ذلك قول أبي خالد القناني الراجز :
والله أسماك
سمّى مباركا
|
|
آثرك الله به
إيثاركا
|
وقال ابن يعيش :
لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال ،
ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك. وعندي فيه أن الكتابة لا
تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصورا ، على أن قياسها
الكتابة بالألف مطلقا لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. ورأي
البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. وذهب الكوفيون إلى أن أصله وسم بكسر
الواو لأنه من السمة وهي العلامة ، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على
ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل ، وكأنهم رأوا أن لا
__________________
وجه لاشتقاقه من
السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمت وجه الجواب ، ورأي الكوفيين أرجح
من جانب الاشتقاق دون التصريف ، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره
وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب
المكاني بأن يكون أصل اسم وسم ، ثم نقلب الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاما
ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله ،
وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر
تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة. وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي
التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره. وزعم ابن حزم في كتاب «الملل
والنحل» أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن
لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة ، وقد قال
تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣].
وإنما أقحم لفظ
اسم مضافا إلى علم الجلالة إذ قيل (بسم الله) ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون
الفعل المشروع فيه من شئون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم
كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨]
وقال : (وَما لَكُمْ أَلَّا
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩]
وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] فاسم
الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته ، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله
لأنه حينئذ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيرا وتصرفا من تصرفات قدرته وليس ذلك
هو المقصود بالشروع ، فقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤]
أمر بأن يقول سبحان الله ، وقوله : (وَسَبِّحْهُ) [الإنسان : ٢٦]
أمر بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص ، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال
سمات الإبل عند القبائل ، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم ، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه. والخلاصة أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد
الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها)
__________________
[هود : ٤١] وفي
الحديث في دعاء الاضطجاع : «باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه» وكذلك المقام الذي
يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي قل سبحان الله : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وكل
مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسئول إلى علم الذات
باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى : (فَاسْجُدْ لَهُ) [الإنسان : ٢٦]
وقوله في الحديث : «اللهم بك نصبح وبك نمسي» أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي
يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى : (فَاسْجُدْ لَهُ
وَسَبِّحْهُ) أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص. فمعنى (بسم الله الرحمن
الرحيم) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك.
هذا وقد ورد في
استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول
النابغة :
نبئت زرعة
والسفاهة كاسمها
|
|
يهدى إليّ غرائب
الأشعار
|
يعني أن السفاهة
هي هي لا تعرّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].
أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحما زائدا كما في قول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
يعني ثم السلام
عليكما وليس هذا خاصا بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦]
وكذلك «لفظ» في قول بشار هاجيا :
وكذاك ، كان
أبوك يؤثر بالهني
|
|
ويظل في لفظ
النّدى يتردّد
|
وقد يطلق الاسم
وما في معناه كناية عن وجود المسمى ، ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ
سَمُّوهُمْ) [الرعد : ٣٣]
والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضع أسماء لهم. فهذه إطلاقات أخرى ليس ذكر اسم
الله في البسملة من قبيلها ، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير
البسملة ، ذكرتها هنا توضيحا ليكون نظركم فيها فسيحا فشدوا بها يدا ولا تتبعوا
طرائق قددا.
وقد تكلموا على
ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع ، والذي يظهر لي أن الصحابة
لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ
كتاب سليمان فهي
من المحكي ، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها ، وتطويل الباء فيها
صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.
والكلام على اسم
الجلالة ووصفه يأتي في تفسير قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ٢ ، ٣].
ومناسبة الجمع في
البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمن الرحيم ، قال البيضاوي إن المسمّي إذا
قصد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر
علم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات ، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى
أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم ، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في
عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن.
وقال الأستاذ
الإمام محمد عبده : إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن
والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم ، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد
عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون
تعدد المسميات ، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد. وإذا صح أن فواتح النصارى
وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك ـ إذ الناقل أمين ـ فهي نكتة لطيفة.
وعندي أن البسملة
كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليهالسلام فهي من كلام الحنيفية ، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال
لأبيه : (يا أَبَتِ إِنِّي
أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) [مريم : ٤٥] ،
وقال : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧] ومعنى
الحفي قريب من معنى الرحيم. وحكي عنه قوله : (وَتُبْ عَلَيْنا
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٢٨].
وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ : (إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣٠ ، ٣١].
والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم
جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته ، وأن الله أحياء هذه السنة في الإسلام
في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨].
[٢] (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
(الْحَمْدُ لِلَّهِ).
الشأن في الخطاب
بأمر مهم لم يسبق للمخاطب به خطاب من نوعه أن يستأنس له قبل إلقاء المقصود وأن
يهيّأ لتلقيه ، وأن يشوق إلى سماع ذلك وتراض نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد
للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنه أن يكون عائقا عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة
أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة ، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات والنذر ، ولا
تشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان ، وتخامر رشدها نزغات
الشيطان ، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي
صلىاللهعليهوسلم كما تقدم آنفا نبه الله تعالى قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى
أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدءوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة
الفاتحة من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخر السورة ، فإنها تضمنت أصولا عظيمة : أولها التخلية
عن التعطيل والشرك بما تضمنه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول
والقوة تجاه عظمته بما تضمنه (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). الثالث الرغبة في التحلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ). السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل
المموّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه (وَلَا الضَّالِّينَ).
وأنت إذا افتقدت
أصول نجاح المرشد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة
حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا.
وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب
لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر
المنعم بها فأراهم كيف يتوّجون مناجاتهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق ، ولذلك
كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر
منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، وهذا الأسلوب له شأن
عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.
وقد رسم أسلوب
الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة : القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود
وهو ظاهر في الفاتحة ، وليكون
سنة للخطباء فلا
يطيلوا المقدمة كيلا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض ،
ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن
ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل
التلقي فحسب ، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة ، ولأن ذلك يدل على تمكن
الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه ، وفيه سنة
للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام
على وجه تسميتها أم القرآن.
الثالثة أن تكون المقدمة
من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن
يتأنق فيها. الرابع
أن تفتتح بحمد
الله.
إن القرآن هدى
للناس وتبيانا للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم
ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يهيّأ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف
تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع
بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة وعن خلط
معارفهم بالأغلاط الفاقرة ، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من
الاتسام بميسم الفضيلة والتخلية عن السفاسف الرذيلة.
فالفاتحة تضمنت
مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله : ملك
يوم الدين ، وعن الإشراك بما تضمنه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم ، ووصف الصراط
بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشبه وغلط ، ومن اعترف
بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما ، وعن الضلالات التي تعتري العلوم
الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دركة أقل مما وقف عنده
الجاهل البسيط ، وذلك بما تضمنه قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) كما أجملناه قريبا ، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن
كما تقدم.
ولما لقّن المؤمنون
هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب
سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريا على طريقة بلغاء
العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر
الجميل. قال أمية
ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان :
أأذكر حاجتي أم
قد كفاني
|
|
حياؤك إنّ شيمتك
الحياء
|
إذا أثنى عليك
المرء يوما
|
|
كفاه عن تعرّضه
الثّناء
|
فكان افتتاح
الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مجيد ، فلم يزل المسلمون من يومئذ
يلقّبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذا من حديث أبي هريرة
عن النبي صلىاللهعليهوسلم «كلّ أمر ذي بال
لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع» . وقد لقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة
بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد ، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزّلة من القرآن
منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن
تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعود للأفهام وأدعى لوعيها.
و (الحمد) هو
الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم
غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء
الذكر بخير مطلقا وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقا ولو بشرّ ، ونسبا إلى
ابن القطاع وغرّه في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله صلىاللهعليهوسلم : «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا
وجبت له النار» وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان
متكلما في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدع ، فسمّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيها على ذلك.
وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما
قيل.
وأما المدح فقد
اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري
وغيره. وقال صاحب «الكشاف» الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير
نحو جبذ وجذب ، وإن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح
يطلق على الثناء على الجميل الاختياري ، لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه
المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد
__________________
من الأخوة هنا
الترادف لأنه ظاهر كلامه ؛ ولأنه صريح قوله في «الفائق» : «الحمد هو المدح والوصف بالجميل» ولأنه ذكر الذم نقيضا
للحمد إذ قال في «الكشاف» : «والحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضا للمدح ،
وعرف علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه
أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع
معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو
الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة ، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول
زهير :
ومن يجعل
المعروف في غير أهله
|
|
يكن حمده ذمّا
عليه ويندم
|
لأن كلام العلماء
مبني على الضبط والتدقيق.
ثم اختلف في مراد
صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على
الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري ، وعلى الأول حمله السيد
الشريف وهو ظاهر كلام سعد الدين. واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ) [الحجرات : ٧] إذ
قال : «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس ، قلت
الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض
وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح
به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما
يتشعب عنها» ا ه.
وعلى المحمل
الثاني وهو أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد
الحكيم السلكوتي في «حواشي
التفسير» فرضا أو نقلا لا
ترجيحا بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و«الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل
وجعلهما مع ذلك مترادفين.
وبهذا يندفع
الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال
وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضا ظاهرا ؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم
يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ
الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف ، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت
منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها ، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها
يجعلها كالاختيارية ، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلا
بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه
اختياريا.
وعندي أن الجواب
أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية
لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة
للحمد ، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود ، أما عدم
الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه
كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادة
في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم
الاختيار في صفات الله تعالى دليلا على زيادة الكمال وفينا دليلا على النقص ، وما
كان نقصا فينا باعتبار ما قد يكون كمالا لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد ، فلا
حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف ، على
أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة (حمد) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة
لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة ، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة
بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.
(الحمد) مرفوع
بالابتداء في جميع القراءات المروية وقوله (لله) خبره فلام (لله) متعلق بالكون
والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها وهو هنا من المصادر التي أتت بدلا عن
أفعالها في معنى الإخبار ، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله
وتقدير الكلام نحمد حمدا لله ، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا
باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره وذلك قولك سقيا ورعيا
وخيبة وبؤسا ، والحذر بدلا عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق وأما قولهم سقيا لك نحو :
سقيا ورعيا لذاك العاتب الزّاري
فإنما هو ليبينوا
المعنيّ بالدعاء. ثم قال بعد أبواب : هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك
إظهاره من المصادر في غير الدعاء ، من ذلك قولك حمدا وشكرا لا كفرا وعجبا ، فإنما
ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد الله حمدا وإنما اختزل الفعل هاهنا لأنهم
جعلوا هذا بدلا من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء وقد جاء بعض هذا رفعا
يبتدأ به ثم يبنى عليه (أي يخبر عنه) ثم قال بعد باب آخر : هذا باب يختار فيه أن
تكون المصادر مبتدأة مبنيا عليها ما بعدها ، وذلك قولك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ،
والعجب لك ،
والويل له ، وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر (أي غير إنشاء) فقوي
في الابتداء (أي إنه لما كان خبرا لا دعاء وكان معرفة بال تهيأت فيه أسباب
الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهيّئ جانب المعنى للخبرية وكونه معرفة يصحح أن
يكون مبتدأ) بمنزلة عبد الله ، والرجل ، والذي تعلم (من المعارف) لأن الابتداء
إنما هو خبر وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام. وليس
كل حرف (أي تركيب) يصنع به ذاك ، كما أنه ليس كل حرف (أي كلمة من هذه المصادر)
يدخل فيه الألف واللام ، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز (يعني يقتصر فيه على
السماع). واعلم أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وإن ابتدأته ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك
أحمد الله. وسمعنا ناسا من العرب كثيرا يقولون : التراب لك والعجب لك ، فتفسير نصب
هذا كتفسيره حيث كان نكرة ، كأنك قلت حمدا وعجبا ، ثم جئت بلك لتبين من تعني ولم
تجعله مبنيا عليه فتبتدئه». انتهى كلام سيبويه باختصار. وإنما جلبناه هنا لأنه
أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم ، وهو الذي أشار له صاحب «الكشاف»
بقوله : «وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال
مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكرا ، وكفرا ، وعجبا ، ينزلونها منزلة أفعالها
ويسدون بها مسدها ، ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على
الابتداء للدلالة على ثبات المعنى» إلخ.
ومن شأن بلغاء
العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله ، والعدول عن
النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم الدلالة على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية ؛
والدلالة على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية ، والدلالة على الاهتمام
المستفاد من التقديم. وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر
منصوبا إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ
الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام. ولأنه لا
يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام. ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع
النصب كما قرئ بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذ لا يكون دالا على
عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أحمد بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم
دون تحميدات جميع الناس ، وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وبقرينة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم ، كيف
وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية. قال أمية بن
أبي الصلت :
الحمد لله حمدا
لا انقطاع له
|
|
فليس إحسانه عنا
بمقطوع
|
أما إذا صار الحمد
غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما
سيأتي. فهذا معنى ما نقل عن سيبويه أنه قال : إن الذي يرفع الحمد يخبر أنّ الحمد
منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.
واعلم أن قراءة
النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا
التركيب المشهور ، وأن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية
المطلقة. فقد بان أن قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أبلغ من (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالنصب ، وأنّ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالنصب والتعريف أبلغ من حمدا لله بالتنكير. وإنما كان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات. قال في «الكشاف»
: «إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله
تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ
سَلامٌ) [الذاريات : ٢٥]
رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليهالسلام حيّاهم بتحيّة أحسن من تحيّتهم» ا ه.
فإن قلت وقع
الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى
وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا
الاهتمام ، قلت قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أولى النعم
بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين ، فتلك المنة من أكبر ما يحمد
الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ
والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكرا بما لمنزّله
تعالى من الصفات الجميلة ، وذلك يذكّر بوجوب حمده وأن لا يغفل عنه فكان المقام
مقام الحمد لا محالة ، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام ، ثم
إن ذلك الاهتمام تأتّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضا على ذكر الله تعالى
اعتدادا بأهمية الحمد العارضة في المقام وإن ذكر الله أهمّ في نفسه لأن الأهمية
العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه
الواقع ، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقام ، ولأن ما كان الاهتمام به
لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى ، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا
فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره.
فإن قلت كيف يصح
كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذنا بالاهتمام مع أنه الأصل ،
وشأن التقديم
المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير؟
قلت لو سلم ذلك
فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدما مع إمكان الإتيان به مؤخرا ؛ لأن
للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد الله تعالى إحداهما (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كما في الفاتحة والأخرى (فَلِلَّهِ) كما في سورة الجاثية [٣٦].
وأما قصد العموم
فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه.
والتعريف فيه
بالألف واللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون
الدال على الفعل والساد مسده دالا على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف
مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنسا فاللام تدل على
تعريفه. ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت الحمد لله
أو العجب لك فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدي مخاطبك لا يلتبس بغيره كما
أنك إذا قلت الرجل وأردت معينا في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من
الناس معروف بينك وبين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس
معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظه الدال عليه لغة
وهو كاف في عدم الدلالة على غيره ، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا
متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين
بينك وبين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ ، فلا يفيد هذا
التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع ؛ لأنك لما
جعلته معهودا فقد دللت على أنه واضح ظاهر ، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه من
المعروف المشهور ، وهذا معنى قول صاحب «الكشاف» : «وهو نحو التعريف في أرسلها العراك ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو
والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال» وهو مأخوذ من كلام سيبويه.
وليست لام التعريف
هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب
__________________
«الكشاف» : «والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم» غير أن
معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام
تعريف الجنس في قوله : (الْحَمْدُ) ولام الاختصاص في قوله : (لِلَّهِ) يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه
إذا اختص الجنس اختصت الأفراد ؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى
لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة
على اسم الجلالة ، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي
للمبالغة.
واللام في قوله
تعالى : (لِلَّهِ) يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر ،
ويجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية وزاده
التعريف باللام ضعفا لأنه أبعد شبهه بالأفعال ، ولا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد
استفيد من تعريف الجزأين.
هذا وقد اختلف في
أن جملة (الحمد) هل هي خبر أو إنشاء؟ فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى
المعنى بقول القائل (الحمد لله).
وجماع القول في
ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء وذلك كصيغ العقود مثل
بعت واشتريت ، وكذلك أفعال المدح والذم والرجاء كعسى ونعم وبئس وهذا الأخير قسمان
منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر ومنه ما خص بالإنشاء فالأول
كصيغ العقود فإنها تستعمل أخبارا تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني
إياها فهذا خبر ، وتقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه
جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله ،
والثاني كنعم وعسى.
فإذا تقرر هذا فقد
اختلف العلماء في أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هل هي إخبار عن ثبوت (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين ، فذهب فريق إلى أنها
خبر ، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه
بالإنشائية ، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامدا لله تعالى مع أن القصد أنه
يثني ويحمد الله تعالى ، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف
بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل ، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله
المتكلم. ويمكن أن يجاب أيضا بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل
أصول الفقه. وأجيب أيضا
بأن كون المتكلم
حامدا قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لأن شأن الأمر الذي تضافر
عليه الناس قديما أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه ، فإخبار المتكلم بأنه علم
ذلك يدل عرفا على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم ، وقد خفي على كثير أي فيكون
مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني ، مثل قولك سهرت الليلة
وأنت تريد أنك علمت بسهره ، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول
أن المتكلم يخبر عن كونه حامدا كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا
إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضا. ويرد على هذا التقرير أيضا
أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلا بالتبع مع أن المقام مقام حمد
المتكلم لا حمد غيره من الناس ، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى
الالتزامي لأنه وسيلة له ، ونظيره قولهم طويل النجاد والمراد طول القامة فإن طول
النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة.
وذهب فريق ثان إلى
أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار
الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) [آل عمران : ٣٦]
وقول جعفر بن علبة الحارثي :
هواي مع الركب اليمانين مصعد
فيكون المقصد
الأصلي هو الإنشاء ولكن العدول إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة
على استغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس
وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول ، بل هو هنا
أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جرم أنه منشئ ثناء عليه بذلك ، وكون
المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار
الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة
الأصل معه ، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعا لأن مع تدخل على
المتبوع.
المذهب الثاني أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية ، على أنها من الصيغ التي
نقلتها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلت صيغ العقود وأفعال المدح والذم
أي نقلا مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال ، فإنك قد تقول الحمد لله جوابا
لمن قال لمن الحمد أو من أحمد ولكنّ تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة.
والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو
الإنشائية لا
محالة ، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود
بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام ، وشيء من ذلك
لا يمكن حصوله بصيغة إنشاء نحو حمدا لله أو أحمد لله حمدا ومما يدل على اعتبار
العرب إياها إنشاء لا خبرا قول ذي الرمة :
ولما جرت في
الجزل جريا كأنّه
|
|
سنا الفجر
أحدثنا لخالقها شكرا
|
فعبر عن ذكر لفظ
الحمد أو الشكر بالإحداث ، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما
عبر عنه بالإحداث وهو حمده الواقع حين التهابها في الحطب.
والله هو اسم
الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. وأصل هذا الاسم الإله بالتعريف وهو
تعريف إله الذي هو اسم جنس للمعبود مشتق من أله بفتح اللام بمعنى عبد ، أو من أله
بكسر اللام بمعنى تحير أو سكن أو فزع أو ولع مما يرجع إلى معنى هو ملزوم للخضوع
والتعظيم فهو فعال بكسر الفاء بمعنى مفعول مثل كتاب ، أطلقه العرب على كل معبود من
أصنامهم لأنهم يرونها حقيقة بالعبادة ولذلك جمعوه على آلهة بوزن أفعلة مع تخفيف
الهمزة الثانية مدّة ، وأحسب أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك
فيهم فكان أصل وضعه دالا على انفراده بالألوهية إذ لا إله غيره فلذلك صار علما
عليه ، وليس ذلك من قبيل العلم بالغلبة بل من قبيل العلم بالانحصار مثل الشمس
والقمر فلا بدع في اجتماع كونه اسم جنس وكونه علما ، ولذلك أرادوا به المعبود بحق
ردا على أهل الشرك قبل دخول الشرك في العرب وإننا لم نقف على أن العرب أطلقوا
الإله معرّفا باللام مفردا على أحد أصنامهم وإنما يضيفون فيقولون إله بني فلان
والأكثر أن يقولوا رب بني فلان أو يجمعون كما قالوا لعبد المطلب أرض الآلهة ، وفي
حديث فتح مكة : «وجد رسول الله البيت فيه الآلهة». فلما اختص الإله بالإله الواحد
واجب الوجود اشتقوا له من اسم الجنس علما زيادة في الدلالة على أنه الحقيق بهذا
الاسم ليصير الاسم خاصا به غير جائز الإطلاق على غيره سنن الأعلام الشخصية ،
__________________
وأراهم أبدعوا
وأعجبوا إذ جعلوا علم ذاته تعالى مشتقا من اسم الجنس المؤذن بمفهوم الألوهية
تنبيها على أن ذاته تعالى لا تستحضر عند واضح العلم وهو الناطق الأول بهذا الاسم
من أهل اللسان إلا بوصف الألوهية وتنبيها على أنه تعالى أولى من يؤلّه ويعبد لأنه خالق
الجميع فحذفوا الهمزة من الإله لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى
كما حذفوا همزة الأناس فقالوا النّاس ؛ ولذلك أظهروها في بعض الكلام. قال البعيث
بن حريث .
معاذ الإله أن
تكون كظبية
|
|
ولا دمية ولا
عقيلة ربرب
|
كما أظهروا همزة
الأناس في قول عبيد بن الأبرص الأسدي :
إن المنايا
ليطّلع
|
|
ن على الأناس
الآمنين
|
ونزّل هذا اللفظ
في طوره الثالث منزلة الأعلام الشخصية فتصرفوا فيه هذا التصرف لينتقلوا به إلى طور
جديد فيجعلوه مثل علم جديد ، وهذه الطريقة مسلوكة في بعض الأعلام. قال أبو الفتح
بن جني في شرح قول تأبط شرا في النشيد الثالث عشر من «الحماسة» :
إني لمهد من
ثنائي فقاصد
|
|
به لابن عم
الصدق شمس بن مالك
|
__________________
شمس بضم الشين
وأصله شمس بفتحها كما قالوا حجر وسلمى فيكون مما غير عن نظائره لأجل العلمية ا ه.
وفي «الكشاف» في تفسير سورة أبي لهب بعد أن ذكر أن من القراء من قرأ (أبي
لهب) بسكون الهاء ما نصه وهي من تغيير الأعلام كقولهم شمس بن مالك بالضم ا ه. وقال
قبله : «ولفليته بن قاسم أمير مكة ابنان أحدهما عبد الله بالجر ، والآخر عبد الله
بالنصب ، وكان بمكة رجل يقال له عبد الله لا يعرف إلا هكذا» ا ه. يعني بكسر دال
عبد في جميع أحوال إعرابه ، فهو بهذا الإيماء نوع مخصوص من العلم ، وهو أنه أقوى
من العلم بالغلبة لأن له لفظا جديدا بعد اللفظ المغلّب. وهذه الطريقة في العلمية
التي عرضت لاسم الجلالة لا نظير لها في الأعلام فكان اسمه تعالى غير مشابه لأسماء
الحوادث كما أن مسمى ذلك الاسم غير مماثل لمسميات أسماء الحوادث. وقد دلوا على
تناسيهم ما في الألف واللام من التعريف وأنهم جعلوهما جزءا من الكلمة بتجويزهم
نداء اسم الجلالة مع إبقاء الألف واللام إذ يقولون يا الله مع أنهم يمنعون نداء
مدخول الألف واللام.
وقد احتج صاحب «الكشاف» على كون أصله الإله ببيت البعيث المتقدم ، ولم يقرر
ناظروه وجه احتجاجه به ، وهو احتجاج وجيه لأن معاذ من المصادر التي لم ترد في
استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة ، مثل سبحان فأجريت مجرى أمثال في لزومها لهاته
الإضافة ، إذا تقول معاذ الله فلما قال الشاعر معاذ الإله وهو من فصحاء اللسان
علمنا أنهم يعتبرون الإله أصلا للفظ الله ، ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييرا إلا
أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلاف وجوه الأداء مع كون اللفظ واحدا ، ألا ترى
أنهم احتجوا على أن لاه مخفف الله بقول ذي الأصبع العدواني :
لاه ابن عمّك لا
أفضلت في حسب
|
|
عنّى ولا أنت
ديّاني فتخزوني
|
وبقولهم لاه أبوك
لأن هذا مما لزم حالة واحدة ، إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنت.
وقد ذكرت وجوه أخر
في أصل اسم الجلالة : منها أن أصله لاه مصدر لاه يليه ليها إذا احتجب سمي به الله
تعالى ، ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمجد اسمين ، وهذا الوجه
ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه. ومنها أن أصله ولاه بالواو فعال بمعنى مفعول من وله
إذا تحيّر ، ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها ، كما قلبت في إعاء وإشاح ،
أي وعاء ووشاح ، ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة.
ومنها أن أصله (لاها)
بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه. ومنها أنه علم وضع
لاسم الجلالة بالقصد الأوّلي من غير أخذ من أله وتصييره الإله فتكون مقاربته في
الصورة لقولنا الإله مقاربة اتفاقية غير مقصودة ، وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج
ونسب إلى الخليل وسيبويه ، ووجّهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئا حتى وضعت له
لفظا فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته.
وقد التزم في لفظ
الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا
يسلم من المنع ، ولذلك أبى صاحب «الكشاف» التعريج عليه فقال : «وعلى ذلك (أي
التفخيم) العرب كلهم ، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر».
وإنما لم يقدم
المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال لله الحمد ، لأن
المسند إليه حمد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده
عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام
للاهتمام به اعتبارا لأهمية الحمد العارضة ، وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن
الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحال ، والبلاغة هي
المطالبة لمقتضى الحال ، على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام
به اهتمام بشئون الله تعالى.
ومن أعجب الآراء ما
ذكره صاحب «المنهل
الأصفى في شرح الشفاء» التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه
تعظيما وإجلالا ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع.
(رَبِّ الْعالَمِينَ).
وصف لاسم الجلالة
فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي ، عقب بالوصف
وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلّق متعلّق أيضا ، فلذلك لم يقل
الحمد لرب العالمين كما قال : (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦]
ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته.
وقد أجرى عليه
أربعة أوصاف هي : رب العالمين ، الرحمن ، الرحيم ، ملك يوم الدين ، للإيذان
بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد
ملاحظة معانيها
الأصلية ، وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر
الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلا منزلة الاسم كأوصافه تعالى
وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضا غنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من
الجملة علمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كلا مدلولي الموصوف
والصفة جدير بتعلق الحمد له مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يميزه
عن الآلهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله
تعالى : ملك يوم الدين.
والرب إما مصدر
وإما صفة مشبهة على وزن فعل من ربّه يربّه بمعنى رباه وهو رب بمعنى مربّ وسائس.
والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا ، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملكه ، فإن
كان مصدرا على الوجهين فالوصف به للمبالغة ، وهو ظاهر ، وإن كان صفة مشبهة على
الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فعل من
فعل يفعل إلا قليلا ، من ذلك قولهم نمّ الحديث ينمّه فهو نمّ للحديث.
والأظهر أنه مشتق
من ربّه بمعنى رباه وساسه ، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ
المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها ، ولأنه لو حمل على
معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك ملك يوم الدين كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل
ولا داعي إليه هنا ، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا ، فيحتاج
إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا ، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود
الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب «الكشاف» إلى الاقتصار على معنى السيد
والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة ، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ
على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي
والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع
المواقع كما لا يخفي. والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقا ولا مقيدا لما
علمت من وزنه واشتقاقه. قال الحرث بن حلزة :
وهو الرب
والشهيد على يو
|
|
م الحيارين
والبلاء بلاء
|
يعني عمرو بن هند.
وقال النابغة في النعمان بن الحارث :
تخبّ إلى
النعمان حتى تناله
|
|
فدى لك من ربّ
طريفي وتالدي
|
وقال في النعمان
بن المنذر حين مرض :
وربّ عليه الله
أحسن صنعه
|
|
وكان له على
البرية ناصرا
|
وقال صاحب «الكشاف» ومن تابعه : إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا أو لم
يأتوا على ذلك بسند وقد رأيت أن الاستعمال بخلافه ، أما إطلاقه على كل من آلهتهم
فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس :
أربّ يبول
الثّعلبان برأسه
|
|
لقد هان من بالت
عليه الثعالب
|
وسموا العزى
الرّبة. وجمعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص
إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافا أو متعلقا بخاص فظاهر وروده بكثرة
نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان.
وقد ورد الإطلاق
في الإسلام أيضا حين حكى عن يوسف عليهالسلام قوله : (إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] إذا
كان الضمير راجعا إلى العزيز وكذا قوله : (أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) [يوسف : ٣٩] فهذا
إطلاق للرب مضافا وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في
الإسلام ، وليس يوسف أطلق هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ
عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية معدل ، إنما ورد في الحديث
النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي ، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص
النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفا كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع
دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار ، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل
أحد للملك ونحوه هذا رب.
و (العالمين) جمع
عالم قالوا ولم يجمع فاعل هذا الجمع إلا في لفظين عالم وياسم ، اسم للزهر المعروف
بالياسمين ، قيل جمعوه على ياسمون وياسمين قال الأعشى :
وقابلنا الجلّ
والياسم
|
|
ون والمسمعات
وقصّابها
|
والعالم الجنس من
أجناس الموجودات ، وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقا من العلم أو من
العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة ، أو هو سبب العلم به فلا يختلط
بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالبا كخاتم وقالب وطابع فجعلوا
العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع ، أو العلم بالحقائق. ولقد أبدع العرب في هذه
اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة ، ولقد أبدعوا إذ جمعوه
جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليبا للعاقل.
وقد قال
التفتازانيّ في «شرح
الكشاف» : «العالم اسم
لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق ، يقال عالم الملك ، عالم الإنسان ، عالم
النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافا لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم
الحيوان ، عالم النبات وليس اسما لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء
فيمتنع جمعه» وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على
مجموع ما سوى الله تعالى ، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث
فهو من المصطلحات.
والتعرف فيه
للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل
على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعا
للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب «الكشاف»
: «ليشمل كل جنس مما سمّي به» إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها
استلزاما واضحا إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها
فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق.
وإنما جمع العالم
ولم يؤت به مفردا لأن الجمع قرينة على استغراق ، لأنه لو أفرد لتوهم أن المراد من
التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصا على الاستغراق ، وهذه سنة الجموع مع (ال)
الاستغراقية على التحقيق ، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى
الجماعات فكان استغراق الجموع مساويا لاستغراق المفردات أو أشمل منه. وبطل ما شاع
عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشمل كما سنبينه عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١].
[٣]. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
وصفان مشتقان من
رحم ، وفي «تفسير القرطبي» عن ابن الأنباري عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني نقل
إلى العربية قال وأصله بالخاء المعجمة (أي فأبدلت خاؤه حاء مهملة عند أكثر العرب
كشأن التغيير في التعريب) وأنشد على ذلك قول جرير يخاطب الأخطل :
أو تتركنّ إلى
القسّيس هجرتكم
|
|
ومسحكم صلبكم
رخمان قربانا
|
(الرواية بالخاء المعجمة) ولم يأت
المبرد بحجة على ما زعمه ، ولم لا يكون الرحمن عربيا كما كان عبرانيا فإن العربية
والعبرانية أختان وربما كانت العربية الأصلية
أقدم من العبرانية
ولعل الذي جرأه على ادعاء أن الرحمن اسم عبراني ما حكاه القرآن عن المشركين في
قوله : (قالُوا وَمَا
الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠]
ويقتضي أن العرب لم يكونوا يعلمون هذا الاسم لله تعالى كما سيأتي بعض عرب اليمن
يقولون رخم رخمة بالمعجمة.
واسم الرحمة موضوع
في اللغة العربية لرقة الخاطر وانعطافه نحو حيّ بحيث تحمل من اتصف بها على الرفق
بالمرحوم والإحسان إليه ودفع الضر عنه وإعانته على المشاق. فهي من الكيفيات
النفسانية لأنها انفعال ، ولتلك الكيفية اندفاع يحمل صاحبها على أفعال وجودية بقدر
استطاعته وعلى قدر قوة انفعاله ، فأصل الرحمة من مقولة الانفعال وآثارها من مقولة الفعل
، فإذا وصف موصوف بالرحمة كان معناه حصول الانفعال المذكور في نفسه ، وإذا أخبر
عنه بأنه رحم غيره فهو على معنى صدر عنه أثر من آثار الرحمة ، إذ لا تكون تعدية
فعل رحم إلى المرحوم إلا على هذا المعنى فليس لماهية الرحمة جزئيات وجودية ولكنها
جزئيات من آثارها. فوصف الله تعالى بصفات الرحمة في اللغات ناشئ على مقدار عقائد
أهلها فيما يجوز على الله ويستحيل ، وكان أكثر الأمم مجسّمة ثم يجيء ذلك في لسان
الشرائع تعبيرا عن المعاني العالية بأقصى ما تسمح به اللغات مع اعتقاد تنزيه الله
عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]
فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي الرحمن الرحيم لا يفهمون منه حصول ذلك
الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله
تعالى عن الأعراض ، بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الاسمي
من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة ؛ لأن ما
عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لو لا أنه
لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم ألا ترى أن المرء قد يرحم أحدا ولا يملك له نفعا
لعجز أو نحوه.
وقد أشار إلى ما
قلناه أبو حامد الغزالي في «المقصد
الأسنى» بقوله : «الذي
يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادرا على قضائها لم يسمّ رحيما إذ لو
تمت الإرادة لوفّى بها وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما باعتبار ما اعتوره من الرحمة
والرقة ولكنه ناقص». وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من
المتشابه لتبادر المعنى المراد منه بكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم
المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله
مع التيقن بتجرد علمه عن
الحاجة إلى النظر
والاستدلال وسبق الجهل ، وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن
العادة والتكون ، ونطلق القدرة مع اليقين بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة. فوصفه
تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦]
فهي منقولة في لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة
الدنيا وغالب الأسماء الحسنى من هذا القبيل. وأما المتشابه فهو ما كانت دلالته على
المعنى المنزه عنه أقوى وأشد وسيأتي في سورة آل عمران [٧] عند قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ). والذي ذهب إليه صاحب «الكشاف» وكثير من المحققين أن الرحمن صفة مشبهة كغضبان وبذلك مثله
في «الكشاف».
وفعل رحم وإن كان
متعديا والصفة المشبهة إنما تصاغ من فعل لازم إلا أن الفعل المتعدي إذا صار كالسجية
لموصوفه ينزل منزلة أفعال الغرائز فيحول من فعل بفتح العين أو كسرها إلى فعل بضم
العين للدلالة على أنه صار سجية كما قالوا فقه الرجل وظرف وفهم ، ثم تشتق منه بعد
ذلك الصفة المشبهة ، ومثله كثير في الكلام ، وإنما يعرف هذا التحويل بأحد أمرين
إما بسماع الفعل المحول مثل فقه وإما بوجود أثره وهو الصفة المشبهة مثل بليغ إذا
صارت البلاغة سجية له ، مع عدم أو قلة سماع بلغ. ومن هذا رحمن إذ لم يسمع رحم
بالضم. ومن النحاة من منع أن يكون الرحمن صفة مشبهة بناء على أن الفعل المشتق هو
منه فعل متعد وإليه مال ابن مالك في «شرح التسهيل» في باب الصفة المشبهة ونظره برب وملك ..
وأما الرحيم فذهب
سيبويه إلى أنه من أمثلة المبالغة وهو باق على دلالته على التعدي وصاحب «الكشاف» والجمهور لم يثبتوا في أمثلة المبالغة وزن فعيل فالرحيم
عندهم صفة مشبهة أيضا مثل مريض وسقيم ، والمبالغة حاصلة فيه على كلا الاعتبارين. والحق
ما ذهب إليه سيبويه.
ولا خلاف بين أهل
اللغة في أن الوصفين دالان على المبالغة في صفة الرحمة أي تمكنها وتعلقها بكثير من
المرحومين وإنما الخلاف في طريقة استفادة المبالغة منهما وهل هما مترادفان في
الوصف بصفة الرحمة أو بينهما فارق؟ والحق أن استفادة المبالغة حاصلة من تتبع
الاستعمال وأن الاستعمال جرى على نكتة في مراعاة واضعي اللغة زيادة المبنى لقصد
زيادة في معنى المادة قال في «الكشاف» : «ويقولون إن الزيادة في البناء لزيادة
المعنى وقال الزجاج في الغضبان هو الممتلئ غضبا ومما طن على أذني من ملح العرب
أنهم يسمون مركبا
من مراكبهم بالشّقدف وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق فقلت في طريق الطائف
لرجل منهم ما اسم هذا المحمل ـ أردت المحمل العراقي ـ فقال أليس ذاك اسمه الشقندف؟
قلت بلى فقال هذا اسمه الشّقنداف فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى» وهي قاعدة أغلبية
لا تتخلف إلا في زيادات معروفة موضوعة لزيادة معنى جديد دون زيادة في أصل معنى
المادة مثل زيادة ياء التصغير فقد أفادت معنى زائدا على أصل المادة وليس زيادة في
معنى المادة. وأما نحو حذر الذي هو من أمثلة المبالغة وهو أقل حروفا من حاذر فهو
من مستثنيات القاعدة لأنها أغلبية.
وبعد كون كل من
صفتي الرحمن الرحيم دالة على المبالغة في اتصافه تعالى بالرحمة فقد قال الجمهور إن
الرحمن أبلغ من الرحيم بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى وإلى ذلك ما
جمهور المحققين مثل أبي عبيدة وابن جني والزجاج والزمخشري وعلى رعي هذه القاعدة
أعني أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى فقد شاع ورود إشكال على وجه إرداف وصفه
الرحمن بوصفه بالرحيم مع أن شأن أهل البلاغة إذا أجروا وصفين في معنى واحد على
موصوف في مقام الكمال أن يرتقوا من الأعم إلى الأخص ومن القوي إلى الأقوى كقولهم
شجاع باسل وجواد فياض ، وعالم نحرير ، وخطيب مصقع ، وشاعر مفلق ، وقد رأيت
للمفسرين في توجيه الارتقاء من الرحمن إلى الرحيم أجوبة كثيرة مرجعها إلى اعتبار
الرحمن أخص من الرحيم فتعقيب الأول بالثاني تعميم بعد خاص ولذلك كان وصف الرحمن
مختصا به تعالى وكان أول إطلاقه مما خصه به القرآن على التحقيق بحيث لم يكن
التوصيف به معروفا عند العرب كما سيأتي. ومدلول الرحيم كون الرحمة كثيرة التعلق إذ
هو من أمثلة المبالغة ولذلك كان يطلق على غير الله تعالى كما في قوله تعالى في حق
رسوله (بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨]
فليس ذكر إحدى الصفتين بمغن عن الأخرى :
وتقديم الرحمن على
الرحيم لأن الصيغة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة
الدالة على كثرة متعلقاتها. وينسب إلى قطرب أن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد
من الصفة المشبهة فهما متساويان وجعل الجمع بينهما في الآية من قبيل التوكيد
اللفظي ومال إليه الزجاج وهو وجه ضعيف إذ التوكيد خلاف الأصل والتأسيس خير من
التأكيد والمقام هنا بعيد عن مقتضى التوكيد. وقد ذكرت وجوه في الجمع بين الصفتين
ليست بمقنعة.
وقد ذكر جمهور
الأئمة أن وصف الرحمن لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء
به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على
ذلك بقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠]
وقال : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠] وقد
تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة
الملك وقد ذكر الرحمن في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد
الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي
في كلامهم ، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله.
ومن دقائق القرآن
أنه آثر اسم الرحمن في قوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلَّا الرَّحْمنُ) في سورة الملك [١٩] ، وقال : (ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلَّا اللهُ) في سورة النحل [٧٩] إذ كانت آية سورة الملك مكية وآية سورة
النحل القدر النازل بالمدينة من تلك السورة ، وأما قول بعض شعراء بني حنيفة في
مسيلمة :
سموت بالمجد يا
ابن الأكرمين أبا
|
|
وأنت غيث الورى
لا زلت رحمانا
|
فإنما قاله بعد
مجىء الإسلام وفي أيام ردة أهل اليمامة ، وقد لقبوا مسيلمة أيامئذ رحمن اليمامة
وذلك من غلوهم في الكفر. وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه
بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه
الحمد من كونه رب العالمين أي مدبر شئونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين
الجثماني والروحاني ، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمن أي الذي الرحمة له وصف ذاتي
تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم ، فلما كان ربا للعالمين وكان المربوبون
ضعفاء كان احتياجهم للرحمة واضحا وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحا.
فإن قلت إن
الربوبية تقتضي الرحمة لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا وذلك يجمع النعم كلها
، فلما ذا احتيج إلى ذكر كونه رحمانا؟ قلت لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى
الكمال لم يكن على وجه الإعنات بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه
واستعداده ، فكانت الربوبية نعمة ، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى ، فأتبع
ذلك بوصفه بالرحمن تنبيها على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر
ونفي الحرج ، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة
باليسر بقدر ما لا
يبطل المقصود منها ، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة كالتمكين من الأرض
وتيسير منافعها ، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان مثل التكاليف الراجعة
إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق ، ومنها ما منفعته للجمهور فتتبعها رحمات
الجميع لأن في رحمة الجمهور رحمة بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة.
وقد اختلف في أن
لفظ رحمن لو لم يقرن بلام التعريف هل يصرف أو يمنع من الصرف؟ قال في «الكافية» : «النون والألف إذا كانا في صفة فشرط منعه من الصرف
انتفاء فعلانة ، وقيل وجود فعلى ، ومن ثم اختلف في رحمن ، وبنو أسد يصرفون جميع
فعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة» واختار الزمخشري والرضى وابن مالك عدم
صرفه.
[٤] (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
اتباع الأوصاف
الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى ، بل هو مما أثارته
الأوصاف المتقدمة ، فإنه لما وصف تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم وكان ذلك
مفيدا لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم ، ثم
التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر ، وكان من
جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح
الناس عامة وخاصة ، وكان معظم تلك التشريعات مشتملا على إخراج المكلف عن داعية
الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة ، خيف أن تكون تلك الأوصاف
المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففا عن المكلفين عبء العصيان لما أمروا به ومثيرا
لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من
الربوبية والرحمة المؤكّدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف ، لذلك كان من
مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحكم في يوم الجزاء : (الْيَوْمَ)
(تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [غافر : ١٧] لأن
الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم ، وأحيط ذلك بالوعد
والوعيد ، وجعل مصداق ذلك الجزاء يوم القيامة ، ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك
مضافا إلى يوم الدين. فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن
الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم ، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم. ولو قيل رب
يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب
__________________
رحمة وصفحا ، وأما
مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها.
فإن قلت فإذا كان
إجراء الأوصاف السابقة مؤذنا بأن جميع تصرفات الله تعالى فينا رحمة فقد كفى ذلك في
الحث على الامتثال والانتهاء إذ المرء لا يخالف ما هو رحمة به فلا جرم أن ينساق
إلى الشريعة باختياره. قلت المخاطبون مراتب : منهم من لا يهتدي لفهم ذلك إلا بعد
تعقيب تلك الأوصاف بهذا الوصف ، ومنهم من يهتدي لفهم ذلك ولكنه يظن أن في فعل
الملائم له رحمة به أيضا فربما آثر الرحمة الملائمة على الرحمة المنافرة وإن كانت
مفيدة له ، وربما تأول الرحمة بأنها رحمة للعموم وأنه إنما يناله منها حظ ضعيف
فآثر رحمة حظه الخاص به على رحمة حظه التابع للعامة. وربما تأول أن الرحمة في
تكاليف الله تعالى أمر أغلبي لا مطرد وأن وصفه تعالى بالرحمن بالنسبة لغير التشريع
من تكوين ورزق وإحياء ، وربما ظن أن الرحمة في المآل فآثر عاجل ما يلائمه. وربما
علم جميع ما تشتمل عليه التكاليف من المصالح باطراد ولكنه ملكته شهوته وغلبت عليه
شقوته. فكل هؤلاء مظنة للإعراض عن التكاليف الشرعية ، ولأمثالهم جاء تعقيب الصفات
الماضية بهذه الصفة تذكيرا لهم بما سيحصل من الجزاء يوم الحساب لئلا يفسد المقصود
من التشريع حين تتلقفه أفهام كل متأول مضيع. ثم إن في تعقيب قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) بقوله : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) إشارة إلى أنه ولي التصرف في الدنيا والآخرة فهو إذن
تتميم.
وقوله (ملك) قرأه
الجمهور بدون ألف بعد الميم وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف (مالك) بالألف فالأول
صفة مشبهة صارت اسما لصاحب الملك (بضم الميم) والثاني اسم فاعل من ملك إذا اتصف
بالملك (بكسر الميم) وكلاهما مشتق من ملك ، فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها
إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية ، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز ،
والتحقيق والاعتبار ، وقراءة (ملك) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس
السامعين لأن الملك ـ بفتح الميم وكسر اللام ـ هو ذو الملك ـ بضم الميم ـ والملك
أخص من الملك ، إذ الملك ـ بضم الميم ـ هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص
بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم فلذلك يقال : ملك الناس ولا
يقال : ملك الدواب أو الدراهم ، وأما الملك ـ بكسر الميم ـ فهو الاختصاص بالأشياء
ومنافعها دون غيره.
وقرأ الجمهور (ملك)
بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبي صلىاللهعليهوسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر في «كتاب الترمذي». قال ابن عطية :
حكى أبو على عن بعض القراء أن أول من قرأ (ملك يوم الدين) مروان بن الحكم فرده أبو
بكر بن السراج بأن الأخبار الواردة تبطل ذلك فلعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ
بها في بلد مخصوص. وأما قراءة (مالك) بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة
عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن
جبل وطلحة والزبير ، ورواها الترمذي في «كتابه» أنها قرأ بها النبي صلىاللهعليهوسلم وصاحباه أيضا. وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات
المتواترة كما تقدم في المقدمة السادسة. وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات
لبيان ما في كل من قراءة (ملك) ـ بدون ألف ـ وقراءة (مالك) ـ بالألف ـ من خصوصيات
بحسب قصر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة (مالك) ، وغفلوا عن إضافة الكلمة
إلى يوم الدين ، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه
المتصرف في شئون ذلك اليوم دون شبهة مشارك. ولا محيص عن اعتبار التوسع في إضافة (ملك)
أو (مالك) إلى (يوم) بتأويل شئون يوم الدين. على أن (مالك) لغة في (ملك) ففي «القاموس» : «وكأمير وكتف وصاحب ذو الملك».
ويوم الدين يوم
القيامة ، ومبدأ الدار الآخرة ، فالدين فيه بمعنى الجزاء ، قال الفند الزماني :
فلما صرّح الشرّ
|
|
فأمسى وهو عريان
|
ولم يبق سوى
العدوا
|
|
ن دنّاهم كما
دانوا
|
أي جازيناهم على
صنعهم كما صنعوا مشاكلة ، أو كما جازوا من قبل إذا كان اعتداؤهم ناشئا عن ثأر أيضا
، وهذا هو المعنى المتعين هنا وإن كان للدين إطلاقات كثيرة في كلام العرب.
__________________
واعلم أن وصفه
تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى ،
فإنه بعد أن وصف بأنه رب العالمين وذلك معنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا
ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان فقد كانت الأمم تتخذ آلهة خاصة لها كما
حكى الله عن بعضهم : (فَقالُوا هذا
إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] وقال : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨]
وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة ، فقد عبدت ثقيف اللات قال الشاعر :
ووقرت ثقيف إلى لاتها
وفي حديث عائشة في
«الموطأ» : «كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي
كانوا يعبدونها عند المشلّل» الحديث .
فوصف الله تعالى
بأنه رب العالمين كلهم ، ثم عقب بوصفي الرحمن الرحيم لإفادة عظم رحمته ، ثم وصف
بأنه ملك يوم الدين وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في
المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود ، فملك ذلك الزمان هو صاحب الملك
الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت ملكه ، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي ، فأين
هذا الوصف من أوصاف المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك مثل ملك الملوك (شاهان
شاه) وملك الزمان وملك الدنيا (شاه جهان) وما شابه ذلك. مع ما في تعريف ذلك اليوم
بإضافته إلى الدين أي الجزاء من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ
الدين (أي الجزاء) للإشعار بأنه معاملة العامل بما يعادل أعماله المجزيّ عليها في
الخير والشر ، وذلك العدل الخاص قال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر : ١٧] فلذلك
لم يقل ملك يوم الحساب فوصفه بأنه ملك يوم العدل الصّرف وصف له بأشرف معنى الملك فإن
الملوك تتخلد محامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب المدحة بذلك.
قال النابغة يمدح الملك
__________________
عمرو بن الحارث
الغساني ملك الشام :
وكم جزانا بأيد
غير ظالمة
|
|
عرفا بعرف
وإنكارا بإنكار
|
وقال الحارث بن
حلزة يمدح الملك عمرو بن هند اللخمي ملك الحيرة :
ملك مقسط وأفضل
من يم
|
|
شي ومن دون ما
لديه القضاء
|
وإجراء هذه
الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت
عنه جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، لأن تقييد مفاد الكلام بأوصاف متعلّق ذلك المفاد يشعر
بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مفاد الكلام مناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في
مقام هذه الآية.
[٥] (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ).
إذا أتم الحامد
حمد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالا من الإفصاح عن حق الرب إلى
إظهار مراعة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة. فهذا
الكلام استئناف ابتدائي.
ومفاتحة العظماء
بالتمجيد عند التوجه إليهم قبل أن يخاطبوا طريقة عربية. روى أبو الفرج الأصفهاني
عن حسان بن ثابت قال : كنت عند النعمان فنادمته وأكلت معه فبينا أنا على ذلك معه
في قبّة إذا رجل يرتجز حولها :
أصمّ أم يسمع
ربّ القبة
|
|
يا أوهب النّاس
لعيس صلبه
|
ضرّابة بالمشفر
الأذيّه
|
|
ذات هباب في
يديها خلبه
|
في
لاحب كأنّه الأطبّه
|
فقال النعمان : أليس
بأبي أمامة؟ (كنية النابغة) قالوا : بلى ، قال : فأذنوا له فدخل.
والانتقال من
أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإ من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى
__________________
قوله : ملك يوم
الدين ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداء من قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخر السورة ، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند
العرب ، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتا. وفي ضابط أسلوب
الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة : أحدهما رأي من عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن
يعبّر عن ذات بأحد طريق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر
عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة ، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن
يعبّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلا عن أحدهما الذي هو
الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها.
ويظهر أثر الخلاف
بين الجمهور والسكاكي في المحسّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة
بن عبده في طالع قصيدته :
طحا بك قلب في الحسان طروب
مخاطبا نفسه على
طريقة التجريد ، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي
، فتسمية الالتفات التفاتا على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق
الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه ، وأما تسميته
التفاتا على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة
التجريد ، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور
في هذا الاسم. ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا
الرأيين ، ولذلك كان قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) التفاتا على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى
قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تعبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته.
ولأهل البلاغة
عناية بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر
الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كيلا يمل من
إعادة أسلوب بعينه. قال السكاكي في «المفتاح» بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات : «أفتراهم
يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح
فيخالفون بين أسلوب وأسلوب». فهذه فائدة مطردة في الالتفات. ثم إن البلغاء لا
يقتصرون عليها غالبا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب
يستخرجون ذلك من مغاصه.
وما هنا التفات
بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به
الفكرة منتهاها
فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال ، كعكس هذا الالتفات في قول محمد
بن بشير الخارجي (نسبة إلى بني خارجة قبيلة) :
ذممت ولم تحمد
وأدركت حاجة
|
|
تولّى سواكم
أجرها واصطناعها
|
أبى لك كسب
الحمد رأي مقصّر
|
|
ونفس أضاق الله
بالخير باعها
|
إذا هي حثته على
الخير مرة
|
|
عصاها وإن همّت
بشرّ أطاعها
|
فخاطبه ابتداء ثم
ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير
الغيبة فقال : إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه ، وبعكس ذلك قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) [العنكبوت : ٢٣]
لاعتبار تشنيع كفر المتحدّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل ، وبعد
تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة
إلى ذات المتكلم. ومما يزيد الالتفات وقعا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء
ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تخلصا يجىء بعده :
(اهْدِنَا الصِّراطَ) ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني :
أبى غفلتي أني
إذا ما ذكرته
|
|
تحرك داء في
فؤادي داخل
|
وأن تلادي إن
نظرت وشكّتي
|
|
ومهري وما ضمّت
إليّ الأنامل
|
حباؤك والعيس
العتاق كأنها
|
|
هجان المهى تزجى
عليها الرحائل
|
وأبو الفتح ابن
جني يسمى الالتفات «شجاعة العربية» كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه
من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغي بالكر والفر.
و (إياك) ضمير
خطاب في حالة النصب. والأظهر أن كلمة ايا جعلت ليعتمد عليها الضمير عند انفصاله
ولذلك لزمتها الضمائر نحو : إياي تعني ، وإيّاك أعني ، وإيّاهم أرجو. ومن هنا لك
التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل. ومن النحاة من جعل (إيّا)
ضميرا منفصلا ملازما حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد. ومنهم
من جعل (إيّا) هو الضمير وجعل ما بعده حروفا لبيان الضمير. ومنهم من جعل (إيّا)
اعتمادا للضمير كما كانت أيّ اعتمادا للمنادى الذي فيه ال. ومنهم من جعل (إيّا)
اسما ظاهرا مضافا للمضمرات.
والعبادة فعل يدل
على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس. وأما إطلاقها على الطاعة
فهو مجاز. والعبادة في الشرع أخص فتعرّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال
واجتناب ، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه ، وقال الرازي في تفسير
قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] «العبادة
تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق ، وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن
اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة» ا ه فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال
لأحكام الشريعة كلها.
وقد فسر الصوفية
العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب ، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب. فهي أقوى. وقال
بعضهم : العبودية الوفاء بالعهود ، وحفظ الحدود ، والرضا بالموجود. والصبر على
المفقود. وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها.
قال الفخر : «مراتب
العبادة ثلاث :
الأولى أن يعبد الله
طمعا في الثواب وخوفا من العقاب وهي العبادة ، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق
وسيلة لنيل المطلوب. الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول
تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله.
الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقا مستحقا للعبادة وكونه هو عبدا له ، وهذه
أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية» ا ه.
قلت ولم يسم
الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني
العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في «الإشارات» : «العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على
عرفانه وتعبّده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو
رهبة» ا ه فجعلهما حالة واحدة.
وما ادعاه الفخر
في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا
فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده ، وهي التي
عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف ، كيف وقد قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ
الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] فإن
بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم ، على أنه لا يخلو
من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة ، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج
إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في
التمكن من مغالبة نفوسهم ، ومع ذلك لا
محيص لهم عن
الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر. وأعظم دليل على ما قلنا أن
الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى ، وهل التقوى إلا
كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ
عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [الإسراء : ٥٧].
والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلىاللهعليهوسلم ـ لمن قال له كيف
تجهد نفسك في العبادة وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : ـ «أفلا
أكون عبدا شكورا» لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس
بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير
وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع .
واعلم أن من أهم
المباحث البحث عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق
هذا العالم ليكون مظهرا لكمال صفاته تعالى : الوجود ، والعلم ، والقدرة. وجعل قبول
الإنسان للكمالات التي بمقياسها يعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى
وقدرته ، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير
قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة ، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به
على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رقيّ آجل لا يضمحل ، وجعل استعداده لقبول
الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفا على التلقين من السّفرة الموحى إليهم بأصول
الفضائل. ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نفراتها وشرداتها وكانت تلك المراقبة
تحتاج إلى تذكر المجازي بالخير وضده ، شرعت العبادة لتذكّر ذلك المجازي لأن عدم
حضور ذاته واحتجابه بسبحات الجلال يسرّب نسيانه إلى النفوس ، كما أنه جعل نظامه في
هذا العالم متصل الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا
يفسد النظام ، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضا شرعت العبادة لتذكّر به ، على أن في
ذلك التذكر دوام الفكر في الخالق وشئونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجا فظهر أن
العبادة هي
__________________
طريق الكمال
الذاتي والاجتماعي مبدأ ونهاية ، وبه يتضح معنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]
فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقّقة للمقصد من الخلق ، ولما كان سرّ
الخلق والغاية منه خفية الإدراك عرّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعا
لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ
ابن سينا في «الإشارات» : «لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا
بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما
لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكان مما يتعسر إن أمكن ،
وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة
ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير ، فوجب معرفة المجازي
والشارع وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكّرة
للمعبود ، وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير» ا ه.
لا شك أن داعي
العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد ، وأهمه ما كان عن محبة
لأنه يرضي نفس فاعله قال :
أهابك إجلالا
وما بك قدرة
|
|
عليّ ولكن ملء
عين حبيبها
|
وهي تستلزم الخوف
من غضب المحبوب قال محمود الوراق أو منصور الفقيه :
تعصي الإله وأنت
تظهر حبّه
|
|
هذا لعمري في
القياس بديع
|
لو كان حبك
صادقا لأطعته
|
|
إن المحبّ لمن يحب
مطيع
|
ولذلك قال تعالى :
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١]
فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال
المتنبي :
أنت الحبيب
ولكني أعوذ به
|
|
من أن أكون محبا
غير محبوب
|
وإلى هذا النوع
ترجع عبادة أكثر الأمم ، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على
حب الله تعالى ، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ
دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥].
ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم
الشياطين وعبدت
المانوية من
المجوس المعبود (أهرمن) وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظلمة وأنه
تولد من خاطر سوء خطر للرب (يزدان) إله الخير ، قال المعري :
فكّر يزدان على
غرة
|
|
فصيغ من تفكيره
أهرمن
|
والحصر المستفاد
من تقديم المعمول في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقّنين لهذا الحمد لا يعبدون
إلا الله. وزعم ابن الحاجب في «إيضاح
المفصل» في شرح ديباجة «المفصل» عند قول الزمخشري «الله أحمد» أن التقديم لا يفيد إلا
الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] ضعيف
لورود : (فَاعْبُدِ اللهَ
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ٢]
وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني.
وأنا أرى استدلاله
بورود قوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ) لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة
في كل مقام ، (وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) جملة معطوفة على جملة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وإنما لم تفصل عن جملة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد
والتكرير كلا أو بعضا للإشارة إلى خطور الفعلين جميعا في إرادة المتكلمين بهذا
التخصيص ، أي نخصك بالاستعانة أيضا مع تخصيصك بالعبادة.
والاستعانة طلب
العون. والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشق ويعسر على المستعين وحده ، فهي تحصل
بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة ، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقود ، أو بقول
كالإرشاد والتعليم ، أو برأي كالنصيحة. قال الحريري في المقامة : «وخلقي نعم العون»
، أو بمال كدفع المغرم ، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين.
وأما الاستعانة
بالله فهي طلب المعونة على ما لا قبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين
بتحصيله بمفرده ، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من
الله العون عليه بتيسير ما لا قبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده ، فهذه هي
المعونة شرعا. وقد فسرها العلماء بأنها هي خلق ما به تمام الفعل أو تيسيره ،
فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون
توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة ،
ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة ، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات
وبها يصح تكليف المستطيع.
القسم الثاني
المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المعين ما يتيسر به
الفعل للمعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي.
وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة
والداعية إلى الطاعة ، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه
وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول
فتم التوفيق ؛ والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي
الدين وكلّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك
من تحصيل الفضائل. وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوع تخصيص الإعانة
عقب التخصيص بالعبادة. ولذلك حذف متعلّق (نَسْتَعِينُ) الذي حقه أن يذكر مجرورا بعلى ، وقد أفاد هذا الحذف الهامّ
عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدبا معه تعالى ، ومن توابع ذلك
وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة
وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادئ العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق ،
قال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ
عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ٨ ـ ١٠] ـ
فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلها المحسوسات وأعلاها المبصرات
، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم ، والثالث إلى الشرائع.
والحصر المستفاد
من التقديم في قوله : (وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة
بين الناس بعضهم ببعض في شئونهم ، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور
التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى. ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين
الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله
على قصد التشريك إلا أن ولعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى
كما عبدت سبأ الشمس وعبد الفرس النور والظلمة ، وعبد القبط العجل وألّهوا الفراعنة
، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين. ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله
عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب ، فقد عبدت ضبة
وتيم وعكل الشمس ، وعبدت كنانة القمر ، وعبدت لخم وخزاعة وبعض قريش الشّعرى ،
وعبدت تميم الدبران ، وعبدت طيئ الثريا ، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة
يتقربون بها إلى الله تعالى ، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنّ جعلهم
وسيلة إلى الله ضرب من الاستعانة ، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين
ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد
الاعتقاد إلا
تعريضا لأن معناه
حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في «حاشية التفسير».
فإن قلت كيف أمرنا
بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية ، وقد ورد في
الصحيح أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما علّم عبد الله بن عباس قال له «إذا سألت فاسأل الله
وإذا استعنت فاستعن بالله» فلم يأت بصيغة قصر. قلت قد ذكر الشيخ الجد قدس الله
روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المقام لا يقبل
الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم ، وقد قال علماء البلاغة
إذا كان الفعل مقصورا في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام ا ه.
وأقول تقفية على
أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب
وترجل في الإسلام فتقرّر قصر الحكم لديه على طرف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما
مقام هذه الآية فمقام مفتتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع ، فناسب تأكيد
الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط
على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضا بالمشركين وبراءة من
صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم. ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند
الآلهة والأصنام.
وضميرا (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) يعودان إلى تالي السورة ذاكرا معه جماعة المؤمنين. وفي
العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارك الدلالة على أن هذه
المحامد صادرة من جماعات ، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في
عزة ومنعة ، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء
أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله ، وقريب من هذا
قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :
قعودا له غسان يرجون
أوبة
|
|
وترك ورهط
الأعجمين وكابل
|
إذ قصد من تعداد
أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته. فكأنّ الحامد لما انتقل من
الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها.
ووجهه تقديم قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على قوله : (وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) أن العبادة تقرّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في
المناجاة ، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدّم المناجي
ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك ،
ولأن الاستعانة
بالله تتركب على كونه معبودا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه
العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل. وقد حصل من ذلك التقديم أيضا إيفاء
حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان.
وأعيد لفظ (إِيَّاكَ) في الاستعانة دون أن يعطف فعل (نَسْتَعِينُ) على (نَعْبُدُ) مع أنهما مقصودان جميعا كما أنبأ عنه عطف الجملة على
الجملة لأن بين الحصرين فرقا ، فالحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حقيقي والقصر في (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال
تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢]
ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة
بالله تعالى.
[٦] (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).
تهيأ لأصحاب هذه
المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات
الجلالة ثم أتبعوا ذلك بقولهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار
العبودية وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى ، فكان ذلك
واسطة بين الثناء وبين الطلب ، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجوا من فضله ،
أفضوا إلى سؤال حظهم فقالوا : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم ، فهذا
هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للناس
ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة ، أو الموضوع من
الخطبة ، أو التخلص من القصيدة ، ولاختلاف الجمل المتقدمة معها بالخبرية
والإنشائية فصلت هذه عنهن ، وهذا أولى في التوجيه من جعلها جوابا لسؤال مقدر على
ما ذهب إليه صاحب «الكشاف».
والهداية الدلالة
بتلطف ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير
، وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه لأن معناه معنى الإرشاد ، ويتعدى إلى المفعول
الثاني وهو المهدى إليه بإلى وباللام والاستعمالان واردان ، تقول هديته إلى كذا
على معنى أوصلته إلى معرفته ، وهديته لكذا على معنى أرشدته لأجل كذا : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣]
وقد يعدى إلى
المفعول الثاني بنفسه كما هنا على تضمينه معنى عرف قيل هي لغة أهل الحجاز وأما
غيرهم فلا يعديه بنفسه وقد جعلوا تعديته بنفسه من التوسع المعبر عنه بالحذف
والإيصال. وقيل الفرق بين المتعدي وغيره أن المتعدي يستعمل في الهداية لمن كان في
الطريق ونحوه ليزداد هدى ومصدره حينئذ الهداية ، وأما هداه إلى كذا أو لكذا
فيستعمل لمن لم يكن سائرا في الطريق ومصدره هدى ، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى أن
المتعدي بالحرف إنما عدي لتقويته والتقوية إما أن يقصد بها تقوية العامل لضعفه في
العمل بالفرعية أو التأخير ، وإما أن يقصد بها تقوية معناه ، والحق أن هذا إن تم
فهو أغلبي على أنه تخصيص من الاستعمال فلا يقتضي كون الفعل مختلف المعنى لأن الفعل
لا تختلف معانيه باعتبار كيفية تعديته إلا إذا ضمن معنى فعل آخر ، على أن كلا من
الهدى والهداية اسم مصدر والمصدر هو الهدي. والذي أراه أن التعدية والقصور ليسا من
الأشياء التي تصنع باليد أو يصطلح عليها أحد ، بل هي جارية على معنى الحدث المدلول
للفعل فإن كان الحدث يتقوم معناه بمجرد تصور من قام به فهو الفعل القاصر وإن كان
لا يتقوم إلا بتصور من قام به ومن وقع عليه فهو المتعدي إلى واحد أو أكثر ، فإن
أشكلت أفعال فإنما إشكالها لعدم اتضاح تشخص الحدث المراد منها لأن معناها يحوم حول
معان متعددة. وهدى متعد لواحد لا محالة ، وإنما الكلام في تعديته لثان فالحق أنه
إن اعتبر فيه معنى الإراءة والإبانة تعدى بنفسه وإن اعتبر فيه مطلق الإرشاد
والإشارة فهو متعد بالحرف فحالة تعديته هي المؤذنة بالحدث المتضمن له.
وقد قيل إن حقيقة
الهداية الدلالة على الطريق للوصول إلى المكان المقصود فالهادي هو العارف بالطرق
وفي حديث الهجرة : «إن أبا بكر استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا» وإن ما نشأ
من معاني الهداية هو مجازات شاع استعمالها. والهداية في اصطلاح الشرع حين تسند إلى
الله تعالى هي الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير ويقابلها الضلالة وهي التغرير.
واختلف علماء
الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية فالجمهور على عدم
اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول
الأشاعرة وهو الحق. وذهب جماعة منهم الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع
الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه
إلى ما هداه إليه ، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله
ومشيئته وإرادته
وأمره ، فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر ، والمعتزلة نظروا
إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلق ، ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول
هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من
المهدي وهذا معنى ما اختار عبد الحكيم أنها موضوعة في الشرع لقدر المشترك لورودها
في القرآن في كل منهما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] وقال
: (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧]
والأصل عدم الاشتراك وعدم المجاز.
والهداية أنواع
تندرج كثرتها تحت أربعة أجناس مترتبة : الأول إعطاء القوى المحركة والمدركة التي بها يكون الاهتداء إلى
انتظام وجود ذات الإنسان ، ويندرج تحتها أنواع تبتدئ من إلهام الصبي التقام الثدي
والبكاء عند الألم إلى غاية الوجدانيّات التي بها يدفع عن نفسه كإدراك هول
المهلكات وبشاعة المنافرات ، ويجلب مصالحه الوجودية كطلب الطعام والماء وذود
الحشرات عنه وحك الجلد واختلاج العين عند مرور ما يؤذي تجاهها ، ونهايتها أحوال
الفكر وهو حركة النفس في المعقولات أعني ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول في
البديهيات وهي القوة الناطقة التي انفرد بها الإنسان المنتزعة من العلوم المحسوسة.
الثاني نصب الأدلة الفارقة بين الحق والباطل والصواب والخطأ ، وهي
هداية العلوم النظرية. الثالث
الهداية إلى ما قد
تقصر عنه الأدلة أو يفضي إعمالها في مثله إلى مشقة وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب
وموازين القسط وإليها الإشارة بقوله تعالى في شأن الرسل : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٢٣]. الرابع أقصى أجناس الهداية وهي كشف الحقائق العليا وإظهار أسرار
المعاني التي حارت فيها ألباب العقلاء إما بواسطة الوحي والإلهام الصحيح أو
التجليات ، وقد سمى الله تعالى هذا هدى حين أضافه للأنبياء فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].
ولا شك أن المطلوب
بقوله (اهْدِنَا) الملقّن للمؤمنين هو ما يناسب حال الداعي بهذا إن كان
باعتبار داع خاص أو طائفة خاصة عند ما يقولون : اهدنا ، أو هو أنواع الهداية على
الجملة باعتبار توزيعها على من تأهل لها بحسب أهليته إن كان دعاء على لسان
المؤمنين كلهم المخاطبين بالقرآن ، وعلى كلا التقديرين فبعض أنواع الهداية مطلوب
حصوله لمن لم يبلغ إليه ، وبعضها مطلوب دوامه لمن كان حاصلا له خاصة أو لجميع
الناس الحاصل لهم
، وذلك كالهداية الحاصلة لنا قبل أن نسألها مثل غالب أنواع الجنس الأول.
وصيغة الطلب
موضوعة لطلب حصول الماهية المطلوبة من فعل أو كف فإذا استعملت في طلب الدوام كان
استعمالها مجازا نحو : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء : ١٣٦]
وذلك حيث لا يراد بها إلا طلب الدوام. وأما إذا استعملت في طلب الدوام للزيادة مما
حصل بعضه ولم يحصل بعضه فهي مستعملة في معناها وهو طلب الحصول لأن الزيادة في
مراتب الهداية مثلا تحصيل لمواد أخرى منها. ولما كان طلب الزيادة يستلزم طلب دوام
ما حصل إذ لا تكاد تنفع الزيادة إذا انتقض الأصل كان استعمالها حينئذ في لازم
المعنى مع المعنى فهو كناية. أما إذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) من بلغ جميع مراتب الهداية ورقى إلى قمة غاياتها وهو النبي
صلىاللهعليهوسلم فإن دعاءه حينئذ يكون من استعمال اللفظ في مجاز معناه
ويكون دعاؤه ذلك اقتباسا من الآية وليس عين المراد من الآية لأن المراد منها طلب
الحصول بالمزيد مع طلب الدوام بطريقة الالتزام ولا محالة أن المقصود في الآية هو
طلب الهداية الكاملة.
والصراط الطريق
وهو بالصاد وبالسين وقد قرئ بهما في المشهورة وكذلك نطقت به بالسين جمهور العرب
إلا أهل الحجاز نطقوه بالصاد مبدلة عن السين لقصد التخفيف في الانتقال من السين
إلى الراء ثم إلى الطاء قال في «لطائف
الإشارات» عن الجعبري إنهم
يفعلون ذلك في كل سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء وإنما قلبوها هنا صادا
لتطابق الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخم مع الراء استثقالا للانتقال من سفل
إلى علو ا ه. أي بخلاف العكس نحو طست لأن الأول عمل والثاني ترك. وقيس قلبوا السين
بين الصاد والزاي وهو إشمام وقرأ به حمزة في رواية خلف عنه. ومن العرب من قلب
السين زايا خالصة قال القرطبي : وهي لغة عذرة وكلب وبني القين وهي مرجوحة ولم يقرأ
بها ، وقد قرأ باللغة الفصحى (بالصاد) جمهور القراء وقرأ بالسين ابن كثير في رواية
قنبل ، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى.
فإن قيل كيف كتبت
في المصحف بالصاد وقرأها بعض القراء بالسين؟ قلت إن الصحابة كتبوها بالصاد تنبيها
على الأفصح فيها ، لأنهم يكتبون بلغة قريش واعتمدوا على علم العرب فالذين قرءوا
بالسين تأولوا أن الصحابة لم يتركوا لغة السين للعلم بها فعادلوا الأفصح بالأصل
ولو كتبوها بالسين مع أنها الأصل لتوهم الناس عدم جواز العدول عنه
لأنه الأصل
والمرسوم كما كتبوا المصيطر بالصاد مع العلم بأن أصله السين فهذا مما يرجع الخلاف
فيه إلى الاختلاف في أداء اللفظ لا في مادة اللفظ لشهرة اختلاف لهجات القبائل في
لفظ مع اتحاده عندهم.
والصراط اسم عربي
ولم يقل أحد من أهل اللغة إنه معرب ولكن ذكر في «الإتقان» عن النقاش وابن الجوزي أنه الطريق بلغة الروم وذكر أن أبا
حاتم ذكر ذلك في كتاب «الزينة» له وبنى على ذلك السيوطي فزاده في «منظومته في المعرب».
والصراط في هذه
الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز
هو الذي جاء الإسلام بطلبه.
والمستقيم اسم
فاعل استقام مطاوع قومته فاستقام ، والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعاريج ، وأحسن
الطرق الذي يكون مستقيما وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود
من غيره فلا يضل فيه سالكه ولا يتردد ولا يتحير.
والمستقيم هنا
مستعار للحق البين الذي لا تخلطه شبهة باطل فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيّات ،
عن ابن عباس أن الصراط المستقيم دين الحق ، ونقل عنه أنه ملة الإسلام ، فكلامه
يفسر بعضه بعضا ولا يريد أنهم لقنوا الدعاء بطلب الهداية إلى دين مضى وإن كانت
الأديان الإلهية كلها صرطا مستقيمة بحسب أحوال أممها يدل لذلك قوله تعالى في حكاية
غواية الشيطان : (قالَ فَبِما
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦].
فالتعريف في (الصراط
المستقيم) تعريف العهد الذهني ، لأنهم سألوا الهداية لهذا الجنس في ضمن فرد وهو
الفرد المنحصر فيه الاستقامة لأن الاستقامة لا تتعدد كما قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا
الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] ولأن
الضلال أنواع كثيرة كما قال : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ
كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠]
وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام فعلمهم الله هذا الدعاء لإظهار
منته وقد هداهم الله بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة ويهديهم بما لحق من
القرآن والإرشاد النبوي. وإطلاق الصراط المستقيم على دين الإسلام ورد في قوله
تعالى : (قُلْ إِنَّنِي
هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً) [الأنعام : ١٦١].
والأظهر عندي أن
المراد بالصراط المستقيم المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل بأن يوفقهم إلى الحق
والتمييز بينه وبين الضلال على مقادير استعداد النفوس وسعة
مجال العقول
النيرة والأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ وشبهات في دينهم وهذا أولى ليكون
الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب وإنّ المرء بحاجة إلى هذه الهداية في
جميع شئونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير
فيه أو الزيغ عنه. والهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتباعه وتقلده بل هي
مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص أو الاستنباط. وبه يظهر موقع قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ) مصادفا المحز.
[٧] (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧).
(صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).
بدل أو عطف بيان
من (الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن
يقال : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم ، لفائدتين : الأولى : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة
للنجاة واضحة سمحة سهلة ، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان
فضله. الفائدة
الثانية : ما في أسلوب
الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس
المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي ،
وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم
فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية
مساو لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافا لمن حاول التفاضل بينهما
، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم
يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهدا يعين المصير إلى أحدهما دون
الآخر.
قال في «الكشاف» : «فإن قلت ما فائدة البدل؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه
من التثنية والتكرير» ا ه فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد
وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما
يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله : «وهو
في حكم تكرير العامل كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين ، وسماه
تكريرا لأنه إعادة للفظ بعينه ،
بخلاف إعادة لفظ
المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية ،
ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل
وفائدة التوكيد اللفظي ، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر
عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع.
وإن إعادة الاسم
في البدل أو البيان ليبنى عليه ما يراد تعلقه بالاسم الأول أسلوب بهيج من الكلام
البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلوله بمحلّ العناية وأنه حبيب إلى النفس ، ومثله
تكرير الفعل كقوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢]
وقوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ
الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] فإن
إعادة فعل (مَرُّوا) وفعل (أَغْوَيْناهُمْ) وتعليق المتعلّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تجد له من
الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة ، وليست الإعادة في
مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به. قال ابن جني في «شرح مشكل الحماسة» عند قول الأحوص :
فإذا تزول تزول
عن متخمّط
|
|
تخشى بوادره على
الأقران
|
محال أن تقول إذا
قمت قمت وإذا أقعد أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول
فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة ، ومثله
قول الله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ
أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) وقد كان أبو علي (يعني الفارسي) امتنع في هذه الآية مما
أخذناه ا ه.
قلت ولم يتضح
توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار (أَغْوَيْناهُمْ) بدلا من (أَغْوَيْنا) وجعله استئنافا وإن كان المآل واحدا. وفي استحضار المنعم
عليهم بطريق الموصول ، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة ، تنويه بشأنهم
خلافا لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين.
ثم إن في اختيار
وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمت عليهم دون بقية أوصافه تمهيدا لبساط
الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيت فلانا كان ذلك أنشط لكرمه ، كما
قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلىاللهعليهوسلم : «كما صليت على إبراهيم» ، فيقول السائلون : اهدنا الصراط
المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن
يكونوا لا حقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم ، وتهمما بالاقتداء بهم في
الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ) [الممتحنة : ٦] ،
وتوطئة لما سيأتي بعد من التبري
من أحوال المغضوب
عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلا وتعوذا.
والنعمة ـ بالكسر
وبالفتح ـ مشتقة من النعيم وهو راحة العيش وملائم الإنسان والترفه ، والفعل كسمع
ونصر وضرب. والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة
اللذات الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها
صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ) النعمة التي لم يشبها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سوأى ،
فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة ، وهي الأهم ،
فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيّ منها والكسبيّ ، والرّوحانيّ والجثماني ، ويشمل
النعم الأخروية. والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية ، فإن الهداية إلى
الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية ، ولأن الموهوب
في الدنيا وإن كان حاصلا بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وهب
لأجله.
فالمراد من المنعم
عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم
وبين المهديين حينئذ فيكون في إبدال (صِراطَ الَّذِينَ) من (الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعم عليهم بالنعمة
الكاملة قد هدوا إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم
السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة. وإنما يلتئم كون
المسئول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دين الإسلام الذي جاء من بعد باعتبار
أن الصراط المستقيم جار على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية
والتقوى ، فسألوا دينا قويما يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين
الإسلام ، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها ، أو المراد من المنعم
عليهم الأنبياء والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم ، ولذلك وصف
الله كثيرا من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢]
ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم
للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في
الغاية ، ولنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدر غير المسكر منه مباحا وإنما يحرم
السّكر أو لا يحرم أصلا غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو
المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها ، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء
أو بأفضل أتباعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد
الهداية إلى صراط
كامل ويكون هذا الدعاء محمولا في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت
زمانه والتي لم يبلغ إلى نهايتها.
والقول في المطلوب
من (اهْدِنَا) على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون (اهْدِنَا) لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام.
والدعاء مبني على
عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة ، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر
منعم عليه بما لا يمترى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة
ويعقبها عذاب الآخرة ، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم
عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين.
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
كلمة غير مجرورة
باتفاق القراء العشرة ، وهي صفة للذين أنعمت عليهم ، أو بدل منه والوصف والبدلية
سواء في المقصود ، وإنما قدم في «الكشاف» بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام
على الوصفية ، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة (غير) التي لا تتعرف ،
وإلا فإن جعل (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو
حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات
له ، يريد أن معنى التوصيف في (غَيْرِ) أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة ، وهو وقوف عند حدود
العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب «الكشاف» إلى تأويل (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) بالذين سلموا من الغضب ، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل
غير بل أراد بيان المعنى. وإنما صح وقوع (غير) صفة للمعرفة مع قولهم إن غير
لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفا أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز
فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف ، فغير وإن كانت
مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف ،
إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير ، فما ذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير
عمرو ، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ) ليس مرادا به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان
المعرف بال الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني ، فكان في المعنى
كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظا ومعنى ، وهو (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى
كالنكرة لعدم إرادة شيء معين ، وإما باعتبار تعريف غير في مثل
هذا لأن غير إذا
أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة ، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده
نحو عليك بالحركة غير السكون ، فلما كان من أنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو
المغضوب عليه ، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن
الحاجب في أماليه على قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥]
ونقل عن سيبويه أن غيرا إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألحق
بها مثلا وسوى وحسب وقال : إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت. وكأن مآل المذهبين
واحد لأن غيرا إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له
الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة ، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبدا فقولك
عليك بالحركة غير السكون هو غير قولك مررت بزيد غير عمرو وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) من النوع الأول.
ومن غرض وصف (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بأنهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) التعوذ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط
الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها
فغيروها وما رعوها حق رعايتها ، والتبرّؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة وسوء
الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب
الله تعالى ، وكذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم
للحفاظ على السير فيه باستقامة ، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذ أساءوا صفة
العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالا.
والظاهر أنهم لم
يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم
قديما واليهود من جملة الفريق الأول ، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من
الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم. وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود
والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه
مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المرادين اليهودية ودين
النصرانية لكان الدعاء تحصيلا للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخا لهما.
ويشمل المغضوب
عليهم والضالون فرق الكفر والفسوق والعصيان ، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت
ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا ، والضالون جنس للفرق التي
أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء ؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع
سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول
والنصارى من
الفريق الثاني. وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين
بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان
الوصفان لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه. وقد تبين لك من هذا أن
عطف (وَلَا الضَّالِّينَ) على (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال
الذي جلب لأصحابه غضب الله لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك
الدركات وذلك وجه تقديم (الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) على (وَلَا الضَّالِّينَ) ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي ، فالتدرج فيه يحصل بنفي
الأضعف بعد نفي الأقوى ، مع رعاية الفواصل.
والغضب المتعلق
بالمغضوب عليهم هو غضب الله. وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس
يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام ، فالكيفية سبب لطلب
الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام. والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست
من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره ، وأن الغضب هو
كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه
وكراهية فاعله ، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان
وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في
النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه ،
فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنوا على القوانين العربية.
وإذ كانت حقيقة
الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية
الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية ، فقد وجب على المؤمن
صرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي ، وطريقة أهل العلم والنظر في هذا
الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم
معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه ، أعني العقاب والإهانة يوم
الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل
التمثيلية.
وكان السلف في
القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك
الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ
النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا
يلائم الحق ، لم يجد أهل العلم بدا من توسيع أساليب التأويل
الصحيح لإفهام
المسلم وكبت الملحد ، فقام الدين بصنيعهم على قواعده ، وتميز المخلص له عن ماكره
وجاحده. وكلّ فيما صنعوا على هدى. وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبدا. وما
تأوّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.
فغضب الله تعالى
على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه
الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من
النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث : «ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال»
، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غير المشيئة والإرادة بمعنى التقدير والتكوين ،
(وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩]
وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام.
واعلم أن الغضب
عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها
بالعدالة وهي : الحكمة والعفة والشجاعة ، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر
به عن مبدأ نفساني لأخلاق كثيرة متطرفة ومعتدلة فيلقّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان
من صفات السّبعية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد
انحراف فاعتدالها الشجاعة وكبر الهمة ، وثبات القلب في المخاوف ، وانحرافها إما
بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبر والعجب والشراسة والحقد والحسد
والقساوة ، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أطلق الغضب لغة انصرف
إلى بعض انحراف الغضبية ، ولذلك كان من جوامع كلم النبي صلىاللهعليهوسلم : «أن رجلا قال له أوصني قال : لا تغضب فكرّر مرارا فقال :
لا تغضب» رواه الترمذي. وسئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم؟ فقال : لأنا نعاقب على
قدر الذنب لا على قدر الغضب. فالغضب المنهي عنه هو الغضب للنّفس لأنه يصدر عنه
الظلم والعدوان ، ومن الغضب محمود وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصا الدينية
وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله.
وقوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) معطوف على (الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) كما هو متبادر ، قال ابن عطية ، قال مكي ابن أبي طالب إن
دخول (لا) لدفع توهم عطف (الضالين) على (الذين أنعم عليهم) ، وهو توجيه بعيد فالحق
أن (لا) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ (غير) على طريقة العرب في المعطوف على
ما في حيز النفي نحو قوله : (أَنْ تَقُولُوا ما
جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ
وَلا نَذِيرٍ) [المائدة : ١٩]
وهو أسلوب في كلام العرب. وقال السيد في «حواشي الكشاف» لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوّز ثبوت أحدهما ،
ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها ، وليست زيادة (لا)
هنا كزيادتها في نحو : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢]
كما توهمه بعض المفسرين ؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات
والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي.
والضلال سلوك غير
الطريق المراد عن خطإ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم ، ومنه ضالة
الإبل ، وهو مقابل الهدى وإطلاق الضال على المخطئ في الدين أو العلم استعارة كما
هنا. والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال
ما دون ذلك ، قالوا وله عرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية
فيما تقدم أنها الدلالة بلطف ، فالضلال عدم ذلك ، ويطلق على أقصى أنواعه الختم
والطبع والأكنّة.
والمراد من
المغضوب عليهم والضالين جنسا فرق الكفر ، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك
واستحقت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جدا تحمل عليه غلبة الهوى ، فهؤلاء سلكوا
من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطئوا عن غير
معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.
والضالون جنس
للفرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب
لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة
مقاصده.
وإذ قد تقدم ذكر
المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادوا عن الصراط الذي هدوا إليه فحرموا
أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى ، وأن الضالين قد ضلوا الصراط ، فحصل
شبه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظا من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على
الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في
الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضبا شديدا لأن ضلالهم شنيع. فاليهود مثل للفريق الأول
والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم في «جامع
الترمذي» وحسّنه. وما ورد
في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى ، فهو من قبيل التمثيل
بأشهر الفرق التي حق عليها هذان
الوصفان ، فقد كان
العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن. وكانوا
يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة ، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن
الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك.
فاليهود تمردوا
على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمدا فلزمهم وصف المغضوب عليهم وعلق
بهم في آيات كثيرة. والنصارى ضلوا بعد الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى
عليهالسلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا
فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا
مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧].
وفي وصف الصراط المسئول في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا
يهوى أهله إلى هوة الضلالة كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي
هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً) [الأنعام : ١٦١]
وقال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] ،
على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد»
ولم يترك بيان الشريعة مجاري اشتباه بين الخلاف الذي تحيط به دائرة الإسلام
والخلاف الذي يخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩].
واختلف القراء في
حركة هاء الضمير من قوله : (أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ) ، وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) ، وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب
وقع بعد ياء ساكنة ، فالجمهور قرءوها بكسر الهاء تخلصا من الثقل لأن الهاء حاجز
غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك
ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر. وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم
الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين. وقرأ
يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء. وقد ذكرنا
هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء
الضمير.
واختلفوا أيضا في
حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرءوا : (عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه
بضمة مشبعة : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) وهي لغة بعض العرب
وعليها قول لبيد :
وهمو فوارسها وهم حكامها
فجاء باللغتين ،
وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو :
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
٢ ـ سورة البقرة
كذا سميت هذه
السورة سورة البقرة في المروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم وما جرى في كلام السلف ، فقد ورد في «الصحيح» أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه» ، وفيه
عن عائشة : «لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأهن رسول الله ثم قام فحرم
التجارة في الخمر».
ووجه تسميتها أنها
ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم
لذلك ، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره ، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة
تمييزا لها عن السور آل الم من الحروف المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف
المقطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها وعرفوها بها نحو : طه ، ويس ، وص وفي الاتفاق
عن «المستدرك» أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنها سنام القرآن» وسنام كل شيء أعلاه وهذا ليس
علما لها ولكنه وصف تشريف. وكذلك قول خالد بن معدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما
يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة.
نزلت سورة البقرة
بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في المدينة ، وحكى ابن حجر في «شرح البخاري» الاتفاق عليه ، وقيل نزلت سورة المطففين قبلها بناء على
أن سورة المطففين مدنية ، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام ، والصيام فرض في
السنة الأولى من الهجرة ، فرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة
الثانية لأن النبي صلىاللهعليهوسلم صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة ،
فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية.
وفي البخاري عن
عائشة «ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده» (تعني النبي صلىاللهعليهوسلم) وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى
للهجرة ، وقيل في أول السنة
الثانية ، وقد روى
عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة وبنى بها وهي بنت تسع
سنين ، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة وعلى أحكام القتال من
المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة
ست كما سنبينه عند آية : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة : ١٩٦]
وقد يكون ممتدا إلى ما بعد سنة ثمان كما يقتضيه قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ـ الآيات إلى قوله
ـ (لِمَنِ اتَّقى) [البقرة : ١٩٧ ـ
٢٠٣]. على أنه قد قيل إن قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١]
الآية هو آخر ما نزل من القرآن ، وقد بينا في المقدمة الثامنة أنه قد يستمر نزول
السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى.
وقد عدت سورة
البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة المطففين وقبل آل
عمران.
وإذ قد كان نزول
هذه السورة في أول عهد بإقامة الجامعة الإسلامية واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم
كان من أول أغراض هذه السورة تصفية الجامعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة
لما أقام الله لها من الصلاح سعيا لتكوين المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل
والدخل.
وإذ كانت أول سورة
نزلت بعد الهجرة فقد عني بها الأنصار وأكبوا على حفظها ، يدل لذلك ما جاء في
السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنين قال النبي صلىاللهعليهوسلم للعباس : «اصرخ يا معشر الأنصار يا أهل السّمرة (يعني شجرة
البيعة في الحديبية) يا أهل سورة البقرة» فقال الأنصار : لبيك لبيك يا رسول الله
أبشر. وفي «الموطأ» قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة
ثماني سنين يتعلمها ، وفي «صحيح
البخاري» : كان نصراني
أسلم فقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلىاللهعليهوسلم ثم ارتد إلى آخر القصة.
وعدد آيها مائتان
وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة ومكة والشام ، وست وثمانون عند أهل العدد
بالكوفة ، وسبع وثمانون عند أهل العدد بالبصرة.
محتويات هذه السورة
هذه السورة
مترامية أطرافها ، وأساليبها ذات أفنان ، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان
مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن ، فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان ، وعلى الناظر
أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها ، ولكن هذا لا يحجم بنا
عن التعرض إلى
لائحات منها ، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم
الكلام ، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها
ينقسم إلى قسمين : قسم يثبت سموّ هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره
النفوس ، وقسم يبين شرائع هذا الدّين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم. وكان أسلوبها أحسن
ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية ، وأساليب الكتب التشريعية ،
وأساليب التذكير والموعظة ، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين ، ويحضر لنا
من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف
التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده ،
فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحوّل الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له
أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد
قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣].
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه ، وتخلص إلى تصنيف الناس
تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة (وكانوا قبل الهجرة صنفين)
بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي. وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم
المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة ـ يعني المسلمين ـ ابتدئ بذكرهم ، ولما كان أشد
الأصناف عنادا وحقدا صنفا المشركين الصّرحاء والمنافقين لف الفريقان لفا واحدا
فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة ، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها
لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ورد مطاعنهم ، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح
التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول
والإبانة ، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم ، فكان
ذلك من رد العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي
خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا. وتخلص إلى صفة بدء
خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي
يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم ، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات
هذا العالم ، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان
له ولنسله ، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها. فهذه
المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة
عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشدّ الناس مقاومة لهدي القرآن ،
وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل
الكتاب يومئذ هم
أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) [البقرة : ٤٠]
الآيات فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم ، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من
الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة
إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا
موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل ، وبيان
أخطائهم ، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا
من أخلاقهم من تعلق الحياة : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦] ،
ومحاولة العمل بالسحر (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ) إلخ [البقرة : ١٠٢] وأذى النبي بموجّه الكلام (لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤].
ثم قرن اليهود
والنصارى والمشركون في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) إلى قوله : (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١٠٥ ـ
١١٢] ، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى
عَلى شَيْءٍ) إلى (يَخْتَلِفُونَ) [البقرة : ١١٣] ثم
خص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله
في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى
واتحدوا في كراهية الإسلام.
وانتقل بهذه
المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام ، وبانيه ، ودعوته لذريته بالهدى ، والاحتراز عن
إجابتها في الذين كفروا منهم ، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد ،
وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم ، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال
الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية ،
وذكر شعائر الله بمكة ، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة ، وأن
العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧].
وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما
هو خير منهما.
ثم عاد إلى محاجة
المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ) إلخ [البقرة : ١٦٤] ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه
من قادتهم ، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ
آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] ،
وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم
أظهروا مودة المسلمين : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [البقرة : ٢٠٤].
ولما قضى حق ذلك
كله بأبدع بيان وأوضح برهان ، انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧] ،
ثم تفصيلا : القصاص ، الوصية ، الصيام ، الاعتكاف ، الحج ، الجهاد ، ونظام
المعاشرة والعائلة ، المعاملات المالية ، والإنفاق في سبيل الله ، والصدقات ،
والمسكرات ، واليتامى ، والمواريث ، والبيوع والربا ، والديون ، والإشهاد ، والرهن
، والنكاح ، وأحكام النساء ، والعدة ، والطلاق ، والرضاع ، والنفقات ، والأيمان.
وختمت السورة
بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام
تذييلا وفذلكة : (ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) [البقرة : ٢٨٤]
الآيات.
وكانت في خلال ذلك
كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا لنشاط القارئ
والسامع ، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع ، وتخرج بوادر الزّهر عقب
الرعود القوارع ، من تمجيد الله وصفاته : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) [البقرة : ٢٥٥]
ورحمته وسماحة الإسلام ، وضرب أمثال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩]
واستحضار نظائر : (وَإِنَّ مِنَ
الْحِجارَةِ) [البقرة : ٧٤] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣]
وعلم وحكمة ، ومعاني الإيمان والإسلام ، وتثبيت المسلمين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) [البقرة : ١٥٣]
والكمالات الأصلية ، والمزايا التحسينية ، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها
وفوائدها لا من هيئاتها ، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩] (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ) [البقرة : ١٧٧] (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧]
والنظر والاستدلال ، ونظام المحاجة ، وأخبار الأمم الماضية ، والرسل وتفاضلهم ،
واختلاف الشرائع.
[١] (الم (١))
تحير المفسرون في
محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور ، وفي فواتح سور
أخرى عدة جميعها
تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية ، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] ،
وأخلق بها أن تكون مثار حيرة ومصدر ، أقوال متعددة وأبحاث كثيرة ، ومجموع ما وقع
من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي
وقعت فيها هذه الحروف : السور المكية عدا البقرة وآل عمران ، والحروف الواقعة في
السور هي : أ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه ، ي ، بعضها تكرر في
سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها.
ولا خلاف أن هاته
الفواتح حين ينطق بها القارئ أسماء الحروف التهجي التي ينطق في الكلام بمسمياتها
وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول
القارئ : (ألف لام ميم) مثلا ولا يقول (الم). وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف
التي يتهجى بها في الكلام التي يقوم رسم شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم
يكتبوها بدوالّ ما يقرءونها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي
تكتب بصورها لا بأسمائها. وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى لأنه
أشمل للأقوال المندرجة تحتها ، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي
كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة ، أو كونها أسماء
للسور الواقعة هي فيها ، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة ، وتنبيه
العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية ، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة
هو أولها ، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس
عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق
بمسمياتها لا بأسمائها ؛ لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها ، وهذا أولى لأنه أشمل
للأقوال.
وعرفت اسميتها من
دليلين :
أحدهما اعتوار أحوال
الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول : الألف ، والباء ، ومثل الجمع حين تقول
الجيمات ، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيبويه في «كتابه» : قال الخليل يوما وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في
لك والباء التي في ضرب فقيل نقول كاف ، باء ، فقال إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا
بالحرف وقال أقول كه ، وبه (يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان
عند النطق إذ أبقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفردا).
والذي يستخلص من
أقوال العلماء بعد حذف متداخله وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولا ولشدة
خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بدا من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها
بتنويعها إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول يرجع
إلى أنها رموز اقتضبت من كلم أو جمل ، فكانت أسرارا يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة
ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال : الأول أنها علم استأثر الله تعالى به ونسب هذا إلى الخلفاء
الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون اطلاع الله على المقصود منها رسوله صلىاللهعليهوسلم وقاله الشعبي وسفيان. والثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف
مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقاله محمد بن القرظي
أو الربيع بن أنس فألم مثلا الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي ، واللام إلى لطيف
، والميم إلى ملك أو مجيد ، ونحو ذلك ، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى
لهم به.
الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلىاللهعليهوسلم والملائكة فألم مثلا ، الألف من الله ، واللام من جبريل ،
والميم من محمد ، قاله الضحاك ، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها ، ولعلنا سننبه
على ذلك في مواضعه.
الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في
الفصل ٢٧ منه من كتابه «الفتوحات» أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة
وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله
التالي بعد النطق بها ، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر ، ويقولون هذا مؤمن حقا
نطق حقا وأخبر بحق فيستغفرون له ، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى.
الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبي صلىاللهعليهوسلم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن ملوكة
التونسي في «رسالة» له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به
عن طائفة من أسمائه الكريمة وأوصافه الخاصة ، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه
المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم ، واللام مكنيّ به عن صفاته مثل لب الوجود ،
والميم مكني به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر ، فكلها منادى بحرف نداء
__________________
مقدر بدليل ظهور
ذلك الحرف في يس. ولم يعز هذا القول إلى أحد ، وعلق على هذه «الرسالة» تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية «تعليقة» أكثر فيها من التعداد ، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد (وهي
وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد ٥١٤) ويردّ هذا القول التزام حذف حرف
النداء وما قاله من ظهروه في يس مبني على قول من قال : إن يس بمعنى يا سيد وهو
ضعيف ؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء لأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف
الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من (كهيعص) [مريم : ١].
القول
السادس أنها رموز لمدة
دوام هذه الأمة بحساب الجمّل قاله أبو العالية أخذا بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن
عبد الله بن وثاب قال : «جاء أبو ياسر بن أخطب وحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوا
رسول الله عن الم وقالوا هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة فضحك رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وقال لهم ص والمر فقالوا اشتبه علينا الأمر فلا ندري أبا
لقليل نأخذ أم بالكثير؟» ا ه. وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه
الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزا لأعداد مدة هذه الأمة ،
وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة
بالنقض في الجدل ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له. وأما ضحكه صلىاللهعليهوسلم فهو تعجب من جهلهم.
القول
السابع أنها رموز كل حرف
رمز إلى كلمة فنحو : (الم) أنا الله أعلم ، و (المر) أنا الله أرى ، و (المص) أنا
الله أعلم وأفصل. رواه أبو الضحى عن ابن عباس ، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ
مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة ، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها.
ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلا من كلمات تتألف من تلك الحروف
نظما ونثرا ، من ذلك قول زهير :
بالخير خيرات
وإن شرّ فا
|
|
ولا أريد الشر
إلا أن تا
|
__________________
أراد وإن شر فشر
وأراد إلا أن تشا ، فأتى بحرف من كل جملة. وقال الآخر (قرطبي) :
ناداهم ألا
ألجموا ألا تا
|
|
قالوا جميعا
كلهم ألا فا
|
أراد بالحرف الأول
ألا تركبون ، وبالثاني ألا فاركبوا. وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي
بن حاتم :
قلت لها قفي لنا
قالت قاف
|
|
لا تحسبنّي قد
نسيت الإيجاف
|
أراد قالت وقفت.
وفي الحديث : «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة»
قال شقيق :
هو أن يقول اق
مكان اقتل. وفي الحديث أيضا : «كفى بالسيف شا» ، أي شاهدا . وفي «كامل
المبرد» من قصيدة لعلي
بن عيسى القمي وهو مولد :
وليس العجاجة
والخافقا
|
|
ت تريك المنا
برءوس الأسل
|
أي تريك المنايا.
وفي «تلع» من «صحاح
الجوهري» قال لبيد :
درس المنا
بمتالع فأبان
|
|
فتقادمت بالحبس
فالسوبان
|
أراد درس المنازل.
وقال علقمة الفحل («خصائص» ص ٨٢) :
كأن إبريقهم ظبي
على شرف
|
|
مفدم بسبا
الكتان ملثوم
|
أراد بسبائب
الكتان. وقال الراجز :
حين ألقت بقباء
بركها
|
|
واستمر القتل في
عبد الأشل
|
أي عبد الأشهل.
وقول أبي فؤاد :
يذرين جندل حائر
لجنوبها
|
|
فكأنما تذكى
سنابكها الحبا
|
أراد الحباحب.
وقال الأخطل :
أمست مناها بأرض
ما يبلغها
|
|
بصاحب الهم إلا
الجسرة الأجد
|
__________________
أراد منازلها.
ووقع («طراز
المجالس» ـ المجلس) للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس :
لم أنس بدرا
زارني ليلة
|
|
مستوفزا مطلعا
للخطر
|
فلم يقم إلا
بمقدار ما
|
|
قلت له أهلا
وسهلا ومر
|
أراد بعض كلمة
مرحبا وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك
تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما
يشير إليه مع التورية بجعل مرّ من المرور.
القول
الثامن أنها إشارات إلى
أحوال من تزكية القلب ، وجعلها في «الفتوحات» في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان ، وحاصله أن جملة
الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا
والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين
وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة» فهذه الحروف هي شعب الإيمان ،
ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها. وكيف يزعم زاعم
أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند
، ولو لا أنهم فهموا منها معنى معروفا دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك
المعاندون.
قال القاضي أبو
بكر بن العربي : لو لا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول
من أنكر ذلك على النبي صلىاللهعليهوسلم بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم
إلى عثرة وحرصهم على زلة قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا (وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] ،
وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب ، ومما أخرج مخرج
الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد.
النوع
الثاني يجمع الأقوال
الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا وفيه من الأقوال
أربعة.
التاسع في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء والمتكلمين
واختاره الفخر
__________________
أنها أسماء للسور
التي وقعت فيها ، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في «كتابه» باب أسماء السور من أبواب ما لا ينصرف أو للخليل ونسبه
صاحب «الكشاف» للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون
هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور ، وسميت بها كما نقول الكراسة ب
والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لام الطائي والد
حارثة ، وسموا الذهب عين ، والسحاب غين ، والحوت نون ، والجبل قاف ، وأقوال ، وحاء
قبيلة من مذحج ، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي :
يذكرني حاميم
والرمح شاجر
|
|
فهلّا تلا حاميم
قبل التقدم
|
يريد (حم عسق) [الشورى : ١ ، ٢]
التي فيها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣].
ويبعد هذا القول بعدا ما إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه
الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين ، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة
سور مثل الم والر وحم. وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها.
القول
العاشر وقال جماعة إنها
أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها
ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن ، نحو (الم غُلِبَتِ
الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢] ،
و (الم أَحَسِبَ
النَّاسُ) [العنكبوت : ١ ، ٢].
القول
الحادي عشر أن كل حروف مركبة
منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق وسكت عن
الحروف المفردة فيرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم
الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله مثل (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢]
و (المص كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) [الأعراف : ١ ، ٢].
الثاني
عشر قال الماوردي :
هي أفعال فإن حروف المص كتاب فعل ألمّ بمعنى نزل فالمراد (الم ذلِكَ الْكِتابُ) أي نزل عليكم ، ويبطل كلامه أنها لا تقرأ بصيغ الأفعال على
__________________
أن هذا لا يتأتى
في جميعها نحو كهيعص والمص والر ولو لا غرابة هذا القول لكان حريا بالإعراض عنه.
النوع
الثالث تندرج فيه
الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك
وفيه من الأقوال :
القول
الثالث عشر : أن هاته الحروف
أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويها بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء
الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش ، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت
مقسما بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد
ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو : (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] و (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [الزخرف : ١] ،
قال صاحب الكشاف : وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في
قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ، ٢]
أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف ، والجواب عن هذا أن
اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تنفع بجعل الواو
التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين ، قال النابغة :
والله والله
لنعم الفتى ال
|
|
حارث لا النكس
ولا الخامل
|
القول
الرابع عشر : أنها سيقت مساق
التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتا للمشركين وإيقاظا لنظرهم في أن هذا
الكتاب المتلو عليهم وقد تحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف
كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف
ومعالجة النطق تعريضا بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة ، فيلقنها
كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتّاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه
المحاولة عجزا لا معذرة لهم فيه ، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء ،
قال في «الكشاف» وهذا القول من القوة والخلافة بالقبول بمنزلة ، وقلت وهو الذي
نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن
الله تعالى يقول : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]
فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في
هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا
ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم
عرف السامعون
أنهم عوملوا
معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ ، ويعضد هذا الوجه
تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في (كهيعص) [مريم : ١] و (الم أَحَسِبَ النَّاسُ) [العنكبوت : ١ ، ٢]
و (الم غُلِبَتِ
الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢]
ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض ، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله
لمراعاة فصاحة الكلام ، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية
عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران ، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب
عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي ، ويؤيده أيضا
الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء
قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتّاب طلبا
للخفة كما سيأتي قريبا في آخر هذا المبحث من تفسير (الم).
القول
الخامس عشر : أنها تعليم
للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم
الصبيان الحروف المقطعة ، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز بن يحيى ، يعني إذ
لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيئ وبعض قريش وكنانة
من أهل مكة ، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور
المختلفة ، فكانوا بادئ الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق
بعد تبلبل الألسن ، والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم
أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين ، ثم إن العرب لما
بادوا (أي سكنوا البادية) تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة ،
وشغلهم حالهم عن تلقي مبادئ العلوم ، فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن
والحجاز ، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها
فكانت طيئ بنجد يعرفون القراءة والكتابة ، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد
نجد ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من
طيئ يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد ، وكان أهل الحيرة يعلمون
الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة ، وقصة
المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة
الحيرة. ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين ، قد تناسوا الكتابة
إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب ، فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار
يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال
له من الأسرى يفتدي
بأن يعلم عشرة من
غلمان أهل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة ، وكانت الشفاء بنت عبد
الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين. ويوجد في أساطير العرب
ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي
أن المحض بن جندل من أهل مدين وكان ملكا كان له ستة أبناء وهم : أبجد ، وهوز ،
وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، فجعل أبناءه ملوكا على بلاد مدين وما حولها فجعل
أبجد بمكة وجعل هوزا وحطيا بالطائف ونجد ، وجعل الثلاثة الباقين بمدين ، وأن كلمنا
كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها
ثخذ وضغط فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة
تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز
، وحقا إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن
هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي
بيانه من كلام «الكشاف».
القول
السادس عشر : أنها حروف قصد
منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يافتى لإيقاظ ذهن السامع
قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة ، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا
وبل لا ، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت : إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل
الغفلة أو مشغول البال يقدّم على الكلام المقصود شيئا ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك
المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاما مثل النداء وحروف الاستفتاح
، وقد يكون المقدم صوتا كمن يصفق ليقبل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفا
من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت
للتنبيه على غرض مهم.
القول
السابع عشر : أنها إعجاز
بالفعل وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق
__________________
بأصول القراءة كما
ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بيّن البطلان لأن الأمي لا يعسر
عليه النطق بالحروف.
القول
الثامن عشر : أن الكفار كانوا
يعرضون عن سماع القرآن فقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦]
فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا
قصد ، قاله قطرب وهو قريب من القول السادس عشر.
القول
التاسع عشر : أنها علامة لأهل
الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة.
القول
العشرون : قال التبريزي :
علم الله أن قوما سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام ،
وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف
المقطعة لقلة أصواتها.
القول
الحادي والعشرون : روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول
أو الثاني.
هذا جماع الأقوال
، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف. لام. ميم دون
أن يقرءوا الم وأن رسمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين
الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة ، على أن ما يندرج تحت ذينك
النوعين متفاوت في درجات القبول ، فإن الأقوال الثاني ، والسابع ، والثامن ،
والثاني عشر ، والخامس عشر ، والسادس عشر ، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة
من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها. فإذا تعين هذان
النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهيا ، خلص أن الأرجح من تلك
الأقوال ثلاثة : وهي كون تلك الحروف لتبكيت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة
، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها ، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر
الكتابة وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية وأرجح
هذه الأقوال الثلاثة هو أولها.
قال في «الكشاف» : ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي
حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ،
والكاف ، والهاء ،
والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون ، في تسع وعشرين
سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف
ففيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء ، ومن
المجهورة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ،
والياء ، والنون ، ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف ، ومن
الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ،
والحاء ، والياء ، والنون. ومن المطبقة نصفها : الصاد ، والطاء. ومن المنفتحة
نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ،
والقاف ، والياء ، والنون. ومن المستعلية نصفها القاف ، والصاد ، والطاء. ومن
المستفلة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء والكاف ، والهاء ، والياء ،
والعين ، والسين ، والحاء ، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها : القاف ، والطاء. ثم
إن الحروف التي ألغى ذكرها مكثورة بالمذكورة ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ا
ه وزاد البيضاوي على ذلك أصنافا أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء
فليراجعها. ومحصول كلامهما أنه قد قضى بذكر ما ذكر من الحروف وإهمال ذكر ما أهمل
منها حقّ التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف ، وترك النصف من باب «وليقس ما لم يقل»
لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة ، وحقّ الإيجاز في الكلام. فيكون
ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه
الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
وكيفية النطق أن
ينطق بها موقوفة دون علامات إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل
فحالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثة أربعة خمسه. وكحال أسماء الأشياء
التي تملى على الجارد لها ، إذ تقول مثلا : ثوب ، بساط ، سيف ، دون إعراب ، ومن
إعرابها كان مخطئا. ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها
صحيح الآخر نطق به ساكنا نحو ألف ، لام ، ميم. وما كان من أسماء الحروف ممدود
الآخر نطق به في أوائل السور ألفا مقصورا لأنها مسوقة مساق المتهجّى بها وهي في
حالة التهجي مقصورة طلبا للخفة لأن التهجّي إنما يكون غالبا لتعليم المبتدئ ،
واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعديد أو
مأخوذة منه.
ولكن الناس قد
يجعلون فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأت : (كهيعص) كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسما للقصيدة فيقولون قرأت
: «قفا نبك» و«بانت سعاد» فحينئذ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة
معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا
يصرف حاميم كما قال شريح بن أوفى العنسي المتقدم آنفا :
يذكّرني حاميم
والرّمح شاجر
|
|
فهلّا تلا حاميم
قبل التّقدّم
|
وكما قال الكميت :
قرأنا لكم في آل
حاميم آية
|
|
تأوّلها منّا
فقيه ومعرب
|
ولا يعرب (كهيعص) [مريم : ١] إذ لا
نظير له في الأسماء إفرادا ولا تركيبا. وأما طسم فيعرب إعراب المركب المزجى نحو
حضرموت ودارابجرد وقال سيبويه : إنك إذا جعلت (هود) اسم السورة لم تصرفها
فتقول قرأت هود للعلميّة والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتها بعمرو. ولك
في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما
يليها من حيث الإعراب ، فإن جعلتها حروفا للتهجي تعريضا بالمشركين وتبكيتا لهم
فظاهر أنها حينئذ محكية ولا تقبل إعرابا ، لأنها حينئذ بمنزلة أسماء الأصوات لا
يقصد إلا صدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيّئ
السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها
، أو يطرح ، أو يقسم ، فلا إعراب لها مع ما يليها ، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من
هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصود لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها
من التعريض لأن الذي يتهجّى الحروف لمن ينافي حاله أن يقصد تعليمه يتعين من المقام
أنه يقصد التعريض. وإذا قدّرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسما بها
فقيل إن لها أحكاما مع ما يليها من الإعراب بعضها محتاج للتقدير الكثير ، فدع عنك
الإطالة بها فإن الزمان قصير.
وهاته الفواتح
قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل
هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور
__________________
القراء. وروى عن
قراء الكوفة أن بعضها عدّوه آيات مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما
يليه ، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب «الكشاف» إن هذا لا دخل للقياس فيه.
والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم
؛ لأن الدليل مفقود. والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ
المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقبها من الكلام ولا
يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالة
المطابقة في هذه الحروف تقديرية إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة
الالتزام. ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرءونها إذا قرءوا
الآية المتصلة بها ، ففي «جامع الترمذي» في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة
الروم فنزلت : (الم غُلِبَتِ
الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢] ،
وفيه أيضا : «فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة (الم غُلِبَتِ
الرُّومُ) وفي «سيرة ابن إسحاق» من رواية ابن هشام عنه : «فقرأ رسول
الله على عتبة بن ربيعة : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) حتى بلغ قوله : (فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١ ـ ١٣]
الحديث.
وعلى هذا الخلاف
اختلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة
بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة.
[٢] (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ (٢))
(ذلِكَ الْكِتابُ).
مبدأ كلام لا
اتصال له في الإعراب بحروف (الم) [البقرة : ١] كما
علمت مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر. وقد جوز صاحب «الكشاف» على
احتمال أن تكون حروف (الم) مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل
بعض القرآن ، أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى (الم) باعتباره حرفا مقصودا للتعجيز ، أي ذلك المعنى الحاصل من
التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتاب أي منها تراكيبه فما
أعجزكم عن معارضته ، فيكون (الم) جملة مستقلة مسوقة للتعريض.
واسم الإشارة
مبتدأ و (الكتاب) خبرا. وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذ
واسم الإشارة مبتدأ و (الكتاب) بدل وخبره ما بعده ، فالإشارة إلى
(الكتاب) النازل
بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة ؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر
عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به ، فيكون (الكتاب) على هذا الوجه أطلق حقيقة
على ما كتب بالفعل ، ويكون قوله (الكتاب) على هذا الوجه خبرا عن اسم الإشارة ،
ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقّب فهو
حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان ، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة
إليه للحضور التقديري فيكون قوله (الكتاب) حينئذ بدلا أو بيانا من (ذلِكَ) والخبر هو (لا رَيْبَ فِيهِ).
ويجوز الإتيان في
مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد ، قال الرضي «وضع اسم الإشارة
للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حسّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان
بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب ، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني
رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل ، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن
تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : «والله وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال
سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم»
ا ه ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر ، وعكس
ذلك في الإشارة للقول.
وابن مالك في «التسهيل» سوّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم
إذ قال : وقد يتعاقبان (أي اسم القريب والبعيد) مشارا بهما إلى ما ولياه أي من
الكلام ، ومثّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨]
ثم قال : (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢]
فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد ، وكلام ابن مالك أوفق
بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ
الحاضر دعوى عريضة. وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثل الإشارة
إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضا ، ففي القرآن : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ
هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ١٥] فإذا
كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالا لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال
، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد
__________________
مناسبة لذلك
المقام فدلنا على أنهم يعرّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان
الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى ، مثل
زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا ، وكما قال خفاف بن ندبة :
أقول له والرمح
يأطر متنه
|
|
تأمل خفافا إنني
أنا ذلك
|
وقد يؤتى بالقريب
لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخطيم في «الحماسة» :
متى يأت هذا
الموت لا يلف حاجة
|
|
لنفسي إلا قد
قضيت قضاءها
|
فلا جرم أن كانت
الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله
بعيد المنزلة. وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة
المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له
عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال ، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي
بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في (الم) [البقرة : ١] كان
كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه
ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم : (افْتَراهُ) [يونس : ٣٨]
وقولهم : (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥].
ولا يرد على هذا قوله : (وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ) [الأنعام : ٩٢]
فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره
ونواهيه. ولعل صاحب «الكشاف» بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعدّ : (ذلِكَ الْكِتابُ) تنبيها على التعظيم أو الاعتبار ، فلله در صاحب «المفتاح» إذ لم يغفل ذلك فقال في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة
: أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول
وكقوله عزّ وعلا : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) ذهابا إلى بعده درجة.
__________________
وقوله : (الْكِتابُ) يجوز أن يكون بدلا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه
لعدم مشاهدته ، فالتعريف فيه إذن للعهد ، ويكون الخبر هو جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) ، ويجوز أن يكون (الكتاب) خبرا عن اسم الإشارة ويكون
التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزءين
فهو إذن قصر ادّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء
على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصف الكتاب لعدم استكمالها
جميع كمالات الكتب ، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف
بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو
نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير ، ففائدة التعريف
والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال.
و (الكتاب) فعال
بمعنى المكتوب إما مصدر كاتب المصوغ للمبالغة في الكتابة ، فإن المصدر يجىء بمعنى
المفعول كالخلق ، وإما فعال بمعنى مفعول كلباس بمعنى ملبوس وعماد بمعنى معمود به.
واشتقاقه من كتب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتابا ، وتسمية
القرآن كتابا إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه. وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين.
(لا رَيْبَ فِيهِ
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
حال من الكتاب أو
خبر أول أو ثان على ما مر قريبا. والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس ،
وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك ، قال الله تعالى : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ولما
كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه
الشيء إذا شككه أي بجعل ما أوجب الشك في حاله فهو متعد ، ويقال أرابه كذلك إذ
الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لحق وألحق ، وزلقه وأزلقه وقد قيل إن أراب
أضعف من راب أراب بمعنى قرّبه من أن يشك قاله أبو زيد ، وعلى التفرقة بينهما قال
بشار :
أخوك الذي إن ربته
قال إنما
|
|
أربت وإن عاتبته
لان جانبه
|
__________________
وفي الحديث : «دع
ما يريبك إلى ما لا يريبك» أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر
لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.
ولم يختلف متواتر
القراء في فتح (لا رَيْبَ) نفيا للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفع لاحتمل
نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الحروف المجتمعة في (الم) على إرادة التعريض بالمتحدّين وكان قوله : (الْكِتابُ) خبرا لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله : (لا رَيْبَ) نفيا لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب
مؤلفا من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله ، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء
، فتكون جملة (لا رَيْبَ) منزّلة منزلة التأكيد لمفاد الإشارة في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله : (فِيهِ) متعلقا بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله : (فِيهِ) ، وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ
فِيهِ) [الشورى : ٧]
وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران : ٩]
ويجوز أن يكون قوله : (فِيهِ) ظرفا مستقرا خبرا لقوله بعده : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ومعنى «في» هو الظرفية المجازية العرفية تشبيها لدلالة
اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦]
استنزالا لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه
ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبي صلىاللهعليهوسلم لأبي ذر : «إنك امرؤ فيك جاهلية» ويكون خبر (لا) محذوفا
لظهوره أي لا ريب موجود ، وحذف الخبر مستعمل كثيرا في أمثاله نحو : (قالُوا لا ضَيْرَ) [الشعراء : ٥٠]
وقول العرب لا بأس ، وقول سعد بن مالك :
من صد عن
نيرانها
|
|
فأنا ابن قيس لا
براح
|
أي لا بقاء في ذلك
، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله : (لا رَيْبَ) وفي «الكشاف» أن نافعا وعاصما وقفا على قوله : (رَيْبَ).
وإن كانت الإشارة
بقوله : (ذلِكَ) إلى (الْكِتابُ) باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله (الْكِتابُ) بدلا من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله : (فِيهِ) ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في
مثله ، والوقف على قوله (فِيهِ) ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي
الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله
تعالى وسيجيء خطابهم
بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]
فارتيابهم واقع مشتهر ، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو
تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم. قال صاحب «المفتاح» : «ويقلبون القضية مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر
الإسلام : الإسلام حق وقوله عزوجل في حق القرآن : (لا رَيْبَ فِيهِ) ـ وكم من شقي
مرتاب فيه ـ وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملا في
معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب
أصلا على طريقة التمثيل.
ومن المفسرين من
فسر قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته أي ليس فيه
اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازا في سببه ويكون المجرور ظرفا مستقرا خبر (لا)
فينظر إلى قوله تعالى : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] أي
إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين ، من
كلام يناقض بعضه بعضا أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر
والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة ، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه
القرآن إذا تدبّر فيه المتدبر وجده مفيدا اليقين بأنه من عند الله والآية هنا
تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة.
وهذا النفي ليس
فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد
التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت
لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود
قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال
مجملة مثل هذا سحر ، هذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا
سيما بعد قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنت ساكت : هذا
الكلام صواب تعرض بغيره.
وبهذا الوجه أيضا
يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على (فِيهِ) ولدي
__________________
من وقف على (رَيْبَ) ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفا أمكن
الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة ، وقد ذكر «الكشاف» أن الظرف وهو قوله : (فِيهِ) لم يقدم على المسند إليه وهو (رَيْبَ) (أي على احتمال أن
يكون خبرا عن اسم لا) كما قدم الظرف في قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧]
لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتابا آخر فيه الريب ا ه. يعني لأن التقديم في مثله
يفيد الاختصاص فيكون مفيدا أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه
الريب وهو غير مقصود هنا. وليس الحصر في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدّين بالقرآن وليسوا من
أهل كتاب حتى يرد عليهم. وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله
إذ هم قد دعوا إلى معارضته فعجزوا. نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا
المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآن لعلو شأنه بين نظرائه من الكتب ليس
فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلا من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما
يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدل المحرف فإن الشك في
الحقائق رائد ظهورها. والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها. وقد بنى
كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك
الكيفية أفاد قصر النفي لا نفى القصر ، وأمثلة صاحب «المفتاح» في تقديم المسند للاختصاص سوّى فيها بين ما جاء بالإثبات
وما جاء بالنفي. وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) [البقرة : ٢٧٢].
وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها.
وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الهدى اسم مصدر الهدي ليس له نظير في لغة العرب إلا سرى
وتقى وبكى ولغى مصدر لغي في لغة قليلة. وفعله هدى هديا يتعدى إلى المفعول الثاني
بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦].
والهدى على
التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن
الأصل عدم الترادف فلا يكون هدى مرادفا لدل ولأن المفهوم من الهدى الدلالة الكاملة
وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي. وهو أسعد بقواعد الأشعري
لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري من خلق الله تعالى في قلب الموفّق فيناسب
تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية.
فالقرآن هدى ووصفه
بالمصدر للمبالغة أي هو هاد.
والهدى الشرعي هو
الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. وأثر هذا الهدى هو
الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون ، وهذا
معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة
إليها في فهم الآية. وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ). ومحل (هدى) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف
هو ضمير (الكتاب) فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في
حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد
الناس حتى كان هو عين الهدى تنبيها على رجحان هداه على هدى ما قبله من الكتب ، وإن
كان الوقف على قوله (لا رَيْبَ) وكان الظرف صدر الجملة الموالية وكان قوله (هُدىً) مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخبارا بأن فيه هدى
فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجه المتقدم
الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى.
والمتقي من اتصف
بالاتقاء وهو طلب الوقاية ، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر
المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر ، والمراد هنا المتقين الله ، أي الذين هم خائفون
غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له
وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا.
والتقوى الشرعية
هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا
وباطنا أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه ، فالكبائر كلها
متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم.
والمراد من الهدى
ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى
المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن
المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من
خطر غضب الله هذا هو الظاهر ، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد
وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله
تعالى : (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ـ إلى قوله ـ (مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٣ ، ٤].
وفي بيان كون
القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة :
الأول
: أن القرآن هدى في
زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم
الفاعل والمراد حال النطق. والمتقون هم المتقون في الحال أيضا لأن اسم الفاعل
حقيقة في الحال كما قلنا ، أي إن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا
الكتاب ، أو يزيده هدى كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧].
الثاني
: أنه هدى في
الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب ، فيكون المراد من المتقين من كانت
التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة
هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى
فيما مضى ، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق
الثناء على الكتاب.
الثالث
: أنه هدى في
المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في (هُدىً) لأن المصدر لا يدل على زمان معين.
حصل من وصف الكتاب
بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل ، لو وصف باسم الفاعل فقيل هاد للمتقين ، فهذا
ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه ،
فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين ، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في
سائر مراتب التقوى ، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف
مطالبهم ، فمن منتفع بهديه في الدين ، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة ،
ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل ، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين ،
وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم. وقد جعل أئمة الأصول
الاجتهاد في الفقه من التقوى ، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦]
فإن قصّر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به ، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية ، ولا
يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء
بالقرآن.
وتلتئم الجمل
الأربع كمال الالتئام : فإن جملة (الم) [البقرة : ١]
تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف
كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم.
وجملة : (ذلِكَ الْكِتابُ) تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب ، فذلك
موجه إلى الخاصة
من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم ، وهو بالغ حد الكمال من بين
الكتب ، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأن منحتموه فإنكم تعدون
أنفسكم أفضل الأمم ، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان
هذا وزان قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا
إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) إلى قوله : (وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٦ ،
١٥٧] ، وموجّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه.
وجملة : (لا رَيْبَ) إن كان الوقف على قوله : (لا رَيْبَ) تعريض بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي إن
الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة ، وأن (لا ريب) فإنه الكتاب الكامل ، وإن
كان الوقف على قوله : (فِيهِ) كان تعريضا بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما
فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس ، قال
تعالى : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
وقال في «الكشاف» : ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم
السري من نكتة ذات جزالة : ففي
الأولى الحذف والرمز إلى
الغرض بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع
المصدر ـ وهو الهدى ـ موضع الوصف وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين ا ه. فالتقوى
إذن بهذا المعنى هي أساس الخير ، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي
جماع الخيرات. قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى
اهتماما بشأنها.
[٣] (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))
(الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
يتعين أن يكون
كلاما متصلا بقوله : (لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] على
أنه صفة لإرداف صفتهم الإجمالية بتفصيل يعرف به المراد ، ويكون مع ذلك مبدأ
استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوّه به إلى
أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين ، فقد كانوا قبل الهجرة صنفا مؤمنين
وصنفا كافرين مصارحين ، فزاد بعد الهجرة صنفان : هما المنافقون وأهل الكتاب ،
فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام
الأولون ،
والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر ،
وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام ، فلما أصبح الإسلام في
المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفّوا مع المنافقين وظاهروا المشركين. وقد أشير
إلى أن المؤمنين المتقين فريقان : فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين
وكان القرآن هدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] إلخ.
فالمثنيّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في
النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا ، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون
الطمع أو التجربة ، فوائل بن حجر مثلا لما جاء من اليمن راغبا في الإسلام هو من
المتقين ، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعا في الملك هو من غير
المتقين. وفريق آخر يجيء ذكره بقوله : (وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة : ٤]
الآيات.
وقد أجريت هذه
الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى
والنظر في العاقبة ، ولذلك وصفهم بقوله : (يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ) أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم
القرآن في آيات كثيرة ، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصّلات الثلاث صيغة
المضارع الدالة على التجدّد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة
والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن.
وجوز صاحب «الكشاف» كونه كلاما مستأنفا مبتدأ وكون : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) [البقرة : ٥]
خبره. وعندي أنه تجويز لما لا يليق ، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر
، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى
أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع ، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما ، وإلا كان
تقصيرا من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن
الإطالة في أغراضه أمكن.
والغيب مصدر بمعنى
الغيبة : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف : ٥٢] (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ
بِالْغَيْبِ) [المائدة : ٩٤]
وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما
تنفك صالحة
|
|
من آل لام بظهر
الغيب تأتيني
|
وفي الحديث : «دعوة
المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة». والمراد بالغيب ما لا
يدرك بالحواس مما
أخبر الرسول صلىاللهعليهوسلم صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله ، وصفاته ، ووجود
الملائكة ، والشياطين ، وأشراط الساعة ، وما استأثر الله بعلمه. فإن فسر الغيب
بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين ، وإن
فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية ، كانت الباء
متعلقة بيؤمنون ، فالمعنى حينئذ : الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم
الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك. وفي حديث الإيمان : «أن تؤمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». وهذه كلها من
عوالم الغيب.
كان الوصف تعريضا
بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا : (هَلْ نَدُلُّكُمْ
عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : ٧] فجمع
هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين ، وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء
بالكتاب ، وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر ، وسيعقب هذا
التعريض بصريح وصفهم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦]
الآيات. وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨].
ويؤمنون معناه
يصدقون ، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية ، فأصل آمن تعدية أمن ضد
خاف فآمن معناه جعل غيره آمنا ثم أطلقوا آمن على معنى صدّق ووثق حكى أبو زيد عن
العرب : «ما آمنت أن أجد صحابة» يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر ، فصار آمن بمعنى
صدّق على تقدير أنه آمن مخبره من أن يكذّبه ، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن
تخاف من كذب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه ، ثم
صار فعلا قاصرا إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة
اللازم ، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمن أي من الشك واضطراب
النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب ، ثم إنهم يضمنون آمن معنى
أقر فيقولون آمن بكذا أي أقر به كما في هذه الآية ، ويضمنونه معنى اطمأن فيقولون
آمن له : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥].
ومجيء صلة الموصول
فعلا مضارعا لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفا ، أي لا يطرأ على
إيمانهم شك ولا ريبة.
وخص بالذكر
الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس
هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم
العلوي ، فإذا آمن
به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلّغه عن الله تعالى فسهل عليه
إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء
الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة
كما كان حال الماديين وهم المسمون بالدّهريين الذين قالوا : (ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]
وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا
يثبتون من الغيب وجود الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك. والكلام
على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجىء عند قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨].
(وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ).
الإقامة مصدر أقام
الذي هو معدى قام ، عدي إليه بالهمزة الدالة على الجعل ، والإقامة جعلها قائمة ،
مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا
التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر. قال أيمن ابن خريم الأنطري :
أقامت غزالة سوق
الضّراب
|
|
لأهل العراقين
حولا قميطا
|
وأصل القيام في
اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع ، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا
يتأتى من قعود ، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام
لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازا على النشاط في قولهم قام
بالأمر ، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب ، وقالوا في
ضده ركدت ونامت ، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسبا لنشاطه المجازي وهو من قبيل
المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز
الثاني والاستعارة عليها ، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات
والعناية بها بجعل الشيء قائما ، وأحسب أن تعليق هذا
__________________
الفعل بالصلاة من
مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل [٢٠] : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وهي ثالثة السور نزولا. وذكر صاحب «الكشاف» وجوها أخر
بعيدة عن مساق الآية.
وقد عبر هنا
بالمضارع كما وقع في قوله : (يُؤْمِنُونَ) ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا
من قبل نزول الآية ، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية
، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن
من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغدا ، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها
الآن أو غدا وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم. وقد حصل من إفادة المضارع
التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم
بالمواظبة على الصلاة أصرح.
والصلاة اسم جامد
بوزن فعلة محرّك العين (صلاة) ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول
الأعشى :
تقول بنتي وقد
يمّمت مرتحلا
|
|
يا ربّ جنّب أبي
الأوصاب والوجعا
|
عليك مثل الذي
صليت فاغتمضي
|
|
جفنا فإن لجنب
المرء مضطجعا
|
وورد بمعنى
العبادة في قول الأعشى :
يراوح من صلوات
الملي
|
|
ك طورا سجودا
وطورا جؤارا
|
فأما الصلاة
المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود
وتسليم. قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم
فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر
بزيادات ، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن
على هاته الهيئة قال النابغة :
أو درة صدفيّة
غوّاصها
|
|
بهيج متى يرها
يهلّ ويسجد
|
__________________
وهذا وإن كان كذا
فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت ا ه.
قلت لا شك أن
العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليهالسلام فقال : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣٧]
وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيئة مخصوصة ، وسمّوا
كنيستهم صلاة ، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دفن النعمان
بن الحارث الغساني :
فآب مصلّوه بعين
جلية
|
|
وغودر بالجولان
حزم ونائل
|
على رواية مصلوه
بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان ، إذ قد كان منتصرا ومنه
البيت السابق. وعرفوا السجود قال النابغة :
أو درة صدفية
غوّاصها
|
|
بهج متى يرها
يهلّ ويسجد
|
وقد تردد أئمة
اللغة في اشتقاق الصلاة ، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر
ويفترق عند عجب الذنب فيكتنفه فيقال : حينئذ هما صلوان ، ولما كان المصلي إذا
انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أنف من كذا إذا
شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق
الجمل وقولهم تنمر فلان ، وقولها : «زوجي إذا دخل فهد وإذا خرج أسد» والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد
القول به ضعيفا لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد.
وإنما أطلقت على
الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل ، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم
جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلّى الفرس إذا جاء
معاقبا للمجلي في خيل الحلبة ، لأنه يجىء مزاحما له في السبق ،
__________________
واضعا رأسه على
صلا سابقه واشتقوا منه المصلّي اسما للفرس الثاني في خيل الحلبة ، وهذا الرأي في
اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك.
وما أورده الفخر في «التفسير» أنّ دعوى اشتقاقها من الصلوين يفضي إلى طعن عظيم في كون
القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من
أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل ، فإذا جوزنا أنه خفي واندرس حتى لا
يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بأن مراد الله تعالى من هذه
الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن
الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا ا ه يرده بالاستعمال أنه لا مانع من أن يكون
لفظ مشهور منقولا من معنى خفي لأنه العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق
فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي : «واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم
اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه».
ومما يؤيد أنها
مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لو لا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما
كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل.
وأما قول «الكشاف» : وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام
يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة.
ومصدر صلّى قياسه
التصلية وهو قليل الورود في كلامهم. وزعم الجوهري أنه لا يقال صلّى تصلية وتبعه
الفيروزآبادي ، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في «أماليه».
وقد نقلت الصلاة
في لسان الشرع إلى الخضوع بهيئة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد. والقول بأن أصلها
في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي
أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية ، وأن الشرع لم يستعمل لفظا إلا في حقيقته
اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها. وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع
جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات. وقال صاحب «الكشاف» : الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان. والحق أن
هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية.
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ).
صلة ثالثة في وصف
المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله ؛
لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا
إلى دلائل صدق
صاحبه وهي عظائم الأعمال ، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من
آمن به. ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالا لأمر الله بذلك.
والرزق ما يناله
الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وينال بها ملائمه ،
فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر
المثمر والثياب وما يقتني به ذلك من النقدين ، قال تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء : ٨] أي
مما تركه الميت ـ وقال : (اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [الرعد : ٢٦] وقال
في قصة قارون : (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ) ـ إلى قوله ـ (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) [القصص : ٧٦ ـ ٨٢]
مرادا بالرزق كنوز قارون وقال : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧]
وأشهر استعماله بحسب ما رأيت من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك
للإنسان ، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز ،
كما في قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] وقوله :
(وَجَدَ عِنْدَها
رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧]
وقوله : (لا يَأْتِيكُما
طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) [يوسف : ٣٧].
والرزق شرعا عند
أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدم النقل إلا لدليل ، فيصدق اسم الرزق على الحلال
والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير ملتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له
مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيبا وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر
والتجارة فيها قبل تحريمها ، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم. وخالفت
المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلق المفاسد والشرور وتقديرهما ، ومسألة الرزق
من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال ، ومسألة
السعر ، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب.
والإنفاق إعطاء
الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب
لله بالنفع له من طعام أو لباس. وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة
وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا
خصلة من خصال الإيمان الكامل ، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة
إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني
الدين
بالتحريض عليه ؛
فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق ، للقرابة وللمحاويج من الأمة
ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة ، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية
الضرورية أو الحاجية وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه ، ومن
الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دعا الدين إلى نفعه.
وفي إسناده فعل (رزقنا)
إلى ضمير الله تعالى وجعل مفعوله ضمير (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ) تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقا لصاحبه هو حق خاص
له خوّله الله إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك
الناس للأموال والأرزاق ، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق
أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مرية في أنها
حقه مثل انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجني الثمار والتقاط ما لا ملك لأحد
عليه ولا هو كائن في ملك أحد ، ومثل خدمته بقوته من حمل ثقل ومشي لقضاء شئون من
يؤجره وانحباس للحراسة ، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يملكها وله حق الانتفاع
بها كالخبز والنسج والتّجر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين
الفخار ، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد ، أو مما ابتكره بعقله مثل
التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال
التي لنفع العامة أو الخاصة ، أو مما أعطاه إياه مالك رزق من هبات وهدايا ووصايا ،
أو أذن بالتصرف كإحياء الموات ، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات
والأكرية والشركات والمغارسة ، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونه أحقّ
الناس به كالإرث. وتملك اللّقطة بعد التعريف المشروط ، وحق الخمس في الركاز. فهذه
وأمثالها مما شمله قول الله تعالى : (مِمَّا رَزَقْناهُمْ).
وليس لأحد ولا
لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسع
لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : «إن أبا سفيان رجل مسّيك فهل أنفق من الذي له
عيالنا فقال لها : «لا إلا بالمعروف» أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما
في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة.
وتقديم المجرور
المعمول على عامله وهو (يُنْفِقُونَ) لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم
إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزّة على النفس كقوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : ٨] ،
مع رعي فواصل الآيات على
حرف النون ، وفي
الإتيان بمن التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعا هو إنفاق بعض
المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجا ، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال
المنفقين. فالواجب منه ما قدرت الشريعة نصبه ومقاديره من الزكاة وإنفاق الأزواج
والأبناء والعبيد ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير ، ولم
يشرع الإسلام وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره. وإنما اختير ذكر
هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعار المسلمين وهي
الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في
كثير من آيات القرآن ، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال
الغيبة عن المؤمنين وحال خويصّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف
والطمع إن كان المراد ما غاب. أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على
قوة اليقين حتى إنه يتبقى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن
الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر
وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة ، ولأن الصلاة كلفة بدنية في
أوقات لا يتذكرها مقيمها أي محسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على
ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية ، ولأن الزكاة أداء المال وقد علم شح النفوس
قال تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ٢١]
ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها
تذكير بنعمة الإسلام.
[٤] (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))
عطف على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣]
طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله : (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وهما معا قسمان للمتقين ، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى
للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون
بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين ، ذكر فريقا آخر من المتقين
وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ثم آمنوا بمحمد ، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذ
اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد
الله بن سلام ، وبعض النصارى مثل صهيب الرومي ودحية الكلبي ، وهم وإن شاركوا مسلمي
العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة
الصلاة فإن ذلك
كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وصف به المسلمون
الأوّلون ، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص ، ولما كان قصد تخصيصهم
بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا
يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن
الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء ، وكيف وفيهم من خيرة المؤمنين من
الصحابة وهم أشد اتقاء واهتداء إذ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم
نشأ عن توفيق رباني ، دفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذن بأن هؤلاء فريق آخر
غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول ، وبذلك تبين أن المراد بأهل
الصفات الثلاث الأول هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة. ويكون الموصولان
للعهد ، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضا ممن يؤمن بالغيب ويقيم
الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبي ، وفي التعبير بالمضارع من قوله (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من إفادة التجدّد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم
بالقرآن حدث جديدا ، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد
ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء ، فأبو بكر وعمر أفضل من دحية وعبد الله بن
سلام.
والإنزال جعل
الشيء نازلا ، والنزول الانتقال من علو إلى سفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو
، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عمل
بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية كما في قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) [الأعراف : ٢٦]
وقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] لأن
خلق الله وعطاءه يجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه ، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف
من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعا لنزول الملك
مبلّغه الذي يتصل بهذا العالم نازلا من العالم العلوي قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٤ ،
١٩٥] فإن الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه ، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني
التي تلقى إلى النبي بشيء وصل من مكان عال ، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا
سيما إذا كان الوحي كلاما سمعه الرسول كالقرآن وكما أنزل إلى موسى وكما وصف النبي صلىاللهعليهوسلم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله : «وأحيانا يأتيني
مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال» وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا
تسمّى إنزالا.
والمراد بما أنزل
إلى النبي صلىاللهعليهوسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن
الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقّع إيمانهم بما
سينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أنزل يستمر إيمانه
بكل ما ينزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر ، فإذا زالا
بالإيمان أمنوا من الارتداد وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. فالإيمان بما
سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل
مراد من الكلام وليس مدلولا للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي
على المستقبل في قوله تعالى : (بِما أُنْزِلَ) والمراد ما أنزل وما سينزل كما في «الكشاف».
وعدي الإنزال بإلى
لتضمينه معنى الوصف فالمنزل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يعدّى بحرف على
لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِ) [آل عمران : ٣]
وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوى) [البقرة : ٥٧]
واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام.
ثم إن فائدة
الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال : والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة
بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط
بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجىء في
آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأسر والعبودية ونحو ذلك من كل
ما لم ينزل في الكتب السابقة ، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه
تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق
عن اتباع النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة
ثانية بعد هذه الحياة ، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية
أوصافهم لأنه ملاك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها
جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب
الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى
الإيمان بالنبيء صلىاللهعليهوسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في
عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دهريون ، وأما ما يحكى عنهم
من
أنهم كانوا يربطون
راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حيي
يركبها فلا يحشر راجلا ويسمونها البلية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن
المتنصرين منهم بدون تأمل.
والآخرة في اصطلاح
القرآن هي الحياة الآخرة فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل
المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال ، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد
إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوما وهو يقدر بالحياة
الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة ، ولذلك يقال لها
العاجلة ثم صارت الآخرة علما بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة
بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال. فمعنى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ) أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت.
واليقين هو العلم
بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص
من الإيمان ومن العلم. واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى : (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [التكاثر : ٦ ، ٧]
ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية وقيل : هو العلم
الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوي إطلاقا عرفيا حيث لا يخطر بالبال
أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفا للإيمان والعلم.
فالتعبير عن
إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة ، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص
الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب
المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها ، كان
الإيمان بها جديرا بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان ، فلإيثار (يُوقِنُونَ) هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن ، والذين جعلوا الإيقان
والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنبا لإعادة لفظ (يُؤْمِنُونَ) بعد قوله : (وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).
وفي قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) تقديم للمجرور الذي هو معمول (يُوقِنُونَ) على عامله ، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة ،
وأرى أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن فليس
التقديم بمفيد حصرا إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون
بالآخرة دون غيرها ، وقد تكلف
صاحب «الكشاف» وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن
تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر.
وقوله : (هُمْ يُوقِنُونَ) جيء بالمسند إليه مقدما على المسند الفعلي لإفادة تقوية
الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال ، وإن كانت التوراة
خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح ، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره
وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم ، وأما
المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل فلم يلتفت
إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيرا من شرائعهم بعلة
أنها من شريعة إبراهيم عليهالسلام.
[٥] (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))
(أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ).
اسم الإشارة متوجه
إلى (لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢]
الذين أجرى عليهم من الصفات ما تقدم ، فكانوا فريقين. وأصل الإشارة أن تعود إلى
ذات مشاهدة معينة إلا أن العرب قد يخرجون بها عن الأصل فتعود إلى ذات مستحضرة من
الكلام بعد أن يذكر من صفاتها وأحوالها ما ينزلها منزلة الحاضر في ذهن المتكلم
والسامع ، فإن السامع إذا وعى تلك الصفات وكانت مهمة أو غريبة في خير أو ضده صار
الموصوف بها كالمشاهد ، فالمتكلم يبني على ذلك فيشير إليه كالحاضر المشاهد ، فيؤتى
بتلك الإشارة إلى أنه لا أوضح في تشخصه ، ولا أغنى في مشاهدته من تعرف تلك الصفات
، فتكفي الإشارة إليها ، هذا أصل الاستعمال في إيراد الإشارة بعد ذكر صفات مع عدم
حضور المشار إليه. ثم إنهم قد يتبعون اسم الإشارة الوارد بعد تلك الأوصاف بأحكام
فيدل ذلك على أن منشأ تلك الأحكام هو تلك الصفات المتقدمة على اسم الإشارة ، لأنها
لما كانت هي طريق الاستحضار كانت الإشارة لأهل تلك الصفات قائمة مقام الذوات المشار
إليها ، فكما أن الأحكام الواردة بعد أسماء الذوات تفيد أنها ثابتة للمسميات فكذلك
الأحكام الواردة بعد ما هو للصفات تفيد أنها ثبتت للصفات ، فكقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) بمنزلة أن يقول إن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم
إياهم. ونظيره قول حاتم الطائي :
ولله صعلوك
يساور همّه
|
|
ويمضى على
الأحداث والدّهر مقدما
|
فتى طلبات لا
يرى الخمص ترحة
|
|
ولا شبعة إن
نالها عدّ مغنما
|
إلى أن قال :
فذلك إن يهلك
فحسنى ثناؤه
|
|
وإن عاش لم يقعد
ضعيفا مذمما
|
فقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع إذا سمع ما تقدم
من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف ، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر
ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعا لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه
التفتازانيّ في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة
أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه. وهذا التقدير أظهر معنى
وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم الإشارة في مثل هاته المواقع ، لأنه أظهر في كون
الإشارة لقصد التنويه بتلك الصفات المشار إليها وبما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم
الناشئ عنها ، وهذا لا يحصل إلا بجعل اسم الإشارة مبتدأ أول صدر جملة استئناف.
فقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) رجوع إلى الإخبار عنهم بأن القرآن هدى لهم والإتيان بحرف
الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة
به والسير في طريق الخيرات بهيئة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من
تصريفه والقدرة على إراضته فشبهت حالتهم المنتزعة من متعدد بتلك الحالة المنتزعة
من متعدد تشبيها ضمنيا دل عليه حرف الاستعلاء لأن الاستعلاء أقوى أنواع تمكن شيء
من شيء ، ووجه جعلنا إياها مؤذنة بتقدير مركوب دون كرسي أو مسطبة مثلا ، لأن ذلك
هو الذي تسبق إليه أفهامهم عند سماع ما يدل على الاستعلاء ، إذ الركوب هو أكثر
أنواع استعلائهم فهو الحاضر في أذهانهم ، ولذلك تراهم حين يصرحون بالمشبه به أو
يرمزون إليه ما يذكرون إلا المركوب وعلائقه ، فيقولون جعل الغواية مركبا وامتطى
الجهل وفي «المقامة» : «لما اقتعدت غارب الاغتراب وقالوا في الأمثال : ركب متن
عمياء ، تخبط خبط عشواء. وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل الغنوي :
__________________
فإن يك عامر قد
قال جهلا
|
|
فإن مطيّة الجهل
الشباب
|
فتكون كلمة «على»
هنا بعض المركب الدال على الهيئة المشبه بها على وجه الإيجاز وأصله أولئك على مطية
الهدى فهي تمثيلية تصريحية إلا أن المصرح به بعض المركّب الدال لا جميعه. هكذا قرر
كلام «الكشاف» فيها شارحوه والطيبي ، والتحتاني والتفتازانيّ والبيضاوي.
وذهب القزويني في «الكشف» والسيد الجرجاني إلى أن الاستعارة في الآية تبعية مقيدة
بأن شبه التمسك بالهدى عند المتقين بالتمكن من الدابة للراكب ، وسرى التشبيه إلى
معنى الحرف وهو على ، وجوز السيد وجها ثالثا وهو أن يكون هنا استعارة مكنية مفردة
بأن شبه الهدى بمركوب وحرف الاستعلاء قرينة على ذلك على طريقة السكاكي في رد
التبعية للمكنية. ثم زاد الطيبي والتفتازانيّ فجعلا في الآية استعارة تبعية مع
التمثيلية قائلين إن مجيء كلمة على يعين أن يكون معناها مستعارا لما يماثله وهو
التمكن فتكون هنا لك تبعية لا محالة.
وقد انتصر سعد
الدين التفتازانيّ لوجه التمثيلية وانتصر السيد الجرجاني لوجه التبعية. واشتد
السيد في إنكار كونها تمثيلية ورآه جمعا بين متنافيين لأن انتزاع كل من طرفي
التشبيه من أمور متعددة يستلزم تركبه من معان متعددة ، كيف ومتعلق معنى الحرف من
المعاني المفردة كالاستعلاء هنا ؛ فإذا اعتبر التشبيه هنا مركبا استلزم أن لا يكون
معنى على ومتعلق معناها مشبها به ولا مستعارا منه لا تبعا ولا أصالة ، وأطال في
ذلك في «حاشيته
للكشاف» و«حاشيته على المطول» كما أطال السعد في «حاشية الكشاف» وفي «المطول» ، وتراشقا سهام المناظرة الحادة. ونحن ندخل في الحكومة
بين هذين العلمين بأنه لا نزاع بين الجميع أن في الآية تشبيه أشياء بأشياء على
الجملة حاصلة من ثبوت الهدى للمتقين ومن ثبوت الاستعلاء على المركوب غير أن اختلاف
الفريقين هو في تعيين الطريقة الحاصل بها هذا التشبيه فالأكثرون يجعلونها طريقة
التمثيلية بأن يكون تشبيه تلك الأشياء حاصلا بالانتزاع والتركيب لهيئة ، والسيد
يجعلها طريقة التبعية بأن يكون المشبه والمشبه به هما فردان من تلك الأشياء ويحصل
العلم ببقية تلك الأشياء بواسطة تقييد المفردين المشبه به ، ويجوز طريقة التمثيل
وطريقة المكنية. فينصرف النظر هنا إلى أي الطريقتين أرجح اعتبارا وأوفى في البلاغة
مقدارا.
وإلى أن الجمع بين
طريقتي التمثيلية والتبعية هل يعد متناقضا في اعتبار القواعد البيانية كما زعمه
السيد؟ تقرر في علم البيان أن أهله أشد حرصا على اعتبار تشبيه الهيئة
فلا يعدلون عنه
إلى المفرد مهما استقام اعتباره ولهذا قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» عند ذكر بيت بشار :
كأنّ مثار
النّقع فوق رءوسنا
|
|
وأسيافنا ليل
تهاوى كواكبه
|
«قصد تشبيه النقع والسيوف فيه بالليل
المتهاوية كواكبه ، لا تشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب ،
ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا في حكم الصلة للمصدر (أي مثار) لئلا يقع في تشبيهه
تفرق ، فإن نصب الأسياف على أن الواو بمعنى مع لا على العطف». إذا تقرر هذا تبين
لديك أن للتشبيه التمثيلي الحظ الأوفى عند أهل البلاغة ووجهه أن من أهم أغراض
البلغاء وأولها باب التشبيه وهو أقدم فنونها ، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع
التشبيه لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني.
ونحن نجد اعتبار
التمثيلية في الآية أرجح لأنها أوضح وأبلغ وأشهر وأسعد بكلام «الكشاف» ، أما كونها أوضح فلأن تشبيه التمثيل منزع واضح لا كلفة
فيه فيفيد تشبيه مجموع هيئة المتقين في اتصافهم بالهدى بهيئة الراكب إلخ بخلاف
طريقة التبعية فإنها لا تفيد إلا تشبيه التمكن بالاستعلاء ثم يستفاد ما عدا ذلك
بالتقييد. وأما كونها أبلغ فلأن المقام لما سمح بكلا الاعتبارين باتفاق الفريقين
لا جرم كان أو لا هما بالاعتبار ما فيه خصوصيات أقوى وأعز. وأما كونها أشهر فلأن
التمثيلية متفق عليها بخلاف التبعية. وأما كونه أسعد بكلام «الكشاف» فلأن ظاهر قوله : «مثل» أنه أراد التمثيل ، لأن كلام مثله
من أهل هذه الصناعة لا تخرج فيه اللفظة الاصطلاحية عن متعارف أهلها إلى أصل المعنى
اللغوي.
فإذا صح أن
التمثيلية أرجح فلننقل الكلام إلى تصحيح الجمع بينها وبين التبعية وهو المجال
الثاني للخلاف بين العلامتين فالسعد والطيبي يجوزان اعتبار التبعية مع التمثيلية
في الآية والسيد يمنع ذلك كما علمتم ويقول إذا كان التشبيه منتزعا من متعدد فقد
انتزع كل جزء في المشبّه من جزئي المشبّه به وهو معنى التركيب فكيف يعتبر بعض
المشبه به مستعارا لبعض المشبه فينتقض التركيب. وهذا الدليل ناظر إلى قول أئمة
البلاغة إن أصل مفردات المركب التمثيلي أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية وإنما
المجاز في جملة المركب أي في إطلاقه على الهيئة المشبهة ، فكلام السيد وقوف عندها.
ولكن التفتازانيّ لم ير مانعا من اعتبار المجاز في بعض مفردات المركب التمثيلي إذا
لم يكن فيه تكلف ، ولعله يرى ذلك زيادة في خصوصيات إعجاز هذه الآية ، ومن شأن
البليغ أن لا يفيت ما
يقتضيه الحال من
الخصوصيات ، وبهذا تفاوتت البلغاء كما تقرر في مبحث تعريف البلاغة وحد الإعجاز هو
الطرف الأعلى للبلاغة الجامع لأقصى الخصوصيات كما بيناه في موضعه وهو المختار فلما
وجد في الهيئة المشبهة والهيئة المشبه بها شيئان يصلحان لأن يشبه أحدهما بالآخر
تشبيها مستقلا غير داخل في تشبيه الهيئة كان حق هذا المقام تشبيه التمكن
بالاستعلاء وهو تشبيه بديع وأشير إليه بكلمة على وأما غير هذين من أجزاء الهيئتين
فلما لم يحسن تشبيه شيء منها بآخر ألغي التشبيه المفرد فيها إذ لا يحسن تشبيه
المتقي بخصوص الراكب ولا الهدى بالمركوب فتكون «على» على هذا الوجه بعضا من المجاز
المركب دليلا عليه باعتبار ومجازا مفردا باعتبار آخر.
والذي أختاره في
هذه الآية أن يكون قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ
المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال راكبين مطية الهدى وأبقى ما يدل
على المشبه وهو (أُولئِكَ) والهدى ، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه
وهو لفظ (على) الدال على الركوب عرفا كما علمتم ، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية
الأقسام الثلاثة : الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز
مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة نحو أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى
ومنه مكنية كما في الآية على رأينا ، ومنه تبعية كما في قول الحماسي :
وفارس في غمار
الموت منغمس
|
|
إذا تألّى على
مكروهة صدقا
|
فإن منغمس تمثيل
لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل
جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة.
وإنما نكر هدى ولم
يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عرّف لكان التعريف تعريف الجنس
فرجح التنكير تمهيدا لوصفه بأنه من عند ربهم ، فهو مغاير للهدى السابق في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مغايرة بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلا
إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد
التعظيم. فقوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم
المتصفين بالتمكن منه.
وإنما وصف الهدى
بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله
وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه
بالقرينة.
(وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ).
مرجع الإشارة
الثانية عين مرجع الأولى ، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين
جديرة بالاعتناء والتنويه ، فلا تذكر إحداهما تبعا للأخرى بل تخص بجملة وإشارة
خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهارا بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين.
ووجه العطف بالواو
دون الفصل أن بين الجملتين توسطا بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى
اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم
الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين. وأن نظرت إلى تسبب مفهوم
إحداهما عن مفهوم الأخرى ، وكون كل منهما مقصودا بالوصف كانتا متصلتين ، فكان
التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلا إياهما منزلة المتوسطين ، كذا قرر شراح
«الكشاف» ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم
المعاني ، وتعليله عندي أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر
الجمل بعضها بعد بعض.
وقوله : (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الضمير للفصل ، والتعريف في المفلحون للجنس وهو الأظهر إذ
لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال ، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون ، وتعريف المسند
بلام الجنس إذا حمل على مسند إليه معرف أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد
تأكيد النسبة ، أي تأكيدا للاختصاص. فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف
المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالبا لكنه هنا مجرد عن إفادة
الاختصاص الحقيقي ، ومفيد شيئا من الاهتمام بالخبر ، فلذلك جلب له التعريف دون
التنكير وهذا مثّله عبد القاهر بقولهم : هو البطل الحامي ، أي إذا سمعت بالبطل
الحامي وأحطت به خبرا فهو فلان. وإليه أشار في «الكشاف» هنا بقوله : «أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين
وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم» والسكاكي لم يتابع الشيخين على
هذا فعدل عنه في «المفتاح» ولله دره.
والفلاح : الفوز
وصلاح الحال ، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة ، والمراد به في اصطلاح الدين
الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة. والفعل منه أفلح أي صار ذا فلاح ، وإنما اشتق
منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثا قائما
بالذات بل هو جنس
تحف أفراده بمن قدرت له ، قال في «الكشاف» : انظر كيف كرر الله عزوجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق
شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين ، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين (أُولئِكَ) ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما
قدموا.
[٦] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦))
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).
هذا انتقال من
الثناء على الكتاب ومتقلّديه ووصف هديه وأثر ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء
عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لمّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار
الصفة التي استحق بها الثناء ، ولما كان الشيء قد يقدّر بضده انتقل إلى الكلام على
الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب ، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما
كان من خبث أنفسهم إذ نبوا بها عن ذلك ، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة
أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين ، وكان سواء عندهم الإنذار
وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم ، وقد قرنت الآيات
فريقين فريقا أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ
(الَّذِينَ كَفَرُوا) وفريقا أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم
بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا) [البقرة : ٨].
وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة
لذكر الهدى والمهتدين ، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد ، ويعلم
أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة. وتصدير الجملة بحرف
التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون ردّ الإنكار أو الشك ؛ لأن الخطاب
للنبي صلىاللهعليهوسلم وللأمة وهو خطاب أنف بحيث لم يسبق شك في وقوعه ، ومجيء (إن)
للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير. وقد تكون (إن) هنا لرد الشك تخريجا
للكلام على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأن حرص النبي صلىاللهعليهوسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار
لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار ، أو لأن السامعين لما أجرى على الكتاب من
الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين
المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على
خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك. وقد نقل عن المبرد أن (إنّ) لا
تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك.
وقد تبين أن (الذين
كفروا) المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم ، فالإتيان
في ذكرهم بالتعريف بالموصول إما أن يكون لتعريف العهد مرادا منه قوم معهودون كأبي
جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رءوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركا في
أيام نزول هذه الآية ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مسلمة الفتح
وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ
أنواعه بقرينة قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) فيكون عاما مخصوصا بالحس لمشاهدة من آمن منهم أو يكون عاما
مرادا به الخصوص بالقرينة وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من
المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعيّن أن يكونوا
ممن تبين بعد أنه مات على الكفر.
ومن المفسرين من
تأوّل قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا) على معنى الذين قضى عليهم بالكفر والشقاء ونظره بقوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٦] وهو
تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره. ومن المفسرين من حمل (الَّذِينَ كَفَرُوا) على رؤساء اليهود مثل حيي بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على
أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين وهذا بعيد
من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدي القرآن في مقابلة
من حصل لهم الاهتداء به ، وأيّا ما ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقا خاصا من
الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وروى ذلك عن ابن
عباس والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة
القرآن على الخير وهديه إليه.
والكفر بالضم :
إخفاء النعمة ، وبالفتح : الستر مطلقا وهو مشتق من كفر إذا ستر. ولما كان إنكار
الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضربا من كفران نعمته على جاحدها ،
أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى. وهو في الشرع إنكار ما دلت عليه
الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت
عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده ولذلك عد أهل
الشرك فيما بين الفترة كفارا. وإنكار ما علم بالضرورة مجيء النبي صلىاللهعليهوسلم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في
الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب. ويلحق بالكفر
في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو
فعل لا يجترئ عليه
مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين
وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر وفي هذا النوع
الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتا ونفيا بحسب مبلغ دلالة
القول والفعل على طعن أو شك. ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر
فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر.
قال القاضي أبو
بكر الباقلاني : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده والإيمان بالله هو
العلم بوجوده فالكفر لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور أحدها الجهل بالله تعالى ، الثاني أن يأتي بفعل أو قول أخبر الله ورسوله أو أجمع المؤمنون
على أنه لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم ، الثالث أن يكون له قول أو فعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى.
ونقل ابن راشد في «الفائق» عن الأشعري رحمهالله أن الكفر خصلة واحدة. قال القرافي في الفرق ٢٤١ أصل الكفر
هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ويكون بالجهل بالله وبصفاته أو بالجرأة عليه وهذا
النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله.
وقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) خبر (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) و (سواء) اسم
بمعنى الاستواء فهو اسم مصدر دل على ذلك لزوم إفراده وتذكيره مع اختلاف موصوفاته
ومخبراته فإذا أخبر به أو وصف كان ذلك كالمصدر في أن المراد به معنى اسم الفاعل
لقصد المبالغة. وقد قيل إن (سواء) اسم بمعنى المثل فيكون التزام إفراده وتذكيره
لأن المثلية لا تتعدد ، وإن تعدد موصوفها تقول هم رجال سواء لزيد بمعنى مثل لزيد.
وإنما عدي سواء
بعلى هنا وفي غير موضع ولم يعلق بعند ونحوها مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله
، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه
فالمعنى سواء عندهم الإنذار وعدمه.
واعلم أن للعرب في
سواء استعمالين :
أحدهما أن يأتوا بسواء
على أصل وضعه من الدلالة على معنى التساوي في وصف بين متعدد فيقع معه (سواء) ما
يدل على متعدد نحو ضمير الجمع في قوله تعالى : (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) [النحل : ٧١] ونحو
العطف في قول بثينة :
سواء علينا يا
جميل بن معمر
|
|
إذا مت بأساء
الحياة ولينها
|
ويجري إعرابه على
ما يقتضيه موقعه من التركيب ، وثانيهما أن يقع مع همزة التسوية وما هي إلا همزة
استفهام كثر وقوعها بعد كلمة (سَواءٌ) ومعها (أَمْ) العاطفة التي تسمى المتصلة كقوله تعالى) (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ
صَبَرْنا) وهذا أكثر استعماليها وتردد النحاة في إعرابه وأظهر ما
قالوه وأسلّمه أن (سَواءٌ) خبر مقدم وأن الفعل الواقع بعده مقترنا بالهمزة في تأويل
مبتدأ لأنه صار بمنزلة المصدر إذ تجرد عن النسبة وعن الزمان ، فالتقدير في الآية
سواء عليهم إنذارك وعدمه.
وأظهر عندي مما
قالوه أن المبتدأ بعد (سَواءٌ) مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب
(أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) وهذا يجري على نحو قول القائل علمت أزيد قائم إذ تقديره
علمت جواب هذا السؤال ، ولك أن تجعل (سَواءٌ) مبتدأ رافعا لفاعل سد مسد الخبر لأن (سَواءٌ) في معنى مستو فهو في قوة اسم الفاعل فيرفع فاعلا سادا مسد
خبر المبتدأ وجواب مثل هذا الاستفهام لما كان واحدا من أمرين كان الإخبار
باستوائهما عند المخبر مشيرا إلى أمرين متساويين ولأجل كون الأصل في خبره الإفراد
كان الفعل بعد (سواء) مؤولا لا بمصدر ووجه الأبلغية فيه أن هذين الأمرين لخفاء
الاستواء بينهما حتى ليسأل السائلون أفعل فلان كذا وكذا فيقال إن الأمرين سواء في
عدم الاكتراث بهما وعدم تطلب الجواب على الاستفهام من أحدهما فيكون قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) مشيرا إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع
ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو
أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى
الأمرين ، وبهذا انتفى جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها
من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام ، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام
فيما قبله إذا أعرب (سواء) خبرا والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجردا عن الزمان ، وككون
الفعل مرادا منه مجرد الحدث ، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازا بعلاقة اللزوم ،
وكون أم بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك ، ولا نحتاج إلى
تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى سواء إذ يؤول إلى معنى
استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكرارا خاليا من الفائدة فيجاب بما نقل عن
صاحب «الكشاف» أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب
هما مستويان في عدم النفع ، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتازانيّ في «شرح الكشاف».
ويتعين إعراب (سواء)
في مثله مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الاستفهام تقديره جواب هذا الاستفهام فسواء في
الآية مبتدأ ثان والجملة خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا). ودع عنك كل ما خاض فيه الكاتبون على «الكشاف» ، وحرف (على) الذي يلازم كلمة (سَواءٌ) غالبا هو للاستعلاء المجازي المراد به التمكن أي إن هذا
الاستواء متمكن منهم لا يزول عن نفوسهم ولذلك قد يجيء بعض الظروف في موضع على مع
كلمة سواء مثل عند ، ولدي ، قال أبو الشغب العبسي :
لا تعذلي في
حندج إنّ حندجا
|
|
وليث كفرّين
لدىّ سواء
|
وسيأتي تحقيق
لنظير هذا التركيب عند قوله تعالى في سورة الأعراف [١٩٣] : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ
أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، وقرأ ابن كثير : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) بهمزتين أولهما محققة والثانية مسهلة. وقرأ قالون عن نافع
وورش عنه في رواية البغداديين وأبو عمرو وأبو جعفر كذلك مع إدخال ألف بين الهمزتين
، وكلتا القراءتين لغة حجازية. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين وهي لغة
تميم. وروى أهل مصر عن ورش إبدال الهمزة الثانية ألفا. قال الزمخشري : وهو لحن ،
وهذا يضعّف رواية المصريين عن ورش ، وهذا اختلاف في كيفية الأداء فلا ينافي التواتر.
(لا يُؤْمِنُونَ).
الأظهر أن هاته
الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) إلخ فلك أن تجعلها خبرا ثانيا عن (إنّ) واستفادة التأكيد
من السياق ولك أن تجعلها تأكيدا وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازا على الأول وإما وجوبا
على الثاني ، وقد فرضوا في إعرابها وجوها أخر لا نكثر بها لضعفها ، وقد جوز في «الكشاف» جعل جملة (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) اعتراضا لجملة (لا يُؤْمِنُونَ) وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد ، إذ ليس محل الإخبار هو (لا يُؤْمِنُونَ) إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم ،
فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم ، وعذرا للنبي صلىاللهعليهوسلم في الحرص على إيمانهم ، وتسجيلا بأن من لم يفتح سمعه وقلبه
لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد ، وهذا وإن كان يحصل على تقديره
جعل (لا
__________________
يُؤْمِنُونَ)
خبرا إلا أن
المقصود من الكلام هو الأولى بالإخبار ، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير
بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون ، فقد علم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل
، وإن كان المراد من (لا يُؤْمِنُونَ) استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا
جعل تفسيرا للخبر.
وقد احتج بهاته
الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجا على الجملة إذ مسألة التكليف
بما لا يطاق بقيت زمانا غير محررة ، وكان كل من لاح له فيها دليل استدل به ، وكان
التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنونها التكليف بالمحال ، ومنهم من يعبر بالتكليف
بما ليس بمقدور ، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق ، ثم إنهم ينظرون مرة
للاستحالة الذاتية العقلية ، ومرة للذاتية العادية ، ومرة للعرضية ، ومرة للمشقة
القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الأسفراييني وأبو
حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاما
وانقلب قتادها ثماما ، وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلا كجمع النقيضين ومنه
محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء ولده ووقوف الواحد
لعشرة من أقرانه ، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم
الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج ، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما
في قوله تعالى : (وَلا تُحَمِّلْنا ما
لا طاقَةَ لَنا بِهِ) إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة ، وأطلق عليها المحال حقيقة
ومطابقة في بعضها والتزاما في البعض ، ومجازا في البعض ، وأطلق عليها عدم المقدور
كذلك ، كما أطلق الجواز على الإمكان ، وعلى الإمكان للحكمة ، وعلى الوقوع ، فنشأ
من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء ، وكانت
للمخالفين كحجر المضاء ، فلما قيض الله أعلاما نفوا ما شاكها ، وفتحوا أغلاقها ،
تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء ، لا
يخالف في ذلك مسلم. وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن
اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف
به متعذر الوقوع. وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازا ووقوعا ،
وجل التكاليف لا تخلو من ذلك ، وثبت ما هو أخص وهو رفع الحرج الخارجي عن الحد
المتعارف ، تفضلا من الله لقوله : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقوله
: (عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل : ٢٠] أي
لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في «الأحكام».
هذا ملاك هاته
المسألة على وجه يلتئم به متناثرها ، ويستأنس متنافرها. وبقي أن نبين لكم وجه تعلق
التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في
هاته الآية ، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم
كما هو وجه استدلال المستدل بها ، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه
بخصوصه ولا وجّه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبي صلىاللهعليهوسلم خص أفرادا بالدعوة إلّا وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب
حين جاءه ، بقوله : «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله» وقوله لأبي
سفيان يوم الفتح قريبا من تلكم المقالة ، وخص عمه أبا طالب بمثلها ، ولم تكن يومئذ
قد نزلت هذه الآية ، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية
وبالدليل العقلي ، فلم يبق إلا أن يقال لما ذا لم يخصّص من علم عدم امتثاله من
عموم الدعوة ، ودفع ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة
الحجة عليهم ، ويوهم عدم عموم الرسالة ، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل
بين ما في قدره وعلمه ، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف ، وسرّ الحكمة في ذلك
بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير ، وأحسب أن تفطنكم إلى
مجمله ليس بعسير.
[٧] (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى
سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))
(خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ).
هذه الجملة جارية
مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦]
وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم
ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله ، فإذا علم أن على قلوبهم ختما
وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة علم سبب ذلك كله وبطل العجب ، فالجملة استئناف
بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون ، وموقع هذه الجملة في نظم
الكلام مقابل موقع جملة (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥]
فلهذه الجملة مكانة بين ذم أصحابها بمقدار ما لتلك من المكانة في الثناء على
أربابها.
والختم حقيقته
السد على الإناء والغلق على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة
مرسومة في خاتم
ليمنع ذلك من فتح المختوم ، فإذا فتح علم صاحبه أنه فتح لفساد يظهر في أثر النقش
وقد اتخذ النبي صلىاللهعليهوسلم خاتما لذلك ، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر
ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها. وأما تسمية البلوغ
لآخر الشيء ختما فلأن ذلك الموضع أو ذلك الوقت هو ظرف وضع الختم فيسمى به مجازا.
والخاتم بفتح التاء الطين الموضوع على المكان المختوم ، وأطلق على القالب المنقوش
فيه علامة أو كتابة يطبع بها على الطين الذي يختم به. وكان نقش خاتم النبي صلىاللهعليهوسلم : محمد رسول الله. وطين الختم طين خاص يشبه الجبس يبل بماء
ونحوه ويشد على الموضع المختوم فإذا جف كان قوي الشد لا يقلع بسهولة وهو يكون قطعا
صغيرة كل قطعة بمقدار مضغة وكانوا يجعلونه خواتيم في رقاب أهل الذمة قال بشار :
ختم الحب لها في
عنقي
|
|
موضع الخاتم من
أهل الذّمم
|
والغشاوة فعالة من
غشاه وتغشاه إذا حجبه ومما يصاغ له وزن فعالة بكسر الفاء معنى الاشتمال على شيء
مثل العمامة والعلاوة واللّفافة. وقد قيل إن صوغ هذه الزنة للصناعات كالخياطة لما
فيها من معنى الاشتمال المجازي ومعنى الغشاوة الغطاء.
وليس الختم على
القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما
نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ
الإيمان والحق والإرشاد إليها ، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر ،
وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية ، كأنها مختوم
عليها ومغشّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصول النفع المقصود منها
بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ ختم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية
وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن المشبه محقق عقلا لا حسا. ولك أن تجعل الختم
والغشاوة تمثيلا بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على
الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة ـ كما تقدم ـ بهيئة الختم ، وتشبيه هيئة
متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة وكل ذينك
من تشبيه المعقول بالمحسوس ، ولك أن تجعل الختم والغشاوة مجازا مرسلا بعلاقة
اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس ، والختم في اصطلاح
الشرع استمرار الضلالة في نفس الضال أو خلق الضلالة ، ومثله الطبع ، والأكنة.
والظاهر أن قوله :
(وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوف على قوله : (قُلُوبِهِمْ) فتكون الأسماع مختوما عليها وليس هو خبرا مقدما لقوله (غِشاوَةٌ) فيكون : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) معطوفا عليه لأن الغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن
الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى
الغلق والسد ، فإن العرب تقول : استكّ سمعه ووقر سمعه وجعلوا أصابعهم في آذانهم.
والمراد من القلوب
هنا الألباب والعقول ، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية ، وتطلقه على
الإدراك والعقل ، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب
كلامهم على الحيوان ، وهو المراد هنا ، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي
يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك.
وإنما أفرد السمع
ولم يجمع كما جمع (قلوبهم) و (أبصارهم) إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس
، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : ١٩]
وقوله : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] فلما
عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع
بصر الذي هو اسم لا مصدر ، وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم.
وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت
متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة ،
وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك ، وكانت
الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق ، وفي
الأنفس التي فيها دلالة ، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر
والمواعظ ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق
بسماع ما يلقى إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا
وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت
سمعا واحدا.
وإطلاق أسماء
الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير
المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح ، قال الجاحظ في «البيان» : قال بعضهم لغلام له اشتر لي رأس كبشين فقيل له ذلك لا
__________________
يكون ، فقال : إذا
فرأسي كبش فزاد كلامه إحالة» وفي «الكشاف» أنهم يقولون ذلك إذا أمن اللبس كقول
الشاعر :
كلوا في بعض
بطنكم تعفوا
|
|
فإنّ زمانكم زمن
خميص
|
وهو نظير ما قاله
سيبويه في باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع من نحو قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤]
ويقولون ضع رحالهما وإنما هما اثنان وهو خلاف كلام الجاحظ وقد يكون ما عده الجاحظ
على القائل خطأ لأن مثل ذلك القائل لا يقصد المعاني الثانية فحمل كلامه على الخطأ
لجهله بالعربية ولم يحمل على قصد لطيفة بلاغية بخلاف ما في البيت فضلا عن الآية كقول
علي رضياللهعنه لمن سأله حين مرت جنازة : من المتوفى (بصيغة اسم الفاعل)
فقال له علي : «الله» لأنه علم أنه أخطأ أراد أن يقول المتوفي وإلا فإنه يصح أن
يقال توفى فلان بالبناء للفاعل فهو متوف أي استوفى أجله ، وقد قرأ عليّ نفسه قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) بصيغة المبني للفاعل.
وبعد كون الختم
مجازا في عدم نفوذ الحق لعقولهم وأسماعهم وكون ذلك مسببا لا محالة عن إعراضهم
ومكابرتهم أسند ذلك الوصف إلى الله تعالى لأنه المقدّر له على طريقة إسناد نظائر
مثل هذا الوصف في غير ما آية من القرآن نحو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [النحل : ١٠٨]
وقوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [الكهف : ٢٨]
ونظائر ذلك كثيرة في القرآن كثرة تنبو عن التأويل ومحملها عندنا على التحقيق أنها
واردة على اعتبار أن كل واقع هو بقدر الله تعالى وأن الله هدى ووفق بعضا ، وأضل
وخذل بعضا في التقدير والتكوين ، فلا ينافي ذلك ورود الآية ونظائرها في معنى النعي
على الموصوفين بذلك والتشنيع بحالهم لأن ذلك باعتبار ما لهم من الميل والاكتساب ،
وبالتحقيق القدرة على الفعل والترك التي هي دون الخلق ، فالله تعالى قدّر الشرور
وأوجد في الناس القدرة على فعلها ولكنه نهاهم عنها لأنه أوجد في الناس القدرة على
تركها أيضا ، فلا تعارض بين القدر والتكليف إذ كلّ راجع إلى جهة خلاف ما توهمته
القدرية فنفوا القدر وهو التقدير والعلم وخلاف ما توهمته المعتزلة من عدم تعلق
قدرة الله تعالى بأفعال المكلفين ولا هي مخلوقة له وإنما المخلوق له ذواتهم وآلات
أفعالهم ، ليتوسلوا بذلك إلى إنكار صحة إسناد مثل هاته الأفعال إلى الله تعالى
تنزيها له عن إيجاد الفساد ، وتأويل ما ورد من ذلك : على أن ذلك لم يغن عنهم شيئا
لأنهم قائلون بعلمه تعالى بأنهم سيفعلون وهو قادر على سلب القدر منهم فبتركه إياهم
على تلك القدرة إمهال لهم على فعل القبيح وهو
قبيح ، فالتحقيق
ما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة أن الله هو مقدر أفعال العباد إلا أن
فعلها هو من العبد لا من الله وهو الذي أفصح عنه إمام الحرمين وأضرابه من المحققين.
ولا يرد علينا أنه كيف أقدرهم على فعل المعاصي؟ لأنه يرد على المعتزلة أيضا أنه
كيف علم بعد أن أقدرهم بأنهم شارعون في المعاصي ولم يسلب عنهم القدرة؟ فكان مذهب
الأشاعرة أسعد بالتحقيق وأجرى على طريق الجمع بين ما طفح به الكتاب والسنة من
الأدلة. ولنا فيه تحقيق أعلى من هذا بسطناه في «رسالة القدرة والتقدر» التي لما
تظهر.
وإسناد الختم
المستعمل مجازا إلى الله تعالى للدلالة على تمكن معنى الختم من قلوبهم وأن لا يرجى
زواله كما يقال خلقة في فلان ، والوصف الذي أودعه الله في فلان أو أعطاه فلانا ،
وفرق بين هذا الإسناد وبين الإسناد في المجاز العقلي لأن هذا أريد منه لازم المعنى
والمجاز العقلي إنما أسند فيه فعل لغير فاعله لملابسة ، والغالب صحة فرض
الاعتبارين فيما صلح لأحدهما وإنما يرتكب ما يكون أصلح بالمقام.
وجملة : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوفة على قوله : و (عَلى قُلُوبِهِمْ) بإعادة الجار لزيادة التأكيد حتى يكون المعطوف مقصودا لأن
على مؤذنة بالمتعلق فكأنّ (خَتَمَ) كرر مرتين. وفيه ملاحظة كون الأسماع مقصودة بالختم إذ ليس
العطف كالتصريح بالعامل. وليس قوله (وَعَلى سَمْعِهِمْ) خبرا مقدما لغشاوة لأن الأسماع لا تناسبها الغشاوة وإنما يناسبها
السد ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣]
ولأن تقديم قوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) دليل على أنه هو الخبر لأن التقديم لتصحيح الابتداء
بالنكرة فلو كان قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) هو الخبر لاستغنى بتقديم أحدهما وأبقى الآخر على الأصل من
التأخير فقيل وعلى سمعهم غشاوة وعلى أبصارهم.
وفي تقديم السمع
على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر فإن
التقديم مؤذن بأهمية المقدم وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل
، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة
البصر لو فقد السمع ، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون
توجه ، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة.
(وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ).
العذاب : الألم ،
وقد قيل إن أصله الإعذاب مصدر أعذب إذا أزال العذوبة لأن العذاب يزيل حلاوة العيش
فصيغ منه اسم مصدر بحذف الهمزة ، أو هو اسم موضع للألم بدون ملاحظة اشتقاق من
العذوبة إذ ليس يلزم مصير الكلمة إلى نظيرتها في الحروف.
ووصف العذاب بالعظيم
دليل على أن تنكير عذاب للنوعية وذلك اهتمام بالتنصيص على عظمه لأن التنكير وإن
كان صالحا للدلالة على التعظيم إلا أنه ليس بنص فيه ولا يجوز أن يكون (عَظِيمٌ) تأكيدا لما يفيده التنكير من التعظيم كما ظنه صاحب «المفتاح» لأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية ، والمدلولات
غير الوضعية يستغني عنها إذا ورد ما يدل عليها وضعا فلا يعد تأكيدا. والعذاب في
الآية ، إما عذاب النار في الآخر ، وإما عذاب القتل والمسغبة في الدنيا.
[٨] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨))
هذا فريق آخر وهو
فريق له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر وهو لا يعدو أن يكون مبطنا الشرك أو مبطنا
التمسك باليهودية ويجمعه كله إظهار الإيمان كذبا ، فالواو لعطف طائفة من الجمل على
طائفة مسوق كل منهما لغرض جمعتهما في الذكر المناسبة بين الغرضين فلا يتطلب في مثله
إلا المناسبة بين الغرضين لا المناسبة بين كل جملة وأخرى من كلا الغرضين على ما
حققه التفتازانيّ في شرح الكشاف ، وقال السيد إنه أصل عظيم في باب العطف لم ينتبه
له كثيرون فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى وأصله مأخوذ من قول «الكشاف» : «وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة (الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٦] كما
تعطف الجملة على الجملة» فأفاد بالتشبيه أن ذلك ليس من عطف الجملة على الجملة. قال
المحقق عبد الحكيم : وهذا ما أهمله السكاكي أي في أحوال الفصل والوصل وتفرد به
صاحب «الكشاف».
واعلم أن الآيات
السابقة لما انتقل فيها من الثناء على القرآن بذكر المهتدين به بنوعيهم الذين
يؤمنون بالغيب والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى آخر ما تقدم ، وانتقل من الثناء
عليهم إلى ذكر أضدادهم وهم الكافرون الذين أريد بهم الكافرون صراحة وهم المشركون ،
كان السامع قد ظن أن الذين أظهروا الإيمان داخلون في قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] فلم
يكن السامع سائلا عن قسم آخر وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الشرك أو غيره وهم
المنافقون الذين هم المراد هنا بدليل قوله : (وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] إلخ
، لأنه لغرابته وندرة وصفه بحيث لا يخطر بالبال وجوده ناسب
أن يذكر أمره
للسامعين ، ولذلك جاء بهذه الجملة معطوفة بالواو إذ ليست الجملة المتقدمة مقتضية
لها ولا مثيرة لمدلولها في نفوس السامعين ، بخلاف جملة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ
عَلَيْهِمْ) [البقرة : ٦] ترك
عطفها على التي قبلها لأن ذكر مضمونها بعد المؤمنين كان مترقبا للسامع ، فكان
السامع كالسائل عنه فجاء الفصل للاستئناف البياني.
وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ) خبر مقدم لا محالة وقد يتراءى أن الإخبار بمثله قليل
الجدوى لأنه إذا كان المبتدأ دالا على ذات مثله ، أو معنى لا يكون إلا في الناس
كان الإخبار عن المبتدأ بأنه من الناس أو في الناس غير مجد بخلاف قولك الخضر من
الناس ، أي لا من الملائكة فإن الفائدة ظاهرة ، فوجه الإخبار بقولهم من الناس في
نحو الآية ونحو قول بعض أعزة الأصحاب في تهنئة لي بخطة القضاء :
في الناس من
ألقى قلادتها إلى
|
|
خلف فحرّم ما
ابتغى وأباحا
|
إن القصد إخفاء
مدلول الخبر عنه كما تقول قال هذا إنسان وذلك عند ما يكون الحديث يكسب ذما أو
نقصانا ، ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله» وقد كثر
تقديم الخبر في مثل هذا التركيب لأن في تقديمه تنبيها للسامع على عجيب ما سيذكر ،
وتشويقا لمعرفة ما يتم به الإخبار ولو أخر لكان موقعه زائدا لحصول العلم بأن ما
ذكره المتكلم لا يقع إلا من إنسان كقول موسى بن جابر الحنفي :
ومن الرجال أسنة
مذروبة
|
|
ومزنّدون وشاهد
كالغائب
|
وقد قيل إن موقع (مِنَ النَّاسِ) مؤذن بالتعجب وإن أصل الخبر إفادة أن فاعل هذا الفعل من
الناس لئلا يظنه المخاطب من غير الناس لشناعة الفعل ، وهذا بعيد عن القصد لأنه لو
كان كما قال لم يكن للتقديم فائدة بل كان تأخيره أولى حتى يتقرر الأمر الذي يوهم
أن المبتدأ ليس (مِنَ النَّاسِ) ، هذا توجيه هذا الاستعمال وذلك حيث لا يكون لظاهر الإخبار
بكون المتحدث عنه من أفراد الناس كبير فائدة فإن كان القصد إفادة ذلك حيث يجهله
المخاطب كقولك من الرجال من يلبس برقعا تريد الإخبار عن القوم المدعون بالملثّمين (من
لمتونة) ، أو حيث ينزّل المخاطب منزلة الجاهل كقول عبد الله بن الزّبير (بفتح
الزاي وكسر الباء) :
وفي الناس إن
رثّت حبالك واصل
|
|
وفي الأرض عن
دار القلى متحوّل
|
إذا كان حال
المخاطبين حال من يظن أن المتكلم لا يجد من يصله إن قطعه هو ،
فذكر (مِنَ النَّاسِ) ونحوه في مثل هذا وارد على أصل الإخبار ، وتقديم الخبر هنا
للتشويق إلى استعلام المبتدأ وليس فيه إفادة تخصيص. وإذا علمت أن قوله (مِنَ النَّاسِ) مؤذن بأن المتحدث عنهم ستساق في شأنهم قصة مذمومة وحالة
شنيعة إذ لا يستر ذكرهم إلا لأن حالهم من الشناعة بحيث يستحي المتكلم أن يصرح
بموصوفها وفي ذلك من تحقير شأن النفاق ومذمته أمر كبير ، فوردت في شأنهم ثلاث عشرة
آية نعي عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وسوء عواقبهم ، وسفه أحلامهم ، وجهالتهم ،
وأردف ذلك كله بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك فإن
الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذ النفاق يجمع الكذب ، والجبن ، والمكيدة
، وأفن الرأي ، والبله ، وسوء السلوك ، والطمع ، وإضاعة العمر ، وزوال الثقة ،
وعداوة الأصحاب ، واضمحلال الفضيلة.
أما الكذب فظاهر ،
وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن ، وأما المكيدة فإنه يحمل
على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن ، وأما أفن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في
العقل إذ لا داعي إلى ذلك ، وأما البله فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به ، وأما
سوء السلوك فلأنّ طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة ، والصفات المذمومة ، إذا لم
تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي
وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها ، وأما الطمع فلأن غالب أحوال
النفاق يكون للرغبة في حصول النفع ، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج
أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك وفي ذلك ما يصرف
الذهن عن الشغل بما يجدي ، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم
فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا ، وأما عداوة الأصحاب فكذلك لأنه إذا علم أن ذلك
خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته ، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك
كله.
وقد أشار قوله
تعالى : (وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ) إلى الكذب ، وقوله : (يُخادِعُونَ) [البقرة : ٩] إلى
المكيدة والجبن ، وقوله : (ما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩] إلى
أفن الرأي ، وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) [البقرة : ٩] إلى
البله ، وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) [البقرة : ١٠] إلى
سوء السلوك ، وقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ
مَرَضاً) [البقرة : ١٠] إلى
دوام ذلك وتزايده مع الزمان ، وقوله : (قالُوا إِنَّما
نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] إلى
إضاعة العمر في غير المقصود ، وقوله :
(قالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤]
مؤكّدا بإنّ إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم ، وقوله : (فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] إلى
أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم ، وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٨] إلى
اضمحلال الفضيلة منهم وسيجيء تفصيل لهذا ، وجمع عند قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).
والناس اسم جمع
إنسيّ بكسر الهمزة وياء النسب فهو عوض عن أناسيّ الذي هو الجمع القياسي لإنس وقد
عوضوا عن أناسي أناس بضم الهمزة وطرح ياء النسب ، دلّ على هذا التعويض ظهور ذلك في
قول عبيد بن الأبرص الأسدي يخاطب إمرأ القيس :
إنّ المنايا
يطّلع
|
|
ن على الأناس
الآمنينا
|
ثم حذفوا همزته
تخفيفا ، وحذف الهمزة للتخفيف شائع كما قالوا لوقة في ألوقة وهي الزّبدة ، وقد
التزم حذف همزة أناس عند دخول أل عليه غالبا بخلاف المجرد من أل فذكر الهمزة وحذفها
شائع فيه وقد قيل إن ناس جمع وإنه من جموع جاءت على وزن فعال بضم الفاء مثل ظؤار
جمع ظئر ، ورخال جمع رخل وهي الأنثى الصغيرة من الضأن ووزن فعال قليل في الجموع في
كلام العرب وقد اهتم أئمة اللغة بجمع ما ورد منه فذكرها ابن خالويه في «كتاب (ليس)»
وابن السكيت وابن بري. وقد عد المتقدمون منها ثمانية جمعت في ثلاثة أبيات تنسب
للزمخشري والصحيح أنها لصدر الأفاضل تلميذه ثم ألحق كثير من اللغويين بتلك الثمان
كلمات أخر حتى أنهيت إلى أربع وعشرين جمعا ذكرها الشهاب الخفاجي في «شرح درة
الغواص» وذكر معظمها في «حاشيته على تفسير البيضاوي» وهي فائدة من علم اللغة
فارجعوا إليها إن شئتم.
وقيل إن ما جاء
بهذا الوزن أسماء جموع ، وكلام «الكشاف» يؤذن به ومفرد هذا الجمع إنسي أو إنس أو
إنسان وكله مشتق من أنس ضد توحش لأن الإنسان يألف ويأنس.
والتعريف في الناس
للجنس لأن ما علمت من استعماله في كلامهم يؤيد إرادة الجنس ويجوز أن يكون التعريف
للعهد والمعهود هم الناس المتقدم ذكرهم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) [البقرة : ٦] أو
الناس الذين يعهدهم النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمون في هذا الشأن ، و (من) موصولة والمراد بها فريق
وجماعة بقرينة قوله (وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ) وما بعده من صيغ الجمع.
والمذكور بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إلخ قسم ثالث مقابل للقسمين المتقدمين
للتمايز بين
الجميع بأشهر الصفات وإن كان بين البعض أو الجميع صفات متفقة في الجملة فلا يشتبه
وجه جعل المنافقين قسيما للكافرين مع أنهم منهم لأن المراد بالتقسيم الصفات
المخصصة.
وإنما اقتصر
القرآن من أقوالهم على قولهم (آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) مع أنهم أظهروا الإيمان بالنبيء صلىاللهعليهوسلم ، إيجازا لأن الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل
إلى الإيمان بالرسول إذ الإيمان بالله هو الأصل وبه يصلح الاعتقاد وهو أصل العمل ،
والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها وفيه صلاح الحال العملي
أو هم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول لأنهم لغلوهم في الكفر لا يستطيعون أن
يذكروا الإيمان بالنبيء صلىاللهعليهوسلم استثقالا لهذا الاعتراف فيقتصرون على ذكر الله واليوم
الآخر إيهاما للاكتفاء ظاهرا ومحافظة على كفرهم باطنا لأن أكثرهم وقادتهم من
اليهود.
وفي التعبير بيقول
في مثل هذا المقام إيماء إلى أن ذلك قول غير مطابق للواقع لأن الخبر المحكي عن
الغير إذا لم يتعلق الغرض بذكر نصه وحكى بلفظ يقول أومأ ذلك إلى أنه غير مطابق
لاعتقاده أو أن المتكلم يكذبه في ذلك ، ففيه تمهيد لقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وجملة وما هم بمؤمنين في موضع الحال من ضمير (يَقُولُ) أي يقول هذا القول في حال أنهم غير مؤمنين.
والآية أشارت إلى
طائفة من الكفار وهم المنافقون الذين كان بعضهم من أهل يثرب وبعضهم من اليهود
الذين أظهروا الإسلام وبقيتهم من الأعراب المجاورين لهم ، ورد في حديث كعب بن مالك
أن المنافقين الذين تخلفوا في غزوة تبوك بضعة وثمانون ، وقد عرف من أسمائهم عبد
الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، والجلاس
بن سويد الذي نزل فيه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا) [التوبة : ٧٤] ،
وعبد الله بن سبأ اليهودي ولبيد بن الأعصم من بني زريق حليف اليهود كما في باب
السحر من كتاب الطب من «صحيح البخاري» ، والأخنس أبىّ بن شريق الثقفي كان يظهر
الود والإيمان وسيأتي عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ) [البقرة : ٢٠٤] ،
وزيد بن اللّصيت القينقاعي ووديعة بن ثابت من بني عمرو بن عوف ، ومخشّن بن حميّر
الأشجعي اللذين كانا يثبطان المسلمين من غزوة تبوك ، وقد قيل إن زيد بن اللّصيت
تاب وحسن حاله ، وقيل لا ، وأما مخشّن فتاب وعفا الله عنه وقتل شهيدا يوم القيامة.
وفي كتاب «المرتبة الرابعة» لابن حزم قد ذكر قوم معتّب بن قشير الأوسي من بني
عمرو بن عوف في
المنافقين وهذا باطل لأن حضوره بدرا يبطل هذا الظن بلا شك ولكنه ظهر منه يوم أحد
ما يدل على ضعف إيمانه فلمزوه بالنفاق فإنه القائل يوم أحد : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤]
، رواه عنه الزبير بن العوام قال ابن عطية كان مغموصا بالنفاق. ومن المنافقين أبو
عفك أحد بني عمرو بن عوف ظهر نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن صامت وقال
شعرا يعرض بالنبيء صلىاللهعليهوسلم وقد أمر رسول الله بقتل أبي عفك فقتله سالم بن عمير ، ومن
المنافقات عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد نافقت لما قتل أبو عفك وقالت شعرا
تعرض بالنبي قتلها عمير بن عدي الخطمي وقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا ينتطح فيها
عنزان» ، ومن المنافقين بشير بن أبيرق كان منافقا يهجو أصحاب رسول الله وشهد أحدا
ومنهم ثعلبة بن حاطب وهو قد أسلم وعد من أهل بدر ، ومنهم بشر المنافق كان من
الأنصار وهو الذي خاصم يهوديا فدعا اليهوديّ بشرا إلى حكم النبي فامتنع بشر وطلب
المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وهذا هو الذي قتله عمر وقصته في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في سورة النساء [٦٠]. وعن ابن عباس أن المنافقين على عهد
رسول الله كانوا ثلاثمائة من الرجال ومائة وسبعين من النساء ، فأما المنافقون من
الأوس والخزرج فالذي سن لهم النفاق وجمعهم عليه هو عبد الله بن أبى حسدا وحنقا على
الإسلام لأنه قد كان أهل يثرب بعد أن انقضت حروب بعاث بينهم وهلك جل ساداتهم فيها
قد اصطلحوا على أن يجعلوه ملكا عليهم ويعصبوه بالعصابة. قال سعد بن عبادة للنبي صلىاللهعليهوسلم في حديث البخاري : «اعف عنه يا رسول الله واصفح فو الله
لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما رد
الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك» ا ه.
وأما اليهود
فلأنهم أهل مكر بكل دين يظهر ولأنهم خافوا زوال شوكتهم الحالية من جهات الحجاز ،
وأما الأعراب فهم تبع لهؤلاء ولذلك جاء : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً) [الأعراف : ٩٧]
الآية ، لأنهم يقلدون عن غير بصيرة وكل من جاء بعدهم على مثل صفاتهم فهو لا حق بهم
فيما نعى الله عليهم وهذا معنى قول سلمان الفارسي في تفسير هذه الآية : «لم يجيء
هؤلاء بعد» قال ابن عطية معنى قوله أنهم لم ينقرضوا بل يجيئون من كل زمان ا ه ،
يعني أن سلمان لا ينكر ثبوت هذا الوصف لطائفة في زمن النبوة ولكن لا يرى المقصد من
الآية حصر المذمة فيهم بل وفي الذين يجيئون من بعدهم.
وقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) جيء في نفي قولهم بالجملة الاسمية ولم يجيء على
وزان قولهم : (آمَنَّا) بأن يقال وما آمنوا لأنهم لما أثبتوا الإيمان لأنفسهم كان
الإتيان بالماضي أشمل حالا لاقتضائه تحقق الإيمان فيما مضى بالصراحة ودوامه
بالالتزام ؛ لأن الأصل ألا يتغير الاعتقاد بلا موجب كيف والدين هو هو ، ولما أريد
نفي الإيمان عنهم كان نفيه في الماضي لا يستلزم عدم تحققه في الحال بله الاستقبال
فكان قوله : (وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ) دالا على انتفائه عنهم في الحال ، لأن اسم الفاعل حقيقة في
زمن الحال وذلك النفي يستلزم انتفاءه في الماضي بالأولى ، ولأن الجملة الفعلية تدل
على الاهتمام بشأن الفعل دون الفاعل فلذلك حكى بها كلامهم لأنهم لما رأوا المسلمين
يتطلبون معرفة حصول إيمانهم قالوا (آمَنَّا) ، والجملة الاسمية تدل على الاهتمام بشأن الفاعل أي إن
القائلين (آمَنَّا) لم يقع منهم إيمان فالاهتمام بهم في الفعل المنفي تسجيل
لكذبهم وهذا من مواطن الفروق بين الجملتين الفعلية والاسمية وهو مصدّق بقاعدة
إفادة التقديم الاهتمام مطلقا وإن أهملوا التنبيه على جريان تلك القاعدة عند ما
ذكروا الفروق بين الجملة الفعلية والاسمية في كتب المعاني وأشار إليه صاحب «الكشاف»
هنا بكلام دقيق الدلالة.
فإن قلت : كان عبد
الله بن سعد بن أبي سرح أسلم ثم ارتد وزعم بعد ردته أنه كان يكتب القرآن وأنه كان
يملي عليه النبي صلىاللهعليهوسلم : عزيز حكيم مثلا فيكتبها غفور رحيم مثلا والعكس وهذا من
عدم الإيمان فيكون حينئذ من المنافقين الذين آمنوا بعد ، فالجواب أن هذا من نقل
المؤرخين وهم لا يعتد بكلامهم في مثل هذا الشأن لا سيما وولاية عبد الله ابن أبي
سرح الإمارة من جملة ما نقمه الثوار على عثمان وتحامل المؤرخين فيها معلوم لأنهم
تلقوها من الناقمين وأشياعهم ، والأدلة الشرعية تنفي هذا لأنه لو صح للزم عليه
دخول الشك في الدين ولو حاول عبد الله هذا لأعلم الله تعالى به رسوله لأنه لا يجوز
على الرسول السهو والغفلة فيما يرجع إلى التبليغ على أنه مزيف من حيث العقل إذ لو
أراد أن يكيد للدين لكان الأجدر به تحريف غير ذلك ، على أن هذا كلام قاله في وقت
ارتداده وقوله حينئذ في الدين غير مصدّق لأنه متهم بقصد ترويج ردته عند المشركين
بمكة وقد علمت من المقدمة الثامنة من هذا التفسير أن العمدة في آيات القرآن على
حفظ حفّاظه وقراءة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإنما كان يأمر بكتابته لقصد المراجعة للمسلمين إذا
احتاجوا إليه ، ولم يرو أحد أنه وقع الاحتياج إلى مراجعة ما كتب من القرآن إلا في
زمن أبي بكر ، ولم ينقل أن حفاظ القرآن وجدوا خلافا بين محفوظهم وبين الأصول
المكتوبة ، على أن عبد الله بن أبي سرح لم يكن منفردا بكتابة الوحي فقد كان يكتب
معه آخرون.
ونفي الإيمان عنهم
مع قولهم (آمَنَّا) دليل صريح على أن مسمى الإيمان التصديق وأن النطق بما يدل
على الإيمان قد يكون كاذبا فلا يكون ذلك النطق إيمانا ، والإيمان في الشرع هو
الاعتقاد الجازم بثبوت ما يعلم أنه من الدين علما ضروريا بحيث يكون ثابتا بدليل
قطعي عند جميع أئمة الدين ويشتهر كونه من مقومات الاعتقاد الإسلامي اللازم لكل
مسلم اشتهارا بين الخاصة من علماء الدين والعامة من المسلمين بحيث لا نزاع فيه فقد
نقل الإيمان في الشرع إلى تصديق خاص وقد أفصح عنه الحديث الصحيح عن عمر أن جبريل
جاء فسأل النبي صلىاللهعليهوسلم عن الإيمان فقال : «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».
وقد اختلفت علماء
الأمة في ماهية الإيمان ما هو وتطرقوا أيضا إلى حقيقة الإسلام ونحن نجمع متناثر
المنقول منهم مع ما للمحققين من تحقيق مذاهبهم في جملة مختصرة.
وقد أرجعنا متفرق
أقوالهم في ذلك إلى خمسة أقوال :
القول الأول : قول
جمهور المحققين من علماء الأمة قالوا إن الإيمان هو التصديق لا مسمى له غير ذلك
وهو مسماه اللغوي فينبغي ألا ينقل من معناه لأن الأصل عدم النقل إلا أنه أطلق على
تصديق خاص بأشياء بيّنها الدين وليس استعمال اللفظ العام في بعض أفراده بنقله له
عن معناه اللغوي وغلب في لسان الشرعيين على ذلك التصديق واحتجوا بعدة أدلة هي من
أخبار الآحاد ولكنها كثيرة كثرة تلحقها بالمستفيض.
من ذلك حديث جبريل
المتقدم وحديث سعد أنه قال «يا رسول الله : ما لك عن فلان فإني لأراه مؤمنا فقال :
أو مسلما» ، قالوا وأما النطق والأعمال فهي من الإسلام لا من مفهوم الإيمان لأن
الإسلام الاستسلام والانقياد بالجسد دون القلب ودليل التفرقة بينهما اللغة وحديث
جبريل ، وقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤]
ولما رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله أنه جاء رجل من نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته
ولا نفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام فبين له النبي صلىاللهعليهوسلم أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، ونسب
هذا القول إلى مالك بن أنس أخذا من قوله في «المدونة» : «من اغتسل وقد أجمع على
الإسلام بقلبه أجزأه» قال ابن رشد لأن إسلامه بقلبه فلو مات مات مؤمنا ، وهو مأخذ
بعيد وستعلم أن قول مالك بخلافه. ونسب هذا أيضا إلى الأشعري قال إمام الحرمين في «الإرشاد» وهو المرضي
عندنا ، وبه قال
الزهري من التابعين.
القول
الثاني : إن الإيمان هو
الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان بالشهادتين للإقرار بذلك الاعتقاد فيكون الإيمان
منقولا شرعا لهذا المعنى فلا يعتد بالاعتقاد شرعا إلا إذا انضم إليه النطق ونقل
هذا عن أبي حنيفة ونسبه النووي إلى جمهور الفقهاء والمحدّثين والمتكلمين ونسبه
الفخر إلى الأشعري وبشر المريسي ، ونسبه الخفاجي إلى محققي الأشاعرة واختاره ابن
العربي ، قال النووي وبذلك يكون الإنسان من أهل القبلة.
قلت ولا أحسب أن
بين هذا والقول الأول فرقا وإنما نظر كل قيل إلى جانب ، فالأول نظر إلى جانب
المفهوم والثاني نظر إلى الاعتداد ولم يعتنوا بضبط عباراتهم حتى يرتفع الخلاف
بينهم وإن كان قد وقع الخلاف بينهم في أن الاقتصار على الاعتقاد هل هو منج فيما
بين المرء وبين ربه أو لا بد من الإقرار؟ حكاه البيضاوي في «التفسير» ومال إلى
الثاني ويؤخذ من كلامهم أنه لو ترك الإقرار لا عن مكابرة كان ناجيا مثل الأخرس
والمغفل والمشتغل شغلا اتصل بموته. واحتجوا بإطلاق الإيمان على الإسلام والعكس في
مواضع من الكتاب والسنة ، قال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ
كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ،
٣٦] وفي حديث وفد عبد القيس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لهم : «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الإيمان بالله أتدرون
ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة» إلخ
وهذه أخبار آحاد فالاستدلال بها في أصل من الدين إنما هو مجرد تقريب على أن معظمها
لا يدل على إطلاق الإيمان على حالة ليس معها حالة إسلام.
القول
الثالث : قول جمهور السلف
من الصحابة والتابعين أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ذلك أنهم لكمال حالهم ومجيئهم
في فاتحة انبثاق أنوار الدين لم يكونوا يفرضون في الإيمان أحوالا تقصر في الامتثال
، ونسب ذلك إلى مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي وابن جريج والنخعي
والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وابن المبارك والبخاري ونسب لابن مسعود وحذيفة وبه قال
ابن حزم من الظاهرية وتمسك به أهل الحديث لأخذهم بظاهر ألفاظ الأحاديث ، وبذلك
أثبتوا الزيادة والنقص في الإيمان بزيادة الأعمال ونقصها لقوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] إلخ.
وجاء في الحديث : «الإيمان بضع وسبعون شعبة» فدل ذلك على قبوله للتفاضل. وعلى ذلك
حمل قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» أي ليس متصفا حينئذ
بكمال الإيمان.
ونقل عن مالك أنه
يزيد ولا ينقص فقيل إنما أمسك مالك عن القول بنقصانه خشية أن يظن به موافقة
الخوارج الذين يكفرون بالذنوب. قال ابن بطال وهذا لا يخالف قول مالك بأن الإيمان
هو التصديق وهو لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق أول منازل الإيمان ويوجب للمصدق
الدخول فيه ولا يوجب له استكمال منازله وإنما أراد هؤلاء الأئمة الرد على المرجئة
في قولهم إن الإيمان قول بلا عمل ا ه. ولم يتابعهم عليه المتأخرون لأنهم رأوه شرحا
للإيمان الكامل وليس فيه النزاع إنما النزاع في أصل مسمى الإيمان وأول درجات
النجاة من الخلود ولذلك أنكر أكثر المتكلمين أن يقال الإيمان يزيد وينقص وتأولوا
نحو قوله تعالى : (لِيَزْدادُوا
إِيماناً) [الفتح : ٤] بأن
المراد تعدد الأدلة حتى يدوموا على الإيمان وهو التحقيق.
القول
الرابع : قول الخوارج
والمعتزلة إن الإيمان اعتقاد ونطق وعمل كما جاء في القول الثالث إلا أنهم أرادوا
من قولهم حقيقة ظاهره من تركب الإيمان من مجموع الثلاثة بحيث إذا اختل واحد منها
بطل الإيمان ، ولهم في تقرير بطلانه بنقص الأعمال الواجبة مذاهب غير منتظمة ولا
معضودة بأدلة سوى التعلق بظواهر بعض الآثار مع الإهمال لما يعارضها من مثلها.
فأما الخوارج
فقالوا إن تارك شيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد في النار فالأعمال جزء من
الإيمان وأرادوا من الأعمال فعل الواجبات وترك المحرمات ولو صغائر ، إذ جميع
الذنوب عندهم كبائر ، وأما غير ذلك من الأعمال كالمندوبات والمستحبات فلا يوجب
تركها خلودا ، إذ لا يقول مسلم إن ترك السنن والمندوبات يوجب الكفر والخلود في
النار ، وكذلك فعل المكروهات.
وقالت الإباضية من
الخوارج إن تارك بعض الواجبات كافر لكن كفره كفر نعمة لا شرك ، نقله إمام الحرمين
عنهم وهو الذي سمعناه من طلبتهم.
وأما المعتزلة فقد
وافقوا الخوارج في أن للأعمال حظا من الإيمان إلا أنهم خالفوهم في مقاديرها ومذاهب
المعتزلة في هذا الموضع غير منضبطة ، فقال قدماؤهم وهو المشهور عنهم إن العاصي
مخلد في النار لكنه لا يوصف بالكفر ولا بالإيمان ووصفوه بالفسق وجعلوا استحقاق
الخلود لارتكاب الكبيرة خاصة ، وكذلك نسب إليهم ابن حزم في كتاب «الفصل» ، وقال
واصل بن عطاء الغزّال إن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين أي لا يوصف بإيمان ولا
كفر فيفارق بذلك قول الخوارج وقول المرجئة ووافقه عمرو بن عبيد
على ذلك. وهذه هي
المسألة التي بسببها قال الحسن البصري لواصل وعمرو بن عبيد اعتزل مجلسنا. ودرج على
هذا جميعهم ، لكنهم اضطربوا أو اضطرب النقل عنهم في مسمى المنزلة بين المنزلتين ،
فقال إمام الحرمين في «الإرشاد» إن جمهور هم قالوا إن الكبيرة تحبط ثواب الطاعات وإن كثرت
، ومعناه لا محالة أنها توجب الخلود في النار وبذلك جزم التفتازانيّ في «شرح الكشاف» وفي «المقاصد» ، وقال إن المنزلة بين المنزلتين هي موجبة للخلود وإنما
أثبتوا المنزلة لعدم إطلاق اسم الكفر ولإجراء أحكام المؤمنين على صاحبها في ظاهر
الحال في الدنيا بحيث لا يعتبر مرتكب المعصية كالمرتد فيقتل. وقال في «المقاصد» ومثله في «الإرشاد» : المختار عندهم خلاف المشتهر فإن أبا
علي وابنه وكثيرا من محققيهم ومتأخريهم قالوا إن الكبائر إنما توجب دخول النار إذا
زاد عقابها على ثواب الطاعات فإن أربت الطاعات على السيئات درأت السيئات ، وليس
النظر إلى أعداد الطاعات ولا الزلات ، وإنما النظر إلى مقدار الأجور والأوزار فرب
كبيرة واحدة يغلب وزرها طاعات كثيرة العدد ، ولا سبيل إلى ضبط هذه المقادير بل
أمرها موكول إلى علم الله تعالى ، فإن استوت الحسنات والسيئات فقد اضطربوا في ذلك
فهذا محل المنزلة بين المنزلتين. ونقل ابن حزم في «الفصل» عن جماعة منهم ، فيهم
بشر المريسي والأصم من استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف ولهم وقفة لا
يدخلون النار مدة ثم يدخلون الجنة ومن رجحت سيئاته فهو مجازى بقدر ما رجح له من
الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها بالشفاعة.
وهذا يقتضي أن هؤلاء لا يرون الخلود. وقد نقل البعض عن المعتزلة أن المنزلة بين
المنزلتين لا جنة ولا نار إلا أن التفتازانيّ في «المقاصد» غلّط هذا البعض وكذلك
قال في «شرح الكشاف». وقد قرر صاحب «الكشاف» حقيقة المنزلة بين المنزلتين بكلام
مجمل فقال في تفسير قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) من سورة البقرة [٢٦] والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر
الله بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلتي المؤمن والكافر. وقالوا
إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء وكونه بين بين أن حكمه حكم
المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسّل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين وهو
كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة ا ه ،
فتراه مع إيضاحه لم يذكر فيه أنه خالد في النار وصرح في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) في سورة النساء [٩٣] بما يعمم خلود أهل الكبائر دون توبة
في النار.
قلت وكان الشأن أن
إجراء الأحكام الإسلامية عليه في الدنيا يقتضي أنه غير خالد إذ لا يعقل أن تجري
عليه أحكام المسلمين وتنتفي عنه الثمرة التي لأجلها فارق الكفر إذ المسلم إنما
أسلم فرارا من الخلود في النار فكيف يكون ارتكاب بعض المعاصي موجبا لانتقاض فائدة
الإسلام ، وإذا كان أحد لا يسلم من أن يقارف معصية وكانت التوبة الصادقة قد تتأخر
وقد لا تحصل فيلزمهم ويلزم الخوارج أن يعدوا جمهور المسلمين كفارا وبئس منكرا من
القول. على أن هذا مما يجرّئ العصاة على نقض عرى الدين إذ ينسلّ عنه المسلمون
لانعدام الفائدة التي أسلموا لأجلها بحكم : أنا الغريق فما خوفي من البلل ، ومن
العجيب أن يصدر هذا القول من عاقل فضلا عن عالم ، ثم الأعجب منه عكوف أتباعهم عليه
تلوكه ألسنتهم ولا تفقهه أفئدتهم وكيف لم يقيض فيهم عالم منصف ينبري لهاته الترهات
فيهذبها أو يؤولها كما أراد جمهور علماء السنة من صدر الأمة فمن يليهم.
القول
الخامس : قالت الكرامية
الإيمان هو الإقرار باللسان إذا لم يخالف الاعتقاد القول فلا يشترط في مسمى
الإيمان شيء من المعرفة والتصديق ، فأما إذا كان يعتقد خلاف مقاله بطل إيمانه وهذا
يرجع إلى الاعتداد بإيمان من نطق بالشهادتين وإن لم يشغل عقله باعتقاد مدلولهما بل
يكتفى منه بأنه لا يضمر خلاف مدلولهما وهذه أحوال نادرة لا ينبغي الخوض فيها. أو
أرادوا أنه تجري عليه في الظاهر أحكام المؤمنين مع أن الكرامية لا ينكرون أن من
يعتقد خلاف ما نطق به من الشهادتين أنه خالد في النار يوم القيامة ، وفي «تفسير الفخر» أن غيلان الدمشقي وافق الكرامية.
هذه جوامع أقوال
الفرق الإسلامية في مسمى الإيمان. وأنا أقول كلمة أربأ بها عن الانحياز إلى نصرة
وهي أن اختلاف المسلمين في أول خطوات مسيرهم وأول موقف من مواقف أنظارهم وقد مضت
عليه الأيام بعد الأيام وتعاقبت الأقوام بعد الأقوام يعد نقصا علميا لا ينبغي
البقاء عليه ، ولا أعرفني بعد هذا اليوم ملتفتا إليه.
لا جرم أن الشريعة
أول ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام ليخرجوا بذلك من عقائد الشرك ومناوأة هذا
الدين فإذا حصل ذلك تهيأت النفوس لقبول الخيرات وأفاضت الشريعة عليها من تلك
النيرات فكانت في تلقي ذلك على حسب استعدادها زينة لمعاشها في هذا العالم ومعادها ،
فالإيمان والإسلام هما الأصلان اللذان تنبعث عنهما الخيرات ، وهما الحد الفاصل بين
أهل الشقاء وأهل الخير حدا لا يقبل تفاوتا
ولا تشككا ، لأن
شأن الحدود أن لا تكون متفاوتة كما قال الله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] ، ولا
يدعي أحد أن مفهوم الإيمان هو مفهوم الإسلام ، فيكابر لغة تتلى عليه ، كيف وقد
فسره الرسول لذلك الجالس عند ركبتيه. فما الذين ادعوه إلا قوم قد ضاقت عليهم
العبارة فأرادوا أن الاعتداد في هذا الذي لا يكون إلا بالأمرين وبذلك يتضح وجه
الاكتفاء في كثير من مواد الكتاب والسنة بأحد اللفظين ، في مقام خطاب الذين تحلوا
بكلتا الخصلتين ، فانتظم القولان الأول والثاني.
إن موجب اضطراب
الأقوال في التمييز بين حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام أمران : أحدهما أن الرسالة المحمدية دعت إلى الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته
وبصدق محمد صلىاللهعليهوسلم والإيمان بالغيب ودعت إلى النطق بما يدل على حصول هذا
الاعتقاد في نفس المؤمن لأن الاعتقاد لا يعرف إلا بواسطة النطق ولم يقتنع الرسول
من أحد بما يحصّل الظن بأنه حصل له هذا الاعتقاد إلا بأن يعترف بذلك بنطقه إذا كان
قادرا.
الثاني
: أن المؤمنين
الذين استجابوا دعوة الرسول لم تكن ظواهرهم مخالفة لعقائدهم إذ لم يكن منهم مسلم
يبطن الكفر فكان حصول معنى الإيمان لهم مقارنا لحصول معنى الإسلام وصدق عليهم أنهم
مؤمنون ومسلمون ، ثم لما نبع النفاق بعد الهجرة طرأ الاحتياج إلى التفرقة بين حال
الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام وبين حال الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر
تفرقة بالتحذير والتنبيه لا بالتعيين وتمييز الموصوف ، لذا كانت ألفاظ القرآن
وكلام النبي تجري في الغالب على مراعاة غالب أحوال المسلمين الجامعين بين المعنيين
وربما جرت على مراعاة الأحوال النادرة عند الحاجة إلى التنبيه عليها كما في قوله
تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]
وكما في قول النبي لمن قال له : ما لك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنا قال : «أو
مسلما».
فحاصل معنى
الإيمان حصول الاعتقاد بما يجب اعتقاده ، وحاصل معنى الإسلام إظهار المرء أنه أسلم
نفسه لاتّباع الدين ودعوة الرسول ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥]
الآية.
وهل يخامركم شك في
أن الشريعة ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام لمجرد تعمير العالم الأخروي من جنة
ونار لأن الله تعالى قادر على أن يخلق لهذين الموضعين خلقا يعمرونهما إن شاء
خلقهما ، ولكن الله أراد تعمير العالمين الدنيوي والأخروي ،
وجعل الدنيا مصقلة
النفوس البشرية تهيئها للتأهل إلى تعمير العالم الأخروي لتلتحق بالملائكة ، فجعل
الله الشرائع لكف الناس عن سيئ الأفعال التي تصدر عنهم بدواعي شهواتهم المفسدة
لفطرتهم ، وأراد الله حفظ نظام هذا العالم أيضا ليبقى صالحا للوفاء بمراد الله إلى
أمد أراده ، فشرع للناس شرعا ودعا الناس إلى اتباعه والدخول إلى حظيرته ذلك الدخول
المسمى بالإيمان وبالإسلام لاشتراط حصولهما في قوام حقيقة الانضواء تحت هذا الشرع
، ثم يستتبع ذلك إظهار تمكين أنفسهم من قبول ما يرسم لهم من السلوك عن طيب نفس ،
وثقة بمآلي نزاهة أو رجس. وذلك هو الأعمال ائتمارا وانتهاء وفعلا وانكفافا. وهذه
الغاية هي التي تتفاوت فيها المراتب إلّا أن تفاوت أهلها فيها لا ينقص الأصل الذي
به دخلوا فإن الآتي بالبعض من الخير قد أتى بما كان أحسن من حاله قبل الإيمان ،
والآتي بمعظم الخير قد فاق الذي دونه ، والآتي بالجميع بقدر الطاقة هو الفائز ،
بحيث إن الشريعة لا تعدم منفعة تحصل من أفراد هؤلاء الذين تسموا بالمؤمنين
والمسلمين ومن تلك المراتب حماية الحوزة والدفاع عن البيضة ، فهل يشك أحد في أن
عمرو بن معديكرب أيام كان لا يرى الانتهاء عن شرب الخمر ويقول إن الله تعالى قال :
(فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١]
فقلنا لا إنه قد دلّ جهاده يوم القادسية على إيمانه وعلى تحقيق شيء كثير من أجزاء
إسلامه فهل يعد سواء والكافرين في كونه يخلد في النار؟
فالأعمال إذن لها
المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام لأنها مكملة المقصد لا ينازع في هذين ـ أعني
كونها في الدرجة الثانية وكونها مقصودة ـ إلا مكابر. ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد
في «الصحاح» في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان بعثه إلى اليمن فقال له : «إنّك ستأتي قوما من أهل
الكتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (أي
ينطقوا بذلك نطقا مطابقا لاعتقادهم) فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض
عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» إلخ فلو لا أن للإيمان وللإسلام الحظ الأول لما
قدمه ، ولو لا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرّق بينهما ، لأن
الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة
مع توقع إجابته للدين رضى بالكفر وهو من الكفر فكيف يأمر بسلوكه المعصوم عن أن
يقرّ أحدا على باطل ، فانتظم القول الثالث للقولين.
ومما لا شبهة فيه
أن استحقاق الثواب والعقاب على قدر الأعمال القلبية والجوارحية فالأمر الذي لا
يحصل شيء من المطلوب دونه لا ينجي من العذاب إلا جميعه فوجب أن يكون من لم يؤمن
ولم يسلم مخلّدا في النار لأنه لا يحصل منه شيء من المقصود بدون الإيمان والإسلام
، وأما الأمور التي يقرب فاعلها من الغاية بمقدار ما يخطو في طرقها فثوابها على
قدر ارتكابها والعقوبة على قدر تركها ، ولا ينبغي أن ينازع في هذا غير مكابر ، إذ
كيف يستوي عند الله العليم الحكيم رجلان أحدهما لم يؤمن ولم يسلم والآخر آمن وأسلم
وامتثل وانتهى ، إلا أنه اتبع الأمّارة بالسوء في خصلة أو زلة فيحكم بأن كلا
الرجلين في عذاب وخلود؟ وهل تبقى فائدة لكل مرتكب معصية في البقاء على الإسلام إذا
كان الذي فر من أجله للإسلام حاصلا على كل تقدير وهو الخلود في النار حتى إذا أراد
أن يتوب آمن يومئذ؟ وهل ينكر أحد أن جل الأمة لا يخلون من التلبس بالمعصية
والمعصيتين إذ العصمة مفقودة فإذا كان ذلك قبل التوبة كفرا فهل يقول هذا العاقل إن
الأمة في تلك الحالة متصفة بالكفر ولا إخال عاقلا يلتزمها بعد أن يسمعها ، أفهل
يموه أحد بعد هذا أن يأخذ من نحو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣]
يعني الصلاة ، إن الله سمّي الصلاة إيمانا ولو لا أن العمل من الإيمان لما سميت
كذلك بعد أن بينّا أن الأعمال هي الغاية من الإيمان والإسلام فانتظم القول الرابع
والخامس لثلاثة الأقوال لمن اقتدى في الإنصاف بأهل الكمال.
ثم على العالم
المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها فإن منها
مقام موعظة وترغيب وترهيب وتبشير وتحذير ، ومنها مقام تعليم وتحقيق فيرد كل وارد
من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المماذق فلا يحتج
أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف ، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء
عليه إذ هو متصف بها جميعا ، فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد
منها دالا على مساواة ذلك الواحد لبقيتها ، فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين
الإيمان والأعمال في سياق التحذير أو التحريض لم تكن دليلا على كون حقيقة أحدهما
مركبة ومقومة من مجموعهما فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي أو بسياق التعليم والتبيين
فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل وإحاطة بموارد الشريعة
وإغضاء عن غرضها ويؤول إلى تكفير جمهور المسلمين وانتقاض الجامعة الإسلامية بل
إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره
شيء ، بل يكون
حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي.
أما مسألة العفو
عن العصاة فهي مسألة تتعلق بغرضنا وليست منه ، والأشاعرة قد توسعوا فيها وغيرهم
ضيقها وأمرها موكول إلى علم الله إلا أن الذي بلغنا من الشرع هو اعتبار الوعد
والوعيد وإلا لكان الزواجر كضرب في بارد الحديد وإذا علمتم أن منشأ الخلاف فيها هو
النظر لدليل الوجوب أو الجواز علمتم خروج الخلاف فيها من الحقيقة إلى المجاز ولا
عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج والإباضية والمعتزلة ولا ينبري من
حذاق علمائهم من يهذب المراد أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد ، وكأني بوميض
فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد.
[٩] (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))
جملة : (يُخادِعُونَ) بدل اشتمال من جملة : (يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ) [البقرة : ٨] وما
معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة. والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة
الخدع ، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو
إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن
أمر يوشك أن يفعله ، تقول العرب : خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من
الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم
يخرج الضب من النافقاء.
والخداع فعل مذموم
إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضا لأنه من
البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم
والحلم قال الفرزدق :
استمطروا من
قريش كل منخدع
|
|
إن الكريم إذا
خادعته انخدعا
|
وفي حديث «المؤمن
غر كريم» أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية
المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من
شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله : «والسعيد من وعظ بغيره» مع قوله
: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله
وأما معنى «المؤمن غر كريم» فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر
الشر وخطورها
بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو
الرمة :
تلك الفتاة التي
علقتها عرضا
|
|
إنّ الحليم وذا
الإسلام يختلب
|
فاعتذر عن سرعة
تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي
ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها.
ومعنى صدور الخداع
من جانبهم للمؤمنين ظاهر ، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا
التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر
والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع ، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين
كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا
يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلا
في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة (يُخادِعُونَ) أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح
به.
فأما التأويل في (يُخادِعُونَ) فعلى وجوه :
أحدها
: أن مفعول خادع لا
يلزم أن يكون مقصودا للمخادع ـ بالكسر ـ إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما
يخادع أحد وكيل أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلانا وفلانا تعني الوكيل وموكّله ،
فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذّبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت
مخادعتهم المؤمنين لأجل الدّين كان خداعهم راجعا لشارع ذلك الدين ، وأمّا تأويل
معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات ألسنهم
وكبوات أفعالهم وهفواتهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة
المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبد الله بن أبي ابن
سلول ، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ
وَهُوَ خادِعُهُمْ) في سورة النساء [١٤٢] ، كما رجع إليه خداعهم للمؤمنين ،
وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها ، كل بما يلائمه.
الثاني
: ما ذكره صاحب «الكشاف»
أن (يُخادِعُونَ) استعارة تمثيلية تشبيها للهيئة الحاصلة من معاملتهم
للمؤمنين ولدين الله ، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإبقاء
عليهم ، ومعاملة
المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم ، بهيئة فعل المتخادعين.
الثالث
: أن يكون خادع
بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قصد المبالغة. قال ابن عطية
عن الخليل : يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة كما يقال عالجت المريض لمكان
المهلة ، قال ابن عطية كأنه يرد فاعل إلى اثنين ولا بدّ من حيث إن فيه مهلة
ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعل ا ه. وهذا يرجع إلى جعل
صيغة المفاعلة مستعارة لمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلين
على وجه التبعية ، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه : (يخدعون الله).
وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله
والمؤمنين عنه ، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله.
وأما التأويل في
فاعل (يُخادِعُونَ) المقدّر وهو المفعول أيضا فبأن يجعل المراد أنهم يخادعون
رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين
الرسول ومرسله وإما مجاز بالحذف للمضاف ، فلا يكون مرادهم خداع الله حقيقة ، ويبقى
أن يكون رسول الله مخدوعا منهم ومخادعا لهم ، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين
للمنافقين لأنها جزاء لهم على خداعهم فذلك غير لائق.
وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف (يخادعون) بألف بعد
الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب (يَخْدَعُونَ) بفتح التحتية وسكون الخاء.
وجملة وما يخادعون
إلا أنفسهم حال من الضمير في يخادعون الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون
إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا ،
فيتعين أن الخداع في قوله وما يخادعون عين الخداع المتقدم في قوله : يخادعون الله
فيرد إشكال صحة قصر الخداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين.
وقد أجاب صاحب «الكشاف» بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى
المخادعة الأولى وهو الضّر فإنها قد استعملت أولا في مطلق المعاملة الشبيهة
بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظ المخادعة استعارة ثم أطلقت
ثانيا وأريد منها لازم معنى الاستعارة وهو الضر لأن الذي يعامل بالمكر والاستخفاف
يتصدى للانتقام من معامله فقد يجد قدرة من نفسه أو غرّة من صاحبه
فيضره ضرا فصار
حصول الضر للمعامل أمرا عرفيا لازما لمعامله ، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا
المعنى مجازا أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولا
استعارة ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم المعنى المستعار له ، فالمعنى
وما يضرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم ،
ويجىء تأويل معنى جعل أنفسهم شقا ثانيا للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون
الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في
وجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تسوء عواقبه أنها فعل
نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيّل بني
على خطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة
عليه من جهة غير ذاته بل من النّفس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت
إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها ، قال عمرو بن معديكرب :
فجاشت عليّ أوّل
مرة
|
|
فردّت على
مكروهها فاستقرت
|
وذكر ابن عطية أن
أبا عليّ الفارسي أنشد لبعض الأعراب :
لم تدر ما (لا)
ولست قائلها
|
|
عمرك ما عشت آخر
الأبد
|
ولم تؤامر نفسيك
ممتريا
|
|
فيها وفي أختها
ولم تكد
|
يريد بأختها كلمة (نعم)
وهي أخت (لا) والمراد أنها أخت في اللسان. وقلت ومنه قول عروة بن أذينة :
وإذا وجدت لها
وساوس سلوة
|
|
شفع الفؤاد إلى
الضمير فسلّها
|
فكأنهم لما عصوا
نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى
الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم
وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين.
واعلم أن قوله :
وما يخادعون إلا أنفسهم أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء
بعدها ألف. والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر
العقل.
وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) عطف على جملة وما يخادعون والشعور يطلق على العلم بالأشياء
الخفية ، ومنه سمي الشاعر شاعرا لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل
أحد وقدرته على
الوزن والتقفية بسهولة ، ولا يحسن لذلك كل أحد ، وقولهم ليت شعري في التحير في علم
أمر خفي ، ولو لا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن ، فقولهم هو لا يشعر وصف
بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى
من الذم بما يتحقق عدمه فإن إحساسهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا
بعدمه وإنما الذي يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة. على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا
يمتري فيه واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١٢] لأن
كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفي واختير في قوله (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ
وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣] نفي
العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته
لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول
الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب «الكشاف» قال : فهم
لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
[١٠] (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ
اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))
استئناف محض لعدّ
مساويهم ويجوز أن يكون بيانيا لجواب سؤال متعجب ناشئ عن سماع الأحوال التي وصفوا
بها قبل في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [البقرة : ٩] فإن
من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوما عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى
عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لا حق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها
المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) بيانا وهو أن في قلوبهم خللا تزايد إلى أن بلغ حد الأفن. ولهذا
قدم الظرف وهو (فِي قُلُوبِهِمْ) للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان
المسئول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب. وتنوين (مَرَضٌ) للتعظيم. وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند
قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧].
والمرض حقيقة في
عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجا غير تام وبمقدار الخروج
يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت ، وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة
للأخلاق البشرية عروضا يخرجها عن كمالها ، وإطلاق
المرض على هذا
شائع مشهور في كلام العرب ، وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى
اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل :
فإن تسألوني
بالنساء فإنني
|
|
خبير بأدواء
النساء طبيب
|
فذكر الأدواء
والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها.
والمراد بالمرض في
هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود
من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم.
ومعنى (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له
كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد
الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القريعي :
ورجّ الفتى
للخير ما إن رأيته
|
|
على السّنّ خيرا
لا يزال يزيد
|
وكذلك القول في
الشر ولذلك قيل : من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر ، وقال النابغة يهجو
عامر بن الطفيل :
فإنك سوف تحلم
أو تناهى
|
|
إذا ما شبت أو
شاب الغراب
|
وإنما كان النفاق
موجبا لازدياد ما يقارنه من سيئ الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون
محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في
كتمه مساوئ الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب ، وإليك بيان ما ينشأ عن
النفاق من الأمراض الأخلاقية في الجدول المذكور هنا وأشرنا إلى ما يشير إلى كل خلق
منها في الآيات الواردة هنا أو في آيات أخرى في هذا الجدول :

اعلم أن هذه طباع
تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله
تعالى لمذام ذلك تعليما وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي : الكذب القولي
، والكذب الفعلي وهو الخداع ، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن
يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن
بقلة الشجاعة والثبات والثقة بالنفس وبحسن السلوك ، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال
الثلاث الذميمة توكّد هنوات أخرى ، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد
أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله
وخيرا منه ، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول ، ولأن الكذب يعود
فكر صاحبه بالحقائق المحرّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما
اعتقد ما اختلقه واقعا ، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأفن في العقل ،
وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.
وأما نشأة العجب
والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفه فظاهرة ، وكذلك نشأة العزلة
والجبن والتستر عن الخوف ، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد
تبدأ من شعورهم بخداعه ، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في
النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا
حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به ، وتصدى هو للمكر بهم
والفساد ليصل إلى مرامه ، فرمته الناس عن قوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هزأة
للناس أجمعين.
وقد رأيتم أن
الناشئ عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشئ أي تأصله وتمكنه وتولد
مذمات أخرى عنه ، ولعل تنكير (مرض) في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة
إلى تنويع أو تكثير ، وتنكير الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادة
النكرة نكرة.
وإنما أسندت زيادة
مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله
تعالى لما خلق هذا التولّد وأسبابه وكان أمرا خفيا نبه الناس على خطر الاسترسال في
النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة ، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكنا من
القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها ، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه
تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من
غفلاتهم لينبه
المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من
معاملتهم أشد ما يمكن.
فجملة : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) خبرية معطوفة على قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) واقعة موقع الاستئناف للبيان ، داخلة في دفع التعجب ، أي
إن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا ينال لأن في قلوبهم مرضا ولأنه مرض
يتزايد مع الأيام تزايدا مجعولا من الله فلا طمع في زواله. وقال بعض المفسرين : هي
دعاء عليهم كقول جبير بن الأضبط :
تباعد عني فطحل
إذ دعوته
|
|
أمين فزاد الله
ما بيننا بعدا
|
وهو تفسير غير حسن
لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه ، ولأن
الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو : «اللهم
اهد قومي فإنهم لا يعلمون».
وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا
يَكْذِبُونَ) معطوف على قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ
مَرَضاً) إكمالا للفائدة فكمل بهذا العطف بيان ما جره النفاق إليهم
من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة. وتقديم الجار والمجرور وهو (لَهُمْ) للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ
العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه.
والأليم فعيل
بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مفعل وأصله عذاب مؤلم
بصيغة اسم المفعول أي مؤلم من يعذّب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلم هو
المعذب دون العذاب كما قالوا جدّ جدّه ، أو هو فعيل بمعنى فاعل من ألم بمعنى صار
ذا ألم ، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم بكسر اللام ، فقيل لم يثبت عن
العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحكيم والسميع بمعنى المسمع كقول عمرو بن
معديكرب :
وخيل قد دلفت
لها بخيل
|
|
تحية بينهم ضرب
وجيع
|
أي موجع ، واختلف
في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه
للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال
البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.
وقوله : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء للسببية. وقرأ الجمهور (يكذّبون) بضم أوله وتشديد
الذال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول
وإخباره بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول ، فمادة التفعيل للنسبة
إلى الكذب مثل التعديل والتجريح ، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم :
(آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] وعلى
كذبهم العام في قولهم : (إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١]
فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين.
والكذب ضد الصدق ،
وسيأتي عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣]. و (ما) المجرورة بالباء مصدرية ،
والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون.
[١١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١))
يظهر لي أن جملة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) عطف على جملة (فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) [البقرة : ١٠] ؛
لأن قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) إخبار عن بعض عجيب أحوالهم ، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفا على أقرب الجمل الملظة لأحوالهم وإن كان ذلك آئلا في المعنى إلى كونه معطوفا على
الصلة في قوله : (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ) [البقرة : ٨].
و (إذا) هنا لمجرد
الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير
فيها كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٢]
الآية. ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى
الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون (إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ) مع كونهم مفسدين ، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون
قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض
القلب وأفن الرأي ، لأن شأن الفساد أن لا يخفى ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه
صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل.
__________________
وعندي أن هذا هو
المقتضى لتقديم الظرف على جملة (قالُوا ...) ، لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم ، ونكت الإعجاز لا
تتناهى.
والقائل لهم (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على
شئونهم لقرابة أو صحبة ، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم
خشية عليهم من العقوبة وعلما بأن النبي صلىاللهعليهوسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية. وفي جوابهم بقولهم
: (إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ) ما يفيد أن الذين قالوا لهم (لا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما
سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا
آمَنَّا) [البقرة : ٨] ولا
يصح أن يكون القائل لهم الله ـ والرسول ـ إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم
كفرهم ولو نزل مجملا كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ).
وقد عنّ لي في
بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب :
أولها
: إفسادهم أنفسهم
بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من
المذام ويتولد من المفاسد.
الثانية
: إفسادهم الناس
ببث تلك الصفات والدعوة إليها ، وإفسادهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في
مساويهم كما قال نوح عليهالسلام : (إِنَّكَ إِنْ
تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧].
الثالث
: إفسادهم بالأفعال
التي ينشأ عنها فساد المجتمع ، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفتن وتأليب
الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
والإفساد فعل ما
به الفساد ، والهمزة فيه للجعل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض. والفساد أصله
استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره ، وقد يطلق على وجود الشيء
مشتملا على مضرة ، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال فسد الشيء بعد أن كان صالحا
ويقال فاسد إذا وجد فاسدا من أول وهلة ، وكذلك يقال أفسد إذا عمد إلى شيء صالح
فأزال صلاحه ، ويقال أفسد إذا أوجد فسادا من أول الأمر. والأظهر أن الفساد موضوع
للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك ، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من
قبيل استعمال المشترك في معنييه. فالإفساد في الأرض منه تصيير
الأشياء الصالحة
مضرة كالغش في الأطعمة ، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق والقتل للبرآء ، ومنه
إفساد الأنظمة كالفتن والجور ، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة
وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين ، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب
الإفساد بالجميع ، فلذلك حذف متعلق (تُفْسِدُوا) تأكيدا للعموم المستفاد من وقوع في حيز النفي.
وذكر المحل الذي
أفسدوا ما يحتوي عليه ـ وهو الأرض ـ لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن
وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها. والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي
عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة
والنواميس التي وضعها الله تعالى لها ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٠].
وقوله تعالى : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد ، أي جعل الشيء صالحا
، والصلاح ضد الفساد يقال صلح بعد أن كان فاسدا ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة
صالحا فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا. وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة
العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذا في ذلك. وأفاد (إِنَّما) هنا قصر الموصوف على الصفة ردا على قول من قال لهم (لا تُفْسِدُوا) ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا
من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملا صالحا وفاسدا ، فردوا عليهم بقصر
القلب ، وليس هو قصرا حقيقيا لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقيا ولأن حرف
إنما يختص بقصر القلب كما في «دلائل الإعجاز» ، واختير في كلامهم حرف (إنما) لأنه
يخاطب به مخاطب مصر على الخطأ كما في «دلائل الإعجاز» وجعلت جملة القصر اسمية
لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمرا ثابتا دائما ، إذ من خصوصيات الجملة
الاسمية إفادة الدّوام.
[١٢] (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢))
رد عليهم في
غرورهم وحصرهم أنفسهم في الصلاح فرد عليهم بطريق من طرق القصر هو أبلغ فيه من
الطريق الذي قالوه لأن تعريف المسند يفيد قصر المسند على المسند إليه فيفيد قوله :
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ) قصر الإفساد عليهم بحيث لا يوجد في
غيرهم وذلك ينفي
حصرهم أنفسهم في الإصلاح وينقضه وهو جار على قانون النقض وعلى أسلوب القصر الحاصل
بتعريف الجنس وإن كان الرد قد يكفي فيه أن يقال إنهم مفسدون بدون صيغة قصر ، إلا
أنه قصر ليفيد ادعاء نفي الإفساد عن غيرهم. وقد يفيد ذلك أن المنافقين ليسوا ممن
ينتظم في عداد المصلحين لأن شأن المفسد عرفا أن لا يكون مصلحا إذ الإفساد هين
الحصول وإنما يصد عنه الوازع فإذا خلع المرء عنه الوازع وأخذ في الإفساد هان عليه
الإفساد ثم تكرر حتى يصبح سجية ودأبا لا يكاد يفارق موصوفه.
وحرف (ألا)
للتنبيه إعلانا لوصفهم بالإفساد.
وقد أكد قصر
الفساد عليهم بضمير الفصل أيضا ـ كما أكد به القصر في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] كما
تقدم قريبا. ودخول (إنّ) على الجملة وقرنها بألا المفيدة للتنبيه وذلك من الاهتمام
بالخبر وتقويته دلالة على سخط الله تعالى عليهم فإن أدوات الاستفتاح مثل ألا وأما
لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه ،
فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما ، ويدل ذلك أيضا
على كمال ظهور مضمون الجملة للعيان لأن أدوات التنبيه شاركت أسماء الإشارة في
تنبيه المخاطب.
وقوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) محمله محمل قوله تعالى قبله : وما يخادعون إلا أنفسهم وما
يشعرون [البقرة : ٩] فإن أفعالهم التي يبتهجون بها ويزعمونها منتهى الحذق والفطنة
وخدمة المصلحة الخالصة آئلة إلى فساد عام لا محالة إلّا أنهم لم يهتدوا إلى ذلك
لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله ، فإن
حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتخفّ بالأحلام الراجحة حتى ترى
حسنا ما ليس بالحسن. وموقع حرف الاستدراك هنا لأن الكلام دفع لما أثبتوه لأنفسهم
من الخلوص للإصلاح ، فرفع ذلك التوهم بحرف الاستدراك.
[١٣] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ
النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ).
هو من تمام المقول
قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل ، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضا طائفة من
المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كلفه
ومتّقياته ، وكلّت
أذهانهم من ابتكار الحيل واختلاق الخطل. وحذف مفعول (آمِنُوا)
استغناء عنه
بالتشبيه في قوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) أو لأنه معلوم للسامعين. وقوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل ، واللام في (الناس) للجنس
أو للاستغراق العرفي. والمراد بالناس من عدا المخاطبين ، كلمة تقولها العرب في
الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن
يسبقها في الأمر ، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو
الائتساء ، قال عمرو ابن البرّاقة النّهمي :
وننصر مولانا
ونعلم أنّه
|
|
كما الناس مجزوم
عليه وجارم
|
وقوله : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) استفهام للإنكار ، قصدوا منه التبري من الإيمان على أبلغ
وجه ، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيها بإيمان السفهاء تشنيعا له وتعريضا
بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم ، ودلوا على أنهم علموا مراد من
يقول لهم (كَما آمَنَ النَّاسُ) أنه يعني بالناس المسلمين.
والسفهاء جمع سفيه
وهو المتصف بالسفاهة ، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السموأل :
نخاف أن تسفه
أحلامنا
|
|
فنخمل الدهر مع
الخامل
|
والعرب تطلق
السفاهة على أفن الرأي وضعفه ، وتطلقها على سوء التدبير للمال. قال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [النساء : ٥] وقال
: (فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة : ٢٨٢]
الآية لأن ذلك إنما يجىء من ضعف الرأي. ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن
مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم ، وليس ذلك لتحقيرهم ، كيف وفي المسلمين سادة
العرب من المهاجرين والأنصار. وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين
بالمذمات بهتانا ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب :
وإذا أتتك مذمّتي
من ناقص
|
|
فهي الشهادة لي
بأني كامل
|
وليس في هاته
الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتا ، ولا نفيا لأن
القائلين لهم (آمِنُوا كَما آمَنَ
النَّاسُ) هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين
__________________
الذين لم يفشوا
أمرهم فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد ولكنه شيء أطلع عليه
نبيئه ، وكانت المصلحة في ستره ، وقد اطّلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من
النبي صلىاللهعليهوسلم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي
يتعلق بحكم النفاق والزندقة.
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).
أتى بما يقابل
جفاء طبعهم انتصارا للمؤمنين ، ولو لا جفاء قولهم : (أَنُؤْمِنُ كَما
آمَنَ السُّفَهاءُ) لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين
ولكنهم كانوا مضرب المثل : «قلت فأوجبت» ، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن
فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة ، وأعلن ذلك بكلمة ألا المؤذنة
بالتنبيه للخبر ، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : ١٢]
ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة. وإذا ثبتت لهم
السفاهة انتفى عنهم الحلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول.
(إنّ) هنا لتوكيد
الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفا. و (ألا) كأختها
المتقدمة في : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ).
وقوله : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة (يَعْلَمُونَ) دون يشعرون خلافا للآيتين السابقتين لأن اتصافهم بالسفه
ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شعورا ويكون الجهل به نفي شعور ، بل هو وصف
ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخلّتين
وعدم ثباتهم على دينهم ثباتا كاملا ولا على الإسلام كذلك كاف في النداء بسفاهة
أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفى ، وقد قالت العرب : السفاهة كاسمها ، قال
النابغة :
نبئت زرعة
والسفاهة كاسمها
|
|
يهدى إليّ غرائب
الأشعار
|
وقال جزء بن كلاب
الفقعسي :
تبغّى ابن كوز
والسّفاهة كاسمها
|
|
ليستاد منّا أن
شتونا لياليا
|
فظنهم أن ما هم
عليه من الكفر رشد ، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سفه يدل على انتفاء العلم
عنهم. فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة.
[١٤] (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا
آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤))
عطف (وَإِذا لَقُوا) على ما عطف عليه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا) [البقرة : ١٢] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ
النَّاسُ) [البقرة : ١٣].
والكلام في الظرفية والزمان سواء.
والتقييد بقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) تمهيد لقوله : (وَإِذا خَلَوْا) فبذلك كان مفيدا فائدة زائدة على ما في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ) [البقرة : ٨]
الآية فليس ما هنا تكرارا مع ما هناك ، لأن المقصود هنا وصف ما كانوا يعملون مع
المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين ، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى
قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون. ونكتة تقديم الظرف تقدمت في
قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا).
ومعنى قولهم (آمَنَّا) أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم (آمَنَّا) الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية
التي تقلب بها المؤمنون وعرفوا بها على حد قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦]
أي كنا على دين اليهودية فلا متعلق بقوله (آمَنَّا) حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره ، أو أريد آمنا بما آمنتم
به ، والأول أظهر ، ولقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم ومجالس المؤمنين. ومعنى (قالُوا آمَنَّا) أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب ، أي نطقوا
بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان.
وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) معطوف على قوله : (وَإِذا لَقُوا) والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) فتمهيد له كما علمت ، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم
أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرّحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد
تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون : (أَنُؤْمِنُ كَما
آمَنَ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٣]
إنكارا لذلك ، وواو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق وذلك أن
السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم ، وإنما لم يجعل
مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل
الواو في قوله : (وَإِذا خَلَوْا) على الحال ، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان
صالحا لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف
استقلال كلتيهما
لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون : (وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) مناد وحده بنفاقهم في هاته الحالة كما يفصح عنه قوله : (وَإِذا لَقُوا) الدال على أن ذلك في وقت مخصوص ، وأما الثاني فلأن الأصل
اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظا. ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان
بالحال.
والشياطين جمع
شيطان ، جمع تكسير ، وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة ، طبيعتها
الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] وقد
اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء ، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر ،
تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة ، وكذلك أطلق هنا على
قادة المنافقين في النفاق ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ) [الأنعام : ١١٢]
إلخ.
ووزن شيطان اختلف
فيه البصريون والكوفيون من علماء العربية فقال البصريون هو فيعال من شطن بمعنى بعد
؛ لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية وقال الكوفيون هو فعلان من شاط
بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر. ولا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن
صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول وهل إن نونه أصل أو زائد وإلا فإنه لا
يظن بنحاة الكوفة أن يدّعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون
مثل غضبان ، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
رَجِيمٍ) [الحجر : ١٧].
وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيين أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل
الشيطان فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط ا ه. وفي «الكشاف» : جعل سيبويه
نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ا ه.
والوجه أن تشيطن
لما كان وصفا مشتقا من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه
لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقا مما اشتق منه الاسم بل من
حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول
فلا يكون قولهم ذلك مرجحا لأحد القولين.
وعندي أنه اسم
جامد شابه في حروفه مادة مشتقة ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من
الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان ، وقد كان العرب العراق فيها السبق قبل
انتقالهم إلى الحجاز واليمن ، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في
أكثر اللغات
القديمة. وكنت رأيت قول من قال إن اسمه في الفارسية سيطان.
و (خلوا) بمعنى
انفردوا فهو فعل قاصر ويعدى بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدى بإلى على
تضمين معنى آب أو خلص ويعدى بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم : «افعل
كذا وخلاك ذم» أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك.
وقد عدي هنا بإلى
المشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم وأنّ لقاءهم للمؤمنين إنما
هو صدفة ولمحات قليلة ، أفاد ذلك كله قوله : (لَقُوا) و (خَلَوْا). وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها.
واعلم أنه حكى
خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد ،
وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه
حرف التأكيد في قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك ؛ لأن
المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين ، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم ، فجاءت
حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية
البليغ من مقتضى الظاهر. فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا
يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك
فقد أيقظوهم إلى الشك وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن
من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى
الظاهر.
وأما قولهم لقومهم
(إِنَّا مَعَكُمْ) بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء
المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم
احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم. وكذلك قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر
القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم أن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق.
__________________
وقد وجه صاحب «الكشاف»
العدول عن التأكيد في قولهم : (آمَنَّا) والتأكيد في قولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر
لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم
على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي
فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء
المتكلم بتحقيقه ، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع ، وهذه نكتة غريبة
مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر. وأما مخاطبتهم
شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكدا لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في
النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم
بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار.
وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا للقلب أي مؤمنون
مخلصون ، وجملة : (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ) تقرير لقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم
استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافا واقعة في جواب سؤال مقدر
كأن سائلا يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة
المسلمين ، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على
الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ) ، وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل
يعتقد كذبهم في قولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) ويدعي عكس ذلك ، وإما أن تكون الجملة بدلا من (إِنَّا مَعَكُمْ) بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالى فيه ـ وهو مقتضى (مَعَكُمْ) أي في تصلبكم ـ فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم ، والوجه
الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة
الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على
تقديري التأكيد والبدلية.
والاستهزاء
السخرية يقال : هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب ، أي عامله
فعلا أو قولا يحصل به احتقاره أو والتطرية به ، سواء أشعره بذلك أم أخفاه عنه.
والباء فيه للسببية قيل : لا يتعدى بغير الباء وقيل : يتعدى بمن ، وهو مرادف سخر
في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام.
وقرأ أبو جعفر (مستهزون)
بدون همزة وبضم الزاي تخفيفا وهو لغة فصيحة في
المهموز.
[١٥] (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ).
لم تعطف هاته
الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر ، وذلك
أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين (آمَنَّا) [البقرة : ١٤]
وقولهم لشياطينهم (إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤]
إلخ. يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في
المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم ، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين ،
ومن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) غاية الفخامة والجزالة ، وهو أيضا واقع موقع الاعتراض
والأكثر في الاعتراض ترك العاطف. وذكر (يَسْتَهْزِئُ) دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم. ولأجل
اعتبار الاستئناف قدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي. ولم يقل يستهزئ الله بهم
لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول من الذي يتولى مقابلة سوء صنيعهم فأعلم أن الذي
يتولى ذلك هو رب العزة تعالى ، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصر لهم وهم المؤمنون كما
قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٣٨]
فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة ثم يفيد مع
ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي
في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب «الكشاف»
كما صرح به في قوله تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) في سورة المزمل [٢٠] ، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد
التخصيص جائزا في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في «الكشاف» عند قوله تعالى : (فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) في سورة الجن [١٣] ، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا
يترك حمل الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام ، ولذلك يقال النكت لا تتزاحم.
كان المنافقون
يغرهم ما يرون من صفح النبي صلىاللهعليهوسلم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم
ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبيّ : (لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨]
فقال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ) [المنافقون : ٨]
فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوي إذ لا مقتضي له.
وفعل : (يَسْتَهْزِئُ) المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته لأن المراد هنا أنه
يفعل بهم في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ) ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة
الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، بما بشبه فعل المستهزئ بهم وذلك
بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض
عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا
خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم. والمضارع في قوله : (يَسْتَهْزِئُ) لزمن الحال.
ولا يحمل على
اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في
الدنيا ، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة. ويجوز أن يكون (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو
نوع من العقاب فيكون المضارع في (يَسْتَهْزِئُ) للاستقبال ، وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل
ابن عطية ، ويجوز أن يكون مرادا به جزاء استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال
والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازا ومشاكلة ، أو مرادا به مآل
الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم. وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من
المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة
أيضا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى
عنه كما في «الكشاف» وهو مبني على المتعارف بين الناس.
وجيء في حكاية
كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤]
لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه.
وجيء في قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم
زمانا إلى أن يأخذهم العذاب ، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة
إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦].
(وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
يتعين أنه معطوف
على (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ).
و (يمد) فعل مشتق
من المدد وهو الزيادة ، يقال مدّه إذا زاده وهو الأصل في
الاشتقاق من غير حاجة
إلى الهمزة لأنه متعد ، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف
المتعدي ، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مدد ثم غلب استعمال مد
في الزيادة في ذات المفعول نحو مدّ له في عمره ومدّ الأرض أي مططها وأطالها ، وغلب
استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء : ١٣٣].
وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال
وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو : (أَتُمِدُّونَنِ
بِمالٍ) [النمل : ٣٦] (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ) [المؤمنون : ٥٥] ،
ويختص مد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب «الحجة» ، ونقله ابن عطية عن يونس بن حبيب ، إلا المعدّى باللام
فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهال فيه عند الزمخشري وغيره خلافا لبعض اللغويين
فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجل (بسكون الجيم) عن التفرقة
بالهمز رجوعا للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي
القصور وهو لام الجر ، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في
كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية
أن يخصوا بعض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جريا وراء التنصيص في الكلام
ودفع اللبس بقدر الإمكان. وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية ، فلا يقال إن دعوى
اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف
الأصل كما أورد عبد الحكيم ؛ لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا
تعدد وضع ولا استعمال في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فرق وفرق ووعد
وأوعد ونشد وأنشد ونزّل (المضاعف) وأنزل ، وقولهم العثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة
، والعثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع ، وقد فرقت العرب في مصادر
الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود.
وتعدية فعل (يمد)
إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على
طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل
الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل
الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك.
والطغيان مصدر
بوزن الغفران والشكران ، وهو مبالغة في الطغي وهو الإفراط في
الشر والكبر
وتعليق فعل (يَمُدُّهُمْ) هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله : (فِي طُغْيانِهِمْ) ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم
أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بعد.
والعمه انطماس
البصيرة وتحير الرأي وفعله عمه فهو عامه وأعمه.
وإسناد المد في
الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله : (وَيَمُدُّهُمْ) إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى
في حصول المسببات عند أسبابها. فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع
عنها ، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان
تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلا من ارتباط المسببات
بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي
يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم ، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضيا استمرار
طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب
ازدياده ، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق
الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق
للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند
إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح
بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو :
يزيدك وجهه حسنا وسرتني رؤيتك ؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا
أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر : إنه من المجاز الذي لا
حقيقة له.
وإنما أضاف
الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل في الطغيان بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف
: [٢٠٢] (وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم
اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم. والظرف متعلق بيمدهم و (يَعْمَهُونَ) جملة حالية.
[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))
(أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى).
الإشارة إلى من
يقول (آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ٨] وما
عطف على صلته من صفاتهم وجيء باسم إشارة الجمع لأن ما صدق «من» هو فريق من الناس ،
وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنى : «(وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥]
فمضمونها بمنزلة التوكيد ، وذلك مما يقتضي الفصل ، ولتفيد تعليل مضمون جملة (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) فتكون استئنافا بيانيا لسائل عن العلة ، وهي أيضا فذلكة
للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ،
وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل.
وموقع هذه الجملة
من نظم الكلام مقابل موقع جملة (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥]
ومقابل موقع جملة (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧]
الآية.
واسم الإشارة هنا
غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم
حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم وهذا استعمال كثير الورود في
الكلام البليغ. وليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيرا ناشئا عن
البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون
العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢] ولأن
المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد
معنى ثان فإن قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى
البعيد فأفاد التعظيم. وعكس هذا قول قيس بن الخطيم :
متى يأت هذا
الموت لا يلف حاجة
|
|
لنفسي إلا قد
قضيت قضاءها
|
فإن الموت بعيد
عنه فحقه أن يشير إليه باسم البعيد ، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه
به.
والاشتراء افتعال
من الشرى وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع
كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل
الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئا لرغبة فيه ، ولما كان معنى البيع
مقتضيا آخذين وباذلين كان كل منهما بائعا ومبتاعا باختلاف الاعتبار ، ففعل باع
منظور فيه ابتداء
إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم
آخذا لما صار بيده عبّر عنه بمبتاع ومشتر ، وإن اعتبره باذلا لما خرج من يده من
العوض ، عبّر عنه ببائع وشار ، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سنن واحد ، وقد ذكر
كثير من اللغويين أن شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرّأهم على ذلك سوء التأمل في
قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠]
فتوهموا الضمير عائدا إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى
: (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) [يوسف : ١٩] أي
باعوه ، وحسبك شاهدا على ذلك قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) [يوسف : ٢٠] أما
الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) [يوسف : ٢١].
وعلى ذينك
الاعتبارين في فعلي الشراء والبيع كانت تعديتهما إلى المفعول فهما يتعديان إلى
المقصود الأصلي بأنفسهما وإلى غيره بالباء فيقال باع فرسه بألف وابتاع فرس فلان
بألف لأن الفرس هو الذي كانت المعاقدة لأجله لأن الذي أخرجه ليبيعه علم أن الناس
يرغبون فيه والذي جاء ليشتريه كذلك.
وإطلاق الاشتراء
هاهنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم ، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على
شيء والزهد في ضده أي حرصوا على الضلالة ، وزهدوا في الهدى إذ ليس في ما وقع من
المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مهتدين.
ويجوز أن يكون
الاشتراء مستعملا في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور.
قال بشامة بن حزن :
إنّا بني نهشل
لا ندّعي لأب
|
|
عنه ولا هو
بالأبناء يشرينا
|
أي يبيعنا أي
يبدلنا ، وقال عنترة بن الأخرس المعني من شعراء «الحماسة» :
ومن إن بعت
منزلة بأخرى
|
|
حللت بأمره وبه
تسير
|
أي إذا استبدلت
دارا بأخرى. وهذا بخلاف قول أبي النجم :
أخذت بالجمة
رأسا أزعرا
|
|
وبالطويل العمر
عمرا جيدرا
|
فيكون الحمل عليه
هنا أن اختلاطهم كما اشترى المسلم إذ تنصرا بالمسلمين وإظهارهم الإيمان حالة تشبه
حال المهتدي تلبّسوا بها فإذا خلوا إلى شياطينهم طرحوها واستبدلوها بحالة الضلال
وعلى هذا الوجه الثاني يصح أيضا أن يكون الاشتراء استعارة بتشبيه تينك الحالتين
بحال المشتري لشيء كان غير جائز له وارتضاه في «الكشاف».
والموصول في قوله (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) بمعنى المعرف بلام الجنس فيفيد التركيب قصر المسند على
المسند إليه وهو قصر ادعائي باعتبار أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص
عليها إذ جمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بالمهتدين.
(فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).
رتّبت الفاء عدم
الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن
كليهما ناشئ عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور ؛ لأنهم لما اشتروا الضلالة
بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق
أنهم لم يكونوا مهتدين فعدم الاهتداء وإن كان سابقا على اشتراء الضلالة بالهدى أو
هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدما فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند
حصول أثره وهو ذلك الاشتراء ، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر فلذلك صح ترتيبه
بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية ، ولهذا عبر ب (ما كانُوا
مُهْتَدِينَ) دون ما اهتدوا لأن ما كانوا أبلغ في النفي لإشعاره بأن
انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم ، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها
منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع.
والربح هو نجاح
التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر ويطلق
الربح على المال الحاصل للتاجر زائدا على رأس ماله. والتجارة ـ بكسر أوله ـ على
وزن فعالة وهي زنة الضائع ومعنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن
أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله. ولما كان ذلك لا ينجح
إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الضائع ونفي الربح في الآية تشبيه لحال
المنافقين إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار
الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال
إنهم إذا لم يربحوا فقد بقي لهم نفع رأس المال ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع
رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه إذ
الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما
هو مقرر في فن البيان.
وإنما أسند الربح
إلى التجارة حتى نفي عنها لأن الربح لما كان مسببا عن التجارة وكان الرابح هو
التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي وذلك أنه لو لا
الإسناد المجازي
لما صح أن ينفى عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب
الإخبار بالمعلوم ضرورة ، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه ، إن انتفاء
الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير :
«ونمت وما ليل
المطي بنائم»
بخلاف قولك ما
ليله بطويل ، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى
الخسر ووصفها بالربح مجاز وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفي لو كان مثبتا
فإن وجدت إثباته مجازا عقليا فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفى
إلا ما يصح أن يثبت. وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتازانيّ في «المطول» ، وعدل عنها في «حواشي الكشاف» وهي أمثل مما عدل إليه.
وقد أفاد قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ترشيحا للاستعارة في (اشْتَرَوُا) فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفى المجاز بما يناسبه سواء كان
ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول له يد طولى أو هو
أسد دامي البراثن أم كان التشريح متميزا به أو مستعارا لمعنى آخر هو من ملائمات
المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح
ترشح به (اشْتَرَوُا). ومثله قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي كما في «أساس
البلاغة» للزمخشري ولم يعزه :
ولما رأيت
النّسر عزّ ابن داية
|
|
وعشّش في وكريه
جاش له صدري
|
فإنه لما شبه
الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما
الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر ؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول
بعض فتّاك العرب في أمه (أنشده في «الكشاف» ولم أقف على تعيين قائله) :
وما أمّ الرّدين
وإن أدلّت
|
|
بعالمة بأخلاق
الكرام
|
__________________
إذا الشيطان
قصّع في قفاها
|
|
تنفّقناه بالحبل
التّوأم
|
فإنه لما استعار
قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة
ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء ، وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي
تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا
تبعا للأولى. والآية ليست من هذا القبيل. وقوله : (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) قد علم من قوله : (اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى) إلى : (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) ، فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في
اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم
اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعلوم أنه لم يبق فيهم هدى.
ومعنى نفي
الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي إنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير
الآخر ولا ما يضر المسلمين. وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما
تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة ، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف
من يريد الربح ، فيقع في الخسران. فقوله : (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الخسران وإضاعة كل شيء
لأن من لم يكن مهتديا أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه.
[١٧] (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧))
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً).
أعقبت تفاصيل
صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة ، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة ، وهذه طريقة
تشبيه التمثيل ، إلحاقا لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة ، لأن النفس إلى
المحسوس أميل.
وإتماما للبيان
بجمع المتفرقات في السمع ، المطالة في اللفظ ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد
التفصيل وقعا من نفوس السامعين.
وتقريرا لجميع ما
تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفا لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها.
قال في «الكشاف» : «ولضرب العرب الأمثال واستحضار
العلماء المثل
والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك
المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد».
واستدلالا على ما
يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة ، فمن فوائد
التشبيه قصد تفظيع المشبه.
وتقريبا لما في
أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من
أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه ، وتنظير غرائبه بمثلها في
المشبه به. قال في «الكشاف» : «ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت
في كلام رسول صلىاللهعليهوسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] ا
ه.
والتمثيل منزع
جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم. وهو هنا من قبيل
التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ
مثل. فجملة : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة ،
فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف ، والحالة التي وقع
تمثيلها سيجيء بيانها في آخر تفسير الآية.
وأصل المثل
بفتحتين هو النظير والمشابه ، ويقال أيضا مثل بكسر الميم وسكون الثاء ، ويقال :
مثيل كما يقال : شبه وشبه وشبيه ، وبدل وبدل ، وبديل ، ولا رابع لهذه الكلمات في
مجيء فعل وفعل وفعيل بمعنى واحد.
وقد اختص لفظ
المثل (بفتحتين) بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح
وتشبه سواء شبهت كما هنا ، أم لم تشبه كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥].
وبإطلاقه على قول
يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه ، فلا يزال الناس
يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعا لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت
لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعا لذكره فيسمى مثلا وأمثال
العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده
وسأذكره قريبا.
فالظاهر أن إطلاق
المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق
مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة ، وأنهم لا يكادون يضربون مثلا ولا
يرونه أهلا للتسيير وجديرا بالتداول إلا قولا فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ
وإيجازه ووفرة معنى ، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من
أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة أي العزة مثل قولهم : «الصيف ضيعت اللبن» وقولهم : «لا
يطاع لقصير أمر» وستعرف وجه ذلك.
ولما شاع إطلاق
لفظ المثل (بالتحريك) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة
مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به
معا أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على
المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل
الأسد وقلما شبهوا حالا مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى : (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى
الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) [الرعد : ١٤] بل
يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالبا نحو الآية هنا ، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد
الجانبين كقوله : (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) [يونس : ٢٤] الآية
وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار
لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسيا من أصل وضعه ومستعملا في معنى الحالة فلذلك لا
يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى
: (كَمَثَلِ) دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في «شرح الحاجبية» ، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩]
وقوفا مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل
عند العطف في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) ولم يستغن عن الكاف.
ومن أجل إطلاق لفظ
المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية
استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة
المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].
__________________
وإنني تتبعت
كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجىء في أربعة
أقسام :
الأول
: ما صرح فيه بأداة
التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] إذا
قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا.
الثاني
: ما كان على طريقة
الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه
بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم : إني أراك
تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
الثالث
: تمثيلية مكنية
وهي أن تشبه هيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو
لازم مشتهر من لوازمه ، وقد كنت أعد مثالا لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا
اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت
عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبئ بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم
يذكر اللفظ الدال على الحالة ، وموجب شهرتها سيأتي. ثم لم يحضرني مثال للمكنية
التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة ، فلما دفنوا الميت
وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر
للأنصار والمهاجرة» فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا
إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبي صلىاللهعليهوسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصدا من
هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيها بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء
القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على الشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه
بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبي تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن
عبد ربه الأندلسي :
وقل لمن لام في
التصابي
|
|
خلّ قليلا عن
الطريق
|
فرأيته من باب
التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه
ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض : خل عن
الطريق.
رابعها
: تمثيلية تبعية
كقول أبي عطاء السندي :
ذكرتك والخطي
يخطر بيننا
|
|
وقد نهلت منى
المثقّفة السّمر
|
فأثبت النهل
للرماح تشبيها لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها
لا يرويها ما تصيبه أولا ثم أتى بنهلت على وجه التبعية ، ومن هذا القسم عند
التفتازانيّ الاستعارة في (على) من قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] وقد
تقدم الكلام عليه هناك.
فأما المثل الذي
هو قول شبه مضربه بمورده ، وهو الذي وعدت بذكره آنفا فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن
تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة
التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في
أثناء الحالة المشبه بها ليذكّر السامع بتلك الحالة ، وبأن حالة اليوم شبيهة بها
ويجعل علامة ذكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة وإذا حققت التأمل وجدت هذا
العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال
قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا
محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من
روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزا إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها ، ومن
أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها
المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد
ذكرها رمزا للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب
الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب «الكشاف» وصاحب «المفتاح» إذ جعل صاحب «الكشاف» سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال : «ولم
يضربوا مثلا ولا رأوه أهلا للتسيير ، ولا جديرا بالتداول إلا قولا فيه غرابة من
بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير» فتردد شراحه في مراده من الغرابة ،
وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن
يكون بحسب اللفظ ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول
الحكم بن عبد يغوث : رب رمية من غير رام ، أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف
وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] إذ
جعل القتل حياة. وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول
الحباب بن المنذر : «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب» أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من
__________________
غير رام. أو فيه
مشاكلة نحو : «كما تدين تدان». أراد كما تفعل تجازى. وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة
والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولا بديعا خاصيا
إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن.
وأما صاحب «المفتاح» فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال :
ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه
المثل لا غير ا ه. وإلى طريقته مال التفتازانيّ والسيد. وقد علمت سرها وشرحها فيما
بيناه. ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل
تذكيرا وتأنيثا وغيرهما. فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق : «قول شبه مضربه
بمورده» أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضربا لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول
أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) [البقرة : ٢٦]
وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها ،
سميت موردا لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون ، ويقال الأمثال السائرة
أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها
تسير من بلد إلى بلد. و (الَّذِي اسْتَوْقَدَ
ناراً) مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى
لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين
، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على
وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع
تعقبه بالضلالة ودوامه ، بحال من استوقد نارا.
واستوقد بمعنى
أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران : ١٩٥]
وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في «الحماسة» :
نستوقد النبل
بالحضيض ونص
|
|
طاد نفوسا بنت
على الكرم
|
__________________
أراد وقودا يقع
عند الرمي بشدة. وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال
طالب الوقود بل هو حال الموقد وقوله :
(فَلَمَّا أَضاءَتْ ما
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ).
مفرع على (اسْتَوْقَدَ). و (فَلَمَّا) حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن
لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود
شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة
أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ
والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي
القرآن.
مثال ترتب المعلول
على العلة لما تعفنت أخلاطه حمّ ، والمسبب على السبب ، (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ
بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [هود : ٧٧] ، وقول
عمرو بن معد يكرب :
لما رأيت نساءنا
|
|
يفحصن بالمعزاء
شدا
|
نازلت كبشهم ولم
|
|
أر من نزال
الكبش بدا
|
ومثال المقارن
المهيأ قول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة
الحي وانتحى
|
|
بنا بطن خبت ذي
حقاف عقنقل
|
هصرت بفودي
رأسها فتمايلت
|
|
عليّ هضيم الكشح
ريّا المخلخل
|
ومثال المقارن
الحاصل اتفاقا (وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا ...) [العنكبوت : ٣١]
وقوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) [يوسف : ٦٩] فمن
ظن أن لما تؤذن بالسببية اغترارا بقولهم وجود لوجود حملا للّام في عبارتهم على
التعليل فقد ارتكب شططا ولم يجد من كلام الأئمة فرطا.
و (أضاء) يجىء
متعديا وهو الأصل لأن مجرده ضاء فتكون حينئذ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان
القيني :
أضاءت لهم
أحسابهم ووجوههم
|
|
دجى الليل حتى
ثقب الجزع ثاقبه
|
__________________
ويجىء قاصرا بمعنى
ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرئ القيس يصف البرق :
يضىء سناه أو
مصابيح راهب
|
|
أمال السليط
بالذبال المفتل
|
والآية تحتملهما
أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها ، فيكون
ما حوله موصولا مفعولا لأضاءت وهو المتبادر ، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت
النار أي اشتعلت وكثر ضوؤها في نفسها ، ويكون ما حوله على هذا ظرفا للنار أي حصل
ضوء النار حولها غير بعيد عنها.
و (حَوْلَهُ) ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا
بمعنى لديه ومن توهم أن (ما حَوْلَهُ) يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصا إلا بعناء.
وجمع الضمير في
قوله : (بِنُورِهِمْ) مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله : (ما حَوْلَهُ) مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه
بها ؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو
انطماس نور الإيمان منهم ، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى (الذي) ، قريبا من رد
العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة :
وفي الحي أحوى
ينفض المرد شادن
|
|
مظاهر سمطي لؤلؤ
وزبرجد
|
وهذا رجوع بديع ،
وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩]
وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة
كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعا واحدا في المشبه والشبه به ، فما ثبت
للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه. وهذا يقتضي أن تكون جملة (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) جواب (لمّا) فيكون جمع ضمائر بنورهم وتركهم إخراجا للكلام
على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه ، ولذلك
اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به ، للتنبيه على الانتقال من التمثيل
إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين ، فهذا إيجاز
بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد
للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز. وقريب منه قوله تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا
عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ
قالُوا
إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٢٢ ـ ٢٤]
فقوله : (أُرْسِلْتُمْ) حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلىاللهعليهوسلم قومه بقوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ). وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في الآية بعدها من
قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه. وجوز صاحب «الكشاف»
أن يكون قوله : (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) استئنافا ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) ويكون جواب (لما) محذوفا دلت عليه الجملة المستأنفة وهو
قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف.
ومعنى (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد ،
وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفئ ،
والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله
: (وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ) [البقرة : ١٥] و (ذَهَبَ) المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة
في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا
متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ) [يوسف : ١٥]
وأذهبه جعله ذاهبا بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهابا لا شك فيه
يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيدا معنى أذهبه ،
ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله :
(يَأْتِي بِالشَّمْسِ
مِنَ الْمَشْرِقِ) [البقرة : ٢٥٨]
وقوله : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ
الْبَدْوِ) [يوسف : ١٠٠] ثم
جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون : ذهب القمار بمال فلان ولا
يريدون أنه ذهب معه ، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب
فبقيت المبالغة فيه. وضمير المفرد في قوله و (ما حَوْلَهُ) مراعاة للحال المشبهة.
واختيار لفظ النور
في قوله : (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب ؛ لأن الذي يشبه
النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن
الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه
أنسب بالحال المشبهة ، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو
بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله
: (بِنُورِهِمْ).
(وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).
هذه الجملة تتضمن
تقريرا لمضمون (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر ، والقصد منه زيادة
إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما
ليس للدلالة الضمنية فإن قوله (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) يفيد أنهم لما استوقدوا نارا فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت
المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك :
(وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) تذكيرا بذلك وتنبيها إليه ، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا
شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال
ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة :
نداماي بيض
كالنجوم وقينة
|
|
تروح إلينا بين
برد ومجسد
|
فإن قوله تروح
إلينا إلخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها ، وتفيد هذه الجملة
أيضا أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد ، على ما في قوله (وَتَرَكَهُمْ) من إفادة تحقيرهم ، وما في جمع (ظُلُماتٍ) من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمنا
من جملة (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) وما يقتضيه جمع (ظُلُماتٍ) من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما
سيأتي. وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم
تفصل.
وحقيقة الترك
مفارقة أحد شيئا كان مقارنا له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع. وكثيرا ما يذكرون
الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها ، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازا عن
معنى صيّر أو جعل. قال النابغة :
فلا تتركنّي
بالوعيد كأنني
|
|
إلى الناس مطليّ
به القار أجرب
|
أي لا تصيرني بهذه
المشابهة ، وقول عنترة :
جادت عليه كل
عين ثرة
|
|
فتركن كل قرارة
كالدرهم
|
يريد صيرن ،
والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة ،
أو عن تحقيره كما في هذه الآية.
والفرق بين ما
يعتبر فيه معنى صيّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولا ، وما يعتبر المنصوب الثاني
معه حالا ، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني
حال وإن كان القصد أولا إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة
فالمنصوب الثاني
مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظا.
وجمع (ظُلُماتٍ) لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٦٣]
وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» فإن الكثرة لما كانت في العرف
سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي
عند قوله تعالى : (وَادْعُوا ثُبُوراً
كَثِيراً) في سورة الفرقان [١٤] ، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم ،
للواحد ، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم ، وصيغة الجمع من ذلك القبيل ، قيل لم
يرد في القرآن ذكر الظلمة مفردا ، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقا في فصيح الكلام
وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ) في سورة الأنعام [١] بخلاف قوله تعالى : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] فإن
التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث. ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليهالسلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه
المفرد ، ويتعين في هذه الآية أن جمع (ظلمات) أشير به إلى أحوال من أحوال
المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر ، وحالة الكذب ،
وحالة الاستهزاء بالمؤمنين ، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.
وهذا التمثيل
تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو
ظهور أمر نافع ثم انعدامه قبل الانتفاع به ، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين
صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نورا وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند
خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم
كانوا في كفر فصاروا في كفر وكذب وما يتفرع عن النفاق من المذام ، فإن الذي يستوقد
النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول
الأمر لأن ضوء النار قد عوّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ
الكفر فيهم. وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة : (لا يُبْصِرُونَ) لتصوير حال من انطفأ نوره بعد أن استضاء به.
ومفعول (لا يُبْصِرُونَ) محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم
ولا يقدّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم ، كقول البحتري :
شجو حساده وغيظ
عداه
|
|
أن يرى مبصر
ويسمع واع
|
وقد أجمل وجه
الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتمادا على فطنة السامع لأنه يمخضه
من مجموع ما تقدم
من شرح حالهم ابتداء من قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] إلخ
ومما يتضمنه المثلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء
الحالة المشبه بها ، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم : (آمَنَّا بِاللهِ) وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١]
وقولهم عند لقاء المؤمنين : (آمَنَّا) [البقرة : ١٤]
أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاة والصدقة مع المسلمين
ويصدر منهم طيّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور
الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبة حالة تضادها عند
انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم
فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء
بهم ووصفهم بالسفه ، مثّل ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب
عنه نورها.
ومن بدائع هذا
التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيئة المشبه بها ومقابلتها للهيئة المركبة من
حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيئة أحوالهم بجزء مفرد من
الهيئة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار ، ويتضمن تشبيه القرآن في
إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين ، وشبه رجوعهم إلى
كفرهم بذهاب نور النار ، وشبه كفرهم بالظلمات ، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.
[١٨] (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ (١٨))
أخبار لمبتدإ
محذوف هو ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير (مَثَلُهُمْ) [البقرة : ١٧] ولا
يصح أن يكون عائدا على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧]
لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخره لأن قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لما تأتى منه الاستيقاد ، وحذف
المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو
أخبار جعلوه كأنه قد عرف للسامع فيقولون : فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على
تقدير هو فلان ، ومنه قوله تعالى : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطاءً حِساباً رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) [النبأ : ٣٦ ، ٣٧]
التقدير هو رب السماوات عدل عن جعل (رب) بدلا من ربك ، وقول الحماسي :
__________________
سأشكر عمرا إن
تراخت منيتي
|
|
أيادي لم تمنن
وإن هي جلّت
|
فتى غير محجوب
الغنى عن صديقه
|
|
ولا مظهر الشكوى
إذا النعل زلت
|
وسمى السكاكي هذا
الحذف «الحذف الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه». والإخبار عنهم بهذه
الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم
البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة
بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع ، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم
الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم
كالأعمى ، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان. قال صاحب «الكشاف» : «فإن
قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا
لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون» ا ه أي لأن الاستعارة تعتمد على
لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معا فهو تشبيه ، ولا
يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لو لا العلم بالمستعار
له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد :
قامت تظللني من
الشمس
|
|
نفس أعزّ عليّ
من نفسي
|
قامت تظللني ومن
عجب
|
|
شمس تظللني من
الشمس
|
أن قوله شمس
استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله نفس أعز ، وضميرها في قوله
قامت تظللني وكذا إذا لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعا من
الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طباطبا :
لا تعجبوا من
بلى غلالته
|
|
قد زرّ أزراره
على القمر
|
فإن الضمير لم
يذكر ليبنى عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه.
والصم والبكم
والعمى جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي ، فالصمم انعدام
إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعا ، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق ،
والعمي انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار.
وقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) تفريع على جملة : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لأن من اعتراه هذه
الصفات انعدم منه
الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب. والرجوع الانصراف من مكان حلول
ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر.
[١٩] (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ
ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ
الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩))
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ).
عطف على التمثيل
السابق وهو قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧]
أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين
المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن
وإرشاده ، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين ، بحال صيب من السماء
اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار ، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في
التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من
التوصيف والتوسع فيه.
وقد استقريت من
استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرئ القيس في معلقته
:
أصاح ترى برقا
أريك وميضه
|
|
كلمع اليدين في
حبيّ مكلّل
|
يضيء سناه أو
مصابيح راهب
|
|
أمال السليط
بالذّبال المفتّل
|
وقول لبيد في
معلقته يصف راحلته :
فلها هباب في
الزمام كأنها
|
|
صهباء خفّ مع
الجنوب جهامها
|
أو ملمع وسقت
لأحقب لاحه
|
|
طرد الفحول
وضربها وكدامها
|
وكثر أن يكون
العطف في نحوه بأو دون الواو ، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها
معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة
__________________
أي لتختار التشبيه
بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما :
أفتلك أم وحشية
مسبوعة
|
|
خذلت وهادية
الصّوار قوامها
|
وقال ذو الرمة في
تشبيه سير ناقته الحثيث :
وثب المسحّج من
عانات معقلة
|
|
كأنّه مستبان
الشّكّ أو جنب
|
ثم قال :
أذاك أم نمش
بالوشي أكرعه
|
|
مسفّع الخد غاد
ناشع شبب
|
ثم قال :
أذاك أم خاضب
بالسّيّ مرتعه
|
|
أبو ثلاثين أمسى
وهو منقلب
|
وربما عطفوا
بالواو كما في قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) [الزمر : ٢٩]
الآية ثم قال : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [النحل : ٧٦]
الآية. وقوله : (ما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢١]
الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ
حَصِيداً خامِدِينَ) [الأنبياء : ١٥]
وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي
فإنه لعزته مفردا تعز استطاعة تكريره.
و (أو) عطفت لفظ (صيب)
على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧]
بتقدير مثل بين الكاف وصيب. وإعادة حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة
العامل ، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف
الحالين المشبهين كما سنبينه
__________________
وهم في الغالب لا
يكررونه في العطف.
والتمثيل هنا لحال
المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة
، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مثّلت في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧]
بنوع إطلاق وتقييد.
فقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله :
(كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ) دل على تقدير قوم قوله : (يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) وقوله : (يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ) [البقرة : ٢٠].
الآية ، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يجيء فيه ما جاز في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧]
إلخ. فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان
أهلها كانّين في مساكنهم كما علم ذلك من قوله : (كُلَّما أَضاءَ
لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) [البقرة : ٢٠]
فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم ممّا اتصل به من الرعد والصواعق ضر ولم ينفع
المارين بها وأضرّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق ، فالصيب مستعار
للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغيث وارد. وفي الحديث الصحيح : «مثل ما بعثني الله
به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكان منها نقيّة» إلخ. وفي القرآن : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ) [الحديد : ٢٠]. ولا
تجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع
التمثيل القرآني ، ومنه أخذ أبو الطيب قوله :
فتى كالسحاب
الجون يرجى ويتّقى
|
|
يرجّى الحيا منه
وتخشى الصواعق
|
والظلمات مستعار
لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم
لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر ، والرعد لقوارع القرآن وزواجره ، والبرق لظهور
أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق
التشبيه وهو أعلى التمثيل.
والصيب فيعل من
صاب يصوب صوبا إذا نزل بشدة ، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية
فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل.
والظاهر أن قوله :
(مِنَ السَّماءِ) ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به
لزيادة استحضار
صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس :
كجلمود صخر حطّه السيل من عل
إذ قد علم السامع
أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير ، وكقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ،
وقوله : (كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٧١]
وقال تعالى : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢].
والسماء تطلق على
الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء ، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤]
وتطلق على السحاب ، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث : «خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إثر سماء» إلخ ، ولما كان تكوّن المطر من الطبقة
الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن.
ويمكن أن يكون
قوله : (مِنَ السَّماءِ) تقييدا للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن
التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في «الكشاف» على بعد فيه إذ لم يعهد
دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل
الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا
قوله : (مِنَ السَّماءِ) قيدا للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا
كان من سمت مقابل وكان عاليا كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريبا
من الأرض غير مرتفع. وضمير (فيه) عائد إلى (صيب) والظرفية مجازية بمعنى معه ،
والظلمات مضى القول فيه آنفا.
والمراد بالظلمات
ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطرا وبرقا وتسمى سارية.
والرعد أصوات تنشأ في السحاب. والبرق لا مع ناري مضيء يظهر في السحاب ، والرعد
والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في
الجو إحداهما كهرباؤها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف
فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة
هوائية من فعل الكهرباء ، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح
البرق.
وقد علمت أن الصيب
تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد
بأنها تسر أقواما
وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار ، فكذلك الآيات تسر
المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة
على أحوالهم.
[٢٠] (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ
شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٢٠))
الأظهر أن تكون
جملة : (يَجْعَلُونَ) حالا اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت
مجملة ، وأما جملة : (يَكادُ الْبَرْقُ) فيجوز كونها حالا من ضمير (يَجْعَلُونَ) ، لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها
استئنافا لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد. وجملة : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) حال من (البرق) أو من ضمير (أبصارهم) لا غير ، وفي هذا
تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد
والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين
يلمع بإضاءة شديدة ويعمي عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه. وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل
المظلم المرعد المبرق. وقوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ
بِالْكافِرِينَ) اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في
كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل. وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل
فالضمائر التي في جملة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) راجعة إلى أصل الكلام ، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق.
فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن انحطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور
الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار ، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلا عن
جمهور المفسرين وهو مجاز شائع ، يقال فلان يرعد ويبرق ، على أن بناءه هنا على
المجاز السابق يزيده قبولا ، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم
بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق ، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى
كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل ، وخلل ذلك كله بتهديد لا
يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ
بِالْكافِرِينَ) وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيها على وجه الشبه
وتقريرا لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق
في حصول أثري
النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز.
وجعل في «الكشاف» الجمل الثلاث مستأنفا بعضها عن بعض بأن تكون الأولى
استئنافا عن جملة : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩]
والثانية وهي : (يَكادُ الْبَرْقُ) مستأنفة عن جملة : (يَجْعَلُونَ) لأن الصواعق تستلزم البرق ، والثالثة وهي : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا) مستأنفة عن قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ) والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا
إليه آنفا.
والجعل والأصابع
مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط ،
والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض
علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب «الكشاف»
بقوله هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨]
ومنه قولك مسحت بالمنديل ، ودخلت البلد ، وقيل ذلك مجاز في الأصابع ، وقيل مجاز في
الجعل ولمن شاء أن يجعله مجازا في الظرفية فتكون تبعية لكلمة (في).
و (من) في قوله : (مِنَ الصَّواعِقِ) للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في
الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ
لا داعي إليه ، ونظير هذا قولهم سقاه من العيمة (بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة
اللبن) لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده
على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا.
والصواعق جمع
صاعقة وهي نار تندفع من كهربائية الأسحبة كما تقدم آنفا. وقوله : (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معا.
ومن بديع هذا
التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين
حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول
دعوة النبي وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك
الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم ، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في مفرداته إلى
تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم
أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق
شديد يكاد يذهب بأبصارهم وهم في حيرة بين السير وتركه. وقوله :
(وَاللهُ مُحِيطٌ
بِالْكافِرِينَ) اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه
حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في
قوله تعالى (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ) [البقرة : ١٧] إلخ
كما تقدم إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض.
والإحاطة استعارة
للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على
طريقة التبعية أو التمثيلية وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على
الهيئة المشبهة بها وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم
على سوء صنعهم.
والخطف الأخذ بسرعة.
و (كلما) كلمة
تفيد عموم مدخولها ، و (ما) كافة لكل عن الإضافة أو هي مصدرية ظرفية أو نكرة
موصوفة فالعموم فيها مستفاد من كلمة (كل). وذكر (كلما) في جانب الإضاءة و (إذا) في
جانب الإظلام لدلالة (كلما) على حرصهم على المشي وأنهم يترصدون الإضاءة فلا يفيتون
زمنا من أزمان حصولها ليتبينوا الطريق في سيرهم لشدة الظلمة.
و (أَضاءَ) فعل يستعمل ومتعديا باختلاف المعنى كما تقدم في قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) [البقرة : ١٧]
وأظلم يستعمل قاصرا كثيرا ويستعمل متعديا قليلا. والظاهر أم (أضاء) هنا متعد
فمفعول (أضاء) محذوف لدلالة (مشوا) عليه وتقديره الممشى أو الطريق أي أضاء لهم
البرق الطريق وكذلك (أظلم) أي وإذا أظلم عليهم البرق الطريق بأن أمسك وميضه فإسناد
الإظلام إلى البرق مجاز لأنه تسبب في الإظلام. ومعنى القيام عدم المشي أي الوقوف
في الموضع.
وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) مفعول (شاء) محذوف لدلالة الجواب عليه وذلك شأن فعل
المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلا بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه
صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو ما شاء الله كان أي ما شاء كونه كان ومثل وقوعه شرطا
للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل
المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ، ٧]
قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» : إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا وقد يتفق في
بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول الشاعر (هو إسحاق الخريمي مولى
بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثي أبا
الهيذام الخريمي
حفيده ابن ابن عمارة).
ولو شئت أن أبكي
دما لبكيته
|
|
عليه ولكن ساحة
الصبر أوسع
|
وسبب حسنه أنه
كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح
بذكره ليقرره في نفس السامع إلخ كلامه وتبعه صاحب «الكشاف» وزاد عليه أنهم لا
يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب
إلخ وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذ يكون كثيرا. وعندي أن الحذف هو الأصل
لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام وهذا هو
الغالب في كلام العرب ، قال طرفة : وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت ، وتارة يبيّن
بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً
لَاتَّخَذْناهُ) [الأنبياء : ١٧]
ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي
والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفا إما من الأول أو من الثاني. وقد يوهم كلام
أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك فقد قال الله تعالى : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] فإن
إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري.
وإن شئت فازعم
أنّ من فوق ظهرها
|
|
عبيدك واستشهد
إلهك يشهد
|
فإن زعم ذلك زعم
غريب.
والضمير في قوله :
(بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصارِهِمْ) ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال
المنافقين لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب أهل الصيب المشبه
بحالهم بمقتضى قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) وقوله : (يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها
هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع
سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك
لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي
حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداما تاما من
كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجا لهم وإملاء
ليزدادوا إثما أو تلوما لهم وإعذارا لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى
في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من
نفاقهم إن لم يبتدروا
الإقلاع عن النفاق
وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبي صلىاللهعليهوسلم : (فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣]. فليس
المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه (لو) من الامتناع لأنه ليس
المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر
أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة
الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية
فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالا
لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازا مرسلا في مجرد التعليق إظهارا
لتوفر الأسباب لو لا وجود المانع على حد قول أبي بن سلمى بن ربيعة من شعراء «الحماسة»
يصف فرسه :
ولو طار ذو حافر
قبلها
|
|
لطارت ولكنه لم
يطر
|
أي توفر فيها سبب
الطيران ، فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من
القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة ، ويكون لقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) موقع عجيب.
وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل ، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في
تذكيرهم وإبلاغا لهم وقطعا لمعذرتهم في الدنيا والآخرة.
[٢١] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(٢١))
استئناف ابتدائي
ثني به العنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله
بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله ، ومثلت حال كل فريق وضربت له أمثاله فإنه
لما استوفى أحوالا للمؤمنين وأضدادهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام
لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادا لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما
ذكر آنفا من سوء صنعهم حائلا دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس
لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصا على
صلاحهم وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس
مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحا وحبا لخيره فلم
يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم
إلى مصالحهم.
وبعد فهذا
الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانا وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم
فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظّه منه. فالمقصود بالنداء من قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن
في الخطاب بيا أيها الناس ، وقرينة ذلك هنا قوله : (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢]
وافتتح الخطاب بالنداء تنويها به.
و (يا) حرف للنداء
وهو أكثر حروف النداء استعمالا فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف
حرف النداء ولكونه أصلا كان مشتركا لنداء القريب والبعيد كما في «القاموس». قال الرضي في «شرح الكافية» : إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى
المجاز في أحدهما أو التأويل خلاف الأصل ، وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال
في «الكشاف» : «ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة
من سها أو غفل وإن قرب تنزيلا له منزلة من بعد» وكذلك فعل في كتاب «المفصل».
و (أيّ) في الأصل
نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة ، نحو أيّ رجل أو بطريق
الإبدال نحو يا أيها الرجل ، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها
الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل
لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة ، وربما
يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على
الجملة تفننا فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه
ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذ بكلمة أيّ وهو تركيب غير جار
على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق.
وقد اختصروا اسم
الإشارة فأبقوا (ها) التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة ، فأصل يا أيها الناس يا أي
هؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه :
__________________
أيهذان كلا زاديكما
وربما أرادوا نداء
المجهول الحاضر الذات أيضا بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه
فردا من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية
لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيّا كذلك نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ) [الحجر : ٦].
و (الناس) تقدم
الكلام في اشتقاقه عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) [البقرة : ٨] وهو
اسم جمع نودي هنا وعرف بال يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم
ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد
فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلى بال.
فإن نظرت إلى صورة
الخطاب فهو إنما واجه به ناسا سامعين فعمومه لمن لم يحضر وقت سماع هذه الآية ،
ولمن سيوجد من بعد يكون بقرينة عموم التكليف وعدم قصد تخصيص الحاضرين وذلك أمر قد
تواتر نقلا ومعنى فلا جرم أن يعم الجميع من غير حاجة إلى القياس ، وإن نظرت إلى أن
هذا من أضرب الخطاب الذي لا يكون لمعين فيترك فيه التعيين ليعم كل من يصلح
للمخاطبة بذلك وهذا شأن الخطاب الصادر من الدعاة والأمراء والمؤلفين في كتبهم من
نحو قولهم يا قوم ، ويا فتى ، وأنت ترى ، وبهذا تعلم ، ونحو ذلك فما ظنك بخطاب
الرسل وخطاب هو نازل من الله تعالى كان ذلك عاما لكل من يشمله اللفظ من غير
استعانة بدليل آخر. وهذا هو تحقيق المسألة التي يفرضها الأصوليون ويعبرون عنها
بخطاب المشافهة والمواجهة هل يعم أم لا؟ والجمهور وإن قالوا إنه يتناول الموجودين
دون من بعدهم بناء على أن ذلك هو مقتضى المخاطبة حتى قال العضد إن إنكار ذلك
مكابرة ، وبحث فيه التفتازانيّ ، فهم قالوا إن شمول الحكم لمن يأتي بعدهم هو مما
تواتر من عموم البعثة وأن أحكامها شاملة للخلق في جميع العصور كما أشار إليه
البيضاوي.
قلت : الظاهر أن
خطابات التشريع ونحوها غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن
المشرع لا يقصد لفريق معين ، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد ،
فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة ، غاية ما في الباب أن تعلقه بالحاضرين تعلق
أصلي إلزامي وتعلقه بالذين يأتون من بعد تعلق معنوي إعلامي على نحو ما تقرر في
تعلق الأمر في علم أصول الفقه فنفرض مثله في توجه الخطاب.
والعبادة في الأصل
التذلل والخضوع وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥]
ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده
بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل
والخضوع له. فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل
الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده ، ومن
الإيمان بالرسول ، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى
منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول
، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأبى
ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] على
قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الآية. فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع
الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعنى به الإيمان والتوحيد وتصديق
الرسول ، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة.
وقد مضى القول في
معنى الرب عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الفاتحة [٢]. ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من
طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله ، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا
بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى
الشكر وإظهار الاحتياج.
وإفراد اسم الرب
دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم
بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله ، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله
آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام ، كما كان لثقيف مزيد
اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير
قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة : ١٥٨] في
هذه السورة فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد
فهي أخصر من الموصول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) صريحا في أنه دعوة إلى توحيد الله ولذلك فقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) زيادة بيان لموجب العبادة ، أو زيادة بيان لما اقتضته
الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة.
وقوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم
إنما خلقهم آباؤهم
فقالوا (نَمُوتُ وَنَحْيا
وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]
فكان قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول
فهو مخلوق لله تعالى. ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف (من) في قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على (قَبْلِكُمْ) ، لأن (من) في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين
بالقبلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت
مع قبل وبعد.
والخلق أصله
الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلق الأديم إذا هيأه ليقطعه ويخرزه ، قال جبير في
هرم بن سنان :
ولأنت تفري ما
خلقت وبع
|
|
ض القوم يخلق ثم
لا يفري
|
وأطلق الخلق في
القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى
الوجود إخراجا لا صنعة فيه للبشر فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها
بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق وإيجاد
العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية
فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في
حبوب الزريعة وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا
عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزوج وإلقاء الحب والنوى في
الأرض للإنبات ، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص
باسم الخلق في اصطلاح الشرع ، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية
دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق
في اصطلاح أهل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] وقال
: (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ
اللهِ) [فاطر : ٣] وخص
اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بناء على
الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه.
وقال الغزالي في «المقصد الأسنى» : لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز
بعيد فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغا ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق
إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق
الاسم (أي الخالق) عليه مجازا ا ه. فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع
بعض العباد مشروطا
بهذه الحالة النادرة ومع ذلك جعله مجازا بعيدا فما حكاه الله في القرآن من قول
عيسى عليهالسلام : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون
طائرا بإذن الله [آل عمران : ٤٩] وقول الله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠]
فإن ذلك مراعى فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا
يقدر عليه إلا الله تعالى. ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن
أجل ذلك قال الله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].
وجملة : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تعليل للأمر باعبدوا فلذلك فصلت ، أي أمرتكم بعبادته لرجاء
منكم أن تتقوا.
«ولعل» حرف يدل
على الرجاء ، والرجاء هو الإخبار عن تهيئ وقوع أمر في المستقبل وقوعا مؤكدا ،
فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب وهو معنى جزئي
حرفي. وقد شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله
تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم فللشك جانب في
معناها حتى قال الجوهري : «لعل كلمة شك» وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال
الأشياء قبل وقوعها ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف : ١٣] مع
أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد.
ولهم في تأويل لعل
الواقعة في كلام الله تعالى وجوه :
أحدها
قال سيبويه : «لعل
على بابها والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين ا ه. يعني أنها للإخبار بأن
المخاطب يكون مرجوا ، واختاره الرضي قائلا لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها
بالكلية.
وأقول لا يعني
سيبويه أن ذلك معنى أصل لها ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع
التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجيا ومرجوا
__________________
منه فحرف الرجاء
على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي ، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى
الفعل بالالتزام ، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم
يكن في الحرف أو الفعل تمجز ، إذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية
وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو.
ثانيها
: أن لعل للإطماع
تقول للقاصد لعلك تنال بغيتك ، قال الزمخشري : «وقد جاءت على سبيل الإطماع في
مواضع من القرآن». والإطماع أيضا معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب
والتقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتبتين.
ثالثها
: أنها للتعليل
بمعنى كي قاله قطرب وأبو علي الفارسي وابن الأنباري ؛ وأحسب أن مرادهم هذا المعنى
في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء ، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو
قوله : (وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧]
لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب ولا يرد عليهم أيضا أنه إثبات معنى في (لعل) لا
يوجد له شاهد من كلام العرب وجعله الزمخشري قولا متفرعا على قول من جعلها للإطماع
فقال : «ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل» قال من قال : إن لعل بمعنى كي ، يعني
فهو معنى مجازي ناشئ عن مجاز آخر ، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب.
رابعها
: ما ذهب إليه صاحب
«الكشاف» أنها استعارة فقال : «ولعل واقعة في الآية موقع المجاز
لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير
والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة
والعصيان كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل ومصداقه قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) [هود : ٧] وإنما
يبلي ويختبر من تخفي عنه العواقب ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار
فكلام «الكشاف» يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة
مركبة من شأن المزيد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه
والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة.
وعندي وجه آخر
مستقل وهو : «أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال
لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره ، فإذا قلت افتقد فلانا
لعلك تنصحه كان إخبارا باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه
فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد
يعلم انتفاؤه
بالقرينة وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع ، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا
يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى
التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازا أو استعارة لأن لعل إنما
أتى بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في
القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجئوا إلى التأويل لأنهم
نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى
إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به. وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة.
والتقوى هي الحذر
مما يكره ، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها ، وهو حصول صفات الكمال التي
يجمعها التدين ، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].
ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثرا للأمر بالعبادة وتقدم عند قوله
تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين ،
فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة
العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضح الفائدة.
[٢٢] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٢٢))
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).
يتعين أن قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِراشاً) صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] ،
والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته
أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده ، وهي نعمه
المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها
المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار
بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني ، وذلك ما أشير إليه بقوله :
(وَالسَّماءَ بِناءً) وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات
فوقها متناهية في العلو ، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة ، فالكرة الهوائية
جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على
طريقة التشبيه
البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض
وهو الثمار.
والمراد بالسماء
هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء
المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) [البقرة : ١٩]
وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع.
ومعنى جعل الأرض
فراشا أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال
الاستقرار. والمعنى أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين
رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة.
وأما وجه شبه
السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين
الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة ،
فإن للكرة الهوائية دفعا لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع
أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد
الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة منظر الكرة الهوائية لهيئة القبة ، والقبة بيت
من أدم مقبب وتسمى بناء ، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية
سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر ، ومنه قولهم : بنى على امرأته إذا تزوج لأن
المتزوج يجعل بيتا يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر اطلاق البناء على القبة من أدم
ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها ، وهذا كقوله في
سورة الأنبياء [٣٢] : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ
سَقْفاً مَحْفُوظاً).
فإن قلت يقتضي
كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية
التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان
النزول فما ذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] في
عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية
وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن
معرفة النجوم : أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه فتتمحض الآية لإفادة العبرة بذلك
الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله : (لَكُمُ) فهل نخص تعلقه بفعل (جَعَلَ) المصرح به دون تعلقه بالفعل
المطوي تحت واو
العطف ، أو بجعله متعلقا بقوله : (فِراشاً) فيكون قوله : (وَالسَّماءَ بِناءً) معطوفا على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق.
قلت : هذا يفضي
إلى التحكم في تعلق قوله : (لَكُمُ) تحكما لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل (لَكُمُ) متعلقا بفعل (جَعَلَ) ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية
بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال
ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال.
وحذف (لكم) عند
ذكر السماء إيجازا لأن ذكره في قوله : (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ) دليل عليه.
و (جعل) إن كانت
بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة
على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما وصار أظهر في
معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) تؤذن بهذا
الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار
التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) إلى قوله : (وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ٣٠ ـ
٣٢]
وقد امتن الله
وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في
شروط هذه الحياة ، وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما
كانت أول منافع البشر. وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما
سيأتي من قوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) إلخ. وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم
بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به.
وقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ
بِهِ) إلخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال
وهو خلقة لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية
ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض
النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا.
واعلم أن كون
الماء نازلا من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار
البخار الذي في
الجو فإن الجو ممتلئ دائما بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه
البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغا
بعد أيام إذا ترك مكشوفا للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها
وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع ، فيصير سحابا ثم يمكث قليلا أو
كثيرا بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة
عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطرا
وهو ما أشار له قوله تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ
الثِّقالَ). [الرعد : ١٢] وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة
البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعا وربما كان السحاب
قليلا فساقت إليه الريح سحابا آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطرا ، ولهذا غلب
المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث : «إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين
غديقة»
ومن القواعد أن
الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي قوة انبساطه والبرودة وكثرة الضغط
يصيران البخار مائعا وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء
وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة
تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد
علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر.
و (من) التي في
قوله : (مِنَ الثَّمَراتِ) ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسبا لمقام الامتنان بل إما
لبيان الرزق المخرج ، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب وإما زائدة
لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات.
(فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
أتت الفاء لترتيب
هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة و (لا) ناهية والفعل
مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوبا في جواب الأمر من قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن
الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن ضد
العبادة عدم العبادة. ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة
جعل ترك الإشراك مساويا لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في
أوقات تعظيم شركائهم.
والند بكسر النون
المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب ، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئا أي
معاديا ، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند ، وليس بمتعين لجواز كونه
اسما جامدا وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة
عرفا عند العرب ، فإن شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل
المضادة. ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعا ، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب
ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت
المقارعة مستلزمة للمماثلة ، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافئ في الشجاعة. ويقال
جعل له ندا ، إذا سوى غيره به.
والمعنى لا تثبتوا
لله أندادا تجعلونها جعلا وهي ليست أندادا وسماها أندادا تعريضا بزعمهم لأن حال
العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون
إن الآلهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، وجعلوا الله خالق
الآلهة فقالوا في التلبية : «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك»
لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها
عبادة الله ، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة
بالفعل لا بالقول. وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة
الأقوال للأفعال.
وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ومفعول (تَعْلَمُونَ) متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته
لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم ، والمعنى وأنتم ذو علم. والمراد بالعلم هنا
العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] وقد
جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تلميحا في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة
الهمة فإنه أثبت لهم علما ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل
الوحدانية ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع
العلم توبيخا لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم. وهذا
منزع تهذيبي عظيم ، أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه
حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت
مواهبه ، ويأتي بما يدل على نقائص فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب
العلى والكمال.
وقد أومأ قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا
فقالوا : «إلا شريكا هو لك».
[٢٣] (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣))
انتقال لإثبات
الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١]
إلخ. فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ) ، ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أندادا جاء من عند الله فهم
بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضلالهم كانوا
يدّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] فقد
اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم ، فزادت بهذا مناسبة عطف
قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ) عقب قوله : (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢].
وأتى بإن في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن
بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط ، لأن مدلول هذا الشرط قد حفّ به من الدلائل ما شأنه
أن يقلع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضا فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب
علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخا على تحقق ذلك الشرط ، كأن ريبهم في القرآن مستضعف
الوقوع.
ووجه ذلك أن
القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند
الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم ، وهم فيهم
متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر.
وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم ، بل وعلى ما لم
يبلغ إلى بعضه علماء الأمم. ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن
على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول
الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم ،
والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان ، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم
فضلا عن أن يكونوا منغمسين فيه.
ووجه الإتيان بفي
الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط
بهم إحاطة الظرف
بالمظروف. واستعارة (في) لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة.
وأتى بفعل نزّل
دون أنزل لأن القرآن نزل نجوما. وقد تقدم في أول التفسير أن فعّل يدل على التقضي
شيئا فشيئا على أن صاحب «الكشاف» قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما
كانوا يقولون (لَوْ لا نُزِّلَ)(عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢]
فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة.
والسورة قطعة من
القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدإ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر
في غرض تام أو عدة أغراض. وجعل لفظ سورة اسما جنسيا لأجزاء من القرآن اصطلاح جاء
به القرآن. وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة ، فاسم
السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في
المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار
سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر
إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى
عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض
المسوق له الكلام ، وصحة التقسيم ، ونكت الإجمال والتفصيل ، وأحكام الانتقال من فن
إلى آخر من فنون الغرض ، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع ، وفصل الجمل
ووصلها ، والإيجاز والإطناب ، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نظم الكلام ، وتلك
لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستوفى الغرض حقه ، فلا جرم كان لنظم
القرآن وحسن سبكه إعجاز يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لجمله وتراكيبه
وفصاحة ألفاظه. فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يحكم
لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها. قال الطيبي في «حاشية الكشاف» عند قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) في سورة الأنفال [١٧] ، «ولسر النظم القرآني كان التحدي
بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد».
والتنكير للإفراد
أو النوعية ، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل
__________________
سورة ترجمت باسم
يخصها ، وأقل السور عدد آيات سورة الكوثر ، وقد كان المشركون بالمدينة تبعا
للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان
المشركون كلهم ألبا على النبي صلىاللهعليهوسلم يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه ، فأعيد لهم
التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة
الإسراء.
وقد كان التحدي
أولا بالإتيان بكتاب مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء [٨٨] : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). فلما عجزوا استنزلوا إلى الإتيان بعشر سور مثله في سورة
هود ، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس .
والمثل أصله
المثيل والمشابه تمام المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفا ثم شاع إطلاقه على
الشيء المشابه المكافئ.
والضمير في قوله :
(مِنْ مِثْلِهِ) يجوز أن يعود إلى (ما نزّلنا) أي من مثل القرآن ، ويجوز أن
يعود إلى (عَبْدِنا) فإن أعيد إلى (ما نزلنا) أي من مثل القرآن فالأظهر أن (من)
ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة
لسورة ، ويحتمل أن تكون (من) تبعيضية أو بيانية أو زائدة ، وقد قيل بذلك كله ، وهي
وجوه مرجوحة ، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة ، أي هي بعض مثل ما نزلنا ،
ومثل اسم حينئذ بمعنى المماثل ، أو سورة مثل ما نزلنا و (مثل) صفة على احتمالي كون
(من) بيانية أو زائدة ، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المثل سواء كان صفة أو اسما فهو
مثل مقدّر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق
مساق التعجيز. وإن أعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل (ائتوا) وهي ابتدائية وحينئذ
فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر. ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه
ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية ، ولفظ مثل
إذن اسم.
وقد تبين لك أن
لفظ (مثل) في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن
__________________
المضاف إليه على
طريقة قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١]
بناء على أن لفظ (مثل) كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير
فأتوا بسورة من القرآن ، أو من محمد خلافا لمن توهم ذلك من كلام «الكشاف» وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه
المكنّى به عن نفس المضاف هو إليه من حيث إن المثل هنا على تقدير الاسمية غير
متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضا فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي
تعذر المأمور ، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتض وجود مثل للقرآن حتى يراد به بعض
الوجوه كما توهمه التفتازانيّ.
وعندي أن
الاحتمالات التي احتملها قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم
من قال : القرآن كلام بشر ، ومنهم من قال : هو مكتتب من أساطير الأولين ، ومنهم من
قال : إنما يعلمه بشر. وهاته الوجوه في معنى الآية تفند جميع الدعاوى فإن كان كلام
بشر فأتوا بمماثله أو بمثله ، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه
الأساطير ، وإن كان يعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن
سألتموه. وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها. فالتحدي على صدق
القرآن هو مجموع مماثلة القرآن في ألفاظه وتراكيبه ، ومماثلة الرسول المنزّل عليه
في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ) [العنكبوت : ٥١].
فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خطب أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل
عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به ، ولو أتوا بكلام مشتمل
على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتيانا بما
تحداهم به. فليس في جعل (من) ابتدائية إيهام إجزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم
لأن تلك مماثلة غير تامة.
وقوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ) معطوف على (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم. والدعاء يستعمل بمعنى طلب
حضور المدعو ، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما ، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة
ليفديه من أسر ملك الروم :
دعوتك للجفن
القريح المسهد
|
|
لديّ وللنوم
الطريد المشرد
|
والشهداء جمع شهيد
فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر ، وأصله الحاضر قال تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [البقرة : ٢٨٢] ثم
استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه
الحضور مجازا أو
كناية لا بأصل وضع اللفظ ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد
قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته
البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين. ولعله انجر إليه من تفسير «الكشاف» لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعيا فالمراد هنا ادعوا
آلهتكم بقرينة قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم
معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على
الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد
البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ
إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف. قال الحرث بن
حلّزة :
آذنتنا ببينها
أسماء
|
|
رب ثاو يملّ منه
الثّواء
|
فإن قوله رب ثاو
عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل
ثواؤه. وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها ، وقد عد الإدماج من
المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج
الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم.
ويجوز أن يكون
المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزا للعامة والخاصة ، وادعوا من
يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا ، على نحو قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) [الأنعام : ١٥٠]
ويكون قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) على هذه الوجوه حالا من الضمير في (ادعوا) أو من (شهداءكم)
أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا
جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيرا عليكم
لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل ، وجوز أن يكون (دون) بمعنى
أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله ، واستشهد له بقول الأعشى :
تريك القذى من
دونها وهي دونه
|
|
إذا ذاقها من
ذاقها يتمطّق
|
__________________
كما جوز أن يكون (مِنْ دُونِ اللهِ) بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من
الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهودا فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد
بتصحيح فاسدها وعكسه إباءة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور ، وكلاهما لا يرضاه
ذو المروءة وقديما كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا
يحفظون لهم غلطا أو جورا. وقد قال السموأل :
إنا إذا مالت
دواعي الهوى
|
|
وأنصت السامع
للقائل
|
لا نجعل الباطل
حقا ولا
|
|
نلظ دون الحق
بالباطل
|
نخاف أن تسفه
أحلامنا
|
|
فنخمل الدهر مع
الخامل
|
وعلى هذا التفسير
يجىء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها
العدالة ، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن
شهادة الزور ، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن
العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعا عن تعمده وكفى
بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة.
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) اعتراض في آخر الكلام وتذييل. أتى بإن الشرطية التي الأصل
في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في
أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله.
والصدق ضد الكذب
وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقا
ومماثلا للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازا عن الوجود الذهني ، والكذب
ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في
الخارج ، والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا
كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية.
هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور. وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه
حينئذ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم
مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معا وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها
المطابقة للخارج والاعتقاد معا ومن هنا أثبت الواسطة بين
__________________
الصدق والكذب ،
وقريب منه قول الراغب ، ويشبه أن يكون الخلاف لفظيا ومحل بسطه في علمي الأصول
والبلاغة.
والمعنى إن كنتم
صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر ، فحذف متعلق (صادقين) لدلالة ما تقدم عليه ،
وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة : (وَادْعُوا
شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة
قوله قبلها : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) وتكون الجملة المقدرة دليلا على جواب الشرط فتصير جملة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تكريرا للتحدي.
وفي هذه الآية
إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة.
[٢٤] (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))
تفريع على الشرط
وجوابه ، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك
شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة
القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم.
ومفعول (تَفْعَلُوا) محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان
بسورة مثله وسيأتي الكلام على حذف المفعول في مثله عند قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ
رِسالَتَهُ) في سورة المائدة [٦٧].
وجيء بإن الشرطية
التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز
؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة
بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد
لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتقي
معه في درجات الجدل ؛ ولذلك جاء بعده (وَلَنْ تَفْعَلُوا) كأن المتحدي يتدبر في شأنهم ، ويزن أمرهم فيقول أولا ائتوا
بسورة ، ثم يقول : قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصا
منها ثم يقول : ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله ، مع ما في
هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير.
ولذلك حسن موقع (لن)
الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا ، ولهذا قال سيبويه لا لنفي
يفعل ، ولن لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن
الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤبد غالبا لأنه
لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض
ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأبيد حقيقة أو مجازا وهو التأكيد ، وقد
استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة
النفي المؤكد أو المؤبد. وكلام الخيل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة
إنها لا تفيد تأكيدا ولا تأبيدا فقد كابر.
وقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين : الأولى أنها
أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين ، وقد تأكد
ذلك كله بقوله قبل (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣]
وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام من قدرته فوق طوق البشر.
الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلفهم
بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة
على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع
المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها
الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها ، ودواعي المعارضة موجودة فيهم ، ففي خاصتهم بما
يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم. وكانت لهم مجامع
التقاول ونوادي التشاور والتعاون ، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم
لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في
دين الإسلام ، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة. فما أمسك
الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند
الله تعالى ، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحا وأشاعوه وتناقلوه فإنهم
اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء
منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين
بأنهم أمسكوا عن معارضته ، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية.
و (تَفْعَلُوا) الأول مجزوم بلم لا محالة لأن (إن) الشرطية دخلت على الفعل
بعد
اعتباره منفيا
فيكون معنى الشرط متسلطا على (لم) وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في
العمل في (تَفْعَلُوا) لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة
في صحة تنازع الحرفين معمولا واحدا كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه
إليه في «التصريح على التوضيح » على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث
المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في «المسائل الدمشقيات» ومن كتاب «التذكرة»
له أنه جعل قول الراجز :
حتى تراها وكأنّ
وكأن
|
|
أعناقها مشرّفات
في قرن
|
من قبيل التنازع
بين كأنّ المشددة وكأن المخففة.
وقوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) أثر لجواب الشرط في قوله : (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا) دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما
جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣] ،
فتقدير جواب قوله (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا) أنه : فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق
فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار ،
فوقع قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) موقع الجواب لدلالته عليه وإيذانه به وهو إيجاز بديع وذلك
أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول
لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء.
وإنما عبّر بلم
تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) إلى قوله : (فَإِنْ لَمْ
تَأْتُونِي بِهِ) [يوسف : ٥٩ ، ٦٠]
إلخ لأن في لفظ (تَفْعَلُوا) هنا من الإيجاز ما ليس مثله في الآية الأخرى إذ الإتيان
المتحدّى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتيّ به مثل هذا
القرآن ومشهودا عليه ومستعانا عليه بشهدائهم فكان في لفظ (تَفْعَلُوا) من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان
الذي في سورة يوسف.
والوقود بفتح
الواو اسم لما يوقد به ، وبالضم مصدر وقيل بالعكس ، وقال ابن عطية حكي الضم والفتح
في كل من الحطب والمصدر. وقياس فعول بفتح الفاء أنه اسم لما
__________________
يفعل به كالوضوء
والحنوط والسّعوط والوجور إلّا سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الولوع والقبول
والوضوء والطّهور والوزوع واللّغوب والوقود. والفتح هنا هو المتعين لأن المراد
الاسم وقرئ بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدرا أو على حذف مضاف أي ذوو
وقودها الناس.
والناس أريد به
صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي ويجوز أن يكون تعريف العهد
لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة.
والحجارة جمع حجر
على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجرا عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث
قال سيبويه كما ألحقوها بالبعولة والفحولة. وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في
كل جمع على فعال أو فعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما
الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفا إذا وقفوا
عليه ، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع ، ومن ذلك عظامة ونفارة وفحالة وحبالة
وذكارة وفحولة وحمولة (جموعا) وبكارة جمع بكر (بفتح الباء) ومهارة جمع مهر.
ومعنى وقودها
الحجارة أن الحجر جعل لها مكان الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقا وأبطأ انطفاء
ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحا في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨].
وفي هذه الآية
تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وقود
النار وقرينة التعريض قوله : (فَاتَّقُوا) وقوله : (وَالْحِجارَةُ) لأنهم لما أمروا باتقائها أمر تحذير علموا أنهم هم الناس ،
ولما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم ، فلزم أن يكون الناس هم عبّاد تلك الأصنام
فالتعريض هنا متفاوت فالأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين.
وحكمة إلقاء حجارة
الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادة إظهار
خطإ عبدتها فيما عبدوا ، وتكرر لحسرتهم على إهانتها ، وحسرتهم أيضا على أن كان ما
أعدوه سببا لعزهم وفخرهم سببا لعذابهم ، وما أعدوه لنجاتهم سببا لعذابهم ، قال
تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية.
وتعريف (النار)
للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو
الغالب في صلة
الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم ، أو لأن وصف جهنم بذلك
قد تقرر فيما نزل قبل من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم [٦] : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة
البقرة فإن في صحة ذلك العد نظرا ، أو لأنه قد علم ذلك عندهم من أخبار أهل الكتاب.
وفي جعل الناس
والحجارة وقودا دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زجّ الناس فيها وأن الناس
والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث «الموطأ» : «إن شدة الحر من فيح جهنم» فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل
ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت ، وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج
يقرّب ذلك للناس اليوم. وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون
نموذجها البراكين الملتهبة.
وقوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) استئناف لم يعطف لقصد التنبيه على أنه مقصود بالخبرية لأنه
لو عطف لأوهم العطف أنه صفة ثانية أو صلة أخرى وجعلة خبرا أهول وأفخم وأدخل للروع
في قلوب المخاطبين وهو تعريض بأنها أعدت لهم ابتداء لأن المحاورة معهم.
وهذه الآية قد
أثبتت إعجاز القرآن إثباتا متواترا امتاز به القرآن عن بقية المعجزات ، فإن سائر
المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من
جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم
وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس ،
وأدركها عامة غيرهم بالنقل ، وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما
سنبينه.
أما إدراك العرب
معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبي صلىاللهعليهوسلم وناوءوه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام
أوحاه الله إليه ، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف
لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها ، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا
أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو
تكذيبه بحكم سهل وعدل ، وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن
في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو
أمرين : إما أن يكون
عجزهم لأن القرآن
بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان
بلغاء البشر بالإحاطة به ، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا
وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم ، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت
والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه ، ثم لو لحق
بهم لا حق ، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي
انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا
الأخير وأوفر منه ، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم ، فأعرضوا عن
معارضته علما بأنهم لا قبل لهم بمثله ، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث
لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن
المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية ،
لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن
بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حدا لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقا
للعادة ودليلا على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلا على صدق الرسول فالعجز عن
المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله وهذا هو رأي جمهور أهل
السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو
المشهور عن الأشعري.
وقد يجوز أن
يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة ولكنهم صرفهم الله عن التصدي
لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمرا خارقا
للعادة أيضا وهو دليل المعجزة ، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر
الباقلاني في كتابه في «إعجاز
القرآن» ولم يعين له
قائلا وقد نسبه التفتازانيّ في كتاب «المقاصد» إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة ونسبه
الخفاجي إلى أبي إسحاق الأسفرائيني ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري ولكنه لم
يشتهر عنه وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في
__________________
«المقاصد» وهو مع كونه كافيا في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله
إياهم هو مسلك ضعيف. وقد تقدم الكلام على وجوه إعجاز القرآن تفصيلا في المقدمة
العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
فإن قلت : لم لا
يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزا لا عجزا؟ وبعد فمن آمننا أن يكون العرب قد
عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به؟ قلت يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزا
فإن محمدا صلىاللهعليهوسلم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني
إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبي صلىاللهعليهوسلم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم
إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة ثم كان من أمر قومه أن
قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في
أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلا يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على
مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ
والسير ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر
المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة.
لا جرم أن أقصى
رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصارا لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهرا بالنصر
بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط
وأحباش.
ولا جرم أن القرآن
قصر معهم مسافة المجادلة وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتابا
منزلا نجوما ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله وأن يجمعوا لذلك
شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب ، كل هذا ثبت بالتواتر فإن هذا الكتاب متواتر
بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده أهل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب
المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل
فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضا بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت
على ذلك الأجيال جيلا بعد جيل.
وقد كان هؤلاء
المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة
الأذهان ، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم ، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن
في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظما ونثرا وبما
اشتهر وتواتر من
القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو
وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف
لديهم فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلا
ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله
الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة
، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند أهل التاريخ وغيرهم.
وأيا ما جعلت سبب
إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك
فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر.
ووراء هذا كله
دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول وفطنوا لإعجاز القرآن
وأنه ليس بكلام معتاد للبشر وأنهم ما كذبوا إلا عنادا أو مكابرة وحرصا على السيادة
ونفورا من الاعتراف بالخطإ ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في
الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا
الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم ، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية
العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة
أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل أهل البأس والشدة من عرب نجد وطئ
وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن
تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أديانا تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعا نابذا دينه في خلال
أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لو لا
أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه إلا صاد ضعيف وهو المكابرة
والمعاندة.
ثم في هذه الآية
معجزة باقية وهي قوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وما صدقها واضح إذ لم
تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم.
فإن قلت : ثبت
بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول
ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم؟ قلت إن ثبوت الإعجاز لا
يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت فإنه إذا أعجز العرب
ثبت أنه خارق
للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم
بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم.
وبعد فإن من شاء
أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها
وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن
من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز
القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح.
قال الشيخ عبد
القاهر في مقدمة «دلائل
الإعجاز» فإن قال قائل إن
لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت (أي من توقفه على علم البيان) وهو علمنا
بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول
التقريع لهم بالعجز عنه ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على
العرب وما استوى الناس فيه قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجا
بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليهالسلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير
ألا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به والعلم به ممكنا لمن
التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزا قائم فيه
أبدا ا ه.
وقال السكاكي في
معرض التنويه ببعض مسائل التقديم قوله : «متوسلا بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز
في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل» وقد بينت في
المقدمة العاشرة تفاصيل من وجوه إعجازه فقد اشتملت هذه الآية على أصناف من الإعجاز
إذ نقلت الإعجاز بالتواتر وكانت ببلاغتها معجزة ، وكانت معجزة من حيث الإخبار عن
المستقبل كله بما تحقق صدقه فسبحان منزلها ومؤتيها.
[٢٥] (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما
رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ
وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها
خالِدُونَ (٢٥))
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ).
في «الكشاف» من عادته عزوجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ويشفع البشارة
بالإنذار إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف والتثبيط عن اقتراف ما يتلف فلما ذكر
الكفار وأعمالهم
وأوعدهم بالعقاب قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة ا ه.
وجعل جملة : (وَبَشِّرِ) معطوفة على مجموع الجمل المسوقة لبيان وصف عقاب الكافرين
يعني جميع الذي فصل في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ) [البقرة : ٢٣] إلى
قوله : (أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤]
فعطف مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين والمناسبة
واضحة مسوغة لعطف المجموع على المجموع ، وليس هو عطفا لجملة معينة على جملة معينة
الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبرية والإنشائية ، ونظّره بقولك : زيد
يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق.
وجعل السيد
الجرجاني لهذا النوع من العطف لقب عطف القصة على القصة لأن المعطوف ليس جملة على
جملة بل طائفة من الجمل على طائفة أخرى ، ونظيره في المفردات ما قيل إن الواو
الأولى والواو الثالثة في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣]
ليستا مثل الواو الثانية لأن كل واحدة منهما لإفادة الجمع بين الصفتين المتقابلتين
وأما الثانية فلعطف مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين بعدها على مجموع الصفتين
المتقابلتين اللتين قبلها ولو اعتبر عطف الظاهر وحده على إحدى السابقتين لم يكن
هناك تناسب ، هذا حاصله ، وهو يريد أن الواو عاطفة جملة ذات مبتدأ محذوف وخبرين
على جملة ذات مبتدأ ملفوظ به وخبرين ، فالتقدير وهو الظاهر والباطن وليس المراد أن
المبتدأ فيها مقدر لإغناء حرف العطف عنه بل هو محذوف للقرينة أو المناسبة في عطف
جملة (الظاهر والباطن) على جملة (الأول والآخر). أنهما صفتان متقابلتان ثبتتا
لموصوف واحد هو الذي ثبتت له صفتان متقابلتان أخريان.
قال السيد ولم
يذكر صاحب «المفتاح» عطف القصة على القصة فتحير الجامدون على كلامه في هذا
المقام وتوهموا أن مراد صاحب «الكشاف» هنا عطف الجملة على الجملة وأن الخبر المتقدم مضمن معنى
الطلب أو بالعكس لتتناسب الجملتان مع أن عبارة «الكشاف» صريحة في غير ذلك وقصد السيد من ذلك إبطال فهم فهمه سعد
الدين من كلام «الكشاف» وأودعه في شرحه «المطول» على «التخليص» .
__________________
وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله : (وَبَشِّرِ) معطوفا على قوله : (فَاتَّقُوا) [البقرة : ٢٤]
الذي هو جواب الشرط فيكون له حكم الجواب أيضا وذلك لأن الشرط وهو (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] سبب
لهما لأنهم إذا عجزوا عن المعارضة فقد ظهر صدق النبي فحق اتقاء النار وهو الإنذار
لمن دام على كفره وحقت البشارة للذين آمنوا. وإنما كان المعطوف على الجواب مخالفا
له لأن الآية سيقت مساق خطاب للكافرين على لسان النبي فلما أريد ترتب الإنذار لهم
والبشارة للمؤمنين جعل الجواب خطابا لهم مباشرة لأنهم المبتدأ بخطابهم وخطابا
للنبي ليخاطب المؤمنين إذ ليس للمؤمنين ذكر في هذا الخطاب فلم يكن طريق لخطابهم
إلا الإرسال إليهم.
وقد استضعف هذا
الوجه بأن علماء النحو قرروا امتناع عطف أمر مخاطب على أمر مخاطب إلا إذا اقترن
بالنداء نحو قم يا زيد واكتب يا عمرو ، وهذا لا نداء فيه.
وجوز صاحب «المفتاح» أن (بَشِّرِ) معطوف على قل مقدّرا قبل (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا) [البقرة : ٢١]
وقال القزويني في «الإيضاح» إنه معطوف على مقدر بعد قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] أي
فأنذر الذين كفروا وكل ذلك تكلف لا داعي إليه إلا الوقوف عند ظاهر كلام النحاة مع
أن صاحب «الكشاف» لم يعبأ به قال عبد الحكيم لأن منع النحاة إذا انتفت
قرينة تدل على تغاير المخاطبين والنداء ضرب من القرينة نحو : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩] ا ه.
يريد أن كل ما يدل على المراد بالخطاب فهو كاف وإنما خص النحاة النداء لأنه أظهر
قرينة واختلاف الأمرين هنا بعلامة الجمع والإفراد دال على المراد ، وأيّا ما كان
فقد روعي في الجمل المعطوفة ما يقابل ما في الجمل المعطوف عليها فقوبل الإنذار
الذي في قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤]
بالتبشير وقوبل (النَّاسُ) [البقرة : ٢١]
المراد به المشركون بالذين آمنوا وقوبل (النار) بالجنة فحصل ثلاثة طباقات.
__________________
والتبشير الإخبار
بالأمر المحبوب فهو أخص من الخبر. وقيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المخبر (بالفتح)
غير عالم بذلك الخبر والحق أنه يكفي عدم تحقق المخبر (بالكسر) علم المخبر (بالفتح)
فإن المخبر (بالكسر) لا يلزمه البحث عن علم المخاطب فإذا تحقق المخبر علم المخاطب
لم يصح الإخبار إلا إذا استعمل الخبر في لازم الفائدة أو في توبيخ ونحوه.
والصالحات جمع
صالحة وهي الفعلة الحسنة فأصلها صفة جرت مجرى الأسماء لأنهم يقولون صالحة وحسنة
ولا يقدرون موصوفا محذوفا قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما
تنفكّ صالحة
|
|
من آل لأم بظهر
الغيب تأتينا
|
وكأنّ ذلك هو وجه
تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية.
والتعريف هنا
للاستغراق وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل
كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم.
فإن قلت : إذا لم
يقل وعملوا الصالحة بالإفراد فقد قالوا إن استغراق المفرد أشمل من استغراق المجموع
، قلت تلك عبارة سرت إليهم من كلام صاحب «الكشاف» في هذا الموضع من تفسيره إذ قال : «إذا دخلت لام الجنس
على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى
الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا
إلى الواحد منه ا ه. فاعتمدها صاحب «المفتاح» وتناقلها العلماء ولم يفصّلوا بيانها.
ولعل سائلا يسأل
عن وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنيا غناءها فأقول
: إن أل المعرّفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مرادا به الماهية وللجنس مرادا به جميع
أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا
قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣] (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) [آل عمران : ١١٩] (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧]
اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأحفّ وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة
عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد. ولما كان
تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالبا تعين أن تعريفها للاستغراق نحو : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٤]
لئلا يتوهم أن الحديث على محسن خاص نحو قولها :
(وَأَنَّ اللهَ لا
يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) [يوسف : ٥٢] لئلا
يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على
قصد الاستغراق.
وانتصب الصالحات
على المفعول به لعملوا على المعروف من كلام أئمة العربية وزعم ابن هشام في الباب
السادس من «مغني
اللبيب» أن مفعول الفعل
إذا كان لا يوجد إلا بوجود فعله كان مفعولا مطلقا لا مفعولا به فنحو : (عَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مفعول مطلق ونحو : (خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ) [العنكبوت : ٤٤]
كذلك ، واعتضد لذلك بأنّ ابن الحاجب في «شرح المفصل» زعم أن المفعول المطلق يكون جملة نحو قال زيد عمرو منطلق
وكلام ابن هشام خطأ وكلام ابن الحاجب مثله ، وقد رده ابن هشام نفسه. والصواب أن
المفعول المطلق هو مصدر فعله أو ما يجري مجراه.
والجنات جمع جنة ،
والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف
بعضها ببعض حتى كثر ظلها وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى :
(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [النبأ : ١٦].
والجري حقيقته
سرعة شديدة في المشي ، ويطلق مجازا على سيل الماء سيلا متكررا متعاقبا وأحسن الماء
ما كان جاريا غير قار لأنه يكون بذلك جديدا كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل.
والأنهار جمع نهر
بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح والنهر الأخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو
مشتق من مادة نهر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيرا وصغيرا. وأكمل محاسن
الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر
لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظرا بديعا وشيئا لذيذا.
وأودع في النفوس
حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على
__________________
نحو ما ألفته
أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكنا من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم
عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد
الله لها النعيم الدائم في تلك الصور ، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته
الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان
لإلفها بذلك في عالم المثال ، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها
بأمثالها في عوالمها. والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات
الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً).
ومعنى (مِنْ تَحْتِهَا) من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها
المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار
لأنها أهم ما في الجنات ، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك
ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير :
شجّت بذي شبم من
ماء محنية
|
|
صاف بأبطح أضحى
وهو مشمول
|
البيتين.
وقد أورد صاحب «الكشاف» توجيها لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير (جنات) إما بأن
يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد
تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم
أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام ، وهذا معنى قوله أو يراد أنهارها فعوض
التعريف باللام من تعريف الإضافة ، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين
أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بال العهدية عهدا تقديريا
واختير الثاني تفاديا من كلفة الإضافة وتنبيها على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن
لا يكون التنعم بها تبعا للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على
طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٩]
وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحا في كل موضع على أني أرى مذهب
__________________
الكوفيين مقبولا
وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو
الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي.
وعندي أن الداعي
إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعا
بسورة التعريف.
وقوله : (مِنْ تَحْتِهَا) يظهر أنه قيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار
إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة
للسامع لقصد الترغيب وهذا من مقاصد البلغاء إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام
، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه :
من حس أطلس تسعى
تحته شرع
|
|
كأن أحناكها
السفلى مآشير
|
والتحت اسم لجهة
المكان الأسفل وهو ضد الأعلى ، ولكل مكان علوّ وسفل ولا يقتضي ذلك ارتفاع ما أضيف
إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله قال تعالى حكاية عن فرعون : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] فلا
حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات.
(كُلَّما رُزِقُوا
مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا
بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ).
جملة : (كُلَّما رُزِقُوا) يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات ، ويجوز أن تكون خبرا عن
مبتدأ محذوف وهو ضمير (الَّذِينَ آمَنُوا) فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شئون
الذين آمنوا ، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة (أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ) فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة.
و (كلما) ظرف زمان
لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق
__________________
الأزمان المقيدة
بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقا على الأزمان
المقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند
اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما مهما. والناصب لكلما
الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طريانا غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها.
وإذ كانت كلما نصا
في عموم الأزمان تعين أن قوله (مِنْ قَبْلُ) المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل
هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في
المرة السابقة. وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص
فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم. ووجه ذلك والله أعلم أن
اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة
فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري.
ويحتمل أن في ذلك تعجيبا لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب
الناس في مشاهدة العجائب والنوادر. وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق. ويحتمل أن
كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة ، ومعنى (من قبل) في
المرة الأولى من دخول الجنة. ومن المفسرين من حمل قوله (مِنْ قَبْلُ) على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا
، ووجهه في «الكشاف» : «بأن الإنسان بالمألوف آنس» وهو بعيد لاقتضائه أن يكون
عموم كلما مرادا به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف
الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجب ، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع
أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه.
وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار
الدنيا. ثم منّ الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء
الدنيا مما تشمئز منه النفس لو لا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما
ألفوه فكانت نعمة على نعمة.
والأزواج جمع زوج
يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان مفردا زوجا وقد يقال للأنثى زوجة
بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري : «إني لأعلم أنها زوجته في
الدنيا والآخرة» يعني عائشة وقال الفرزدق :
وإنّ الذي يسعى
ليفسد زوجتي
|
|
كساع إلى أسد
الشّرى يستمليها
|
وقوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) احتراس من توهّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في
الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما
قال أبو طيب :
أشدّ الغم عندي
في سرور
|
|
تحقّق عنه صاحبه
انتقالا
|
وقوله : (مُطَهَّرَةٌ) هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرئ بذلك
ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيرا لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف
والجمع كذلك ، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا
يحتاج للاستشهاد.
[٢٦ ، ٢٧] (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي
بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ
يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))
(إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).
قد يبدو في بادئ
النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ، فبينما كانت الآية
السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن
صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة
والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى
لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير ، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر
له المناسبة لهذا الانتقال ، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن
يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة
الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام
الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس
المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين.
روى الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله : (إِنَ
الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج : ٧٣] وقوله
: (مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١]
قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في
كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله
: (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي) الآية.
والوجه أن نجمع
بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في
التشاور في شأن نبوءة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وخاصة بعد أن هاجر النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، فيتلقون منهم صورا من الكيد والتشغيب فيكون
قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله
تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد نارا وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاف
خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت
الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين.
فيحتمل أن ذلك
قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة ، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب
الأمثال مكابرة وتجاهلا. وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت
بالمدينة ، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود ، ولأنه الأوفق بقوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وهذه صفة اليهود ، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم
والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم
والذم كقولهم (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] ،
قال تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] كما
ورد تفسيره في «الصحيح» ولم يكن ذلك من شأن العرب.
وإما أن يكون
قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثله في كلام بلغائهم كقولهم أجرأ من
ذبابة ، وأسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأضعف من بعوضة. وهذا الاحتمال أدلّ ،
على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غلبوا بالتحدي وعجزوا
عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف ، والمكابر يقول ما لا
يعتقد ، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح ، وإلى هذا الثاني ينزع
كلام صاحب «الكشاف» وهو أوفق بالسياق. والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم
يزالوا يلقون
الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين. وقد دل على هذا
المعنى قوله بعده : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا) إلى قوله : (وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً).
فإن قيل : لم يكن
الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في
مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زمانا.
قلنا : الوجه في
تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيئات ،
فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل ، أو يتأخر الكمي عن
ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبنا فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه
عطاء جزلا ، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه. فكذلك لما أتى القرآن
بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩]
الآيات وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] أتى
إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل
عن بيانه المفسرون.
والمراد بالمثل
هنا الشبه مطلقا لا خصوص المركب من هيئة ، بخلاف قوله فيما سبق (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) لأن المعنىّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) [الحج : ٧٣] وقوله
: (كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١].
وموقع (إنّ) هنا
بيّن.
وأما الإتيان
بالمسند إليه علما دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال
فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي
ذلك أيضا إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من
عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلا من هذا
القبيل. ولهذا أيضا اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم
لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من
الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه
، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها ، وقد يكون
ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب
والعنكبوت.
فإن قلت : إذا كان
استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة
فما بالنا نرى
كثيرا من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق :
من عزّهم حجرت
كليب بيتها
|
|
زربا كأنهم لديه
القمّل
|
وقول أبي الطيب :
أماتكم من قبل
موتكم الجهل
|
|
وجركم من خفة
بكم النمل
|
وقول الطرمّاح :
ولو أن برغوثا
على ظهر قملة
|
|
يكرّ على ضبعي
تميم لولّت
|
قلت أصول الانتقاد
الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام
، ومن جانب صور المعاني ، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث
يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل
صناعة الأدب ، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولا عند قوم غير مقبول عند آخرين ،
ومقبولا في عصر مرفوضا في غيره ، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان :
فإنك كالليل
الذي هو مدركي
|
|
وإن خلت أن
المنتأى عنك واسع
|
فإن تشبيه الملك
بالليل لو وقع في زمان المولدين لعدّ من الجفاء أو العجرفة ، وكذلك تشبيههم بالحية
في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع :
عذير الحي من
عدوا
|
|
ن كانوا حيّة
الأرض
|
وقول النابغة في
رثاء الحارث الغسّاني :
ما ذا رزئنا به
من حيّة ذكر
|
|
نضناضة بالرزايا
صلّ أصلال
|
وقد زعم بعض أهل
الأدب أن عليّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله :
أنت كالكلب في
وفائك بالعه
|
|
د وكالتيس في
قراع الخطوب
|
وأنه لما سكن
بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله :
عيون المها بين
الرصافة والجسر
|
|
جلبن الهوى من
حيث أدري ولا أدري
|
__________________
وقد انتقد بشار
على كثيّر قوله :
ألا إنما ليلى
عصا خيزرانة
|
|
إذا لمسوها
بالأكف تلين
|
فقال لو جعلها عصا
مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا ، على أن بشارا هو القائل :
إذا قامت
لجارتها تثنت
|
|
كأن عظامها من
خيزران
|
وشبّه بشار عبدة
بالحيّة في قوله :
وكأنها لما مشت
|
|
أيم تأود في
كثيب
|
والاستحياء
والحياء واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب ، وهو
انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف
أمثاله ، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي
الإمساك عن ما من شأنه أن يفعل.
والاستحياء هنا
منفي عن أن يكون وصفا لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله ،
والتعلل لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعلل غير مسلم.
والضرب في قوله : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) مستعمل مجازا في الوضع والجعل من قولهم ضرب خيمة وضرب بيتا
قال عبدة بن الطبيب :
إنّ التي ضربت
بيتا مهاجرة
|
|
بكوفة الجند
غالت ودّها غول
|
وقول الفرزدق :
ضربت عليك
العنكبوت بنسجها
|
|
وقضى عليك به
الكتاب المنزل
|
أي جعل شيئا مثلا
أي شبها ، قال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤] أي
لا تجعلوا له مماثلا من خلقه فانتصاب (مَثَلاً) على المفعول به. وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقا
من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب (مَثَلاً) على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلا مرادف مصدر فعله
على هذا التقدير ، والمعنى لا يستحي أن يشبّه بشيء ما.
والمثل المثيل
والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧]
وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر
وتنكير (مَثَلاً) للتنويع بقرينة بيانه بقوله (بَعُوضَةً فَما
فَوْقَها).
وما إبهامية تتصل
بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير ، نحو لأمر ما وأعطاه شيئا ما.
والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد. وقيل اسم بمعنى النكرة
المبهمة.
و (بَعُوضَةً) بدل أو بيان من قوله : (مَثَلاً). والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم
دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها ، وتعرف في لغة هذيل
بالخموش ، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلا لشدة الضعف
والحقارة.
وقوله : (فَما فَوْقَها) عطف على (بَعُوضَةً) ، وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم
فلذلك كان ملازما للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء
الجهات الملازمة للإضافة لفظا أو تقديرا ويستعمل مجازا في المتجاوز غيره في صفة
تجاوزا ظاهرا تشبيها بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه ، ففوق في
مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام
يقال : فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع ، وتقول : أعطى فلان فوق حقه
أي زائدا على حقه. وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في
الحقارة وما هو أكبر حجما. ونظيره قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة
ومحيت عنه بها خطيئة» رواه مسلم ، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نخبة النملة
كما جاء في حديث آخر ، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ
فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلا
موقع من بليغ الإيجاز.
والفاء عاطفة (ما
فوقها) على (بعوضة) أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما ، وحقها أن تفيد الترتيب
والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين
مفاعيل (أَنْ يَضْرِبَ) ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما
فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائدا عليها
درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء
موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص ، فاستعملت في مطلق الاتصال ، أو هي مستعارة
للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول
ومنه :
«رحم الله
المحلقين فالمقصرين».
والمعنى أن يضرب
البعوضة مثلا فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة
وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار.
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).
الفاء للتعقيب
الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في
قوله : (لا يَسْتَحْيِي) لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم ، ولما كان في الناس
مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به ، نشأ
في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم. وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب
الإجمال.
و (أما) حرف موضوع
لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر. ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان
التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيت
وكيت ، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها
لأنها كجواب شرط ، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض
للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاما بعد
كلامه الأول. وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء ، وتلقفه أهل العربية بعده وهو
عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم
الشرط غير بينة ، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد
اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيدا وما
هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام ، على أن مضمونه محقق ولو لا ذلك لما اهتم به وبهذا
يظهر فضل قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ) إلخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء.
وجعل تفصيل الناس
في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن
وكافر ، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين
أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك. والمراد
بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالبا ، وإما ما يشملهم
ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية.
وإنما عبر في جانب
المؤمنين بيعلمون تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة وأنهم
يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز ، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان ، ولكن شأن
المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسدا وعنادا.
وضمير (أنه) عائد
إلى المثل.
و (الحق) ترجع
معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته. و
(من ربهم) حال من (الحق) و (من) ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا
أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ.
وأصل (ما ذا) كلمة
مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار
إليه كقول القائل ما ذا مشيرا إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا. غير أن العرب
توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركبا من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه
معبرا عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر
لمجرد التأكيد ، نحو ما ذا التواني ، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ) [النساء : ٣٩]
ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب. وقد يتوسعون فيها توسعا أقوى
فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسئول عنه معروفا للمخاطب بشيء من أحواله
فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) [النحل : ٢٤] وعلى
هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولا مقدما إذا وقع بعده فعل.
والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن
الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية ،
ومثله لا يجاب بشيء غالبا لأنه غير مقصود به الاستعلام. وقد يلاحظ فيه معناه
الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله
تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢].
والإشارة بقوله : (بِهذا) مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦].
وانتصب قوله : (مَثَلاً) على التمييز من (هذا) لأنه مبهم فحقّ له التمييز وهو نظير
التمييز للضمير في قولهم «ربّه رجلا».
(يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ
اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)).
بيان وتفسير
للجملتين المصدرتين بأما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد
اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالا فإنّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم
هدى ، وقول الكافرين (ما ذا أَرادَ اللهُ) إلخ ضلال ، والأظهر أن لا يكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً) جوابا للاستفهام في قول الذين كفروا (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) لأن ذلك ليس استفهاما حقيقيا كما تقدم. ويجوز أن يجعل
جوابا عن استفهامهم تخريجا للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره
تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله
: (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جوابا لهم وردا عليهم وبيانا لحال المؤمنين ، وهذا لا
ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفا من عدم المانع
من جمع المعنيين الكنائي والأصلي. وكون كلا الفريقين من المضلّل والمهدى كثيرا في
نفسه ، لا ينافي نحو قوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] لأن
قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة ، أخصّ في الاهتداء.
والفاسق لفظ من
منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفسق بكسر الفاء ، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من
قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال
النابغة :
صغار النوى
مكنوزة ليس قشرها
|
|
إذا طار قشر
التمر عنها بطائر
|
قالوا ولم يسمع في
كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم
بارتكاب المعاصي الكبائر ، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين ، قال رؤية يصف إبلا :
فواسقا عن قصدها
جوائرا
|
|
يهوين في نجد
وغور غائرا
|
والفسق مراتب
كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر. وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي
يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو
أن الفسق غير الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق ، وقد لقب الله
اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير
لجمهور من المفسرين.
وإسناد الإضلال
إلى الله تعالى مراعى فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من
العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده. وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة
إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجبلة فيهم فهم
مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧].
فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خلق أسبابه القريبة والبعيدة وإلا
فإنّ الله أمر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام.
وقوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيرا في زيادة الضلال لأن الفسق
يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على
التعاقب ، حتى يصير لها دربة. وهذا الذي يؤذن به التعليق على الوصف المشتق إن كان
المراد به هنا المعنى الاشتقاقي ، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال
فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني ، وإما مسوق لبيان
أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس
المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل ،
وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة فلا يصدر إلا من
اليهود وقد عرفوا بهذا الوصف.
والقول في مذاهب
علماء الإسلام في الفسق وتأثيره في الإيمان ليس هذا مقام بيانه إذ ليس هو المقصود
من الآية.
فإن كان محمل
الفاسقين على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في
قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ) إلخ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل
والمهتدى ، وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقيا ادعائيا أي يضل به
كثيرا وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالا هم الفاسقون ، ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن
الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم ، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا
أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال
سواه.
وجملة (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ) إلى آخره صفة للفاسقين لتقرير اتصافهم بالفسق لأن هاته
الخلال من أكبر أنواع الفسوق بمعنى الخروج عن أمر الله تعالى. وجوز أن تكون مقطوعة
مستأنفة على أن (الذين) مبتدأ وقوله : (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) خبر وهي مع ذلك لا
تخرج عن معنى
توصيف الفاسقين بتلك الخلال إذ الاستئناف لما ورد إثر حكاية حال عن الفاسقين تعين
في حكم البلاغة أن تكون هاته الصلة من صفاتهم وأحوالهم للزوم الاتحاد في الجامع
الخيالي وإلا لصار الكلام مقطعا منتوفا فليس بين الاعتبارين إلا اختلاف الإعراب
وأما المعنى فواحد فلذلك كان إعرابه صفة أرجح أو متعينا إذ لا داعي إلى اعتبار
القطع.
ومجيء الموصول هنا
للتعريف بالمراد من الفاسقين أي الفاسقين الذين عرفوا بهذه الخلال الثلاث فالأظهر
أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن وهم قد
عرفوا بما دلت عليه صلة الموصول كما سنبينه هنا بل هم قد شهدت عليهم كتب أنبيائهم
بأنهم نقضوا عهد الله غير مرة وهم قد اعترفوا على أنفسهم بذلك فناسب أن يجعل النقض
صلة لاشتهارهم بها ، ووجه تخصيصهم بذلك أن الطعن في هذا المثل جرهم إلى زيادة
الطعن في الإسلام فازدادوا بذلك ضلالا على ضلالهم السابق في تغيير دينهم وفي كفرهم
بعيسى ، فأما المشركون فضلالهم لا يقبل الزيادة ، على أن سورة البقرة نزلت
بالمدينة وأكثر الرد في الآيات المدنية متوجه إلى أهل الكتاب.
والنقض في اللغة
حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب ، وإنما زدت
قولي بفعل إلخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه ، ونقض
الغزل ونقض البناء. وقد استعمل النقض هنا مجازا في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى (عهد
الله) وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه
العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم ، ومنه قول مالك بن التيهان
الأنصاري للنبي صلىاللهعليهوسلم يوم بيعة العقبة : «يا رسول الله إن بيننا وبين القوم
حبالا ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك» (يريد العهود
التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج). وكان الشائع في الكلام إطلاق
لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضا في كلامهم. قال امرؤ القيس
:
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وقال لبيد :
أو لم تكن تدري
نوار بأنّني
|
|
وصّال عقد حبائل
جذّامها
|
وقال :
بل ما تذكّر من
نوار وقد نأت
|
|
وتقطّعت أسبابها
ورمامها
|
وقال :
فاقطع لبانة من
تعرّض وصله
|
|
فلشرّ واصل خلّة
صرّامها
|
ووجه اختيار
استعارة النقض الذي هو حل طيّات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد
رويدا رويدا وفي أزمنة متكررة ومعالجة. والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من
القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفسادا لهيئة الحبل وزوال رجاء عودها وأما
القطع فهو تجزئة.
وفي النقض رمز إلى
استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية وهذه
الأخيرة تمثيلية وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في
المكنية قد يكون مستعملا في معنى حقيقي على طريقة التخييل وذلك حيث لا يكون للمشبه
المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح مثل إثبات
الأظفار للمنية في قولهم أظفار المنية وإثبات المخالب والناب للكماة في قول أبي
فراس الحمداني :
فلما اشتدت
الهيجاء كنّا
|
|
أشدّ مخالبا
وأحدّ نابا
|
وإثبات اليد
للشمال في قول لبيد :
وغداة ريح قد
كشفت وقرّة
|
|
إذ أصبحت بيد
الشّمال زمامها
|
وقد يكون مستعملا
في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر
نحو (يَنْقُضُونَ عَهْدَ
اللهِ) ، وقد زدنا أنها تمثيلية أيضا والبليغ لا يفلت هاته
الاستعارة مهما تأت له ولا يتكلف لها مهما عسرت فليس الجواز المذكور في قرينة
المكنية إلا جوازا في الجملة أي بالنظر إلى اختلاف الأحوال.
وهذا الذي هو من
روادف المشبه به في صورة المكنية وغيرها قد يقطع عن الربط بالمكنية فيكون استعارة
مستقلة (وذلك حيث لا تذكر معه لفظا يراد تشبيهه بمشبه به مضمر) نحو أن تقول فلان
ينقض ما أبرم. وقد يربط بالمكنية وذلك حيث يذكر معه شيء أريد تشبيهه بمشبه به مضمر
كما في الآية حيث ذكر النقض مع العهد. وقد يربط بمصرحة وذلك حيث يذكر مع لفظ
المشبه به الذي الرادف من توابعه نحو قوله : «إن بيننا وبين
القوم حبالا نحن
قاطعوها» وحينئذ يكون ترشيحا للمجاز وهذه الاعتبارات متداخلة لا متضادة إذ قد يصح
في الموضع اعتباران منها أو جميعها وإنما التقسيم بالنظر إلى ما ينظر إليه البليغ
أول النظر.
واعلم أن رديف
المشبه به في المكنية إذا اعتبر استعارة في ذاته قد يتوهم أن اعتباره ذلك ينافي
كونه رمزا للمشبه به المضمر كالنقض فإنه لما أريد به إبطال العهد لم يكن من روادف
الحبل ، لكن لما كان إيذانه بالحبل سابقا عند سماع لفظه لسبق المعنى الحقيقي إلى
ذهن السامع حتى يتأمل في القرينة كفى ذلك السبق دليلا ورمزا على المشبه به المضمر
فإذا حصل ذلك الرمز لم يضر فهم الاستعارة في ذلك اللفظ ، وأجاب عبد الحكيم بأن
كونه رادفا بعد كونه استعارة بناء على أنه لما شبه به الرادف وسمي به صار رادفا
ادعائيا وفيه تكلف.
و (عهد الله) هو
ما عهد به أي ما أوصى برعيه وحفاظه ، ومعاني العهد في كلام العرب كثيرة وتصريفه
عرفي. قال الزجاج : «قال بعضهم ما أدري ما العهد» ومرجع معانيه إلى المعاودة
والمحافظة والمراجعة والافتقاد ولا أدري أي معانيه أصل لبقيتها وغالب ظني أنها
متفرع بعضها عن بعض والأقرب أن أصلها هو العهد مصدر عهده عهدا إذا تذكره وراجع
إليه نفسه يقولون عهدتك كذا أي أتذكر فيك كذا وعهدي بك كذا ، وفي حديث أم زرع «ولا
يسأل عما عهد أي عما عهد وترك في البيت ومنه قولهم في عهد فلان أي زمانه لأنه يقال
للزمان الذي فيه خير وشر لا ينساه الناس ، وتعهد المكان أو فلانا وتعاهده إذا
افتقده وأحدث الرجوع إليه بعد ترك العهد والوصية ومنه ولي العهد. والعهد اليمين
والعهد الالتزام بشيء ، يقال عهد إليه وتعهد إليه لأنها أمور لا يزال صاحبها
يتذكرها ويراعيها في مواقع الاحتراز عن خفرها. وسمي الموضع الذي يتراجعه الناس بعد
البعد عنه معهدا.
والعهد في الآية
الذي أخذه الله على بني آدم أن لا يعبدوا غيره : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] الآية ،
فنقضه يشمل الشرك وقد وصف الله المشركين بنقض العهد في قوله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الآية في سورة الرعد. [٢٥] وفسر بالعهد الذي أخذه الله على
الأمم على ألسنة رسلهم أنهم إذا بعث بعدهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١]
الآيات لأن المقصود من ذلك أخذ العهد على أممهم. وفسر بالعهد الذي أخذه الله على
أهل الكتاب ليبننه
للناس : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٧]
الآية في تفاسير أخرى بعيدة.
والصحيح عندي أن
المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل غير مرة من إقامة الدين
وتأييد الرسل وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض وأن يؤمنوا بالدين كله ، وقد ذكرهم
القرآن بعهود الله تعالى ونقضهم إياها في غير ما آية من ذلك قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠]. (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) إلى قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) [المائدة : ١٢ ـ
١٣] إلخ وقوله : (لَقَدْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) [المائدة : ٧٠]
إلى قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) [المائدة : ٧٠ ،
٧١]. (وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) إلى قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٠ ـ ٨٤]
إلى قوله : (وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥] بل
إن كتبهم قد صرحت بعهود الله تعالى لهم وأنحت عليهم نقضهم لها وجعلت ذلك إنذارا
بما يحل بهم من المصائب كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغير ذلك ، بل قد صار لفظ
العهد عندهم لقبا للشريعة التي جاء بها موسى. ولما كان قوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) الآية وصفا للفاسقين وكان المراد من الفاسقين اليهود كما
علمت كان ذكر العهد إيماء إلى أن الفاسقين هنا هم ، وتسجيلا على اليهود بأنهم قد
حق عليهم هذا الوصف من قبل اليوم بشهادة كتبهم وعلى ألسنة أنبيائهم فكان لاختيار
لفظ العهد هنا وقع عظيم يتنزل منزلة المفتاح الذي يوضع في حل اللغز ليشير للمقصود
فهو العهد الذي سيأتي ذكره في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) [البقرة : ٤٠].
والميثاق مفعال
وهو يكون للآلة كثيرا كمرقاة ومرآة ومحراث ، قال الخفاجي كأنه إشباع للمفعل ،
وللمصدر أيضا نحو الميلاد والميعاد وهو الأظهر هنا. والضمير للعهد أي من بعد توكيد
العهد وتوثيقه. ولما كان المراد بالعهد عهدا غير معيّن ، بل كل ما عاهدوا عليه كان
توكيد كل ما يفرضه المخاطب بما تقدمه من العهود وما تأخر عنه فهو على حد : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِها) [النحل : ٩١]
فالميثاق إذن عهد آخر اعتبر مؤكدا لعهد سبقه أو لحقه.
وقوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ
أَنْ يُوصَلَ) قيل ما أمر الله به أن يوصل هو قرابة الأرحام يعني وحيث
ترجح أن المراد به بعض عمل اليهود فذلك إذ تقاتلوا وأخرجوا كثيرا منهم من ديارهم
ولم تزل التوراة توصي بني إسرائيل بحسن معاملة بعضهم لبعض. وقيل
الإعراض عن قطع ما
أمر الله به أن يوصل هو موالاة المؤمنين. وقيل اقتران القول بالعمل. وقيل التفرقة
بين الأنبياء في الإيمان ببعض والكفر ببعض. وقال البغوي يعني بما أمر الله به أن
يوصل الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم وبجميع الرسل.
وأقول تكميلا لهذا
إن مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو إبلاغ
البشر إلى الغاية التي خلقوا لها وحفظ نظام عالمهم وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا
يعتوره خلل ، وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهيئ البشر لتلقي مراد الله تعالى
ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى
بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [الشورى : ١٣]
الآية. وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافا مراعى فيه مبلغ طاقة البشر
لطفا من الله تعالى بالناس ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم
لذلك أسهل ، وعملهم به أدوم ، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهق فيه
البشر مبلغ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري
وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار فكان دينا عاما لجميع البشر ، فلا جرم أن كانت
الشرائع السابقة تمهيدا له لتهييئ البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية
مراد الله تعالى من الناس ولذا قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩].
فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وصلة للعروة الوثقى التي لا انفصام
لها وهي عروة الإسلام فمتى بلغها الناس فقد فصوا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد
، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله ، فاليهود لما
زعموا أنهم لا يحل لهم العدول عن شريعة التوراة قد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل
ففرقوا مجتمعه.
والفساد في الأرض
تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : ١٢] ومن
الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به وأصبح غير صالح لما أراد
الله من البشر فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة وقابلة للنسخ إلا وقد أراد
منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه ، وما نسخ دينا إلا لتمام
وقت صلوحيته للعمل به فالتصميم على عدم تلقي الناسخ وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل
بما لم يبق فيه صلاح للبشر فيصير ذلك فسادا في الأرض لأنه كمداواة المريض بدواء
كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عاما دائما
لأنه صالح للكل.
وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قصر قلب لأنهم ظنوا أنفسهم رابحين وهو استعارة مكنية
تمثيلية تقدمت في قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦].
وذكر الخسران تخييل مراد منه الاستعارة في ذاته على نحو ما قرر في (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) فهذه الآية ظاهرة في أنها موجهة إلى اليهود لما علمت عند
قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) ولما علمت من كثرة إطلاق وصف الفاسقين على اليهود ، وإن
كان الذين طعنوا في أمثال القرآن فريقين : المشركين واليهود ، كما تقدم ، وكان
القرآن قد وصف المشركين في سورة الرعد [٢٥] وهي مكية بهذه الصفات الثلاث في قوله :
(وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) فالمراد بهم
المشركون لا محالة فذلك كله لا يناكد جعل آية سورة البقرة موجهة إلى اليهود إذ ليس
يلزم المفسر حمله آي القرآن على معنى واحد كما يوهمه صنيع كثير من المفسرين حتى
كان آي القرآن عندهم قوالب تفرغ فيها معان متحدة.
واعلم أن الله قد
وصف المؤمنين بضد هذه الصفات في قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ
الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) الآية في سورة الرعد [٢٥].
واعلم أن نزول هذه
الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب
وهو أيضا موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما
أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في
الموجب.
[٢٨] (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(٢٨))
ثني عنان الخطاب
إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] ،
بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) [البقرة : ٢٥] إلى
قوله : (الْخاسِرُونَ) [البقرة : ٢٧].
وليس في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) تناسب مع قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي
أَنْ
يَضْرِبَ
مَثَلاً ما) [البقرة : ٢٦] وما
بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم : (ما ذا أَرادَ اللهُ
بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦] حتى
يكون الانتقال إلى الخطاب في قوله : (تَكْفُرُونَ) التفاتا ، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي
مناسبة اتحاد الغرض ، بعد استيفاء ما تخلل واعترض.
ومن بديع المناسبة
وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر
بعبادة الله تعالى في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١] إلخ
هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) فقال فيما تقدم : (الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) [البقرة : ٢٢] الآية
وقال هنا : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) [البقرة : ٢٩]
وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه
وأطواره.
فالخطاب في قوله :
(تَكْفُرُونَ) متعين رجوعه إلى (الناس) وهم المشركون لأن اليهود لم
يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني.
و (كيف) اسم لا
يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى
السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد
معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهما شابه معنى
الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء
فلذلك لا بد له من محلّ إعراب ، وأكثر استعماله اسم استفهام فيعرب إعراب الحال.
ويستفهم بكيف عن الحال العامة. والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة
قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) إلخ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفيا لا
تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعد فكان من شأنه
أن ينكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم
اللفظ ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب
بما يظهر السبب فيبطل الإنكار والعجب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقا باللوم
والوعيد.
والكفر بضم الكاف
مصدر سماعي لكفر الثلاثي القاصر وأصله جحد المنعم عليه نعمة المنعم ، اشتق من مادة
الكفر بفتح الكاف وهو الحجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد
أخفى الاعتراف بها
كما أن شاكرها أعلنها. وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشّكر وقالوا أيضا
كفران على وزن شكران ، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء
على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد
كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجّه بالشكر لغير المنعم وترك المنعم حين عزمه على التوجه
بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم
يتفطن لذلك ، فكان أكثر إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم
يرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله. وقل ورود فعل الكفر أو
وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥]
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]
يريد اليهود.
وأما إطلاقه في
السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل
على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك.
وقد ورد إطلاق
الكفر في كلام الرسول عليهالسلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقا
على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل
الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب
الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله. وفرق المسلمين
يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات
بعض الصفات الله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب
شتى.
ومذهب أهل الحق من
السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت
الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلىاللهعليهوسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين ،
والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على
المذنب الانسلاخ من الإسلام منشدا «أنا الغريق فما خوفي من البلل».
ولا يكفر أحد
بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن
كثيرا من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالا لله تعالى وربما أفرطوا في
ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى ، وكثير من الفرق أثبتوا
صفات ما قصدوا من
إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم
بأن الله لا يشبه الحوادث.
والإيمان ذكر
معناه عند قوله تعالى : (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣].
وقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) جملة حالية وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه (كيف) بطريق
الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد
بعد عدم.
ولقد دل قوله
تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ) أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب
أشياء موصوفا بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء
والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثان ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره
وهي ميتة ، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى ، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل
هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح
فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده ، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلا على
انفراده تعالى بالإلهية.
وإطلاق الأموات
هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفا بها
من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفا بها إذا كان من شأنه أن
يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه
أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين
بالحياة إطلاقا شائعا والمقصود به التمهيد لقوله : (فَأَحْياكُمْ) ثم التمهيد والتقريب لقوله : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).
وقال كثير من أئمة
اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر ،
وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة. واتفق
الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى
الحقيقة وزال الاختلاف.
والحياة ضد الموت
، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم. وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها
على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفا حقيقيا بالحد ، وأوضح تعاريفها بالرسم
أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج
والأعضاء الرئيسية
التي بها تدوم الدورة الدموية ، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة
تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما
اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني ، فباعتدال ذلك التركيب يكون
النوع معتدلا ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب ، ولكل شخص من الصنف
مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان
نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني. وقد أشار إلى هذا التكوين حديث
الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم
يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» فأشار
إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجا مناسبا حتى انبعثت فيه الحياة ، ثم
بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة ، وذلك الاختلال هو
المعبر عنه بالفساد ، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا
اختلت دورته فعرض له فساد ، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي
شبيها بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج ، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك
الموت. فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) في سورة الملك [٢].
وليس المقصود من
قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ) الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئا يعده الناس نعمة
وشيئا لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله : (أَمْواتاً) وقوله : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) في سياق الآية.
وأما قوله : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل إذ المشركون ينكرون
الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال ، أو يكون ما قام من الدلائل على أن
هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود
الخالق العدل الحكيم ورأى الناس لا يجرون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في
الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليضيع عمل عامل وأن
هنا لك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم
وسمو حقائقهم.
وقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يكون رجوعكم إليه ، شبّه الحضور للحساب برجوع السائر
إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد
الموت فكأنهم
أرجعهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء.
وتقديم المتعلّق
على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين
ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن
كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم.
و (تُرْجَعُونَ) بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور ، وقرأه يعقوب بفتح
التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين
لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن
الاختيار أو الجبر.
[٢٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).
هذا ، إما استدلال
ثان على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضي منه العجب فإن دلائل ربوبية
الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض فهو ارتقاء في الاستدلال
بكثرة المخلوقات ، وفصل الجملة السابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين
الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون
ذلك لمنفعة البشر إكمالا لإيجادهم المشار إليه بقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] لأن
فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى
مقومات وجوده. ويجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع
الأمرين فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه وفي الأول بعد وفي الثاني
مخالفة الأصل لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعا على أنه توهم لا يضير. وإما أن يكون
قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ) امتنانا عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة
أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالا بما
هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله : (لَكُمْ) فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفا ، ولم يلتفت إلى ما
في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال
رجح اعتبار الفصل.
والخلق تقدم
تفسيره عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١].
والأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر الذي يعمره الإنسان
والحيوان والنبات
والمعادن وهي المواليد الثلاثة وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف
المخلوقات ، وحيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة ، علق
الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه ولم يعلق بذات الأرض
لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف إذ
الظرف إنما يقصد لأجل المظروف فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما
تأخر الظرف عن مظروفه وفي ذلك إتلاف المظروف ، والمشاهدة تنفي ذلك ، وإما تقدم
الظرف وذلك عبث. فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى فمن البعيد أن يجوّز
صاحب «الكشاف» أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة
العلوية ، وبعده من وجهين أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا
مجازا كما في قول شاعر أنشده صاحب «المفتاح» في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه :
الناس أرض بكل
أرض
|
|
وأنت من فوقهم
سماء
|
بخلاف السماء
أطلقت على كل ما علا فأظل ، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد والسماء لا يتعقل إلا
بكونه شيئا مرتفعا. الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا
حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس
الجهة.
وجملة : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) صيغة قصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين
لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض ولكنهم نزلوا منزلة الجاهل بذلك فسيق لهم
الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من
يجهل أن الله خالق جميع الموجودات. ونظير هذا قوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] فإن
المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق وإنما جعلوها شفعاء ووسائط
وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من
الأحياء والمقصود من الكلام فيما أراه موافقا للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق
الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في
مختلف الأزمان والأحوال فأوجز الكلام إيجازا بديعا بإقحام قوله : (لَكُمْ) فأغنى عن جملة كاملة فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة
وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار
عظيم منزلة
الإنسان عند الله تعالى ، وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم.
وفي هذه الآية
فائدتان :
الأولى
: أن لام التعليل
دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته
وفائدته فتثار عنه مسألة تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض والمسألة مختلف
فيها بين المتكلمين اختلافا يشبه أن يكون لفظيا فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن
أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حكم
ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها
عند الفعل تثمر غايات ، هذا كله لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها
أغراضا وعللا غائية أم لا؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالا بما ورد من نحو قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ،
ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في «التفسير» مستدلين بأن الذي
يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيدا من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أولى بالقياس
إليه من عدمه ، فيكون مستفيدا من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك الغرض سببا في
فعله أن يكون هو ناقصا في فاعليته محتاجا إلى حصول السبب.
وقد أجيب بأن لزوم
الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل ، وأما إذا كانت راجعة
للغير كالإحسان فلا ، فردّه الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت
الاستفادة. وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبدا بل إنما تستلزم
تعلق الإرادة ، وإنما تلزم الاستفادة لو ادعينا التعين والوجوب.
والحاصل أن الدليل
الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملا
به وهذا سفسطة شبّه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل
والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه. الثانية قولهم إذا كان الفعل
لغرض كان الغرض سببا يقتضي عجز
__________________
الفاعل وهذا شبه
فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم
وكلاهما يطلق عليه سبب.
ومن العجائب أنهم
يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم
عللا وأغراضا مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضا لأنها
تكون داعيا للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته. ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين
منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها.
ويترجح عندي أن
هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة ، فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل
الصلاح والأصلح أورد عليهم المعتزلة أو قدّروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله
تعالى لا يفعل شيئا إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن
أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبئ عن هذا أنهم لما
ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة.
وهنالك سبب آخر
لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره
وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعل الله بالنسبة إليه
منفعة.
هذا وقد نقل أبو
إسحاق الشاطبي في «الموافقات» عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة
بالمصالح ودرء المفاسد ، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في «تفسيره» فقال : «هذا
هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة».
الفائدة
الثانية : أخذوا من قوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال
هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقا لأجلنا وامتن بذلك
علينا وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب «الكشاف» ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم
الكرخي ونسب إلى الشافعي. وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة
إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلا قال ابن العربي في «أحكامه» :
«إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة
وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم» إلخ.
والحق أن الآية
مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه
خلق لأجلنا إلا أن
خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة ،
على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم بمعنى أن الآية ذكرت
أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لا سيما وقد خاطب
الله بها قوما كافرين منكرا عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعا ، وإنما محل
الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه
متعددة.
وذهب جماعة إلى أن
أصل الأشياء الحظر ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة فللمعتزلة الأقوال
الثلاثة كما قال القرطبي. قال الحموي في «شرح كتاب الأشباه» لابن نجيم نقلا عن الإمام الرازي وإنما تظهر ثمرة المسألة
في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات
ونحوها ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها
الثواب والعقاب.
وعندي أن هذا لا
يحتاج العلماء إلى فرضه لأن أهل الفترة لا شرع لهم وليس لأفعالهم أحكام إلا في
وجوب التوحيد عند قوم ، وأما بعد ورود الشرع فقد أغنى الشرع عن ذلك فإن وجد فعل لم
يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح فالصحيح أن أصل المضار التحريم
والمنافع الحل وهذا الذي اختاره الإمام في «المحصول» فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في
الإسلام.
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
انتقال من
الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس ، إلى الاستدلال بخلق ما
هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضا قد يغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله ،
وذلك خلق السماوات ، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطرادا لإكمال تنبيه الناس إلى
عظيم القدرة.
وعطفت (ثمّ) جملة (استوى)
على جملة (خَلَقَ لَكُمْ). ولدلالة (ثمّ) على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على
المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل
تشير إلى أن المعطوف بثم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى
كأنّ العقل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كيلا يغفل
عنه بما سمع من الكلام السابق ، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة ، ويسمى ذلك
بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار (بكسر الهمزة) كقوله تعالى :
(فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) [البلد : ١١ ـ ١٣]
إلى أن قال : (ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] فإن
قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ) خبر مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز
إيفاؤها حقها مما يغفل السامع عن أمر آخر عظيم نبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى
أنه آكد وأهم ، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته :
جنوح دفاق عندل
ثم أفرعت
|
|
لها كتفاها في
معالى مصعّد
|
فإنه لما ذكر من
محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها قال المرزوقي في «شرح الحماسة» في شرح قول جعفر بن علبة الحارثي :
لا يكشف الغمّاء
إلّا ابن حرّة
|
|
يرى غمرات الموت
ثم يزورها
|
إن ثم وإن كان في
عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك
وذكر قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) ا ه. وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل
سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدما في الوجود وقد جاء في
الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مرادا منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس
الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البون المعنوي بالبعد
المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) [القلم : ١١ ـ ١٣]
فإن كونه عتلا وزنيما أسبق في الوجود من كونه همّازا مشاء بنميم لأنهما صفتان
ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم ، وكذلك قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ
ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤].
فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول
المرزوقي : «فإنه في عطف الجملة ليس كذلك» إنه لا يحتمل حينئذ التراخي الزمني.
ولكن يظهر جواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخرا في الحصول على ما
قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن علبة. قلت وهو إما مجاز
__________________
مرسل أو كناية ،
فإن ألقت (ثم) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من
اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم
واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردودا.
واعلم أني تتبعت هذا
الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخبارا عن مخبر عنه
واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن (ثم) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا
تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) إلى قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ
هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٤ ، ٨٥]
أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك : مرت كتيبة الأنصار
ثم مرت كتيبة المهاجرين.
فأما هذه الآية
فإنه إذا كانت السماوات متأخرا خلقها عن خلق الأرض فثم للتراخي الرتبي لا محالة مع
التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقا فثم للترتيب الرتبي لا غير. والظاهر هو
الثاني. وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات
والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على
خلق السماء لقوله تعالى هنا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) وقوله في سورة حم السجدة [٩ ـ ١١] : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى أن قال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ). وقال قتادة والسدي ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا
بقوله تعالى : (بَناها رَفَعَ
سَمْكَها فَسَوَّاها) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ
٣٠]. وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولا ثم خلقت السماء ثم دحيت الأرض فالمتأخر عن خلق
السماء هو دحو الأرض ، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في
غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت
منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة
متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة
حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه.
وأرجح القولين هو
أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ (بَعْدَ ذلِكَ) أظهر في إفادة التأخر من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس
كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي. وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات
متقدم على الأرض. وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات
أسلوب الإجمال في
هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين.
والسماء إن أريد
بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها ، وإن أريد بها
الكواكب العلوية وذلك هو المناسب لقوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ) فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقا وقد يكون كل من
الاحتمالين ملاحظا في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر.
والاستواء أصله
الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو ، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع
سواء ، ويطلق مجازا على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستويا لا يلوي
على شيء فيعدى بإلى فتكون (إلى) قرينة المجاز وهو تمثيل ، فمعنى استواء الله تعالى
إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقا يشبه الاستواء في التهيؤ للعمل العظيم
المتقن.
ووزن استوى افتعل
لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق
المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي
سيقت القصة لأجله.
و (سواهن) أي
خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم. وبين
استوى وسواهن الجناس المحرف.
والسماء مشتقة من
السمو وهو العلو واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي
هي فوق العالم الأرضي والمراد به هنا الجنس بقرينة قوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) إذ جعلها سبعا ، والضمير في قوله : (فَسَوَّاهُنَ) عائد إلى (السماء) باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع
وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو ، وهو وإن صح لكنه لا
داعي إليه كما قاله التفتازانيّ.
وقد عد الله تعالى
في هذه الآية وغيرها السماوات سبعا وهو أعلم بها وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي
دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة وهي
الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ويدل لذلك أمور :
أحدها
: أن السماوات ذكرت
في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها
عوالم كالعالم الأرضي وهذا ثابت للسيارات.
ثانيها
: أنها ذكرت مع
الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب
أن يكون تفسيرها
تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة
خالقها.
ثالثها
: أنها وصفت بالسبع
وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة
من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع.
رابعها
: أن هاته السيارات
هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض ، ولذلك يعبر عنها
علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق
الأرض. وبعضهم يفسر السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي
تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء ، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج.
هذا وقد ذكر الله
تعالى السماوات سبعا هنا وفي غير آية ، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما
محيطان بالسماوات وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء
الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض :
نبتون ، أورانوس ، زحل ، المشتري ، المريخ ، الشمس ، الزهرة ، عطارد ، بلكان.
والأرض في
اصطلاحهم كوكب سيار ، وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب
وعد عوضا عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده معها عوض عن عد الأرض تقريبا لأفهام
السامعين.
وأما الثوابت فهي
عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض
__________________
وفي ذلك شكوك.
ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات
أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا.
وقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم
فلذلك قال المتكلمون ، إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة ، والإرادة على وفق
العلم. وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر
به.
وهذه الآية دليل
على عموم العلم وقد قال بذلك جميع الملّيّين كما نقله المحقق السلكوتي في «الرسالة الخاقانيّة» وأنكر الفلاسفة علمه بالجزئيات وزعموا أن تعلق العلم
بالجزئيات لا يليق بالعلم الإلهي وهو توهم لا داعي إليه.
وقرأ الجمهور هاء «وهو»
بالضم على الأصل ، وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند
دخول حرف العطف عليه ، والسكون أكثر من الضم في كلامهم وذلك مع الواو والفاء ولام
الابتداء ووجهه أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة تنزلت منزلة
الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك
في حركة لام الأمر مع الواو والفاء ، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء
من (هو) إذا دخل عليه حرف ، أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء
ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دعوى أنه ضرورة.
[٣٠] (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
عطفت الواو قصة
خلق أول البشر على قصة خلق السماوات والأرض انتقالا بهم في الاستدلال على أن الله
واحد وعلى بطلان شركهم وتخلصا من ذكر خلق السماوات والأرض إلى خلق النوع الذي هو
سلطان الأرض والمتصرف في أحوالها ، ليجمع بين تعدد الأدلة وبين مختلف حوادث تكوين
العوالم وأصلها ليعلم المسلمون ما علمه أهل الكتاب من العلم الذي كانوا يباهون به
العرب وهو ما في سفر التكوين من التوراة.
واعلم أن موقع
الدليل بخلق آدم على الوحدانية هو أن خلق أصل النوع أمر مدرك بالضرورة لأن كل
إنسان إذا لفت ذهنه إلى وجوده علم أنه وجود مسبوق بوجود أصل له بما يشاهد من نشأة
الأبناء عن الآباء فيوقن أن لهذا النوع أصلا أول ينتهي إليه نشوؤه ، وإذ قد كانت
العبرة بخلق ما في الأرض جميعا أدمجت فيها منة وهي قوله : (لَكُمْ) [البقرة : ٢٩]
المقتضية أن خلق ما في الأرض لأجلهم تهيّأت أنفسهم لسماع قصة إيجاد منشأ الناس
الذين خلقت الأرض لأجلهم ليحاط بما في ذلك من دلائل القدرة مع عظيم المنة وهي منة
الخلق التي نشأت عنها فضائل جمة ومنّة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض ، فكان
خلق أصلنا هو أبدع مظاهر إحيائنا الذي هو الأصل في خلق ما في الأرض لنا ، فكانت
المناسبة في الانتقال إلى التذكير به واضحة مع حسن التخلص إلى ذكر خبره العجيب ،
فإيراد واو العطف هنا لأجل إظهار استقلال هذه القصة في حد ذاتها في عظم شأنها.
و (إذ) من أسماء
الزمان المبهمة تدل على زمان نسبة ماضية وقعت فيه نسبة أخرى ماضية قارنتها ، ف (إذ)
تحتاج إلى جملتين جملة أصلية وهي الدالة على المظروف وتلك هي التي تكون مع جميع
الظروف ، وجملة تبين الظرف ما هو ، لأن (إذ) لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين
زمانها عن بقية الأزمنة ، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبدا ، والأكثر في الكلام
أن تكون إذ في محل ظرف لزمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه ، وقد تخرج (إذ)
عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب «الكشاف»
وهو مختار ابن هشام خلافا لظاهر كلام الجمهور ، فهي تصير ظرفا مبهما متصرفا ، وقد
يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذ وساعتئذ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى
حذف الجملة المضافة هي إليها ، وذلك أن (إذ) ملازمة للإضافة فإذا حذفت جملتها علم
السامع أن هنالك حذفا ، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير (إذ) خافوا أن
لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا إذ قرينة على إضافة وحذفوا
الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف.
وهي في هذه الآية
يجوز أن تكون ظرفا وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله : (قالُوا) وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قول الملائكة وذلك
بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم وهو مبدأ العبرة وما تضمنته من تشريف
آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) [البقرة : ٢٨]
الآيات ، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) [البقرة : ٣٤] إذ
وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقا بمدخولها ، ولأن الأظهر أن قوله : (قالُوا) حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه.
فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] أي
خلق لكم ما في الأرض وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لما قدمناه من أن ذكر خلق
ما في الأرض وكونه لأجلنا يهيئ السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خلق لأجلنا
من سماء وأرض ، وتكون (إذ) على هذا مزيدة للتأكيد قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى
وأنشد قول الأسود بن يعفر :
فإذ وذلك لا
مهاه لذكره
|
|
والدهر يعقب
صالحا بفساد
|
(هكذا رواه فإذ على أن يكون في البيت
زحاف الطي ، وفي رواية فإذا فلا زحاف ، والمهاه بهاءين الحسن ولا يشكل عليه أن شأن
الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف) ، أو أن يكون
عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله
تعالى ، ألا ترى أنها ذكرت أيضا في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ولم تذكر فيما بينهما وتكون (إذ) اسم زمان مفعولا به
بتقدير اذكر ، ونظيره كثير في القرآن ، والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان
إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال. وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن
الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها.
وكلام الله تعالى
للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي فيحتمل أنه
كلام سمعوه فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون
وسيلة معتادة ، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة ، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه
دلالة للعقلاء والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «اشتكت النار إلى ربها» وقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقول
أبي النجم : «إذ قالت الآطال للبطن الحق» ، ولا طائل في البحث عن تعين أحد
الاحتمالين.
والملائكة جمع ملك
وأصل صيغة الجمع ملائكة والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى
الجماعة ، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ
كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله واعتقده العرب أيضا قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ
سُبْحانَهُ) [النحل : ٥٧]
فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل ، ومما يدل
عليه أيضا قول بعض
شعراء عبد القيس أو غيره :
ولست لإنسيّ
ولكن لملأك
|
|
تنزّل من جوّ
السّماء يصوّب
|
ثم قالوا ملك
تخفيفا.
وقد اختلفوا في
اشتقاقه فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل ومنه قولهم في الأمر بتبليغ
رسالة ألكني إليه أي كن رسولي إليه وأصل ألكني ألئكني وإن لم يعرف له فعل. وإنما
اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين كما في
الحديث : «ثم يرسل إليه (أي للجنين في بطن أمه) الملك فينفخ فيه الروح» ، فعلى هذا
القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول ، وقال الكسائي هو مقلوب ووزنه الآن معفل
وأصله مألك من الألوك والألوكة وهي الرسالة ويقال مألك ومألكة (بفتح اللام وضمها)
فقلبوا فيه قلبا مكانيا فقالوا ملأك فهو صفة مشبهة. وقال ابن كيسان هو مشتق من
الملك (بفتح الميم وسكون اللام) والملك بمعنى القوة قال تعالى : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) [التحريم : ٦]
والهمزة مزيدة فوزنه فعأل بسكون العين وفتح الهمزة كشمأل ، ورد بأن دعوى زيادة حرف
بلا فائدة دعوى بعيدة ، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل ، فرجح مذهب أبي
عبيدة ، ونقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للملك عند العرب يريد
أنهم عرّبوه من اللغة العبرانية ويؤيده أن التوراة سمت الملك ملاكا بالتخفيف ،
وليس وجود كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما
إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى.
والملائكة مخلوقات
نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل
للتشكل في كيفيات ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضىء إذا
اتصلت بالعالم الأرضي وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضهم لبعض رسله وأنبيائه
على وجه خرق العادة. وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد
الله تكوينها فتتولى التدبير لها ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة
تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين ، فالخواطر الخيرية من توجهات
__________________
الملائكة وعلاقتها
بالنفوس البشرية وبعكسها خواطر الشر.
والخليفة في الأصل
الذي يخلف غيره أو يكون بدلا عنه في عمل يعمله ، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه
للمبالغة في الوصف كالعلّامة. والمراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي وهو الذي
يتولى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي ، أي جاعل في الأرض مدبرا يعمل ما
نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حالا
في الأرض ولا عاملا فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات
الأرض ، ولأن الله تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير
الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في
خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان ،
وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبل بطائفة
من المخلوقات يسمّون الحن والبن ـ بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول ، وبموحدة
مكسورة ونون في الثاني ـ وقيل اسمهم الطّم والرّم ـ بفتح أولهما ـ ، وأحسبه من
المزاعم ، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس : هيّان بن بيّان إشارة إلى غير
موجود أو غير معروف. ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن
الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطّم والرّم كان اليونان
يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التيتان وأن زفس وهو المشتري كبير
الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم. وكل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب
ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جعل الخليفة دليل على أن جعل الخليفة
كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف
في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوف مستقرا في المكان من قبل ، فالخليفة آدم
وخلفيّته قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقين
ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي ، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسن
النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم ، فكانت الآية من هذا
الوجه إيماء إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم
إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك ، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما
اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء
الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع
وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والملك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا
لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [النساء : ٦٤]
ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم
ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما
تبين لهم الهدى ، من جفاة الأعراب ودعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سدىً.
وللخليفة شروط محل
بيانها كتب الفقه والكلام ، وستجيء مناسبتها في آيات آتية.
والظاهر أن خطابه
تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول
أظهر ، فيكون المراد بالمخبر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب
كتابا بحضرة جليس إني مرسل كتابا إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي
هو بصدد كتابته كتاب لفلان ، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم ، وعلى الوجوه
كلها يكون اسم الفاعل في قوله : (جاعِلٌ) للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتا لآدم ساعتئذ.
وقول الله هذا
موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه
يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس ، وليكون كالاستشارة لهم
تكريما لهم فيكون تعليما في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة
سؤال وجواب وليسنّ الاستشارة في الأمور ، ولتنبيه الملائكة على ما دقّ وخفي من
حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون.
وعندي أن هاته
الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموسا
أشربته نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما ، تؤثر تآلفا
بين ذلك الكائن وبين المقارن. ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا
تبعا لذوات مقام أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئا أي إنشاء ذات
أن يقول له كن فيكون ، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول
مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات ، ألا ترى أنه تعالى
لما أراد أن يكون قبول العلم من خصائص الإنسان علّم آدم الأسماء عند ما خلقه.
وهذا هو وجه
مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه
تعالى مفيضا للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل ، ولهذا أيضا طلبت منا الشريعة تخيّر
أكمل الحالات وأفضل الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب ، وتقدم هذا
في الكلام على البسملة ، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله
تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) في سورة آل عمران [١٥٩].
وأسندت حكاية هذا
القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في
الأرض ، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما
تقدم في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] ،
ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع
وهو النبي محمد صلىاللهعليهوسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطبة.
(قالُوا أَتَجْعَلُ
فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ).
هذا جواب الملائكة
عن قول الله لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فالتقدير فقالوا على وزان قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا) [البقرة : ٣٤]
وفصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جريا به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية
المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير :
قيل لهم ألا
اركبوا ألا تا
|
|
قالوا جميعا
كلهم ألا فا
|
أي فاركبوا ولم
يقل فقالوا. وقال رؤبة بن العجاج :
قالت بنات العم
يا سلمى وإن
|
|
كان فقيرا معدما
قالت وإن
|
وإنما حذفوا
العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي
الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهو كثير في التنزيل
وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال وإن كان العطف بالفاء هو
الظاهر والأصل ، وهذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي.
ومما عطف بالفاء
قوله تعالى : (فَقالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ
الْمَلَأُ) في سورة المؤمنين [٢٣ ، ٢٤] وقد يعطف بالواو أيضا كما في
قوله : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ
رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) إلخ في سورة المؤمنون [٣٢ ، ٣٣] وذلك إذا لم يكن المقصود
حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية ممّا جرى في
أوقات متفرّقة أو أمكنة متفرّقة. ويظهر ذلك لك في قوله تعالى : (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ) [غافر : ٢٥] إلى
قوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) [٢٦] ثم قال تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) [٢٧] ثم قال : (وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [٢٨]
الآية في سورة
غافر ، وليس قوله : (قالُوا أَتَجْعَلُ) جوابا لإذ عاملا فيها لما قدمناه آنفا من أنه يفضي إلى أن
يكون قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) هو المقصود من القصة وأن تصير جملة (إذ) تابعة له إذ الظرف
تابع للمظروف.
والاستفهام المحكي
عن كلام الملائكة محمول على حقيقته مضمن معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق
الحكمة بذلك فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم
واستبعادهم فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافا لمن توهم الاستفهام هنا
لمجرد التعجب ، والذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن الله لما أخبرهم
أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل
مؤاربة فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها الله تعالى من
أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحا وفي
الحديث : «المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم» يعني إذا تكلم فعليه أداء
أمانة النصيحة.
وعبر بالموصول
وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه
الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره. وعطف سفك الدماء على
الإفساد للاهتمام به. وتكرير ضمير (الأرض) للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها
وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن
ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار.
والإفساد تقدم في
قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : ١٢].
والسفك الإراقة
وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء. وفي
المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق
وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق
المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله
لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده ، والأظهر أنهم
رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى
الاكتساب وعن الامتثال إلى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن
مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة ، ثم إن القدرة التي في الجوارح
تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار
خلاف الواقع
وترويج الباطل ، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضا صلاح عظيم وإن
طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها
وشرها فيحصل فعل مختلط من صالح وسيئ ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب
المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على
نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة
، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات ، وفي توجه نورانية النفوس
إلى المعلومات ، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية
واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة ، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة؟
وفي هذا ما يغنيك
عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه
من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله ، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت ،
أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر
التكوين من التوراة. وبه أيضا تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من
البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر ، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو
حكم بما يصلحون له بالقوة ، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث
لم يفسد ، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان.
وأوثر التعبير
بالفعل المضارع في قوله : (مَنْ يُفْسِدُ
وَيَسْفِكُ) لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل
منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر.
وقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها
وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع وهم علموا مراد الله
ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء
بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد ، وقد دلت آيات كثيرة
على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) [محمد : ٢٢ ، ٢٣]
وقال : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى
فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا
يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥].
ولا يرد هنا أن
هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في
مشورة ونحوها كالخطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشار في شأنه من
النقائص ، ورجحان تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحد بما يكره ، ولأن الموصوف بذلك غير
معين إذ الحكم على النوع ، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة
الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة.
و (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
الواو متعينة
للحالية إذ لا موقع للعطف هنا وإن كان ما بعد الواو من مقولهم ومحكيا عنهم لكن
الواو من المحكي وليست من الحكاية لأن قولهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ) يحتمل معنيين أحدهما أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى
الله تعالى واتهام علمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسدّ
منه رأيا وأرجح عقلا فيشير ثم يفوّض كما قال أهل مشورة بلقيس إذ قالت : (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ
قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا
بَأْسٍ شَدِيدٍ) ـ أي الرأي أن
نحاربه ونصده عما يريد من قوله (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١] ـ
والأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين [النمل : ٣٢ ، ٣٣] ، وكما يفعل التلميذ مع
الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأنه مبلغ علمه ، وأن القول الفصل للأستاذ ، أو هو
إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم ، وبراءة
من شائبة الاعتراض ، والله تعالى وإن كان يعلم براءتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى
على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير ، أو لأنّ في نفس هذا
التصريح تبركا وعبادة ، أو إعلان لأهل الملإ الأعلى بذلك.
فإذا كان كذلك كان
العطف غير جائز لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول
فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما
في قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران : ١٧٣]
على أحد الوجوه في عطف جملة (نِعْمَ الْوَكِيلُ) عند من لا يرون صحة عطف الإنشاء على الخبر وإن كان الحق
صحة عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وأنه لا ينافي حسن الكلام ، فلذلك لم يكن حظ
للعطف ، ألا ترى أنهم إذا حكوا حادثا ملمّا أو مصابا جمّا أعقبوه بنحو حسبنا الله
ونعم الوكيل أو إنا لله وإنا إليه راجعون أو نحو ذلك ولا يعطفون
__________________
مثل ذلك فكانت
الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ) وليس شيئا خطر لهم بعد أن توغلوا في الاستبعاد والاستغراب.
الاحتمال
الثاني : أن يكون الغرض من
قولهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ) التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف لأن الجملة الاسمية دلت على
الدوام وجملة (مَنْ يُفْسِدُ فِيها) دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع
منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع
منه الفساد فتكون حالا مقررة لمدلول جملة (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ) تكملة للاستغراب ، وعاملها هو (تَجْعَلُ) وهذا الذي أشار إليه تمثيل «الكشاف». والعامل في الحال هو
الاستفهام لأنه مما تضمن معنى الفعل لا سيما إذا كان المقصود منه التعجب أيضا إذ
تقدير (أَتَجْعَلُ فِيها) إلخ نتعجب من جعله خليفة.
والتسبيح قول أو
مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه ولذلك سمى ذكر الله تسبيحا ،
والصلاة سبحة ويطلق التسبيح على قول سبحان الله لأن ذلك القول من التنزيه وقد
ذكروا أن التسبيح مشتق من السبح وهو الذهاب السريع في الماء إذ قد توسع في معناه
إذ أطلق مجازا على مر النجوم في السماء قال تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وعلى
جري الفرس قالوا فلعل التسبيح لوحظ فيه معنى سرعة المرور في عبادة الله تعالى ،
وأظهر منه أن يكون سبح بمعنى نسب للسبح أي البعد وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة
أي التنزيه عن أحوال النقائص وقيل سمع سبح مخففا غير مضاعف بمعنى نزه ، ذكره في «القاموس».
وعندي أن كون
التسبيح مأخوذا من السبح على وجه المجاز بعيد والوجه أنه مأخوذ من كلمة سبحان
ولهذا التزموا في هذا أن يكون لوزن فعّل المضاعف فلم يسمع مخففا.
وإذا كان التسبيح
كما قلنا هو قول أو قول وعمل يدل على التعظيم فتعلق قوله (بِحَمْدِكَ) به هنا وفي أكثر المواضع في القرآن ظاهر لأن القول يشتمل
على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه فالباء للملابسة أي نسبح تسبيحا مصحوبا
بالحمد لك وبذلك تنمحي جميع التكلفات التي فسروا بها هنا.
والتقديس التنزيه
والتطهير وهو إما بالفعل كما أطلق المقدس على الراهب في قول امرئ القيس يصف تعلق
الكلاب بالثور الوحشي :
فأدركنه يأخذن
بالساق والنسا
|
|
كما شبرق
الولدان ثوب المقدس
|
وإما بالاعتقاد
كما في الحديث : «لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها» أي لا نزهها الله تعالى
وطهرها من الأرجاس الشيطانية.
وفعل قدس يتعدى
بنفسه فالإتيان باللام مع مفعوله في الآية لإفادة تأكيد حصول الفعل نحو شكرت لك
ونصحت لك وفي الحديث عند ذكر الذي وجد كلبا يلهث من العطش «فأخذ خفه فأدلاه في
الركية فسقاه فشكر الله له» أي شكره مبالغة في الشكر لئلا يتوهم ضعف ذلك الشكر من
أنه عن عمل حسنة مع دابة فدفع هذا الإيهام بالتأكيد باللام وهذا من أفصح الكلام ،
فلا تذهب مع الذين جعلوا قوله : (لَكَ) متعلقا بمحذوف تقديره حامدين أو هو متعلق بنسبح واللام
بمعنى لأجلك على معنى حذف مفعول (نُسَبِّحُ) أي نسبح أنفسنا أي ننزهها عن النقائص لأجلك أي لطاعتك فذلك
عدول عن فصيح الكلام ، ولك أن تجعل اللام لام التبيين التي سنتعرض لها عند قوله
تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا
تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢].
فمعنى (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ) نحن نعظمك وننزهك والأول بالقول والعمل والثاني باعتقاد
صفات الكمال المناسبة للذات العلية ، فلا يتوهم التكرار بين (نسبح) و (نقدس).
وأوثرت الجملة
الاسمية في قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) لإفادة الدلالة على الدوام والثبات أي هو وصفهم الملازم
لجبلتهم ، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي دون حرف النفي يحتمل أن يكون
للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام أي نحن الدائمون على التسبيح
والتقديس دون هذا المخلوق والأظهر أن التقديم لمجرد التقوى نحو هو يعطي الجزيل.
(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ
ما لا تَعْلَمُونَ).
جواب لكلامهم فهو
جار على أسلوب المقاولة في المحاورات كما تقدم ، أي أعلم ما في البشر من صفات
الصلاح ومن صفات الفساد.
__________________
واعلم أن صلاحه
يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال وأن في ذلك
كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب واطلاعا على نموذج من غايات علم
الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم
والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك. كيف ومن أبدع ذلك أن تركب الصفتين الذميمتين
يأتي بصفات الفضائل كحدوث الشجاعة من بين طرفي التهور والجبن. وهذا إجمال في
التذكير بأن علم الله تعالى أوسع مما علموه فهم يوقنون إجمالا أن لذلك حكمة ومن
المعلوم أن لا حاجة هنا لتقدير وما تعلمون بعد (ما لا تَعْلَمُونَ) لأنه معروف لكل سامع ولأن الغرض لم يتعلق بذكره وإنما تعلق
بذكر علمه تعالى بما شذ عنهم. وقد كان قول الله تعالى هذا تنهية للمحاورة وإجمالا
للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم وأنه حين أراد أن
يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة ، وتأكيد الجملة بأن لتنزيل
الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين.
[٣١] (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١))
(وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها).
معطوف على قوله : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] عطف
حكاية الدليل التفصيلي على حكاية الاستدلال الإجمالي الذي اقتضاه قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فإن تعليم آدم الأسماء وإظهار فضيلته بقبوله لهذا التعليم
دون الملائكة جعله الله حجة على قوله لهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) أي ما لا تعلمون من جدارة هذا المخلوق بالخلافة في الأرض ،
وعطف ذكر آدم بعد ذكر مقالة الله للملائكة وذكر محاورتهم يدل على أن هذا الخليفة
هو آدم وأن آدم اسم لذلك الخليفة وهذا الأسلوب من بديع الإجمالي والتفصيل والإيجاز
كما قال النابغة :
فقلت لهم لا
أعرفن عقائلا
|
|
رعابيب من جنبي
أريك وعاقل
|
الأبيات. ثم قال
بعدها :
وقد خفت حتى ما
تزيد مخافتي
|
|
على وعل في ذي
المطارة عاقل
|
مخافة عمرو أن
تكون جياده
|
|
يقدن إلينا بين
حاف وناعل
|
فدل على أن ما
ذكره سالفا من العقائل التي بين أريك وعاقل ومن الأنعام المغتنمة هو ما يتوقع من
عزو عمرو بن الحرث الغساني ديار بني عوف من قومه.
وآدم اسم الإنسان
الأول أبي البشر في لغة العرب وقيل منقول من العبرانية لأن أداما بالعبرانية بمعنى
الأرض وهو قريب لأن التوراة تكلمت على خلق آدم وأطالت في أحواله فلا يبعد أن يكون
اسم أبي البشر قد اشتهر عند العرب من اليهود وسماع حكاياتهم ، ويجوز أن يكون هذا
الاسم عرف عند العرب والعبرانيين معا من أصل اللغات السامية فاتفقت عليه فروعها.
وقد سمي في سفر التكوين من التوراة بهذا الاسم آدم ووقع في «دائرة المعارف
العربية» أن آدم سمى نفسه
إيش (أي ذا مقتني) وترجمته إنسان أو قرء.
قلت ولعله تحريف (إيث)
كما ستعلمه عند قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥].
وللإنسان الأول
أسماء أخر في لغات الأمم وقد سماه الفرس القدماء «كيومرت» بفتح الكاف في أوله
وبتاء مثناة فوقية في آخره ، ويسمى أيضا «كيامرتن» بألف عوق الواو وبكسر الراء
وبنون بعد المثناة الفوقية ، قالوا إنه مكث في الجنة ثلاثة آلاف سنة ثم هبط إلى
الأرض فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة أخرى ، واسمه في العبرانية (آدم) كما سمي في
التوراة وانتقل هذا الاسم إلى اللغات الأفرنجية من كتب الديانة المسيحية فسموه (آدام)
بإشباع الدال ، فهو اسم على وزن فاعل صيغ كذلك اعتباطا وقد جمع على أوادم بوزن
فواعل كما جمع خاتم وهذا الذي يشير إليه صاحب «الكشاف» وجعل محاولة اشتقاقه كمحاولة اشتقاق يعقوب من العقب
وإبليس من الإبلاس ونحو ذلك أي هي محاولة ضئيلة وهو الحق.
وقال الجوهري أصله
أأدم بهمزتين على وزن أفعل من الأدمة وهي لون السمرة فقلبت ثانية الهمزتين مدة
ويبعده الجمع وإن أمكن تأويله بأن أصله أأدم فقلبت الهمزة الثانية في الجمع واوا
لأنها ليس لها أصل كما أجاب به الجوهري. ولعل اشتقاق اسم لون الأدمة من اسم آدم
أقرب من العكس.
والأسماء جمع اسم
وهو في اللغة لفظ يدل على معنى يفهمه ذهن السامع فيختص بالألفاظ سواء كان مدلولها
ذاتا وهو الأصل الأول ، أو صفة أو فعلا فيما طرأ على البشر الاحتياج إليه في
استعانة بعضهم ببعض فحصل من ذلك ألفاظ مفردة أو مركبة وذلك هو معنى الاسم عرفا إذ
لم يقع نقل. فما قيل إن الاسم يطلق على ما يدل على الشيء سواء
كان لفظه أو صفته أو
فعله توهم في اللغة. ولعلهم تطوحوا به إلى أن اشتقاقه من السمة وهي العلامة ، وذلك
على تسليمه لا يقتضي أن يبقى مساويا لأصل اشتقاقه. وقد قيل هو مشتق من السمو لأنه
لما دل على الذات فقد أبرزها. وقيل مشتق من الوسم لأنه سمة على المدلول. والأظهر
أنه مشتق من السّمو وأن وزنه سمو ـ بكسر السين وسكون الميم ـ لأنهم جمعوه على
أسماء ولو لا أن أصله سمو لما كان وجه لزيادة الهمزة في آخره فإنها مبدلة عن الواو
في الطرف إثر ألف زائدة ولكانوا جمعوه على أوسام.
والظاهر أن
الأسماء التي علمها آدم هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء التي يحتاج نوع الإنسان إلى
التعبير عنها لحاجته إلى ندائها ، أو استحضارها ، أو إفادة حصول بعضها مع بعض ،
وهي أي الإفادة ما نسميه اليوم بالأخبار أو التوصيف فيظهر أن المراد بالأسماء
ابتداء أسماء الذوات من الموجودات مثل الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس من الحيوان
والنبات والحجر والكواكب مما يقع عليه نظر الإنسان ابتداء مثل اسم جنة ، وملك ،
وآدم ، وحواء ، وإبليس ، وشجرة وثمرة ، ونجد ذلك بحسب اللغة البشرية الأولى ولذلك
نرجح أن لا يكون فيما علمه آدم ابتداء شيء من أسماء المعاني والأحداث ثم طرأت بعد
ذلك فكان إذا أراد أن يخبر عن حصول حدث أو أمر معنوي لذات ، قرن بين اسم الذات
واسم الحدث نحو ماء برد أي ماء بارد ثم طرأ وضع الأفعال والأوصاف بعد ذلك فقال
الماء بارد أو برد الماء ، وهذا يرجح أن أصل الاشتقاق هو المصادر لا الأفعال لأن
المصادر صنف دقيق من نوع الأسماء وقد دلنا على هذا قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) كما سيأتي.
والتعريف في (الأسماء)
تعريف الجنس أريد منه الاستغراق للدلالة على أنه علّمه جميع أسماء الأشياء
المعروفة يومئذ في ذلك العالم فهو استغراق عرفي مثل جمع الأمير الصاغة أي صاغة
أرضه ، وهو الظاهر لأنه المقدار الذي تظهر به الفضيلة فما زاد عليه لا يليق تعليمه
بالحكمة وقدرة الله صالحة لذلك.
وتعريف الأسماء
يفيد أن الله علم آدم كل اسم ما هو مسماه ومدلوله ، والإتيان بالجمع هنا متعين إذ
لا يستقيم أن يقول وعلم آدم الاسم ، وما شاع من أن استغراق المفرد أشمل من استغراق
الجمع في المعرف باللام كلام غير محرر ، وأصله مأخوذ من كلام السكاكي وسنحققه عند
قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ) [البقرة : ١٧٧] في
هذا السورة.
و (كُلَّها) تأكيد لمعنى الاستغراق لئلا يتوهم منه العهد فلم تزد كلمة
كل العموم
شمولا ولكنها دفعت
عنه الاحتمال. (وكل) اسم دال على الشمول والإحاطة فيما أضيف هو إليه وأكثر ما يجىء
مضافا إلى ضمير ما قبله فيعرب توكيدا تابعا لما قبله ويكون أيضا مستقلا بالإعراب
إذا لم يقصد التوكيد بل قصدت الإحاطة وهو ملازم للإضافة لفظا أو تقديرا فإذا لم
يذكر المضاف إليه عوض عنه التنوين ولكونه ملازما للإضافة يعتبر معرفة بالإضافة فلا
تدخل عليه لام التعريف.
وتعليم الله تعالى
آدم الأسماء إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه فإذا أراه لقن اسمه بصوت مخلوق
يسمعه فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري ، أو يكون التعليم بإلقاء
علم ضروري في نفس آدم بحيث يخطر في ذهنه اسم شيء عند ما يعرض عليه فيضع له اسما
بأن ألهمه وضع الأسماء للأشياء ليمكنه أن يفيدها غيره وذلك بأن خلق قوة النطق فيه
وجعله قادرا على وضع اللغة كما قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ
الْبَيانَ) [الرحمن : ٢ ، ٣]
وجميع ذلك تعليم إذ التعليم مصدر علّمه إذا جعله ذا علم مثل أدّبه فلا ينحصر في
التلقين وإن تبادر فيه عرفا. وأيّا ما كانت كيفية التعليم فقد كان سببا لتفضيل
الإنسان على بقية أنواع جنسه بقوة النطق وإحداث الموضوعات اللغوية للتعبير عما في
الضمير. وكان ذلك أيضا سببا لتفاضل أفراد الإنسان بعضهم على بعض بما ينشأ عن النطق
من استفادة المجهول من المعلوم وهو مبدأ العلوم ، فالإنسان لما خلق ناطقا معبرا
عما في ضميره فقد خلق مدركا أي عالما وقد خلق معلما ، وهذا أصل نشأة العلوم
والقوانين وتفاريعها لأنك إذا نظرت إلى المعارف كلها وجدتها وضع أسماء لمسميات
وتعريف معاني تلك الأسماء وتحديدها لتسهيل إيصال ما يحصل في الذهن إلى ذهن الغير.
وكلا الأمرين قد حرمه بقية أنواع الحيوان ، فلذلك لم تتفاضل أفراده إلا تفاضلا
ضعيفا بحسن الصورة أو قوة المنفعة أو قلة العجمة بله بقية الأجناس كالنبات
والمعدن. وبهذا تعلم أن العبرة في تعليم الله تعالى آدم الأسماء حاصلة سواء كان
الذي علّمه إياه أسماء الموجودات يومئذ أو أسماء كل ما سيوجد ، وسواء كان ذلك بلغة
واحدة هي التي ابتدأ بها نطق البشر منذ ذلك التعليم أم كان بجميع اللغات التي
ستنطق بها ذرياته من الأمم ، وسواء كانت الأسماء أسماء الذوات فقط أو أسماء
المعاني والصفات ، وسواء كان المراد من الأسماء الألفاظ الدالة على المعاني أو كل
دال على شيء لفظا كان أو غيره من خصائص الأشياء وصفاتها وأفعالها كما تقدم إذ
محاولة تحقيق ذلك لا طائل تحته في تفسير القرآن. ولعل كثيرا من المفسرين قد هان
عندهم أن يكون تفضيل آدم بتعليم الله متعلقا بمعرفة عدد من الألفاظ الدالة على
المعاني الموجودة فراموا تعظيم هذا التعليم
بتوسيعه وغفلوا عن
موقع العبرة وملاك الفضيلة وهو إيجاد هاته القوة العظيمة التي كان أولها تعليم تلك
الأسماء ، ولذلك كان إظهار عجز الملائكة عن لحاق هذا الشأو بعدم تعليمهم لشيء من
الأسماء ، ولو كانت المزية والتفاضل في تعليم آدم جميع ما سيكون من الأسماء في
اللغات لكفى في إظهار عجز الملائكة عدم تعليمهم لجمهرة الأسماء وإنما علم آدم
أسماء الموجودات يومئذ كلها ليكون إنباؤه الملائكة بها أبهر لهم في فضيلته.
وليس في هذه الآية
دليل على أن اللغات توقيفية ـ أي لقّنها الله تعالى البشر على لسان آدم ـ ولا على
عدمه لأن طريقة التعليم في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ) مجملة محتملة لكيفيات كما قدمناه. والناس متفقون على أن
القدرة عليها إلهام من الله وذلك تعليم منه سواء لقن آدم لغة واحدة أو جميع لغات
البشر وأسماء كل شيء أو ألهمه ذلك أو خلق له القوة الناطقة ، والمسألة مفروضة في
علم الله وفي أصول الفقه وفيها أقوال ولا أثر لهذا الاختلاف لا في الفقه ولا في
غيره قال المازري «إلا في جواز قلب اللغة والحق أن قلب الألفاظ الشرعية حرام وغيره
جائز» ولقد أصاب المازري وأخطأ كل من رام أن يجعل لهذا الخلاف ثمرة غير ما ذكر ،
وفي استقراء ذلك ورده طول ، وأمره لا يخفى عن سالمي العقول.
(ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ).
قيل عطفه بثم لأن
بين ابتداء التعليم وبين العرض مهلة وهي مدة تلقين الأسماء لآدم أو مدة إلهامه وضع
الأسماء للمسميات. والأظهر أن (ثم) هنا للتراخي الرتبي كشأنها في عطفها الجمل لأن
رتبة هذا العرض وظهور عدم علم الملائكة وظهور علم آدم وظهور أثر علم الله وحكمته
كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة ، من رتبة مجرد تعلمه
الأسماء لو بقي غير متصل به ما حدث من الحادثة كلها. ولما كان مفهوم لفظ (اسم) من
المفهومات الإضافية التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها إذ الاسم لا يكون إلا لمسمى
كان ذكر الأسماء مشعرا لا محالة بالمسميات فجاز للبليغ أن يعتمد على ذلك ويحذف لفظ
المسميات إيجازا.
وضمير (عَرَضَهُمْ) للمسميات لأنها التي تعرض بقرينة قوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) وبقرينة قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها) ، فإن الاسم يقتضي مسمى وهذا من إيجاز الحذف وأما الأسماء
فلا تعرض لأن العرض إظهار الذات بعد خفائها ومنه عرض الشيء للبيع ويوم العرض
والألفاظ لا تظهر فتعين أن المعروض مدلولات الأسماء إما بأن
تعرض صور من
الذوات فقط ويسأل عن معرفة أسمائها أي معرفة الألفاظ الدالة عليها ، أو عن بيان
مواهبها وخصائصها وإما بأن تعرض الذوات والمعاني بخلق أشكال دالة على المعاني كعرض
الشجاعة في صورة فعل صاحبها والعلم في صورة إفاضة العالم في درسه أو تحريره كما
نرى في الصور المنحوتة أو المدهونة للمعاني المعقولة عند اليونان والرومان والفرس
والصور الذهنية عند الإفرنج ، بحيث يجد الملائكة عند مشاهدة تلك الهيئة أن المعروض
معنى شجاعة أو معنى علم ويقرب ذلك ما يحصل في المرائي الحلمية. والحاصل أن الحال
المذكورة في الآية حالة عالم أوسع من عالم المحسوسات والمادة.
وإعادة ضمير
المذكر العاقل على المسميات في قوله : (عَرَضَهُمْ) للتغليب لأن أشرف المعروضات ذوات العقلاء وصفاتهم على أن
ورود مثله بالألفاظ التي أصلها للعقلاء طريقة عربية نحو قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦].
والداعي إلى هذا أن يعلم ابتداء أن المعروض غير الأسماء حتى لا يضل فهم السامع قبل
سماع قرينة (أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ).
وقوله تعالى : (فَقالَ أَنْبِئُونِي) تفريع على العرض وقرن بالفاء لذلك. والأمر في قوله : (أَنْبِئُونِي) أمر تعجيز بقرينة كون المأمور يعلم أن الآمر عالم بذلك
فليس هذا من التكليف بالمحال كما ظنه بعض المفسرين. واستعمال صيغة الأمر في
التعجيز مجاز ، ثم إن ذلك المعنى المجازي يستلزم علم الآمر بعجز المأمور وذلك
يستلزم علم الآمر بالمأمور به.
والإنباء الإخبار
بالنبإ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة والأهمية بحيث يحرص السامعون على اكتسابه ،
ولذلك تضمن الإنباء معنى الإعلام لأن المخبر به يعد مما يعلم ويعتقد بوجه أخص من
اعتقاد مطلق الخبر فهو أخص من الخبر.
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق
إن كان قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) إلخ تعريضا بأنهم أحقاء بذلك ، أو أراد إن كنتم صادقين في
عدم جدارة آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] كان
قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ) [البقرة : ٣٠]
لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة
الاعتراض على ما اخترناه.
ووجه الملازمة بين
الإنباء بالأسماء وبين صدقهم فيما ادعوه التي اقتضاها ربط
الجزاء بالشرط أن
العلم بالأسماء عبارة عن القوة الناطقة الصالحة لاستفادة المعارف وإفادتها ، أو
عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وخصائصها ، أو عبارة عن معرفة أسماء الذوات والمعاني
، وكل ذلك يستلزم ثبوت العالمية بالفعل أو بالقوة ، وصاحب هذا الوصف هو الجدير
بالاستخلاف في العالم لأن وظيفة هذا الاستخلاف تدبير وإرشاد وهدى ووضع الأشياء
مواضعها دون احتياج إلى التوقيف في غالب التصرفات ، وكل ذلك محتاج إلى القوة
الناطقة أو فروعها ، والقوى الملكية على شرفها إنما تصلح لأعمال معينة قد سخرت لها
لا تعدوها ولا تتصرف فيها بالتحليل والتركيب ، وما يذكر من تنوع تصرفها وصواب
أعمالها إنما هو من توجيه الله تعالى إياها وتلقينه المعبر عنه بالتسخير ، وبذلك
ظهر وجه ارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط وقد تحير فيه كثير.
وإذا انتفى
الإنباء انتفى كونهم صادقين في إنكارهم خلافة آدم ، فإن كان محل الصدق هو دعواهم
أنهم أجدر فقد ثبت عدمها ، وإن كان محل التصديق هو دعواهم أن البشر غير صالح للاستخلاف
فانتفاء الإنباء لا يدل على انتفاء دعواهم ولكنه تمهيد له لأن بعده إنباء آدم
بالأسماء لأن المقام مؤذن بأنهم لما أمروا أمر تعجيز وجعل المأمور به دلالة على
الصدق كان وراء ذلك إنباء آخر مترقبا من الذي طعنوا في جدارته ويدل لذلك أيضا قوله
تعالى لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠].
[٣٢] (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا
إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢))
جرد (قالُوا) من الفاء لأنه محاورة كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها) [البقرة : ٣٠]
وافتتاح كلامهم بالتسبيح وقوف في مقام الأدب والتعظيم لذي العظمة المطلقة ، وسبحان
اسم التسبيح وقد تقدم عند قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ) [البقرة : ٣٠] وهو
اسم مصدر سبّح المضاعف وليس مصدرا لأنه لم يجىء على أبنية مصادر الرباعي وقيل هو مصدر
سبح مخففا بمعنى نزه فيكون كالغفران والشكران ، والكفران من غفر وشكر وكفر وقد كثر
استعماله منصوبا على المفعولية المطلقة بإضمار فعله ك (مَعاذَ اللهِ) [يوسف : ٢٣] وقد
يخرج عن ذلك نادرا قال : «سبحانك اللهم ذا السبحان» وكأنهم لما خصصوه في الاستعمال
بجعله كالعلم على التنزيه عدلوا عن قياس اشتقاقه فصار سبحان كالعلم الجنسي مثل برة
وفجار ـ بكسر الراء ـ في قول النابغة :
فحملت برّة واحتملت فجار
ومنعوه من الصرف
للعلمية وزيادة الألف والنون قال سيبويه : وأما ترك تنوين (سبحان) فلأنه صار عندهم
معرفة وقول الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا
إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) خبر مراد منه الاعتراف بالعجز لا الإخبار عن حالهم لأنهم
يوقنون أن الله يعلم ما تضمنه كلامهم. ولا أنهم قصدوا لازم الفائدة وهي أن المخبر
عالم بالخبر فتعين أن الخبر مستعمل في الاعتراف.
ثم إن كلامهم هذا
يدل على أن علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى
وما يأمرهم ، فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها.
وفي تصدير كلامهم
بسبحانك إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم بقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] فهو
افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار. والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح ويحصل آخرا لا
ابتداء فكان افتتاح كلامهم بالتنزيه تعجيلا بما يدل على ملازمة جانب الأدب العظيم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ساقوه مساق التعليل لقولهم (لا عِلْمَ لَنا
إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض
مخلوقاته سبيلا إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبول
والاستعداد أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيئ لنا علمه بحسب فطرتنا. والذي
دل على أن هذا القول مسوق للتعليل وليس مجرد ثناء هو تصديره بإن في غير مقام رد
إنكار ولا تردد.
قال الشيخ في «دلائل
الإعجاز» ومن شأن إنّ إذا جاءت على هذا الوجه (أي أن تقع إثر كلام
وتكون لمجرد الاهتمام) أن تغني غناء الفاء العاطفة (مثلا) وأن تفيد من ربط الجملة
بما قبلها أمرا عجيبا فأنت ترى الكلام بها مقطوعا موصولا ، وأنشد قول بشار :
بكّرا صاحبيّ
قبل الهجير
|
|
إنّ ذاك النجاح
في التبكير
|
وقول بعض العرب :
فغنّها وهي لك
الفداء
|
|
إنّ غناء الإبل
الحداء
|
فإنهما استغنيا
بذكر إنّ عن الفاء ، وإن خلفا الأحمر لما سأل بشارا لما ذا لم يقل :
__________________
«بكرا فالنجاح في
التبكير» أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال : «فالنجاح» لصارت من كلام
المولدين (أي أجابه جوابا أحاله فيه على الذوق) وقد بين الشيخ عبد القاهر سببه.
وقال الشيخ في موضع آخر ألا ترى أن الغرض
من قوله : «إن ذاك النجاح في التبكير» أن يبيّن المعنى في قوله لصاحبيه «بكرا» وأن
يحتج لنفسه في الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة منه» ا ه.
(والعليم) الكثير
العلم وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل علم
ـ المكسور اللام ـ إلى علم بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما قررناه في
الرحيم ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقى اختلاف في أن وزن فعيل
يجيء لمعنى المبالغة وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلا لا يجيء للمبالغة.
(الحكيم) فعيل من
أحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل. وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من
الفساد والخلل ومنه حكمة الدابة (بالتحريك) للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه
من اختلال السير ، وأحكم فلان فلانا منعه قال جرير :
أبني حنيفة أحكموا
سفهاءكم
|
|
إني أخاف عليكم
أن أغضبا
|
والحكمة بكسر
الحاء ضبط العلم وكماله ، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي
الحكمة وأيّا ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو بن
معديكرب :
أمن ريحانة
الدّاعي السّميع
|
|
يؤرقني وأصحابي
هجوع
|
ومن شواهد النحو
ما أنشده أبو علي ولم يعزه :
فمن يك لم ينجب
أبوه وأمه
|
|
فإن لنا الأمّ
النجيبة والأب
|
أراد الأم المنجبة
بدليل قوله لم ينجب أبوه وفي القرآن (بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧]
ووصف الحكيم والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ببديع سماواته وأرضه أي على أن (أل) عوض عن المضاف إليه
فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة
__________________
الخلق فإن مساق
الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى مفعول ، ولا إلى تأويل
الحكيم بمعنى ذي الحكمة لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي.
وتعقيب العليم
بالحكيم من اتباع الوصف بأخص منه فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لأن
الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق.
وفي «معارج النور» للشيخ لطف الله الأرضرومي : وفي الحكيم ذو الحكمة وهي
العلم بالشيء وإتقان عمله وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له
ذات المدبر (بفتح الباء) والاطلاع على حقائق الأمور ا ه.
وقال أبو حامد
الغزالي في «المقصد
الأسنى» : الحكيم ذو
الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء ، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل
الأشياء هو الله وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره وجلالة العلم بقدر جلالة
المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو
العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها
خفاء ، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله ا ه. وسيجيء الكلام على الحكمة عند
قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩].
و (أَنْتَ) في (إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ضمير فصل ، وتوسيطه من صيغ القصر فالمعنى قصر العلم
والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين
راجعوا بقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] أو
تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين ، أو هو قصر حقيقي ادعائي
مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى.
[٣٣] (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ (٣٣))
(قالَ يا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ).
لما دخل هذا القول
في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضا كما تقدم في نظائره لأنه وإن كان
إقبالا بالخطاب على غير المخاطبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة
خطاب لهم لأن
المقصود من خطاب آدم بذلك أن يظهر عقبه فضله عليهم في العلم من هاته الناحية فكان
الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقا إليهم لقوله عقب ذلك : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
وابتداء خطاب آدم
بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في
الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن
الآمر والمخاطب ـ بالكسر ـ إذا تلطف مع المخاطب ـ بالفتح ـ أن يذكر اسمه ولا يقتصر
على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب ، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد
ذكر سجود النبي وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول : «يا محمد ارفع رأسك سل تعط
واشفع تشفّع» وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس :
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وربما جعلوا
النداء طريقا إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة
النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي.
(فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ).
الإنباء إخبارهم
بالأسماء ، وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم. والضمير المجرور بالإضافة ضمير
المسميات مثل ضمير (عَرَضَهُمْ) ، وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) [البقرة : ٣١].
وقوله : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) الضمير في (أنبأ) لآدم وفي (قال) ضمير اسم الجلالة وإنما
لم يؤت بفاعله اسما ظاهرا مع أنه جرى على غير من هو له أي عقب ضمائر آدم في قوله :
(أَنْبِئْهُمْ) و (أَنْبَأَهُمْ) لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم.
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
جواب (لما)
والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) [البقرة : ٣٠]
وعادت إليه ضمائر (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ) [البقرة : ٣٠] و (عَلَّمَ) [البقرة : ٣١] و (عَرَضَهُمْ) وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول
المحاورة : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) وذلك القول وإن لم يكن فيه : (أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صراحة إلا أنه يتضمنه
لأن عموم (ما لا تَعْلَمُونَ) يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) بيانا لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن (ما لا تَعْلَمُونَ) هو غيب السموات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله
:
(وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).
وإنما جيء
بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحجاج وهو إجمال
الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها
على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن
يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة. ونظيره قول صاحب موسى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ) [الكهف : ٧٨ ، ٧٩]
إلى قوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي) [الكهف : ٨٢] ثم
قال : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٨٢].
فجاء باسم إشارة البعيد تعظيما للتأويل بعد ظهوره. وهذه طريقة مسلوكة للكتاب
والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته
في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة» وأكثر الخطباء يفضي إلى الغرض من خطبته بعد
المقدمات والتمهيدات وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليما
للخلق وجريا على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة
لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين.
و (كُنْتُمْ) في قوله : (وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ) الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان فإن الذي يعلم ما
اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى.
وصيغة المضارع في (تُبْدُونَ) و (تَكْتُمُونَ) للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما
تجدد منهم.
ولبعضهم هنا
تكلفات في جعل (كُنْتُمْ) للدلالة على الزمان الماضي وجعل (تُبْدُونَ) للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون
وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه.
وقد جعل الله
تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري
لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله
تعالى في القيام
بما أراده من العمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري
إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائما مقام مباشرة قدرة الله
تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر ، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا
بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها
ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل
الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العلم إلا القوة الناطقة وهي قوة
التفكير التي أجلى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن
تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولا تقف
معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله
تعالى. والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أعجزهم وضع الأسماء للمسميات
وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا
مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم. ولم يكونوا مصادر
للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيرتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم
الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط ، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما
قال أبو الطيب :
ووضع الندى في
موضع السيف بالعلى
|
|
مضرّ كوضع السيف
في موضع الندى
|
والآية تقتضي مزية
عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم ولكنها لا تدل على أفضلية النوع
البشري على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القراقي في
الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة وإنما يعتمد التفضيل المطلق
مجموع الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر.
والاستفهام في
قوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة لا
يعلمون وقوعه ولا ينكرونه. وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام
التقريري يقحم فيه ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرّر حتى يخيّل إليه أنه
يسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسّع المقرّر عليه ذلك ولكنه
يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه ، فإذا أقر كان إقراره لازما له
لا مناص له منه. فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في
القرآن وبنى عليه صاحب «الكشاف» معاني آياته التي منها قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦]
وتوقف فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» ورده عليه شارحه. وقد يقع
التقرير بالإثبات
على الأصل نحو : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦]
وهو تقرير مراد به إبطال دعوى النصارى ، وقوله : (قالُوا أَأَنْتَ
فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) [الأنبياء : ٦٢].
[٣٤] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ
(٣٤))
عطف على جملة (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] عطف
القصة على القصة. وإعادة (إذ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه تنبيه على أن
الجملة مقصودة بذاتها لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن
بالاستقلال والاهتمام ، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصة معطوفة بفاء التفريع
فيقول : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وإن كان مضمونها في الواقع متفرعا على مضمون التي قبلها
فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيته عليهم إذ علم ما لم يعلموه
وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض
وما طرأ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء فإن الأصل في
الكلام أن يكون ترتيب نظمه جاريا على ترتيب حصول مدلولاته في الخارج ما لم تنصب
قرينة على مخالفة ذلك.
ولا يريبك قوله
تعالى في سورة الحجر [٢٨ ، ٢٩] (إِنِّي خالِقٌ
بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) لأن تلك حكت القصة بإجمال فطوت أنباءها طيّا جاء تبيينه في
ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها آية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم
لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماء وعرضها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها
وأنهم كانوا قبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم أن يكون مفسدا في الأرض بعد
أن لازموا جانب التوقف لما قال الله لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] ،
فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بيانا لكشف شبهتهم فاستحقوا أن
يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه.
وقد أريد من هذه
القصة إظهار مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته
حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عن فائدة من وجوده في هذا العالم ؛
وإظهار فضيلة المعرفة ، وبيان أن العالم حقيق بتعظيم من حوله إياه وإظهار ما
للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد ، وبيان أن الاعتراف بالحق من
خصال الفضائل
الملائكية ، وأن الفساد والحسد والكبر من مذام ذوي العقول.
والقول في إعراب (إذ)
كالقول الذي تقدم في تفسير قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].
وإظهار لفظ
الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله : (قالُوا سُبْحانَكَ) [البقرة : ٣٢]
وقوله : (فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ) [البقرة : ٣٣]
لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة
المعطوفة بأن تكون قصة مقصورة غير مندمجة في القصة التي قبلها.
وغير أسلوب إسناد
القول إلى الله فأتي به مسندا إلى ضمير العظمة (وَإِذْ قُلْنا) وأتي به في الآية السابقة مسندا إلى رب النبي (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) [البقرة : ٣٠]
للتفنن ولأن القول هنا تضمن أمرا بفعل فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة
الآمر ، وأما القول السابق بمجرد إعلام من الله بمراده ليظهر رأيهم ، ولقصد اقتران
الاستشارة بمبدإ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه
الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين. وأضيف إلى ضمير أشرف
المربوبين وهو النبي صلىاللهعليهوسلم كما تقدم عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
وحقيقة السجود
طأطأة الجسد أو إيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهد بالعيان كالسجود للملك
والسيد والسجود للكواكب ، قال تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] ،
وقال (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت : ٣٧] وقال
الأعشى :
فلما أتانا بعيد
الكرى
|
|
سجدنا له وخلعنا
العمارا
|
وقال أيضا :
يراوح من صلوات
الملي
|
|
ك طورا سجودا
وطورا جؤارا
|
أو لمشاهد بالتخيل
والاستحضار وهو السجود لله ، قال تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا) [النجم : ٦٢].
والسجود ركن من
أركان الصلاة في الإسلام. وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم
، وقد جمع معانيه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل : ٤٩].
فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم.
وقد عرف السجود
منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد عى الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل
المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعا أمام الشمس ، ووجدت على الآثار المصرية صور
أسرى الحرب سجدا لفرعون ، وهيآت السجود تختلف باختلاف العوائد. وهيئة سجود الصلاة
مختلفة باختلاف الأديان. والسجود في صلاة الإسلام الخرور على الأرض بالجبهة
واليدين والرجلين.
وتعدية (اسْجُدُوا) لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل
دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم : ٦٢]
وقوله : (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت : ٣٧] ولا
يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في
الشرائع الأخرى ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت
تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة
للساجدين كالكعبة للمسلمين ، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في
قول حسان :
أليس أول من صلى
لقبلتكم
فإن للضرورة
أحكاما. لا يناسب أن يقال بها أحسن الكلام نظاما.
وفي هذه الآية
منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم
آدم علما لم يؤهل له الملائكة كان قد جعل آدم أنموذجا للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد
والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم.
وقرأ أبو جعفر في
أشهر الرواية عنه (للملائكة اسجدوا) بضمة على التاء في حال الوصل على اتباع حركة
التاء لضمة الجيم في (اسجدوا) لعدم الاعتداد بالساكن الفاصل بين الحرفين لأنه حاجز
غير حصين ، وقراءته هذه رواية وهي جرت على لغة ضعيفة في مثل هذا فلذلك قال الزجاج
والفارسي : هذا خطأ من أبي جعفر ، وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة
الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقراءة الحسن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ـ
بكسر الدال ـ قال ابن جني : وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه
__________________
أبو جعفر إذا كان
ما قبل الهمزة ساكنا صحيحا نحو : (وَقالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَ) في سورة يوسف [٣١] ا ه وإنما حملوا عليه هذه الحملة لأن
قراءته معدودة في القراءات المتواترة فما كان يحسن فيها مثل هذا الشذوذ ، وإن كان
شذوذا في وجوه الأداء لا يخالف رسم المصحف.
وعطف (فَسَجَدُوا) بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم
يصدّهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء
لأنهم منزّهون عن المعاصي.
واستثناء إبليس من
ضمير الملائكة في (فَسَجَدُوا) استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى
في سورة الكهف [٥٠] (إِلَّا إِبْلِيسَ
كانَ مِنَ الْجِنِ) ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب
على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في
مظنة أن يكون مماثلا لمن هو فيهم.
وقد دلت الآية على
أن إبليس كان مقصودا في الخبر الذي أخبر به الملائكة إذ قال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] وفي
الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغمورا بنوع الملك
إذ خلق الله من نوعهم أفرادا كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣٠] ولم
يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس ، وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم.
وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنتهم فجرى على
ذلك السّنن أمدا طويلا لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار
إليه قوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ) في سورة الكهف [٥٠] فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم.
وإبليس اسم
الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين ، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم
لنوع الإنسان. وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة ، ولكن يدل
لكونه معربا أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل
الزجاج همزته أصلية ، وقال وزنه على فعليل. وقال أبو عبيدة : هو اسم عربي مشتق من
الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لو لا أنه يناكد
منعه من الصرف وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه
من الصرف بأنه لما
لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك. وأكثر
الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا
ذلك وصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها.
وجمل (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في
السجود لآدم ، شأنه أن يثير سؤالا في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف
خالف حال جماعته وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن
الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة :
وهل أنا إلا من
غزيّة إن غوت
|
|
غويت وإن ترشد
غزية أرشد
|
فبين السبب بأنه
أبى واستكبر وكفر بالله.
والإباء الامتناع
من فعل أو تلقيه. والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيرا
مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى
استكبر اتصف بالكبر. والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقا لأن
يسجد هو له إنكارا عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل
قوله : (قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢]
وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ،
لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠]
فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة ، فاستحالت إلى جبلة أخرى على
نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله وللقادر حين تشل بعض أعضائه ، ومن العلل
علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال :
فكنت كذي رجلين
رجل صحيحة
|
|
ورجل رمى فيها
الزمان فشلت
|
والاستكبار
التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت ، ومن لطائف
اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجىء منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل
إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلبا الكبر أو متكلفا له وما هو بكبير
حقا ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء :
علوتم فتواضعتم
على ثقة
|
|
لما تواضع أقوام
على غرر
|
وحقيقة الكبر قال
فيها حجة الإسلام في كتاب «الإحياء» : الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون
إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه ، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به
وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم
المرء نفسه ليكون متكبرا فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو
مماثلا لها فلا يتكبر عليه ، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه
أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة
ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر
وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد ، وعز
في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر.
وقد كانت هذه
الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من
حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور : الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به
للمستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى
سواء كان الكلام مثبتا أو منفيا. ويظهر ذلك جليا في كلمة الشهادة لا إله إلا الله
فإنه لو لا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه
لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها
الوحدانية لله بالالتزام.
وقال أبو حنيفة الاستثناء
من كلام منفي يثبت للمستثنى نقيض ما حكم به للمستثنى منه ، والاستثناء من كلام
مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به ، فالمستثنى
بمنزلة المسكوت عن وصفه ، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به
للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه.
وسوى المتأخرون من
الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد
المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة
ولا موارد استعماله في الشريعة.
فعلى رأي الجمهور
تكون جملة (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) استئنافا بيانيا ، وعلى رأي الحنفية تكون بيانا للإجمال
الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين.
وجملة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) معطوف على الجمل المستأنفة ، و (كان) لا تفيد إلا أنه اتصف
بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية ، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من
السجود لآدم ، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل (كان)
على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود ، ومن البديهي
أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من
الكافرين أي في علم الله ، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهرا الطاعة مبطنا الكفر
نفاقا ، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه
مما أشار إليه قوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] وكل
ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضى الفعل قبل وقت التكلم ،
وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال
تعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود : ٤٣] وقال :
(وَبُسَّتِ الْجِبالُ
بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ، ٦]
وقول ابن أحمر :
بتيهاء قفر
والمطي كأنها
|
|
قطا الحزن قد
كانت فراخا بيوضها
|
أي صار كافرا بعدم
السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق
الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة
الله تعالى فلذلك صار به كافرا صراحا.
والذي أراه أحسن
الوجوه في معنى (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) فعدل عن مقتضى الظاهر إلى (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) لدلالة (كان) في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في
اسمها ، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفرا عميقا في نفسه وهذا كقوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا
امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [الأعراف : ٨٣] ،
وكقوله تعالى : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي
أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) [النمل : ٤١] دون
أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في
الاتصاف بعدم الاهتداء ، وأما الإتيان بخبر (كانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) دون أن يقول وكان كافرا فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان
كون الموصوف واحدا من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو
أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكا بفعله إذا كان قد شاركه فيه
جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في
سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى :
(أَصَدَقْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل : ٢٧]
وقوله الذي ذكرناه آنفا (أَمْ تَكُونُ مِنَ
الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم
يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيدا في الكفر. وهذا منزع انتزعه من تتبع
موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة (كان) وخصوصية إثبات
الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريبا عن قوله تعالى
: (وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣].
وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) جاريا على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي.
وفي هذا العدول عن
مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضا ، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في
الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب
الكلام مطابقا لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود : ٧٧] وقد
أشرت إلى ذلك في كتابي «أصول الإنشاء الخطابة».
[٣٥] (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥))
عطف على (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) [البقرة : ٣٤] أي
بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة. وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم
بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاء الملائكة.
ونداء آدم قبل
تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى ، لأن نداءه يسترعي
إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به ، وينتزع من هذه الآية أن العالم
جدير بالإكرام بالعيش الهنيء ، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم.
والأمر بقوله : (اسْكُنْ) مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمرا له بأن
يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به.
وضمير (أنت) واقع
لأجل عطف (وَزَوْجُكَ) على الضمير المستتر في (اسْكُنْ) وهو استعمال العربية عند عطف اسم ، على ضمير متصل مرفوع
المحل لا يكادون يتركونه ، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير
مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه
المعطوف عليه أبرز
منه في الكلام ، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيدا تأكيدا للنسبة لأن الإتيان
بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم
مريد به تأكيدا ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في «الكشاف» بمجموع قوله : وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف
عليه.
والزوج كل شيء ثان
مع شيء آخر بينهما تقارن في حال ما. ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في
الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره ، فكل واحد من اثنين
مقترنين في حال ما يسمى زوجا للآخر قال تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً) [الشورى : ٥٠] أي
يجعل لأحد الطفلين زوجا له أي سواه من غير صنفه ، وقريب من هذا الاستعمال استعمال
لفظ شفع.
وسميت الأنثى
القرينة للرجل بنكاح زوجا لأنها اقترنت به وصيرته ثانيا ، ويسمى الرجل زوجا لها
لذلك بلا فرق ، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصفه. وقد
لحنوا الفرزدق في قوله :
وإن الذي يسعى
ليفسد زوجتي
|
|
كساع إلى أسد
الثرى يستبيلها
|
وتسامح الفقهاء في
إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير
الأحكام في كتبهم في مثل قولهم : القول قول الزوج ، أو القول قول الزوجة وهو صنيع
حسن.
وفي «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك «أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال
له : هذه زوجتي فلانة» الحديث ، فقوله : زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي
الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبي صلىاللهعليهوسلم.
وطوى في هذه الآية
خلق زوج آدم ، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١]
وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف [١٨٩].
ولم يرد اسم زوج
آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في «طبقاته» عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملئوه» الحديث (طف
المكيال ـ بفتح الطاء وكسرها ـ ما قرب من ملئه) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال
من البشر قابل للزيادة.
وخالد بن خداش
بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني. فاسم زوج آدم عند
العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه ، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن
اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال : لأنها من امرئ أخذت. وفي الإصحاح الثالث أن آدم
دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي. وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه
فاستيقظ ووجدها عنده فقال : أثا أي امرأة بالنبطية ، أي اسمها بالنبطية المرأة كما
سماها آدم. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ) [البقرة : ٣١] أن
آدم دعا نفسه ، إيش ، فلعل أثا محرقة عن إشّا. واسمها بالعبرية (خمواه) بالخاء
المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضا حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية
حواء وصارت في الطليانية إيپا وفي الفرنسية أيپ. وفي التوراة أن حواء خلقت في
الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ
إِلَيْها) [الأعراف : ١٨٩]
أي يأنس.
والأمر في (اسْكُنْ) أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة. والكنى
اتخاذ المكان مقرا لغالب أحوال الإنسان.
والجنة قطعة من
الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل
من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله ،
فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات.
وتعريف (الجنة)
تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في (الجنة) حكاية لما
يرادفه فيما خوطب به آدم ، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا
بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول.
وقد اختلف علماء
الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد
الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي
في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من
علماء الكلام وأبو علي الجبائي ، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية
عن النبي صلىاللهعليهوسلم. ولا تعدو أنها ظواهر كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس
لهذه القضية تأثير في العقيدة.
وذهب أبو مسلم
الأصفهاني محمد بن بحر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في
الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه ، ونقل البيضاوي عنهم
أنها بستان في
فلسطين أو هو بين فارس وكرمان ، وأحسب أن هذا ناشئ عن تطلبهم تعيين المكان الذي
ذكر ما يسمى في التوراة باسم عدن.
ففي التوراة في
الإصحاح الثاني من سفر التكوين «وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها
ويحفظها ـ ثم قالت ـ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها»
وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عدن في
الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة
ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس اسم الواحد (قيشون) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة
وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني (جيحون) وهو المحيط
بجميع أرض كوش ، واسم النهر الثالث (حدّا قل) وهو الجاري شرق أشور (دجلة). والنهر
الرابع الفرات.
ولم أقف على ضبط
عدن هذه. ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا وأسلم وألف
كتابا في الرد على اليهود سماه «الحسام
المحدود في الرد على اليهود» كتبه بغيدن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر
الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين
أنها بعدن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان ، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب
دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خلد لا يخرج ساكنها ، وهو
التجاء بلا ملجئ لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلّه جعل الله
تعالى عند ما أراده.
واحتج أهل السنة
بأن أل في (الجنة) للعهد الخارجي ولا معهود غيرها ، وإنما تعين كونها للعهد
الخارجي لعدم صحة الحمل على الجنس بأنواعه الثلاثة ، إذ لا معنى للحمل على أنها
لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو
الرجل خير من المرأة ، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا
مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقا بجنة معروفة ،
ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك. ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون
متعلقا بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع.
وقد يقال يختار أن
اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد
ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة
لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي
خوطب بها آدم أو
عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف (الجنة) منظورا فيه إلى متعارفنا فيكون
آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حكي لنا ذلك بطريقة
التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه
الطريق الآخر الذي عرف به آدم مراد الله تعالى ، أي قلنا له اسكن البقعة التي
تسمونها أنتم اليوم بالجنة ، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أسكنها آدم هي الجنة
المعدودة دارا لجزاء المحسنين.
ومعنى الأكل من
الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثمارا وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل (من)
تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان. ويجوز أن تكون (من)
ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثّمر
من خيبر.
والرغد وصف لموصوف
دل عليه السياق أي أكلا رغدا ، والرغد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير.
وقوله : (حَيْثُ شِئْتُما) ظرف مكان أي من أي مواضع أردتما الأكل منها ، ولما كانت
مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم ، وفي جعل الأكل من
الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة
للإنسان لا تدوم حياته إلا به.
وقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) يعني به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد
الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشئ
داعية وميلا إليه ففيه الحديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وقال ابن العربي
سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : (إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه لا
تتلبس بالفعل ، وإذا قيل بضم الراء كان معناه لا تدن منه) ا ه. وهو غريب فإن قرب
وقرب نحو كرم وسمع بمعنى دنا ، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد
النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي
وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز ، اللهم إلا أن
يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك
حسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بعد
مكسور العين بالانقطاع التام وبعد مضموم العين بالتنحّي عن
المكان ولذلك خص
الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعد ، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية :
إخوتي لا تبعدوا
أبدا
|
|
وبلى والله قد
بعدوا
|
وفي تعليق النهي
بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أصول مذهب مالك رحمهالله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه.
والإشارة بهذه إلى
شجرة مرئية لآدم وزوجه ، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرة وحيدة في الجنة.
وقد اختلف أهل
القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها
الكرمة ، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة ، وعن قتادة وابن جريج
ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين. ووقع في سفر التكوين من
التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر.
وقوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو
الاعتداء ، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزم
بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من
الشجرة بقاء فضيلة التنعم لآدم في الجنة ، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب
الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة.
[٣٦] (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦))
الفاء عاطفة على
قوله : (وَلا تَقْرَبا) [البقرة : ٣٥]
وحقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفيا لأن وقوع الإزلال كان بعد مضي مدة هي
بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأمد القليل. والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة
عن التعقيب.
والإزلال جعل
الغير زالّا أي قائما به الزلل وهو كالزلق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار
لارتخاء الأرض بطين ونحوه ، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة ، وهو مجاز مشهور في صدور
الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل.
والضمير في قوله :
(عَنْها) يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب
الزلة وسبب الخروج
من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائدا إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج. و
(عن) في أصل معناها أي أزلهما إزلالا ناشئا عن الشجرة أي عن الأكل منها ، وتقدير
المضاف دل عليه قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ) ، وليست (عن) للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى
كما قال أبو عبيدة في قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى) [النجم : ٣] أن
معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي : الأولى أن (عن) بمعناها وأن الجار والمجرور
صفة لمصدر محذوف أي نطقا صادرا عن الهوى. ويجوز كون الضمير للجنة وتكون (عن) على
ظاهرها والإزلال مجازا في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن
يزل عن موقفه فيسقط كقوله : «وكم منزل لولاي طحت».
وقوله : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة ، والمراد من
الموصول وصلته التعظيم ، كقولهم قد كان ما كان ، فإن جعلت الضمير في قوله : (عَنْها) عائدا إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصّل عن المجمل
وكانت الفاء للترتيب الذكري المجرّد كما في قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤]
وقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر : ٩]. أما
دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي.
وقرأ حمزة «فأزالهما»
بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد ، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون
ضمير (عَنْها) عائدا إلى الجنة لا إلى الشجرة. وقد نبه عليه بخصوصه مع
العلم بأن من خرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضارا لهذه الخسارة العظيمة في
ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفى
فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما
غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨].
وتفيد الآية إثارة
الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى
وموعظة تنبّه بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى
هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربية العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سببا
في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبدا ثارا لأبيهم معادين للشيطان ووسوسته
مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧]
وقوله هنا : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ). وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم
يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومن
غلبهم في الحروب
ليكون ذلك باعثا على أخذ الثأر.
وعطف (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) بالواو دون الفاء لأنه ليس متفرّع عن الإخراج بل هو متقدم
عليه ولكن ذكر الإخراج قبل هذا لمناسبة سياق ما فعله الشيطان وغروره بآدم فلذلك
قدم قوله : (فَأَخْرَجَهُما) إثر قوله : (فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ). ووجه جمع الضمير في (اهْبِطُوا) قيل لأن هبوط آدم وحواء اقتضى أن لا يوجد نسلهما في الجنة
فكان إهباطهما إهباطا لنسلهما ، وقيل الخطاب لهما ولإبليس وهو وإن أهبط عند إبايته
السجود كما أفاده قوله تعالى في سورة الأعراف (قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما
يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف : ١٢ ،
١٣] إلى قوله (قالَ اخْرُجْ مِنْها
مَذْؤُماً مَدْحُوراً) [الأعراف : ١٨]
إلى قوله (وَيا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [الأعراف : ١٩]
فهذا إهباط ثان فيه تحجير دخول الجنة عليه والإهباط الأول كان إهباط منع من
الكرامة مع تمكينه من الدخول للوسوسة وكلا الوجهين بعيد ، فالذي أراه أن جمع
الضمير مراد به التثنية لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإضمار من قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) [البقرة : ٣٥]
والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي
عليّ مطيّهم
|
|
يقولون لا تهلك
أسى وتجمل
|
وإنما له صاحبان
لقوله : «قفا نبك» إلخ وقال تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) وسيأتي في سورة التحريم [٤].
وقوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن.
إن كان الضمير في (اهْبِطُوا) لآدم وزوجه وإبليس ، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع
البشر ، إن كان ضمير (اهْبِطُوا) لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاما لهما بأثر من آثار عملهما يورث
في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما
يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان
عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى
: (إِنَّ مِنْ
أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة
والمصاحبة وقد قال أبو تمام :
لأعديتني بالحلم
إن العلا تعدي
ووجه المناسبة بين
هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من
الشجرة كان مخالفة
لأمر الله تعالى ورفضا له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على
جلب نفع لأنفسهما ، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي
نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس
لهما : (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا
مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠]
فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها
رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير ، فلا جرم كان
بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما
والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ
على عقل أبويهما ، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن
بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في
منفعة أو لسوء ظن به في مضرة. وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق
حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل
فيصير خلقا وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سببا في اضمحلال ذلك
الخاطر ، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها
حسنة وأمرت بخواطر الخير فكان جزاء مجرد الهمّ بالحسنة حسنة ولو لم يعملها وكان
العمل بذلك الهم عشر حسنات كما ورد في الحديث الصحيح : «من همّ بحسنة فلم يعملها
كتبها الله عنده حسنة كاملة ـ ثم قال ـ ومن همّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة» وجعل
العفو عن حديث النفس منّة من الله تعالى ومغفرة في حديث «إن الله تجاوز عن أمتي
فيما حدثت به نفوسها».
إن الله تعالى خلق
الإنسان خيّرا سالما من الشرور والخواطر الشريرة على صفة ملكية وهو معنى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] ثم
جعله أطوارا فأولها طور تعليمه النطق ووضع الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأ المعرفة
وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضا ما علمه وجهله الآخر فكان إلهامه اللغة
مبدأ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علّم الناس بعضهم
بعضا ولذلك ترى الصبي يرى الشيء فيسرع إلى قرنائه يناديهم ليروه معه حرصا على
إفادتهم فكان الإنسان معلّما بالطبع وكان ذلك معينا على خيريته إلا أنه صالح أيضا
لاستعمال النطق في التمويه والكذب ؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلّفه بما
في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص
والاستئثار فكان خلق الله تعالى إياه على
تلك الاستطاعة
مبدأ طور جديد هو المشار إليه بقوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٥] ، ثم
هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه
الأول وذلك معنى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٦] وقد
أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) [البقرة : ٣٨]
الآية.
وجملة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إما مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإما جملة حال من ضير (اهْبِطُوا) وهي اسمية خلت من الواو ، وفي اعتبار الجملة الاسمية
الخالية من الواو حالا خلاف بين أئمة العربية ، منع ذلك الفراء والزمخشري وأجازه
ابن مالك وجماعة. والحق عندي أن الجملة الحالية تستغني بالضمير عن الواو وبالواو
عن الضمير فإذا كانت في معنى الصفة لصاحبها اشتملت على ضميره أو ضمير سببه فاستغنت
عن الواو نحو الآية ونحو جاء زيد يده على رأسه أو أبوه يرافقه ، وإلا وجبت الواو
إذ لا رابط حينئذ غيرها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقول تأبط شرا :
فخالط سهل الأرض
لم يكدح الصّفا
|
|
به كدحة والموت
خزيان ينظر
|
وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) ضميره راجع إلى ما رجع إليه ضمير (اهْبِطُوا) على التقادير كلها. والحين الوقت والمراد به وقت انقراض
النوع الإنساني والشيطاني بانقراض العالم ، ويحتمل أن يكون المراد من ضمير (لَكُمْ) التوزيع أي ولكل واحد منكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.
وإنما كان ذلك متاعا لأن الحياة أمر مرغوب لسائر البشر على أن الحياة لا تخلو من
لذات وتمتع بما وهبنا الله من الملائمات. هذا إن أريد بالخبر المجموع أي لجميعكم
وإن أريد به التوزيع فالحين هو وقت موت كل فرد على حدّ قولك للجيش : هذه الأفراس
لكم أي لكل واحد منكم فرس.
[٣٧] (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ
فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))
جاء بالفاء إيذانا
بمبادرة آدم بطلب العفو. والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنبياء : ١٠٣]
ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه
وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقى فلا يدل على كون الملاقى محبوبا
بل تقول لاقى العدو. واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر ،
قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) [الأنفال : ٤٥]
الآية فالتعبير بتلقى هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له
فعلم أنها ليست
كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله
تعالى ليقولها طالبا المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن
أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة ، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف (فَتابَ عَلَيْهِ) بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب.
وتلقي آدم للكلمات
إما بطريق الوحي أو الإلهام. ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة
جدوى الاشتغال بذلك ، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من
الكلام الصالح والفعل الصالح.
ولم تذكر توبة
حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله : (قالا رَبَّنا
ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣]
لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه ، وإنما لم يذكر في
هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان
الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود.
وأصل معنى تاب رجع
ونظيره ثاب بالمثلثة ، ولما كانت التوبة رجوعا من التائب إلى الطاعة ونبذا للعصيان
وكان قبولها رجوعا من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي
عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا
الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان
أصله مبنيا على المشاكلة.
والتوبة تتركب من
علم وحال وعمل ، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى
ندما ، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة ، وأما
الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث : «الندم توبة» قاله الغزالي ،
قلت : أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة.
ثم التعبير بتاب
عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتبا
عليها جزاء عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديبا عاجلا لأن الإنسان
يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا
يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة
اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد ، وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب
الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام ، على أن نبوءة آدم فيما يظهر
كانت بعد النزول
إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة.
وعندي ـ وبعضه
مأخوذ من كلامهم ـ أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل
الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان
الجزاء عليها جاريا على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية ،
فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل
هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك ، وتوبة الله
عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب ، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من
لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله
بعد ذلك : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) إلى قوله (خالِدُونَ) [البقرة : ٣٨ ، ٣٩]
فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض
الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه
وامتناعه من السجود؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة
بالمشاهدة حصولا أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس
الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه
بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكارا
لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به. وأما الأمر والنهي والطاعة
والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما
حصلت بقوله تعالى لهم : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) الآية فظهر الفرق.
وقرأ الجمهور (آدَمُ) بالرفع و (كَلِماتٍ) بالنصب ، وقرأه ابن كثير بنصب (آدم) ورفع (كلمات) على
تأويل (تلقى) بمعنى بلغته كلمات فيكون التلقي مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية.
وقوله : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تذييل وتعليل للجملة السابقة وهي (فَتابَ عَلَيْهِ) لأنه يفيد مفادها مع زيادة التعميم والتذييل من الإطناب
كما تقرر في علم المعاني. ومعنى المبالغة في التواب أنه الكثير القبول للتوبة أي
لكثرة التائبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي بعلى الذي هو بمعنى قبول التوبة
إيذان بأن ذلك لا يخص تائبا دون آخر وهو تذييل لقوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ) المؤذن بتقدير تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب
بمعنى الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا فإن أمثلة المبالغة قد تجيء من غير التكاثر
فالتواب
هنا معناه الملهم
التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب.
وتعقيبه بالرحيم
لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم
وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه
الآثام ، وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل
هنا بوعد من الله.
[٣٨ ، ٣٩] (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))
كررت جملة (قُلْنَا اهْبِطُوا) فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية
من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا
التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) [البقرة : ٣٦]
وذلك قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦]
وقوله : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). إذ قد فصل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ
فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧]
فإنه لو عقب ذلك بقوله : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين
على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا) فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف (قُلْنَا) لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) من قوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى عليه قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الآية وهو مغاير لما بنى على قوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة (اهْبِطُوا) مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو
قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨]
وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ .
__________________
وقيل هو أمر ثاني
بالهبوط بأن أهبط آدم من الجنة إلى السماء الدنيا بالأمر الأول ثم أهبط من السماء
الدنيا إلى الأرض فتكون إعادة (قُلْنَا اهْبِطُوا) للتنبيه على اختلاف زمن القولين والهبوط وهو تأويل يفيد أن
المراحل والمسافات لا عبرة بها عند المسافر ولأن ضمير (مِنْها) المتعين للعود إلى الجنة لتنسق الضمائر في قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) [البقرة : ٣٥]
وقوله : (فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها) [البقرة : ٣٦]
مانع من أن يكون المراد اهبطوا من السماء جميعا إذ لم يسبق معاد للسماء فالوجه
عندي على تقدير أن تكون إعادة (اهْبِطُوا) الثاني لغير ربط نظم الكلام أن تكون لحكاية أمر ثان لآدم
بالهبوط كيلا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر
بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول
توبته ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى وطور من الأطوار التي
أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض وهو ما أخبر به الملائكة.
وفيه إشارة أخرى
وهي أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات. وأما تحقيق آثار المخالفة وهو
العقوبة التأديبية فإن العفو عنها فساد في العالم لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير
أثر فعله لم يتأدب في المستقبل فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة ، فإن
الصبي إذا لوث موضعا وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه فالعفو يتعلق بالعقاب وأما
تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه ولذا
لما تاب الله على آدم رضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا ولكنه لم
يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه ، هكذا
ينبغي أن يكون التوجيه إذا كان المراد من (اهْبِطُوا) الثاني حكاية أمر ثان بالهبوط خوطب به آدم.
و (جَمِيعاً) حال. وجميع اسم للمجتمعين مثل لفظ (جمع) فلذلك التزموا فيه
حالة واحدة وليس هو في الأصل وصفا وإلا لقالوا جاءوا جميعين لأن فعيلا بمعنى فاعل
يطابق موصوفه وقد تأولوا قول امرئ القيس :
فلو أنها نفس تموت
جميعة
بأن التاء فيه
للمبالغة والمعنى اهبطوا مجتمعين في الهبوط متقارنين فيه لأنهما استويا في اقتراف
سبب الهبوط.
وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً
فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) شرط على شرط لأن (إما) شرط مركب من إن الشرطية وما الزائدة
دالة على تأكيد التعليق لأن إن بمجردها دالة على الشرط فلم يكن دخول ما الزائدة
عليها كدخولها على (متى) و (أي) و (أين) و (أيان) و (ما) و (من) و (مهما) على
القول بأن أصلها ماما لأن تلك كانت زيادتها لجعلها مفيدة معنى الشرط فإن هذه
الكلمات لم توضع له بخلاف (إن) وقد التزمت العرب تأكيد فعل الشرط مع إما بنون
التوكيد لزيادة توكيد التعليق بدخول علامته على أداته وعلى فعله فهو تأكيد لا يفيد
تحقيق حصول الجواب لأنه مناف للتعليق ، ولذلك لم يؤكد جواب الشرط بالنون بل يفيد
تحقيق الربط أي إن كون حصول الجواب متوقفا على حصول الشرط أمر محقق لا محالة فإن
التعليق ما هو إلا خبر من الأخبار ، إذ حاصله الإخبار بتوقف حصول الجزاء على حصول الشرط
فلا جرم كان كغيره من الأخبار قابلا للتوكيد وقلما خلا فعل الشرط مع إما عن نون
التوكيد كقول الأعشى :
إما ترينا حفاة
نعال لنا
|
|
إنا كذلك ما
نحفي وننتعل
|
وهو غير حسن عند
سيبويه والفارسي ، وقال المبرد والزجاج هو ممنوع فجعلا خلو الفعل عنه ضرورة.
وقوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) من شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لأن الفاء وإن دخلت في خبر الموصول كثيرا فذلك على معاملته
معاملة الشرط فلتحمل هنا على الشرطية اختصارا للمسافة.
وأظهر لفظ الهدى
في قوله : (هُدايَ) وهو عين الهدى في قوله : (مِنِّي هُدىً) فكان المقام للضمير الرابط للشرطية الثانية بالأولى لكنه
أظهر اهتماما بالهدى ليزيد رسوخا في أذهان المخاطبين على حد (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ
رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦]
ولتكون هاته الجملة مستقلة بنفسها لا تشتمل على عائد يحتاج إلى ذكر معاد حتى يتأتى
تسييرها مسير المثل أو النصيحة فتلحظ فتحفظ وتتذكرها النفوس لتهذب وترتاض كما أظهر
في قوله : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء : ٨١]
لتسير هذه الجملة الأخيرة مسير المثل ومنه قول بشار :
إذا بلغ الرأي
المشورة فاستعن
|
|
برأي نصيح أو
نصيحة حازم
|
ولا تجعل الشورى
عليك غضاضة
|
|
مكان الخوافي
قوة للقوادم
|
وأدن إلى
الشّورى المسدّد رأيه
|
|
ولا تشهد الشورى
امرأ غير كاتم
|
فكرر الشورى ثلاث
مرات في البيتين الثاني والثالث ليكون كل نصف سائرا مسير المثل وبهذا يظهر وجه
تعريف الهدى الثاني بالإضافة لضمير الجلالة دون أل مع أنها الأصل في وضع الظاهر
موضع الضمير الواقع معاد لئلا يفوت هاته الجملة المستقلة شيء تضمنته الجملة الأولى
إذ الجملة الأولى تضمنت وصف الهدى بأنه آت من الله والإضافة في الجملة الثانية
تفيد هذا المفاد.
والإتيان في قوله تعالى : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ) بحرف الشرط الدال على عدم الجزم بوقوع الشرط إيذان ببقية
من عتاب على عدم امتثال الهدى الأول وتعريض بأن محاولة هديكم في المستقبل لا جدوى
لها كما يقول السيد لعبده إذا لم يعمل بما أوصاه به فغضب عليه ثم اعتذر له فرضي
عنه : إن أوصيتك يوما آخر بشيء فلا تعد لمثل فعلتك ، يعرض له بأن تعلق الغرض
بوصيته في المستقبل أمر مشكوك فيه إذ لعله قليل الجدوى ، وهذا وجه بليغ فات صاحب «الكشاف» حجبه عنه توجيه تكلّفه لإرغام الآية على أن تكون دليلا
لقول المعتزلة بعدم وجوب بعثة الرسل للاستغناء عنها بهدي العقل في الإيمان بالله
مع كون هدي الله تعالى الناس واجبا عندهم ، وذلك التكلف كثير في «كتابه» وهو لا يليق برسوخ
__________________
قدمه في العلم ،
فكان تقريره هذا كالاعتذار عن القول بعدم وجوب بعثة الرسل على أن الهدى لا يختص
بالإيمان الذي يغني فيه العقل عن الرسالة عندهم بل معظمه هدي التكاليف وكثير منها
لا قبل للعقل بإدراكه ، وهو على أصولهم أيضا واجب على الله إبلاغه للناس فيبقى
الإشكال على الإتيان بحرف الشك هنا بحالة فلذلك كانت الآية أسعد بمذهبنا أيها
الأشاعرة من عدم وجوب الهدي كله على الله تعالى لو شئنا أن نستدل بها على ذلك كما
فعل البيضاوي ولكنا لا نراها واردة لأجله.
وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الآية هو في معنى العهد أخذه الله على آدم فلزم ذريته أن
يتبعوا كل هدى يأتيهم من الله وأن من أعرض عن هدى يأتي من الله فقد استوجب العذاب
فشمل جميع الشرائع الإلهية المخاطب بها طوائف الناس لوقوع (هدى) نكرة في سياق
الشرط وهو من صيغ العموم ، وأولى الهدي وأجدره بوجوب اتباعه الهدي الذي أتى من
الله لسائر البشر وهو دين الإسلام الذي خوطب به جميع بني آدم وبذلك تهيأ الموقع
لقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ فالله أخذ العهد من لدن آدم على اتباع الهدي العام
كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١]
الآية.
وهذه الآية تدل
على أن الله لا يؤاخذ البشر بما يقترفونه من الضلال إلا بعد أن يرسل إليهم من
يهديهم فأما في تفاصيل الشرائع فلا شك في ذلك ولا اختلاف وأما في توحيد الله وما
يقتضيه من صفات الكمال فيجري على الخلاف بين علمائنا في مؤاخذة أهل الفترة على
الإشراك ، ولعل الآية تدل على أن الهدى الآتي من عند الله في ذلك قد حصل من عهد
آدم ونوح وعرفه البشر كلهم فيكون خطابا ثابتا لا يسع البشر ادعاء جهله وهو أحد
قولين عن الأشعري ، وقيل لا ، وعند المعتزلة والماتريدية أنه دليل عقلي.
وقوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) نفي لجنس الخوف. و (خَوْفٌ) مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنيا على الفتح وهما
وجهان في اسم (لا) النافية للجنس وقد روي بالوجهين قول المرأة الرابعة من نساء
حديث أم زرع «زوجي كليل تهامه لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة». وبناء الاسم على
الفتح نص في نفي الجنس ورفعه محتمل لنفي الجنس ولنفي فرد واحد ، ولذلك فإذا انتفى
اللبس استوى الوجهان كما هنا إذ القرينة ظاهرة في نفي الجنس.
وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) يحتمل أنه من جملة ما قيل لآدم فإكمال ذكره هنا استيعاب
لأقسام ذرية آدم وفيه تعريض بالمشركين من ذرية آدم وهو يعم من كذب
بالمعجزات كلها
ومن جملتها القرآن ، عطف على (من) الشرطية في قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) إلخ فهو من عطف جملة اسمية على جملة اسمية ، وأتى بالجملة
المعطوفة غير شرطية مع ما في الشرطية من قوة الربط والتنصيص على ترتب الجزاء على
الشرط وعدم الانفكاك عنه لأن معنى الترتب والتسبب وعدم الانفكاك قد حصل بطرق أخرى
فحصل معنى الشرط من مفهوم قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فإنه بشارة يؤذن مفهومها بنذارة من لم يتبعه فهو خائف حزين
فيترقب السامع ما يبين هذا الخوف والحزن فيحصل ذلك بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) الآية. وأما معنى التسبب فقد حصل من تعليق الخبر على
الموصول وصلته المومي إلى وجه بناء الخبر وعلته على أحد التفسيرين في الإيماء إلى
وجه بناء الخبر ، وأما عدم الانفكاك فقد اقتضاه الإخبار عنهم بأصحاب النار المقتضي
للملازمة ثم التصريح بقوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ).
ويحتمل أنه تذييل
ذيلت به قصة آدم لمناسبة ذكر المهتدين وليس من المقول له ، والمقصود من هذا
التذييل تهديد المشركين والعود إلى عرض قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١]
وقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ) [البقرة : ٢٨]
فتكون الواو في قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) اعتراضية والمراد بالذين كفروا الذين أنكروا الخالق
وأنكروا أنبياءه وجحدوا عهده كما هو اصطلاح القرآن والمعنى والذين كفروا بي وبهداي
كما دلت عليه المقابلة.
والآيات جمع آية
وهي الشيء الدال على أمر من شأنه أن يخفى ، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنهم
وضعوها للإرشاد إلى الطرق الخفية في الرمال ، وتسمى الحجة آية لأنها تظهر الحق
الخفي ، كما قال الحارث بن حلزة :
من لنا عنده من
الخير آيا
|
|
ت ثلاث في كلهن
القضاء
|
يعني ثلاث حجج على
نصحهم وحسن بلائهم في الحرب وعلى اتصالهم بالملك عمرو بن هند. وسمى الله الدلائل
على وجوده وعلى وحدانيته وعلى إبطال عقيدة الشرك آيات ، فقال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ
رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [الأنعام : ٤]
وقال : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٩٧]
إلى قوله : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٩٩]
وقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩]
وسمي القرآن آية فقال : (وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ـ إلى قوله ـ (أَوَلَمْ
يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) في سورة العنكبوت [٥٠ ، ٥١]. وسمّى أجزاءه آيات فقال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ
يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) [الحج : ٧٢] وقال
: (المر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) [الرعد : ١] لأن
كل سورة من القرآن يعجز البشر عن الإتيان بمثلها كما قال تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ،
فكان دالا على صدق الرسول فيما جاء به وكانت جمله آيات لأن بها بعض المقدار المعجز
، ولم تسم أجزاء الكتب السماوية الأخرى آيات ، وأما ما ورد في حديث الرجم أن ابن
صوريا حين نشر التوراة وضع يده على آية الرجم فذلك على تشبيه الجزء من التوراة
بالجزء من القرآن وهو من تعبير راوي الحديث.
وأصل الآية عند
سيبويه فعلة بالتحريك أيية أو أوية على الخلاف في أنها واوية أو يائية مشتقة من أي
الاستفهامية أو من أوى فلما تحرك حرفا العلة فيها قلب أحدهما وقلب الأول تخفيفا
على غير قياس لأن قياس اجتماع حرفي علة صالحين للإعلال أن يعل ثانيهما إلا ما قل
من نحو آية وقاية وطاية وثاية وراية .
فالمراد بآياتنا
هنا آيات القرآن أي وكذبوا بالقرآن أي بأنه وحي من عند الله. والباء في قوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) باء يكثر دخولها على متعلق مادة التكذيب مع أن التكذيب
متعد بنفسه ولم أقف في كلام أئمة اللغة على خصائص لحاقها بهذه المادة والصيغة
فيحتمل أنها لتأكيد اللصوق للمبالغة في التكذيب فتكون كالباء في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]
وقول النابغة :
__________________
لك الخير أن وارت
بك الأرض واحدا
ويحتمل أن أصلها
للسببية وأن الأصل أن يقال كذّب فلانا بخبره ثم كثر ذلك فصار كذب به وكذب بمعنى
واحد والأكثر أن يقال كذّب فلانا ، وكذب بالخبر الفلاني ، فقوله : (بِآياتِنا) يتنازعه فعلا كفروا وكذبوا. وقوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) بيان لمضمون قوله : (أَصْحابُ النَّارِ) فإن الصاحب هنا بمعنى الملازم ولذلك فصلت جملة (فِيها خالِدُونَ) لتنزلها من الأولى منزلة البيان فبينهما كمال الاتصال.
[٤٠] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠))
انتقال من موعظة
المشركين إلى موعظة الكافرين من أهل الكتاب وبذلك تتم موعظة الفرق المتقدم ذكرها ،
لأن فريق المنافقين لا يعدو أن يكونوا من المشركين أو من أهل الكتاب اليهود ، ووجه
الخطاب هنا إلى بني إسرائيل وهم أشهر الأمم المتدينة ذات الكتاب الشهير والشريعة
الواسعة ، وذلك لأن هذا القرآن جاء يهدي للتي هي أقوم فكانت هاته السورة التي هي
فسطاطه مشتملة على الغرض الذي جاء لأجله ، وقد جاء الوفاء بهذا الغرض على أبدع
الأساليب وأكمل وجوه البلاغة فكانت فاتحتها في التنوية بشأن هذا الكتاب وآثار هداه
وما يكتسب متبعوه من الفلاح دنيا وأخرى ، وبالتحذير من سوء مغبة من يعرض عن هديه
ويتنكب طريقه ، ووصف في خلال ذلك أحوال الناس تجاه تلقي هذا الكتاب من مؤمن وكافر
ومنافق ، بعد ذلك أقبل على أصناف أولئك بالدعوة إلى المقصود ، وقد انحصر الأصناف
الثلاثة من الناس المتلقين لهذا الكتاب بالنسبة لحالهم تجاه الدعوة الإسلامية في
صنفين لأنهم إما مشرك أو متدين أي كتابي ، إذ قد اندرج صنف المنافقين في الصنف
المتدين لأنهم من اليهود كما قدمناه ، فدعا المشركين إلى عبادته تعالى بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١].
فالناس إن كان المراد به المشركين كما هو اصطلاح القرآن غالبا كما تقدم فظاهر ،
وإن كان المراد به كل الناس فقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) يختص بهم لا محالة إذ ليس المؤمنون بداخلين في ذلك ،
وذكّرهم بدلائل الصنعة وهي خلق أصولهم وبأصول نعم الحياة وهي خلق الأرض والسماء
وإنزال الماء من السماء لإخراج الثمرات ، وعجّب من كفرهم مع ظهور دلائل إثبات
الخالق من الحياة والموت ، وذكّرهم بنعمه عظيمة وهي نعمة تكريم أصلهم وتوبته على
أبيهم ، كل ذلك اقتصار على القدر الثابت في فطرتهم إذ لم يكن لديهم من الأصول
الدينية ما يمكن أن يجعل مرجعا
في المحاورة
والمجادلة يقتنعون به ، وخاطبهم في شأن إثبات صدق الرسول خلال ذلك بالدليل الذي
تدركه أذواقهم البلاغية فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]
الآيات. ولما قضى ذلك كلّه حقّه أقبل بالخطاب هنا على الصنف الثاني وهم أهل
الشرائع والكتاب وخص من بينهم بني إسرائيل لأنهم أمثل أمة ذات كتاب مشهور في
العالم كله وهم الأوحداء بهذا الوصف من المتكلمين باللغة العربية الساكنين المدينة
وما حولها ، وهم أيضا الذين ظهر منهم العناد والنواء لهذا الدين ، ومن أجل ذلك لم
يدع اليهود إلى توحيد ولا اعتراف بالخالق لأنهم موحدون ولكنه دعاهم إلى تذكر نعم
الله عليهم وإلى ما كانت تلاقيه أنبياؤهم من مكذبيهم ، ليذكروا أن تلك سنة الله
وليرجعوا على أنفسهم بمثل ما كانوا يؤنّبون به من كذب أنبياءهم وذكرهم ببشارات
رسلهم وأنبيائهم بنبي يأتي بعدهم.
ولتوجيه الخطاب
إليهم طريقة أخرى وهي أنه جادلهم بالأدلة الدينية العلمية وإثبات صدق الرسالة بما
تعارفوه من أحوال الرسل ، ولم يعرج لهم على إثبات الصدق بدلالة معجزة القرآن إذ لم
يكونوا من فرسان هذا الميدان كما قدمناه في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلاً ما) [البقرة : ٢٦]
فكان خطابهم هنا بالدلائل الدينية وبحجج الشريعة الموسوية ليكون دليل صدق الرسول
في الاعتبار بحاله وأنه جاء على وفاق أحوال إخوانه المرسلين السابقين.
وقد أفاض القرآن
في ذلك وتدرج فيه من درجة إلى أختها بأسلوب بديع في مجادلة المخاطبين وأفاد فيه
تعليم المسلمين حتى لا يفوتهم علماء بني إسرائيل قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ
يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧]
فقد كان العلم يومئذ معرفة التشريع ومعرفة أخبار الأنبياء والأمم الماضية وأحوال
العالمين العلوي والسفلي مع الوصايات الأدبية والمواعظ الأخلاقية ، فبذلك كان
اليهود يفوقون العرب ومن أجله كانت العرب تسترشدهم في الشئون وبه امتاز اليهود على
العرب في بلادهم بالفكرة المدنية. وكان علم عامة اليهود في هذا الشأن ضعيفا وإنما
انفردت بعلمه علماؤهم وأحبارهم فجاء القرآن في هاته المجادلات معلما أيضا للمسلمين
وملحقا لهم بعلماء بني إسرائيل حتى تكون الدرجة العليا لهم لأنهم يضمون هذا العلم
إلى علومهم اللسانية ونباهتهم الفكرية فتصبح عامة المسلمين مساوية في العلم لخاصة
الإسرائيليين وهذا معنى عظيم من معاني تعميم التعليم والإلحاق في مسابقة التمدين.
وبه تنكشف لكم حكمة من حكم تعرض
القرآن لقصص الأمم
وأحوالهم فإن في ذلك مع العبرة تعليما اصطلاحيا. ولقد نعدّ هذا من معجزات القرآن
وهو أنه شرح من أحوال بني إسرائيل ما لا يعلمه إلا أحبارهم وخاصتهم مع حرصهم على
كتمانه الاستئثار به خشية المزاحمة في الجاه والمنافع فجاء القرآن على لسان أبعد
الناس عنهم وعن علمهم صادعا بما لا يعلمه غير خاصتهم فكانت هذه المعجزة للكتابيين
قائمة مقام المعجزة البلاغية للأميين. وقد تقدم الإلمام بهذا في المقدمة السابعة.
وقد روعيت في هذا الانتقال مسايرة ترتيب كتب التوراة إذا عقبت كتاب التكوين بكتاب
الخروج أي وصف أحوال بني إسرائيل في مدة فرعون ثم بعثة موسى ، وقد اقتصر مما في
سفر التكوين على ذكر خلق آدم وإسكانه الأرض لأنه موضع العبرة وانتقل من ذلك إلى
أحوال بني إسرائيل لأن فيها عبرا جمة لهم وللأمة.
فقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) خطاب لذرية يعقوب وفي ذريته انحصر سائر الأمة اليهودية ،
وقد خاطبهم بهذا الوصف دون أن يقول يا أيها اليهود لكونه هو اسم القبيلة أما
اليهود فهو اسم النحلة والديانة ولأن من كان متبعا دين اليهودية من غير بني
إسرائيل كحمير لم يعتد بهم لأنهم تبع لبني إسرائيل فلو آمن بنو إسرائيل بالنبيء صلىاللهعليهوسلم لآمن أتباعهم لأن المقلد تبع لمقلده. ولأن هذا الخطاب
للتذكير بنعم أنعم الله بها على أسلافهم وكرامات أكرمهم بها فكان لندائهم بعنوان
كونهم أبناء يعقوب وأعقابه مزيد مناسبة لذلك ألا ترى أنه لما ذكروا بعنوان التدين
بدين موسى ذكروا بوصف الذين هادوا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢]
الآية كما سيأتي قريبا.
وتوجيه الخطاب إلى
جميع بني إسرائيل يشمل علماءهم وعامتهم لأن ما خوطبوا به هو من التذكير بنعمة الله
على أسلافهم وبعهد الله لهم. وكذلك نجد خطابهم في الأغراض التي يراد منها التسجيل
على جميعهم يكون بنحو (يا أَهْلَ الْكِتابِ) [آل عمران : ٦٤]
أو بوصف اليهود الذين هادوا أو بوصف النصارى ، فأما إذا كان الغرض التسجيل على
علمائهم نجد القرآن يعنونهم بوصف (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) [النساء : ٤٧] أو (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [الأنعام : ٢٠].
وقد يستغنى عن ذلك بكون الخبر المسوق مما يناسب علماءهم خاصة مثل قوله تعالى : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥].
ونحو (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١]
ونحو (وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٤٢] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩]
الآية (وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا
مِنْ
قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٥٩] (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥]
الآية. فإذا جاء الخطاب بأسلوب شامل لعلمائهم وعامتهم صرف إلى كل طائفة من
الطائفتين ما هو لائق بها.
وبنون مما ألحق
بجمع المذكر السالم وليس منه لأنه دخل التكسير بحذف لامه وزيادة همزة الوصل في
أوله فحقه أن يجمع على أبناء.
وقد اختلف في أصل
ابن فقيل هو مشتق من بني أي فهو مصدر بمعنى المفعول كالخلق فأصله بني أي مبني لأن
أباه بناه وكونه فحذفت لامه للتخفيف وعوض عنها همزة الوصل ففيه مناسبة في معنى
الاشتقاق إلا أن الحذف حينئذ على غير قياس لأن الياء لا موجب لحذفها إلا أن يتكلف
له بأن الياء تحركت مع سكون ما قبلها فنقلت حركتها للساكن إجراء له مجرى عين
الكلمة ثم لما انقلب ألفا على تلك القاعدة خيف التباسه بفعل بني فحذفت اللام وعوض
عنها همزة الوصل. وقيل أصله وأو على وزن بنو أو بنو بسكون النون أو بالتحريك فحذفت
الواو كما حذفت من نظائره نحو أخ وأب وفي هذا الوجه بعد عن الاشتقاق وبعد عن
نظائره لأن نظائره لما حذفت لاماتها لم تعوض عنها همزة الوصل.
وإسرائيل لقب
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهمالسلام قال ابن عباس معناه عبد الله ، لأن إسرا بمعنى عبد وإيل اسم
الله أي مركب من كلمتين ـ إسرا ـ وـ إيل ـ اسم الله تعالى كما يقولون بيت إيل (اسم
لقرية تسمى لوز من أرض كنعان نزلها يعقوب عليهالسلام في مهاجره فرارا من أخيه عيسو وبنى فيها مذبحا ودعا اسمه
بيت إيل). والذي في كتب اليهود أن سبب تسمية يعقوب إسرائيل أنه لما كان خائفا في
مهاجره من أن يلحقه أخوه عيسو لينتقم منه عرض له في إحدى الليالي شخص فعلم يعقوب أنه ربه
__________________
(أي ملك من ملائكة
الله) فأمسكه وصارعه يعقوب كامل الليل إلى طلوع الفجر فقال له أطلقني فقد طلع
الفجر فقال له يعقوب : لا أطلقك حتى تباركني فقال له : ما اسمك؟ قال : يعقوب قال
له : لا يدعى اسمك يعقوب بعد اليوم بل أنت إسرائيل لأنك جاهدت الله والناس وقدرت.
وباركه هناك . فهذا يدل على أن إسرا في هذا الاسم راجع إلى معنى الأسر
في الحرب كما هو في العربية فإذا كان هذا من أصل التوراة فهو على تأويل رؤيا رآها
يعقوب جعل الله بها له شرفا أو عرض له ملك كذلك. ثم إن يعقوب له اثنا عشر ابنا وهم
المشهورون بالأسباط لأنهم أسباط إسحاق بن إبراهيم وإلى هؤلاء الأسباط يرجع نسب
جميع بني إسرائيل وسيأتي ذكر الأسباط في هذه السورة.
و (اذْكُرُوا) أمر من الذكر وهو ـ أي الذكر ـ بكسر الذال وضمها يطلق على
خطور شيء ببال من نسيه ولذلك قيل ، وكيف يذكره من ليس ينساه ، ويطلق على النطق
باسم الشيء الخاطر ببال الناس ، ثم أطلق على التصريح بالدالّ مطلقا لأن الشأن أن
أحدا لا ينطق باسم الشيء إلا إذا خطر بباله ، وقد فرق بعض اللغويين بين مكسور
الذال ومضمومه فجعل المكسور للساني والمضموم للعقلي ولعلها تفرقة استعمالية مولدة
إذ لا يحجر على المستعمل تخصيصه أحد مصدري الفعل الواحد لأحد معاني الفعل عند
التعبير فيصير ذلك اصطلاحيا استعماليا لا وضعا حتى يكون من المترادف إذ اتحاد
الفعل مانع من دعوى ترادف المصدرين فقد قال عمر رضياللهعنه : أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه فسمى
النوعين ذكرا. والمقصود هنا الذكر العقلي إذ ليس المراد ذكر النعمة باللسان.
والمراد بالنعمة
هنا جميع ما أنعم الله به على المخاطبين مباشرة أو بواسطة الإنعام على أسلافهم فإن
النعمة على الأسلاف نعمة على الأبناء لأنها سمعة لهم ، وقدوة يقتدون بها ، وبركة
تعود عليهم منها ، وصلاح حالهم الحاضر كان بسببها ، وبعض النعم يكون فيما فطر الله
عليه الإنسان من فطنة وسلامة ضمير وتلك قد تورث في الأبناء. ولو لا تلك النعم لهلك
سلفهم أو لساءت حالهم فجاء أبناؤهم في شر حال. فيشمل هذا جميع النعم التي أنعم
الله بها عليهم فهو بمنزلة اذكروا نعمي عليكم. وهذا العموم مستفاد من إضافة نعمة
إلى ضمير الله تعالى إذ الإضافة تأتي لما تأتي له اللام ولا يستقيم من معاني اللام
العهد إذ
__________________
ليس في الكلام
نعمة معينة معهودة ، ولا يستقيم معنى اللام الجنسية ، فتعين أن تكون الإضافة على
معنى لام الاستغراق فالعموم حصل من إضافة نعمة إلى المعرفة وقليل من علماء أصول
الفقه من يذكرون المفرد المعرف بالإضافة في صيغ العموم ، وقد ذكره الإمام الرازي
في «المحصول» في أثناء الاستدلال. وقال ولي الدين : الإضافة عند الإمام
أدل على العموم من اللام وقال ابن السبكي في «شرح مختصر ابن الحاجب» : دلالة المفرد المضاف على العموم ما لم يتحقق عهد هو
الصحيح نحو قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] أي
كل أمره وقد تأيد قصد عموم النعمة بأن المقام للامتنان والدعوة إلى الإسلام
فيناسبه تكثير النعم. والمراد النعم التي أنعم الله بها على أسلافهم وعلى الحاضرين
منهم زمن نزول القرآن فإن النعمة على أسلافهم نعمة عليهم وقد تتابعت النعم عليهم
إذ بوأهم قرى في بلاد العرب بعد أن سلبت بلادهم فلسطين وجعلهم في بحبوحة من العيش
مع الأمن والثروة ومسالمة العرب لهم.
والأمر بذكر
النعمة هنا مراد منه لازمه وهو شكرها ومن أول مراتب الشكر ترك المكابرة في تلقي ما
ينسب إلى الله من الرسالة بالنظر في أدلتها ومتابعة ما يأتي به المرسلون. فقوله : (الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وصف أشير به إلى وجوب شكر النعم لما يؤذن الموصول وصلته من
التعليل فهو من باب قوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦]
ويفيد مع ذلك أمرهم بتفكر النعم التي أنعم بها عليكم لينصرفوا بذلك عن حسد غيرهم
فإن تذكير الحسود بما عنده من النعم عظة له وصرف له عن الحسد الناشئ عن الاشتغال
بنعم الغير وهذا تعريض بهم أنهم حاسدون للعرب فيما أوتوا من الكتاب والحكمة ببعثة
محمد صلىاللهعليهوسلم وانتقال النبوة من بني إسرائيل إلى العرب وإنما ذكروا بذلك
لأن للنفس غفلة عما هو قائم بها وإنما تشتغل بأحوال غيرها لأن الحس هو أصل
المعلومات فإذا رأى الحاسد نعم الغير نسي أنه أيضا في نعمة فإذا أريد صرفه عن
الحسد ذكر بنعمه حتى يخف حسده فإن حسدهم هو الذي حال دون تصديقهم به فيكون وزانه
وزان قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] ،
وتقديمه على قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) من باب تقديم التخلية ـ بالمعجمة ـ على التحلية ـ بالمهملة
ـ ويكون افتتاح خطابهم بهذا التذكير تهيئة لنفوسهم إلى تلقي الخطاب بسلامة طوية
وإنصاف.
وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) هو فعل مهموز من (وفى) المجرد وأصل معنى وفى
أتم الأمر تقول
وفيته حقه ، ولما كان المجرد متعديا للمفعول ولم يكن في المهموز زيادة تعدية
للتساوي بين قولك وفيته حقه وأوفيته حقه تعينت الزيادة لمجرد المبالغة في التوفية
مثل بان وأبان وشغل وأشغل وأما وفّى بالتضعيف فهو أبلغ من أوفى لأن فعل وإن شارك
أفعل في معانيه إلا أنه لما كان دالا على التقضي شيئا بعد شيء كان أدل على
المبالغة لأن شأن الأمر الذي يفعل مدرجا أن يكون أتقن. وقد أطلق الوفاء على تحقيق
الوعد والعهد إطلاقا شائعا صيره حقيقة.
والعهد تقدم معناه
عند قوله تعالى : (الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) [البقرة : ٢٧] في
هذه السورة.
والعهد هنا هو
الالتزام للغير بمعاملة التزاما لا يفرط فيه المعاهد حتى يفسخاه بينهما واستعير
العهد المضاف إلى ضمير الجلالة لقبول ما يكلفهم به من الدين واستعمل مجازا لقبول
التكاليف والدخول في الدين واستعير المضاف إلى ضمير المخاطبين للوعد على ذلك
بالثواب في الآخرة والنصر في الدنيا فلك أن تجعل كل عهد مجازا مفردا استعمل العهد
الأول في التكاليف واستعمل العهد الثاني في الوعد بالثواب والنصر واستعمل الإيفاء
مع كليهما في تحقيق ما التزم به كلا الجانبين مستعارا من ملائم المشبه به إلى
ملائم المشبه ليفيد ترشيحا لاستعارته ولك أن تجعل المجموع استعارة تمثيلية بأن شبه
الهيئة الحاصلة من قولهم لما أمرهم الله به وأن لا يقصروا في العمل ومن وعد الله
إياهم على ذلك بالثواب بهيئة المتعاهدين على التزام كل منهما بعمل للآخر ووفائه
بعهده في عدم الإخلال به فاستعير لهذه الهيئة الكلام المشتمل على قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ) وهذا أحسن وبه يتبين وجه استعمال لفظ العهد الثاني في قوله
تعالى : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وتقربه المشاكلة.
وعلى الوجهين
فالعهد في الموضعين مضاف للمفعول وهو ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» لأن إضافته إلى المفعول متعينة إذا تعلق به الإيفاء إذ لا
يوفي أحد إلا بعهد نفسه فإذا أضيف العهد الذي هو مفعول (أَوْفُوا) إلى غير فاعل الإيفاء تعين أن تكون إضافته للمفعول وبذلك
يتم ترشيح المجاز إن كان مفردا كما أشار له المحقق التفتازانيّ فإن كان مركبا فأخلق
به لأن اللفظ الموضوع للهيئة المشبه بها يضاف بقيد الإيفاء إلى مفعوله لا محالة.
ومن لطائف القرآن
في اختيار لفظ العهد للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم أن
ذلك خطاب لهم
باللفظ المعروف عندهم في كتبهم فإن التوراة المنزلة على موسى عليهالسلام تلقب عندهم بالعهد لأنها وصايات الله تعالى لهم ولذا عبر
عنه في مواضع من القرآن بالميثاق وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا
علماؤهم وهم أشح به منهم في كل شيء بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين فمجيئه
على لسان النبي العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب. والعهد قد أخذ
على أسلافهم بواسطة رسلهم وأنبيائهم قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١]
الآية وإذ قد كان المخاطبون بالآية قد تلقوا الشريعة من أسلافهم بما فيها من عهد
فقد كان العهد لازما لهم وكان الوفاء متعينا عليهم لأنهم الذين جاء فيهم الرسول
الموعود به.
وقوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) عطفت الواو جملة (وَإِيَّايَ) على الجمل المتقدمة من قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) إلى آخرها على طريقه الانتقال من معنى إلى المعنى المتولد
عنه وهي أصل طريقة المنشئين أن يراعوا الترتيب الخارجي في الخبر والإنشاء لأنه
الأصل ما لم يطرأ مقتض لتغيير الترتيب الطبيعي ومنه في القرآن قوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ
بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) [هود : ٧٧] إلخ ،
فإنه لما افتتح خطابهم بالتذكير بالنعمة الباعث على شكر المنعم ومراقبة حقه
والمطهر لهم من الحسد فإنه صارف عن الاعتراف بالنعمة كما قدمنا. ثم عطف عليه قوله
: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) وهو مبدأ المقصود من الأمر بتصديق الرسول الموعود به على
ألسنة أنبيائهم. ثم عقب ذلك بقوله : (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) فهو تتميم لذلك الأمر السابق بالنهي عما يحول بينهم وبين
الإيفاء بالعهد على وجهه وذلك هو صد كبرائهم وأحبارهم إياهم عن الانتقال عما هم
عليه من التمسك بالتوراة فإنهم هم القوم الذين كانوا يقولون لملك بلادهم فرعون مصر
يوم بعثة موسى (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى
ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) [طه : ٧٢] فكانوا
أحرياء بأن يخاطبوا سادتهم وأحبارهم بمثل ذلك الخطاب عند البعثة المحمدية.
فتقديم المفعول
هنا متعين للاختصاص ليحصل من الجملة إثبات ونفي واختير من طرق القصر طريق التقديم
دون ما وإلا ليكون الحاصل بالمنطوق هو الأمر برهبة الله تعالى ويكون النهي عن رهبة
غيره حاصلا بالمفهوم فإنهم إذا رهبوا الله تعالى حرصوا على الإيفاء بالعهد ولما
كانت رهبتهم أحبارهم تمنعهم من الإيفاء بالعهد أدمج النهي عن رهبة غير الله مع
الأمر برهبة الله تعالى في صيغة واحدة.
وتقديم المفعول مع
اشتغال فعله بضميره آكد في إفادة التقديم الحصر من تقديم المفعول على الفعل غير
المشتغل بضميره ، فإياي ارهبون آكد من نحو إياي ارهبوا كما أشار إليه صاحب «الكشاف» إذ قال : «وهو من قولك زيدا رهبته وهو أوكد في إفادة
الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] ا
ه. ووجهه عندي أن تقديم المفعول يحتمل الاختصاص ، إلا أن الأصل فيه أن يدل على
الاختصاص إلا إذا أقامت القرينة على التقوى فإذا كان مع التقديم اشتغال الفعل
بضمير المقدم نحو زيدا ضربته كان الاختصاص أوكد أي كان احتمال التقوى أضعف وذلك
لأن إسناد الفعل إلى الضمير بعد إسناده إلى الظاهر المتقدم يفيد التقوى فتعين أن
تقديم المفعول للاختصاص دون التقوى إذ التقوى قد حصل بإسناد الفعل أولا إلى الاسم
أو الظاهر المتقدم وثانيا إلى ضمير المتقدم ولهذا لم يقل صاحب «الكشاف» وهو أكثر
اختصاصا ولا أقوى اختصاصا إذ الاختصاص لا يقبل التقوية بل قال وهو أوكد في إفادة
الاختصاص أي إن إفادته الاختصاص أقوى لأن احتمال كون التقديم للتقوى قد صار مع
الاشتغال ضعيفا جدا. ولسنا ندعي أن الاشتغال متعين للتخصيص فإنه قد يأتي بلا تخصيص
في نحو قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] ،
وقوله : (أَبَشَراً مِنَّا
واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] وقول
زهير :
فكلا أراهم
أصبحوا يعقلونه
|
|
صحيحات مال
طالعات بمخرم
|
لظهور أن لا معنى
للتخصيص في شيء مما ذكرنا غير أن الغالب أن يكون التقديم مع صيغة الاشتغال للتخصيص
إذ العرب لا تقدم المفعول غالبا إلا لذلك ولا التفات إلى ما وجه به صاحب «المفتاح» أن احتمال المفعول في الاشتغال التخصيص والتقوي باق على
حاله ولكنك إن قدرت الفعل المحذوف متقدما على المفعول كان التقديم للتقوي وإن
قدرته بعد المفعول كان التقديم للتخصيص فإنه بناه على حالة موقع الفعل المقدر مع
أن تقدير الفعل اعتبار لا يلاحظه البلغاء ولأنهم ينصبون على موقعه قرينه فتعين أن
السامع إنما يعتد بالتقديم المحسوس وبتكرير التعلق وأما الاعتداد بموقع الفعل
المقدر فحوالة على غير مشاهد لأن التقدير إن كان بنية المتكلم فلا قبل للسامع
بمعرفة نيته ولا يصح أن يكون الخيار في التقدير للسامع.
هذا والتقديم إذا
اقترن بالفاء كان فيه مبالغة ، لأن الفاء كما في هذه الآية مؤذنة بشرط مقدر ولما
كان هذا الشرط لا دليل عليه إلا الفاء تعين تقديره عاما نحو إن يكن شيء أو مهما
يكن شيء كما أشار له صاحب «الكشاف» في قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)
[المدثر : ٣] حيث
قال : «ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل مهما كان فلا تدع تكبيره». فالمعنى هنا
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ومهما يكن شيء فإياي ارهبوني ، فلما حذفت جملة الشرط بعد
واو العطف بقيت فاء الجواب موالية لواو العطف فزحلقت إلى أثناء الجواب كراهية
توالي حرفين فقيل (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) بدلا عن أن يقال فارهبون. والتعليق على الشرط العام يستلزم
تحقق وقوع الجواب لأن التعليق الشرطي بمنزلة ربط المسبب بالسبب فإذا كان المعلق
عليه أمرا محقق الوقوع لعدم خلو الحدثان عنه تعين تحقق وقوع المعلق ، وهذا مبني
على مذهب سيبويه في باب الأمر والنهي يختار فيهما النصب في الاسم الذي يبنى عليه
الفعل وذلك مثل قولك زيدا اضربه ومثل ذلك أما زيدا فاقتله فإذا قلت زيد فاضربه لم
يستقم أن تحمله على الابتداء ألا ترى أنك لو قلت زيد فمنطلق لم يستقم ، ثم أشار
إلى أن الفاء هنا في معنى فاء الجزاء فمن ثم جزم الزمخشري بأن هاته الفاء مهما
وجدت في الاشتغال دلت على شرط عام محذوف وإن الفاء كانت داخلة على الاسم فزحلقت
على حكم فاء جواب أما الشرطية وأحسب أن مثل هذا التركيب من مبتكر أساليب القرآن ولم أذكر
أني عثرت على مثله في كلام العرب.
ومما يؤيد ما ذهب
إليه صاحب «الكشاف» المبني على كلام سيبويه من اعتبار الفاء مشعرة بشرط مقدر ، أن
غالب مواقع هاته الفاء المتقدم معها المفعول على مدخلها أن تقع بعد نهي أو أمر
يناقض الأمر والنهي الذي دخلت عليه تلك الفاء نحو قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ) إلى قوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٥ ، ٦٦]
وقول الأعشى : «ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا» فكان ما يتقدم هاته الفاء يتولد
منه شرط في المعنى وكانت الفاء مؤذنة بذلك الشرط وعلامة عليه فلأجل كونه مدلولا
عليه بدليلين
__________________
أصله وفرعه كان
كالمذكور كأنه قيل لئن أشركت ليحبطن عملك ، وفإن كنت عابدا شيئا فالله فاعبد ،
وكذا في البيت وهذه فائدة لم يفصح عنها السلف فخذها ولا تخف.
قال التفتازانيّ «ونقل
عن صاحب «الكشاف» أنه قال : إن في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وجوها من التأكيد : تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل
والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا تقديره إياي ارهبوا فارهبون أحدهما مقدر والثاني
مظهر ، وما في ذلك من تكرار الرهبة ، وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء كأنه قيل
: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون» ا ه. يريد أن في تقديم الضمير إفادة الاختصاص
والاختصاص تأكيد ، قال صاحب «المفتاح» ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد
وأما تأخير الضمير المتصل فلما في إعادة الإسناد من التقوي ، ومراد الزمخشري بقوله
معطوفا عليه ومعطوفا العطف اللغوي أي معقبا ومعقبا به لا العطف النحوي إذ لا
يستقيم هنا ، فتحصل أن في التعبير عن مثل هذا الاختصاص في كلام البلغاء مراتب أربع
: مجرد التقديم للمفعول نحو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥].
وتقديمه على فعله العامل في ضميره نحو زيدا رهبته ، وتقديمه على فعله مع اقتران
الفعل بالفاء نحو (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣]
وتقديمه على فعله العامل في ضميره مع اقتران الفعل بالفاء نحو (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). فالثانية والثالثة والرابعة أوكد منهما.
وحذفت ياء المتكلم
بعد نون الوقاية في قوله : (فَارْهَبُونِ) للجمهور من العشرة في الوصل والوقف وأثبتها يعقوب في الوصل
والوقف. وجمهور العرب يحذفونها في الوقف دون الوصل وهذيل يحذفونها في الوقف والوصل
وأهل الحجاز يثبتونها في الحالين وإنما اتفق الجمهور هنا على حذفها في الوصل مثل
الوقف لأن كلمة (فَارْهَبُونِ) كتبت في المصحف الإمام بدون ياء وقرئت كذلك في سنة
القراءة. ووجه ذلك أنها وقعت فاصلة فاعتبروها كالموقوف عليها قال سيبويه في باب ما
يحذف من أواخر الأسماء في الوقف «وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه أن لا
يحذف يحذف في الفواصل والقوافي». ولأن لغة هذيل تحذفها مطلقا ، وقراءة يعقوب
بإثبات الياء في الوصل والوقف جرى على لغة أهل الحجاز ولأنه رواها بالإثبات وهو
وجه في العربية ويكون قد تأول كتابتها بدون ياء في المصحف أنه اعتماد على أن
القارئ يجريها على روايته ولذلك لو لم تكن ياء المتكلم في كلمة هي فاصلة من الآي
لما اتفق الجمهور على حذفها كما في قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦]
كما سيأتي.
[٤١] (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً
لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي
ثَمَناً
قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١))
(وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).
شروع في دعوة بني
إسرائيل إلى الإسلام وهدي القرآن وهذا هو المقصود من خطابهم ولكن قدم بين يديه ما
يهيئ نفوسهم إلى قبوله كما تتقدم المقدمة على الغرض ، والتخلية على التحلية.
والإيمان بالكتاب
المنزل من عند الله أو بكتب الله وإن كان من جملة ما شمله العهد المشار إليه بقوله
: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) [البقرة : ٤٠] إلا
أنه لم يلتفت إليه هنا من تلك الجهة لأنهم عاهدوا الله على أشياء كثيرة كما تقدم
ومن جملتها الإيمان بالرسل والكتب التي تأتي بعد موسى عليهالسلام إلا أن ذلك مجمل في العهد فلا يتعين أن يكون ما جاء به
محمد صلىاللهعليهوسلم هو مما عاهدوا الله عليه بل حتى يصدقوا بأنه من عند الله
وأن الجائي به رسول من الله فهم مدعوّون إلى ذلك التصديق هنا. فعطف قوله : (وَآمِنُوا) على قوله : (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠]
كعطف المقصد على المقدمة ، وعطفه على قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) من قبيل عطف الخاص على العام في المعنى ولكن هذا من عطف
الجمل فلا يقال فيه عطف خاص على عام لأنه إنما يكون في عطف الجزئي على الكلي من
المفردات لا في عطف الجمل وإنما أردنا تقريب موقع الجملة وتوجيه إيرادها موصولة
غير مفصولة.
وفي تعليق الأمر
باسم الموصول وهو (ما أنزلت) دون غيره من الأسماء نحو الكتاب أو القرآن أو هذا
الكتاب إيماء إلى تعليل الأمر بالإيمان به وهو أنه منزل من الله وهم قد أوصوا
بالإيمان بكل كتاب يثبت أنه منزل من الله. ولهذا أتى بالحال التي هي علة الصلة إذ
جعل كونه مصدقا لما في التوراة علامة على أنه من عند الله. وهي العلامة الدينية
المناسبة لأهل العلم من أهل الكتاب فكما جعل الإعجاز اللفظي علامة على كون القرآن
من عند الله لأهل الفصاحة والبلاغة من العرب كما أشير إليه بقوله : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢]
إلى قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ؛
كذلك جعل الإعجاز المعنوي وهو اشتماله على الهدى الذي هو شأن الكتب الإلهية علامة
على أنه من عنده لأهل الدين والعلم بالشرائع. ثم الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان
بالذي جاء به وبالذي أنزله.
والمراد بما معهم
كتب التوراة الأربعة وما ألحق بها من كتب الأنبياء من بني
إسرائيل كالزبور ،
وكتاب أشعياء ، وأرمياء ، وحزقيال ، ودانيال وغيرها ولذا اختير التعبير بما معكم
دون التوراة مع أنها عبر بها في مواضع غير هذا لأن في كتب الأنبياء من بعد موسى عليهالسلام بشارات ببعثة محمد صلىاللهعليهوسلم أصرح مما في التوراة فكان التنبيه إليها أوقع.
والمراد من كون
القرآن مصدقا لما معهم أنه يشتمل على الهدى الذي دعت إليه أنبياؤهم من التوحيد
والأمر بالفضائل واجتناب الرذائل وإقامة العدل ومن الوعيد والوعد والمواعظ والقصص
فما تماثل منه بها فأمره ظاهر وما اختلف فإنما هو لاختلاف المصالح والعصور مع دخول
الجميع تحت أصل واحد ، ولذلك سمي ذلك الاختلاف نسخا لأن النسخ إزالة حكم ثابت ولم
يسم إبطالا أو تكذيبا فظهر أنه مصدق لما معهم حتى فيما جاء مخالفا فيه لما معهم
لأنه ينادي على أن المخالفة تغيير أحكام تبعا لتغير أحوال المصالح والمفاسد بسبب
تفاوت الأعصار بحيث يكون المغيّر والمغيّر حقا بحسب زمانه وليس ذلك إبطالا ولا
تكذيبا قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) [النساء : ١٦٠]
الآية. فالإيمان بالقرآن لا ينافي تمسكهم القديم بدينهم ولا ما سبق من أخذ رسلهم
عليهم العهد باتباعه. ومما يشمله تصديق القرآن لما معهم أن الصفات التي اشتمل
عليها القرآن ودين الإسلام والجائي به موافقة لما بشرت به كتبهم فيكون وروده معجزة
لأنبيائهم وتصديقا آخر لدينهم وهو أحد وجهين ذكرهما الفخر والبيضاوي فيلزم تأويل
التصديق بالتحقيق لأن التصديق حقيقة في إعلام المخبر (بفتح الباء) بأن خبر المخبر
مطابق للواقع إما بقوله صدقت أو صدق فلان كما ورد في حديث جبريل في «صحيح البخاري»
لما سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان أنه لما أخبره قال السائل صدقت قال :
فعجبنا له يسأله ويصدقه ، وإما بأن يخبر الرجل بخبر مثل ما أخبر به غيره فيكون
إخباره الثاني تصديقا لإخبار الأول. وأما إطلاق التصديق على دلالة شيء على صدق خبر
ما فهو إطلاق مجازي والمقصود وصف القرآن بكونه مصدقا لما معهم بأخباره وأحكامه لا
وصف الدين والنبوة كما لا يخفى.
(وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ).
جمع الضمير في (تَكُونُوا) مع إفراد لفظ (كافِرٍ) يدل على أن المراد من الكافر فريق ثبت له الكفر لا فرد
واحد فإضافة (أَوَّلَ) إلى (كافِرٍ) بيانية تفيد معنى فريق هو أول فرق الكافرين. والضمير
المجرور في (بِهِ) ظاهره أنه عائد إلى (بِما أَنْزَلْتُ) لأنه المقصود. وهو عطف على جملة (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) وهو ارتقاء في الدعوة واستجلاب
القلوب فإنه لما
أمرهم بالإيمان بالقرآن وكانت صيغة الأمر محتملة لطلب الامتثال بالفور أو بالتأخير
وكانوا معروفين بشدة العداوة لدين الإسلام ، عطف على أمرهم بالإيمان بالقرآن نهيهم
عن أن يكونوا أول كافر بالقرآن وذلك يصدق بمعان بعضها يستفاد من حق التركيب وبعضها
من لوازمه وبعضها من مستتبعاته وكلها تحتملها الآية ، فالمعنى الأول أن يحمل قوله
: (أَوَّلَ كافِرٍ) على حقيقة معنى الأول وهو السابق غيره فيحصل من الجملة
المعطوفة تأكيد الجملة المعطوف عليها بدلالة المطابقة فالنهي عن الكفر بالقرآن
يؤكد قوله : (وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ) ثم إن وصف (أول) يشعر بتقييد النهي بالوصف ولكن قرينة
السياق دالة على أنه لا يراد تقييد النهي عن الكفر بحالة أوليتهم في الكفر ، إذ
ليس المقصود منه مجرد النهي عن أن يكونوا مبادرين بالكفر ولا سابقين به غيرهم لقلة
جدوى ذلك ولكن المقصود الأهم منه أن يكونوا أول المؤمنين فأفيد ذلك بطريق الكناية
التلويحية فإن وصف أول أصله السابق غيره في عمل يعمل أو شيء يذكر فالسبق والمبادرة
من لوازم معنى الأولى لأنها بعض مدلول اللفظ ولما كان الإيمان والكفر نقيضين إذا
انتفى أحدهما ثبت الآخر كان النهي عن أن يكونوا أول الكافرين يستلزم أن يكونوا أول
المؤمنين.
والمقصود من النهي
توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام فيكون هذا المركب قد كني به عن معنيين
من ملزوماته ، هما معنى المبادرة إلى الإسلام ومعنى التوبيخ المكنى عنه بالنهي ،
فيكون معنى النهي مرادا ولازمه وهو الأمر بالمبادرة بالإيمان مرادا وهو المقصود
فيكون الكلام كناية اجتمع فيها الملزوم واللازم معا ، فباعتبار اللازم يكون النهي
في معنى الأمر فيتأكد به الأمر الذي قبله كأنه قيل : وآمنوا بما أنزلت وكونوا أول
المؤمنين ، وباعتبار الملزوم يكون نهيا عن الكفر بعد الأمر بالإيمان فيحصل بذلك غرضان.
وهذه الكناية
تعريضية لأن غرض المعنى الكنائي غير غرض المعنى الصريح وهذا هو الذي استخلصته في
تحقيق معنى التعريض وهو أن يكون غرض الحكم المشار إليه به غير غرض الحكم المصرح به
، أو أن يكون المحكوم له به غير المحكوم له بالصريح. وهذا الوجه مستند إلى الظاهر
والتحقيق بين متناثر كلامهم في التعريض المعروف من الكناية
__________________
ويندفع بهذا
سؤالان مستقلان أحدهما ناشئ عما قبله : الأول كيف يصح النهي عن أن يكونوا أول الكافرين ومفهومه يقتضي
أنهم لو كفروا به ثانيا لما كان كفرهم منهيّا عنه؟
الثاني أنه قد سبقهم أهل مكة للكفر لأن آية البقرة في خطاب اليهود
نزلت في المدينة فقد تحقق أن اليهود لم يكونوا أول الكافرين فالنهي عن أن يكونوا
أول الكافرين تحصيل حاصل. ووجه الاندفاع أن المقصود الأهم هو المعنى التعريضي وهو
يقوم قرينة على أن القصد من النهي أن لا يكونوا من المبادرين بالكفر أي لا يكونوا
متأخرين في الإيمان وهذا أول الوجوه في تفسير الآية عند صاحب «الكشاف» واختاره البيضاوي فاقتصر عليه.
واعلم أن التعريض
في خصوص وصف «أول» وأما أصل النهي عن أن يكونوا كافرين به فذلك مدلول اللفظ حقيقة
وصريحا. والتعريض من قبيل الكناية التلويحية لما فيه من خفاء الانتقال من المعنى
إلى لوازمه. وبعض التعريض يحصل من قرائن الأحوال عند النطق بالكلام ولعل هذا لا
يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية وهو من مستتبعات التراكيب ودلالتها العقلية وسيجيء
لهذا زيادة بيان عند قوله تعالى : (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) [البقرة : ٢٣٥] في
هذه السورة.
المعنى
الثاني أن يكون المقصود
التعريض بالمشركين وأنهم أشد من اليهود كفرا أي لا تكونوا في عدادهم ولعل هذا هو
مراد صاحب «الكشاف» من قوله : «ويجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من
أشرك من أهل مكة» ولا يريد أنه تشبيه بليغ وإن كان كلامه يوهمه وسكت عنه شراحه.
المعنى
الثالث : أن يراد من «أول»
المبادر والمستعجل لأنه من لوازم الأولية كما قال تعالى : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١]
وقال سعيد بن مقروم الضبي :
فدعوا نزال فكنت
أول نازل
|
|
وعلام أركبه إذا
لم أنزل
|
فقوله : أول نازل
لا يريد تحقيق أنه لم ينزل أحد قبله وإنما أراد أنه بادر مع الناس فإن الشأن أنه
إذا دعا القوم نزال أن ينزل السامعون كلهم ولكنه أراد أنه ممن لم يتربص. ويكون
المعنى ولا تعجلوا بالتصريح بالكفر قبل التأمل ، فالمراد من الكفر هنا التصميم عليه
لا البقاء على ما كانوا عليه فتكون الكناية بالمفرد وهو كلمة (أول).
المعنى
الرابع : أن يكون «أول»
كناية عن القدوة في الأمر لأن الرئيس وصاحب اللواء ونحوهما يتقدمون القوم ، قال
تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) [هود : ٩٨] وقال
خالد بن زهير وهو
ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي :
فلا تجزعن من
سنة أنت سرتها
|
|
فأول راض سنة من
يسيرها
|
أي الأجدر والناصر
لسنة ، والمعنى ولا تكونوا مقرين للكافرين بكفركم فإنهم إن شاهدوا كفركم كفروا
اقتداء بكم وهذا أيضا كناية بالمفرد.
المعنى
الخامس : أن يكون المراد
الأول بالنسبة إلى الدعوة الثانية وهي الدعوة في المدينة لأن ما بعد الهجرة هو حال
ثانية للإسلام ، فيما ظهر الإسلام متميزا مستقلا.
هذا كله مبني على
جعل الضمير المجرور بالباء في قوله : (كافِرٍ بِهِ) عائدا على ما (بِما أَنْزَلْتُ) أي القرآن وهو الظاهر لأنه ذكر في مقابل الإيمان به. وقيل
إن الضمير عائد على ما معكم وهو التوراة قال ابن عطية : «وعلى هذا القول يجيء (أَوَّلَ كافِرٍ) مستقيما على ظاهره في الأولية» ولا يخفى أن هذا الوجه تكلف
لأنه مؤول بأن كفرهم بالقرآن وهو الذي جاء على نحو ما وصفت التوراة وكتب أنبيائهم
في بشاراتهم بنبى وكتاب يكونان من بعد موسى فإذا كذبوا بذلك فقد كفروا بصحة ما في
التوراة فيفضي إلى الكفر بما معهم.
قال التفتازانيّ :
وهذا كله إنما يتم لو كان كفرهم به بمعنى ادعائهم أنه كله كذب وأما إذا كفروا
بكونه كلام الله واعتقدوا أن فيه صدقا وكذبا فلا يتم ، ولهذا كان هذا الوجه مرجوحا
، ورده عبد الحكيم بما لا يليق به.
وبهذا كله يتضح أن
قوله : (وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) لا يتوهم منه أن يكون النفي منصبا على القيد بحيث يفيد عدم
النهي عن أن يكونوا ثاني كافر أو ثالث كافر بسبب القرينة الظاهرة وأن أول كافر ليس
من قبيل الوصف الملازم حتى يستوي في نفي موصوفه أن يذكر الوصف وأن لا يذكر كقول
امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدى
بمناره
وقول ابن أحمر :
ولا ترى الضّبّ بها
ينجحر
كما سيأتي في قوله
تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) عقب هذا.
(وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).
عطف على النهي
الذي قبله وهذا النهي موجّه إلى علماء بني إسرائيل وهم القدوة
لقومهم والمناسبة
أن الذي صدهم عن قبول دعوة الإسلام هو خشيتهم أن تزول رئاستهم في قومهم فكانوا
يتظاهرون بإنكار القرآن ليلتف حولهم عامة قومهم فتبقى رئاستهم عليهم ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم».
والاشتراء تقدم
عند قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] وهو
اعتياض أعيان بغيرها مثلها أو ثمنها من النقدين ونحوهما كأوراق المال والسفاتج وقد
استعير الاشتراء هنا لاستبدال شيء بآخر دون تبايع.
والآيات جمع آية
وأصلها في اللغة العلامة على المنزل أو على الطريق قال النابغة :
توهّمت آيات لها
فعرفتها
|
|
لستة أعوام وذا
العام سابع
|
ثم أطلقت الآية
على الحجة لأن الحجة علامة على الحق قال الحارث ابن حلّزة :
من لنا عنده من
الخير يا
|
|
ت ثلاث في كلّهن
القضاء
|
ولذلك سميت معجزة
الرسول آية كما في قوله تعالى : (فِي تِسْعِ آياتٍ
إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) [النمل : ١٢] (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) [الأعراف : ٢٠٣] ،
وأطلقت أيضا على الجملة التامة من القرآن قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧]
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله : «أما تكفيك آية الصيف» (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦]
لأن جمل القرآن حجة على صدق الرسول لأن بلاغتها معجزة.
وأما إطلاق آية
على الجملة من التوراة في حديث الرجم في قول الراوي «فوضع المدراس يده على آية
الرجم» فذلك مجاز على مجاز لعلاقة المشابهة. ووجه المشابهة بين إعراضهم وبين
الاشتراء ، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة ، والنفع في الدنيا
يشبه استبدال المشتري في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه
منفعته ، ففي (تَشْتَرُوا) استعارة تحقيقية في الفعل ، ويجوز كون (تَشْتَرُوا) مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم أو بعلاقة الاستعمال المقيد في
المطلق كما تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] ،
لكن هنا الاستعارة متأتية فهي أظهر لظهور علاقة المشابهة واستغناء علاقة المشابهة
عن تطلب وجه العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأن مقصد التشبيه وحده كاف في العدول
إلى الاستعارة ، إذ التشبيه من مقاصد البلغاء.
وإذ قد كان فعل
الاشتراء يقتضي شيئين أبدل أحدهما بالآخر جعل العوض المرغوب فيه هو المشتري وهو
المأخوذ ويعدى إلى الفعل بنفسه ، وجعل العوض الآخر هو المدفوع
ويسمى الثمن
ويتعدى الفعل إليه بالباء الدالة على معنى العوض.
وقد عدي الاشتراء
هنا إلى الآيات بالباء فكانت الآيات هي الواقعة موقع الثمن لأن الثمن هو مدخل
الباء فدل دخول الباء على أن الآيات شبهت بالثمن في كونها أهون العوضين عند
المستبدل ، وذكر الباء قرينة المكنية لأنها تدخل على الثمن ولا يصح كونها تبعية إذ
ليس ثم معنى حقه أن يؤدى بالحرف شبه بمعنى الباء ، فها هنا يتعين سلوك طريقة
السكاكي في رد التبعية للمكنية. ولا يصح أيضا جعل الباء تخييلا إذ ليست دالة على
معنى مستقل يمكن تخيله.
ثم عبر عن مفعول
الاشتراء بلفظ الثمن وكان الظاهر أن يعطى لفظ الثمن لمدخول الباء أو أن يعبر عن كل
بلفظ آخر كأن يقال : لا تشتروا بآياتي متاعا قليلا فأخرج الكلام على خلاف مقتضى
الظاهر وعبر عن المتاع ونحوه بالثمن على طريق الاستعارة التحقيقية لتشبيه هذا
العوض من الرئاسة أو المال بالثمن أو لأنه يشبه الثمن في كونه أعيانا وحطاما جعلت
بدلا عن أمر نافع وفي ذلك تعريض بهم في أنهم مغبونو الصفقة إذ قد بذلوا أنفس شيء
وأخذوا حظّا ما قليلا فكان كلا البدلين في الآية مشبها بالثمن إلا أن الآيات شبهت
به في كونها أهون على المعتاض ، والمتاع الذي يأخذونه شبه بالثمن في كونه شيئا
ماديا يناله كل أحد أو للإشارة إلى أن كلا من الآيات والثمن أمر هين على فريق
فالآيات هانت على الأحبار والأموال هانت على العامة وخص الهين حقيقة بإعطائه اللفظ
الحقيقي الدال على أنه هين وأما الهين صورة فقد أعطى الباء المجازية وكل من
الاستعارتين قرينة على الأخرى ، ولأنه لما غلب في الاستعمال إطلاق الثمن على
النقدين اختير إطلاق ذلك على ما يأخذونه تلميحا إلى أنهم يأخذون المال عن تغيير
الأحكام الشرعية كقوله (يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هذَا الْأَدْنى) [الأعراف : ١٦٩].
وقد قيل إن قوله (ثَمَناً) قرينة الاستعارة في قوله (وَلا تَشْتَرُوا) ووجهه أنه لما أدخلت الباء على الآيات تعين أن الآيات هي
ثمن الاشتراء فلما عبر بعده بلفظ (ثَمَناً) مفعولا لفعل (تَشْتَرُوا) علم السامع أن الأول ليس بثمن حقيقي فعلم أن الاشتراء مجاز
ثم هو يعلم أن المعبر عنه بالثمن بعد ذلك أيضا ليس بثمن حقيقي تبعا للعلم بالمجاز
في الفعل الناصب له. وقد قيل إن قوله (ثَمَناً) تجريد وتقريره مثل تقرير كونه قرينة إذا جعلنا القرينة
قوله (بِآياتِي). وقيل هو ترشيح لأن لفظ الثمن من ملائم الشراء وهو قريب
مما قدمناه في كونه استعارة لأن الترشيح في نفسه قد يكون استعارة من ملائم المشبه
به لملائم
المشبه على
الاحتمالات كلها هي تدل على تجهيلهم وتقريعهم. والآيات لا تستبدل ذواتها فتعين
تقدير مضاف أي لا تشتروا بقبول آياتي ثمنا.
وإضافة آيات إلى
ضمير الجلالة للتشريف قال الشيخ محمد بن عرفة : عظم الآيات بشيئين الجمع والإضافة
إلى ضمير الجلالة وحقر العوض بتحقيرين التنكير والوصف بالقلة ا ه أي وفي ذلك تعريض
بغبن صفقتهم إذ استبدلوا نفيسا بخسيس وأقول وصف (قَلِيلاً) صفة كاشفة لأن الثمن الذي تباع به إضاعة الآيات هو قليل
ولو كان أعظم متمول بالنسبة إلى ما أضاعه آخذ ذلك الثمن وعلى هذا المراد ينبغي حمل
كلام ابن عرفة.
وقد أجمل العوض
الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك
اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب
اختلاف همهم.
ووصف (ثَمَناً) بقوله : (قَلِيلاً) ليس المراد به التقييد بحيث يفيد النهي عن أخذ عوض قليل
دون أخذ عوض له بال وإنما هو وصف ملازم للثمن المأخوذ عوضا عن استبدال الآيات فإن
كل ثمن في جانب ذلك هو قليل فذكر هذا القيد مقصود به تحقير كل ثمن في ذلك فهذا
النفي شبيه بنفي القيود الملازمة للمقيد ليفيد نفي القيد والمقيد معا كما في البيت
المشهور لإمرئ القيس :
على لاحب لا
يهتدى بمناره
|
|
إذا سافه العود
الدّيافي جرجرا
|
أي لا منار له
فيهتدى به لأن الاهتداء لازم للمنار ، وكذلك قول ابن أحمر :
لا يفزع الأرنب
أهوالها
|
|
ولا ترى الضبّ
بها ينجحر
|
أي لا أرنب بها
حتى يفزع من أهوالها ولا ضبّ بها حتى ينجحر ، وقول النابغة :
مثل الزجاجة لم
تكحل من الرمد
أي عينا لم ترمد
حتى تكحل ؛ لأن التكحيل لازم للعين الرمداء ومثله كثير في الكلام البليغ.
وقد وقع (ثَمَناً) نكرة في سياق النهي وهو كالنفي فشمل كل عوض ، كما وقعت
الآيات جمعا مضافا فشملت كل آية ، كما وقع الفعل في سياق النفي فشمل كل اشتراء إذ
الفعل كالنكرة.
والخطاب وإن كان
لبني إسرائيل غير أن خطابات القرآن وقصصه المتعلقة بالأمم الأخرى إنما يقصد منها
الاعتبار والاتعاظ فنحن محذرون من مثل ما وقعوا فيه بطريق الأولى لأننا أولى
بالكمالات النفسية كما قال بشار :
الحر يلحى والعصا
للعبد
وكالبيت السائر :
العبد يقرع
بالعصا
|
|
والحر تكفيه
الإشارة
|
فعلماؤنا منهيون
على أن يأتوا بما نهي عنه بنو إسرائيل من الصدف عن الحق لأعراض الدنيا وكذلك كانت
سيرة السلف رضياللهعنهم.
ومن هنا فرضت
مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية وإن كان تعلقها بها ضعيفا وهي مسألة أخذ
الأجرة على تعليم القرآن والدين ويتفرع عنها أخذ الأجرة على تعليم العلم وعلى بعض
ما فيه عبادة كالأذان والإمامة. وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا
أخذ الأجر على تعليم القرآن فضلا عن الفقه والعلم فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء
والشعبي وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والجمهور ، وحجتهم في ذلك الحديث
الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» وعليه فلا
محل لهاته الآية على هذا المعنى عندهم بحال ؛ لأن المراد بالاشتراء فيها معناه
المجازي وليس في التعليم استبدال ولا عدول ولا إضاعة. وقد نقل ابن رشد إجماع أهل
المدينة على الجواز ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم. وفي «المدونة» : لا بأس
بالإجارة على تعليم القرآن. ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة وأبو
حنيفة وإسحاق بن راهويه وتمسكوا بالآية وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة
والصوم فلا يؤخذ عليها أجر كذلك وبما روي عن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «دراهم المعلمين حرام» وعن عبادة بن الصامت أنه قال
: «علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلى رجل منهم قوسا فسألت النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها» وأجاب عن
ذلك القرطبي بأن الآية محملها فيمن تعين عليه التعليم فأبى إلا بالأجر ، ولا دليل
على ما أجاب به القرطبي. فالوجه أن ذلك كان في صدر الإسلام وبث الدعوة فلو رخص في
الأجر فيه لتعلل تعليم كثير لقلة من ينفق في ذلك لأن أكثرهم لا يستطيعه ومحمل حديث
ابن عباس على ما بعد ذلك حين شاع الإسلام وكثر حفاظ القرآن. وأقول لا حاجة إلى هذا
كله لأن الآية بعيدة عن هذا الغرض
كما علمت وأجاب
القرطبي عن القياس بأن الصلاة والصوم عبادتان قاصرتان وأما التعليم فعبادة متعدية
فيجوز أخذ الأجر على ذلك الفعل وهذا فارق مؤثر. وأما حديث أبي هريرة وحديث عبادة
ففيهما ضعف من جهة إسناديهما كما بينه القرطبي ، قلت ولا أحسب الزهري يستند
لمثلهما ولا للآية ولا لذلك القياس ولكنه رآه واجبا فلا تؤخذ عليه أجرة وقد أفتى
متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه قال في «الدرر» و«شرحه» : «ويفتى اليوم بصحتها ـ أي الإجارة لتعليم القرآن والفقه
ـ والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصي لكن لما وقع الفتور في
الأمور الدينية جوزها المتأخرون» ا ه.
ومن فروع هاته
المسألة جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة ، قال ابن عبد البر هي مأخوذة من
مسألة الأجر على تعليم القرآن وحكمهما واحد ، وفي المدونة تجوز الإجارة على الأذان
وعلى الأذان والصلاة معا وأما على الصلاة وحدها فكرهه مالك ، قال ابن شاس جازت على
الأذان لأن المؤذن لا يلزمه الإتيان به أما جمعه مع الصلاة فالأجرة على الأذان فقط
، وأجاز ابن عبد الحكم الإجارة على الإمامة ووجهه أنه تكلف الصلاة في ذلك الموضع
في ذلك الوقت ، وروى أشهب عن مالك لا بأس بالأجر على تراويح رمضان وكرهه في
الفريضة قال القرطبي : وكرهها أبو حنيفة وأصحابه وفي «الدرر» ويفتى اليوم بصحتها لتعليم القرآن والفقه والإمامة
والأذان ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس ، وقال القرافي في الفرق الخامس عشر
والمائة : ولا يجوز في إمامة الصلاة الإجارة على المشهور من مذهب مالك لأنها عقد
مكايسة من المعاوضات فلا يجوز أن يحصل العوضان فيها لشخص واحد لأن أجر الصلاة له
فإذا أخذ عنها عوضا اجتمع له العوضان ا ه. وهو تعليل مبني على أصل واه قدمه في
الفرق الرابع عشر والمائة على أن في كونه من فروع ذلك الأصل نظرا لا نطيل فيه
فانظره فقد نبهتك إليه ، فالحق أن الكراهة المنقولة عن مالك كراهة تنزيه. وهذه
المسألة كانت قد حدثت بين ابن عرفة والدكالي وهي أنه ورد على تونس في حدود سنة
سبعين وسبعمائة رجل زاهد من المغرب اسمه محمد الدكالي فكان لا يصلي مع الجماعة ولا
يشهد الجمعة معتلا بأن أئمة تونس يأخذون الأجور على الإمامة وذلك جرحة في فاعله
فأنكر عليه الشيخ ابن عرفة وشاع أمره عند العامة وحدث خلاف بين الناس فخرج إلى
المشرق فارا بنفسه وبلغ أنه ذهب لمصر فكتب ابن عرفة إلى أهل مصر أبياتا هي :
يا أهل مصر ومن
في الدين شاركهم
|
|
تنبهوا لسؤال
معضل نزلا
|
لزوم فسقكم أو
فسق من زعمت
|
|
أقواله أنه
بالحق قد عملا
|
في تركه الجمع
والجمعات خلفكم
|
|
وشرط إيجاب حكم
الكل قد حصلا
|
إن كان شأنكم
التقوى فغيركم
|
|
قد باء بالفسق
حتى عنه ما عدلا
|
وإن يكن عكسه
فالأمر منعكس
|
|
قولوا بحق فإن
الحق ما اعتزلا
|
فيقال إن أهل مصر
أجابوه بأبيات منها :
ما كان من شيم
الأبرار أن يسموا
|
|
بالفسق شيخا على
الخيرات قد جبلا
|
لا لا ولكن إذا
ما أبصروا خللا
|
|
كسوه من حسن
تأويلاتهم حللا
|
أليس قد قال في «المنهاج» صاحبه
|
|
يسوغ ذاك لمن قد
يختشى زللا
|
ومنها :
وقد رويت عن ابن
القاسم العتقي
|
|
فيما اختصرت
كلاما أوضح السبلا
|
ما إن ترد شهادة
لتاركها
|
|
إن كان بالعلم
والتقوى قد احتفلا
|
نعم وقد كان في
الأعلين منزلة
|
|
من جانب الجمع
والجمعات واعتزلا
|
كمالك غير مبد
فيه معذرة
|
|
إلى الممات ولم
يسأل وما عذلا
|
هذا وإن الذي
أبداه متجها
|
|
أخذ الأئمة أجرا
منعه نقلا
|
وهبك أنك راء
حله نظرا
|
|
فما اجتهادك
أولى بالصواب ولا
|
هكذا نسبت هذه
الأبيات في بعض كتب التراجم للمغاربة أنها وردت من أهل مصر وقد قيل إنها نظمها بعض
أهل تونس انتصارا للدكالي ذكر ذلك الخفاجي في «طراز المجالس» ، وقال إن المجيب هو أبو الحسن علي السلمي التونسي وذكر
أن السراج البلقيني ذكر هاته الواقعة في «فتاواه» وذكر أن والده أجاب في المسألة بأبيات لامية انظرها هناك.
(وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ).
القول فيه كالقول
في (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) إلا أن التعبير في الأولى بارهبون وفي الثاني باتقون لأن
الرهبة مقدّمة التقوى إذ التقوى رهبة معتبر فيها العمل بالمأمورات واجتناب
المنهيات بخلاف مطلق الرهبة فإنها اعتقاد وانفعال دون عمل ، ولأن الآية المتقدمة
تأمرهم بالوفاء بالعهد فناسبها أن يخوفوا من نكثه ، وهذه الآية تأمرهم بالإيمان
بالقرآن الذي
منعهم منه بقية دهمائهم فناسبها الأمر بأن لا يتقوا إلا الله. وللتقوى معنى شرعي
تقدم في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وهي بذلك المعنى أخص لا محالة من الرهبة ولا أحسب أن ذلك
هو المقصود هنا.
والقول في حذف ياء
المتكلم من قوله : (فَاتَّقُونِ) نظير القول فيه من قوله : (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ).
[٤٢] (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢))
معطوف على جميع ما
تقدم من قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٤٠] إلى
هنا لأن هاته الجمل كلها لم يقصد أن الواحدة منها معطوفة على التي قبلها خاصة بل
على جميع ما تقدمها لا سيما قوله : (وَلا تَلْبِسُوا) فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض
التحذير من الإضلال بعد أن وسط بينهما قوله : (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي) [البقرة : ٤١] كما
تقدم.
وإن شئت أن تجعل
كلا معطوفا على الذي قبله فهو معطوف على الذي قبله بعد اعتبار كون ما قبله معطوفا
على ما قبله كذلك ، وهذا شأن الجمل المتعاطفة إلا إذا أريد عطف جملة على جملة
معينة لكون الثانية أعلق بالتي والتها دون البقية وذلك كعطف (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) على (لا تَلْبِسُوا) فإنها متعينة للعطف على (تَلْبِسُوا) لا محالة إن كانت معطوفة وهو الظاهر فإن كلا الأمرين منهي
عنه والتغليظ في النهي عن الجمع بينهما واضح بالأولى.
وجوزوا أن يكون (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) منصوبا بأن مضمرة بعد واو المعية ويكون مناط النهي الجمع
بين الأمرين وهو بعيد لأن كليهما منهي عنه والتفريق في المنهي يفيد النهي عن الجمع
بالأولى بخلاف العكس اللهم إلا أن يقال إنما نهوا عن الأمرين معا على وجه الجمع
تعريضا بهم بأنهم لا يرجى منهم أكثر من هذا الترك للبس وهو ترك اللبس المقارن لكتم
الحق فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر. أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في
التأويل فلا يرجى منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل.
و (الحق) الأمر
الثابت من حقّ إذا ثبت ووجب وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل في كلامهم ضد الحق فإنه الأمر الزائل الضائع يقال بطل بطلا وبطولا وبطلانا
إذا ذهب ضياعا وخسرا وذهب دمه بطلا أي هدرا. والمراد به هنا ما تتبرأ
منه النفوس وتزيله
ما دامت خلية عن غرض أو هوى ، وسمي باطلا لأنه فعل يذهب ضياعا وخسارا على صاحبه.
واللبس خلط بين
متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر وهو يتعدى إلى الذي اختلط عليه بعدة
حروف مثل على واللام والباء على اختلاف السياق الذي يقتضي معنى بعض تلك الحروف.
وقد يعلق به ظرف عند. وقد يجرد عن التعليق بالحرف.
ويطلق على اختلاط
المعاني وهو الغالب ، وظاهر كلام الراغب في «مفردات القرآن» أنه هو المعنى الحقيقي ، ويقال في الأمر لبسة بضم اللام
أي اشتباه ، وفي حديث شق الصدر «فخفت أن يكون قد التبس بي» أي حصل اختلاط في عقلي
بحيث لا يميز بين الرؤية والخيال ، وفعله من باب ضرب وأما فعل لبس الثياب فمن باب
سمع.
فلبس الحق بالباطل
ترويج الباطل في صورة الحق ، وهذا اللّبس هو مبدأ التضليل والإلحاد في الأمور
المشهورة فإن المزاولين لذلك لا يروج عليهم قصد إبطالها فشأن من يريد إبطالها أن
يعمد إلى خلط الحق بالباطل حتى يوهم أنه يريد الحق قال تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا
عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) [الأنعام : ١٣٧]
لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام.
وأكثر أنواع
الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل ، فقد قال الذين ارتدوا
من العرب ومنعوا الزكاة إننا كنا نعطي الزكاة للرسول ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد
بعه ، وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله ، وقد قال شاعرهم
وهو الخطيل بن أوس :
أطعنا رسول الله
إذ كان بيننا
|
|
فيا لعباد الله
ما لأبي بكر
|
وقد فعل ذلك
الناقمون على عثمان رضياللهعنه فلبّسوا بأمور زينوها للعامة كقولهم رقي إلى مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم في المنبر وذلك استخفاف لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما
عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه ، وسقط من يده خاتم النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك رمز على سقوط خلافته. وقد قالت الخوارج «لا حكم إلا
لله» فقال علي رضياللهعنه : «كلمة حق أريد بها باطل». وحرّف أقوام آيات بالتأويل
البعيد ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا فكان من ذلك لبس كثير ،
ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية ، ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب «الرسائل» الملقبين بإخوان الصفاء. ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين
والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها
ويعارضها نحو قوله
تعالى : (يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣]
فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد
وآيات التوبة.
وللتفادي من هذا
الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه إن التأويل لا يصح إلا إذا دل
عليه دليل قوي ، أما إذا وقع التأويل لما يظن أنه دليل فهو تأويل باطل فإن وقع بلا
دليل أصلا فهو لعب لا تأويل ولهذا نهى الفقهاء عن اقتباس القرآن في غير المعنى
الذي جاء له كما قال ابن الرومي :
لئن أخطأت في
مدحي
|
|
ك ما أخطأت في
منعي
|
لقد أنزلت
حاجاتي
|
|
بواد غير ذي زرع
|
وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد فمفعول (تعلمون)
محذوف دل عليه ما تقدم ، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لبسكم الحق بالباطل. قال الطيبي
عند قوله تعالى الآتي : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤] إن
قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) غير منزل منزلة اللازم لأنه إذا نزل منزلة اللازم دل على
أنهم موصوفون بالعلم الذي هو وصف كمال وذلك ينافي قوله الآتي : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إلى قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤] إذ
نفى عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم على الإطلاق.
[٤٣] (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))
أمر بالتلبس بشعار
الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام فقوله : (وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ) [البقرة : ٤١]
الآية راجع إلى الإيمان بالنبيء صلىاللهعليهوسلم وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته ، فالوسيلة (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) إلى (فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠]
والمقصد (وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) ، والغاية (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). وقد تخلل ذلك نهي عن مفاسد تصدهم عن المأمورات مناسبات
للأوامر. فقوله : (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) إلخ أمر بأعظم القواعد الإسلامية بعد الإيمان والنطق بكلمة
الإسلام ، وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم وامتثالهم للأوامر السالفة وأنهم كملت
لهم الأمور المطلوبة. وفي هذا الأمر تعريض بالمنافقين ، ذلك أن الإيمان عقد قلبي
لا يدل عليه إلا النطق ، والنطق اللساني أمر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد إذا لم يكن
ذا غلو في دينه فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف
الدين إذا كان غير
معتقد مدلوله كما قال تعالى : (وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤]
الآية ، فلذلك أمروا بالصلاة والزكاة لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود
إليه وخلع الآلهة ، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل وبقول
الله أكبر ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته ، ولأن الزكاة إنفاق المال وهو
عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي لا سيما
إذا كان ذلك المال ينفق على العدو في الدين ، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر
بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق. ولذلك جاء في
المنافقين (وَإِذا قامُوا إِلَى
الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) [النساء : ١٤٢]
وقوله : (فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٤ ، ٥]
وفي «الصحيح» أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين.
وفي هذه الآية
دليل لمالك على قتل من يمتنع من أداء الصلاة مع تحقق أنه لم يؤدها من أول وقت صلاة
من الصلوات إلى خروجه إذا كان وقتا متفقا بين علماء الإسلام ، لأنه جعل ذلك
الامتناع مع عدم العذر دليلا على انتفاء إيمانه ، لكنه لما كان مصرحا بالإيمان قال
مالك : إنه يقتل حدا جمعا بين الأدلة ومنعها لذريعة خرم الملة. ويوشك أن يكون هذا
دليلا لمن قالوا بأن تارك الصلاة كافر لو لا الأدلة المعارضة.
وفيها دليل لما
فعل أبو بكر رضياللهعنه من قتال مانعي الزكاة وإطلاق اسم المرتدين عليهم ؛ لأن
الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل
الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له : كيف تقاتلهم وقد قالوا : لا إله إلا الله
وقد قال رسول الله : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» فقال أبو بكر : لأقاتلن من فرّق بين الصلاة
والزكاة فإن الزكاة حق المال ، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر.
وقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا
يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ).
والركوع طأطأة
وانحناء الظهر لقصد التعظيم أو التبجيل ، وقد كانت العرب تفعله لبعض كبرائهم ، قال
الأعشى :
إذا ما أتانا
أبو مالك
|
|
ركعنا له وخلعنا
العمامة
|
(وروي سجدنا له
وخلعنا العمارا ، والعمار هو العمامة).
وقوله : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) إيماء إلى وجوب ممثالة المسلمين في أداء شعائر الإسلام
المفروضة فالمراد بالراكعين المسلمون وفيه إشارة إلى الإتيان بالصلاة بأركانها
وشرائطها.
[٤٤] (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(٤٤))
اعتراض بين قوله :
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣] وقوله
: (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥]
ووجه المناسبة في وقوعه هنا أنه لما أمرهم بفعل شعائر الإسلام من إقامة الصلاة
وإيتاء الزكاة وذيل ذلك بقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣]
ليشير إلى أن صلاتهم التي يفعلونها أصبحت لا تغني عنهم ، ناسب أن يزاد لذلك أن ما
يأمر به دينهم من البر ليسوا قائمين به على ما ينبغي ، فجيء بهذا الاعتراض ،
وللتنبيه على كونه اعتراضا لم يقرن بالواو لئلا يتوهم أن المقصود الأصلي التحريض
على الأمر بالبر وعلى ملازمته ، والغرض من هذا هو النداء على كمال خسارهم ومبلغ
سوء حالهم الذي صاروا إليه حتى صاروا يقومون بالوعظ والتعليم كما يقوم الصانع
بصناعته والتاجر بتجارته لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها ليستحقوا بذلك
ما يعوضون عليه من مراتب ورواتب فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر
التي يأمرون بها الناس.
والمخاطب بقوله : (أَتَأْمُرُونَ) جميع بني إسرائيل الذين خوطبوا من قبل ، فيقتضي أن هذه
الحالة ثابتة لجميعهم أي أن كل واحد منهم تجده يصرح بأوامر دينهم ويشيعها بين
الناس ولا يمتثلها هو في نفسه ، ويجوز أن يكون المقصود بهذا الخطاب فريقا منهم فإن
الخطاب الموجه للجماعات والقبائل يأخذ كل فريق ما هو حظه من ذلك الخطاب ، فيكون
المقصود أحبارهم وعلماءهم وهم أخص بالأمر بالبر ، فعلى الوجه الأول يكون المراد
بالناس إما المشركين من العرب فإن اليهود كانوا يذكرون لهم ما جاء به دينهم والعرب
كانوا يحفلون بسماع أقوالهم كما قال تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩]
وإما أن يكون المراد من (الناس) من عدا الآمر كما تقول أفعل كما يفعل الناس وكقوله
: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣]
أي أيأمر الواحد غيره وينسى نفسه ، وعلى الوجه الثاني يكون المراد بالناس العامة
من أمة اليهود أي كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد
بحال أحبارهم أو تعريض بأنهم
يعلمون أن ما جاء
به رسول الإسلام هو الحق فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ ولا يطلبون نجاة أنفسهم.
والاستفهام هنا
للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي فاستعمل في التوبيخ مجازا
بقرينة المقام وهو مجاز مرسل لأن التوبيخ يلازم الاستفهام لأن من يأتي ما يستحق
التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له ويتوجهون إليه بالسؤال
فينتقل من السؤال إلى التوبيخ ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ وذلك لأن
الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إرادة الخير للغير وإهمال النفس
منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها ، وليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع بل
في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريبا غير مألوف من العقلاء فإذا استعمل
الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازا مرسلا ظاهر وإذا استعمل في لازمين يتولد
أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضا مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب
تعدد العلاقة ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من
الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك وأيّا ما كان فهو مجاز
مرسل على ما اختاره السيد في «حاشية
المطول» في باب الإنشاء
علاقته اللزوم وقد تردد في تعيين علاقته التفتازانيّ وقال : إنه مما لم يحم أحد
حوله.
والبر ـ بكسر
الباء ـ الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة والمعاملة ، وفعله في
الغالب من باب علم إلا البر في اليمن فقد جاء من باب علم وباب ضرب ، ومن الأقوال
المأثورة البر ثلاثة : بر في عبادة الله وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة
الأجانب ، وذلك تبع للوفاء بسعة الإحسان في حقوق هذه الجوانب الثلاثة.
والنسيان ذهاب
الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل السهو
الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه ، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة
فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب «الأساس» مجازا وهو التحقيق وهو كثير في القرآن. والنسيان هنا
مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما. قيل في
قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥] أي
وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر وفي
هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون
بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى
صاروا ينسون أنهم متلبسون
بمثل ما ينهون عنه
فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر
كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم
أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب
نفسه لأنه لا يشاهدها ولأن العادة تنسيه حاله. ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس
فيكون البر راجعا إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا
غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من
جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها.
وجملة : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) يجوز أن تكون حالا من ضمير (تَأْمُرُونَ) أو يكون محل التوبيخ والتعجب هو أمر الناس بالبر بقيد كونه
في حال نسيان ، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على (تَأْمُرُونَ) وتكون هي المقصودة من التوبيخ والتعجيب ويجعل قوله : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) تمهيدا لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي
مجموع الأمرين.
وبهذا تعلم أنه لا
يتوهم قصد النهي عن مضمون كلا الجملتين إذ القصد هو التوبيخ على اتصاف بحالة فظيعة
ليست من شيم الناصحين لا قصد تحريم فلا تقع في حيرة من تحير في وجه النهي عن ذلك
ولا في وهم من وهم فقال : إن الآية دالة على أن العاصي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى
عن المنكر كما نقل عنهم الفخر في «التفسير» فإنه ليس المقصود نهي ولا تحريم وإنما
المقصود تفظيع الحالة ويدل لذلك أنه قال في تذييلها (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه.
والأنفس جمع نفس ـ
بسكون الفاء ـ وهي مجموع ذات الإنسان من الهيكل والروح كما هنا وباعتبار هذا
التركيب الذي في الذات اتسع إطلاق النفس في كلام العرب تارة على جميع الذات كما في
التوكيد نحو جاء فلان نفسه وقوله : (النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥]
وقوله : (تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥]
وتارة على البعض كقول القائل أنكرت نفسي وقوله : (وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ) وعلى الإحساس الباطني كقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) [المائدة : ١١٦]
أي ضميري. وتطلق على الروح الذي به الإدراك (إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣]
وسيأتي لهذا زيادة إيضاح عند قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ) في سورة النحل [١١١].
وقوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) جملة حالية قيد بها التوبيخ والتعجيب لأن نسيان أنفسهم
يكون أغرب وأفظع إذا كان معهم أمران يقلعانه ، وهما أمر الناس بالبر ، فإن شأن
الأمر بالبر أن يذكر الآمر حاجة نفسه إليه إذا قدر أنه في غفلة عن نفسه ، وتلاوة
الكتاب
أي التوراة يمرون
فيها على الأوامر والنواهي من شأنه أن تذكرهم مخالفة حالهم لما يتلونه.
وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) استفهام عن انتفاء تعقلهم استفهاما مستعملا في الإنكار
والتوبيخ نزلوا منزلة من انتفى تعقله فأنكر عليهم ذلك ، ووجه المشابهة بين حالهم
وحال من لا يعقلون أن من يستمر به التغفل عن نفسه وإهمال التفكر في صلاحها مع
مصاحبة شيئين يذكرانه ، قارب أن يكون منفيا عنه التعقل.
وفعل (تَعْقِلُونَ) منزل منزلة اللازم أو هو لازم. وفي هذا نداء على كمال
غفلتهم واضطراب حالهم. وكون هذا أمرا قبيحا فظيعا من أحوال البشر مما لا يشك فيه
عاقل.
[٤٥ ، ٤٦] (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))
خطاب لبني إسرائيل
بالإرشاد إلى ما يعينهم على التخلق بجميع ما عدد لهم من الأوامر والنواهي الراجعة
إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذمات ، له أحسن وقع من البلاغة فإنهم لما
خوطبوا بالترغيب والترهيب والتنزيه والتشويه ظن بهم أنهم لم يبق في نفوسهم مسلك
للشيطان ولا مجال للخذلان وأنهم أنشئوا يتحفزون للامتثال والائتساء ، إلا أن ذلك
الإلف القديم يثقل أرجلهم في الخطو إلى هذا الطريق القويم ، فوصف لهم الدواء الذي
به الصلاح وريش بقادمتي الصبر والصلاة منهم الجناح.
فالأمر بالاستعانة
بالصبر لأن الصبر ملاك الهدى فإن مما يصد الأمم عن اتباع دين قويم إلفهم بأحوالهم
القديمة وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها فإذا تدرعوا بالصبر سهل عليهم اتباع الحق.
وأما الاستعانة بالصلاة فالمراد تأكد الأمر بها الذي في قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] وهذا
إظهار لحسن الظن بهم وهو طريق بديع من طرق الترغيب.
ومن المفسرين من
زعم أن الخطاب في قوله : (وَاسْتَعِينُوا) إلخ للمسلمين على وجه الانتقال من خطاب إلى خطاب آخر ،
وهذا وهم لأن وجود حرف العطف ينادي على خلاف ذلك ولأن قوله : (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُوا رَبِّهِمْ) الآية اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار
وهو خلاف الظاهر
مع عدم وجود الداعي. والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة
من لم يكن قد آمن بعد وأي عجب في هذا؟ وقريب منه آنفا قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣]
خطابا لبني إسرائيل لا محالة.
والصبر عرفه
الغزالي في «إحياء علوم الدين» بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة وهو
تعريف خاص بالصبر الشرعي صالح لأن يكون تفسيرا للآية لأنها في ذكر الصبر الشرعي ،
وأما الصبر من حيث هو ـ الذي هو وصف كمال ـ فهو عبارة عن احتمال النفس أمرا لا
يلائمها إما لأن مآله ملائم ، أو لأن عليه جزاء عظيما فأشبه ما مآله ملائم ، أو
لعدم القدرة على الانتقال عنه إلى غيره مع تجنب الجزع والضجر ، فالصبر احتمال
وثبات على ما لا يلائم ، وأقل أنواعه ما كان عن عدم المقدرة ولذا ورد في «الصحيح»
: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» أي الصبر الكامل هو الذي يقع قبل العلم بأن
التفصي عن ذلك الأمر غير ممكن وإلا فإن الصبر عند اعتقاد عدم إمكان التفصي إذا لم
يصدر منه ضجر وجزع هو صبر حقيقة. فصيغة الحصر في قوله «إنما الصبر» حصر ادعائي
للكمال كما في قولهم أنت الرجل.
والصلاة أريد بها
هنا معناها الشرعي في الإسلام وهي مجموع محامد لله تعالى ، قولا وعملا واعتقادا
فلا جرم كانت الاستعانة المأمور بها هنا راجعة لأمرين : الصبر والشكر. وقد قيل إن
الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر كما في «الإحياء» وهو قول حسن ، ومعظم الفضائل ملاكها
الصبر إذ الفضائل تنبعث عن مكارم الخلال ، والمكارم راجعة إلى قوة الإرادة وكبح
زمام النفس عن الإسامة في شهواتها بإرجاع القوتين الشهوية والغضبية عما لا يفيد
كمالا أو عما يورث نقصانا فكان الصبر ملاك الفضائل فما التحلم والتكرم والتعلم
والتقوى والشجاعة والعدل والعمل في الأرض ونحوها إلا من ضروب الصبر. ومما يؤثر عن
علي رضياللهعنه : الشجاعة صبر ساعة. وقال زفر بن الحارث الكلابي يعتذر عن
انهزام قومه :
سقيناهم كاسا
سقونا بمثلها
|
|
ولكنهم كانوا
على الموت أصبرا
|
وحسبك بمزية الصبر
أن الله جعله مكمل سبب الفوز في قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ١ ـ ٣]
وقال هنا : (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ). قال الغزالي : ذكر الله
الصبر في القرآن
في نيف وسبعين موضعا وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر وجعلها ثمرة له ، فقال
عزّ من قائل : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [السجدة : ٢٤].
وقال : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) [الأعراف : ١٣٧]
وقال : (إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٣] ا
ه.
وأنت إذا تأملت
وجدت أصل التدين والإيمان من ضروب الصبر فإن فيه مخالفة النفس هواها ومألوفها في
التصديق بما هو مغيب عن الحس الذي اعتادته ، وبوجوب طاعتها واحدا من جنسها لا تراه
يفوقها في الخلقة وفي مخالفة عادة آبائها وأقوامها من الديانات السابقة. فإذا صار
الصبر خلقا لصاحبه هون عليه مخالفة ذلك كله لأجل الحق والبرهان فظهر وجه الأمر
بالاستعانة على الإيمان وما يتفرع عنه بالصبر فإنه خلق يفتح أبواب النفوس لقبول ما
أمروا به من ذلك.
وأما الاستعانة
بالصبر فلأن الصلاة شكر والشكر يذكر بالنعمة فيبعث على امتثال المنعم على أن في
الصلاة صبرا من جهات في مخالفة حال المرء المعتادة ولزومه حالة في وقت معين لا
يسوغ له التخلف عنها ولا الخروج منها على أن في الصلاة سرا إلاهيا لعله ناشئ عن
تجلي الرضوان الرباني على المصلي فلذلك نجد للصلاة سرا عظيما في تجلية الأحزان
وكشف غم النفس وقد ورد في الحديث «أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا حزبه (بزاي وباء موحدة أي نزل به) أمر فزع إلى
الصلاة» وهذا أمر يجده من راقبه من المصلين وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥]
لأنها تجمع ضروبا من العبادات.
وأما كون الشكر من
حيث هو معينا على الخير فهو من مقتضيات قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧].
وقوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) اختلف المفسرون في معاد ضمير (إِنَّها) فقيل عائد إلى الصلاة والمعنى إن الصلاة تصعب على النفوس
لأنها سجن للنفس وقيل الضمير للاستعانة بالصبر والصلاة المأخوذة من (اسْتَعِينُوا) على حد (اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].
وقيل راجع إلى المأمورات المتقدمة من قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) [البقرة : ٤٠] إلى
قوله (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥]
وهذا الأخير مما جوزه صاحب «الكشاف» ولعله من مبتكراته وهذا أوضح الأقوال وأجمعها
والمحامل مرادة.
والمراد بالكبيرة
هنا الصعبة التي تشتق على النفوس ، وإطلاق الكبر على الأمر
الصعب والشاق مجاز
مشهور في كلام العرب لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير في حمله أو تحصيله قال
تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً
إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) [البقرة : ١٤٣]
وقال : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ
عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) [الأنعام : ٣٥]
الآية. وقال : (كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣].
وقوله : (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي الذين اتصفوا بالخشوع ، والخشوع لغة هو الانزواء
والانخفاض قال النابغة :
ونؤي كجذم الحوض
أثلم خاشع
أي زال ارتفاع
جوانبه. والتذلل خشوع ، قال جعفر بن عبلة الحارثي :
فلا تحسبي أني
تخشعت بعدكم
|
|
لشيء ولا أني من
الموت أفرق
|
وهو مجاز في خشوع
النفس وهو سكون وانقباض عن التوجه إلى الإباية أو العصيان.
والمراد بالخاشع
هنا الذي ذلل نفسه وكسر سورتها وعودها أن تطمئن إلى أمر الله وتطلب حسن العواقب
وأن لا تغتر بما تزينه الشهوة الحاضرة فهذا الذي كانت تلك صفته قد استعدت نفسه
لقبول الخير. وكأن المراد بالخاشعين هنا الخائفون الناظرون في العواقب فتخف عليهم
الاستعانة بالصبر والصلاة مع ما في الصبر من القمع للنفس وما في الصلاة من التزام
أوقات معينة وطهارة في أوقات قد يكون للعبد فيها اشتغال بما يهوى أو بما يحصّل منه
مالا أو لذة. وقريب منه قول كثير :
فقلت لها يا عز
كل مصيبة
|
|
إذا وطنت يوما
لها النفس ذلت
|
وأحسب أن مشروعية
أحكام كثيرة قصد الشارع منها هذا المعنى وأعظمها الصوم.
ولا يصح حمل
الخشوع هنا على خصوص الخشوع في الصلاة بسبب الحال الحاصل في النفس باستشعار العبد
الوقوف بين يدي الله تعالى حسبما شرحه ابن رشد في أول مسألة من كتاب الصلاة الأول
من «البيان والتحصيل» وهو المعنى المشار إليه بقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ١ ، ٢]
، فإن ذلك كله من صفات الصلاة وكمال المصلي فلا يصح كونه هو المخفف لكلفة الصلاة
على المستعين بالصلاة كما لا يخفى.
وقد وصف تعالى
الخاشعين بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون
وهي صلة لها مزيد
اتصال بمعنى الخشوع ففيها معنى التفسير للخاشعين ومعنى بيان منشأ خشوعهم ، فدل على
أن المراد من الظن هنا الاعتقاد الجازم وإطلاق الظن في كلام العرب على معنى اليقين
كثير جدا ، قال أوس بن حجر يصف صيادا رمى حمار وحش بسهم :
فأرسله مستيقن
الظن أنه
|
|
مخالط ما بين
الشراسيف جائف
|
وقال دريد بن
الصمة :
فقلت لهم ظنّوا
بألفي مدجّج
|
|
سراتهم بالفارسي
المسرج
|
فهو مشترك بين
الاعتقاد الجازم وبين الاعتقاد الراجح.
والملاقاة والرجوع
هنا مجازان عن الحساب والحشر أو عن الرؤية والثواب ؛ لأن حقيقة اللقاء ـ وهو تقارب
الجسمين ، وحقيقة الرجوع وهو الانتهاء إلى مكان خرج منه المنتهى ـ مستحيلة هنا.
والمقصود من قوله : (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ) إلخ التعريض بالثناء على المسلمين ، وتحريض بني إسرائيل
على التهمم بالاقتداء بالمؤمنين وعلى جعل الخطاب في قوله : (وَاسْتَعِينُوا) للمسلمين يكون قوله : (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ) تعريضا بغيرهم من اليهود والمنافقين.
والملاقاة مفاعلة
من لقي ، واللقاء الحضور كما تقدم في قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧]
والمراد هنا الحضور بين يدي الله للحساب أي الذين يؤمنون بالبعث ، وسيأتي تفصيل
لها عند قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣] في
هذه السورة ، وفي سورة الأنعام [٣١] عند قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقاءِ اللهِ).
__________________
[٤٧] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (٤٧))
أعيد خطاب بني
إسرائيل بطريق النداء مماثلا لما وقع في خطابهم الأول لقصد التكرير للاهتمام بهذا
الخطاب وما يترتب عليه ، فإن الخطاب الأول قصد منه تذكيرهم بنعم الله تعالى ليكون
ذلك التذكير داعية لامتثال ما يرد إليهم من الله من أمر ونهي على لسان نبيه صلىاللهعليهوسلم ، غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثال كان
حق البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود ولا يطيل في المقدمة ، وإنما يلم بها
إلماما ويشير إليها إجمالا ، تنبيها بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به
ولم يزل الخطباء والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب ويذكرونه في مناقب وزير
الأندلس محمد بن الخطيب السلماني إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب
ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها :
خليفة الله ساعد
القدر
|
|
علاك ما لاح في
الدجا قمر
|
ثم قال :
والناس طرا بأرض
أندلس
|
|
لولاك ما وطنوا
ولا عمروا
|
وقد أهمتهم
نفوسهم
|
|
فوجهوني إليك
وانتظروا
|
فقال له أبو عنان
: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم وأذن له في الجلوس فسلم عليه. قال القاضي أبو
القاسم الشريف ـ وكان من جملة
الوفد ـ لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا.
فكان الإجمال في
المقدمة قضاء لحق صدارتها بالتقديم وكان الإفضاء إلى المقصود قضاء لحقه في العناية
، والرجوع إلى تفصيل النعم قضاء لحقها من التعداد فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم
وتكريم للمنعم عليه وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر. فللتكرير هنا
نكتة جمع الكلامين بعد تفريقهما ونكتة التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة.
والنعمة هنا مراد بها
جميع النعم لأنّه جنس مضاف فله حكم الجمع كما في قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ)
__________________
[البقرة : ٤٠].
وقوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ) عطف على (نِعْمَتِيَ) أي واذكروا تفضيلي إياكم على العالمين وهذا التفضيل نعمة
خاصة فعطفه على (نعمتي) عطف خاص على عام وهو مبدأ لتفصيل النعم وتعدادها وربما كان
تعداد النعم مغنيا عن الأمر بالطاعة والامتثال لأن من طبع النفوس الكريمة امتثال
أمر المنعم لأن النعمة تورث المحبة. وقال منصور الوراق :
تعصي الإله وأنت
تظهر حبّه
|
|
هذا لعمري في
القياس بديع
|
لو كان حبّك
صادقا لأطعته
|
|
إن المحب لمن
يحب مطيع
|
وهذا التذكير
مقصود به الحث على الاتسام بما يناسب تلك النعمة ويستبقي ذلك الفضل.
ومعنى العالمين
تقدم عنه قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢]
والمراد به هنا صنف من المخلوقات ولا شك أن المخلوقات تصنف أصنافا متنوعة على حسب
تصنيف المتكلم أو السامع ، فالعالمون في مقام ذكر الخلق هم أصناف المخلوقات كالإنس
والدواب والطير والحوت ، والعالمون في مقام ذكر فضائل الخلق أو الأمم أو القبائل
يراد بها أصناف تلك المتحدث عنها فلا جرم أن يكون المراد من العالمين هنا هم الأمم
الإنسانية فيعم جميع الأمم لأنه جمع معرف باللام لكن عمومه هنا عرفي يختص بأمم
زمانهم كما يختص نحو : جمع الأمير الصاغة بصاغة مكانه أي بلده ويختص أيضا بالأمم
المعروفة كما يختص جمع الأمير الصاغة بالصاغة المتخذين الصياغة صناعة دون كل من
يعرف الصياغة وذلك كقولك : هو أشهر العلماء وأنجب التلامذة ، فالآية تشير إلى
تفضيل بني إسرائيل المخاطبين أو سلفهم على أمم عصرهم لا على بعض الجماعات الذين
كانوا على دين كامل مثل نصارى نجران ، فلا علاقة له بمسألة تفضيل الأنبياء على
الملائكة بحال ولا التفات إلى ما يشذ في كل أمة أو قبيلة من الأفراد فلا يلزم
تفضيل كل فرد من بني إسرائيل على أفراد من الأمم بلغوا مرتبة صالحة أو نبوءة لأن
التفضيل في مثل هذا يراد به تفضيل المجموع ، كما تقول قريش أفضل من طيئ وإن كان في
طيئ حاتم الجواد. فكذلك تفضيل بني إسرائيل على جميع أمم عصرهم وفي تلك الأمم أمم
عظيمة كالعرب والفرس والروم والهند والصين وفيهم العلماء والحكماء ودعاة الإصلاح
والأنبياء لأنه تفضيل المجموع على المجموع في جميع العصور ، ومعنى هذا التفضيل أن
الله قد
جمع لهم من
المحامد التي تتصف بها القبائل والأمم ما لم يجمعه لغيرهم وهي شرف النسب وكمال
الخلق وسلامة العقيدة وسعة الشريعة والحرية والشجاعة ، وعناية الله تعالى بهم في
سائر أحوالهم ، وقد أشارت إلى هذا آية : (وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٢٠]
وهذه الأوصاف ثبتت لأسلافهم في وقت اجتماعها وقد شاع أن الفضائل تعود على الخلف
بحسن السمعة وإن كان المخاطبون يومئذ لم يكونوا بحال التفضيل على العالمين ولكنهم
ذكروا بما كانوا عليه فإن فضائل الأمم لا يلاحظ فيها الأفراد ولا العصور. ووجه
زيادة الوصف بقوله : (الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ) مر في أختها الأولى.
[٤٨] (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))
عطف التحذير على
التذكير ، فإنه لما ذكرهم بالنعمة وخاصة تفضيلهم على العالمين في زمانهم وكان ذلك
منشأ غرورهم بأنه تفضيل ذاتي فتوهموا أن التقصير في العمل الصالح لا يضرهم فعقب
بالتحذير من ذلك.
والمراد بالتقوى
هنا معناها المتعارف في اللغة لا المعنى الشرعي. وانتصاب (يَوْماً) على المفعولية به وليس على الظرفية ولذلك لم يقرأ بغير
التنوين.
والمراد باتقائه
اتقاؤه من حيث ما يحدث فيه من الأهوال والعذاب فهو من إطلاق اسم الزمان على ما يقع
فيه كما تقول مكان مخوف.
و (تَجْزِي) مضارع جزى بمعنى قضى حقا عن غيره ، وهو متعد بعن إلى أحد
مفعوليه فيكون (شَيْئاً) مفعوله الأول ، ويجوز أيضا أن يكون مفعولا مطلقا إذا أريد
شيئا من الجزاء ويكون المفعول محذوفا.
وجملة : (لا تَجْزِي نَفْسٌ) صفة ليوما وكان حق الجملة إذا كانت خبرا أو صفة أو حالا أو
صلة أن تشتمل على ضمير ما أجريت عليه ، ويكثر حذفه إذا كان منصوبا أو ضميرا مجرورا
فيحذف مع جاره ولا سيما إذا كان الجار معلوما لكون متعلقه الذي في الجملة لا يتعدى
إلا بجار معين كما هنا تقديره فيه وإنما جاز حذفه لأن المحذوف فيه متعين من الكلام
وقد يحذف لقرينة كما في حذف ضمير الموصول إذا جر بما جر به الموصول. ونظير هذا
الحذف قول العريان الجرمي من جرم طيئ :
فقلت لها لا
والذي حجّ حاتم
|
|
أخونك عهدا إنني
غير خوّان
|
تقديره حج حاتم
إليه.
وتنكير النفس في
الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس أي لا يغني أحد كائنا من كان فلا تغني
عن الكفار آلهتهم ولا صلحاؤهم على اختلاف عقائدهم في غناء أولئك عنهم ، فالمقصود
نفي غنائهم عنهم بأن يحولوا بينهم وبين عقاب الله تعالى ، أي نفي أن يجزوا عنهم
جزاء يمنع الله عن نوالهم بسوء رعيا لأوليائهم ، فالمراد هنا الغناء بحرمة الشخص
وتوقع غضبه وهو غناء كفء العدو الذي يخافه العدو على ما هو معروف عند الأمم يومئذ
من اتقائهم بطش مولى أعدائهم وإحجامهم عما يوجب غضبه تقية من مكره أو ضره أو حرمان
نفعه قال السموأل :
وما ضرنا أنا
قليل وجارنا
|
|
عزيز وجار
الأكثرين ذليل
|
وقال العنبري :
لو كنت من مازن
لم تستبح إبلي
|
|
بنو الشقيقة من
ذهل بن شيبان
|
وبهذا يتبين أن
مفاد قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) مغاير لمفاد ما ذكر بعده بقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) إلخ فقوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ، هو بمعنى قوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ
لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].
وقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا
يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) الضميران عائدان للنفس الثانية المجرورة بعن أي لا يقبل من
نفس شفاعة تأتي بها ولا عدل تعتاض به لأن المقصود الأصلي إبطال عقيدة تنصل المجرم
من عقاب الله ما لم يشإ الله ؛ ليكون الضمير في قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) راجعا إلى مرجع الضميرين قبله. وهذا التأييس يستتبع تحقير
من توهمهم الكفرة شفعاء وإبطال ما زعموه مغنيا عنهم من غضب الله من قرابين قربوها
ومجادلات أعدوها وقالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨]. (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ
عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١].
ومن المفسرين من
فسر قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) بما يعم الإجزاء فجعل ما هو مذكور بعده من عطف الخاص على
العالم ولذلك قال الشيخ ابن عطية : «حصرت هذه الآية المعاني التي اعتاد بها بنو
آدم في الدنيا فإن الواقع في شدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو يفتدى أو ينصر» ا ه
وألغى جمعها لحالة أن يتجنب الناس إيقاعه في
شدة اتقاء لمواليه
، وما فسرنا به أرشق. وقد جمع كلام شيوخ بني أسد مع إمرئ القيس حين كلموه في دم
أبيه حجر فقالوا : فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث :
أما إن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا فقدناه إليك بنسعه تذهب مع شفرات حسامك بباقي
قصرته ، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف ، وإما وادعتنا إلى أن
تضع الحوامل فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات» ا ه.
وقرأ الجمهور (ولا
يقبل) بياء تحتية ياء المضارع المسند إلى مذكر لمناسبة قوله بعده : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ، ويجوز في كل مؤنث اللفظ غير حقيقي التأنيث أن يعامل
معاملة المذكر لأن صيغة التذكير هي الأصل في الكلام فلا تحتاج إلى سبب ، وقرأه ابن
كثير وأبو عمرو ويعقوب بمثناة فوقية رعيا لتأنيث لفظ (شفاعة).
والشفاعة : السعي
والوساطة في حصول نفع أو دفع ضر سواء كانت الوساطة بطلب من المنتفع بها أم كانت
بمجرد سعي المتوسط ويقال لطالب الشفاعة مستشفع. وهي مشتقة من الشفع لأن الطالب أو
التائب يأتي وحده فإذا لم يجد قبولا ذهب فأتى بمن يتوسل به فصار ذلك الثاني شافعا
للأول أي مصيّره شفعا.
والعدل ـ بفتح
العين ـ العوض والفداء ، سمي بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدى بمثله في القيمة أو
العين ويسويه به ، يقال عدل كذا بكذا أي سواه به.
والنصر هو إعانة
الخصم في الحرب وغيره بقوة الناصر وغلبته. وإنما قدم المسند إليه لزيادة التأكيد
المفيد أن انتفاء نصرهم محقق زيادة على ما استفيد من نفي الفعل مع إسناده للمجهول
كما أشرنا إليه آنفا.
وقد كانت اليهود
تتوهم أو تعتقد أن نسبتهم إلى الأنبياء وكرامة أجدادهم عند الله تعالى مما يجعلهم
في أمن من عقابه على العصيان والتمرد كما هو شأن الأمم في إبان جهالتها وانحطاطها
وقد أشار لذلك قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ) [المائدة : ١٨].
وقد تمسك المعتزلة
بهذه الآية للاحتجاج لقولهم بنفي الشفاعة في أهل الكبائر يوم القيامة لعموم (نفس)
في سياق النفي المقتضي أن كل نفس لا يقبل منها شفاعة وهو عموم لم يرد ما يخصصه
عندهم. والمسألة فيها خلاف بين المعتزلة وأصحاب الأشعري.
واتفق المسلمون
على ثبوت الشفاعة يوم القيامة للطائعين والتائبين لرفع الدرجات ،
لم يختلف في ذلك
الأشاعرة والمعتزلة فهذا اتفاق على تخصيص العموم ابتداء ، والخلاف في الشفاعة لأهل
الكبائر فعندنا تقع الشفاعة لهم في حط السيئات وقت الحساب أو بعد دخول جهنم لما
اشتهر من الأحاديث الصحيحة في ذلك كقوله صلىاللهعليهوسلم : «لكل نبيء دعوة مستجابة وقد ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي» وغير
ذلك. قال القاضي أبو بكر الباقلاني : إن الأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر
المعنوي كما أشار إليه القرطبي في نقل كلامه.
وعند المعتزلة لا
شفاعة لأهل الكبائر لوجوه منها الآيات الدالة على عدم نفع الشفاعة كهاته الآية ،
وقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨]. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ) [غافر : ١٨] قالوا
والمعصية ظلم. ومنها قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨]
وصاحب الكبيرة ليس بمرتضى ، ومنها قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تابُوا) [غافر : ٧].
والجواب عن الجميع
أن محل ذلك كله في الكافرين جمعا بين الأدلة وأن قوله : (لِمَنِ ارْتَضى) يدل على أن هنالك إذنا في الشفاعة كما قال : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] وإلا
لكان الإسلام مع ارتكاب بعض المعاصي مساويا للكفر وهذا لا ترضى به حكمة الله وأما
قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تابُوا) فدعاء لا شفاعة.
والظاهر أن الذي
دعا المعتزلة إلى إنكار الشفاعة منافاتها لخلود صاحب الكبيرة في العذاب الذي هو
مذهب جمهورهم الذين فسروا قول واصل بن عطاء بالمنزلة بين المنزلتين بمعنى إعطاء
العاصي حكم المسلم في الدنيا وحكم الكافر في الآخرة ولا شك أن الشفاعة تنافي هذا
الأصل ، فما تمسكوا من الآيات إنما هو لقصد التأبيد ومقابلة أدلة أهل السنة
أمثالها. ولم نر جوابهم عن حديث الشفاعة ، وأحسب أنهم يجيبون عنه بأن أخبار الآحاد
لا تنقض أصول الدين ولذلك احتاج القاضي أبو بكر إلى الاستدلال بالتواتر المعنوي.
والحق أن المسألة
أعلق بالفروع منها بالأصول لأنها لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته ولو جاريناهم في
القول بوجوب إثابة المطيع وتعذيب العاصي ، فإن الحكمة تظهر بدون الخلود وبحصول
الشفاعة بعد المكث في العذاب ، فلما لم نجد في إثبات الشفاعة ما ينقض أصولهم فنحن
نقول لهم : لم يبق إلا أن هذا حكم شرعي في تقدير تعذيب صاحب الكبيرة غير التائب
وهو يتلقى من قبل الشارع وعليه فيكون تحديد العذاب بمدة معينة أو إلى حصول عفو
الله أو مع الشفاعة ، ولعل الشفاعة تحصل عند إرادة الله تعالى إنهاء مدة
التعذيب. وبعد فمن
حق الحكمة أن لا يستوي الكافرون والعصاة في مدة العذاب ولا في مقداره ، فهذه قولة
ضعيفة من أقوالهم حتى على مراعاة أصولهم ، وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع
الأمة قبل حدوث البدع على ثبوت الشفاعة في الآخرة ، وهو حق فقد قال سواد بن قارب
يخاطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
فكن لي شفيعا
يوم لا ذو شفاعة
|
|
بمغن فتيلا عن
سواد بن قارب
|
وأما الشفاعة
الكبرى العامة لجميع أهل موقف الحساب الوارد فيها الحديث الصحيح المشهور فإن أصول
المعتزلة لا تأباها.
وقوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) والعدل ـ بفتح العين ـ يطلق على الشيء المساوي شيئا
والمماثل له ولذلك جعل ما يفتدي به عن شيء عدلا وهو المراد هنا كما في قوله تعالى
: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ
صِياماً) [المائدة : ٩٥]
فالمعنى : ولا يقبل منها ما تفتدي به عوضا عن جرمها.
والنصر هو إعانة
العدو على عدوه ومحاربه إما بالدفاع معه أو الهجوم معه فهو في العرف مراد منه
الدفاع بالقوة الذاتية وأما إطلاقه على الدفاع بالحجة نحو (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢]
وعلى التشيع والاتباع نحو (إِنْ تَنْصُرُوا
اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] فهو
استعارة.
[٤٩] (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩))
عطف على قوله : (نِعْمَتِيَ) [البقرة : ٤٧]
فيجعل (إذ) مفعولا به كما هو في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ
كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦]
فهو هنا اسم زمان غير ظرف لفعل والتقدير اذكروا وقت نجيناكم ، ولما غلبت إضافة
أسماء الزمان إلى الجمل وكان معنى الجملة بعدها في معنى المصدر وكان التقدير
اذكروا وقت إنجائنا إياكم ، وفائدة العدول عن الإتيان بالمصدر الصريح لأن في
الإتيان بإذ المقتضية للجملة استحضارا للتكوين العجيب المستفاد من هيئة الفعل لأن
الذهن إذا تصور المصدر لم يتصور إلا معنى الحدث وإذا سمع الجملة الدالة عليه تصور
حدوث الفعل وفاعله ومفعوله ومتعلقاته دفعة واحدة فنشأت من ذلك صورة عجيبة ، فوزان
الإتيان بالمصدر وزان الاستعارة المفردة ، وزان الإتيان بالفعل وزان الاستعارة
التمثيلية ، وليس هو عطفا على جملة (اذْكُرُوا) [البقرة : ٤٧]
كما وقع في بعض
التفاسير لأن ذلك يجعل (إذ) ظرفا فيطلب متعلقا وهو ليس بموجود ، ولا يفيده حرف
العطف لأن العاطف في عطف الجمل لا يفيد سوى التشريك في حكم الجملة المعطوف عليها ،
وليس نائبا مناب عامل ، ولا يريبك الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه أعني (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) بجملة (وَاتَّقُوا يَوْماً) [البقرة : ٤٨]
فتظنه ملجأ لاعتبار العطف على الجملة لما علمت فيما تقدم أن قوله : (وَاتَّقُوا) ناشئ عن التذكير فهو من علائق الكلام وليس بأجنبي ، على
أنه ليس في كلام النحاة ما يقتضي امتناع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي
فإن المتعاطفين ليسا بمرتبة الاتصال كالعامل والمعمول ، وعدي فعل (فَأَنْجَيْناكُمْ) إلى ضمير المخاطبين مع أن التنجية إنما كانت تنجية أسلافهم
لأن تنجية أسلافهم تنجية للخلف فإنه لو بقي أسلافهم في عذاب فرعون لكان ذلك لاحقا
لأخلافهم فذلك كانت منة النتيجة منتين : منة على السلف ومنة على الخلف فوجب شكرها
على كل جيل منهم ولذلك أوجبت عليهم شريعتهم الاحتفال بما يقابل أيام النعمة عليهم
من أيام كل سنة وهي أعيادهم وقد قال الله لموسى : (وَذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥].
وآل الرجل أهله.
وأصل آل أهل قلبت هاؤه همزة تخفيفا ليتوصل بذلك إلى تسهيل الهمزة مدا. والدليل على
أن أصله أهل رجوع الهاء في التصغير إذ قالوا : أهيل ولم يسمع أويل خلافا للكسائي.
والأهل والآل يراد
به الأقارب والعشيرة والموالي وخاصة الإنسان وأتباعه. والمراد من آل فرعون وزعته
ووكلاؤه ، ويختص الآل بالإضافة إلى ذي شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا يقال آل الجاني
ولا آل مكة ، ولما كان فرعون في الدنيا عظيما وكان الخطاب متعلقا بنجاة دنيوية من
عظيم في الدنيا أطلق على أتباعه آل فلا توقف في ذلك حتى يحتاج لتأويله بقصد التهكم
كما أول قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] لأن
ذلك حكاية لكلام يقال يوم القيامة وفرعون يومئذ محقر ، هلك عنه سلطانه.
فإن قلت : إن كلمة
أهل تطلق أيضا على قرابة ذي الشرف لأنها الاسم المطلق فلما ذا لم يؤت بها هنا حتى
لا يطلق على آل فرعون ما فيه تنويه بهم؟ قلت : خصوصية لفظ آل هنا أن المقام لتعظيم
النعمة وتوفير حق الشكر والنعمة تعظيم بما يحف بها فالنجاة من العذاب وإن كانت
نعمة مطلقا إلا أن كون النجاة من عذاب ذي قدرة ومكانة أعظم
لأنه لا يكاد ينفلت
منه أحد.
ولا قرار على زأر
من الأسد
وإنما جعلت النجاة
من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل تعليقا للفعل بمن
هو من متعلقاته على طريقة الحقيقة العقلية وتنبيها على أن هؤلاء الوزعة والمكلفين
ببني إسرائيل كانوا يتجاوزون الحد المأمور به في الإعنات على عادة المنفذين فإنهم
أقل رحمة وأضيق نفوسا من ولاة الأمور كما قال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان :
إن الذين أمرتهم
أن يعدلوا
|
|
لم يفعلوا مما
أمرت فتيلا
|
جاء في التاريخ أن
مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليهالسلام في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون ، وكانت مصر منقسمة
إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط
وقاعدتها طيوه ، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي
هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود وهم الذين
يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين والهكصوص في سنة ٣٣٠٠ أو سنة ١٩٠٠ قبل
المسيح على خلاف ناشئ عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة ١٧٠٠ ق م عند
ظهور العائلة الثامنة عشرة ، فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي ، واسم فرعون
يومئذ أبو فيس أو أبيبي وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريّان بن
الوليد وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة ١٧٣٩ قبل ميلاد المسيح ، ثم كانت
سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف وصار بيده
حكم المملكة
__________________
المصرية السفلى.
وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمنا طويلا غير أن الإسرائيليين قد
حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعا بجهة
يقال لها أرض (جاسان) ومكث الإسرائيليون على ذلك نحوا من أربعمائة سنة تغلب في
خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة
التاسعة عشرة وملك ملوكها جميع البلاد المصرية ونبغ فيهم رعمسيس الثاني الملقب
بالأكبر في حدود سنة ١٣١١ قبل المسيح وكان محاربا باسلا وثارت في وجهه الممالك
التي أخضعها أبوه ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب ، فحدثت أسباب أو سوء
ظنون أوجبت تنكر القبط على الإسرائيليين وكلفوهم أشق الأعمال وسخروهم في خدمة
المزارع والمباني وصنع الآجر. وتقول التوراة إنهم بنوا لفرعون مدينة مخازن (فيثوم)
ومدينة (رعمسيس) ثم خشي فرعون أن يكون الإسرائيليون أعوانا لأعدائه عليه فأمر
باستئصالهم وكأنه اطلع على مساعدة منهم لأبناء نسبهم من العمالقة والعرب فكان يأمر
بقتل أبنائهم وسبي نسائهم وتسخير كبارهم ولا بد أن يكون ذلك لما رأى منهم من
التنكر ، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم فرعون أنه إن اختلطت
جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين فأمر باستئصالهم. وأما ما يحكيه القصاصون
أن فرعون أخبره كاهن أن ذهاب ملكه يكون على يد فتى من إسرائيل فلا أحسبه صحيحا إذ
يبعد أن يروج مثل هذا على رئيس مملكة فيفنى به فريقا من رعاياه ، اللهم إلا أن
يكون الكهنة قد أغروا فرعون باليهود قصدا لتخليص المملكة من الغرباء أو تفرسوا من
بني إسرائيل سوء النوايا فابتكروا ذلك الإنباء الكهنوتي لإقناع فرعون ، بوجوب
الحذر من الإسرائيليين ولعل ذبح الأبناء كان من فعل المصريين استخفافا باليهود ،
فكانوا يقتلون اليهودي في الخصام القليل كما أنبأت بذلك آية (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ
عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ١٥]
والحاصل أن التاريخ يفيد على الإجمال أن عداوة عظيمة نشأت بين القبط واليهود آلت
إلى أن استأصل القبط الإسرائيليين. ولقد أبدع القرآن في إجمالها إذ كانت تفاصيل
إجمالها كثيرة لا يتعلق غرض التذكير ببيانها.
وجملة : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) حال من (آلِ فِرْعَوْنَ) يحصل بها بيان ما وقع الإنجاء منه وهو العذاب الشديد الذي
كان الإسرائيليون يلاقونه من معاملة القبط لهم.
ومعنى (يَسُومُونَكُمْ) يعاملونكم معاملة المحقوق بما عومل به يقال سامه خسفا إذا
أذله واحتقره فاستعمل سام في معنى أنال وأعطى ولذلك يعدى إلى مفعولين ليس أصلهما
المبتدأ والخبر. وحقيقة سام عرض السوم أي الثمن.
وسوء العذاب أشده
وأفظعه وهو عذاب التسخير والإرهاق وتسليط العقاب الشديد بتذبيح الأبناء وسبي
النساء والمعنى يذبحون أبناء آبائكم ويستحيون نساء قومكم الأولين.
والمراد من
الأبناء قيل أطفال اليهود وقيل : أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء وهذا الوجه
أظهر وأوفق بأحوال الأمم إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار ،
ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال : إنهم كانوا يذبحون
الصغار قطعا للنسل ويسبون الأمهات استعبادا لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا
على سبيل التدريج. وإبقاء الرجال في مثل هاته الحالة أشد من قتلهم. أو لعل تقصيرا
ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال ومربيات الصغار وكان سببه شغلهن بشئون
أبنائهن فكان المستعبدون لهم إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل.
والاستحياء
استفعال يدل على الطلب للحياة أي يبقونهن أحياء أو يطلبون حياتهن. ووجه ذكره هنا
في معرض التذكير بما نالهم من المصائب أن هذا الاستحياء للإناث كان المقصد منه
خبيثا وهو أن يعتدوا على أعراضهن ولا يجدن بدا من الإجابة بحكم الأسر والاسترقاق
فيكون قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) كناية عن استحياء خاص ولذلك أدخل في الإشارة في قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ) ولو كان المراد من الاستحياء ظاهره لما كان وجه لعطفه على
تلك المصيبة.
وقيل إن الاستحياء
من الحياء وهو الفرج أي يفتشون النساء في أرحامهن ليعرفوا هل بهن حمل وهذا بعيد
جدا وأحسن منه أن لو قال إنه كناية كما ذكرنا آنفا. وقد حكت التوراة أن فرعون أوصى
القوابل بقتل كل مولود ذكر.
وجملة : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) إلخ بيان لجملة (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) فيكون المراد من سوء العذاب هنا خصوص التذبيح وما عطف عليه
وهو (وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) لما عرفت فكلاهما بيان لسوء العذاب فكان غير ذلك من العذاب
لا يعتد به تجاه هذا. ولك أن تجعل الجملة في موضع بدل البعض تخصيصا لأعظم أحوال
سوء العذاب بالذكر وهذا هو الذي يطابق آية سورة إبراهيم [٦] التي ذكر فيها (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) بالعطف على (سُوءَ الْعَذابِ) وليس قوله (وَيَسْتَحْيُونَ) مستأنفا لإتمام تفصيل صنيع فرعون بل هو من جملة البيان أو
البدل للعذاب ويدل لذلك قوله تعالى في الآية الأخرى : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي
نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص : ٤] فعقب
الفعلين بقوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ).
والبلاء الاختبار
بالخير والشر قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ
بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨]
وهو مجاز مشهور حقيقته بلاء الثواب ـ بفتح الباء مع المد وبكسرها مع القصر ـ وهو
تخلقه وترهله ولما كان الاختبار يوجب الضجر والتعب سمي بلاء كأنه يخلق النفس ، ثم
شاع في اختبار الشر لأنه أكثر إعناتا للنفس ، وأشهر استعماله إذا أطلق أن يكون
للشر فإذا أرادوا به الخير احتاجوا إلى قرينة أو تصريح كقول زهير :
جزى الله
بالإحسان ما فعلا بكم
|
|
وأبلاهما خير
البلاء الذي يبلو
|
فيطلق غالبا على
المصيبة التي تحل بالعبد لأن بها يختبر مقدار الصبر والأناة والمراد هنا المصيبة
بدليل قوله (عَظِيمٌ). وقيل أراد به الإنجاء والبلاء بمعنى اختبار الشكر وهو
بعيد هنا.
وتعلق الإنجاء بالمخاطبين
لأن إنجاء سلفهم إنجاء لهم فإنه لو أبقى سلفهم هنالك للحق المخاطبين سوء العذاب
وتذبيح الأبناء ، أو هو على حذف مضاف أي نجينا آباءكم ، أو هو تعبير عن الغائب
بضمير الخطاب إما لنكتة استحضار حاله وإما لكون المخاطبين مثالهم وصورتهم فإن ما
يثبت من الفضائل لآباء القبيلة يثبت لأعقابهم فالإتيان بضمير المخاطب على خلاف
مقتضى الظاهر على حد ما يقال في قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١]
فالخطاب ليس بالتفات لأن اعتبار أحوال القبائل يعتبر للخلف ما ثبت منه للسلف.
[٥٠] (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ
فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))
هذا زيادة في
التفصيل بذكر نعمة أخرى عظيمة خارقة للعادة ، بها كان تمام الإنجاء من آل فرعون ،
وفيها بيان مقدار إكرام الله تعالى لهم ومعجزة لموسى عليهالسلام وتعدية فعل (فَرَقْنا) إلى ضمير المخاطبين بواسطة الحرف جار على نحو تعدية فعل (نَجَّيْناكُمْ) [البقرة : ٤٩] إلى
ضميرهم كما تقدم.
وفرق وفرّق
بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد إذ التشديد يفيده تعدية ومعناه الفصل بين أجزاء شيء
متصل الأجزاء ، غير أن فرق يدل على شدة التفرقة وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد
اتصالا ، وقد قيل إن فرّق للأجسام وفرق للمعاني نقله القرافي عن بعض مشايخه وهو غير تام كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا
التفسير بدليل
__________________
هذه الآية ،
فالوجه أن فرّق بالتشديد لما فيه علاج ومحاولة وأن المخفف والمشدد كليهما حقيقة في
فصل الأجسام وأما في فصل المعاني الملتبسة فمجاز.
وقد اتفقت
القراءات المتواترة العشر على قراءة (فرقنا) بالتخفيف والتخفيف منظور فيه إلى عظيم
قدرة الله تعالى فكان ذلك الفرق الشديد خفيفا.
وتصغر في عين
العظيم العظائم
وأل في (البحر)
للعهد وهو البحر الذي عهدوه أعني بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر وسمته
التوراة بحر سوف.
والباء في (بكم)
إما للملابسة كما في طارت به العنقاء وعدا به الفرس ، أي كان فرق البحر ملابسا لكم
والمراد من الملابسة أنه يفرق وهم يدخلونه فكان الفرق حاصلا بجانبهم. وجوز صاحب «الكشاف» كون الباء للسببية أي بسببكم يعني لأجلكم.
والخطاب هنا
كالخطاب في قوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩].
وقوله : (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) هو محل المنة وذكر النعمة وهو نجاتهم من الهلاك وهلاك
عدوهم ، قال الفرزدق :
كيف تراني قاليا
مجنى
|
|
قد قتل الله
زيادا عني
|
فكون قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) تمهيدا للمنة لأنه سبب الأمرين النجاة والهلاك وهو مع ذلك
معجزة لموسى عليهالسلام.
وقد أشارت الآية
إلى ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من لحاق جند فرعون بهم لمنعهم من
مغادرة البلاد المصرية وذلك أنهم لما خرجوا ليلا إما بإذن من فرعون كما تقول
التوراة في بعض المواضع ، وإما خفية كما عبرت عنه التوراة بالهروب ، حصل لفرعون
ندم على إطلاقهم أو أغراه بعض أعوانه بصدهم عن الخروج لما في خروجهم من إضاعة
الأعمال التي كانوا يسخرون فيها أو لأنه لما رآهم سلكوا غير الطريق المألوف
لاجتياز مصر إلى الشام ظنهم يرومون الانتشار في بعض جهات مملكته المصرية فخشى شرهم
إن هم بعدوا عن مركز ملكه ومجتمع قوته وجنده.
إن بني إسرائيل ما
خرجوا من جهات حاضرة مصر وهي يومئذ مدينة منفيس لم
__________________
يسلكوا الطريق
المألوف لبلاد الشام إذ تركوا أن يسلكوا طريق شاطئ بحر الروم (المتوسط) فيدخلوا
برية سينا من غير أن يخترقوا البحر ولا يقطعوا أكثر من اثنتي عرة مرحلة أعني
مائتين وخمسين ميلا وسلكوا طريقا جنوبية شرقية حول أعلى البحر الأحمر لئلا يسلكوا
الطريق المألوفة الآهلة بقوافل المصريين وجيوش الفراعنة فيصدوهم عن الاسترسال في
سيرهم أو يلحق بهم فرعون من يردهم لأن موسى علم بوحي كما قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الشعراء : ٥٢] إن
فرعون لا يلبث أن يصدهم عن المضي في سيرهم فلذلك سلك بهم ـ بالأمر الإلهي ـ طريقا
غير مطروقة فكانوا مضطرين للوقوف أمام البحر في موضع يقال له «فم الحيروث» فهنالك
ظهرت المعجزة إذ فلق الله لهم البحر بباهر قدرته فأمر موسى أن يضربه بعصاه فانفلق
وصار فيه طريق يبس مرت عليه بنو إسرائيل وكان جند فرعون قد لحق بهم ورام اقتحام
البحر وراءهم فانطبق البحر عليهم فغرقوا.
وقوله : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أي جنده وأنصاره. ولم يذكر في هاته الآية غرق فرعون لأن
محل المنة هو إهلاك الذين كانوا المباشرين لتسخير بني إسرائيل وتعذيبهم والذين هم
قوة فرعون وقد ذكر غرق فرعون في آيات أخرى نتكلم عليها في موضعها إن شاء الله ،
وكان ذلك في زمن الملك «منفتاح» ويقال له «منفطة» أو «مينيتاه» من فراعنة العائلة
التاسعة عشرة في ترتيب فراعنة مصر عند المؤرخين.
قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جملة حالية من الفاعل وهو ضمير الجلالة في (فَرَقْنا) وأنجينا و (أَغْرَقْنا) مقيدة للعوامل الثلاثة على سبيل التنازع فيها ، ولا يتصور
في التنازع في الحال إضمار في الثاني على تقدير إعمال الأول لأن الجملة لا تضمر
كما لا يضمر في التنازع في الظرف نحو سكن وقرأ عندك ولعل هذا مما يوجب إعمال الأول
وهذا الحال زيادة في تقرير النعمة وتعظيمها فإن مشاهدة المنعم عليه للنعمة لذة عظيمة
لا سيما ومشاهدة إغراق العدو أيضا نعمة زائدة كما أن مشاهدة فرق البحر نعمة عظيمة
لما فيها من مشاهدة معجزة تزيدهم إيمانا وحادث لا تتأتى مشاهدته لأحد. ويجوز أن
تكون الجملة حالا من المفعول وهو (آل فرعون) أي تنظرونهم ، ومفعول (تَنْظُرُونَ) محذوف
__________________
ولا يستقيم جعله
منزلا منزلة اللازم. وإسناد النظر إليهم باعتبار أن أسلافهم كانوا ناظرين ذلك لأن
النعمة على السلف نعمة على الأبناء لا محالة فضمير الخطاب مجاز.
[٥١ ، ٥٢] (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١)
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢))
تذكير لهم بنعمة
عفو الله عن جرمهم العظيم بعبادة غيره وذلك مما فعله سلفهم ، فإسناد تلك الأفعال
إلى ضمير المخاطبين باعتبار ما عطف عليه من قوله : (ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ) فإن العفو عن الآباء منة عليهم وعلى أبنائهم يجب على
الأبناء الشكر عليه كما تقدم عند قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٤٠ ، ٤٧].
ووقع في «الكشاف» و«تفسير
البغوي» و«تفسير البيضاوي» أن الله وعد موسى أن يؤتيه الشريعة بعد أن عاد بنو
إسرائيل إلى مصر بعد مهلك فرعون ، وهذا وهم فإن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر
البتة بعد خروجهم ، كيف والآيات صريحة في أن نزول الشريعة كان بطور سينا وأن
خروجهم كان ليعطيهم الله الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وقد أشار في «الكشاف» في سورة الدخان إلى التردد فيه ولا ينبغي التردد في ذلك.
وقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ) هو المقصود وأما ما ذكر قبله فهو تمهيد وتأسيس لبنائه
وتهويل لذلك الجرم إظهارا لسعة عفو الله تعالى وحلمه عنهم. وتوسيط التذكير بالعفو
عن هذه السيئة بين ذكر النعم المذكورة مراعاة لترتيب حصولها في الوجود ليحصل غرضان
غرض التذكير وغرض عرض تاريخ الشريعة.
والمراد من
المواعدة هنا أمر الله موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاة الله تعالى وإطلاق الوعد
على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة.
وقراءة الجمهور (وَواعَدْنا) بألف بعد الواو على صيغة المفاعلة المقتضية حصول الوعد من
جانبين الوعد والموعود والمفاعلة على غير بابها لمجرد التأكيد على حد سافر وعافاه
الله ، وعالج المريض وقاتله الله ، فتكون مجازا في التحقيق لأن المفاعلة تقتضي
تكرر الفعل من فاعلين فإذا أخرجت عن بابها بقي التكرر فقط من غير نظر للفاعل ثم
أريد من التكرر لازمه وهو المبالغة والتحقق فتكون بمنزلة التوكيد اللفظي. والأشهر
أن المواعدة لما كان غالب أحوالها حصول الوعد من الجانبين شاع استعمال صيغتها في
مطلق الوعد وقد
شاع استعمالها أيضا في خصوص التواعد بالملاقاة كما وقع في حديث الهجرة «وواعداه
غار ثور». وقول الشاعر :
فواعديه سرحتي
مالك
|
|
أو الرّبا
بينهما أسهلا
|
واستعملت هنا لأن
المناجاة والتكلم يقتضي القرب فهو بمنزلة اللقاء على سبيل الاستعارة ولذلك استغني
عن ذكر الموعود به لظهوره من صيغة المواعدة.
وقيل المفاعلة على
بابها بتقدير أن الله وعد موسى أن يعطيه الشريعة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى
ربه أن يمتثل لذلك ، فكان الوعد حاصلا من الطرفين وذلك كاف في تصحيح المفاعلة بقطع
النظر عن اختلاف الموعود به ، وذلك لا ينافي المفاعلة لأن مبنى صيغة المفاعلة حصول
فعل متماثل من جانبين لا سيما إذا لم يذكر المتعلق في اللفظ كما هنا لقصد الإيجاز
البديع لقصد إعظام المتعلق من الجانبين ، ولك أن تقول سوغ حذفه علم المخاطبين به
فإن هذا الكلام مسوق للتذكير لا للإخبار والتذكير يكتفى فيه بأقل إشارة فاستوى
الحذف والذكر فرجح الإيجاز وإن كان الغالب اتحاده.
وقرأ أبو عمرو
وأبو جعفر ويعقوب وعدنا بدون ألف عقب الواو على الحقيقة.
وموسى هو رسول
الله إلى بني إسرائيل وصاحب شريعة التوراة ، وهو موسى بن عمران ولم يذكر اسم جده
ولكن الذي جاء في التوراة أنه هو وأخوه هارون من سبط لاوى بن يعقوب. ولد بمصر في
حدود سنة ألف وخمسمائة قبل ميلاد عيسى ولما ولدته أمه خافت عليه أن يأخذه القبط
فيقتلوه لأنه في أيام ولادته كان القبط قد ساموا بني إسرائيل سوء العذاب لأسباب
غير مشروعة كما تقدم عند قوله تعالى : (يُذَبِّحُونَ
أَبْناءَكُمْ) [البقرة : ٤٩]
فأمر ملك مصر بقتل كل ذكر يولد في إسرائيل.
وأمه تسمى «يوحانذ»
وهي أيضا من سبط لاوى وكان زوجها قد توفي حين ولدت موسى فتحيلت لإخفائه عن القبط
مدة ثلاثة أشهر ثم ألهمها الله فأرضعته رضعة ووضعته في سفط منسوج من خوص البردي
وطلته بالمغفرة والقار لئلا يدخله الماء ووضعت فيه الولد وألقته في النيل بمقربة
من مساكن فرعون على شاطئ النيل ووكلت أختا له اسمها مريم بأن ترقب الجهة التي
يلقيه النيل فيها وما ذا يصنع به ، وكان ملك مصر في ذلك الوقت تقريبا هو فرعون
رعمسيس الثاني ، ولما حمله النهر كانت ابنة فرعون المسماة ثرموت مع جوار لها يمشين
على حافة النهر لقصد السباحة والتبرد في مائه قيل كانوا في
مدينة عين شمس
فلما بصرت بالسفط أرسلت أمة لها لتنظر السفط فلما فتحنه وجدن الصبي فأخذته ابنة
فرعون إلى أمها وأظهرت مريم أخت موسى نفسها لابنة فرعون فلما رأت رقة ابنة فرعون
على الصبي قالت : إن فينا مرضعا أفأذهب فأدعوها لترضعه؟ فقالت : نعم فذهبت وأتت
بأم موسى. وأخذت امرأة فرعون الولد وتبنته وسمته موشى قيل : إنه مركب من كلمة «مو»
بمعنى الماء وكلمة «شى» بمعنى المنقذ وقد صارت في العربية موسى والأظهر أن هذا
الاسم مركب من اللغة العبرية لا من القبطية فلعله كان له اسم آخر في قصر فرعون
وأنه غير اسمه بعد ذلك.
ونشأ موسى في بيت
فرعون كولد له ولما كبر علم أنه ليس بابن لفرعون وأنه إسرائيلي ولعل أمه أعلمته
بذلك وجعلت له أمارات يوقن بها وأنشأه الله على حب العدل ونصر الضعيف وكان موسى
شديدا قوي البنية ولما بلغ أشده في حدود نيف وثلاثين من عمره حدث له حادث قتل فيه
قبطيا انتصارا لإسرائيلي ولعل ذلك كان بعد مفارقته لقصر فرعون أي بعد موت مربيه
فخاف موسى أن يقتص منه وهاجر من مصر ومر في مهاجرته بمدين وتزوج ابنة شعيب ثم خرج
من مدين بعد عشر سنين وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة. وأوحى الله إليه في طريقه أن
يخرج بني إسرائيل من مصر وينقذهم من ظلم فرعون فدخل مصر ولقي أخاه هارون في جملة
قومه في مصر وسعى في إخراج بني إسرائيل من مصر بما قصه الله في كتابه وكان خروجه
ببني إسرائيل من مصر في حدود سنة ١٤٦٠ ستين وأربعمائة وألف قبل المسيح في زمن
منفطاح الثاني وتوفي موسى عليهالسلام قرب أريحا على جبل نيبو سنة ١٣٨٠ ثمانين وثلاثمائة وألف
قبل ميلاد عيسى ودفن هنالك وقبره غير معروف لأحد كما هو نص التوراة.
وقوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) انتصب على أنه ظرف لمتعلق (واعَدْنا) وهو اللقاء الموعود به ناب هذا الظرف عن المتعلق أي مناجاة
وغيرها في أربعين ليلة إن جعل (واعَدْنا) مسلوب المفاعلة وإن أبقي على ظاهره قدرنا متعلقين وعلى كلا
التقديرين فانتصاب (أربعين) على الظرفية لذلك المحذوف على أن إطلاق اسم الزمان على
ما يقع فيه مجاز شائع في كلام البلغاء ومنه (وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ) [البقرة : ٤٨] كما
تقدم والأمور التي اشتملت عليها الأربعون ليلة معلومة للمخاطبين يتذكرونها بمجرد
الإلماع إليها.
وبما حررناه في
قوله : (وَإِذْ واعَدْنا
مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) تستغني عن تطويلات واحتمالات جرت في كلام الكاتبين هنا من
وجوه ذكرها التفتازانيّ وعبد الحكيم وقد جمع
الوجه الذي أبديناه
محاسنها. وجعل الميقات ليالي لأن حسابهم كان بالأشهر القمرية.
وعطفت جملة (اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) بحرف (ثُمَ) الذي هو في عطف الجمل للتراخي الترتيبي للإشارة إلى ترتيب
في درجات عظم هذه الأحوال وعطف (ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أيضا لتراخي مرتبة العفو العظيم عن عظيم جرمهم فروعي في
هذا التراخي أن ما تضمنته هذه الجمل عظائم أمور في الخير وضده تنبيها على عظم سعة
رحمة الله بهم قبل المعصية ، وبعدها وحذف المفعول الثاني لاتخذتم لظهوره وعلمهم به
ولشناعة ذكره وتقديره معبودا أو إلها وبه تظهر فائدة ذكر (مِنْ بَعْدِهِ) لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي
تزيدهم كمالا لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم
الله تعالى وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد
أن رأوا معجزاته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ
آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨]
الآية.
وفائدة ذكر (من)
للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليهالسلام وهذه أيضا حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد
طول المغيب على أنه ضعف في العهد كما قال الحرث بن كلدة :
فما أدري أغيّرهم
تناء
|
|
وطول العهد أم
مال أصابوا
|
ففي قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) تعريض بقلة وفائهم في حفظ عهد موسى.
وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد مغيبه وتقدير المضاف مع بعد المضاف إلى اسم المتحدث
عنه شائع في كلام العرب لظهوره بحسب المقام وإذا لم يكن ما يعنيه من المقام
فالأكثر أنه يراد به بعد الموت كما في قوله تعالى : (قُلْتُمْ لَنْ
يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) [غافر : ٣٤] وقوله
: (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [البقرة : ٢٤٦].
وإنما اتخذوا
العجل تشبها بالكنعانيين الذين دخلوا إلى أرضهم وهم الفنيقيون سكان سواحل بلاد
الشام فإنهم كانوا عبدة أوثان وكان العجل مقدسا عندهم وكانوا يمثلون أعظم الآلهة
عندهم بصورة إنسان من نحاس له رأس عجل جالس على كرسي مادا ذراعيه كمتناول شيء
يحتضنه وكانوا يحمونه بالنار من حفرة تحت كرسيه لا يتفطن لها الناس فكانوا يقربون
إليه القرابين وربما قربوا له أطفالهم صغارا فإذا وضع الطفل على ذراعيه اشتوى
فظنوا ذلك أمارة قبول القربان فتبا لجهلهم وما يصنعون. وكان يسمى عندهم
«بعلا» وربما سموه
«مولوك» وهم أمة سامية لغتها وعوائدها تشبه في الغالب لغة وعوائد العرب فلما مر
بهم بنو إسرائيل قالوا لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨]
فانتهرهم موسى وكانوا يخشونه فلما ذهب للمناجاة واستخلف عليهم هارون استضعفوه
وظنوا أن موسى هلك فاتخذوا العجل الذي صنعوه من ذهب وفضة من حليهم وعبدوه.
وقوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) حال مقيدة لاتخذتم ليكون الاتخاذ مقترنا بالظلم من مبدئه
إلى منتهاه وفائدة الحال الإشعار بانقطاع عذرهم فيما صنعوا وأن لا تأويل لهم في
عبادة العجل أو لأنهم كانوا مدة إقامتهم بمصر ملازمين للتوحيد محافظين على وصية
إبراهيم ويعقوب لذريتهما بملازمة التوحيد فكان انتقالهم إلى الشرك بعد أن جاءهم
رسول انتقالا عجيبا. فلذلك كانوا ظالمين في هذا الصنع ظلما مضاعفا فالظاهر أن ليس
المراد بالظلم في هاته الآية الشرك والكفر وإن كان من معاني الظلم في اصطلاح
القرآن لظهور أن اتخاذ العجل ظلم فلا يكون للحال معه موقع. وقد اطلعت بعد هذا على «تفسير
الشيخ محمد بن عرفة التونسي» فوجدته قال : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي لا شبهة لكم في اتخاذه.
وقوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ) هو محل المنة ، وعطفه بثم لتراخي رتبة هذا العفو في أنه
أعظم من جميع تلك النعم التي سبق عدها ففيه زيادة المنة فالمقصود من الكلام هو
المعطوف بثم وأما ما سبق من قوله : (وَإِذْ واعَدْنا
مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إلخ فهو تمهيد له وتوصيف لما حفّ بهذا العفو من عظم الذنب.
وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) حال من ضمير «عفونا» مقيدة للعفو إعجابا به أي هو عفو حال
حصوله بعد ذلك الذنب العظيم وليس ظرفا لغوا متعلقا بعفونا حتى يقال : إن ثم دلت
على معناه فيكون تأكيدا لمدلول ثم تأخير العفو فيه وإظهار شناعته بتأخير العفو عنه
وإنما جاء قوله ذلك مقترنا بكاف خطاب الواحد في خطاب الجماعة لأن ذلك لكونه أكثر
أسماء الإشارة استعمالا بالإفراد إذ خطاب المفرد أكثر غلب فاستعمل لخطاب الجمع
تنبيها على أن الكاف قد خرجت عن قصد الخطاب إلى معنى البعد ومثل هذا في كلام العرب
كثير لأن التثنية والجمع شيئان خلاف الأصل لا يصار إليهما إلا عند تعيين معناهما
فإذا لم يقصد تعيين معناهما فالمصير إليهما اختيار محض.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) رجاء لحصول شكركم ، وعدل عن لام التعليل إيماء إلى أن
شكرهم مع ذلك أمر يتطرقه احتمال التخلف فذكر حرف الرجاء دون حرف التعليل من بديع
البلاغة فتفسير لعل بمعنى لكي يفيت هذه الخصوصية وقد تقدم كيفية دلالة لعل على
الرجاء في كلام
الله تعالى عند قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إلى قوله (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١].
ومعنى الشكر تقدم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢]
وللغزالي فيه باب حافل عدلنا عن ذكره لطوله فارجع إليه في كتاب «الإحياء».
[٥٣] (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))
هذا تذكير بنعمة
نزول الشريعة التي بها صلاح أمورهم وانتظام حياتهم وتأليف جماعتهم مع الإشارة إلى
تمام النعمة وهم يعدونها شعار مجدهم وشرفهم لسعة الشريعة المنزلة لهم حتى كانت
كتابا فكانوا به أهل كتاب أي أهل علم تشريع.
والمراد من (الكتاب)
التوراة التي أوتيها موسى فالتعريف للعهد ، ويعتبر معها ما ألحق بها على نحو ما
قدمناه في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢].
والفرقان مصدر
بوزن فعلان مشتق من الفرق وهو الفصل استعير لتمييز الحق من الباطل فهو وصف لغوي
للتفرقة فقد يطلق على كتاب الشريعة وعلى المعجزة وعلى نصر الحق على الباطل وعلى
الحجة القائمة على الحق وعلى ذلك جاءت آيات (تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ
الْفُرْقانَ) [الأنبياء : ٤٨]
فلعله أراد المعجزات لأن هارون لم يؤت وحيا وقال : (يَوْمَ الْفُرْقانِ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [الأنفال : ٤١]
يعني يوم النصر يوم بدر وقال : (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٤]
عطفا على (نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣]
الآية.
والظاهر أن المراد
به هنا المعجزة أو الحجة لئلا يلزم عطف الصفة على موصوفها إن أريد بالفرقان الكتاب
الفارق بين الحق والباطل والصفة لا يجوز أن تتبع موصوفها بالعطف ومن نظر ذلك بقول
الشاعر :
إلى الملك القرم
وابن الهمام
|
|
وليث الكتيبة في
المزدحم
|
فقد سها لأن ذلك
من عطف بعض الصفات على بعض لا من عطف الصفة على الموصوف كما نبه عليه أبو حيان.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) هو محل المنة لأن إتيان الشريعة لو لم يكن لاهتدائهم وكان
قاصرا على عمل موسى به لم يكن فيه نعمة عليهم. والقول في (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) كالقول في (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٢]
السابق.
[٥٤] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى
بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ
فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))
هذه نعمة أخرى وهي
نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابرا لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل
العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة
المتضمنة لها قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٥٢] لأن
العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو
حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس
والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح ، فلما
عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية
التي هي أثر الذنب ، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان.
فقول موسى لقومه :
(إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد ـ وإن جاز
الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها
شرائع الله ـ فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلا حقيقة إما بأن يقتل كل من
عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول
واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله (ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ) وقول ابن أذينة :
وإذا وجدت لها
وساوس سلوة
|
|
شفع الفؤاد إلى
الضمير فسلها
|
وإما بأن يقتل من
لم يعبدوا العجل عابديه ، وكلام التوراة في هذا الغرض في غاية الإبهام وظاهره أن
موسى أمره الله أن يأمر اللاويين ـ الذين هم من سبط لاوي الذي منه موسى وهارون ـ
أن يقتلوا من عبد العجل بالسيف وأنهم فعلوا وقتلوا ثلاثة آلاف نفس ثم استشفع لهم
موسى فغفر الله لهم أي فيكون حكم قتل أنفسهم منسوخا بعد العمل به ويكون المعنى
فليقتل بعضكم بعضا ، فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي
فليسلم بعضكم على بعض وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤] أي
لا يسفك بعضكم دماء بعض وقوله
عقبه : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥]
فالفاعل والمفعول متغايران.
ومن الناس من حمل
الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذليل والقهر على نحو قول امرئ
القيس : «في أعشار قلب مقتّل» وقوله : خمر مقتلة أو مقتولة ، أي مذللة سورتها
بالماء. قال بجير بن زهير :
إن التي ناولتني
فرددتها
|
|
قتلت قتلت
فهاتها لم تقتل
|
وفيه بعد عن اللفظ
بل مخالفة لغرض الامتنان ، لأن تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة.
والظلم هنا
الجناية والمعصية على حد قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].
والفاء في قوله : (فَتُوبُوا) فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريع
الأمر على الخبر وليست هنا عاطفة عند الزمخشري وابن الحاجب إذ ليس بين الخبر
والإنشاء ترتب في الوجود ، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري
على عبارات الجمهور مثل صاحب «مغني اللبيب» فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير
في ذلك.
وذكر التوبة تقدم
في قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧].
والفاء في قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون
الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ
ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣]
كما في «مغني
اللبيب» وهو يقتضي أنها
تفيد الترتيب لا التعقيب. وأما صاحب «الكشاف» فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه
بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتبا عليه ومعقبا وهذا الوجه لم يذكره صاحب «المغني» وهذا لا يتأتى في قوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ
فَقالُوا) ، وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها
قتلهم أنفسهم فتكون
__________________
الفاء للترتيب
والتعقيب أيضا.
وعندي أنه إذا
كانت الجملة الثانية منزلة منزلة البيان من الجملة الأولى وكانت الأولى معطوفة
بالفاء كان الأصل في الثانية أن تقطع عن العطف فإذا قرنت بالفاء كما في هذه الآية
كانت الفاء الثانية مؤكدة للأولى ، ولعل ذلك إنما يحسن في كل جملتين تكون أولاهما
فعلا غير محسوس وتكون الثانية فعلا محسوسا مبين للفعل الأول فينزل منزلة حاصل عقبه
فيقرن بالفاء لأنه لا يحصل تمامه إلا بعد تقرير الفعل الأول في النفس ولذلك قربه
صاحب «الكشاف» بتأويل الفعل الأول بالعزم في بعض المواضع.
والبارئ هو الخالق
الخلق على تناسب وتعديل فهو أخص من الخالق ولذلك أتبع به الخالق في قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) [الحشر : ٢٤].
وتعبير موسى عليهالسلام في كلامه بما يدل على معنى لفظ البارئ في العربية تحريض
على التوبة لأنها رجوع عن المعصية ففيها معنى الشكر وكون الخلق على مثال متناسب
يزيد تحريضا على شكر الخالق.
وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ظاهر في أنه من كلام الله تعالى عند تذكيرهم بالنعمة وهو
محل التذكير من قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ) إلخ فالماضي مستعمل في بابه من الإخبار وقد جاء على طريقة
الالتفات لأن المقام للتكلم فعدل عنه إلى الغيبة ورجحه هنا سبق معاد ضمير الغيبة
في حكاية كلام موسى. وعطفت الفاء على محذوف إيجازا ، أي ففعلتم فتاب عليكم أو
فعزمتم فتاب عليكم ، على حد (أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] أي
فضرب ، وعطف بالفاء إشارة إلى تعقيب جرمهم بتوبته تعالى عليهم وعدم تأخيرها إلى ما
بعد استئصال جميع الذين عبدوا العجل بل نسخ ذلك بقرب نزوله بعد العمل به قليلا أو
دون العمل به وفي ذلك رحمة عظيمة بهم إذ حصل العفو عن ذنب عظيم بدون تكليفهم توبة
شاقة بل اكتفاء بمجرد ندمهم وعزمهم على عدم العود لذلك.
ومن البعيد أن
يكون (فَتابَ عَلَيْكُمْ) من كلام موسى لما فيه من لزوم حذف في الكلام غير واضح
القرينة ؛ لأنه يلزم تقدير شرط تقديره فإن فعلتم يتب عليكم فيكون مرادا منه الاستقبال
والفاء فصيحة ، ولأنه يعرى هذه الآية عن محل النعمة المذكر به إلا تضمنا.
وجملة : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) خبر وثناء على الله ، وتأكيده بحرف التوكيد لتنزيلهم منزلة
من يشك في حصول التوبة عليهم لأن حالهم في عظم جرمهم حال من
يشك في قبول
التوبة عليه وإنما جمع التواب مع الرحيم لأن توبته تعالى عليهم كانت بالعفو عن
زلّة اتخاذهم العجل وهي زلة عظيمة لا يغفرها إلا الغفار ، وبالنسخ لحكم قتلهم وذلك
رحمة فكان للرحيم موقع عظيم هنا وليس هو لمجرد الثناء.
[٥٥ ، ٥٦] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (٥٦))
تذكير بنعمة أخرى
نشأت بعد عقاب على جفاء طبع فمحل المنة والنعمة هو قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) ، وما قبله تمهيد له وتأسيس لبنائه كما تقدم في قوله : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً) [البقرة : ٥١]
الآية. والقائلون هم أسلاف المخاطبين وذلك أنهم قالوا لموسى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ
جَهْرَةً).
والظاهر أن هذا
القول وقع منهم بعد العفو عن عبادتهم العجل كما هو ظاهر ترتيب الآيات ، روى ذلك
البغوي عن السدي ، وقيل : إن ذلك سألوه عند مناجاته وأن السائلين هم السبعون الذين
اختارهم موسى للميقات وهم المعبر عنهم في التوراة بالكهنة وبشيوخ بني إسرائيل.
وقيل : سأل ذلك جمع من عامة بني إسرائيل نحو العشرة الآلاف وهذان القولان حكاهما
في «الكشاف» وليس في التوراة ما هو صريح لترجيح أحد القولين ولا ما هو
صريح في وقوع هذا السؤال ولكن ظاهر ما في سفر التثنية منها ما يشير إلى أن هذا
الاقتراح قد صدر وأنه وقع بعد كلام الله تعالى الأول لموسى لأنها لما حكت تذكير
موسى في مخاطبة بني إسرائيل ذكرت ما يغاير كيفية المناجاة الأولى إذ قال : فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام والجبل يشتعل بالنار
تقدم إليّ جميع رؤساء أسباطكم وشيوخكم وقلتم هو ذا الرب إلهنا قد أرانا مجده
وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار ... إن عند ما نسمع صوت الرب إلهنا أيضا نموت ...
تقدم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلخ. فهذا
يؤذن أن هنالك ترقبا كان منهم لرؤية الله تعالى وأنهم أصابهم ما بلغ بهم مبلغ
الموت ، وبعد فالقرآن حجة على غيره مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه. والظاهر أن
ذلك كان في الشهر الثالث بعد خروجهم من مصر.
ومعنى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) يحتمل أنهم توقعوا الكفر إن لم يروا الله تعالى أي إنهم
__________________
يرتدون في
المستقبل عن إيمانهم الذي اتصفوا به من قبل ، ويحتمل أنهم أرادوا الإيمان الكامل
الذي دليله المشاهدة أي إن أحد هذين الإيمانين ينتفي إن لم يروا الله جهرة لأن لن
لنفي المستقبل قال سيبويه : «لا لنفي يفعل ولن لنفي سيفعل» وكما أن قولك سيقوم لا
يقتضي أنه الآن غير قائم فليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا حين قولهم هذا
ولكنها دالة على عجرفتهم وقلة اكتراثهم بما أوتوا من النعم وما شاهدوا من المعجزات
حتى راموا أن يروا الله جهرة وإن لم يروه دخلهم الشك في صدق موسى وهذا كقول القائل
إن كان كذا فأنا كافر. وليس في القرآن ولا في غيره ما يدل على أنهم قالوا ذلك عن
كفر.
وإنما عدى (نُؤْمِنَ) باللام لتضمينه معنى الإقرار بالله ولن نقر لك بالصدق
والذي دل على هذا الفعل المحذوف هو اللام وهي طريقة التضمين.
والجهرة مصدر بوزن
فعلة من الجهر وهو الظهور الواضح فيستعمل في ظهور الذوات والأصوات حقيقة على قول
الراغب إذ قال : «الجهر ظهور الشيء بإفراط إما بحاسة البصر نحو رأيته جهارا ومنه
جهر البئر إذا أظهر ماءها ، وإما بحاسة السمع نحو : (وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ) [طه : ٧]» وكلام «الكشاف»
مؤذن بأن الجهر مجاز في الرؤية بتشبيه الذي يرى بالعين بالجاهر بالصوت والذي يرى
بالقلب بالمخافت ، وكان الذي حداه على ذلك اشتهار استعمال الجهر في الصوت وفي هذا
كله بعد إذ لا دليل على أن جهرة الصوت هي الحقيقة ولا سبيل إلى دعوى الاشتهار في
جهرة الصوت حتى يقول قائل إن الاشتهار من علامات الحقيقة على أن الاشتهار إنما
يعرف به المجاز القليل الاستعمال ، وأما الأشهرية فليست من علامات الحقيقة ، ولأنه
لا نكتة في هذه الاستعارة ولا غرض يرجع إلى المشبه من هذا التشبيه فإن ظهور الذوات
أوضح من ظهور الأصوات.
وانتصب (جهرة) على
المفعول المطلق لبيان نوع فعل ترى لأن من الرؤية ما يكون لمحة أو مع سائر شفاف فلا
تكون واضحة.
ووجه العدول عن أن
يقول عيانا إلى قوله (جهرة) لأن جهرة أفصح لفظا لخفته ، فإنه غير مبدوء بحرف حلق
والابتداء بحرف الحلق أتعب للحلق من وقوعه في وسط الكلام ولسلامته من حرف العلة
وكذلك يجتبي البلغاء بعض الألفاظ على بعض لحسن وقعها في الكلام وخفتها على السمع
وللقرآن السهم المعلى في ذلك وهو في غاية الفصاحة.
وقوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي عقوبة لهم عما بدا منهم من العجرفة وقلة الاكتراث
بالمعجزات. وهذه عقوبة دنيوية لا تدل على أن المعاقب عليه حرام أو كفر لا
سيما وقد قدر أن
موتهم بالصاعقة لا يدوم إلا قليلا فلم تكن مثل صاعقة عاد وثمود. وبه تعلم أن ليس في
إصابة الصاعقة لهم دلالة على أن رؤية الله تعالى مستحيلة وأن سؤالها والإلحاح فيه
كفر كما زعم المعتزلة وأن لا حاجة إلى الجواب عن ذلك بأن الصاعقة لاعتقادهم أنه
تعالى يشبه الأجسام فكانوا بذلك كافرين إذ لا دليل في الآية ولا غيرها على أنهم
كفروا ، كيف وقد سأل الرؤية موسى عليهالسلام.
والصاعقة نار
كهربائية من السحاب تحرق من أصابته ، وقد لا تظهر النار ولكن يصل هواؤها إلى
الأحياء فيختنقون بسبب ما يخالط الهواء الذي يتنفسون فيه من الحوامض الناشئة عن
شدة الكهربائية ، وقد قيل : إن الذي أصابهم نار ، وقيل : سمعوا صعقة فماتوا.
وقوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فائدة التقييد بهذا الحال عند صاحب «الكشاف» الدلالة على أن الصاعقة التي أصابتهم نار الصاعقة لا
صوتها الشديد لأن الحال دلت على أن الذي أصابهم مما يرى ، وقال القرطبي أي وأنتم
ينظر بعضكم إلى بعض أي مجتمعون. وعندي أين مفعول (تَنْظُرُونَ) محذوف وأن (تنظرون) بمعنى تحدقون الأنظار عند رؤية السحاب
على جبل الطور طمعا أن يظهر لهم الله من خلاله لأنهم اعتادوا أن الله يكلم موسى
كلاما يسمعه من خلال السحاب كما تقوله التوراة في مواضع ، ففائدة الحال إظهار أن
العقوبة أصابتهم في حين الإساءة والعجرفة إذ طمعوا فيما لم يكن لينال لهم.
وقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ) إيجاز بديع ، أي فمتم من الصاعقة ثم بعثناكم من بعد موتكم
، وهذا خارق عادة جعل الله معجزة لموسى استجابة لدعائه وشفاعته أو كرامة لهم من
بعد تأديبهم إن كان السائلون هم السبعين فإنهم من صالحي بني إسرائيل.
فإن قلت إذا كان
السائلون هم الصالحين فكيف عوقبوا؟
قلت قد علمت أن
هذا عقاب دنيوي وهو ينال الصالحين ويسمى عند الصوفية بالعتاب وهو لا ينافي الكرامة
، ونظيره أن موسى سأل رؤية ربه فتجلى الله للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا فلما
أفاق قال سبحانك تبت إليك.
فإن قلت إن الموت
يقتضي انحلال التركيب المزاجي فكيف يكون البعث بعده في غير يوم إعادة الخلق؟
قلت : الموت هو
وقوف حركة القلب وتعطيل وظائف الدورة الدموية فإذا حصل عن فساد فيها لم تعقبه حياة
إلا في يوم إعادة الخلق وهو المعنى بقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ
فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦]
وإذا حصل عن حادث قاهر مانع وظائف القلب من عملها كان للجسد حكم الموت في تلك
الحالة لكنه يقبل الرجوع إن عادت إليه أسباب الحياة بزوال الموانع العارضة ، وقد
صار الأطباء اليوم يعتبرون بعض الأحوال التي تعطل عمل القلب اعتبار الموت ويعالجون
القلب بأعمال جراحية تعيد إليه حركته. والموت بالصاعقة إذا كان عن اختناق أو قوة
ضغط الصوت على القلب قد تعقبه الحياة بوصول هواء صاف جديد وقد يطول زمن هذا الموت
في العادة ساعات قليلة ولكن هذا الحادث كان خارق عادة فيمكن أن يكون موتهم قد طال
يوما وليلة كما روي في بعض الأخبار ويمكن دون ذلك.
[٥٧] (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))
عطف (وَظَلَّلْنا) على (بَعَثْناكُمْ) [البقرة : ٥٦].
وتعقيب ذكر الوحشة بذكر جائزة شأن الرحيم في تربية عبده ، والظاهر أن تظليل الغمام
ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة لأن التوراة ذكرت نزول المن
والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيليم وسينا في اليوم الثاني عشر من الشهر
الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا
يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم ومما
تنبته الأرض. وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن
تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة
موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سينا فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من
خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن
لبني إسرائيل بالرحيل فإذا حلت السحابة حلوا إلخ كذا تقول كتبهم . فلما سأل بنو إسرائيل الخبز واللحم كان المن ينزل عليهم
في الصباح والسلوى تسقط عليهم في المساء بمقدار ما يكفي جميعهم ليومه أو ليلته إلا
يوم الجمعة فينزل عليهم منهما ضعف الكمية لأن في السبت انقطاع النزول.
والمن مادة صمغية
جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول ، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى
الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل
__________________
في برية سينا. وقد
وصفته التوراة بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل
بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا ، وقد أمروا أن لا يبقوا
منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه فكانوا
إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه
كطعم قطائف بزيت وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد
إلى حبرون.
وأما السلوى فهي
اسم جنس جمعي واحدته سلواة وقيل : لا واحد له وقيل : واحده وجمعه سواء ، وهو طائر
بري لذيذ اللحم سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضا ويسمى
هذا الطائر أيضا السمانى بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحبارى
، وهو أيضا اسم يقع للواحد والجمع ، وقيل : هو الجمع وأما الفرد فهو سماناة.
وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) مقول قول محذوف لأن المخاطبين حين نزول القرآن لم يؤمروا
بذلك فدل على أنه من بقية الخبر عن أسلافهم.
وقوله : (وَما ظَلَمُونا) قدره صاحب «الكشاف» معطوفا على مقدر أي فظلموا وقرره
شارحوه بأن (ما ظلمونا) نفي لظلم متعلق بمفعول معين وهو ضمير الجلالة وهذا النفي
يفيد في المقام الخطابي أن هنالك ظلما متعلقا بغير هذا المنصوب إذ لو لم يكن الظلم
واقعا لنفى مطلقا بأن يقال : وما ظلموا وليس المعنى عليه ، وأنه إنما قدر في «الكشاف»
الفعل المحذوف مقترنا بالفاء لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب
معنى السببية غالبا ، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها فشبه
وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا
ريث وبدون مراقبة ذلك الإحسان حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة ، ورمز إلى لفظ
المشبه به برديفه وهو فاء السببية وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح
لأن يكون مسببا عن الإنعام على حد قولك أحسنت إلى فلان فأساء إليّ وقوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] أي
تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون فالفاء
__________________
مجاز لغير الترتب
على أسلوب قولك : أنعمت عليه فكفر. ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب
والتعقيب لا غير وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها فإن الاطراد من
علامات الحقيقة. وأما الترتب أي السببية فأمر عارض لها فهو من المجاز أو من
مستتبعات التراكيب ألا ترى أنه يوجد تارة ويتخلف أخرى فإنه مفقود في عطف المفردات
نحو جاء زيد فعمرو وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ق : ٢٢] فلذلك كان
معنى السببية حيثما استفيد محتاجا إلى القرائن فإن لم تتطلب له علاقة قلت هو من
مستتبعات تراكيب بقرينة المقام وإن تطلبت له علاقة ـ وهي لا تعوزك ـ قلت هو مجاز
لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية ولو عرفا
ولو ادعاء فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس.
ومما يدل على أن
حقيقة الفاء العاطفة هو الترتيب والتعقيب فقط أن بعض البيانيين جعلوا قوله تعالى :
(فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) [القصص : ٨] اللام
فيه مستعارة لمعنى فاء التعقيب أي فكان لهم عدوّا فجعلوا الفاء حقيقة في التعقيب
ولو كانت للترتيب لساوت اللام فلم تستقم الاستعارة فيكون الوجه الحامل للزمخشري
على تقدير المحذوف مقترنا بالفاء هو أنه رأى عطف الظلم على (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) وما بعده بالواو ولا يحسن لعدم الجهة الجامعة بين الامتنان
والذم والمناسبة شرط في قبول الوصل بالواو بخلاف العطف بالفاء ، فتعين إما تقدير
ظلموا مستأنفا بدون عطف وظاهر أنه ليس هنالك معنى على الاستئناف وإما ربط ظلموا
بعاطف سوى الواو وليس يصلح هنا غير الفاء لأن المعطوف حصل عقب المعطوف عليه فكان
ذلك التعاقب في الخارج مغنيا عن الجهة الجامعة ولذلك كانت الفاء لا تستدعي قوة
مناسبة كمناسبة الواو ولكن مناسبة في الخيال فقط وقد وجدت هنا لأن كون المعطوف حصل
في الخارج عقب المعطوف عليه مما يجعله حاضرا في خيال الذي يتكلم عن المعطوف عليه ،
وأما قبح نحو قولك جاء زيد فصاح الديك فلقلة جدوى هذا الخبر ألا تراه يصير حسنا لو
أردت بقولك فصاح الديك معنى التوقيت بالفجر فبهذا ظهر أنه لم يكن طريق لربط الظلم
المقدر بالفعلين قبله إلا الفاء.
وفي ذلك الإخبار
والربط والتصدي لبيانه ـ مع غرابة هذا التعقيب ـ تعريض بمذمتهم إذ قابلوا الإحسان
بالكفران وفيه تعريض بغباوتهم إذ صدفوا عن الشكر كأنهم ينكون
بالمنعم وهم إنما
يوقعون النكاية بأنفسهم ، هذا تفصيل ما يقال على تقدير صاحب «الكشاف».
والذي يظهر لي أن
لا حاجة إلى التقدير وأن جملة (وَما ظَلَمُونا) عطف على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل
ومثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلما قد حصل منهم من
قوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) [البقرة : ٥١]
وقوله : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٥٤] وما
تضمنه قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٥]
الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته
الجمل السابقة نظير قوله : (وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩] عقب
قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٩]
ونظير قوله : (وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) [سبأ : ١٩] بعد
الكلام السابق وهو قوله : (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) [سبأ : ١٨] الآية.
وغير الأسلوب في
هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد
الاتعاظ بحالهم وتعريضا بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم
بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم. وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من
مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ
عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١]
الآية فكان قوله : (وَما ظَلَمُونا) تمهيدا له وتعجيلا بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته
بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم.
وقوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولا بمجرد الجمع بين
النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكي غيره كما قيل : يفعل
الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه.
[٥٨ ، ٥٩] (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ (٥٩))
هذا تذكير بنعمة
أخرى مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ولا رعوها حق رعايتها فحرموا منها إلى حين
وعوقب الذين كانوا السبب في عدم قبولها. وفي التذكير بهذه النعمة امتنان
عليهم ببذل النعمة
لهم لأن النعمة نعمة وإن لم يقبلها المنعم عليه ، وإثارة لحسرتهم على ما فات
أسلافهم وما لقوه من جراء إعجابهم بآرائهم ، وموعظة لهم أن لا يقعوا فيما وقع فيه
الأولون فقد علموا أنهم كلما صدفوا عن قدر حق النعم نالتهم المصائب. قال الشيخ ابن
عطاء الله : من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
ولعلم المخاطبين
بما عنته هذه الآية اختصر فيها الكلام اختصارا ترك كثيرا من المفسرين فيها حيارى ،
فسلكوا طرائق في انتزاع تفصيل المعنى من مجملها فما أتوا على شيء مقنع ، وكنت تجد
أقوالهم هنا إذا التأم بعضها بنظم الآية لا يلتئم بعضه الآخر ، وربما خالف جميعها ما وقع في أيام
أخر.
والذي عندي من
القول في تفسير هاته الآية أنها أشارت إلى قصة معلومة تضمنتها كتبهم وهي أن بني
إسرائيل لما طوحت بهم الرحلة إلى برية فاران نزلوا بمدينة قادش فأصبحوا على حدود
أرض كنعان التي هي الأرض المقدسة التي وعدها الله بني إسرائيل وذلك في أثناء السنة
الثانية بعد خروجهم من مصر فأرسل موسى اثني عشر رجلا ليتجسسوا أرض كنعان من كل سبط
رجل وفيهم يوشع بن نون وكالب بن بفنة فصعدوا وأتوا إلى مدينة حبرون فوجدوا الأرض
ذات خيرات وقطعوا من عنبها ورمانها وتينها ورجعوا لقومهم بعد أربعين يوما وأخبروا
موسى وهارون وجميع بني إسرائيل وأروهم ثمر الأرض وأخبروهم أنها حقا تفيض لبنا
وعسلا غير أن أهلها ذوو عزة ومدنها حصينة جدا فأمر موسى كالبا فأنصت إسرائيل إلى
موسى وقال إننا نصعد ونمتلكها وكذلك يوشع أما العشرة الآخرون فأشاعوا في بني
إسرائيل مذمة الأرض وأنها تأكل سكانها وأن سكانها جبابرة فخافت بنو إسرائيل من
سكان الأرض وجبنوا عن القتال فقام فيهم يوشع وكالب قائلين لا تخافوا من العدو
فإنهم لقمة لنا والله معنا ، فلم يصغ القوم لهم وأوحى الله لموسى أن بني إسرائيل
أساءوا الظن بربهم وأنه مهلكهم فاستشفع لهم موسى فعفا الله عنهم ولكنه حرمهم من
الدخول إلى الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون فلا يدخل لها أحد من
__________________
الحاضرين يومئذ
إلا يوشع وكالبا وأرسل الله على الجواسيس العشرة المثبطين وباء أهلكهم.
فهذه الآية تنطبق
على هذه القصة تمام الانطباق لا سيما إذا ضمت لها آية سورة [المائدة : ٢١ ، ٢٥] (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) إلى قوله (الْفاسِقِينَ) فقوله : (ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ) الظاهر أنه أراد بها «حبرون» التي كانت قريبة منهم والتي
ذهب إليها جواسيسهم وأتوا بثمارها ، وقيل : أراد من القرية الجهة كلها قاله
القرطبي عن عمرو بن شبة فإن القرية تطلق على المزرعة لكن هذا يبعده قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ) وإن كان الباب يطلق على المدخل بين الجبلين وكيفما كان
ينتظم ذلك مع قوله : (فَكُلُوا مِنْها
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) يشير إلى الثمار الكثيرة هناك. وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) يتعين أنه إشارة إلى ما أشاعه الجواسيس العشرة من مذمة
الأرض وصعوبتها وأنهم لم يقولوا مثل ما قال موسى حيث استنصت الشعب بلسان كالب بن
بفنّة ويوشع ويدل لذلك قوله تعالى في سورة الأعراف [١٦٢] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
قَوْلاً) أي من الذين قيل لهم ادخلوا القرية وأن الرجز الذي أصاب
الذين ظلموا هو الوباء الذي أصاب العشرة الجواسيس ، وينتظم ذلك أيضا مع قوله في
آية المائدة [٢١ ، ٢٢] (وَلا تَرْتَدُّوا
عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً
جَبَّارِينَ) إلخ وقوله : (قالَ رَجُلانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) [المائدة : ٢٣]
فإن الباب يناسب القرية. وقوله : (قالَ فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٢٦].
فهذا هو التفسير الصحيح المنطبق على التاريخ الصريح.
فقوله : (وَإِذْ قُلْنَا) أي على لسان موسى فبلغه للقوم بواسطة استنصات كالب بن
بفنّة ، وهذا هو الذي يوافق ما في سورة العقود في قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الآيات. وعلى هذا الوجه فقوله : (ادْخُلُوا) إما أمر بدخول قرية قريبة منهم وهي «حبرون» لتكون مركزا
أولا لهم ، والأمر بالدخول أمر بما يتوقف الدخول عليه أعني القتال كما دلت عليه
آية المائدة إذ قال : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ) إلى قوله (وَلا تَرْتَدُّوا
عَلى أَدْبارِكُمْ) فإن الارتداد على الأدبار من الألفاظ المتعارفة في الحروب
كما قال تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥].
ولعل في الإشارة بكلمة (هذِهِ) المفيدة للقرب ما يرجح أن القرية هي حبرون التي طلع إليها
جواسيسهم.
والقرية ـ بفتح
القاف لا غير على الأصح ـ البلدة المشتملة على المساكن المبنية من
حجارة وهي مشتقة
من القري ـ بفتح فسكون وبالياء ـ وهو الجمع يقال : قرى الشيء يقريه إذا جمعه وهي
تطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب كما أريد بها
هنا بدليل قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً). وجمع القرية قرى بضم القاف على غير قياس لأن قياس فعل أن
يكون جمعا لفعلة بكسر الفاء مثل كسوة وكسى وقياس جمع قرية أن يكون على قراء بكسر
القاف وبالمد كما قالوا : ركوة وركاء وشكوة وشكاء.
وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) مراد به باب القرية لأن أل متعينة للعوضية عن المضاف إليه
الدال عليه اللفظ المتقدم. ومعنى السجود عند الدخول الانحناء شكرا لله تعالى لا
لأن بابها قصير كما قيل ، إذ لا جدوى له. والظاهر أن المقصود من السجود مطلق
الانحناء لإظهار العجز والضعف كيلا يفطن لهم أهل القرية وهذا من أحوال الجوسسة ،
ولم تتعرض لها التوراة ويبعد أن يكون السجود المأمور به سجود الشكر لأنهم داخلون
متجسسين لا فاتحين وقد جاء في الحديث الصحيح أنهم بدلوا وصية موسى فدخلوا يزحفون
على أستاههم كأنهم أرادوا إظهار الزمانة فأفرطوا في التصنع بحيث يكاد أن يفتضح
أمرهم لأن بعض التصنع لا يستطاع استمراره.
وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) الحطة فعلة من الحط وهو الخفض وأصل الصيغة أن تدل على
الهيئة ولكنها هنا مراد بها مطلق المصدر ، والظاهر أن هذا القول كان معروفا في ذلك
المكان للدلالة على العجز أو هو من أقوال السّؤّال والشحاذين كيلا يحسب لهم أهل
القرية حسابا ولا يأخذوا حذرا منهم فيكون القول الذي أمروا به قولا يخاطبون به أهل
القرية.
وقيل : المراد من
الحطة سؤال غفران الذنوب أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم
القرية. وقيل : من الحط بمعنى حط الرحال أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون
الإقامة بها إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحا ويكون صلحا ويكون للغنيمة ثم
الإياب. وهذان التأويلان بعيدان ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول
بأنها طلب المغفرة لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو
سقيا ورعيا وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء
ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو رحمهالله ويرحمهالله.
و (حطة) بالرفع
على أنه مبتدأ أو خبر نحو سمع وطاعة وصبر جميل.
والخطايا جمع
خطيئة ولامها مهموزة فقياس جمعها خطائئ بهمزتين بوزن فعائل
فلما اجتمعت
الهمزتان قلبت الثانية ياء لأن قبلها كسرة أو لأن في الهمزتين ثقلا فخففوا الأخيرة
منهما ياء ثم قلبوها ألفا إما لاجتماع ثقل الياء مع ثقل صيغة الجمع وإما لأنه لما
أشبه جائي استحق التخفيف ولكنهم لم يعاملوه معاملة جائي لأن همزة جائي زائدة وهمزة
خطائئ أصلية ففروا بتخفيفه إلى قلب الياء ألفا كما فعلوا في يتامى ووجدوا له في
الأسماء الصحيحة نظيرا وهو طهارى جمع طاهرة. والخطيئة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها
مخطوء بها أي مسلوك بها مسلك الخطأ أشاروا إلى أنها فعل يحق أن لا يقع فيه فاعله
إلا خطأ فهي الذنب والمعصية.
وقوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة ولذلك حذف مفعول (نزيد).
والواو عاطفة جملة (سَنَزِيدُ) على جملة (قُلْنَا ادْخُلُوا) أي وقلنا سنزيد المحسنين ؛ لأن جملة (سَنَزِيدُ) حكيت في سورة الأعراف [١٦١] مستأنفة فعلم أنها تعبر عن
نظير لها في الكلام الذي خاطب الله به موسى على معنى الترقي في التفضل فلما حكيت
هنا عطفت عطف القول على القول.
وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي بدل العشرة القول الذي أمر موسى بإعلانه في القوم وهو
الترغيب في دخول القرية وتهوين العدو عليهم فقالوا لهم : لا تستطيعون قتالهم
وثبطوهم ولذلك عوقبوا فأنزل عليهم رجز من السماء وهو الطاعون. وإنما جعل من السماء
لأنه لم يكن له سبب أرضي من عدوى أو نحوها فعلم أنه رمتهم به الملائكة من السماء
بأن ألقيت عناصره وجراثيمه عليهم فأصيبوا به دون غيرهم. ولأجل هذا خص التبديل
بفريق معروف عندهم فعبر عنه بطريق الموصولية لعلم المخاطبين به وبتلك الصلة فدل
على أن التبديل ليس من فعل جميع القوم أو معظمهم لأن الآية تذكير لليهود بما هو
معلوم لهم من حوادثهم.
وإنما جاء بالظاهر
في موضع المضمر في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) ولم يقل عليهم لئلا يتوهم أن الرجز عم جميع بني إسرائيل
وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق.
وتبديل القول
تبديل جميع ما قاله الله لهم وما حدثهم الناس عن حال القرية ، وللإشارة إلى جميع
هذا بني فعل (قِيلَ) إلى المجهول إيجازا. فقولا مفعول أو لبدّل ، و (غَيْرَ الَّذِي قِيلَ) مفعول ثان لأن (بدل) يتعدى إلى مفعولين من باب كسى أي مما
دل على عكس معنى كسى مثل سلبه ثوبه. قال أبو الشيص :
بدّلت من برد
الشباب ملاءة
|
|
خلقا وبئس مثوبة
المقتاض
|
وفائدة إظهار لفظ
القول دون أن يقال فبدلوه لدفع توهم أنهم بدلوا لفظ حطة خاصة وامتثلوا ما عدا ذلك
لأنه لو كان كذلك لكان الأمر هينا. يوقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن القول الذي
بدّلوا به أنهم قالوا : حبة في شعرة أو في شعيرة ، والظاهر أن المراد به أن العشرة
استهزءوا بالكلام الذي أعلنه موسى عليهالسلام في الترغيب في فتح الأرض وكنوا عن ذلك بأن محاولتهم فتح
الأرض كمحاولة ربط حبة بشعرة أي في التعذر ، أو هو كأكل حبة مع شعرة تخنق آكلها ،
أو حبّة من برّ مع شعيرة.
وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) اعتنى فيهما بالإظهار في موضع الإضمار ليعلم أن الرجز خص
الذين بدّلوا القول وهم العشرة الذين أشاعوا مذمة الأرض لأنهم كانوا السبب في شقاء
أمة كاملة. وفي هذا موعظة وذكرى لكل من ينصب نفسه لإرشاد قوم ليكون على بصيرة بما
يأتي ويذر وعلم بعواقب الأمور فمن البر ما يكون عقوقا ، وفي المثل «على أهلها تجني
براقش» وهي اسم كلبة قوم كانت تحرسهم بالليل فدل نبحها أعداءهم عليهم فاستأصلوهم فضربت
مثلا.
[٦٠] (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ
عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ
اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))
تذكير بنعمة أخرى
جمعت ثلاث نعم وهي الري من العطش ، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام ولذلك
شاع التمثيل بري الظمآن في حصول المطلوب. وكون السقي في مظنة عدم تحصيله وتلك
معجزة لموسى وكرامة لأمته لأن في ذلك فضلا لهم. وكون العيون اثنتي عشرة ليستقل كل
سبط بمشرب فلا يتدافعوا.
وقوله : (وَإِذِ) متعلق ب (اذْكُرُوا) وقد أشارت الآية إلى حادثة معروفة عند اليهود وذلك أنهم
لما نزلوا في «رفيديم» قبل الوصول إلى برية سينا وبعد خروجهم من برية سين في حدود
الشهر الثالث من الخروج عطشوا ولم يكن بالموضع ماء فتذمروا على موسى وقالوا أتصعدنا
من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشا فدعا موسى ربه فأمره الله أن يضرب بعصاه صخرة
هناك في «حوريب» فضرب فانفجر منها الماء. ولم تذكر التوراة أن العيون اثنتا عشرة
عينا وذلك التقسيم من الرفق بهم لئلا يتزاحموا مع كثرتهم فيهلكوا فهذا
مما بينه الله في
القرآن.
فقوله : (اسْتَسْقى مُوسى) صريح في أن طالب السقي هو موسى وحده ، سأله من الله تعالى
ولم يشاركه قومه في الدعاء لتظهر كرامته وحده ، كذلك كان استسقاء النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الجمعة على المنبر لما قال له الأعرابي «هلك الزرع
والضرع فادع الله أن يسقينا» والحديث في «الصحيحين».
وقوله : (لِقَوْمِهِ) مؤذن بأن موسى لم يصبه العطش وذلك لأنه خرج في تلك الرحلة
موقنا أن الله حافظهم ومبلغهم إلى الأرض المقدسة فلذلك وقاه الله أن يصيبه جوع أو
عطش وكلل وكذلك شأن الأنبياء فقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث وصال الصوم : «إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي
يطعمني ويسقيني».
قال ابن عرفة في «تفسيره»
أخذ المازري من هذه الآية جواز استسقاء المخصب للمجدب لأن موسى عليهالسلام لم ينله ما نالهم من العطش ورده ابن عرفة بأنه رسولهم وهو
معهم ا ه. وهو رد متمكن إذ ليس المراد باستسقاء المخصب للمجدب الأشخاص وإنما
المراد استسقاء أهل بلد لم ينلهم الجدب لأهل بلد مجدبين والمسألة التي أشار إليها
المازري مختلف فيها عندنا واختار اللخمي جواز استسقاء المخصب للمجدب لأنه من
التعاون على البر ولأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وقال المازري فيه نظر
لأن السلف لم يفعلوه.
وعصا موسى هي التي
ألقاها في مجلس فرعون فتلقفت ثعابين السحرة وهي التي كانت في يد موسى حين كلمه
الله في برية سينا قبل دخوله مصر وقد رويت في شأنها أخبار لا يصح منها شيء فقيل
إنها كانت من شجر آس الجنة أهبطها آدم معه فورثها موسى ولو كان هذا صحيحا لعده
موسى في أوصافها حين قال : (هِيَ عَصايَ) [طه : ١٨] إلخ
فإنه أكبر أوصافها.
والعصا بالقصر
أبدا ومن قال عصاه بالهاء فقد لحن ، وعن الفراء أن أول لحن ظهر بالعراق قولهم
عصاتي.
و (أل) في (الحجر)
لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت ، أو للعهد مشيرا إلى حجر عرفه موسى بوحي من الله
وهو حجر صخر في جبل حوريب الذي كلم الله منه موسى كما ورد في سفر الخروج وقد وردت
فيه أخبار ضعيفة.
والفاء في قوله : (فَانْفَجَرَتْ) قالوا هي فاء الفصيحة ومعنى فاء الفصيحة أنها الفاء
العاطفة إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفا على المذكور قبلها فيتعين تقدير
معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفا عليه وهذه طريقة السكاكي فيها وهي
المثلى. وقيل : إنها التي تدل على محذوف قبلها فإن كان شرطا فالفاء فاء الجواب وإن
كان مفردا فالفاء عاطفة ويشملها اسم فاء الفصيحة وهذه طريقة الجمهور على الوجهين
فتسميتها بالفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف ، والتقدير في مثل هذا فضرب فانفجرت وفي
مثل قول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسان
أقصى ما يراد بنا
|
|
ثم القفول فقد
جئنا خراسانا
|
أي إن كان القفول
بعد الوصول إلى خراسان فقد جئنا خراسان أي فلنقفل فقد جئنا.
وعندي أن الفاء لا
تعد فاء فصيحة إلا إذا لم يستقم عطف ما بعدها على ما قبلها فإذا استقام فهي الفاء
العاطفة والحذف إيجاز وتقدير المحذوف لبيان المعنى وذلك لأن الانفجار مترتب على
قوله تعالى لموسى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْحَجَرَ) لظهور أن موسى ليس ممن يشك في امتثاله بل ولظهور أن كل
سائل أمرا إذا قيل له افعل كذا أن يعلم أن ما أمر به هو الذي فيه جوابه كما يقول
لك التلميذ ما حكم كذا؟ فتقول افتح كتاب «الرسالة» في باب كذا ، ومنه قوله تعالى
الآتي : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة : ٦١]
وأما تقدير الشرط هنا أي فإن ضربت فقد انفجرت إلخ فغير بيّن ، ومن العجب ذكره في «الكشاف».
وقوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) قال العكبري وأبو حيان : إنه استئناف ، وهما يريدان
الاستئناف البياني ولذلك فصل ، كأن سائلا سأل عن سبب انقسام الانفجار إلى اثنتي
عشرة عينا فقيل قد علم كل سبط مشربهم ، والأظهر عندي أنه حال جردت عن الواو لأنه
خطاب لمن يعقلون القصة فلا معنى لتقدير سؤال. والمراد بالأناس كل ناس سبط من
الأسباط.
وقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) مقول قول محذوف. وقد جمع بين الأكل والشرب وإن كان الحديث
على السقي لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى ، وقيل هنالك : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٥٧]
فلما شفع ذلك بالماء اجتمع المنتان.
وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ) من جملة ما قيل لهم ووجه النهي عنه أن النعمة قد تنسي
العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد قال تعالى : (كَلَّا
إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧].
(وَلا تَعْثَوْا) مضارع عثي كرضي ، وهذه لغة أهل الحجاز وهي الفصحى فقوله : (وَلا تَعْثَوْا) بوزن لا ترضوا ومصدره عند أهل اللغة يقتضي أن يكون بوزن رضي
ولم أر من صرح به وذكر له في «اللسان» مصادر العثيّ والعثيّ بضم العين وكسرها مع
كسر الثاء فيهما وتشديد الياء فيهما ، والعثيان بفتحتين وفي لغة غير أهل الحجاز
عثا يعثو مثل سما يسمو ولم يقرأ أحد من القراء : (وَلا تَعْثَوْا) بضم الثاء.
وهو أشد الفساد
وقيل : هو الفساد مطلقا وعلى الوجهين يكون (مُفْسِدِينَ) حالا مؤكدة لعاملها. وفي «الكشاف» جعل معنى (لا تَعْثَوْا) لا تتمادوا في فسادكم فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل
وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية فحاول المغايرة بين (لا تَعْثَوْا) وبين (مُفْسِدِينَ) تجنبا للتأكيد وذلك هو مذهب الجمهور لكن كثيرا من المحققين
خالف ذلك ، واختار ابن مالك التفصيل فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها
شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية
نحو زيد أبوك عطوفا وقول سالم بن دارة اليربوعي :
أنا ابن دارة
معروفا بها نسبي
|
|
وهل بدارة يا
للناس من عار
|
[٦١] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها
وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها
وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) هي معطوفة على الجمل قبلها بأسلوب واحد ، وإسناد القول إلى
ضمير المخاطبين جار على ما تقدم في نظائره وما تضمنته الجمل قبلها هو من تعداد
النعم عليهم محضة أو مخلوطة بسوء شكرهم وبترتب النعمة على ذلك الصنيع بالعفو ونحوه
كما تقدم ، فالظاهر أن يكون مضمون هذه الجملة نعمة أيضا.
وللمفسرين حيرة في
الإشارة إليها فيؤخذ من كلام الفخر أن قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً
فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) هو كالإجابة لما طلبوه يعني والإجابة إنعام ولو كان معلقا
على دخول قرية من القرى ، ولا يخفى أنه بعيد جدا لأن إعطاءهم ما سألوه لم يثبت
وقوعه. ويؤخذ من كلام المفسرين الذي صدر الفخر بنقله ووجهه عبد الحكيم أن سؤالهم
تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله
بها عليهم إذ عبروا عن تناولها بالصبر ـ والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه ـ
ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنى) فيكون محل النعمة هو الصفح عن هذا الذنب والتنازع معهم إلى
الإجابة بقوله : (اهْبِطُوا) ولا يخفى أن هذا بعيد إذ ليس في قوله (اهْبِطُوا) إنعام عليهم ولا في سؤالهم ما يدل على أنهم عصوا لأن طلب
الانتقال من نعمة لغيرها لغرض معروف لا يعد معصية كما بينه الفخر.
فالذي عندي في
تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوى اختيارهم
في شهواتهم والاختيار دليل عقل اللبيب ، وإن كان يختار مباحا ، مع ما في صيغة
طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ) فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية
وأتوا بما دل عليه (لن) في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن
فإن (لن) تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل (نَصْبِرَ) من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد وفي ذلك إلجاء لموسى
أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين فكان جواب
الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يرهم ما
عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم : (اهْبِطُوا مِصْراً) فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديبا وتوبيخا.
قال الشيخ ابن
عطاء الله رحمهالله : من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو
كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع
المزيد ، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري ، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد
، والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل
من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال
معصية فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف ولكنها من
أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها وذلك من نواميس
نظام العالم وإنما
الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي وبهذا زالت الحيرة واندفع
كل إشكال وانتظم سلك الكلام.
وقد أشارت الآية
إلى قصة ذكرتها التوراة مجملة منتثرة وهي أنهم لما ارتحلوا من برية سينا من «حوريب»
ونزلوا في برية «فاران» في آخر الشهر الثاني من السنة الثانية من الخروج سائرين
إلى جهات «حبرون» فقالوا : تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا (أي يصطادونه
بأنفسهم) والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم وقد يبست نفوسنا فلا ترى إلا هذا
المن فبكوا فغضب الله عليهم وسأله موسى العفو فعفا عنهم وأرسل عليهم السلوى
فادخروا منها طعام شهر كامل.
والتعبير بلن
المفيدة لتأبيد النفي في اللغة العربية لأداء معنى كلامهم المحكي هنا في شدة الضجر
وبلوغ الكراهية منهم حدها الذي لا طاقة عنده ، فإن التأبيد يفيد استغراق النفي في
جميع أجزاء الأبد أولها وآخرها فلن في نفي الأفعال مثل لا التبرئة في نفي النكرات.
ووصفوا الطعام
بواحد وإن كان هو شيئين المن والسلوى لأن المراد أنه متكرر كل يوم.
وجملة (يُخْرِجْ لَنا) إلى آخرها هي مضمون ما طلبوا منه أن يدعو به فهي في معنى
مقول قول محذوف كأنه قيل قل لربك يخرج لنا ومقتضى الظاهر أن يقال أن يخرج لنا فعدل
عن ذلك إلى الإتيان بفعل مجزوم في صورة جواب طلبهم إيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن
دعا ربه أجابه حتى كأنّ إخراج ما تنبت الأرض يحصل بمجرد دعاء موسى ربه ، وهذا
أسلوب تكرر في القرآن مثل قوله : (قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١]. و
(قُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٥٣]
وهو كثير فهو بمنزلة شرط وجزاء كأن قيل إن تدع ربك بأن يخرج لنا يخرج لنا ، وهذا
بتنزيل سبب السبب منزلة السبب فجزم الفعل المطلوب في جواب الأمر بطلبه لله للدلالة
على تحقق وقوعه لثقتهم بإجابة الله تعالى دعوة موسى ، وفيه تحريض على إيجاد ما علق
عليه الجواب كأنه أمر في مكنته فإذا لم يفعل فقد شح عليهم بما فيه نفعهم.
والإخراج :
الإبراز من الأرض ، و (من) الأولى تبعيضية والثانية بيانية أو الثانية أيضا
__________________
تبعيضية لأنهم لا
يطلبون جميع البقل بل بعضه ، وفيه تسهيل على المسئول ويكون قوله : (مِنْ بَقْلِها) حالا من (ما) أو هو بدل من (ما تنبت) بإعادة حرف الجر ،
وعن الحسن : كانوا قوما فلّاحة فنزعوا إلى عكرهم .
وقد اختلف في
الفوم فقيل : هو الثوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاء شائع في كلام العرب كما قالوا :
جدث وجدف وثلغ وفلغ ، وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة. وقيل
الفوم الحنطة وأنشد الزجاج لأحيحة بن الجلاح :
قد كنت أغنى
الناس شخصا واحدا
|
|
ورد المدينة من
مزارع فوم
|
(يريد مزارع الحنطة) وقيل الفوم
الحمّص بلغة أهل الشام.
وقوله : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) هو من كلام موسى وقيل من كلام الله وهو توبيخ شديد لأنه
جرده عن المقنعات وعن الزجر ، واقتصر على الاستفهام المقصود منه التعجب فالتوبيخ.
وفي الاستبدال للخير بالأدنى النداء بنهاية حماقتهم وسوء اختيارهم.
وقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) السين والتاء فيه لتأكيد الحدث وليس للطلب فهو كقوله : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦]
وقولهم استجاب بمعنى أجاب ، واستكبر بمعنى تكبر ، ومنه قوله تعالى : (كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) في سورة الإنسان [٧]. وفعل استبدل مشتق من البدل بالتحريك
مثل شبه ، ويقال بكسر الباء وسكون الدال مثل شبه ويقال بديل مثل شبيه وقد سمع في
مشتقاته استبدل وأبدل وبدّل وتبدّل وكلها أفعال مزيدة ولم يسمع منه فعل مجرد
وكأنهم استغنوا بهذه المزيدة عن المجرد ، وظاهر كلام صاحب «الكشاف» في سورة النساء [٢] عند قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ) أن استبدل هو أصلها وأكثرها وأن تبدل محمول عليه «لقوله
والتفعل بمعنى الاستفعال غزير ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى
الاستئخار».
وجميع أفعال مادة
البدل تدل على جعل شيء مكان شيء آخر من الذوات أو الصفات أو عن تعويض شيء بشيء آخر
من الذوات أو الصفات.
ولما كان هذا معنى
الحدث المصوغ منه الفعل اقتضت هذه الأفعال تعدية إلى
__________________
متعلقين إما على
وجه المفعولية فيهما معا مثل تعلق فعل الجعل ، وإما على وجه المفعولية في أحدهما
والجر للآخر مثل متعلقي أفعال التعويض كاشترى وهذا هو الاستعمال الكثير ، فإذا
تعدى الفعل إلى مفعولين نحو (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨]
كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلفه نحو قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ) وقولهم أبدلت الحلقة خاتما ، وإذ تعدت إلى مفعول واحد
وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو المأخوذ والمجرور هو المبذول نحو
قوله هنا : (أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وقوله (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [البقرة : ١٠٨]
وقوله في سورة النساء (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ) ، وقد يجر المعمول الثاني بمن التي هي بمعنى باء البدلية
كقول أبي الشيص :
بدّلت من مرد
الشباب ملاءة
|
|
خلقا وبئس مثوبة
المقتاض
|
وقد يعدل عن تعدية
الفعل إلى الشيء المعوض ويعدى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين
وينبه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو من كذا ، وبعد كذا ، كقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥]
التقدير ليبدلن خوفهم أمنا هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال.
ووقع في «الكشاف» عند قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل
وتبدل بأنه إذا عدي إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ وكان
المنصوب هو المتروك والمعطى فقرره القطب في «شرحه» بما ظاهره أن بدّل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفا
لتبدل واستبدل ، وقرره التفتازانيّ بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المعمول الثاني
بالباء أحدهما يوافق استعمال تبدل والآخر بعكسه ، والأظهر عندي أن لا فرق بين بدل
وتبدل واستبدل وأن كلام «الكشاف» مشكل وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة ولا في كلامه
نفسه في كتاب «الأساس».
فالأمر في قوله : (اهْبِطُوا) للإباحة المشوبة بالتوبيخ أي إن كان هذا همكم فاهبطوا
بقرينة قوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) فالمعنى اهبطوا مصرا من الأمصار يعني وفيه إعراض عن طلبهم
إذ ليس حولهم يومئذ بلد قريب يستطيعون وصوله. وقيل : أراد اهبطوا مصر أي بلد مصر
بلد القبط أي ارجعوا إلى مصر التي خرجتم منها
والأمر لمجرد
التوبيخ إذ لا يمكنهم الرجوع إلى مصر. واعلم أن مصر على هذا المعنى يجوز منعه من
الصرف على تأويله بالبقعة فيكون فيه العلمية والتأنيث ، ويجوز صرفه على تأويله بالمكان
أو لأنه مؤنث ثلاثي ساكن الوسط مثل هند فهو في قراءة ابن مسعود بدون تنوين وأنه في
مصحف أبيّ بن كعب بدون ألف وأنه ثبت بدون ألف في بعض مصاحف عثمان قاله ابن عطية ،
وذكر أن أشهب قال قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ا ه. ويكون قول موسى
لهم : (اهْبِطُوا مِصْراً) أمرا قصد منه التهديد على تذكّرهم أيام ذلهم وعنائهم
وتمنيهم الرجوع لتلك المعيشة ، كأنه يقول لهم ارجعوا إلى ما كنتم فيه إذ لم تقدروا
قدر الفضائل النفسية ونعمة الحرية والاستقلال. وربما كان قوله : (اهْبِطُوا) دون لنهبط مؤذنا بذلك لأنه لا يريد إدخال نفسه في هذا
الأمر وهذا يذكر بقول أبي الطيب :
فإن كان أعجبكم
عامكم
|
|
فعودوا إلى حمص
في القابل
|
وقوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) الظاهر أن الفاء للتعقيب عطفت جملة (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) على جملة (اهْبِطُوا) للدلالة على حصول سؤلهم بمجرد هبوطهم مصر أو ليست مفيدة
للتعليل إذ ليس الأمر بالهبوط بمحتاج إلى التعليل بمثل مضمون هذه الجملة لظهور
المقصود من قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) ولأنه ليس بمقام ترغيب في هذا الهبوط حتى يشجع المأمور
بتعليل الأمر والظاهر أن عدم إرادة التعليل هو الداعي إلى ذكر فاء التعقيب لأنه لو
أريد التعليل لكانت إن مغنية غناء الفاء على ما صرح به الشيخ عبد القاهر في «دلائل
الإعجاز» في الفصل الخامس والفصل الحادي عشر من فصول شتى في النظم إذ يقول : واعلم
أن من شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أي الذي في قول بشار :
بكرا صاحبيّ قبل
الهجير
|
|
إن ذاك النجاح
في التبكير
|
أن تغني غناء
الفاء العاطفة مثلا وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا فأنت ترى الكلام
بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا ـ وقال ـ إنك ترى الجملة إذا دخلت إن
ترتبط بما قبلها وتأتلف معه حتى كأن الكلامين أفرغا إفراغا واحدا حتى إذا أسقطت إن
رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه حتى تجيء بالفاء فتقول
مثلا :
بكرا صاحبيّ قبل
الهجير
|
|
إن ذاك النجاح
في التبكير
|
ثم لا ترى الفاء
تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة وهذا الضرب كثير في
التنزيل جدا من
ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] وقوله
: (يا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ) إلى قوله : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] وقال
: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣]
إلخ. فظاهر كلام الشيخ أن وجود إن في الجملة المقصود منها التعليل والربط مغن عن
الإتيان بالفاء ، وأن الإتيان بالفاء حينئذ لا يناسب الكلام البليغ إذ هو كالجمع
بين العوض والمعوض عنه فإذا وجدنا الفاء مع إن علمنا أن الفاء لمجرد العطف وإن
لإرادة التعليل والربط بين الجملتين المتعاطفتين بأكثر من معنى التعقيب. ويستخلص
من ذلك أن مواقع التعليل هي التي يكون فيها معناه بين مضمون الجملتين كالأمثلة
التي ذكرها.
وجعل أبو حيان في «البحر
المحيط» جملة (فَإِنَّ لَكُمْ ما
سَأَلْتُمْ) جوابا للأمر زعم أن الأمر كما يجاب بالفعل يجاب بالجملة
الاسمية ولا يخفى أن كلا المعنيين ضعيف هاهنا لعدم قصد الترغيب في هذا الهبوط حتى
يعلل أو يعلق ، وإنما هو كلام غضب كما تقدم. واقتران الجملة بإن المؤكدة لتنزيلهم
منزلة من يشك لبعد عهدهم بما سألوه حتى يشكون هل يجدونه من شدة شوقهم ، والمحب
بسوء الظن مغرى.
(وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ).
عطف على الجمل
المتقدمة بالواو وبدون إعادة إذ ، فأما عطفه فلأن هاته الجملة لها مزيد الارتباط
بالجمل قبلها إذ كانت في معنى النتيجة والأثر لمدلول الجمل قبلها من قوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] فإن
مضمون تلك الجمل ذكر ما منّ الله تعالى به عليهم من نعمة تحريرهم من استعباد القبط
إياهم وسوقهم إلى الأرض التي وعدهم فتضمن ذلك نعمتي التحرير والتمكين في الأرض وهو
جعل الشجاعة طوع يدهم لو فعلوا فلم يقدروا قدر ذلك وتمنوا العود إلى المعيشة في
مصر إذ قالوا (لَنْ نَصْبِرَ عَلى
طَعامٍ واحِدٍ) كما فصلناه لكم هنالك مما حكته التوراة وتقاعسوا عن دخول
القرية وجبنوا عن لقاء العدو كما أشارت له الآية الماضية وفصلته آية المائدة فلا
جرم إذ لم يشكروا النعمة ولم يقدروها أن تنتزع منهم ويسلبوها ويعوضوا عنها بضدها
وهو الذلة المقابلة للشجاعة إذ لم يثقوا بنصر الله إياهم والمسكنة وهي العبودية
فتكون الآية مسوقة مساق المجازاة للكلام السابق فهذا وجه العطف.
وأما كونه بالواو
دون الفاء فليكون خبرا مقصودا بذاته وليس متفرعا على قول موسى لهم : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) لأنهم لم يشكروا النعمة فإن شكر النعمة
هو إظهار آثارها
المقصودة منها كإظهار النصر للحق بنعمة الشجاعة وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم
وتثقيف الأذهان بنعمة العلم فكل من لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تسلب عنه ويعوض
بضدها قال تعالى : (فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) [سبأ : ١٦] الآية
، ولو عطف بغير الواو لكان ذكره تبعا لذكر سببه فلم يكن له من الاستقلال ما ينبه
البال.
فالضمير في قوله :
(وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ) ... (وَباؤُ) إلخ عائدة إلى جميع بني إسرائيل لا إلى خصوص الذين أبوا
دخول القرية والذين قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى
طَعامٍ واحِدٍ) بدليل قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) فإن الذين قتلوا النبيئين هم أبناء الذين أبوا دخول القرية
وقالوا : (لَنْ نَصْبِرَ) فالإتيان بضمير الغيبة هنا جار على مقتضى الظاهر لأنهم غير
المخاطبين فليس هو من الالتفات إذ ليس قوله : (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) إلخ من بقية جواب موسى إياهم لما علمت من شموله للمتحدث
عنهم الآبين دخول القرية ولغيرهم ممن أتى بعدهم فقد جاء ضمير الغيبة على أصله ،
أما شموله للمخاطبين فإنما هو بطريقة التعريض وهو لزوم توارث الأبناء أخلاق الآباء
وشمائلهم كما قررناه في وجه الخطابات الماضية من قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠]
الآيات ويؤيده التعليل الآتي بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانُوا يَكْفُرُونَ) المشعر بأن كل من اتصف بذلك فهو جدير بأن يثبت له من الحكم
مثل ما ثبت للآخر.
والضرب في كلام
العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال ضرب بعصا وبيده
وبالسيف وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة
اللصوق. فمنه ضرب في الأرض : سار طويلا ، وضرب قبة وبيتا في موضع كذا بمعنى شدها
ووثقها من الأرض. قال عبدة بن الطبيب :
إن التي ضربت بيتا
مهاجرة
وقال زياد الأعجم
:
في قبة ضربت على
ابن الحشرج
وضرب الطين على
الحائط ألصقه ، وقد تقدم ما لجميع هذه المعاني عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦].
فقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ) استعارة مكنية إذ شبهت الذلة والمسكنة
في الإحاطة بهم
واللزوم بالبيت أو القبة يضربها الساكن ليلزمها وذكر الضرب تخييل لأنه ليس له شبيه
في علائق المشبه. ويجوز أن يكون ضربت استعارة تبعية وليس ثمة مكنية بأن شبه لزوم
الذلة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط ، ومعنى التبعية أن المنظور إليه في
التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان
كونه تابعا لفاعل كما في التخييلية بل بعنوان كونه حدثا وهو معنى قولهم أجريت في
الفعل تبعا لجريانها في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل ضربت تخييلا وجعله تبعية
وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في شرح الكشاف وخالفه التفتازانيّ وجعل الضرب
استعارة تبعية بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبة أو الطين ، وهما
احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء.
ثم إن قوله تعالى
: (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) ليس هو من باب قول زياد الأعجم :
إن السماحة
والمروءة والندى
|
|
في قبة ضربت على
ابن الحشرج
|
لأن القبة في
الآية مشبه بها وليست بموجودة والقبة في البيت يمكن أن تكون حقيقة فالآية استعارة
وتصريح والبيت حقيقة وكناية كما نبه عليه الطيبي وجعل التفتازانيّ الآية على
الاحتمالين في الاستعارة كناية عن كون اليهود أذلاء متصاغرين وهي نكت لا تتزاحم.
والذلة الصغار وهي
بكسر الذال لا غير وهي ضد العزة ولذلك قابل بينهما السموأل أو الحارثي في قوله :
وما ضرّنا أنا
قليل وجارنا
|
|
عزيز وجار
الأكثرين ذليل
|
والمسكنة الفقر
مشتقة من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه. وتطلق على الضعف ومنه المسكين للفقير.
ومعنى لزوم الذلة والمسكنة لليهود أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما
الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت لديهم كالعدم
ولذلك صار الحرص لهم سجية باقية في أعقابهم.
والبوء الرجوع وهو
هنا مستعار لانقلاب الحالة مما يرضى الله إلى غضبه.
__________________
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ
بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).
استئناف بياني
أثاره ما شنع به حالهم من لزوم الذلة والمسكنة لهم والإشارة إلى ما تقدم من قوله :
(وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ). وأفرد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور وهو أولى
بجواز الإفراد من إفراد الضمير في قول رؤبة :
فيها خطوط من
سواد وبلق
|
|
كأنّه في الجلد
توليع البهق
|
قال أبو عبيدة
لرؤبة : إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبياض فقل كأنهما فقال رؤبة :
«أردت كأن ذلك ويلك» وإنما كان ما في الآية أولى بالإفراد لأن الذلة والمسكنة
والغضب مما لا يشاهد فلا يشار إلى ذاتها ولكن يشار إلى مضمون الكلام وهو شيء واحد
أي مذكور ومقول ومن هذا قوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨]
أي ذلك القصص السابق. ومنه قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨]
وسيأتي.
وقال صاحب «الكشاف» «والذي حسن ذلك أن
أسماء الإشارة ليست تثنيتها وجمعها وتأنيثها على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذلك
جاء الذي بمعنى الجمع» ا ه قيل أراد به أن جمع أسماء الإشارة وتثنيتها لم يكن
بزيادة علامات بل كان بألفاظ خاصة بتلك الأحوال فلذلك كان استعمال بعضها في معنى
بعض أسهل إذا كان على تأويل ، وهو قليل الجدوى لأن المدار على التأويل والمجاز
سواء كان في استعمال لفظ في معنى آخر أو في استعمال صيغة في معنى أخرى فلا حسن يخص
هذه الألفاظ فيما يظهر فلعله أراد أن ذا موضوع لجنس ما يشار إليه. والذي موضوع
لجنس ما عرف بصلة فهو صالح للإطلاق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث وإن
ما يقع من أسماء الإشارة والموصولات للمثنى نحو ذان وللجمع نحو أولئك ، إنما هو
اسم بمعنى المثنى والمجموع لا أنه تثنية مفرد ، وجمع مفرد ، فذا يشار به للمثنى
والمجموع ولا عكس فلذلك حسن استعمال المفرد منها للدلالة على المتعدد.
والباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) سببية أي إن كفرهم وما معه كان سببا لعقابهم في الدنيا
بالذلة والمسكنة وفي الآخرة بغضب الله وفيه تحذير من الوقوع في مثل
__________________
ما وقعوا فيه.
وقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِ) خاص بأجيال اليهود الذين اجترموا هذه الجريمة العظيمة سواء
في ذلك من باشر القتل وأمر به ومن سكت عنه ولم ينصر الأنبياء. وقد قتل اليهود من
الأنبياء أشعياء بن أموص الذي كان حيا في منتصف القرن الثامن قبل المسيح ، قتله
الملك منسى ملك اليهود سنة ٧٠٠ قبل المسيح نشر نشرا على جذع شجرة. وأرمياء النبي
الذي كان حيا في أواسط القرن السابع قبل المسيح وذلك لأنه أكثر التوبيخات والنصائح
لليهود فرجموه بالحجارة حتى قتلوه وفي ذلك خلاف. وزكرياء الأخير أبا يحيى قتله
هيرودس العبراني ملك اليهود من قبل الرومان لأن زكرياء حاول تخليص ابنه يحيى من
القتل وذلك في مدة نبوءة عيسى ، ويحيى بن زكرياء قتله هيرودس لغضب ابنة أخت هيرودس
على يحيى.
وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بدون وجه معتبر في شريعتهم فإن فيها : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢]
فهذا القيد من الاحتجاج على اليهود بأصول دينهم لتخليد مذمتهم ، وإلا فإن قتل
الأنبياء لا يكون بحق في حال من الأحوال ، وإنما قال (الأنبياء) لأن الرسل لا تسلط
عليهم أعداؤهم لأنه مناف لحكمة الرسالة التي هي التبليغ قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] وقال
: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧]
ومن ثم كان ادعاء النصارى أن عيسى قتله اليهود ادعاء منافيا لحكمة الإرسال ولكن
الله أنهى مدة رسالته بحصول المقصد مما أرسل إليه.
وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ) يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى نفس المشار إليه بذلك
الأولى فيكون تكريرا للإشارة لزيادة تمييز المشار إليه حرصا على معرفته ، ويكون
العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة ولغضب الله تعالى عليهم ،
والآية حينئذ من قبيل التكرير وهو مغن عن العطف مثل قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].
ويجوز أن يكون
المشار إليه بذلك الثاني هو الكفر بآيات الله وقتلهم النبيئين فيكون (ذلك) إشارة
إلى سبب ضرب الذلة إلخ فما بعد كلمة (ذلك) هو سبب السبب تنبيها على أن إدمان
العاصي يفضي إلى التغلغل فيها والتنقل من أصغرها إلى أكبرها.
والباء على
الوجهين سببية على أصل معناها. ولا حاجة إلى جعل إحدى الباءين بمعنى مع على تقدير
جعل اسم الإشارة الثاني تكريرا للأول أخذا من كلام «الكشاف»
الذي احتفل به
الطيبي فأطال في تقريره وتفنين توجيهه فإن فيه من التكلف ما ينبو عنه نظم القرآن.
وكان الذي دعا إلى فرض هذا الوجه هو خلو الكلام عن عاطف يعطف (بِما عَصَوْا) على (بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ) إذا كانت الإشارة لمجرد التكرير. ولقد نبهناك آنفا إلى دفع
هذا بأن التكرير يغني غناء العطف.
[٦٢] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))
توسطت هاته الآية
بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من
الكفران وقلة الاكتراث فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم
من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم
بغضب من الله تعالى عليهم ، ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى
طلب الخلاص من غضب الله تعالى لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم
وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه
أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات ، ومن بديع البلاغة أن قرن معهم
في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيسا لوحشة اليهود من القوارع السابقة في
الآيات الماضية وإنصافا للصالحين منهم ، واعترافا بفضلهم ، وتبشيرا لصالحي الأمم
من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين مثل كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم ،
ومثل الحواريين ، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سلام وصهيب ، فقد
وفّت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة ، وراعت المناسبتين للآيات المتقدمة
مناسبة اقتران الترغيب بالترهيب ، ومناسبة ذكر الضد بعد الكلام على ضده.
فمجيء (إنّ) هنا
لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود
، فإن كثيرا من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضلّت كانوا مثلهم في الضلال ، ولقد
عجب بعض الأصحاب لما ذكرت لهم أني حين حللت في رومة تبركت بزيارة قبر القديس بطرس
توهما منهم بكون قبره في كنيسة رومة فبيّنت لهم أنه أحد الحواريين أصحاب المسيح
عيسى عليهالسلام.
وابتدئ بذكر
المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهل الخير إلا
ويذكرون معهم ، ومن مراعاة هذا المقصد قوله تعالى في سورة النساء
[١٦٢] (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ) ـ أي الذين هادوا ـ
(وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ، ولأنهم القدوة لغيرهم كما قال تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ
بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة : ١٣٧]
فالمراد من الذين آمنوا في هذه الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبيء محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهذا لقب للأمة الإسلامية في عرف القرآن.
و (الَّذِينَ هادُوا) هم بنو إسرائيل وقد مضى الكلام عليهم وإنما نذكر هنا وجه
وصفهم بالذين هادوا ، ومعنى (هادوا) كانوا يهودا أو دانوا بدين اليهود. وأصل اسم
يهود منقول في العربية من العبرانية وهو في العبرانية بذال معجمة في آخره وهو علم
أحد أسباط إسرائيل ، وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة ٩٧٥ قبل
المسيح فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين مملكة رحبعام بن سليمان ولم
يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط
يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه (أورشليم) ، ومملكة ملكها يوربعام بن بناط غلام
سليمان وكان شجاعا نجيبا فملّكته بقية الأسباط العشرة عليهم وجعل مقر مملكته
السامرة وتلقب بملك إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان
فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين
ونيفا وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين
بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم وأسكنوا بلاد
السامرة فريقا من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا
بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليهالسلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا ودام
ملكهم هذا إلى حد سنة ١٢٠ قبل المسيح مسيحية في زمن الأمبراطور أدريان الروماني
الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم
من فلول بقية الأسباط. ولعل هذا وجه اختيار لفظ (الَّذِينَ هادُوا) في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى
اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا. ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين
التوراة قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣]
الآية ويقال تهوّد إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث : «يولد الولد على الفطرة ثم
يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». ويقال هاد إذا دان
باليهودية قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦].
وأما ما في سورة الأعراف [١٥٦] من قول موسى : (إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ) فذلك بمعنى المتاب.
وأما النصارى فهو
اسم جمع نصرى (فتح فسكون) أو ناصري نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت منها مريم أم
المسيح عليهماالسلام وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح
في بيت لحم ولذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أو النّصرى فهذا وجه تسمية
أتباعه بالنصارى.
وأما قوله : (وَالصَّابِئِينَ) فقرأه الجمهور بهمزة بعد الموحدة على صيغة جمع صابئ بهمزة
في آخره ، وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صاب
منقوصا فأما على قراءة الجمهور فالصابئون لعله جمع صابئ وصابئ لعله اسم فاعل صبأ
مهموزا أي ظهر وطلع ، يقال صبأ النجم أي طلع وليس هو من صبا يصبو إذا مال لأن
قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات
في المعنى. وزعم بعض علماء الأفرنج أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ. وأما على
قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا :
لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم (ولو قيل لأنهم مالوا عن
أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن). وقيل إنما خفّف نافع
همزة (الصابين) فجعلها ياء مثل قراءته (سَأَلَ سائِلٌ) [المعارج : ١] ،
ومثل هذا التخفيف سماعي لأنه لا موجب لتخفيف الهمز المتحرك بعد حرف متحرك.
والأظهر عندي أن
أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية
قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي «دائرة المعارف الإسلامية» أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص ب ع) أي غطس عرفت
به طائفة (المنديا) وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى.
ويقال الصابئون
بصيغة جمع صابئ والصابئة على أنه وصف لمقدر أي الأمة الصابئة وهم المتدينون بدين
الصابئة ولا يعرف لهذا الدّين إلا اسم الصابئة على تقدير مضاف أي دين الصابئة
إضافة إلى وصف أتباعه ويقال دين الصابئة. وهذا الدين دين قديم ظهر في بلاد الكلدان
في العراق وانتشر معظم أتباعه فيما بين الخابور ودجلة وفيما بين الخابور والفرات
فكانوا في البطائح وكسكر في سواد واسط وفي حرّان من بلاد الجزيرة.
__________________
وكان أهل هذا
الدين نبطا في بلاد العراق فلما ظهر الفرس على إقليم العراق أزالوا مملكة الصابئين
ومنعوهم من عبادة الأصنام فلم يجسروا بعد على عبادة أوثانهم. وكذلك منع الروم أهل
الشام والجزيرة من الصابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على التنصر فبطلت
عبادة الأوثان منهم من ذلك الوقت وتظاهروا بالنصرانية فلما ظهر الإسلام على بلادهم
اعتبروا في جملة النصارى وقد كانت صابئة بلاد كسكر والبطائح معتبرين صنفا من
النصارى ينتمون إلى النبي يحيى بن زكرياء ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها
على شيث بن آدم ويسمونه (أغاثاديمون) ، والنصارى يسمونهم يوحنّاسية (نسبة إلى
يوحنا وهو يحيى).
وجامع أصل هذا
الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم
يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا : إن
البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين
لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في
الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من
طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد التجاه إلى روحانياتها ولأجل نزول تلك
الروحانيات على النفوس البشرية يتعين تزكية النفس بتطهيرها من آثار القوى
الشهوانية والغضبية بقدر الإمكان والإقبال على العبادة بالتضرع إلى الأرواح
وبتطهير الجسم والصيام والصدقة والطيب وألزموا أنفسهم فضائل النفس الأربع الأصلية (وهي
العفة والعدالة والحكمة والشجاعة) والأخذ بالفضائل الجزئية (المتشعبة عن الفضائل
الأربع وهي الأعمال الصالحة) وتجنب الرذائل الجزئية (وهي أضداد الفضائل وهي
الأعمال السيئة).
ومن العلماء من
يقول إنهم يقولون بعدم الحاجة إلى بعثة الرسل وأنهم يعللون ذلك بأن مدعي الرسالة
من البشر فلا يمكن لهم أن يكونوا واسطة بين الناس والخالق. ومن العلماء من ينقل
عنهم أنهم يدعون أنهم على دين نوح. وهم يقولون إن المعلّمين الأولين لدين الصابئة
هما أغاثاديمون وهرمس وهما شيث بن آدم وإدريس ، وهم يأخذون من كلام الحكماء ما فيه
عون على الكمال فلذلك يكثر في كلامهم المماثلة لأقوال حكماء اليونان وخاصة سولون
وأفلاطون وأرسطاطاليس ، ولا يبعد عندي أن يكون أولئك الحكماء اقتبسوا بعض الآراء
من قدماء الصابئة في العراق فإن ثمة تشابها بينهم في عبادة الكواكب وجعلها آلهة
وفي إثبات إله الآلهة.
وقد بنوا هياكل
للكواكب لتكون مهابط لأرواح الكواكب وحرصوا على تطهيرها وتطييبها لكي تألفها
الروحانيات وقد يجعلون للكواكب تماثيل من الصور يتوخون فيها محاكاة صور الروحانيات
بحسب ظنهم.
ومن دينهم صلوات
ثلاث في كل يوم ، وقبلتهم نحو مهب ريح الشمال ويتطهرون قبل الصلاة وقراءاتهم
ودعواتهم تسمى الزمزمة بزايين كما ورد في ترجمة أبي إسحاق الصابئ. ولهم صيام
ثلاثين يوما في السنة ، موزعة على ثلاثة مواقيت من العام. ويجب غسل الجنابة وغسل
المرأة الحائض. وتحرم العزوبة ، ويجوز للرجل تزوج ما شاء من النساء ولا يتزوج إلا
امرأة صابئة على دينه فإذا تزوج غير صابئة أو تزوجت الصابئة غير صابئ خرجا من
الدين ولا تقبل منهما توبة. ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم في الأرض. ولهم
رئيس للدين يسمونه الكمر ـ بكاف وميم وراء ـ.
وقد اشتهر هذا
الدين في حران من بلاد الجزيرة ، ولذلك تعرف الصابئة في كتب العقائد الإسلامية
بالحرنانية (بنونين نسبة إلى حرّان على غير قياس كما في «القاموس»). قال ابن حزم في كتاب «الفصل» : كان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر
والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله إبراهيم عليهالسلام بالحنيفية ا ه.
ودين الصابئة كان
معروفا للعرب في الجاهلية ، بسبب جوار بلاد الصابئة في العراق والشام لمنازل بعض
قبائل العرب مثل ديار بكر وبلاد الأنباط المجاورة لبلاد تغلب وقضاعة. ألا ترى أنه
لما بعث محمد صلىاللهعليهوسلم وصفه المشركون بالصابئ ، وربما دعوه بابن أبي كبشة الذي هو
أحد أجداد آمنة الزهرية أمّ النبي صلىاللهعليهوسلم ، كان أظهر عبادة الكواكب في قومه فزعموا أن النبي ورث ذلك
منه وكذبوا. وفي حديث عمران بن حصين أنهم كانوا في سفر مع النبي صلىاللهعليهوسلم ونفد دماؤهم فابتغوا الماء فلقوا امرأة بين مزادتين على
بعير فقالوا لها : انطلقي إلى رسول الله فقالت : الذي يقال له الصابئ قالوا : هو
الذين تعنين. وساق حديث تكثير الماء.
وكانوا يسمّون
المسلمين الصّباة كما ورد في خبر سعد بن معاذ أنه كان صديقا لأمية بن خلف وكان سعد
إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة انطلق سعد ذات يوم معتمرا فنزل على أمية بمكة
وقال لأمية : انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج به فلقيهما أبو جهل فقال
لأمية يا أبا صفوان من هذا معك قال :
سعد ، فقال له أبو
جهل : ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصّباة.
وفي حديث غزوة
خالد بن الوليد إلى جذيمة أنه عرض عليهم الإسلام أو السيف فلم يحسنوا أن يقولوا
أسلمنا فقالوا : صبأنا ، الحديث.
وقد قيل إن قوما
من تميم عبدوا نجم الدّبران ، وأن قوما من لخم وخزاعة عبدوا الشّعرى العبور ، وهو
من كواكب برج الجوزاء في دائرة السرطان ، وأن قوما من كنانة عبدوا القمر فظن البعض
أن هؤلاء كانوا صابئة وأحسب أنهم تلقفوا عبادة هذه الكواكب عن سوء تحقيق في حقائق
دين الصابئة ولم يجزم الزمخشري بأن في العرب صابئة فإنه قال في «الكشاف» في تفسير
سورة [٣٧] فصلت في قوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) قال : لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين
فنهوا عن ذلك.
وقد اختلف علماء
الإسلام في إجراء الأحكام على الصابئة ، فعن مجاهد والحسن أنهم طائفة بين اليهود
والمجوس ، وقال البيضاوي : هم قوم بين النصارى والمجوس فمن العلماء من ألحقهم بأهل
الكتاب ، ومن العلماء من ألحقهم بالمجوس ، وسبب هذا الاضطراب هو اشتباه أحوالهم
وتكتمهم في دينهم ، وما دخل عليه من التخليط بسبب قهر الأمم التي تغلبت على بلادهم
، فالقسم الذي تغلّب عليهم الفرس اختلط دينهم بالمجوسية ، والذين غلب عليهم الروم
اختل دينهم بالنصرانية.
قال ابن شاس في
كتاب «الجواهر
الثمينة» : قال الشيخ أبو
الطاهر (يعني ابن بشير التنوخي القيرواني) منعوا ذبائح الصابئة لأنهم بين
النصرانية والمجوسية (ولا شك أنه يعني صابئة العراق ، الذين كانوا قبل ظهور
الإسلام على بلادهم على دين المجوسية).
وفي «التوضيح على مختصر
ابن الحاجب الفرعي» في باب الذبائح «قال الطرطوشي : لا تؤكل ذبيحة الصابئ وليست بحرام كذبيحة
المجوسي» وفيه في باب الصيد «قال مالك لا يؤكل صيد الصابئ ولا ذبيحته».
وفي «شرح عبد الباقي على
خليل» : «إنّ أخذ
الصابئ بالنصرانية ليس بقوي كما ذكره أبو إسحاق التونسي ، وعن مالك لا يتزوج المسلم
المرأة الصائبة».
قال الجصاص في
تفسير سورة العقود وسورة براءة : روي عن أبي حنيفة أن الصابئة أهل كتاب ، وقال أبو
يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب. وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئة الذين هم بناحية
حرّان يعبدون الكواكب ، فليسوا أهل كتاب عندهم جميعا. قال
الجصاص : الصابئة
الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد
أعني الذين هم بناحية حران ، والذين هم بناحية البطائح وكسكر في سواد واسط ، وإنما
الخلاف بين الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم
أهل كتاب فالذي يغلب على ظني في قول أبي حنيفة أنه شاهد قوما منهم يظهرون أنهم
نصارى تقية ، وهم الذين كانوا بناحية البطائح وكسكر ويسميهم النصارى يوحنّاسيّة
وهم ينتمون إلى يحيى بن زكرياء ، وينتحلون كتبا يزعمون أنها التي أنزلها الله على
شيث ويحيى. ومن كان اعتقاده من الصابئين على ما وصفنا وهم الحرانيون الذين بناحية
حران وهم عبدة أوثان لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئا من كتب الله
فلا خلاف بين الفقهاء في أنهم ليسوا أهل كتاب ، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح
نساؤهم وأبو يوسف ومحمد قالا : إن الصابئين ليسوا أهل كتاب ولم يفصلوا بين
الفريقين وكذا قول الأوزاعي ومالك بن أنس ا ه. كلامه.
ووجه الاقتصار في
الآية على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية
والدهريين والزنادقة أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام والمتاب عن أديانهم
التي أبطلت لأنهم أرجى لقبول الإسلام من المجوس والدهريين لأنهم يثبتون الإله
المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك ، فلذلك اقتصر عليهم
تقريبا لهم من الدخول في الإسلام. ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج : ١٧] لأن
ذلك مقام تثبيت للنبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمين.
وقوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) يجوز أن تكون (من) شرطا في موضع المبتدأ ويكون فلهم أجرهم
جواب الشرط ، والشرط مع الجواب خبر (إِنَ) ، فيكون المعنى إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله
أجره وحذف الرابط بين الجملة وبين اسم (إن) لأن (من) الشرطية عامة فكان الرابط
العموم الذي شمل المبتدأ أعني اسم (إن) ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع
الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحا فله أجره ويكون
المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قرّعوا بالقوارع السالفة وذكر معهم من
الأمم من لم يذكر عنهم كفر لمناسبة ما اقتضته العلة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) [البقرة : ٦١]
وتذكيرا لليهود بأنهم لا مزية لهم على غيرهم من الأمم حتى لا يتكلوا على الأوهام
أنهم أحباء الله وأن ذنوبهم مغفورة. وفي ذلك أيضا إشارة إلى أن المؤمنين
الخالصين من
اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن
نون كالب بن يفنة لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجرا عند ربهم لأن إناطة الجزاء بالشرط
المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم
فقد قضت الآية حق الفريقين.
ويجوز أن تكون (من)
موصولة بدلا من اسم (إن) والفعل الماضي حينئذ باق على المضي لأنه ليس ثمة ما يخلصه
للاستقبال ودخلت الفاء في (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) إما على أنها تدخل في الخبر نحو قول الشاعر وهو من شواهد «كتاب سيبويه».
وقائلة خولان
فانكح فتاتهم
ونحو : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [البروج : ١٠] عند
غير سيبويه. وإما على أن الموصول عومل معاملة الشرط للإيذان بالتعليل فأدخلت الفاء
قرينة على ذلك. ويكون المفاد من الآية حينئذ استثناء صالحي بني إسرائيل من الحكم ،
بضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله ويكون ذكر بقية صالحي الأمم معهم على هذا
إشارة إلى أن هذه سنة الله في معاملته خلقه ومجازاته كلا على فعله.
وقد استشكل ذكر (الَّذِينَ آمَنُوا) في عداد هؤلاء ، وإجراء قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل للحاصل ، فقيل أريد به
خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون. وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من
دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين. وهما جوابان في غاية البعد.
وقيل : يرجع قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لخصوص الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة
المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن. وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك ، لأن
الشرط والصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح.
والمخلصون وإن كان
إيمانهم حاصلا فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد
علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلا أو بعضا.
ومعنى (مَنْ آمَنَ بِاللهِ). الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلىاللهعليهوسلم بقرينة المقام وقرينة قوله : (وَعَمِلَ صالِحاً) إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعي لقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧]. وقد
عد عدم الإيمان برسالة محمد صلىاللهعليهوسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات ، القائمة
مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك
التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق.
وبهذا يعلم أن لا
وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥]
إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب
والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا
على ذلك قبل بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلىاللهعليهوسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين : «ورجل من أهل الكتاب آمن
برسوله ثم آمن بي فله أجران».
وأما القائلون
بأنها منسوخة ، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر.
وقوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أطلق الأجر على الثواب مجازا لأنه في مقابلة العمل الصالح
والمراد به نعيم الآخرة ، وليس أجرا دنيويّا بقرينة المقام وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق
الإقرار في قولهم لك عندي كذا. ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة
على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم
المكان ، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى
مما يزيد الأجر تحققا لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده .
وإنما جمع الضمير
في قوله : (أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) مراعاة لما صدق (من) ، وأفرد شرطها أوصلتها مراعاة للفظها.
ومما حسّن ذلك هنا وجعله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين
عربية في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أنبأ على قصد العموم
في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسبا للفظه لقصد
العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جمع
__________________
ليكون عودا على
بدء فيرتبط باسم (إنّ) الذي جيء بالموصول أو الشرط بدلا منه أو خبرا عنه حتى يعلم
أن هذا الحكم العام مراد منه ذلك الخاص أوّلا ، كأنه قيل إن الذين آمنوا إلخ كل من
آمن بالله وعمل إلخ فلأولئك الذين آمنوا أجرهم فعلم أنهم مما شمله العموم على نحو
ما يذكره المناطقة في طي بعض المقدمات للعلم به ، فهو من العام الوارد على سبب
خاص.
وقوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) قراءة الجميع بالرفع لأن المنفي خوف مخصوص وهو خوف الآخرة.
والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لإفادة نفي جنس الخوف نفيا قارا ، لدلالة الجملة الاسمية
على الدوام والثبات ، والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو (يَحْزَنُونَ) لإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير
المؤمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر.
واعلم أن قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) مقابل لقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ
اللهِ) [البقرة : ٦١]
ولذلك قرن بعند الدالة على العناية والرضى. وقوله : (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) مقابل (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١] لأن
الذلة ضد العزة فالذليل خائف لأنه يخشى العدوان والقتل والغزو ، وأما العزيز فهو
شجاع لأنه لا يخشى ضرا ويعلم أن ما قدره له فهو كائن قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨]
وقوله : (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) مقابل قوله : (وَالْمَسْكَنَةُ) لأن المسكنة تقضي على صاحبها بالحزن وتمني حسن العيش قال
تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧]
فالخوف المنفي هو الخوف الناشئ عن الذلة والحزن المنفي هو الناشئ عن المسكنة.
[٦٣ ، ٦٤] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))
تذكير بقصة أخرى
أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ
الميثاق عليهم بواسطة موسى عليهالسلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليهالسلام في الطور تجليا خاصا للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف
وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع
عشر من سفر الخروج
وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل وما ظهر حوله من
الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة ، ولذلك وصف في آية الأعراف [١٧١]
بقوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ
فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (نتقه : زعزعه
ونقضه) حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطاره إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا
العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا : «كل ما تكلم الله به نفعله
فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد» وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث
الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في
أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير.
وضمائر الخطاب
لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها.
والميثاق في هاته
الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته
كتبهم عهدا كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم. وهذه معجزة علمية لرسولنا صلىاللهعليهوسلم.
والطّور علم على
جبل ببرية سينا ، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى
العربية وأنشدوا قول العجاج :
دانى جناحيه من
الطور فمر
|
|
تقضّي البازي
إذا البازي كسر
|
فإذا صح ذلك
فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه
فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علما له فسموه
الطور.
وقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) مقول قول ، محذوف تقديره قائلين لهم خذوا ، وذلك هو الذي
أخذ الميثاق عليه. والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم. والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان
التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢].
ويجوز أن يكون
الذكر مجازا عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية
على وفق ما فيه ، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف (في) المؤذن بالظرفية
المجازية أي استنباط الفروع من الأصول.
والمراد بما آتاهم
ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة.
وجملة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) علة للأمر بقوله : (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ولذلك فصلت بدون عطف.
والرجاء الذي
يقتضيه حرف (لعل) مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة ، وتعهد التذكر
لما فيه ، فذلك التقريب والتبيين شبيه برجاء الراجي. ويجوز أن يكون (لعل) قرينة
استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا
محمل موارد كلمة (لعل) في الكلام المسند إلى الله تعالى. وتقدم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١]
الآية.
وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشارة إلى عبادتهم العجل في مدة مناجاة موسى وأن الله تاب
عليهم بفضله ولو لا ذلك لكانوا من الخاسرين الهالكين في الدنيا أو فيها وفي
الآخرة.
ولا حاجة بنا إلى
الخوض في مسألة التكليف الإلجائي ومنافاة الإلجاء للتكليف وهي مسألة تكليف الملجأ
، المذكورة في الأصول لأنها بنيت هنا على أطلال الأخبار المروية في قلع الطور
ورفعه فوقهم وقول موسى لهم إما أن تؤمنوا أو يقع عليكم الطور ، على أنه لو صحت تلك
الأخبار لما كان من الإلجاء في شيء إذ ليس نصب الآيات والمعجزات والتخويف من
الإلجاء وإنما هو دلالة وبرهان على صدق الرسول وصحة ما جاء به والممتنع في التكليف
هو التكليف في حالة الإلجاء لا التخويف لإتمام التكليف ، فلا تغفلوا.
[٦٥ ، ٦٦] (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ
(٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))
هذه من جملة
الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيرا لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر
الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة ، وإنما خالف في
حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذكر (إِذْ) [البقرة : ٦٣]
المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة
المشار إليها بهذه الآية ليست
من القصص التي
تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة (إذ) لأنها متواترة
عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليهالسلام ، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة
لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم عليها وتلك معجزة غيبية وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن
العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ).
والاعتداء وزنه
افتعال من العدو وهو تجاوز حد السير والحد والغاية. وغلب إطلاق الاعتداء على
مخالفة الحق وظلم الناس والمراد هنا اعتداء الأمر الشرعي لأن الأمر الشرعي يشبّه
بالحد في أنه يؤخذ بما شمله ولا يؤخذ بما وراءه والاعتداء الواقع منهم هو اعتداء
أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه
ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا ، فكانت طائفة من سكان أيلة على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطئ لأنها إذا
لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطئ تفتح أفواهها في الماء لابتلاع
ما يكون على الشواطئ من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها فقالوا لو حفرنا لها
حياضا وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها
وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق أو لأنهم يشغلون بالهم يوم
السبت بالفكر فيما تحصّل لهم أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت ، وهذا
الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه
شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بما ذكره هنا.
فقوله : (فِي السَّبْتِ) يجوز أن تكون (في) للظرفية. والسبت مصدر سبت اليهودي من
باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه. والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في
زمن تعظيم السبت. ويجوز أن تكون (في) للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام
السبت من قطع العمل. ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمنا للدواب.
ويجوز أن تكون (في)
ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن
__________________
الحفر في يوم
الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم
السبت.
وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) كونوا أمر تكوين والقردة ـ بكسر القاف وفتح الراء ـ جمع
قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك
الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين ، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول
القردة مع بقاء الهيكل الإنساني ، وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا
الاعتبارين والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم
بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين ، والقدرة
صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر : ليس قول مجاهد
ببعيد جدا لكنه خلاف الظاهر من الآية وليس الآية صريحة في المسخ.
ومعنى كونهم قردة
أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد
أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل
الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا
مسخ ذوات.
ثم إن القائلين
بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة
أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم في «صحيح
مسلم» أنه قال : «لم
يهلك الله قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا» وهو صريح في الباب ومن العلماء من
جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد
كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله :
قالت وكنت رجلا
فطينا
|
|
هذا لعمر الله
إسرائينا
|
حتى قال بعض
الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال ابن الحاجب «وأما
ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم
لما يذكر» أي لعموم آية المأكولات ، وصحح صاحب «التوضيح» عن مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر «صحيحه» عن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها
إلا الفأر ، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان
الشاء شربته» ا ه. وقد تأوله
ابن عطية وابن رشد
في «البيان» وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبي صلىاللهعليهوسلم عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر
من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث ابن مسعود ، قلت : يؤيد هذا أنه قال عن
اجتهاد قوله : «ولا أراها». ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ
وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها.
وهذا الأمر
التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترءوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا
عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن
شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال
على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة ، على الله تعالى ، ولا حجة لمن
ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب : (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] لأن تلك
فتوى من الله تعالى لنبي لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم
يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله ، وذلك مما يعين على حكمة
اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك ،
ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص.
وقوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً) عاد فيه الضمير على العقوبة المستفادة من قوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً). والنكال بفتح النون العقاب الشديد الذي يردع المعاقب عن
العود للجناية ويردع غيره عن ارتكاب مثلها ، وهو مشتق من نكل إذا امتنع ويقال نكّل
به تنكيلا ونكالا معنى عاقبه بما يمنعه من العود. والمراد بما بين يديها وما خلفها
ما قارنها من معاصيهم وما سبق يعني أن تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه فنزلت العقوبة
عندها ولما بين يديها من الأمم القريبة منها ولما خلفها من الأمم البعيدة.
والموعظة ما به الوعظ وهو الترهيب من الشر.
[٦٧] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ
أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧))
تعرضت هذه الآية
لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة
والإلحاح فيها إما للتفصي من الامتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد
الشارع ورومهم
التوقيف على ما لا قصد إليه. قيل : إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً
فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [البقرة : ٧٢]
الآية وإن قول موسى : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ناشئ عن قتل النفس المذكورة ، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب
موسى عليهالسلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو
الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤا والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة
تعدد تقريعهم ، هكذا ذكر صاحب «الكشاف» والموجهون لكلامه ، ولا يخفى أن ما وجهوا
به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما
بقوله : (وَإِذْ) مع بقاء الترتيب ، على أن المذام قد تعرف بحكايتها
والتنبيه عليها بنحو قوله : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقوله : (وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١].
فالذي يظهر لي
أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي
القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني (تثنية)
في الإصحاح ٢١ أنه «إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل
يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجر بالنير فيأتون بها إلى
واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنا لك ويتقدم الكهنة من بني
لاوى فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا
هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم» ا ه. هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع
المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلا أم هو عند تعذر معرفة
المتهم بالقتل؟ وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها وهي المشار
إليها هنا ، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين
المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا
القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس. وبذلك يظهر وجه
ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما
حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعا سيق ذكره لما قارنه من
تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي
أن يظن اهتمام التشريع بها ، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله
ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا ولذلك ختمت بقوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٧٣]
وأتبعت بقوله : (ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٧٤].
والتأكيد في قوله
: (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ) حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع
في العربية لوقع مؤكدا بإنّ.
وقولهم : (تَتَّخِذُنا هُزُواً) استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم
قتيل كاللعب و (تَتَّخِذُنا) بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) في سورة الأنعام [٧٤].
والهزؤ بضم الهمزة
والزاي وبسكون الزاي مصدر هزأ به هزءا وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق.
وقرأ الجمهور (هزؤا)
بضمتين وهمز بعد الزاي وصلا ووقفا ، وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلا ، ووقف
عليه بتخفيف الهمز واوا وقد رسمت في المصحف واوا ، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف
الهمز واوا في الوصل والوقف.
وقول موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ) تبرؤ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه
أخص من المزح لأن في الهزؤ مزحا مع استخفاف واحتقار للمزوح معه على أن المزح لا
يليق في المجامع العامة والخطابة ، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه
موسى بأنه نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه ، وبالغ في
التنزه بقوله (أَعُوذُ بِاللهِ) أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا
يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى. وصيغة (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل
كما سيأتي في سورة الأنعام [٥٦] عند قوله : (وَما أَنَا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ).
والجهل ضد العلم
وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب ، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن
أحد علينا
|
|
فنجهل فوق جهل
الجاهلينا
|
ومن الثاني قول
الحماسي :
فليس سواء عالم
وجهول
وقول النابغة :
وليس جاهل شيء مثل
من علما
[٦٨] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ
بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨))
جيء في مراجعتهم
لنبيهم بالطريقة المألوفة في حكاية المحاورات ، وهي طريقة حذف العاطف بين أفعال
القول وقد بيناها لكم في قصة خلق آدم.
ومعنى (ادْعُ لَنا) يحتمل أن يراد منه الدعاء الذي هو طلب بخضوع وحرص على
إجابة المطلوب فيكون في الكلام رغبتهم في حصول البيان لتحصيل المنفعة المرجوة من
ذبح بقرة مستوفية للصفات المطلوبة في القرابين المختلفة المقاصد ، بنوه على ما
ألفوه من الأمم عبدة الأوثان من اشتراط صفات وشروط في القرابين المقربة تختلف
باختلاف المقصود من الذبيحة ، ويحتمل أنهم أرادوا مطلق السؤال فعبروا عنه بالدعاء
لأنه طلب من الأدنى إلى الأعلى ، ويحتمل أنهم أرادوا من الدعاء النداء الجهير بناء
على وهمهم أن الله بعيد المكان ، فسائله يجهر بصوته ، وقد نهي المسلمون عن الجهر
بالدعاء في صدر الإسلام.
واللام في قوله (لَنا) لام الأجل أي ادع عنا ، وجزم (يُبَيِّنْ) في جواب (ادْعُ) لتنزيل المسبب منزلة السبب ، أي إن تدعه يسمع فيبين وقد
تقدم.
وقوله : (ما هِيَ) حكى سؤالهم بما يدل عليه بالسؤال ب (ما) في كلام العرب وهو
السؤال عن الصفة لأن (ما) يسأل بها عن الصفة ، كما يقول من يسمع الناس يذكرون
حاتما أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان ولم يعلم صفتيهما ما حاتم؟ أو ما الأحنف؟ فيقال
: كريم أو حليم.
وليس (ما) موضوعة
للسؤال عن الجنس كما توهمه بعض الواقفين على كلام «الكشاف» فتكلفوا لتوجيهه حيث إن جنس البقرة معلوم بأنهم نزلوا
هاته البقرة المأمور بذبحها منزلة فرد من جنس غير معلوم لغرابة حكمة الأمر بذبحها
وظنوا أن الموقع هنا للسؤال ب (أي) أو (كيف) وهو وهم نبه عليه التفتازانيّ في «شرح الكشاف» واعتضد له بكلام «المفتاح» إذ جعل الجنس والصفة قسمين للسؤال بما.
والحق أن المقام
هنا للسؤال بما لأن أيّا إنما يسأل بها عن مميز الشيء عن أفراد من نوعه التبست به
وعلامة ذلك ذكر المضاف إليه مع أي نحو : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
خَيْرٌ) [مريم : ٧٣] وأي
البقرتين أعجبتك وليس لنا هنا بقرات معينات يراد تمييز إحداها.
وقوله : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) أكد مقول موسى ومقول الله تعالى بإن لمحاكاة ما اشتمل عليه
كلام موسى من الاهتمام بحكاية قول الله تعالى فأكده بإن ، وما اشتمل عليه مدلول
كلام الله تعالى لموسى من تحقيق إرادته ذلك تنزيلا لهم منزلة المنكرين لما بدا من
تعنتهم وتنصلهم ، ويجوز أن يكون التأكيد الذي في كلام موسى لتنزيلهم منزلة أن يكون
الله قال لموسى ذلك جريا على اتهامهم السابق في قولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧]
جوابا عن قوله : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ).
ووقع قوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) موقع الصفة لبقرة وأقحم فيه حرف (لا) لكون الصفة بنفي وصف
ثم بنفي آخر على معنى إثبات وصف واسطة بين الوصفين المنفيين فلما جيء بحرف (لا)
أجري الإعراب على ما بعده لأن (لا) غير عاملة شيئا فيعتبر ما قبل لا على عمله فيما
بعدها سواء كان وصفا كما هنا وقوله تعالى : (زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥] وقول
جويرية أو حويرثة بن بدر الرامي :
وقد أدركتني
والحوادث جمة
|
|
أسنة قوم لا
ضعاف ولا عزل
|
أو حالا كقول
الشاعر وهو من شواهد النحو :
قهرت العدا لا
مستعينا بعصبة
|
|
ولكن بأنواع
الخدائع والمكر
|
أو مضافا كقول
النابغة :
وشيمة لاوان لا
واهن القوى
|
|
وجدّ إذا خاب
المفيدون صاعد
|
أو خبر مبتدأ كما
وقع في حديث أم زرع قول الأولى : «لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل» على رواية
الرفع ـ أي هو أي الزوج ـ لا سهل ولا سمين. وجمهور النحاة أن لا هذه يجب تكريرها
في الخبر والنعت والحال أي بأن يكون الخبر ونحوه شيئين فأكثر فإن لم يكن كذلك لم
يجز إدخال (لا) في الخبر ونحوه وجعلوا بيت جويرية أو حويرثة ضرورة وخالف فيه
المبرد. وليست (لا) في مثل هذا بعاملة عمل ليس ولا عمل إن ، وذكر النحاة لهذا
الاستعمال في أحد هذين البابين لمجرد المناسبة.
واعلم أن نفي
وصفين بحرف (لا) قد يستعمل في إفادة إثبات وصف ثالث هو وسط بين حالي ذينك الوصفين
مثل ما في هذه الآية بدليل قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) ومثل قوله
__________________
تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى
هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء : ١٤٣]
وقد يستعمل في إرادة مجرد نفي ذينك الوصفين لأنهما مما يطلب في الغرض الواردين فيه
ولا يقصد إثبات وصف آخر وسط بينهما وهو الغالب كقوله تعالى : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤٢ ـ
٤٤].
والفارض المسنة
لأنها فرضت سنها أي قطعتها ، والفرض القطع ويقال للقديم فارض. والبكر الفتية مشتقة
من البكرة بالضم وهي أول النهار لأن البكر في أول السنوات عمرها والعوان هي
المتوسطة السن.
وإنما اختيرت لهم
العوان لأنها أنفس وأقوى ولذلك جعلت العوان مثلا للشدة في قول النابغة :
ومن يتربّص
الحدثان تنزل
|
|
بمولاه عوان غير
بكر
|
أي مصيبة عوان أي
عظيمة. ووصفوا الحرب الشديدة فقالوا : حرب عوان.
وقوله : (بَيْنَ ذلِكَ) أي بين هذين السنين ، فالإشارة للمذكور المتعدد. ولهذا صحت
إضافة بين لاسم الإشارة كما تضاف للضمير الدال على متعدد وإن كان كلمة واحدة في
نحو بينها. وإفراد اسم الإشارة على التأويل بالمذكور كما تقدم قريبا عند قوله
تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) [البقرة : ٦١].
وجاء في جوابهم
بهذا الإطناب دون أن يقول من أول الجواب إنها عوان تعريضا بغباوتهم واحتياجهم إلى
تكثير التوصيف حتى لا يترك لهم مجالا لإعادة السؤال.
فإن قلت : هم
سألوا عن صفة غير معينة فمن أين علم موسى أنهم سألوا عن السن؟ ومن أين علم من
سؤالهم الآتي ب (ما هِيَ) أيضا أنهم سألوا عن تدربها على الخدمة؟
قلت : يحتمل أن
يكون (ما هِيَ) اختصارا لسؤالهم المشتمل على البيان وهذا الاختصار من
إبداع القرآن اكتفاء بما يدل عليه الجواب ، ويحتمل أن يكون ما حكى في القرآن مرادف
سؤالهم فيكون جواب موسى عليهالسلام بذلك لعلمه بأن أول ما تتعلق به أغراض الناس في معرفة
أحوال الدواب هو السن فهو أهم صفات الدابة ولما سألوه عن اللون ثم سألوا السؤال
الثاني المبهم علم أنه لم يبق من الصفات التي تختلف فيها مقاصد الناس من الدواب
غير حالة الكرامة أي عدم الخدمة لأن ذلك أمر ضعيف إذ قد تخدم الدابة النفيسة ثم
يكرمها من يكتسبها بعد ذلك فتزول آثار الخدمة وشعثها.
وقوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) الفاء للفصيحة وموقعها هنا موقع قطع العذر مع الحث على
الامتثال كما هي في قول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسان
أقصى ما يراد بنا
|
|
ثم القفول فقد
جئنا خراسانا
|
أي فقد حصل ما
تعللتم به من طول السفر. والمعنى فبادروا إلى ما أمرتم به وهو ذبح البقرة ، و (ما)
موصولة والعائد محذوف بعد حذف جاره على طريقة التوسع لأنهم يقولون أمرتك الخير ،
فتوسلوا بحذف الجار إلى حذف الضمير.
وفي حث موسى إياهم
على المبادرة بذبح البقرة بعد ما كلفوا به من اختيارها عوانا دليل على أنهم
مأمورون بذبح بقرة ما غير مراد منها صفة مقيدة لأنه لما أمرهم بالمبادرة بالذبح
حينئذ علمنا وعلموا أن ما كلفوا به بعد ذلك من طلب أن تكون صفراء فاقعة وأن تكون
سالمة من آثار الخدمة ليس مما أراده الله تعالى عند تكليفهم أول الأمر وهو الحق ،
إذ كيف تكون تلك الأوصاف مرادة مع أنها أوصاف طردية لا أثر لها في حكمة الأمر
بالذبح لأنه سواء كان أمرا بذبحها للصدقة أو للقربان أو للرش على النجس أو للقسامة
فليس لشيء من هاته الصفات مناسبة للحكم ، وبذلك يعلم أن أمرهم بهاته الصفات كلها
هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على سؤالهم فإن كان سؤالهم للمطل والتنصل فطلب تلك
الصفات المشقة عليهم تأديب على سوء الخلق والتذرع للعصيان ، وإن كان سؤالا ناشئا
عن ظنهم أن الاهتمام بهاته البقرة يقتضي أن يراد منها صفات نادرة كما هو ظاهر
قولهم بعد : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ
اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠]
فتكليفهم بهاته الصفات العسير وجودها مجتمعة تأديب علمي على سوء فهمهم في التشريع
كما يؤدّب طالب العلم إذا سأل سؤالا لا يليق برتبته في العلم. وقد قال عمر لأبي
عبيدة في واقعة الفرار من الطاعون «لو غيرك قالها يا أبا عبيدة». ومن ضروب التأديب
الحمل على عمل شاق ، وقد أدب رسول الله صلىاللهعليهوسلم عمه عباسا رضياللهعنه على الحرص حين حمل من خمس مال المغنم أكثر من حاجته فلم
يستطع أن يقله فقال له : مر أحدا رفعه لي فقال : لا آمر أحدا فقال له : ارفعه أنت
لي فقال : لا ، حتى جعل العباس يحثو من المال ويرجعه لصبرته إلى أن استطاع أن يحمل
ما بقي فذهب والنبي صلىاللهعليهوسلم يتبعه بصره تعجبا من حرصه كما في «صحيح البخاري».
ومما يدل على أنه
تكليف لقصد التأديب أن الآية سيقت مساق الذم لهم ، وعدت القصة في عداد قصص مساويهم
وسوء تلقيهم للشريعة بأصناف من التقصير عملا وشكرا وفهما بدليل قوله تعالى آخر
الآيات : (وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] مع
ما روي عن ابن
عباس أنه قال : لو
ذبحوا أي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
وبهذا تعلمون أن
ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا على وقوع النسخ قبل التمكن
لأن ما طرأ تكليف خاص للإعنات ، على أن الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين ،
وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء.
[٦٩] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩))
سألوا ب (ما) عن
ماهية اللون وجنسه لأنه ثاني شيء تتعلق به أغراض الراغبين في الحيوان. والقول في
جزم : (يُبَيِّنْ) وفي تأكيد (إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّها بَقَرَةٌ) كالقول في الذي تقدم.
وقوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) احتيج إلى تأكيد الصفرة بالفقوع وهو شدة الصفرة لأن صفرة
البقر تقرب من الحمرة غالبا فأكده بفاقع والفقوع خاص بالصفرة ، كما اختص الأحمر
بقان والأسود بحالك ، والأبيض بيقق ، والأخضر بمدهامّ ، والأورق بخطباني (نسبة إلى
الخطبان بضم الخاء وهو نبت كالهليون) ، والأرمك وهو الذي لونه لون الرماد برداني (براء
في أوله) والردان الزعفران كذا في الطيبي (ووقع في «الكشاف» و«الطيبي» بألف بعد الدال ووقع في «القاموس» أنه بوزن صاحب) وضبط الراء في نسخة من «الكشاف» ونسخة من «حاشية القطب» عليه ونسخة من «حاشية الهمداني» عليه بشكل ضمة على الراء
وهو مخالف لما في «القاموس».
والنصوع يعم جميع
الألوان ، وهو خلوص اللون من أن يخالطه لون آخر.
ولونها إما فاعل
بفاقع أو مبتدأ مؤخر وإضافته لضمير البقرة دلت على أنه اللون الأصفر فكان وصفه
بفاقع وصفا حقيقيا ولكن عدل عن أن يقال صفراء فاقعة إلى (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) ليحصل وصفها بالفقوع مرتين إذ وصف اللون بالفقوع ، ثم لما
كان اللون مضافا لضمير الصفراء كان ما يجري عليه من الأوصاف جاريا على سببيه (على
نحو ما قاله صاحب «المفتاح» في كون المسند فعلا من أن الفعل يستند إلى الضمير ابتداء
ثم بواسطة عود ذلك الضمير إلى المبتدأ يستند إلى المبتدأ في الدرجة الثانية) وقد
ظن الطيبي في «شرح
الكشاف» أن كلام صاحب «الكشاف» مشير إلى أن إسناد (فاقع) للونها مجاز عقلي وهو وهم إذ
ليس من المجاز العقلي في شيء. وأما تمثيل صاحب «الكشاف» بقوله جد
جده فهو تنظير في
مجرد إفادة التأكيد.
وقوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تدخل رؤيتها عليهم مسرة في نفوسهم ، والمسرة لذة نفسية
تنشأ عن الإحساس بالملائم أو عن اعتقاد حصوله ومما يوجبها التعجب من الشيء
والإعجاب به. وهذا اللون من أحسن ألوان البقر فلذلك أسند فعل (تَسُرُّ) إلى ضمير البقرة لا إلى ضمير اللون فلا يقتضي أن لون
الأصفر مما يسر الناظرين مطلقا. والتعبير بالناظرين دون الناس ونحوه للإشارة إلى
أن المسرة تدخل عليهم عند النظر إليها من باب استفادة التعليل من التعليق بالمشتق.
[٧٠ ، ٧١] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ
لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ
الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ
جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))
(قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ
شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ
تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا
الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ).
القول في (ما هِيَ) كالقول في نظيره ، فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم
بلغة العرب فالجواب لهم ب (إِنَّها بَقَرَةٌ لا
ذَلُولٌ) لما علم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها
إلا الكرامة والنفاسة ، وإن كان المحكي في القرآن اختصارا لكلامهم فالأمر ظاهر.
على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به.
وجملة (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال
توقع في نفس موسى تساؤلا عن سبب هذا التكرير في السؤال ، وقولهم (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) اعتذار عن إعادة السؤال ، وإنما لم يعتذروا في المرتين
الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعا في النفس في التأكيد والسآمة
وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة.
وقد جيء بحرف
التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد
الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد (إن) مفاد فاء
التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في «دلائل الإعجاز»
ومثله بقول بشار :
بكّرا صاحبيّ
قبل الهجير
|
|
إن ذاك النجاح
في التبكير
|
تقدم ذكرها عند
قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢] في
هذه السورة وذكر فيه قصة.
وقولهم : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان
ولتندفع عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) [البقرة : ٦٨]
ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات. تفاديا من غضب موسى
عليهم.
والتعليق ب (إِنْ شاءَ اللهُ) للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير.
والقول في وجه
التأكيد في (إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّها بَقَرَةٌ) كالقول في نظيره الأول.
والذلول ـ بفتح
الذال ـ فعول من ذل ذلا ـ بكسر الذال في المصدر ـ بمعنى لان وسهل. وأما الذل ـ بضم
الذال ـ فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد
المعنيين. والمعنى إنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت
هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة.
و (لا ذَلُولٌ) صفة لبقرة. وجملة (تُثِيرُ الْأَرْضَ) حال من (ذَلُولٌ).
وإثارة الأرض
حرثها وقلب داخل ترابها ظاهرا وظاهره باطنا ، أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيها
لانفلال أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] أي
تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم [٩] : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) و (لا تَسْقِي الْحَرْثَ) في محل نصب على الحال.
وإقحام (لا) بعد
حرف العطف في قوله : (وَلا تَسْقِي
الْحَرْثَ) مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو
لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في
قوله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا
بِكْرٌ) [البقرة : ٦٨]
فإنه لما قيدت صفة ذلول بجملة تسقى الحرث صار تقدير الكلام أنها بقرة لا تثير
الأرض ولا تسقي الحرث فجرت الآية على الاستعمال الفصيح من إعادة (لا) وبذلك لم تكن
في هذه الآية حجة للمبرد كما يظهر بالتأمل.
واختير الفعل
المضارع في (تثير) و (تسقي) لأنه الأنسب بذلول إذ الوصف شبيه بالمضارع ولأن
المضارع دال على الحال.
و (مسلمة) أي
سليمة من عيوب نوعها فهو اسم مفعول من سلمت المبني للمفعول وكثيرا ما تذكر الصفات
التي تعرض في أصل الخلقة بصيغة البناء للمجهول في الفعل والوصف إذ لا يخطر على باب
المتكلم تعيين فاعل ذلك ، ومن هذا معظم الأفعال التي التزم فيها البناء للمجهول.
وقوله : (لا شِيَةَ فِيها) صفة أخرى تميز هذه البقرة عن غيرها. والشية العلامة وهي
بزنة فعلة من وشى الثوب إذا نسجه ألوانا وأصل شية وشية ويقول العرب ثوب موشى وثوب
وشي ، ويقولون : ثور موشى الأكارع لأن في أكارع ثور الوحش سواد يخالط صفرته فهو
ثور أشية ونظائره قولهم فرس أبلق ، وكبش أدرع ، وتيس أزرق وغراب أبقع ، بمعنى
مختلط لونين.
وقوله : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول
جاء بالأمر على وجهه ، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم.
فإن قلت : لما ذا
ذكر هنا بلفظ الحق؟ وهلا قيل قالوا : الآن جئت بالبيان أو بالثبت؟
قلت : لعل الآية
حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه
من العربية تنبيها على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم
وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبي صلىاللهعليهوسلم (راعِنا) ، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) [البقرة : ١٠٤]
وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها
تقصيرا كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات
واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظنا
منهم أن في علم النبي بهذه الأغراض الدنيوية كمالا فيه ، فلذا مدحوه بعد البيان
بقولهم (الْآنَ جِئْتَ
بِالْحَقِ) كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال : الآن أصبت
الجواب ، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع ، فليحذر
المسلمون أن يعقلوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله.
(فَذَبَحُوها وَما
كادُوا يَفْعَلُونَ).
عطفت الفاء جملة (فَذَبَحُوها) على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو
نحو ذلك وهذا من
إيجاز الحذف الاقتصاري ، ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول
الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن
فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقا كما تقدم.
وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة ، تارة بالإعراض
والتفريط ، وتارة بكثرة التوقف والإفراط ، وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في
الشريعة ، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية ، ولذلك
قال ابن عباس : لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وروى ابن
مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا
فشدد الله عليهم» وفي سنده عبادة بن منصور وهو ضعيف ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم ينهى أصحابه عن كثرة السؤال وقال : «فإنما أهلك الذين من
قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في
شأنها فقال السائل : فضالّة الغنم قال : «هي لك أو لأخيك أو للذئب ، قال السائل
فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال مالك ولها ، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء
وترعى الشجر حتى يأتيها ربها».
وجملة : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) تحتمل الحال والاستئناف ، والأول أظهر لأنه أشد ربطا
للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل ، والمعنى أنهم
ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت
الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتا متحدا اتحادا عرفيا بحسب المقامات الخطابية للإشارة
إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي
فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات ، وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن
يفعل.
ثم إن (ما كادُوا يَفْعَلُونَ) يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي
مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله : (فَذَبَحُوها)؟ فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة
الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك ، وقد
أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه
مبني على جعل الواو استئنافا وقد علمتم بعده.
فالوجه القالع
للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل
فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء
وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفيا لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي
قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفيا للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو
كالمنطوق وأن ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة
كلامين ومنه قوله تعالى : (وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك ،
ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين ، وإلى
هذا ذهب ابن مالك في «الكافية» إذ قال :
وبثبوت كاد ينفى
الخبر
|
|
وحين ينفى كاد
ذاك أجدر
|
وغير ذا على
كلامين يرد
|
|
كولدت هند ولم
تكد تلد
|
وهذا المذهب وقوف
مع قياس الوضع.
وذهب قوم إلى أن
إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن
نفيها يصير إثباتا على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه
أبو العلاء المعري بقوله :
أنحويّ هذا
العصر ما هي لفظة
|
|
أنت في لساني
جرهم وثمود
|
إذا استعملت في
صورة الجحد أثبتت
|
|
وإن أثبتت قامت
مقام جحود
|
وقد احتجوا لذلك
بقوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما
كادُوا يَفْعَلُونَ) وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي.
وقد جرت في هذا
نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» وهي أن عنبسة العنسي
الشاعر قال : قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة ينشد قصيدته الحائية التي أولها :
أمنزلتي ميّ
سلام عليكم
|
|
على النّأي
والنّائي يودّ وينصح
|
حتى بلغ قوله فيها
:
إذا غيّر النّأي
المحبين لم يكد
|
|
رسيس الهوى من
حبّ ميّة يبرح
|
__________________
وكان في الحاضرين
ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال : فشنق ناقته وجعل يتأخر بها
ويتفكر ثم قال : «لم أجد» عوض «لم يكد» قال عنبسة : فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي
: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة ، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن
شبرمة : إنما هذا كقول الله تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠]
وإنما هو لم يرها ولم يكد.
وذهب قوم ـ منهم
أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في «التسهيل» ـ إلى أن أصل كاد أن يكون
نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على
وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيدا في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى
أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل
الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في
حالة المشبه ، ولعلهم يجعلون نحو قوله (فَذَبَحُوها) قرينة على هذا القصد.
قال في «التسهيل»
: «وتنفي كاد إعلاما بوقوع الفعل عسيرا أو بعدمه وعدم مقاربته» واعتذر في شرحه
للتسهيل عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال.
وذهب قوم إلى أن
كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات
وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال
بخلاف نفي المضارع. وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل
إن ذلك من قبيل القلب الشائع.
وعندي أن الحق هو
المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة
الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولو لا ويشهد لذلك
مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك
من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل ،
ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي
الذي حقه التأخير مقدما ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله : «جرت في لساني
جرهم وثمود» ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من أهل اللسان
وأصحاب الذوق ، فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته
كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره ، وما كان مثله ليغير شعره بعد
التفكر لو كان
لصحته وجه فما
اعتذر به عنه ابن مالك في «شرح التسهيل» ضعيف. وأما دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد
هذا الاستعمال حتى في آية (لَمْ يَكَدْ يَراها) فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط
شرا «فأبت إلى فهم وما كدت آئبا» وقال تعالى : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) [الزخرف : ٥٢].
وإنما قال : (وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفننا في البيان.
[٧٢ ، ٧٣] (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً
فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))
تصديره بإذ على
طريقة حكاية ما سبق من تعداد النعم والألطاف ومقابلتهم إياها بالكفران والاستخفاف
يومئ إلى أن هذه قصة غير قصة الذبح ولكنها حدثت عقب الأمر بالذبح لإظهار شيء من
حكمة ذلك الأمر الذي أظهروا استنكاره عند سماعه إذ قالوا (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] وفي
ذلك إظهار معجزة لموسى. وقد قيل إن ما حكى في هذه الآية هو أول القصة وإن ما تقدم
هو آخرها ، وذكروا للتقديم نكتة تقدم القول في بيانها وتوهينها.
وليس فيما رأيت من
كتب اليهود ما يشير إلى هذه القصة فلعلها مما أدمج في قصة البقرة المتقدمة لم
تتعرض السورة لذكرها لأنها كانت معجزة لموسى عليهالسلام ولم تكن تشريعا بعده.
وأشار قوله : (قَتَلْتُمْ) إلى وقوع قتل فيهم وهي طريقة القرآن في إسناد أفعال البعض
إلى الجميع جريا على طريقة العرب في قولهم : قتلت بنو فلان فلانا ، قال النابغة
يذكر بني حنّ :
وهم قتلوا
الطائي بالجو عنوة
|
|
أبا جابر
واستنكحوا أم جابر
|
وذلك أن نفرا من
اليهود قتلوا ابن عمهم الوحيد ليرثوا عمهم وطرحوه في محلة قوم وجاءوا موسى يطالبون
بدم ابن عمهم بهتانا وأنكر المتهمون فأمره الله بأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة
فينطق ويخبر بقاتله ، والنفس الواحد من الناس لأنه صاحب نفس أي روح وتنفس وهي
مأخوذة من التنفس وفي الحديث «ما من نفس منفوسة» ولإشعارها بمعنى
__________________
التنفس اختلف في
جواز إطلاق النفس على الله وإضافتها إلى الله فقيل يجوز لقوله تعالى حكاية عن كلام
عيسى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي
وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]
ولقوله في الحديث القدسي : «وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» وقيل : لا يجوز إلا
للمشاكلة كما في الآية والحديث القدسي والظاهر الجواز ولا عبرة بأصل مأخذ الكلمة
من التنفس فالنفس الذات قال تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١].
وتطلق النفس على روح الإنسان وإدراكه ومنه قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) وقول العرب قلت في نفسي أي في تفكري دون قول لفظي ، ومنه
إطلاق العلماء الكلام النفسي على المعاني التي في عقل المتكلم التي يعبر عنها
باللفظ.
و (ادّارأتم)
افتعال ، وادارأتم أصله تدارأتم تفاعل من الدرء وهو الدفع لأن كل فريق يدفع
الجناية عن نفسه فلما أريد إدغام التاء في الدال على قاعدة تاء الافتعال مع الدال
والذال جلبت همزة الوصل لتيسير التسكين للإدغام.
وقوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ) جملة حالية من (فَادَّارَأْتُمْ) أي تدارأتم في حال أن الله سيخرج ما كتمتموه فاسم الفاعل
فيه للمستقبل باعتبار عامله وهو (فَادَّارَأْتُمْ).
والخطاب هنا على
نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل
تبعتهم عليهم بناء على ما تقرر من أن خلق السلف يسري إلى الخلف كما بيناه فيما مضى
وسنبينه إن شاء الله تعالى عند قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥].
وإنما تعلقت إرادة
الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراما
لموسى عليهالسلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرأى منه ومسمع لا
سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه فلو
لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكا
في صدقه فينقلبوا كافرين فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل
فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا صلىاللهعليهوسلم كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين
بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس.
وقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) الإشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيي فأخبر بمن قتله
أي كذلك الإحياء يحيي الله الموتى فالتشبيه في التحقق وإن كانت كيفية
المشبه أقوى وأعظم
لأنها حياة عن عدم بخلاف هاته فالمقصد من التشبيه بيان إمكان المشبه كقول المتنبي
:
فإن تفق الأنام
وأنت منهم
|
|
فإن المسك بعض
دم الغزال
|
وقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) من بقية المقول لبني إسرائيل فيتعين أن يقدر وقلنا لهم
كذلك يحيي الله الموتى لأن الإشارة لشيء مشاهد لهم وليس هو اعتراضا أريد به مخاطبة
الأمة الإسلامية لأنهم لم يشاهدوا ذلك الإحياء حتى يشبه به إحياء الله الموتى.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) رجاء لأن يعقلوا فلم يبلغ الظن بهم مبلغ القطع مع هذه
الدلائل كلها.
وقد جرت عادة
فقهائنا أن يحتجوا بهذه الآية على مشروعية اعتبار قول المقتول : دمي عند فلان
موجبا للقسامة ويجعلون الاحتجاج بها لذلك متفرعا على الاحتجاج بشرع من قبلنا ، وفي
ذلك تنبيه على أن محل الاستدلال بهذه الآية على مشروعية ذلك هو أن إحياء الميت لم
يقصد منه إلّا سماع قوله فدل على أن قول المقتول كان معتبرا في أمر الدماء.
والتوراة قد أجملت أمر الدماء إجمالا شديدا في قصة ذبح البقرة التي قدمناها ، نعم
إن الآية لا تدل على وقوع القسامة مع قول المقتول ولكنها تدل على اعتبار قول
المقتول سببا من أسباب القصاص ، ولما كان الظن بتلك الشريعة أن لا يقتل أحد بمجرد
الدعوى من المطعون تعين أن هنالك شيئا تقوى به الدعوى وهو القسامة.
وقد أورد على
احتجاج المالكية بها أن هذا من خوارق العادات وهي لا تفيد أحكاما وأجاب ابن العربي
بأن المعجزة في إحياء الميت فلما حيي صار كلامه ككلام سائر الأحياء ، وهو جواب
لطيف لكنه غير قاطع.
والخلاف في القضاء
بالقسامة إثباتا ونفيا وفي مقدار القضاء بها مبسوط في كتب الفقه وقد تقصاه القرطبي
وليس من أغراض الآية.
[٧٤] (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))
(ثم) هنا للترتيب
الرتبي الذي تتهيأ له (ثم) إذا عطفت الجمل ، أي ومع ذلك كله لم
تلن قلوبكم ولم
تنفعكم الآيات (ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ) وكان من البعيد قسوتها.
وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات
السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي :
أكفرا بعد ردّ
الموت عني
|
|
وبعد عطائك
المائة الرّتاعا
|
أي كيف أكفر نعمتك
أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ. ووجه استعمال (بعد) في هذا المعنى أنها
مجاز في معنى (مع) لأن شأن المسبب ، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه
على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتا أو نفيا عبر ببعد عن معنى (مع)
مع الإشارة إلى التأخر الرتبي.
والقسوة والقساوة
توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو
عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها. وسواء كانت القساوة موضوعة
للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي ـ وهو احتمال ضعيف ـ أم كانت
موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح ، فقد شاع هذا المجاز
حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر
المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) كما سيأتي.
وقوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة
المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو
الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها
قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج :
عليهن شعث
عامدون لربهم
|
|
فهنّ كأطراف
الحنيّ خواشع
|
وقد كانت صلابة
الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها ، وهذا الأسلوب يسمى عندي
تهيئة التشبيه وهو من محاسنه ، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على
ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في
مثله حسن جدا وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي بعد مذموما.
وقد رأيت بيتا جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة :
في الريق سكر
وفي الأصداغ تجعيد
|
|
هذا المدام
وهاتيك العناقيد
|
فإنه لما ذكر
السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله : تجعيد لا يناسب العناقيد.
فإن قلت لم عددته
مذموما وما هو إلا كتجريد الاستعارة؟
قلت : لا لأن
التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفننا لطيفا بخلاف ما يجيء قبل
العلم بالتشبيه.
وقوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) و (أو) بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها
جملة. وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له (أو) لأن الانتقال ينشأ عن
التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من
المشبه به يبنى على ذلك ابتداء التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى
التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة :
بدت مثل قرن
الشمس في رونق الضّحى
|
|
وصورتها أو أنت
في العين أملح
|
فليست (أو)
للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها
موقع ما إذا كرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩].
ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفا على الخبر الذي هو (كَالْحِجارَةِ) أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من
التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافا ولا يذمهم تحاملا بل هو
متثبت متحر في شأنهم فلا يثبت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم
بالحجارة في وصف ثم تقصّى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسوّهم
بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل
عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفا وأما في مقام المدح فالأحسن هو
التعبير ببل كقول الفرزدق :
فقالت لنا أهلا
وسهلا وزوّدت
|
|
جنى النّحل بل
ما زوّدت منه أطيب
|
ووجه تفضيل تلك
القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعا
مغايرا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول
التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة
__________________
الحجارة لأن
الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تجد
فيها محاولة.
وقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما
يَتَفَجَّرُ) إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يستغرب ، وموقع هذه
الواو الأولى في قوله : (وَإِنَّ مِنَ
الْحِجارَةِ) عسير فقيل : هي للحال من الحجارة المقدّرة بعد (أشد) أي
أشد من الحجارة قسوة ، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهر في هذه الأحوال
التي وصفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال ، وقيل هي
الواو للعطف على قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) قاله التفتازانيّ ، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير
راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارا عن مزايا فضلت
بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تعطّل قلوب
هؤلاء من صدور النفع بها ، وقيل : الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه
بعد كما صرح به ابن عرفة ، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) وما عطف عليها معترضات بين قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) وبين جملة الحال منها وهي قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ).
والتوكيد بإنّ
للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يناكد ذلك
كما تقدم عند قوله تعالى : (فَإِنَّ لَكُمْ ما
سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١].
ومن بديع التخلص
تأخّر قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) والتعبير عن التسخّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل
الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي
قلوبهم عن الامتثال للأمر التكليفي ليتأتى الانتقال إلى قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) وقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥].
وقد أشارت الآية
إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في
علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع
الماء النزول إلى الأسفل جريا على قاعدة الجاذبية فإذا أضغط عليه بثقل نفسه من
تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو
صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا
إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماء قد حمل في جريته
أجزاء من معدن
الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبا في الصخور الكلسية حتى
يخرقها فيخرج منها نابعا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار
كالنيل النابع من جبال القمر ، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد
يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما
نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من
الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذا إلى
أرض ترابية فيخرج طافيا من سطح الصخور التي جرى فوقها. وقد يجد الماء في سيره
منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلّب الخروج
بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل.
والخشية في
الحقيقة الخوف الباعث على تقوى الخائف غيره. وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر
التكليفي لأنها الباعث على الامتثال. وجعلت هنا مجازا عن قبول الأمر التكويني إما
مرسلا بالإطلاق والتقييد ، وإما تمثيلا للهيئة عند التكوين بهيئة المكلّف إذ ليست
للحجارة خشية إذ لا عقل لها. وقد قيل إن إسناد (يهبط) للحجر مجاز عقلي والمراد
هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها
لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها .
وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن
كل صنعكم.
وقد قرأه الجمهور
بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف (يعملون)
بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غيّر أسلوبه إلى
الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥]
عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد
به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضا.
[٧٥] (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
__________________
يُحَرِّفُونَهُ
مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))
هذا اعتراض
استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها : (وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ) [البقرة : ٨٣]
فجميع الجمل من قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ) إلى قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا) داخلة في هذا الاستطراد.
والفاء لتفريع
الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي على جملة (ثُمَّ قَسَتْ) [البقرة : ٧٤] أو
على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم فكأنّه قيل : فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فاعجبوا من
طمعكم ، وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا
تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة : ٨٧].
والطمع ترقب حصول
شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس ، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل (أن).
فإن قلت ، كيف
ينهى عن الطمع في إيمانهم أو يعجّب به والنبي والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى
الإيمان دائما؟ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته
لتعلق علم الله بعدم وقوعه؟
قلت : إنما نهينا
عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه
لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضا ، ولأن
الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسا نيّرة فتنفعها ، فإن استبعاد إيمانه حكم على غالبهم
وجمهرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلك المسألة لأن
مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما علم الله عدم وقوعه
وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جوابا واضحا وهو أن الله تعالى وإن علم عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه
لم يطلعنا على ما علمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيء بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال
كيف أمر مع علم الله بأنه لا يؤمن ، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في
إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهو أن الدعاء
لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة
__________________
التكليف بما علم
الله عدم وقوعه ، على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعد ذلك حظ.
واللام في قوله : (لَكُمْ) لتضمين (يُؤْمِنُوا) معنى يقرّوا وكأنّ فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول
حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦]
الآية فما أبدع نسج القرآن. ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل (يُؤْمِنُوا) منزّلا منزلة اللازم تعريضا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي
جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم.
وقوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) جملة حالية هي قيد إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد علل
هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما علمناه ، والثانية بالتقييد بما
علّمناه.
وقوله : (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أومن الحاضرين في زمن
نزول الآية.
وسماعهم كلام الله
على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى
أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده. أما سماع كلام الله مباشرة فلم
يقع إلا لموسى عليهالسلام. وأيّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون
عامتهم.
والتحريف أصله
مصدر حرّف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق ، ولمّا
شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه
تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببينات الطريق. قال الأشتر :
بقّيت وفرى
وانحرفت عن العلى
|
|
ولقيت أضيافي
بوجه عبوس
|
ومن فروع هذا
التشبيه قولهم : زاغ ، وحاد ومرق ، وألحد وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى
حَرْفٍ) [الحج : ١١].
فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به ، إما بتبديل وهو قليل وإما
بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف.
وقوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من (فَرِيقٌ) وهو قيد في القيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم
يعلمون أنهم يحرفون ، وأن قوما توارثوا هذه الصفة لا يطمع في
إيمانهم لأن الذين
فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن
يكون خلقهم واحدا وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليهالسلام : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا
فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] وللعرب
والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث ، ولذلك كانوا
يصفون القبيلة بصفات جمهورها ، أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم ، فالمراد لا طمع
لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائهم لأن الخاصة في
كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغا شنيعا فاعلم
أن العامة أفظع وأشنع ، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان
فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع.
[٧٦ ، ٧٧] (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا
آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما
فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ (٧٧))
الأظهر أن الضمير
في (لَقُوا) عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا) [البقرة : ٧٥] وما
بعده ، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا
الإيمان نفاق أو تفاديا من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله : (آمَنَّا) وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالى
: (وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) [البقرة : ٢٣٢]
لأن ضمير (طَلَّقْتُمُ) للمطلقين وضمير تعضلوا للأولياء لأن الجميع راجع إلى جهة
واحدة وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين ، ومنه أن تقول لئن
نزلت ببني فلان ليكرمنك وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم ويكون الضمير في قوله : (بَعْضُهُمْ) عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر ومعلوم أن
القائل من لم ينافق لمن نافق ، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في (يَعْلَمُونَ) و (يُسِرُّونَ) و (يُعْلِنُونَ) بلا كلفة وإلى هذه الطريقة ذهب صاحب «الكشاف» ويرجحها عندي أن فيها الاقتصار على تأويل ما به الحاجة
والتأويل عند وجود دليله بجنبه وهو (آمَنَّا).
وجملة (إِذا لَقُوا) معطوفة على جملة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ) [البقرة : ٧٥] على
أنهم حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في
إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخر إذا لقوا.
وقوله : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ) معطوف على (إِذا لَقُوا) وهم المقصود من الحالية أي
والحال أنهم يحصل
منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم (آمَنَّا) لا يكون سببا للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير (بَعْضُهُمْ) راجع إلى ما رجع إليه (لَقُوا) وهم عموم اليهود. ونكتة التعبير ب (قالُوا آمَنَّا) مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة [البقرة : ١٤].
وقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام
دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحا لأحوال أسلافهم ومثالب
سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما
فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض
الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا
المسلمين ببعض قصص قومهم سترا لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف
يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل
الذي حكاه بشار بقوله :
واسعد بما قال
في الحلم ابن ذي يزن
|
|
يلهو الكرام ولا
ينسون أحسابا
|
فحكى الله ذلك
عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرا من قومهم جواسيس على
النبي والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء
التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم ، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد
: (أَوَلا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به ،
فعن السدي كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم ، وعن أبي العالية قال
بعض المنافقين : إن النبي مذكور في التوراة ، وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص
التوراة.
والمراد (بِما فَتَحَ اللهُ) إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى
القضاء وعليه قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩]
والفتاح القاضي بلغة اليمن ، وإما بمعنى البيان والتعليم ، ومنه الفتح على الإمام
في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق ، ومنه
قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] أي
يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين ، فالمعنى بما علمكم الله من
الدين.
وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد
الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم.
واللام في قوله
تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ) لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازا أو ترشيحا
لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازا فإنه لما كان الاستفهام الموضوع
لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازا لأن طلب العلم يستلزم الإقرار
والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة وكانت المحاجة به عند
الله فرعا عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة
مسئول عنها أي لكان فعلكم هذا معللا بأن يحاجوكم ، وهو غاية في الإنكار إذ كيف
يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا
للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحا متميزا به أيضا.
والأظهر أن قوله :
(عِنْدَ رَبِّكُمْ) ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ) وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام
الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار على حكاية حال عقيدة
اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه
إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد
كتبهم ملأى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف
المظنون وكقولهم في سفر التكوين «وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف
الخير والشر» وقال فيه : «ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فحزن الرب أنه عمل
الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال : أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته»
وجاء في التكوين أيضا «لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو
وقال له : إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك واخرج إلى البرية فتصيد لي
صيدا واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت (رفقة) أمهما ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت : اذهب إلى الغنم وخذ جديين
جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال : يعقوب لأمه إن
عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون وأجلب على
نفسي لعنة فقالت : اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر
عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه
وقال : يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت
__________________
كما كلمتني فجسه
إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه (أي جعله نبيئا) وجاء
عيسو وكلم أباه وعلم الحيلة ثم قال لأبيه : باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ
بركتك» إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم
عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند
ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في
تأويل معنى قوله (عِنْدَ رَبِّكُمْ) مسالك في غاية التكلف قياسا منهم لحال اليهود على حال
عقائد الإسلام ففسروا (عند) بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك
متعقبوهم في إعرابه غاية الإغراب.
وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابا من الله للمسلمين
تذييلا لقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] لأن
المسلمين وفيهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام
من الاستغراب أو النهي.
فإن قلت : لم لم
يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله
عليهم كما ذكر في قوله المتقدم : (وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)؟
قلت : ليس القرآن
بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكي منها ما فيه شناعة
حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاط أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من
التهمة معلوم ، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ
يَعْلَمُ) إلخ. وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) فلأن فيه التسجيل
عليهم في قولهم فيه : (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ).
وقوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) الآية ، الاستفهام فيه على غير حقيقته فهو إما مجاز في
التقرير أي ليسوا يعلمون ذلك والمراد التقرير بلازمه وهو أنه إن كان الله يعلمه
فقد علمه رسوله وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي أو مجاز في التوبيخ
والمعنى هو هو ، أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجبا
لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا
كان ذلك دليلا على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجبا لتهمة قومهم الذين تحققوا
صدقهم في اليهودية ، وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون
علموا.
وموقع الاستفهام
مع حرف العطف في قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وقوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) سيأتي على نظائره وخلاف علماء العربية فيه عند قوله تعالى
: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) [البقرة : ٨٧].
[٧٨] (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ
الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))
معطوف على قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ) [البقرة : ٧٥] عطف
الحال على الحال و (مِنْهُمْ) خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ) [البقرة : ٨]
والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى
إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه
وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار
عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضا في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة
الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم
وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون. وعلى هذا فجملة (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ) معطوفة على جملة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ) إلخ باعتبار كونها معادلا لها من جهة ما تضمنته من كونها
حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر. وأما قوله : (وَإِذا لَقُوا) [البقرة : ٧٦]
وقوله : (وَإِذا خَلا) [البقرة : ٧٦]
فتلك معطوفات على جملة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ) عطف الحال على الحال أيضا لكن باعتبار ما تضمنته الجملة
الأولى من قوله : (يَسْمَعُونَ) الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها
على بعض هل يجعل الأخير معطوفا على ما قبله من المعطوفات أو معطوفا على المعمول
الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة.
والأمي من لا يعرف
القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي
، وقيل : منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي إنه بقي على الحالة التي كان عليها مدة
حضانة أمه إياه فلم يكتسب علما جديدا ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في
النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع
الأم : أمهات فردّوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا
نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاما قد يقع فيها تغيير لأصلها.
وقد اشتهر اليهود
عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا : (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ) أي ليس جميعهم أهل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم
لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران : ٧٥]
وقال ابن صيّاد للنبي صلىاللهعليهوسلم : «أشهد أنك رسول» وذلك لما تقتضيه الأميين من قلة المعرفة
ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبي صلىاللهعليهوسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أمّيّا قبل النبوءة وقد
قال أبو الوليد الباجي : إن الله علّم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة
الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استنادا لحديث البخاري في صلح
الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته
في كتاب «المدارك» لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه.
والكتاب إما بمعنى
التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده : (إِلَّا أَمانِيَ) فعلى الوجه الأول يكون قوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أثرا من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علما مختلطا
حاصلا مما يسمعونه ولا يتقنونه ، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفا كاشفا لمعنى
الأميين كقول أوس بن حجر :
الألمعي الذي
يظن بك الظ
|
|
ن كأن قد رأى
وقد سمعا
|
والأمانيّ
بالتشديد جمع أمنيّة على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند
الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتح ومفاتيح ، والأمنية كأثفيّة وأضحية أفعولة
كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة ، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك
والأكاذيب والأغاليط ، مشتقة من منى كرمى بمعنى قدّر الأمر ولذلك قيل تمنى بمعنى
تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر ، ومنّاه أي جعله مانيا أي مقدّرا كناية عن
الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليوم إلى تقدير حصوله غدا ،
وهكذا كما قال كعب بن زهير :
فلا يغرّنك ما
منّت وما وعدت
|
|
إن الأماني
والأحلام تضليل
|
ولأن الكاذب ما
كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقا لخبره فمن أجل ذلك حدثت
العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة ، فالأماني هي التقادير
النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقا وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها
العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها ، وهذا دأب الأمم الضالة عن
شرعها أن تعتقد ما لها من العوائد والرسوم والمواسم شرعا ، أو هي التقادير التي
وضعها الأحبار
موضع الوحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلا وهذا أظهر الوجوه.
وقيل : الأماني
هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين ، وقد قيل الأماني القراءة أي لا
يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظوها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم
الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء
عثمان رضياللهعنه :
تمنّى كتاب الله
أوّل ليله
|
|
وآخره لاقى حمام
المقادر
|
أي قرأ القرآن في
أول الليل الذي قتل في آخره.
وعندي أن الأماني
هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب
وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماء فلما لم
ينالوا العلم ادعوه باطلا فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه
يتمنى لو كان عالما ، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحدا من هاته
المعاني ليس من علم الكتاب.
[٧٩] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))
الفاء للترتيب
والتسبب فيكون ما بعدها مترتبا على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله :
(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥]
الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة ، أو
رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم ، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه
إعادة تفصيل.
ومعنى : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) أنهم يكتبون شيئا لم يأتهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه
كما دل عليه قوله : (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا
مِنْ عِنْدِ اللهِ) المشعر بأن ذلك قولهم : بأفواههم ليس مطابقا لما في نفس
الأمر.
و (ثم) للترتيب
الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو
المقصود. وليس هذا القول متراخيا عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان.
والويل لفظ دال
على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر ، وقال ابن جني
: هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صرّف لوجوب اعتلال فائه وعينه بأن
يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلا ، والويلة : البلية. وهي مؤنث الويل قال تعالى :
(يَقُولُونَ يا
وَيْلَتَنا) [الكهف : ٤٩] وقال
امرئ القيس :
فقالت لك الويلات
إنّك مرجلي
ويستعمل الويل
بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى : (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ) [الأنبياء : ١٤]
كما يقال يا حسرتا.
فأما موقعه من
الإعراب فإنه إذا لم يضف أعرب إعراب الأسماء المبتدإ بها وأخبر عنه بلام الجر كما
في هذه الآية وقوله : (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١]
قال الجوهري : وينصب فيقال : ويلا لزيد وجعل سيبويه ذلك قبيحا وأوجب إذا ابتدئ به
أن يكون مرفوعا ، وأما إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالبا كقوله تعالى : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ
آمَنَ) [القصص : ٨٠]
وقوله : (وَيْلَكَ آمِنْ) [الأحقاف : ١٧]
فيكون منصوبا وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلىاللهعليهوسلم لأبي بصير : «ويل أمّه مسعر حرب».
ولما أشبه في
إعرابه المصادر الآتية بدلا من أفعالها نصبا ورفعا مثل : حمدا لله وصبر جميل كما
تقدم عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] قال
أكثر أئمة العربية : إنه مصدر أميت فعله ، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبه في حالة
الإضافة نصبا على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل ويله يا ويله بدليل
ظهور حرف النداء معه في كلامهم. وربما جعلوه كالمندوب فقالوا : ويلاه وقد أعربه
الزجاج كذلك في سورة طه. ومنهم من زعم أنه إذا نصب فعلى تقدير فعل ، قال الزجاج في
قوله تعالى : (وَيْلَكُمْ لا
تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) [طه : ٦١] في طه
يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلا. وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وي
بمعنى الحزن ومن مجرور باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وي صيروهما حرفا
واحدا فاختاروا فتح اللام كما قالوا يال ضبّة ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة.
وهو يستعمل دعاء وتعجبا وزجرا مثل قولهم : لا أب لك ، وثكلتك أمك. ومعنى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ) دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر ، قال سيبويه : لا
ينبغي أن يقال (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ) دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كلموا بكلامهم وجاء
القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء
ممن وجب هذا القول
لهم. وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي ويح وويس وويب وويه وويك.
وذكر (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد مثل نظرته بعيني ومثل : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧]
وقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]
والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون.
وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) هو كقوله : (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١]
والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق
أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتبا تافهة من القصص
والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم
الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفا سطحية وجمعوا
موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه
وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى
أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم.
وقوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل
ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة
وعلى المقصد ، وليس في الآية ثلاث ويلات كما قد توهم ذلك.
وكأن هذه الآية
تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن
بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليهالسلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر
التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل
فلما غزاهم بختنصر سنة ٥٨٨ قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم
اليهود فباعهم عبيدا في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة
ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود.
ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها
لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى
القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت
العهد
ليكون هناك شاهدا
عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد
موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام
بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس
وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في
زمن طيطس سنة ٤٠ للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث
صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم. ولهذا اتفق المحققون
من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة
والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا
أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم. وقد قال : (لنجرك) أحد اللاهوتيين من
علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيما بمصر في عهد الملك يوشيا ملك
اليهود وقال غيره : إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير
من علم صموئيل أو عزير (عزرا). ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله
لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة. وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود
في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد
ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة
في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب
من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي
وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب ا ه. فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة
عندهم منذ زمان.
[٨٠ ـ ٨٢] (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ
يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى
مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))
قيل : الواو لعطف
الجملة على جملة : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ) [البقرة : ٧٥]
فتكون حالا مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه
ويقولون : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ). والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله (يَكْتُبُونَ) [البقرة : ٧٩] إلخ
أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار. ووجه المناسبة أن قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) دل على
اعتقاد مقرر في
نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك
الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة
العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا
يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك ، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن
عقيدة من ضلالاتهم. ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع
من جرأتهم على هذا الإجرام.
وقوله : (وَقالُوا) أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول
حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله (قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] ولأجل
أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد
في نحو قولهم : قال مالك ، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب :
علام تقول الرمح
يثقل عاتقي
والمس حقيقته
اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى : (وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا)(بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) [الأنعام : ٤٩].
وعبر عن نفيهم
بحرف (لن) الدال على تأييد النفي تأكيدا لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد ، ولدلالة (لن)
على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية.
والوصف بمعدودة
مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه ، وقد
شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو
لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا
العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا.
وتأنيث (معدودة)
وهو صفة (أياما) مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر
في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع
بالجماعات ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى : (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤].
__________________
وقوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ
عَهْداً) جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في
قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ
فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠]
والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده (بَلى) فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين
وليس إنكاري لوجود المعادل وهو (أَمْ تَقُولُونَ) لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.
والمراد بالعهد
الوعد المؤكد فهو استعارة ، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام ، ووعد
الذي لا يخلف الوعد كالعهد ، ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير
دال على انتفاء ذلك.
وذكر الاتخاذ دون
أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و«عند» لزيادة التأكيد يقولون
اتخذ يدا عند فلان.
وقوله : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو
علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم
ذلك عند قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠].
ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسببا عما
قبلها ولا مترتبا عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط
المقدر لأن (لن) للاستقبال.
و (أم) في قوله : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما
صرح به ابن الحاجب في «الإيضاح» وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم ، فما قاله صاحب «المفتاح»
من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه
يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير.
وقوله : (بَلى) إبطال لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها
فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة.
وقوله : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) سند لما تضمنته (بلى) من إبطال قولهم ، أي ما أنتم إلا ممن
كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا
محالة على حد قول لبيد :
تمنّى ابنتاي أن
يعيش أبوهما
|
|
وهل أنا إلا من
ربيعة أو مضر
|
أي فلا أخلد كما
لم يخلد بنو ربيعة ومضر ، فمن في قوله : (مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً) شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ
العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب (بلى) بهذا العموم لأنه لو
لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذكر العموم بعدها كلاما متناثرا
ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله : (بَلى).
والمراد بالسيئة
هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ).
وقوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة
بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء ، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط
بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك قال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢]
وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجرّئ على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر
عمل صالح كما دل عليه قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧].
فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار
إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك
سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة.
والقصر المستفاد
من التعريف في قوله : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قصر إضافي لقلب اعتقادهم.
وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن.
والمراد بالخلود
هنا حقيقته.
[٨٣] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ
وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))
أعيد ذكر أحوال
بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه ، فأعيد الأسلوب
القديم وهو العطف
بإعادة لفظ (إذ) في أول القصص. وأظهر هنا لفظ (بَنِي إِسْرائِيلَ) وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب
المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين : أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني
إسرائيل وتوقيفهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في
قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠]
الآية. ثانيهما : أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف
وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن
سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه
من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزان (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] أو
على وزان (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) [البقرة : ٥١].
وقوله : (مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على
امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه ، أو المراد بلفظ (بني إسرائيل)
المتقدمون والمتأخرون ، والمراد بالخطاب في (تَوَلَّيْتُمْ) خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما
، وهو أولى من جعل ما صدق (بَنِي إِسْرائِيلَ) هو ما صدق ضمير (تَوَلَّيْتُمْ) وأن الكلام التفات.
وقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر
لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء
الحاصل حتى إنه يخبر عنه. وجملة (لا تَعْبُدُونَ) مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون
مشاركا لها في معنى البيانية سواء قدّرت أن أو لم تقدّرها أو قدّرت قولا محذوفا.
وقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه
تقديم المتعلق على متعلقه وهما (بِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) وأصله وإحسانا بالوالدين ، والمصدر بدل من فعله والتقدير
وأحسنوا بالوالدين إحسانا. ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على
مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أن والفعل فهو في
قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى
المصدر لا العكس ، والعجب من ابن جني كيف تابعهم في «شرحه للحماسة» على هذا عند قول الحماسي :
وبعض الحلم عند
الجهل للذلة إذعان
وعلى طريقتهم تعلق
قوله : (بِالْوالِدَيْنِ) بفعل محذوف تقديره وأحسنوا ، وقوله : (إِحْساناً) مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه
تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك. ونجزم بأن
المجرور مقدم على المصدر ، على أن التوسع في المجرورات أمر شائع وأصل مفروغ منه.
واليتامى جمع يتيم
كالندامى للنديم وهو قليل في جمع فعيل.
وجعل الإحسان
لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به وذلك أن أصل القول
أن يكون عن اعتقاد ، فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا وذلك أصل حسن
المعاملة مع الخلق قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وقد علمنا الله
تعالى ذلك بقوله : (وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر : ١٠] على
أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر
ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري :
والخل كالماء
يبدي لي ضمائره
|
|
مع الصفاء
ويخيفها مع الكدر
|
على أن الله أمر
بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي
القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة ، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي
على حد قول أبي الطيب :
فليسعد النطق إن
لم تسعد الحال
وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) أطلقت الزكاة فيه على الصدقة مطلقا أو على الصدقة الواجبة
على الأموال : وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيف
تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليهالسلام.
وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً
مِنْكُمْ) خطاب للحاضرين وليس بالتفات كما علمت آنفا. والمعنى أخذنا
ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم
شرعا اتبعتموه. والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه ، وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم
عليه ، أي توليتم عن جميع ما أخذ عليكم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام
وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول
وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة.
ويجوز أن يكون
المراد بالخطاب في (تَوَلَّيْتُمْ) المخاطبين زمن نزول الآية ، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور
الإسرائيليين فيكون ضمير الخطاب تغليبا ، نكتته إظهار براءة الذين أخذ عليهم العهد
أولا من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن
للوالدين وذي القربى إلخ وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية كما سيأتي في
تفسير الآية التي بعدها ، ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول
وإنما هو من صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام
وتكرر ذلك فيهم مرارا كما هو مسطور في سفري الملوك الأول والثاني من التوراة.
و (ثم) للترتيبين
الترتبي والخارجي.
وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على
العهد.
وقوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الإعراض وصف ثابت لهم
وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في «الكشاف» وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل
مشتقا من فعل منزل منزلة اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقا من فعل حذف
متعلقه تعويلا على القرينة أي وأنتم معرضون عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي
توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركا للتدبر فيها والعمل بها.
[٨٤ ـ ٨٦] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا
تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ
أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ
وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ (٨٦))
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ
هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ
دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).
تفنن الخطاب هنا
فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة ، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب
على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف
منزلة السلف كما تقدم ، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية
المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه.
والقول في (لا تَسْفِكُونَ) كالقول في (لا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللهَ) [البقرة : ٨٣]
والسفك الصب. وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل (تَسْفِكُونَ) اقتضت أن مفعول (تَسْفِكُونَ) هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم
نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من
شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه ، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج
غيره من داره على حد قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي
فليسلم بعضكم على بعض.
فوجه إضافة الدماء
إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر
فيها مجموع الناس ، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة
أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته
الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد
وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة ، ومثله قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨]
ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي :
قومي هم قتلوا
أميم أخي
|
|
فإذا رميت
يصيبني سهمي
|
فلئن عفوت
لأعفون جللا
|
|
ولئن سطوت
لأوهنن عظمي
|
يريد أن سهمه إذا
أصاب قومه فقد أضرّ بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماه اللف في القول ، أي
الإجمال المراد به التوزيع ، وذهب صاحب «الكشاف» إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس
لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسبا أو دينا
فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في
قوله : (دِماءَكُمْ) و (أَنْفُسَكُمْ).
__________________
وقيل : إن المعنى
لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم
بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم ، وهذا مبني على المجاز التبعي في (تَسْفِكُونَ) و (تُخْرِجُونَ) بعلاقة التسبب.
وأشارت هذه الآية
إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة
على موسى عليهالسلام من قوله : «لا تقتل ، لا تشته بيت قريبك» فإن النهي عن
شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب. وعليه فإضافة (ميثاق)
إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا
بجميع ما تحتوي عليه.
وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) مرتب ترتيبا رتبيا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم
به وشهدتم عليه فالضميران في (أَقْرَرْتُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) راجعان لما رجع له ضمير (مِيثاقَكُمْ) وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم. وجملة (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم
التديّن به.
والعطف بثم في
قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ
هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون ،
والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله : (هؤُلاءِ) لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم : ها أنا ذا
وها أنتم أولاء ، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال
عربي يختص غالبا بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين
المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهو المعروف عند
المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق ، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه
بالجمود والاشتقاق غالبا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل.
ثم إن العرب قد
تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيء عين شيء يبحث عنه في نفسه نحو «أنت أبا
جهل» قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنا بالجراح صريعا ومصادفة المخاطب ذلك
في اعتقاد المتكلم نحو «قال أنا يوسف وهذا أخي» فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة
الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال : «أنا ذلك» إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن
السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن ندبة :
تأمّل خفافا إنني
أنا ذلكا
وقول طريف العنبري
:
فتوسموني إنني أنا
ذلكم
وأوسع منه عندهم
نحو قول أبي النجم :
أنا أبو النجم
وشعري شعري
ثم إذا أرادوا
العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا «بها التنبيه» فقالوا : ها أنا ذا يقوله المتكلم
لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر :
إن الفتى من يقول
ها أنا ذا
فإذا كان السبب
الذي صحح الإخبار معلوما اقتصر المتكلم على ذلك وإلا أتبع مثل ذلك التركيب بجملة
تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب :
الأولى (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ) ، الثانية : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ
تُحِبُّونَهُمْ) [آل عمران : ١١٩].
ومنه «ها أنا ذا لديكما» قاله أمية بن أبي الصلت. الثالثة (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ
عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [النساء : ١٠٩]
ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرا وكنت لا
تترقب حضوره ها أنت ذا ، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبا كما
رأيت في الأمثلة.
والأظهر أن يكون
الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبرا والجملة بعدهما حالا ، وقيل : هي مستأنفة لبيان
منشأ التعجب ، وقيل : الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه ،
وقيل : اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف.
وعلى الخلاف في
موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذا ونحوه بمفرد فقيل يكون منصوبا على
الحال وقيل : مرفوعا على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله
:
__________________
أبا حكم ها أنت
نجم مجالد
ولأجل ذلك جاء ابن
مالك في خطبة «التسهيل» بقوله : وها أنا ساع فيما انتدبت إليه ، وجاء ابن هشام في
خطبة «المغني» بقوله : وها أنا مبيح بما أسررته.
واختلف النحاة
أيضا في أن وقوع الضمير بعد (ها) التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في «التسهيل» هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هو لازم صرح به في «حواشي التسهيل» بنقل الدماميني في «الحواشي المصرية» في الخطبة وفي الهاء المفردة. وقال الرضى إن دخول (ها)
التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما
يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه
القسم نحو قول الشاعر من «شواهد
الرضي» :
تعلّمن ها لعمر
الله ذا قسما
|
|
فاقدر بذرعك
فانظر أين تنسلك
|
وشذ بغير ذلك نحو
قول النابغة :
ها إنّ تا عذرة
إن لا تكن نفعت
|
|
فإن صاحبها قد
تاه في البلد
|
وقوله : (تَقْتُلُونَ) حال أو خبر. وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن
ذلك من شأنكم وكذلك قوله : (وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقاً مِنْكُمْ).
وجعل في «الكشاف» المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادا به أسلاف
الحاضرين وجعل قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ
هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ) مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب
مرادا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل
الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها ، وقد علمت أنه غير
لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف.
وقد أشارت هذه
الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقينقاع. وأراد من
ذلك بخاصة ما
__________________
حدث بينهم في حروب
بعاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تقاتل الأوس والخزرج اعتزل اليهود
الفريقين زمنا طويلا والأوس مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا
يسعون لمحالفة قريظة والنّضير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا
لهم : إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرج على اليهود رهائن أربعين غلاما
من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم. ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع
قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول
لهم : إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم
واستشاروا كعب بن أسيد القرظي فقال لهم : «يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان
فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأته حتى يولد له مثل أحدهم» فلما أجابت قريظة
والنضير عمرا بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمرو على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة
والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين
فرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي
المغلوبين من ديارهم وتأسرهم ، ثم لمّا ارتفعت الحرب جمعوا مالا وفدوا به أسرى
اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العرب اليهود
بذلك وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا : قد حرم علينا قتالهم
ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ).
(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ
إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦).
الواو في قوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ) فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو
وإن لم يتقدم في ذكر ما أخذ عليهم العهد ما يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج
الناس
من ديارهم كان في
جملة المنهيات. ولك أن تجعل الواو للحال من قوله : (وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقاً) أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم. وكيفما قدرت
فقوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) جملة حالية من قوله : (يَأْتُوكُمْ) إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير
بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع
المفاداة مع كون الإخراج محرما وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم ، فجملة (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْراجُهُمْ) حالية من ضمير (تُفادُوهُمْ). وصدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم
أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله : (وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقاً مِنْكُمْ) وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ).
وفي قوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْراجُهُمْ) تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القربة فيما هو من آثار
المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء
المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟.
وعندي أن في الآية
دلالة على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيا بواجب ولا
بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير
ناشئة عن معصية.
والأسارى ـ بضم
الهمزة ـ جمع أسير حملا له على كسلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا : كسلى هذا
مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أسرى كقتلى. وقيل : هو جمع نادر وليس مبنيا على حمل ،
كما قالوا قدامى جمع قديم. وقيل : هو جمع جمع فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى
على أسارى وهو أظهر. والأسير فعيل بمعنى مفعول من أسره إذا أوثقه وهو فعل مشتق من
الاسم الجامد فإن الإسار هو السّير من الجلد الذي يوثق به المسجون والموثوق وكانوا
يوثقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجلد ، قال النابغة :
لم يبق غير طريد
غير منفلت
|
|
أو موثق في
حباله القدّ مسلوب
|
وقرأ الجمهور (أسارى)
، وقرأه حمزة (أسرى).
وقرأ نافع
والكسائي وعاصم ويعقوب (تُفادُوهُمْ) بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم
فداء حريصا ، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل
عافاه الله وقول
امرئ القيس :
فعادى عداء بين
ثور ونعجة
|
|
دراكا فلم ينضح
بماء فيغسل
|
وقرأ ابن كثير
وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف (تُفادُوهُمْ) بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء.
والمحرم الممنوع
ومادة حرم في كلام العرب للمنع ، والحرام الممنوع منعا شديدا أو الممنوع منعا من
قبل الدين ، ولذلك قالوا : الأشهر الحرم وشهر المحرم.
وقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في
قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم ، وسمي الاتباع والإعراض إيمانا وكفرا على
طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها
إلى الكفر به ، وإنما وقع (فَتُؤْمِنُونَ) في حيز الإنكار تنبيها على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو
مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من
الدين مروق من الدين.
والفاء عاطفة على (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) ، وما عطف عليه ، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرا دل عليه
الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند قوله (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ) [البقرة : ٨٧].
والفاء في قوله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ) فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو
عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ. وقال عبد الحكيم : إن الجملة معترضة
والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظا ، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام
المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكما جديدا وأما
الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم.
والخزي بالكسر ذل
في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت
عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء ، والمراد
بالخزي ما لحق باليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل
قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم.
وقرأ الجمهور (يردون)
و (يعملون) بياء الغيبة ، وقرأ عاصم في رواية عنه (تردون) بتاء
الخطاب نظرا إلى
معنى (من) وإلى قوله (منكم) ، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب : (يعملون) بياء الغيبة
وقرأه الجمهور بتاء الخطاب.
وقد دلت هذه الآية
على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة.
وقد وقع اسم
الإشارة وهو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا) موقع نظيره في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].
والقول في (اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
بِالْآخِرَةِ) كالقول في : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦].
والقول في (فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) قريب من القول في (وَلا يُقْبَلُ مِنْها
شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).
وموقع الفاء في
قوله : (فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ) هو الترتب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب
العظيم ولا يجد نصيرا يدفع عنه أو يخفف.
[٨٧] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما
لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً
تَقْتُلُونَ (٨٧))
انتقال من الإنحاء
على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليهالسلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة
وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم
بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداود مؤيدين
لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل
واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة ، ومن رغبة ورهبة ، ثم جاء
عيسى مؤيدا وناسخا ومبشرا فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء
الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءهم وإلا
فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض
للنصح. وإن قوما هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا
حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت
معاندتهم للإسلام هي أولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لما تبين لهم
من بطلان فكان هذا مرتبطا بقوله :
(وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٤١]
ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨].
فقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تمهيد للمعطوف وهو قوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ
بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) الذي هو المبني عليه التعجب في قوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) فقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ) تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة فلا
مقتضى للإعلام به استقلالا هنا ولكنه ذكر ليبنى عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم
أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضا بعده بالرسل فهو
كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا.
و (قفى) مضاعف قفا
تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال
المشتقة من الجوامد مثل جبهه ، فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته
مأمورا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول
واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس
التابع بالمتبوع فقالوا : قفّى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا : قفى زيدا عمرا.
فمعنى (قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أرسلنا رسلا وقد حذف مفعول (قَفَّيْنا) للعلم به وهو ضمير موسى. وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ذهابه أي موته ، وفيه إيماء إلى التسجيل على
اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع.
والجمع في الرسل
للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به التكثير قاله صاحب «الكشاف» أي لأن شأن لفظ
الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرا
دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد
لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي .
وسمي أنبياء بني
إسرائيل الذين من بعد موسى رسلا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارا بأن الله لما
أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفا شرعيا
__________________
وبذلك كانوا
زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلا ولا تفريعا. وقال
الباقلاني فيما نقله عنه الفخر : لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو
مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى
: (وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٢٣]
وقال : (وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٣٩]
وما كان عيسى عليهالسلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئا قليلا وخص
عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على
اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضا خصه بقوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم
بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة.
وعيسى اسم معرب من
يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبا مكانيا ليجري على وزن
خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة
وشينا والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند
النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة
وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة فلله فصاحة العربية. ومعنى يشوع
بالعبرانية السيد أو المبارك.
ومريم هي أم عيسى
وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير
العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن
مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت
المقدس فلذلك يقولون امرأة مريم أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم
بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤبة :
قلت لزير لم تزره
مريمه
فليس هو مشتقا من
رام يريم كما قد يتوهم. وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء
__________________
وإن كان نادرا .
وعيسى عليهالسلام هو ابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل ، وأمه مريم
ابنة عمران من سبط يهوذا.
ولد عيسى في مدة
سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيرودس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في
سنة ٤٣٠ عشرين وستمائة قبل الهجرية المحمدية ، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم
اليهودية ، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولا إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن
بلغ سنه ثلاثا وثلاثين سنة.
وأما مريم أمه فهي
مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون
ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها
، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة
مريم وكان كاهنا من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران.
والبينات صفة
لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات ، (وَأَيَّدْناهُ) قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد
فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل ، ولك أن تجعله
مشتقا من الأيد وهو القوة فوزنه فعل.
والتأييد التقوية
والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا
الْأَيْدِ) [ص : ١٧] والأيد
مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقا من اليد أي جعله ذا يد أي
قوة ، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في
الأنفال [٦٢] قوله ؛ (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ).
والروح جوهر
نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني
__________________
الذي به حياة
الإنس ، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس ، قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]
ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ،
ويطلق على جبريل كما في قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ،
١٩٤] وهو المراد في قوله تعالى : (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤] وقوله
: (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) [النبأ : ٣٨].
والقدس بضمتين
وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة. والمقدس المطهر وتقدم في
قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠].
وروح القدس روح
مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فتكوّن
منه عيسى وإنما كان ذلك تأييدا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي
هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة ، ويجوز أن يكون المراد به جبريل والتأييد به
ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا
الإطلاق أظهر هنا ، وفي الحديث الصحيح «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت
حتى تستوفي أجلها». وعلى كلا الوجهين فإضافة (روح) إلى (القدس) إما من إضافة ما
حقه أن يكون موصوفا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما
منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة
ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال
التفتازانيّ في «شرح الكشاف» وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى
يكون في الوصف بالمصدر.
وقوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) هو المقصود من الكلام السابق ، وما قبله من قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا) تمهيد له كما تقدم ، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من
طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف
السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع.
وتقديم همزة
الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب
وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطا على العاطف والمعطوف وتسلط
الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك
طريقتان : إحداهما طريقة الجمهور قالوا : همزة الاستفهام مقدمة من
تأخير وقد كان
موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته ، وإنما
خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في
الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالا فيه ، وأما غيرها فكلمات
أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل (أين) ، ومنها حرف تحقيق وهو (هل) فإنه
بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل
فعلت أهل فعلت فالتقدير فأ كلما جاءكم رسول فقلب ، وقيل : أفكلما جاءكم رسول فعلى
هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة
على محذوف بحسب ما يسمح به المقام.
الطريقة
الثانية طريقة صاحب «الكشاف»
وفي «مغني اللبيب» أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري
مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة
الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف
والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ. وعلى هذه الطريقة تكون الجملة
استفهامية مستأنفة محذوفا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف ، ولا أثر لهذا إلا في
اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن
العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما.
والظاهر من كلام
صاحب «الكشاف» في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران [١٦٥] : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف
العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤]. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) [البقرة : ٨٥]
فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا.
وعندي جواز طريقة
ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم
كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو
والفاء وكقوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) في سورة يونس [٥١] وقوله النابغة :
أثم تعذّران إلى
منها
|
|
فإني قد سمعت
وقد رأيت
|
وقد استقريت هذا
الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة.
ومعنى الفاء هنا
تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي
قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب «الكشاف»
كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله : (أَفَكُلَّما) ، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرا معطوفا على
المقدر المؤهل للتوبيخ ، وهو وجه بعيد ، ومرمى الوجهين إلى أن جملة (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها.
وانتصب (كلما)
بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله : (اسْتَكْبَرْتُمْ) ، وقدم الظرف ليكون مواليا للاستفهام المراد منه التعجيب
ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض
عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة ، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم
الظرف للاهتمام لأنه محل العجب ، وقد دل العموم الذي في (كلما) على شمول التكذيب
أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد
المظروفة فيها.
و (تَهْوى) مضارع هوي بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه
أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على
العقائد الضالة.
والاستكبار
الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد
أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعا لهم ، فالسين والتاء في (اسْتَكْبَرْتُمْ) للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة : ٣٤]
وقوله : (فَفَرِيقاً
كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ
بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب
وقتلوا فريقا وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين : (قالُوا يا شُعَيْبُ
ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا
رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود : ٩].
وتقديم المفعول
هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى
: (فَرِيقاً هَدى
وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠].
وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولا لفعل
في مقام التقسيم نحو (يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : ١٥٩].
والتفصيل راجع إلى
ما في قوله : (رَسُولٌ) من الإجمال لأن (كلما جاءكم رسول)
أفاد عموم الرسول
وشمل هذا موسى عليهالسلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة
المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارا في
أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين
بلغوا البحر الأحمر وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى ، وحين أمرهم بدخول
أريحا ، وغير ذلك ، وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض
الرسل مثل أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه وأرمياء.
وجاء في (تَقْتُلُونَ) بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة
قتلهم رسلهم كقوله : (اللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) [الروم : ٤٨] مع
ما في صيغة (تَقْتُلُونَ) من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم.
[٨٨] (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ
لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))
إما عطف على قوله
: (اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة : ٨٧] أو
على (كَذَّبْتُمْ) [البقرة : ٨٧]
فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على (كَذَّبْتُمْ) من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع
: تكذيب وتقتيل وإعراض. وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم
عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص
والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب
البعد فهو كناية .
وقد حسّن الالتفات
أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما
تحدث عنهم بما هو من شئونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم ، ولما أريد الحديث عنهم
في إعراضهم عن النبي صلىاللهعليهوسلم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير
الغيبة. على أنه يحتمل أن قولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على
الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى :
__________________
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ
مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٢]. والقلوب
مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل.
والغلف بضم فسكون
جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غلّفه إذا جعل له غلافا وهو الوعاء الحافظ
للشيء والساتر له من وصول ما يكره له.
وهذا كلام كانوا
يقولونه للنبي صلىاللهعليهوسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم
وهو كقول المشركين : (قُلُوبُنا فِي
أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥]. وفي
الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عما لا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف
فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك
قال المفسرون : إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان حقا لوعته ، وهذان
المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول
مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه.
وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون (غلف) جمع
غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا
يتسرب إليها الباطل.
وقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك
بدينهم من غير التفات لحجة النبي صلىاللهعليهوسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة
والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول ، فاللعنة حصلت لهم عقابا على
التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت
بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه
بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية.
وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) تفريع على (لَعَنَهُمُ) و (فَقَلِيلاً) صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيمانا قليلا وما
زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون (قليلا) صفة
للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحينا قليلا يؤمنون. وقيل يجوز أن يكون باقيا على
حقيقته مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي صلىاللهعليهوسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوءة موسى أو إلى إيمان
أفراد
منهم في بعض
الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في
أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة. ويجوز أن يكون (قليلا) هنا مستعملا في معنى
العدم فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي :
قليل التشكي
للمهم يصيبه
|
|
كثير الهوى شتى
النوى والمسالك
|
أراد أنه لا يتشكى
، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين «كثيرة العقارب قليلة
الأقارب» أراد عديمة الأقارب ويقولون : فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن
القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان
الانعدام لازما عرفيا للقلة ادعائيا فتكون (ما) مصدرية والوجهان أشار إليهما في «الكشاف»
باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قوله تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) في سورة النمل [٦٢] فقال : «والمعنى نفي التذكير والقلة
تستعمل في معنى النفي» وكأنّ وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر
المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له ، كيف وخطابهم
بقوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك.
[٨٩] (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩))
معطوف على قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨]
لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية
إعراضا مجردا عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب
الذي جاء مصدقا لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين. فقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمرا مشاهدا معلوما حتى
يوصف به. وقوله : (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ) وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر
والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [البقرة : ٤١].
والاستفتاح ظاهره
طلب الفتح أي النصر قال تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩]
وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم
بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة. وجوز أن يكون (يَسْتَفْتِحُونَ) بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ
أي علمه
الآية التي ينساها
فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد
كانوا يخبرون المشركين بأن رسولا سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين. وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه
كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب
والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول. ووقع التعبير بما الموصولة دون
من لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء
لما هو أعم من العاقل.
والمراد بما عرفوا
القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن
لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول
وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسدا قال تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩]
ويصير معنى الآية : «وما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم» وعرفوا أنه الذي
كانوا يستفتحون به على المشركين.
وجملة : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي
أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى
الخذلان والبهتان.
وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) بالفاء عطف على جملة (كانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ). و (لما) الثانية تتنازع مع (لما) الأولى الجواب وهو قوله
: (كَفَرُوا بِهِ) فكان موقع جملة (وكانوا) إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقا
موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه «مصدقا لما معهم»
وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع
المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة (لَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) إلخ وجملة (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا) إلخ واحد وإعادة (لما) في الجملة الثانية دون أن يقول :
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد
الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية
فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع ، وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحدا طريقة
عربية فصحى ، قال تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨]
وقال : (أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ
إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥]
فأعاد (أنكم) قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة
المبرد وطريقة الفراء المذكورات في حاشية الخفاجي وعبد الحكيم وصغناه من محاسن تلك
الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر.
وقوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير
وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوبا بالأدعية وهذا كقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤]
وقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : ٣٠]
وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ
السَّوْءِ) في سورة براءة [٩٨].
والفاء للسببية
والمراد التسبب الذكري بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم
بما بعدها كقول قيس بن الخطيم :
وكنت امرأ لا
أسمع الدهر سبة
|
|
أسب بها إلا
كشفت غطاءها
|
فإني في الحرب
الضروس موكل
|
|
بإقدام نفس ما
أريد بقاءها
|
فعطف قوله : (فإني)
على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام.
واللام في (الكافرين)
للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم
بل هم أول أفراده سبقا للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم.
وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداء بعض أفراده لأن
دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بشامة بن
حزن النهشلي :
إنّا محيوك يا سلمى فحيينا
|
|
وإن سقيت كرام
الناس فاسقينا
|
أراد الكناية عن
كرمهم بأنهم يسقون حين يسقى كرام الناس.
[٩٠] (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠))
استئناف لذمهم
وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلىاللهعليهوسلم وأعرضوا
عن النظر فيما
اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى ، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون
أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن ، فهذا إيقاظ لهم نحو
معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين.
و (بِئْسَمَا) مركّب من (بئس) و (ما) الزائدة. وفي بئس وضدّها نعم خلاف
في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان. وفي (ما) المتصلة بهما مذاهب أحدها
أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن (ما)
الموصولة فقوله : (بِئْسَمَا) يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي. والآخر أنها موصولة
قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها (ما) وحدها كانت (ما)
معرفة تامة نحو قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) [البقرة : ٢٧١] أي
نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت (ما) معرفة ناقصة أي
موصولة نحو قوله هنا : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ) و (ما) فاعل (بئس).
وقد يذكر بعد بئس
ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح ، ويسمى في علم العربية المخصوص وقد
لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ، ولك أن
تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من (ما) وعليه
فقوله تعالى : (اشْتَرَوْا) إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و (أَنْ يَكْفُرُوا) هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم
الرجل فلان.
والاشتراء الابتياع
وقد تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦]
فقوله تعالى هنا : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ) مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه
تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا
عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا ، فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة
محمد صلىاللهعليهوسلم لتمسكهم بالتوراة وأن قوله فيما تقدم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) [البقرة : ٨٩]
بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف ، فمعنى اشتراء
أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم
وقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما
أَنْزَلَ اللهُ) هو أيضا بحسب الواقع ، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي
أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت. وإن كانوا معتقدين
صدق الرسول وكان
إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا) على أحد الاحتمالين المتقدمين ، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء
الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف
برسالة الصادق بالآية على نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [البقرة : ٨٦].
وقيل : إن (اشْتَرَوُا) بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في
مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ) وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز
بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة
وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى ، على أنك قد علمت إمكان الجمع بين
مقتضى قوله : (ما عَرَفُوا) وقوله هنا : (اشْتَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ) فأنت في غنى عن التكلف. وعلى كلا التفسيرين يكون (اشْتَرَوْا) مع ما تفرع عنه من قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى
غَضَبٍ) تمثيلا لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران ،
وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية.
وجيء بصيغة
المضارع في قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) ولم يؤت به على ما يناسب المبيّن وهو ما (اشْتَرَوْا) المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر
بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى ، ثم
لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم
كفروا فيما مضى أيضا إذ كان المبيّن بأن يكفروا معبّرا عنه بالماضي بقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا).
وقوله : (بَغْياً) مفعول لأجله علة لقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) لأنه الأقرب إليه ، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء
هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم ، والبغي هنا مصدر بغى
يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو
المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه
لا يناله من زوالها نفع ، ولا من بقائها ضر ، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ المعنى
في قوله :
وأظلم خلق الله
من بات حاسدا
|
|
لمن بات في
نعمائه يتقلّب
|
وقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) متعلق بقوله : (بَغْياً) بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل (بَغْياً) بمعنى حسدا.
فاليهود كفروا
حسدا على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى
غَضَبٍ) أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران
المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله
خاسرا. شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ).
والظاهر أن المراد
بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥] أي
نور عظيم وقوله : (ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ) [النور : ٤٠] وقول
أبي الطيب :
أرق على أرق ومثلى
يأرق
وهذا من استعمال
التكرير باختلاف صيغه في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة :
أنت آل شماس بن
لأي وإنما
|
|
أتاهم بها
الأحلام والحسب العد
|
أي الكثير العدد
أي العظيم وقال المعري :
بني الحسب الوضاح
والمفخر الجم
أي العظيم قال
القرطبي قال بعضهم : المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم
للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهماالسلام.
وقوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) هو كقوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩] أي
ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين ، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم.
[٩١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما
وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))
معطوف على قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) [البقرة : ٨٩]
المعطوف على قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا
غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨]
وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفا على (وَقالُوا قُلُوبُنا
غُلْفٌ) على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من
عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا :
قلوبنا غلف وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسدا أن نزل على
رجل من
غيرهم ، وإذا
وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل
كونه منزلا من عند الله أعرضوا وقالوا : نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله
على رسولنا موسى ، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل
المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيدا لقوله الآتي : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦]
الآيات.
وقولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) علموا أنهم إن امتنعوا امتناعا مجردا عدت عليهم شناعة
الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم
أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه. وهذا وجه التعبير
في الحكاية عنهم بلفظ المضارع (نُؤْمِنُ) أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا
يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون
بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضيا الكفر به فههنا مستفاد من
مجموع جملتي (آمِنُوا بِما
أَنْزَلَ اللهُ) وجوابها بقولهم (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا).
وقوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) جيء بالمضارع محاكاة لقولهم (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان
بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره
على أن للمضارع تأثيرا في معنى التعجب والغرابة. وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد
عليهم وزاد ذلك بقوله (وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ).
والوراء في الأصل
اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدرا. جعل الوراء
مجازا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضا مجازا عن المجاوز لأن
الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صاروا وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه
قال النابغة :
وليس وراء الله
للمرء مطلب
واستعمل أيضا
بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى :
(وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] وقول
لبيد :
أليس ورائي أن
تراخت منيتي
|
|
لزوم العصا تحني
عليها الأصابع
|
فمن ثم زعم بعضهم
أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان
أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في «الموازنة» كونه ضدا.
فالمراد بما وراءه
في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة
السياق لتقدم قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ولتعقيبه بقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً).
وجملة (وَهُوَ الْحَقُ) حالية واللام في (الحق) للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه
بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان :
وإن سنام المجد
من آل هشام
|
|
بنو بنت مخزوم
ووالدك العبد
|
لم يرد حسان
انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام
هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في «دلائل
الإعجاز». وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله (مُصَدِّقاً) أي هو المنحصر في كونه حقا مع كونه مصدقا فإن غيره من
الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقا لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل
غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصرا على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم
التصديق. ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل
وزيادة في توبيخهم.
وقوله : (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لقوله : (وَهُوَ الْحَقُ) وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال
مؤسسة لأن قوله (مُصَدِّقاً لِما
مَعَهُمْ) مشعر بوصف زائد على مضمون (وَهُوَ الْحَقُ) إذ قد يكون الكتاب حقا ولا يصدق كتابا آخر ولا يكذبه وفي
مجيء الحال من الحال زيادة في استحضار شئونهم وهيئاتهم.
وقوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ
اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به
الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم وأن قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) كذب إذ لو كان حقا لما قتل أسلافهم الأنبياء الذين هم من
قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا
يوافق أهواءهم. وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم
يرونهم على حق
فيما فعلوا من قتل الأنبياء.
والإتيان بالمضارع
في قوله : (تَقْتُلُونَ) مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة
ذلك قوله : (مِنْ قَبْلُ) فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مرادا به الاستقبال في قوله
:
شهد الحطيئة يوم
يلقى ربه
|
|
أن الوليد أحق
بالعذر
|
بقرينة قوله يوم
يلقى ربه.
والمراد بأنبياء
الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١].
[٩٢ ، ٩٣] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))
عطف على قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١]
والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما
أنزل إليهم خاصة ، وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ
مِنْ قَبْلُ) كما بينا ، ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى
الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته
بالعصيان قولا وفعلا فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون
إلا بما أنزل عليهم فلما ذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل؟ ولما ذا قابلوا؟
دعوة موسى بما قابلوا. فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما
مضى ، فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد ، وقد بينت أن القرآن ليس مثل تأليف
في علم يحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في
أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ
عند سبب نزول تلك الآيات.
وفي «الكشاف» أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على
ما في الآية السابقة معنى في قوله : (قالُوا سَمِعْنا
وَعَصَيْنا) الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية.
وقال البيضاوي إن
تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلىاللهعليهوسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا
إلزام لهم بعمل أسلافهم بناء على أن الفرع يتبع أصله والولد نسخة من أبيه ، وهو
احتجاج خطابي.
والقول في هاته
الآيات كالقول في سابقتها [البقرة : ٦٣] وكذلك القول في (البينات). إلا أن قوله : (وَاسْمَعُوا) مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي
أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به
وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله : (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) لا يشمل الامتثال فيكون قوله : (وَاسْمَعُوا) دالا على معنى جديد وليس تأكيدا ، ولك أن تجعله تأكيدا
لمدلول (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) بأن يكون الأخذ بقوة شاملا لنية الامتثال وتكون نكتة
التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين
عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [البقرة : ٦٣].
واعلم أن من دلائل
النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات التي نطق بها موسى في بني
إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطبات موسى لملإ بني
إسرائيل بقوله : اسمع يا إسرائيل ، فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على
الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد.
وقوله : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جوابا لقوله : (وَاسْمَعُوا) وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله : (اسْمَعُوا) تضمن معنيين معنى صريحا ومعنى كنائيا فأجابوا بامتثال
الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه (وَاسْمَعُوا) وفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم
بالعزم على المعصية وقيل : إن قوله : (سَمِعْنا) جواب لقوله : (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ) أي سمعنا هذا الكلام ، وقوله : (وَعَصَيْنا) جواب لقوله : (وَاسْمَعُوا) لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن
الإتيان في جوابهم بكلمة (سَمِعْنا) مشير إلى كونه جوابا لقوله : (اسْمَعُوا) لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله
: ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) جوابا لقوله : (وَاسْمَعُوا) يغني عن تطلب جواب
لقوله : (خُذُوا) ففيه إيجاز ، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر
عن أبي مسلم أن قولهم : (عَصَيْنا) كان بلسان الحال يعني فيكون (قالُوا) مستعملا في حقيقته ومجازه أي قالوا : سمعنا وعصوا فكأن
لسانهم يقول عصينا. ويحتمل أن قولهم (عَصَيْنا) وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في
حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم : ادخلوا القرية (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) [المائدة : ٢٤]
وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول. وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٦٤].
والإشراب هو جعل
الشيء شاربا ، واستعير لجعل الشيء متصلا بشيء وداخلا فيه ووجه الشبه هو شدة
الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية
الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب
لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء :
تغلغل حب عثمة
في فؤادي
|
|
فباديه مع
الخافي يسير
|
تغلغل حيث لم
يبلغ شراب
|
|
ولا حزن ولم
يبلغ سرور
|
ومنه قولهم أشرب
الثوب الصبغ ، قال الراغب : من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك
اسم الشراب ا ه. وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب
قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه
العجل. وإنما جعل حبهم العجل إشرابا لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ
الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أولع بكذا وشغف.
والعجل مفعول (أُشْرِبُوا) على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها
إلى الذوات مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي
أكل لحمها. وإنما شغفوا به استحسانا واعتقادا أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما
رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب. وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم
ألوهيته ولذلك قال تعالى :
__________________
(بِكُفْرِهِمْ) فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلا في حب معتقده.
وإسناد الإشراب
إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله : (فِي قُلُوبِهِمُ) مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في
تمييز النسبة. وقريب منه قوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠]
وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصرا في البطن بخلاف الإشراب فلا
اختصاص له بالقلوب.
وقوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) هو خلاصة لإبطال قولهم : (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] بعد
أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله : (قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١]
وقوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ
مُوسى بِالْبَيِّناتِ) وقوله : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ولذلك فصله عن قوله : (قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله ، والمعنى
قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا
الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين
قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلا ، وخاصة إذا
كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم فالجملة الشرطية كلها مقول (قُلْ) والأمر هنا مستعمل مجازا في التسبب.
وإنما جعل هذا مما
أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون
في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من
بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من
كتابهم ، هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة
فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود
منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم
في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض
ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو : (قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١]
ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله
التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس
والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من
الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك
كونهم (مُؤْمِنِينَ) وهو المقصود فقوله : (بِئْسَما
يَأْمُرُكُمْ) جواب الشرط مقدم عليه أو (قُلْ) دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن
شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض
المحال وهو المراد هنا ؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون
وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم (مُؤْمِنِينَ) إلا منفيا ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع
إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم.
وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك
إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو (بِئْسَما
يَأْمُرُكُمْ) وإلى هذا أشار صاحب «الكشاف» كما قاله التفتازانيّ وهو لا
ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك
ومن التشكيك يظهر التبكيت.
ولا معنى لجعل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل
الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمانُكُمْ) إلخ يتطلبه مزيد
تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة. على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام
المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذا المذام فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم
يأمرهم؟
و (بِئْسَما) هنا نظير بئسما المتقدم في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩٠] سوى
أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل.
[٩٤ ، ٩٥] (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥))
إبطال لدعوى قارة
في نفوسهم اقتضاها قولهم : (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١]
الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلىاللهعليهوسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم
بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل
عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم
جدودهم من الفظائع
مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل ، عقب
ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين
بالتوراة وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة ، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا
طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في
ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك
أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به
المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم.
وقد قيل : إن هذه
الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم
نحن (أَبْناءُ اللهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨]
وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] ،
وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي ، وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة
في رد معتقد لهم باطل أيضا لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناء على
أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ، ونحن لا نساعد على ذلك فعلى
هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية
في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم
للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية. وأيّا ما كان فهذه الآية
تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣].
وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم
والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من
أسلوب إلى أسلوب كان محسنا للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل.
والكلام في (لَكُمُ) مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و (لَكُمُ) خبر (كانَتْ) قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح
هشاما بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة :
لكم مسجدا الله
المزوران والحصى
|
|
لكم قبصه من بين
أثرى وأقترا
|
و (عِنْدَ اللهِ) ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم
عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة. وانتصب (خالِصَةً) على الحال من اسم (كان) ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء
الحال من اسم (كان). ومعنى
الخالصة السالمة من
مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم.
وقوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو
مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال ، تقول هذا لك دون زيد
أي لا حق لزيد فيه فقوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله : (خالِصَةً) لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك
في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم. والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه
للاستغراق لأنهم قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١].
وقوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط ـ وهو أن الدار الآخرة
لهم ـ وجزائه ـ وهو تمني الموت ـ أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح
حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى
الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم كما قال عمير بن الحمام رضياللهعنه :
جريا إلى الله
بغير زاد
|
|
إلا التقى وعمل
المعاد
|
وارتجز جعفر بن
أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله :
يا حبذا الجنة
واقترابها
|
|
طيبة وبارد
شرابها
|
وقال عبد الله بن
رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين :
لكني أسأل
الرحمن مغفرة
|
|
وضربة ذات فرغ
تقذف الزبدا
|
أو طعنة من يدي
حران مجهزة
|
|
بحربة تنفذ
الأحشاء والكبدا
|
حتى يقولوا إذا
مروا على جدثي
|
|
أرشدك الله من
غاز وقد رشدا
|
وجملة (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) إلى آخره معترضة بين جملة (قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) وبين جملة (قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧]
والكلام موجه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين إعلاما لهم ليزدادوا يقينا وليحصل منه تحد
لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن
الدار الآخرة ليست لهم.
وقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة
كشأن عقائد الجهلة
المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١]
وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ثم
يعترفون بأنهم اجترءوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة
وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياما معدودة ولذلك يخافون الموت فرارا
من العذاب.
والمراد بما قدمت
أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام ، فقيل عبر
باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله : (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥]
وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل. وقيل : أريد
بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله
الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو
تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدي عظيم.
وإسناد التقديم
للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي.
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم
يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير :
فمهما يكتم الله
يعلم
وقد عدت هذه الآية
في دلائل نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب
هذه الآية. ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا
به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان
التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله : (إِلَّا أَمانِيَ) [البقرة : ٧٨] أن
الأمنية ما يقدر في القلب. وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ
لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية. وهي أيضا من أعظم الدلائل
عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن
بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على
إبطال حكم هذه الآية ، ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز
العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله. على أن
الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد
يهود عصر النزول
إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة. وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) في موضع الحال من ضمير الرفع في (يَتَمَنَّوْهُ) أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا
زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت ، والمراد بالظالمين اليهود فهو من وضع
الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم.
[٩٦] (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ
بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))
معطوف على قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥]
للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت
ما دام المرء بعافية بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة
حتى المشركين الذين لا يرجون بعثا ولا نشورا ولا نعيما فنعيمهم عندهم هو نعيم
الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من
سوء الحالة ورذالة العيش. فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة
المعطوف عليها أخرت عنها ، ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة
الحد عطف عليه ولم يفصل لأنه لو كان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن
المؤكد.
وقوله : (لَتَجِدَنَّهُمْ) من الوجدان القلبي المتعدي إلى مفعولين. والمراد من الناس
في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة
غريزية في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسبابا قال أبو الطيب :
أرى كلنا يهوى
الحياة بسعيه
|
|
حريصا عليها
مستهاما بها صبّا
|
فحب الجبان
النفس أوده التّقى
|
|
وحبّ الشجاع
النفس أورده الحربا
|
ونكر (الحياة)
قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه «الحياة وكفى».
وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عطف على (الناس) لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من
التفضيلية لا محالة فإذا عطف عليه جاز إظهارها ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من
غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا فإن اليهود من الناس وليسوا
من الذين أشركوا. وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله : (وَمِنَ
الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) ـ على قوله ـ عطفا
بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وإليه مال في «الكشاف».
وقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة
المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف
سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم
الحياة إلى تمنيها ، وقد قال الحريري :
والموت خير
للفتى
|
|
من عيشه عيش
البهيمة
|
فجيء بهاته الجملة
لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان
لمضمون الجملة قبلها فصلت عنها.
والود المحبة و (لو)
للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى ويجوز
أن تكون (لو) مصدرية والتقدير يود أحدهم تعمير ألف سنة.
وقوله : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) بيان ليود أي يود ودّا بيانه لو يعمر ألف سنة ، وأصل (لو)
أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة
لجملة (يَوَدُّ) على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر
ألف سنة لما سئم أو لما كره فلما كان مضمون شرط (لو) ومضمون مفعول (يَوَدُّ) واحدا استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول
ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة
المفعول فاكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولا بالمصدر المأخوذ منه ولذلك
صار حرف (لو) بمنزلة أن المصدرية نظرا لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولا بمصدر
فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالا غلب على (لو) الواقعة بعد فعل (يَوَدُّ) وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة
والرغبة.
هذا تحقيق استعمال
لو في مثل هذا الجاري على قول المحققين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا
الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن (لو) تستعمل حرفا مصدريا وأثبتوا لها من مواقع ذلك
موقعها بعد (يَوَدُّ) ونحوه وهو قول الفراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري
وابن مالك فيقولون : لا حذف ويجعلون (لو) حرفا لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية
والفعل مسبوكا بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول
أضعف تحقيقا وأسهل
تقديرا.
وقوله : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) يجوز أن يكون الضمير لأحدهم ويجوز أن يكون ضميرا مبهما
يفسره المصدر بعده على حد قول زهير :
وما الحرب إلا
ما علمتم وذقتم
|
|
وما هو عنها
بالحديث المرجّم
|
ولم يجعل ضمير شأن
لدخول النفي عليه كالذي في البيت لكنه قريب من ضمير الشأن لأن المقصود منه
الاهتمام بالخبر ولأن ما بعده في صورة الجملة ، وقيل : هو عائد على التعمير
المستفاد من (لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ). وقوله : (أَنْ يُعَمَّرَ) بدل منه وهو بعيد. والمزحزح المبعد.
وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) البصير هنا بمعنى العليم كما في قول علقمة الفحل :
فإن تسألوني
بالنساء فإنني
|
|
بصير بأدواء
النساء طبيب
|
وهو خبر مستعمل في
التهديد والتوبيخ لأن القدير إذا علم بما يجترحه الذي يعصيه وأعلمه بأنه علم منه
ذلك علم أن العقاب نازل به لا محال ومنه قول زهير :
فلا تكتمنّ الله
ما في نفوسكم
|
|
ليخفى فمهما
يكتم الله يعلم
|
يؤخّر فيوضع في
كتاب فيدّخر
|
|
ليوم الحساب أو
يعجّل فينقم
|
فجعل قوله : يعلم
بمعنى العلم الراجع للتهديد بدليل إبداله منه قوله يؤخر ، البيت وقريب من هذا قول
النابغة في النعمان :
علمتك ترعاني
بعين بصيرة
|
|
وتبعث حرّاسا
عليّ وناظرا
|
[٩٧ ، ٩٨] (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ
لِلْكافِرِينَ (٩٨))
موقع هاته الجملة
موقع الجمل قبلها من قوله : (قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١].
وقوله : (قُلْ بِئْسَما
يَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ٩٣].
وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الْآخِرَةُ) [البقرة : ٩٤].
فإن الجميع للرد على ما تضمنه قولهم (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١]
لأنهم أظهروا به عذرا عن الإعراض عن الدعوة المحمدية وهو عذر كاذب ستروا به السبب
في
الواقع وهو الحسد
على نزول القرآن على رجل من غيرهم فجاءت هاته المجادلات المصدرة بقل لإبطال
معذرتهم وفضح مقصدهم. فأبطل أولا ما تضمنه قولهم : (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) من أنهم إنما يقبلون ما أنزل على رسلهم بأنهم قد قابلوا
رسلهم أيضا بالتكذيب والأذى والمعصية وذلك بقوله : (قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ) وقوله : (قُلْ بِئْسَما) إلخ. وأبطل ثانيا ما تضمنه من أنهم شديد والتمسك بما أنزل
عليهم حريصون على العمل به متباعدون عن البعد عنه لقصد النجاة في الآخرة بقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الْآخِرَةُ). وأبطل ثالثا أن يكون ذلك العذر هو الصارف لهم عن الإيمان
مع إثبات أن الصارف لهم هو الحسد بقوله هنا : (قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) إلخ. ويؤيد هذا الارتباط وقوع الضمير في قوله نزّله عائدا
على (ما أَنْزَلَ اللهُ) في الآية المجابة بهاته الإبطالات ، ولذلك فصلت هذه كما
فصلت أخواتها ولأنها لا علاقة لها بالجمل القريبة منها فتعطف عليها فجاءت لذلك
مستأنفة.
والعدو المبغض وهو
مشتق من عدا عليه يعدو بمعنى وثب ، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه
فعول.
وجبريل اسم عبراني
للملك المرسل من الله تعالى بالوحي لرسله مركب من كلمتين. وفيه لغات أشهرها جبريل
كقطمير وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ الجمهور. وجبريل بفتح الجيم وكسر الراء وقع في
قراءة ابن كثير وهذا وزن فعليل لا يوجد له مثال في كلام العرب قاله الفراء والنحاس
، وجبرئيل بفتح الجيم أيضا وفتح الراء وبين الراء والياء همزة مكسورة وهي لغة تميم
وقيس وبعض أهل نجد وقرأ بها حمزة والكسائي. وجبرئل بفتح الجيم والراء بينها وبين
اللام همزة مكسورة قرأ بها أبو بكر عن عاصم وفيه لغات أخرى قرئ بها في الشواذ.
وهو اسم مركب من
كلمتين كلمة جبر وكلمة إيل. فأما كلمة جبر فمعناه عند الجمهور نقلا عن العبرانية
أنها بمعنى عبد والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القوة. وأما كلمة إيل فهي عند
الجمهور اسم من أسماء الله تعالى. وذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور فزعم
أن جبر اسم الله تعالى وإيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين
بها. وقد قفا أبو العلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها
علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح وهي المعروفة «برسالة الغفران» فقال : «قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل وهو في كل
الخيرات سبيل أنّ في مسكني
حماطة» إلخ. أي قد
علم الله الذي نسب جبريل إلى اسمه أي اسمه جبر يريد بذلك القسم وهذا إغراب منه
وتنبيه على تباصره باللغة.
وعدواة اليهود
لجبريل نشأت من وقت نزوله بالقرآن على محمد صلىاللهعليهوسلم. وقيل : لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب
والوعيد ، نقله القرطبي عن حديث خرجه الترمذي.
وقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) شرط عام مراد به خاص وهم اليهود. قصد الإتيان بالشمول
ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر.
وقد عرف اليهود في
المدينة بأنهم أعداء جبريل ففي البخاري عن أنس بن مالك قال : «سمع عبد الله بن
سلام بقدوم رسول الله وهو في أرض يخترف فأتى النبي فقال : إني سائلك عن ثلاث لا
يعلمهن إلا نبيء «فما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد
إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال رسول الله أخبرني بهن جبريل آنفا قال : ذاك عدو اليهود
من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال» الحديث وفي سفر
دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا
رآها وأنذره بخراب أورشليم. وذكر المفسرون أسبابا أخرى لبغضهم جبريل. ومن عجيب
تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله ويبغضونه وهذا من أحط دركات
الانحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة
لأنه ينبئ عن تظاهر آرائهم على الخطأ والأوهام.
وقوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللهِ). الضمير المنصوب ب (نزله) عائد للقرآن إما لأنه تقدم في
قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) [البقرة : ٩١]
وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد (حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة : ٨٣].
وهذه الجملة قائمة مقام جواب الشرط لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة
أذنه الله بالنزول بالقرآن فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى فالتقدير من كان
عدوا لجبريل فلا يعاده وليعاد الله تعالى. وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله
تعالى (بِإِذْنِ اللهِ) وأظهر ارتباطا بقوله بعد (مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ) كما ستعرفونه ويجوز أن يكون التقدير فإنه قد نزله عليك
سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب (قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ) [آل عمران : ١١٩]
، كقول الربيع بن زياد :
من كان مسرورا
بمقتل مالك
|
|
فليأت ساحتنا
بوجه نهار
|
يجد النساء
حواسرا يندبنه
|
|
بالليل قبل تبلج
الإسفار
|
أي فلا يسر بمقتله
فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح فإن قاتله من أولياء من كان مسرورا بمقتله.
ويجوز أن يكون المراد فإنه نزل به من عند الله مصدقا لكتابهم وفيه هدى وبشرى ،
وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به فالتقدير
فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف. والإتيان بحرف التوكيد في قوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) لأنهم منكرون ذلك.
والقلب هنا بمعنى
النفس وما به الحفظ والفهم ، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ
لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] كما
يطلقونه أيضا على العضو الباطني الصنوبري كما قال :
كأنّ قلوب الطير
رطبا ويابسا
و (مُصَدِّقاً) حال من الضمير المنصوب في (نَزَّلَهُ) أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل أي أنزله
مقارنا لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقا لما بين يديه من الكتب وذلك
التوراة والإنجيل. والمصدق المخبر بصدق أحد. وأدخلت لام التقوية على مفعول (مُصَدِّقاً) للدلالة على تقوية ذلك التصديق أي هو تصديق ثابت محقق لا
يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلا بأنه
هدى ونور كما في سورة المائدة.
وتصديق الرسل
السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من
قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر
الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل.
والمراد بما بين
يديه ما سبقه وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن
السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ولأن اتصال العمل بها بين
أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمرا إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلا.
والهدى وصف للقرآن
بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به. والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب
حصوله فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال
ورضى من الله
تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة.
فقد حصل من
الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله ، وبأنه منزل على قلب
الرسول ، وأنه مصدق لما سبقه من الكتب ، وأنه هاد أبلغ هدى ، وأنه بشرى للمؤمنين ،
الثناء على القرآن بكرم الأصل وكرم المقر وكرم الفئة ومفيض الخير على أتباعه
الأخيار خيرا عاجلا وواعد لهم بعاقبة الخير.
وهذه خصال الرجل
الكريم محتده وبيته وقومه ، السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد
الأعجم :
إنّ المساحة
والمروءة والنّدى
|
|
في قبة ضربت على
ابن الحشرج
|
وقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) إلخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللهِ) أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت
بالأخرة إلى إلزامهم بعداوتهم الله المرسل ، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة
تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل ، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول
، وأعداء الملائكة لذلك ، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت
إليه وإنما يلتفت للمقدمتين بالصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى
لأنها العلة في المعنى عند التأمل. وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها
السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب
بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] فإن
ذلك بعيد.
وقد أثبت لهم
عدواة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمدا لأنهم لما عادوهما عادوا
جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن
ذلك خصيصتهم قال تعالى : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧]
كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آئلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل
فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمدا لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته ، كانت
عداوتهم إياه آئلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحدا كان
حقيقا بأن يعاديهم كلّهم وإلا كان فعله تحكما لا عذر له فيه. وخص جبريل بالذكر هنا
لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليذكر معه ميكائيل ولعلهم عادوهما معا أو لأنهم
زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا : نحن
نحب ميكائيل
فلما أريد إنذارهم
بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه
ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته.
وفي ميكائيل لغات
إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور. الثانية
ميكائيل بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع. الثالثة ميكال بدون
همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز.
وقوله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) جواب الشرط. والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما
يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة :
فإنك كالليل الذي
هو مدركي
البيت.
وقوله تعالى : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حِسابَهُ) [النور : ٣٩] وما
ظنك بمن عاداه الله. ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه
عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة : «أمير
المؤمنين يأمر بكذا» حثّا على الامتثال.
والمراد بالكافرين
جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل ، وليدل على أن
الله عاداهم لكفرهم ، وأن تلك العداوة كفر ، ولتكون الجملة تذييلا لما قبلها.
[٩٩ ـ ١٠١] (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ
بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا
عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ
كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))
عطف على قوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧] عطف
القصة على القصة لذكر كفرهم بالقرآن فهو من أحوالهم. وهاته الجملة جواب لقسم محذوف
فعطفها على (قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا) من عطف الإنشاء على الإنشاء وفيه زيادة إبطال لقولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١].
وفي الانتقال إلى
خطاب النبي صلىاللهعليهوسلم إقبال عليه وتسلية له عما لقي منهم وأن ما أنزل
إليه لا يكذب به
إلا من لا يؤبه بتكذيبه لكون هذا المنزل دلائل واضحة لا تقصر عن إقناعهم بأحقيتها
ولكنهم يظهرون أنفسهم أنهم لم يوقنوا بحقيتها.
واللام موطئة لقسم
محذوف فهنا جملة قسم وجوابه حذف القسم لدلالة اللام عليه.
وقوله : (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) عطف على (لَقَدْ أَنْزَلْنا) فهو جواب للقسم أيضا.
والفاسق هو الخارج
عن شيء من فسقت التمرة كما تقدم في قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] وقد
شاع إطلاقه على الخارج عن طريق الخير لأن ذلك الوصف في التمرة وصف مذموم وقد شاع
في القرآن وصف اليهود به ، والمعنى ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه
ودأبه لأن ذلك يهيئه للكفر بمثل هذه الآيات ، فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد
في الكفر المتمردون فيه. والإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد. والتوصيف وقع
باسم الفاعل المعروف باللام.
وقوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) استفهام مستعمل في التوبيخ معطوف على جملة القسم لا على
خصوص الجواب وقدمت الهمزة محافظة على صدارتها كما هو شأنها مع حروف العطف. والقول
بأن الهمزة للاستفهام عن مقدر محذوف والواو عاطفة ما بعدها على المحذوف علمتم
إبطاله عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ). وتقديم (كلما) تبع لتقديم حرف الاستفهام وقد تقدم توجيهه
عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة : ٨٧].
والنبذ إلقاء
الشيء من اليد وهو هنا استعارة لنقض العهد شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح
شيء كان ممسوكا باليد كما سموا المحافظة على العهد والوفاء به تمسكا قال كعب :
ولا تمسك بالوعد الذي
وعدت
والمراد بالعهد
عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به
أخذا مكررا حتى سميت التوراة بالعهد ، وقد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم. ومن
جملة العهد الذي أخذ عليهم أن يؤموا بالرسول المصدق للتوراة. وأسند النبذ إلى فريق
إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهود كما تؤذن به (كلما) أو احتراسا من شمول
الذم للذين آمنوا منهم. وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم فنبه على أنه
أكثرهم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا من أفانين البلاغة وهو أن يظهر المتكلم أنه يوفي حق
خصمه في الجدال فلا ينسب له المذمة إلا بتدرج وتدبر قبل الإبطال. ولك أن تجعلها
للانتقال من شيء إلى ما هو أقوى منه في ذلك الغرض لأن النبذ قد يكون بمعنى عدم
العمل دون الكفر والأول أظهر.
وقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) إلخ معطوف على قوله : (أَوَكُلَّما) عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشئون. والرسول هو محمد صلىاللهعليهوسلم لقوله : (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ). والنبذ طرح الشيء من اليد فهو يقتضي سبق الأخذ. وكتاب
الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله. فالنبذ على هذا
مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة
النبذ. وقيل : المراد بكتاب الله التوراة وأشار في «الكشاف» إلى ترجيحه بالتقديم
لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن ، والأصل في إطلاق
اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظا ومعنى وقيل المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى
وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام ، أو تجعل النبذ تمثيلا لحال قلة
اكتراث المعرض بالشيء فليس مرادا به معناه.
وقوله : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره
وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر
وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء. فالإضافة كالبيانية وبهذا يجاب عما نقله ابن
عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول : مقتضى هذا أنهم طرحوا
كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك
الوجه وراء للظهر قال ابن عرفة : وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء
كقولهم من وراء وراء.
وقوله : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم
لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل.
[١٠٢] (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ
هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ
وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢))
(وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).
قوله : (وَاتَّبَعُوا) عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) [البقرة : ١٠١]
الآية بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة أخرى وهي نبذهم
للكتاب الحق ، فذلك هو مناسبة عطف هذا الخبر على الذي قبله. فإن كان المراد بكتاب
الله في قوله : (كِتابَ اللهِ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١]
القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقا لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم
متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها وقد اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك
سليمان وهو مخالف للتوراة لأنها تنهى عن السحر والشرك فكما قيل لهم فيما مضى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) [البقرة : ٨٥]
يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى. وإن كان المراد بكتاب الله
التوراة فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول
وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حين (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة.
قال القرطبي : قال
ابن إسحاق لما ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم سليمان في الأنبياء قالت اليهود : إن محمدا يزعم أن سليمان
نبيء وما هو بنبي ولكنه ساحر فنزلت هذه الآية.
و (الشَّياطِينُ) يحتمل أن يكونوا شياطين من الجن وهو الإطلاق المشهور ،
ويحتمل أن يراد به ناس تمردوا وكفروا وأتوا بالفظائع الخفية فأطلق عليهم الشياطين
على وجه التشبيه كما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢]
وقرينة ذلك قوله : (يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ) فإنه ظاهر في أنهم يدرسونه للناس وكذلك قوله بعده : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) إذ هذا الاستدراك في الإخبار يدل على أنهم من الإنس لأن
كفر الشياطين من الجن أمر مقرر لا يحتاج للإخبار عنه.
وعن ابن إسحاق
أيضا أنه لما مات سليمان عليهالسلام عمدت الشياطين فكتبوا أصنافا من السحر وقالوا : من أحب أن
يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا لأصناف من السحر وختموه بخاتم يشبه نقش خاتم سليمان
ونسبوه إليه ودفنوه وزعموا أن سليمان دفنه وأنهم
يعلمون مدفنه
ودلوا الناس على ذلك الموضع فأخرجوه فقالت اليهود : ما كان سليمان إلا ساحرا وما
تم له الملك إلا بهذا.
وقيل كان آصف ابن
برخيا كاتب سليمان يكتب الحكمة بأمر سليمان ويدفن كتبه تحت كرسي سليمان لتجدها
الأجيال فلما مات سليمان أغرت الشياطين الناس على إخراج تلك الكتب وزادوا في خلال
سطورها سحرا وكفرا ونسبوا الجميع لسليمان فقالت اليهود : كفر سليمان.
والمراد من الآية
مع سبب نزولها ـ إن نزلت عن سبب ـ أن سليمان عليهالسلام لما مات انقسمت مملكة إسرائيل بعده بقليل إلى مملكتين
إحداهما مملكة يهوذا وملكها رحبعام ابن سليمان جعلوه ملكا بعد أبيه وكانت بنو
إسرائيل قد سئمت ملك سليمان لحمله إياهم على ما يخالف هواهم فجاءت أعيانهم وفي
مقدمتهم يربعام بن نباط مولى سليمان ليكلموا رحبعام قائلين : إن أباك قاس علينا
وأما أنت فخفف عنا من عبودية أبيك لنطيعك فأجابهم اذهبوا ثم ارجعوا إلي بعد ثلاثة
أيام واستشار رحبعام أصحاب أبيه ووزراءه فأشاروا عليه بملاينة الأمة لتطيعه.
واستشار أصحابه من الفتيان فأشاروا عليه أن يقول للأمة إن خنصري أغلظ من متن أبي
فإذا كان أبي قد أدبكم بالسياط فأنا أؤدبكم بالعقارب فلما رجع إليه شيوخ بني
إسرائيل في اليوم الثالث وأجابهم بما أشار به الأحداث خلعت بنو إسرائيل طاعته
وملكوا عليهم يربعام ولم يبق على طاعة رحبعام إلا سبطا يهوذا وبنيامن واعتصم
رحبعام بأورشليم وكل أمته لا تزيد على مائة وثمانين ألف محارب يعني رجالا قادرين
على حمل السلاح وانقسمت المملكة من يومئذ إلى مملكتين مملكة يهوذا وقاعدتها
أورشليم ، ومملكة إسرائيل ومقرها السامرة ، وذلك سنة ٩٧٥ قبل المسيح كما قدمناه
عند الكلام على قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) [البقرة : ٦٢]
الآية ولا يخفى ما تكون عليه حالة أمة في هذا الانتقال فإن خصوم رحبعام لما سلبوا
منه القوة المادية لم يغفلوا عما يعتضد به من القوة الأدبية وهي كونه ابن سليمان
بن داود من
__________________
بيت الملك
والنبوءة والسمعة الحسنة فلم يأل أعداؤه جهدهم من إسقاط هاته القوة الأدبية وذلك
بأن اجتمع مدبرو الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا
بها وطريق أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع
دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية والثاني تشجيع العامة
الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم
له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا
ملكا يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث
انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة. ولا
يخفى ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من
خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضى الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس
فيبقى ضرر ضلاله بعد اجتناء ثماره.
والاتباع في الأصل
هو المشي وراء الغير ويكون مجازا في العمل بقول الغير وبرأيه وفي الاعتقاد باعتقاد
الغير تقول اتبع مذهب مالك واتبع عقيدة الأشعري ، والاتباع هنا مجاز لا محالة
لوقوع مفعوله مما لا يصح اتباعه حقيقة.
والتلاوة قراءة
المكتوب والكتاب وعرض المحفوظ عن ظهر قلب وفعلها يتعدى بنفسه (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ) [الزمر : ٧١]
فتعديته بحرف الاستعلاء يدل على تضمنه معنى تكذب أي تتلو تلاوة كذب على ملك سليمان
كما يقال يقوّل على فلان أي قال عليه ما لم يقله ، وإنما فهم ذلك من حرف (على).
والمراد بالملك
هنا مدة الملك أو سبب الملك بقرينة أن التلاوة لا تتعلق بنفس الملك وحذف المضاف مع
ما يدل على تعيين الوقت شائع في كلام العرب كقولهم وقع هذا في حياة رسول الله أو
في خلافة عمر بن الخطاب وقول حميد بن ثور :
وما هي إلا في
إزار وعلقة
|
|
مغار ابن همام
على حي خثعما
|
يريد أزمان مغار
ابن همام. وكذلك حذف المضاف إذا أريد به الحوادث أو الأسباب كما تقول تكلم فلان
على خلافة عمر أو هذا كتاب في ملك العباسيين وذلك أن
__________________
الاسم إذا اشتهر
بصفة أو قصة صح إطلاقه وإرادة تلك الصفة أو القصة بحيث لو ظهرت لكانت مضافة إلى
الاسم ، قال النابغة :
وليل أقاسيه بطيء
الكواكب
أراد متاعب ليل
لأن الليل قد اشتهر عند أهل الغرام بأنه وقت الشوق والأرق.
والشياطين قيل
أريد بها شياطين الإنس أي المضللون وهو الظاهر. وقيل : أريدت شياطين الجن. وأل
للجنس على الوجهين. وعندي أن المراد بالشياطين أهل الحيل والسحرة كما يقولون فلان من
شياطين العرب وقد عد من أولئك ناشب الأعور أحد رجال يوم الوقيط.
وقوله : (تَتْلُوا) جاء بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية على ما قاله
الجماعة ، أو هو مضارع على بابه على ما اخترناه من أن الشياطين هم أحبارهم فإنهم
لم يزالوا يتلون ذلك فيكون المعنى أنهم اتبعوا اعتقدوا ما تلته الشياطين ولم تزل
تتلوه.
وسليمان هو النبي
سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة ١٠٣٢ اثنتين وثلاثين وألف قبل المسيح
وتوفي في أورشليم سنة ٩٧٥ خمس وسبعين وتسعمائة قبل المسيح وولي ملك إسرائيل سنة
١٠١٤ أربع عشرة وألف قبل المسيح بعد وفاة أبيه داود النبي ملك إسرائيل ، وعظم ملك
بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس وكان نبيئا حكيما شاعرا
وجعل لمملكته أسطولا بحريا عظيما كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق
إفريقيا.
وقوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) جملة معترضة أثار اعتراضها ما أشعر به قوله : (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ) من معنى أنهم كذبوا على سليمان ونسبوه إلى الكفر فهي
معترضة بين جملة (وَاتَّبَعُوا) وبين قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) إن كان (وَما أُنْزِلَ) معطوفا على (ما تَتْلُوا) وبين (اتَّبَعُوا) وبين (وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ) إلخ إن كان (وَما أُنْزِلَ) معطوفا على السحر ، ولك أن تجعله معطوفا على (وَاتَّبَعُوا) إذا كان المراد من الشياطين أحبار اليهود لأن هذا الحكم
حينئذ من جملة أحوال اليهود لأن مآله واتبعوا وكفروا وما كفر سليمان ولكنه قدم نفي
كفر سليمان لأنه الأهم تعجيلا بإثبات نزاهته وعصمته ولأن اعتقاد كفره كان سبب ضلال
للذين اتبعوا ما كتبته الشياطين فلا شك أن حكم الأتباع وحكم المتبوعين واحد فكان
خبرا عن اليهود كذلك.
وقد كان اليهود
يعتقدون كفر سليمان في كتبهم فقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان في زمن
شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبه إلى آلهتهن مثل (عشتروت)
إله الصيدونيين (ومولوك) إله العمونيين (الفينيقيين) وبنى لهاته الآلهة هياكل فغضب
الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى.
وقوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) حال من ضمير (كَفَرُوا) والمقصد منه تشنيع حال كفرهم إذ كان مصحوبا بتعليم السحر
على حد قوله : كفر دون كفر فهي حال مؤسسة.
والسحر الشعوذة
وهي تمويه الحيل بإخفائها تحت حركات وأحوال يظن الرائي أنها هي المؤثرة مع أن
المؤثر خفي قال تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ ، ١٥]
ولذلك أطلق السحر على الخديعة تقول : سحرت الصبي إذا عللته بشيء ، قال لبيد :
فإن تسألينا فيم
نحن فإننا
|
|
عصافير من هذا
الأنام المسحّر
|
ثم أطلق على ما
علم ظاهره وخفي سببه وهو التمويه والتلبيس وتخييل غير الواقع واقعا وترويج المحال
، تقول العرب : عنز مسحورة إذا عظم ضرعها وقل لبنها وأرض مسحورة لا تنبت ، قال أبو
عطاء :
فو الله ما أدري
وإني لصادق
|
|
أداء عراني من
حبابك أم سحر
|
أي شيء لا يعرف
سببه. والعرب تزعم أن الغيلان سحرة الجن لما تتشكل به من الأشكال وتعرضها للإنسان.
والسحر من المعارف
القديمة التي ظهرت في منبع المدنية الأولى أعني ببلاد المشرق فإنه ظهر في بلاد
الكلدان والبابليين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما
يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشئوا قبلهما فقد وجدت آثار
مصرية سحرية في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة (٣٩٥١ ـ ٣٧٠٣)
ق. م.
وللعرب في السحر
خيال واسع وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان ويقلب القلوب ويطوع المسحور
للساحر ولذلك كانوا يقولون إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة.
وقالت قريش : لما رأوا معجزات رسول الله : إنه ساحر ، قال الله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا
وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر : ٢] وقال
الله تعالى :
(وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ ، ١٥].
وفي حديث البخاري عن عمران بن حصين أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله فطلبوا
الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزاداتان من ماء فأتيا بها رسول الله فسقى رسول
الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين فقالت لقومها : فو الله إنه لأسحر
من بين هذه وهذه ، تعني السماء والأرض. وفي الحديث : «إن من البيان لسحرا».
ولم أر ما يدل على
أن العرب كانوا يتعاطون السحر فإن السحر مستمد من خصائص الأمور الطبيعية والتركيب
ولم يكن للعرب ضلاعة في الأمور اليدوية بل كانت ضلاعتهم فكرية محضة ، وكان العرب
يزعمون أن أعلم الناس بالسحر اليهود والصابئة وهم أهل بابل ، ومساق الآية يدل على
شهرة هؤلاء بالسحر عند العرب. وقد اعتقد المسلمون أن اليهود في يثرب سحروهم فلا
يولد لهم فلذلك استبشروا لما ولد عبد الله بن الزبير وهو أول مولود للمهاجرين
بالمدينة كما في «صحيح البخاري» ، ولذلك لم يكثر ذكر السحر بين العرب المسلمين إلا
بعد أن هاجروا إلى المدينة إذ قد كان فيها اليهود وكانوا يوهمون بأنهم يسحرون
الناس.
ويداوى من السحر
العراف ودواء السحر السلوة وهي خرزات معروفة تحك في الماء ويشرب ماؤها.
وورد في التوراة
النهي عن السحر فهو معدود من خصال الشرك وقد وصفت التوراة به أهل الأصنام فقد جاء
في سفر التثنية في الإصحاح ١٨ «إذا دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم أن
تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يزج ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف
عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقي رقية ولا من يسأل جانّا أو تابعة
ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب».
وفي سفر اللاويين
الإصحاح ٢٠ «(٦) والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني وراءهم أجعل وجهي
ضد تلك النفس وأقطعها من شعبها (٢٧) وإذا كان في رجل أو امرأة جانّ أو تابعة فإنه
يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه».
وكانوا يجعلونه
أصلا دينيا لمخاطبة أرواح الموتى وتسخير الشياطين وشفاء الأمراض وقد استفحل أمره
في بلد الكلدان وخلطوه بعلوم النجوم وعلم الطب.
وأرجع المصريون
المعارف السحرية إلى جملة العلوم الرياضية التي أفاضها عليهم «طوط» الذي يزعمون
أنه إدريس وهو هرمس عند اليونان. وقد استخدم الكلدان
والمصريون فيه
أسرارا من العلوم الطبيعية والفلسفية والروحية قصدا لإخراج الأشياء في أبهر
مظاهرها حتى تكون فاتنة أو خادعة وظاهرة ، كخوارق عادات ، إلا أنه شاع عند عامتهم
وبعد ضلالهم عن المقصد العلمي منه فصار عبارة عن التمويه والتضليل وإخراج الباطل
في صورة الحق ، أو القبيح في صورة حسنة أو المضر في صورة النافع.
وقد صار عند
الكلدان والمصريين خاصية في يد الكهنة وهم يومئذ أهل العلم من القوم الذين يجمعون
في ذواتهم الرئاسة الدينية والعلمية فاتخذوا قواعد العلوم الرياضية والفلسفية
والأخلاقية لتسخير العامة إليهم وإخضاعهم بما يظهرونه من المقدرة على علاج الأمراض
والاطلاع على الضمائر بواسطة الفراسة والتأثير بالعين وبالمكائد.
وقد نقلته الأمم
عن هاتين الأمتين وأكثر ما نقلوه عن الكلدانيين فاقتبسه منهم السريان (الأشوريون)
واليهود والعرب وسائر الأمم المتدينة والفرس واليونان والرومان.
وأصول السحر ثلاثة
:
الأول
: زجر النفوس
بمقدمات توهيمية وإرهابية بما يعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفسه ومن
الضعف في نفس المسحور ومن سوابق شاهدها المسحور واعتقدها فإذا توجه إليه الساحر
سخر له وإلى هذا الأصل الإشارة بقوله تعالى في ذكر سحرة فرعون (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [الأعراف : ١١٦].
الثاني
: استخدام مؤثرات
من خصائص الأجسام من الحيوان والمعدن وهذا يرجع إلى خصائص طبيعية كخاصية الزئبق
ومن ذلك العقاقير المؤثرة في العقول صلاحا أو فسادا والمفترة للعزائم والمخدرات
والمرقدات على تفاوت تأثيرها ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في سحرة فرعون : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) [طه : ٦٩].
الثالث
: الشعوذة واستخدام
خفايا الحركة والسرعة والتموج حتى يخيل الجماد متحركا وإليه الإشارة بقوله تعالى :
(يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦].
هذه أصول السحر
بالاستقراء وقد قسمها الفخر في «التفسير» إلى ثمانية أقسام لا تعدو هذه الأصول
الثلاثة وفي بعضها تداخل. ولعلماء الأفرنج تقسيم آخر ليس فيه كبير جدوى.
وهذه الأصول
الثلاثة كلها أعمال مباشرة للمسحور ومتصلة به ولها تأثير عليه بمقدار قابلية نفسه
الضعيفة وهو لا يتفطن لها ، ومجموعها هو الذي أشارت إليه الآية ، وهو الذي
لا خلاف في إثباته
على الجملة دون تفصيل ، وما عداها من الأوهام والمزاعم هو شيء لا أثر له وذلك كل
عمل لا مباشرة له بذات من يراد سحره ويكون غائبا عنه فيدعي أنه يؤثر فيه ، وهذا
مثل رسم أشكال يعبر عنها بالطلاسم ، أو عقد خيوط والنفث عليها برقيات معينة تتضمن
الاستنجاد بالكواكب أو بأسماء الشياطين والجن وآلهة الأقدمين ، وكذا كتابة اسم
المسحور في أشكال ، أو وضع صورته أو بعض ثيابه وعلائقه وتوجيه كلام إليها بزعم أنه
يؤثر ذلك في حقيقة ذات المسحور ، أو يستعملون إشارات خاصة نحو جهته أو نحو بلده
وهو ما يسمونه بالأرصاد وذكر أبو بكر ابن العربي في «القبس» أن قريشا لما أشار
النبي صلىاللهعليهوسلم بأصبعه في التشهد قالوا : هذا محمد يسحر الناس ، أو جمع
أجزاء معينة وضم بعضها إلى بعض مع نية أن ذلك الرسم أو الجمع لتأثير شخص معين بضر
أو خير أو محبة أو بغضة أو مرض أو سلامة ، ولا سيما إذا قرن باسم المسحور وصورته
أو بطالع ميلاده ، فذلك كله من التوهمات وليس على تأثيرها دليل من العقل ولا من
الطبع ولا ما يثبته من الشرع ، وقد انحصرت أدلة إثبات الحقائق في هذه الأدلة ، ومن
العجائب أن الفخر في «التفسير» حاول إثباته بما ليس بمقنع.
وقد تمسك جماعة
لإثبات تأثير هذا النوع من السحر بما روي في «الصحيحين» ـ عن قول عائشة أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلىاللهعليهوسلم ـ ورؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم أن ملكين أخبراه بذلك السحر ، وفي النسائي عن زيد بن أرقم
مثله مختصرا ، وينبغي التثبت في عباراته ثم في تأويله ، ولا شك أن لبيدا حاول أن
يسحر النبي صلىاللهعليهوسلم فقد كان اليهود سحرة في المدينة وأن الله أطلع رسوله على
ما فعله لبيد لتكون معجزة للنبي صلىاللهعليهوسلم ـ في إبطال سحر
لبيد وليعلم اليهود أنه نبيء لا تلحقه أضرارهم وكما لم يؤثر سحر السحرة على موسى
كذلك لم يؤثر سحر لبيد على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإنما عرض للنبي صلىاللهعليهوسلم عارض جسدي شفاه الله منه فصادف أن كان مقارنا لما عمله
لبيد بن الأعصم من محاولة سحره وكانت رؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم إنباء من الله لما بما صنع لبيد ، والعبارة عن صورة تلك
الرؤيا كانت مجملة فإن الرأي رموز ولم يرد في الخبر تعبير ما اشتملت عليه فلا تكون
أصلا لتفصيل القصة.
ثم إن لتأثير هاته
الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطا وأحوالا بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات
المسحور ، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء منقطعا لتجديد المحاولات السحرية
جسورا قوى الإرادة كتوما للسر قليل الاضطراب للحوادث سالم البنية مرتاض الفكر خفي
الكيد والحيلة ، ولذلك كان غالب السحرة رجالا ولكن كان
الحبشة يجعلون
السواحر نساء وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي
الْعُقَدِ) [الفلق : ٤] فجاء
بجمع الإناث وكانت الجاهلية تقول إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات فلذلك تستطيع
التشكل بأشكال مختلفة ، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم
بتعريضهم للمخاوف وأمرهم بارتكاب المشاق تجربة لمقدار عزائمهم وطاعتهم.
وأما ما يلزم في
المسحور فخور العقل ، وضعف العزيمة ، ولطاقة البنية ، وجهالة العقل ، ولذلك كان
أكثر الناس قابلية له النساء والصبيان والعامة ومن يتعجب في كل شيء. ولذلك كان من
أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء
الواهية والثقة بالساحر ، قال تعالى : (وَلَئِنْ قُلْتَ
إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [هود : ٧] فجعلوا
ذلك القول الغريب سحرا.
ثم تحف بالسحر
أعمال ، القصد منها التمويه وهذه الأعمال أنواع :
نوع
: الغرض منه تقوية
اعتقاد الساحر في نجاح عمله لتقوى عزيمته فيشتد تأثيره على النفوس وهذا مثل تلقين
معلمي هذا الفن تلامذتهم عبادة كواكب ومناجاتها لاستخدام أرواحها والاستنجاد بتلك
الأرواح على استخدام الجن والقوى المتعاصية ليعتقد المتعلم أن ذلك سبب نجاح عمله
فيقدم عليه بعزم ، وفي ذلك تأثير نفساني عجيب ولذلك يسمون تلك الأقوال والمناجاة
عزائم ـ جمع عزيمة ـ ويقولون فلان يعزّم إذا كان يسحر ، ثم هو إذا استكمل المعرفة
قد يتفطن لقلة جدوى تلك العزائم وقد يتفطن وعلى كلتا الحالتين فمعلموه لا يتعرضون
له في نهاية التعليم بالتنبيه على فساد ذلك لئلا يدخلوا عليه الشكوك في مقدرته ،
فلذلك بقيت تلك الأوهام يتلقاها الأخلاف عن أسلافهم ، ومن هذا النوع ضروب هي في
الأصل تجارب لمقدار طاعة المتعلم لمعلمه بقيت متلقاة عندهم عن غير بصيرة مثل
ارتكاب الخبائث وإهانة الصالحات والأمور المقدسة إيهاما بأنها تبلّغ إلى مرضاة
الشياطين وتسخيرها ، وذلك في الواقع اختبار لمقدار خضوع المتعلم ، لأن أكبر شيء
على النفس نبذ أعز الأشياء وهو الدين ، ولأن السحرة ليسوا من المليين فهم يبلغون
بمريديهم إلى مبالغهم السافلة ، وقد سمعنا أن كثيرا ممن يتعاطون السحر في المسلمين
يزعمون أنهم لا يتأتى لهم نجاح إلا بعد أن يلطخوا أيديهم بالنجاسات أو نحو من هذا
الضلال.
ونوع
: الغرض منه إخفاء
الأسباب الحقيقية لتمويهاتهم حتى لا يطلع الناس على كنهها ، فيستندون في تعليل
أعمالهم إلى أسباب كاذبة كندائهم بأسماء سموها لا مسميات لها ووضعهم أشكالا على
الورق أو في الجدران يزعمون أن لها خصائص التأثير ، واستنادهم لطوالع كواكب في
أوقات معينة لا سيما القمر ، ومن هذا تظاهرهم للناس بمظهر الزهد والهمة.
ونوع
: يستعان به على
نفوذ السحر وهو التجسس والتطلع على خفايا الأشياء وأسرار الناس بواسطة السعي
بالنميمة وإلقاء العداوات بين الأقارب والأصحاب والأزواج حتى يفشي كل منهم سر
الآخر فيتخذ الساحر تلك الأسرار وسيلة يلقى بها الرعب في قلوب أصحابها بإظهار أنه
يعلم الغيب والضمائر ، ثم هو يأمر أولئك الذين أرهبهم ويستخدمهم بما يشاء فيطيعونه
فيأمر المرأة بمغاضبة زوجها وطلب فراقه ويأمر الزوج بطلاق زوجته وهكذا ، وفي هذا
القسم تظهر مقدرة الساحر الفكرية وبه تكثر أضراره وأخطاره على الناس وجرأته على
ارتكاب المرغبات والمطوّعات باستئصال الأموال بالسرقة يسرقها من لا يتهمه المسروق
، ومنه أنه يفعل ذلك من خاصته وأبنائه وزوجه الذين يستهويهم السحرة ويسخرونهم
للإخلاص لهم ، وينتهي فعل السحرة في هذا إلى حد إزهاق النفوس التي يشعرون بأنها
تفطنت لخديعتهم أو التي تعاصت عن امتثال أوامرهم يغرون بها من هي آمن الناس منه ،
ثم استطلاع ضمائر الناس بتقريرات خفية وأسئلة تدريجية يوهمه بها أنه يسأله عنها
ليعلمه بمستقبله.
ونوع
: يجعل اختبارا
لمقدار مراتب أذهان الناس في قابلية سحره وذلك بوضع أشياء في الأطعمة خيفة الظهور
ليرى هل يتفطن لها من وضعها ، وبإبراز خيالات أو أشباح يوهم بها الناظر أنها جن أو
شياطين أو أرواح ، وما هي إلا أشكال مموهة أو أعوان من أعوانه متنكرة ، لينظر هل
يقتنع رائيها بما أخبره الساحر عنها أم يتطلب كشف حقيقتها أو استقصاء أثرها.
فكان السحر قرين
خباثة نفس ، وفساد دين ، وشرّ عمل ، وإرعاب وتهويل على الناس ، من أجل ذلك ما فتئت
الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مروقا عن طاعة الله تعالى لأنه
مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين ، وقد
حذر موسى قومه من السحر وأهله ففي سفر التثنية الإصحاح ١٨ أن مما خاطب به موسى عليهالسلام قومه : «متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم
أن تفعل مثل رجس
أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا
متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعة ولا من يستثير الموتى».
وجعلت التوراة جزاء السحرة القتل ففي سفر اللاويين الإصحاحين ٢٠ ـ ٢٧ «وإذا كان في
رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل». وذكروا عن مالك أنه قال : الأسماء التي
يكتبها السحرة في التمائم أسماء أصنام.
وقد حذر الإسلام
من عمل السحر وذمه في مواضع وليس ذلك بمقتضى إثبات حقيقة وجودية للسحر على الإطلاق
ولكنه تحذير من فساد العقائد وخلع قيود الديانة ومن سخيف الأخلاق.
وقد اختلف علماء
الإسلام في إثبات حقيقة السحر وإنكارها وهو اختلاف في الأحوال فيما أراه فكل فريق
نظر إلى صنف من أصناف ما يدعى بالسحر. وحكى عياض في «إكمال المعلم» أن جمهور أهل السنة ذهبوا إلى إثبات حقيقته. قلت وليس في
كلامهم وصف كيفية السحر الذي أثبتوا حقيقته فإنما أثبتوه على الجملة. وذهب عامة
المعتزلة إلى أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل وأنه ضرب من الخفة
والشعوذة ووافقهم على ذلك بعض أهل السنة كما اقتضته حكاية عياض في «الإكمال» ، قلت
وممن سمّي منهم أبو إسحاق الاسترابادي من الشافعية. والمسألة بحذافرها من مسائل
الفروع الفقهية تدخل في عقاب المرتدين والقاتلين والمتحيلين على الأموال ، ولا
تدخل في أصول الدين. وهو وإن أنكره الملاحدة لا يقتضى أن يكون إنكاره إلحادا. وهذه
الآية غير صريحة. وأما الحديث فقد علمته آنفا.
وشدد الفقهاء
العقوبة في تعاطيه. قال مالك : يقتل الساحر ولا يستتاب إن كان مسلما وإن كان ذميا
لا يقتل بل يؤدب إلا إذا أدخل بسحره أضرارا على مسلم فإنه يقتل لأنه يكون ناقضا
للعهد لأن من جملة العهد أن لا يتعرضوا للمسلمين بالأذى قال الباجي في «المنتقي » رأى مالك أن السحر كفر وشرك ودليل عليه وأنه لما كان
يستتر صاحبه بفعله فهو كالزندقة لأجل إظهار الإسلام وإبطان الكفر ولذلك قال ابن
عبد الحكم وابن المواز وأصبغ هو كالزنديق إن أسر السحر لا يستتاب وإن أظهره استتيب
وهو تفسير لقول
__________________
مالك لا خلاف له
قال الباجي فلا يقتل حتى يثبت أن ما يفعله من السحر هو الذي وصفه الله بأنه كفر
قال أصبغ يكشف ذلك من يعرف حقيقته ويثبت ذلك عند الإمام.
وفي «الكافي» لابن عبد البر إذا عمل السحر لأجل القتل وقتل به قتل وإن
لم يكن كفرا ، وقد أدخل مالك في «الموطأ» السحر في باب الغيلة ، فقال ابن العربي في «القبس» وجه ذلك أن المسحور لا يعلم بعمل السحر حتى يقع فيه ، قلت
لا شك أن السحر الذي جعل جزاؤه القتل هو ما كان كفرا صريحا مع الاستتار به أو حصل
به إهلاك النفوس وذلك أن الساحر كان يعد من يأتيه للسحر بأن فلانا يموت الليلة أو
غدا أو يصيبه جنون ثم يتحيل في إيصال سموم خفية من العقاقير إلى المسحور تلقى له
في الطعام بواسطة أناس من أهل المسحور فيصبح المسحور ميتا أو مختل العقل فهذا هو
مراد مالك بأن جزاءه القتل أي إن قتل ولذلك قال : لا تقبل توبته وبدون هذا التأويل
لا يصح فقه هذه المسألة ، فقول مالك في السحر ليس استنادا لدليل معين في خصوص
السحر ولكنه من باب تحقيق المناط بتطبيق قواعد التعزير والإضرار ، ولبعض فقهاء
المذهب في حكاية هذه المسألة إطلاقات عجيب صدورها من أمثالهم ، على أن السحر أكثر
ما يتطلب لأجل تسخير المحبين محبوبيهم فهو وسيلة في الغالب للزنا أو للانتقام من
المحبوب أو الزوج. سئل مالك عمن يعقد الرجال عن النساء وعن الجارية تطعم رجلا شيئا
فيذهب عقله فقال : لا يقتلان فأما الذي يعقد فيؤدب وأما الجارية فقد أتت أمرا
عظيما قيل أفتقتل فقال : لا قال ابن رشد في «البيان» رأى أن فعلها ليس من السحر ا ه.
وقال أبو حنيفة :
يقتل الرجل الساحر ولا يستتاب وأما المرأة فتحبس حتى تتركه فجعل حكمه حكم المرتد
ووجّه أبو يوسف بأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد. وعن الشيخ أبي منصور أن
القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما
لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا ، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم
قطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال : لا تقبل فقد
خلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم ا ه. وهذا استدلال بشرع من قبلنا.
وقال الشافعي يسأل
الساحر عن سحره فإن ظهر منه ما هو كفر فهو كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وإن ظهر منه
تجويز تغيير الأشكال لأسباب قراءة تلك الأساطير أو تدخين الأدوية وعلم أنه يفعل
محرما فحكمه حكم الجناية فإن اعترف بسحر إنسان وأنّ سحره
يقتل غالبا قتل
قودا (يعني إذا ثبت أنه مات بسببه) وإن قال : إن سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه
عمد ، وإن كان سحره لغير القتل فمات منه فهو قتل خطأ تجب الدية فيه مخففة في ماله.
ويجب أن يستخلص من
اختلافهم ومن متفرق أقوالهم ما يكون فيه بصيرة لإجراء أعمال ما يسمى بالسحر وصاحبه
بالساحر مجرى جنايات أمثاله ومقدار ما أثره من الاعتداء دون مبالغة ولا أوهام ،
وقد يطلق اسم الساحر اليوم على اللاعب بالشعوذة في الأسمار وذلك من أصناف اللهو
فلا ينبغي عد ذلك جناية.
(وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).
يتعين أن (ما)
موصولة وهو معطوف على قوله : (مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي وما تتلوا الشياطين على ما أنزل على الملكين ، والمراد
بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعلم الخضوع لغير الله مع
الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس كما بيناه آنفا فيكون عطفا على (ما تَتْلُوا) الذي هو صادق على السحر فعطف (ما أنزل) عليه لأنه نوع منه
أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلّمونه الناس مع السحر الموضوع منهم ،
فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن
هذين المعلّمين وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم
كقول الشاعر : (وهو من شواهد النحو) :
إلى الملك القرم
وابن الهما
|
|
م وليث الكتيبة
في المزدحم
|
وقيل : أريد من
السحر أخفّ مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر
ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف.
والقراءة
المتواترة (الملكين) بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحسن وابن أبزى
بكسر اللام.
وكل هاته الوجوه
تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فصّلت
كيفية تعليم هذين المعلمين علم السحر.
فالوجه أن قوله : (وَما أُنْزِلَ) عطف على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة
هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل ، أي ينسبون بعض
السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون
السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع
أنه كفر أو فسق.
وقيل : (ما) نافية
معطوفة على (ما كفر سليمان) أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه ،
ولا أنزل السحر على الملكين ببابل. وتعريف الملكين تعريف الجنس أو هو تعريف العهد
بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر ، وقد قيل إن (هاروت
وماروت) بدل من (الشياطين) وإن المراد بالشياطين شيطانان وضعا السحر للناس هما
هاروت وماروت ، على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله : (قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤]
وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله : (عَلَى الْمَلَكَيْنِ) كلاما حشوا.
وعلى ظاهر هذه
الآية إشكال من أربعة وجوه : أحدها كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف
منه وهو الإنزال من الله ، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة
المتواترة ، الثالث كيف يجمع الملكان بين قولهما (نَحْنُ فِتْنَةٌ) وقولهما (فَلا تَكْفُرْ) فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها الرابع
كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن
كانا ملكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر
بدليل نهيهما عنه وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما (إِنَّما نَحْنُ
فِتْنَةٌ) فلما ذا تورطا في هذه الحالة؟
ودفع هذا الإشكال
برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في
إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما ، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى
الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه
أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه
المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها.
والظاهر عندي أن
ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمر
للملكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين
المتعلمين ليبطل انفراد شرذمة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني.
ثم إن الحكمة من
تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة
لتسخير العامة لهم
في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب
وزعموا أنهم ـ أي السحرة ـ مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم
وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو
ألهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك
فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث.
وأما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله : (وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ) الآية.
وفي قراءة ابن
عباس والحسن (الملكين) بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى فمعنى ذلك أن ملكين كانا
يملكان ببابل قد علما علم السحر ، وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه
استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر
التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس
الكفر بعد ذلك. وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلا للناس يعلمانهم السحر
لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة
لهم فأراد الله تكذيبهم ذبا عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك.
وقد أجيب بأن تعلم
السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه
والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله : (يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ) قالوا : كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى
فساد التنظير.
وبابل بلد قديم من
مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية
باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد
الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة. كانت من أعظم مدن العالم
القديم بناها أولا أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب
الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن
ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة ٣٧٥٥ ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل
المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم
ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد
العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا
إليها قديما الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب :
سقى الله أيام
الصّبا ما يسرها
|
|
ويفعل فعل
البابلي المعتق
|
ولاشتهار بابل عند
الأمم القديمة بمعارف السحر كما قدمنا في تعريف السحر صح جعل صلة الموصول قوله : (أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) إشارة إلى قصة يعلمونها.
و (هاروت وماروت)
بدل من (الملكين) وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة
الأوزان العربية ، والظاهر أن هاروت معرب (هاروكا) وهو اسم القمر عند الكلدانيين
وأن ماروت معرب (ماروداخ) وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من
المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيرا
عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى ، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة
عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين. ومن
المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانوا من الصالحين المقدسين
وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون (هاروكا) و (ماروداخ) قد كانا
من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا
وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام.
ولأهل القصص هنا
قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم
ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن
عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في
الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلىاللهعليهوسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد بن
حنبل رحمهالله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبي صلىاللهعليهوسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غرّه فيها ظاهر حال
رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية
صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما
رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم قال ابن عرفة في «تفسيره» وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره
القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في
__________________
حق هاروت وماروت.
وقوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) جملة حالية من «هاروت وماروت» و (ما) نافية والتعبير
بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه. وقد علم من هذا
أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف
أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية.
وقوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله
بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصص وتعمم بحسب ما
تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين.
ولما كانت هذه
الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن
المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى
بالفتنة عنها كثيرا ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على
ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد
وهذا الإطلاق إن لم يكن مولدا فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة
وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمى القرآن هاروت وماروت
فتنة وقال : (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠]
وقال : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧].
والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة وقد أكّدت المبالغة بالحصر
الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي
وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن
كل من تعلم منهما عمل به. فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد
علمت سرها. وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب
السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوءة.
والذي يظهر في
تفسير هذه الجملة أن قولهما : (إِنَّما نَحْنُ
فِتْنَةٌ) قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي
تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه
الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر
متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور
خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها ، وقولهما :
(فَلا تَكْفُرْ) أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف
السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء فالفتنة تحصل لمن
يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم
فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما (فَلا تَكْفُرْ) فالكفر هو الفتنة وقولهما (فَلا تَكْفُرْ) بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم.
(فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ).
تفريع عما دل عليه
قوله : (وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) المقتضي أن التعليم حاصل فيتعلمون ، والضمير في (فَيَتَعَلَّمُونَ) راجع لأحد ، الواقع في حيز النفي مدخولا لمن الاستغراقية
في قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ) فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعا.
قوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ) إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه
التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] فإن
المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما ، والرحمة وحدها
آصرة منها الأبوة والبنوة ، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى
وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا
الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين
حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما.
وقوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) جملة معترضة. وضمير (هُمْ) عائد إلى (أحد) من قوله : (وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ) لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما
المتعلمون بضارين بالسحر أحدا. وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما
يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور ، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال
كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء منقوله : (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس
فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم
الكلام لأنهم
تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن
المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة ، فالباء في قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) للملابسة.
وأصل الإذن في
اللغة هو إباحة الفعل ، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد
استعمله القرآن مجازا في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو
قوله : (وَتُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠]
وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٦٦]
فقوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به
فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره
الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن (ومن هذا القبيل ونظيره لفظة
الأمر في قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] أي
مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان
الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي
فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة). فليس
المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال
أشياء ضار بطبعها وقوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) يعني ما يضر الناس ضرا آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه
فضمير (يضرهم) عائد على غير ما عاد عليه ضمير (يتعلمون) والمعنى أن أمور السحر لا
يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكيا بعد أن كان
بليدا أو ليصير غنيا بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو
مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله : (وَلا يَنْفَعُهُمْ) تأسيسا لا تأكيدا والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل
في الدنيا وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو
ضده مفاد الحصر كأنه قيل ويتعلمون ما ليس إلا ضرا كقول السموأل وعبد الملك بن عبد
الرحيم الحارثي :
تسيل على حد
الظّبات نفوسنا
|
|
وليس على غير
الظّبات تسيل
|
وعدل عن صيغة القصر
لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر. وإعادة فعل
(يَتَعَلَّمُونَ) مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة.
(وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
عطف على قوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعا
لضمير (وَاتَّبَعُوا) ، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم. واللام في (لَقَدْ عَلِمُوا) يجوز أن تكون لام القسم وهي اللام التي من شأنها أن تدخل
على جواب القسم لربطه بالقسم ثم يحذفون القسم كثيرا استغناء لدلالة الجواب عليه
دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب. ويجوز أن تكون لام الابتداء ، وهي
لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام فلذلك قيل لها لام الابتداء
والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في
المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في
تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيدا من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا
تأكيد. قال الرضى إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء. والكوفيون
لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا
متقارب.
واللام في قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) يجوز كونها لام قسم أيضا تأكيدا للمعلوم أي علموا تحقيق
أنه لا خلاق لمشتري السحر ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل
غيره فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم.
والخلاق الحظ من
الخير خاصة. ففي الحديث : «إنما يلبس هذا من لا خلاق له» وقال البعيث بن حريث :
ولست وإن قربت
يوما ببائع
|
|
خلاقي ولا ديني
ابتغاء التحبب
|
ونفي الخلاق وهو
نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه
فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر
كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من
الله تعالى.
قوله : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ) عطف على (وَلَقَدْ عَلِمُوا) عطف الإنشاء على
الخبر و (شَرَوْا) بمعنى باعوا بمعنى بذلوا وهو مقابل قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار.
وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) مقتض لنفي العلم بطريق لو الامتناعية والعلم المنفي عنهم
هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ما له خلاق في الآخرة
والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق
له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال وهذا
هو الوجه لأن (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) ذيل به قوله : (وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) فدل على أنه دليل مفعوله وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات
العلم ونفيه في معلوم واحد بناء على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى
كون السحر مذوما فكيف يعدون غير عالمين بذمه وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه
الآية.
ولهم في الجواب عن
دفع الإشكال وجوه أخرى أحدها ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» وتبعه صاحب «المفتاح» من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم
كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به أي فيكون ذلك على سبيل
التهكم بهم. الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر
المنهي عنه فكأنهم علموا مذمة السحر علما كليا ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما
قالوا إن الفقيه يعلم كبرى القياس والقاضي والمفتي يعلمان صغراه وأن الفقيه
كالصيدلاني والقاضي والمفتي كالطبيب وهذا الوجه الذي اخترناه. الثالث أن المراد لو
كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم
العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه. الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر ومن
المثبت العلم الغريزي وهذا وجه بعيد جدا إذ لا يمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب
السحر لا خلاق له علما غريزيا فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي. وفي الجمع
بين (لَقَدْ عَلِمُوا) و (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) طباق عجيب.
وهنالك جواب آخر
مبني على اختلاف معاد ضمير (عَلِمُوا) وضمير (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) فضمير (لَقَدْ عَلِمُوا) راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم ،
قاله فطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم.
[١٠٣] (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))
أي لو آمنوا بمحمد
واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ،
ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة.
و (لو) شرطية
امتناعية اقترن شرطها بأن مع التزام الفعل الماضي في جملته على حد قول امرئ القيس
:
ولو أنّ ما أسعى
لأدنى معيشة
|
|
كفاني ولم أطلب
قليل من المال
|
و (أن) مع صلتها
في محل مبتدأ عند جمهور البصريين وما في جمل الصلة من المسند والمسند إليه أكمل
الفائدة فأغنى عن الخبر. وقيل خبرها محذوف تقديره ثابت أي ولو إيمانهم ثابت.
وقوله : (لَمَثُوبَةٌ) يترجح أن يكون جواب (لو) فإنه مقترن باللام التي يكثر
اقتران جواب (لو) المثبت بها والجواب هنا جملة اسمية وهي لا تقع جوابا للو في
الغالب وكان هذا الجواب غير ظاهر الترتب والتعليق على جملة الشرط لأن مثوبة الله
خير سواء آمن اليهود واتقوا أم لم يفعلوا. قال بعض النحاة الجواب محذوف أي لأثيبوا
ومثوبة من عند الله خير. وعدل عنه صاحب «الكشاف» فقال : أوثرت الجملة الاسمية في
جواب (لو) على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل
عن النصب إلى الرفع في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الزمر : ٧٣] لذلك
ا ه. ومراده أن تقدير الجواب لأثيبوا مثوبة من الله خيرا لهم مما شروا به أنفسهم ،
أو لمثوبة بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله ، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على
الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات. ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة
وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معان عدل عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع
لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت ، وينتقل من إفادتها الثبوت إلى
إفادة الدوام والثبات فدلالة الآية على ثبات المثوبة بالعدول عن نصب المصدر إلى
رفعه كما في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢]
ودلالتها على ثبات نسبة الخيرية للمثوبة من كون النسبة مستفادة من جملة اسمية
فصارت الجملة بمنزلة جملتين لأن أصل المصدر الآتي بدلا من فعله أن يدل على نسبة
لفاعله فلو قيل (لمثوبة) بالنصب لكان تقديره لأثيبوا مثوبة فإذا حولت إلى المصدر
المرفوع لزم أن تعتبر ما
كان فيه من النسبة
قبل الرفع ، ولما كان المصدر المرفوع لا نسبة فيه علم السامع أن التقدير لمثوبة
لهم كما أنك إذا قلت سلاما وحمدا علم السامع أنك تريد سلمت سلاما وحمدت حمدا ،
فإذا قلت سلام وحمد كان التقدير سلام مني وحمد مني ، وهذا وجه تنظير «الكشاف» وقرينة كون هذا المصدر في الأصل منصوبا وقوعه جوابا للو
المتأصل في الفعلية ، ثم إذا سمع قوله (خير) علم السامع أنه خبر عن المثوبة بعد
تحويلها فاستفاد ثبات الخيرية ولهذا لم يتعرض صاحب «الكشاف» لبيان إفادة الجملة ثبات الخيرية للمثوبة لأنه لصراحته لا
يحتاج للبيان فإن كل جملة اسمية تدل على ثبات خبرها لمبتدئها. وبهذا ظهر الترتب
لأن المقصود من الإخبار عن المثوبة بأنها خير أنها تثبت لهم لو آمنوا.
وعندي وجه آخر وهو
أن يقال إن قوله : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ
عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) دليل الجواب بطريقة التعريض فإنه لما جعل معلقا على قوله :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا) علم أن في هذا الخبر شيئا يهمهم. ولما كانت (لو) امتناعية
ووقع في موضع جوابها جملة خبرية تامة علم السامع أن هذا الخبر ممتنع ثبوته لمن
امتنع منه شرط لو فيكون تنكيلا عليهم وتلميحا بهم.
وقد قيل : إن (لو)
للتمني على حد (لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً) [الشعراء : ١٠٢].
والتحقيق أن لو التي للتمني هي لو الشرطية أشربت معنى التمني لأن الممتنع يتمنى إن
كان محبوبا :
وأحب شيء إلى
الإنسان ما منعا
واستدل على هذا
بأنها إذا جاءت للتمني أجيبت جوابين جوابا منصوبا كجواب ليت وجوابا مقترنا باللام
كجواب الامتناعية كقول المهلهل :
فلو نبش المقابر
عن كليب
|
|
فيخبر بالذنائب
أي زير
|
ويوم الشعثمين
لقر عينا
|
|
وكيف لقاء من
تحت القبور
|
فأجيب بقوله :
فيخبر وقوله : لقر عينا. والتمني على تقديره مجاز من الله تعالى عن الدعاء للإيمان
والطاعة أو تمثيل لحال الداعي لذلك بحال المتمني فاستعمل له المركب الموضوع للتمني
أو هو ما لو نطق به العربي في هذا المقام لنطق بالتمني على نحو ما قيل في قوله
تعالى : (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١]
ونحوه. وعلى هذا الوجه يكون قوله (لَمَثُوبَةٌ) مستأنفا واللام للقسم.
والمثوبة اسم مصدر
أثاب إذا أعطى الثواب والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي ، ويقال ثوب وأثوب
بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة
والمكروهة.
وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) شرط ثان محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه وحذف مفعول (يَعْلَمُونَ) لدلالة المثوبة من الله خير ، أي لو كانوا يعلمون مثوبة
الله لما اشتروا السحر.
وليس تكرير اللفظة
أو الجملة في فواصل القرآن بإيطاء لأن الإيطاء إنما يعاب في الشعر دون النثر لأن
النثر إنما يعتد فيه بمطابقة مقتضى الحال وفائدة هذا التكرير التسجيل عليهم بأنهم
لا يعلمون ما هو النفع الحق.
[١٠٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ
(١٠٤))
يتعين في مثل هذه
الآية تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها ، فإن النهي عن أن يقول المؤمنون
كلمة لا ذم فيها ولا سخف لا بد أن يكون لسبب ، وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين
كانوا إذا ألقى عليهم النبي صلىاللهعليهوسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه
حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان
المنافقون من اليهود يشتمون النبي صلىاللهعليهوسلم في خلواتهم سرا وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا
بالعربية ومعناها في العبرانية سب ، وقيل معناها لا سمعت ، دعاء فقال بعضهم لبعض :
كنا نسب محمدا سرّا فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا
اتصف بالرعونة وسيأتي ، فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب
فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون
عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم.
ومناسبة نزول هاته
الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه ، أن السحر كما قدمنا راجع إلى
التمويه ، وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه
__________________
على اعتقاد تأثير
الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجهه النفسي إلى المسحور ، وقد تأصل هذا عند
اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم. ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم
مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى ، أو كإهانة صورته أو الوطء
على ظله ، كل ذلك راجعا إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى ، كان هذا
شبيها ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته
الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من
أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر.
وإنما فصلت هذه
الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض
باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه. وقد
كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح
الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح
بالنداء والتنبيه ونحوه نحو (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن
يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتبا عما قبله لأن العطف
بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب.
و (راعِنا) أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه
بنظره من الهلاك والتلف وراعى مثل رعى قال طرفة :
خذول تراعى ربربا
بخميلة
وأطلق مجازا على
حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه
رعاك الله ورعى ذمامه ، فقول المسلمين للنبي صلىاللهعليهوسلم (راعنا) هو فعل
طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا.
وقوله : (وَقُولُوا انْظُرْنا) أبدلهم بقولهم : (راعِنا) كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من
غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبي صلىاللهعليهوسلم وهذا من أبدع البلاغة فإنّ نظر في الحقيقة بمعنى حرس وصار
مجازا على تدبير المصالح ، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر ، والمقصود منه الرفق
والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله : (انْظُرْنا) بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار.
وقد دلت هذه الآية
على مشروعية أصل من أصول الفقه ـ وهو من أصول المذهب المالكي ـ يلقب بسد الذرائع
وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور.
وقوله تعالى : (وَاسْمَعُوا) أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا
إلى طلب المراعاة أو النظر وقيل : أراد من (اسمعوا) امتثلوا لأوامر الرسول قاله
ابن عطية وهو أظهر.
وقوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) التعريف للعهد. والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا
أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم : فلهم عذاب أليم ، والتعبير
بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم. وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع
المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله.
[١٠٥] (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (١٠٥))
فصله عما قبله
لاختلاف الغرضين ، لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه
الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين. ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد
المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد.
وهذه الآية رجوع
إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) فقالوا : (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] أي
ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبي
والمسلمين من خير ، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله
: (قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] وما
تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين
الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك
إلى بيان النسخ.
و (الود) بضم
الواو المحبة ومن أحب شيئا تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما
حققه الراغب.
وذكر (الذين كفروا)
هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معا تمهيدا لما يأتي من ذكر
حكمة النسخ ومن قوله : (وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ
هُوداً
أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١]
الآيات. ونبه بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) دون ما يود أهل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن
كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبيء المقفي على آثارهم وفي
التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبي صلىاللهعليهوسلم على النبوءة
وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين
موعظة النصارى مع موعظة اليهود.
ولما كان ما
اقتضاه الحال من التعبير بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قد يوهم كون البيان قيدا وأن الكافرين من غير أهل الكتاب
لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) كالاحتراس وليكون جمعا للحكم بين الجميع فيكون له حظ في
التمهيد لقوله فيما يأتي : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤]
وقرأ الجمهور (أن ينزل) بتشديد الزاي مفتوحة. والتعبير بالتنزيل دون الإنزال
لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجما لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على
المكلفين في شرع الأحكام تدريجا. وقرأه ابن كثير وابن عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة
أيضا وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجما.
والخير النعمة
والفضل ، قال النابغة :
فلست على خير أتاك
بحاسد
وأراد به هنا
النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ).
وقوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ) عطف على (ما يَوَدُّ) لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه.
والرحمة هنا مثل
الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى
الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني
جعل الحكم خاصا غير عام سواء خص واحدا أو أكثر. ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن
فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة.
والمشيئة هي
الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي
إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من
تعلقات العلم
الإلهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢]
فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله
يختص بها من خلقه قابلا لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي
الوحي شيئا فشيئا قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف : ٢٢] وقال
: (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ولذلك
لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها
بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت
حاله ورب جاهل مطبق صار عالما بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد
في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده. ولما كانت الاستعدادات
لمراتب الرحمة من النبوءة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل
إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقا بأفهام
المخاطبين.
وقوله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة ،
وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى
عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى
أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
[١٠٦] (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦))
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).
مناسبة هذه الآية
للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبيء صلىاللهعليهوسلم بقولهم : (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١]
وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره ، وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ
ويقولون إن محمدا وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقا لها فكيف يكون شرعه مبطلا
للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم
بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبذل شريعة بشريعة.
وقد قدمنا أن الله
تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من
قوله : (قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٩١]
وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [البقرة : ٩٤] إلخ
وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى قوله : (ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ) [البقرة : ١٠٥]
المنبئ أن العلة هي الحسد ، فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة
أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ. والمقصد الأصلي من هذا هو
تعليم المسلمين أصلا من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة
بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو
المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم. ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل
عليه قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) وعطفه عليه بقوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) [البقرة : ١٠٨]
ولقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن
تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد على اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت
حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع.
وقد ذكر بعض
المفسرين لهاته الآية سبب نزول ، ففي «الكشاف» و«المعالم» : نزلت لما قال اليهود :
ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ، وفي «تفسير القرطبي» أن
اليهود طعنوا في تغيير القبلة وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه بشيء وينهاهم عنه فما
كان هذا القرآن إلا من جهته ولذلك يخالف بعضه بعضا.
وقرأ الجمهور (ننسخ)
بفتح النون الأولى وفتح السين وهو أصل مضارع نسخ ، وقرأه ابن عامر بضم النون
الأولى وكسر السين على أنه مضارع أنسخ مهموزا بهمزة التعدية أي نأمر بنسخ آية.
و (ما) شرطية
وأصلها الموصولة أشربت معنى الشرط فلذلك كانت اسما للشرط يستحق إعراب المفاعيل
وتبين بما يفسر إبهامها وهي أيضا توجب إبهاما في أزمان الربط لأن الربط وهو
التعليق لما نيط بمبهم صار مبهما فلا تدل على زمن معين من أزمان تعليق الجواب على
الشرط وربطه به.
و (من آية) بيان
لما. والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر. قال الحرث بن حلزة :
من لنا عنده من
الخير آيا
|
|
ت ثلاث في كلّهن
القضاء
|
ووزنها فعلة
بتحريك العين عند الخليل وعينها ياء أو واو قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها
والنسبة إليها آييّ أو آوي. ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال
تعالى : (وَما نُرْسِلُ
بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩].
وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو
إطلاق قرآني قال تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النحل : ١٠١]
ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول
ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبرا مع رسول أرفقوه بأمارة
يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان
أسيرا في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه بلعنبر رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته
لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول : قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيسا. وقال
سحيم العبد :
ألكني إليها
عمرك الله يا فتى
|
|
بآية ما جاءت
إلينا تهاديا
|
ولذا أيضا سموا
الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفا.
والمراد بالآية
هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام
لا إزالة ألفاظ القرآن.
والنسخ إزالة
الشيء بشيء آخر قاله الراغب ، فهو عبارة عن إزالة صورة أو ذات وإثبات غيرها عوضها
تقول نسخت الشمس الظل لأن شعاعها أزال الظل وخلفه في موضعه ونسخ الظل الشمس كذلك
لأن خيال الجسم الذي حال بين الجسم المستنير وبين شعاع الشمس الذي أناره قد خلف
الشعاع في موضعه ويقال نسخت ما في الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى ، وقد
يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر وعلى الإثبات لكن على
إثبات خاص وهو إثبات المزيل ، وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في
اللغة وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا خططت أمثال
حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة
حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة أو تمثيلية بتشبيه الحالة بحالة من يزيل الحروف
من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩]
وقال : (وَفِي نُسْخَتِها
هُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأعراف : ١٥٤]
وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز.
ولا يطلق النسخ
على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو
الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير.
والمراد من النسخ
هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْها أَوْ مِثْلِها) وهو المعروف عند الأصولين بأنه رفع الحكم الشرعي بخطاب
فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع ، وخرج بقولنا الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية
بالشرع المستأنف. إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم
التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على
إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات.
فالأول نحو قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨] في
التجارة في الحج حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه
الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز كما سيأتي.
ومثال الثاني قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] بعد
ذكر النساء المحرمات وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧]
لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار.
وفهم من قولهم في
التعريف رفع الحكم أن ذلك الحكم كان ثابتا لو لا رفعه وقد صرح به بعضهم ولذلك
اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه
ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيّى بغاية عند انتهاء غايته ورفع الحكم
المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار.
وحيث تبينت حكمة
نسخ الآيات علم منه حكمة نسخ الشرائع بعضها ببعض وهو الذي أنكروه وأنكروا كون
الإسلام قد نسخ التوراة وزعموا أن دوام التوراة مانع من
__________________
الإيمان بالإسلام
كما قالوا (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] وهو
أحوال : الأول مجيء شريعة لقوم مجيئا مؤقتا لمدة حياة الرسول المرسل بها فإذا توفي
ارتفعت الشريعة كشريعة نوح وإبراهيم وشريعة يوسف وشريعة شعيب قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) إلى قوله : (إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ
لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) [غافر : ٣٤] وبقي
الناس في فترة وكان لكل أحد يريد الاهتداء أن يتبع تلك الشريعة أو بعضها كما كانوا
يتبعون شريعة إبراهيم فإذا جاءت شريعة بعدها فليست الثانية بناسخة للأولى في
الحقيقة ولكنها نسخ يخير الناس في متابعتها الذي كان لهم في زمن الفترة كما إذا
كانت عبس مثلا يجوز لها اتباع شريعة إبراهيم فلما جاءهم خالد بن سنان بشريعته تعين
عليهم اتباعه.
الثاني أن تجيء شريعة لقوم مأمورين بالدوام عليها كشرع موسى ثم
تجيء بعدها شريعة ليست رافعة لتلك الشريعة بأسرها ولكنها ترفع بعض أحكامها وتثبت
بعضا كشريعة عيسى فهذه شريعة ناسخة في الجملة لأنها تنسخ بعضا وتفسر بعضا ،
فالمسيح رسول نسخ بعض التوراة وهو ما نص على نسخه وأما غيره فباق على أحكام
التوراة فهو في معظمها مبين ومذكر ومفسر كمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل مثل
أشعياء وأرمياء وزكرياء الأول ودانيال وأضرابهم ولا يخالف هذا النوع نسخ أحكام شريعة
واحدة إلا بكونه بواسطة رسول ثان.
الثالث مجيء شريعة بعد أخرى بحيث تبطل الثانية الأولى إبطالا عاما
بحيث تعد تلك الشريعة باطلة سواء في ذلك الأحكام التي نصت الشريعة الثانية فيها
بشيء يخالف ما في الأولى أم فيما سكتت الشريعة الثانية عنه وهذا هو الإسلام بالنسبة
لما تقدمه من الشرائع فإنه رفع الشرائع كلها بحيث لا يجوز لأحد من المسلمين أن
يتلقى شيئا من الشرائع السالفة فيما لم يتكلم الإسلام فيه بشيء بل يأخذ أحكام ذلك
بالاستنباط والقياس وغير ذلك من طرق أصول الإسلام ، وقد اختلف في أن شرع من قبلنا
شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، لكن ذلك الخلاف ناظر إلى دليل آخر وهو قوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].
وقوله : (أَوْ نُنْسِها) قرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو
جعفر وخلف (ننسها) بنون مضمومة في أوله وبسين مكسورة ثم هاء. وقرأه ابن كثير وأبو
عمرو (ننسأها) بنون مفتوحة في أوله وبسين مفتوحة وبعدها همزة ساكنة ثم هاء فعلى
قراءة ترك الهمز فهو من النسيان والهمزة للتعدية ومفعوله محذوف للعموم أي ننس
الناس إياها
وذلك بأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون ، وعلى قراءة الهمز
فالمعنى أو نؤخرها أي نؤخر تلاوتها أو نؤخر العمل بها والمراد إبطال العمل
بقراءتها أو بحكمها فكنى عنه بالنسء وهو قسم آخر مقابل للنسخ وهو أن لا يذكر
الرسول الناس بالعمل بحكم مشروع ولا يأمر من يتركه بقضائه حتى ينسى الناس العمل به
فيكون ذلك إبطالا للحكم لأنه لو كان قائما لما سكت الرسول عن إعادة الأمر به ولما
أقر تاركه عند موجب العمل به ولم أجد لهذا مثالا في القرآن ونظيره في السنة قول
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره» عند من يقول
إن النهي فيه للتحريم وهو قول أبي هريرة ولذلك كان يذكر هذا الحديث ويقول ما لي
أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أظهركم. ومعنى النسء مشعر بتأخير يعقبه
إبرام وحينئذ فالمعنى بقاء الحكم مدة غير منسوخ أو بقاء الآية من القرآن مدة غير
منسوخة. أو يكون المراد إنساء الآية بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوع
ذلك بعد حين والاحتمالات المفروضة في نسخ حكم من الشريعة تتأتى في نسخ شريعة
بشريعة وإنسائها أو نسئها.
وقوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) جواب الشرط وجعله جوابا مشعر بأن هذين الحالين وهما النسخ
والإنساء أو النسء لا يفارقان حالين وهما الإتيان في وقت النسخ ووقت الإنساء بشيء
هو خير من المنسوخ أو مثله أو خير من المنسي أو المنسوء أو مثله فالمأتي به مع
النسخ هو الناسخ من شريعة أو حكم والمأتي به مع الإنساء من النسيان هو الناسخ أيضا
من شريعة أو حكم أو هو ما يجيء من الأحكام غير ناسخ ولكنه حكم مخالف ينزل بعد
الآخر والمأتي به مع النسء أي التأخير هو ما يقارن الحكم الباقي من الأحكام
النازلة في مدة عدم النسخ.
وقد أجملت جهة
الخيرية والمثلية لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مرادا إذ الخيرية تكون من
حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس ، أو ما يدفع عنهم مضرة ، أو ما فيه جلب
عواقب حميدة ، أو ما فيه ثواب جزيل ، أو ما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع
الشدة وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة. وليس المراد أن كل صورة من
الصور المفروضة في حالات النسخ والإنساء أو النسء هي مشتملة على الخير والمثل معا
وإنما المراد أن كل صورة منهما لا تخلو من الاشتمال على الخير منها أو المثل لها
فلذلك جيء بأو في قوله : (بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ
مِثْلِها) فهي مفيدة لأحد الشيئين مع جواز الجمع.
وتحقيق هاته الصور
بأيديكم ، ولنضرب لذلك أمثالا ترشد إلى المقصود وتغني عن البقية مع عدم التزام
الدرج على القول الأصح فنقول :
(١) نسخ شريعة مع
الإتيان بخير منها كنسخ التوراة والإنجيل بالإسلام.
(٢) نسخ شريعة مع
الإتيان بمثلها كنسخ شريعة هود بشريعة صالح فإن لكل فائدة مماثلة للأخرى في تحديد
أحوال أمتين متقاربتي العوائد والأخلاق فهود نهاهم أن يبنوا بكل ريع آية يعبثون
وصالح لم ينه عن ذلك ونهى عن التعرض للناقة بسوء.
(٣) نسخ حكم في
شريعة بخير منه مثل نسخ كراهة الخمر الثابتة بقوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنافِعُ) [البقرة : ٢١٩]
بتحريمها بتاتا فهذه الناسخة خير من جهة المصلحة دون الرفق وقد يكون الناسخ خيرا
في الرفق كنسخ تحريم الأكل والشرب وقربان النساء في ليل رمضان بعد وقت الإفطار عند
الغروب إذا نام الصائم قبل أن يتعشى بقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) إلى قوله : (مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧]
قال في الحديث في «صحيح
البخاري» ففرح المسلمون
بنزولها.
(٤) نسخ حكم في
الشريعة بحكم مثله كنسخ الوصية للوالدين والأقربين بتعيين الفرائض والكل نافع للكل
في إعطائه مالا ، وكنسخ فرض خمسين صلاة بخمس صلوات مع جعل ثواب الخمسين للخمس فقد
تماثلتا من جهة الثواب ، وكنسخ آية (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) [البقرة : ١٨٤]
بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥]
إلى قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٤]
فأثبت كون الصوم خيرا من الفدية.
(٥) إنساء بمعنى
التأخير لشريعة مع مجيء خير منها ، تأخير ظهور دين الإسلام في حين الإتيان بشرائع
سبقته كل واحدة منها هي خير بالنسبة للأمة التي شرعت لها والعصر الذي شرعت فيه فإن
الشرائع تأتي للناس بما يناسب أحوالهم حتى يتهيأ البشر كلهم لقبول الشريعة الخاتمة
التي هي الدين عند الله فالخيرية هنا ببعض معانيها وهي نسبية.
(٦) إنساء شريعة
بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوعه بعد حين ومع الإتيان بمثلها كتأخير
شريعة عيسى في وقت الإتيان بشريعة موسى وهي خير منها من حيث الاشتمال على معظم
المصالح وما تحتاج إليه الأمة.
(٧) إنساء بمعنى
تأخير الحكم المراد مع الإتيان بخير منه كتأخير تحريم الخمر وهو
مراد مع الإتيان
بكراهته أو تحريمه في أوقات الصلوات فقط فإن المأتي به خير من التحريم من حيث
الرفق بالناس في حملهم على مفارقة شيء افتتنوا بمحبته.
(٨) إنساء شريعة
بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها أي أوسع وأعم مصلحة
وأكثر ثوابا لكن في أمة أخرى أو بمثلها كذلك.
(٩) إنساء آية من
القرآن بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها في باب آخر
أعم مصلحة أو بمثلها في باب آخر أي مثلها مصلحة أو ثوابا مثل تحريم الخمر في وقت
الصلوات وينزل في تلك المدة تحريم البيع في وقت صلاة الجمعة.
(١٠) نسيان شريعة
بمعنى اضمحلالها كشريعة آدم ونوح مع مجيء شريعة موسى وهي أفضل وأوسع وشريعة إدريس
مثلا وهي مثل شريعة نوح.
(١١) نسيان حكم
شريعة مع مجيء خير منه أو مثله ، كان فيما نزل عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس
معلومات ثم نسيا معا وجاءت آية (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ) [النساء : ٢٣] على
الإطلاق والكل متماثل في إثبات الرضاعة ولا مشقة على المكلفين في رضعة أو عشر لقرب
المقدار.
وقيل : المراد من
النسيان الترك وهو حينئذ يرجع معناه وصوره إلى معنى وصور الإنساء بمعنى التأخير.
والمقصد من قوله
تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْها أَوْ مِثْلِها) إظهار منتهى الحكمة والرد عليهم بأنهم لا يهمهم أن تنسخ
شريعة بشريعة أو حكم في شريعة بحكم آخر ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى ولا في
حكمته ولا ربوبيته لأنه ما نسخ شرعا أو حكما ولا تركه إلا وهو قد عوض الناس ما هو
أنفع لهم منه حينئذ أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال ، وما أخر حكما في زمن ثم
أظهره بعد ذلك إلا وقد عوض الناس في إبان تأخيره ما يسد مسده بحسب أحوالهم ، وذلك
مظهر الربوبية فإنه يرب الخلق ويحملهم على مصالحهم مع الرفق بهم والرحمة ، ومراد
الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد وهو حفظ نظام العالم وضبط تصرف
الناس فيه على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن
جاء بالشريعة الخاتمة وهي مراد الله تعالى من الناس ولذلك قال : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩]
وقال أيضا : (شَرَعَ لَكُمْ
مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣]
الآية.
والظاهر أن
الإتيان بخير أو بمثل راجع إلى كل من النسخ والإنساء فيكون الإتيان بخير من
المنسوخة أو المنساة أو بمثلها وليس الكلام من اللف والنشر. فقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) هو إما إتيان تعويض أو إتيان تعزيز. وتوزيع هذا الضابط على
الصور المتقدمة غير عزيز. والمعنى أنا لم نترك الخلق في وقت سدى ، وأن ليس في
النسخ ما يتوهم منه البداء.
وفي الآية إيجاز
بديع في التقسيم قد جمع هاته الصور التي سمعتموها وصورا تنشق منها لا أسألكموها
لأنه ما فرضت منها صورة بعد هذا إلا عرفتموها.
ومما يقف منه
الشعر ولا ينبغي أن يوجه إليه النظر ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى : (نُنْسِها) أنه إنساء الله تعالى المسلمين للآية أو للسورة ، أي
إذهابها عن قلوبهم أو إنساؤه النبي صلىاللهعليهوسلم إياها فيكون نسيان الناس كلهم لها في وقت واحد دليلا على
النسخ واستدلوا لذلك بحديث أخرجه الطبراني بسنده إلى ابن عمر قال «قرأ رجلان سورة
أقرأهما إياها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فغديا على
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكرا ذلك له فقال لهما : «إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها».
قال ابن كثير هذا
الحديث في سنده سليمان بن أرقم وهو ضعيف وقال ابن عطية هذا حديث منكر أغرب به
الطبراني وكيف خفي مثله على أئمة الحديث. والصحيح أن نسيان النبي ما أراد الله
نسخه ولم يرد أن يثبته قرآنا جائز ، أي لكنه لم يقع فأما النسيان الذي هو آفة في
البشر فالنبي معصوم عنه قبل التبليغ ، وأما بعد التبليغ وحفظ المسلمين له فجائز
وقد روي أنه أسقط آية من سورة في الصلاة فلما فرغ قال لأبيّ لم لم تذكرني قال حسبت
أنها رفعت قال : لا ولكني نسيتها ا ه.
والحق عندي أن
النسيان العارض الذي يتذكر بعده جائز ولا تحمل عليه الآية لمنافاته لظاهر قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وأما النسيان المستمر للقرآن فأحسب أنه لا يجوز. وقوله
تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى) [الأعلى : ٦] دليل
عليه وقوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٧] هو
من باب التوسعة في الوعد وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعلى. وأما ما ورد في «صحيح مسلم» عن أنس قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول ببراءة
فانسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا وما
يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ا ه. فهو غريب وتأويله أن
هنالك سورة
نسخت قراءتها
وأحكامها ، ونسيان المسلمين لما نسخ لفظه من القرآن غير عجيب على أنه حديث غريب ا
ه.
وقد دلت هذه الآية
على أن النسخ واقع ، وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ووقوعه ولم يخالف في
ذلك إلا أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر فقيل : إن خلافه لفظي وتفصيل الأدلة في
كتب أصول الفقه.
وقد قسموا نسخ
أدلة الأحكام ومدلولاتها إلى أقسام : نسخ التلاوة والحكم معا وهو الأصل ومثلوه بما
روى عن أبي بكر كان فيما أنزل لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن
آبائكم ، ونسخ الحكم وبقاء التلاوة وهذا واقع لأن إبقاء التلاوة يقصد منه بقاء
الإعجاز ببلاغة الآية ومثاله آية : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ) [الأنفال : ٦٥]
إلى آخر الآيات. ونسخ التلاوة وبقاء الحكم ومثلوه بما روي عن عمر : كان فيما يتلى
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وعندي أنه لا فائدة في نسخ التلاوة وبقاء الحكم
وقد تأولوا قول عمر كان فيما يتلى أنه كان يتلى بين الناس تشهيرا بحكمه. وقد كان
كثير من الصحابة يرى أن الآية إذا نسخ حكمها لا تبقى كتابتها في المصحف ففي
البخاري في التفسير قال ابن الزبير قلت لعثمان : (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) [البقرة : ٢٣٤]
نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها قال : يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
[١٠٦ ، ١٠٧] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (١٠٧))
(أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ) (١٠٧).
مسوق لبيان حكمة
النسخ والإتيان بالخير والمثل بيانا غير مفصل على طريقة الأسلوب الحكيم ، وذلك أنه
بعد أن فرغ من التنبيه على أن النسخ الذي استبعدوه وتذرعوا به لتكذيب الرسول هو
غير مفارق لتعويض المنسوخ بخير منه أو مثله أو تعزيز المبقى بمثله أريد أن ينتقل
من ذلك إلى كشف ما بقي من الشبهة وهي أن يقول المنكر وما هي الفائدة في النسخ حتى
يحتاج للتعويض؟ وكان مقتضى الظاهر أن يتصدى لبيان اختلاف المصالح ومناسبتها
للأحوال والأعصار ولبيان تفاصيل الخيرية والمثلية في كل ناسخ ومنسوخ. ولما
كان التصدي لذلك
أمرا لم تتهيا له عقول السامعين لعسر إدراكهم مراتب المصالح وتفاوتها ، لأن ذلك
مما يحتاج إلى تأصيل قواعد من أصول شرعية وسياسية ، عدل بهم عن بيان ذلك وأجملت
لهم المصلحة بالحوالة على قدرة الله تعالى التي لا يشذ عنها ممكن مراد ، وعلى سعة
ملكه المشعر بعظيم علمه ، وعلى حاجة المخلوقات إليه إذ ليس لهم رب سواه ولا ولي
دونه وكفى بذلك دليلا على أنه يحملهم على مصالحهم في سائر الأحوال. ومما يزيد هذا
العدول توجيها أن التصدي للبيان يفتح باب الجدال في إثبات المصلحة وتفاوت ذلك بحسب
اختلاف القرائح والفهوم.
ولأن أسباب
التشريع والنسخ أقسام ، منه ما ظهر وجهه بالنص فيمكن إفهامهم إياه نحو قوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [المائدة : ٩١]
الآية بعد قوله : (لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣]
الآية ونحو (وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦]
الآية. ومنها ما يعسر إفهامهم إياه لأنه يحتاج إلى علم وتفصيل من شأن المشرعين
وعلماء الأصول كالأشياء التي عرفت بالقياس وأصول التشريع. ومنها ما لم يطلع على
حكمته في ذلك الزمان أو فيما يليه ، ولما كان معظم هاته التفاصيل يعسر أو يتعذر
إفهامهم إياه وقع العدول المذكور. ولكون هاته الجملة تتنزل منزلة البيان للأولى
فصلت عنها.
والخطاب في (تَعْلَمْ) ليس مرادا منه ظاهره الواحد وهو النبي صلىاللهعليهوسلم بل هو إما خطاب لغير معين خارج على طريقة المجاز بتشبيه من
ليس حاضرا للخطاب وهو الغائب منزلة المخاطب في كونه بحيث يصير مخاطبا لشهرة هذا
الأمر والمقصد من ذلك ليعم كل مخاطب صالح له وهو كل من يظن به أو يتوهم منه أنه لا
يعلم أن الله على كل شيء قدير ولو بعدم جريانه على موجب علمه ، وإلى هذه الطريقة
مال القطب والطيبي من شراح «الكشاف» وعليها يشمل هذا الخطاب ابتداء اليهود والمشركين ومن عسى
أن يشتبه عليه الأمر وتروج عليه الشبهة من ضعفاء المسلمين ، أما غيرهم فغني عن
التقرير في الظاهر وإنما أدخل فيه ليسمع غيره.
وإما مراد به
ظاهره وهو الواحد فيكون المخاطب هو النبي صلىاللهعليهوسلم لكن المقصود منه المسلمون فينتقل من خطاب النبي إلى مخاطبة
أمته انتقالا كنائيا لأن علم الأمة من لوازم علم الرسول من حيث إنه رسول لزوما
عرفيا فكل حكم تعلق به بعنوان الرسالة فالمراد منه أمته لأن ما يثبت له من
المعلومات في باب العقائد والتشريع فهو حاصل لهم فتارة يراد
من الخطاب توجه
مضمون الخطاب إليه ولأمته وتارة يقصد منه توجه المضمون لأمته فقط على قاعدة
الكناية في جواز إرادة المعنى الأصلي مع الكنائي ، وهاهنا لا يصلح توجه المضمون
للرسول لأنه لا يقرر على الاعتراف بأن الله على كل شيء قدير فضلا عن أن ينكر عنه
وإنما التقرير للأمة ، والمقصد من تلك الكناية التعريض باليهود. وإنما سلك هذا
الطريق دون أن يؤتى بضمير الجماعة المخاطبين لما في سلوك طريق الكناية من البلاغة
والمبالغة مع الإيجاز في لفظ الضمير.
والاستفهام تقريري
على الوجهين وهو شأن الاستفهام الداخل على النفي كما تقدم عند قوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ٣٣] أي
إنكم تعلمون أن الله قدير وتعلمون أنه مالك السماوات والأرض بما يجري فيهما من
الأحوال ، فهو ملكه أيضا فهو يصرف الخلق كيف يشاء. وقد أشار في «الكشاف» إلى أنه تقريري وصرح به القطب في «شرحه» ولم يسمع في كلام
العرب استفهام دخل على النفي إلا وهو مراد به التقرير.
وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال البيضاوي : هو متنزل من الجملة التي قبله منزلة الدليل
لأن الذي يكون له ملك السماوات والأرض لا جرم أن يكون قديرا على كل شيء ولذا فصلت
هذه الجملة عن التي قبلها. وعندي أن موجب الفصل هو أن هاته الجملة بمنزلة التكرير
للأولى لأن مقام التقرير ومقام التوبيخ كلاهما مقام تكرير لما به التقرير والإنكار
تعديدا على المخاطب.
[١٠٨] (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا
رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))
(أم) حرف عطف مختص
بالاستفهام وما في معناه وهو التسوية فإذا عطفت أحد مفردين مستفهما عن تعيين أحدهما استفهاما
حقيقيا أو مسوّى بينهما في احتمال الحصول فهي بمعنى (أو) العاطفة ويسميها النحاة
متصلة ، وإذا وقعت عاطفة جملة دلت على انتقال من الكلام السابق إلى استفهام فتكون
بمعنى بل الانتقالية ويسميها النحاة منقطعة
__________________
والاستفهام ملازم
لما بعدها في الحالين. وهي هنا منقطعة لا محالة لأن الاستفهامين اللذين قبلها في
معنى الخبر لأنهما للتقرير كما تقدم إلا أن وقوعهما في صورة الاستفهام ولو للتقرير
يحسن موقع (أم) بعدهما كما هو الغالب والاستفهام الذي بعدهما هنا إنكار وتحذير ،
والمناسبة في هذا الانتقال تامة فإن التقرير الذي قبلها مراد منه التحذير من الغلط
وأن يكونوا كمن لا يعلم والاستفهام الذي بعدها مراد منه التحذير كذلك والمحذر منه
في الجميع مشترك في كونه من أحوال اليهود المذمومة ولا يصح كون (أم) هنا متصلة لأن
الاستفهامين اللذين قبلها ليسا على حقيقتهما لا محالة كما تقدم.
وقد جوز القزويني
في «الكشف على الكشاف» كون (أم) هنا متصلة بوجه مرجوح وتبعه البيضاوي وتكلفا لذلك
مما لا يساعد استعمال الكلام العربي ، وأفرط عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي» فزعم
أن حملها على المتصلة أرجح لأنه الأصل لا سيما مع اتحاد فاعل الفعلين المتعاطفين
بأم ولدلالته على أنهم إذا سألوا سؤال قوم موسى فقد علموا أن الله على كل شيء قدير
وإنما قصدوا التعنت وكان الجميع في غفلة عن عدم صلوحية الاستفهامين السابقين للحمل
على حقيقة الاستفهام.
وقوله : (تُرِيدُونَ) خطاب للمسلمين لا محالة بقرينة قوله : (رَسُولَكُمْ) وليس كونه كذلك بمرجح كون الخطابين اللذين قبله متوجهين
إلى المسلمين لأن انتقال الكلام بعد (أم) المنقطعة يسمح بانتقال الخطاب.
وقوله : (تُرِيدُونَ) يؤذن بأن السؤال لم يقع ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم أو
ربما أثارته في نفوسهم شبه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شبهة البداء ونحو ذلك
مما قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (كَما سُئِلَ مُوسى) تشبيه وجهه أن في أسئلة بني إسرائيل موسى كثيرا من الأسئلة
التي تفضي بهم إلى الكفر كقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨]
أو من العجرفة كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥]
فيكون التحذير من تسلسل الأسئلة المفضي إلى مثل ذلك. ويجوز كونه راجعا إلى أسئلة
بني إسرائيل عما لا يعنيهم وعما يجر لهم المشقة كقولهم (ما لَوْنُها) [البقرة : ٦٩] و (ما هِيَ) [البقرة : ٧٠].
قال الفخر : إن
المسلمين كانوا يسألون النبي صلىاللهعليهوسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود
موسى ا ه. وقد ذكر غيره أسبابا أخرى للنزول ، منها : أن المسلمين سألوا النبي صلىاللهعليهوسلم في غزوة خيبر لما مروا بذات الأنواط التي كانت للمشركين أن
يجعل لهم مثلها
ونحو هذا مما هو مبني على أخبار ضعيفة ، وكل ذلك تكلف لما لا حاجة إليه فإن الآية
مسوقة مساق الإنكار التحذيري بدليل قوله : (تُرِيدُونَ) قصدا للوصاية بالثقة بالله ورسوله والوصاية والتحذير لا
يقتضيان وقوع الفعل بل يقتضيان عدمه. والمقصود التحذير من تطرق الشك في صلاحية
الأحكام المنسوخة قبل نسخها لا في صلاحية الأحكام الناسخة عند وقوعها.
وقوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو
يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى ، ويحتمل أن
المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في
سؤالهم كما قال صلىاللهعليهوسلم في حديث «الصحيحين» : «فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على
أنبيائهم» وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفرا شائع في ألفاظ الشريعة
وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أبيّ زوجة ثابت بن قيس : «إني أكره
الكفر» تريد الزنا ، فإذن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم
يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ
فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم
الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفرا وهو المقصود من التذييل
المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة
الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب
من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة
جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى. وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من
عموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية ، وقول النابغة :
ولست بمستبق أخا
لا تلمّه
|
|
على شعث أيّ
الرجال المهذب
|
والمؤكد بجملة : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمانِ) هو مفهوم جملة (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في
بيت النابغة. والقول في تعدية فعل (يَتَبَدَّلِ) مضى عند قوله تعالى : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة : ٦١].
وقد جعل قوله : (فَقَدْ ضَلَ) جوابا لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل
عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتبا على الشرط ولا
يريبك في ذلك وقوع
جواب الشرط فعلا ماضيا مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي
بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضيا لقصد
الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى إنه عند ما يحصل مضمون
الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي
فَقَدْ هَوى) [طه : ٨١] وعلى
مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضيا فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد
حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع
إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل : إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه
الرضي بخلافه مع قد فكثير في القرآن.
وقد يجعلون الجزاء
ماضيا مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره
الناس نحو (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧] وعليه
فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو
غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر
بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من
وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف
بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية.
والسواء الوسط من
كل شيء قال بلعاء بن قيس :
غشّيته وهو في
جأواء باسلة
|
|
عضبا أصاب سواء
الرأس فانفلقا
|
ووسط الطريق هو
الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية.
__________________
[١٠٩ ، ١١٠] (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))
مناسبته لما قبله
أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم ، وآخرتها شبهة النسخ ،
فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [البقرة : ١٠٥]
الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من
أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر. وقد استطرد بينه وبين الآية
السابقة بقوله : (ما نَنْسَخْ) [البقرة : ١٠٦]
الآيات للوجوه المتقدمة ، فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها
بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها. وفي «تفسير ابن عطية» و«الكشاف» و«أسباب
النزول» للواحدي أن
حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود
فقالوا لحذيفة وعمار : «ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم
فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن أهدى منكم» فردا عليهم وثبتا على الإسلام.
والود تقدم في
الآية السالفة.
وإنما أسند هذا
الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [البقرة : ١٠٥]
إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع
المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء
الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعا فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار
إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان
بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا ، فهم لا
يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمني الكفر وهو رضي به. وأما
عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى
__________________
الشرك ولا يبقوا
على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبيء صلىاللهعليهوسلم قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١] وفي
هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير ب (يَرُدُّونَكُمْ) دون لو كفرتم ليشار إلى أن ودادتهم أن يرجع المسلمون إلى
الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل
الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية. وبه يظهر وجه مجيء (كُفَّاراً) معمولا لمعمول (وَدَّ كَثِيرٌ) ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفارا بالله أي كفارا
كفرا متفقا عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صدق ما
ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه ، وبه يظهر أيضا وجه قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُ) فإنه تبيّن أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد
والإيمان بالرسل بخلاف الشرك ، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله
مطلع عليهم.
و (لَوْ) هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر.
و (حَسَداً) حال من ضمير (وَدَّ) أي إن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر.
وقوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم
وصدوره عن نفوسهم. وأكد ذلك بكلمة (عند) الدالة على الاستقرار ليزداد بيان تمكنه
وهو متعلق بحسدا لا بقوله : (وَدَّ).
وإنّما أمر
المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكى عن أهل الكتاب هنا مما
يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ) [الحجرات : ٧] فلا
جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيرا للغضب
خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا
مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل.
والعفو ترك عقوبة
المذنب. والصفح ـ بفتح الصاد ـ مصدر صفح صفحا إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن
شيء ولاه من صفحة وجهه ، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر
ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك
عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا
يستلزمه ولم يستغن
باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام
تلطفا من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق.
وقوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير
وقتل قريظة ، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية.
والظاهر أنه غاية
مبهمة للعفو والصفح تطمينا لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين
لهم بطلا وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي
الله أمرا كان مفعولا فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ، ومن ذلك إجلاء
بني النضير.
ولعل في قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليما للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء
وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عزوجل يدعون له ندا وهو يرزقهم» ، أو أراد أنه على كل شيء قدير
فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء
بصنع الله تعالى وقد قيل : إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية.
فجملة (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مسوق مساق التعليل ، وجملة (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى قوله : (وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ) [البقرة : ١١١]
تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث
الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام
والغرض به علاقة وتكميلا وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على
الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود أهل
الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة
بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضا. وقد جوزه صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) في سورة النحل [٤٣] ، وجوزه ابن هشام في «مغني اللبيب»
واحتج له بقوله تعالى : (فَاللهُ أَوْلى
بِهِما) [النساء : ١٣٥]
على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس [١١ ـ ١٣] (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أنه قال لا يصح أن تكون جملة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) اعتراضا لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب «الكشاف»
بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل.
وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) أريد به الأمر بالثبات على الإسلام فإن
الصلاة والزكاة
ركناه فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه على طريق الكناية.
وقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح.
وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم ولكنه لا يضيع عند الله
ولذلك اقتصر على قوله : (عِنْدَ اللهِ) قال الحطيئة :
من يفعل الخير
لا يعدم جوائزه
|
|
لا يذهب العرف
بين الله والناس
|
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تذييل لما قبله. والبصير العليم كما تقدم ، وهو كناية عن
عدم إضاعة جزاء المحسن والمسيء لأن العليم القدير إذا علم شيئا فهو يرتب عليه ما
يناسبه إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز ، وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيدا لغيرهم لأنه
إذا كان بصيرا بما يعمل المسلمون كان بصيرا بما يعمل غيرهم.
[١١١ ، ١١٢] (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (١١٢))
عطف على (وَدَّ كَثِيرٌ) [البقرة : ١٠٩]
وما بينهما من قوله : (فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا) [البقرة : ١٠٩]
الآية اعتراض كما تقدم.
والضمير لأهل
الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده : (إِلَّا مَنْ كانَ
هُوداً أَوْ نَصارى). ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل
الجنة إلا من كان هودا ، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، جمع
القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن
المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء ، ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل
فريق وهو قوله : (هُوداً أَوْ نَصارى) فكلمة (أو) من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام
المحكي فأو هنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله ، والقرينة على أن (أو)
ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة
وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه والمعلوم من حال أهل كل دين خلاف ذلك فإن كلا من
اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضا قرينة على
تعيين كل من خبري (كانَ) لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هودا إلى
مقول
اليهود وإرجاع
نصارى إلى مقول النصارى. فأو هاهنا للتوزيع وهو ضرب من التقسيم الذي هو من فروع
كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع
القولين في فعل واحد وهو (قالُوا) ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد
القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت (أو)
تعبيرا عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسما ثالثا من أقسام الإيجاز وهو
إيجاز حذف وقصر معا.
وقد جعل القزويني
في «تلخيص
المفتاح» هاته الآية من
قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذا من كلام «الكشاف» لقول صاحب «الكشاف» «فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله
وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين» فقوله : فلف بين القولين أراد
به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف
نشرا وتصويرا للف في الآية من قوله (قالُوا) : مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك
لقبوه اللف الإجمالي. ثم وقع نشر هذا اللف بقوله : (إِلَّا مَنْ كانَ
هُوداً أَوْ نَصارى) فعلم من حرف (أو) توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من
الفريقين. وقال التفتازانيّ في شرح المفتاح جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن
يذكر نشره بكلمة (أو).
والهود جمع هائد
أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢]
الآية وجمع فاعل على فعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج
من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضا عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد ،
وحائل وحول ، وبازل وبزل ، وفاره وفره ، وإنما جاء هودا جمعا مع أنه خبر عن ضميره (كان)
وهو مفرد لأن (من) مفردا لفظا ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى
خبرا وضميرا على مراعاة المعنى.
والإشارة ب (تِلْكَ) إلى القولة الصادرة منهم (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) كما هو الظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما
كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم
فيها فيكون من التشبيه البليغ.
والأماني تقدمت في
قوله : (لا يَعْلَمُونَ
الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) [البقرة : ٧٨]
وجملة (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) معترضة.
وقوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما
تقدم عند قوله : (قالُوا أَتَجْعَلُ
فِيها) [البقرة : ٣٠]
الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا
أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده
فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون
صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده.
و (بلى) إبطال
لدعواهما. و (بلي) كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت
بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى) [القيامة : ٣ ، ٤]
، وقول أبي حية النميري :
يخبرك الواشون
أن لن أحبكم
|
|
بلى وستور الله
ذات المحارم
|
وقوله : (مَنْ أَسْلَمَ) جملة مستأنفة عن (بلى) لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي
دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما
يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ) هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن (من) شرطية
لا محالة. ومن قدر هنا فعلا بعد (بلى) أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا
تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا.
وإسلام الوجه لله
هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح
وترك المقاومة قال تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠].
والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفري
:
إذا قطعوا رأسي
وفي الرأس أكثري
ومن إطلاق الوجه
على الذات قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧].
وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى :
__________________
وأول الحكم على
وجهه
|
|
ليس قضاء بالهوى
الجائر
|
ووجوه الناس
أشرافهم ويجوز أن يكون (أسلم) بمعنى أخلص مشتقا من السلامة أي جعله سالما ومنه (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) [الزمر : ٢٩].
وقوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده
ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن
تقصير.
وجمع الضمير في
قوله : (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) اعتبارا بعموم (من) كما أفراد الضمير في قوله : (وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) اعتبارا بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة
التكرار.
[١١٣] (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى
عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))
معطوف على قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١]
لزيارة بيان أن المجازفة دأبهم وأن رمي المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم فهم
يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة ، فقديما ما رمت اليهود النصارى بالضلال
ورمت النصارى اليهود بمثله فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون
الجنة ، وفي ذلك إنحاء على أهل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن
المشركين بأنهم يتخذون من طعن أهل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته
وثباتا على شركهم.
والمراد من القول
التصريح بالكلام الدال فهم قد قالوا هذا بالصراحة حين جاء وفد نجران إلى رسول الله
صلىاللهعليهوسلم وفيهم أعيان دينهم من النصارى فلما بلغ مقدمهم اليهود أتوهم
__________________
وهم عند النبي صلىاللهعليهوسلم فناظروهم في الدين وجادلوهم حتى تسابوا فكفر اليهود بعيسى
وبالإنجيل وقالوا للنصارى ما أنتم على شيء فكفر وفد نجران بموسى وبالتوراة وقالوا
لليهود لستم على شيء.
وقولهم (عَلى شَيْءٍ) نكرة في سياق النفي والشيء الموجود هنا مبالغة أي ليسوا
على أمر يعتد به. فالشيء المنفي هو العرفي أو باعتبار صفة محذوفة على حد قول عباس
بن مرداس :
وقد كنت في
الحرب ذا تدرإ
|
|
فلم أعط شيئا
ولم أمنع
|
أي لم أعط شيئا
نافعا مغنيا بدليل قوله ولم أمنع ، وسئل رسول الله عن الكهان فقال : «ليسوا بشيء»
، فالصيغة صيغة عموم والمراد بها في مجاري الكلام نفي شيء يعتد به في الغرض الجاري
فيه الكلام بحسب المقامات فهي مستعملة مجازا كالعام المراد به الخصوص أي ليسوا على
حظ من الحق فالمراد هنا ليست على شيء من الحق وذلك كناية عن عدم صحة ما بين أيديهم
من الكتاب الشرعي فكل فريق من الفريقين رمى الآخر بأن ما عنده من الكتاب لا حظ فيه
من الخير كما دل عليه قوله بعده : (وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ) فإن قوله : (وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ) جملة حالية جيء بها لمزيد التعجب من شأنهم أن يقولوا ذلك
وكل فريق منهم يتلون الكتاب وكل كتاب يتلونه مشتمل على الحق لو اتبعه أهله حق
اتباعه ، ولا يخلو أهل كتاب حق من أن يتبعوا بعض ما في كتابهم أو جل ما فيه فلا
يصدق قول غيرهم أنهم ليسوا على شيء.
وجيء بالجملة
الحالية لأن دلالتها على الهيئة أقوى من دلالة الحال المفردة لأن الجملة الحالية
بسبب اشتمالها على نسبة خبرية تفيد أن ما كان حقه أن يكون خبرا عدل به عن الخبر
لادعاء أنه معلوم اتصاف المخبر عنه به فيؤتى به في موقع الحال المفردة على اعتبار
التذكير به ولفت الذهن إليه فصار حالا له.
وضمير قوله : (هُمْ) عائد إلى الفريقين وقيل عائد إلى النصارى لأنهم أقرب
مذكور.
والتعريف في (الكتاب)
جعله صاحب «الكشاف» تعريف الجنس وهو يرمي بذلك إلى أن المقصود أنهم أهل علم كما
يقال لهم أهل الكتاب في مقابلة الأميين ، وحداه إلى ذلك قوله عقبه (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فالمعنى أنهم تراجموا بالنسبة إلى نهاية الضلال
وهم من أهل العلم
الذين لا يليق بهم المجازفة ومن حقهم الإنصاف بأن يبينوا مواقع الخطأ عند
مخالفيهم.
وجعل ابن عطية
التعريف للعهد وجعل المعهود التوراة أي لأنها الكتاب الذي يقرؤه الفريقان. ووجه
التعجيب على هذا الوجه أن التوراة هي أصل للنصرانية والإنجيل ناطق بحقيتها فكيف
يسوغ للنصارى ادعاء أنها ليست بشيء كما فعلت نصارى نجران ، وأن التوراة ناطقة
بمجيء رسل بعد موسى فكيف ساغ لليهود تكذيب رسول النصارى.
وإذا جعل الضمير
عائدا للنصارى خاصة يحتمل أن يكون المعهود التوراة كما ذكرنا أو الإنجيل الناطق
بأحقية التوراة وفي (يَتْلُونَ) دلالة على هذا لأنه يصير التعجب مشربا بضرب من الاعتذار
أعني أنهم يقرءون دون تدبر وهدا من التهكم وإلا لقال وهم يعلمون الكتاب وبهذا
يتبين أن ليست هذه الآية واردة للانتصار لأحد الفريقين أو كليهما.
وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي يشبه هذا القول قول فريق آخر غير الفريقين وهؤلاء الذين
لا يعلمون هم مقابل الذين يتلون الكتاب وأريد بهم مشركو العرب وهم لا يعلمون لأنهم
أمّيون وإطلاق (الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) على المشركين وارد في القرآن من ذلك قوله الآتي : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ
لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) [البقرة : ١١٨] بدليل
قوله : (كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة : ١١٨]
يعني كذلك قال اليهود والنصارى ، والمعنى هنا أن المشركين كذبوا الأديان كلها
اليهودية والنصرانية والإسلام والمقصود من التشبيه تشويه المشبه به بأنه مشابه
لقول أهل الضلال البحت.
وهذا استطراد
للإنحاء على المشركين فيما قابلوا به الدعوة الإسلامية ، أي قالوا للمسلمين مثل
مقالة أهل الكتابين بعضهم لبعض وقد حكى القرآن مقالتهم في قوله : (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١].
والتشبيه المستفاد
من الكاف في (كَذلِكَ) تشبيه في الادعاء على أنهم ليسوا على شيء والتقدير مثل ذلك
القول الذي قالته اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون ، ولهذا يكون لفظ (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) تأكيدا لما أفاده كاف التشبيه وهو تأكيد يشير إلى أن
المشابهة بين قول (الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) وبين قول اليهود والنصارى مشابهة تامة لأنهم لما قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ) قد كذّبوا اليهود والنصارى والمسلمين.
وتقديم الجار
والمجرور على متعلقه وهو (قالَ) إما لمجرد الاهتمام ببيان الماثلة
وإما ليغني عن حرف
العطف في الانتقال من كلام إلى كلام إيجازا بديعا لأن مفاد حرف العطف التشريك
ومفاد كاف التشبيه التشريك إذ التشبيه تشريك في الصفة. ولأجل الاهتمام أو لزيادته
أكد قوله (كَذلِكَ) بقوله (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فهو صفة أيضا لمعمول قالوا المحذوف أي قالوا مقولا مثل
قولهم. ولك أن تجعل (كَذلِكَ) تأكيدا لمثل قولهم وتعتبر تقديمه من تأخير ، والأول أظهر.
وجوز صاحب «الكشف»
وجماعة أن لا يكون قوله : (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أو قوله : (كَذلِكَ) تأكيدا للآخر وأن مرجع التشبيه إلى كيفية القول ومنهجه في
صدوره عن هوى ، ومرجع المماثلة إلى المماثلة في اللفظ فيكون على كلامه تكريرا في
التشبيه من جهتين للدلالة على قوة التشابه.
وقوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) الآية ، جاء بالفاء لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة
وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والحسد متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها وهو
خبر مراد به التوبيخ والوعيد والضمير المجرور بإضافة (بين) راجع إلى الفرق الثلاث
و (ما كانوا فيه يختلفون) يعم ما ذكر وغيره. والجملة تذييل.
[١١٤] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ
مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما
كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤))
عطف على (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى
عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣]
باعتبار ما سبق ذلك من الآيات الدالة على أفانين أهل الكتاب في الجراءة وسوء
المقالة أي إن قولهم هذا وما تقدمه ظلم ولا كظلم من منع مساجد الله وهذا استطراد
واقع معترضا بين ذكر أحوال اليهود والنصارى لذكر مساوئ المشركين في سوء تلقيهم
دعوة الإسلام الذي جاء لهديهم ونجاتهم.
والآية نازلة في
مشركي العرب كما في رواية عطاء عن ابن عباس وهو الذي يقتضيه قوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) الآية كما سيأتي وهي تشير إلى منع أهل مكة النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمين من الدخول لمكة كما جاء في حديث سعد بن معاذ حين
دخل مكة خفية وقال له أبو جهل : ألا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد أويتم الصباء ، وتكرر
ذلك في عام الحديبية.
وقيل نزلت في
بختنصر ملك أشور وغزوه بيت المقدس ثلاث غزوات أولاها في سنة ٦٠٦ قبل المسيح زمن الملك يهوياقيم ملك اليهود سبى
فيها جمعا من شعب إسرائيل. والثانية بعد ثمان سنين سبى فيها رؤساء المملكة والملك يهواكين بن
يهوياقيم ونهب المسجد المقدس من جميع نفائسه وكنوزه. والثالثة بعد عشر سنين في زمن الملك صدقيا فأسر الملك وسمل عينيه
وأحرق المسجد الأقصى وجميع المدينة وسبى جميع بني إسرائيل وانقرضت بذلك مملكة
يهوذا وذلك سنة ٥٧٨ قبل المسيح وتسمى هذه الواقعة بالسبي الثالث فهو في كل ذلك قد
منع مسجد بيت المقدس من أن يذكر فيه اسم الله وتسبب في خرابه.
وقيل : نزلت في
غزو طيطس الروماني لأورشليم سنة ٧٩ قبل المسيح فخرب بيت المقدس وأحرق التوراة وترك
بيت المقدس خرابا إلى أن بناه المسلمون بعد فتح البلاد الشامية. وعلى هاتين
الروايتين الأخيرتين لا تظهر مناسبة لذكرها عقب ما تقدم فلا ينبغي بناء التفسير
عليهما. والوجه هو التعويل على الرواية الأولى وهي المأثورة عن ابن عباس فالمناسبة
أنه بعد أن وفي أهل الكتاب حقهم من فضح نواياهم في دين الإسلام وأهله وبيان أن تلك
شنشنة متأصلة فيهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم وكان قد أشار إلى أن المشركين
شابهوهم في ذلك عند قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥]
عطف الكلام إلى بيان ما تفرع عن عدم ودادة المشركين نزول القرآن فبين أن ظلمهم في
ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم إذ منعوا مساجد الله وسدوا طريق الهدى وحالوا بين
الناس وبين زيارة المسجد الحرام الذي هو فخرهم وسبب مكانتهم وليس هذا شأن طالب
صلاح الخلق بل هذا شأن الحاسد المغتاظ.
والاستفهام بمن
إنكاري ولما كان أصل من أنها نكرة موصوفة أشربت معنى الاستفهام وكان الاستفهام
الإنكاري في معنى النفي صار الكلام من وقوع النكرة في سياق النفي فلذلك فسروه
بمعنى لا أحد أظلم.
والظلم الاعتداء
على حق الغير بالتصرف فيه بما لا يرضى به ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن
يوضع فيه والمعنيان صالحان هنا.
وإنما كانوا أظلم
الناس لأنهم أتوا بظلم عجيب فقد ظلموا المسلمين من المسجد الحرام وهم أحق الناس به
وظلموا أنفسهم بسوء السمعة بين الأمم.
وجمع المساجد وإن
كان المشركون منعوا الكعبة فقط إما للتعظيم فإن الجمع يجيء للتعظيم كقوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] ،
وإما لما فيه من أماكن العبادة وهي البيت والمسجد الحرام ومقام إبراهيم والحطيم ،
وإما لما يتصل به أيضا من الخيف ومنى والمشعر الحرام وكلها مساجد والإضافة على هذه
الوجوه على معنى لام التعريف العهدي ، وإما لقصد دخول جميع مساجد الله لأنه جمع
تعرف بالإضافة ووقع في سياق منع الذي هو في معنى النفي ليشمل الوعيد كل مخرب لمسجد
أو مانع من العبادة بتعطيله عن إقامة العبادات ويدخل المشركون في ذلك دخولا أوليا
على حكم ورود العام على سبب خاص والإضافة على هذا الوجه على معنى لام الاستغراق
ولعل ضمير الجمع المنصوب في قوله : (أَنْ يَدْخُلُوها) يؤيد أن المراد من المساجد مساجد معلومة لأن هذا الوعيد لا
يتعدى لكل من منع مسجدا إذ هو عقاب دنيوي لا يلزم اطراده في أمثال المعاقب.
والمراد من المنع منع العبادة في أوقاتها الخاصة بها كالطواف والجماعة إذا قصد
بالمنع حرمان فريق من المتأهلين لها منها. وليس منه غلق المساجد في غير أوقات
الجماعة لأن صلاة الفذ لا تفضل في المسجد على غيره ، وكذلك غلقها من دخول الصبيان
والمسافرين للنوم ، وقد سئل ابن عرفة في درس التفسير عن هذا فقال : غلق باب المسجد
في غير أوقات الصلاة حفظ وصيانة ا ه. وكذلك منع غير المتأهل لدخوله وقد منع رسول
الله المشركين الطواف والحج ومنع مالك الكافر من دخول المسجد ومعلوم منع الجنب
والحائض.
والسعي أصله المشي
ثم صار مجازا مشهورا في التسبب المقصود كالحقيقة العرفية نحو (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) [النازعات : ٢٢]
ويعدى بفي الدالة على التعليل نحو : سعيت في حاجتك فالمنع هنا حقيقة على الرواية
الأولى المتقدمة في سبب النزول والسعي مجاز في التسبب غير المقصود فهو مجاز على
مجاز. وأما على الروايتين الأخريين فالمنع مجاز والسعي حقيقة لأن بختنصر وطيطس لم
يمنعا أحدا من الذكر ولكنهما تسببا في الخراب بالأمر بالتخريب فأفضى ذلك إلى المنع
وآل إليه.
وقوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) جملة مستأنفة تغني عن سؤال ناشئ عن قوله : (مَنْ أَظْلَمُ) أو عن قوله : (سَعى) لأن السامع إذا علم أن فاعل هذا أظلم الناس أو سمع هذه
الجرأة وهي السعي في الخراب تطلب بيان جزاء من اتصف بذلك أو فعل هذا. ويجوز كونها
اعتراضا بين (مَنْ أَظْلَمُ) وقوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ).
والإشارة بأولئك
بعد إجراء الأوصاف الثلاثة عليهم للتنبيه على أنهم استحضروا بتلك الأوصاف ليخبر
عنهم بعد تلك الإشارة بخبرهم جديرون بمضمونه على حد ما تقدم في (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] وهذا
يدل على أن المقصود من هذه الجمل ليس هو بيان جزاء فعلهم أو التحذير منه بل
المقصود بيان هاته الحالة العجيبة من أحوال المشركين بعد بيان عجائب أهل الكتاب ثم
يرتب العقاب على ذلك حتى تعلم جدارتهم به وقد ذكر لهم عقوبتين دنيوية وهي الخوف
والخزي وأخروية وهي العذاب العظيم.
ومعنى (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا
خائِفِينَ) أنهم لا يكون لهم بعد هذه الفعلة أن يدخلوا تلك المساجد
التي منعوها إلا وهم خائفون فإن ما كان إذا وقع أن والمضارع في خبرها تدل على نفي
المستقبل وإن كان لفظ (كان) لفظ الماضي وأن هذه هي التي تستتر عند مجيء اللام نحو (ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) فلا إشعار لهذه الجملة بمضى.
واللام في قوله : (لَهُمْ) للاستحقاق أي ما كان يحق لهم الدخول في حالة إلا في حالة
الخوف فهم حقيقيون بها وأحرياء في علم الله تعالى وهذا وعيد بأنهم قدر الله عليهم
أن ترفع أيديهم من التصرف في المسجد الحرام وشعائر الله هناك وتصير للمسلمين
فيكونوا بعد ذلك لا يدخلون المسجد الحرام إلا خائفين ، ووعد للمؤمنين وقد صدق الله
وعده فكانوا يوم فتح مكة خائفين وجلين حتى نادى منادي النبي صلىاللهعليهوسلم «من دخل المسجد
الحرام فهو آمن» فدخله الكثير منهم مذعورين أن يؤخذوا بالسيف قبل دخولهم.
وعلى تفسير (مَساجِدَ اللهِ) بالعموم يكون قوله : (ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها) أي منعوا مساجد الله في حال أنهم كان ينبغي لهم أن يدخلوها
خاشعين من الله فيفسر الخوف بالخشية من الله فلذلك كانوا ظالمين بوضع الجبروت في
موضع الخضوع فاللام على هذا في قوله (ما كانَ لَهُمْ) للاختصاص وهذا الوجه وإن فرضه كثير من المفسرين إلا أن
مكان اسم الإشارة المؤذن بأن ما بعده ترتب عما قبله ينافيه لأن هذا الابتغاء متقرر
وسابق على المنع والسعي في الخراب.
وقوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) استئناف ثان ولم يعطف على ما قبله ليكون مقصودا الاستئناف
اهتماما به لأن المعطوف لكونه تابعا لا يهتم به السامعون كمال الاهتمام ولأنه يجري
من الاستئناف الذي قبله مجرى البيان من المبين فإن الخزي خوف والخزي الذل والهوان
وذلك ما نال صناديد المشركين يوم بدر من القتل الشنيع والأسر ، وما نالهم يوم
فتح مكة من خزي
الانهزام.
وقوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) عطفت على ما قبلها لأنها تتميم لها إذ المقصود من مجموعهما
أن لهم عذابين عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة.
وعندي أن نزول هذه
الآية مؤذن بالاحتجاج على المشركين من سبب انصراف النبي عن استقبال الكعبة بعد
هجرته فإن منعهم المسلمين من المسجد الحرام أشد من استقبال غير الكعبة في الصلاة
على حد قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧].
[١١٥] (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))
لما جاء بوعيدهم
ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ
ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها
لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه
وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف
رضى الله تعالى كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغني عنه العياذ بالمواضع
المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها قال تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ
أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤]
وقال صلىاللهعليهوسلم في بني إسرائيل : «نحن أحق بموسى منهم».
فالمراد من (الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) في الآية تعميم جهات الأرض لأنها تنقسم بالنسبة إلى مسير
الشمس قسمين قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي في حيث تغرب وهو تقسيم
اعتباري كان مشهورا عند المتقدمين لأنه المبني على المشاهدة مناسب لجميع الناس
والتقسيم الذاتي للأرض هو تقسيمها إلى شمالي وجنوبي لأنه تقسيم ينبني على اختلاف
آثار الحركة الأرضية.
وقد قيل إن هذه
الآية إذن للرسول صلىاللهعليهوسلم بأن يتوجه في الصلاة إلى أية جهة شاء ، ولعل مراد هذا
القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبيل نسخ
استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالى نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من
هذه ، والوجه أن يكون مقصد الآية عاما كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف
عن استقبال
الكعبة.
وتقديم الظرف
للاختصاص أي إن الأرض لله تعالى فقط لا لهم ، فليس لهم حق في منع شيء منها عن عباد
الله المخلصين.
و (وَجْهُ اللهِ) بمعنى الذات وهو
حقيقة لغوية تقول : لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة : ١١٢]
وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقبال بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك
، وهو أيضا كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم
للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) فقوله : (واسِعٌ) تذييل لمدلول (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله ، أنه
لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضى الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه
لقصد مرضاته ، وقد فسرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة.
[١١٦] (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً
سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦))
الضمير المرفوع
بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة
إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث.
وقد قرئ بالواو (وقالوا)
على أنه معطوف على قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ) [البقرة : ١١٣]
وهي قراءة الجمهور. وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف
الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافا كأنّ السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب
هؤلاء الفرق الثلاث جمعا وتفريقا تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجبا فهل
انتهت مساويهم أم لهم مساو أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساو لا تصدر إلا عن فطر
خبيثة.
وقد اجتمع على هذه
الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها ، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت
النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعا
إلى جمعهم في قرن إتماما لجمع أحوالهم الواقع في قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥]
وفي قوله : (كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة : ١١٣].
وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ
لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) [البقرة : ١١٨]
إلى قوله :
(كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨].
والقول هنا على
حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضا لأن
الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعتقاد.
وقوله : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) جاء بلفظ (اتخذ) تعريضا بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا
يلتئم لأنهم أثبتوا ولدا لله ويقولون اتخذه الله.
والاتخاذ الاكتساب
وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة
وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء
من وجود ضده كما يقول قائل : القتل جناية عظيمة فلا تكفّر مثل الردة.
وأصل هذه المقالة
بالنسبة للمشركين ناشئ عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشئ عن توغلهما في سوء
فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء
الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو
الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا تؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على
حقيقته.
جاء في التوراة في
الإصحاح ١٤ من سفر التثنية «أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم» وفي إنجيل
متى الإصحاح ٥ «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون» وفيه «وصلّوا لأجل
الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات» وفي
الإصحاح ٦ «انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن
وأبوكم السماوي يقوتها» وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على
ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما
جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث : «الخلق
عيال الله».
وقوله : (سُبْحانَهُ) تنزيه لله عن شنيع هذا القول. وفيه إشارة إلى أن الولديّة
نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالا في الشاهد لأنها إنما كانت كمالا في
الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال
والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه.
وقوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) إضراب عن قولهم لإبطاله ، وأقام الدليل على الإبطال بقوله
: (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالجملة استئناف ابتدائي واللام للملك و (ما في السماوات
والأرض) أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية.
و (ما) من صيغ
العموم تقع على العاقل وغيره وعلى المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في «المفصل»
واختاره الرضي. وقيل : (ما) تغلب أو تختص بغير العقلاء ومن تختص بالعقلاء وربما
استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفا وعليه فهم
يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلا للعقلاء في كونهم من صنع
الله بمنزلة مساوية لغيره من بقية الموجودات تصغيرا لشأن كل موجود.
والقنوت الخضوع
والانقياد مع خوف وإنما جاء (قانِتُونَ) بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليبا لأنهم أهل
القنوت عن إرادة وبصيرة.
والمضاف إليه
المحذوف بعد (كلّ) دلّ عليه قوله : (ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين (كل)
تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [البقرة : ١٤٨] في
هذه السورة.
وفي قوله : (لَهُ قانِتُونَ) حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما
الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبرّ به ولا يقنت ، فكان إثبات القنوت كناية عن
انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مساوي نقيضه ومساوي النقيض نقيض وإثبات
النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له.
وفصل جملة (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة
للدليل المسوق له قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ).
وقد استدل بها بعض
الفقهاء على أن من ملك ولده أعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات
العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن.
[١١٧] (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا
قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))
هو بالرفع خبر
لمحذوف على طريقة حذف المسند إليه لاتباع الاستعمال كما تقدم
في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ) [البقرة : ١٨]
وذلك من جنس ما يسمونه بالنعت المقطوع.
والبديع مشتق من
الإبداع وهو الإنشاء على غير مثال فهو عبارة عن إنشاء المنشآت على غير مثال سابق
وذلك هو خلق أصول الأنواع وما يتولد من متولّداتها ، فخلق السماوات إبداع وخلق
الأرض إبداع وخلق آدم إبداع وخلق نظام التناسل إبداع. وهو فعيل بمعنى فاعل فقيل هو
مشتق من بدع المجرد مثل قدر إذا صح وورد بدع بمعنى قدر بقلة أو هو مشتق من أبدع
ومجيء فعيل من أفعل قليل ، ومنه قول عمرو بن معديكرب :
أمن ريحانة
الداعي السميع
|
|
يؤرقني وأصحابي
هجوع
|
يريد المسمع ،
ومنه أيضا قول كعب بن زهير :
سقاك بها
المأمون كأسا رويّة
|
|
فانهلك المأمون
منها وعلّك
|
أي كأسا مروية.
فيكون هنا مما جاء قليلا وقد قدمنا الكلام عليه في قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢]
ويأتي في قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩].
وقد قيل في البيت تأويلات متكلفة والحق أنه استعمال قليل حفظ في ألفاظ من الفصيح
غير قليلة مثل النذير والبشير إلا أن قلته لا تخرجه عن الفصاحة لأن شهرته تمنع من
جعله غريبا. وأما كونه مخالفا للقياس فلا يمنع من استعماله إلا بالنسبة إلى
المولّد إذا أراد أن يقيس عليه في مادة أخرى.
وذهب صاحب «الكشاف» إلى أن بديع هنا صفة مشبهة مأخوذ من بدع بضم الدال أي
كانت البداعة صفة ذاتية له بتأويل بداعة السماوات والأرض التي هي من مخلوقاته
فأضيفت إلى فاعلها الحقيقي على جعله مشبها بالمفعول به وأجريت الصفة على اسم
__________________
الجلالة ليكون
ضميره فاعلالها لفظا على نحو زيد حسن الوجه كما يقال فلان بديع الشعر ، أي بديعة
سماواته.
وأما بيت عمرو
فإنما عينوه للتنظير ولم يجوزوا فيه احتمال أن يكون السميع بمعنى المسموع لوجوه أحدها أنه لم يرد سميع بمعنى مسموع مع أن فعيلا بمعنى مفعول غير
مطرد.
الثاني أن سميع وقع وصفا
للذات وهو الداعي وحكم سمع إذا دخلت على ما لا يسمع أن تصير من أخوات ظن فيلزم
مجيء مفعول ثان بعد النائب المستتر وهو مفقود الثالث أن المعنى ليس على وصف الداعي بأنه مسموع بل على وصفه بأنه
مسمع أي الداعي القاصد للإسماع المعلن لصوته وذلك مؤذن بأنه داع في أمر مهم.
ووصف الله تعالى
ببديع السماوات والأرض مراد به أنه بديع ما في السماوات والأرض من المخلوقات وفي
هذا الوصف استدلال على نفي بنوة من جعلوه ابنا لله تعالى لأنه تعالى لما كان خالق
السماوات والأرض وما فيهما ، فلا شيء من تلك الموجودات أهل لأن يكون ولدا له بل
جميع ما بينهما عبيد لله تعالى كما تقدم في قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٦] ولهذا
رتب نفي الولد على كونه بديع السموات والأرض في سورة الأنعام [١٠] بقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
وقوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إلخ كشف لشبهة
النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولدا بل يكوّن الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها
خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن
الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك
راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة
قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩]
فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى.
و (كان) في الآية
تامة لا تطلب خبرا أي يقول له : ايجد فيوجد. والظاهر أن القول والمقول والمسبب هنا
تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى
بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول
امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن التقريب بها في الأمور
التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب
«الكشاف» ونظره بقول أبي النجم :
إذ قالت الأنساع
للبطن ألحق
|
|
قدما فآضت
كالفنيق المحنق
|
والذي يعين كون
هذا تمثيلا أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجودا فليس هذا التقرير
الصادر من الزمخشري مبنيا على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في
الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به
آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.
[١١٨] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ
لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))
عطف على قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦]
المعطوف على قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصارى) [البقرة : ١١٣].
لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم
قول أهل الكتاب في الآية الماضية وهي (وَقالَتِ الْيَهُودُ) لأنهم الذين ابتدءوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم
ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول
أهل الكتاب.
وجمع الكل في (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبسا من الآخر بل
جميعه ناشئ من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء
كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول أهل الكتابين (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب : الملائكة بنات
الله.
وقدم قول المشركين
هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاش بينهم ، فلما كانوا مخترعي
هذا القول نسب إليهم ، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى ، إذ قالوا
مثل ذلك لرسلهم.
و (لَوْ لا) هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء
للرسول استكبارا بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا
مبالغة في الجهالة
__________________
لا يقولها أهل
الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل.
وقوله : (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود
لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن وهذا هو الظاهر من التنكير وقد
سألوا آيات مقترحات (وَقالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠]
الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية
العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا
عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا أهل إنصاف.
وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل
قولهم. والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ
جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥]
وسأل النصارى عيسى (هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٢].
وفي هذا الكلام
تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت
هذه الآية بقوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِ) [البقرة : ١١٩]
الآية. ثم يجوز أن تكون جملة (كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي
اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن
جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست
أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) تقريرا أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر ، وتكون جملة
(قَدْ بَيَّنَّا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل
الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من
الدلائل ، وأما هؤلاء فليسوا أهلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم
المكابرة.
ويجوز أن تكون
جملة (كَذلِكَ) (قال) إلى آخرها
معترضة بين جملة (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) وبين جملة (قَدْ بَيَّنَّا
الْآياتِ) وتجعل جملة (قَدْ بَيَّنَّا
الْآياتِ) هي الجواب عن مقالتهم. والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات
القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١].
ووقع الإعراض عن جواب قولهم (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا
اللهُ) لأنه بديهي البطلان كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا
لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى
رَبَّنا
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١].
والقول في مرجع
التشبيه والمماثلة من قوله (كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) على نحو القول في الآية الماضية (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة : ١١٣].
وقوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) تقرير لمعنى (قالَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا
في المقالة. فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية.
وقوله (تَشابَهَتْ) صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه
البليغ ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابئ :
تشابه دمعي إذ
جرى ومدامتي
|
|
فمن مثل ما في
الكأس عيني تسكب
|
وفي هذه الآية
جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ
هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولدا لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع
الله في الإلهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم
ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتى الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين
الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر.
وجيء بالفعل
المضارع في (يُوقِنُونَ) لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا
لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول
دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين
ليسوا من الموقنين.
وتبيين الآيات هو
ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله
كما تقدم ، وفي الحديث : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن
عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا
يوم القيامة» فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم
أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم
يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين.
[١١٩] (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩))
جملة معترضة بين
حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب ، القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام
من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن
يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقى منهم ما لقي من
المشركين أو أشد وقد قال «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم» فكان
لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له إذ أبلغ الرسالة وتطمين
لنفسه بأنه غير مسئول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم. وفيه تمهيد للتأييس من إيمان
اليهود والنصارى.
وجيء بالتأكيد وإن
كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه
من تنويه شأن الرسول.
وجيء بالمسند إليه
ضمير الجلالة تشريفا للنبي صلىاللهعليهوسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله
يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك.
وقوله : (بِالْحَقِ) متعلق بأرسلناك. والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك
من وجوه الحق المعجزات وهي كلها ملابسة للنبي صلىاللهعليهوسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد.
فالمعنى إنك رسول الله وإن القرآن حق منزل من الله.
وقوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف
وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧]
المتقدم آنفا ، وقيل : البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه.
وقوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) الواو للعطف وهو إما على جملة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) أو على الحال في قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) ويجوز كون الواو للحال.
قرأ نافع ويعقوب
بفتح الفوقية وسكون اللام على أنّ (لا) حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على
خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازا مرسلا بعلاقة
اللزوم لأن المعني بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه ، أو هو كناية
عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى إن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال
بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في
فظاعتها وشناعتها
، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسئول عنه نحو قول عائشة : «يصلي
أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن» ولهذا شاع عند أهل العلم إلقاء المسائل الصعبة
بطريقة السؤال نحو (فإن قلت) للاهتمام.
وقرأه جمهور
العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن (لا) نافية أي لا يسألك الله عن أصحاب
الجحيم وهو تقرير لمضمون (إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِ) والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلىاللهعليهوسلم : «وكلكم مسئول عن رعيته» أي لست مؤاخذا ببقاء الكافرين
على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة.
وما قيل إن الآية
نزلت في نهيه صلىاللهعليهوسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية
ولو صحت لكان حمل الآية على ذلك مجافيا للبلاغة إذ قد علمت أن قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكّر المكدرات خروج عن
الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع.
[١٢٠] (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا
النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ
اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠))
عطف على قوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) [البقرة : ١١٩] أو
على (إِنَّا أَرْسَلْناكَ)
[البقرة : ١١٩]
وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو
مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣]
وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم.
والنفي بلن مبالغة
في التأييس لأنها لنفي المستقبل وتأبيده.
والملة بكسر الميم
الدين والشريعة وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون
جامعة لهم كطريقة يتبعونها ، ويحتمل أنها مشتقة من أملّ الكتاب فسميت الشريعة ملة
لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم كما سميت دينا باعتبار قبول
الأمة لها وطاعتهم وانقيادهم.
ومعنى الغاية في (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام
يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته ، ولما كان
اتباع النبي ملتهم مستحيلا كان رضاهم عنه كذلك على حد (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ
فِي
سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠]
وقوله : (لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٢ ، ٣]
والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله : (وَلَا النَّصارى) للتنصيص على استقلالهم بالنفي وعدم الاقتناع باتباع حرف
العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك لإظهارهم شيئا من المودة للمسلمين كما في قوله
تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة : ٨٢]
وقد تضمنت هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبيء لأنه غير متبع ملتهم وأنهم لا يصدقون
القرآن لأنه جاء بنسخ كتابيهم.
وقوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أمر بالجواب عما تضمنه قوله : (وَلَنْ تَرْضى) من خلاصة أقوال لهم يقتضي مضمونها أنهم لا يرضيهم شيء مما
يدعوهم النبي إليه إلا أن يتبع ملتهم وأنهم يقولون إن ملتهم هدى فلا ضير عليه إن
اتبعها مثل قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١]
وغير ذلك من التلون في الإعراض عن الدعوة ولذلك جيء في جوابهم بما هو الأسلوب في
المجاوبة من فعل القول بدون حرف العطف.
ويجوز أن يكونوا
قد قالوا ما تضمنته الآية من قوله : (حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ). و (هُدَى اللهِ) ما يقدره للشخص من التوفيق أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا
أن يهديكم الله ، فالقصر حقيقي.
ويجوز أن يكون
المراد بهدى الله الذي أنزله إليّ هو الهدى يعني أن القرآن هو الهدى إبطالا
لغرورهم بأنّ ما هم عليه من الملة هو الهدى وأن ما خالفه ضلال. والمعنى أن القرآن
هو الهدى وما أنتم عليه ليس من الهدى لأن أكثره من الباطل. فإضافة الهدى إلى الله
تشريف ، والقصر إضافي. وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذ شيء حرفوه ووضعوه ، فيكون
القصر إما حقيقيا ادعائيا بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية فهدى غيره من الكتب
السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كلا هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل فلا ينافي
إثبات الهداية لكتابهم كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤]
وقوله : (وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْراةِ) [المائدة : ٤٦]
وإما قصرا إضافيا أي هو الهدى دون ما أنتم عليه من ملة مبدلة مشوبة بضلالات وبذلك
أيضا لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصائح الصالحة الصادرة عن الحكماء
وأهل العقول الراجحة والتجربة لكنه هدى ناقص.
وقوله : (هُوَ الْهُدى) الضمير ضمير فصل. والتعريف في الهدى تعريف الجنس
الدال على
الاستغراق ففيه طريقان من طرق الحصر هما ضمير الفصل وتعريف الجزأين وفي الجمع
بينهما إفادة تحقيق معنى القصر وتأكيده للعناية به فأيهما اعتبرته طريق قصر كان
الآخر تأكيدا للقصر وللخبر أيضا.
والتوكيد بإن
لتحقيق الخبر وتحقيق نسبته وإبطال تردد المتردد لأن القصر الإضافي لما كان المقصود
منه رد اعتقاد المخاطب قد لا يتفطن المخاطب إلى ما يقتضيه من التأكيد فزيد هنا
مؤكد آخر وهو حرف (إن) اهتماما بتأكيد هذا الحكم. فقد اجتمع في هذه الجملة عدة
مؤكدات هي : حرف إن والقصر ، إذ القصر تأكيد على تأكيد ما في «المفتاح» فهو في قوة
مؤكدين ، مع تأكيد القصر بضمير الفصل وهي تنحل إلى أربعة مؤكدات لأن القصر بمنزلة
تأكيدين وقد انضم إليهما تأكيد القصر بضمير الفصل وتأكيد الجملة بحرف (إن).
ولعل الآية تشير
إلى أن استقبال النبي صلىاللهعليهوسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة
اليهود كما سيأتي في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] ،
فأعلم رسوله بقوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى
تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس.
وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ
بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له. وعبر عن
طريقتهم هنالك بالملة نظرا لاعتقادهم وشهرة ذلك عند العرب ، وعبر عنها هنا
بالأهواء بعد أن مهد له بقوله : (إِنَّ هُدَى اللهِ
هُوَ الْهُدى) فإن الهوى رأي ناشئ عن شهوة لا عن دليل ، ولهذا لم يؤت
بالضمير الراجع للملة وعبر عنها بالاسم الظاهر فشملت أهواؤهم التكذيب بالنبيء
وبالقرآن واعتقادهم أن ملتهم لا ينقضها شرع آخر.
وقوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ) تحذير لكل من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام أهواء
الأمم الأخرى ، جاء على طريقة تحذير النبي صلىاللهعليهوسلم مثل : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وهو
جواب القسم ودليل جواب الشرط لأن اللام موطئة للقسم فالجواب لها. وجيء بإن الشرطية
التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأن هذا فرض ضعيف في شأن النبي
والمسلمين.
والولي القريب والحليف.
والنصير كل من يعين أحدا على من يريد به ضرا وكلاهما
فعيل بمعنى فاعل.
و (من) في قوله (مِنَ اللهِ) متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مثله بعد (وَلا نَصِيرٍ) أي نصير من الله.
و (من) في قوله : (مِنْ وَلِيٍ) مؤكدة للنفي. وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي
لا يقتضي نفي كل نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلا في قبيلة ويكون أنصاره من
جيرته. وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله
وأحباؤه فنفى ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم
الاقتصار على نفي الأعم.
وقد اشتملت جملة (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو
النصارى بشيء من استرضائهم طمعا في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة
مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإنّ
وبلام الابتداء في خبرها. واسمية جملة الجزاء وهي (ما لَكَ مِنَ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). وتأكيد النفي بمن في قوله (مِنْ وَلِيٍ). والإجمال ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله (مِنَ الْعِلْمِ). وجعل الذي جاء (أي أنزل إليه) هو العلم كله لعدم الاعتداد
بغيره لنقصانه. وتأكيد (مِنْ وَلِيٍ) بعطف (وَلا نَصِيرٍ) الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه ، فهو كالتأكيد
بالمرادف.
[١٢١] (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))
استئناف ناشئ عن
قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) [البقرة : ١٢٠] مع
قوله : (إِنَّ هُدَى اللهِ
هُوَ الْهُدى) [البقرة : ١٢٠]
لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى؟ كأنّ سائلا سأل : كيف
وهم متمسكون بشريعة؟ ومن الذي هو على هدى ممن اتّبع هاتين الشريعتين؟ فأجيب بأن
الذين أوتوا الكتاب وتلوه حقّ تلاوته هم الذين يؤمنون به.
ويجوز أن يكون
اعتراضا في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال
اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب ، وهو ينظر إلى قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما
وَراءَهُ)
[البقرة : ٩١]
إلخ. وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعبر والبيان. فقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة ، وهو من باب
رد العجز على الصدر. ولأحد هذين الوجهين فصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى
الجواب ، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله : (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ولما انتقل منه إليه وهو قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦]
وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١١٨].
وقوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ) حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته.
وانتصب (حَقَّ تِلاوَتِهِ) على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى
الموصوف أي تلاوة حقا.
و (الحق) هنا ضد
الباطل أي تلاوة مستوفية قوام نوعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاوة وتلك هي
التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارئ
ولم يفهم جميع ما أراده قائله كانت تلاوته غامضة ، فحق التلاوة هو العلم بما في
المتلو.
وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول ، وجيء باسم الإشارة
في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها
حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على
حد (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] فلا
شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوحديّتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن
إيمان غيرهم به كالعدم. فالقصر ادعائي. فضمير (بِهِ) راجع إلى (الكتاب) من قوله : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ). وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلىاللهعليهوسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم
العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء
والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبي الموعود به فمن هنا قال بعض
المفسرين إن ضمير (بِهِ) عائد إلى النبي صلىاللهعليهوسلم مع أنه لم يتقدم له معاد.
ويجوز أن يعود
الضمير من قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ) إلى الهدي في قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللهِ) [البقرة : ١٢٠] أي
يؤمنون بالقرآن أنه منزل من الله فالضمير المجرور بالباء راجع للكتاب في قوله : (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) والمراد به التوراة والإنجيل واللام للجنس ، أو التوراة
فقط لأنها معظم الدينين والإنجيل تكملة فاللام للعهد. ومن هؤلاء عبد الله بن سلام
من اليهود وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى.
والقول في قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) كالقول في (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) وهو تصريح بحكم مفهوم (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به
هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق
تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم
الخاسرون.
[١٢٢ ، ١٢٣] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
(١٢٣))
أعيد نداء بني
إسرائيل نداء التنبيه والإنذار والتذكير على طريقة التكرير في الغرض الذي سيق
الكلام الماضي لأجله ، فإنه ابتدأ نداءهم أولا بمثل هاته الموعظة في ابتداء
التذكير بأحوالهم الكثيرة خيرها وشرها عقب قوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦]
فذكر مثل هاته الجملة هناك كذكر المطلوب في صناعة المنطق قبل إقامة البرهان وذكرها
هنا كذكر النتيجة في المنطق عقب البرهان تأييدا لما تقدم وفذلكة له وهو من ضروب رد
العجز على الصدر.
وقد أعيدت هذه
الآية بالألفاظ التي ذكرت بها هنا لك للتنبيه على نكتة التكرير للتذكير ولم يخالف
بين الآيتين إلا من الترتيب بين العدل والشفاعة فهنالك قدم (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨]
وأخر (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها
عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨]
وهنا قدم (وَلا يُقْبَلُ مِنْها
عَدْلٌ) وأخر لفظ الشفاعة مسندا إليه (تَنْفَعُها) وهو تفنن والتفنن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول
المقصود من التكرير. وقد حصل مع التفنن نكتة لطيفة إذ جاءت الشفاعة في الآية
السابقة مسندا إليها المقبولية فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها ونفي قبول الشفاعة
لا يقتضي نفي أخذ الفداء فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس ، وأما في هذه الآية فقدم
الفداء لأنه أسند إليه المقبولية ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة فعطف
نفي نفع الشفاعة على نفي قبول الفداء للاحتراس أيضا.
والحاصل أن الذي
نفي عنه أن يكون مقبولا قد جعل في الآيتين أولا وذكر الآخر بعده. وأما نفي القبول
مرة عن الشفاعة ومرة عن العدل فلأن أحوال الأقوام في طلب الفكاك عن الجناة تختلف ،
فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفعاء ، ومرة يقدمون
الشفعاء فإذا لم
تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء.
وقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا
تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) مراد منه أنه لا عدل فيقبل ولا شفاعة شفيع يجدونه فتقبل
شفاعته لأن دفع الفداء متعذر وتوسط الشفيع لمثلهم ممنوع إذ لا يشفع الشفيع إلا لمن
أذن الله له. قال ابن عرفة فيكون نفي نفع الشفاعة هنا من باب قوله :
على لاحب لا يهتدى
بمناره
يريد أنها كناية
عن نفي الموصوف بنفي صفته الملازمة له كقولهم :
ولا ترى الضب بها
ينجحر
وهو ما يعبر عنه
المناطقة بأن السالبة تصدق مع نفي الموضوع وإنما يكون ذلك بطريق الكناية وأما أن
يكون استعمالا في أصل العربية فلا والمناطقة تبعوا فيه أساليب اليونان.
والقول في بقية
الآيات مستغنى عنه بما تقدم في نظيرتها.
وهنا ختم الحجاج
مع أهل الكتاب في هذه السورة وذلك من براعة المقطع.
__________________
[١٢٤] (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))
لما كملت الحجج
نهوضا على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام ، وتبين
سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله ، وسجل ذلك على زعماء
المعاندين أعني اليهود ابتداء بقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٤٠]
مرتين ، وأدمج معهم النصارى استطرادا مقصودا ، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون
الكتاب حق تلاوته ، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم
أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته ، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه
، وكانوا قد وخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب
للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبي والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير ، ومن
قولهم ليس المسلمون على شيء ، ومن قولهم (اتَّخَذَ اللهُ
وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ،
ومن قولهم (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا
اللهُ) [البقرة : ١١٨].
فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملا فيما اختصوا به ، وأخذوا
مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب
لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملا فيما اختصوا به ، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم
ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل ، هي الاتحاد في المقصد ،
فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم والتخويف ، تحريضهم على الإنصاف في تلقي
الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة
الأخروية. والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعا
له ، لأن العرب أشد اختصاصا بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم
حفظة حرمه ، ومنتمين قديما للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل
الكتابين.
فحقيق أن نجعل
قوله (وَإِذِ ابْتَلى) عطفا على قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] كما
دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من
كفر المشركين بالخالق في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] ،
عقبت تلك التذكرة بإنذار من كيفر بآيات الله من ذرية آدم بقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) [البقرة : ٣٨]
الآية ، ثم خص من بين
ذرية آدم بنو
إسرائيل الذين عهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقا
لما معهم ، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم. فتهيأ المقام لتذكير
الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب
، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن ، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء
البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك ، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف
بني إسرائيل بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٣٣]
ليفضي إلى قوله : (وَقالُوا كُونُوا
هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥]
فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء
منها وكذلك اليهود والنصارى. وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم
وإبراهيم ، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم. فتعين أن تقدير
الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات.
ومن الناس من زعم
أن قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) عطف على قوله (نِعْمَتِيَ) [البقرة : ١٢٢] أي
اذكروا نعمتي وابتلائي إبراهيم ، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل ، وتخلل (وَاتَّقُوا يَوْماً) [البقرة : ١٢٣]
بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية ، وقد أدمج في ذلك قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ).
وفي هذه الآية
مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام ، لإقامة الحجة
على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام
بوقوع النسخ فيه ، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر
لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيها على مزية
هذا الدين.
والابتلاء افتعال
من البلاء ، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩] ،
وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمنا انتظار فعله أو
تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز ، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه
بأوامر ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به ، وليس
في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف ، ولك أن
تجعله استعارة تمثيلية ، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة ، وهذا يدل على أن
إبراهيم أوحى إليه بنبوة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل
ما أمر به أوحى
إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) فتكون جملة (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) بدل بعض من جملة (وَإِذِ ابْتَلى) ، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) تفسيرا لابتلى.
والإمام الرسول
والقدوة.
و (إبراهيم) اسم
الرسول العظيم الملقب بالخليل وهو إبراهيم بن تارح (وتسمي العرب تارح آزر) بن
ناحور بن سروج ، ابن رعو ، ابن فالح ، ابن عابر ابن شالح ابن أرفكشاد ، ابن سام
ابن نوح هكذا تقول التوراة. ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين أب رحيم أو أب راحم
قاله السهيلي وابن عطية ، وفي التوراة أن اسم إبراهيم إبرام وأن الله لما أوحى إليه
وكلمه أمره أن يسمى إبراهيم لأنه يجعله أبا لجمهور من الأمم ، فمعنى إبراهيم على
هذا أبو أمم كثيرة.
ولد في أور
الكلدانيين سنة ١٩٩٦ ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح ، ثم انتقل به
والده إلى أرض كنعان (وهي أرض الفنيقيين) فأقاموا بحاران (هي حوران) ثم خرج منها
لقحط أصاب حاران فدخل مصر وزوّجه سارة وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة فرأى آية
صرفته عن مرامه فأكرمها وأهداها جارية مصرية اسمها هاجر وهي أم ولده إسماعيل ،
وسماه الله بعد ذلك إبراهيم ، وأسكن ابنه إسماعيل وأمه هاجر بوادي مكة ثم لما شب
إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك.
وتوفي إبراهيم سنة
١٧٧٣ ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح.
وفي اسمه لغات
للعرب : إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور ، والثانية إبراهام وقعت في
قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم ، الثالثة إبراهم وقعت في رجز لزيد
بن عمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به
إبراهيم
|
|
مستقبل الكعبة
وهو قائم
|
وذكر أبو شامة في
شرح حرز الأماني عن الفراء في إبراهيم ست لغات :
إبراهيم ، إبراهام
، إبراهوم ، إبراهم ، (بكسر الهاء) ، إبراهم (بفتح الهاء) إبراهم (بضم الهاء).
ولم يقرأ جمهور
القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعا سيقع
التنبيه عليها في مواضعها ، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في
معظم المصاحف
الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء ، قال أبو عمرو الداني لم أجد في مصاحف العراق
والشام مكتوبا إبراهم بميم بعد الهاء ولم يكتب في شيء من المصاحف إبراهام بالألف
بعد الهاء على وفق قراءة هشام ، قال أبو زرعة سمعت عبد الله بن ذكوان قال : سمعت
أبا خليد القارئ يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعا إبراهام قال أبو خليد : فذكرت
ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك ،
وقال أبو بكر ابن مهران روى عن مالك بن أنس أنه قيل له : إن أهل دمشق يقرءون
إبراهام ويدعون أنها قراءة عثمان رضياللهعنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ
أهل دمشق.
وتقديم المفعول
وهو لفظ (إبراهيم) لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة
الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله إبراهيم.
والكلمات الكلام
الذي أوحى الله به إلى إبراهيم إذ الكلمة لفظ يدل على معنى والمراد بها هنا الجمل
كما في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها
كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠]
، وأجملها هنا إذ ليس الغرض تفصيل شريعة إبراهيم ولا بسط القصة والحكاية وإنما
الغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله لتكاليف فأتى بها كاملة فجوزي
بعظيم الجزاء ، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة ، ولعل جمع الكلمات
جمع السلامة يؤذن بأن المراد بها أصول الحنيفية وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة ،
فلعل منها الأمر بذبح ولده ، وأمره بالاختتان ، وبالمهاجرة بهاجر إلى شقة بعيدة
وأعظم ذلك أمره بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا ، وقد سمي ذلك بلاء
في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ
الْمُبِينُ) [الصافات : ١٠٦].
وقوله : (فَأَتَمَّهُنَ) جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة
العزم. والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع.
وتعدية فعل أتم
إلى ضمير (كلمات) مجاز عقلي ، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له
وفي معنى الإتمام قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ،
وقوله : (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٥] ،
فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي
صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر ،
فدل قوله : (فَأَتَمَّهُنَ) مع إيجازه على الامتثال وإتقانه والفور فيه. وهذه الجملة
هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتلى
فامتثل كقولك دعوت
فلانا فأجاب.
وجملة (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عما اقتضاه قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ) من تعظيم الخبر والتنويه به ، لما يقتضيه ظرف (إذ) من
الإشارة إلى قصة من الأخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على
اقتصاصها ، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل
عليه قوله : (ابْتَلى).
والإمام مشتق من
الأم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فعال من صيغ الآلة سماعا كالعماد والنقاب
والإزار والرداء ، فأصله ما يحصل به الأم أي القصد ولما كان الدال على الطريق يقتدي
به السائر دل الإمام على القدوة والهادي.
والمراد بالإمام
هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع. وإنما
عدل عن التعبير برسولا إلى (إِماماً) ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها
بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم عليهالسلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى
الشام والحجاز ومصر ، وكان في جميع منازله محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على
الاقتداء ، وقد قيل إن دين برهما المتّبع في الهند أصله منسوب إلى اسم إبراهم عليهالسلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على
الحنيفية ، وليتأتّى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ، فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامة بأنواعها من
رسالة وملك وقدوة على حسب التهيّؤ فيهم ، وأقل أنواع الإمامة كون الرجل الكامل
قدوة لبنيه وأهل بيته وتلاميذه.
وقوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) جواب صدر من إبراهيم فلذا حكي بقال دون عاطف على طريق
حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ
فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠]
والمقول معطوف على خطاب الله تعالى إياه يسمونه عطف التلقين وهو عطف المخاطب كلاما
على ما وقع في كلام المتكلم تنزيلا لنفسه في منزلة المتكلم يكمّل له شيئا تركه
المتكلم إما عن غفلة وإما عن اقتصار فيلقنه السامع تداركه بحيث يلتئم من الكلامين
كلام تام في اعتقاد المخاطب.
وفي الحديث الصحيح
قال جرير بن عبد الله «بايعت النبي على شهادة أن لا إله إلا الله ـ إلخ ـ فشرط
عليّ والنصح لكل مسلم» ، ومنه قول ابن الزبير للذي سأله فلم يعطه
فقال لعن الله
ناقة حملتني إليك فقال ابن الزبير «إنّ وراكبها» ، وقد لقبوه عطف التلقين كما في «شرح التفتازانيّ على
الكشاف» وذلك لأن أكثر
وقوع مثله في موقع العطف ، والأولى أن تحذف كلمة عطف ونسمي هذا الصنف من الكلام
باسم التلقين وهو تلقين السامع المتكلم ما يراه حقيقا بأن يلحقه بكلامه ، فقد يكون
بطريقة العطف وهو الغالب كما هنا ، وقد يكون بطريقة الاستفهام الإنكاري والحال كقول
تعالى : (قالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
شَيْئاً) [البقرة : ١٧٠]
فإن الواو مع (لو) الوصلية واو الحال وليس واو العطف فهو إنكار على إلحاقهم
المستفهم عنه بقولهم ودعواهم ، وقد يكون بطريقة الاستثناء كقول العباس لمّا قال
النبي صلىاللهعليهوسلم في حرم مكة «لا يعضد شجره» فقال العباس إلّا الإذخر
لبيوتنا وقيننا ، وللكلام المعطوف عطف التلقين من الحكم حكم الكلام المعطوف هو
عليه خبرا وطلبا ، فإذا كان كما هنا على طريق العرض علم إمضاء المتكلم له إياه ،
بإقراره كما في الآية أو التصريح به كما وقع في الحديث «إلا الإذخر» ، ثم هو في
الإنشاء إذا عطف معمول الإنشاء يتضمن أن المعطوف له حكم المعطوف عليه ، ولما كان
المتكلم بالعطف في الإنشاء هو المخاطب بالإنشاء لزم تأويل عطف التلقين فيه بأنه
على إرادة العطف على معمول لازم الإنشاء ففي الأمر إذا عطف المأمور مفعولا على
مفعول الآمر كان المعنى زدني من الأمر فأنا بصدد الامتثال وكذا في المنهي.
والمعطوف محذوف دل عليه المقام أي وبعض من ذريتي أو وجاعل بعض من ذريتي.
والذّريّة نسل
الرجل وما توالد منه ومن أبنائه وبناته ، وهي مشتقة إما من الذّرّ اسما وهو صغار
النمل ، وإما من الذّرّ مصدرا بمعنى التفريق ، وإما من الذّرى والذّرو (بالياء
والواو) وهو مصدر ذرت الريح إذا سفت ، وإما من الذرء بالهمز وهو الخلق ، فوزنها
إما فعليّة بوزن النسب إلى ذر وضم الذال في النسب على غير قياس كما قالوا في النسب
إلى دهر دهريّ بضم الدال ، وإما فعّيلة أو فعّولة من الذرى أو الذرو أو الذرء
بإدغام الياءين أو الياء مع الواو أو الياء مع الهمزة بعد قلبها ياء وكل هذا تصريف
لاشتقاق الواضع فليس قياس التصريف.
وإنما قال إبراهيم
: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ولم يقل وذريتي لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم
تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة
لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.
وإنما سأل لذريته
ولم يقصر السؤال على عقبه كما هو المتعارف في عصبية القائل
لأبناء دينه على
الفطرة التي لا تقتضي تفاوتا فيرى أبناء الابن وأبناء البنت في القرب من الجد بل
هما سواء في حكم القرابة ، وأما مبنى القبلية فعلى اعتبارات عرفية ترجع إلى النصرة
والاعتزاز فأما قول :
بنونا بنو
أبنائنا وبناتنا
|
|
بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
|
فوهم جاهلي ، وإلا
فإن بني الأبناء أيضا بنوهم أبناء النساء الأباعد ، وهل يتكون نسل إلا من أب وأم.
وكذا قول :
وإنما أمهات
الناس أوعية
|
|
فيها خلقن
وللأبناء أبناء
|
فذلك سفسطة. وقد قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم للذي سأله عن الأحق بالبر من أبويه «أمك ثم أمك ثم أمك ثم
أبوك» وقال الله تعالى : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) [لقمان : ١٤].
وقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة
إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه
للآخر على طريقة الإيجاز ، وإنما لم يذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد
ذكر الصنف الآخر تعريضا بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم أهل
الكتاب ومشركو العرب هم الذين يحرمون من دعوته ، قال تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا
نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [آل عمران : ٦٧ ،
٦٨] ولأن المربي يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح ، فبيان الذين لا
تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين.
و (يَنالُ) مضارع نال نيلا بالياء إذا أصاب شيئا والتحق به أي لا يصيب
عهدي الظالمين أي لا يشملهم ، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد. وسمي وعد الله عهدا
لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهدا ولذلك سماه النبي عهدا في
قوله «أنشدك عهدك ووعدك» ، أي لا ينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم ، ولا يحسن
أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره ، وسيأتي ذكر
العهد في سورة الأعراف.
ومن دقة القرآن
اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهدا بأنه مع ذريته
ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين.
والمراد بالظالمين
ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]
والظلم يشمل أيضا عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ
وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات : ١١٣]
وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥]
فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى.
وفي الآية تنبيه
على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من
الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا
عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم. وإناطة الحكم بوصف الظالمين
إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم
العهد.
وفي الآية أن
المتصف بالكبيرة ليس مستحقا لإسناد الإمامة إليه أعني سائر ولايات المسلمين :
الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك. قال فخر
الدين : قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة
له. وفي «تفسير
ابن عرفة» تسليم ذلك. ونقل
ابن عرفة عن المازري والقرطبي عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار
فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصي فقال الخوارج والمعتزلة وبعض
أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب
وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه
إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال
الأمن بالخوف وإراقة الدماء انطلاق أيدي السفهاء والفساق في الأرض وهذا حكم كل
ولاية في قول علماء السنة ، وما نقل عن أبي حنيفة من جواز كون الفاسق خليفة وعدم
جواز كونه قاضيا قال أبو بكر الرازي الجصاص هو خطأ في النقل.
وقرأ الجمهور من
العشرة (عهدي) بفتح ياء المتكلم وهو وجه من الوجوه في ياء المتكلم وقرأه حمزة وحفص
بإسكان الياء.
[١٢٥] (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا
إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥))
تدرج في ذكر منقبة
إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة. و (إذ) أضافها إلى جلالته فقال : (بيتي) ،
واستهلال لفضيلة القبلة الإسلامية ، فالواو عاطفة على (ابْتَلى) [البقرة : ١٢٤]
وأعيدت (إذ) للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى ، ولا
التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر
الفضائل ، ولأن الواو لا تفيد ترتيبا.
والبيت اسم جنس
للمكان المتخذ مسكنا لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض ، وهو مكان من الأرض
يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلا به لنفسه ولمن يتبعه
فيكون مستقرا له وكنا يكنه من البرد والحر وساترا يستتر فيه عن الناس ومحطا لأثاثه
وشئونه ، وقد يكون خاصا وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة
الاجتماع في بني إسرائيل ، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة ،
وقد يكون من أديم مثل القباب ، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ
الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) [النحل : ٨٠] ،
ولا يكون بيتا إلا إذا كان مستورا أعلاه عن الحر والقر وذلك بالسقف لبيوت الحجر
وبيوت الأديم والخيام.
والبيت علم
بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا. وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي
أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع
أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا
والكتاب للقرآن والبيت للكعبة ، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه
كالصعق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس.
والكعبة بيت بناه
إبراهيم عليهالسلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد
ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى
كما قال : (أَنْ طَهِّرا
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وفي قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣٧]
وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير :
فأقسمت بالبيت
الذي طاف حوله
|
|
رجال بنوه من
قريش وجرهم
|
والمثابة مفعلة من
ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام ، والمراد بالمثابة أنه يقصده
الناس بالتعظيم ويلوذون به.
والمراد من الناس
سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم ، فتعريف الناس للجنس
المعهود ، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس.
ولما كان المقصود
من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله
لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون ، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين
مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه ، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه
الناس الذين ألفوه وهم كمّل الزائرين فهم يعودون إليه مرارا ، وكذلك كان الشأن عند
العرب.
والأمن مصدر أخبر
به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة. والأمن حفظ الناس من
الأضرار فتشريد الدعّار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن ، والانتصاف
من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن ، فالأمن يفسر في
كل حال بما يناسبه ، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم
يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف ، فجعل
الله لهم البيت أمنا للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى
: (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧]
فهذه منة على أهل الجاهلية ، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من
أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمنا كافيا. قال السهيلي فقوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧]
إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك
مصلحة لذرية إسماعيل عليهالسلام.
وقد اختلف الفقهاء
في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي
تفصيلها عند قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١]
الآية وليس من غرض هذه الآية.
والمراد من الجعل
في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل
الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه ، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم
ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة ، فدام ذلك الأمن
في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليهالسلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع
من أحكام الأمن في
الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى ، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من
الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب
في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي (نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة
بتشديد النون) كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافا من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس
قال لكم محمد المكي (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) [آل عمران : ٩٧]
أيّ أمن هنا؟ وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمنا في
مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم ، أو هو خبر مراد به الأمر مثل (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨].
وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى) قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفا على (جَعَلْنَا) فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس
أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا
واتخذوه ، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك
فاتخذوا ، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا
اتخذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفا بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد
:
فعلا فروع الأيهقان
وأطفلت
|
|
بالجلهتين
ظباؤها ونعامها
|
أراد وباضت نعامها
فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال ، فمآل القراءتين إلى مفاد واحد.
ومقام إبراهيم
يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ،
قال زيد بن عمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به
إبراهم
|
|
مستقبل الكعبة
وهو قائم
|
وبهذا الإطلاق جاء
في قوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ
وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧]
إذ الدخول من علائق البيت ، ويطلق مقام إبراهيم على الحجر الذي كان يقف عليه
إبراهيم عليهالسلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما
أخرجه البخاري ، وقد ثبتت آثار قدميه في الحجر. قال أنس بن مالك رأيت في المقام
أثر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، وهذا الحجر يعرف إلى
اليوم بالمقام ، وقد ركع النبي صلىاللهعليهوسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة
الفراغ من الطواف.
والمصلّى موضع
الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى ، وكان إبراهيم قد وضع المسجد
الحرام حول الكعبة ووضع الحجر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلّى على
الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخذا من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين.
والقراءتان
تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى كان من عهد إبراهيم عليهالسلام ولم يكن الحجر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصا
بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على
ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم المسجد الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند
المقام في طواف القدوم. روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : «وافقت ربي في
ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى) ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب
موجها للمسلمين فتكون جملة (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) معترضة بين جملة (جَعَلْنَا الْبَيْتَ
مَثابَةً لِلنَّاسِ) وجملة (وَعَهِدْنا إِلى
إِبْراهِيمَ) اعتراضا استطراديا ، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في
الآية يكون تأويل قول عمر «فنزلت» أنه نزل على النبي صلىاللهعليهوسلم شرع الصلاة عند حجر المقام بعد أن لم يكن مشروعا لهم
ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة
الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن
يراد بها معنى التشريع للمسلمين ، إعمالا للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه
في المقدمة التاسعة.
وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ) ، العهد أصله الوعد المؤكد وقوعه وقد تقدم آنفا عند قوله
تعالى : (قالَ لا يَنالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] ،
فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على الموصى العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل
عهدا إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهدا ، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل.
وقوله : (أَنْ طَهِّرا) أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير
للقول الضمني والمفسّر هو ما بعد (أن) فلا تقدير في الكلام ولو لا قصد حكاية القول
لما جاء بعد (أن) بلفظ الأمر ، ولقال بتطهير بيتي إلخ.
والمراد من تطهير
البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون
المتعبّد فيه مقبلا على العبادة دون تكدير ، ومن تطهير معنوي
وهو أن يبعد عنه
ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق ،
والمنافية للمروءة كالطواف عريا دون ثياب الرجال والنساء.
وفي هذا تعريض بأن
المشركين ليسوا أهلا لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال
تعالى : (وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤]
وقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨].
والطائفون
والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طواف واعتكاف وصلاة ،
وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو
اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف ، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام ،
وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكلّ من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم.
وقد جمع الطائف
والعاكف جمع سلامة ، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير ، تفننا في الكلام وبعدا عن
تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ
قانِتاتٍ تائِباتٍ) [التحريم : ٥]
الآية ، وقوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥]
الآية ، وقال ابن عرفة «جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل
بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت
بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع
سلامة» ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار
بالحدوث والتجدد ، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول
الأحوص الأنصاري :
فإذا تزول تزول
عن متخمّط
|
|
تخشى بوادره على
الأقران
|
قال أبو الفتح : «جاز
أن يتعلق على ببوادر ، وإن كان جمعا مكسرا والمصدر إذا كسر بعد بتكسيره عن شبه
الفعل ، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسرا نحو «مواعيد عرقوب أخاه» كان تعلق
حرف الجر به أجوز». فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل.
وخولف بين الركوع
والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجّد إلا أن الأكثر فيهما إذا
اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير :
لو يسمعون كما
سمعت كلامها
|
|
خروا لعزة ركعا
وسجودا
|
وقد علمتم من
النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود.
ولم يعطف السجود
على (الركع) لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان.
[١٢٦] (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))
عطف على (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً) [البقرة : ١٢٥]
لإفادة منقبة ثالثة لإبراهيم عليهالسلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا
، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على
إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون
أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة ، وفي ذلك
بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنينا إلى أحوالهم
، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد
الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله ، كما عرض بالآيات قبل ذلك
باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ
إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥].
واسم الإشارة في
قوله : (هذا بَلَداً) مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان
الذي عليه امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء ، أو
الذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء ، فإن الاستحضار بالذات مغن عن
الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم
الإشارة حينئذ واضح.
وأصل أسماء
الإشارة أن يستغنى بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبيينا لفظيا لأن الإشارة بيان
، وقد يزيدون الإشارة بيانا فيذكرون بعد اسم الإشارة اسما يعرب عطف بيان أو بدلا
من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا
الرجل يقول كذا ، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتمادا على حضور
المراد من اسم
الإشارة. وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو الواقع عند الدعاء ،
فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل
حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلدا آمنا
ورزق أهله من الثمرات ، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا
ترى أنه لما جعل البلد مفعولا ثانيا استغنى عن بيان اسم الإشارة ، وفي سورة
إبراهيم [٣٥] لما جعل (آمِناً) مفعولا ثانيا بين اسم الإشارة بلفظ (البلد) ، فحصل من
الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمنا.
والبلد المكان
المتسع من الأرض المتحيز عامرا أو غامرا ، وهو أيضا الأرض مطلقا ، قال صنّان اليشكري
:
لكنّه حوض من
أودى بإخوته
|
|
ريب المنون
فأضحى بيضة البلد
|
يريد بيضة النعام
في أدحيّ النعام أي محل بيضه ، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى
أهلها بها وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة والظاهر أن
دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت
إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر ،
ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصا
لنبوة سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولا بسكان وقت مجيء إبراهيم
وامرأته وابنه ، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطورا
والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات.
والآمن اسم فاعل
من أمن ضد خاف ، وهو عند الإطلاق عدم الخوف من عدو ومن قتال وذلك ما ميز الله مكة
به من بين سائر بلاد العرب ، وقد يطلق الأمن على عدم الخوف مطلقا فتعين ذكر متعلقه
، وإنما يوصف بالأمن ما يصح اتصافه بالخوف وهو ذو الإدراكية ، فالإخبار بآمنا عن
البلد إما بجعل وزن فاعل هنا للنسبة بمعنى ذا أمن كقول النابغة :
كليني لهم يا
أميمة ناصب
أي ذي نصب ، وإما
على إرادة آمنا أهله على طريقة المجاز العقلي لملابسة المكان. ثم إن كان المشار
إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضا فيها بيت أو بيتان. فالتقدير في الكلام
اجعل هذا المكان
بلدا آمنا أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة.
وإن كان المشار
إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام
«الكشاف» هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له وأما
حكاية دعوته في سورة إبراهيم [٣٥] بقوله : (اجْعَلْ هَذَا
الْبَلَدَ آمِناً) فتلك دعوة له بعد أن صار بلدا.
ولقد كانت دعوة
إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة فإن أمن البلاد والسبل يستتبع جميع خصال سعادة
الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها ، وهو يستتبع التعمير
والإقبال على ما ينفع والثروة فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا
اختل اختلت الثلاثة الأخيرة ، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد
وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام.
والثّمرات جمع
ثمرة وهي ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له ، وكأن اسمه
منتسب من اسم التمر بالمثناة فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمر الرّطب
وبالمثناة التمر اليابس.
وللثمرة جموع
متعددة وهي ثمر بالتحريك وثمار ، وثمر ، بضمتين ، وأثمار ، وأثامير ، قالوا : ولا
نظير له في ذلك إلا أكمة جمعت على أكم وإكام وأكم وآكام وأكاميم.
والتعريف في
الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس
ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء من التي للتبعيض ، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية
حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه.
وقوله : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ) بدل بعض من قوله (أَهْلَهُ) يفيد تخصيصه لأن أهله عام إذ هو اسم جمع مضاف وبدل البعض
مخصص.
وخصّ إبراهيم
المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان لساكنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة
إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان ، فجعل تيسير الرزق لهم على
شرط إيمانهم باعثا لهم على الإيمان ، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالا
أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤]
فقال : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] أن
غير المؤمنين ليسوا أهلا لإجراء رزق الله عليهم وقد أعقب الله دعوته بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً).
ومقصد إبراهيم من
دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد
آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال
الحنيفية وهي خصال الكمال ، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا
أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر قرنا.
وجملة ؛ (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة
، وضمير (قالَ) عائد إلى الله ، فمن جوز أن يكون الضمير في (قالَ) لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن
المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله : (فَأُمَتِّعُهُ).
وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) الأظهر أنه عطف على جملة : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) باعتبار القيد وهو قوله : (مَنْ آمَنَ) فيكون قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ وضمن الموصول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على
طريقة شائعة في مثله ، لما قدمناه في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] أن
عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادرا من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلا على حصول
الغرض من الإنشاء والزيادة عليه ، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر
فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرهم ، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان
مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم.
ومعنى (أمتعه)
أجعل الرزق له متاعا ، و (قَلِيلاً) صفة لمصدر محذوف لبعد قوله : (فَأُمَتِّعُهُ) والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله :
(ثُمَّ أَضْطَرُّهُ
إِلى عَذابِ النَّارِ).
وفي هذه الآية
دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنعم الدنيا ،
وقال الأشعري لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في
الدنيا ملاذ على وجه الاستدراج ، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري
والماتريدي ، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظيا وإن عده السبكي في عداد الخلاف
المعنوي.
وقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) احتراس من أن يغتر الكافر بأنّ تخويله النعم في الدنيا
يؤذن برضى الله فلذلك ذكر العذاب هنا.
و (ثم) للتراخي
الرتبي كشأنها في عطف الجمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى
العذاب متأخرا عن
تمتيعه بالمتاع القليل.
والاضطرار في
الأصل الالتجاء وهو بوزن افتعل مطاوع أضره إذا صيره ذا ضرورة أي حاجة ، فالأصل أن
يكون اضطر قاصرا لأن أصل المطاوعة عدم التعدي ولكن الاستعمال جاء على تعديته إلى
مفعول وهو استعمال فصيح غير جار على قياس يقال اضطرّه إلى كذا أي ألجأه إليه ،
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان [٢٤] : (نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ).
وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تذييل والواو للاعتراض أو للحال والخبر محذوف هو المخصوص
بالذم وتقديره هي.
[١٢٧] (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ
الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ
أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧))
هذه منقبة ثالثة
لإبراهيم عليهالسلام ، وتذكير بشرف الكعبة ، ووسيلة ثالثة إلى التعريض
بالمشركين بعد قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) [البقرة : ١٢٨]
إلخ ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٤٢]
ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على
سوابقها مع الاقتران بإذ تنبيها على الاستقلال.
وخولف الأسلوب
الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى
كونه بالمضارع لاستحضار الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن
الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية ، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه
بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء
الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤]
إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشئونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن
أحواله حاضرة مشاهدة ، وكلمة (إذ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن
يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي.
والقواعد جمع
قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ
لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن
اللصوق بالأرض ثم
عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علّامة.
ورفع القواعد
إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جدارا لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير
كالشيء الواحد فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعا ، ويجوز جعل القواعد
بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها ، وقد جعل ارتفاع جدران
البيت تسعة أذرع. ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها
معنى التشريف ، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت ، وفي إسناد الرفع
بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه
المقارن له. وعطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله.
وللإشارة إلى
التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول
والمتعلقات ، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن
مثله في كلام العرب ، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور
الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول ، وإذا أردت أن تجعل
المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف مواليا للمعطوف عليه.
وإسماعيل اسم
الابن البكر لإبراهيم عليهالسلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية ، ولد في أرض الكنعانيين
بين قادش وبارد سنة ١٩١٠ عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح.
ومعنى إسماعيل
بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملا
بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر
لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية
ومعناه الذي يسمع له الله ، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم
على ذبحه ففداه الله ، وإسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق ،
وكان إسماعيل مقيما بمكة حول الكعبة ، وتوفي بمكة سنة ١٧٧٣ ثلاث وسبعين وسبعمائة
وألف قبل ميلاد المسيح تقريبا ، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة.
وجملة (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ
أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مقول قول محذوف يقدر حالا من (يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء
لذريته لأن إسماعيل
كان حينئذ صغيرا.
والعدول عن ذكر
القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له
الإخبار بالفعل المضارع في قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ) حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال.
وجملة (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل لطلب التقبل منهما ، وتعريف جزءي هذه الجملة
والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع
غيره وعلم غيره منزلة العدم. ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا باعتبار متعلق خاص أي السميع
العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم
ينبه عليه علماء المعاني.
[١٢٨] (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨))
فائدة تكرير
النداء بقوله : (رَبَّنا) إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته
الدعوات مقصودة بالذات ، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى
فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة
بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي : (رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً) [البقرة : ١٢٩].
والمراد بمسلمين
لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد ، ولما كان الانقياد للخالق بحق
يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله
كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد ، ووجه تسمية ذلك إسلاما سيأتي
عند قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ،
وأما قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤]
فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد ، فالإيمان والإسلام
متغايران مفهوما وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق ، فالتوحيد في زمن الفترة
إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال ، وانقياد المغلوب
المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان ، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان
والإسلام نادرتان.
ألهم الله إبراهيم
اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنسي هذا الاسم بعد
إبراهيم ولم يلقب
به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماما للحنيفية دين إبراهيم
وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ
يَهُودِيًّا) في سورة آل عمران [٦٧].
ومعنى طلب أن
يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه ، لأن
الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله : (إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ) [البقرة : ١٣١]
الآية.
وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ) يتعين أن يكون (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) و (مُسْلِمَةً) معمولين لفعل (وَاجْعَلْنا) بطريق العطف ، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما ، و (من)
في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) للتبعيض ، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعا بين الحرص على
حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه
ستكون ذريته أمما كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من
اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة ، وهذا من أدب الدعاء وقد
تقدم نظيره في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤].
ومن هنا ابتدئ
التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك ، والتمهيد لشرف الدين
المحمدي.
والأمة اسم مشترك
يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من
نسب أو دين أو زمان ، ويقال أمة محمد مثلا للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان
بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهي بزنة فعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة
وضحكة وقدوة ، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، لأن
الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها ، مثل الأمة العربية
لأنها ترجع إليها قبائل العرب ، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب
الإسلامية ، وأما قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨]
فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم
وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه.
وقد استجيبت دعوة
إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم
كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى
قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] ،
وأما من
أسلموا من بني
إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة.
وقوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمرا مجملا
، ففعل (أَرِنا) هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم
به الراغب في «المفردات» والزمخشري في «المفصل» وتعدت بالهمز إلى مفعولين. وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول
واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازا في العلم بجعل العلم اليقيني
شبيها برؤية البصر ، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى
إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار
عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولا ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله
بذكر حال لازمة إتماما للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعا مثلا ثم يقول : أراني فلان
الهلال طالعا ، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها ، ألا
ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان
بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني
فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد روي قول الفند
الزّمّاني :
عسى أن يرجع
الأيّا
|
|
م قوما كالذي
كانوا
|
وقال حطائط بن
يعفر :
أريني جوادا مات
هزلا لعلّني
|
|
أرى ما ترين أو
بخيلا مخلّدا
|
فإن جملة مات هزلا
ليست خبرا عن جوادا إذ المبتدأ لا يكون نكرة ، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر
في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالا لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم
الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة.
وقرأ ابن كثير
ويعقوب (وَأَرِنا) بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء
تخفيفا أيضا ، وجملة (إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تعليل لجمل الدعاء.
والمناسك جمع منسك
وهو اسم مكان من نسك نسكا من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح
تقربا ، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠].
[١٢٩] (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))
كرر النداء لأنه
عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصا
على تمام هديهم.
وإنما قال : (فِيهِمْ) ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون
ذلك الرسول رسولا إليهم فقط ، ولذلك حذف متعلق (رَسُولاً) ليعم ، فالنداء في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ) اعتراض بين جمل الدعوات المتعاطفة ، ومظهر هذه الدعوة هو
محمد صلىاللهعليهوسلم فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما ،
وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل ، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس
من ذرية إسماعيل ، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من
ذرية إسماعيل.
وجاء في التوراة (في
الإصحاح ١٧ من التكوين) «ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم» وقال له : أنا الله القدير
سر أمامي وكن كاملا فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا وفي فقرة ٢٠ وأما
إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا». وذكر عبد الحق
الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجودا بها
سنة ٧٣٦ ست وثلاثين وسبعمائة في كتاب له سماه «الحسام المحدود في الرد على اليهود»
: أن كلمة كثيرا جدا أصلها في النص العبراني «مادا مادا» وأنها رمز في التوراة
لاسم محمد بحساب الجمّل لأن عدد حروف «مادا مادا» بحساب الجمّل عند اليهود تجمع
عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد ا ه وتبعه على هذا البقاعي في «نظم الدرر».
ومعنى (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرؤها عليهم قراءة تذكير ، وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم
بكتاب فيه شرع. فالآيات جمع آية وهي الجملة من جمل القرآن ، سميت آية لدلالتها على
صدق الرسول بمجموع ما فيها من دلالة صدور مثلها من أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وما
نسجت عليه من نظم أعجز الناس عن الإتيان بمثله ، ولما اشتملت عليه من الدلالة
القاطعة على توحيد الله وكمال صفاته دلالة لم تترك مسلكا للضلال في عقائد الأمة
بحيث أمنت هذه الأمة من الإشراك ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم في خطبة حجة الوداع «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم
هذا».
وجيء بالمضارع في
قوله : (يَتْلُوا) للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر تلاوته.
والحكمة العلم
بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده ، وعن مالك : الحكمة معرفة
الفقه والدين والاتباع لذلك ، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكلاهما ناظر إلى أن عطف الحكمة على الكتاب يقتضي شيئا
من المغايرة بزيادة معنى وسيجيء تفصيل معنى الحكمة عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) في هذه السورة [٢٦٩].
والتزكية التطهير
من النقائص وأكبر النقائص الشرك بالله ، وفي هذا تعريض بالذين أعرضوا عن متابعة
القرآن وأبوا إلا البقاء على الشرك.
وقد جاء ترتيب هذه
الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ثم يكون
تعليم معانيه قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٨ ،
١٩] العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن.
وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل لتقريب الإجابة أي لأنك لا يغلبك أمر عظيم ولا يعزب
عن علمك وحكمتك شيء. والحكيم بمعنى المحكم هو فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم نظيره في
قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠]
وقوله : (قالُوا سُبْحانَكَ لا
عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢].
[١٣٠ ، ١٣١] (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١))
موقع هاته الآيات
من سوابقها موقع النتيجة بعد الدليل ، فإنه لما بين فضائل إبراهيم من قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) [البقرة : ١٢٤]
إلى هنا علم أن صاحب هاته الفضائل لا يعدل عن دينه والاقتداء به إلا سفيه العقل
أفن الرأي ، فمقتضى الظاهر أن تعطف على سوابقها بالفاء وإنما عدل من الفاء إلى
الواو ليكون مدلول هذه الجملة مستقلا بنفسه في تكميل التنويه بشأن إبراهيم وفي أن
هذا الحكم حقيق بملة إبراهيم من كل جهة لا من خصوص ما حكي عنه في الآيات السالفة
وفي التعريض بالذين حادوا عن الدين الذي جاء متضمنا لملة إبراهيم ، والدلالة عن
التفريع لا تفوت لأن وقوع الجملة بعد سوابقها متضمنة هذا المعنى دليل على أنها
نتيجة لما تقدم كما تقول أحسن فلان تدبير المهم وهو رجل حكيم ولا تحتاج إلى أن
تقول فهو رجل حكيم.
والاستفهام
للإنكار والاستبعاد ، واستعماله في الإنكار قد يكون مع جواز إرادة قصد الاستفهام
فيكون كناية ، وقد يكون مع عدم جواز إرادة معنى الاستفهام فيكون مجازا في الإنكار
ويكون معناه معنى النفي ، والأظهر أنه هنا من قبيل الكناية فإن الإعراض عن ملة
إبراهيم مع العلم بفضلها ووضوحها أمر منكر مستبعد. ولما كان شأن المنكر المستبعد
أن يسأل عن فاعله استعمل الاستفهام في ملزومه وهو الإنكار والاستبعاد على وجه
الكناية مع أنه لو سئل عن هذا المعرض لكان السؤال وجيها ، والاستثناء قرينة عن
إرادة النفي واستعمال اللفظ في معنيين كنائيين ، أو ترشيح للمعنى الكنائي وهما
الإنكار. والاستفهام لا يجيء فيه ما قالوا في استعمال اللفظ المشترك في معنييه
واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو في مجازيه لأن الدلالة على المعنى الكنائي
بطريق العقل بخلاف الدلالة على المعنيين الموضوع لهما الحقيقي وعلى المعنى الحقيقي
والمجازي إذ الذين رأوا ذلك منعوا بعلة أن قصد الدلالة باللفظ على أحد المعنيين
يقتضي عدم الدلالة به على الآخر لأنه لفظ واحد فإذا دل على معنى تمت دلالته وأن
الدلالة على المعنيين المجازيين دلالة باللفظ على أحد المعنيين فتقضى أنه نقل من
مدلوله الحقيقي إلى مدلول مجازي وذلك يقتضي عدم الدلالة به على غيره لأنه لفظ واحد
، وقد أبطلنا ذلك في المقدمة التاسعة ، أما المعنى الكنائي فالدلالة عليه عقلية
سواء بقي اللفظ دالا على معناه الحقيقي أم تعطلت دلالته عليه. ولك أن تجعل استعمال
الاستفهام في معنى الإنكار مجازا بعلاقة اللزوم كما تكرر في كل كناية لم يرد فيها
المعنى الأصلي وهو أظهر لأنه مجاز مشهور حتى صار حقيقة عرفية فقال النحاة : الاستفهام
الإنكاري نفي ولذا يجيء بعده الاستثناء ، والتحقيق أنه لا يطرد أن يكون بمعنى
النفي ولكنه يكثر فيه ذلك لأن شأن الشيء المنكر بأن يكون معدوما ولهذا فالاستثناء
هنا يصح أن يكون استثناء من كلام دل عليه الاستفهام كأنّ مجيبا أجاب السائل بقوله
: «لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه.
والرغبة طلب أمر
محبوب ، فحق فعلها أن يتعدى بفي وقد يعدى بعن إذا ضمن معنى العدول عن أمر وكثر هذا
التضمين في الكلام حتى صار منسيا.
والملة الدين
وتقدم بيانها عند قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة : ١٢٠].
وسفه بمعنى استخف
لأن السفاهة خفة العقل واضطرابه يقال تسفهه استخفه قال ذو الرمة :
مشين كما اهتزت
رماح تسفّهت
|
|
أعاليها مرّ
الرياح النّواسم
|
ومنه السفاهة في
الفعل وهو ارتكاب أفعال لا يرضى بها أهل المروءة. والسفه في المال وهو إضاعته وقلة
المبالاة به وسوء تنميته. وسفهه بمعنى استخفه وأهانه لأن الاستخفاف ينشأ عنه
الإهانة وسفه صار سفيها وقد تضم الفاء في هذا.
وانتصاب (نَفْسَهُ) إما على المفعول به أي أهملها واستخفها ولم يبال بإضاعتها
دنيا وأخرى ويجوز انتصابه على التمييز المحول عن الفاعل وأصله سفهت نفسه أي خفت
وطاشت فحوّل الإسناد إلى صاحب النفس على طريقة المجاز العقلي للملابسة قصدا
للمبالغة وهي أن السفاهة سرت من النفس إلى صاحبها من شدة تمكنها بنفسه حتى صارت
صفة لجثمانه ، ثم انتصب الفاعل على التمييز تفسيرا لذلك الإبهام في الإسناد المجازي
، ولا يعكر عليه مجيء التمييز معرفة بالإضافة لأن تنكير التمييز أغلبي.
والمقصود من قوله
: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) تسفيه المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام بعد أن بين لهم
الرسول صلىاللهعليهوسلم أن الإسلام مقام على أساس الحنيفية وهي معروفة عندهم بأنها
ملة إبراهيم قال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣]
وقال في الآية السابقة (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨]
وقال : (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة : ١٣٢]
إلى قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢].
وجملة (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) معطوفة على الجمل التي قبلها الدالة على رفعة درجة إبراهيم
عند الله تعالى إذ جعله للناس إماما وضمن له النبوءة في ذريته وأمره ببناء مسجد
لتوحيده واستجاب له دعواته.
وقد دلت تلك الجمل
على اختيار الله إياه فلا جرم أعقبت بعطف هذه الجملة عليها لأنها جامعة لفذلكتها
وزائدة بذكر أنه سيكون في الآخرة من الصالحين. واللام جواب قسم محذوف وفي ذلك
اهتمام بتقرير اصطفائه وصلاحه في الآخرة.
ولأجل الاهتمام
بهذا الخبر الأخير أكد بقوله : (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فقوله : (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ) إلى آخره اعتراض بين جملة (اصْطَفَيْناهُ) وبين الظرف وهو قوله : (إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ) ، إذ هو ظرف لاصطفيناه وما عطف عليه ، قصد من هذه الظرفية
التخلّص إلى منقبة أخرى ، لأن ذلك الوقت هو دليل اصطفائه حيث خاطبه الله
بوحي وأمره بما
تضمنه قوله (أَسْلِمْ) من معان جماعها التوحيد والبراءة من الحول والقوة وإخلاص
الطاعة ، وهو أيضا وقت ظهور أن الله أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كلّ ميسّر لما
خلق له.
وقد فهم أن مفعول (أَسْلِمْ) ومتعلقه محذوفان يعلمان من المقام أي أسلم نفسك لي كما دل
عليه الجواب بقوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ) وشاع الاستغناء عن مفعول أسلم فنزل الفعل منزلة اللازم
يقال أسلم أي دان بالإسلام كما أنبأ به قوله تعالى : (وَلكِنْ كانَ
حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران : ٦٧].
وقوله : (قالَ أَسْلَمْتُ) فصلت الجملة على طريقة حكاية المحاورات كما قدمناه في (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].
وقوله : (قالَ أَسْلَمْتُ) مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث كما اقتضاه وقوعه جوابا ،
قال ابن عرفة : إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام
وبدليله ا ه. يعني أن إبراهيم كان قد علم أن لهذا العالم خالقا عالما حصل له
بإلهام من الله فلما أوحى الله إليه بالإيمان صادف ذلك عقلا رشدا.
[١٣٢] (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ
وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢))
لما كان من شأن
أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم كان من مكملات ذلك
أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متّبعا مشهورا فكان من سننهم التوصية لمن
يظنونهم خلفا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم
منه ، فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان فكان لذلك أمرا نفيسا يجدر أن يحتفظ به.
والإيصاء أمر أو
نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصا أو عموما ، وفي فوته ضر ، فالوصية أبلغ من مطلق أمر
ونهي فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصى ولذلك كثر الإيصاء عند
توقع الموت كما سيأتي عند قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ
مِنْ بَعْدِي) [البقرة : ١٣٣] ،
وفي حديث العرباض : «وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون
فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا» الحديث ، وإما بالنسبة إلى الموصى
كالوصية عند
السفر في حديث
معاذ حين بعثه رسول الله صلىاللهعليهوسلم لليمن : «كان آخر ما أوصاني رسول الله حين وضعت رجلي في
الغرز أن قال حسّن خلقك للناس» ، وجاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له أوصني قال : «لا تغضب».
فوصية إبراهيم ويعقوب
إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية : (إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٣٣]
وإما في مظان خشية الفوات.
والضمير المجرور
بالباء عائد على الملة أو على الكلمة أي قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١]
فإن كان بالملة فالمعنى أنه أوصى أن يلازموا ما كانوا عليه معه في حياته ، وإن كان
الثاني فالمعنى أنه أوصى بهذا الكلام الذي هو شعار جامع لمعاني ما في الملة.
وبنو إبراهيم
ثمانية : إسماعيل وهو أكبر بنيه وأمه هاجر ، وإسحاق وأمه سارة وهو ثاني بنيه ،
ومديان ، ومدان ، وزمران ، ويقشان ، وبشباق ، وشوح ، وهؤلاء أمهم قطورة التي
تزوجها إبراهيم بعد موت سارة ، وليس لغير إسماعيل وإسحاق خبر مفصل في التوراة سوى
أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مدين أصحاب الأيكة وأن موسى عليهالسلام لما خرج خائفا من مصر نزل أرض مديان وأن يثرون أو رعوئيل (هو
شعيب) كان كاهن أهل مدين. وأما يعقوب فهو ابن إسحاق من زوجه رفقة الآرامية تزوجها
سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم فكان في زمن
إبراهيم رجلا ولقب بإسرائيل وهو جد جميع بني إسرائيل ومات يعقوب بأرض مصر سنة تسع
وثمانين وتسعمائة وألف قبل المسيح ودفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان (بلد الخليل)
حيث دفن جده وأبوه عليهمالسلام.
وعطف يعقوب على
إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكير بني إسرائيل (الذي هو يعقوب) بوصية جدهم فكما
عرض بالمشركين في إعراضهم عن دين أوصى به أبوهم عرض باليهود كذلك لأنهم لما
انتسبوا إلى إسرائيل وهو يعقوب الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم لتقام الحجة عليهم
بحق اتباعهم الإسلام.
وقوله : (يا بَنِيَ) إلخ حكاية صيغة وصية إبراهيم وسيجيء ذكر وصية يعقوب. ولما
كان فعل (أوصى) متضمنا للقول صح مجيء جملة بعده من شأنها أن تصلح لحكاية الوصية
لتفسر جملة (أوصى) ، وإنما لم يؤت بأن التفسيرية التي كثر مجيئها بعد جملة فيها
معنى القول دون حروفه ، لأن أن التفسيرية تحتمل أن يكون ما بعدها محكيا بلفظه أو
بمعناه والأكثر أن
يحكى بالمعنى ، فلما أريد هنا التنصيص على أن هذه الجملة حكاية لقول إبراهيم بنصه (ما
عدا مخالفة المفردات العربية) عوملت معاملة فعل القول نفسه فإنه لا تجيء بعده أن
التفسيرية بحال ، ولهذا يقول البصريون في هذه الآية إنه مقدر قول محذوف خلافا
للكوفيين القائلين بأن وصى ونحوه ناصب للجملة المقولة ، ويشبه أن يكون الخلاف
بينهم لفظيا.
و (اصْطَفى لَكُمُ) اختار لكم الدين أي الدين الكامل ، وفيه إشارة إلى أنه
اختاره لهم من بين الأديان وأنه فضلهم به لأن اصطفى لك يدل على أنه ادخره لأجله ،
وأراد به دين الحنيفية المسمى بالإسلام فلذلك قال : (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
ومعنى (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) النهي عن مفارقة الإسلام أعني ملة إبراهيم في جميع أوقات
حياتهم ، وذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت فنهي
أحد عن أن يموت غير مسلم أمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة فالمراد من
مثل هذا النهي شدة الحرص على تلك المنهي.
وللعرب في النهي
المراد منه النهي عن لازمه طرق ثلاثة : الأول : أن يجعلوا المنهي عنه مما لا قدرة
للمخاطب على اجتنابه فيدلوا بذلك على أن المراد نفي لازمه مثل قولهم لا تنس كذا أي
لا ترتكب أسباب النسيان ، ومثل قولهم : لا أعرفنك تفعل كذا أي لا تفعل فأعرفك لأن
معرفة المتكلم لا ينهى عنها المخاطب ، وفي الحديث : «فلا يذادن أقوام عن حوضي» ،
الثاني : أن يكون المنهي عنه مقدورا للمخاطب ولا يريد المتكلم النهي عنه ولكن عما
يتصل به أو يقارنه فيجعل النهي في اللفظ عن شيء ويقيده بمقارنه للعلم بأن المنهي
عنه مضطر لإيقاعه فإذا أوقعه اضطر لإيقاع مقارنه نحو قولك لا أراك بثياب مشوهة ،
ومنه قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، الثالث : أن يكون المنهي عنه ممكن الحصول ويجعله مفيدا
مع احتمال المقام لأن يكون النهي عن الأمرين إذا اجتمعا ولو لم يفعل أحدهما نحو لا
تجئني سائلا وأنت تريد أن لا يسألك فإما أن يجيء ولا يسأل وإما أن لا يجيء بالمرة
، وفي الثانية إثبات أن بني إبراهيم ويعقوب كانوا على ملة الإسلام وأن الإسلام جاء
بما كان عليه إبراهيم وبنوه حين لم يكن لأحد سلطان عليهم ، وفيه إيماء إلى أن ما طرأ
على بنيه بعد ذاك من الشرائع إنما اقتضته أحوال عرضت وهي دون الكمال الذي كان عليه
إبراهيم ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩]
وقال : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ
مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨].
[١٣٣] (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا
نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً
واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣))
تفصيل لوصية يعقوب
بأنه أمر أبناءه أن يكونوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وهي نظير ما وصى به
إبراهيم بنيه فأجمل هنا اعتمادا على ما صرح به في قوله سابقا : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ
الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢]
وهذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام ، وتمهيد لإبطال قولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥]
وإبطال لزعمهم أن يعقوب كان على اليهودية وأنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته فلا
يحولون عنها. وقد ذكر أن اليهود قالوا ذلك قاله الواحدي والبغوي بدون سند ، ويدل
عليه قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا
هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٤٠]
الآية فلذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالا لدعاوى اليهود ونقضا لمعتقدهم الذي
لا دليل عليه كما أنبأ به الإنكار في قوله : (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ) إلخ.
و (أَمْ) عاطفة جملة (كُنْتُمْ شُهَداءَ) على جملة (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [البقرة : ١٣٢]
فإن أم من حروف العطف كيفما وقعت ، وهي هنا منقطعة للانتقال من الخبر عن إبراهيم
ويعقوب إلى مجادلة من اعتقدوا خلاف ذلك الخبر ، ولما كانت أم يلازمها الاستفهام
كما مضى عند قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) [البقرة : ١٠٨]
إلخ فالاستفهام هنا غير حقيقي لظهور أن عدم شهودهم احتضار يعقوب محقق ، فتعين أن
الاستفهام مجاز ، ومحمله على الإنكار لأنه أشهر محامل الاستفهام المجازي ، ولأن
مثل هذا المستفهم عنه مألوف في الاستفهام الإنكاري.
ثم إن كون
الاستفهام إنكاريا يمنع أن يكون الخطاب الواقع فيه خطابا للمسلمين لأنهم ليسوا
بمظنة حال من يدعي خلاف الواقع حتى ينكر عليهم ، خلافا لمن جوز كون الخطاب
للمسلمين من المفسرين ، توهموا أن الإنكار يساوي النفي مساواة تامة وغفلوا عن
الفرق بين الاستفهام الإنكاري وبين النفي المجرد فإن الاستفهام الإنكاري مستعمل في
الإنكار مجازا بدلالة المطابقة وهو يستلزم النفي بدلالة الالتزام ، ومن العجيب
وقوع
الزمخشري في هذه
الغفلة ، فتعين أن المخاطب اليهود وأن الإنكار متوجه إلى اعتقاد اعتقدوه يعلم من
سياق الكلام وسوابقه وهو ادعاؤهم أن يعقوب مات على اليهودية وأوصى بها فلزمت ذريته
، فكان موقع الإنكار على اليهود واضحا وهو أنهم ادعوا ما لا قبل لهم بعلمه إذ لم
يشهدوا كما سيأتي ، فالمعنى ما كنتم شهداء احتضار يعقوب. ثم أكمل الله القصة
تعليما وتفصيلا واستقصاء في الحجة بأن ذكر ما قاله يعقوب حين اختصاره وما أجابه
أبناؤه وليس ذلك بداخل في حيز الإنكار ، فالإنكار ينتهي عند قوله : (الموت)
والبقية تكملة للقصة ، والقرينة على الأمرين ظاهرة اعتمادا على مألوف الاستعمال في
مثله فإنه لا يطال فيه المستفهم عنه بالإنكار ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] ،
فلما قال هنا : (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) ، علم السامع موقع الإنكار ، ثم يعلم أن قول أبناء يعقوب (نَعْبُدُ إِلهَكَ) لم يكن من دعوى اليهود حتى يدخل في حيز الإنكار لأنهم لو
ادعوا ذلك لم ينكر عليهم إذ هو عين المقصود من الخبر ، وبذلك يستقر كلا الكلامين
في قراره ، ولم يكن داع لجعل (أم) متصلة بتقدير محذوف قبلها تكون هي معادلة له ،
كأن يقدر أكنتم غائبين إذ حضر يعقوب الموت أم شهداء وأن الخطاب لليهود أو للمسلمين
والاستفهام للتقرير ، ولا لجعل الخطاب في قوله : (كُنْتُمْ) للمسلمين على معنى جعل الاستفهام للنفي المحض أي ما شهدتم
احتضار يعقوب أي على حد (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] وحد (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ) [آل عمران : ٤٤]
كما حاوله الزمخشري ومتابعوه ، وإنما حداه إلى ذلك قياسه على غالب مواقع استعمال
أمثال هذا التركيب مع أن موقعه هنا موقع غير معهود وهو من الإيجاز والإكمال إذ جمع
الإنكار عليهم في التقول على من لم يشهدوه ، وتعليمهم ما جهلوه ، ولأجل التنبيه
على هذا الجمع البديع أعيدت إذ في قوله : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) ليكون كالبدل من (إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) فيكون مقصودا بالحكم أيضا.
والشهداء جمع شهيد
بمعنى الشاهد أي الحاضر للأمر والشأن ، ووجه دلالة نفي المشاهدة على نفي ما نسبوه
إلى يعقوب هو أن تنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم.
وقوله تعالى : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ) هو من بقية القصة المنفي شهود المخاطبين محضرها فهذا من
مجيء القول في المحاورات كما قدمنا ، فقوله : (قالُوا أَتَجْعَلُ
فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠]
فيكون الكلام نفيا لشهودهم مع إفادة تلك الوصية ، أي ولو شاهدتم
ما اعتقدتم خلافها
فلما اعتقدوا اعتقادا كالضروري وبخهم وأنكر عليهم حتى يرجعوا إلى النظر في الطرق
التي استندوا إليها فيعلموا أنها طرق غير موصلة ، وبهذا تعلمون وجهة الاقتصار على
نفي الحضور مع أن نفي الحضور لا يدل على كذب المدعى لأن عدم الوجدان لا يدل على
عدم الوجود ، فالمقصود هنا الاستدراج في إبطال الدعوى بإدخال الشك على مدعيها.
وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) بدل من (إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) وفائدة المجيء بالخبر على هذه الطريقة دون أن يقال أم كنتم
شهداء إذ قال يعقوب لبنيه عند الموت ، هي قصد استقلال الخبر وأهمية القصة وقصد
حكايتها على ترتيب حصولها ، وقصد الإجمال ثم التفصيل لأن حالة حضور الموت لا تخلو
من حدث هام سيحكى بعدها فيترقبه السامع.
وهذه الوصية جاءت
عند الموت وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام
الموصى فيكون له رسوخ في نفوس الموصين ، أخرج أبو داود والترمذي عن العرباض بن
سارية قال : «وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا
رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا» الحديث.
وجاء يعقوب في
وصيته بأسلوب الاستفهام لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطّلع على خالص طويتهم
ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون من لأن
ما هي الأصل عند قصد العموم لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
واقترن ظرف (بَعْدِي) بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية
فقولك : جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت
معاملة حرف تأكيد.
وبنو يعقوب هم
الأسباط أي أسباط إسحاق ومنهم تشعبت قبائل بني إسرائيل وهم اثنا عشر ابنا : رأوبين
، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، (وهؤلاء أمهم ليئة) ويوسف
وبنيامين (أمهما راحيل) ودان ونفتالي (أمهما بلهة) وجاد وأشير (أمهما زلفة).
وقد أخبر القرآن
بأن جميعهم صاروا أنبياء وأن يوسف كان رسولا.
وواحد الأسباط سبط
ـ بكسر السين وسكون الباء ـ وهو ابن الابن أي الحفيد ، وقد اختلف في اشتقاق سبط
قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) في سورة الأعراف [١٦٠] عن الزجاج : الأظهر أن السبط عبراني
عرب ا ه. قلت : وفي العبرانية سيبط بتحتية بعد السين ساكنة.
وجملة : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ) جواب عن قوله : (ما تَعْبُدُونَ) جاءت على طريقة المحاورات بدون واو وليست استئنافا لأن
الاستئناف إنما يكون بعد تمام الكلام ولا تمام له قبل حصول الجواب.
وجيء في قوله : (نَعْبُدُ إِلهَكَ) معرفا بالإضافة دون الاسم العلم بأن يقول نعبد الله لأن
إضافة إله إلى ضمير يعقوب وإلى آبائه تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب وآباؤه
يصفون الله بها فيما لقنه لأبنائه منذ نشأتهم ، ولأنهم كانوا سكنوا أرض كنعان
وفلسطين مختلطين ومصاهرين لأمم تعبد الأصنام من كنعانيين وفلسطينيين وحثيين
وأراميين ثم كان موت يعقوب في أرض الفراعنة وكانوا يعبدون آلهة أخرى. وأيضا فمن
فوائد تعريف الذي يعبدونه بطريق الإضافة إلى ضمير أبيهم وإلى لفظ آبائه أن فيها
إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم.
وفي الإتيان بعطف
البيان من قولهم (إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ضرب من محسن الاطراد تنويها بأسماء هؤلاء الأسلاف كقول
ربيعة بن نصر بن قعين :
إن يقتلوك فقد
ثللت عروشهم
|
|
بعتيبة بن
الحارث بن شهاب
|
وإنما أعيد المضاف
في قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ) لأن إعادة المضاف مع المعطوف على المضاف إليه أفصح في
الكلام وليست بواجبة ، وإطلاق الآباء على ما شمل إسماعيل وهو عم ليعقوب إطلاق من
باب التغليب ولأن العم بمنزلة الأب.
وقد مضى التعريف
بإبراهيم وإسماعيل.
وأما إسحاق فهو
ابن إبراهيم وهو أصغر من إسماعيل بأربع عشرة سنة وأمه سارة. ولد سنة ١٨٩٦ ست
وتسعين وثمانمائة وألف قبل ميلاد المسيح وهو جد بني إسرائيل وغيرهم من أمم تقرب
لهم.
واليهود يقولون :
إن الابن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه وفداه الله هو إسحاق ، والحق أن الذي أمر
بذبحه هو إسماعيل في صغره حين لم يكن لإبراهيم ولد غيره ليظهر كمال
الامتثال ومن
الغريب أن التوراة لما ذكرت قصة الذبيح وصفته بالابن الوحيد لإبراهيم ولم يكن
إسحاق وحيدا قط ، وتوفي إسحاق سنة ثمان وسبعمائة وألف قبل الميلاد ودفن مع أبيه
وأمه في مغارة المكفيلة في حبرون (بلد الخليل).
وقوله : (إِلهاً واحِداً) توضيح لصفة الإله الذي يعبدونه فقوله : (إِلهاً) حال من (إِلهَكَ) ووقوع (إلها) حالا من (إلهك) مع أنه مرادف له في لفظه
ومعناه إنما هو باعتبار إجراء الوصف عليه بواحدا فالحال في الحقيقة هو ذلك الوصف ،
وإنما أعيد لفظ إلها ولم يقتصر على وصف واحدا لزيادة الإيضاح لأن المقام مقام
إطناب ففي الإعادة تنويه بالمعاد وتوكيد لما قبله ، وهذا أسلوب من الفصاحة إذ يعاد
اللفظ ليبنى عليه وصف أو متعلق ويحصل مع ذلك توكيد اللفظ السابق تبعا ، وليس
المقصود من ذلك مجرد التوكيد ومنه قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢]
وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧]
وقوله : (وَاتَّقُوا الَّذِي
أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء : ١٣٢ ،
١٣٣] إذ أعاد فعل أمدكم وقول الأحوص الأنصاري :
فإذا تزول تزول
عن متخمّط
|
|
تخشى بوادره على
الأقران
|
قال ابن جني في «شرح الحماسة» محال أن تقول : إذا قمت قمت لأنه ليس في الثاني غير ما في
الأول وإنما جاز أن يقول : فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر
المفاد منه الفائدة ، ومثله قول الله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ
أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] وقد
كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك.
وجوز صاحب «الكشاف»
أن يكون قوله : (إِلهاً واحِداً) بدلا من (إِلهَكَ) بناء على جواز إبدال النكرة الموصوفة من المعرفة مثل (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ
كاذِبَةٍ) [العلق : ٦٣] ، أو
أن يكون منصوبا على الاختصاص بتقدير امدح فإن الاختصاص يجيء من الاسم الظاهر ومن
ضمير الغائب.
وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) جملة في موضع الحال من ضمير (نَعْبُدُ) ، أو معطوفة على جملة (نَعْبُدُ) ، جيء بها اسمية لإفادة ثبات الوصف لهم ودوامه بعد أن أفيد
بالجملة الفعلية المعطوف عليها معنى التجدد والاستمرار.
[١٣٤] (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما
كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ
(١٣٤))
عقبت الآيات
المتقدمة من قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ
رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤]
بهذه الآية لأن تلك الآيات تضمنت الثناء على إبراهيم وبنيه والتنويه بشأنهم
والتعريض بمن لم يقتف آثارهم من ذريتهم وكأن ذلك قد ينتحل منه المغرورون عذرا
لأنفسهم فيقولون نحن وإن قصرنا فإن لنا من فضل آبائنا مسلكا لنجاتنا ، فذكرت هذه
الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال.
والإشارة بتلك
عائدة إلى إبراهيم وبنيه باعتبار أنهم جماعة وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه
وهو أمة.
والأمة تقدم
بيانها آنفا عند قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨].
وقوله : (قَدْ خَلَتْ) صفة لأمة ومعنى خلت مضت ، وأصل الخلاء الفراغ فأصل معنى
خلت خلا منها المكان فأسند الخلو إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقلي لنكتة
المبالغة ، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة وإلا فإن كونها
خلت مما لا يحتاج إلى الإخبار به ، ولذا فقوله : (لَها ما كَسَبَتْ) الآية بدل من جملة (قَدْ خَلَتْ) بدل مفصل من مجمل.
والخطاب موجه إلى
اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم ، فقوله : (لَها ما كَسَبَتْ) تمهيد لقوله : (وَلَكُمْ ما
كَسَبْتُمْ) إذ هو المقصود من الكلام ، والمراد بما كسبت وبما كسبتم
ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم ، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك
والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه.
ومن هذه الآية
ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب.
وتقديم المسندين
على المسند إليهما في (لَها ما كَسَبَتْ
وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها
إلى غيرها وما كسبتم لا يتجاوزكم ، وهو قصر إضافي لقلب اعتقاد المخاطبين فإنهم
لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي أو
يحمله عنهم أسلافهم.
وقوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ) معطوف على قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) وهو من تمام التفصيل لمعنى خلت ، فإن جعلت (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما
كَسَبْتُمْ) خاصا بالأعمال الصالحة فقوله : (وَلا تُسْئَلُونَ) إلخ تكميل للأقسام أي وعلى كل ما عمل من
الإثم ولذا عبر
هنالك بالكسب المتعارف في الادخار والتنافس وعبر هنا بالعمل. وإنما نفى السؤال عن
العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب
وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق
وهو شائع عند العرب قال زهير :
لعمري لنعم
الحيّ جرّ عليهم
|
|
بما لا يواتيهم
حصين بن ضمضم
|
فنفي أصل السؤال
أبلغ وأشمل للأمرين ، وإن جعلت قوله : (وَلَكُمْ ما
كَسَبْتُمْ) مرادا به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله : (وَلا تُسْئَلُونَ) إلخ احتراسا واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق
مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه ، أي لا تحاسبون
بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم.
[١٣٥] (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى
تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(١٣٥))
(وَقالُوا كُونُوا
هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا).
الظاهر أنه عطف
على قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] ،
فإنه بعد أن ذمهم بالعدول عن تلقي الإسلام الذي شمل خصال الحنيفية بين كيفية
إعراضهم ومقدار غرورهم بأنهم حصروا الهدى في اليهودية والنصرانية أي كل فريق منهم
حصر الهدى في دينه.
ووجه الحصر حاصل
من جزم (تَهْتَدُوا) في جواب الأمر فإنه على تقدير شرط فيفيد مفهوم الشرط أن من
لم يكن يهوديا لا يراه اليهود مهتديا ومن لم يكن نصرانيا لا يراه النصارى مهتديا
أي نفوا الهدى عن متبع ملة إبراهيم وهذا غاية غرورهم.
والواو في قال
عائدة لليهود والنصارى بقرينة مساق الخطاب في (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ) [البقرة : ١٣٣]
وقوله : (وَلَكُمْ ما
كَسَبْتُمْ) [البقرة : ١٣٤].
و (أو) في قوله : (أَوْ نَصارى) تقسيم بعد الجمع لأن السامع يرد كلا إلى من قاله ، وجزم (تَهْتَدُوا) في جواب الأمر للإيذان بمعنى الشرط ليفيد بمفهوم الشرط
أنكم إن كنتم على غير اليهودية والنصرانية فلستم بمهتدين.
(قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
جردت جملة (قل) من
العاطف لوقوعها في مقام الحوار مجاوبة لقولهم (كُونُوا هُوداً أَوْ
نَصارى تَهْتَدُوا) على نحو ما تقدم أي بل لا اهتداء إلا باتباع ملة إبراهيم
فإنها لما جاء بها الإسلام أبطل ما كان قبله من الأديان.
وانتصب (ملة)
بإضمار تتبع لدلالة المقام لأن (كُونُوا هُوداً) بمعنى اتبعوا اليهودية ، ويجوز أن ينصب عطفا على (هُوداً) والتقدير بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدي بن
حاتم لما وفد على النبي صلىاللهعليهوسلم ليسلم : «إني من دين أو من أهل دين» يعني النصرانية.
والحنيف فعيل
بمعنى فاعل مشتق من الحنف بالتحريك وهو الميل في الرجل قالت أم الأحنف ابن قيس
فيما ترقصه به :
والله لو لا حنف
برجله
|
|
ما كان في
فتيانكم من مثله
|
والمراد الميل في
المذهب أن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد. وإنما كان هذا مدحا للملة
لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلا عنهم
فلقب بالحنيف ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة. والوجه أن يجعل (حنيفا) حالا من (إبراهيم)
وهذا من مواضع الاتفاق على صحة مجيء الحال من المضاف إليه ولك أن تجعله حالا لملة
إلا أن فعيلا بمعنى فاعل يطابق موصوفه إلا أن تؤول ملة بدين على حد (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] أي
إحسانه أو تشبيه فعيل إلخ بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول.
وقد دلت هذه الآية
على أن الدين الإسلامي من إسلام إبراهيم.
وقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) جملة هي حالة ثانية من إبراهيم وهو احتراس لئلا يغتر
المشركون بقوله : (بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) أي لا نكون هودا ولا نصارى فيتوهم المشركون أنه لم يبق من
الأديان إلا ما هم عليه لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وإلا فليس ذلك من المدح
له بعد ما تقدم من فضائله وهذا على حد قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ) غلط فيه صاحب «الكشاف» غلطا فاحشا كما سيأتي.
[١٣٦] (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦))
بدل من جملة (قُلْ بَلْ مِلَّةَ) [البقرة : ١٣٥]
لتفصيل كيفية هاته الملة بعد أن أجمل ذلك في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً).
والأمر بالقول أمر
بما يتضمنه إذ لا اعتداد بالقول إلا لأنه يطابق الاعتقاد ، إذ النسبة إنما وضعت
للصدق لا للكذب ، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل
عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة ولما فيه من
الإنصاف وسلامة الطوية ، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون وليكون
هذا كالاحتراس بعد قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي نحن لا نطعن في شريعة موسى وشريعة عيسى وما أوتي
النبيئون ولا نكذبهم ولكنا مسلمون لله بدين الإسلام الذي بقي على أساس ملة إبراهيم
وكان تفصيلا لها وكمالا لمراد الله منها حين أراد الله إكمالها فكانت الشرائع التي
جاءت بعد إبراهيم كمنعرجات الطريق سلك بالأمم فيها لمصالح ناسبت أحوالهم وعصورهم
بعد إبراهيم كما يسلك بمن أتعبه المسير طريق منعرج ليهدأ من ركز السيارة في المحجة
فيحط رحله وينام ثم يرجع به بعد حين إلى الجادة ، ومن مناسبات هذا المعنى أن ابتدئ
بقوله (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا) ، واختتم بقوله (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) ، ووسّط ذكر ما أنزل على النبيئين بين ذلك.
وجمع الضمير ليشمل
النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمين فهم مأمورون بأن يقولوا ذلك. وجعله بدلا يدل على
أن المراد من الأمر في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ) النبي وأمته.
وأفرد الضمير في
الكلامين اللذين للنبي فيهما مزيد اختصاص بمباشرة الرد على اليهود والنصارى لأنه
مبعوث لإرشادهم وزجرهم وذلك في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) إلخ وقوله الآتي : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا
فِي اللهِ) [البقرة : ١٣٩]
وجمع الضمير في الكلام الذي للأمة فيه مزيد اختصاص بمضمون المأمور به في سياق
التعليم أعني قوله : (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ) إلخ لأن النبي صلىاللهعليهوسلم قد علم ذلك من قبل فيما تضمنته علوم الرسالة ، ولذلك لم
يخل واحد من هاته الكلامات ، عن الإيذان بشمول الأمة مع النبي ، أما هنا فظاهر
بجمع الضمائر كلها ، وأما في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ) إلخ فلكونه جوابا مواليا لقولهم : (كُونُوا هُوداً) [البقرة : ١٣٥]
بضمير الجمع فعلم أنه رد عليهم بلسان الجميع ، وأما في قوله الآتي : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) فلأنه بعد أن أفرد قل جمع الضمائر في (أَتُحَاجُّونَنا) ، و (رَبُّنا) ، و (لَنا) ، و (أَعْمالُنا) ، و (نَحْنُ) ، و (مُخْلِصُونَ) ، فانظر بدائع النظم في هاته الآيات ودلائل إعجازها.
وقدم الإيمان
بالله لأنه لا يختلف باختلاف الشرائع الحق ، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من
الشرائع.
والمراد بما أنزل
إلينا القرآن ، وبما عطف عليه ما أنزل على الأنبياء والرسل من وحي وما أوتوه من
الكتب ، والمعنى أنا آمنا بأن الله أنزل تلك الشرائع ، وهذا لا ينافي أن بعضها نسخ
بعضا ، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه ، ولذلك قدم (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) للاهتمام به ، والتعبير في جانب بعض هذه الشرائع بلفظ (أنزل)
وفي بعضها بلفظ (أوتي) تفنن لتجنب إعادة اللفظ الواحد مرارا ، وإنما لم يفرد أحد
الفعلين ولم تعطف متعلقاته بدون إعادة الأفعال تجنبا لتتابع المتعلقات فإنه كتتابع
الإضافات في ما نرى.
والأسباط تقدم
ذكرهم آنفا.
وجملة (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان
بحق بواحد منهم ، وهذا السؤال المقدر ناشئ عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان
برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره ، وهذه
زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة
فاقتلعها الإسلام ، قال أبو علي بن سينا في «الإشارات» ردا على من انتصر في
الفلسفة لأرسطو وتنقص أفلاطون «والمعلم الأول وإن كان عظيم المقدار لا يخرجنا
الثناء عليه إلى الطعن في أساتيذه».
وهذا رد على
اليهود والنصارى إذا آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمن جاء بعدهم ، فالمقصود عدم التفرقة
بينهم في الإيمان ببعضهم ، وهذا لا ينافي اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض.
وأحد أصله وحد
بالواو ومعناه منفرد وهو لغة في واحد ومخفف منه وقيل هو صفة مشبهة فأبدلت واوه
همزة تخفيفا ثم صار بمعنى الفرد الواحد فتارة يكون بمعنى ما ليس بمتعدد وذلك حين
يجري على مخبر عنه أو موصوف نحو (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) [الإخلاص : ١]
واستعماله كذلك قليل في الكلام ومنه اسم العدد أحد عشر ، وتارة يكون بمعنى فرد من
جنس وذلك حين يبين بشيء يدل على جنس نحو خذ أحد الثوبين ويؤنث نحو قوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢]
وهذا استعمال كثير وهو قريب في المعنى من الاستعمال الأول ، وتارة يكون بمعنى فرد
من جنس لكنه لا يبين بل يعمم وتعميمه قد يكون في الإثبات نحو قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة : ٦] ،
وقد يكون تعميمه
في النفي وهو أكثر أحوال استعماله نحو قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧]
وقول العرب : أحد لا يقول ذلك ، وهذا الاستعمال يفيد العموم كشأن النكرات كلها في
حالة النفي.
وبهذا يظهر أن أحد
لفظ معناه واحد في الأصل وتصريفه واحد ولكن اختلفت مواقع استعماله المتفرعة على
أصل وضعه حتى صارت بمنزلة معان متعددة وصار أحد بمنزلة المترادف ، وهذا يجمع مشتت
كلام طويل للعلماء في لفظ أحد وهو ما احتفل به القرافي في كتابه «العقد المنظوم في
الخصوص والعموم».
وقد دلت كلمة (بَيْنَ) على محذوف تقديره وآخر لأن بين تقتضي شيئين فأكثر.
وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا عند قوله تعالى : (إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٣].
[١٣٧] (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ
بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧))
كلام معترض بين
قوله : (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦]
وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨]
والفاء للتفريع ودخول الفاء في الاعتراض وارد في الكلام كثيرا وإن تردد فيه بعض
النحاة والتفريع على قوله : (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ) والمراد من القول أن يكون إعلانا أي أعلنوا دينكم واجهروا
بالدعوة إليه فإن اتبعكم الذين قالوا : (كُونُوا هُوداً أَوْ
نَصارى) [البقرة : ١٣٥]
فإيمانهم اهتداء وليسوا قبل ذلك على هدى خلافا لزعمهم أنهم عليه من قولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) فدل مفهوم الشرط على أنهم ليسوا على هدى ما داموا غير
مؤمنين بالإسلام.
وجاء الشرط هنا
بحرف (إن) المفيدة للشك في حصول شرطها إيذانا بأن إيمانهم غير مرجو.
والباء في قوله : (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) للملابسة وليست للتعدية أي إيمانا مماثلا لإيمانكم ،
فالمماثلة بمعنى المساواة في العقيدة والمشابهة فيها باعتبار أصحاب العقيدة وليست
مشابهة معتبرا فيها تعدد الأديان لأن ذلك ينبو عنه السياق ، وقيل لفظ مثل زائد ،
وقيل الباء للآلة والاستعانة ، وقيل : الباء زائدة ، وكلها وجوه متكلفة.
وقوله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي
شِقاقٍ) أي فقد تبين أنهم ليسوا طالبي هدى ولا حق إذ لا أبين من
دعوتكم إياهم ولا إنصاف أظهر من هذه الحجة.
والشقاق شدة
المخالفة ، مشتق من الشق بفتح الشين وهو الفلق وتفريق الجسم ، وجيء بفي للدلالة
على تمكن الشقاق منهم حتى كأنه ظرف محيط بهم. والإتيان بإن هنا مع أن توليهم هو
المظنون بهم لمجرد المشاكلة لقوله : (فَإِنْ آمَنُوا).
وفرع قوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) على قوله : (فَإِنَّما هُمْ فِي
شِقاقٍ) تثبيتا للنبي صلىاللهعليهوسلم لأن إعلامه بأن هؤلاء في شقاق مع ما هو معروف من كثرتهم
وقوة أنصارهم مما قد يتحرج له السامع فوعده الله بأنه يكفيه شرهم الحاصل من
توليهم.
والسين حرف يمحض
المضارع للاستقبال فهو مختص بالدخول على المضارع وهو كحرف سوف والأصح أنه لا فرق
بينهما في سوى زمان الاستقبال. وقيل إن سوف أوسع مدى واشتهر هذا عند الجماهير
فصاروا يقولون سوّفه إذا ماطل الوفاء بالآخر ، وأحسب أنه لا محيص من التفرقة بين
السين وسوف في الاستقبال ليكون لموقع أحدهما دون الآخر في الكلام البليغ خصوصية ثم
إن كليهما إذا جاء في سياق الوعد أفاد تخفيف الوعد ومنه قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ
لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧]
فالسين هنا لتحقيق وعد الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بأنه يكفيه سوء شقاقهم.
ومعنى كفايتهم
كفاية شرهم وشقاقهم فإنهم كانوا أهل تعصب لدينهم وكانوا معتضدين بأتباع وأنصار
وخاصة النصارى منهم ، وكفاية النبي كفاية لأمته لأنه ما جاء لشيء ينفع ذاته.
(وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) أي السميع لأذاهم بالقول العليم بضمائرهم أي اطمئن بأن
الله كافيك ما تتوجس من شرهم وأذاهم بكثرتهم ، وفي قوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وعد ووعيد.
[١٣٨] (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨))
هذا متصل بالقول
المأمور به في (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦]
وما بينها اعتراض كما علمت والمعنى آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل الأنبياء
من قبل إيمانا صبغة الله.
وصبغة ـ بكسر
الصاد ـ أصلها صبغ بدون علامة تأنيث وهو الشيء الذي يصبغ به
بزنة فعل الدال
على معنى المفعول مثل ذبح وقشر وكسر وفلق. واتصاله بعلامة التأنيث لإرادة الواحدة
مثل تأنيث قشرة وكسرة وفلقة ، فالصبغة الصبغ المعين المحضر لأن يصبغ به. وانتصابه
على أنه مفعول مطلق نائب عن عامله أي صبغنا صبغة الله كما انتصب (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ
وَعْدَهُ) [الروم : ٦] بعد
قوله : (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم : ٥]
بتقدير وعدهم النصر. أو على أنه بدل من قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٣٥] أي
الملة التي جعلها الله شعارنا كالصبغة عند اليهود والنصارى ، أو منصوبا وصفا لمصدر
محذوف دل عليه فعل (آمَنَّا بِاللهِ) والتقدير آمنا إيمانا صبغة الله ، وهذا هو الوجه الملائم
لإطلاق صبغة على وجه المشاكلة ، وما ادعاه صاحب «الكشاف» من أنه يفضي إلى تفكيك
النظم تهويل لا يعبأ به في الكلام البليغ لأن التئام المعاني والسياق يدفع التفكك
، وهل الاعتراض والمتعلقات إلا من قبيل الفصل يتفكك بها الألفاظ ولا تؤثر تفككا في
المعاني ، وجعله صاحب «الكشاف» تبعا لسيبويه مصدرا مبينا للحالة مثل الجلسة
والمشية وجعلوا نصبه على المفعول المطلق المؤكد لنفسه أي لشيء هو عينه أي إن مفهوم
المؤكد (بالفتح) والتأكيد متحدان فيكون مؤكدا لآمنا لأن الإيمان والصبغة متلازمان
على حد انتصاب (وَعْدَ اللهِ) من قوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ لا
يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) توكيدا لمضمون الجملة التي قبله وهي قوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) [الروم : ٤ ، ٥]
وفيه تكلفتان لا يخفيان.
والصبغة هنا اسم
للماء الذي يغتسل به اليهود عنوانا على التوبة لمغفرة الذنوب والأصل فيها عندهم
الاغتسال الذي جاء فرضه في التوراة على الكاهن إذا أراد تقديم قربان كفارة عن
الخطيئة عن نفسه أو عن أهل بيته ، والاغتسال الذي يغتسله الكاهن أيضا في عيد
الكفارة عن خطايا بني إسرائيل في كل عام ، وعند النصارى الصبغة أصلها التطهر في
نهر الأردن وهو اغتسال سنه النبي يحيى بن زكرياء لمن يتوب من الذنوب فكان يحيى يعظ
بعض الناس بالتوبة فإذا تابوا أتوه فيأمرهم بأن يغتسلوا في نهر الأردن رمزا للتطهر
الروحاني وكانوا يسمون ذلك «معموذيت» بذال معجمة وبتاء فوقية في آخره ويقولون أيضا
معموذيتا بألف بعد التاء وهي كلمة من اللغة الآرامية معناها الطهارة ، وقد عربه
العرب فقالوا معمودية بالدال المهملة وهاء تأنيث في آخره وياؤه التحتية مخففة.
وكان عيسى بن مريم
حين تعمد بماء المعمودية أنزل الله عليه الوحي بالرسالة ودعا اليهود إلى ما أوحى
الله به إليه وحدث كفر اليهود بما جاء به عيسى وقد آمن به يحيى فنشأ
الشقاق بين اليهود
وبين يحيى وعيسى فرفض اليهود التعميد ، وكان عيسى قد عمد الحواريين الذين آمنوا به
، فتقرر في سنة النصارى تعميد من يدخل في دين النصرانية كبيرا ، وقد تعمد قسطنطين
قيصر الروم حين دخل في دين النصرانية ، أما من يولد للنصارى فيعمدونه في اليوم
السابع من ولادته.
وإطلاق اسم الصبغة
على المعمودية يحتمل أن يكون من مبتكرات القرآن ويحتمل أن يكون نصارى العرب سموا
ذلك الغسل صبغة ، ولم أقف على ما يثبت ذلك من كلامهم في الجاهلية ، وظاهر كلام
الراغب أنه إطلاق قديم عند النصارى إذ قال : «وكانت النصارى إذا ولد لهم ولد غمسوه
بعد السابع في ماء معمودية يزعمون أن ذلك صبغة لهم».
أما وجه تسمية
المعمودية (صبغة) فهو خفي إذ ليس لماء المعمودية لون فيطلق على التلطخ به مادة ص ب
غ وفي «دائرة المعارف الإسلامية» أن أصل الكلمة من العبرية ص ب ع أي غطس ، فيقتضي أنه لما
عرب أبدلوا العين المهملة غينا معجمة لعله لندرة مادة صبع بالعين المهملة في
المشتقات وأيا ما كان فإطلاق الصبغة على ماء المعمودية أو على الاغتسال به استعارة
مبنية على تشبيه وجهه تخييلي إذ تخيلوا أن التعميد يكسب المعمد به صفة النصرانية
ويلونه بلونها كما يلون الصبغ ثوبا مصبوغا وقريب منه إطلاق الصبغ على عادة القوم
وخلقهم وأنشدوا لبعض ملوك همدان :
وكل أناس لهم صبغة
|
|
وصبغة همدان خير
الصّبغ
|
صبغنا على ذلك
أبناءنا
|
|
فأكرم بصبغتنا
في الصبغ
|
وقد جعل النصارى
في كنائسهم أحواضا صغيرة فيها ماء يزعمون أنه مخلوط ببقايا الماء الذي أهرق على
عيسى حين عمده يحيى وإنما تقاطر منه جمع وصب في ماء كثير ومن ذلك الماء تؤخذ مقادير
تعتبر مباركة لأنها لا تخلو عن جزء من الماء الذي تقاطر من اغتسال عيسى حين تعميده
كما ذلك في أوائل الأناجيل الأربعة.
فقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) رد على اليهود والنصارى معا أما اليهود فلأن الصبغة نشأت
فيهم وأما النصارى فلأنها سنة مستمرة فيهم ، ولما كانت المعمودية مشروعة لهم لغلبة
تأثير المحسوسات على عقائدهم رد عليهم بأن صبغة الإسلام الاعتقاد والعمل المشار
إليهما
__________________
بقوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦]
إلى قوله : (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦] أي
إن كان إيمانكم حاصلا بصبغة القسيس فإيماننا بصبغ الله وتلوينه أي تكييفه الإيمان
في الفطرة مع إرشاده إليه ، فإطلاق الصبغة على الإيمان استعارة علاقتها المشابهة
وهي مشابهة خفية حسنها قصد المشاكلة ، والمشاكلة من المحسنات البديعية ومرجعها إلى
الاستعارة وإنما قصد المشاكلة باعث على الاستعارة ، وإنما سماها العلماء المشاكلة
لخفاء وجه التشبيه فأغفلوا أن يسموها استعارة وسموها المشاكلة ، وإنما هي الإتيان
بالاستعارة لداعي مشاكلة لفظ للفظ وقع معه. فإن كان اللفظ المقصود مشاكلته مذكورا
فهي المشاكلة ، ولنا أن نصفها بالمشاكلة التحقيقية كقول ابن الرّقعمق :
قالوا اقترح
شيئا نجد لك طبخه
|
|
قلت اطبخوا لي
جبّة وقميصا
|
استعار الطبخ
للخياطة لمشاكلة قوله نجد لك طبخه ، وإن كان اللفظ غير مذكور بل معلوما من السياق
سميت مشاكلة تقديرية كقول أبي تمام :
من مبلغ أفناء
يعرب كلها
|
|
أني بنيت الجار
قبل المنزل
|
استعار البناء
للاصطفاء والاختيار لأنه شاكل به بناء المنزل المقدر في الكلام المعلوم من قوله
قبل المنزل ، وقوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) من هذا القبيل والتقدير في الآية أدق من تقدير بيت أبي
تمام وهو مبني على ما هو معلوم من عادة النصارى واليهود بدلالة قوله : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥]
على ما يتضمنه من التعميد.
والاستفهام في
قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ صِبْغَةً) إنكاري ومعناه لا أحسن من الله في شأن صبغته ، فانتصب (صبغة)
على التمييز ، تمييز نسبة محول عن مبتدأ ثان يقدر بعد (من) في قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ) والتقدير ومن صبغته أحسن من الله أي من صبغة الله قال أبو
حيان في «البحر
المحيط» : وقل ما ذكر
النحاة في التمييز المحول عن المبتدأ.
وقد تأتي بهذا
التحويل في التمييز إيجاز بديع إذ حذف كلمتان بدون لبس فإنه لما أسندت الأحسنية
إلى من جاز دخول من التفضيلية على اسم الجلالة بتقدير مضاف لأن
__________________
ذلك التحويل جعل
ما أضيفت إليه صبغة هو المحكوم عليه بانتفاء الأحسنية فعلم أن المفضل عليه هو
المضاف المقدر أي ومن أحسن من صبغة الله.
وجملة (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) عطف على (آمَنَّا) وفي تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله : (لَهُ عابِدُونَ) إفادة قصر إضافي على النصارى الذين اصطبغوا بالمعمودية
لكنهم عبدوا المسيح.
[١٣٩] (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ
رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُخْلِصُونَ (١٣٩))
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا
فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)).
استئناف عن قوله (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦]
كما تقدم هنا لك ، و (تُحَاجُّونَنا) خطاب لأهل الكتاب لأنه جواب كلامهم السابق ولدليل قوله
الآتي : (أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا
هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٤٠].
والاستفهام للتعجب
والتوبيخ ، ومعنى المحاجة في الله الجدال في شئونه بدلالة الاقتضاء إذ لا محاجة في
الذات بما هي ذات والمراد الشأن الذي حمل أهل الكتاب على المحاجة مع المؤمنين فيه
وهو ما تضمنته بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم من أن الله نسخ شريعة اليهود والنصارى وأنه فضله وفضل أمته
، ومحاجتهم راجعة إلى الحسد واعتقاد اختصاصهم بفضل الله تعالى وكرامته. فلذلك كان
لقوله (وَهُوَ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ) موقع في تأييد الإنكار أي بلغت بكم الوقاحة إلى أن تحاجونا
في إبطال دعوة الإسلام بلا دليل سوى زعمكم أن الله اختصكم بالفضيلة مع أن الله
ربنا كما هو ربكم فلما ذا لا يمن علينا بما منّ به عليكم؟.
فجملة (وَهُوَ رَبُّنا) حالية أي كيف تحاجوننا في هاته الحالة المعروفة التي لا
تقبل الشك ، وبهذه الجملة حصل بيان لموضوع المحاجة ، وكذلك جملة (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ) وهي عطف على الحال ارتقاء في إبطال مجادلتهم بعد بيان أن
المربوبية تؤهل لإنعامه كما أهلتهم ، ارتقى فجعل مرج رضى الله تعالى على عباده
أعمالهم فإذا كان قد أكرمكم لأجل الأعمال الصالحة فلعله أكرمنا لأجل صالحات
أعمالنا فتعالوا فانظروا أعمالكم وانظروا أعمالنا تجدوا حالنا أقرب إلى الصلاح
منكم.
قال البيضاوي : «كأنه
ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوءة إما تفضل من الله
على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة
فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها فلنا أيضا أعمال».
وتقديم المجرور في
(لَنا أَعْمالُنا) للاختصاص أي لنا أعمالنا لا أعمالكم فلا تحاجونا في أنكم
أفضل منا ، وعطف (وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ) احتراس لدفع توهم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في
أعمالهم وأن لنا أعمالنا يفيد اختصاص المتكلمين بما عملوا مع الاشتراك في أعمال
الآخرين وهو نظير عطف قوله تعالى : (وَلِيَ دِينِ) على قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ) [الكافرون : ٦].
وهذا كله من
الكلام المصنف مثل قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤].
وجملة (نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) عطف آخر على جملة الحال وهي ارتقاء ثالث لإظهار أن
المسلمين أحق بإفاضة الخير فإنهم وإن اشتركوا مع الآخرين في المربوبية وفي
الصلاحية لصدور الأعمال الصالحة فالمسلمون قد أخلصوا دينهم لله ومخالفوهم قد خلطوا
عبادة الله بعبادة غيره ، أي فلما ذا لا نكون نحن أقرب إلى رضى الله منكم إليه؟.
والجملة الاسمية
مفيدة الدوام على الإخلاص كما تقدم في قوله : (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦].
[١٤٠] (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى
قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً
عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠))
(أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا
هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ).
أم منقطعة بمعنى
بل وهي إضراب للانتقال من غرض إلى غرض وفيها تقدير استفهام وهو استفهام للتوبيخ
والإنكار وذلك لمبلغهم من الجهل بتاريخ شرائعهم زعموا أن إبراهيم وأبناءه كانوا
على اليهودية أو على النصرانية كما دل عليه قوله تعالى : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) ولدلالة آيات أخرى عليه مثل : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا
نَصْرانِيًّا) [آل عمران :
٦٧] ومثل قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ
فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ
أَفَلا تَعْقِلُونَ) [آل عمران : ٦٥]
والأمة إذا انغمست في الجهالة وصارت عقائدها غرورا ومن دون تدبر اعتقدت ما لا
ينتظم مع الدليل واجتمعت في عقائدها المتناقضات ، وقد وجد النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الفتح في الكعبة صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام في
الكعبة فتلا قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ) إلى قوله : (وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران : ٦٧]
وقال الله : وإن استقسم بها قط ، وقال تعالى في شأن أهل الكتاب : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ
وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). فرماهم بفقد التعقل.
وقرأ الجمهور وأبو
بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب بياء الغائب وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن
عاصم بتاء الخطاب على أن أم متصلة معادلة لقوله (أَتُحَاجُّونَنا فِي
اللهِ) [البقرة : ١٣٩]
فيكون قوله : (قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) أمرا ثانيا لا حقا لقوله : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) وليس هذا المحمل بمتعين لأن في اعتبار الالتفات مناصا من
ذلك.
ومعنى (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) التقدير ، وقد أعلمنا الله أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا
نصرانيا وهذا كقوله في سورة آل عمران [٦٥] : قل (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).
وقد استفيد من
التقرير في قوله : (قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) أنه أعلمهم بأمر جهلته عامتهم وكتمته خاصتهم ولذلك قال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ
شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) يشير إلى خاصة الأحبار والرهبان الذين تركوا عامة أمتهم
مسترسلين على عقائد الخطأ والغرور والضلالة وهم ساكتون لا يغيرون عليهم إرضاء لهم
واستجلابا لمحبتهم وذلك أمر إذا طال على الأمة تعودته وظنت جهالتها علما فلم ينجع
فيها إصلاح بعد ذلك لأنها ترى المصلحين قد أتوا بما لم يأت به الأولون فقالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ).
هذا من جملة
المقول المحكي بقوله : (قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بأن يقول لهم ذلك تذكيرا لهم بالعهد الذي في كتبهم عسى أن
يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر إن كانوا مترددين أو أن يفيئوا إلى الحق إن كانوا
متعمدين المكابرة.
و (من) في قوله (مِنَ اللهِ) ابتدائية أي شهادة عنده بلغت من جانب الله على لسان رسله.
والواو عاطفة جملة (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) على جملة (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ
أَمِ اللهُ).
وهذا الاستفهام
التقريري كناية عن عدم اغترار المسلمين بقولهم : إن إبراهيم وأبناءه كانوا هودا أو
نصارى وليس هذا احتجاجا عليهم. وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) بقية مقول القول وهو تهديد لأن القادر إذا لم يكن غافلا لم
يكن له مانع من العمل بمقتضى علمه وقد تقدمت نظائر هذا في مواضع.
[١٤١] (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما
كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
(١٤١))
تكرير لنظيره الذي
تقدم آنفا لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين اهتماما بما تضمنه لكونه معنى لم
يسبق سماعه للمخاطبين فلم يقتنع فيه بمرة واحدة ومثل هذا التكرير وارد في كلام
العرب ، قال لبيد :
فتنازعا سبطا
يطير ظلاله
|
|
كدخان مشعلة
يشبّ ضرامها
|
مشمولة غلثت
بنابت عرفج
|
|
كدخان نار ساطع
أسنامها
|
فإنه لما شبه
الغبار المتطاير بالنار المشبوبة واستطرد بوصف النار بأنها هبت عليها ريح الشمال
وزادتها دخانا وأوقدت بالعرفج الرطيب لكثرة دخانه ، أعاد التشبيه ثانيا لأنه غريب
مبتكر.
__________________
محتوى الجزء الأول من كتاب تفسير التحرير والتنوير
التمهيد......................................................................... ٥
المقدمة الأولى :
في التفسير والتأويل وكون التفسير علما................................ ٩
المقدمة الثانية :
في استمداد علم التفسير........................................... ١٦
المقدمة الثالثة :
في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه............... ٢٦
المقدمة الرابعة :
فيما يحق أن يكون غرض المفسر................................... ٣٦
المقدمة الخامسة :
في أسباب النزول............................................... ٤٤
المقدمة السادسة :
في القراءات................................................... ٥٠
المقدمة السابعة :
في قصص القرآن................................................ ٦٣
المقدمة الثامنة :
في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها.......................... ٦٩
المقدمة التاسعة :
في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها................. ٩١
المقدمة العاشرة :
في إعجاز القرآن................................................ ٩٩
سورة الفاتحة
سورة الفاتحة.................................................................. ١٢٩
الكلام على
البسملة.......................................................... ١٣٥
(الْحَمْدُ لِلَّهِ)............................................................... ١٥٠
(رَبِّ الْعالَمِينَ)............................................................. ١٦٣
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)........................................................... ١٦٦
(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).......................................................... ١٧١
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)................................................... ١٧٥
(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)................................................... ١٨٤
(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)................................................ ١٨٩
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)......................................... ١٩٢
سورة البقرة
سورة البقرة................................................................... ١٩٩
(الم)..................................................................... ٢٠٣
(ذلِكَ الْكِتابُ)............................................................ ٢١٦
(لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).................................................. ٢١٩
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)..................................................... ٢٢٥
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)......................................................... ٢٢٨
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)...................................................... ٢٣١
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ـ إلى ـ (هُمْ يُوقِنُونَ).......................... ٢٣٤
(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)................................................. ٢٣٨
(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).................................................... ٢٤٣
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ)........................... ٢٤٤
(لا يُؤْمِنُونَ)............................................................... ٢٤٨
(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ـ إلى ـ (غِشاوَةٌ)........................ ٢٥٠
(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)........................................................ ٢٥٤
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).................. ٢٥٥
(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ـ إلى ـ (وَما يَشْعُرُونَ)............................ ٢٧٠
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ـ إلى ـ (يَكْذِبُونَ)........................ ٢٧٤
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ)................. ٢٧٩
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)................................... ٢٨١
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) ـ إلى ـ (السُّفَهاءُ)........................ ٢٨٢
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)...................................... ٢٨٤
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) ـ إلى ـ (مُسْتَهْزِؤُنَ).......................... ٢٨٥
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).......................................................... ٢٨٩
(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).............................................. ٢٩٠
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)....................................... ٢٩٣
(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)....................................... ٢٩٥
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)............................................. ٢٩٧
(فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)...................................... ٣٠٣
(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)............................................ ٣٠٥
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)............................................ ٣٠٨
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)............................... ٣١٠
(يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ـ إلى ـ (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)................... ٣١٤
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ـ إلى ـ (تَتَّقُونَ)..................... ٣١٨
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) ـ إلى ـ (رِزْقاً لَكُمْ)................ ٣٢٥
(فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)........................................ ٣٢٨
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ـ إلى ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)............. ٣٣٠
(فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) ـ إلى ـ (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)............... ٣٣٦
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ـ إلى ـ (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)............. ٣٤٤
(كُلَّما رُزِقُوا
مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) ـ إلى ـ (هُمْ فِيها خالِدُونَ)...................... ٣٥٠
(إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)....................... ٣٥٢
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ) ـ إلى ـ (بِهذا مَثَلاً)............................... ٣٥٨
(يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ـ إلى ـ (هُمُ الْخاسِرُونَ)........................ ٣٥٩
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ـ إلى ـ (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)................ ٣٦٧
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).................................... ٣٧٢
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)............ ٣٧٦
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).......................... ٣٨١
(قالُوا أَتَجْعَلُ
فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ).............................. ٣٨٧
(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).......................................... ٣٩٠
(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ
ما لا تَعْلَمُونَ)................................................ ٣٩٢
(وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها)................................................... ٣٩٣
(ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلائِكَةِ) ـ إلى ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)......................... ٣٩٧
(قالُوا سُبْحانَكَ لا
عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)............... ٣٩٩
(قالَ يا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)................................................ ٤٠٢
(فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)..................................................... ٤٠٣
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)......................... ٤٠٣
(وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).......................................... ٤٠٤
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) ـ إلى ـ (مِنَ
الْكافِرِينَ)............... ٤٠٦
(وَقُلْنا يا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ـ إلى ـ (مِنَ الظَّالِمِينَ)................ ٤١٣
(فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) ـ إلى ـ (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)......... ٤١٨
(فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)................... ٤٢٢
(قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً) ـ إلى ـ (هُمْ فِيها خالِدُونَ)........................... ٤٢٥
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ـ إلى ـ (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)........................ ٤٣٢
(وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ)......................................... ٤٤٣
(وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ)................................................... ٤٤٤
(وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)................................................ ٤٤٧
(وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ)............................................................ ٤٥٣
(وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ـ إلى ـ (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)............................ ٤٥٤
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).............................. ٤٥٦
(أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ـ إلى ـ (أَفَلا تَعْقِلُونَ).................. ٤٥٨
(وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ـ إلى ـ (إِلَيْهِ راجِعُونَ)............................ ٤٦١
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ـ إلى ـ (الْعالَمِينَ).............................. ٤٦٦
(وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ـ إلى ـ (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)........... ٤٦٨
(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ـ إلى ـ (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)........................ ٤٧٢
(وَإِذْ فَرَقْنا
بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) ـ إلى ـ (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)....................... ٤٧٧
(وَإِذْ واعَدْنا
مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ـ إلى ـ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)...................... ٤٨٠
(وَإِذْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)............................. ٤٨٥
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) ـ إلى ـ (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).... ٤٨٦
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ) ـ إلى ـ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)....... ٤٨٩
(وَظَلَّلْنا
عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) ـ إلى ـ (يَظْلِمُونَ).......... ٤٩٢
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا
هذِهِ الْقَرْيَةَ) ـ إلى ـ (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)...................... ٤٩٥
(وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ) ـ إلى ـ (فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)..................... ٥٠٠
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ـ إلى ـ (ما سَأَلْتُمْ)............... ٥٠٣
(وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ).......................... ٥٠٩
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) ـ إلى ـ (وَكانُوا يَعْتَدُونَ).................. ٥١٢
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) ـ إلى ـ (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)....................... ٥١٤
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) ـ إلى ـ (مِنَ الْخاسِرِينَ)............... ٥٢٣
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) ـ إلى ـ (لِلْمُتَّقِينَ)................. ٥٢٥
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) ـ إلى ـ (مِنَ الْجاهِلِينَ)................... ٥٢٨
(قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ـ إلى ـ (ما تُؤْمَرُونَ)........................ ٥٣١
(قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) ـ إلى ـ (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ).................... ٥٣٥
(قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ـ إلى ـ (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ)................. ٥٣٦
(فَذَبَحُوها وَما
كادُوا يَفْعَلُونَ)................................................ ٥٣٨
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً) ـ إلى ـ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).................................... ٥٤٢
(ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ـ إلى ـ (عَمَّا تَعْمَلُونَ)....................... ٥٤٤
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ـ إلى ـ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)............................ ٥٤٨
(وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) ـ إلى ـ (وَما يُعْلِنُونَ)......................... ٥٥١
(وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) ـ إلى ـ (إِلَّا يَظُنُّونَ)........................ ٥٥٥
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ـ إلى ـ (مِمَّا يَكْسِبُونَ).................. ٥٥٧
(وَقالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ـ إلى ـ (هُمْ فِيها خالِدُونَ).............. ٥٦٠
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ـ إلى ـ (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)....................... ٥٦٣
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ـ إلى ـ (وَالْعُدْوانِ)................... ٥٦٦
(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ) ـ إلى ـ (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)........................ ٥٧١
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ) ـ إلى ـ (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)........................... ٥٧٤
(وَقالُوا قُلُوبُنا
غُلْفٌ) ـ إلى ـ (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)............................... ٥٨١
(وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ إلى ـ (عَلَى الْكافِرِينَ)....................... ٥٨٣
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ـ إلى ـ (عَذابٌ مُهِينٌ)............................. ٥٨٥
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ـ إلى ـ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).................... ٥٨٨
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ
مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ـ إلى ـ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)....................... ٥٩١
(قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) ـ إلى ـ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)................. ٥٩٥
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) ـ إلى ـ (بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)............... ٥٩٩
(قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ـ إلى ـ (عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)............................ ٦٠١
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ـ إلى ـ (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).................... ٦٠٦
(وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ـ إلى ـ (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).................... ٦٠٩
(وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) ـ إلى ـ (فَلا تَكْفُرْ)............................. ٦٢١
(فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ـ إلى ـ (وَلا يَنْفَعُهُمْ)........... ٦٢٦
(وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ) ـ إلى ـ (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)........................... ٦٢٨
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ)................ ٦٣٠
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) ـ إلى ـ (عَذابٌ أَلِيمٌ)...................... ٦٣٢
(ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ـ إلى ـ (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).............. ٦٣٤
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)........................... ٦٣٦
(أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ـ إلى ـ (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).............. ٦٤٥
(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) ـ إلى ـ (سَواءَ السَّبِيلِ)........................ ٦٤٧
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ) ـ إلى ـ (بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)......................... ٦٥١
(وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) ـ إلى ـ (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)............. ٦٥٤
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ـ إلى ـ (كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)......... ٦٥٧
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ـ إلى ـ (عَذابٌ عَظِيمٌ)..... ٦٦٠
(وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ
واسِعٌ عَلِيمٌ)............ ٦٦٤
(وَقالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) ـ إلى ـ (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)........................ ٦٦٥
(بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)............. ٦٦٧
(وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ـ إلى ـ (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)................ ٦٧٠
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ)................ ٦٧٢
(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) ـ إلى ـ (وَلا نَصِيرٍ)..................... ٦٧٤
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ـ إلى ـ (هُمُ الْخاسِرُونَ).............. ٦٧٧
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ـ إلى ـ (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)....................... ٦٧٩
يا بني إسرائيل
اذكروا ربه بكلمات ـ إلى ـ الظالمين.................................. ٦٨١
(وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ـ إلى ـ (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).................. ٦٨٨
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) ـ إلى ـ (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)............. ٦٩٤
(وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ـ إلى ـ (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).................. ٦٩٨
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ـ إلى ـ (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)........................... ٧٠٠
(رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) ـ إلى ـ (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)........................ ٧٠٢
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) ـ إلى ـ (لِرَبِّ الْعالَمِينَ).......................... ٧٠٤
(وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) ـ إلى ـ (وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)..................... ٧٠٧
(أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) ـ إلى ـ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).......... ٧١٠
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) ـ إلى ـ (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).................. ٧١٤
(وَقالُوا كُونُوا
هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا)........................................ ٧١٦
(قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).............................. ٧١٦
(قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) ـ إلى ـ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)..................... ٧١٧
(فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) ـ إلى ـ (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)............... ٧٢٠
(صِبْغَةَ اللهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)......................... ٧٢١
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا
فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) ـ إلى ـ (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)............ ٧٢٥
(أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) ـ إلى ـ (عَمَّا تَعْمَلُونَ)....................... ٧٢٦
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ)............ ٧٢٧
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) ـ إلى ـ (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).................. ٧٢٨
|