نداء الضمير

ليست هذه المكتوبات إلاّ رشحاً من رواشح الذات ونداءً من نداءات الضمير وقلمَ أفكار سعى جاهداً أن يحمل بكفّه ويحفر على قلبه ويصوغ بذهنه غاية الوفاء والصدق. إنّها رؤى ولواعج ترفض «الإسكات» وتنشد «الإقناع» في فضاءات معرفيّة علميّة منهجيّة سليمة.

إنّها تناديك أيّها المنصف الواعي كي تسهم في علاج داء مستفحل يهدّد قيمنا وطموحاتنا الناهدة. إنّها تأمل وكلّها ثقة أن تمنحها الصبر والذهن والزمن الكافي ، وتستميحك العذر إن سهتْ وأغفلتْ وأخطأتْ لا عن عمد قطعاً. إنّها تستبعد مرورك عليها مرور الكرام ; إذ لم تعهدك إلاّ سخيّ السمع والقلب والعقل.

ما كنت أقصد أن تقف قصاصاتٌ دوّنتُها إثر حاجة ذاتيّة وهموم لم تجد متنفّساً لها سوى الكتابة سبيلا ، على شكل كتاب يُقرأ ، لكنّ أدلّ دليل على الشيء وقوعه. والحمد لله على ما أنعم والصلاة والسلام على الرسول الخاتم وآله أسياد العالم.


شكراً يا ربّ

تمرّ الأيّام مرّ السحاب ، بل أسرع من الريح .. ينقضي العمر بإسدال الستار على شريط الحياة ، نرحل ولازالت في أعناقنا أعمالٌ ناقصة ومهامٌّ لم ننجزها وطموحات لم تتحقّق ، لازالت حسابات الآخرين معنا مفتوحة ، لازالت وخزة الضمير تحفر في أعماقنا ; جرّاء ما ارتكبناه من آثام وما سبّبنا لغيرنا من معاناة وآلام.

وإن كانت فرصةُ الحياة باقية فهل نهامس الحنايا بضرورة غلق الملفّات العالقة ولا نقول : اليوم ، غداً؟

يؤرّقنا الليل ويذكّرنا ، ينسينا النهار فتذهب بنا جاذبيّة الحياة ومظاهرها إلى مناطق الغفلة والتراخي ، فنعمل لها كأ نّنا نظلّ فيها أبدا ، ونحتجّ للغد بأنّ الله كريم ، متغافلين عن حدّ كرمه الذي لا يعني الإغماض عن غمط حقوق الناس والدِّين.

ماذا عساي لو تمعّنت في هذا القادم الرهيب وعلمتُ أنّه اليقين بلا ريب ، فهل لي أن أضحك؟! إنّ قضيّة الموت قضيّةٌ رهيبة تفرض


جدولة برامج الحياة من جديد ، لا أنّها تعيقها ، بل تنظّمها بنظام مشروط مقيّد ، فلا إطلاق ولا عموم مادامت النهاية حقيقة لا مفرّ منها.

لو تأمّلنا نهايتنا وتدبّرنا ذلك الشطر الأهمّ الأدوم من حياتنا لهبط الخطّ البياني لأخطائنا وارتفع الخطّ البياني لإنسانيّتنا ، وصار لون الحبّ والسلام أظهر وأجمل من سائر الألوان ، وغدا للسعادة معنىً في وجودنا.

شكراً لك يا ربّ ، شكراً لك أن خلقتني ورزقتني من خيرك الوافر وكرمك السابغ ومنحتني فرصة التفكير في الإجابة عن سؤال الحياة الكبير : من أين ، في أين ، إلى أين؟ فيا ربّي بارك لي وأعنّي على أن اُجيب الجواب الصحيح ; لأنعم برضاك فإنّه خير الرضى ، وأنال منك الجزاء فإنّه أفضل الجزاء.


فطرة الله

المعرفة ومناهجها والوصول إلى الحقيقة عبر بوّابة الفروض والحدسيّات والتخمينات أو التجارب والحسّيّات .. بآليات وأدوات اختُلِف في كونها استقراءً أم استنباطاً أم قياساً منطقيّاً ...

أرسطو ، فرنسيس بيكون ، دافيد هيوم ، جون ستيوارت مل ، برتراندرسل ، رايشنباخ ، كارل بوبر ، عمانوئيل كنت ، ديكارت ، تارسكي ، لايبنتز ، نيوتن ، غاليلو ...

ابن مسكويه ، أبو حيّان التوحيدي ، ابن رشد ، ابن سينا ، الغزالي ، ملاّ صدرا ...

مهدي بازرگان ، محمّد باقر الصدر ، شريعتي ، مجتهد شبستري ، سروش ...

زكي نجيب محمود ، محمّد أرگون ، محمّد عابد الجابري ، عبدالرحمن بدوي ، حسن حنفي ...

أثرُ النزعة النفسيّة والتاريخيّة في بناء نظريّة ما. هل يولَد الإنسان


خالي الذهن من أيّة فكرة ، كما ذهب إليه جون لوك ، أم هي خرفة من خرافات المذهب التجريبي ، كما ذهب إليه كارل بوبر ...

هل الاستقراء متكفّل بالكشف عن الواقع ، أم أنّها تبقى محاولات احتماليّة لإصابة الواقع دون العلم واليقين. وهل استطاع بعض كبار التجريبيّين إثبات دور للميتافيزيقيا باعتبارها ضروريّة لنموّ المعرفة وخصوبة الفروض ...

سلسلة من الأسماء والعناوين والنزاعات المعرفيّة التي شغلت الفضاءات المختصّة منذ القدم إلى يومنا هذا ، وستبقى حتى نهاية المطاف شغلها الشاغل مادامت حياة البشريّة عبارة عن مناجزات وتقابلات وصراعات تختلف باختلاف الأدوات والظروف.

مدارس ومذاهب ونظريّات ، مناهج وأدوات وآليّات ، لازالت تعجّ بها البشريّة وهي في خضمّ حركة دائمة ممزوجة بالجهد والعناء والشقاء والنتاج والفشل والنجاح ، بؤر سيطرة ومحاور استبداد وعوامل نفوذ وانتشار وبقاء وتغيير ... واقعٌ لا يمكن مغادرته وتجنّبه وإغفاله ، إنّما نحن محكومون بالتعامل معه ـ كلٌّ حسب مبناه وانتمائه ـ سلباً أم إيجاباً.

وممّا أفرزه الواقع : النهضة الصناعيّة التي شهدتها اُوربّا في النصف الثاني من الألفيّة الثانية ; إثر رواج المذهب التجريبي وانكماش الكنيسة وانحسار المدّ الديني ، وقد اعتبرت التجريبيّة أنّ الميتافيزيقيا ما هي إلاّ مضيعة وقت وعبث وهراء فارغ ، فانطلقت لتكتسح الدنيا بحضارتها


وتقنيّتها ونتاجها ، وصار الحسّ والتجربة والملاحظة ثقافةً وفكراً مهيمناً على العقول والمعايير ، واستُخلِص الكونُ بأكمله على أنّه موجود خاضع لنظام الميكانيكا لا غير ، فلا قوّة عليا مسيطرة ولا ميتافيزيقيا ولا إله يخلق ويحكم ويدبّر. إلاّ أنّها بذاتها ـ أي الحركة العلميّة التجريبيّة التي قادت اُوربّا وأميركا إلى القمّة والازدهار ـ لم تستطع إثبات : أنّ نتاجات التجربة المتكرّرة احتمالاتٌ ترقى لليقين شيئاً فشيئاً. بل إنّ تكرار التجارب يزيد الاحتمال قوّةً وثباتا. وعدم الاستطاعة هذا ، أكّده روّاد التجريبيّة مؤخّراً واعتُبر تكرارُ التجارب غير ذي نفع في دعم الاحتمال المرجوّ من خلاله بلوغ ذلك اليقين ، وهذا الرأي بدأ بالانتشار وساد في القرنين الأخيرين ، ممّا يعني بقاء «الاحتمال» احتمالاً ليس إلاّ ، مضافاً إلى ذلك ذهاب بعض التجريبييّن إلى عدّ الميتافيزيقيا عاملاً مؤثّراً وضروريّاً في خصوبة الفروض والتجارب!! فماذا يعني هذا؟!

ثم ماذا يعني عجز الاستقراء التجريبي عن التعميم اليقيني من الجزء والمصداق إلى الكلّ والعامّ رغم عظم الجهد والمساعي الحثيثة؟!

إنّ كارل بوبر (١٩٠٢ م ـ ١٩٩٤ م) صاحب «منطق البحث العلمي» وصاحب الآراء والأفكار الحيّة إلى يومنا هذا ، العدوّ اللدود للمنطقيّة الوضعيّة وصاحب المناقشات الساخنة مع رايشنباخ أحد روّاد التجريبيّة والمتمسّك القويّ بالاستقراء والمنابذ العنيد للميتافيزيقيا ، كار بوبر هذا ، جعل دوراً للميتافيزيقيا بحجّة ضرورتها لنموّ المعرفة وخصوبة الفروض. كيف يمكن لتجريبيٍّ مثله إثبات دور للغيبيّات ولاسيّما أنّ التجريبيّة لا تقرّ


لها وجوداً أبدا ، ويبدو أنّ الحصيلة التي توصّل إليها بوبر بعدم قدرة التجارب المتكرّرة على مضاعفة الاحتمال وتقويته جعلته يفكّر جدّيّاً بطريق جمع ، ولكنّها محاولة أشبه بالجمع بين النقيضين ، أو هي مؤشّر تراجع واعتراف بفشل التجريبيّة في إثبات فروضها الحسّيّة المحضة ، فغدت تتخبّط في اختيار هذا العلاج أو ذاك.

والأعجب ما في الأمر أنّ التجريبيّة جانبت العلوم الإنسانيّة وتنكّرت لها واحتقرتها أيّ احتقار ، ولم تعر للأحاسيس والمشاعر والصفات والحالات الإنسانيّة اهتماماً خاصّاً ، حيث شغلت نفسها بالتجربة والملاحظة والطبيعة وظواهرها ، وقضت العمر في استخلاص النتائج العلميّة التي تقود إلى الصناعة والتقنيّة بغفلة كاملة عن الإنسان ونزعاته ومعاناته وآلامه وأفراحه ... وإن ظهر اهتمام من التجريبيّة مؤخّراً بالعلوم الإنسانيّة فلأجل الخسارة الفادحة والنقص الكبير الذي عانت منه طيلة فترة الانشغال بالعلوم التجريبيّة والطبيعيّة ممّا جعلها في واد والإنسان بصفاته وحالاته وأعماقه في واد آخر. والمحاولات المتأخّرة لم تشفع للتجريبيّة في ردم الهوّة وكسر الفجوة المذكورة.

نعم ، حين يأمل الإنسان ويألم ويحزن ويعاني ويشدو وتأخذه النزعات النفسيّة من هنا إلى هناك ، وحين يحاول التشبّث بشيء ما انطلاقاً من نداء الروح والحنايا تجده يجدّ في البحث عن شيء مفقود ، عن شيء هو بحاجة ماسّة إليه ، فيرى أنّ ضالّته هذا الحسّي أو ذاك .. لكنّه لا يكتفي ويظلّ دائم البحث عن شيء ما ، فيكرّر المحاولة في ذاك الحسّي


وغيره ولكن دون جدوى ، إنّه يريد العودة ، لكن لا يعرف كيف يعود ، يريد الإياب إلى الأصل ، إلى الفطرة التي فُطر عليها لكنّه يجهل الطريق والأداة ، فإذا ما توفّرت له مناهج المعرفة السليمة فإنّه يرجع إلى حيث كان ، نقيّ الفكر والقلب والإحساس ، بلا أدنى شائبة انحراف وضياع ، إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.


فاز المخفّون

أضعافٌ لا تحصى من معاني الخسران والإحباط والخيبة وثقل الأوزار وجسامة الأفعال تحيط هاتين اللفظتين الأنيقتين ، إنّهما تستنطقان الصامت وتقرءان خلف السطور وتبصران المخفي .. فتنكشف حقائق القبائح ومخابئ الرذيلة ويطفح عالياً زَبَد الانحراف والضلال .. إنّها رشحة من رشحات القصديّة ، فتحٌ من فتوحات «إنّ الأشياء تُعرَف بأضدادها».

فبالجمال نفهم القبح ، بالعشق ندرك الكراهيّة ، بالإيمان نعرف الكفر ، بالحوار نعلم العنف ، بالسلام نكتشف هول الحروب ، بالعقل تتّضح آلام الجهل ، بالانتماء الحقّ تتجلّى عواقب الضياع ، بالنطق نستوعب السكوت ، بالسكوت نهتدي إلى النطق ، بالحركة نُصيب السكون ، بالسكون ننظّم الحركة ، بالمراجعة نتذوّق النمو ، بالبعثرة نزيل الشوائب ، بالمقارنة ننتخب السليم.

«فاز المخفّون» نسق الحياة ونهجها القويم ، مفتاح الفلاح والطمأنينة واليقين. إنّه انسلاخ الإنسان عن رذائله وحقاراته وتفاهاته وقبائحه


ومساوئه وتجرّداته عنها .. منطلقاً بروح طاهرة شفّافة نقيّة صوب الحقيقة السرمديّة ومعانيها النورانيّة.

يمكن لنا أن نبدأ بها بكلّ بساطة فنجري تمارين تذكّرنا وتشبّهنا بالمخفّين ، كأن نسلك الدروب والطرقات مشياً على الأقدام بارتداء أدنى الملابس بجيوب فارغة ، نمشي متقمّصين دور اُولئك الذين ساروا قاصدين بلوغ فيوضات مبدأ الفيض ، لا يحملون من أوزار الدنيا شيئا ، نمشي متجرّدين آناً عن رغباتنا وشهواتنا بعيون وأسماع وأحاسيس وجوارح منغمسة بذكر المصير والآخرة ، بهذا الحال وهذا المظهر الذي لابدّ أن يكون من الرزق الحلال.

نمشي نخترق الدروب والطرقات ، نمشي بين الناس ونحن بحال آخر ، نتمثّل بالمخفّين صدقاً ولو لدقائق معدودات ، دقائق من التمرين على ترويض النفس والعقل والمشاعر ، علّ مبدأ الفيض يشملنا بعناياته الربوبيّة فينتشلنا من واقع البهيميّة إلى حيث مراتب العزّ والسعادة السرمديّة ..

لحظات ودقائق من التفكّر والتوبة والندم قد تقلب الموازين رأساً على عقب ، فتعيدنا سيرتنا الاُولى ، فطرتنا فطرة الله التي فطر الناس عليها. وما ذلك على الله ببعيد.


إلاّ الذاكرة الأزليّة

كلّ الذاكرات خواء ، وكلّ الانتماءات أصنام ; فالأصنام شركٌ وتقهقر قيَمي أخلاقي ... إلاّ الذاكرة الأزليّة والانتماء الفطري.

ونحن إذ نختلف مع فرانسيس بيكون رائد التجريبيّة وقطب النهضة الاُوربيّة الحديثة في تصنيفه عوامل النهضة إلى سلبي وإيجابي ، وتجذيره السلبي إلى أصنام أربعة : أصنام القبيلة ، أصنام الكهف ، أصنام السوق ، أصنام الذاكرة أو المسرح.

نختلف معه ولاسيّما في القسم الرابع من أصنامه ; إذ عنى بأصنام الذاكرة أو المسرح : الأخطاء التي تسرّبت إلى نفوس الناس إثر المذاهب والانتماءات العقائديّة والمذهبيّة والفلسفيّة المختلفة ، وفي رأيه أنّها كالمسرحيّات مخترَعة أبدعها أصحابها ولا يناظرها شيء في الواقع الحقيقي.

وقد عنى بأصنام القبيلة : ظنّ الإنسان أنّ الحواسّ تعطي معرفة صحيحة مباشرة عن الواقع ، متناسياً أنّ الإدراكات الحسّيّة تعتمد على


الأقلّ من عقول الناس ، وبالتالي فإنّ معرفتهم الحسّيّة نسبيّة. ويرى أنّ قوى الإدراك الحسّي كثيراً ما تعمل فينا كالمرايا الزائفة فتشوّه ما تعكسه في الخارج ، وبذلك فعقولنا تفرض على العالم الخارجي نظاماً مستمدّاً من أنفسنا ولا ينتسب إلى الحقيقة الواقعيّة في الخارج ، مثاله : ميلنا إلى تصديق ما نحبّ أن يكون صحيحاً.

وعنى بأصنام الكهف : أنّ الإنسان أسير حواسّه. فلكلّ إنسان كهفه الخاصّ به الذي يعترض ويشوّه نور الطبيعة الواصلة إليه. لذا بات كلّ واحد منّا يميل إلى تفسير ما يتعلّمه على ضوء مزاجه أو ما يهواه من آراء ونظريّات.

أمّا أصنام السوق فقد عنى بها : ما تعلّق باللغة ; إذ هي وسيلة التفاهم والتبادل بين الناس ، والتجارة هي تبادل في السوق ، والأخطار الناجمة عن اللغة تقع في حالتين : حالة اشتراك معاني الألفاظ فيقع الخلط أو التمويه ، وحالة عدّ الألفاظ من الأشياء فنستغني بالألفاظ عن الأشياء والوقائع والأفعال.

إنّنا نختلف مع فرانسيس بيكون ولاسيّما في صنمه الرابع ; وياليته كان حاضراً في عصرنا هذا ليرى تهشّم النظريّة الفيزيائيّة القائمة على عدّ الكون والطبيعة ماكينة تعمل بانتظام طبق عوامل وعلل وأسباب وقوانين ثابتة ، الأمر الذي يقودنا باعتقاده إلى الحتميّة التأريخيّة ونهاية التأريخ والايديولوجيا ، أي الإيمان بكون التجريبيّة والرأسماليّة هي قمّة التاريخ


ولا قمّة ولا شيء بعدها .. ليرى تهشّم هذه النظريّة ولوازمها إثر فتوحات العلم المعاصرة التي أعادت «مبدأ الاحتمال» إلى الواجهة من جديد عبر دائرة الذرّة والبروتون والنيوترون والألكترون بوجود الاختلاف المستمرّ وغير الثابت بين النواة وعناصرها ، أو بين المركز ونقاط الدائرة الواحدة ، التغيّر المستمرّ والمحتمل دوماً الذي ضرب بنظريّة «الماكيناكا الفيزيائيّة» عرض الحائط فأعاد مبدأ القوّة المحرّكة العليا المسيطرة على الكون والطبيعة إلى الواجهة من جديد وبكلّ قوّة وعنفوان.

نختلف معه إذ نرى : أنّ الإنسان أخلاقيٌّ بأصله وديمومة وجوده سواء بالعقل العملي أو بالعقل الأوّل. والعهد والأمانة والوفاء منتهى عناوين الأخلاق ومضامينها الثابتة السامية ، فمادمنا نؤمن بالقوّة المسيطرة العليا ونؤمن بالرسالة والدين والأنبياء والأوصياء ، فنحن نؤمن بالطاعة والالتزام الأخلاقيّين على أدنى التقادير ، ولقد حملنا الأمانة إذ أشفقت منها السماوات والأرض والجبال ، وقطعنا العهد والميثاق بالوفاء حيث آمنّا ، لذا بات علينا أن نحفظ العهد والأمانة والميثاق ، حفظاً أخلاقيّاً عمليّاً عقليّاً فاعلاً باختلاف الأدوات والمناهج والأنساق.

لذا فالذاكرة الأزليّة والانتماء الفطري الأوّل معناهما حفظ الأمانة والوفاء بالعهد للقوّة المسيطرة العليا ، الله ربّ السماوات والأرض ، بارئ الخلق أجمعين ، مالك يوم الدين ، الصمد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.


ولا نكترث سواء عدّ «بيكون» ذلك صنماً أم لم يعدّه مادامت تجريبيّته عاجزة عن حلّ إشكال الاحتمال والتغيير المستمرّ الآنف الذكر ، بل على «بيكون النوعي» المراجعة والبعثرة من جديد علّهم يهشّمون صخور الردّة والجحد الجاثمة على عقولهم وقلوبهم مثلما لاحت في اُفق العلم الحديث بوادر التهشيم هذه.

نعم ، إنّنا قد نتّفق مع فرانسيس بيكون بطريق ما في مسألة أصنام القبيلة والكهف والسوق ، بطريق يعدّ الأصنام هذه ذات مفهوم يتنافى مع قيم الانتماء اللاهوتي حسب تصوّراتنا العقائديّة ، فالمفاخرات والانتماءات الضيّقة الطافحة على مسرح الملاكات والضوابط واللذائذ النفسيّة والشهوات الذاتيّة والتمويه المفاهيمي ، والاستبداد والأنا الحاكمة والهوى .. كلّها حسب بعض الأراء أصنام قبيلة أو كهف أو سوق.

فإذا ما رمنا الوصول إلى مراحل الكمال الإنساني والمعرفة الحقيقيّة لابدّ من التخلّص من هذه الأصنام ، آنذاك نحن وحفظ الأمانة والوفاء بالعهد ولا ثالث.


ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) سورة الحشر : ١٨

(وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد) طرقت سمعي وانطبعت بعينيَّ مراراً وربما بتأمّل وتدبّر خفيف ، لكنّها هزّت كياني واستوقفتني بعمق لمّا جاد بتلاوتها ذلك الفتى الشاب المسمّى «منتظر» ، هيمنت على ذهني وحرّكت كوامن الفكر عندي ، اختلطت الأحاسيس بالعقل وانسجم القلب مع اللبّ وتساندا سعياً نحو استيعاب خطاب السماء.

لا شكّ أنّنا نموت ، ولا ريب ـ كما نعتقد ـ في حشرنا وبعثنا في ذلك اليوم المهيب ، إنّه الغد المحتوم ، كلٌّ يأتي بنتاج حياته ، خيراً كان أم شرّا.

الاستعداد والتهيّؤ والتوفير وحفظ النتاج من شؤون يوم العمل


وبرامجه ومناهجه ، هنالك تقف النفس في كلّ آن ولحظة وساعة كي ترى هل أنّها سائرة شطر المرام والمقصد طبق الطريق المرسوم. لترى ما أخذت معها لغدها ، ما وفّرته لمستقبلها السرمدي من مؤنة وزاد. لا نطلب الغد بل الغد يطلبنا ، والغد غير مفتقر لنا ولا لزادنا ، نحن المفتقرون فيه لذلك الزاد والمؤنة.

نعم ، الغد هو مصيرنا ، خلودنا ، مكاننا ومستقرّنا ، زماننا الذي نحياه أبدا.

لقد لخّص الخطاب القرآني سؤال الحياة الكبير ومعناها المثير بخمس كلمات فقط ، كلّ واحدة منها تمثّل محوراً وقطباً هامّاً في نشأتنا وتكويننا وهويّة انتمائنا ومستقبل وجودنا ومنهجيّة معارفنا وثقافتنا ونوعيّة تصوّراتنا وعقائدنا.

إنّ نوع النشأة والتكوين وهويّة الانتماء والتصوّرات تتناسب طرديّاً مع النظرة إلى الحياة وغدها ، والنفس التي تنظر إلى الغد ليست نفساً واحدة ، والغد ليس غداً واحدا ، بل النصّ القراني الذي نؤمن بعدم تحريفه وصيانته منه لا نفهمه بفهم واحد ، ونظر هذا غير نظر ذاك ، وغده ليس كغد ذاك ، مع كون الجميع يدّعي الانتماء لهذا الدين الحنيف.

ولتنظر نفسٌ أيَّ الفهم فهمت وأيّ القراءة قرأت وأيّ الخطاب استوعبت ، فبنوع الفهم نفهم النظر والنفس والمقدَّم والمقدَّم إليه.

والمراد بالفهم هو العملي منه ، المتبلور الذي يطابق الذهنيُّ منه خارجيَّه وبالعكس.


إنّ الفهم العملي الصحيح خطوة رائدة نحو غد مشرق.

بإمكاننا أن نصوغ من الفهم منهجاً ونسقاً ونمطاً لكلا الحياتين : تأمين المستقبل الدنيوي عبر الوسائل المنطقيّة العلميّة بما يتّسع لدائرة الحياة وحدودها. وتأمين المستقبل الاُخروي ، أيضاً عبر الوسائل المنطقيّة العلميّة التي تؤمّن لنا فلاحاً اُخرويّاً وسعادة أبديّة فيها رضى المولى تبارك وتعالى وغفرانه. ولا منافاة بين الأمرين أبدا ; مادامت شجرة الدين والقيم السماويّة مباركةً تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها. فالجمع أولى من الطرح.

لذا فنار الخيبة لا تنال إلاّ ذاك الذي اكتفى بتأمين الشطر الأوّل وأغفل أو أنكر الثاني ، دون أن يعلم أنّ تأمين الأوّل مقدّمة لتأمين الثاني ، بل الثاني سرمدٌ وخلودٌ والأوّل مجرّد نفق ومعبر إليه.

لا جبر على التفكير بتفكيرنا والاعتقاد باعتقادنا ، بل نقترح أن تُحسَب المعادلة رياضيّاً ومادّيّاً ، فلتُفترض الحياتان ويُعمَل لهما : فالاُولى مؤمّنة حسب ظاهر الفرض. أمّا الثانية فإن كُسِبت فنعمّا هي ، وإن خُسِرَتْ فالإنسان على كلا الحالين ميّت ، فإن كانت بعد الموت حياة فقد نفعه تأمين الحياة الثانية وإن لم تكن حياة فهو لم يخسر شيئاً. بالطبع هذا الأمر طبق التفكير المادّي.

أمّا نحن ، فلا نرى هذه الحياة إلاّ مرحلة فانية وهي باب للحياة السرمديّة الخالدة التي لا موت فيها أبدا ، وهذه الباب تعني : الإيمان والاعتقاد والالتزام السليم بقيم السماء ومبادئها المقدّسة ، الأمر الذي يجعلنا في الغد فرحين مستبشرين برحمة الله تعالى ورضوانه.


تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاَْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيثَة كَشَجَرَة خَبِيثَة اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَْرْضِ مَالَهَا مِن قَرَار) سورة إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٦

مارست المنظومات المختصّة آلياتها في تحليل وتجزئة وتفكيك النصّ القرآني عموماً ، طبق القواعد والقيم والمناهج التي تختلف باختلاف الفكر والبناء والانتماء والنضوج ، فرشحت معطيات متفاوتة تبعاً لذلك.

إنّ الذي يثير الانتباه ويستوقف العقل كثيراً ويمنحه فرصة التأمّل والمراجعة الدقيقة ومقارنة الأفكار والأحداث والنتائج هو ما ورد من محتوى سرمدي ثابت متحرّك ـ نعم محتوى سرمدي ثابت متحرّك ، ونابض غضّ نضر يفيض تجدّداً وتأ لّقاً ـ في قوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا) ، فبالمؤنة الفكريّة والأدوات المنهجيّة العلميّة يمكن


الحصول على نتائج فاعلة ورواشح عمليّة تدحض شتّى الادّعاءات التي مورست ظلماً ـ ولازالت ـ بحقّ النصّ القرآني ونعتته بـ «البرادوكس» إزاء التجدّد والمواكبة المعاصرة.

نقول : إنّه تحدٍّ كبير ودعوة جليّة لاختبار الذهنيّة المنتمية كي تجهد وتسعى لإثبات أنّ الدين يضخّ القيم والمفاهيم والمبادئ ـ بل العلوم والآليات والأساليب والرؤى ـ التي تجعل المجتمع الإنساني مؤمّناً تأميناً تامّاً.

إنّ قيم السماء تعني التجدّد والحداثة والحيويّة والاستجابة لمتطلّبات العصر والتلبية لكلّ فواتير الحياة ، مكانيّةً كانت أم زمانيّة ، ولكن بتوفّر الشروط المناسبة والتهيّؤ الكفوء ; إذ (بِإِذْنِ رَبِّهَا) تمنح الكيان الإنساني البشري السبل الناجعة لمواجة العقبات والصعاب ولاسيّما المستحدثة منها ، حينئذ يمكن التعويل دوماً على النصّ في منح الإجابة الوافية بممارسة العقل الصحيح بالآليّات السليمة ، الأمر الذي ينأى بنا عن التقليد والالتقاط والإبقاء على ما كان ; إذ يمكن لنا التأسيس وتشييد الكيان بمؤنة حديثة بذات المنظومة القيميّة وبتلك الأصالة والانتماء اللاهوتي المقدّس.

يحقّ لنا أن نراجع ونقارن ونختبر ونغير ونبعثر ونحفر ونخوض في اللاّمفكر فيه ـ وهو كثير كثير ـ وننقلب على الواقع ونعيد الصياغة والسبك ونحاسب ونحذف ونضيف ونختصر ونفصّل ونعطي ونمنع ونعترف ونقرّ


ونصمد ونثبت ، مادامت قيمنا تؤتي اُكلّها كلّ حين بإذن ربّها.

نعم ، بالمنهج والقانون والعقل والانتظام ، وإلاّ فإنّها لن تؤتي اُكلها قطعاً ولن يأذن الربّ بالتغيّر والنموّ والفلاح والرقي.

فأن تمارَس قيم النصّ وتُحفَظ الاُصول ، فلا مندوحة حينئذاك من التكيّف والمعاصرة ، وهذا هو معنى الثبات والحركة في آن واحد.


عميت عينٌ لا تراك

الرؤية مفهومٌ عميق الأهمّيّة والمعنى ، وفيه مقولات ملوّنة :

منها : إنّها الفكر والإدراك والمعرفة.

منها : الرؤية البيانيّة التي تعتمد التصوّر الذي يقدّمه القرآن عن العلاقة بين الله والطبيعة والإنسان.

منها : الرؤية التي يحكمها مبدآن : مبدأ الانفصال ومبدأ التجويز. والمبدآن متكاملان وتكرّسهما على نطاق واسع نظريّة الجوهر الفرد. وتنصّ هذه النظريّة على أنّ الجواهر الفردة التي تتأ لّف منها الأجسام والأفعال والإحساسات وكلّ شيء في هذا العالم هي علاقة تقوم على مجرّد التجاور وليس على الاحتكاك ولا على التداخل. والنتيجة هي أنّ هذه العلاقة هي علاقة اقتران وحسب ، وليس علاقة تأثير. وواضحٌ أنّ هذا التصوّر لا يدع مجالاً لفكرة القانون أو السببيّة.

إلى غير ذلك ممّا قالوه في الرؤية البيانيّة للمعرفة والعالم ، وفي الرؤية التجزيئيّة للواقع ، والرؤية الجدليّة الواقعيّة والميتافيزيقيّة والسلفيّة والعرفانيّة والإسلاميّة والمنهجيّة و ...


نقول : إنّ العقل مصنع الفكر ، ومادّة العقل ثمار الحواس ، فلولا الحواسّ لبقيت ماكنة العقل ساكنة مستقرّة ، فالمشاهدات والمسموعات والملموسات مؤنة العقل التي يعمل بها طبق أدواته وأنساقه وقواه ، فيخلق منها فكراً وإبداعاً وإيماناً إذا شاء وأراد. لذا فالعقل ينهض بالمادّة ، والتفكير هكذا ، أي أنّ المادّة محرّك العقل نحو الإنتاج. وهذا بخلاف الكوجيتو الديكارتي الذي يقدّم التفكير على المادّة.

إذن العين مادّة فاعلة ومفعولاتها موادّ أيضاً ، وهذا ثابت بالحسّ والتجربة ، لكنّ العين ينتهي دورها ووظيفتها عند هذا الحدّ ، فهي مادّة مستقبلة لمادّة اُخرى ، أشبه باليد التي تستلم الشيء لتحوّله إلى صاحبه ، فصاحب الشيء ليس من استلم الشيء بالضرورة ، فإنّه يغايره ربما ، وهكذا العين تستلم عبر المشاهدة والرؤية مفعولاتها وتحوّلها إلى العقل ليعمل عليها دورته المفروضة ، وإذا لم يعمل العقل بوظائفه فالمتّهم الأوّل الظاهري هنا هي العين ، وفي الحقيقة هي المظنون التجوّزي في القضيّة ; إذ المخالفة إن حصلت فهي مخالفة العقل حيث لم يعمل بوظائفة الواقعيّة ، ولكنّ المتوّرط الملموس هي العين ، فإلقاء القبض الظاهري يحصل بحقّ العين ، أمّا العقل فلا وجود ظاهري له حتى يُلقى القبض عليه.

وقد تحقّق من ذلك : أنّ العمى هو عمى العقل حقيقةً لا عمى العين ; إذ الأخيرة عملت بواجباتها على النحو المطلوب لكنّ العقل الذي قصّر في أداء مهامّه.


إلى ذلك : فذات الباري تبارك وتعالى لا تُرى بالعين هذه ، العين الحسّاسة ، وإنّما تُرى بالعقل والفكر والذهن ; إذ التجسّم والتجسّد غير وارد في ذاته عزّوجلّ.

ومن هنا يكون العقل على مفترق طريق سلوك أحد النجدين ، فإذا سلك وادي الانحراف فإنّما زاغ عن الفهم الصحيح رغم أنّ التلقّي واحدٌ من الجميع عبر الحواسّ المعهودة ، فالعمى ـ كما أسلفنا ـ عمى العقل لا عمى العين ، عمى الفكر لا عمى الحواسّ ، عمى المعرفة لا عمى السمع والمشاهدة.

فتحصّل : أنّ الإنسان الذي لا يؤمن بمبدأ القوّة المسيطرة العليا ، الله الواحد الأحد ، هو الذي لم يعقل ولم يفكّر ولم يعرف المعرفة الحقّة ، فهو في الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى ; وذلك لأ نّه استفاد من حركة العقل على ضوء رغبة علميّة خاصّة ، فولد الفكر ناقصاً ، فإنّ التجريبية بدأت ـ مثلاً ـ بنهضة شاملة وثورة كبيرة على مبادئ الغيب والميتافيزيقيا ، وسارت على هذا المنوال بكلّ شراسة وإصرار ، إلى أن أصابها التكسّر مؤخّراً حين فقدت «الميكانيكا» عنفوانها ، وبدا نجم «الاحتمال» يسطع في عالم التجربة ، وهذا يعني بداية العودة إلى المربّع الأوّل ، مربّع القوة المسيطرة العليا الخارجة عن نطاق الطبيعة والإنسان ، المربّع الذي حاربته «التجريبيّة» بضراوة ثم قفلت ترجع إليه شيئاً فشيئاً كرجوع الولد العاقّ إلى والديه تائباً نادما.


ولا شكّ أنّ هذا نوعٌ من الإخبار لا الإنشاء ، وإلاّ فربما يولجنا الحال في مبحث «الجبر والتفويض» حيث «الأمر أمرٌ بين الأمرين».

فالإنسان من جهة : خُلِق حرّاً مخيّراً (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١) (أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (٢) لكنّه غالباً ما يتّبع هواه فيضلّ عن السبيل السوي ، وهذه الضلالة بإرادته ، وإلاّ فلو شاء لآمن وعمل صالحاً.

ومن جهة اُخرى : هو محكوم بقوانين واُمور لا يمكن له تجاوزها.

إنّ هذه «الرؤية» تغنينا عن نزاعات الألفاظ ومعاركها المعقّدة التي قد تبعدنا عن محور البحث بدل الحصول على نتائج معرفيّة واضحة الأدوات والمحتوى والمعالم قد تدنينا من الفهم السليم والإيمان الصحيح.

نعم ، لقد اختصر الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفة الحياة في هذه اللوحة الدلاليّة الكبرى ، حين خطّها ونقشها في يوم عزيز على المسلمين والمؤمنين ، يوم عرفة المقدّس ; إذ الإنسان المسلم الخارج عن مظاهر الدنيا ومفاتنها ، الداخل في الفضاء القدسي الروحاني بذلك الحال والملبس الذي يذكّره بيوم البعث والنشور ، الآتي من كلّ فجٍّ عميق ليشهد منافعه الاُخرويّة ، ليلمس حصاده (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد) (٣) ... وإذا بملحمة ريحانة المصطفى تهزّ مسامعه وحناياه وعقله ، حين تدعو الفكر

__________________

١. سورة الإنسان : ٣.

٢. سورة البلد : ٨ ـ ١٠.

٣. سورة الحشر : ١٨.


والذهن كي يسمو فوق الرؤية المادّيّة محلّقاً في آفاق الرؤية المعرفيّة ، رؤية يقينيّة تتجاوز الحواسّ بتأ لّق العقل الذي ينبغي أن يرى ، فالعين أنهت وظائفها ، إنّما عين العقل هي التي تتحمّل المسؤوليّة بعدئذ في سوق الروح والجسم حيث مرابع الأمان ومراتع الفلاح ، حيث الحبيب الأوّل والآخر ، حيث الباقي بعد فناء الأشياء.

السلام عليك سيّدي أباعبدالله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك ، عليك منّي سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتكم ...


حقّ الدِّين

من الخفّة والسذاجة وعدم النضوج واللياقة بمكان أن ينفرط عقد العقلانيّة والمتانة والتماسك فوراً أو تدريجيّاً بمجرّد حالة غضب أو استفزاز أو حسّ بالتشفّي والانتقام وتصفية الحسابات ، والأخطر ما في الأمر أن يُجرَف المرء عنوةً ويولَج في تلك المطبّات رغماً عنه فيخرج عن طوره وعقلانيّته ومتانته وتماسكه ، ويسقط في وحل الذبّ عن المواقف والآراء ، متشبّثاً بكلّ ما يطفح به ويقذفه إلى مناطق الخلاص من صحيح وسقيم.

علينا ألاّ نهوي إلى تلك المهاوي السحيقة لمّا تتعكّر الأجواء ، فالمفروض ألاّ تعريض ولا تشفٍّ ولا حسّ انتقام وثأر ، بل مقدار كاف من المتانة والعقلانيّة في معالجة الاُمور والقضايا الحادثة.

وأشدّ ما يُخشى منه خرق أحد الأطراف التعهّد والالتزام العامّ ممّا يجعل الموقف حرجاً قد لا يحتمل السكوت ، فماذا عسانا فاعلين؟ أيضاً لا مفرّ هنا من المتانة والعقلانيّة والتماسك ومزيد الصبر والأناة.


إن قيل : إنّ الصخر الأصمّ يتفسّر بفعل الضربات المتواصلة ، فكيف بمتانتنا وعقلانيّتنا وتماسكنا مقاومة هذا النوع من الضرب؟ ولاسيّما حين يعمّ الضرر الجميع وينفرط العقد وتختلّ التوازنات وتضطرب المعادلات وتزداد الاُمور سوءاً ووخامة؟

قلنا : لا نعني بالمتانة والعقلانيّة والتماسك : الاستسلام والضعف وقبول الإذلال والحطّ من الشأن والكرامة .. إنّما نعني بها ممارسة المناهج التي يقرّها الدين والأخلاق والإنسانيّة ، كلّ ظرف بحسبه.

ما نريد إيصاله من مفهوم : أنّ الاُمور يجب أن تكون مبنيّةً على معادلة يحكمها التوازن والنظم الناشئين من الفكر السليم والعقل الصحيح ، ولا شكّ أنّ ديمومة التوازن والنظم تابعة لمدى الالتزام والتقيّد ببنود ومضامين المبادئ الاعتقاديّة والشرعيّة المجمع عليها.

وتكمن أهمّيّة الأمر فيما لو أنّ مفروض القضيّة كيانات وتجمّعات ومحاور وأقطاب ورموز لها شأنها وثقلها المؤثّر الاستراتيجي ، فإن لم يستطع كلّ واحد منها إحكام منافذه وتنفيذ التزاماته ومواثيقه ، سواء في ذلك المقرّر منها تدويناً وتحريراً أو المتّفق عليها عرفيّاً وأخلاقيّاً وقيميّاً ، كانت النتائج هدّامةً كارثية.

وبالرغم من خطورة الموقع الذي تشغله هذه المعاقل المشار إليها والدور الذي تؤدّيه ، لكنّها كثيراً ما تغفل عن قضايا أو تتغافل عنها إهمالاً وغطرسةً وتعالياً ، أو لخطأ في الحسابات والتقديرات ، فتراها على الدوام


محطّ النقد والهجوم اللذين لا يسلمان غالب الأحيان من المبالغة والإضافة بل وحتى التجنّي والافتراء ، فباتت صبغة البذخ والترف وگعدات السمر ولذائذ الدنيا ومجاملة السلاطين والقبول بالأمر الواقع مهما كان وتلبية الرغبات الذاتيّة والاهتمام بمظاهر الدين والشعارات والقشور دون الاُصول والجوهر والمفاهيم العميقة ، هي الصبغة التي صبغها إيّاها الآخرون ، بل هي صبغت ذاتها بذاتها بفعل الكبر وتجاهل الاُمور الهامّة والحسّاسة التي تثير اهتمام الناس ولا تثير اعتناءها بها.

إنّها تمرح وتلعب وتلهو وتأكل وتشرب و ... وتتحدّث من على منابر الوعظ والعلم والثقافة والأخلاق بسجايا وسيرة أهل البيت عليهم السلام والصلحاء والمؤمنين بينا الناس غارقون في الفقر والمسكنة والحاجة.

تتمسّك بالمظاهر وتمرّر من خلالها مطامحها ورغباتها وتدعو الناس إلى التعمّق فى قيم الدين ومبادئه.

فهي ديماغوجيّة في ما يخدمها ، تلهب الشارع حماساً وانفعالاً ; لتأمين مصالحها والتستّر على ما خفي من قضاياها .. صمٌّ بكمٌ عميٌ في ما لا يخدمها ، فتتلاعب بأحاسيس الناس ومشاعرهم أنّى تشاء.

وذروة المرارة تكمن في كونها قد اتّخذت الدين وشرعه المبارك درعاً لها ومؤوّلةً له طبق مذاقها تأويلاً انتقائيّاً ، ممّا حدا بل جرّأ المخالفين والمعاندين إلى فتح نار الحقد والتوهين صوب الدين الحنيف والقيم


الحقّة ; إذ وجدوا بهؤلاء وأفعالهم خير مصداق في الانتقاص من الدين وتسجيل الخلل والعيب عليه.

إنّنا قبال تكليف مقدّس يدعونا جميعاً إلى عرض الدين فكراً وممارسةً بالنهج الصحيح والبراءة من تلك الفعال والمظاهر براءة الذئب من دم يوسف.


الإسلام دين التغيير

ممّا جرى في العالم خلال شهر واحد فقط :

هجمات باريس الإرهابيّة على مجلّة «شارلي إيبدو» وما تلاها من الرسوم المسيئة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والاعتداءات والمظاهرات المناوئة للإسلام والمسلمين في عدّة من الدول الأُوربيّة ..

مقتل رئيس اللجنة المكلّفة بالتحقيق في انفجار المركز اليهودي في بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين والمتّهمة فيه إيران وحزب الله ..

حزب الله يردّ على الهجوم الإسرائيلي في القنيطرة ولا تصعيد يُذكَر إلى الآن ..

فوز اليسار المتمايل نحو الشرق ـ وروسيا بالذات ـ في الانتخابات اليونانيّة الأخيرة ..

أنصار الله الحوثيّون يفرضون هيمنتهم وشروطهم على الحياة السياسيّة في اليمن ..

الخلافات الحادّة تعصف بالعلاقة بين الكونغرس والحكومة في


أميركا حول الملفّ النووي الإيراني والعقوبات على وجه الخصوص وما رشح منها من دعوة الكونغرس لنتانياهو لإلقاء خطاب هناك حول التهديد النوويّ الإيراني ..

التغييرات الواسعة في المناصب الوزاريّة والحكوميّة السعوديّة عقيب وفاة الملك عبدالله وتسلّم الملك سلمان مقاليد الحكم ..

إقرار الموازنة في العراق بسهولة وإنسيابيّة بخلاف السنين السابقة ..

مقتل العشرات من الجيش المصريّ في هجمات «أنصار بيت المقدس» شماليّ سيناء وما أعقبها من تصنيف القضاء المصريّ حركة حماس تنظيماً إرهابيّاً ..

هجمات الپاكستان الأخيرة الإرهابيّة التي أودت بحياة عشرات الشيعة ..

ذبح «داعش» للرهينتين اليابانيّين ..

طرفا النزاع المسلّح في دولة جنوب السودان يتّفقان على تقاسم السلطة ..

توقّف فضائيّة «العرب» ـ التي أنشأها الأمير الوليد بن طلال ويرأسها الإعلاميّ المعروف جمال خاشقجي ـ عن البثّ بعد أقلّ من ٢٤ ساعة على انطلاقها من البحرين ، قيل : ذلك إثر اللقاء بخليل مرزوق المعارض البحرينيّ الشيعيّ البارز ..

إيران ترسل القمر الصناعي (الفجر) إلى الفضاء ..


روسيا والصين والهند (٤٠% سكّان العالم ـ ٢٠% الإنتاج العالمي) تجتمع لإيجاد نوع من التماهيّ الاستراتيجي الساعي إلى إيجاد تغيير في النظام الدوليّ القائم حاليّاً ..

هذا ليس برنامجاً خبريّاً يستعرض ما جرى خلال شهر تقريباً ، أو ثمّة قائمة معلومات وسرد أحداث تهيّىء لتحليل سياسي معيّن يسعى صاحبه ـ بعبقريّة وحنكة وذكاء ـ للربط بين مختلف الوقائع والمتغيّرات السريعة الخاطفة من أجل الخروج باستنتاج يتلخّص بنظريّة المؤامرة تارةً والعمالة والخيانة اُخرى وصراع الحضارات والديانات والمذاهب والأعراق ثالثةً ثم رابعة وما بعدها ..

إنّما الأمر ببساطة تامّة هو : أنّ العالَم يتغيّر ، الزمان يتصرّم ، الحركة دائمة مستمرّة ، كلّ ذلك يحدث بأسرع ممّا نتصوّر .. لذا نقول : إنّها الفرصة ، فرصة التغيير نحو الأحسن (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) .. ولا نقصد من التغيير سوى ذلك الذي يعود بنا إلى الفطرة السليمة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها .. نعم ، التغيير الذي يبدأ من الذات وفي الذات وإلى الذات ثم يحلّق في الحيّز الأوسع الأشمّ ، بما للذات من معنىً أخصّ وأعمّ ..

وأرقى أنواع التغيير تلك الحاصلة من التفكير السليم الخاضع للمنهج العلميّ الصحيح ، منهج المبادئ والاُصول والأخلاق والرؤى التي صاغتها ثقافة الخير والفلاح وسعادة الإنسان أنّى كان ويكون ، تلك التي لا نعثر


عليها إلاّ في كنوز الحقّ والحقيقة ، محارم وحي الله وخزنة أسرار السماء ، أهل بيت الطهر النجباء .. إنّه طريقٌ ومقصدٌ واضح المعالم والعلائم كوضوح الشمس في رابعة النهار غير المعتم الغائم .. إلاّ من اُشرِب العجل فأنكرها مكابرةً رغم الاستيقان في الخفاء والباطن ..

فهاهم آل العصمة (عليهم السلام) ونوّابهم العامّون المراجع العظام وسائر الصلحاء من الفقهاء والعلماء والنخب الرموز الأتقياء ، سفن النجاة ومنار التغيير وأعلام الهداية وأقطاب الفلاح ومحاور الصلاح ، الملاذ الآمن والملجأ المطمئنّ والمعقل الوسيع ، هاهم البيت الذي يحتضن الجميع بلا أدنى تمييز وتفضيل وترجيح طبقاً للميزان الدقيق والضابط الإلهيّ الرفيع : (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ).

الإسلام إذن هو دين التغيير نحو الأحسن الأرقى ، نحو الفطرة الاُولى ، وهل شيءٌ أرقى من الفطرة السليمة التي تعني : الحبّ والإيمان والخير والأمان وسعادة طرّ بني الإنسان دنياً واُخرى؟!


رجل الدين

رجل الدين : دَمِثُ الخُلق ، عَطِشُ العلم ، لا ترويه الرشفة ولا تكفيه الغرفة ، كلّما ازداد رام المزيد.

عاملٌ بعلومه ، عَمَلَ العارف الخبير ... زاهدٌ بدنياه وزهوها الخطير ، لايغرّه زخرفها ولا يخدعه ظاهرها ... مخترقٌ لبّ الحقائق قاصدٌ أعماقها ، رافضٌ قشورها.

مهوى الأفئدة والضمائر ، تستشعره الناس مرفأً مطمئنّاً وملاذاً آمناً.

في نطقه وصمته حكمة ، في سكوته وحركته بركة.

لسنا مثاليّين ، لكنّا هكذا نرى رجل الدين ، هكذا يرى الدينُ رجلَ الدين ، وما أكثر رجال الدين الذين هم لهذه الصفات حائزون .. إنّما الكلام مع الذين هم لها أو لبعضها مفتقدون ..

حذاري ، فالناس كلّ الناس ترقبكم كظلّكم ، عدساتهم تلتقط أدقّ التصاوير واللقطات ، آذانهم تسترقّ النجوى والهمسات ، ناهيك عن كتابه تبارك وتعالى الذي لا يغادر صغيرةً وكبيرةً إلاّ وأحصاها. فلا تكونوا عبثاً ثقيلاً على أقرانكم واُناسكم بل وأنفسكم ، كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ...


ألم يرنّ في حناياكم جرس مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) حينما أراد أصحابَه أن يكونوا كما ينبغي أن يكونوا حتى تقول الناس : رحم الله جعفر ابن محمد هكذا أدّب أصحابه .. رحم الله جعفر بن محمد هكذا أرسى دعائم فكر ونهج وثقافة لازال سنا أنوارها ألقاً وضّاءً ... رحم الله جعفر بن محمد هكذا أنجبت مدرسته رجالاً ، أقطاباً ، أعلاماً ، في صمتهم النطق وفي نطقهم الصمت ، في سكونهم الحركة وفي حركتهم السكون ، في حكمتهم آيات من العِبَر والمعاني العظام ، في أفكارهم قراءات من التفسير والتأويلات ، في سيرتهم مناهج حياة وفلاح وكمالات .. تهفو القلوب إليهم ، تسبح العقول في فضاءات معارفهم ، ينساق الوجدان إلى روائع إيمانهم ...

«رحم الله جعفر بن محمد» صرخةٌ ليتها لم ولن تغيب عنّا كلّنا ولاسيّما رجل الدين منّا ; إذ إنّه قرّة عين مدرسة الصادق (عليه السلام) وعليه المعوّل في بيان الحقائق والأخذ بيد الخلق إلى السعادة والعزّ السامق.

لا نقل : إنّ «لو» الإمام الصادق (عليه السلام) كانت تحضيضيّة وانتهى كلّ شيء .. فلنقل بإنصاف : غذّت مدرسة الصادق (عليه السلام) ـ على مرّ التاريخ ـ ميادين العلم وسوح المعرفة وفضاءات البشرية بأساطين الأخلاق والحكمة والفكر ، ولا زالت وهكذا ستبقى حتى يُظهِر الله أمره.

هيهات أن نثلج صدور أعدائنا مادمنا أتباع مدرسة قادتُها مراجعُها ، تلك أمانيّهم تموت ويموتون بغيظهم ، نحيا وتحيا قيمنا الأصيلة ومبادئنا النبيلة.


إذا فسد العالِم فسد العالَم

ما أصعب أن تلزم الصمت وتمسك عن الكلام وأنت في عنفوان النطق وغزارة المحتوى ، صعوبة وكأ نّها نارٌ تكتوي بها الحنايا وتستعر منها الأعماق ، مرارةٌ تذوّب الكبد وتذهل الإحساس وتشتّت الأفكار .. تسكت لأنّ السكوت خيار الظرف ، لا أدري فلعلّ ذلك «الزمان» قد حلّ بنا ، حيث العافية به في عشرة أجزاء ، تسعة منها في العزلة وواحدة في الصمت ، بعد ما حلّ منذ أمد بعيد واقعُ تساوق القبض على الإيمان مع القبض على جمرة النار ...

لهيبٌ في القلب أن يخرس اللسان ويمتنع عن الأداء والتعبير عمّا تلقّته الحواسّ من «أشياء» ; صوناً للعهود والمواثيق والمبادئ ، ولكن هيهات هيهات أن يدوم الصمت أبدا ، فلابدّ من نافذة أو مسرب تتنفّس من خلاله الأفكار ورواشح الحواسّ .. كلمة ، إشارة ، همسة ، حتى السكوت قد يكون بذاته أبلغ من النطق وأبين وأسرع ; بل يقولون : إنّ لغة العيون عالمٌ بحدّ نفسه.

والأخطر ما في الأمر تفاعل الفكر مع هذه «الأشياء» أو أن تفرض


حضورها الفاعل عل فضاءات الفكر والأفكار ، فيولد من جرّاء ذلك نتاجٌ إنساني آخذٌ بعين الاعتبار هذه «الأشياء» ، بل تكون من صميم الجوهر والبناء ، لا تنفكّ عنه ولا ينفكّ عنها ، فإذا استشرى استشرت معه تلقائيّاً وأساسيّاً.

إنّ أيّة محاولة نقديّة علميّة مثمرة لابدّ أن تكون : استقرائيّة استقصائيّة ، مستوعبة ، مقارنة ، حافرة ، قارئة ، محلّلة ، مستنتجة ... ممّا يعني أنّها تشاهد وتسمع وتستجمع كلّ ما يمكن أن يكون دخيلاً في صياغة الفكرة النقديّة النهائيّة.

من هنا فالفعل الإنساني إذا اُحرزت فيه ملاكاتٌ يعتقد أنّها نوع ممارسة وتطبيق لقيم ومبادئ ومفاهيم ، ولاسيّما إن كان صدورها من جهة لا يستهان بها ، فلا تتردّد الآلية النقديّة في ضمّها إلى المؤن التي تستند إليها في عمليّة البناء النقدي وترتيب الآثار.

ولا يمنح الفكر النقدي مزيداً من الفرص أو أن يتغاضى بسهولة عن هذه وتلك ، إنّه يسجّل ملاحظاته ويتابع المسير حتى يعلن المحصّلة النهائيّة ، ولطالما كان الدفاع أضعف من الهجوم والعلاج أدون من الوقاية ، ممّا يعني الجهد الجادّ والسعي الحثيث لتشييد ثقافة «العقل المسؤول» الذي يتمخّض عنه «الفعل المسؤول» ، بعبارة اُخرى : السلوكيّات الصادقة ـ التي يرصدها النقد بمختلف حالاته وانتماءاته ـ لابدّ أن تخضع لضوابط وموازين وملاكات الفكر المدوّنة ، على درجة عالية من الدقّة والحذر ،


سلوكيات يُتوخّى بها انعكاسٌ حقيقي لقيم الفكر ومبادئه وأخلاقه ، بلا أدنى تسيّب وترهّل ، الأمر الذي يجافي المشاريع الضيّقة والمحاولات المحدودة التي تشكّل في كثير من مقاطعها برادوكساً مع أساسيّات الفكر ومحاورة الرئيسة.

لقد تجرّع النصّ غصص القراءات الخاطئة والبراغماتيّة التي جعلت منه رقماً كسائر الأرقام إن لم تهبط به في أكثر الأحيان إلى ما دون ذلك ، بل ذهب الكثيرون ـ تجرّءاً ـ إلى التشكيك في أصل النصّ وصدوره وجهته ، النصّ الذي ولد ليكون فوق كلّ المساومات والفرضيّات والاحتمالات نجده بفعل ذلك متعرّضاً لأقسى حملة علميّة منهجيّة الغرض منها حذفه ونفيه ، أو على أدنى تقدير إيجاد التزلزل والضعف في أتباعه.

كلّ النخب مسؤولة بحركاتها وسكناتها ، مسؤولة أن تكون بمستوى «العقل المسؤول» الذي يتمخّض عنه «الفعل المسؤول» وعينيّة الفرض تحدّدها الضرورة والعقل والنصّ ، ونهضة النخب المستقاة من قراءة النصّ قراءةً صحيحة تعيد له مكانته وفاعليّته وتأثيره ، التي تعني سَوق الإنسان صوب ما يفترض أن ينساق إليه ; إنبعاثاً من محراريّة الفطرة وحكمة المخلوقيّة.

ولا يمكن انفكاك الثقافة والممارسة والأخلاق عن محيطها الذي تنتمي إليه ، بل هي كلّها صورة ونموذج لشيء واحد ، لهويّة واحدة ، هذه


الهويّة التي يعبّر عنها بأدوات وآليات شتّى. وتلعب الدوائر الضيّقة دوراً أساسيّاً في تعميم الفكرة المنبعثة غالباً من العقل الفردي سواء نتجت عن جهد معرفي علمي أو تقليد أو رغبة ذاتيّة ، فإذا استطاع العقل الفردي غرسها في الدائرة الضيّقة مع وجود الشواخص والفضاءات التي تدعمه فإنّها ـ أي الفكرة ـ تسري كالنار في الهشيم على الصفّ الأوّل ـ الدائرة الضيقة ـ ابتداءً ، ثم تأخذ بالاتّساع والانتشار لتخترق العقل الجمعي ، فإذا ما اخترقته صارت ثقافة وممارسة وأخلاق مجتمع واُمّة ، والاُمور تؤخذ غالباً بظواهرها ونتائجها وعليها تحاسب المذاهب والنظريّات والتوجّهات ، ولا يمكن الاعتذار ، بل لا يجدي نفعاً والمناوئ يجد في النخبة ـ التي أسّست لذلك الاجتهاد المنحرف والمسار الخاطئ ـ ميزاناً وملاكاً ومصداقاً راقياً لاُمّة تدّعي أمراً كبيراً.

ولقد ثَبَّتَتْ أمثال : «الناس على دين ملوكهم» و «إذا فسد العالِم فسد العالَم» ... نتائج واحصائيّات وملاحظات ودلائل ونماذج لا يمكن القفز عليها أو تغافلها ، فإذا ما أردنا الإصلاح وانتشال الاُمّة إلى حيث يجب أن تكون لابدّ من مراجعة النخب حالها ، خصوصاً إن كنّا نؤمن بدوام المراجعة حتى على مستوى النصّ المقدّس كي يغدق علينا على الدوام بما يجعلنا أشدّ تماسكاً وأكثر تكيّفاً زمكانيّاً ، فمن باب أولى مراجعة النخب حالها مراجعةً علميّة منهجيّة ، يسمّيها البعض محاسبة النفس ، ويسمّيها البعض الآخر بتسميات وعناوين مختلفة ، ومحاسبة النخب نفسها تتناسب ـ شأنيّاً ومحتوائيّاً ـ معها تناسباً طرديّاً ، وقد تحصل


بها عمليّات إعادة انتشار أو جدولة قضايا ترقبها الاُمّة وترصدها رصداً دقيقاً ، ولاسيّما أنّ كلّ واحد منها بمثابة الملك والعالِم الذي تأخذ منه معالم دينها ، ومعالم الدين تعني الثقافة والممارسة والأخلاق التي تنطبع بها عيون البشريّة وعقولها.

إنّ أشدّ ما نعانيه وجود الاختلاف الكبير والتفاوت المدهش بين النصّ ومحتواه المتكامل وبين التطبيق وضعفه المفرط ، وعادةً ما يتشبّث المناوئ بالثاني كحجّة نقديّة تختصر له الطريق وتختزل مسافات البحث والتنقيب ، فيقع النصّ ـ إثر الاستيعابات الناقصة والأفهام الخاطئة والاستنباطات البراغماتيّة والاجتهادات الانتمائيّة والمحاصصات الفكريّة ـ في شراك الاتّهام والانتقاص الظالم ، ظلم تقاسمه الجميع ، القريب والبعيد ، الصديق والعدو.


أين نحن من محمّد؟

بين هذا الذي تنفّس الصعداء بوأده وليدته مصدر العار ومبعث الذلّ ومنطلق الشؤم ، وذاك الذي استراح حيث أنجز تكاليفه العباديّة بأدائه الطقوس والتوسّلات بهُبل واللاّت والعزّى ، والثالث الذي فاخر بنصره عشيرته وقبيلته بتسجيله أرقى مراتب التعصّب من قتل وترويع وإرهاب وثأر وسلب ... بين كلّ اُولاء نهض محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) بمشروع عُدّ مجازفةً وتمرّداً وانتحاراً ومهزلةً جنونية تلفظها اُصول العقل والمنطق والأعراف الحاكمة آنذاك.

أمّا هو (صلى الله عليه وآله) فأرادها حضارةً تسمو بالإنسان فوق قِيَم الوأد والشرك والانتماءات الضيّقة إلى عالم رحب يمنحه الحبّ والحرّيّة والنموّ والأمان والفلاح. وكان همّه الأوّل تمرين العقول والقلوب على السفر خارج حدود المفاهيم المعتمة ، إلى حيث ينعم الذهن والفكر بمراتع المعرفة التي تذيب جمود العقل وتمسح عنه أدران القوانين الظالمة والأحكام القاسية.

أراد (صلى الله عليه وآله) بالإنسان أن يشمخ إلى منصّة القناعة التي تقذفه إلى أسمى


طبقات الحبّ والعشق ، نعم لقد عنى (صلى الله عليه وآله) بالدين والرسالة والقرآن : الحبّ ، فهو غاية هدفه ومنتهى طموحه وذروة مبغاه.

لم يكترث كثيراً بتأسيس الدولة وبناء الحكومة وفتح البلدان مثلما اكترث بمفهوم الحبّ ، ولو خُيّر (صلى الله عليه وآله) لاختار السلم والحوار الهادئ لكنّهم حمّلوه ما اضطُرّ إليه من وقائع وأحداث ومواقف.

ولم يكترث بقشور الرسالة أبدا ; إذ كان همّه بلوغ الحقيقة لا جَرَما.

لقد عانى وتأ لّم وتجرّع الغصص والصدمات كي تخصب مرابع الحبّ وتخضّر رياض العشق فتثمر وفاقاً وأماناً وإيمانا. والقلب إذا أحبّ بعقله فقد أغلق كلّ الملفّات العالقة وأذاب الحواجز الشاهقة والموانع الصعبة. والحبّ يعني حبّ جوهر القيم والمفاهيم والمعاني الإنسانيّة الخالدة ، وهو بوّابة المعرفة ومفتاح الكمال الإنساني ، ولا وجود للمعرفة والكمال الإنساني ولا مفهوم ولا معنى لهما بدون قصد ومعرفة منبع الفيض والجمال والحبّ والنور والكرامة ، القوّة المسيطرة العليا ، ذات الباري تبارك وتعالى.

فماذا كان يريد محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله)؟ أكان يريد غير ذلك؟ إنّه أراد للإنسان أن يقوم بعشق ويسكن بعشق ويسمع بعشق ويقول بعشق ويرى بعشق ويتدبّر بعشق ، إنّ مراده هو الإنسان العاشق الحقيقي ، وبعشقه هذا يطير ويسمو إلى مبدأ العشق ، إلى مبدأ الخير والرحمة والجود ، ربّ الأرباب ، إله الأرض والسماء.


أمّا نحن ـ إلاّ القلّة النادرة ـ فلم نفهم من العشق شيئاً ، ولم نفهم من محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) إلاّ قشور قيَمه وأفكاره النبيلة ، ضربنا على عقولنا وقلوبنا حجاباً من الجهل والجفاء لئلاّ نخوض غمار مبادئه وأهدافه (صلى الله عليه وآله) خوضاً مخلصاً حقيقيّاً جادّاً فنبتلي ونتورّط بالتزامات ومواثيق وعهود وأمانات ترفضها شهواتنا وملذّاتنا ومنافعنا ، فصرنا نهوى السطوح ، نخاف العمق واللبّ ، نخشى الحقيقة بل لا نريدها ، فاكتفينا بالطلاء والقشر والظاهر ; إذ فيه مآربنا وترافتنا.

مثالٌ : الحجاب شعارٌ ورمزٌ من رموزنا لا يمكن التخلّي عنه بأيّ حال من الأحوال ، بل واجب شرعي ديني بإجماعنا ، لكنّ الوقفة المتأمّلة يكتنفها استفهامٌ مثير مفاده : إن توفّر الحجاب وفُقدت القيم والمبادئ أو باتت متزلزلة هشّة ... ما العمل؟

العمامةُ ميراثٌ قدسي فرض مكانته وشعاريّته عندنا بكلّ إجلال واحترام ; لما تمثّله من قيم وانتماء والتزام ، لكنّ الوقفة المتأمّلة يكتنفها استفهامٌ مثير : ماذا لو لم يبق من العمامة إلاّ قطعة القماش البيضاء أو السوداء الملفوفة والموضوعة على الرأس بكلّ دقّة وجمال ورشاقة ، وما عاد العلم أو التقوى أو كلاهما قرب صاحبها إلاّ همّاً وعبئاً ثقيلا ... ما العمل؟

الثراء أم الإيمان لو تزاحما أو تعارضا؟ نأخذ بالمؤمن المتّقي العدل أم بذي الثراء المهتزّ إيمانه وتقواه وعدله؟ بذي العفاف والكرامة من الاُسر المغمورة؟ أم بمخالفهما من ذوي الاُسر المرموقة؟


هذه عيّنات من واقع نرزح تحت وطأته بكلّ ألم ومعاناة.

لا محلّ للمجاملات أبدا ; إذ القضيّة أرقى وأسمى وأشرف من أن تُعالَج أو تُحَلّ بالآليات المريضة ، إنّها قضيّة قيم ومبادئ قد سُحِقت ، فأعزّ ما نذود عنه ونجاهد لأجله هو ذاكرتنا الأزليّة التي تعني الوفاء بالعهد والأمانة ، عهد الإيمان بفكر السماء وحفظ أمانة المولى تبارك وتعالى حينما حملها الإنسان لمّا أشفقت منها السماء والأرض والجبال .. لكنّا لم نحفظ العهد والأمانة بتمسّكنا بقشور الدين وطرحنا لحقائقه واُسسه ومحتواه.

نتشبّث بعامل الزمان والمكان كي نهرب بحياتنا وأساليب عيشنا وما سواهما بمنأىً عن اُسوتنا محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) وآله الغرر الميامين. نهرب إلى الزمان والمكان علّه ينجينا باتّخاذنا إيّاه غطاءً ومترساً.

إنّها مصيبة اُخرى ، فبدل أن نجعلهما بوّابةً ومعبراً لحفظ قيمنا وتركيزها وبثّها ، جعلناهما أداةً وآلةً نحتمي بها من غِيَر الحقيقة وعواقبها.


من مقدّمة تحقيق كتاب التبيان في تفسير القرآن (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيّد المرسلين محمّد وآله الغرر الميامين.

ما كان يدور بخلد قريش وصناديدها ـ بل الدنيا بأسرها ـ أن ينطلق يتيمٌ شبه مغمور برسالة سماوية تطيح بجبروتها وتمرّغ أُنوف أقطابها بوحل الذلّ والهزيمة ، وتطحن آلهتها طحن الرحا فتذروها ذرو الريح الهشيم في يوم عاصف ، محلّقاً ألقاً على جنحان أنبل وأكمل بلاغ ربّاني لم ولن تشهده البشرية أبدا ، بلاغ شاد به على أطلال العروش الهاوية أسمى حضارة وأرقى منظومة قيَمية غزت العقول والقلوب على السواء.

إنّه الفكر الموّار ذو الإحاطة الرائعة والبصائر الفذّة والأُطر الأنيقة والمفاهيم العميقة والاستقطاب الساحر والتأقلم السريع والتجسّد الوضّاء ،

__________________

١. تفسير التبيان لشيخ الطائفة الطوسي (قدس سره) تضطلع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث بتحقيقه وطبعه .. صدر منه مجلّدان إلى الآن.


القاصد ذات الإنسان ، المخترق لبّه وخفاياه ، أحاسيسه وحناياه ، لينتشله من حضيض البهيمية شطر شوامخ العزّ والسعادة السرمدية ، دون ابتسار من حرّياته المشروعة وأهدافه الجادّة ، فغدا رائد الطامح وملاذ التائه ودليل الحائر وكهف البائس وبَرّ الخائف ومُنجي الهارب.

وما كانت الإحن والأضغان والمتاعب والويلات لتحول بين الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) وبلوغ المرام ، فلقد أرساها ـ كما أرادها ربّ العالمين ـ على مرافئ الفخر والمجد علياءَ شمّاء ، متلألئةً بضياء أنوار السماء ، كاشفةً دياجير العادات المقيتة والعصبيات القبلية والنعرات الجاهلية والأعراف البالية والمفاهيم الخاوية ، فاتحةً آفاقاً رحبة وسبلاً واسعةً لنهضة شاملة تنقل الأُمّة نقلةً نوعيةً تأريخيةً من واقع التخلّف والاضطهاد إلى التطوّر العظيم والنعيم المقيم.

وإذ ألكم (صلى الله عليه وآله) أفواه الرفض ودفع بترّهات النفاق والضلالة والتشكيك إلى مهاوي العزلة والخسران المبين ، وجابه فنون البلاغة والفصاحة والبيان المزدهرة آنذاك ـ ولا سيّما ثقافة الشعر والأدب ـ مجابهةً منحته نياشين النصر بكلّ فخر واعتزاز ، وانقادت له الألباب والمشاعر بكلّ انتماءاتها وطبقاتها وألوانها ; فلأجل عدم نطقه (صلى الله عليه وآله) عن الهوى ، بل عن وحي يوحى ، فلا غرو أن يصدر من ثغره الشريف ما هو الأبلغ الأفصح والأسلم الأصحّ والأبين الأحكم ، صادراً سماوياً مشبعاً بعلوم الأمس والساعة والغد ، بالمعرفة النابضة والثقافة الحيّة ، بالنظم والقوانين والمناهج


والأنساق التي (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا) (١).

إنّها شجرة الدين المباركة ، شجرة الإسلام الحنيف ، غاية الإعجاز الإلهي ، التي تجسّدت بالألفاظ الربّانية المقدّسة ، النازلة على صدر المصطفى الأمجد (صلى الله عليه وآله). إنّه القرآن الكريم.

انطلق السراج المنير (صلى الله عليه وآله) بمعجزته الخالدة ومظهر التحدّي الإلهي ، الذكر الحكيم ، الفرقان المقدّس ، الكتاب العزيز الذي (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) (٢) ، انطلق براية الحقّ خفّاقةً على كلّ المعمورة ، بملاك وضابط وميزان واحد : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) (٣) ، فذابت الحواجز وزالت الفوارق وتساوى العبد والحرّ ، الأسود والأبيض ، الفقير والغني ، العربي والأعجمي ، وصار الكلّ ينشد الكمال والفلاح بنهج واحد وصراط واحد.

إذن ، كيف لا يكون محمّد (صلى الله عليه وآله) خير شهيد لخير دين على خير اُمّة ، ولا يكون متمّماً لمكارم الأخلاق ، وهو الذي صرّح فيه النص القرآني : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم) (٤)؟!

إنّ أساس بعثة النبي الأكرم وغاية رسالة الإسلام تتلخّص في قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ) (٥).

__________________

١. سورة إبراهيم : ٢٥.

٢. سورة فصّلت : ٤٢.

٣. سورة الحجرات : ١٣.

٤. سورة القلم : ٤.

٥. سورة الإسراء : ٩.


ادّعاءٌ هامٌّ وخطير وكبير ، لكنّ الذي يثلج الصدور ويُطَمْئن العقول والقلوب صدور القرآن الكريم من قيادة الكون الكبرى ، من لدن الله الواحد الصمد ، فكان الحجّة التامّة الثاقبة.

فلابدّ له حينئذ أن يجيب عن سؤال الحياة الكبير من خلال نسقه الأتمّ الأصحّ المتجاوز عقبة الزمان والمكان.

إلى ذلك ، تفرّده بخصائص ، منها على سبيل المثال لا الحصر :

ـ إنّه ليس سند المسلمين ومعجزة دينهم السماوي فحسب ، بل سند البشرية طرّاً ; كونه المكمّل لجميع الأديان والرسالات الإلهية السابقة عليه ولكلّ ما جاء في كتبها المقدّسة.

ـ اعتماده الخطاب المتجانس شرعياً وفكرياً وأخلاقياً واجتماعياً وتأريخياً ، على غاية من : الإحاطة والتكاملية ، قوة النسق ومتانة المنهج ، عمق المفاهيم وسعة آفاقها ، جمال المفردة المتجلّي بروعة الصياغة وانسيابية الألحان ، ذروة النظم والإتقان البلاغي ، البيان والحكمة المنقطعي النظير ، كلّ ذلك بلا أدنى تهافت ونقص ، بالحجّة البالغة والدليل القاطع.

ـ الكمّ الهائل من المادّة العلمية المعرفية المتنوّعة المودعة فيه.

ـ تجاوزه عقبة الزمان والمكان بإمكانية تكيّف مفاهيمه وعلومه وقيمه مع مراحل تطوّر الحياة البشرية ونموّها على مختلف الأصعدة.

ـ منسّق حياة الفرد أُسرياً ومجتمعياً وأُمميّاً.


ـ تناغم الإنسان بفطرته السليمة مع ألحانه ومفرداته ومعانيه ، ولا سيّما حينما تهامس القلب والعقل ، الروح والحنايا ، خاشعاً بإزائها أيّ خشوع.

فلا عجب حينئذ لمّا تصرّح إحصائيات بيبلوغرافيا علوم القرآن الكريم : إنّ أكثر من عشرة آلاف أثر قد دوّن في معارفه وفنونه وسائر جوانبه.

إنّ تميّز القرآن الكريم بالخصائص التي أشرنا لبعضها جعلت من نصّه الشريف خاطفاً للأضواء ، خاضعاً لمختلف مراحل البحث والدراسة والتحليل والتفسير ; فكان الخوض فيه وفي لججه بمثابة صراع للحصول على نتائج من شأنها أن تعيّن مسير الإنسان ونهج حياته ومصيره.

لذلك بات تفسير القرآن الكريم من أخطر المهامّ وأشقّها وأصعبها ، خصوصاً وأ نّه في صدر علومه وفنونه ، والرقم الأوّل في حسم الحوار العامّ أو الخاصّ.

والاختلاف ـ تبعاً لتلوّن الانتماء العقَدي والفكري والثقافي ـ طبيعي في فهم آيات القرآن الكريم وطريقة تلقّيها ، مضافاً إلى تباين القرّاء الأُوَل في قراءاتهم لنصّه المبارك.

وتأسيساً على ذلك تجسّدت الحاجة الملحّة والضرورة القصوى إلى خوض غماره من جهة بيان معاني آياته وقراءاتها وحججها وإعرابها ونظمها وشأن نزولها وفضائلها وتأويلاتها والبحوث المرتبطة بها ... وهذا


ما يدوم بدوام رواشح القرآن الكريم ومنابعه التي لا تجفّ وبطون علومه التي تبقى عميقة مهما ولجها الوالجون ، وتظلّ أسراره خافية لا تكشف إلاّ لذوي المعايير الخاصّة وأصحاب الهمم العالية والأنظار الثاقبة والعقول الوهّاجة التي تشعّ إيماناً وإخلاصاً وولاءً.

التبيان في تفسير القرآن

دواعي التأليف

يقول الشيخ أبوجعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي (قدس سره) (٣٨٥ هـ ـ ٤٦٠ هـ) في معرض إشارته إلى الدواعي والأسباب التي حدت به لتأليف تفسير التبيان :

فإنّ الذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب أنّي لم أجد أحداً من أصحابنا ـ قديماً وحديثاً ـ من عمل كتاباً يحتوي على تفسير جميع القرآن ، ويشتمل على فنونه ومعانيه ، وإنّما سلك جماعة منهم في جمع ما رواه ونقله وانتهى إليه في الكتب المروية في الحديث ، ولم يتعرّض أحدٌ منهم لاستيفاء ذلك وتفسير ما يحتاج إليه.

فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الأُمّة بين مُطيل في جمع معانيه واستيعاب ما قيل فيه من فنونه ، كالطبري وغيره ، وبين مُقْصر اقتصر على ذكر غريبه ومعاني ألفاظه.

وسلك الباقون المتوسّطون في ذلك مسلك ما قويتْ فيه منّتهم وتركوا ما لا معرفة لهم به ..


فإنّ الزجّاج والفرّاء ومن أشبههما من النحويين أفرغوا وسعهم في ما يتعلّق بالإعراب والتصريف.

ومفضّل بن سلمة وغيره استكثروا من علم اللغة واشتقاق الألفاظ.

والمتكلّمين ـ كأبي علي الجبّائي وغيره ـ صرفوا همّتهم إلى ما يتعلّق بالمعاني الكلامية.

ومنهم من أضاف إلى ذلك : الكلام في فنون عامّة ، فأدخل فيه ما لا يليق به من بسط فروع الفقه واختلاف الفقهاء ، كالبلخي وغيره.

وأصلحُ من سلك في ذلك مسلكاً جميلاً مقتصداً : محمّد بن بحر أبومسلم الأصفهاني وعلي بن عيسى الرمّاني ، فإنّ كتابيهما أصلحُ ما صُنّف في هذا المعنى ، غير أنّهما أطالا الخطب فيه ، وأوردا فيه كثيراً ممّا لا يحتاج إليه.

وسمعتُ جماعةً من أصحابنا ـ قديماً وحديثاً ـ يرغبون في كتاب مقتصد يشتمل على جميع فنون علم القرآن ، من القراءات ، والمعاني ، والإعراب ، والكلام على المتشابه ، والجواب عن مطاعن الملحدين فيه ، وأنواع المبطلين كالمجبّرة والمشبّهة والمجسّمة وغيرهم ، وذكر ما يختصّ أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحّة مذاهبهم في أُصول الديانات وفروعها.

وأنا ـ إن شاء الله تعالى ـ أشرع في ذلك على وجه الإيجاز والاختصار ، ولكلّ فنّ من فنونه ، ولا أُطيل فيملّه الناظر فيه ، ولا أختصر اختصاراً يقصر فهمه عن معانيه.


وأُقدّم أمام ذلك فصلاً يشتمل على جمل لابدّ من معرفتها دون استيفائها ; فإنّ لاستيفاء الكلام فيها مواضع هي أليق به.

ومن الله استمدّ المعونة واستهديه إلى طريق الرشاد ، بمنّه وقدرته إن شاء الله تعالى (١). انتهى.

* * *

وقد التزم الشيخ (قدس سره) بما اختطّه ورسمه لتفسيره من منهج وخطوط عريضة ، ولم يتجاوزها وبقي متقيّداً بها في كتابة الجليل هذا ..

وكما قيل ، فإنّه جاء حافلاً جامعاً شاملاً لمختلف أبعاد الكلام حول القرآن ، لغةً وأدباً ، قراءةً ونحواً ، تفسيراً وتأويلاً ، فقهاً وكلاماً ... بحيث لم يترك جانباً من جوانب هذا الكلام الإلهي الخالد إلاّ وبحث عنه بحثاً وافياً ، في وجازة وإيفاء بيان.

ويحظى هذا الكتاب بقوّة ومتانة وقدرة علمية فائقة ، شأنه شأن أيّ كتاب جاء تأليفه في سنين عالية من حياة المؤلّف ; حيث يبدو من إرجاعات الشيخ (قدس سره) فيه إلى كتبه الفقهية والأُصولية والكلاميّة أنّه كتبه متأخّراً عن سائر كتبه في باقي العلوم.

وبحقّ ، فإنّ هذا التفسير قد حاز قصب السبق من بين سائر التفاسير التي كانت دارجة لحدّ ذاك الوقت ، والتي كانت أكثرها مختصرات تعالج

__________________

١. محمّد بن الحسن الطوسي ، التبيان ج ١ ص ٧ ـ ١٢ (طبع وتحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)).


جانباً من التفسير دون جميع جوانبه ، ممّا أوجب أن يكون هذا التفسير جامعاً لكلّ ما ذكره المفسّرون من قبل ، وحاوياً لجميع ما بحثه السابقون عليه.

إنّ تفسير التبيان وسط مستوعب ، يضمّ محاسن من تقدّمه ، يهمل فضول الكلام ، فظهر بأحسن ترتيب وأجمل تأليف (١).

ممّا قيل في التبيان والشيخ (قدس سره)

ـ وقد خاض العلماء قديماً وحديثاً في علم تفسير القرآن ، واجتهدوا في إبراز مكنونه وإظهار مصونه ، وأ لّفوا فيه كتباً جمّة غاصوا في كثير منها إلى أعماق لججه ، وشقّقوا الشعر في إيضاح حججه ، وحقّقوا في تنقيح أبوابه وتغلغل شعابه ..

إلاّ أنّ أصحابنا رضي الله عنهم لم يدوّنوا في ذلك غير مختصرات نقلوا فيها ما وصل إليهم في ذلك من الأخبار ، ولم يعنوا ببسط المعاني وكشف الأسرار إلاّ ما جمعه الشيخ الأجلّ السعيد أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي قدّس الله روحه من كتاب التبيان ، فإنّه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحقّ ويلوح عليه رواء الصدق ، قد تضمّن من المعاني الأسرار البديعة ، واحتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة ، ولم يقنع بتدوينها

__________________

١. محمّد هادي معرفة ، التفسير والمفسرون ، ج ٢ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦ (طبعة الجامعة الرضوية ـ مشهد المقدّسة) ، بتصرّف.


دون تبيينها ، ولا بتنميقها دون تحقيقها ، وهو القدوة أستضيء بأنواره ، وأطأ مواقع آثاره (١).

ـ كتاب جليل عديم النظير في التفاسير (٢).

ـ صاحب التفسير الكبير (٣).

ـ التفسير المشهور (٤).

ـ التفسير الكثير (٥).

ـ قد برز في القرن الخامس الهجري عدّة رجال في التفسير ، منهم : شيخ الطائفة الإمامية وفقيهها الشيخ أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي صاحب كتاب [التبيان] الجامع لكلّ علوم القرآن (٦).

ـ إنّ الشيخ المحقّق محمّد بن إدريس العجلي مع كثرة وقائعه مع الشيخ في أكثر كتبه ، يقف عند تبيانه ويعترف بعظم شأن هذا الكتاب واستحكام بنيانه (٧).

ـ وإذا نظرنا في مؤلّفاته ـ أي الشيخ (قدس سره) ـ في التفسير لم يسعنا إلاّ

__________________

١. الفضل بن الحسن الطبرسي ، مجمع البيان ، ج ١ ص ١٠ (طبعة صيدا). هذا ، وتضطلع مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث حالياً بتحقيق هذا الأثر النفيس.

٢. بحرالعلوم ، الرجال ، ج ٣ ص ٢٢٨.

٣. ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة ، ج ٥ ص ٢٥.

٤. العاني ، مقدّمة دمية القصر ، ج ١ ص ٢٥.

٥. السيوطي ، طبقات المفسّرين ، ص ٢٩.

٦. الشرباصي ، قصّة التفسير ، ص ٩٠.

٧. بحرالعلوم ، الرجال ، ج ٣ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.


الإعجاب بغزارة إنتاجه ، ولا سيّما إذا تأمّلنا في ما وصلنا من الأخبار الخاصّة بكتابه الكبير التبيان في تفسير القرآن (١).

ـ إنّ عصر الشيخ الطوسي كان عصر حضارة وتفوّق وعلم ، وكذلك كان عصر نوابغ وعلماء ، فكان لابدّ له وهو العبقري أن يدخل كلّ بيت ويتعرّف إلى ما فيه عندما كان في سنّ التلقّي والتعلّم عند شيوخه وأساتذته ، وكان كلّ شيء يلقى إليه باللغة العربية.

وكان أساتذته من فصحاء العصر والناطقين الخالدين ، فقد درس الفقه والأُصول والتفسر وعلم الكلام بأعجز بيان وأبدع أُسلوب ، فكان لابدّ لهذا أن يؤثّر في نفسه وأن ينعكس هذا التأثير في مؤلّفاته أيضاً ...

فهذا التفسير المعروف بـ : التبيان ، لم يخل منه سببٌ من أسباب البيان ، نجد فيه البيت الشعري الجميل ، والمثل السائر اللطيف ، والقصّة الفنّية المعبّرة ، ومباحث في اللغة والنحو ، وطرائف من الأدب ، لم يوردها الشيخ للّهو واللعب ، وإنّما استعان بها على تأييده فكرة أو إيضاح معنى ...

يضاف إلى ذلك أيضاً : إنّ عبارة الطوسي لها حلاوتها ووقعها وتأثيرها في النفس ; لأ نّها تدّخر طاقةً كبيرةً من انفعال صاحبها ، وهذا الانفعال العميق هو وجود المفسِّر وأصله الذي تجرّد عن كلّ محسوس ; ليستغرق في جمال القرآن ويغيب في معانيه التي لا تعرف النهاية.

فمن كلّ جوانبه هو طيّبٌ حلوٌ يأخذ الإنسان عن نفسه ويغيب به

__________________

١. مقالة في مجلة رسالة الإسلام المصرية ، العدد ١ ، السنة السابعة ، ص ٤٦.


حيث يغيب ، حتى أنّه في تفسير آيات الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث وما إليها لا ينسى ما في الآيات من جمال وإبداع ، بل يشير إليها من حيث اللغة والسبك والأُسلوب والفقه ، ويدلّل على حكمة الإسلام في تحريم هذا وتحليل ذاك ببيان لا تنقضي لذّته ولا تنتهي روعته.

ويتفرّد «تبيان» الطوسي بمزيّتين قد لا نرى لهما أثراً في بقية مؤلّفاته ، وهاتان المزيّتان هما :

الرصف المتتابع للعبارات الممتلئة بالمعاني الدقيقة ، حتى ليخيّل للقارئ أنّه أمام كتاب أدبي.

والثانية : الحسّ النفسي المتدفّق والشعور الباطني العميق لأسرار الكتاب الكريم.

ولا عجب إذا رأينا هاتين المزيّتين في التفسير ; لأنّ القرآن فيه غيب الغيوب ومعجز التأويل والتنزيل والتحليل.

ولا عجب أيضاً فالطوسي عبقريٌّ عظيمٌ في نفسه كلّ استعداد لتقبّل الإشراق وعكسه على من دونه ، فهو عندما يقرأ الآية أو يقف عندها يستغرق فيها ، وينسى عند جمالها وجلالها نفسه ومَن حوله من الكائنات ، ويكتب ممّا يحسّه ويشاهده من جمال الحقيقة ، ويطفر قلمه فيسيل إبداعاً وإعجازاً قلّما توفّرا لمفسّر آخر من المفسّرين الأعلام.

إنّ هذا المفسّر الكبير والفقيه العلم قد أمات الشيطان في نفسه


وأضعف الحسّ المادّي لكي يتفرّغ لاستقبال تجلّيات الله وإشراق أنوار الحقيقة العظمى على ذاته ، فلا ترى بينه وبينها عائقاً ، ولا ترى عند غيره هذا الاستعداد الذي تراه عنده ، ومن يقرأ تفسيره لآية النور التي تدلّ على قدرة القادر وجماله وجلاله يرى الشيخ الطوسي وقد أصبح رمزاً في الوجود وخيالاً يلوح من بعيد وظلاًّ للحقيقة الأحدية التي يقوم كلّ شيء بسرّها وروحها (١).

ـ وكانت ثقافته ـ أي الشيخ (قدس سره) ـ وآراؤه موضع احترام القوم في عصره وبعد عصره ، فقد أثنوا عليه وعوّلوا على تصانيفه ، فقد أخذ العلم على جماعة عرفوا بالجمع والإحاطة ، فكان مَثَلَهم في الجمع والإحاطة.

على أنّه لم يكن متعصّباً ولا مقلّداً ، وإنما كان حرّ الفكر مستقلّ الرأي ، مع سماحة في النفس ونبل في الخلق.

وأمّا أُسلوبه فأُسلوب العالم المتّزن الطويل النفس ، والخبير بأساليب الحوار والجدل ، يعرض المسألة بإيجاز ، ويورد أحسن ما قيل فيها من الآراء والحجج ، ثم ينقد ويقوّم ويضعّف وينقض أو يقوّي ويستحسن.

ويمتاز الطوسي بالدقّة والأمانة في النقل والرواية ، فلا يذكر شاهداً إلاّ معزوّاً إلى قائله ، ولا خبراً إلاّ مصحوباً بسنده ، اللّهمّ إلاّ ما ذهل عن حافظته.

__________________

١. صالح عضيمة ، فنّ التعبير عند الطوسي ، الذكرى الألفية للشيخ الطوسي ، ج ٢ ص ٦٠٥ ـ ٦٢٠ (مطبوعات كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية ـ مشهد ١٩٧٥ م).


وحسبنا دليلاً على دقّته وأمانته تأليفه القيّم : التبيان في تفسير القرآن الكريم. ففي هذا التفسير نرى الطوسي بكلّ صوره العلمية ، ففيه صورة الطوسي المحدّث والفقيه والأُصولي والكلامي ، والطوسي الأديب النحوي اللغوي المرهف الحسّ الذوّاق لجمال النصوص القرآنية من جميع نواحيها.

ومن أحبّ أن يشاهد الصورة الحقيقية التي تمثّل جميع جوانب حياة الطوسي الثقافية فلينظر إلى التبيان.

إنّ تفسير التبيان للشيخ الطوسي يعدّ نموذجاً ومَثَلاً واضحاً لمقدرة الطوسي العلمية والثقافية ; إذ إنّه يمثّل بصورة رفيعة الثقافات التي اكتسبها خلال الأعوام التي مرّت في حياته (١).

ـ قد تحاشى الشيخ بقدر وسعه وطاقته من أن يجعل تفسيره لفرقة أو طائفة خاصّة فيكون مظهراً خاصّاً للعصبية الطائفية ، وبهذا السبب قد جاء تفسيره هذا كنزاً ثميناً للحقائق العلمية والمعارف الدينية ، وحقّ لكلّ من يريد فهم القرآن والتدبّر في معانيه من أيّ فرقة كان أن يستفيد من هذا التفسير الجليل على قدر استطاعته وأهليته (٢).

__________________

١. مرتضى آية الله زادة الشيرازي ، عرض للاتجاه اللغوي في تفسير التبيان ، الذكرى الألفية للشيخ الطوسي ، ج ٢ ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ (مطبوعات كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية مشهد ١٩٧٥ م).

٢. سعيد أحمد أكبرآبادي ، الشيخ الطوسي ومنهجه في تفسير القرآن ، الذكرى الألفية للشيخ الطوسي ج ٢ : ٣٧٩ (مطبوعات كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية ـ مشهد ١٩٧٥).


منهج الشيخ (قدس سره) في التبيان

قال الشيخ (قدس سره) :

ولا ينبغي لأحد أن ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد مفصّلاً ، أو يقلّد أحداً من المفسّرين ، إلاّ أن يكون التأويل مجمعاً عليه ، فيجب اتّباعه لمكان الإجماع.

لأنّ من المفسّرين من حُمدت طرائقه ومُدحت مذاهبه ، كابن عبّاس والحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم.

ومنهم من ذُمّت مذاهبه ، كأبي صالح والسدّي والكلبي وغيرهم. هذا في الطبقة الاُولى.

وأمّا المتأخّرون فكلّ واحد منهم نصر مذهبه ، وتأوّل على ما يطابق أصله.

ولا يجوز لأحد أن يقلّد أحداً منهم ، بل ينبغي أن يرجع إلى الأدلّه الصحيحة : إمّا العقلية ، أو الشرعية ، من إجماع عليه ، أو نقل متواتر به ، عمّن يجب اتّباع قوله ، ولا يقبل في ذلك خبر واحد ، وخاصّة إذا كان ممّا طريقه العلم.

ومتى ما كان التأويل ممّا يحتاج إلى شاهد من اللغة ، فلا يقبل من الشاهد إلاّ ما كان معلوماً بين أهل اللغة ، شائعاً بينهم.

فأمّا ما طريقه الآحاد من الروايات الشاردة أو الألفاظ النادرة ، فإنّه


لا يقطع بذلك ، ولا يجعل شاهداً على كتاب الله ، وينبغي أن يتوقّف فيه ويذكر ما يحتمله ، ولا يقطع على المراد منه بعينه ، فإنّه متى قطع بالمراد كان مخطئاً وإن أصاب الحقّ (١). انتهى.

* * *

بناءً على ذلك يمكن القول : إنّ الشيخ (قدس سره) قد صاغ منهجيةً ورسم خطوطاً عريضةً لتفسيره لم يقفز عليها ولم يغفلها ، فبقي ملتزماً بها ومحافظاً عليها في أثره النفيس هذا.

وتتلخّص الأُطر العامة لمنهجه (قدس سره) في التبيان بما يلي :

١ ـ البحث عن اسم السورة ، والإتيان بأقوال عديدة بدلائلها وبراهينها روايةً ولغةً ، ثم يستأثر منها قولاً أو يأتي برأي جديد من عند نفسه ويبيّن وجوه ترجيحه.

٢ ـ الإشارة إلى عدد آيات السورة ، وإلى الاختلاف الحاصل بين القرّاء في العدد إن وجد.

٣ ـ بيان المكّي والمدني من الآيات في كلّ سورة ، مع ذكر أسماء بعض المفسّرين وآرائهم بذلك ، كما يبيّن (قدس سره) الأقوال المختلفة في كون الآيات مكّية أم مدنية.

٤ ـ الإشارة في أولائل السور أحياناً إلى وجود النسخ وعدمه.

__________________

١. محمّد بن الحسن الطوسي ، التبيان ، ج ١ ص ٢٤ ـ ٢٦ (طبع وتحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)).


٥ ـ شرح الكلمات اللغوية واُصولها وتصاريفها ، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي مرّة بعد مرّة.

٦ ـ تقديم سلسلة من الآراء في بيان أسباب نزول الآية ، محاولاً التوسّع في ما هو الأقرب منها إلى الصحّة.

٧ ـ تقطيع السورة الواحدة إلى مقاطع ، كلّ مقطع يحتوي على آية واحدة غالباً ، ثم يقطّع الآية الواحدة إلى عدّة مقاطع أيضاً.

٨ ـ ذكر القراءات المختلفة بمعانيها النازلة عليها وبوجوهها ، وكثيراً ما يورد القراءات التي لا تعتمد على قول الأئمّة الذين يعتبر قولهم حجّة عنده وعند علماء القراءة ، ثم يتبع برأيه في آخر الأمر موجّهاً بالدليل. ولكنّه أجاز القراءة بأيٍّ من القراءات المشهورة ، ولم يعترض على واحدة منها.

٩ ـ شرح الكلمات اللغوية وأُصولها وتصاريفها ، وذكر آراء اللغويين والاختلافات الواردة فيها ، وقد يردّ على بعضها ، ويرجّح البعض الآخر ، كما ويطرح رأياً خاصّاً به مخالفاً بذلك الآراء المطروحة. وقد يستعين (قدس سره) بذكر الآراء اللغويّة لكشف المقصود من الآية ولبيان المعنى المستودع فيها.

١٠ ـ ذكر الإعراب وآراء النحاة ما يعينه على استيضاح معنى الآية وفهم المراد منها ، وهو في هذا المجال يناقش آراء النحاة ، ويردّ على بعضهم ، وقد يرجّح آراء البعض الآخر ، كما يورد أحياناً آراءً خاصّة به.


١١ ـ الشعر ليس له أهمّيّة خاصّة في تفسير الشيخ (قدس سره) ، وإن أكثر الاستشهاد به ، كما وأ نّه لا يرقى لأن يكون حجّة لإثبات حقيقة دينية ، وإنّما يذكره لتأكيد المعنى ، أو تأييداً لاستعمال لغوي ضمن السياق القرآني ، وقد لا يذكر أسماء الشعراء الذين يستشهد بشعرهم. علماً بأ نّه لا يستشهد إلاّ بأشعار القدماء من العصر الجاهلي والصدر الأوّل.

١٢ ـ الاستفادة من عدد من الأمثال التي قالتها العرب في استيضاح بعض المعاني أو المفاهيم ، بلا إكثار منها.

١٣ ـ عدم الإسهاب في الكلام حول البلاغة ، ولعلّه (قدس سره) كان يشير إليها أحياناً دون عناية مشهودة.

١٤ ـ معنى الآية وتفسيرها يورده على النحو التالي : يذكر أولاً الأقوال المأثورة عمّن سلف ، أو الأحاديث المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو أهل البيت (عليهم السلام) أو الصحابة أو من دونهم من التابعين ، بأسانيدها. ثم يتحاكم بين الروايات إن كانت متعارضة بعضها ببعض ، ويتكلّم عن الأحكام الفقهية التي يمكن استنباطها من الآية المتعلّقة بها بشيء من التفصيل والإسهاب.

كما واستعان (قدس سره) في تفسير الآيات بذكر آيات أُخرى ; ليفسّر بعضها بالبعض الآخر ، طبقاً لمبدأ تفسير القرآن بالقرآن.

واستفاد من السياق والنظم بين الآيات لاستجلاء الكثير من المعاني من خلال ربط الآيات القرآنية بما قبلها من آيات كريمة.

وقد أكثر (قدس سره) من ذكر آراء المفسّرين ، ففنّد بعضها وناقش البعض


الآخر ، ليردّ ما يردّ عن بيّنة ، ويقبل ما يقبل عن بيّنة ، وكان أحياناً يخالف جمهور المفسّرين داعماً رأيه بالدليل والبرهان.

١٥ ـ الردّ على أهل الكتاب ومناقشتهم في معتقداتهم ، كمناقشته (قدس سره) لأصحاب المدارس الكلامية من الإسلاميين ، واعتراضه على الكثير من مقولاتهم ، كما هو الحال في ردّه المعتزلة والأشاعرة والخوارج والمجبّرة والمشبّهة والمجسّمة والقائلين بأن المعارف ضرورية ، وغيرهم. كما وذاد بقوّة ومتانة كبيرتين عن الإمامية ومعتقداتهم.

١٦ ـ تجنّب التكرار المملّ والاختصار المخلّ ، وكذلك الإسهاب من غير ضرورة ، وبهذا كان (قدس سره) معتدلاً مقتصداً في كلّ ما طرح.

وبذلك يحقّ لنا القول : إنّه (قدس سره) قد رفد المكتبة الإسلامية والمعاقل العلمية والثقافية بمشروع ملتزم طبق الضوابط والمعايير التخصّصية الدقيقة ، بتفسير ذي خطوط عامّة ومنهج واضح ، راعى فيه ما اشترطه (قدس سره) من الأدلّة الصحيحة العقلية والشرعية ، أساسه النقد والمحاكمة والترجيح.


الإساءة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والقرآن الكريم

منهج الحذف أم حذف المنهج (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

اتّخذت مناهج السماء منحىً تصاعدياً في دفع الإنسان شطر الكمال والفلاح ، فكان النصّ والخطاب يتعمّقان بمؤنهما وأدواتهما وآلياتهما مقطعاً مقطعاً تبعاً لتهيّؤ الإنسان عقلياً واجتماعياً وشعورياً ودينياً ، وكانت الذروة في القرآن الكريم والنبي الأكرم محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والمرسلين ، فأغلق الدين الإسلامي الملفّ إلى الأبد وتربّع على عرش الرسالات الإلهية بإكماله كلّ المشاريع السابقة عليه.

هذا الحسم الواضح والانتخاب القاطع لم يكن وليد صدفة أو عبث أو هوى ، بل كان قراراً إلهياً جليّاً يحمل معه كلّ متطلّبات التكامل والتكيّف والاستمرار والتجدّد وتلبية الحاجات المشروعة ، فبقي الإسلام شجرةً مباركةً تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها.

__________________

١. كلمة العدد ٩٣ ، السنة الرابعة والعشرون ، فصليّة تراثنا ، التي تصدرها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.


الإسلام الذي جاء بمنظومة قيَمية مصيرية هدفها قيادة الإنسان وبرمجة شؤونه المعرفية والاجتماعية والاقتصادية ، فكان من الطبيعي وهو بهذا الحجم الكبير والمهامّ العظام أن يثير قلق الآخرين وخوفهم على كياناتهم ومنافعهم ، فانطلقت ردود الأفعال المتفاوتة ضعفاً وشدّة ـ تبعاً لكيفية الآليات والمناهج وعدّتها ـ من أجل مجابهة هذا القادم الجديد والجارف المهيب.

فلا عجب أن يتحوّل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بفعل مشروعه المثير بين ليلة وضحاها إلى عدوٍّ خطير لقريش النوع وأقرانها بعد ما كان النموذج الأخلاقي الأرقى والعزيز المدلّل الأدنى ، فتجرّع وقاسى وعانى حتى قال : «ما اُوذي نبيٌّ مثلما اُوذيت» وكان لابدّ أن يستمرّ الدين وتستمرّ المنافسات مادامت هناك حياة وقيم ومراكز قرار وسلطة وهيمنة ومنافع.

لم يصب النبي (صلى الله عليه وآله) بإحباط أبداً رغم كلّ محاولات الحذف والهدم والترويع ، الأمر الذي انعكس إيجابياً على سير الرسالة وثبوتها في مواجهة عناصر النفي والتغييب والتشويه ، التي تعلو كالزبد بين الفترة والاُخرى بأدوات وآليات مختلفة بتناسب الزمان والمكان ، والتي آخرها وليس نهاية مطافها : تلك الرسوم المسيئة إلى رحمة الله للعالمين النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، والتطاول على حرمة القرآن الكريم بالتجاسر على محتواه المبارك ومضامينه المقدّسة ، المنشورة بذريعة حرية البيان والقلم المعهودة ، ذات الصيت السيّئ.


لا شكّ أنّ هذه الأساليب التي تتنافى مع القيم الأخلاقية والحضارية والثقافية ستخلق ردّ فعل معرفي كبير يحمل معه استفهاماً واعياً ضمن شعاع سؤال الأنا والآخر ، استفهاماً عريضاً لدى المثقّف والباحث والطامح العلمي ، يرشح مراجعةً تحفّز وتبعثر الذهن وتقارن وتستنطق الحكم الجائر على كيان عظيم ساد البشرية ولا زال يحمل بين طياته الإجابة الوافية عن سؤال الحياة الكبير ولوازمه ، كيان يخوض في المفكَّر واللامفكَّر فيه ، ينشد التجديد والتحديث لا بفعل التقليد والالتقاط بل بفعل البناء والتأسيس ، كيان يلفظ الإرهاب ويؤمن بالحوار ويحترم حقوق الأقليات والمرأة والطفل والإنسان عموماً ويقصد الرقي والتقدّم العلمي التقني وتوفير الأمن والخير والأزدهار لكافّة شعوب المعمورة.

هذا إن كانوا لازلوا يؤمنون بقيم الدين واللاهوت ، بل حتى بالقيم الأخلاقية التي نادى بها رينيه ديكارت في مراسلاته مع اليزابيث أميرة بوهيميا ، ومبادئ ديفيد هيوم حين يقول : الهدف من البحث الأخلاقي هو الكشف عن المبادئ الكلّية التي يقوم عليها المدح أو الذمّ الأخلاقيان ، ومحتويات الباب الرابع من نتاجات فرانسيس بيكون في الصفات الأخلاقية ، لا فرانسيس بيكون الذي نافق وخدع وغدر وخان حتى بأقرب أصدقائه ووليّ نعمته ايرل اسكس كي ينال مجد الدنيا. هؤلاء الثلاثة هم روّاد التجريبية وقادة النهضة الاُوربية والغربية الحديثة ، ولاسيّما الأخير الذي حُفر اسمه على إحدى بوّابات الكونغرس الأميركي


الذهبية كونه أبرز الذين قادوا البشرية ـ كما يرون ـ إلى العصر والعلم الحديثين.

ربما سيدركون حينها ـ قليلاً ـ معنى المشروع الإسلامي الأصيل وشخصية رائده العظيم النبي الأكرم محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) ، الرسالة والرسول الإلهيّين اللذين أوجبا على كلّ فرد مسلم تقديس واحترام الأنبياء والرسل السماوية بلا استثناء ، من منطلق وحدة الانتماء التوحيدية.

إنّ «الإنسان البدائي» الذي نالوا منه بكلّ قسوة وتحقير في سلسلة مناهجهم وأدبياتهم حين اعتلوا منصّة القرار ـ ظاهرياً ـ بنشوة النصر والغرور هو في الواقع ذلك الذي طغى على القيم الأخلاقية ورفض العمل بها ، وهو غير الإنسان المسلم الحقيقي بلا أدنى شكّ وشبهة.

نعم ، إنّه الذي يجاهر بالإساءة لمبعوث السماء إلى البشرية جمعاء ، متمّم مكارم الأخلاق ، ذي الخُلُق العظيم ، وهو أيضاً ذلك الذي يتطاول بهتك حرمة كتاب الله المقدس القرآن الكريم ، وينعتهما بأقبح الصفات ، ممّا ينمّ عن جهل مركّب ، وبغض تاريخي يتفاعل بين الحين والآخر ، وقفز على القيم الصحيحة والمنهج العلمي السليم.

(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (١)

صدق الله العليّ العظيم وصدق رسوله الكريم

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٢٠.


مقدّمة كتاب البيان في تفسير القرآن (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

لا يخفى أن العمق الكمّي والنوعي الذي امتازت به حركة التصنيف والتأليف لدى علماء وأجلاّء مدرسة أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) كان ولا زال بحدّ ذاته السور المتين والحصن المنيع الذي صان لهذه المدرسة اُسسها ومبادئها من الانحراف والضياع ، بل شيّدت هذه الآثار النفيسة بمضمونها المتكامل ومحتواها الغني القاعدة الصلبة والمنبع الفيّاض لكلّ الاُطروحات والمحاولات التي تنصبّ في سبيل مكادحة الأفكار الفاسدة والتيّارات المضلّة ، فحفظت للاُمّة قيمها وأصالتها ومنحتها المناعة الدائمة والمقاومة الفاعلة في أحلك الظروف وأشدّها.

ولقد كانت مؤلّفات ومصنّفات زعيم الحوزة العلمية ، اُستاذ الفقهاء

__________________

١. للسيّد الخوئي (رحمه الله) ، طبع مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره).


والمجتهدين ، الإمام الخوئي قدّس الله نفسه الزكية ، النموذج الرائع والمصداق الرفيع والمثل الرائد الذي ساهم مساهمة عملاقة في رفد ميادين الفكر والثقافة والفضيلة بأبهى المصادر وأرقى المراجع ، ذلك في مختلف صنوف العلوم وأنواعها.

ومؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره) التي بدأت مرحلة المشوار الطويل في تحقيق وطبع ونشر ما جادت به أنامله الشريفة وأفكاره النيّرة ، تسعى جاهدةً إلى طرح موسوعته الكاملة في الفقه والاُصول والرجال والتفسير عرفاناً منها لجميل ما قدّمه هذا العَلَم الفذّ والطود الشامخ على طريق إحياء ونشر علوم آل محمد (عليهم السلام).

وهي إذ تقدّم بين يدي القرّاء الكرام تفسير البيان ـ أحد أجزاء الموسوعة الأنفة الذكر ـ تعمل بكلّ ما بوسعها لمواصلة الدرب في إخراج سائر أجزاء هذه الموسوعة. وهذا لا يتم إلاّ بلطفه وعنايته سبحانه وتعالى.

وصلى الله على محمد وآله الأطيبين الأطهرين.


ومضة شعبانيّة

أيّها الجبل الداني النائي خلفك أحبّائي ، ممّن أحسّهم قلبي وجَهِلَهم عقلي ... فكيف لي الهتاف بهم وأنا لا أعرفهم حتى .. فروحي منشطرة ما بين قلبي وعقلي ، لاراحة لي ولا قرار .. بل ولا فرار ..

أأهرب من ذاتي إلى ذاتي ، فلا دموعي تسعفني ولا آهاتي ، أمّا ابتهالاتي فليست سوى تمتمة كلمات لاروح فيها تحييني ولا حركة بها تنجيني ..

ماذا اُريد يا تُرى؟ أيّ حبيب أعشق يا تُرى؟ هذا المعشوق الذي أجفو فيحنو ، الذي أنأى فيدنو ، الذي أهمل فيرعى ، الذي أجني فيعفو ..

فإلامَ اُكابر بجهلي متغطرساً مستنكفاً؟! إلامَ أصكّ مسامعي عن نداء ذاتي المعترضة وهي تهتف بي : «اللّهمّ عرّفني نفسك ...»؟! إلامَ أدعو بفرج المولى وأنا لا أعرفه حتى؟! وكيف بي انتظار مجيء حبيب لا أكاد أعرفه حتى؟!

فيا سيّدي ومولاي يا من إليه نصبت وجهي ... عرّفني حجّتك كي لا أضلّ وأشقى ، كي اُعانق فطرتي مرّةً اُخرى ، كي لا أغوي بعدها أبدا.


ومضة رمضانيّة

لا نحلّق في آفاق الضباب ، لا نلهث خلف مناطق السراب ، لا نعتكز على أضغاث الأحلام ، لا نرتقي كِتَفَة الأوهام ، لا نتطاول على الحقيقة الحاضرة فينا والآلام التي تقرّح جفوننا وتؤذينا ، لا ننكر ضآلة النضج ونزر الوعي وتنامي الجهل الذي يغير على آننا ويعرقل غدنا ويخدش ماضينا ، لا نهرب إلى الأمام بعواطفنا وأحاسيسنا من النقص ومواطن الخلل الموجودة في قراءاتنا ومراجعاتنا ومقارناتنا واستقراءاتنا وحفرياتنا واستنتاجاتنا وسائر مناطق الفراغ فينا ، لا نعالج آفاتنا إلاّ بأدوات المعرفة ومناهجها الحافظة كلّ اُصولنا وقيمنا ومبادئنا ، الملبّية طموحاتنا وأمانينا ، لا نهتمّ إلاّ بصنع الفكرة التي تغترف من معين الاُسس القدسيّة وجوهر الرسالة الإلهيّة مؤنتها وحاجتها حتى تسمو بنا إلى سلالم العزّ الإنساني والكمال الإيماني والفلاح الربّاني مشفوعةً بواسع القبول ودعم اللبّ الجمعي ، الفكرة التي ترشدنا وتهدينا ، لا نهجر ولا ننسى تلك الأخلاق التي حملها الدين لنا بعقل وروح ولسان وفعل وتقرير سيّدنا وراعينا ، خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد الأمين واستمرّت باستمرار ولاية


الأئمّة الطاهرين وستبقى لظهور حجّة الله على العالمين بقاءً تحفظه عناية السماء بوجود نوّاب الإمام (١) المراجع العظام وسائر العلماء الكرام والأعلام من النخب الطيّبة والكوادر الخيّرة وصالح المؤمنين .. الأخلاق التي لولاها لَما بُعث رسولنا وهادينا. فلا نتجاوز الخطوط الحمراء ولا نلبّي رغبات الذات ولا تركبنا الشهوات ولا نستبدّ ولا نحيف ولا نلبس جلد الحرباء ، لا بهتان لا غيبة لا كذب لا خيانة لا خلف وعد لا نكث عهد لا طغيان ...

هذه اللاءات ونظائرها من اللاءات ليست أمنيات لا «مدينة فاضلة» لا عبث لا أحلام لا مثاليّات ، إنّها حقيقة الإنسان التي ينبغي أن تكون (فِطْرَةَ اللهَ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهَ) ، إنّها حقيقة رسالة السماء التي غدونا عنها غرباء وهي عنّا بُعْد المشرق والمغرب بَعْداء ، مشرق البركات والإفاضات الربوبيّة والأنوار القدسيّة والفلاحات السرمديّة ، مغرب الروح واُفول الخير وتلاشي الإشارات والتوبة الرحموتيّة.

بلا استثناء ، كلّنا ننسى ، نغفل ، نسهو ، نخطأ ، كلٌّ بحدّه وحجمه ، لكنّنا لسنا جميعاً نألم ونندم ونستغفر ونتوب ، فما أروع وأجمل أن ندرك ثمرة الوقوف على مناطق الفراغ في أعماقنا وحنايانا من نقص وخلل ونسيان وغفلة وسهو وخطأ فينا ، وقوفَ العارف الخبير ، وقوفَ النادم المستجير ، لا شكّ أنّها الخطوة الأسمى نحو العمل بـ «اللاءات» المعهودة ونظائرها الاُخرى ، لنبلغ العلا ونفوز بالكأس الأوفى.


مجمل الأمر بأسره شيء واحد ، إنّه الحُبّ «وهل الدين إلاّ الحبّ» ، فإن أحببنا بذاك الحُبّ انغرست تلك اللاءات فينا وامتدّت جذورها في أعماقنا وتشعّبت فروعها وأغصانها مورقةً فوّاحةً بأريج الوئام وعبق الأمان ومسك الإيمان ، مترنّمةً بترانيم السماء وبذلك النداء ، نداء الإنسان بربيع القرآن ، شهر الرحمة والرضوان ، شهر ليالي القدر الحسان ، شهر شهادة إمام الإنس والجان وعدل الفرقان ، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ).


ومضة حيدريّة

نعم ، نعود وتعود أكثر تأ لّقاً ملحمة :

عليٌّ والقرآن ، عليٌّ والإسلام ، عليٌّ والحقّ ، عليٌّ والإنسانيّة ، وجهان لعملة ربّانيّة ، ليست إلاّ تغايرات مفهوميّة .. فلمّا هيمنت هذه الأشياء على حياة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأشبعت كلّ مفاصل سيرته المباركة بطرّ سكناتها وحركاتها ، وأشغلته عمّا سواها ، فإنّها قد ذابت فيه وذاب فيها ..

ذلك لأ نّنا نعتقد جازمين بالحجّة والدليل الرصين : أنّ وجوده الروحانيّ المقدّس (عليه السلام) ممتدٌّ ثابتٌ منذ القِدَم ومسجّلٌ في اللوح المحفوظ ، لوح السماء المحروس بقدرة الله ذي العرش المتين.

حينما يكون وصيّ خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) بهذه المحتويات والمضامين الألقة ، بالخصائص والبركات الدافقة ، المذعن بها المخالف قبل الموافق ، والقاصي قبل الداني ، فلا محلّ ولا وقت ولا وجود للاستعراض والتمثيل والتصنّع والتلوّن والرغبة في أفعال وأقوال وتقريرات مولى الموحّدين وقائد الغرّ المحجّلين (عليه السلام).


ما فعله عليّ وما قاله وما كتبه وما قرّره ، لم يُلحَظ فيه إلاّ ذلك الذوبان المشار إليه أعلاه ، لحاظاً واضحاً شفّافاً جليّاً لا غبار ولا لبس فيه أبدا.

وحينما أخلص (عليهم السلام) خلوصاً قدسيّاً راشحاً من تلك الطينة الإلهيّة والخزائن السماويّة الفيّاضة سناءً ونورانيّة ، كان للخلود شرف الانضواء تحت قافلة المنازل والرُتَب التي رتّبها الله تبارك وتعالى له ولسائر المعصومين آل الدوحة النبويّة.

ومن ذلك الخلود : سرمديّه الكلمة التي نطقها ودوّنها يعسوب الدين (عليه السلام) ، المفردة التي ما كانت من أجل سباق ألسني ولا نزاع لفظي ولا تمسرح لغوي ولا انتشاء معرفي ولا غرور فكري ، إنّما كان يصدح وينمّق ما يستدعي الصدح والتنميق ، ويفرض ما يفرضه الدين والقيم والمبادئ والضمير ، من وجوب إبداء الرأي والنصح والكشف والبيان والتحذير ، إنّه الإدراك الوظيفي في أشمخ حالاته وأروع لوحاته ، واضعاً منافع الرسالة الملكوتيّة والإنسانيّة في أرقى سلّم أولويّاته واهتماماته ، حتى رجّح ذلك الاعتزال والمكوث الذائع الصيت لمّا ارتأى مصلحة الإسلام والعباد تقتضي الإيثار والشكيمة ، رغم الحقّ السليب المنصوص في دراية الغدير الشهيرة وما سواها من الحجج والبراهين الكبيرة.

وتناغماً مع بحث «سرمديّة كلمة عليّ» فالشريف الرضي (٤٠٦ هـ) لمّا يعترف بأ نّه لم يجمع من كلام وخطب ورسائل أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلاّ ما


اختاره منها في خالدته العملاقة المسمّاة «نهج البلاغة» ، بلا استقصاء واستقراء ، بل مجرّد اختيار وانتقاء .. تجدك وجدانيّاً قبال تساؤل عريض : تُرى من أنت يا علي؟

بلى ، رغم «الاختيار» تلمس بوضوح وأنت القارئ المراجع المقارن المحلّل المتفحّص المستنتج : مُذهليّة إيمان عليّ ، جماليّة إنسانيّته ، نموذجيّة أناته ، قدسيّة أنفاسه ، طهارة روحه ، صفاء ضميره ، نقاوة حناياه ، عمق رؤاه ، شموليّة معارفه ، إحاطة أفكاره ، فذاذه عبقريّته ، دقّة ملاحظاته ، مصداقيّة إخباراته ، مرارة آلامه ، شدّة معاناته ، دفء عطوفته ، حرارة حنانه ، رهافة أحاسيسه ...

وأنت تخوض غمار «كلمة عليّ» تشعر أنّك إزاء كلام هو فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق ، أنّك تخطو المسير القويم لفهم الدين والحياة والقرآن الكريم الفهم السليم ، أنّ الاعتقاد يعني : الحبّ والصدق والإخلاص والوفاء ، أنّك من أين وفي أين وإلى أين ، أنّك تطمح لو تؤمن وتناجي كما آمن وناجى عليّ : «كفى بي عزّاً أن أكون لك عبدا ، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّا».

تنادي وتقول : لا قدّس الله اُمّةً ظلمت عليّاً وآلَ عليّ ، لا أثاب الله أناملاً خطّت ضدّهم الإغماط واللغط والغيّ ، لا بارك الله ألسناً نطقت وأيد عملت وأفكاراً سعت إلى إزاحتهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله عليها منذ الأمد القصي.


تفخر وتشدو : إنّه عليّ بن أبي طالب وكفى ما في سيرته وخطبه ورسائله وحكمه الواصلة إلينا من حقائق ومعاني ألهبت القلوب وأذهلت العقول ... من بناءات علميّة شاهقة وفضاءات معرفيّة مترامية وأبحر فكريّة موّارة غاصت فيها الأفهام لترتوي من معينها رؤىً أصيلة وبصائر عميقة ، إلاّ أنّها لازالت وستبقى تسبر الغور دون بلوغ التخوم البعيدة والأعماق السحيقة.

بالله عليك! بل اُقسم عليك بمن تعبد وتعتقد ، لا تكن بالضرورة مسلماً ولا شيعيّاً ولا توحيديّاً ، كن منصفاً فحسب ، دع الأحاسيس والعواطف جانباً ، كن عقلانيّاً منهجيّاً علميّاً فحسب ، فما الحصيلة يا ترى؟

ألا تشاركني الرأي في ما صدّرتُ وعرضتُ؟

وإن أشكلتَ عليَّ بقلّة البضاعة وتواضعها فمردّه إلى ضعفي وجهلي وعدم معرفتي بمَن لا يعرفه إلاّ ربّ العباد وخاتم الأنبياء.


وقفتان

الاُولى :

وأنا في خضمّ أداء آداب زيارة المولى أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قفز بين شاهقَي ولائي ، بين عقلي وفؤادي ، تساؤلٌ جدّاً أعرفه واستفهامٌ قطعاً اُدركه ، ولعلّها حالةٌ من حالات تجديد العهد وتحديث الميثاق ..

تُرى من هذا المُوارى هنا؟ مثوى أيّ رجل هذا يا تُرى؟ حقّاً إنّه هو ذاك القريب البعيد ، النابض في أروقة الحياة نبض الدم في الشريان والوريد ، حقّاً إنّه هو هو ذو التاريخ المجيد بلا أدنى شكّ وترديد ، شاغل الماضي والحاضر والغد العتيد؟

أحلمٌ هذا الذي اُمنهجُ به اُسّ أفكاري وخبايا أحاسيسي ومظاهر ودّي من جديد .. كأ نّها محاسباتُ تكامل وتفاضل رياضيّة أنثر بها شمل اعتقادي ثم اُعيد صفّه ورصّه بعزم وحزم وتفاني فلا ينخرق ولا يصدأ من ثاني؟


وأنا لازلت منهمكاً بنسك الولاء تداعى في ذاكرتي حضورُ عليّ بين ظهراني حياتنا بما زاد على عقود ستّ لا أكثر من عمره المنير الممتدّ مذ ذلك الحفر على اللوح الشهير بالألق المنقطع النظير البالغ ذروته في ملحمة الغدير وما تلاها من عصيان القوم المثير ... ثم ارتفاعه الربّانيّ عبر واقعة المحراب الذائعة الصيت وفجرها الشهير .. فأيقنتُ ثانيةً أنّ عليّ الماضي هو الذي يقودني اليوم إلى غدي الآتي ، غدي الراشح من صادق حبّي وراسخ اعتقادي.

الوقفة الاُخرى :

شاءت الألطاف الالهيّة ، ولعلّها الصدفة ، أن يكون محلّ جلوسي خلال لقائنا المرجع الدينيّ الأعلى السيّد علي السيستاني في الجهة المقابلة لمحلّ جلوسه مُدّ ظلّه .. وكعادتي في هكذا فرص ثمينة أسعى لاغتنام الوقت بالانشغال في النظر إلى وجه العالِم عموماً والمرجع خصوصاً التزاماً بنصّ الحديث ، استجمعتُ قواي كي أنقطع إلى التحديق طويلاً في محيّاه الشريف ، ولاسيّما حين قبض على شيبته المباركة وكأ نّه يرميني بخفيّ الطرف المهيب بنظرة الأب الشفيق ، حسبتُها هكذا فسررتُ هكذا ، ولعلّه لم يرني أبدا ، لكنّي حدّثتُ نفسي هكذا .. ولا اُخفي امتعاضي لمّا نادى المنادي بذاك النداء : انتهى زمن اللقاء ، غادِروا المكان يا أعزّاء ; إذ شحّ علينا بغنيمة إكثار البقاء.

نعم ـ وكما عهدته في أوّل لقاء حفلت به معه دام ظلّه قبل إثني عشر


عاماً ـ له تهوي القلوب وتهفو ، وبه تحلّق الأفكار وتسمو ، سيماه سيماءُ المؤمن كياسةً وفطنةً وزهداً وحكمةً وعلما ، خُلُقاً وتواضعاً ونصحاً وتدبيراً أشمّا ، أمناً وسلاماً وفلاحاً ولمّاً للشمل لمّا ..

والحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم والصلاة والسلام على الرسول الخاتم وآله أسياد العالم.


وجدتك يا علي

عشتك في يقظتي ، بكامل وعيي وصحوتي ، في ذروة عقلانيّتي وهدوتي ، منسلخاً من غنوصيّتي ، متحرّراً من تخندقي واصطفافي وعصبيّتي ، مسترخصاً أحاسيسي وعاطفتي ، مستنفداً أدوات المنهج المعرفي والبحث العلمي ، بدءاً بالألف حتى الياء : فاحصاً ، مستقرئاً ، مقارناً ، متمسّحاً ، مبعثراً ، حافراً ، مراجعاً ، قارئاً ، مستنتجاً ... غائراً في أعماق الزمن الغابر غور المحلّل المستنطق ، مستشرفاً آتي الأيّام استشراف العارف المتحقّق ، مستوعباً آنات الحاضر استيعاب الخبير المدقّق ...

حُكِمْتُ نهاية المطاف ، حكمني لصالحك قاطع الدليل وساطع البرهان وباهر الحجّة ، ناهيك عمّا للقرينة والشاهد والمؤيّد من تكثّر وحضور وعدّة ، فهيمن على أفكاري وتبادر إلى خاطري نصّ المعرفة «يا علي لا يعرفك إلاّ الله وأنا ...» واستيقنت أنّي مهما عرفتك فلم أعرفك إلاّ كمعرفة النسبي إزاء المطلق ; إذ هي حيال بحرك كالقطرة ، كالحرف قبال قرآن ينطق.


حينها وجدتك أجمل ممّا في أحلامي وأوقع ممّا في أحاسيسي ومشاعري ، وأثبت ممّا في رواشح أفكاري وقطوف أبحاثي ، فيّاضاً فوق الأزمان ، معطاءً أنّى رامك إنسان ، غامراً فضاءاتنا حركةً لا تملّ ، شاحذاً هممنا عزماً لا يكلّ ، ناطقاً بلسان السماء نطقاً لا يخطأ ولا يزلّ ...

فكيف لا تكون أنت يا علي معنى الفهم والاستيعاب والفعل والانعكاس بأدقّ العنوان ، معنىً نصّبك به البارىء المنّان واختارك عدلاً للقرآن وإماماً لكلّ الإنس والجان ...

وكيف لا تكون أنت يا علي شاغل العقول وآسر القلوب ، منغرساً في عمق الضمائر والأرواح ، ضارباً فيهما ضرب الآخذ بهما إلى حيث مرابع الهدى ورياض الفلاح ، كهفاً يلوذ بك مسكينٌ ويتيمٌ وأسير ، مرفأً يرسو على ساحل إناستك وشاطىء جودك وبرّ كمالك طالبُ حقيقة إليها يرنو ويسير ، منقذَ مَهْويٍّ تشبّث بجناحك كي تحلّق به حيث الخلاص الأخير؟!

السلام عليك سيّدي ومولاي ياأميرالمؤمنين ورحمة الله وبركاته.


ألسنا أتباع أبي تراب؟

لِمَ نخاف ونخشى؟ إلامَ كلّ هذا الوجل والاضطراب؟ ألسنا على حقّ؟ إذن لا نبالي وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.

ألسنا أتباع أبي تراب ، ألسنا على نهجه ورؤاه ، ألم نكتب ونقول ونقرّر : إنّنا سائرون بسيرته ، مطيعون لأفكاره وقيمه ، ذائبون فيه وفي الهداة الطيّبين من آله المنتجبين. أكان علي بن أبي طالب اُسطورةً وخيالاً ، أم إنساناً حقيقيّاً جسّد المبادئ والمفاهيم التي نادى بها محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) بغاية الرقي والإخلاص والوعي والشفّافيّة ، بالصلابة والحزم المنقطعي النظير ، بالقلب الرؤوف والشفقة الإيمانيّة ، بالعبقريّة الفذّة والحركة النابضة ، فكان قرآناً يمشي على الأرض ، قرآناً يهدي للتي هي أقوم ، وهل كانت رسالة الإسلام غير ذلك؟!

أجاب أبوالحسن عن سؤال الحياة الكبير بكلّ وضوح وجلاء. لم تأخذه في هويّته وانتمائه لومة لائم ، شمخ بالدين وفخر الدين به.

إذن لِمَ نحن ضبابيّون ، ألا زال حكم التقيّة فينا سار ولنا دولة ورجال وهيبة وأموال وفكر خلاّب.


سئمنا البروج العاجية ، سئمنا من وصفنا لجمهورنا بـ «عوام الناس» ، آه لو علم هذا الجمهور ـ ولعلّني أراه يعلم ـ أنّنا مختبئون خلف القشور والمظاهر الكاذبة ، آه لو علم أنّ غالبنا لا يفقه شيئاً!!

هذا الجمهور الذي دائماً ما نستخفّ به قد أخذ بأيدينا إلى ما كنّا نحلم به ، صوّت لنا بنسبة نجوميّة قياسيّة ، فلِمَ نخشى هذه وتلك؟ أين ثقتنا بجمهورنا وثقة جمهورنا بنا؟!

فكما قال تبارك وتعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) لن ينفعنا بعدها فقهنا واُصولنا وعلم رجالنا إن لم نفعل شيئاً ، وسيلفظنا أبوتراب وآلة الأخيار لفظ قاطع غير مستأثم ولا نادم ، وسيطال رقابنا الغلاظ سيف الحقّ المحمّدي الذي يظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً ، لا فرق آنذاك بين المالئين لها ظلماً وجوراً سواء كنّا نحن أم غيرنا (مَالِ هذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) نعم ، يحصي الصغيرة والكبيرة التي لنا أم علينا ، فلا نفوذ حالئذ ولا مجاملات ولا اُسريّات ولا رغبات ، الكلّ خاضع للملاك الساطع (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) ، سترحل الضبابيّة والشأنيّة والتورية والقشور والمظاهر والشهوات والمراهقات وتصفية الحسابات والغيظ والحسد وسائر الصفات الذميمة دون رجعة وتحلّ محلّها أخلاق المدينة الفاضلة التي طال انتظارها فطالت آهاتنا وآلامنا.


ومضة فاطميّة

مَن قال : إنّنا فاطميّون فقط لتلك الظلامة وذاك الحيف ورضّ الضلع بين الباب والحائط وحرق الدار وغرز المسمار الحقود بكلّ ما أُوتي القوم من القسوة والترهيب المشهود؟!

مَن قال : إنّنا فقط بكّاءُون لطّامون محزونون لهول ما حلّ بالآل وبضعة المختار المحمود؟!

مَن قال : إنّنا فقط أُناسٌ هوّمت عليهم عواطفهم وأحاسيسهم فاندحرت بها أدوات العقل وقُذِف بالعقلانيّة خارج الحسابات والحدود؟!

مَن قال ...

كلاّ ... فنحن فاطميّون لعلّة تامّة من أسبابها :

أنّها هي الزهراء أحد المعصومين الأربعة عشر ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، أنوار الهدى والميامين الغرر.

أنّها هي البتول ريحانة المصطفى وحليلة المرتضى وأُم المجتبى وشهيد كربلاء وزينب الحوراء.


أنّها التي صرّح الخاتم الحبيب فيها إجلالاً لمنزلتها وتعظيماً لشأنها وتفهيماً لقدرها : أُمّ أبيها.

أنّها المرأة الأكمل على مرّ العصور والأزمان بالنصّ المتواتر وجلىّ البرهان.

أنّها نمير الدين الصافي واُسّ الولاية الراسي ونبع القيم الوافي وبيان الرؤى الشافي وسرّ الله الخافي .. منها ترتوي العقول وفيها تذوب ، بمائها الرقراق تنتعش الآمال وإلى الغد الموعود تحيا القلوب.

أنّها التي حكمت حاكِمَ زمانها بأتقن الدليل وأوضح الشاهد والمعاضد بتلك البلاغة الفائقة والفصاحة الرائعة والمضامين السامقة ، فأسّست للحوار الهادف منهجاً رائداً وللذود عن الحقّ مسلكاً فائقاً لازالت بركاته تغدق علينا بوافر الفِكَر وغوالي الدرر ... لم يمنعها من الصدح بالحقيقة جورُ السلطة وفضاء العنف والترويع وحذف الآخر.

أنّها اُنموذج المسلمة المؤمنة العارفة العالمة التي تعي ما للمرأة من حقٍّ وحقوق وما عليها من واجبات وأُمور إزاء الأُسرة والمجتمع والأُمّة جمعاء.

أنّها النور القدسي والفيض الإلهي والحضور السرمدي ، دفء الأُمومة وحنانها الأبدي ، إليها نلجأ وبها نحتمي ونلوذ كلّما اعتصرت قلوبنا وحارت أفكارنا وتشتّت سبلنا.

أنّها الرمز والشعار والمحتوى والعنوان ، بكلّ ما لهذه الأحرف


والكلمات والألفاظ من معنىً ومفهوم كنّا ولازلنا نهتدي بهداه ونطوف حوله ونفخر به ونباهي ، على طول الدهور والأيّام والليالي.

فنحن المفجوعين العاطفيّين العقلائيّين العقلانيّين ... كلّنا فاطميّون.

فسلامٌ عليكِ أيّتها المحتسبة الصابرة الممتحنة يومَ وُلدتِ ويوم استُشهدتِ ويومَ تُبعَثين حيّةً شفيعةَ محبّيك فاطمةَ مواليك من لظى ذاك الموقف العظيم آخذةً بهم إلى جنّة المأوى والنعيم المقيم.


ومضة حسنيّة

سيّدي أبا محمّد أيّها الحسن يا ابن رسول الله

اللسانُ المفوّه بوصفك قاصرٌ ألكنُ وسامقُ الكلم لازال عن نعتك أدونُ ورائعُ البيان لمجدك الأروع أذعنُ.

أيّها المجتبى! ليت شعري كيف استقرّ القوم على ظلمك ظلماً ما فتىء يحفر الأضلع منّا جرحاً في الصميم؟!

لا ، بل نحن ظلمناك حين أسلمناك طوراً لظنون وطوراً لأوهام زرعتها تلك الذراع وذاك الحقد اللئيم.

ما عرفناك وما عرفنا أسبابك وعللك حيث صرتَ القربانَ لنبقى ، حيث يظلّ الدين ويحيا ، حيث يظلّ سرّك سرّ الله الذي لأجله قدّمت المهجة والنفسا.

طلّقتَها بكلّ ما فيها ، بكلّ زخارفها ، بكلّ مفاتنها ; إذ أنت لذوي المعنى مصداق التجلّي ومرآة الحضور ، وأ نّى لمثلك سوى الحبّ والبرّ والفيض الدوّام أبد الدهور.


سيّدي حاشا لك أن تساوم ; حتى الذين خذلوك والذين ناووك يعلمون علم اليقين أنّك خُلِقتَ من طينة ونطفة كُتِب عليها أن تصمد وتصبر وتقاوم ، فالعِرْقُ الذي أدركك من فاطمة وعلي عِرْقُ النبوّة والعصمة والولاية يا خير إمام وقائم.

ما قيمة الدنيا والسلطة وكلّ الأشياء إن نازعتك القيم والمبادىء ونبل الاُصول وشرف الإباء؟!

انسلخت أيّها السبط عنها ولم تنسلخ لها حين رأيتَ ورأت السماء عزَّالدين والمؤمنين وسلامة الناس أجمعين لا تدوم إلاّ بالجود بكلّ ما هو غال وثمين ..

فسلامٌ عليك سيّدي يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّاً ورحمة الله وبركاته على العالمين.


ومضة حسينيّة

أربعة عشر قرناً مضت على وقعة الطفّ الشهيرة ، طفّ كربلاء العراق ، ففي زمن حكومة يزيد بن معاوية وفي العاشر من شهر محرّم الحرام سنة ٦١ هـ ـ الذي اشتهر فيما بعد بيوم عاشوراء ـ قُتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب وسبعون ونيّف من صحبه ، في معركة غير متكافئة العدّة والعدد ، طرفها الآخر الجيش الاُمويّ ذو الثلاثين ألف جندي ، المدجّج بأرقى وأحدث أنواع الأسلحة والإمكانيّات آنذاك.

نعم ، هي معركة حُسمت عسكريّاً لصالح الجيش الاُموي خلال ساعات قلائل ، فقُتل جميع مَن في معسكر الحسين بن علي وسُبي واُسر سائر مَن بقي من رحله نساءً وأطفالاً ، ولم ينج من الرجال سوى عليّ بن الحسين المعروف بزين العابدين.

إنّ المخيال البشري والذاكرة التاريخيّة تنطويان على العديد من النماذج والمصاديق المماثلة لهذه المعركة وما آلت إليه من نتائج ومآسي ، بل وربما أشدّ تراجيديّةً وعنفاً وقسوةً ، فما أكثر الرؤوس التي قُطّعت والنساء التي سُبيت والأطفال التي يُتّمت على مرّ العصور والدهور حتى


يومنا هذا ، بل لازلنا نسمع ونشاهد قطع الرؤوس وسبي النساء وغارة الأموال و ... بإسم الدين ، مثلما قُتل الحسين بن علي بإسم الدين حينما اعتبره الاُمويّون ـ بما فيهم أتباع هذا الرأي حاليّاً ـ خارجاً على إمام زمانه الخليفة يزيد بن معاوية ، المنصَّب توريثاً بقوّة السيف والمال ، والذي تواترت فيه الروايات بارتكاب المحرّمات ، كشرب الخمر وقتل النفس المحترمة وزنا المحارم وغيرها من الموبقات.

إذن ، الحسين بن علي إنسانٌ مهزومٌ عسكريّاً ، خارجٌ على إمام زمانه ، ابن قتّال العرب ، فطبق الموازين الطبيعيّة لا يُذكرهكذا رجل إلاّ في السجلّ الواطئ من التاريخ ، ولا غرابة في ذلك على ضوء التقييم الظاهري ..

لكنّنا لو تفحّصنا الحقائق وقرأنا الواقع قراءةً معرفيّةً محايدةً لوجدناهما يحكيان إفرازات مذهلة لهذه الواقعة :

نعم ، شهرةٌ تعلّقت بالحسين لا نظير لها ، إجلالٌ مشرئبّةٌ معه أعناق العظام ، مثالٌ يحتذي به رموز العالم الكرام ، حضورٌ مشرقٌ لا يعرف الاُفول أبدا ، ألَقٌ لا يدانيه الخفوت مطلقا ، عشقٌ وذوبانٌ وهيام ، ألمٌ وحزنٌ وبكاءٌ مستشر على طول السنين والأيّام ، مصنّفاتٌ ، مدوّناتٌ ، بحوثٌ ، مقالاتٌ ، رسائلٌ ، مشافهاتٌ ، خطبٌ ، منابرٌ ، أفكارٌ ، رؤىً ، بصائرٌ ، ثقافاتٌ ، قيمٌ ، أخلاقٌ ... كلّها مستوحاةٌ من ملحمة كربلاء الحسين.

إذن ، صار الحسين بن علي أصلاً ، مرجعاً ، مصدراً ، ميزاناً ، مقياساً ،


محراراً ، مختبراً لصدق الإيمان بالله المتعال والولاء لمبادئ الدين والأخلاق الإنسانيّة الغرّاء.

لك أن تتساءل مستفهماً فاحصاً : تُرى من أنت يا هذا الذبيح؟!

تسقط مقتولاً فتبسق منتصراً نصراً أزليّاً؟! لا! بل وتؤسّس وتبتكر ثقافة انتصار الدم على السيف .. اُختك المسبيّة أمست زينب السرمديّة ، سجّادك العليل زين العابدين بات ثورةً في الوعظ والدعاء والوعي لا تكلّ ولا تستكين.

إذن حريٌّ بك أيّها المراقب أن تكون عادلاً شجاعاً وتقول : أما آنَ للذين كفروا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أما آنَ لزمن التدبّر والتأمّل الحلول كي يسبر الغور في معنى خلود الحسين المثير ، أيبدو الأمر عاديّاً أن يشمخ المهزوم الخارج على إمام زمانه هكذا شموخ سماوي ويهبط الهازم في الحضيض أيّ هبوط مأساوي؟! أليس بها معادلةً فوق مألوف التفكير البشري ، أليس تسلسل القضايا وتناسق المواقف وتناغم الأحوال وسير الاُمور وصرخة «فوالله لا تمحو ذكرنا» ورواشح الأحداث وديمومة التفاعل واستمرار العطاء ورقيّ الاستلهام وكلاكل الفيض السيّالة وحرارة التواصل الأخّاذة رغم مئات الأعوام المبعادة ، بكافية في التفكير والتسليم بكون دم الحسين سرّاً من أسرار الله تبارك وتعالى ، تلك التي يتعسّر دركها وحلّ لغزها وإلاّ ما كانت أسراراً؟!

فإن كنت ـ والعياذ بالله تعالى ـ من الذين اُشربوا العجل فهم على غيّهم باقون.


وأمّا إن كنت معرفيّاً ، علميّاً ، قارئاً ، مراجعاً ، مستقصياً ، مقارناً ، محلّلاً ، مستنتجاً ، منصفاً ، فلا أظنّك ـ حيث تحلّق في رحاب الحسين وآفاقه المترامية ـ تخالفني الرأي في كونه ثقافةً ولا أعمق ، نهجاً ولا أروع ، ملاذاً ولا أأمن ، مصباح هدىً ولا أنور ، سفينة نجاة ولا أسرع ، عظيماً ولا أنبل ... في أنّ لقتله حرارة في قلوب الشرفاء والأحرار والمؤمنين لا تبرد أبدا ... في أنّك تُجري الدمع معي هتّاناً على إمام معصوم ذُبح ضمآناً كما يُذبَح الكبش لا لذنب منه بَدَر ، فكيف يرضى ونرضى لمثله مبايعة فاسق مثل يزيد الأشِر ، لذا خرج خروجاً بلا طمع ولا بَطَر ، يرنو الإصلاح في اُمّة جدّه محمّد سيّد البشر ، خرج وجوباً لإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فسلامٌ عليك سيّدي أبا عبدالله يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّاً.


من وحي الحسين

«لا يوم كيومك أبا عبدالله».

حديثٌ صحيح لا غبار عليه متناً وسنداً ، مرويٌّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).

«كلّ يوم عاشوراء ، كلّ أرض كربلاء».

بيت شعر أو أساسه شعرٌ منقولٌ في كتب عدّة ، ولربما استوحي من بيت شعر في قصيدة «البردة» الشهيرة للبوصيري ، إذ يقول في البيت رقم ٣٣٩ من القصيدة :

كلّ يوم وكلّ أرض لكربي

فيهم كربلا وعاشوراء

بسبر الغور في العمق المعرفي وحفر المساحات العلميّة ، واستقراء الأدوات والآليّات المتاحة ، واستطلاع الاُفق الثقافي الرحب ، والتحقيق الخبروي القائم على الموازنة والمقارنة والتحليل ، مع الأخذ بعين الفهم الخلفيّات العقديّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة.

بالتخلّي الموضوعي عن كلّ المؤثّرات البراغماتيّة والانتماءات


المحدودة والأوهام الضالّة المضلّة ، على قاعدة المبادئ والقيم والاُسس الثابتة.

بالتعامل المنهجي النسقي مع الجديد ، الذي يحفظ الاُصول والثوابت ; فحركة العقل لا يمكنها رفضه ، الحركة التي نؤمن بها ولها عرصات كبيرة في وجودنا وضميرنا ..

بكلّ ذلك يمكننا استيعاب الاُطر والمحتوى والجوهر ، على ما هي عليه حقيقةً وواقعاً ، وهذا ما يفتح مجالات القبول والردّ والتأويل على أساس علمي معرفي متّزن الأدلّة والقرائن والشواهد.

إنّ المناقشة التخصّصيّة في الحديث وبيت الشعر المذكورين يرشح منها :

سياق تعادلي ، بمعنى إيجاد موازنة زمكانيّة انثروبولوجيّة للحصول على مفهوم المشابهة أو المقاربة بين ما جرى في ذلك اليوم الشهير وما جرى ويجري في أيّام اُخر ، فتغدو تلك البقعة المكانيّة كربلاء وذلك المقطع الزمني عاشوراء ، وهذا حسين وذا عبّاس وتلك زينب. ممّا يمنح الحوادث التكرّر ولو بالشبه أو التقارب المشار إليه ، وإذ تكرّرت خرجت من نطاق الاستثناء ودخلت حيّز الطبيعي العادي. هذا السياق يقودنا إلى التفكير بعامل التساوي بين الفضاءين ، فضاء ذلك اليوم وفضاء الأيّام الاُخر بلوازمهما وأدواتهما ومؤنهما ورواشحهما.

وقد ثبت بالدليل عقم هذا السياق وسخفه ; إذ المقرَّبات والمشبَّهات


التي اُريد لها الوقوف على منصّة التعادل مع محور بحثنا آلت إلى الضمور والاُفول والنسيان نوعاً ، وأشدّ ما يضبط فيها أنّها رقم من أرقام التاريخ لا تستحقّ أكثر من حيّزها ومحتواها المحدود بها ، فلا آثار ولا تأثيرات ولا استنطاق ولا مراجعة ولا مرجعيّة ولا مصدريّة ولا حالات شعوريّة ذاتيّة تلازم النفس الإنسانيّة حتى يزداد أريجها الفوّاح في الحنايا والأعماق والأذهان والعقول يوماً بعد آخر ... كالتي تشعّ على مرّ الدهور والعصور قيماً ومبادئاً وأنساقاً وعشقاً وخيراً وبركةً وفلاحاً إثر ذلك اليوم المعهود إلى يومنا هذا ، فلقد حفر الفكر في هذا اليوم وبعثر وقارن وحلّل واستنطق وتمسّح واستحصل أنّ ذاك اليوم صار يوماً يساوي الزمن كلّه ، بل تجاوز الزمن وسما عليه وما قيمة الزمن بالنسبة إليه؟! صار الطفّ هو الدنيا بأسرها ، بل رقى عليها ، وما قيمة الدنيا بالنسبة إليه؟! فلقد قُدّر للحسين الذاتي والحسين الإلهي والحسين الشهيد أن يكون عدلاً للقرآن ، وأيّة مفردة من «المقرَّبات» و «المشبَّهات» يحقّ لها ـ وهي المعادلة فرضاً ـ أن تكون هكذا من القرآن؟!

أمّا أنّه «ثار الله وابن ثاره» فهذا ممّا يلكم الأفواه ويصمّ الأسماع .. إلى غيرها من المفردات القيميّة والمبدأيّة والانثروبولوجيّة المنحصرة في ذات الحسين والمتحقّقة له وبه وفيه.

إنّ التعادل إنّما يكون لو تساوت أركان الموضوعين الوجوديّة والعدميّة ، وهذا التساوي الموضوعي مفقود قطعاً في محلّ بحثنا ، بل البون


شاسع بين هذا وذاك ، إثر المزايا التكوينيّة والتشريعيّة ـ المشار إلى بعضها آنفاً ـ التي توفّرت في الحسين عليه السلام دون غيره.

إنّنا حينما نفكّر بالحسين (عليه السلام) نسقاً بما يكتنفه من الأبعاد الثلاثة : الوحي والعقل والتجربة ، إنّما نعني به الخروج عن دائرة التضييق والخنق والتقييد والضغط والخضوع لجمود النصّ ، وهذا ما يدعونا إلى التأمّل الكبير في مقولته المعروفة : «ألا وأ نّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر» ، تأمّلاً لابدّ أن يفضي ـ بالإنصاف ـ إلى تكوين تصوّر مثير حول إيمان الحسين (عليه السلام) بحركة العقل والتغيير والتجديد ، فالنزعة الإنسانيّة ـ الأنسنة ـ كانت همّه الشاغل الذي لأجله وهب حياته ونفسه الزكيّة وأهل بيته وصحبه الكرام .. فالوحي أساس حركته وهادي نهضته ومبدأ نسقه ، والعقل حاكم على مسيرته ، والتجربة هي الحقيقة التي انغرست معه وبه ولازالت معطاةً فيّاضة. فما كان ابن مسكوية والتوحيدي وابن سينا هم أوّل من أنسن إسلاميّاً للإنسان إنسانيّته ، ولو سلّمنا أنّهم أدّوا هذا الجهد وقاموا بهذا الدور كما يدّعيه محمّد أرگون ، فقد سبقهم غيرهم من الذين دوّنوا الأنسنة الإسلاميّة عبر الممارسة الحيّة والتجسيد النابض ، فهذا هو الحسين عليه السلام قد بذل مهجته من أجل الحرّيّة والإصلاح كما أسلفنا ، ممّا جعله يتجاوز العقبة الزمكانيّة والإثنيّة والطائفيّة ، بدليل استلهام المسلمين وغيرهم من حركته الفكر والقيم والمبادئ ، وبقاء مفاهيمه طريّة تتأ لّق كلّما مرّت بها الأيّام والأعوام.


وإن مات «إله نيتشه» ومات «إنسان فوكو» فهاموا على وجوههم بحثاً عن إنسان وإله جديد ، أو صيغة جديدة للإيمان بالله على رأي من يؤوّل صرخة نيتشه بأ نّها تعني موت ذلك الإله الذي ألقت بمفهومه الديانة المسيحيّة في عقول وقلوب الناس فغدت الحاجة ماسّة إلى آلية جديدة للإيمان بالله غير آلية المسيحيّة في القرون الوسطى ..

وإنّ المحاولات الغربيّة الساعية إلى إيصال العلوم الإنسانيّة مرتبةً بمصاف العلوم التجريبيّة لعلّ الإنسان يحيا من جديد ، لازالت غير موفّقة ..

وإنّ العثمانيّون بجمودهم على المذهب الحنفي وتهميشهم سائر المذاهب وحذفهم وبترهم للمذهب الشيعي قد كانوا طرف المعادلة في الشطر الآخر من العالم الذي أمات الأنسنة وقضى عليها ..

فإنّ نزعة الأنسنة تبقى عندنا نابضة دافقة رغم ضمورها واُفولها في هذا العصر أو ذاك ، لا تموت لأ نّها محور من محاور وجودنا وقطب من أقطاب انتمائنا وهويّتنا وأساس في مبادئنا وقيمنا ، نزعةٌ قُتِل أئمّتنا عليهم السلام من أجل إبقائها وتشييدها ، اضطُهِد رجالُنا وعلماؤنا ومفكّرونا بسبب إيمانهم بها ، ولازلنا ندفع ضريبتها إلى الآن ، حتى بدأت الأصوات تتعالى مؤخّراً من شطري العالم بوجوب منح الفرصة للتشيع العقلاني بالظهور وممارسة دوره في الأنسنة وبثّ القيم المعتدلة المتجرّدة عن العنف والقسوة والتطرّف .. إنّ تعالي هذه الأصوات نابع من تلك


التضحيات الجسام التي تحمّلناها في الكوفة وكربلاء وسامراء ومشهد وبغداد ومكّة والمدينة وسائر الأمصار ، فهي شجرة الدين المباركة التي (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا).

فتحصّل : أنّ السياق الذي يتنزّل بنهضة الحسين عليه السلام إلى دون فضائها ويجعلها حدثاً كنظائره من الأحداث التي سجلّها التاريخ واحتفظ بها في أروقته على اختلاف النقل والروايات والدواعي والأهداف .. سياقٌ باطلٌ بما قدّمناه.

كما تحصّل من ثنايا البحث أنّ نهضة الحسين عليه السلام مصدر إشعاع ومنبع فيض وطبيعة قيم وانتماء ومبادئ ، والطبيعة تبقى طبيعة دونها المفردات والمصاديق ، فلا تساوقها وتساويها تلك المفردة أو ذاك المصداق ، فالحسين هو الحسين فلا آخر نظيره أو قرينه ، وكذا يوم عاشوراء هو يوم عاشوراء فلا آخر نظيره أو قرينه ، وتبقى كربلاء هي كربلاء فلا نظير ولا قرين لها.

نعم ، لاغلق للباب بوجه التأسّي ; فالحسين عليه السلام تحرّك واستشهد كي يفتح آفاقاً للحرّيّة والعدالة والعقلانيّة والإصلاح والتغيير والمراجعة والاستقراء والمقارنة ، آفاقاً لحفظ القيم والمبادئ والمفاهيم المقدّسة ، فهو الاُسوة الحسنة كما كان جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والمرسلين ، كما لا غلق للباب إزاء كون بيت الشعر المعهود يعني : بقاء نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) بمضامينها وثقافتها فاعلة تغذّي الفضاءات العَقَدية


والأخلاقيّة والإنسانيّة فيوضات من الخير والبركة والهداية منذ ذلك اليوم حتى قيام الساعة.

وبذلك يمكننا الحصول على السياق المطلوب ، سياق سموّ نهضة الحسين عليه السلام فوق التعادل والتنزيل المذكورين ، السموّ الذي يدفع بها إلى موقعها الحقيقي ، في أنّ الحسين بقوله وفعله وتقريره عدل القرآن الناطق.


لماذا الحسين؟

بينا كنت اُطالع بنوع من الانهماك الجزء الأوّل من مشروع محمّد عابد الجابري في العقل العربي ، المختصّ بتكوينه ، الذي يظهر منه أنّ مراده به الفكر والثقافة والمعرفة العربيّة والإسلاميّة .. اُطالع تمحوره حول العقل العربي والإسلامي ، واليوناني ، والاُوربّي ، إذ يرى أنّ هؤلاء الثلاثة وحدهم قد مارسوا التفكير النظري العقلاني بالشكل الذي سمح بقيام معرفة علميّة أو فلسفيّة أو تشريعيّة منفصلة عن الاُسطورة والخرافة ، ومتحرّرة إلى حدّ كبير من النظرة «الإحيائيّة» التي تتعامل مع أشياء الطبيعة كأشياء حيّة ذات نفوس تمارس تأثيرها على الإنسان وعلى إمكانيّات المعرفة ..

ثم يخوض في كلّ واحد من العقول الثلاثة باقتضاب ، فيبدأ باليوناني وأنّ هراقليطس هو أوّل من قال بفكرة «اللوغوس» أو العقل الكوني ، أي عقل كلّي يحكم الظواهر ويتحكّم في صيرورتها الدائمة الأبديّة وأنّ العقول البشريّة تستطيع التوصّل إلى معرفة صحيحة عن ظواهر الطبيعة إذ هي شاركت في العقل الكلّي. لقد تصوّر هراقليطس


العقل الكوني «محايثاً» للطبيعة ومنظّماً لها من داخلها ، إنّه بذلك يميل إلى إقرار نوع من وحدة الوجود باعتبار «المحايثة» المذكورة.

في حين أنّ تصوّر آناكساجوارس لـ «النوس» ـ العقل الكلّي ـ مختلف ; إذ جعل منه مبدأً مفارقاً غير مندمج في الطبيعة ولا محايثاً لها ، فالعقل الكلّي عبارة عن نفس مستقلّة تصدر عنها نفوس مستقلّة.

نهضت من رحم الفكر الهراقليطسي الرواقيّة ، ومن الفكر الآناكساجوارسي الفلسفة السقراطيّة.

سار العقل الاُوربيّ في فلسفته الحديثة على نفس الاتّجاه ; إذ جعل ديكارت وكنت العقل البشري هو المنظّم للتجربة والمشرّع للطبيعة. إلى أن جاءت نظريّة الكمّ «الكوانتا» حيث أحلّت «الاحتمال» محلّ «الحتميّة».

يرشح من ذلك : أنّ المطابقة بين العقل ونظام الطبيعة ، والقول بأنّ العقل يكتشف نفسه في الطبيعة ومن خلال التعامل معها ، ثابتان أساسيّان في بنية الفكر الغربي : اليوناني والاُوربّي.

أمّا العقل العربي والإسلامي فإنّه يتمحور حول ثلاثة أقطاب : الله ، الإنسان ، الطبيعة.

وبالتكثيف يحذف «الله» من العقل اليوناني والاُوربّي ، بينا تحذف «الطبيعة» من العقل العربي الإسلامي.


ويلعب «الله» دور الوسيط بين الإنسان والطبيعة في العقل اليوناني والاُوربّي ، في حين تلعب «الطبيعة» دور الوسيط بين الله والإنسان في العقل العربي والإسلامي.

وفي العقل اليوناني والاُوربّي «الله» هو وسيلة لفهم الطبيعة أو ضامن لصحّة فهمه لها ، أمّا العقل العربي الإسلامي فيرى أنّ العقل يتأمّل الطبيعة ليتوصّل إلى خالقها «الله».

ويرى العقل اليوناني والاُوربّي في ميدان المعرفة أنّ الاتّجاه هو من المعرفة إلى الأخلاق ، بينا يعتقد العقل العربي والإسلامي أنّ الاتّجاه هو من الأخلاق إلى المعرفة.

بعد كلّ ذلك يشير الجابري إلى التفاوت بين العرب والعجم في إطار «المعياريّة» التي يتعرّض لها الجاحظ ، إذ يقول ـ أي الجاحظ ـ في مقام الإشادة بالعرب : إنّهم سريعو البداهة والحكم ، والارتجال من خصائصهم وكأ نّه إلهام بلا معاناة ومكابدة ولا إحالة فكر ولا استعانة ولا اجتهاد ولا خلوة ولا مشاورة ومعاونة وطول تفكّر ودراسة الكتب كما هو حال الفرس والعجم .. غافلاً ـ أي الجاحظ كما يرى الجابري ـ وغيرَ منتبه إلى أنّه بذلك يسلب العرب القدرة على «التعقّل» بمعنى الاستدلال والمحاكمة العقليّة ..

... بينا كنت اُطالع ذلك وإذا بتساؤل عريض أخذ مساحةً واسعةً من عقلي وتفكيري : «لماذا الحسين؟» من بين الكلّ ، لِمَ الخلود بهذا الشكل


والمضمون إلى يومنا بنحو تصاعدي ، ثم كيف فرض السؤال وجوده وأنا اُطالع ما ذكرت؟ ما هي العلاقة بين خلود الحسين وتكوّن العقل العربي والإسلامي؟

لعلّ خصائص العقل العربي المعياريّة التي ذكرها الجاحظ من سرعة البداهة والحكم والارتجال ، قبال خصائص العجم والفرس من المعاناة والتفكير الطويل والاجتهاد والمشاورة ودراسة الكتب وغيرها ، هي التي أحضرت سؤال «الحسين» بعقلي وذهني ، ولاسيّما أنّ هناك من يعدّ ما صدر من الجاحظ استلاباً لقدرة العرب على التعقّل. وربما حقيقة الأمر كما عليه رأي الجاحظ والجابريّ ـ المستشكل ـ على حدٍّ سواء ، وبذلك لابدّ للعقل العربي أن يُلحِقَ بخصائصه خصائص العجم ليتأمّل ويبحث ويراجع ويحفر ويبعثر ويقارن ويستقرئ ويحلّل ويستنتج الصحيح ، فإنّها دعوة لمراجعة الفكر والتاريخ والمناهج المعتمدة ، دعوة إلى تقصّي الحقائق بكلّ وضوح وشفّافيّة على أساس من النسق العلميّ المعرفيّ بأدوات تسمو على الانحياز والطائفيّة والإغماط ، إلى دراسة «الحسين» وسرّ الخلود الذي يزداد عنفواناً كلّما مرّت الأيّام والسنون ، «الحسين» الذي رقى فوق إشكاليّة الخلافة ومعارضة نظام الحكم الاُموي القائم آنذاك ، ليتحوّل إلى فكر وثقافة راسخة في ضمير الاُمّة والإنسانيّة قد تركت آثارها ـ التي لن تزول ـ على الواقع العقائدي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وباتت مسلّمةً من مسلّمات الهويّة والانتماء والعقل العربي الإسلامي.


لا أعتقد أنّ تمام السرّ يكمن في إصرار مؤيّدي الحسين (عليه السلام) على «المنهج الإحيائي» لوقعة الطفّ مهما كانت خلفيّاته الانثروبولوجيّة والسيكولوجيّة والسيوسولوجيّة حاضرة في ضميرهم وعقلهم وأحاسيسهم ; حيث مرّ سائر العلويّين بمصائب وأحداث لا تقلّ معاناةً وآلاماً وتضحيات ممّا حدث في عاشوراء كربلاء ، بل ليس بإمكاننا الإحاطة بما لاقاه العلويّون من قتل وذبح واعتقال وتشريد وتسليب وحذف ونفي عبر شتّى الأدوات والأساليب منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا. هكذا الحال بالنسبة إلى أتباعهم وما لاقوه من قتل ونفي وتشريد وسبي وتسليب على طول التأريخ. لذا فإنّ مدرسة آل البيت (عليهم السلام) عموماً غدت مرمى السهام والحملات المتنوّعة بتنوّع الزمان والمكان ، وبات الافتراء والتشويه والتحريف ـ مضافاً إلى إباحة الدماء وإزهاق النفوس السائرة على نهجهم ـ غاية المناوئين والمخالفين ، وبه تطيب نفوسهم وتطمئنّ قلوبهم وتسكن ضغائنهم. وأئمّة البيت (عليهم السلام) هم الذين قالوا : ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم ، كما وردت بذلك النصوص.

إنّ لقتل الحسين (عليه السلام) وقعاً آخر فاق أثره بالقياس الحسّي الظاهري حتى مقتل أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام رغم مكانته الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة ، وإن كنّا ـ نحن الشيعة ـ نسلّم طبق الفهم العَقَدي أنّهم كلّهم من نور واحد.

نعم ، لا يمكن إنكار فضاعة الآليّة التي قتل بها الحسين (عليه السلام) ، وكيف احتُزّ رأسه الشريف والنخبة من أهل بيته وأصحابه ، ثم كيف سُبيت عياله


ذلك السبي المعروف .. لكنّ التاريخ يورد أخباراً لا تقلّ فضاعةً في قتل الأنبياء والأوصياء في حالات سبي مروّعة يندى لها جبين الإنسانيّة.

ما نودّ التنويه إليه : أنّ بقاء الحسين حيّاً حاضراً في الضمير والعقل الإنساني حضوراً فاعلاً يزداد ألّقاً وعنفواناً يوماً بعد آخر ، لا ينحصر سببه بالآليّة الإحيائيّة التي يمارسها أتباعه وهواة نهضته ; ولا في كونه إماماً من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قد قُتل بطريقة على غاية من البشاعة ، ناهيك عن كونه سبط الرسول وريحانته وسيّد شباب أهل الجنّة ; ولا في البرنامج الإصلاحي التغييري الذي حمل لأجل تحقّقه مهجته على كفّيه ..

إذ العقل والمنطق لا يرى كفاية الأسباب المشار إليها لبقاء الحسين سرمديّاً هكذا رغم عظمة وأهمّيّة كلّ واحد منها .. آنئذ لابدّ أن نرى ماهيّة الشروط والصفات التي توفّرت فيه عليه السلام كي يكون على هذا الحال ، فهل من خصوصيّة فيه قد خفيت على الجميع ، هل في دمائه سرّ معيّن ، أم لشخصه الشريف موضوعيّة ذاتيّة ، وهل للغيب دخل في القضيّة ...؟ هل مارس العقل العربي والإسلامي وظائفه والتزاماته وأدواته المعرفيّة وأنساقه العلميّة في الإجابة عن سلسلة من التساؤلات المصيريّة التي بقيت دون إجابات؟

فأين المائز إذن الذي جعل من الحسين (عليه السلام) وقضيّة مقتله شيئاً خالداً كلّما مرّت عليه السنون كلّما ازداد عزّاً وشموخاً بلا أدنى إغراءات مادّيّة وإعلاميّة ولا حوافز ولا تطميعات أو تهديدات بفرض عقوبات اقتصاديّة


وغيرها ، ولا مؤثّرات وجلسات استشاريّة ، ولا تحضيرات واستعدادات يُرصَد لها هائل الأموال وتوظّف لها مختلف الطاقات والإمكانيّات .. بل صار الحسين رغم مرور أربعة عشر قرناً على قتله هو الذي يسيّر العقول والقلوب ، فانعقدت به موضوعات المعرفة والثقافة والأدب والتأريخ ، كلّها تراجع وتقرأ وتحلّل وتبحث في نهضته المباركة ، نهضة الإصلاح والتغيير لواقع هيمن عليه الاستبداد والحقد والفهم البراغماتي لقيم الدين ومبادئه ، فامتدّت الذراع الاُمويّة لتنال من حقيقة الفكر والرسالة وتسخّر العقل والثقافة وطاقات الاُمّة نحو حالات الاضطراب العقائدي والفوضى الثقافيّة ، عبر اختلاق الأكاذيب والوقائع المزوّرة والنصوص الوهمّيّة ، فانتشر الفساد المعرفي وامتدّت آثاره إلى يومنا هذا. ولولا الفكر الإصلاحي والنهج التغييري الذي سلكه الحسين وضحّى بمهجته وخيرة أهله وصحبه من أجله لأطبق التيّار الاُموي على كلّ مقدّرات الاُمّة وأحكم قبضته وسدّ كلّ منافذ العقل والاجتهاد .. ولولا نسق الحسين لما عاد للأصالة والثوابت حديثٌ يذكر ، ولما بنت العقلانيّة كيانها في بقاع الفكر الحواريّ الإسلاميّ الشيعي.

فرغم أنّ الحسين (عليه السلام) حقيقةٌ شاهقةٌ بدمائه وفكره ومعرفيّته وثقافته وعقيدته وتغييره وإصلاحه ونهجه ، وواقعٌ لا تغتاله الأوهام والخيالات ، لكنّ هذا ليس السرّ المقصود في معنى الخلود المعهود ; إذ الاستقراء التاريخي يضبط حالات مناظرة وشبيهة لما عليه الحسين (عليه السلام) من نهج وحركة وأصالة التُزِم بها إلى آخر المطاف دون أدنى استسلام وتخاذل


وخضوع ، ولكن يبقى السؤال : لِمَ لا سرمديّة ولا خلود كسرمديّة وخلود الحسين؟

إذن ما الذي جعل من الحسين قضيّةً لا تنتهي وفكراً دوّاماً ومصدرَ فيض لا تجفّ منابعه ، لماذا يبكيه محبّوه كلّما مرّ ذكره وسردت مأساته رغم الفاصل التاريخي الكبير ، فيعقدون له المآتم التي تزداد هيبةً وعظمةً ويتنافسون بإظهار أرقى مراتب الولاء والعشق والعزاء ، وصار التمسّك بشعائر الحسين وإحياء ذكراه خطّاً أحمر لا يمكن تجاوزه ، وهكذا يدوم الحديث فيه (عليه السلام) والبكاء عليه طيلة أيّام السنة ولاسيّما في شهري محرم وصفر ; إذ تتغيّر كلّ المظاهر ، وتتهيّأ النفوس لستّين يوماً من الحزن والألم ، وتعطّل كلّ برامج الفرح والسرور بانطلاقة ذاتيّة محضة دون أدنى تأثيرات ومغريات ومحفّزات ، ويكون الواحد من أتباعه ومحبّيه على أهبّة الاستعداد ليبذل ما لديه فخراً واعتزازاً في سبيل إحياء ذكراه الخالدة؟

إنّ الحسين يعني في قلوب مواليه كلّ شيء ، فهو المبدأ والقيمة والنهج الذي لا نظير له ، إنّه عدل القرآن المبين والهادي إلى سواء السبيل ، والالتزام بفكره وأخلاقه يعني خير الدنيا والآخرة ، إنّه الحدّ الفاصل بين الكفر والإيمان ، منقذ البشريّة من الانحراف والضلال.

أمّا النخب من المعرفيّين وذوي الاختصاص والرموز الفكريّة والعلميّة والثقافيّة فقد أنتجت في نسقه ومبادئه وسيرته خيرة آثارها ، السيرة التي لم تأفل بل تزداد عنفواناً وعطاء كلّما مرّت العقود والقرون والأحقاب ،


رواشح من المدوّنات والمقولات خاضت وتخوض فيه عليه السلام مراجعةً وقراءةً واستنطاقاً ومقارنةً واستقراءً وتحليلاً وغوراً في مناطق من وجوده الفكري والقيمي لا زالت مجهولةً لدى النخب والطاقات المختصّة .. في مساحات من مبادئه ظلّت غامضة وعُدّت أسراراً من أسرار وجوده الشريف ، ولا غرو في ذلك ، أليس الحسين عدل القرآن؟ أليس للقرآن سبعة بطون ، كلّ بطن فيها من القيم والمعارف والعلوم ما لا يعدّ ويحصى ، هكذا الحسين فهو بحر متلاطم من الاُسس والقواعد والمضامين التي لا تنضب ولا تقرّ ، فهو بذلك شجرة مباركة تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها.

إنّ موسوعة الحسين ـ بكلّ أحرفها ومحتوياتها وفهارسها وحركاتها ورواشحها وديمومة عناصرها ـ تقصر همّتنا عن الإحاطة حتى بعناوينها ورؤوس أقلامها ، ناهيك عن تفصيلاتها وبياناتها.

ثم إنّ عالم اليوم ليس كعالم الأمس ; حيث غدا بفعل التقنيّة الحديثة كنقطة واحدة يصلها قاصدها أنّى شاء وأراد ، فما عاد الستار الحديدي الذي كان يُضرَب على العقول والأفكار مجدياً ، فالمعلومة حيّة حاضرة لمن رامها ، وهذا ما أقلق الكثيرين من الذين أوهموا مواليهم وتابعيهم قروناً طوال بسلسلة من الأفكار والمعلومات المزيّفة ; إذ حرّفوا التاريخ والقيم وتلاعبوا بمصير الاُمم والشعوب وساقوا الإنسان إلى مهاوي الرذيلة والانحراف والضلالة ، إنّهم في خوف وخشية من الحقيقة الوضّاءة التي تدحض تصوّراتهم وتفضح ضبابيّة رؤاهم الباطلة ، وما هذا الوجل من


سريان «الفكر العلوي» وانتشار حقائقه ومبادئه بين أوساط المسلمين وغيرهم ، المعبّر عنه لدى طيف واسع من النخب والمعرفيّين بـ «الفكر العقلاني» ، إلاّ مؤشّر أوّلي على مستقبل ينذر بسقوط عروش العقول الزائفة ، عقول الفكر والثقافة والمعرفة المبنيّة على اُسس الوهم والافتراء والكراهيّة والحذف والترويع.

تأسيساً على التغيّر السريع الذي يشهده العالم بفعل الأدوات الحديثة والآليات الجديدة على صعيد الفكر والثقافة والعلم ، فإنّها دعوة صادقة إلى إعادة تقييم تكوّن العقل العربي الإسلامي من جديد ، العقل الذي تكوّن غالبه على أساس من الانتماءات القبليّة والعصبيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والمعايير البراغماتيّة ، العقل الذي مازجته الأحقاد والأضغان والثارات الجاهليّة ، العقل الذي جانَبَ أدوات الدين من نصّ وإجماع وغيرهما فارتمى في أحضان المطامع والاغراءات والتهديدات والأحلاف المشبوهة.

لقد تكوّن العقل العربي والإسلامي في ظروف سادها الاستلاب والاستبداد والغدر والتآمر غالباً ، وحينما تُمرَّغ الحقيقة تحت أقدام الكره والحسد والمصالح الخاصّة ينبثق عقل يعاني النقص والضعف والخلل ، وهذا ما لا يخفى على الجميع.

لذا فدراسة تكوّن العقل العربي والإسلامي تحتاج الجرأة العلميّة في الطرح والنقد ، الأمر الذي يستدعي تعرية المزيّفات التي لا زالت تُعَدّ


ثوابت واُصولاً في اعتقاد غالبيّة سواد الاُمّه. هذه الخطوة بإمكانها أن تمثّل نواة الانطلاق نحو بناء عقل عربي وإسلامي قائم على الحقيقة ، مشيّد باُسس ومناهج وأدوات علميّة.

من هنا لعلّي أجد الترابط المنشود بين ما كنت اُطالع من مشروع محمّد عابد الجابري في العقل العربي والإسلامي ، وبين السؤال الذي فرض وجوده على ذهني وعقلي : لماذا الحسين؟ إذ أرى أن قراءة الحسين قراءة صحيحة مستندة إلى الاُسس العلميّة والمعرفيّة السليمة سيسهم بشكل كبير في إعادة تقييم العقل العربي والإسلامي وأسباب تكوّن غالبه على اُسس من الزيف والوهم والأدوات غير العلميّة.

بعبارة اُخرى : قراءة الحسين قراءةً منهجيّةً علميّةً تكفي لفهم حقائق وحقوق ومبادئ غابت أو غُيّبت عن السواد الأعظم من الاُمّة ، وإزاحة الستار عنها ضمن مشروع شمولي سوف يؤسّس لثورة من التغيير المنهجي والانقلاب الفكري والتحوّل المعرفي في عقل الاُمّة وثقافتها ، ويفتح للحقيقة فضاءً مناسباً يدفع بنا من واقع ردي إلى واقع تتأ لّق فيه القيم والمبادئ الحقّة ، إلى واقع يلعب فيه العقل العملي دوراً حاسماً في الإصلاح والتغيير ، إلى مساحات مترامية من الحوار والتلاقح والتلاقي تخرجنا من دوائر العنف والكراهيّة والأحقاد المترسّبة في الضمائر والقلوب منذ القدم إلى حياة ينعم فيها الإنسان بالأمان والسلام والحبّ والرفاه.


وإزاء ذلك لا نرفض اقتراحاً أو مشروعاً يدعو ـ مثلاً ـ إلى قراءة أبي بكر وعمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وغيرهم من رموز المسلمين وقادتهم ونخبهم قراءًة منهجيّةً علميّةً مادمنا نؤسّس لمشروع كبير ينهض بالعقل العربي والإسلامي من واقع مؤلم إلى واقع تموج فيه الآمال والطموحات الخيّرة.

بإمكاننا أن نلتقي ونتحاور ضمن قواعد ومناهج علميّة معرفيّة حضارية عقلانيّة ، لقاءاتنا وحواراتنا لا تعني زوال الخلاف بيننا ، فهذا ما لا يمكن أبداً ، لكنّنا نستطيع أن نعطي لاختلافنا صيغة أخلاقيّة على ضوء القيم والمبادئ التي نؤمن بها جميعاً حينما آمنّا بالإسلام ديناً ومنهجاً للحياة بكاملها.

بإمكاننا أن نجعل من خلافاتنا عامل تقدّم وازدهار ; انطلاقاً من قاعدة التنافس الشريف المقبولة لدينا جميعاً ..

إنّ القتل والترهيب والنفي والتكفير والافتراء والسبّ واللعن أدواتٌ توصلنا إلى طريق مسدود ، إلى مزيد من التشتّت والضياع الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

إنّ العقل العربي الإسلامي قادر بلا شكّ ـ إن امتلك الإرادة والتصميم ـ على تذويب كلّ الحواجز التي تعيق التفكير والثقافة المشتركتين.

إنّ صفات العرب والعجم ـ كما يراها الجاحظ ـ تستطيع أن تؤسّس لنسق فكري منسجم يمتاز بخصائص شموليّة تجمع الكلّ وتشحذ


الطاقات لمراجعات وقراءات واستقراءات ومقارنات وحفريّات تنتج رؤية حضاريّة أكثر تقارباً وأقلّ اختلافاً ، على اُسس من العقلانيّة والتفهّم المشترك.

إنّنا بذلك نتمكّن من إزالة الجدار الشاهق الذي شُيّد بيننا ، وندرك حينها ـ بحضاريّة وانفتاح ـ أنّ اعتقادات الشيعة وأفكارهم وتصوّراتهم محترمة ، كما أنّ اعتقادات السنّة وأفكارهم وتصوّراتهم محترمة ، ولاسيّما أنّ مبادئ ومضامين العقل العملي هي الفضاء المناسب لهذا النوع من التفهّم والاحترام.

وهذا ما بإمكانه أيضاً المساهمة في حلحلة إشكاليّة «الفرقة الناجية» والتقدّم خطوات نحو حلّها وحسمها نهائيّاً.

و «الكلمة السواء» التي يجتمع عليها السنّة والشيعة لا شكّ أنّها أرسخ وأثبت وأمدّ جذوراً وفروعاً من تلك «الكلمة السواء» التي تجمعنا بأهل الكتاب ، فالدعوة إلى حوار حضاري ـ قائم على المشتركات ـ بين المسلمين وأهل الكتاب قد أسّس لها القرآن الكريم : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (١) وبمفهوم الموافقة وفحوى الخطاب والأولويّة فإنّ «كلمة السواء» التي تربط الشيعة بالسنّة ـ وبالعكس ـ هي أشمل وأقوى من «كلمة السواء» التي تربط المسلمين بأهل الكتاب.

نعم ، نقرأ الحسين (عليه السلام) ، نقرأ علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، جعفر

__________________

١. سورة آل عمران : ٦٤.


الصادق (عليه السلام) ، الحجّة الغائب (عليه السلام) ، أبابكر ، عمر بن الخطّاب ، معاوية بن أبي سفيان ... والقراءة بمفهوم العصر والحضارة تعني : استخدام الأدوات المعرفيّة والأنساق العلميّة للوصول إلى النتائج الصحيحة والدقيقة ، ولا إشكال في المنافسة الفكريّة الشريفة التي تكشف الحقائق وتزيل الأوهام وتؤسّس لعقل عربي وإسلامي قائم على العلم والأخلاق والمفاهيم السليمة.

وقاعدة العقل : أنّه كلّما كثرت فرص القراءات والمراجعة والاستقراء والمقارنة والتحليل والحفر والبعثرة كلّما نشأت للعقلانيّة فضاءات أكبر وآفاق أوسع ; إذ العقل يقصد الحقيقة لا غير ، والحقيقة تنابذ الأوهام والأباطيل والافتراءات والأساليب العدوانيّة ، وتتناغم مع المنطق والحوار والأخلاق.

ولابدّ من الاعتراف بصعوبة الانفكاك عن ثقافات وتراث واعتقادات وأعراف نشأ عليها الإنسان وترسّخت نظرته للحياة والكون والخالق على أساسها .. لكنّ البحث عن صيغ مشتركة للعقل العربي والإسلامي يستدعي تنازلات مرّة من أجل بلوغ الحقيقة ، ولا مفرّ من ذلك أبداً ، وإلاّ لبقي الحال على ما هو عليه ، بل يزداد سوءاً يوماً بعد آخر ، بفعل المتراكمات والترسّبات التي تنخر في عقل الاُمّة وضميرها وأحاسيسها وأخلاقها.

إلى ذلك : فإننا إذ نطمح بمشروع عقل عربي وإسلامي لابدّ أن تكون


الشموليّة إحدى قوائمه التي لا تنفصل عنه مطلقاً ، الشموليّة التي تتجاوز المكان والزمان والقبيلة والعشيرة والمذهب والعرق والأعراف الخاصّة وتصهرها في بوتقة العقل الذي يمارس وظائفه بحالتين في آن واحد :

الاُولى : أن يكون في أعلى نقطة من نقاط الكيان الديني ، كي يمارس الإشراف بأرقى صوره ومصاديقه ، وهذا ما يعني أيضاً الاغتراف من مسلّمات الفكر الثابتة والأصيلة نصّاً كانت أم عقلاً أم إجماعاً ، أم غيرها.

الثانية : الغور في مفردات الفكر والهويّة وتشابكاتها وتقاطعاتها وتنافراتها بكلّ خصائصها ونقاط قوّتها وضعفها وخللها ، وبهذا «الإشراف» وهذا «الغور» سيكون للشموليّة معنىً مفيدٌ ومكانٌ هامٌّ في جهد العقل العربي والإسلامي ومساعيه نحو إيجاد قواعد مشتركة وآليات منسجمة للممارسة والتطبيق.

إنّ ذلك سيجنّبنا الوقوع في سلسلة الأفكار والنظريّات الوقتيّة والمقطعيّة التي حاولت معالجة مشاكل العقل ضمن اُطر زمانيّة أو مكانيّة معيّنة ، كما هو الحال في النتاج الكانتي والديكارتي ـ مثلاً ـ لمّا انطلقا بقيم ومبادئ وتصوّرات غابت عنها الشموليّة المكانيّة والزمانيّة واختصّت بمعالجة قضايا ذلك العصر وتلك الجغرافيّة ، فصارت بعد ذلك مجرّد أرشيف وتجربة مرّت وفقدت فاعليّتها.

على أن كلّ محاولة تنصبّ في الإطار الزمني أو المكانيّ الخاصّ


ستبقى قابعة في دهاليز الظلام الوقتيّة المقطعيّة ; فإنّ مفهوم «تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها» ومفهوم «أنّى» ونظائرهما لا تجعل تلك المحاولة في أدنى قسط من الراحة ثم البقاء والاستمرار طويلاً ، ناهيك عن الفشل والسقوط المهيب.

إذن ، نحن محكومون بالشموليّة ، وقواعد العقل العمليّ ، والقراءة المنهجيّة العلميّة الصحيحة ، والالتزام بالقوائم المشتركة من ثوابت واُصول ; كي نخرج بعقل عربي وإسلامي يلبّي الطموح وينقذ الاُمّة ممّا هي عليه الآن من تشتّت وضياع وتناحر.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (١)

__________________

١. سورة الأنبياء : ٩٢.


... إلاّ حبّ الحسين

لا أدري متى ينقضي عجبي ; إذ كيف بي أن اُطيق الانطواء في مخبأي ، أختار الاستقرار ، أتجرّع علقم الانتظار ، فالفضاء كربلائيٌّ بامتياز واقتدار ، أريج أربعين المولى يعطّر الهواء ويمسّك الأبدان ، أنغام الرحيل تشنّف الأسماع والآذان ، مشاهد الزحف تبهر العيون وتشغل الأذهان ... إنّه موسم عشق إمام الإنس والجان ، يوم يفرّ المرء فوق المكان والزمان فيغدو الماضي حاضراً والحاضر آن ، وتُستبدَل الخرائط فتتغيّر جغرافيّة البلد والأوطان .. الكلّ ورائي سوى المعشوق أمامي ، سوى المولى غايتي ومرامي .. هنا محطّ رحالي وبلسم جروحي وآلامي ، هنا ينكسر القلم وتجفّ الريشة وينثلم مسلسل أفكاري ..

هنا ، الآن ، بحوث : «الاجتهاد ، حقّ الطاعة ، شكر المنعم ... في طول الشريعة أم في عرضها» «الشبهة الحكميّة ، المصداقيّة ، الموضوعيّة» ... «العلم الإجمالي ، الشبهة العبائيّة ، الشبهة المحصورة» ... «الأصل المثبت ، استصحاب القهقرى ، حجّيّة الاستصحاب من القسم الثالث ، حجيّة مفهوم الحصر ، الوصف ... من عدمها» ... «الحكومة


والورود» ... «توقيفيّة العبادات» ... «الأحكام الثانويّة والضرورات» ...

«البُعد الرابع ، الحركة الجوهريّة» ... «الدليل الإنّي واللمّي» ... «النسب والقضايا والدلالات والصناعات» ... «سبقة التفكير على الوجود أو العكس» ... «التطوّر الدلالي للّفظ ، الإدراك الوظيفي» ...

«الواقعيّة ، الرمزيّة ، التجريديّة ، الكلاسيكيّة» ...

«الانطولوجيا ، الميتودولوجيا ، السوسيولوجيا ، الأنثروبولوجيا ، الثيولوجيا ، الكوموزلوجيا ، السيمياء» ...

«الكوانتم ، النسبيّة ، الأمبريقيّة ، الميكانيكا» ...

هنا ، الآن ، كلّ البحوث والعلوم والمعارف والفنون بلا استثناء : إمّا في إجازة أو خافتٌ صوتها ، مكسورٌ قلمها ، جافّةٌ ريشتها ، مشوّشةٌ أفكارها ... فلا نداء هنا ، الآن ـ بل في كلّ البقاع والأزمان ـ إلاّ نداء الحسين ، لا يراع إلاّ يراع الحسين ، لا إيقونة إلاّ إيقونة الحسين ، لا مبادئ إلاّ مبادئ الحسين .. ولا عشق إلاّ عشق الحسين ، لا حبّ إلاّ حبّ الحسين .. نعم ، سمّها ما شئت : ولاية ، عقيدة ، هويّة ، انتماء .. مهما اختلفت العناوين والأسماء فالأمر موحّد بسّاق .. إنّه الحبّ الذي ضربت جذوره في الأعماق واستطارت أنواره في الآفاق فهامت به القلوب والعقول بالاتّفاق ..

مهما خالفنا وتخلّفنا وراأينا وتملّقنا لكنّا صادقون في شيء من جنس اليقين ، فوالله إنّ لنا قلوباً تحبّ الحسين ..


يا كلّ التاريخ والأماكن أجمعين ، يا مؤتمر الهيّام من طرّ الماضين والحاضرين ، يا ركب الملايين الخمسة والعشرة والعشرين ـ على اختلاف الراوين ـ الزاحف صوب الحسين ، أيّتها العشرات ومئات الملايين من الأحرار والشرفاء والعاشقين المرابطين خلف جبهات الماشين ، حيث فضاءات قيم وأخلاق وحماسة أبي الأئمّة الميامين :

بالله عليكم ما هذا الحسين وما هذا السرّ الربّانيّ في الخالدين ، بالله عليكم إنّا نغبطكم فاذكرونا حيث ثرى الحسين ، اذكرونا حين تفاعُلِ الصنوين وفيض الدمع على الخدّين ، اذكرونا بحقّ تريب الخدّين.

صلّى الله عليك سيّدي أبا عبدالله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك ...


ماذا لو لم يخرج الحسين؟

لو سلّمنا جدلاً أنّ موضوعنا عقلانيّ بعيدٌ عن الفضاءات الإلهيّة الميتافيزقيّة ، بمنأى عن الانتماءات الدينيّة العقديّة ، خارج الحدود الديموغرافيّة الإثنيّة ، فوق الاعتبارات الزمكانيّة .. أنّ موضوعنا سؤالٌ معرفيٌّ منحصرٌ في استفهام واحد يفتقر إجابةً لابدّ أن تستوفي حقّها العلمي بلا زيادة ولا نقصان :

ماذا لو لم يخرج الحسين؟

يعني ذلك : لم تكن كربلاء ولم يكن الطفّ وأحداثه الشهيرة.

إذن كيف يبدو حال العالَم؟

كيف تبدو القيم والمبادئ والأخلاق؟

كيف يبدو حال الفكر والنصّ ـ أيّ نصّ ـ قراءةً ومراجعةً ومقارنةً واستقراءً ودلالةً وتأويلاً ومعالجةً واستنتاجاً واستنباطاً؟

هل تترامى آفاق العقل الثاني ، أو ما يسمّى بالأخلاق والحكمة العمليّة ، فتكون كما تبدو عليه الآن؟


هل تعجّ الأجواء الاُصوليّة الفقهيّة العَقَديّة ، الحوزات والمدارس والمراكز والمؤسّسات والمعاهد الدينيّة والعلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفنيّة ... فتكون كما تبدو عليه الآن؟

هل تظلّ نظرية «مبدأ العلّيّة» مهيمنةً على فكر النهضة ولا تنحسر إزاء تأ لّق نظريّة «الاحتمال» التي تنكر إلوهيّة الطبيعة وتنادي بإله فوقها وفوق علّيّتها؟

هل يرقى الحبّ والعشق بشتّى مراحله ومنازله ودرجاته وترقى إنسانيّة الإنسان ، أم تبقى تراوح مكانها دون ازدهار؟

تساؤلات اُثيرت على سبيل الإشارة لا الحصر ، بإزائها تساؤلات اُخر بالاتّجاه المعاكس مفادها مثالاً :

ما تأثير خروج الحسين على كلّ الفضاءات والمضامير المذكورة؟

هنا نجد «المقارنة» تفرض حضوراً جدّيّاً فاعلاً ، المقارنة بين خروج الحسين وافتراض عدمه ، وليس بخاف على الكثير كون «المقارنة» من أساسيّات البحوث العقلانيّة .. وهكذا افترضنا البحث عقلانيّاً بامتياز كي ننأى به عن جميع الشبهات والافتراءات والتضليلات ..

بعبارة اُخرى : يكون سؤال «خروج الحسين وافتراض عدمه» والآثار المترتّبة عليه نفياً وإثباتاً ، بالمقارنة المعرفيّة العلميّة ، من صلب سؤال الحياة الكبير : من أين ، في أين ، إلى أين.

لا شكّ أنّنا لا نستطيع إفراغ الحياة والتاريخ والحقيقة والثقافة


والأخلاق والأحاسيس من قضايا ومحتويات واقعيّة ، من شيء اسمه «الحسين» من شيء اسمه «خروج الحسين ومقتله في أرض يقال لها : كربلاء» من شيء اسمه «خلود الحسين» ، حتى يومنا الحاضر على أدنى تقدير عقلاني ، بهذا الحجم والمساحة والحضور الهائل الفاعل.

حينئذ تكون المقارنة العقلانيّة بين خروج الحسين وعدمه في أرقى مصاديقها وأرفع تفاعلاتها ، فتعطي بذلك انطباعاً بديهيّاً بغنى النتائج التي تُظهِر البون الكبير بين الوجود والعدم ، بين خروج الحسين وتأثيراته على العالم والبشريّة ، وعدم خروجه وتأثيراته عليهما.

لو تجرّدنا افتراضاً عن كلّ أمر فإنّنا لا يمكن أن نتجرّد عن كوننا جميعاً إنّما نحيي بالحسين تبادراً : الإصلاح ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الإيثار ، الحبّ ، السلام .. فهل تريد الإنسانيّة أكثر من ذلك ، وهل تخلّد سواه؟!

إنّ سكون دم الحسين الخلد لم يكن اعتباطاً ولم يأت من فراغ ، إنّها عصارة المنهج الذي يستقي مضامينه وأدواته من قيم واُصول وقواعد تؤمن بالدليل والمنطق والحوار ، فلا تنفي الآخر ولا تحذفه ، تسعى بكلمتها بلا ترويع وتحريف ، تجهد أن تقود حيث مراتع الهداية والنجاة والفلاح.

إذن خرج الحسين لأ نّه كان لابدّ أن يفعل ذلك ، كان لابدّ أن يعيد الاُمور إلى نصابها الصحيح ، وعلى أدنى تأثير فإنّه استطاع إنقاذ الذاكرة


البشريّة من إغماء غير معلوم المدى قبال الظلم والفساد المستشري ، تمكّن من إشعال شمعة في دروب الحريّة والعدل والتغيير ، الشمعة التي تبقى متّقدةً أبداً مهما اجتمع ظلام العالَم قاصداً إطفاءها.

خرج الحسين فسكن القلوب وآثار العقول ، لسبب بسيط مفاده : الإخلاص.

فلو لم يخرج الحسين لكان حال العالَم أسوأ بكثير ممّا هو عليه الآن.


لا يوم كيومك أبا عبدالله

سيّدي :

أوَ تمضي راحلاً فتُبقي عليلاً لا يقوى وزينباً حيرى؟

أوَ تمضي راحلاً فتخلّف أطفالاً تيهى ونساءً ثكلى؟

إلى أين المسير يا نور العين وضياء الخافقين؟

أيُّ قلب قلبك يا ملاذ العاشقين؟

أيُّ صبر صبرك يا ملجأ المفجوعين؟

أيُّ مسافر عظيم أنت سارت بركبك الجنان والمشاعر؟

أيُّ مغادر كبير أنت سارت برحلك العقول والبصائر؟

أيُّ غائب أنت قد تأبّدتَ الحضور؟

أيُّ صريع أنت حيّاً يا أبد الدهور؟

أيُّ مرمّل أنت يا شامخاً فوق الشموخ؟

أيُّ مخضّب أنت يا رافضاً ذلّ الرضوخ؟

سيّدي أبا الأحرار :


أيّها الإمام المعصوم المفترض الطاعة!

أيّها العالِم بأحداث الأمس والغد والساعة!

أنّى لنظائري بمحضرك ـ يا روح الروح ـ إبداء العُتبى ..

لكنّها لوعة هائم مذهول إزاء أناة فيك لا تُدرَكُ قطعا ..

وقفة عَقَديٍّ راح يتأمّل :

كيف ارتضيت ياذا الولايتين أن يحلّ بك وأهلك وصحبك وعيالك ذاك الذي حلّ؟

رغم أنّك جئت بها كما خطّتها إرادة السماء ..

بعلمك اللدنّي وأنوار إلهامك الشمّاء ..

حيث ذوّبتَ الألم وأبرأت الجرح وصغت الصبر نهجاً في ذروة العلياء ..

فغدا دمك القاني سرّاً إلهيّاً لا تدركه الأفهام والآراء ..

وصار مقتلك قبساً وضّاءً تستنير به ضمائر الشرفاء ..

حتى ألِقَتْ زينب العقيلة امثولةً في العلم والهيبة ومفخرةً لطرّ النساء ..

وسمق السجّاد انموذجاً في المعرفة ورمز الإصرار على ديمومة فكر الولاء ..

وإنهاءً للمطاف لا نهايته أقول وجميعنا نقول :


سيّدي! حيث أمسى عنوان «سيّد الشهداء» مختصّاً متبادراً فيك دون سواك ، وصرت ثار الله وابن ثاره والوتر الموتور ، وحيث غدوت أنت والدين الحنيف صنوين لا تفترقان ، بتنا ـ لزاماً ـ سلماً لمن سالمك وحرباً لمن حاربك.

صلّى الله عليك سيّدي ويا مولاي يا أبا عبدالله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك ...


الحسينُ سِرٌّ إلهي

لشهرين وأكثر تنتشر مظاهر الحزن ومجالس العزاء والوعظ بمختلف ألوانها وأشكالها .. إنّها ذكرى مأساة الطفّ الأليمة ، فاجعة كربلاء التي استشهد فيها الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه الكرام ، ذوداً عن الدين الحنيف والقيم المقدّسة ، لأجل الإصلاح في الاُمّة التي سادها الظلم والانحراف وعمّت فيها المفاسد بشتّى صورها ومصاديقها.

من موضع العزّ والكرامة استنفد الإمام (عليه السلام) الحجج والذرائع للوصول إلى حلٍّ يمنع الحرب وسفك الدماء لكنّهم أبوا إلاّ أن ينزل على رغبتهم بالبيعة ليزيد بن معاوية خليفة المسلمين!! بلا أيّ خيار آخر ... فقال (عليه السلام) من جملة ما قال : «مثلي لا يبايع مثله ... هيهات منّا الذلّة ... يأبى الله علينا ذلك ... الموت أولى من ركوب العار ...»

بدأ الجيش الجرّار الحرب على الإمام الحسين (عليه السلام) وصحبه الكرام الذين ناهز عددهم السبعين فقط ، صبيحة يوم العاشر من محرّم الحرام سنة ٦١ هـ وانتهت عصر ذلك اليوم باستشهاده (عليه السلام) وثلّته الطيّبة المؤمنة جميعاً.


نقول : قلّما خلّد التأريخ والإنسانيّة شخصاً وصحبةً مثلما خلّد الحسين (عليه السلام) وصحبه ، لماذا؟ إنّه الإخلاص الحقيقي للقيم والمبادئ والأخلاق ، إنّه السرّ الإلهي الذي لا يمكن دركه واستيعابه إلاّ بالبصيرة الثاقبة والوعي المنصف والإيمان الصافي.

هل أدركنا هذا السرّ يا ترى؟

هل عندنا المقوّمات اللازمة من تلك البصيرة وذانّك الوعي والإيمان لندرك ذلك السر الإلهي العظيم؟

لا شكّ أنّ الغالب منّا سائرٌ على دين الآباء والأجداد ، فنحن نبكي الحسين كوننا تعوّدنا ذلك ، ونحبّ الحسين لأ نّنا وجدنا فضاءاتنا تعيش هذا الشعور والإحساس ، لأ نّه من أهل البيت النبوي (عليهم السلام) وقد قتله ظلماً وعدواناً يزيد بن معاوية ، لأ نّه ... وهل هذا يكفي في فهم واستيعاب سرّ الخلود المشار إليه؟!

بل الذين سبروا الغور لأجل بلوغ المرام بالمناهج العلميّة والطرق المعرفيّة لم تترشّح مساعيهم سوى عن إضاءات معيّنة أثارت اهتمام الرأي العام والخاصّ لكنّها لم تدرك المقصود.

وهذا هو معنى السرّ ، ناهيك عن السرّ الإلهي ، فكيف يكون سرّاً وهو مكشوف للداني والقاصي؟! مع تقديرنا لكلّ الاجتهادات والقراءات والأفهام فإنّها ليست سوى محاولات واحتمالات.

ولكونه سرّاً إلهيّاً حمل لوازمه معه ، من الخلود والشموخ والبهاء


والعظمة ، وسيبقى هكذا حتى قيام الساعة.

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِ اللهِ ، وَعَلَى الاَْرْواحِ الَّتى حَلَّتْ بِفِنآئِكَ ، عَلَيْكَ مِنّى سَلامُ اللهِ اَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِىَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَعَلى اَوْلادِ الْحُسَيْنِ ، وَعَلى اَصْحابِ الْحُسَيْنِ.


ومضة أربعينيّة

أيطيب مقامي وتهنأ أيّامي ويهدأ بالي وأنا الذي مازجتْ عقلي وخامرتْ قلبي صورُ تلك الأربعينيّة المثيرة بمشاهدها النابضة حبّاً وولاءً ، عشقاً واعتقاداً بسيّد الشهداء وأبي الأئمّة النجباء؟!

ما أجلدني وما أقسى فؤادي ، أيّ موال أنا لا أهتزّ شوقاً ولا اُيمّم عزماً صوب مرابع المولى ومراتع السبط الغنّاء؟!

تبّاً لدموع لا تبحر بي حيث اقيانوس الحسين

تبّاً لقوائم لا تحملني حيث ثرى الحسين

تبّاً لهيام لا يحلّق بي حيث اُفق الحسين

تبّاً لنبض لا يهفو بي حيث ترانيم الحسين

تبّاً للبٍّ لا يسبر بي الغور حيث أعماق الحسين

ما أتعسني وعذيري صاحبتي وبَنِيَّ ومالي

ما أتعسني وعذيري عيشي وراحتي وداري

فيازحف الملايين ضمّني وإلى المولى خذني


فيازحف الملايين قد تقتُ فبالله عليك اذكرني

يا سرّ الخالق ولغزه السرمديّ العجيب

أيّها الوتر الموتور وثأر السماء الحبيب

عزائي أنّي اُحبّكم حبّاً قد خالط منّي اللحم والدم والعظما

اُحبّكم حبّاً فوق الكذب والملق والرياء والنفع قد علا وتساما

اُحبّكم حبّاً قد تخطّى الحبّ فأمسى ولاءً واعتقاداً والتزاما

السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام).


لكي يبقى الأربعون حسينيّاً بامتياز

في شهر محرّم الحرام من سنة ٦١ هـ. ق كانت كربلاء وكانت أحداث الطفّ المثيرة ، وهاهي اليوم كربلاء مقدّسة شهيرة ... خرج خامس المعصومين ثالث الأئمّة الميامين الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) ، غير أشر ولا بطر ، رافضاً مبايعة خلافة الظلم والفساد والغدر ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، طالباً الإصلاح في اُمّة الجدّ خاتم الرسل والأنبياء محمّد ، فجاد ـ من أجل ذلك ـ بغاية ما يمكن أن يجود به المرء من الجود ، ضحّى بمهجته الربّانيّة ، بذل بكلّ عزم وإخلاص نفسه الملكوتيّة بعد ما استفرغ الوسع في إلقاء الحجّة وبيان الحال والمآل ، فاستوفى شروط الإعذار بكلّ وضوح واقتدار .. وَلَكَمْ وعظ وحذّر وأنذر وذكّر ، وهل أعلم منه أوْلاً ومشارفةً ـ بقول الاُصوليّين ـ بعواقب الاُمور؟!

إلى ذلك : فقد حاول تجنّب إراقة الدماء وإزهاق النفوس بطرحه العديد من المعالجات والحلول .. لكنّ القوم أبوا إلاّ أن يخيّروه بين السلّة والذلّة فسجّل رائعة الكرامة السرمديّة : «هيهات منّا الذلّة».

ولمّا أبى الحسين الركوع لمنظومة التعسّف والجور ولم يأبه بشهرة


ومال وجاه وعناوين زائلة ، ركعت له الدنيا وكذا الدار الآخرة .. لم يساوم فجاءه الخلود بين يديه يسعى .. لم يتخاذل فألانَ بالدم صلب الحديد وهزم الحسام والقنا ، لم ينثن فاستقامت له القلوب حبّاً والعقول تدبّرا ..

فكيف هو الجمال يا تُرى؟! وللجمال صورٌ وآفاقٌ وأعماقٌ عمقى ; حيث الفكر والأدب والفنّ والحياة والعشق والهوى ... كلٌّ منها ينهل من الجمال ويتزوّد حيث رام ورمى.

والذاكرة الجادّة الملتزمة هي التي تستقي وتنال ما تروم بأمانة ودقّة واحتياط من جمال الحسين ، فلا الاستحسان الباطل ولا الاستنباط البراغماتي ولا التسييس الجهوي ولا التجيير الفئوي ولا الطموح الرغبوي بإمكانه التحليق في فضاءات الحسين ; إذ سرعان ما يلفظه الباطن الحقيقي ويرفضه النور القدسي فيطفو على السطح قشراً بالياً ويتراءى في الأبصار ظلاماً ماضيا.

إنّ الحسين (عليه السلام) وأربعينه جمالٌ إلهي ، عطاءٌ سماوي ، منحةٌ ربّانيّة قدّر لها الله تبارك وتعالى أن تكون حركةً نابضةً لا تعرف السكون مطلقا ، وقبساً مباركاً لا تنطفئ أنواره قطعا ، ونميراً عذباً يستدعي الألباب كي تغور فيه وتنهل منه غرفا ، وزحفاً ميليونيّاً يهتف : لبّيك يا حسين إماماً ومولى ، وحضوراً منطلقاً من بحبوحة الفطرة الإنسانيّة يعلن : ها أنا ذا ... بلا افتقار للترويج والإعلام والتطميع وإغراءات الدنيا.

إنّ الحسين (عليه السلام) وأربعينه قد خرق اللاشعور وتجاوز مباحث الوعي


وحلّق فوق دهاليز العقل الجمعي وترك مراحل التصوّر والصناعة والثبوت تعدو وراءه بعيدا ; فأيٌّ من القضايا والنسب والدلالات والمعادلات ليس بإمكانها إعطاء تصوّر واضح وتفسير مشخّص وحلّ دقيق لشيء اسمه الحسين وسرّ خلوده الذي يزداد ألقاً يوماً بعد آخر ويرقى.

أليس علينا إذن العمل جميعاً على الإسهام في إبقاء قضيّة الحسين (عليه السلام) عموماً وأربعينه خصوصاً خارج نطاق التجاذبات الفرديّة والفئويّة والجهويّة ، وعدم الخدش والمساس بقدسيّتها وفطريّتها ، واحترام أحاسيس الناس ومشاعرهم الصافية ، كي تبقى تشعّ علينا بالأنوار الإلهيّة والفيوضات العلويّة .. فلتكن كلّ الصور صور الحسين (عليه السلام) وهكذا كلّ اللوحات والمكتوبات والمقروءات والمرئيّات والمسموعات ، بلا تجاوز وتجاسر وتوهين ; كي نجعلها خالصةً لوجه الله ربّ العالمين ، ولكي نُقرّ عين الحسين (عليه السلام) بأ نّنا زينٌ لا شينٌ على آل العصمة الميامين.

وكم هو لائق بنا أن نلتزم في زمن الغيبة بحفظ القانون والأخلاق واحترام حقوق الآخرين ونراعي الشعور العامّ والنظام ..


محرّم وصفر

في شهري محرّم وصفر ولاسيّما في العشرة الاُولى من محرّم الحرام يتغيّر كلّ شيء فينا وفي مظاهر حياتنا ، فنحن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بمجرّد حلول هذين الشهرين يطغى علينا الحزن والألم ; لشهادة إمامنا الثالث الحسين بن علي (عليهما السلام) ، الذي قُتل مظلوماً ضمآناً ـ مع الثلّة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه ـ بأمر من يزيد بن معاوية ، سنة ٦١ هـ. ق ، في وادي الطفّ بمدينة كربلاء ، حيث اصطفّ جيشه الجرّار المكوّن من ألوف الجنود لمقاتلة مجموعة لا تتجاوز الثمانين رجلاً ، لا لذنب سوى أنّه عليه السلام رفض مبايعة إنسان مستحلٍّ للحرمات ، شارب للخمر وفاعل للموبقات ، شهد بكفره وفسقه القريب والبعيد. وإنّما خرج عليه السلام لطلب الإصلاح في اُمّة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ... فحصل الذي حصل ...

كنّا في الصغر نمارس شعيرة الحزن والألم والبكاء في محرّم الحرام ممارسةً فطريّةً عفوية ، فيخيّم على قلوبنا وأحاسيسنا سحاب الكآبة


والشجن ، أمّا مدننا فإنّها تلبس أبراد السواد ، وتنصب فيها المآتم والمجالس والمنابر في كلّ محلّة وزقاق.

وسيراً على دين الآباء والأجداد كنّا نجدّد الحزن والعزاء كلّ عام على أبي الأحرار وسيّد الشهداء (عليه السلام) ، وتبلغ الذروة ليلة العاشر من المحرّم ، اليوم الذي قتل به أبو عبدالله (عليه السلام) والثلّة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه (عليهم السلام) ، بحيث كنّا نرى السماء ـ اعتقاداً بريئاً فطريّاً ـ وقد اصطبغت باللون الأحمر تأسّياً بالحسين (عليه السلام) ، الذي ضحّى بدمائه الزاكيات ; لتورق شجرة الدين وتسمو القيم الحقّة وتُنشر المبادئ الإنسانيّة المقدّسة ، فنبقى نحيا تلك الليلة وذلك اليوم بالألم والحزن والبكاء وهكذا تستمرّ مظاهر العزاء والمجالس والبرامج المختلفة حتى أواخر شهر صفر.

وللطفولة حدودها وخصائصها وعالمها ، كنّا نفعل كلّ شيء ـ على نحو الحقيقة والظاهر ـ لنثبت حبّنا وولاءنا لأهل البيت (عليهم السلام) .. ومن فرط هيمنة اسم الحسين (عليه السلام) على قلبي وأحاسيسي وكثرة تداول قضيّته وعظمة مأساته كنت أعتقد أنّ أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو ابن الحسين (عليه السلام) ، وليس العكس ، ولمّا نلتُ سهمي من النضج وعلمت الواقع وجدت أميرالمؤمنين (عليه السلام) أشمخ مما يجول في اُفقي المتواضع ; إذ ولد إنساناً عظيماً استطاع حفظ الدين والرسالة.

ومن شدّة الانغماس ببرامج محرّم الحرام والانهماك في تسجيل حضور فاعل فيها ما كان تفكيري البريء يقبل بأنّ حادثة كربلاء قد


حصلت قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً ، إنّما كنت أعتقدها وقعة لم يمرّ عليها سوى بضع عشرات السنين.

عشنا محرّم وكربلاء والحسين (عليه السلام) أيّام الطفولة بقلوبنا ومشاعرنا وحبّنا الفطري الذي تعلّمناه من آبائنا ومحيطنا وفضاءاتنا ، ولمّا صلب العود وتفتّحت آفاق المعرفة والثقافة صرت أعيش التاريخ وأحداثه والانتماء ولوازمه برصيد إضافي فرضته الإرادة الذاتيّة نحو فهم ودرك اُصول وجوهر الفكر ، ثم التحدّي الكبير الذي يستهدف هويّتي ويهدّدني والآخرين من بني جلدتي وانتمائي بأساليبه وأدواته المغرية المثيرة. وليس الأمر من باب التمسّك بما عليه الآباء والمحيط والفضاء الذي أنا فيه بقدر ما هو محاولة جادّة مراجعاتيّة استكشافيّة لبناء ومشروع قائم على أركان وقواعد واُسس ، كنت قد وجدته حاضراً جاهزاً في عقلي وأحاسيسي ، وهذه الحضوريّة والجهوزيّة لو تشبّثتُ بها كشكل وإطار وداع لحفظ انتمائي لا شكّ أنّها ليست سوى هشيماً تذروه الرياح عاجلاً أم آجلاً ، فقرّرت النأي عن المجاملات القشريّة والإلقاءات السطحيّة وخوض التجربة علميّاً منهجيّاً ، وبمقدار ما أجهدت ذهني وجوارحي وأعماقي علمت أنّ الكون لابدّ له من قوّة عليا تسيطر عليه وتدير شؤونه وتدبّر اُموره وتنظّم حرّكته وكلّ شيء فيه ، مثلما علمت أنّ «الميكانيكا» ما هي إلاّ زوبعة فنجان سرعان ما هدأت وعادت الاُمور إلى مجاريها ، عودةً أسهم فيها أرباب التجريبيّة أنفسهم عبر نقض «الميكانيكا» وتجاوزهم إيّاها. كما علمت أنّ رسالة الإسلام هي الرسالة الإلهيّة الجامعة


المانعة المكمّلة لما قبلها ، وأيقنت أن القيم والمبادئ والأخلاق والمناهج والعلوم والمعارف والإصرار الخاصّ على الكرامة والإيمان والعدل والشرف والطهارة والحرّيّة الإنسانيّة التي جاء بها الإسلام كاملةً ، لم تأت بمثلها أو بأفضل منها سائر الأديان والمذاهب السماويّة وغير السماويّة.

وحينما بحثت وتفحّصت بمقدار وسعي لم أجد طائفةً وفرقةً ومنهجاً وتياراً استطاع استيعاب الدين الإسلامي استيعاباً صحيحاً سوى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، الذين اتّفقت كلمتهم عليهم السلام ـ عبر نسق منسجم واحد وبأدوار مختلفة أحدها يكمل الآخر ـ على عرض الرسالة الأصيلة المستقاة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، فكانوا (عليهم السلام) بحقّ عدل الكتاب وصنوه الذي لا يفترق عنه قطّ.

وعلمت أنّهم (عليهم السلام) مهّدوا للعقل والعقلانيّة والفكر العامّ الجمعي فضاءات وآفاقاً رحبة ، وترشّح ـ بفضل تلقّيهم السليم واستنباطهم الصحيح ـ ما يدعم ويؤكّد الرأي الشهير بكون مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي مدرسة الحوار والتفهّم والعقلانيّة والعقل والعلم بعيداً كلّ البعد عن أجواء الترويع والترهيب والنفي والحذف التي يمارسها الكثيرون إلى يومنا هذا.

ولمّا علمت هذه الأشياء فهمت بالملازمة : لِمَ كنتُ أعتقد أنّ الحسين (عليه السلام) أبٌ لأميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وقد ساعدتني على هذا الفهم أمورٌ منها : النصّ الشريف «فاطمة أُمّ أبيها» ...

وحينما أقف متأمّلاً شموخ زينب العقيلة (عليها السلام) في مجلس الطاغية


يزيد وهي تقول : فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ... أفهم سرّ اعتقادي بكون الحسين (عليه السلام) قد استشهد قبل بضع عشرات السنين وليس قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً ... وهكذا أفهم وأعلم وأتعلّم المزيد كلّما سبرت الغور في ثقافة ومعارف وسيرة وتأريخ أهل البيت (عليهم السلام).

هذا فيض من غيض وقطر من بحر بركاتهم عليهم السلام ، فالطبيعة تتكثّر أفرادها ومصاديقها بتكثّر جلالها وعظمتها وقداستها ... وأيّ طبيعة أرقى وأعزّ من تلك التي تعني صنو القرآن الكريم الذي لن يفترق عنه بتاتا؟!


أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة

زينب الكبرى (عليها السلام) تخاطب أخاها الحسين (عليه السلام) ليلة العاشر من المحرّم الحرام : أخي ، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى ...

أجابها (عليه السلام) قائلاً : «والله ، لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشرس الأقعس ، يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل إلى محالب اُمّه».

ورد هذا النصّ في كتب المقاتل بتفاوت يسير في الألفاظ ، ولسنا في فضاء الخوض به خوضاً تحقيقيّاً كلاسيكيّاً بقدر ما نهتمّ بفضاءاته الفكريّة والمعرفيّة ورواشحه المدنيّة والدينيّة والانتمائيّة ، وأينيّة موقعنا منه وموقعه منّا بلا انفصال عن المتائية بالطبع ; فالنتاج الفاعل الصحيح يظلّ حيّاً نابضاً يتّسع باتّساع مضامير المكان والزمان ، متجاوزاً حدود الأنا بأبعادها الحسّيّة والحدسيّة.

صدامُ الأفكار والمعارف والثقافات والحضارات أخذ فيه موضوعُ العلم مساحةً لا تضاهيها مساحات الموضوعات الاُخر ، فهو المعوّل عليه في الادّعاء والاستدلال والإثبات والاستمرار في البقاء والنموّ والازدهار ،


قياساً إلى الأدنى منه رتبةً كالظنّ ـ حتى المعتبر منه ـ والشكّ والوهم.

وقد اختُلف في موضوع العلم اختلافاً شديداً ، هذا الاختلاف المشتمل بذاته أيضاً على آليات وأدوات وكيفيّات حصول العلم ، ولاسيّما في القرون الأخيرة حينما جعلت النهضة الاُوربيّة طريقها يمرّ عبر تخريم وتدمير المناهج والأنساق الفلسفيّة القائمة على الاُصول الأرسطويّة والقيم اللاهوتيّة والدينيّة المؤمنة بالغيب والماورائيّات ، فانحسر مدّ الكنيسة ـ التي تتحمّل وزراً كبيراً وعبئاً ثقيلاً في الانتكاسة التي أصابت فضاءات المبادئ السماويّة ـ واستشرى المذهب التجريبي القائم على الحسّ والانهماك في الطبيعة ، فازدهرت الأفكار الإلحاديّة وتراجعت شعبيّة الاُسس التوحيديّة تراجعاً موجعاً ، وتشدّق الإلحاديّون بما نالته الصناعات من قفزات كبيرة وتقنيات عظيمة بفضل النسق التجريبي الذي ترك آثاره الملموسة على القيم الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاعتقاديّة ، وعدّوا ذلك أوّل دليل على صحّة المدّعى وخطأ التوحيديّين ، وبقي الحال على هذا المنوال حتى برزت نظريّة الاحتمال التي أعادت الانتشار رويداً رويداً وجدولت الحسابات من جديد ، فأخذت الاُسس الدينيّة والغيبيّة فرصتها من جديد لتقول مرّة اُخرى : لابدّ من وجود شيء ما ، قوّة ما ، أوجدت الكون وتسيطر عليه وتعمل به طبق تصوّراتها ، لا أنّه ماكنة تعمل بحركة ديناميكيّة منتظمة كما يحلو للنيوتنيّة افتراضه كذلك.

عاد نزاع موضوعيّة العلم قويّاً من جديد بين من يرى العلم غير


متصوّر في غير الحسّيّات وبين من يراه متصوّراً في الحسّيّات والعينيّات ، فأحسّ الإلحاديّون بالخطر الداهم الذي ما برح يقضّ مضاجعهم ويؤرّق أجفانهم منبعثاً هذه المرّة من رحم ذات الاختراعات والاكتشافات التي راموا بها مصادرة اللاهوتيّات وإغلاق ملفّها نهائيّاً ; فاكتشفوا أنّ «الميكانيكا» خاسرة و «الاحتمال» رابحة ، اكتشافاً أحجم الكثيرون منهم عن إذاعته والإذعان به فتجرّأ آخرون بعرضه والاعتراف به حقيقة لا تقبل اللبس والتردّد.

شيءٌ ما ، قوّةٌ ما ... تصنع وتخلق وتدير وتدبّر على نسق دقيق ونهج مثير ... شيءٌ ما ، قوّةٌ ما ... لا نراها ، لا نسمعها ، لا نشمّها ، لا نلمسها ، لا نتذوّقها ... لكنّها تفعل كلّ شيء بحكمة ونظم ... لابدّ إذن من وجود شيء ما ، قوّة ما ، بهذه الصفات ، لابدّيّة عقليّة مسلّمة ، تسلّلت من الآثار لتبلغ المؤثِّر ، بلغت المؤثِّر فعلمت به دون أن تراه أو تسمعه ... فحقّ للإنسان أن يعلم بما فوق الحسّ ، أن يتيقّن بلا نهج تجريبي طبيعي أنّ ما وراء الطبيعة عالمٌ ، ما وراءها قدرة هائلة هي التي تديرها بأنظمة وقوانين لا يتمكّن من صياغتها وبلورتها أحدٌ غيرها ، فهذا ما ترشّح من «نظريّة الاحتمال» المهيمنة بلا منازع حالياً على الفرضيّات والاختراعات العلميّة ..

على أنّنا لا نستطيع افتراض هيمنة وحاكميّة هذه القدرة الهائلة ودقّة إدارتها للكون بالقوانين والأنظمة المثيرة دون افتراض الصانعيّة في ذات القدرة المشار إليها وتصوّرها وتصديقها على أنّها من صفاتها الذاتيّة ،


افتراضٌ لابدّ أن ينقلب علماً ويقيناً بمجرّد التصديق بالمقدّمات الآنفة الذكر.

هكذا عاد أو بات عالَم الغيب حقيقةً لا يمكن تجاوزها مطلقاً ، الأمر الذي تترتّب عليه آثار واسعة ، فليس العلم ـ على سبيل المثال ـ متعلّقاً فقط بالحسّيّات والتجريبيّات والطبيعيّات كما ذكرنا ، بل يتعلّق بغيرها أيضاً بلا أدنى تفاوت ، وانكشاف الحقائق الغيبيّة لذوي المراتب النورانيّة لا شكّ أنّه علمٌ أرقى ومعرفةٌ أقدس وكشفٌ أشرف من العلم بالحسّيّات والتجريبيّات والطبيعيّات ، فالذين تمكّنوا من بلوغ مراحل العلم واليقين العالية وانفتحت لهم آفاق المعارف القدسيّة إنّما حصلوا على ذلك بفعل تجاوز الاختبارات الصعبة والبلاءات المرّة ، حينما انتخبوا سبيلاً رضوا به عن طيب عقل وإحساس ، فكلّ خطوة معرفيّة نحو المقصود تعني الاقتراب أكثر من العلم واليقين بالقدرة التي تصنع وتدير وتدبّر ، وباقتطاف ذلك العلم واليقين فالجوارح تعمل بنور الله والعقل يعمل بنور الله ، وهذا العمل يعني اختراق الحواجز الحسّيّة والحدسيّة.

من هنا قد يأتي التعجّب ليكون موضوعاً لنا هنا .. إذ كيف لمثل زينب (عليها السلام) وهي العالمة غير المعلّمة أن تسأل مثل الإمام الحسين (عليه السلام) ـ وهو المعصوم ـ سؤالاً يعدّ في ظلّ الحسابات والمعادلات المعرفيّة غير وارد في قاموس أيّ منهما .. ألا تعلم زينب (عليها السلام) نيّات الأصحاب؟! ألاّ تعلم (عليها السلام) أنّه ـ أيّ الحسين (عليه السلام) ـ يعلم نيّاتهم؟! ورغم كلّ ذلك فقد أجابها (عليه السلام)


بالجواب المشار إليه أوّلاً .. رغم أنّ القضيّة بأكملها مفهومة لكليهما ، ثم كيف لثلّة غُربلت وصُفّيت ثم غربلت وصفّيت ولم يبق منها إلاّ السبعون أو أكثر قليلاً ، أن تكون نواياها على غير نيّة الحسين (عليه السلام) ، ولاسيّما أنّها ليلة المصير والوداع ، ولم يبق سوى سواد تلك الليلة ليكونوا قبال ثلاثين ألفاً بحوزتهم كلّ الإمكانيّات العسكريّة والتقنية آنذاك؟!

وهل حقاً كان اختبار الحسين (عليه السلام) لأنصاره خلال تلك الأيّام القلائل فقط التي كانوا معه (عليه السلام) ليأتي تصريحه : «والله ، لقد بلوتهم ...» أم أنّه اختبار شهور وسنوات ، أو اختبار ناشئ من الحسّ بنور الله والتعقّل بنور الله؟! ولا نرى أنّ زينب (عليها السلام) فاقدة لهما وهي التي لها وفيها من الصفات ما لا ينكرها عليها أحد ... ماذا يمكن قوله هنا؟

لا شكّ أنّ الحسين (عليه السلام) كان يعلم ماهيّة نيّات أصحابه وزينب (عليها السلام) تعلم كذلك ، بل الأصحاب يعلمون فيمَ وإلى أين هم قاصدون وأنّ اليقين بالحسين (عليه السلام) لا يرقى إليه سواه.

ولستُ مقيِّداً البحث بالذي حصل بين الحسين وزينب (عليهما السلام) ، إنّما هي مفردة مصداقيّة لطبيعة ثقافة وعقيدة حاكمة على التفكير الإسلامي والشيعي على وجه الخصوص ، والديني اللاهوتي على وجه العموم ، تتّخذ من الغيبيّات والعلم بها مكوّناً أساسيّاً في بناء وجودها ومناهجها وأنساقها وعملها الخارجي ، ممّا يلزم نتائج وآثار ذات سنخيّة ونوعيّة متجانسة معها.


إنّه (عليه السلام) يعلم وهي (عليها السلام) تعلم والأصحاب رضوان الله تعالى عليهم يعلمون ، فلِمَ كلّ هذا الحوار والسؤال والجواب وردّ الفعل؟

نقول : إنّ للعقلانيّين نهجاً كما هو للاّهوتيّين نهجاً .. نعني بذلك نوعيّة الانتماء العقلاني والانتماء اللاهوتي ، وإلاّ قد نجد من اللاّهوتيّين من يجعل العقلانيّة في صلب قوانينه واستدلالاته ; نظراً لطبيعة الحاجة الزمكانيّة ، بل لاندكاك العقلانيّة في التصوّرات والتصديقات اللاّهوتيّة اندكاكاً حقيقيّاً ناشئاً من شموليّة وإحاطة النظريّة الغيبيّة.

نعم ، إنّما التفاوت في التلقّي والفهم والقبول ، فالعقلاني استفهامي حسّي بطبيعة الانتماء النوعي ، لا يكاد يشبع بالنقل والغيب ونظائرهما ، إنّه يستجيب لوجود الحجّة (١) ـ مثلاً ـ من خلال الإثباتات العلميّة التي تذهب إلى إمكانيّة بقاء الإنسان حيّاً لمئات السنين إن حافظ على سلسلة شروط وقضايا تختصّ بالخلايا والأنسجة ... وهناك من المعمّرين من عاشوا سابقاً مئات بل ولأكثر من ألف عام بفعل الحفاظ على الشروط والقضايا المختصّة بالاُمور الفسلجية والبايلوجيّة ...

وهذا العقلاني يرى في حواريّة الحسين وزينب (عليهما السلام) نظاماً وإدارةً ونهجاً وفكراً قياديّاً ، لا أكثر.

واللاهوتي يرى في الحواريّة أكثر من ذلك ، فهي عنده تَجَلٍّ شامخ لانكشاف الحقائق ، بل خضوع الحقائق إزاء الرؤية الفاعلة بنور الله تبارك وتعالى ، الرؤية التي تترشّح علماً ومعرفةً وإزاحةً للحجب والأستار ، وإلاّ


كيف به عليه السلام الفحص والتنقيب والحصول على التصديقات القاطعة بمجرّد رفقة أيّام لبعضهم؟!

إنّنا على كلا النظامين والقولين نقطف ثماراً عمليّة معرفيّة بإمكانها فتح آفاق رحبة على فضاءات من الفرضيّات والنظريّات والتصديقات والتطبيقات ، تخدمنا كلّها في صياغة مناهجنا العلميّة والفكريّة والاجتماعيّة ...

فلو جرّدنا «أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة» عن محتواها اللاهوتي والغيبي وتمسّكنا بها قيمةً عقلانيّة حسّيّة لعثرنا بين طيّاتها على نظام واسع من الإدارة والتنسيق والتفحّص والتحقيق والتنقيب والمراجعة والبعثرة والمقارنة والتحليل والاستقراء والخوض في مساحات واسعة من غير المقروء واللاّمفكّر فيه .. ممّا يعني الوصول إلى نتائج عمليّة منهجيّة مستندة إلى المعايير العلميّة الصحيحة ..

بعبارة واضحة : إدارة الكيان ، أيّ كيان ، تستدعي التوفّر على خصائص ومميّزات تخصّصيّة وأخلاقيّة وفكريّة ... لابدّ من وجودها في أقطاب ومحاور الكيان فضلاً عن الرتب الأدون من عناصره وأفراده .. خصائص ومميّزات ثابتة بالعلم واليقين والاطمئنان التامّ ، العلم الذي يزيح احتمالات الظنّ والشكّ والوهم وكلّ مفردة من مفردات التردّد ، ولا يختلف إثنان في كون الثقة إن تحقّقت فإنّه يعني قطع نصف الطريق أو أكثر نحو بلوغ المرام ..


إنّها مجرّد كلمات قصار تشكّلت منها حواريّة الأخوين فصارت نهجاً ونسقاً ونظاماً متكيّفاً متسامياً فوق الأنا والانتماءات الضيّقة .. كلمات قصار فتحت أبواباً من التدبّر والتأمّل والتفكّر.

نحن نستطيع أيضاً إن امتلكنا العزم والحزم والإرادة أن نقلب موازين القوى والمعادلات القائمة ، وليس فرانسيس بيكون فقط يستطيع ، هذا الذي أسّس لنهضة صناعيّة من خلال بعض فصول جمعها بعنوان «الاُورجانون الجديد». فمن خلال حواريّة واحدة لم تتجاوز بمحتواها السطرين والثلاث يمكننا العمل على تأسيس نظام متناسق رشيق متشامخ يقوم على الاُسس والمعايير العلميّة الصحيحة ، فكيف بنا ونحن نتملك قرآناً وموسوعات حديثيّة وبصائر لا تنفد معارفها؟!

إنّ أساسيّات التلقّي والفهم والممارسة لها الدور الحاسم في المقام ، وتُشكّل المفصل المصيري في استنهاض القيم والفكر صوب المقصود ، فإن كانت الأساسيّات مستندة إلى العزم الجوهري العمقي ستتناسب التلقّيات والأفهام والممارسات والمقاصد طردّياً معها ، والعكس بالعكس ، بل الترهّل والتواني عن العزم الجوهري العمقي يعني التسليم والخذلان حتى دون الوثبة واصطكاك الأسنّة ناهيك عن حدوثهما حقيقةً.

من هذا المنطلق يكوّن فهم النصّ عندنا حجر أساس الفكر والثقافة والمعرفة والأخلاق والسلوك وبناء النظم العقائديّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ...


ولا يعني ذلك إلاّ ضرورة الأخذ بعين الاعتبار كلّ المقاييس والمعايير العلميّة والمنطقيّة السليمة في تشييد الخلايا الثقافيّة والعلميّة والفكريّة والتخصّصيّة ذات الاتّجاهات المختلفة ; سعياً لثبات منهجي ورسوخ نسقي لا يتصدّع بمجرّد هزّة أو إعصار فكري أو أخلاقي أو مادّي.

إذن لابدّ من برنامج متكامل ، جوهري ، عميق ، ذي إحاطة وإشراف وشموليّة ، يضمن البقاء والاستمرار والانتشار والنموّ والتكيّف.


ألسنا على الحقّ؟

«ألسنا على الحقّ» سألها الشهيد من الشهيد ، فأجابه : «بلى والله» ، فقال : «لا نُبالي إذن ، وقع الموت علينا أم وقعنا عليه».

لِمَ نخاف إذن ، وقعت علينا «العقلانيّة» بكلّ أدواتها وآليّاتها ومؤنها أم وقعنا عليها .. مادمنا نتمكّن من حلّ المشاكل ومعالجة الاُمور بمنهج علمي سليم.

لا أدري هل هي محنة سيكولوجيّة تاريخيّة أوقعتنا في فخّ التأطير أم أنّنا اعتقدنا بأنّ كلّ الحلّ موجود في بعض فصول المعرفة ، فمنحنا البقيّة أهمّيّةً ثانويّة ، ولو سلّمنا بكونها عقدة لازمتنا فترة من الزمن ، عقدة تقدّم الآخر وتأخّرنا ، فلا يعني ذلك حلّ المشكلة عبر الاستمرار المكثّف في بعض فصول المعرفة وإهمال ما سواها ، ولا منافاة بين السعي الحثيث لملء الفراغ والنقص في بعض الفصول ودوام الجهد في الفصول الاُخرى.

لقد طوّر الآخرون مناهجهم وأصرّوا على الانتقال بالمعرفة إلى «مبدأ اللاّاكتمال» أو ما يسمّى بـ «النسق الكايوسي» والعنصر اللاتنبّؤي


الذي توصّل إليه عالم الرياضيّات الشهير «جودل» حيث يعني : نسبيّة العلم حتى على صعيد الرياضيّات التي عُدّت بتعبيرهم رجولة المنطق والمنطق صبا الرياضيّات ، فلا حتميّة ولا يقين ولا اكتمال ولا مطلقيّة للعلم والطبيعة ، الأمر الذي فتح عندهم مرّة اُخرى «فروض الميتافيزيقيا الخصبة» كما نعتوها هكذا .. ورسّخوا بذلك مبدأ «الوعي التاريخي» عبر المحاولات الحثيثة لتوماس كون وإمري لاكاتوش وفييرآبند وغيرهم ، الذين يُرجِعون الفضل كلّ الفضل ـ في القضاء على منهج الاستقراء والتبرير العلمي بأدبيّاته المعروفة في العلّيّة والاطّراد والحتميّة ونهاية التاريخ ـ إلى كارل بوبر مؤسّس منهج «الكشف العلمي» وصاحب نظريّة «القابليّة على التكذيب» ، أي قابليّة العرض والكشف العلمي على الاختبار كي يتجاوز مراحل العسرة ليصل إلى مرتبة القبول والإجراء ، حتى يحصل كشف علمي آخر يزيحه عن العرش وهكذا ، ممّا يعني استمرار التقدّم والنموّ العلمي بلا توقّف أبداً ، وهذا يعني أنّ العلم والمعرفة تبقى ناقصة نسبيّة غير مطلقة ، والمطلق شيء آخر خارج الطبيعة وفوقها. وبذلك تجاوزوا المرحلة الكوبرنيكوسيّة والكبلريّة والجاليلويّة والنيوتنيّة ، التي قالت بتأليه الطبيعة وقدّمت الملاحظة على العقل والفرض وحذفت عالم الغيب من كلّ صفحات العلم والمعرفة .. كما قضوا على شريعة جون ستورات مل «نبيّ الاستقراء» ـ مثلما وصفوا أرسطو بأ نّه «نبيّ الاستنباط» ـ وعلى المنطق الرياضي الذي بلغ ذروته باُصول الرياضيّات المسمّاة «برنكبيا ماتيماتيكا» لبرتراند رسل ووايتهد حيث


جعلوه منهج التبرير العلمي للتجريبيّة والاستقراء ، وعلى الوضعيّة المنطقيّة بكلّ جبروتها وتطرّف رائدها «فجنشتين» ..

نعم ، تربّعت نسبيّة «انشتين» وكوانتم «بلانك» ـ بدعم المقعد «ستيفن هوكنگ» الذي لا زال حيّاً إلى يومنا هذا ـ على عرش العلم ، ولا ندري كم سيدوم لهما هذا العرش في ظلّ ثوارت العلم التي لا تنقضي.

فلو كان فرانسيس بيكون ـ صاحب «الاُورجانون الجديد» الذي أزاح عالم الغيب من ذهنه تماماً وجعل الطبيعة إله الإنسان المطلق ـ حيّاً هذا اليوم ، هل تراه يصدّق ما وصل إليه العلم من حقائق ونتائج لا تقبل الشكّ والترديد ، حيث تجعل ـ على أدنى تقدير ـ فروض الميتافيزيقيا فروضاً خصبة ، بل هل يصدّق أن عاد الدين يأخذ موقعه القويّ في قلب عالم النهضة الحديثة بكلّ ألق وشموخ وبهاء؟!

إنّهم بهذا النحو وبالمناهج التي اعتمدوها مرحلةً تلو اُخرى ، بلغوا ما بلغوا. ومن الطبيعي أنّنا نمتلك رؤية وموقف حيال ما بلغوه ، نوافقهم في الكثير ونختلف معهم في الكثير ، ولا شكّ أنّهم متغطرسون فخورون بما عندهم ، والأشدّ في غطرستهم أنّهم صوّروا المعرفة والوعي التاريخي بشكل مشوّه ; إذ أنكروا علينا إسهاماتنا الكبيرة في مراحل التطوّر المتعاقبة ، علينا نحن كعرب وفرس وترك ... أو كمسلمين عموماً ، وقالوا : إنّ المعرفة بدأت ونهضت وشمخت بنا.

إنّ وجود «الآخر» المناوئ والمعارض والمخالف والعدوّ قد


تكيّفت معه الحياة الإنسانيّة منذ البدء تكيّفاً منح المنافسة بشتّى درجاتها أبعاداً واسعة ، شارك الكثير منها في عمليّات النموّ والازدهار ، مثلما شارك الكثير منها في عمليّات الهدم والتدمير.

إنّ «الآخر» واقعٌ جليٌّ لابدّ من التعامل معه بنسق ومنهجيّة علميّة سليمة لأجل البقاء والاستمرار والتقدّم ، ولا يعني بالضرورة وجوده على شكل اُمّة أو حضارة أو تيار ومذهب وفئة خاصّة ، فلربما كان الآخر متواجداً في ذواتنا ، حينها تكون عمليّة الصراع ذاتيّة قد تفضي إلى نتائج حاسمة تنعكس آثارها على خارج الذات.

كما لا شكّ أيضاً بأ نّ مفهوم الذات مفهوم نوعي ، طبيعةٌ ذات أفراد ومصاديق تضيق وتتّسع ، لتشمل اُمّة برمّتها ناهيك عن الذات الإنسانيّة الواحدة.

إذن هي عبارة عن علاقات : علاقة الذات بذاتها ، علاقة الذات بغيرها ; عبارة عن اختلافات : اختلاف الذات مع ذاتها ، اختلاف الذات مع غيرها .. كلّ ذلك لأجل المحافظة على البقاء والاستمرار والنمو.

وإنّما شيّدت الأديان والمذاهب والنظريّات ... بسبب ادّعائها أنّها الأكفأ والأجدر بالبقاء والسيطرة وإسعاد البشريّة والأخذ بها إلى برّ الامان وشاطئ النجاة.

وحيث عالم العلوم اليوم عالمٌ عاد فيه الدين ليأخذ موقعه مرّة اُخرى بقوّة وانتشار ، وحيث الأديان التوحيديّة الثلاثة الرئيسة هي التي


تتحكّم بمصير البشريّة نوعاً ، ولاسيّما بعد الانحسار الكبير الذي أصاب التجريبيّة المادّيّة ـ المشار إليه خاطفاً ـ فماذا علينا نحن المسلمين فعله وما هي الوظائف والمسؤوليّات الواجب تحمّلها؟ ذلك من أجل التعامل مع «الآخر» الذي لا يستهويه انتشارنا وازدهارنا ، بل وجودنا .. من أجل العمل بقيمنا ومبادئنا واُصولنا وثوابتنا ونحن اُمّة رسالتها هي خاتمة الرسالات ونبيّها هو خاتم الأنبياء وكتابها هو مكمّل الكتب السماويّة السالفة؟

علينا قبل كلّ شيء تحديد رؤيتنا إزاء «الرسالة» التي ندّعي اعتقادنا بها ، فهل نحن واثقون بها تمام الثقة أم لا؟ ولا أقصد بالثقة مفهومها السيكولوجي ، بل مفهومها العلمي المعرفي ، وهذا ما يعني أنّها ـ بتقديرنا ـ تجيب عن سؤال الحياة الكبير ، ناهيك عمّن سواه ، إجابةً تسمو فوق العوامل الزمكانيّة والعقلانيّة وكلّ التهديدات الفوريّة والمعلّقة .. ولا تتحصّل هذه الثقة إلاّ لمن فهم «الرسالة» فهماً علميّاً منهجيّاً شاملاً ، ممّا يجعله قادراً على الذبّ عنها والانتقال بها من مواقع الدفاع إلى مساحات الانتشار .. آنذاك نحصل على ثقة متبادلة ، ثقتنا بالرسالة وثقتنا بذواتنا ، والثانية تعني ـ بشكل ما ـ ثقة الرسالة بنا إذا تحقّق الفهم الصحيح لها ، المستند إلى المناهج العلميّة السليمة والأساليب العمليّة الناجعة.

إنّنا طالما عبّرنا ـ في أدبيّاتنا من خلال شتّى الأدوات والآليات ـ عن كامل ثقتنا وعميق اعتقادنا والتزامنا وتقديسنا للرسالة بكونها برنامج الحياة الوحيد الذي يوصل البشريّة إلى مراميها ويمنحها السعادة الدنيويّة


والاُخرويّة .. يبقى أنّنا هل نمتلك الثقة بذواتنا وهل تثق الرسالة بنا؟ وهذا يعني : انعدام الشكّ والترديد ووجود اليقين والاطمئنان المتبادل رغم عسر تحقّق الثاني ، أي ثقة الرسالة بنا وبأفهامنا والوسائل العمليّة المتّبعة في كيفيّة طرحها وبيانها بالنحو المطلوب ، بالاقتران مع توافر العزم والحزم والرغبة والشوق والاستقامة والاستمراريّة.

علينا الاعتراف بعدم بلوغنا رتبة ثقة الرسالة بنا ، بمعنى : أنّنا لازلنا بمنأىً عن الفهم الحقيقي للنصّ وما وراء النصّ ، لازالت تتخبّطنا كثرة الأفهام وتنوّع الاجتهادات التي تصل بعض الأحيان إلى حدّ التباين والتناقض ، ناهيك عن الإشكاليّة المحوريّة التي لم نستطع حلّها ومعالجتها وستبقى داءً مزمناً وعقدة كؤوداً مادمنا في ضعف وارتباك وحساب منافع ، إنّها الآفة التي ما فتئت تنهش فينا وتنخر بنا من الأعماق ... نعم إنّها إشكاليّة البقاء على السطوح والعشعشة على القشور واستخدام العروض المسرحيّة والتمسّك بأوهام حالت بيننا وبين الحركة والنهوض والتجديد المرتكزة على الاُصول والثوابت وجوهر الرسالة.

ولا يمكننا القضاء على الإشكاليّة المذكورة دون اللجوء إلى المبادئ الحقيقيّة والقيم الواقعيّة عبر المناهج القمينة والأنساق العلميّة السليمة ، بدءاً بحركة العقل ، الذي يتحرّك طبق الضوابط والموازين المعرفيّة الواضحة ، إنّه يأخذ على عاتقه مسؤوليّة المراجعة والقراءة والمقارنة والاستقراء والبحث الحفري والمسح الشامل والاستنباط والاستنتاج.


إنّ العقل يقرأ النصّ ، يراجعه ، يقارن الأفهام ، يستقرئ النتاجات استقراءً معمّقاً ويبحث فيها على مستوى الحفر والمسح ، مع لحاظ العوامل الزمكانيّة والاجتماعيّة ونظائرها ، ولا شكّ أنّها عمليّة اختبار تتدخّل فيها «قابليّة التكذيب والتصديق» كلاعب أساسي في حسم النتائج ، فلعلّ «الفهم» يبقى ليكون مدار العمل والتطبيق ، ولعلّه بحاجة إلى تعديل من حذف وإضافة وغيرهما ، ولعلّه يفشل في الاختبار ليحلّ محلّه فهم آخر أكثر منه استيعاباً وعمقاً في درك النصّ ... وهكذا تظلّ «الأفهام» في تنافس دائم ، كما تبقى هي نسبيّة لا تبلغ الكمال أبداً ، لكنّها في حركة ونموّ وازدهار ، الأمر الذي يمنح الفضاء العلمي والمعرفي والديني والاجتماعي والاقتصادي ... حيويّة لا نظير لها ، فلا صنميّة للأفهام ولا تعبّد ولا سرمديّة ، إنّما الخلود للحركة العلميّة المعرفيّة فقط ، وهي بحدّ ذاتها تبقى غير مكتملة وناقصة ، وهذا النقص هو الذي يفتح الآفاق نحو البحث الصحيح عن الحقيقة ، حقيقة المطلق الكامل ; إذ ما من نقص إلاّ وبإزائه كمال ، وما من نسبي إلاّ وبإزائه مطلق.

أمّا إذا تجمّدت حركة العلم والمعرفة عند أفهام محدّدة أو أنّها صودرت وسُرِقت واتّخذتها المناهج القشريّة والاستعراضيّة عباءة الوصول إلى المرامي الرخيصة ، فلن نفلح في بلوغ المراتب الحقيقيّة للمعرفة والكمال الإنساني.

لا يمكن أن تحصرنا «مشكلة التخلّف في بعض أبواب العلوم» بين جدرانها ، أو يكون السعي للتقدّم والتطوّر فيها على حساب غيرها من


العلوم بحيث تعاني الإهمال الذي يترك آثاره السيّئة على حركتنا العلميّة المعرفيّة.

نعم ، تأخّرنا في أبواب من العلوم منها : التاريخ والتفسير والكلام ... إثر تمحّضنا في أبواب اُخرى من العلوم كالفقه والاُصول ، وإذا ما كانت علّة أو سبب يدعواننا إلى الانغمار المحض فيهما ، فلعلّهما ـ العلّة أو السبب ـ قد زالا منذ أمد طويل ، أعني : أنّنا قد تمكنّا من جبران النقص والتأخّر فيهما وتقدّمنا تقدّماً كبيراً جعلنا بهما في الصدارة ، ولا ننكر عليهما أنّهما أشرف العلوم وأفضلها ، لكنّنا بقينا على حال التمحّض والانغمار فيهما دون الالتفات بجدّيّة إلى ما سواهما ممّا ذُكر أعلاه.

إنّ المتغيّرات التاريخيّة والجغرافيّة تتطلّب تكيّفاً وتمازجاً وانسجاماً وتطابقاً يجعلنا في موضع الحركة والمبادرة والانتقال المناسب والجدولة المنتظمة ... ونحن إذ نعتقد بكفاءة الدين والرسالة في تلبية المتطلّبات المذكورة بات علينا ـ وهي عودةٌ إلى المربّع الأوّل من المشكلة ـ التعامل بكلّ شفّافيّة ووضوح مع حاجات اليوم وإشكالياته.

العقلانيّة سيّدة الموقف هذا اليوم وحاجة محوريّة من حاجات الإنسانيّة التي لن ترضى بتقويضها أو الاستهانة بأهمّيّتها ، كيف وهي ـ أي العقلانيّة ـ قد غدت المختبر والميزان والحَكَم والشاخص في التعامل مع مختلف القضايا والإشكاليّات ، فأين موقعها منّا وأين موقعنا منها؟

ألسنا على الحقّ ... بلى والله ... حوارٌ ما أقصره وأدلّه ، اختصر


المسافات الطويلة والمساحات الشاسعة من الحياة الإنسانيّة ـ بما تنبض من معرفة ومشاعر وفِكَر وتاريخ ولغة ـ بعدد من المفردات ...

وبثبوت الأساس ـ وهو الحقّ ـ إذن لا نبالي ... لا مبالاة منبعثة من صميم المعرفة وغاية الوعي وصلابة الاعتقاد ، لا أنّها مجرّد أحاسيس وردّة فعل آنيّة ... لا نبالي بأسوأ الاحتمالات وسامق التضحيات ألا وهي الجود بالنفس.

لا نبالي ولا نخشى التلويح بعصا العقلانيّة التي يعتقد الكثيرون تباينها معنا وشدّة عدائها لنا ، بل لنا معها تماهي وثيق ; فهي خليّة من خلايانا ونسيج من أنسجتنا ، لكنّها قد تنعس حيناً وتنام حيناً ولن تموت فينا أبداً مادام النصّ والدين وفضاؤهما يرعوانها .. إنّما الإشكاليّة والعيب والنقص في مناهجنا وأنساقنا التي لا تجيد في العديد من المقاطع والموارد كيفيّة البلورة والتطبيق ، إلى ذلك : حاجز الخوف ، الذي أخذ ولازال يأخذ موضعه منّا ; إثر هيمنة «ثقافة القشور التقليديّة» على فضاءاتنا ، هيمنة سيّئة هي من أسوأ العوامل التي حالت دون ازدهارنا ، حيث زرعت فينا حالات من الارتباك والتزلزل وفقدان الثقة بالذات.

إنّنا محكومون بثورة علميّة معرفيّة تقوّض ثقافة المظاهر والاستعراضيّات والأوهام ، وتعيدنا إلى مواقعنا الحقيقيّة ، ثورة تستلهم من «النصّ» زلال القيم والمبادئ والأخلاق ، بكلّ عمق وجوهريّة ومنهجيّة ، ثورة تحلّل الماضي وتلحظ الحاضر وتستشرف المستقبل ، لا تغفل


الأصالة طرفة عين أبداً ... لا شكّ أنّها ثورة تقلب المعادلات وتعيد الحسابات ، فتطيح برؤوس وتشمخ باُخرى .. تبعث برسالة ومفهوم مفادهما : إنّنا لا نخشى سوى الله ، إنّ الدين ينبض في القلوب والعقول ، في كلّ آن ومكان ; لأجل بناء عالم ترقى به الإنسانيّة إلى حيث مراتب المعرفة والكمال ، عالم يسوده الحبّ والسلام والاطمئنان .. هذه الإنسانيّة هي التي تعمل لدنياها كأ نّها تعيش أبداً وتعمل لآخرتها كأ نّها تموت غداً ; آنذاك لا نبالي سواء وقع الموت علينا أم وقعنا عليه ، مثلما قالها الشهيد للشهيد.


رحلة العتبات عطاءٌ وذكريات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

المفكّرة الشيعيّة حافلةٌ بأرقام مضيئة وأحداث هامّة تعكس عنوان الانتماء وعمق المحتوى ، فترانا نتفاعل معها نوعيّاً تفاعل الضمآن الذي لا ترويه الرشفة ولا تكفيه الغرفة ، فيطمح بالمزيد من عذب النمير.

منها : حادثة كربلاء ، وقعة الطفّ الفجيعة ، فهي جرحٌ في الصميم لا يندمل ، جرحٌ أصاب قلب كلّ إنسان غيور لقيم الباطل لا يمتثل ... حادثةٌ أثارت العقول لمعرفة نهج ومبادئ آل الرسول (صلى الله عليه وآله).

إنّ «أربعين الحسين (عليه السلام)» تظاهرةٌ ميليونيّة لا نظير لها ، مبدؤها العالم بأسره ومقصدها كربلاء حيث المرقد الطاهر لأبي الأحرار (عليه السلام) وصحبه الأبرار ، تظاهرة عشق وولاء لاُسس السماء ، لسيّد الشهداء (عليه السلام) ، تظاهرة شوق تذوب فيها كلّ الفوارق ولا يميّزها سوى ذلك الهدف الشاهق ، ألا


وهو الوصول إلى ديار الحبيب وإثبات الحضور بتجديد العهد المعهود الراسخ أبد الدهور.

سيّدي أبا عبدالله!

«أشهد أنّ دمك سكن في الخلد وأقشعرّت له أظلّة العرش وبكت له السماوات والأرض» عن الإمام الصادق (عليه السلام) كما في الكافي ٤ : ٥٧٥ / ٢.

وهكذا تبقى القلوب تهفو أبداً إلى السرّ الإلهي الخالد ، فتقتنص الفرصة كي تحطّ الرحال هناك ، فما بالك بمن بقي عقوداً من الأعوام لا يستطيع نيل شرف الوصول حتى بعد سقوط النظام البائد ; لاقتضاءات معيّنة ، قابضاً على جمرة الصبر ومرارة البعد وشوق اللقاء ، ولا سيّما وهو يرى باُمّ عينيه ألوف الراحلين إلى تلك الديار المقدّسة لكنّه ينتظر اللحظة المرجوّة.


اليوم الأوّل

طهران ـ النجف الأشرف

لا ريب أنّ كلّ واحد منّا يجد في هذا السفر تفاوتاً ملحوظاً رغم تشرّفه بزيارة العتبات المقدّسة كراراً ومراراً ، فما بالك بمن حالت بينه وبين الأولياء الطاهرين عليهم السلام عقودٌ من الشوق والانتظار ، وما يدريك فلحظات العمر لا ضمان لها وأنفاسنا رهينة قضائه تبارك وتعالى.

ها نحن الآن في النجف الأشرف ، حاضرة التشيّع ، سناءُ الولاية وضياء العقيدة يزيدُ فضاءاتها إشعاعاً وتوهّجاً ، معقل الحوزة العلميّة العريقة التي خرّجت آلاف العلماء والمجتهدين ، ذات الخصوصيّات التي تنفرد بها عن سائر البلدان والأصقاع ، نعم فالرائحة والطعم واللون كلّه نجفيٌّ بامتياز .. وأنت هناك ، لا شعوريّاً ، تجد شيئاً ما يربطك بهذا التراب ، علقةً ما لا تجد تفسيراً مادّياً لها ، الأرض أرضك والهواء هواؤك ، والهوى يجتذبك إلى حيث تعشق وتهوى ، وأنت هناك قد تمنح الحقّ لمن قرّر الرجوع والمكوث أو التفكير بالبقاء ، إنّها وشائج الانتماء وأواصر الهوية


التي لا تنفكّ تسري في الشرايين وتحفر على أنسجة الأفكار حضوراً متأ لّقاً.

نعم ، هنا عليٌّ وكفى ، هنا الولاية والدين والقيم والمبادئ ، هنا الأصالة ، هنا كلّ شيء.

لا يخفى أنّ السيّد الشهرستاني ، ولا سيّما قبل سقوط النظام البائد ، كان ولا زال بجاذبيّته المعهودة واستقطابه المتميّز ودماثة خلقه ، الملاذ الدافئ والجواد الكريم والصدر الرحب لأصحاب المهجر وغيرهم ، فصارت مؤسّسته مهوى الأحبّة ومجمع الأصدقاء ، تخفّف عنهم آلام الغربة ومعاناة الفراق ومرارة البعد ...

ولمّا انفتحت أمامه الآفاق الربّانية ـ بفضل المرجعيّة المباركة ، وبما يمتلك من مؤهّلات ذاتية ـ بعد سنوات من الضغط المتشعّب الأطراف ومكابدة الأخطار ـ التي يضيق المضمار عن تفصيلها ـ حلّق في فضاءات البناء عالياً ، سواءٌ بناء عشرات المعاهد والمراكز والمؤسّسات العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة ، التي ستبقى إن شاء الله صروحاً شاهقة تخدم الدين والمذهب والقيم الإنسانيّة النبيلة ، أو بناء الطاقات التي تعمل من أجل ذات الهدف.

حضر آية الله السيّد محمّد رضا وآية الله السيّد محمّد باقر السيستاني ، نجلا المرجع الأعلى مدّظلّه ، مرحّبين بالسيّد الشهرستاني


والوافد المرافق له. كان العناق الحارّ محطّ أنظار وإعجاب الحاضرين ، عناقٌ يبهج الصديق ويغيظ المناوئ.

للإشارة نقول : إنّ السيّد الشهرستاني والسيّد محمّد رضا السيستاني هما قطبا المرجعيّة وركناها الأساس ، فتلاحمهما يعني تضاعف قدرة المرجعيّة العليا وازدياد مساعيها وتكاثف جهودها نحو إعلاء كلمة الدين الحنيف ومبادئ الطائفة الحقّة.

وللإشارة أيضاً نقول :

إنّ السيّد الشهرستاني أعلن بكلّ وضوح أنّه ذاهبٌ لغرض التشرّف بزيارة الأعتاب الطاهرة ، ثم زيارة سماحة المرجع الأعلى وسائر المراجع العظام ، لا غير.

وهذا التصريح قد أوصد الباب إزاء كلّ التكهّنات والتوقّعات والتحليلات المتنوّعة المصادر. رغم ذلك ، تطلّ علينا بعض القنوات الفضائيّة كالشرقيّة والديار وغيرهما بتحليل مؤدّاه : إنّ جواد الشهرستاني عاد بعد ٣٧ عاماً ليجمع شمل البيت الشيعي استعداداً للانتخابات القادمة.

حان موعد المثول بين يدي مولى الموحّدين وقائد الغرّ المحجّلين وإمام المتّقين أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) شقّ الموكب طريقه بين الجموع الهائلة من الناس الذي توافدوا من شتّى الأماكن ليؤدّوا مراسيم الزيارة ثم التوجّه إلى كربلاء المقدّسة إحياءً لأربعينيّة الإمام الحسين (عليه السلام).


هانحن الآن قرب شارع الطوسي المؤدّي إلى الحرم الشريف ، وبدخولنا فيه شمخت القبّة والمنائر الذهبيّة بكلّ عظمة وبهاء وسناء ...

الزحام الشديد وتثاقل الخطوات ربما منح البعض منّا فرصةً مناسبة ليستحضر خاطفاً : ما مرّ على المولى (عليه السلام) من آلام ومعاناة وظلامات ، ما كان يمثّله هذا العبقري الفذّ من وجود إلهي وحضور قدسي ومحوريّة لا نظير لها ... كلاّ ، لا يمكن لملمة الأفكار بلمحات سريعة ، فلنشغل بالنا حالياً بالزيارة وآدابها ; إذ البحث عميق وفضاءات الأفكار مترامية الأطراف ، لِمَ لا؟! فموضوعنا أسد الله الغالب.

توجّهنا إلى الضريح المقدّس لأداء مراسيم الزيارة والدعاء والصلاة ، لحظات لا تصدّق ، دموع وآهات وصرخات ، ابتهالات وتوسّلات وحاجات ، شوق وعشق وولاء لسيّد الأولياء والأوصياء.

نحمد الله تبارك وتعالى أن وفّقنا لزيارة أئمّتنا وساداتنا ، ونسأله جلّ شأنه ألاّ يجعله آخر العهد منّا للمثول بين أياديهم.

زرنا مرقد زعيم العلميّة الراحل السيّد الخوئي (قدس سره) وقرأنا سورة الفاتحة على روحه الطاهرة.

عقيب ذلك رمنا شارع الرسول (صلى الله عليه وآله) ، حيث بيت المرجعيّة العليا ، كلّنا توّاقون للقاء سماحة آية الله العظمى السيّد السيستاني مدّ ظلّه ، الرجل العالم الزاهد الحكيم المحيط بأحوال الاُمّة والعالم بأسره ، السيّد الوقور ذو الهيبة والجلال ، هذا الذي طالما أخرج العراق ـ بحكمته وبصيرته ـ من


فكّي عفريت الفتنة وأخمد النزاعات التي كادت تودي إلى الهاوية ، بل حتى بصمته وسكوته تجده يفتح آفاقاً للحلّ والانفراج غابت عن ذوي الخبرة والاختصاص.

نعم ، لقد خطّ السيستاني بخصائصه المشار إليها ، المستقاة من فيض المعارف الإلهيّة والعلوم العلويّة ، أعمق مدوّنات التطبيق والممارسة الواعية لقيم الدين والمبادئ الحقّة ، حيث شخّص أنّ الاُمّة تفتقر حالياً إلى هذا اللون من النهج والاُسلوب ، رافضاً بذلك ـ على سبيل المثال ـ الخوض في نتاجاته المكتوبة وتقريرات دروسه مادام حيّاً ، ولم يكترث لتخرّصات هذا وأقاويل ذاك ، فهو الذي يدرك بلا ريب مفهوم التكليف أكثر منّا ، ويعلم نوع الحاجة ولوازمها.

انتظم الوفد جالساً لدقائق حتى أطلّ علينا مدّ ظلّه بخصائصه المعهودة وحيويّته الواضحة ، مرحّباً بجميع من حضر ; إذ دارت عيناه على الكلّ بلا استثناء ، وشفتاه يفهم منها التمتمة بكلمات الترحيب.

بعد تبادل الحديث مع بعض أفراد الوفد ، تركنا المكان جميعاً إلاّ السيّد الشهرستاني الذي انفرد بجلسة مع سماحته مدّ ظلّه بحضورنجله السيّد محمّد باقرفقط ، دامت الجلسة حوالي الساعة والنصف.

أطلّ علينا السيّد الشهرستاني بعد جلسته مع سماحة السيّد مدّ ظلّه منفتح الأسارير متورّد الوجنتين أكثر من ذي قبل ، فكان استنتاجنا طبق القرائن المقاميّة أنّ الاُمور على ما يرام ، غير متناسين في الوقت ذاته دهاء


السيّد الشهرستاني وفطنته ، فهو المدير الفذّ الذي يجيد فنّ الاستقطاب ، الممزوج بصفاء طينته ورفيع إخلاصه.

أقمنا صلاتي المغرب والعشاء في بيت المرجعيّة العليا.

عاد سماحة السيّد مدّ ظلّه ثانيةً ، هذه المرّة نزل خصّيصاً ليعمّم صهر السيّد الشهرستاني ، السيّد محمّد الحيدري ، حضرنا مراسم التتويج بتاج رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستفدنا الفرصة ثانيةً لنلقي التحيّة مرّة اُخرى على سماحته مدّ ظلّه ملتمسين دعواته المباركة.

توجّهنا لزيارة آية العظمى الشيخ إسحاق الفيّاض مدّ ظلّه ، رحّب سماحته بالوفد ترحيباً حارّاً وكانت الابتسامة لا تفارقه طيلة اللقاء.

قصدنا بعدها آية الله العظمى السيّد محمّد سعيد الحكيم مدّ ظلّه ، امتاز سماحته بصوت واطئ لا يكاد يسمع والدقّة في المواعيد ، إذ قال مدّ ظلّه : موعدنا الساعة السابعة والآن الساعة ٤٥ / ٦.

آخر المطاف لقاؤنا بآية الله العظمى الشيخ بشير النجفي مدّ ظلّه ، امتاز بالحيويّة والابتسامة ومضاعفة الترحيب بذراري الرسول (صلى الله عليه وآله) مخاطباً أيّ واحد منهم : يا ابن الزهراء.

أمّا الحديث عن سامرّاء وزيارة الإمامين العسكريّين (عليهما السلام) فلقد كان السيّد الشهرستاني عازماً على القيام بذلك ، حتى كنّا نحن الوفد المرافق له وإلى صبيحة يوم الحركة ، يوم السبت ، لا نعلم هل يتّجه الموكب شطر


سامراء أم نحو بغداد حيث الإمامين الجوادين (عليهما السلام) ، لكن كما ظهر فيما بعد أنّ بيت سماحة السيّد مدّ ظلّه والجهات الأمنيّة المختصّة والشخصيّات المؤثّرة أقنعت السيّد الشهرستاني بالعدول عن التوجّه إلى سامراء ; لخطورة الأوضاع هناك ، بل طيلة الطريق ذهاباً وإيّاباً. وكانت رئاسة الوزراء قد أخبرته بتجهيز ثلاث حوّامات لنقل الوفد إلى هناك ، ممّا يعني ذهاب ٢٧ شخصاً فقط ، في كلّ حوّامة ٩ أشخاص ، لكنّ السيّد رفض ; للإحراجات التي ستحصل يقيناً.

الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل اتّصل رئيس الوزراء ليكلّم السيّد الشهرستاني جواباً لاتّصاله ، لكنّ السيّد كان نائماً. علماً بأنّ السيّد كان قد هاتف السيّد المالكي قبلها لكنّه كان نائماً أيضاً.


اليوم الثاني

الكاظميّة ـ الكوفة

صبيحة السبت ، حوالي الساعة الثامنة ، سار الموكب ـ ونحن لا نعلم هل إلى سامرّاء أم الكاظميّة ـ بمركبات ذات مميّزات أمنيّة معيّنة ، وفّرتها رئاسة الوزراء خصّيصاً لنقل الوفد من النجف الأشرف إلى بغداد وبالعكس.

ولابدّ من التوقّف هنا لنسجّل تصوّراً متواضعاً إزاء عظمة ما شاهدناه أثناء الطريق من الجموع الهائلة التي كانت تزحف مشياً على الأقدام نحو كربلاء المقدّسة على محوري الحلّة وبغداد ، إنّها مشاهد تهزّ القلوب وتثير العقول وتنهمر لها الدموع دون اختيار ، مواقف تزيدك شوقاً وتغمرك لهفةً نحو بلوغ المقصد ، بل وتهيج بك الآلام والأحزان وترسم أمامك أحداث الماضي وتفاصيل الطفّ الفجيعة وما حلّ بآل العصمة والطهارة من قتل وأسر واضطهاد وظلامات يندى لها التاريخ والقيم الإنسانيّة النبيلة ، لكنّ


الفكر الشيعي ـ بفضل التسديدات الإلهيّة ومنهج أهل البيت (عليهم السلام) ـ قد استطاع الاستفادة من الأحداث المعهودة بأساليب هادفة هادئة ، فترجمها حضوراً فاعلاً دائماً ينشر المبادئ الحقّة والاُصول السامية بحرارة لن تبرد أبداً ، وما هذا التواجد الميليوني العظيم والانتشار الكبير لمعارف المدرسة الشيعيّة ، والنشاط الكبير طيلة العام ، إلاّ دليل واضح وحجّة قاطعة على أنّ دماء آل البيت (عليهم السلام) هي التي هزمت ولازالت تهزم سيف الضلال والعنف والتكفير.

تشرّفنا بزيارة الإمامين الجوادين (عليهما السلام) والدعاء والصلاة مرّتين ، الاُولى على عكس المسير المعروف ، والثانية طبق المسير المعهود. كنّا نأمل بالتزوّد من بركات المكوث أكثر لكنّ ازدحام البرنامج لم يمهلنا فرصة البقاء.

زرنا قبر الشيخ المفيد (قدس سره) وقرأنا الفاتحة ، ثم المسجد الصفوي (جامع الجوادين (عليهما السلام)) والتوسعة الجديدة للحرم الشريف.

كرّ الوافد راجعاً إلى حرم الجوادين (عليهما السلام) واستطعنا أداء مراسيم الزيارة ثالثةً والحمد لله.

في صالة استقبال الضيوف وأثناء صلاتي الظهر والعصر اُصيب الشيخ الأشعري بنوبة قلبيّة ، نقل على إثرها إلى المستشفى ، وبقي هناك تحت العلاج لثلاثة أيّام ، شافاه الله وعافاه.


مأدبة الغداء كانت في مضيف الإمامين الجوادين (عليهما السلام) ، مائدة مباركة وأكلٌ لذّ طعمه.

تفقّدنا بعدها مكتبة الجوادين (عليهما السلام) التي أسّسها السيّد هبة الدين الشهرستاني المتوفّى قبل حوالي خمسين عاماً ، فيها عدّة من المخطوطات والمطبوعات وبعض مختصّات السيّد (رحمه الله).

اشتركنا في مراسيم تبديل كادر الحرم الشريف ، وكانت رائعة ومؤثّرة.

توجّهنا عقيب ذلك إلى شبكة آل البيت (عليهم السلام) هناك ، حيث يديرها الحاج سعدون غفّاري ، والتي تقع في مكان جيّد من مدينة الكاظميّة ، لكنّها لم تكتمل بعد. مكثنا للاستراحة قليلاً.

بدأنا مسير العودة من حيث أتينا ، داهمنا الليل ، الكثير منّا كان مرهقاً إثر تراكم البرامج. حطّ رحلنا في مسجد الكوفة ، وما أدراك ما مسجد الكوفة ، عليٌّ والمحراب وليلة التاسع عشر من شهر الصيام وضربة المرادي اللعين ، مسجد الكوفة وهاتف السماء : «تهدّمت والله أركان الهدى ، انفصمت العروة الوثقى ، قُتل عليٌّ المرتضى ، قُتل أتقى الأتقياء ، قتله أشقى الأشقياء».

مسجد الكوفة وسفير الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل وما حلّ به من غدر وخيانة.


هذه وما سواها من الأحداث والمواقف والمحطّات تتراءى قبال ناظريك وأنت تيمّم شطر المسجد العتيد ، وبمجرّد الورود فيه تلمس الروحانيّة العجيبة التي يتحدّث بها الجميع ... لله أنت يا مسجد الكوفة ما بك من سرٍّ!! أهي أنفاس عليّ وأبناء عليّ وخلّص صحب عليّ ، أم هي كلماته ، آهاته ، ابتهالاته ، دموعه ... سرٌّ إلهي يتعسّر فهمه واستيعابه.

قال السيّد مازحاً : نحن معدان ، لا تلذّ الزيارة إلاّ بالوصول إلى ضريح مسلم بن عقيل ولثمه ، وهذا ما حصل.

زرنا قبر المختار بن عبيدالله الثقفي (رحمه الله) وحال بيننا وبينه جدار عازل لأجل التعمير والصيانة ، وهذا لم يمنعنا من أداء الاحترام لبطل مغوار أثلج قلوب أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم بأخذه الثأر من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) واحداً تلو الآخر.

قصدنا محراب أميرالمؤمنين ، ثم قبر هاني بن عروة الصحابي الجليل الذي عاهد ووفى واستشهد رضوان الله تعالى عليه ذوداً عن الدين والحقّ.

كنّا ضيوف عتبة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ومسجد الكوفة على مائدة العشاء ، مائدة لم تقلّ أهمّيّتها بركةً ومحتوىً عن سابقتها في العتبة الكاظميّة.


اليوم الثالث

كربلاء المقدّسة

كلّنا يعلم أنّ صبيحة الأحد ستكون متمايزةً تماماً عن نظائرها ، إنّها صبيحةٌ نروم فيها الانطلاق إلى ديار الحبيب ، السبط الشهيد أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) ، إلى كربلاء الكرامة والعزّة والشرف الإنساني ، إلى حيث يرقد قمر بني هاشم أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) ، إلى الصحب الأبرار ، إلى كلّ شبر منها يعيد بنا عاشوراء بتسلسله الزماني لحظةً إثر لحظة ، بأحداثه الرهيبة الواحدة بعد الاُخرى ، إلى زينب الكبرى (عليها السلام) بصبرها وتدبيرها ورباطة جأشها وخطبها التي كانت وكأ نّها تفرض عن لسان أبيها أميرالمؤمنين (عليه السلام).

شوقٌ لا يوصف وأنفاسٌ تتسارع ، فضاءٌ لا تحلّق في رحابه سوى ذبذبات الوصال وترانيم الهيام إلى معقل الكرام.

سيّدي أبا عبدالله ، بالله عليك ، من أنت ، أيّ سرٍّ فيك مودع؟ قرون تجيء وتروح وألقُك يزداد ألقاً وحرارة حبّك لا تنطفئ أبداً .. سيّدي! لا غرو أنّ الذي أنطق العقيلة (عليها السلام) في تلك اللحظات العصيبة حيث قالت


رائعتها الشهيرة : «فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ...» هو ذاته الذي جعلك سرّاً أزليّاً.

تأخّرنا عن موعد الحركة ، حيث طال اللقاء الخاصّ الذي جمع السيّد الشهرستاني بالسيّد محمّد رضا السيستاني.

نقول : السيّد محمّد رضا رجلٌ فقيه مجتهد ، ذو صفات وكمالات رفيعة ، نقيّ السريرة ، طيّب الأصل ، ضليعٌ ملمٌّ بالقضايا السياسيّة وصاحب رأي فيها ، لولب بيت المرجعيّة في النجف الأشرف وقطبها الرئيس ومحورها الأساس.

لقاءٌ سيبدي لنا الغد فوائده وإيجابيّاته التي تصبّ في صالح الاُمّة والطائفة وعموم الناس أجمعين .. لقاءٌ امتاز بالشفّافيّة والصراحة والحوار الجادّ ـ كما صرّح السيّد الشهرستاني برؤوس أقلام كلّية ـ بما يتناسب وشأن المجتمعَين.

نعم ، لا يمكن بحث كلّ الاُمور في لقاء أو لقاءين ، إلاّ أنّ التواصل الدائم سيعمل على إتاحة الفرص الكافية لمناقشة وحلّ جميع المسائل والمشاكل العالقة والمستجدّة.

يقول السيّد الشهرستاني : أبدى السيّد محمّد رضا مزيداً من المودّة والمحبّة والاستعداد التامّ للتنسيق والتعاون ، كما اتّفقنا على التواصل المباشر.


دام اللقاء حوالي الساعتين.

انطلق الموكب المؤمّن بالمركبات الرسميّة باتّجاه كربلاء المقدّسة.

أربعة طرق محاذ بعضها البعض ـ ما عدا المحاور الثلاثة الرئيسيّة الاُخرى المؤدّية إلى كربلاء ، والطرق الخاصّة والخطّ السريع ـ كلّها امتلأت بالمشاة ، باستثناء طريق واحد مخصّص لمرور المركبات ، وهذا الطريق لم يخلُ أيضاً من السائرين إلى أبي عبدالله الحسين (عليه السلام).

لا عينٌ رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر ببال أحد ، ولا المرويّ كالمرئي ، سيلٌ هادر وجموع ميلونيّة زاحفة نحو هدف ومراد واحد ... كلّ فرد أو مجموعة تعبّر عن ولائها وحبّها بشكل واُسلوب ولغة معيّنة ... كرمٌ وجودٌ وسخاءٌ لا مثيل له أبداً ، خدمات يعجز القلم واللسان والعين عن نعتها والإحاطة بها ، مواقف وصور ومشاهدات لا تغيب عن الذاكرة مطلقاً. كيف بك لا تتفاعل وأنت ترى باُمّ ناظريك وجوهاً علا عليها غبار الدرب لكنّها تشعّ نوراً وإصراراً على مواصلة المسير ، ماذا تريد هذه الجموع؟ إلى أين هي ذاهبة يا ترى؟ أفي كربلاء ذهبٌ وأموال توزّع بالمجّان؟ كلاّ وألف كلاّ ، إنّه العشق والولاء وإثبات الحضور بأجلى صوره وأسمى معانيه ، صرخة مدوّية تعلن انتصار قيم الحقّ على قيم الباطل.


سيّدي يا فرج الله :

أيُّ جرح هذا الذي ينزف نوراً وبهاءا؟

أيُّ قتيل هذا الذي طافت حوله القلوب والعقول سواءا؟

أيُّ نهج هذا الذي خطّه الحسين فكراً ومسارا؟

أيُّ صحبة اُولاء الذين بذلوا النفس هياماً ووفاءا؟

أيُّ عقيلة هذه التي أخرست المتغطرس المختالا؟

أيُّ سجّاد هذا الذي هزّ عروش البغي وأجاد حكمةً وبيانا؟

أيُّ طفٍّ هذا الذي يشمخ كلّ حين فيزداد ألَقاً وعنفوانا؟

أيُّ شهيد هذا الذي عجزت عن كشف سرّه الألبابا؟

قبل الوصول إلى كربلاء المشرّفة بخمسة كيلومترات كان حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ عبدالمهدي الكربلائي إمام جمعة كربلاء والأمين العام للعتبة الحسينيّة وجمعٌ معه باستقبال سماحة السيّد والوفد المرافق له.

من الالتفاتات الممتازة التي سهّلت على المشاة والزائرين معرفة المواقع والمسافات هو ترقيم أعمدة الكهرباء من أوّل مدينة النجف الأشرف حتى حرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ، ومجموعها حوالي ١٤٦٧ عموداً ، ما بين عمود وآخر مسافة خمسين متراً.


عند العمود رقم ١٠٦٦ صلّينا صلاتي الظهر والعصر جماعةً خلف الشيخ عبدالمهدي الكربلائي ، في مجمّع الإمام المجتبى (عليه السلام). وقد أصرّ الشيخ كثيراً على سماحة السيّد بإمامة المصلّين الذين امتلأت بهم الصالة ، لكنّ السيّد رفض كعادته.

سرنا بعد ذلك برفقة محافظَي النجف وكربلاء حتى العمود ١١٠١ حيث مضيف العتبة العبّاسيّة ، هناك التقينا الشيخ المرحوم شاكر السماوي (أبا شيماء) ، وكان من بين الحضور آية الله الشيخ محمّد السند وآية الله السيّد عبدالمنعم الحكيم ، في صالة غصّت بالحضور.

تناولنا طعام الغداء في المضيف المذكور ، طعاماً طاب ولذّ.

استأنفنا الحركة بعد استراحة قصيرة إلى حيث مستشفى الإمام الحسين (عليه السلام) الواقع في حيّ الاُسرة ، أطراف كربلاء ، الساعة تشير إلى الثالثة عصراً ، لاحت أمام أعيننا القبّة والمنائر الذهبيّة لحرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ، لحظاتٌ لا تمحى من الذاكرة مطلقاً ، وحماسٌ منقطع النظير ، حينها ترجّلنا جميعاً لبدء المشي سيراً على الأقدام حتى الحرمين الشريفين. وكان المقرّر بدء المشي من مخازن الحبوب ، أي قبل هذه المسافة بحوالي الضعفين ، لكنّ الرأي تغيّر لأسباب أمنية حسب ما نُقل عن بعض الجهات المختصّة.

كنّا بلهفة لا توصف لبدء المسير مشياً على الأقدام ; إذ كيف بنا أن نأتي من مسافات نائية ولا نساهم في هذه الشعيرة المقدّسة؟! ولاسيّما


أنّ لكلّ واحد منّا حاجات واُمنيات وبذمّته توصيات. نحمد الله تبارك وتعالى أن وفّقنا للمشي ـ ولو قليلاً ـ إلى سيّدنا ومولانا الحسين (عليه السلام) ، ونسأله ألاّ يجعله آخر العهد منّا لذلك.

يقول السيّد الشهرستاني : أثناء المسير وأنا اُطالع ملامح المدينة وجدتها تغيّرت كثيراً عمّا كنّا عليه.

عند نقطة التفتيش الاُولى ـ وعددها حوالي ستّ ـ قدم حجّة الإسلام والمسلمين السيّد أحمد الصافي إمام جمعة كربلاء والأمين العام للعتبة العبّاسيّة مستقبلاً ومرحّباً بسماحة السيّد والوفد المرافق له ، رغم ما كان يعانيه من وعكة صحّيّة.

قبل الخامسة عصراً بلغنا حرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) بين جموع الزائرين والزحام الذي لا يوصف ، فكنّا نشقّ طريقنا بصعوبة بالغة جدّاً ، وسط ذهول عجيب ، حقيقةٌ هذا الذي نرى أم حلمٌ جميل ، أحقٌّ نحن في حرم حامل لواء الحسين (عليه السلام)؟

في ذلك اليوم المزدحم جدّاً وإثر التعلّق الشديد بضريح أبي الفضل (عليه السلام) انفصمت بعض أجزاء الشبّاك ، فاضطُرّ إلى تخلية قسم الرجال لأجل التعمير والصيانة لعدّة ساعات ، فكانت فرصةً ذهبيةً لنا لأداء مراسيم الزيارة والضريح المقدّس خال من الزائرين ، وبالفعل أمضينا دقائق رائعة ما بين قراءة الزيارة والدعاء والصلاة ولثم الضريح المبارك. علماً بأ نّنا كنّا قد انقسمنا إلى عدّة مجموعات ، كلّ مجموعة تضمّ حوالي


عشرة أشخاص ، الواحدة تتبع الاُخرى بعد عشرة دقائق لأداء مراسيم الزيارة.

توجّهنا عقيب ذلك نحو حرم الإمام الحسين (عليه السلام) ، إنّها بقعة ما بين الحرمين ، مشاهد رائعة اختلط فيها جمال الفضاء بعبقات الولاء الفوّاحة بأريج المعزّين ، موكبٌ يتلو موكباً بلا انقطاع أبداً ، وجوهٌ غطّاها غبار الطريق وتلطّخت بوحل الحزن والمواساة ، سالت دموع الألم والمصاب ، فكيف تراها إذن؟! هلاّ يذوب قلبك وتنهمر دموعك وأنت تعايش هذه الصور الشامخة من الحبّ الصادق والعشق الكبير لسيّد الشهداء (عليه السلام) وأصحابه الكرام؟!

بمَ تفكّر وأنت تغادر حرم الكفيل لتكون ما بين الحرمين كي تصل إلى ريحانة الرسول وقرّة عين الزهراء البتول ، بعد أشهر وسنوات وعقود من ألم الفراق ومرارة البعد الطويل ، ألا يستجاب الدعاء ، ألا تقبل الزيارة والصلاة؟! كلاّ وألف كلاّ ، حاشاهم أن يتركونا هكذا ، فهم غير مهملين لمراعاتنا ولا ناسين لذكرنا ولولا ذلك لمسّتنا اللأوى واصطلمتنا الأعداء.

عند الباب الرئيسي استقبلنا سماحة الشيخ عبدالمهدي الكربلائي ، وبعد مكوثنا قصيراً في مكتبه توجّهنا لأداء الزيارة ، يا لها من جموع غفيرة غصّ بها المقام حقّاً ، جموعٌ تهتف بصوت حماسي : لبّيك يا حسين ، بأصوات معبّرة عن حبٍّ عميق وهيجان كبير ... وأنت بين هذه الجموع لا تشعر سوى أنّك بين أمواج بشريّة هائلة لا تدري إلى أيّ


ساحل تأخذ بك ، الكلّ ينشد الضريح المقدّس ، أمّا نحن فلسان حال الواحد منّا يقول : سيّدي ومولاي جئتك من شقّة بعيدة ، جئتك من سفر بعيد ، جئتك بعد كلّ هذه الأعوام والسنين الطوال ، فلا تخيّب ظنّي بالوصول إلى ضريحك المقدّس لأمسك به وألثمه لثمَ شوق وهيام وولاء ومواساة. وهذا ما حصل بالفعل لأكثرنا والحمد لله.

هناك وفي تلك البقعة المباركة عند الضريح المقدّس سألني أحد الزائرين الإيرانيّين ـ وما أكثر الذين سألوا ـ من هذا السيّد؟ قلت : فلان ، قال : هل صحيح ما ينقل من وجود خلاف بين العليّين؟ قلت : العكس هو الصحيح.

قمنا بأداء مراسيم الزيارة والدعاء والصلاة ، ثم رجعنا إلى مكتب الأمين العام للعتبة الحسينيّة الشيخ عبدالمهدي الكربلائي.

تحرّكنا صوب شبكة آل البيت (عليهم السلام) فرع كربلاء المقدّسة ، التي يديرها السيّد عبّاس الشهرستاني والذي ننعته بأنّ نضجه سبق سنّي عمره.


اليوم الرابع

كربلاء المقدّسة

توجّهنا صوب الحرم الحسيني الشريف ، ملبّين دعوة أمين عام العتبة على مائدة الغداء في المضيف المبارك ، التى حضرها العديد من العلماء والفضلاء والوجهاء والشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة المعروفة.

رمنا عقيب ذلك الضريح المقدّس لأداء مراسيم الزيارة والدعاء والصلاة ، ولم نستطع الوصول إلى الضريح ; لعظمة الزحام الذي لا يوصف ، فقمنا بالمراسيم على بعد عدّة أمتار.

سرنا نحو حرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ببطء شديد جدّاً إثر الحضور العجيب والجموع الإنسانيّة الكبيرة.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ مناسبة الأربعين الحسيني ـ بهذا التواجد الميليوني العظيم والزحف البشري المثير مشياً على الأقدام من شتّى الأماكن والبلدان ، القريبة والبعيدة ، والخدمات الهائلة بمختلف أشكالها


وأنواعها التي يوفّرها الناس تبرّعاً وطواعيةً دون دعم حكومي ولا إسناد رسمي ، باستثناء الإجراءات الأمنيّة والتنظيميّة ـ لهي أفخم وأوسع وأروع تجمّع إنساني عالمي ، فلا موسم الحجّ وإمكانيّات السعوديّة المعروفة ، ولا احتفالات رأس السنة الميلاديّة ، ولا طقوس سائر البلدان والاُمم ، بإمكانها منافسة أو مقارنة حضورها وخدماتها الذاتيّة أو الحكوميّة بمراسيم الأربعين الحسيني ، والأهمّ من كلّ ذلك هذا الحبّ والعشق والولاء والحماس الفريد رغم الأخطار وتربّص الأعداء وتواصل سقوط الشهداء والجرحى إثر الهجمات والتفجيرات التكفيريّة الحاقدة الحاسدة ، بل وكلّما سقط شهيدٌ أو جريح تضاعف العزم وتكثّف الحضور ، وما ازدياد الأعداد الميليونيّة عاماً بعد آخر إلاّ إمضاءٌ لذلك ، ناهيك عن المناسبات الشيعيّة الاُخرى طيلة السنة والحضور الميليوني الفاعل فيها.

مع هذا الازدحام المنقطع النظير كيف يمكننا أداء مراسيم الزيارة والوصول إلى الضريح المقدّس لأبي الفضل العبّاس؟! آنذاك اقتُرِحَتْ فكرةُ الصعود إلى سطح الحرم الشريف والقيام بمراسيم الزيارة من هناك ، اقتراحٌ لاقى الترحيب ، وبالفعل كانت دقائق رائعة لا توصف ، فأنت ومن ذلك المكان الشاهق تجد وكأ نّك أقرب من غيرك إلى أبي الفضل (عليه السلام) ، وتزداد إحساساً بالقرب بلحاظ روحانية الفضاء وجمال المنظر ، كما وأنت بذلك الارتفاع حين تشاهد الجموع الهائلة بين الحرمين الشريفين ينتابك شعورٌ لا يوصف ، فهنا وعلى مسافة أمتار قبّة العبّاس (عليه السلام) ومنائره الذهبيّة وقبالك قبّة ومنائر الحسين (عليه السلام) الذهبيّة ، وما بينهما لوحة أخّاذة خطّتها


أنامل العشق وريشة الهيام بساداتنا الكرام ، لوحة الأمواج البشريّة المتلاطمة ما بين نموذج الوفاء والإخلاص والبطولة والشهامة من صوب ، ونموذج الإباء والحرّية والكرامة من صوب آخر ، اجتمعت كلّها في بوتقة الولاية الإلهيّة المقدّسة ، ولاية النبيّ الأكرم والوصيّ الأعظم وأبنائه الميامين الغرر ، اجتمعت لتحفر في عمق الضمير الإنساني أسمى آيات الحبّ والولاء.

أدّينا مراسيم الزيارة والدعاء والصلاة في ليلة لا تنسى.

دُعينا على مائدة العشاء في المضيف المبارك لأبي الفضل (عليه السلام) ، مأدبةٌ طيّبة وأكلٌ لذيذ كسائر مأدبات وأكلات مضائف أهل البيت (عليهم السلام) السابقة واللاحقة.

وامتازت القهوة التي احتسيناها في هذا المضيف المبارك عن نظائرها ، ففيها من الطعم والنكهة ما يجعلها فاخرة بشكل خاصّ ، سُئل صانعها فقال : طالما حاولتُ صنعها بهذه الكيفيّة في منزلي فلم اُوفّق أبداً ، قال : إنّها أنفاس أبي الفضل (عليه السلام).

أدّينا مراسيم زيارة الأربعين ليلة الثلاثاء احتياطاً أثناء تواجدنا في الحرم الحسيني الشريف قبل مغادرتنا إلى حرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ، كما قمنا صبيحة يوم الثلاثاء يوم الأربعين بأداء الزيارة ذاتها ومن الطابق الرابع للمؤسّسة حيث تتراءى أمام نواظرنا مآذن الحرم الحسيني المقدّس.


اليوم الخامس

النجف الأشرف

صبيحة يوم الثلاثاء موعد إيابنا إلى النجف الأشرف ، انطلق موكبنا ـ الذي رافقنا فيه محافظ كربلاء ـ حوالي الثامنة صباحاً ، وكان الطريق أشبه بالفارغ من المركبات ; لخصوصيّة الوقت ، حيث الكلّ لا زال في كربلاء إلاّ القليل الذي بادروا بالحركة أمثالنا.

حوالي التاسعة والنصف صباحاً وفور وصولنا النجف الأشرف تفقّدنا مستشفى أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي يقوم بإنشائه السيّد الشهرستاني بمتابعة فضيلة العلاّمة الشيخ إحسان الجواهري وتحت رعاية المرجعيّة العليا في واحدة من أهمّ مناطق النجف حيويّةً.

في مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) قضينا استراحةً قصيرة نسبياً ، ثم توجّهنا بعدها إلى مؤسّسة شهيد المحراب ، لقراءة الفاتحة على روح الشهيد آية الله السيّد محمّد باقر الحكيم وشقيقه حجّة الإسلام والمسلمين السيّد


عبدالعزيز الحكيم ، استمعنا لشرح مختصر عن المؤسّسة وأقسامها وأنشطتها أفادنا به نجل الشهيد فضيلة العلاّمة السيّد حيدر الحكيم الذي كان وآخرون معه بالاستقبال والتوديع.

من هناك توجّهنا نحو حرم أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، قمنا بمراسيم الزيارة والدعاء والصلاة ، ثم حضرنا مأدبة الغداء التي أقامها حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ ضياءالدين زين الدين أمين عام العتبة العلويّة على شرف السيّد الشهرستاني والوفد المرافق له ، وكانت مائدةً مباركةً طيّبة.

علماً بأنّ عدداً من الإخوان ـ ولأجل التبرّك بزاد أهل البيت (عليهم السلام) ـ احتفظ بقطعات الرغيف أو غيرها ليأخذها هديّةً قيّمة لأهله وأصدقائه ومعارفه ، بل إنّ البعض منّا جمع قطع رغيف من كلّ المضائف التي دُعينا على موائدها ، ابتداءً بالعتبة الكاظميّة وانتهاءً بالعتبة العلويّة.

بعد استراحة قصيرة في مقرّ الأمانة العامّة للعتبة العلويّة المقدّسة تحرّك الموكب صوب مدينة العلم التابعة لسماحة السيّد السيستاني مدّ ظلّه الواقعة في منطقة الحامية ، التي لم تكتمل بعد ، وللإنصاف وجدناها مدينة ضخمة تضمّ حوالي ٩٦٠ وحدة سكنيّة.

بعد صلاتي المغرب والعشاء ، كان السيّد الشهرستاني على موعد مع سماحة المرجع الأعلى السيّد السيستاني مدّ ظلّه ، جلسة على انفراد تعدّ استكمالاً للجلسة الاُولى وما دار فيها من قضايا وتوصيات. دامت الجلسة حوالي الساعة والنصف ، أي من الساعة السادسة حتى السابعة


والنصف. حضرها في الأثناء نجل سماحة المرجع الأعلى السيّد محمّد باقر السيستاني.

المحطّة الأخيرة قبل الرجوع إلى إيران كان معهد العلمين التابع لفضيلة العلاّمة الدكتور السيّد محمّد بحرالعلوم ، ولم تكن دعوة عشاء فحسب ، بل أشبه بمؤتمر تكريم واحتفاء بالسيّد الشهرستاني والوفد المرافق له ، حضورٌ كبير من البيوتات والعلماء والأفاضل والنخب والوجهاء والشخصيّات اللامعة غصّت بهم قاعة المعهد.

ولابدّ هنا من الإشادة والإشارة إلى القصائد العصماء التي نظمها وألقاها فضيلة السيّد مهنّد جمال الدين ، سواء في النجف الأشرف أو كربلاء المقدّسة ، ذلك الإلقاء والدفء والحسّ المرهف الذي يذكّرنا دوماً بأبيه الراحل الكبير السيّد مصطفى جمال الدين (رحمه الله).

صبيحة يوم الأربعاء ، صبيحة المغادرة والرجوع إلى إيران.

محافظ النجف الأشرف الاُستاذ عدنان الزرفي قاد السيّارة التي أقلّت سماحة السيّد إلى المطار.

محافظ كربلاء الاُستاذ عقيل الطريحي حضر أيضاً في المطار مودّعاً سماحة السيّد والوفد المرافق له.

ما أشبه الجمعة بالأربعاء ، عناقٌ في عناق ، ذاك عناق اللقاء وهذا عناق الوداع.


تأخّرت الطائرة عن الإقلاع لأكثر من ساعة.

حوالي الحادية عشرة والنصف كنّا في مطار الإمام الخميني (قدس سره) بطهران وكأنّ حلماً جميلاً قد انقضى بأروع لحظات اليقظة.

قد يكون ملفّ رحلة العراق ، رحلة العتبات ، بلغ نقطة النهاية الدينامكيّة ، لكنّه سيظلّ مفتوحاً يحاكي الماضي والحاضر والمستقبل ، ويفتح آفاقاً شتّى ومحاور عدّة على صعيد التحليل والاستنتاج والقراءة والمقارنة والمراجعة. كما سيبقى واحداً من أجمل صفحات الذاكرة التي تشمخ وتزهو أكثر كلّما مرّت الأيّام وتصرّمت سنّي العمر.

علينا الاعتراف بعدم استطاعتنا الإحاطة بكلّ مجريات الرحلة وأحداثها ومواقفها ونوادرها ; لكثافة برامجها وسرعة حركتها الفائقة وتعدّد رجالاتها ، إلى ذلك : أنّها حصلت في أيّام هي من أعظم أيّام العراق حضوراً جماهيريّاً هائلاً لا مثيل له ، امتلأت بهم كلّ الطرق والمدن المؤدّية إلى كربلاء المقدّسة.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


الدم والسيف

في التأريخ أحداثٌ ملأى بالنزاعات والصراعات والمعارك والحروب ، ومن الحروب ما كانت ماراثونيّة طالت عشرات السنين واستنزفت قوى أقاليم ودول وشعوب ، واُخرى سريعة طاحنة ، فيها قتل وجرح وأسر وسبي ونهب وقسوة وظلم ونصر وانتكاسة ، تتغيّر بها موازين وتتبدّل معادلات وتُرسَم خرائط من جديد وتُنتَزع عهود ومواثيق والتزامات ، كلّها تنصبّ بنفع الغالب القوي ، وأهمّ ما في الأمر تقوّض الفضاء القيَمي والمفاهيمي والمبادئي بفضاء الغالب المنتصر ، وهذا هو الأخطر في تلك النزاعات والصراعات والمعارك والحروب.

نعم ، تمكّنت ماكنة الحرب الاُمويّة من حسم معركة عاشوراء الشهيرة خلال بضع ساعات بعد توفير المقدّمات الضروريّة لهذا الحسم السريع من خلال آلة الترهيب والترغيب ، فمالَ الناسُ عن آل البيت عليهم السلام بعد كلّ تلك العهود والمواثيق والمكاتبات المعروفة بطلب قدوم الإمام الحسين بن علي عليهما السلام ، فلم يبق معه عليه السلام إلاّ


النخبة المخلصة من آله وأصحابه الذين لم يبلغ عددهم الثمانين على أشهر الروايات ، إزاء جيش جرّار ، أقلّ ما تفيده الروايات أنّه بلغ حوالي ثلاثين ألف جندي.

طبق المعادلات والحسابات الموجودة على الأرض فالمعركة محسومة سلفاً ، معركة سبقها وقارنها تنسيقٌ منظّم وآلية ثقافيّة تسعى لاستثمار الفضاء المشحون لصالحها ، فكان صوت القيادة الدينيّة والسياسيّة واحداً آنذاك ، الأمر الذي سهّل مهمّة الاُمويّين في إضفاء الشرعيّة على حربهم مع الحسين عليه السلام ، حيث جعلوا منه عليه السلام رجلاً خارجاً عن الدين وإمام زمانه ، مستحلّ الدم والمال ، وهذه الناس التي قادها الجهل الرهيب والطاعة العمياء والطمع والخوف قد وجدت المبرّر الكافي لقتال الحسين عليه السلام بكلّ حزم وإصرار وقسوة.

إذن كلّ الترشيحات ترجّح كفّة الاُمويّين ، وليس في الاُفق ما يدعو إلى أدنى تفاؤل بنصر الحسين عليه السلام ، إلاّ المعجزة وحدها ، فهي الكفيلة بتغيير موازين المعادلة.

ولسنا في وارد الخوض في «المعجزة» ـ التي مرادنا منها هنا ليس المعجزة المادّيّة ، وإلاّ فالحسين عليه السلام قد قُتِل هو وصحبه جميعاً وسُبيت النساء والأطفال ... بل معجزة ما آلت إليه نهضة الحسين عليه السلام من إشعاعات وتأثيرات ظلّت تتفاعل طوال أربعة عشر قرناً


ولا زالت تتلألأ وتزداد عنفواناً كلّما مرّت عليها الدهور والأيّام ـ ومفهومها ابتداءً ، بل سنجعل حصيلة البحث خاضعةً لأسباب ومقدّمات تلوح من إحداها علائم المعجزة ، ذلك كي لا نغمط قيم الدين ومبادئه الحقّ المشروع ، ولا نخدش الفكر السامي الذي حمله الحسين عليه السلام في قيادة الاُمّة عموماً وتلك المعركة المعهودة على وجه الخصوص.

بمعنى آخر : لا يمكن لنا أن نرمي نتائج نهضة أبي الأحرار عليه السلام في سلّة «المعجزات» فقط ، بل كانت المعجزة إحدى قوائمها وليس كلّ شيء فيها ، رغم وقوفنا على المعجزة وقدسيّتها ومنبع فيوضاتها النورانيّة ، وتسليمنا بكونها : الأمر الخارق الذي لا يحصل إلاّ على يد نبي مرسل أو إمام مفترض الطاعة أو ولي من أولياء الله تبارك وتعالى ، ولاسيّما مع دركنا أنّها غير منافية للعلم المادّي ، وإنّما هو قصور أدوات العقل عن فهم الأسباب التي تحقّقت بموجبها المعجزة ; فهي ليست خروجاً عن قوانين الطبيعة أو خرقاً لها بل تقدّمٌ في عالم المحسوس عن عالم المعقول السائد وقتها ـ أي المعجزة ـ وأ نّها قفزة زمنيّة إلى الأمام في تطويع قوانين الطبيعة ; فـ «فلق البحر» و «إحياء المسيح الموتى» و «نار إبراهيم» ... هي مصاديق ذلك.

إنّنا لو جرّدنا نهضة سيّد الشهداء عليه السلام عن حقيقتها وواقعها المحسوس وسلّمناها قضيّةً غيبيّةً بحتةً فقد أقحمناها عالم الجبر ، وعالم الجبر لا ينهض أبداً بخلق المزايا والصفات ومراتب الرفعة والسموّ لهذا


الإنسان أو ذاك ; فالحركة الغيبيّة ستكون الحاكمة المطلقة على كلّ شيء ، وهذا خلاف تكويني وتناقض واضح مع المشروع الإلهي القائم على كون الأمر ما بين الأمرين ، أي لا جبر ولا تفويض.

وهذا أيضاً بابٌ من أبواب السعي لتشريح نهضة الحسين عليه السلام وحقّها الذي تستأهله من خلال فهم المزايا الكبيرة التي كان يتمتّع بها عليه السلام وأصحابه المخلصين.

وإذا فرغنا من مبحث المعجزة والجبر بات علينا الالتفات إلى المقوّمات الذاتيّة التي كان يمتلكها الإمام الحسين عليه السلام في إدارة دفّة الصراع مع الاُمويّين ، فلقد تعامل بعناية فائقة ودقّة كاملة وذكاء كبير مع كلّ الأحداث التي مرّت به عليه السلام ، واستفاد من كلّ المؤن المعرفيّة والمناهج العلميّة والمضامين المبدأيّة ، وتمكّن من توظيفها ببراعة مذهلة في معركته القيَميّة تلك ، فكان الحصاد العظيم والفتح المبين الذي اكتمل بالنجاح المنقطع النظير في يوم عاشوراء ; حيث صنع عليه السلام من واقعة ذلك اليوم صرحاً من الاُسس والمفاهيم التي تزداد ألَقاً كلّما دارت الأعوام والسنون ، فلقد كان يعلم عليه السلام أنّه وأصحابه سيُقتَلون وأنّ مصيرهم الفناء الجسدي ، لذا خطّط وبرمج ونسّق كلّ خطوة يخطوها وكلّ كلمة يقولها أو سكتة يتأمّل بها ويتدبّر فيها ماذا يقرّر من الفعل والترك ..

فكان نهج خروجه من المدينة وتوديعه لجدّه رسول الله صلّى الله


عليه وآله واُمّه الزهراء عليها السلام وأخيه الحسن عليه السلام وحواره مع ابن والده محمّد بن الحنفيّة ، وإبقائه لابنته المريضة فاطمة الصغيرة ، واستصحابه النساء والأطفال ، ثم ذهابه إلى مكّة ونوع الطريق الذي سلكه إلى كربلاء ، وحصار الحرّ بن يزيد الرياحي ونصحه عليه السلام له ذلك النصح الذي أتى اُكله يوم عاشوراء ، وما سبقه من قضيّة زهير بن القين ، وحديثه مع ابنه عليّ الأكبر وأحداث ليلة الواقعة ، وتمحيصه أصحابه ، وخطاباته قبل المعركة وأثنائها ، واُسلوب تقديمه أنصاره وأهل بيته للقتال ، ومسألة العطش والطفل الرضيع ، والصلاة تحت ظلّ السهام .. التي مزجها طرّاً وأغدق عليها من نفحاته القدسيّة وروحانيّته الطاهرة الممتلئة نوراً وإخلاصاً ووفاءً لقيم السماء ، بل كان عليه السلام هو النور الإلهي المتجلّي ، فإليه ومنه تنتهي وتصدر الفيوضات الربّانيّة المباركة ، قطب عالم الإمكان الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها ...

ففي كلّ ذلك برهانٌ ساطعٌ ودليلٌ جلي على خصوصيّة وشموخ الحسين عليه السلام وعلوّ مزاياه الفريدة.

إنّ كذا شخصيّة بهكذا مواصفات ، تمكّنت من توظيف كلّ إمكانياتها الذاتيّة الرفيعة المستوى المدعومة من مبدأ القوّة العليا المسيطرة ، الله تبارك وتعالى ، في قلب موازين الصراع ، الذي كان صراعاً محسوماً مادّيّاً ، فترشّح من ذلك اليوم المثير جملة قيم ومفاهيم وأخلاق وحقائق ظلّت سرمديّة إلى يومنا هذا ، وستبقى تحاكي القلوب والعقول وتزداد حضوراً مدى السنين والقرون. وهذا هو معنى انتصار الدم على السيف ،


المعنى الذي ابتكره الحسين عليه السلام وجاد به على الإنسانيّة.

نعم ، لقد خلق استشهاد الحسين عليه السلام فرصاً جديدة للاستقامة والتصحيح ، فانفصلت السلطة الدينيّة عن السلطة السياسيّة بعدئذ كأوّل مؤشّر وراشح من رواشح نهضته عليه السلام ، وإن كان لنا في الفقهاء السبعة كلام يطول بيانه ليس محلّه هنا.

كما وشيّدت زينب بنت علي والإمام زين العابدين عليهم السلام المركز الإعلامي الذي باشر في بثّ ونشر وتعريف نهضة الحسين عليه السلام.

أيّتها المرأة! أنّى كنتِ وتكوني ، فهذه زينب عليها السلام قد شاطرت الحسين عليه السلام في إرساء اُسس الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانيّة وديمومة عطائها المبارك ، سواء بتحمّلها مسؤوليّاتها أيّام الواقعة أو بعدها ، ولاسيّما وقفتها الشهيرة التي أنّبت ووبّخت بها يزيد بن معاوية على فعلته الشنعاء ، وتحدّيها الكبير النابع من غزارة علمها ودقيق درايتها وعظم شأنها ورفيع قدرها ; خصوصاً لمّا دوّت بمفهومها المقدّس : «فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ...» الذي يعدّ غرّة ناصعة في جبين الرسالة الإسلاميّة ، الرسالة التي خرّجت هكذا امرأة بهذه المزايا ، امرأة استوعبت الدين والناس والمجتمع وفهمت معادلة الصراع فهماً ناضجاً عالياً ممّا أتاح لها تقييم الأوضاع المستقبليّة ، تقييماً صادراً عن عمق وبصيرة ورؤية حادّة دقيقة ، وأدلّ دليل على الشيء وقوعه ، وليس هذا


التمسّك بحبّ الحسين وقيمه ومبادئه إلاّ تصديقاً لذلك المفهوم الذي ما كان ليُصدَّق في ظلّ المعادلة التي كانت حاكمة آنذاك.

فتحصّل : أنّ مقوّمات نجاح نهضة الحسين عليه السلام عدّة محاور وأقطاب ، كلّها ساهمت مجتمعة في إبقاء قيمها ومبادئها وأهدافها حيّة نابضة أبد الدهور. وهامّ الأمر أن صارت رؤى الحسين عليه السلام صمّام الأمان الذي يحمي الدين من التشويه والتزييف والحذف ، والبركان الدائم من الحركة والتجدّد والتغيير طبق الاُسس الثابتة والمفاهيم الراسخة.

ولا نريد الخوض في موضوع الشعائر الحسينيّة ; إذ البحث فيها يستدعي التفصيل والتجزئة والتحليل والمقارنة والمراجعة ... وكلّ ما نقوله بهذا الصدد على وجه الخاطفيّة : إنّ حفظ القيم التي استُشهد من أجلها الحسين وأصحابه عليهم السلام واجب ديني وشرعي وإنساني. ولسنا من أهل الفتوى ولا في منزلتها ، بل هذا الذي نفهمه وتعلّمناه من خلال آراء علمائنا وأقطابنا وعقلاء العالم.

وهذا الحفظ متنوّع الوسائل والآليّات والأدوات ، كلٌّ بحسبه ، ولا يمكن لنا فرض آلية معيّنة أو حذف اُخرى في هذا السياق إن كان الأمر لا يتنافى مع قوانين الشريعة وأحكامها ، ولاسيّما أنّ قضيّة الحسين عليه السلام قد احتلّت أبعاداً واتّسعت آفاقاً لا يمكن منعها بأيّ وسيلة من الوسائل ، هذا ما ثبّته التأريخ لنا بوضوح ، فالكلّ يمارس عشقه وذوبانه وتأ ثّره وعقيدته بالحسين طبق أدائه وآليّته ، فما دام ذلك مشروعاً غير


محرّم صار إجهاضه وحذفه محلّ تساؤل كبير. نعم ، يمكن تنقيحه وتهذيبه بالشكل الذي يحفظ للشعائر حيويتها وطراوتها وعنفوانها.

إنّ حفظ فكر الحسين عليه السلام ونهضته قائمٌ بحفظ المظاهر والمحتوى ; إذ حفظ المظاهر بالشكل الصحيح يوفّر فرصة بقاء الكثيرين متمسّكين بالدين ومبادئ آل البيت عليهم السلام ، اُولئك الذين لا يتمكّنون بصورة واُخرى من اقتحام المحتوى والتعامل معه بروح علميّة معرفيّة منهجيّة ; نتيجة افتقادهم المقوّمات والمؤن والفضاء اللازم ، فهم من خلال مجالس الوعظ ـ مثلاً ـ والاستماع والمشاهدة وممارسة الشعائر يُبقون على عقيدتهم وعشقهم وثباتهم حيّاً نابضاً.

أمّا حفظ المحتوى فهو عمل تخصّصي لا ينهض به إلاّ ذوو المعرفة والعلم الذين توفّرت لهم المقوّمات والمؤن والفضاء المناسب للحصول على الرؤى والمفاهيم التي تكوّن الخزين الحافظ للدين وكلمته المقدّسة.

إنّنا نستطيع إيصال ثقافة نهضة الحسين عليه السلام ، ثقافة المحتوى والعمق الفكري ، عبر استخدام الوسائل والأدوات التي تمتاز بالجاذبيّة والاستقطاب والتأثير المباشر على أذهان الناس وأحاسيسهم ، وبذلك يمكننا الجمع بين المحتوى والمظاهر. ولا ننسى أنّ عالَم اليوم عالَم الفضاء والتواصل الاجتماعي والإعلامي. وبما أنّ رسالة الدين هي إسعاد البشريّة وهدايتها وأنّ نهضة الحسين (عليه السلام) مصداقٌ ألِقٌ من مصاديقها ، بات من الواجب إيصال ثقافة الحسين (عليه السلام) عبر أرقى السبل وأنجعها.


إنّنا كلّما راجعنا وقرأنا وتفحّصنا نهضة الحسين عليه السلام لا شكّ أنّها ستمنحنا الجديد من العطاء العلمي المعرفي الثقافي ، والعزم العقائدي ، والحسّ العاطفي ، وكلّ البركة والخير والسعادة والأمان ، فما جاد عليه السلام بنفسه الطاهرة إلاّ لكي يستقيم الدين وتسعد الحياة وتطيب النفوس بمسك الهداية والقيم الحقّة.


لحظات السعادة

إن استطعنا ـ ونحن في لحظات الألم والحزن ـ أن نغمض أعيننا ونتذكّر لحظات السعادة التي مرّت بنا ، نتذكّر أنّ الحياة ذات ألوان مختلفة ... نستفاد من لحظات الألم والحزن لنخلق شعوراً يقودنا نحو السعادة ... إنّنا إن استطعنا أن نعيش السعادة حال «إغماض العين» فهذا يعني «متابعة السعادة» ، يعني أنّنا ينبغي ألاّ نتوقّف ، بل نعمل لنعيد لحياتنا معناها الحقيقي ، من الحركة الفاعلة المفعمة بالأمل والطموح إلى بلورة ما نصبو ونهدف إليه ميدانيّاً.

بكينا كثيراً هذه الأيّام ـ نحن أتباع ومحبّي أهل البيت (عليهم السلام) ـ لمصاب أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام وما جرى في وقعة الطفّ الشهيرة من أحداث مأساويّة ومواقف متباينة صارت ملاكاً وميزاناً للحقّ والباطل ، للخير والشرّ ، للنور والظلام ، للهداية والضلال ...

بماذا ينفعنا هذا البكاء ، وهل نستطيع ان نروّي بتلك الدموع ظمأ العقول وعطش القلوب إلى النور الذي يهدينا إلى الحقّ ، إلى السعادة والبهجة الإنسانيّة المعهودة؟ هل نستطيع إغماض العينين ونتذكّر سعادتنا


بالبركة التي أنعم بها الله علينا إذ جعلنا من أتباع أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟

نعم ، إن استطعنا ذلك فلقد استفدنا من دموعنا خير استفادة. ثم إذا ارتقينا أكثر فإنّ إغماض العينين لن ينحصر بالإغماض الفيزيائي الحاصل جرّاء إطباق الجفن على الجفن ، بل يتعدّاه إلى المفهوم الكنائي المجازي من حيث صياغة منهجيّة علميّة تصنع من دموع الألم والحزن والمعاناة روافد فكر ومنابع ثقافة تروّي العقول والقلوب الضمأى لحقيقة كون الحسين نوراً ربّانيّاً يستضاء به للخلاص من دياجير الظلم والضلال ثم العروج نحو مراتب السعادة الإنسانيّة.

إنّنا من الحسين وفي الحسين وإلى الحسين «وسيلة الله وسفينة النجاة» نتمكّن من خلق أفضل الفرص والفضاءات التي تأخذ بنا إلى بناء الشخصيّة الذاتيّة والاجتماعيّة ، وبالتالي تكوين الشعور والعقل الجمعي الذي يعمل لأجل السعادة الشاملة المعهودة.

إنّ دموعنا وحزننا لمصاب أبي عبدالله عليه السلام خيرُ طريق ومحرّك لفهم الحسين (عليه السلام) منهجاً وثقافةً وعقيدةً وسيرةً ، الفهم الذي يمهّد لعمليّة التأ ثّر والتأثير التي تمهّد بدورها لمرحلة هامّة من مراحل الوعي الإنساني الصاعد نحو الكمال.

إنّ عنوان «أبي الأحرار» مفتاحٌ لأرقى مطلب وغاية إنسانيّة ، إنّها الحرّيّة التي استُشهد من أجلها صلوات الله وسلامه عليه ، ضحّى (عليه السلام)


بالغالي والنفيس ليوصل لنا رسالةً مفادها : أنّ فكرة الحرّيّة والإصلاح والتغيير القائمة على العزّة والكرامة الإلهيّة هي الفكرة التي تتكفّل سعادة الإنسان.

نعم ، سيبقى الحسين منار الرفض لكلّ مناهج الاستبداد والانحراف والظلم ، وسناء السائرين على دروب الخير والفلاح ، وملاك الحقّ والعدل والإيمان ، وسيبقى نهجه أبداً مصدراً ومرجعاً تنهل منه الفِكَر المؤمنة بالجوهر والاُصول ، المجانبة للاستعراضات الجوفاء والقشور ، التي تضع البحث والتحليل والمراجعة والمقارنة والاستقراء في سلّم الاُمور ، كي تكون النتائج ذات محتوى قيَمي نبيل ، كما تعلّمنا ذلك من أهل البيت (عليهم السلام) ، الذين كانوا يحسبون لكلّ خطوة ألف حساب بالحجّة والبرهان وهم المسدّدون المحميّون بعين الخالق المنّان.

اللّهمّ إنّك تعلم حبّنا لأهل بيت أذهب الله الرجس عنهم وطهّرهم تطهيرا ، اللّهمّ فلا تمنع عنّا بركات الاهتداء بهديهم والاقتداء بهم.

صَلّى اللهُ عَلَيْكَ يا أَبا عَبْدِالله وَعَلَى الاَْرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنآئِكَ ، وَأَناخَتْ بِرَحْلِكْ ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ اللهِ اَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَعَلى اَوْلادِ الْحُسَيْنِ ، وَعَلى اَصْحابِ الْحُسَيْنِ. الَّذينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ.


ومضة رضويّة

أبا الحسن! عليّ بن موسى الرضا ، سيّدي ومولاي!

أتراني كما نعتني بعض أهلي وصحبي وأحبابي؟!

أتراني جافياً ناكراً جميل ألطافك وسابغ أفضالك وأنا الذي ترعرعت في أحضان جودك وكهف بركاتك؟!

أتراني إذ غادرتُ جنانك فأهنأ بلذيذ العيش وأنسى ألذّ حالاتي وأروع خواطري في ظلّ شامل عطفك وأنوار فيوضاتك؟!

أترى حيرتي تغادر قلبي وعقلي وأفكاري؟!

فمذ حطّ رحلي في ديار رغم أنّها من نمير ولائكم تروى وتمير وبفضاء معارفكم تحلّق وتطير ومن نسيم مرابعكم تشمّ أزكى المسك وأطيب العبير .. ديار هي إلى سناكم ترقب وترنو وبجوانحها إليكم تهوي وتهفو ..

وأنا إليك أيّها الحبيب أتوق تَوْقَ العاشق الولهان.

يا من شمخ بك الضاهران.


يا من ولاؤه محفورٌ على صفحات الجنان.

يا ملاذ التائه وقطب الأمان.

يا كهف البائس وشعلة الحنان.

إليك أكتب عهد الحبّ والوفاء وخالص الامتنان.

أكتبه بعصارة القلب ورشح اللبّ وما تهمره العينان.

فلا بُعد المسافات ولا طول الأيّام عنك يغيّرني ويثنيني.

فأنا لأوبة إليك نذرت العمر وباقي سنيني.

أوبة لن يحول دونها سوى قضاء ربّ السماوات والأرضين.

أوبة تزيح حيرتي وتحقّق منيتي.

مُنية العيش ثم الموت إلى جوارك يا غريب أوليائي وسادتي.

اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا الْمُرْتَضَى ، الاِْمامِ التَّقِيِّ النَّقِيِّ ، وَحُجَّتِكَ عَلَى مَنْ فَوْقَ الاَْرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الثَّرَى ، الصِّدِيقِ الشَّهِيدِ ، صَلاةً كَثِيرَةً تامَّةً زاكِيَةً مُتَواصِلَةً مُتَواتِرَةً مُتَرادِفَةً ، كَأَ فْضَلِ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَد مِنْ أَوْ لِيَائِكَ.


مشهد الرضا

تعلّمت في مدينة الإمام الرضا (عليه السلام) ، مشهد المقدّسة ، الكثير ، عرفتُ إمكانيّة الانتماء إلى طبقة المثقّفين والكتّاب والمحقّقين حين عرفت مدى اغترافي من بحر الجهل والغرور كلّ الأعوام التي سرت وتصرّمت ، فعلمتُ أنّي لا أعلم شيئاً ، الأمر الذي مهّد لي السبيل لاُفق جديد ، اُفق الانتماء المذكور ; إذ المثقّف يدرك أنّ المعارف كالحفرة كلّما سبر الغور فيها كلّما ازدادت عمقاً واتّساعاً ، وإيمانه بهذه الحقيقة سلّم المجد وطريق النور ، نور المعرفة ، المعرفة الناهدة صوب تخوم الكمال الإنساني.

ألِقَتْ مشهدُ بالرضا ، ثامن العترة النجباء ، مشهد التي سيظل القلب يهفو لها مهما تمادت السنون وطالت الأيّام. إنّ في الأضلع أملٌ يسمو ، روحي خجلةٌ من مولاها ; إذ تشعر بالجفاء وعدم الوفاء ، علّها تقوّضه بأثر يحكي فكر الرضا ، نهجه ، رؤاه ، معارفه ، بصائره المعرفيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. طلبتُ من زوجتي أن تبتهل لي إلى المولى تبارك وتعالى في صلاة ليلها ، طلبتُ السداد والفوز بتدوين أثر يكون عرفاناً منّي لجميل


المولى بحقّي حينما لذت به والتجأت إليه فضمّني إلى كهف جوده الأكرم ومعقل علمه الأوفر ، فاغترفت من نمير علومه ما استدّ به ساعد التعلّم عندي ، فاستقام عودي وزاد شغفي ، شغف الانتهال من بركاتهم النورانيّة.


ديار المولى الحبيب

أنا ابن مدينة جنوبيّة خالية من الأعتاب الطاهرة ، مملوّة بحبّ العترة البررة ، تنحدر اُصولي الأبويّة إلى مدينة النجف الأشرف وثم دزفول والحجاز أوّلاً ، كما كان ينقل عمّنا وشيخ عشيرتنا الأكبر.

أبعدتنا السلطات من العراق بذريعة الاُصول الإيرانيّة فاستقرّ بنا المقام في مدينة خرّمشهر لستّة أشهر ، داهمتنا الحرب فغادرناها صوب المدن القريبة ، ثم سكنّا مدينة قم المقدّسة لستّة أشهر أيضاً ، هاجرنا إلى مدينة مشهد المقدّسة التي توطنّا بها ، ثم انتقلتُ منها بعد خمسة عشر عاماً إلى مدينة قم المقدّسة التي لازلت فيها إلى الآن.

وبحكم محلّ الولادة والتنقّل القسري والاختياري بين هذه البلدة وتلك ، يهزّني الشوق إلى أيّام طفولتي وصباي ومحلّتي وأهلي وأصحابي ومدرستي ، إلى أيّام شدوي وحزني ، إلى كلّ شيء من ذلك الوطن الحبيب ... إلى المدن التي عشت فيها وانطبعت ذكرياتها في خاطري إلى الأبد.


لكنّ أشدّ الشوق وأعذبه ذلك الشوق إلى ديار المولى ، إلى خير أنيس ، إلى الشمس التي ما برحت تسطع على القلوب لتنير العقول بسنى الولاء والعشق ، إلى ثامن الحجج ، إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام.

هناك تعلّمت الحبّ واستمعت لنداء الولاء ، هناك عرفت معنى الصلاة والدعاء والابتهال ، صرت اُميّز بين الضلال والفلاح ، بين الخير والشرّ ، بين الحلال والحرام ، فبدأت أشعر بمفهوم الإنسانيّة وهو يدبّ في حناياي ويسري في عروقي مسرى الدم فيها ، وتغيّر معنى السكينة والاطمئنان عندي ، وصارت الثقة بالنفس ذات تفسير آخر لدي ، كما غدت العزّة والكرامة تفتح آفاقاً في أعماقي بشكل مختلف تماماً عن ذي قبل.

هناك بدأت أزيح عن جبيني وهم الثقافة الزائفة والمعرفة الكاذبة وأعترفت لذاتي وأقررت بأ نّي لستُ سوى مدّعياً لا أملك شيئاً ، فإن أحسنتُ الظنّ بحالي أقول : كنت أودّ أن اُحشر في زمرة أهل الثقافة والمعرفة لا غير. ولم يتغيّر الحال إلى الآن ، غير أنّي كنت اُكابر بغرور أجوف ، بينا اُسجّل الآن إقراري على نفسي ، فلعلّ هذا الإقرار يمنحني جواز الورود في مقدّمات نهل المعرفة الحقّة.

هناك بدأت تتّضح لي معالمُ الجدّ والسعي ، فشعرتُ أنّي بحاجة إلى حركة تخلّصني من مجالس البطّالين والدخول في مجالس العاملين ،


وللإنصاف فلقد كانت انطلاقة من الصفر بكلّ ما لمعنى الصفر من مفهوم وتوابع .. كانت هي اللبنة الاُولى لبناء حياة جديدة وتفكير جديد وهدف جديد.

بات خير ما أطمح إليه : فهم وممارسة الدين بنحو يسمو فوق صرف كونه دين الآباء والأجداد ، أن يكون الدين الذي يهيمن على قلبي وعقلي منهاجَ الوعي والبصيرة ، لا إرثاً أرثه من اُمّي وأبي وأجدادي. هذا ما تولّد هناك أيضاً.

هناك أحسست بأ نّي أستطيع ، بأ نّي إنسانٌ بمقدوره التغيّر والنموّ والعطاء ، وأنّ ثمّة حاجة تدعوني إلى ترجمة ما حصلتُ عليه إلى واقع عملي وممارسة حقيقيّة ، فأدركت أنّي ربما أكون عنصراً نافعاً ومفيداً لذاتي أوّلاً ثم للمبادئ التي اُؤمن بها وأذبّ عنها على أساس كونها مفتاح السعادة الإنسانيّة.

إنّه إحساسٌ مفعم بالحبّ والأمل : أن تستطيع الاعتراف بالضعف ثم النموّ والعطاء ، فهذا ما يجعلك تخطو صوب مقصد مقدّس بلا ريب ، إنّه يجعل الحياة ذات معنى لا يتساوى فيها الأمس بالحاضر ولا الحاضر بالغد ، فتتحوّل إلى حركة دؤوبة لنيل المراد ، حركة القلب والعقل والفكر وكلّ الأعضاء ، التي طالما أدّت إلى صنع الفكرة ، إلى الإبداع ، إلى مشروع يحلّق في فضاءات القيم والمفاهيم الحقّة أروع تحليق.

بهذا التعليل المختزل والتبرير المختصر رمتُ توثيق شوقي إلى ديار


المولى عليه السلام ، فإنّ لي حقّ الاعتزاز بهذا الشوق ، بل هو أدنى درجات الوفاء والاعتراف بالجميل لمولىً وتربة طاهرة منحناني الخير العميم والفضل العظيم.


وطوس بقبر يالها من خصيصة تسامت على الأوطان بالدرجات

ضاق صدري وهاج شوقي وتاهت أفكاري فهامستُ حناياي لاُتمتم بنغمات الولاء ، ولاء ساداتي المعصومين النجباء ، نغمات الحبّ وترانيم العشق وألحان الوئام الهيمى ، علّ صداها يحدث رنيناً في أعماقي اللهفى فأجد سبيلاً حاسماً لرؤىً طالما آلمتني إذ هي قاصرةٌ حيرى.

أتُرى جذوة هيام وفورة إحساس ورشحة فكر يُطفِىء لهيبها لسانٌ ألكنٌ كلساني ناهيك عن مفوّه برفعة واقتدار؟! أم يراعٌ أثلمٌ كيراعي ناهيك عن أديب عيلم مغوار؟! هيهات هيهات فنتاج الصنوين ـ القلب والعقل ـ مهما ألق واستطال فلا يزل يعاني النقص والابتسار.

سيّدي أبا الحسن يا عليّ بن موسى الرضا! أستميحك العذر وكيف لي التطاول بين يدي وافر جودك وسابغ كرمك ، لكنّها خواطر هيجى انقدحت لتستوقف أرض طوس وتعيد تذكيرها بنصيحة لها فيها النفع ولله الرضى : تمهّلي أرض طوس ، فلستِ سوى كسائر البقاع ، الأرض هي الأرض والسماء ذات السماء ، حتى نزلت شآبيب الإله وغدوتي موطن الرضا ومثوى ثامن النجباء ، فبالمولى حصراً شمختي وسلّم العلياء


ارتقيتي ، وإلاّ فلا عزّ ولا ذكر ولا افتخار ، منسيّة مهملة كصفر على اليسار.

أستميحك العذر سيّدي أيّها الإمام الرؤوف! إنّما بأنفاسك الإلهية وأنوارك البهية سمت أرض طوس وخراسان ، وبرياض مثواك الطاهر ورحابك الزاهر استنارت بلاد فارس وكلّ ايران ، يا أعبق بقعة وأروع جنان.

فلا أدري أيجوز لي القول : وطوس بقبر يالها من خصيصة تسامت على الأوطان بالدرجات.

اللهم إنّي استغفرك وأتوب إليك إن قلت ما لا يرضي قادتي وساداتي ، استغفرك عن نفثة مصدور جاهر بولائه لهم (عليهم السلام) بجهل وقصور.

اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا الْمُرْتَضَى ، الاِْمامِ التَّقِيِّ النَّقِيِّ ، وَحُجَّتِكَ عَلَى مَنْ فَوْقَ الاْرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الثَّرَى ، الصِّدِيقِ الشَّهِيدِ ، صَلاةً كَثِيرَةً تامَّةً زاكِيَةً مُتَواصِلَةً مُتَواتِرَةً مُتَرادِفَةً ، كَأَ فْضَلِ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَد مِنْ أَوْ لِيَائِكَ.

من مشهد الرضا (عليه السلام) ، من ديار الحبيب النائية ذي البركات الغامرة والأنوار القدسية الزاهرة دعونا وما دمنا ندعو لكم أعزّتنا وقرّة عيوننا ، يا من حفرتم على صفحات القلب أجمل العناوين الإنسانية واللمسات الإيمانية.


الأوبة

رغم اعتقادي بعدم حيلولة المسافات والأزمنة بين المرء وبين الانتماء والموالاة والعشق ; إذ الروح تسمو بخصائصها على كلّ الفواصل والحواجز المادّيّة وغيرها .. فلازلت ـ مذ غادرت بقاع طوس قبل عشرين عاماً ـ أتوق وأرسم للعودة أفكاراً وسبل ، رؤى اليقظة والنوم تأخذني لترميني في أحضان كهف طالما ضمّني بحنانيه ودفء مفاهيمه ومعارفه الثاقبة حتى صنع فيّ مقوّمات التوجّه الجادّ نحو الأمام.

في مشهد أبتغي الطمأنينة والأمان والاسترخاء ، أروم الصفاء ، ما أروع ثلوجها حينما تدعوك لحرارة مقام المولى الإلهي ، أنوارٌ تخترق حجب الظلمات ، ظلمات القلب المتعب والروح المرهقة. في الأعماق شكوى ، آهات وآلام ومعاناة ، لا يستحقّ البوح بها إلاّ ذاك الصدر الدافىء والنور الدافق ; أسرارٌ أقفالها لا تفهم الانفراج إلاّ بفكّ الرمز ، وما يفكّ الرمز إلاّ مَن به العقل والقلب اهتدى.

ما أجمل سماء الولاية ، ما أرحب فضاء الحقيقة النوريّة ، واسطة الفيض الإلهي الرحموتية.


فصٌّ ألماسي رضوي يهدّئ الروع ويثبّت العزم ويقوّي الهمّة نحو السعادة الأبديّة.

سأظلّ أهفو وأسعى وأبذل الجهد لاُوطّئ للعودة أقداماً راسخة ، إلى أنيس النفوس ، إلى الإمام الرؤوف هَفْوَ العاشق المهووس.

إنّه مطمحٌ يستحقّ كلّ التضحيات والخسائر ، إنّه الربح الوافر والفلاح الباهر.


وقفة مع مفهوم الانتظار

أحقّاً نحن بانتظار ظهور الإمام الثاني عشر الحجّة بن الحسن عليهما السلام ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجورا؟

وماذا يعني لنا الانتظار من مفهوم حتى يندرج تحت طائلة حقل أو عنوان من حقول المعرفة وعناوينها الخاصّة ، ثم أيّة معرفة هذه التي تتجاذبها العقول : المعرفة العاديّة أم المعرفة العلميّة ، حتى نقرّر مصيرنا ومصير نموّ البحث وبلوغه المراتب المطلوبة؟

أو أنّه يندرج تحت طائلة حقل أو عنوان من الحقول والعناوين الارثوذكسيّة التي تختلط فيها التقاليد والمشاعر والأحاسيس والتبعيّة المحضة .. بلا محوريّة لحركة العقل وإدراكات الذهن البشريّة؟

بدءاً لابدّ من فهم الترابط العضوي وعدم انفكاك المصدر واسمه واسم الفعل عمّا يقع هو عليه ; إذ لا جدوى من الانتظار بلا منتظَر ـ بالفتح ـ ثم كيف يفهم المنتظِر ـ بالكسر ـ هذه المعاني والعلاقات ، إلى ذلك ـ والأهمّ ما في الأمر ـ كيف يستوعب المنتظِر البعد العقلاني للقضيّة ،


خصوصاً مع أخذ العوامل المكانيّة والزمانيّة بعين الاهتمام؟ فإنّه قد لا يصمد طويلاً إزاء الفرضيّات والنظريّات التي تناهض مبنى وجود المنتظَر ـ بالفتح ـ قبل أكثر من ألف عام وبقائه حيّاً إلى يومنا هذا ، وممّا يؤسف له في هذا المضمار أنّ المحاولات الجادّة التي اقتحمت فضاءات العقلانيّة لتثبت وجوده المبارك على هذه المشاكلة ضئيلة جدّاً رغم غزارة محتواها ومتانة نسقها وعمق براهينها ; وقد طغى التمسّك بالنصوص والإثباتات الميتافيزقيّة على أغلب البحوث والدراسات التي تتبنّى مبدأ بقائه عجّل الله فرجه إلى يومنا هذا.

إنّنا محكومون بالعقلانيّة سبيلاً أساسيّاً وطريقاً محوريّاً لإثبات صحّة المدّعى ; كي نستطيع مواجهة المباني والمبادئ التي ترفض مبدأنا ، ذلك رغم اتّفاق الجميع ـ تقريباً ـ على ظهور منقذ في آخر الزمان ، باختلاف التفاصيل.

وعلى فرض تجاوزنا هذه المراحل والأزمات فهل من انتظار حقيقي للإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام؟

لا شكّ أنّ كلّ المؤمنين بولاية أهل البيت عليهم السلام يبتهلون على الدوام بظهور الحجّة عجّل الله فرجه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجورا ، رغم شذوذ بعض نخبهم بذهابه إلى أنّه عجّل الله فرجه سيولد فيما بعد وليس موجوداً أكثر من ألف عام موافقةً منه لرأي علماء العامّة في ذلك.


ولكن هل هذا الابتهال والاعتقاد مبني على قناعة علميّة عقلانيّة أم على تبعيّة تقليديّة؟ والظاهر أنّ الكفّة الثانية راجحة بامتياز ; لعدم نهوض النخب والكوادر من العلماء والمفكّرين والمتخصّصين بالدور المطلوب طبق المناهج المعرفيّة العلميّة الصحيحة في توعية الاُمّة توعية سليمة قائمة على الوضوح والشفّافيّة ، إلاّ القلّة الضئيلة التي أشرنا إليها ; حيث عرضت نتاجات راقية أدركت فيها الحاجة العقلانيّة ومتطلّبات الزمان والمكان فكان بحقّ رشحاً رائعاً من رواشح العقل الشيعي المتقدّم.

ولعلّ في عدم نهوض غالبيّة المشار إليهم مؤشّراً مؤسفاً على عدم الأهليّة والكفاءة في معالجة حاجة الاُمّة على هذا الصعيد بالخصوص ، وسائر الأصعدة المماثلة على وجه العموم.

نعود إلى السؤال المحوري ثالثةً : هل من انتظار حقيقي له أرواحنا فداه؟

لا غرو أنّ ظهوره سيقلب المعادلات والموازين وسيضرب بيد من حديد على كلّ القيم الظالمة والمبادئ الفاسدة والعناصر المنحرفة ، وسيعيد الاُمور إلى نصابها الصحيح ونهجها القويم ، وإلاّ كيف يملأ الأرض عدلاً؟! وبذلك ستطيح رؤوس وتسقط عروش وتهوي كيانات ، وهذا ما يؤلم ويزعج الكثير.

فلِمَ يأتي إذن؟!


أن لا يأتي يعني : بقاؤنا على عروشنا وترفنا واستبدادنا وغطرستنا وهيمنتنا وللمستضعفين الحجر!!

فهل يأتي أم لا يأتي؟

سلامٌ عليك سيّدي يوم ولدت ويوم عانيت ولازلت تعاني البعد وجمر الانتظار حتى يأمر المولى الكريم فتظهر لتلقم الظالمين حجر العدل وتنبت البسمة على شفاه المستضعفين وقلوب المظلومين التي تاقت إلى المنقذ الأمين ، إليك يا سليل النجباء الطاهرين.


حبيب الزهراء

كتب لي أحد الإخوة باللغة الفارسيّة :

«تَرْسَم كه شعر سنگ مزار من اين شود

اُو هم جمال يوسف زهرا نديد ورفت»

يعني : خشتي أن يُحفَر على صخرة قبري : هو أيضاً رحل ولم يحظَ برؤية جمال يوسف الزهراء (عليهما السلام) «أي الحجّة أرواحنا فداه».

فأجبته :

أنت أفضل حالاً منّي ; إذ أخشى أن لا أحد يقبرني ، فأظلّ فريسةً لمن ينهشني ، فلا جمال الحبيب أرى ولا تشفع لي الزهراء.


ومضة زينبيّة

هممت بيراعي تنميق مقال كنت قد حكتُ خيوطه الرئيسة ورسمتُ هياكله البسيطة قبل أيّام قليلة .. فعقدت العزم على تدوينه هذه الليلة وإذا بنداء الولاء لعقيلة الطالبيّين زينب الكبرى يهزّ جوارحي ويضرب في أعماقي مؤاخذاً وفي فضاء أفكاري معاتباً :

أما آن لك أن تخطّ في العالمة غير المعلّمة ، في القلب الصبور واللسان الشكور ، رواشحَ الانتماء ونتاج الاعتقاد ومعاني العشق في السادة الأسياد وخير العباد؟!

أما آن لك أن تكتب في التالية تلو المعصوم ، في من شاطرت الحسين (عليه السلام) الوظائف والمهامّ والمصائب والآلام ولا سيّما في ذلك اليوم وهو أبو الأيّام ، في العاشر من محرّم الحرام ، في طفّ الخلود والملاحم العظام؟

أما آن لك أن تدوّن في من تسنّمت التدبير في ذلك الحال الرهيب والظرف العصيب ، فواصلت الدرب بألق وشموخ منقطع النظير ، فجاءت


بها رائعةً كما أوصاها المولى الشهيد في لحظات الوداع الأخير .. تحرّكت بعقل الأولياء النجباء ، نطقت فكأ نّها فرضت عن لسان أبيها سيّد البلغاء ، سكنت سكون العارفين الحكماء ، استشرفت فأخبرت أنّ الغد لنا فلا يندرس ولا يُمحى ذكرنا مهما أوغلتَ أيّها الضالّ المناوئ في قتلنا وحصارنا وتشريدنا وترويعنا ، فنحن اُسّ الدين وأصل النهج المبين الذي جاء به سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد الصادق الأمين ، والحجّة الظاهرة المستدلّ عليها بالبراهين العقليّة القاطعة؟!

أما آن لك أن ترسم حروف الحقائق البنّاءة في من ضربت سامق الأمثال الوضّاءة ، انموذج المرأة العالمة الفقيهة المفسّرة ، المؤمنة الجليلة الشاكرة ، المهيبة الشجاعة المدبّرة ، العاقلة الرصينة المديرة ، البنت الزكيّة الطاهرة ، الاُخت الحنونة الناصرة ، الزوجة المخلصة الصابرة ، الاُمّ الشفيقة الباهرة؟!

نعم ، لن يهدأ لي بال ولن استقرّ وأستريح مادام قصوري في حقّ آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) قائماً يحثّ عقلي ويحفّز قلبي ويثير أفكاري نحو بلوغ المقصود ، فساُبقي وجودي ـ بعون القادر المنّان ـ لبّاً وفؤاداً وروحاً وضميراً يحلّق أبداً في الفضاء المنشود ، فضاء إثبات الحقّ المعهود ، مادام هناك عرقٌ ينبض ودمٌ يجري وحياةٌ تسري ، سأظلّ أبحث وأفحص واُبعثر وأتمسّح وأحفر واُراجع وأستقرئ واُقارن وأُحلّل وأستنتج بما توفّر لي من الأداة العلميّة والمؤنة المعرفيّة ، طبق المناهج السليمة والسبل الصحيحة المنطقيّة ، بلا حذف وتضليل ولا تعصّب وتحريف ولا ترهيب ولا


تخويف .. بالحبّ والوئام والاُلفة والسلام ، بنداء الخير والفلاح والأمان ..

لِمَ ذلك؟ لأسهم بالنزر اليسير في نشر وذياع ولو بعض الحقيقة المظلومة ، في إعلاء المبادئ المطموسة والقيم السامية المدروسة ، بما يتهيّأ من المكنة والبضاعة المحدودة ; إذ الميسور لا يُترك بالمعسور ، فعلى الواحد منّا استفراغ الوسع وبذل الجهد بالقدر المقدور ، ولا سيّما أنّ الحبّ إن حصل فهو خطوة من خطوات الوصول إلى الولاء المطلوب ، حيث علاقة العموم والخصوص المطلق الحاكمة بينهما تستدعي التوفّر على الشروط المثبتة لأصل الأُصول ولبّ الاعتقاد ، أعني به : ولاية الآل (عليهم السلام) ، أسياد العالم والعباد.

والحمد لله على ما أنعم والصلاة والسلام على الرسول الخاتم وآله أقطاب العالم.


من مفردات المؤسّسة الدينية / ١

ممّا لا غبار عليه : أنّ المؤسّسة الدينيّة عندنا تتكفّل شؤون العباد إدارةً وتدبيراً ، سعةً وضيقاً ، على ضوء المبنى الفقهي ردّاً وقبولاً.

إنّ بناء ورعاية ودعم وتأمين وتنمية وديمومة المعاهد الدينيّة والمراكز العلميّة في سلّم أولويّات وظائف ومهامّ المؤسّسة الدينيّة .. فهي التي تعنى بها عنايةً كاملةً في شتّى جوانبها واُمورها ، وتقف على نظامها ونشاطها ونتاجها إيجاباً أو سلباً ، وقوف المدير المسؤول ، الأب الغيور ; فهذا الوليد ثمرة الجهد وتعب الدهور .. إنّ هذا الوليد حلقةٌ من سلسلة ذهبية وعقد ألماسي وشجرة مباركة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها .. إنّه حامل راية الرايات في مضامير تلقّي وبثّ ونشر وحفظ وديمومة الاعتقاد بالقيم والمبادىء الحقّة العليا.

من هنا نراها تحرص كلّ الحرص على متابعة أوضاع هذه المعاهد والمراكز متابعةً ميدانيّةً فاعلةً على الدوام ، من خلال الحضور المباشر أو بالتمثّل وكالةً ونيابةً ، سواء بالحضور الفردي أو الجماعي.


لذا تسعى المؤسّسة الدينيّة إلى توخّي الدقّة والضبط في انتقاء واختيار الفرد أو الأفراد الذين يقع على عاتقهم تمثيلها في أداء تلك المهام ، فنجدها تنتخب ذوي العلم والمعرفة والفكر والثقافة وممّن لهم السمعة الطيّبة والأخلاق الحميدة والشخصيّة المؤثّرة ; كونها تدرك أكثر من غيرها طبيعة العلاقة الوشيجة بين نوع الخطاب والمخاطَب ، بين البثّ والاستقبال ، بين الإرسال والتلقّي .. تلك العلاقة التي تعني خطف القلوب والعقول والنقش على ألواح الضمائر وخبايا الروح وأعماق الحنايا والشعور فيما لو كان الإرسال مفعماً بالصدق والإخلاص والحبّ والمعرفة ، وإلاّ فلا يرشح من النقيض إلاّ النقيض.

كما أنّ المؤسّسة الدينيّة تدرك مدى رصد الناس ودقّة مراقبتها وحجم انتظارها منها ; إثر الفضاء الحاكم على المجتمع والعرف والأخلاق ، الذي منح هذه المؤسّسة بالغ القدسيّة ورفيع الحرمة وشامخ المكانة وسامق المنزلة ، المتقادمة قدم السنين والقرون ; فإنّ مقام النيابة العامّة مقامٌ إلهي عظيم وشأنّ ربّاني أصيل. من هنا فإنّ أيّ قول وفعل وتقرير من أيّ فرد محسوب على المؤسّسة الدينيّة ، بشكل عامّ ، أو في ما يرتبط بموضوع بحثنا بشكل خاصّ ، سيترك أبرز الأثر ، سلباً كان القول والفعل والتقرير أم إيجاباً ، بعلاقة طرديّة لا تقبل الغموض والترديد.

إنّ المستفاد من أفكار ورؤى ونصائح المؤسّسة الدينيّة هو التأكيد على النوع لا على الكثرة وتكثير السواد ، فلربّ سالبة من ساذج أو جاهل أضاعت جهوداً كبار.


إنّ التعريف الوافي بعناصر الوفود التي تبعث بها المؤسّسة الدينيّة إلى هنا وهناك يجعل المضيِّف ومَن سواه واقفاً على رفعة خصائص هذه العناصر ورقيّها علميّاً واجتماعيّاً ، التي تعني حكمة وحصافة وعلوّ كعب هذه المؤسّسة وعمق رؤاها .. فلا غرو أنّ الانتخاب الصحيح سيحفر أثمن الأثر على صفحات القلوب والعقول.

ولا ننسى تأكيدات المؤسّسة الدينيّة على الوفاء التامّ بالعهود والالتزامات المقطوعة لهذا المعهد أو ذاك المركز ـ العهود والالتزامات التي ينبغي أن تكون على قدر المكنة والاستطاعة كي يوفى بها بالشكل والظرف المناسب ـ ولكي يكون الحفاظ على المصداقيّة في أرفع الرتب والمنازل.

كما لا ننسى نصائحها بالابتعاد في ذلك الأمر وفي ما سواه عن الإسراف والتبذير وكلّ المظاهر التي تصنع استفهامات عريضة وتخدش بالمصداقيّة والشؤون الاعتبارية والأخلاقية والدينية.

اللّهمّ احفظ دينك وحماة دينك يا خير حافظ ومعين.


من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٢

المرجعيّة العليا بين المحاسبات البشريّة والإرادة الإلهيّة

لاتنفكّ المعرفة البشريّة عن ثلاثيّتها الشهيرة : الفكر ، اللغة ، التاريخ ، كما لا ينفكّ الإنسان عن محاسباته القائمة منطقياً على أدوات ومؤن الواقع الموجود ، بالاستناد في ذروة احتجاجاته على ما في جعبته من العلم وكلّ ما تاخمه رتبةً ومنزلةً ، فيجهد العقل الفردي وينشغل الذهن وتتفاعل سائر القوى الذاتيّة كي تُصنَع الفكرة وتُصاغ الرؤية التي لابدّ لها من إمضاء العقل الجمعي حتى تتفتّح أمامها آفاق البلورة وميادين التطبيق والممارسة.

إنّما النُّخَب هي وحدها القادرة على فعل ذلك ، لا كلّ النخب التي يعتقد البعض انقسامها إلى ثلاثة أصناف ، فالمثقّف نخبة لكنّه مجرّد فرد واع مطّلع على مجرى الأحداث والقضايا ، وهو دون المفكّر الذي يصنع الفكرة ويبدعها ، وهو دون الفيلسوف ـ بمعناه الأشمل ـ الذي يهضم الأفكار ويذيبها لينحتها ويصوغها مذهباً أو تيّاراً ...


هذا مختصر خارطة طريق مصانع الفكر البشرية القائمة نوعاً على المحاسبات المحسوسة الملموسة ، فلا تخرج غالباً في قالبها ومحتواها وفرص تحقّقها عن التصوّرات المادّية ولا تتعدّى حدودها ...

بعبارة اُخرى : ليس بمقدورها أخذ التقديرات الإلهيّة والمشيئة الربّانيّة والإرادة الغيبيّة في جدول محاسباتها واحتمالاتها ; للقصور الذاتي والجهل التكويني ، فكثيراً ما صاغت السماء وأسّست رؤىً ومشاريع حياة وصروحَ معارف غيّرت مجرى التاريخ والبشريّة دون أيّ دور للإنسان في صنعها وتوليدها .. نعم ، إنّه كان ولا زال أداة إيصالها ووسيلة إبلاغها ، بدءاً بالرسل والأنبياء ومروراً بالأوصياء والأولياء وانتهاءً بالعلماء وسائر الصالحين.

إنّنا نعتقد بكون الأفكار البشريّة إمّا متناغمة مع القيم والمبادئ الإلهيّة ، أو مختلفة معها ، ولا ثالث ، فالإجماع المركّب حاصل هنا بلا أدنى ترديد عندنا (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١).

وعلى ضوء أنّ الدين الإسلامي هو ثالث الأديان السماويّة التوحيديّة زمانيّاً وخاتمها ومكمّلها ورائدها محتوائيّاً ، وعلى ضوء الأساس العقدي القائم على كون المذهب الإثني عشري هو الإسلام الحق السليم ، فإنّ نظامنا التشريعي ومؤسّستنا الدينيّة وثقافتنا المعرفيّة مستندةٌ إلى القوانين الربّانيّة نصّاً واستنباطاً وتجسيداً ، طبق الأدلّة والاُصول

__________________

١. سورة الإنسان : ٣.


الشهيرة : الكتاب ، السنّة ، العقل ، الإجماع ، البراءة ، الاحتياط ، التخيير ، الاستصحاب .. إلى ذلك : الأحكام الثانوية وغيرها ...

نحن لا نستشرف الغد بالقطع واليقين ، ولا نُخرِج مشيئة الغيب وإرادة اللاهوت من محاسباتنا ، ولا نصوغ أفكارنا إلاّ في دائرة الاحتمال.

من هنا فإنّ الرؤية الإثني عشرية القائمة على مفهوم الانتظار استطاعت معالجة الفراغ الحاصل بفعل غياب الإمام (عج) بالرجوع إلى نائبة العامّ في إدارة شؤون البلاد والعباد سعةً وضيقاً على اختلاف المباني الفقهيّة .. ولعلّ نقطة البحث المحوريّة والحسّاسة هنا تكمن في محاولات الوقوف والاطّلاع على خلفيّات وأسرار كشف أو تنصيب أو انتخاب المرجع الأعلى ، المحاولات التي طالما أساء البعض منها إلى كيفيّة بلوغ هذا المنصب الديني الرفيع وشوّهت الحقائق ; جهلاً منها تارةً وحسداً اُخرى وتعجّلاً ثالثةً وهكذا ...

فإنّ المتابع المستقرئ المُراجع لتاريخ المؤسّسة الدينية الشيعية تشمخ أمامه حقيقةٌ وضّاءة متشكّلة على نحو تساؤل تعجّبي عريض مفاده : هل من أحد كان يحسب أن تؤول المرجعيّة العليا على هذا المآل؟! تساؤل سوف يبقى دائراً في فضاءات التشيّع حتى الظهور ، فَلَكَمِ انصبّت الأنظار ودارت التوقّعات واستنتجت الأفكار لكنّها خابت وفشلت وأخطأت الحسابات حين انعقدت لمن لم يكن في الخاطر أبدا.

لِمَ نذهب بعيداً؟ ألم نحيا ونعايش أحداث عصرنا وزماننا ورأينا


كيف استقرّت المشيئة الربّانيّة والإرادة الإلهيّة على السيّد عليّ الحسيني السيستاني دون أن يخطر ببال حتى ذوي الخبرة والاختصاص حصول مثل هذا الأمر؟! فهيّأ له الأسباب والمقدّمات بنحو مثير ، ولعلّ الذين سايروا الأوضاع عن قرب وكثب يدركون أكثر من غيرهم ويستوعبون حقيقة اليد السماويّة التي امتدّت بقوّة وإحكام لترفع هذا الرجل المؤمن العارف الحكيم المخلص المحبّ وتنصّبه في حيث شاءت وأرادت ; فهي وحدها التي تعلم مطلقاً غاية المصالح والأحكام وملاكاتها وخفايا الاُمور وأسرارها وما يخبّىء الغد ويخفي من أحداث ومواقف ، دونها المعرفة البشريّة القاصرة ، التي لا تعي سوى ظواهر القضايا وأوّليّاتها وعياً مادّياً قشرياً ، والنادر كالمعدوم.


من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٣

الفكر الديني بين مطرقة المصالح وسندان المفاسد

اختُلِف في فلسفة العلوم وتاريخ نشأتها اختلافاً ما برحت رحاه تطحن مبنىً وتكادح آخر وتسالم ثالث ; لدواعي وأسباب وكواليس واجتهادات لا حظّ وافر لها هنا كي نسلّط عليها ضوء العرض والتحليل والاستنتاج ; لنزر المجال وضيق المقام.

ولعلّ النقطة الجوهريّة المتّفق عليها بين أرباب الاختصاص : أنّ نوع العلوم قد تطوّرت ونمت ومرّت بمراحل وأدوار شتّى حتى آلت إلى ما هي عليه الآن.

وكذا العلوم الإنسانيّة ; حيث لم تشذّ هي الاُخرى ، فطوت مراحل وأدواراً من النموّ والتقدّم ، كما هو المتناول المتداول حاليّاً.

إنّ علم الاُصول والفقه وأيضاً التفسير والكلام ونظائرها ـ الإسلامي منها عموماً والشيعي خصوصاً ـ قد اجتازت مراحل وأدواراً متعدّدة من النموّ والأزدهار يشهد لها الواقع الملموس.


إنّ المتبادر من «دور» أو «مرحلة» هو الانتقال من كيفيّة إلى اُخرى ، والقرينة تعني : كيفيّة أفضل وأرقى ، والأفضلُ الأرقى قرينُ التحسّن والتبدّل والتغيير على صعيد الأدوات والوسائل والآليّات ، بعبارة اُخرى : لا يمكن تصوّر الانتقال المعهود ولا يصحّ إطلاق عنوان «دور» أو «مرحلة» دون التجديد والإبداع والابتكار.

إنّ المعيار الثابت والخطّ الأحمر عندنا : استحالة التغيير على حساب الاُسس والاُصول .. بل إنّ الفكرة وليدة رحم الاُسس والاُصول ، متماهية متناغمة معها ، وإلاّ فلا يمكنها نيل رضى العقل الجمعي وتسجيل الحضور الميدانيّ الفاعل.

«صناعة الفكرة» هي نواة التجديد والإبداع والابتكار ، الفكرة التي تلبّي حاجة المكان والزمان.

إنّ الأفكار التي غيّرت مجرى التاريخ وتركت أروع الآثار في ضمير الاُمم والبشريّة جمعاء هي الأفكار التي خاطبت العقول والقلوب أيّ خطاب ، وضربت في الأعماق أيّ جذور وأوتاد ، فنالت باسق المكانة من الخلود والبقاء.

كلٌّ يبكي ليلاه ، فما أضمأنا وأنهمنا لتلك الفكرة التي ترشف الصادي منّا وتشبع الجائع ، صاديَ التجديد وجائعَ التغيير ، على ضوء المنهج السليم من القراءة والمراجعة والمقارنة والاستقراء والفحص والتحليل ، دون انحراف وميل عن الاُسس والثوابت ، كي نقطف غالي الثمار وعالي النتائج.


فمن المؤلم حقّاً تكثّر أدعياء الاجتهاد والرسائل العمليّة ممّن لم يكملوا أو يتلقّوا أوّليّات العلوم والمعارف حتى ، فتعنّبوا قبل أن يتحصرموا ، أو اُولاء الذين سعوا مسارعين بالعلن لزلزلة الموروث الديني من الأساس دون اللجوء لحلقات الاستشارة والاختصاص ، أو الذين احتموا بعباءة وأذيال وملاحق الرموز العليا علّهم يخطفوا الكأس الأوفى رغم ما فيهم من تقصير وقصور من جهات شتّى ، وما سواهم من المريب أمرهم الذين اتّخذوا سبّ المخالف والشتم له مغنماً فمنحوا الذريعة لمن يريد بنا الذبح والترويع والحذف سبيلا ، دونهم الذين يقتاتون على الأمجاد الاُسَريّة والمواريث القبَليّة ، ناهيك عمّن خانوا الأمانة فَسُرِّيَتْ فعالهم على أتباع المذهب والطائفة جميعاً ...

إنّها أصنام الوهم وقشور الجهل وخلايا الفساد ، الموانع الصعبة والأغبرة الملوّثة ، التي طالما حالت وتحول دون صناعة الفكرة النبيلة والرؤية الجديدة ، أو دون بلوغها الغايات والمقاصد الشريفة.

نحن بأمسّ الحاجة إلى الفكرة التي تولد من رحم الدين والمبادىء المقدّسات ، التي تحفظ الاُصول الشامخات ، بعزم وحزم وثبات وقصد قربة ونوايا مخلصات ، دون أن تغفل الاستشارات والتمسّك بالسبل الهاديات وضروريّ الحاجات ، بلا أدنى مداهنة ومداراة ومجاملات لذوي المصالح والرغبات الفاسدات.

هذه الفكرة هي فكرة الخير الكثير ، فكرة الحكمة والمعرفة والدرب المنير.


إنّ تلاقح الأفكار وتمازج الآراء وانسجام الغايات وخلوص السرائر ونقاوة النوايا فضاءٌ ولا أرحب ، اُفقٌ ولا أوسع ، فرصةٌ لا تعوّض نحو التحليق في مدارات النهوض العليا ، ثم الانتقال من مرحلة إلى اُخرى ، إلى حال أفضل وكيفيّة أرقى ، مثلما شادتها ميدانيّاً أساطين الفكر والحكمة في ما مضى ، بل أسمق وأسنى.

ولنا في سيرة الرسل والأنبياء والأئمّة والأولياء والصلحاء أرفع اُسوة ومعين ، فإنّهم عايشوا الناس وخاطبوهم وعاملوهم على مبدأ الدين ، القائل : من الناس وفيهم وإليهم أجمعين .. إنّهم آيات هدىً وتنوير ، مشاعل عقل وتدبير.


من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٤

ولاية الفقيه

ماذا يعني القول الفصل في تدوين الدستور ، الانتخابات ، مضامين النطق الرسميّ بإسم المرجعيّة العليا في الشطر الثاني من خطب صلاة جمعة كربلاء ، التصدّي للإرهاب ، استقبال الوفود والشخصيّات الحكوميّة والسياسيّه ، إصدار بيانات النصح والتحذير والتأييد والرفض في القضايا والمسائل المختلفة ، تحريراً ومشافهةً ، قلب المعادلات وتغيير موازين القوى على أرفع المستويات ...؟؟

إذن للمرجعيّة العليا أجندةٌ سياسيّة ، لم يبق سوى أن تستلم مقاليد الاُمور بشكل رسميٍّ علني وتدير الحكم اُسوةً بجمهورية إيران الإسلاميّة ; فولاية الفقيه هذه هي ذاتها التي هناك ..

استنتاجٌ ورؤيةٌ وإشكاليّةٌ وحيرةٌ تدور في ذهن الكثيرين ، من النخب وغيرهم ; على ضوء فهم مفاده : أنّ مبنى ولاية الفقيه الخاصّة أو المقيّدة أو الجزئيّة هي فقط في القضايا الحسبيّة ولا تتعدّى إلى ما سواها ،


وما تضطلع به المرجعيّة العليا من دور ومهامّ يتناغم وينسجم ويتطابق مع مبنى ولاية الفقيه العامّة المطلقة.

قد يذهب البعض الآخر إلى القول بأنّ المرجعيّة العليا قد نسفت الإجماع المركّب في المسألة وعملت على تأسيس مبنى ثالث قائل بالتفصيل.

نقول : إنّ فهمنا لولاية الفقيه الخاصّة والعامّة ينطوي على كون الفقيه الجامع للشرائط : مُدرِكاً ، مستوعباً ، واقفاً وقوفاً معرفيّاً علميّاً منهجيّاً على كلّ الأحكام والأدلّة الشرعيّة الأوّليّة منها والثانويّة ، عارفاً خبيراً بالضرورات والمصالح والمفاسد والمحظورات ، قارئاً للنصّ محلّلاً مفسّراً مستنبطاً طبق الضوابط والملاكات المعهودة والأدوات المعروفة .. فثبتت الثانية لعدّة كالنراقي صاحب المستند وصاحب الجواهر والنائيني ومحمّد حسين كاشف الغطاء والخميني رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولم تثبت لأكثر الفقهاء رحم الله الماضين وحفظ الباقين ، منهم ـ مورد بحثنا ـ السيستاني مدّ ظلّه ، فظلّوا متمسّكين بالاُولى.

نعم ، إنّ السيّد السيستاني استطاع ـ بنظري القاصر ـ أن يقرأ ويحلّل ويقارن ويستقرئ ويستحلب النصّ والدليل بأوسع الممكن ، فاستنتج بغاية المطّاطيّة وبنهاية ما يسمح له الاستنباط دون المساس أو التعدّي على القول الأساس ، فذهب عالياً إلى حيث بلغ به المقام تخوم المبنى وحدود البرهان دون الانتفاض أو تغيير البنيان.


ولا ننسى أنّ الظرف الراهن وإتاحاته الملحوظة قد جعلت يده المباركة مبسوطةً على العمل واستثمار الفرصة في إرساء المبادئ الحقّة والقيم النبيلة على أفضل ما يكون .. الظرف الذي لم يسنح ـ نوعاً ـ لغيره ممّن تقدّم عليه من فقهاء ذات المبنى ، قدّس الله أسرارهم الزكيّة جميعاً.

ثم أليس الفقيه الجامع للشرائط ـ بغضّ النظر عن الولاية المقيّدة أو المطلقة ـ له الولاية على المجتمع والدولة ، وهو الذي يدبّر ويدير شؤون البلاد والعباد ، العارف الخبير بالضرورات والمصالح وموارد الفساد ، ناهيك عن كونه الوليّ الشرعي ، النائب العامّ في ظلّ غياب المولى الإمام؟!

إنّ ولاية الفقيه ـ بقسميها ـ أصلٌ ثابتٌ وامتدادٌ قطعيٌّ لوجودنا الدينيّ الإسلاميّ منذ البدء ، لا كما يرى البعض نشوءها إبّان الحقبة الصفويّة على يد المحقّق الكركي ، أو استيرادها من الفقه السنّي ومن الماوردي وأحكامه السلطانيّة ; فإنّها ـ أي ولاية الفقيه ـ أجلّ شأناً وأرفع منزلةً من أن تكون على هذا الحال ، ولا سيّما مع ورود النصّ المتّفق عليه وحكم العقل بها في مقام الاستدلال.

بقي أن ندقّ ناقوس الخطر فنشير إلى سعي بعض المريب أمرهم إلى دسّ السمّ في العسل والتصيّد في الماء العكر من خلال اصطناع فضاء تنافسيٍّ سلبيٍّ نجفي ـ قمّي ، والذهاب في فتنة كبيرة لا تُحمَد عقباها ، بتصوير صراع زائف بين العليّين وأنّ السيستاني غير المسلّح هو وحده


القادر على الوقوف بوجه الخامنئي المسلّح!!

فليس لنا على العجالة سوى أن نقول : إنّ التناغم المشهود والتواصل المستمرّ والانسجام المتنامي بين العليّين ، بين النجف وقم ، بين النجف وطهران ، بين بغداد وطهران ، وما تمخّض عنه من آثار وثمار ونتائج انعكست خيراً وإيجاباً على شتّى الأصعدة والميادين .. إلى ذلك : الدور المحوريّ الفاعل الذي يضطلع به كبار الأقطاب في توثيق وتعميق علاقات حاضرتي العلم والمعرفة ، وترويج الكثير من أهل الرأي والنظر لفكرة مكمّليّة إحديهما للاُخرى ... كلّ هذا ونظائره خيرُ ناقض ومُبطل لتلك التصوّرات المغرضة والأفكار المريبة.

إذن بات من الواضح أنّ المرجعيّة العليا لم تؤسّس لمذهب فقهيٍّ ثالث في مسألة ولاية الفقيه ، وإنّما عملت بغاية ما يسمح به مبنى الولاية الخاصّة دون الأخذ بالولاية العامّة ; في فضاء معرفيٍّ واستنباط استدلاليٍّ ميدانيٍّ قلّ له النظير ، مع الأخذ بعين الاعتبار احترام سائر الآراء والأنظار ، سيراً على مبنى الحبّ والوئام والوحدة والسلام وتفويت الفرصة على المغرضين اللئام.


من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٥

مهامّ رجل الدين

السنون الطوال ، العِقدُ والعقدان والثلاثة ... دورةٌ أو دورتان اُصوليّتان كاملتان ، ولربما دورة فقهيّة كاملة ... حضورٌ دائمٌ في حلقات الدرس ، متابعةٌ قلّ نظيرها ، لا يثنيه المرض والسفر وغيرهما عن التواصل الفاعل .. خزينٌ علميٌّ هائل.

تمرّ الستون والتلقّي مستمرٌّ دون تصريف ، فلا تدريس ولا تأليف ولا تحقيق ولا تبليغ ولا نشر لقيم الدين ومبادئ الحقّ المبين ...

للأسف ، هذا حال الكثير من طلبة علوم الدين ، بل يرى البعض منهم أنّ مجرّد التمثّل بزيّ رسول الله والأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين والولاة الصالحين ومراجع الدين العاملين والعلماء المكرمين ، فيه الكفاية وكفى ، متناسياً أنّ اُولاء الأبرار استفرغوا ولازالوا يستفرغون الوسع لحفظ وترسيخ ونشر كلمة الرسالة بكلّ ما اُوتوا من علم وحكمة وإيمان وإخلاص على غاية من الصبر والقدرة والعزم والثبات.


إنّ الخزين العلميّ إذا لم يجد مخرجاً واستهلاكاً وفضاءً معرفيّاً تحلّق فيه الأفكار وتتحاور به الآراء فإنّ روح الإبداع تأفل رويداً رويداً ثم تضمحلّ وتموت ، حينها لا مراتب عليا ولا أمل بالمَلَكَة المبغى التي تقرّ بها عين الملّة والشريعة السمحة ، فلا زيادة إذن ، ومن لم يَرَ الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان ، ومن كان إلى النقصان فالموت أولى به.

إنّ حال الخزين العلميّ لعلّه كحال النتاج والبضائع التجاريّة من زاوية ما ، فلولا السوق والاستهلاك لما حصل الربح وتكثّر الإنتاج وتنوّع وتطوّر ونما ، بل تكدّس وتلف وفسد وهوى.

تعلّمنا أنّ طالب العلوم الدينيّة بما هو طالب علوم دينيّة وظيفته هي نشر علوم آل البيت (عليهم السلام) سواء عبر التدريس أو التأليف أو التبليغ أو التحقيق أو البحث ، أو بكلّ آليّة ووسيلة مشروعة مقرّرة من شأنها ترويج القيم والمبادئ السامية النبيلة .. فلا يمكنه تبرير عدم ممارسة المهامّ المشار إليها أعلاه ـ بما أنّه رجل دين وطالب علوم دينيّة ـ بممارسة النشاطات الاُخرى وصبّها في قالب خدمة المذهب والدين ، رغم ما فيها من الأجر والثواب ; حيث بإمكان غيره النهوض بها وليست متوقّفة عليه بالضرورة ، إنّما الضرورة هي وظيفة حفظ ونشر وترويج تعاليم الدين والمذهب الحقّ ، التي لا يستطيع غيره النهوض بها ، فلا مسوّغ لترك الواجبات بسواها.

ولعلّ بعض طلبة العلوم الدينيّة يرون أنّ الخدمات الاجتماعيّة


والخدماتيّة تجعلهم أقرب إلى قلوب الناس وعقولهم .. لكنّ الواقع أثبت خلاف ذلك ، فالناس كانت ولا زالت تجد في رجل الدين : الرائد والقائد والمرشد والموجّه والمعلّم والمربّي والناصح الأمين نحو دروب الخير والنجاة والفلاح .. ولا سوى ذلك أبداً.

وحينما يتغيّر الحال ويتعطّل الواجب الذي ينبغي لرجل الدين القيام به ، يتأسّس ذلك الشاهق الطويل الفاصل بينه وبين الناس ، فلا تعدّ له تلك الكلمة المسموعة ولا الرأي المطاع ، فتنأى عنه العقول وتجفو بحقّه القلوب ; كونه خرج ممّا ينبغي إلى ما لا ينبغي.

فكيف لنا تصوّر وتصديق الدين بلا رجال الدين بما هم رجال الدين؟! لذا علينا جميعاً استفراغ الوسع وبذل غاية الجهد كي تحافظ هذه الطبقة الشريفة والشريحة العظيمة والثلّة النبيلة على دورها الرياديّ المقدّس في صون الرسالة والذبّ عن ثوابت أهل العصمة والطهارة ... كي تبقى المؤسّسة الدينيّة بكيانها ونهجها ورسالتها وأهدافها وقادتها ورجالها كما هي عليه منذ غابر الأيّام وقديم الأعوام ، ملاذ الاُمّة الأمين وكهفها الرصين الآخذ بها صوب الهداية والفوز المبين.


الاجتهاد وحاجة المكلّف

الاجتهاد والاستنباط حركةٌ موّارة لا تعرف السكون والاستقرار بفعل حركة الفكر الدائمة بأدواتة المنهجيّة المعروفة ، من المراجعة والمقارنة والاستقراء والتحليل والقراءة الجديدة و ...

من هنا كان من الطبيعي أن تُلحَظ على الدوام مواطن النقص والخلل سعياً إلى ردمها وتجاوزها من خلال بذل الجهد العلمي ، سواء على الصعيد الفردي أو من خلال إنشاء مراكز ومؤسّسات ومعاهد ومعاقل مختصّة تمارس نشاطها العلمي المختبري التحليلي على الأبحاث والدراسات والمطالعات النظرية كي تصل إلى نتائج منسجمة متقنة تقودنا إلى رفع الخلل والنقص.

علينا أن نعي أنّ الناس يريدون نتائج وحلول جاهزة تبيّن لهم معالم طريقهم وتوضّح تكاليفهم بجلاء تام ، فلا ضمان بأ نّهم لن يتأ ثّروا سلباً بالتردّدات الكثيرة غير المحسومة ومناطق الفراغ الموجودة هنا وهناك ، التي جعلتهم في حيرة وضياع.


إنّهم بحاجة إلى حسم اُمورهم لا دفعهم إلى عناوين ومصطلحات تزيدهم حيرةً وضياعاً ، فلربما لا يدرك البعض منهم ولا يميّز ولا يدري ما هي الموضوعات والأحكام ثم الفرق بينها.

إنّ وظيفة الفقيه هي إخراج المكلّف من مستنقع التخبّط ، فلعلّه سيصرخ يوماً في فراغ الفكر والمعرفة : أيّ فقه هذا الذي لا يحسم لي تكاليفي ، أيّ اجتهاد هذا الذي يضيّعني أكثر ممّا يهديني. فالناس تريد أن تجد نفسها من خلال فهمها ومعرفتها المبسّطة لاُمور دينها لا أن يؤخذ بها إلى عالم الغموض والضبابية.

وهذا الأمر يسري إلى مباحث الاعتقادات أيضاً ، التي يعاني كثيرٌ من كبار رجالنا من ضعف مفرط فيها ، فتخبّطوا وتخبّط الناس معهم.

إنّنا بحاجة إلى ممارسة محاور العقيدة وجزئياتها بكلّ شفّافيّة ووضوح لا أن يُحجَز للناس تذاكر باهضة الثمن إلى عالم الخيال والميتافيزيقيا والغموض ، إنّهم يريدون أن يفهموا ويتعلّموا ويتدبّروا ويؤمنوا بكلّ وضوح وواقعيّة ، لا أن يساقوا إلى غوامض المصطلحات والعناوين ، إنّهم يطلبون حلاًّ وبرهاناً لمجمل إبهامات وغوامض العقيدة.


ظلّ المرجعيّة المباركة

ألقى ظلُّ المرجعيّة المباركة بثقله على كيان آل البيت (عليهم السلام) التحقيقي التراثي المشاد عام ١٤٠٤ هـ. وفي ذلك حقائق تبلورت ولوازم نتجت واُمور تبدّلت .. غدا هذا الكيان أشمخ وأهمّ وأشهر ، وصار قبلة الأطياف والألوان ، كلٌّ يغترف حسب حاجته ومراده .. سخاءُ الوكيل المطلق ذي المواصفات الخلقيّة الرفيعة لم يعد سرّاً خافياً على أحد ، إنّه يُمضي ويلبّي شتّى الطلبات بنسبها. أنّى حلّ السيّد واستقرّ تهوي له الناس بعقولها وأفئدتها وبطونها ، الناس تختلف باختلاف المكانة والمنزلة. قدّم آل البيت (عليهم السلام) التحقيقي تضحياته على طبق من ذهب رغم تحقّق الغطاء النفسي لكوادره ومنتسبيه الذين كانوا يطمحون بأمان اقتصادي يتناسب والواقع الجديد ، فبقيت أمانيّهم أمانيّ ولم يحصدوا منها إلاّ اليسير كما يعتقدون.

تكهّفنا بالمرجعيّة ـ فخرنا وعزّنا ـ ونما فكرنا وتقدّمت رؤانا أملاً وطموحاً ، نبقى واجهةً لها ، نحاكي ثقافتنا ومعرفتنا محاكاةً صادقة ونقولها للناس : إنّ المرجعيّة أب الاُمّة ، مفهومٌ يطير بنا إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) حينما صدح


بها : «يا علي أنا وأنت أبوا هذه الاُمّة» ، قيمةٌ تحلّق بنا في سماء التعامل العلوي رغم كونه الشقيق عقيل .. فلا اُسريّة ولا فئويّة ولا تكتّلاتية ولا رغبويّة. تكلّل التدبير والحكمة السيستانيّة ببروز التشيّع العقلاني ، العقلانيّة السيستانيّة التي غمرت الآفاق وصنعت توازنات جديدة أذهلت الصفّين وأبهرت الرأي العام الدولي ; بل راح صقور الشيعة يستنجدون بها علّ الضغط يخفّ عنهم.

لنكن بمستوى المرحلة ، نصيغ الرؤى ، نفعّل الفكر ، جذبتنا دعوات الإبداع ; إذ بها من المتانة والرشاقة والوثاقة ما لا ينكر ، كتبنا وقلنا : إنّ مركز الدراسات الاستراتيجيّة ; معقل المصادر الأكاديميّة ; تنظيم شبكة الوكلاء ; عرض الثقافة والنتاج المرجعي ; رعاية الكوادر المختصّة و ... حاجات ملحّة ، ضرورة حسّاسة.

لم تلق كتاباتنا ومشافهاتنا اهتماماً خاصّاً آنذاك ، بل ولا ربت دبلوماسي على الأكتاف.

تعاقبت الأيّام وإذا الآخرون باتوا أهل المبادرة والسبق في هذه المضامير ; وهنا مكمن الألم ، الكلمة منك مهملة لأ نّها منك ، الكلمة من غيرك محترمة لأ نّها من غيرك ، بعضهم قال : اُرجّح الانفصال كي اُحتَرَم كما يُحتَرَم زملائي الذين علموا السرّ وخفي عليَّ.

يقول : لا اُريد لأفكاري ورؤاي أن تُجَهض ولمّا ترى النور ، اُريدها أن تكون ، أن تطرق سمع المرجع الأعلى وتنال اهتمامه ، فلِمَ يبرمج فلان


من أجل «العالميّة السيستانيّة» ولا اُبرمج أنا ، بل «عالميّة السيستاني» الفاعلة هل تفتقر إلى عالميّة فلان ; لا أهدأ على الحجم والمقدار اللذين خُصّصا لي : أن أكون هنا ولا أكون هناك ، فأنا حركةٌ نابضةٌ بالفكر والشعور والإيمان.


المرجعيّة الدينيّة

نتداول : أنّ المرجعيّة الدينيّة مفهوم ربّاني يعيد للذاكرة نوع العلاقة التي كانت قائمة ـ مثلاً ـ بين علي (عليه السلام) وعقيل ، علاقة تخضع للقيم والمعايير العليا ، دون أن تهبط إلى حضيض الارتباط الاُسري أو الفئوي أو الرغبوي ..

أنّ المرجعيّة الدينيّة أب الاُمّة كما كان محمّد وعلي أبوي هذه الاُمّة ..

نتداول هذا ونحثّ عقولنا على ممارسته رؤىً ونهجاً وفعلاً كي يكون منقولاً إلى الناس بكلّ وعي وصدق وأمانة.

ولا شكّ أنّ رؤية المرجعيّة أدقّ وأعمق في معرفة ما لهذه النقطة من أهمّيّة خطرة لدى الناس وفي مقدار اقترابهم وابتعادهم ومراعاة شعورهم في هذا الاتّجاه.

إنّ المرجعيّة قيادة الاُمّة وقلبها النابض وضميرها اليقظ ، فلا غرو أن تكون بمستوى آمال الاُمّة وأرقى ; تثبت بحق أنّ العلماء اُمناء الرسل ،


اُمناء السماء في الأرض .. تسمو فوق الانتماء الضيّق والرغبة الوقتيّة .. فتكون المنهل العذب الصافي الذي يغترف منه القاصي والداني ، الفقير والغني ، العالم والمتعلّم ، الأسود والأبيض ، العربي والأعجمي .. إنّها محكومة بذلك ; بفعل حجم المهمّة الملقاة على عاتقها ، مهمّة نيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، مثلما نحن محكومون بالانقياد لها وإطاعة أوامرها والعمل بتوجيهاتها ونصائحها.


المرجعيّة خيارنا ، لماذا؟

معلومةٌ تفتقد التفكير السليم ، علمٌ يفتقر العقل المدير ، محتوىً هائلٌ منقوص التدبير .. لا غرو أنّها أشياء موهونةٌ كبيت العنكبوت ، أسلحةٌ لا تدفع ضيراً ولا تصنع أمناً ، ولعلّ عواقبها المعاكسة أكثر خطراً وأشدّ بلوىً.

ومن موانع التفكير السليم والعقل المدير والرؤى الحيّة النابضة بالتدبير : تلك الأوهام التي تعشعش في دهاليز العقول وأنفاق الأذهان وأخاديد الألباب ، أوهام العشيرة والقبيلة والحسب والنسب والمكان والزمان والظاهر واللباس : أتّكئ عليهنّ فيغدون الضامن والعصا التي بها مغنمي والاُخر من مآربي ، يكفيني أنّي أمتاز بهذا الخصائص فما الداعي إلى السعي الحثيث والجهد المرير لتحصيل وبلوغ ما هو أدنى من شأني الذي أنا فيه .. نعم عزٌّ واسمٌ وشأنٌ ... يمازجها غرورٌ وزهوٌ وكبرٌ .. هنا يتوقّف العقل عن العطاء والإبداع ، هنا يمرض الذهن وينشلّ اللبّ فتموت الرؤى ويعمّ السكون ، هنا تُمضى وثيقة الاستسلام الملعون.

لا أدري لِمَ شمختْ أمامي الآن وبالذات مرويّة الإمام الصادق


الشهيرة : «يا فضيل! تجلسون وتتحدّثون؟» قلت : نعم ، جُعلت فداك ، قال : «إنّ تلك المجالس اُحبّها ، فأحيوا أمرنا ، يا فُضيل! فرحم الله من أحيا أمرنا» الواردة في المصادر بتفاوت يسير؟

ولعلّني اهتديتُ إلى اُفق من آفاقها الرحبة يهتف في أعماقي صادحاً : إنّ الإمام (عليه السلام) لم يقصد بتاتاً الجلوس العبثيّ والحديث اللغو ، ولاسيّما أنّ مقدّمات الحكمة حاصلةٌ في المقام ، إلى ذلك قوله (عليه السلام) : «أحيوا أمرنا» ولا شكّ أنّ المراد بأمرهم عليهم السلام : فكر ونهج ومبادئ واُصول وسيرة وأخلاق ومقاصد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .. وهل يُحيا أمرهم (عليهم السلام) بمجالس العبث ولغو الحديث؟!

ومن نافلة القول الإشارة إلى المعروف عن الفضاء الحوزويّ النجفيّ : أنّ العلماء والفضلاء وسائر الطلبة إذا زاروا أحدهم لسبب ما سرعان ما يطرحون مسألةً علميّة ويشرعون البحث فيها نقضاً وإبراماً حتى ولو كانت على نحو التكرار ; تثميناً منهم لقيمة الوقت والعلم وسعياً نحو صقل موهبة التفكير وتمرين العقل على إدارة العلم بأفضل الأنحاء وأرقى الآليات والوسائل.

هلاّ تساءلنا : أين نحن من بوصلة العقل المدير والفكر السليم والرؤى الفاعلة؟ هلاّ أفقنا من سباتنا العميق وجهلنا الرهيب؟ هلاّ خرجنا من دائرة الأوهام الذليلة ونفضنا عنّا غبار الذاكرة المريضة ، إلى عزّ الفطرة السليمة والذاكرة الأزليّة القديمة ..


أما آنَ الأوان كي أصرخ في حناياي واُنادي بنداء الروح والضمير : مَن أنا ، ماذا اُريد ، أين المقصد يا تُرى؟ هل لي من هواء عطر نقيٍّ أشمّ فيه رحيق التحرّر من قيود التيه والضياع ، الخلاص من قضبان الاحتباس والضيق ، صوب آفاق العقل السليم المتسامي فوق العِرق والإثن واللون ... صوب أنوار فيوضات السماء التي عرّفتها لنا حجج السماء الظاهرة والباطنة؟

أما آنَ لنا أن نؤمن حقّاً بقاعدة اللطف الإلهيّ إيماناً فاعلاً بالعمل لا بالقول فقط؟ القاعدة التي يترتّب عليها نظمنا الدينيّ وتفكيرنا العَقَديّ بلوازمه وتواليه .. الذي يعني في ما يعني : ضرورة ممارسة الوظائف طبق الظرف الذي نحياه ، ظرف غيبة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، إمّا الاجتهاد أو الاحتياط أو التقليد في الفروع ، وعلى الثالث السواد الأعظم من الناس ، حيث يرجعون إلى الفقيه الجامع للشرائط.

هذا الفقيه هو النائب العامّ للإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف زمن الغيبة ، وأكثر ما يشدّنا إليه أنّه طبق مقبولة عمر بن حنظلة : رافضٌ لكلّ الأوهام التي تعطّل حركة العقل والفكر وداعمٌ لكلّ الرؤى التي تشيّد للذاكرة الأزليّة القديمة ـ ذاكرة العبوديّة للواحد الأحد القهّار ـ في الذهن البشريّ أرسى الاُسس وأتقن البنيان .. فنجده ـ أي هذا الفقيه ـ حاضراً في الوجدان ، مخترقَ الشعور والإحساس دون استئذان.

فلا عجب أن يكون المراجع العظام صمّام الأمان ومصداق الاطمئنان والملجأ والملاذ لطرّ بني الإنسان.


ولا ندّعي جزافاً إن قلنا : إنّ المرجعيّة الدينيّة قد أثبتت بنجاح باهر مصداقيّة الانتقال من أروقة ومختبرات ومراكز الثبوت إلى ميادين الإثبات وسوح الممارسة الممتازة والبلورة الرائعة لفكر ونهج ومبادئ واُصول وسيرة وأخلاق ومقاصد أهل البيت (عليهم السلام) ، ولا زالت جادّةً تبذل أقصى الجهد بأرقى خصائص التفكير السليم والكياسة والتدبير من أجل إحياء أمرهم عليهم السلام ، هذه المرجعيّة التي سرعان ما يُتبادر عنها أنّها رسّخت قيم الحبّ والاُلفة والسلام والخير والأمان ووقفت بوجه البغض والتفرقة والعنف والترويع برباطة جأش وصبر وعقل يرشح حكمةً وعنفوان.

حينما ننعم بنعمة المرجعيّة المباركة التي تنتشلنا ببصائرها الإلهيّة وربتاتها الأبويّة من حضيض الانتماءات الضيّقة والأوهام الزائلة إلى حيث (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) فما لنا بالمفضول إذن ، فما لنا بالمرجوح حينئذ ، والفاضل والراجح موجودٌ بأدلّة الترجيح والتفضيل التي لا غبار عليها ولا شكّ فيها؟!

من هنا كانت وستبقى المرجعيّة المباركة هي خيارنا زمن الغيبة حتى يأذن الله بظهور مَن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.


حقّ النَّظْم

يمنح «النَّظْمُ» الحياةَ جمالاً ورقّةً وتفاؤلاً وأماناً وحبّاً وازدهاراً وإيماناً.

«النظم» حصيلة علميّة معرفيّة حضاريّة قائمة على اُسس وأنساق ومبادئ وأخلاق.

إنّ الاُمم والمجتمعات والأفراد لمّا أخضعوا تطلّعاتهم وأهدافهم وحماسهم وجهدهم لمناهج وأدوات علميّة معرفيّة عبر المراجعة والحفر والبعثرة والتحليل والمقارنة والاستنطاق دون الجمود والركون والاستسلام ; لمّا قرءُوا الماضي قراءةً علميّة تفسيريّة دون التوقّف على السرد الحَدَثي لاكتشاف حاجة اليوم وإبداع خطط الغد ; لمّا انتزعوا من الفكر والفلسفة والتجربة والانتماء والهويّة مؤن البقاء والرقيّ والنجاة والتربّع على عرش الكون وتصدير القيم الحضاريّة والأخلاقيّة ... إنّما هو ناتج «النظم العلمي المعرفي» بغضّ النظر عن النوايا والغايات.

كلّ الرسل والأنبياء والأوصياء والصالحين والعلماء والقادة وسائر


الرموز قد التزموا النظم في رسالاتهم وعباداتهم وأخلاقهم وسياساتهم وأفكارهم وأعمالهم.

إنّ الملهم الأبدي في النظم هو الله تبارك وتعالى ; إذ بنى الكون وما فيه على أتمّ نظام وأكمل منهج وأفضل نسق.

من هنا كان الشتبّث بـ «اللاّنظم» حجّة واهية لمن رام الركون إلى التراجع والتبعيّة والتواكليّة ، لمن قاده الكسل إلى التمسّك بالقشور والأغلفة ; هرباً من الجوهر الكاشف للحقائق ; وتلاعباً بالمفاهيم والقيم المقدّسة طبق تراجعه وتبعيّته وتواكليّته وتكاسله ، ففسّرها على خلاف الحقيقة فأضلّ معه جبلاًّ كثيراً ، وهذه من الجنايات المروّعة بحقّ الدين ومبادئ الإنسانيّة.


نظم المرجعيّة الدينيّة

من السذاجة بمكان الاعتقاد بأنّ النظم الموجود في هيكليّة المرجعيّة قائمٌ عفويّاً دون مقدّمات واستشارات وتنسيقات وتوافقات وقرارات ...

ليس المقصود : ادّعاء أمر يحمل بين طيّاته إثبات خصائص الكمال والتمام دون نقص أو عيب ، بقدر ما هي زاوية مراقب رام التذكير والتوقّف عند حقائق بعض المحطّات ، ثم التأمّل فيها قدر ما تستحقّه من التأمّلات .. فلا يزعم إماطة اللثام من خلالها عن أسرار خفيّة ، أو يسعى إلى سبق خبري إعلامي ، فالأشياء واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار ، سوى أنّها تلتمس التدبّر والبصيرة النافذة.

لذا نقول مراجعةً وتذكيراً : مدينة النجف هي مركز قرار ; لوجود الحوزة العلميّة والمراجع العظام فيها ، ومن الطبيعي أن ترنوها الأنظار في شتّى القضايا والأحداث ترتقب الرأي والبيان والفتوى ... ولازالت هذه الحالة منذ أمد بعيد والنجف تضطلع بالدور المفصلي في رسم مستقبل العراق على وجه الخصوص والتشيّع المعتدل العقلاني على أوسع النطاق ،


حتى اضطرّت مراكز القرار العالمي والإقليمي إلى الإذعان بحقيقة كون النجف تشكّل ثقلاً كبيراً في تحديد وحسم الملفّات الساخنة والمصيريّة.

وتظهر الظرافة بجمالها وإناقتها في ظرفنا الراهن حين تصنع الفكرة ويصاغ القرار في مدينة النجف ويعلن عنهما في مدينة كربلاء ، تؤسَّسان حيث عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، ويزاح الستار عنهما حيث الحسين (عليه السلام) .. رسالة تواصل وتناغم وتضايف تحمل أكثر من قصد ومفهوم ومعنى .. رسالة صارت بها جمعة كربلاء مهوىً مضاعفاً لقلوب وعقول الملايين وهي تصغي للمرجعيّة الدينيّة ـ عبر ممثّليها ـ لتدلي بدلوها وتقول كلمتها.

كما لا يمكن تغافل الحركة المحورية التي تُدار في مدينة قم الإيرانيّة ، سواء إبّان مرحلة التأسيس وما شابها من صعاب وحواجز وضغوطات قد اُزيحت كلّها بفعل الحنكة والفطنة والكياسة وحفظ التوازنات ، بل واستطاعت أن تمهّد السبيل للارتقاء بعلاقات النجف وقم وطهران إلى أفضل ما يكون .. أو سواء بإنشاء المراكز الثقافيّة والاجتماعيّة والخيريّة المفيدة.

هذا ، وتمكّن التواصل البنّاء بين قم والنجف ، بين النجف وطهران ، من تذليل الصعاب وتقريب الآراء وتضييع الفرص على مروّجي الفتنة واصطناع الخلافات.

ولا ننسى مشهد ولندن وبيروت وسائر البلدان بمؤسّساتها التابعة أو تلك المدعومة من المرجعيّة الدينيّة ، ودورها في خدمة الدين والقيم


الحقّة .. التي بإمكانها أن تلعب دوراً أكثر فاعليّة من خلال توسيع رقعة العلاقات والنشاطات ، ثم بجهود أرقى للتواصل الممكن مع مختلف المحاور والأركان.

هذا نظمٌ رغم عدم إمكان إنكاره وتجاوزه والتغاضي عنه ، إلاّ أنّه لا يمنعنا من الاشارة إلى : أنّ الحسابات الدقيقة كفيلةٌ بالوقاية من خطر السقوط في فخّ الفجوات التي يصعب جسرها والهفوات التي يتعسّر تصحيحها ، فالكلّ كما يبدو وكما ينبغي أن يكونوا ـ وهم بهذا الحجم وبهذه المسؤوليّات الملقاة على عواتقهم من قبل المرجعيّة المباركة ـ مترفّعون متسامون فوق المنافع الذاتيّة لأجل المصالح الجمعية ، فيتحرّزون عن الفعل والقول والتقرير وكلّ ما من شأنه إثارة المشاكل وإيجاد الفواصل ، ولعلّ كلمة تُكتَب أو همسة تقال ـ ناهيك عن محاضرة وخطبة ومقال وكتاب ـ قد تصنع ما لم يستطع صنعه إلاّ وسواس الشيطان في القلوب والعقول والنفوس ، فتهوي أو تتصدّع بذلك صروحٌ شيدت بتعب السنين والأعمار ، صروحٌ من الحبّ والاُخوّة والوئام.

هذا من نافلة أنّ المرجعيّة الرشيدة توصي عموم الناس وتؤكّد وتصرّ وتنصح بالتواصل والاُخوّة والمحبّة ... فكيف بالحلقات المحسوبة عليها؟! ولاسيّما نحن نخوض ونرقب ونتأمّل نظمها ونشهد ونلمس حكمتها وفيوض بركاتها.


من يهتمّ بنا من يعتني بأخطائنا؟

لا كلام في أنّنا نخطأ وننسى ، قلّ ذلك أو كثر ، بآثار مترتّبة عاجلاً أم آجلاً ، فكلّ إنسان مسؤول عن حريم ذاته وما يرشح منها من قول وفعل وتقرير ، الأمر الذي يُفهَم منه عدم تحمّل مسؤولية ما يصدر من الغير ; بناءً على معنى : (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (١) و : (كُلَّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٢) ونظائرهما.

وقد تأسّست مذاهب أخلاقية وفكرية وثقافية وعَقَدية جعلت من قاعدة «عليك نفسك» منهاجاً فلسفياً يضمن ـ حسب مدّعاها ـ حياةً حرّةً كريمةً وعاقبةً حسنى ; فإذا صلحت النفس صلح المجتمع ، فلا عناية ولا اهتمام إلاّ بالذات بمعناها الأخصّ!!

هنا محلّ الاختلاف في فهم معنى الذاتية ، فنحن نفهمها بمعناها الأوسع المترامي الأطراف ، فالذات ليس هي الذات بالمعنى الأخصّ ، إنّما هي الإنسانية والاُمّة والمجتمع والمحلّة والاُسرة والفرد على السواء ،

__________________

١. سورة الإسراء : ١٥.

٢. سورة الإسراء : ١٣.


فـ : «عليك نفسك» تعني : عليك الإنسانية و ... ; إذ السعادة بطرّ مفاهيمها السليمة هي أن يسعد الجميع.

إنّ حجج الله الظاهرة والباطنة ما كانت ولن تكون إلاّ لأجل البشرية جمعاء ، هكذا هي رسالة الأنبياء والأولياء والصلحاء ، وهكذا هي رسالة العقل ، رسالة الأخلاق والحكمة العملية.

لم يشذّ محمد بن عبدالله خاتم الرسل والأنبياء (صلى الله عليه وآله) ولا الأئمّة النجباء (عليهم السلام) عن العمل بهذه الرسالة المقدّسة بكلّ ما اُوتوا من عقل وبصيرة وقدرة وبرهان ، وعلى إثرهم سار نوّاب الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ; إذ الفقيه الجامع للشرائط هو ذاك الفقيه الذي من أركان مهامّه حفظ الدين وإطاعة أمر المولى ، وكيف يتحقّق الحفظ والطاعة طبق تفسير «الذات» بذاك المعنى الأخصّ؟!

لم تألُ المرجعيّة الدينيّة جهداً على درب إرساء مبادئ الرسالة وقيمها وأصولها ، إرساءً ميدانياً ، بما تمتاز به من حكمة ودراية وعلم وإحاطة وأخلاق عملية ، فتسامت فوق كلّ الرغبات إلاّ رغبة العمل الجامحة ببالغ الإخلاص على توفير بيئة المحبّة والوئام والأمان والسلام لطرّ بني الإنسان ، بنبذ العنف والفرقة والاستبداد والظلم وشتّى مفاهيم الطغيان ..

فكم وكم سعت وتسعى لجسر الهوّة وردم الفجوة ورأب الصدع الذي أحدثه الآخرون بفعل أخطائهم وغفلاتهم ونسيانهم ورغباتهم


وتشبّثاتهم وتعنّتاتهم ، هذه المساعي التي لولاها لا بتلع الغرباء سائر ما عزموا على ابتلاعه ، ناهيك عن هتك الحرمات والتجاوز على المقدّسات والعبث بمصير الناس.

لا شخصنة للقضايا في قاموس وأخلاق وديدن المرجعية ، فهي خارجة عنها موضوعاً ; حيث تنظر وتحلّل وتدقّق وتقرّر طبق المبنى ، مبنى الرسالة والشريعة الخالدة ، همّها حفظ الدين والقيم الرائدة ، ومن باب الاُبوّة والإشراف والمسؤولية نجدها تداري وتنصح وتوجّه وتعالج وتطرح الحلول التي تردم وتصحّح المسار.

مخطئ من يعتقد أنّنا نعاني مثلما المرجعيّة تعاني ، إنّها تكابد الآلام وتعيش الهموم وتتحمّل المصائب بما يتناسب مع مسؤوليتها العظيمة ومهمّتها الكبيرة عبر إدارة شؤون الدين والعباد بغياب بقيّة الله آخر آل العصمة آل العزّ والأمجاد ، متأسّيةً بالرسول الأكرم وعترته الميامين الأسياد الذين عانوا ما عانوا في سبيل حفظ الدين والقيم وإدارة شؤون العباد.

أليس من الإنصاف بمكان أن نشكر الباري تبارك وتعالى أن منّ علينا وعلى البشرية بأسرها بمرجعيّة تدعو وتعمل من أجل السعادة المنشودة على أساس مبادئ النبل والشرف والكرامة الإنسانية ، بدل أن نتيه في إصرارنا على رغباتنا التي لا تثمر سوى مكاسب محدودة تذهب بها الريح سريعاً وتحفر ندب سوداء لا تزول عاجلاً؟!


الأروع في القائد

ما أروع أن يكون القائد على مسافة واحدة من الجميع ، أيّ قائد كان ، قائد الاُسرة والخليّة والفصيل والمجموعة والكيان والمدينة والبلد والعالم بأسره ، لا يفرّط بهذا لأجل ذاك ، إلاّ بملاك الحقّ والعدل وتحقيق المساواة ، يتأ نّى كثيراً قبل اتّخاذ القرار ، تأ نّياً ناشئاً من الحكمة والتدبّر والتأمّل والكياسة والفطانة والتعقّل ، وهذه صفة القائد الذي يروم الأخذ بالرعيّة إلى مواطن العزّ والخير والازدهار.

ما أروع أن يكون القائد قائداً حين المحنة والفتنة وصعاب الأيّام ، فلا يألُ جهداً في حلّ الأزمة ولا يهرب إلى الأمام ، إنّه لابدّ أن يكون الحكيم المدير المدبّر الذي يحفظ التماسك والانسجام ويرأب الصدع ويردم الفجوة ويسدّ الهوّة ويلحم الشرخ.

ما أروع أن يبدو في أرقى مراتب الالتزام والتقيّد بالاُسس والمبادئ التي جاهد وساهم في بنائها وتحقّقها وديمومتها.

أن يتعامل مع الوقائع والأحداث تعاملاً علميّاً منطقيّاً واقعيّاً.


أن يزيح شبهة الفرديّة والاستبداد والعنف والرغبات الذاتيّة.

أن يعني وجوده الأمان والعدل والنظام والازدهار والنعمة والرفاه.

أن يعلم متى يقول قول الفصل القاطع لكلّ نزاع وخصام ولجاج.

إنّ القائد إذا استطاع النفوذ إلى العقول والقلوب فقد حاز الثقة ، ومن حازها فقد اُوتي خيراً كثيراً.

إنّ القائد هو الذي لا يفرّط بما اُنجز وتحقّق ويسعى إلى كسب المزيد.

ما أروع أن يمتلك القائد كلّ ما للقائد من صفات وخصائص ومزايا ...


قادتنا

غالب الناس يهوى المجد والشهرة والجاه والسلطة والمال والسفر والنساء ، وسائر ملذّات الدنيا ومفاتنها الغرّاء ، ويسعى إليها بالطرق المشروعة وغير المشروعة ، والقلّة هي التي تختار وتمتاز بالزهد والتواضع وشظف العيش ، وإذا ما قصدت فضاءات العلم والثقافة والمعرفة فإنّها لا تقصدها بما هي زخرف الحياة ومظهرها ومسرح تفاخرها واستعراضاتها وغاياتها الرخيصة وأهدافها البغيضة ، بل بما هي وسيلة لبلوغ مراتب الكمال والشرف والنبل الإنساني ، بما هي مصدر إشعاع فكري يعمّ سناه عتمات الروح البشريّة التي تطلب النجاة من حضيض الضلال وأودية التيه والحيرة السحيقة.

نعم ، لكلّ شيء ثمن ، فثمن الفوز بالدنيا ولذائذها ومفاتنها هو علوّ النفس البهيمية وهبوط النفس الإنسانية التي كرّمها الله تبارك وتعالى أجلّ تكريم. وحينما تكون النفس البشرية مهيّأة لفقدان العزّ والشرف والخصال الحميدة لحساب الشهرة والمال ... فإنّها تهوي حيث أدنى المراتب لا يفصلها ولا يميّزها عن النفس الحيوانية سوى الشكل والظاهر ..


لكنّها حينما تسمو فوق اللذّة ومغريات الدنيا تراها تتوهّج نوراً ينداح به الخير أيّ اندياح ، وتعمّ البركة وتنتشر أيّ انتشار .. إنّها النفوس المؤمنة الصالحة ، إنّها دررٌ ناصعة على غرّة البشرية ولآلئ مشرقة على جبين الإنسانيّة ، لا تقدّر بثمن ولا تعوّض بأغلى الجواهر والحلل .. إنّها القلوب التي امتحنها الله للإيمان والعقول ، التي أختبرها للتقوى فحازت رفيع الدرجات وسامق الرتبات ، حتى تسابق الخلود ليضرب معها موعداً كي يحظى بشرف قبولها الانضواء تحت بيرقه ولوائه ، فلم تعتن ولم تبال بعرضه وإصراره ; كونها ضربت موعداً مسبقاً مع الرسل والأنبياء والأولياء النجباء ، أقسمت أن لا تخلفه بتاتاً.

لنا برسل السماء والأوصياء والصلحاء والأبرار اُسوة حسنى.

لنا بهم علقةٌ لا تفتر قواها ولا تضعف وشائجها أبدا.

لنا بأقطابنا وأعلامنا ومفاخرنا أواصر لا تنفكّ حبائلها ولا ينفرط عقدها قطعا.

لنا برموزنا حلقاتُ وصل وثيقةُ العرى لا تنفصم جدّا ، فهم المثل الحيّ الأعلى في الشرف والنبل والإخلاص والإيمان والتقوى.

إنّهم خزائن العلم وينابيع الحكمة ومصاديق الرضوان ، بهم نستشعر الأمن والسلام ، ومنهم نتعلّم الحبّ وسبل الوصول إلى هدى الرحمن.

رحماك يا ربّ ، ارحمنا بالوقوف على أنعامك وبركاتك وقوفَ المخبتين العارفين الشاكرين العاملين الحافظين ، ارحمنا بابتهالاتنا


وتضرّعاتنا إليك حين تحرس قادتنا وصلحاءنا وأخيارنا وسائر مؤمنينا بعينك التي لا تنام ، وتلبس المرضى منهم لباس الشفاء والعافية. إنّك سميعٌ مجيب دعواتنا القاصدة صادق القربة وأرقى درجات العبودية.


أثر التناغم بين الخطاب والقراءة

مدنيّة الإنسان الطبعيّة تستدعي اعتماد الأُسس والقوانين الانثروبو ـ سوسيولوجيّة ، تلك التي تنتظم بها شبكة الحياة وتبقى ، إنّها حياتنا حيث بدأت على غاية من البساطة ثم آلت إلى ما عليه الآن من التعقيدات المحكومة بالتطوّر نحو الأرقى .. ما يخصّنا هنا العلوم الإنسانيّة النامية أُسوة بنظائرها من العلوم الأُخرى رغم تباطؤ عجلتها غداة النهضة الصناعيّة التي كدّرت صفو فضائها لصالح العلوم الطبيعيّة بمناهجها الأمبريقيّة التجريبيّة المحضة ونتاجها الشهير «مبدأ الميكانيكا» .. ذلك التباطؤ المستمرّ حتى بدايات القرن العشرين حين انبعثت «حلقات فينّاً» المعروفة وبزوغ شمس «مبدأ الاحتمال» .. التي أعادت التفكير العلميّ المعرفيّ الجادّ بضرورة وجود قوّة عليا تدبّر وتدير الكون ، فعاد الدين من جديد فاعلاً قويّاً وعادت العلوم الإنسانيّة كي تواصل نموّها باضطراد وعمق كبيرين .. فرشحت في حقول العقل الثاني ـ أو ما يسمّى بالأخلاق والحكمة العمليّة ـ آراءٌ راقية وأنظارٌ رفيعة ومناهج كثيرة تأسّست على إثرها المذاهب والمدارس الفكريّة المختلفة ، وغدا ترابط العلوم بشتّى


مضاميرها ضرورةً لا غنى عنها أبدا ، فالبنيويّة ـ مثالاً ـ ثم المُحدَثة منها والحداثويّة والقصديّة والتداوليّة والسيميائيّة والتطوّر الدلاليّ و ... لا غنى عنها اليوم في أروقة العلوم الطبيعيّة وكذا العكس. وممّا يزيد الأمر أهمّيّةً وخطورةً أن صار العالم أشبه بقرية ونقطة كونيّة واحدة بفعل التطوّر التقنيّ الهائل.

وكما كانت هي منذ البدء ، فمحوريّة الإنسان باقيةٌ بلا أدنى تغيير حتى قيام الساعة ; إنّها إرادة السماء الثابتة ، فلن نجد لها تبدّلاً وتغييرا .. ولا ريب أنّ نتاج الإنسان عبارةٌ عن قول وفعل وتقرير ، ونعبّر عنه هنا اختصاراً بـ : «الخطاب» ، كما نعبّر عن قراءة القارئ وسمعه ونظره وتلقّيه عموماً بـ : «القراءة».

استناداً إلى كون «التبادر» علامة من علامات الحقيقة ، وأنّ الظاهر حجّة ، واعتماداً على الأُسس الانثروبو سوسيولوجيّة التي تنتظم بها شبكة الحياة ، وإشراكاً للعرف في معترك الأطراف ، وأخذاً بالمنهج المعرفي في نحويّة علاقة «الخطاب» بـ : «القراءة» .. التي تُعدّ كلّها أداةً ووسيلةً من أدوات ووسائل العقل الثاني ، الوليد القادم من رحم العلوم الإنسانيّة الآخذة حظّاً وافراً من التطوّر منذ بدايات القرن العشرين ولا زالت منطلقةً إلى الأمام بازدهارها وشموخها ..

استناداً إلى كلّ ذلك ، فلابدّ حينئذ من وجود التناغم بين الخطاب والقراءة ، التناغم الذي يعني صحّة انتقال ذهن قارئ الخطاب من اللفظ


إلى المعنى المقصود منه بالضبط ، بلا منطقة فراغ قد تمهّد لأفهام ومحامل خاطئة. بلا أدنى ذريعة وحجّة تأويليّة قد تهوي وتضمحل بها أتعابٌ عظيمة وجهودٌ كبيرة.

إنّ المقاصد والنوايا الحقيقيّة لابدّ أن تمازج الخطاب وتُستنبَط منه دون شكٍّ وترديد ، على غاية من الوضوح والشفّافيّة ، حتى لا نقع في شرك التأويل وطائل التبرير ومشقّة التوضيح التي مهما بلغت من المهارة والبيان فإنّها لن تستوعب إلاّ أُفقاً ضيّقاً من آفاق القارئ المترامية الأطراف ، لذا قالوا وما أحكم ما قالوا : الوقاية خيرٌ من العلاج.

عالمُنا اليوم ما عاد يحسب للتورية ـ مثالاً ـ حساباً خاصّاً ، إنّه عالم التبادر والظاهر ، إلى ذلك : فإنّ الصراع المحتدم في العصر الراهن بين فضاءات المعرفة والفكر والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والفنّ ... لا يفهم ـ للأسف ـ سوى لغة الربح والخسارة والنيل من الخصم والغريم بشتّى الطرق المشروعة وغيرها.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ موضوع «التقيّة» خارجٌ عن محلّ البحث تخصّصاً ; إذ مفهوم التقيّة بتعريفه وشروطه وحالاته وظروفه لاصلة له بما نحن فيه ; حيث الفرض في ما نحن فيه تلك الوضعيّة العاديّة الطبيعيّة التي لا يُقصَد بها سوى الواقع والحقيقة بما هما هما.

لذا نعود ونقول : علينا أن نكون بمستوى الظرف وأن نتكيّف معه طبق المطلوب بحفظ الأُصول والقيم والمبادئ التي نؤمن بها ونذود عنها ،


سيراً على خطى ونهج المعصومين الكرام (عليهم السلام) ونوّابهم مراجع الدين العظام ، الذين عرّفوا لنا الدين بأ نّه : سهل سمح ، جليّ المعالم والآثار ، واضع الأُمور في نصابها الصحيح ، قارئ المتغيّرات قراءة العارف الخبير ، حافظ الثوابت حفظ القويّ الجدير ، متكيّف تكيّف المستقطب المدير.

وممّا يثلج الصدور ويجعلنا نشعر بالفخر والاعتزاز أجمل شعور : أن منّ الله تبارك وتعالى علينا وعلى البشريّة جمعاء بسيّد حسيني عارف حكيم حليم ذي قلب كبير ولبٍّ منير ووقار مثير ، ناغَمَ خطابُه أفهامَ قارئيه وسرى إلى عقولهم خير مسير ، بإخلاص ونقاء وشفّافيّة وأفكار عجز عن استباق قراءتها القارئون الحاذقون والمختصّون العارفون ، فلا مجال لمناطق الفراغ والشكوك والترديدات والتأويلات أن تنشأ وتكون في ظلّ الانسجام والتواصل بين المرجع الأعلى سيّدنا السيستاني الهمام أطال الله تبارك وتعالى بقاءه على رؤوس الأنام وبين الأُمّة الهائمة في صدقه وثباته وإيمانه أرفع هيام ... كيف لا؟! فهو صمّام الأمان وملهم الحبّ والسلام ومجدّد الأمل ببلوغ مرافئ الاطمئنان والمصداق الأرقى والنموذج الأوفى لشرائط مقبولة ابن حنظلة التي لها من الشهرة مالها.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


أنا خادمٌ لكم

يتعسّر على الفكرة أن تتناسى أهلها وتتجاهل محيطها ، فإنّها إن كانت غريبةً عن بيئتها واُناسها ، غير آبهة بقيمها وعاداتها وتقاليدها ، راشحةً من قصور الترف ومسارح الاستعراض ومنابر الأوهام ، سنجدها سريعة الاُفول والاضمحلال ، آنيّة الظهور مصيرها الزوال .. بخلاف الفكرة التي تلد من رحم الواقع ، من ذات الهويّة ، من عمق الألم والمعاناة ، ألم الحاجة ومعاناة الافتقار ، أيّاً كانت الحاجة والمعاناة : معرفية أم ما سواها من الحاجات والمعاناة الإنسانية ، فإنّها تشقّ طريقها في فضاءاتها وآفاقها كضياء الشمعة الذي لو اجتمع ظلام العالم كلّه على إطفائه لما استطاع ..

نعم ، إنّها الضرورة ، ضرورة الألم والمعاناة ، فلولاهما لما ألق العقل وسمق الفكر ولا حفرنا بحثاً عن جواب السؤال الكبير ولارمنا عثوراً على الحلول القمينة والوسائط الأمينة التي تبحر بنا صوب مرافىء الفلاح وسواحل النجاح.

إنّ العقول مصانع الأفكار ، وحريم الأفكار وشعاعها مناطق العلم


وأحياء الثقافة ومعاقل المعرفة ، إذن هنا سلطة العقل ، هيمنة الفكر ، ولا سطوة للغرباء هنا ، هكذا المفروض وهكذا ينبغي أن يكون.

حقيقة الألم تكمن في اضطراب الموازين واختفاء الملاكات وتغيّر الضوابط ، ففي عقر دار العلم والثقافة والمعرفة ـ المؤمنة ـ تألق الرغبة وتشمخ الشهوة ، فتعتلي «الحرباء» منصّة الإمارة ، ويزدهر سوق الأصنام والتماثيل ، فلا يُسمَع إلاّ صوت التزلّف والملق ولا يُقرأ إلاّ كلام التقرّب والوصل .. وعلى نَخْب الحضور وصحّة المولى يسقي الندماءُ الحفلَ شرابَ النصر ، أيّ نصر باهت هذا الذي يؤخَّر به العلم وهو مقدَّم ويتقدّم به الجهل وهو مؤخّر ، أي حفل بائس هذا الذي تُستذلُّ به المعرفة وتُهان فيه الثقافة ويُرفَعُ في باحاته البراجماتية شأنُ الببغائيّة والاستبعادية والاستبدادية والأهواء الذاتية؟!

وا أسفاه على اُمّة ومعاقل وفضاءات يسلَّط فيها جهلتها على علمائها وسوقيّيها على نُخَبها ، وحفاتها على طاقاتها ، بل الويل لها والثبور أن شقّت في الصميم جرحاً لا يندمل أبد الأزمان والدهور.

حقيقة الشموخ تكمن في أن تتواضع الأعلام والرموز وهي في ذروة الرفعة وقمّة العطاء ، ولا تقول ولا تدّعي ولا تتمنّى سوى أن تكون خادمة الدين والعباد ، بكلّ صدق وصفاء وخلوص ، فلا عجب أن تؤتى هذه الثلّة المباركة الحكمة (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (١) ..

__________________

١. سورة البقرة : ٢٦٩.


ولكن كم هو مؤلم أن تتواضع الأعلام والرموز بينما تتغطرس الهوامش والفروع وتعلو بكلّ زهو وغرور ، متناسيةً كيف كانت وكيف أصبحت بفضل الأصل والمتون ، غافلةً عن قوله تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (١) وقوله تعالى : (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور) (٢).

ملأى السنابل تنحني بتواضع

والفارغات رؤوسهنّ شوامخ

عزاؤنا أنّ المعرفة السليمة بأركانها وشروطها وخصائصها وتعريفاتها ترفض الرضوخ لسياسة الأمر الواقع ، فتظلّ أبداً ضمير الاُمّة وعنوانها الباسق ، شريان حياتها الدافق ، صوتها الرفيع وحرفها الأنيق ، فصل الخطاب وخطاب الفصل الرشيق ، فأ نّى لها أن تُحتَقَر وتُضام ويعلوها الزبد وغبار الأوهام.

المعرفة المعهودة هي وحدها التي تبقى تحتجّ وتعترض على الواقع المرير وتعمل على التغيير وتصحيح الأخطاء طبق المنهج العلمي السليم وأدوات البحث القويم ، فتصنع الرؤية والحلّ اللذين يحفظان المبادئ ويكسبان العقل الجمعي ويرعيان الظرف ويُبرئان الألم ويرفعان المعاناة ويلبّيان الحاجة قدر المكنة والاستطاعة. على أنّ كلّ خطوة وعمل يفتقدان القربة إلى الله تبارك وتعالى فمآلهما الفشل والخسران المبين.

__________________

١. سورة الرعد : ١٧.

٢. سورة النور : ٤٠.


ذلك الإنسان الكبير

طريق الكمال وعرٌ عسير ، مؤلمٌ خطير ، طويلٌ مرير ، يفتقر رباطة الجأش والعمل والعطاء ما لا يبلغ لغته أدبُ المفردات وفنّ المشافهات. إنّه يشترط عهد التزام حقيقي بالذاكرة الأزليّة ولوازمها وما تمليه من بنود ومناهج وأحكام ، على العقل والقلب أن يحسنا التعامل معها باستخدام الأدوات المناسبة والآليات السليمة التي تؤمّن قطف المراد وحصول المطلوب.

إنّك حينما تتأمّل ذلك الإنسان الشهير الكبير وهو يختار العيش الزهيد بما يعنيه العنوان من معنى ومفهوم صحيح ، رغم التمكّن من الحياة الفاخرة بكلّ مواصفاتها ، ماذا ستبادر في الذهن والإحساس من تساؤل؟

ماذا تفسّر وقوفه الدقيق على الأحداث والقضايا وقوفاً مذهلاً ، ومتابعاته الفاعلة لنتاجات ميادين العلم والمعرفة والثقافة وموسوعيّته التي نالت الإعجاب والإطراء؟

أمّا الخلق السامي والأدب العالي والتواضع المثير فإنّه مورد


الاتّفاق ، ناهيك عن جاذبيّته وتأثيره في النفوس بتلك البساطة ووضوح المفردة وسلاسة كلامه ، فتلمس فيه الصدق والإخلاص والنقاء والإيمان.

إنّك بحضوره تشعر أنّه إنسانٌ ليس كباقي الناس ، إنسانٌ ليس كما كنّا قد رسمناه في عقولنا وقلوبنا ، إنسانٌ يجعلك أقرب إلى الخير وأبعد عن الشرّ ، تنشد الهداية وتلفظ الضلال ، تبحث كي تعرف وتعرف كي تبلغ .. ثم تعود لتتساءل : ما معنى ذلك؟

ماذا تفسّر إحاطته بما يجري ويحصل من أفعال وممارسات على الصعيد العامّ أو في ما يخصّ المحسوبين عليه ، إحاطةً شاملةً عبر شتّى السبل والمنافذ ، فتجده ذلك المدبّر الحكيم في مواجهة الأوضاع الخاطئة والمشكلات الحاصلة ، دون أن تلحظ منه موقفاً انفعاليّاً ; كونه هكذا لابدّ أن يكون ، وليس هذا حديث عهده إنّما هو المشهود منه منذ سالف الأيّام.

استطاع بفعل العقل الناضج والذهن الوقّاد والقلب السليم من التعامل مع الخطوب والصعاب تعاملاً منبعثاً من ذلك النهج الذي خطّته مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وبلورته الرموز والأقطاب بلورةً رائدة.

إنّ اُسلوب حياته ونوعيّة تفكيره وخصائصه المعروفة وغير المعروفة إلاّ لدى البعض وطريقة تعامله مع الاُمور والمسائل المختلفة تشكّل ظاهرة فريدة من نوعها تستدعي جهود الباحثين والمتخصّصين والنقّاد للتعمّق فيها ودراستها بكلّ جدّيّة ومثابرة ; للإفادة من تجربة نابضة بالإنسانيّة والمعرفة والحكمة والأخلاق ، ثم تدوينها والترويج لها


ونشرها ; كي تغرف من معينها المواهب الناهدة والطاقات الطامحة لبلوغ مراتب العزّ والكمال.

وليس لنا الحقّ أبداً ـ بلا علم وتثبّت وفهم للأسباب والدواعي ـ تسجيل الآراء والملاحظات التي تعنيه مباشرةً أو تعني الفضاء التابع له أو الأعمّ منهما ; لأمرين أساسيّين :

أحدهما : إنّنا غير مؤهّلين ولا قادرين على إصدار الأمر أو تعيين التكليف لشخص مثله.

ثانيهما : إنّه واقفٌ بلا شكّ على كلّ ما يجري بفعل المقام المعهود والدور الهامّ ، ومن القبح بمكان أن نعتقد بأ نّه لم يفعل شيئاً لتغيير الأوضاع الموجودة والأخطاء الحاصلة ، والأدلّة والقرائن والمؤيّدات كثيرة في هذا الباب ـ لا يناسب الحال ذكرها هنا ـ تشير إلى بذله كلّ ما بإمكانه تحسين الأحوال بما يتناسب مع مبادئ الدين والأخلاق والقيم الحقّة.

يكفينا فيه أنّه حركة في سكون وسكون في حركة ، يكفينا إصراره العجيب على إخفاء علمه المدوّن رغم استفهام المغرضين وغيرهم ، يكفينا أنّهم لم يجدوا فيه ـ رغم أنّ الكمال لله وحده ـ ما يشفي غليلهم أو يمنحهم الحجّة في الانتقاص منه.

إنّه إنسانٌ مثل باقي الناس في الخلق والتكوين لكنّه ليس مثلهم في السيرة والسلوك ، لقد اختار الطريق الوعر العسير ، المؤلم الخطير ، الطويل المرير ... قاصداً الكمال الإنساني المنشود.


أمّا نحن ، فما علينا سوى العمل بالتكاليف ، وربما استدعى التكليف مشافهةً أو مكاتبةً تفصح عن معلومة أو رؤية أو شكوى وبثّ هموم ... بهذا المقدار ، بلا استعجال الآثار والنتائج.

لسنا صنميّين ولا رافضي حرّيّة الرأي والبيان ، نسعى أن نكون حواريّين قدر الإمكان وأن نعتمد نهجاً ونسقاً يقودنا إلى كسب المطلوب بأقلّ أضرار ممكنة وأكثر أرباح ميسّرة.

مبنانا ودأبنا الانفتاح مهما أمكن مع حفظ الاُصول والثوابت ، انفتاحاً يتّخذ الحوار والنهج العلمي المعرفي سبيلاً أساسيّاً للانتصار لقيمنا ومبادئنا ، بلا استبداد وتطرّف وتفرّد وانتهاك لحقوق الآخرين.

رائدنا المضامين المقدّسة التي اعتمدتها مدرسة العصمة والطهارة وسار عليها علماؤنا وفقهاؤنا ونخبنا وكوادرنا والمؤمنون والصالحون.

نرفض الشعارات الجوفاء والمظاهر القشريّة والمواقف الاستعراضيّة ، نعتقد بالجوهر والعمق والأصل سبيلَ الحلّ والفلاح والهداية الربّانية.


لا مناطق فراغ بين الفقيه والناس

منذ البدء مثّل الدين ـ بمختلف ألوانه وأساليبه وتعبيراته ـ حاجة إنسانية لا غنى عنها ، ولم تحدّ المناهج الإلحادية من وهج الدين رغم النهضة الصناعية التي نادت بقطع دابره والانتصار لمبدأ العلّية بنظرية الميكانيكا التي ذاع صيتها وتوسّعت آفاقها وحلّقت عالياً في فضاءات العلم والمعرفة ، وقابلها تراجعٌ ملحوظ في العلوم الإنسانية حتى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، حيث تشكّلت «حلقة فيّنا» التي رشح عنها جملة نظريات وآراء ـ أشهرها نظرية الاحتمال ـ قوّضت نظرية الميكانيكا وحسرت مدّها ، فعاد الدين فاعلاً من جديد وازدهرت العلوم الإنسانية ثانيةً.

لكنّ المجتمع عندنا بقي أقلّ تأ ثّراً بما أصاب الآخرين من رياح الإلحاد وعواصف الضلال الفكرية ; ولعلّ البناء العَقَدي والهيكل النظمي والترابط الجيّد بين الاُمّة وانتمائها عبر المؤسّسة الدينية قد شيّد الشاهق الذي حدّ من قدرة الغزو الثقافي الإلحادي ونظائره.

والمؤسّسة الدينية عندنا لها نظامها وخصائصها وشروطها التي


حفظتها طيلة السنين والقرون المتمادية. من جملة ذلك خضوعها لقيادة الفقيه الجامع للشرائط ، خضوعاً لا يتأتّى عبثاً ولا يحصل جزافاً ، إنّما عن جدارة واستحقاق تشترك عدّة عوامل في تحقّقهما ، كصون النفس وحفظ الدين ومخالفة الهوى وإطاعة أمر المولى ، مع مسحة إلهيّة وعناية ربّانية ويد غيبية حاضرة تكشف وتنير وتؤيّد.

ولا غرو في ذلك ; فهو القائد والرمز الذي يسمو فوق المحن والآلام والصعاب والتخندقات والرغبات ، القطب الذي لا معنى للأشياء في قاموسه إلاّ معاني النبل والشرف والإيمان والمبادئ والاُصول الحقّة ، ولا تصفية حسابات في جدول أعماله ولا ثأر ولا انتقام ولا حقد ولا حسد ولا استبداد ولا استعراض ولا مظاهر ترف ولا استئناس بملذّات الحياة ، هجير الصيف لا يؤذيه ، زمهرير الشتاء لا يثنيه ، لا تعطيل أيّام التحصيل ولا راحة أيّام التعطيل ، من الناس إلى الناس في الناس ، لا مناطق فراغ بينه وبين الناس ...

هكذا هو الفقيه العالق في أذهان وقلوب الناس ، هكذا هو الفقيه الذي إذا صمت صمت الناس ، وإذا قال قالوا ، وإذا سكن سكنوا ، وإذا تحرّك تحرّكوا ، تسجد الدنيا له راكعةً ولا يعتني لحالها أبدا ، تقصده الاُمّة كي يكون قائدها وكهفها وملاذها ، لا ذاك الذي ذهب وجاء واحتمى بظلّ وعباءة مَن سواه ليبلغ المراد دون أن يدرك أنّ عزّاً كهذا يطلِبُ ولا يُطلَب ، يطلبُ ذاك الراغب عنها لا الراغب فيها ، ذاك الذي لا يلوذ بكساء الحسب والنسب والعشيرة ... بل بظلّ الله يحتمي وعليه يتّكل ، ذلك الذي يحمل


آلام الناس في روحه وحناياه لا ذاك الذي يؤذي لِهَوىً وحاجة ذاتيّة ، فلا يكون الفقيه فقيهاً جامعاً للشرائط حتى لو نال العلم بأسره وعبد الدهر كلّه إلاّ إذا خرج من ذلّ عبادة الذات إلى عزّ نكرانها ; إذ المفروض أنّه مرجع الاُمّة بالقوّة أو بالفعل ، فكيف يكون مرجع الاُمّة وهو فاقدٌ لبعض الشرائط التي يحفر فقدانها مناطق فراغ عميقة واسعة بينه وبين الناس لا يمكن ردمها بسهولة مطلقاً.

لذا إذا عرفت الحكمة أهلها الجامعين شرائطها جاءتهم بشوق معتزّةً أن اُلبست إيّاهم ، وإذا عرف العلم أهله الجامعين شرائطه صار نوراً يقذفه الله في عقولهم وضمائرهم .. آنذاك تنعدم مناطق الفراغ بين الفقيه المعهود وبين الناس ، فيكون لقوله وفعله وإمضائه وقع السحر عليهم.


حينما تقرّر المرجعية

لسنا صنميّين لكنّا نصدح بها شفّافةً : نؤمن بمفهوم «العصمة» كما هو المشهور عنّا نحن أتباع المذهب الجعفري.

نؤمن بكون مراجعنا العظام هم نوّاب الإمام العامّين في إدارة شؤون العباد ، إطلاقاً أو تقييداً ، تبعاً لاختلاف المباني الفقهية.

المرجع والمرجعية تعني عندنا باختصار : الفقاهة ، صون النفس ، حفظ الدين ، مخالفة الهوى ، اتّباع أمر المولى.

لا نؤلّه مراجعنا العظام ولا نضفي عليهم طابع العصمة ولا ننفي عنهم الغفلة والخطأ والنسيان .. إلاّ أنّهم أوّل رموزنا وأفضل قادتنا بعد وليّ الأمر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، نتّبعهم ونعمل بفتاواهم ; امتثالاً للتكليف الشرعي والواجب الديني.

المؤسّسة الدينية عندنا واضحة المعالم تحفظ للمرجع والمحتاط والمقلّد الحقوق والواجبات.

رغم كوننا لسنا صنميّين ; بهذا الدليل وذاك وبانفتاح باب الاجتهاد


حتى يوم الميعاد ، إلاّ أنّنا نحترم فتوى المرجعيّة ، ونعمل بها ونتفاعل معها بواقع القبول والطاعة .. وأقرب المصاديق على ذلك : مدى التلقّي المذهل الذي صنعه موقف المرجعية الدينية الأخير ـ سواء كان هذا الموقف فتوى بالجهاد أو كما يحلو للبعض عنونته بـ «ضبط الوضع القانوني» ، أو سمّه بما شئت ـ ومدى الاستجابة السريعة من شتّى طبقات الاُمّة وألوان انتماءاتها ، فهتف الجميع : نعمّا صنعت المرجعية الرشيدة ، فلقد جاءت بها غايةً من الاتقان والحكمة والتدبير ، ولا أروع .. لا غرو أنّها قد حسبتها حساب الكيّس الخبير ، الفطن النحرير ، سياقات الماضي والحال والغد حاضرةٌ عندها بكلّ وضوح ، ولا أجدر منها في تشخيص المخاطر والعواقب وما ينبغي فعله من عدمه .. بعدئذ لا تعتني ولا نعتني بأيّ تغريد خارج السرب أو صوت لا يركن إلى المنطق والدليل.

الموتورون كثرٌ ، فلقد أخطأت بالمرجعية حساباتهم وتبعثرت معادلاتهم ، فانقضّت مضاجعهم وتبدّلت أمانيّهم وهماً وسرابا ..

لله درّك أبا الرضا ، فَلَكَمْ نصحتَ وداريت ، لله أناتك وأنت إزاء جماعات أعمى الله بصرها وبصيرتها وصكّ أسماعها عن لغة الحبّ والخير والسلام فاختارت البغض والشرّ والعنف سبيلاً لتحقيق مآربها.

انتهى المطلب ، إلاّ أنّي كأيّ إنسان عاديٍّ حظى برؤية المرجع الأعلى عن قرب ..

أقول : أيّها الحسيني السيستاني! حالي حال الاُلوف التي نالت شرف


لقياك حضوراً ، خمسون دقيقة ـ مجموع الحضورَين ـ مرّت عليَّ مرّ الثواني ، لكنّي كنت أسعى بالفرصة كي اُطالعك كثيراً ، فوجدتك كما عهدتك في حسّي وخاطري ، كما قرأتك منك وعنك وفيك وإليك ، نعم والله ، إنّها سيماء الصالحين وصفات المتّقين وهيبة الأولياء المخلَصين وتواضع المقتدرين ، قد تجلّت بك خير جلاء.

فكيف لا تحفرك الجنان على صفحاتها حبّاً وهياما ، ولا تشرئبّ الأعناق لك تعظيماً وإجلالا ، ولا تنالك العقول والأقلام بحثاً واستقراءا ، كيف لا؟! وأنت الذي أخلصت بالقول والفعل فزادك الله عزّاً وشرفاً وحباك من لدنه خُلُقاً وحكمةً وعلماً وتدبيرا.


هل نقرأ حقّاً؟

هل نقرأ حقّاً ونتابع ما يُكتَب ويقال هنا وهناك في ما يخصّ رموزنا وأعلامنا ومراجعنا ، قراءةً وتتبّعاً منهجيّين قائمين على الاستقصاء والاستقراء والمقارنة والتحليل والمسح والحفر والاستنتاج المعرفي؟

أم لا نقرأ ولا نتابع .. أو هكذا لكن دون الأدوات المعرفية المشار لها؟

لعلّني من اُولاء الذين قلّت قراءاتهم عموماً وفي موضوعنا خصوصاً ، إلاّ أنّي استحضرت في ذهني بعض نماذج ممّا قيل في المرجعية المباركة ; علّها تسهم يسيراً في تسليط الضوء أكثر على ما يجول في أفكار وأروقة القريبين والبعيدين من إراء وتصوّرات بحقّ المرجعية الدينية.

١ ـ يقول ولي نصر في كتابه «الانبعاث الشيعي» تعريب مختار الأسدي ، طبع مؤسّسة مصر مرتضى للكتاب العراقي ، سنة ٢٠١٠ :

السيستاني ، وبحكمة وتعقّل لم يَسْعَ أن يصبح حاكماً أعلى أو


مرجعية عليا في الوسط الشيعي ، لكنّه ناضل لأن يكون وسيطاً شريفاً وباني جسور ـ bridge builder ـ ربما يستطيع أن يوحّد من خلالها في ما بين الأصوات والتجمّعات السياسية المختلفة. كما أنّه لم يحاول إضافة طيف أو لون جديد ، وإنّما أن يزوّد المكوّنات الشيعية العراقية بشراع يمكنهم من خلاله صياغة أو تلوين مستقبلهم.

بالنسبة للسيستاني أيضاً ، إنّ الانبعاث الشيعي على المستوى الإقليمي يعني : بناء هوية مشتركة لملايين الشيعة ... من أجل أن يحصدوا محصولهم في رأس مال سياسي ، يمكن لمثل هذه الهوية المشتركة أن تحقّقه لهم أو تكون لازمة من لوازمه على أقلّ التقادير.

وكان ـ السيستاني ـ تأثيره هذا واضحاً بشكل كبير في منع الشيعة من التصرّف بردود الأفعال على الأعمال الوحشية والفظيعة التي ارتكبت ضدّهم وتقريباً يومياً من قبل المتطرّفين السنّة. إنّ الحرب الطائفية شَرَك ومصيدة ، كما قال محذّراً ، وعلى الشيعة أن يتجنّبوها من جانبهم جهد الإمكان ... أرجوكم أن تكونوا حضاريين ، إنّنا لا نريد أن نبدأ حرباً أهلية. هذه هي النقطة الأكثر أهمّيّة في الموضوع كلّه.

إنّ الذي عجزت الثورة الإسلامية أو فشلت في تحقيقه استطاع الانبعاث الشيعي في عراق ما بعد صدّام أن ينطلق في تحقيقه ، انتهى.

٢ ـ يقول دوغلاس. ج. فايث الوكيل السابق لوزارة الدفاع الأميركية لشؤون السياسة سنة ٢٠٠٢ حتى سنة ٢٠٠٥ في كتابه «الحرب


والقرار» تعريب سامي بعقليني ، طبع مؤسّسة الانتشار العربي بيروت ، سنة ٢٠١٠ :

على مدى ثلاث سنوات من تحرير العراق أظهر الشيعة فعلاً قوّة تحمّل مذهلة ، متعاطفين مع قيادة آية الله العظمى علي السيستاني الذي دعا باستمرار إلى ضبط النفس. يستحقّ السيستاني أكبر ممّا لقيه حتى الآن من المؤرّخين. ومع أنّه رفض أن يجتمع مع بريمر فقد لعب دوراً كبيراً وبنّاءً على العموم في عراق ما بعد صدّام. عارض النزاع الأهلي ورفض الحكومة الإكليركية على الطراز الإيراني. المعلّقون الذين أكّدوا أنّ القوة السياسية الشيعية في العراق ستترجم انتصاراً للنظام الإكليركي الإيراني جنحوا إلى تجاهل السيستاني أو اخطئوا في إدراك وجهة نظره.

ثم يقول : في اجتماع للجنة الأساسيين في واشنطن في ١٦ يناير / كانون الثاني ، ٢٠٠٤ ، قامت أصوات عديدة من حول الطاولة تنصح بريمر بالتراجع في نزاعه مع السيستاني. علّقتُ بأ نّنا «لا نريد أن نكون في موقف المعارضين للانتخابات». قال رامزفيلد : إنّ كلمة «انتخابات» لها أكثر من تعريف واحد. بعد برهة لا حظ تشيني أنّ للسيستاني شرعية أكبر في أعين أكثر العراقيين من أيّ شخص آخر : نحن بحاجة إلى استراتيجية تأخذ بالاعتبار اهتماماته المشروعة ، عندما ردّ بريمر بأنّ السيستاني «يغيّر مواقفه الأساسية» لاحظ باول أنّه في مسألة المطالبة بالانتخابات لم يغيّر السيستاني موقفه ، انتهى.


٣ ـ أمّا أنا فقد كنتُ حاضراً وسمعتُ شخصيّاً أحد أقطاب رجالات دولة كبيرة من دول الجوار وهو يقول : خلال لقاءاتي المتعدّدة مع مسؤولي وقادة الدول الاُوربية وغيرها لاحظتُ اهتماماً خاصّاً بوسطية واعتدال وعقلانية السيستاني ، فوجدت أنّها الفرصة الأنسب لترويج وطرح التشيّع العقلاني المعتدل المتمثّل بالسيّد السيستاني ترويجاً وطرحاً عالميّاً ، ولاسيّما بعد غلق ملف تشيّع الثورة الإسلامية بوصفه التشيّع الراديكالي ، انتهى.

أقول : هل فكّرنا تفكيراً علمياً ، أخلاقياً ، عَقَدياً ، وجدانياً ، اجتماعياً ، ثقافياً ، اقتصادياً ، فنّياً ... بما صنعته هذه المرجعية لنا ـ بحكمتها وإخلاصها وتدبيرها وعقلانيتها ومعارفها ـ من مزيد فخر واعتزاز واعتبار لمبادئنا وقيمنا النبيلة الحقّة ، منتزعةً بذلك اعتراف القاصي والداني بإنسانية هويتنا وشرف عقيدتنا ، هذا الاعتراف الذي عجز الكثيرون ـ على شتّى الأصعدة ـ من كسبه وتحصيله مدى القرون والأعوام؟

إنّها الفرصة التي قد لا تعوّض ، فرصة العمل على إرساء وإيصال مباني وثقافة العقلانية والاعتدال والوسطية التي نادت بها المرجعية المباركة وجسّدت مضامينها بأرقى تجسيد ، مضامين الحبّ والسلام والأمان ونبذ العنف واحترام الإنسان وحقّه بالحياة الحرّة الكريمة .. الأمر الذي يستدعي مزيد بحث وتلاقح وتواصل بتوفّر الإمكانيات والفضاءات المساعدة ، ولاسيّما أنّ العقل المدبّر وسيّد الثقافة المعهودة لا زال يرفدنا بروائع الأنظار وشوامخ الأفكار بطعم الحكمة ومذاق الفضيلة وعبق السيرة العظيمة.


ماذا نحن فاعلون؟

صدرت الفتوى الشهيرة ، وبصدورها تحجّم المدّ الخطير وتلاشى الخوف الكبير وانتعشت الآمال وارتفعت المعنويات التي كانت قد آلت إلى أسوأ المآل ، أمّا آيات الثناء والمديح والإعجاب التي توالت من كلّ حدب وصوب فهي تحكي بمجملها الإشادة بالحكمة البالغة والتدبير الدقيق والاُبوّة الكريمة والرعاية الرفيعة التي غمرتنا بها المرجعية المباركة.

صدرت الفتوى التاريخية وعملت المرجعية الدينية بتكليفها ومسؤوليّتها الشرعية والأخلاقية إزاء الاُمّة وحاجتها المصيرية ، ففعلت ذلك طبق ما ارتأته لازماً ومناسباً في ظلّ الظرف الراهن العصيب.

ولكن ماذا نحن فاعلون؟ ماذا فعلت النخب والكوادر والطاقات والوكلاء ...؟ هل وظّفنا الفتوى لخدمة قضايانا وحرماتنا ومقدّساتنا؟ هل استثمرناها في توحيد صفّنا ودرء الخطر عنّا والانطلاق نحو معالجة واقعنا المرير؟

هل من غرفة عمليات ، مؤتمرات ، ندوات ، حوارات ، استشارات ،


تلاقح أفكار ، رواشح رؤى ... تبيّن أهمّيّة وقفة المرجعية الشامخة وأبعادها المختلفة .. هل من حصيلة نقتحم بهاميادين العمل بتجسيد المحتوى الذي حملته الفتوى المؤيَّدة بألطاف السماء؟

أم لازلنا ننتظر بالمرجعية أن تعلّمنا أبسط الجزئيّات وتهدينا أصغر التفصيلات؟ أم لازلنا منكبّين على منافعنا وأهوائنا ، تاركين آلام الاُمّة ومعاناتها ومخاوفها على وجودها ومقدّساتها إلى مهبّ الريح؟

الخشيه كلّ الخشية أنّنا لم نتعلّم الدرس جيّداً ; حيث لم نستوعب حجم الخطر المحدق حتى بمصالحنا الذاتية التي نجهد إلى حفظها أو نيلها.

إنّها الفرصة يا كرام ، فرصة الفتوى التي وصلتنا على طَبَقِ ذهب من سيّد مراجعنا العظام ، فرصة تدارك الاُفول وتغيير الاُمور وكسب أوسع القبول ، إنّها الفرصة كي لا نسير صوب المجهول المخيف ، صوب التراجع والسقوط كتساقط أوراق الخريف.


القرار المناسب

حينما تتعرّض الاُمم والمقدّسات والمبادئ للخطر وينشغل الفضاء العامّ بأقطابه ومحاوره ونخبه وسائر طبقاته بالحدث الذي يهدّده ويهدّد وجوده وكيانه ، يتّخذ أعلامه مختلف المواقف والأساليب التي تعبّر عن حقيقتهم الرفيعة الذائبة في عمق القيم والمفاهيم المقدّسة ، فتراهم يُجَدْولون برامجهم بما يطابق الحدث ، فيغدو همّهم الشاغل متابعة الأحداث والانصهار فيها لحظة بلحظة ، فهذا الذي يجنّد إمكانياته بأنواعها ، وهذا الذي يعطّل نشاطاته المختلفة كالدرس والبحث والسفر وغيرها ، بل كثيراً ما يُلغي المسؤولون سفرهم ويكرّون راجعين إلى مقارّهم لمتابعة التطوّرات ، ممّا يعكس انطباعاً رائعاً عنهم وعن المنزلة التي يولونها لقيمهم واُممهم.

الناس بطبيعتها لن تنسى نظائر هذه المواقف الخالدة من نخبها وروّادها ، بل تفتح لهم صحائف جديدة من الحبّ والشكر والامتنان ، وفي الوقت ذاته ستبقى لائمةً متأ لّمةً ممّن تركوها ولو قليلاً ساعة المحنة حتى بقرار أو موقف معنوي رمزي.


السرمديّون إنّما هم سرمديّون بأفعالهم ، بقراراتهم الحاسمة التي طالما غيّرت وجه التأريخ ، بعقولهم ، بتدبيرهم ، بحكمتهم ، التي هي أرقى آثارهم.


صمّامُ الأمان

نبقى بحاجة إلى شيء ما ، شيء مشروع يوحّدنا على أساس المبادئ الحقّة ، التي تكفل لنا الحياة العزيزة والعاقبة المحمودة.

كما يبقى الإنسان بفطرته السليمة ـ التي تجرّه إلى الخير جرّا ـ يهرب من فرط القيود وفرط الإطلاق إلى التوازن المعقول ، إلى كلّ ما يضمن له الاستمرار في تحقيق المطلوب ، فيجهد مكتشفاً «صمّام الأمان» ، عارفاً بمن يسعى به صوب المقصود ومرفأ الإيمان .. إنّه حلم السماء والرسل والأنبياء والولاة النجباء (عليهم السلام) أن يبلغ الإنسان فضاءات السعادة والفلاح ويحلّق في آفاقها مستبشراً بالنجاح.

بلا أدنى مداهنة ومراوغة وبكلّ شفّافية نقول : «صمّام أماننا» ـ بغياب إمامنا عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ مرجعيتنا المباركة ، النيابة العامّة ، إليها إيابنا في فروع شريعتنا الخاتمة ، وفي ما يستجدّ من مسائل هي في استيعابها أشمخ وأرقى وفي حلّ معضلها أسمق وأسمى.

فكلّ «ذراع» مهما طالت هي أقصر من ذراع المرجعية المباركة ،


وكلّ «ضرورة» مهما عظمت هي دون ضرورة المرجعية المباركة ، بل يجب أن تندكّا وتذوبا بها ذوبان الفرع بالأصل ، ذوبان التابع بالمتبوع ، حالهما حال الأنهار والبحار التي يؤول مصيرها نهاية المطاف إلى المحيطات العظام.

كيف لا؟! وهي المرجعية التي تخرجنا من ذلّ التعصّبات البغيضة والأفكار اللقيطة إلى عزّ المبادىء النبيلة والقيم الأصيلة .. من «المرحلية» و «الذرائعية» و «الميكافيلية» و «الاغتنامية» ... إلى روعة الحبّ والتسامح والسلام وحقيقة الصدق والإخلاص والرعاية الأبوية.

فلا ملاذ ـ بغياب إمامنا عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ أنّى طال الزمان واتّسع المكان وتغيّرت الأحوال واستجدّت الأوضاع وتكثّرت الحاجات ... لا ملاذ أأمن من المرجعية المباركة بقاطع الضرس وكلّ الاعتبارات. وطرّ الملاذات دونها ملأى بألوان المخاطر وشتّى المتاهات.


نتاج مختبرات الغيب واللاهوت

يقولون : إنّ طريق الكمال وعرٌ عسير ، مؤلم مرير ، طويل خطير ، يفتقر رباطة الجأش ومزيد العمل والبذل والعطاء ، يشترط عهد التزام حقيقي بالذاكرة الأزلية ولوازمها وما تمليه من بنود ومناهج وأحكام ، على الإنسان إجادة فهمها وممارستها ممارسةً سليمةً تعبّد الدرب نحو بلوغ المرام وحصول المطلوب.

إنّنا حين نتأمّل سيرة اُولئك الذين اختاروا الزهد والتواضع والبساطة بصادق النيّة وخالص الإيمان وطاهر السريرة وهم في ذروة المجد والقدرة والمكنة ، فما الذي يجنيه هذا التأمّل؟ ماذا نفسّر ذلك؟

يقولون : إنّ الانثروبولوجيا ـ علم الإنسان ـ والسوسيولوجيا ـ علم الاجتماع ـ والبيسكولوجيا ـ علم النفس ـ تؤدّي وظيفة أساسية في فهم وتحليل وتوجيه أفعال اُولئك الناس وبيان الأسباب والدواعي والبواعث التي أدّت لأن يكونوا بهذا الشكل والمضمون.

إنّنا في الوقت الذي لا ننكر على العلم المشار إليه أعلاه بحوثه


الواسعة وتجاربه القيّمة واستنتاجاته المفيدة ، ننظر إلى الأسباب والدواعي والبواعث الأساسية من زاوية أشمل وأوسع وأدقّ ، فنحن قد لا نختلف مع العلم في تسجيل الملاحظة وتشخيص الظاهرة وتحديد النتائج ، لكنّنا قد نختلف معه فيما لو أرجع كلّ شيء إلى الدائرة الأمبيريقية ـ التجريبية المحضة ـ دون الأخذ بعين الاعتبار الجوانب اللاهوتية والغيبية ، عين الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت به النهضة الحديثة إبّان انطلاقها ثم قطعها مشواراً طويلاً على هذا المنوال ، منوال الحطّ من العلوم الإنسانية وإنكار الغيب واللاهوت ، حتى حدوث الانقلاب المثير الذي نهض من بين أضلعها وقضى على آمالها التجريبية المحضة وأعاد الاعتبار والثقة بالغيب واللاهوت والعلوم الإنسانية.

فلو تأمّلنا جملة حالات وظواهر وخصائص على سبيل المصداق لا الحصر ..

منها : العلوم العميقة والمعارف الجامعة المقرونة بالذهن الوقّاد والقلب السليم.

منها : القراءة الدقيقة للقضايا والأحداث والمتابعة المذهلة لرواشح العلوم والفنون.

منها : الخلق العالي والأدب السامي والجاذبية المؤثّرة في النفوس بلا أدنى تصنّع وافتعال.

منها : الشعور بأ نّك في حضرة الخير والبركة والفلاح ، في كهف الأمان وملجأ الراحة والاطمئنان.


منها : غياب الانفعالية في السلوك واتّخاذ القرار.

منها : الخطاب والأفكار المفعمة بالحبّ والوحدة والسلام واحترام كرامة الإنسان بمختلف انتماءاته الدينية والعرقية والاجتماعية والسياسية ونظائرها.

منها : الحركة التي تنتج السكون والسكون الذي ينتج الحركة.

منها : تشخيص الخطأ والنقص والخلل بغاية الدقّة وطرح الحلول والمعالجات الناجعة.

منها : مهوى قلوب الناس وعقولهم بشتّى مراتبهم وألوانهم وقضاياهم.

لو تأمّلنا ذلك ، أليس من حقّنا القول : هذه هي الحكمة بعينها لغةً واصطلاحاً؟! إنّها هي هي دون أدنى شكّ وريب ، إنّها باختصار شديد : الخير الكثير ، النتاج المثير لمختبرات الغيب واللاهوت والعلوم الإنسانية التي لم ولن تتمكّن المختبرات الأمبيريقية من تشخيصها وحلّ لغزها ناهيك عن فهمها ودرك أسبابها ودواعيها وبواعثها.


مصالحنا الاستراتيجيّة

نحن نختلف ـ مثلاً ـ مع حكومات الولايات المتّحدة الأميركية في العديد من المبادئ والأخلاق والرؤى ، ونراها حكومات ظالمةً متجاوزةً سلطويةً ، إلاّ أنّها ترسل إلى العالم رسائل قصدية تجعل الكثيرين ـ ولاسيّما النخب وذوي الاختصاص ـ في حالة تأمّل عميق وتوقّف طويل ..

تشنّ الحروب وتتعامل انتقائياً مع مبدأ الديمقراطية ـ الذي تعتقد أنّها الراعي الأعظم له في العالم ـ فتُسقِط أو تسعى لإسقاط الحكومات المنتخبة بينما تدعم في نفس الوقت الأنظمة الاستبدادية الظالمة ... تفسّر القضايا والأحداث والعناوين طبقاً لما تراه متّفقاً مع منافعها وتوجهاتها ... تختلق وتضلّل وتزيّف وتحرّف وتعمل ما بوسعها للنيل من أعدائها وتحقيق مآربها ...

هذا من جانب ، ومن جانب آخر تدافع عن الإنسان وكرامته وحقّه بالحرّية والحياة الرغيدة ، بغضّ النظر عن اللون والجنس والدين ، فتراها تنتخب رجلاً أسود ينحدر من اُصول أفريقية وديانة إسلامية ، رئيساً لها ، وتعمل المستحيل من أجل إنقاذ واستعادة جندي أو أيّ مواطن لها في أيّة


بقعة كانت من الدنيا ...

باعتقادنا ـ ونحن نلحظ الحالتين المشار إليهما أعلاه ـ أنّنا إزاء برادوكس ، قبال تهافت ، أمام تعارض ، أو قُلْ حالة من النفاق والشيطنة ، لكنّهم يرونها «المصالح الاستراتيجية» ، نعم «المصالح الاستراتيجية» التي هي فوق كلّ الاعتبارات والموازين.

شئنا أم أبينا ، فالواقع يقول : إنّها أميريكا هاهي الآن حاضرة بهذا الشكل والمحتوى ، بهذه القوّة والهيمنة وسلطة القرار ، بقطبيتها الاُحادية ، بدون أيّ منازع جدّي حالياً.

أمّا نحن في البيت الواحد ، نحن الذين ندّعي انتماءنا إلى أرقى القيم والمفاهيم ـ والتي هي حقّاً كذلك ـ فلازلنا متشظّين ، مبعثرين ، نفعيين ، استبداديين ، متزلّفين ، حربائيين ، صنميين ، قشريين ، استعراضيين ، اُسَريين ، لازلنا مجرّد ظاهرة صوتية ، لازلنا مخمورين بفضاء المحسوبيات والمنسوبيات والتوريات والشأنيات ، تتقاذفنا المظاهر وترمينا في أحضان الترف والبذخ والرغبات الذاتية ، فنغدو مشروعاً جاهزاً للاستسلام والخضوع.

متى يا ترانا نفكّر بـ «مصالحنا الاستراتيجية» ونعمل من أجلها بكلّ تفان وإخلاص ، متى يا ترانا نتجاوز الفضاءات المذكورة أعلاه وننطلق إلى بلورة المبادئ الحقّة بلورةً صادقةً لوجه الله تعالى؟!

أم لازلنا لا نعرف مصالحنا الاستراتيجية حتى؟! ألم ننضج بعد؟!


ألن يكفينا هذا الذي بنا؟! إلى متى ثم إلى متى؟؟ ولاسيّما مع وضوح الحجّة الظاهرة ، السيرة الطاهرة لنبيّنا وأئمّتنا (عليهم السلام) ، مراجعنا ، علمائنا ، نخبنا ، صالح المؤمنين ...

أما آنَ للحجّة الباطنة أن تمارس دورها التكميلي؟! أما آنَ للعقل أن ينطلق ليعرف «المصالح الاستراتيجية» فيذود عنها ويعمل على نشرها؟! خصوصاً وأ نّنا نعتقد ونجزم بكونها مصالح حقّة فيها خير البشرية وسعادتها.

كيف نترضي لأنفسنا أن يقتلونا ويذبحونا ويستبيحون أعراضنا وينهبون أموالنا ويتلاعبون بمشاعرنا وينتهكون حرمة مقدّساتنا ويذلّونا ويحذفونا ولا نفعل شيئاً يستحقّ الإشادة والخلود في القلوب والعقول؟!

هؤلاء أيضاً يرون أنّهم الانعكاس الحقيقي للدين والشريعة السماوية وأنّ الحفاظ على «المصالح الاستراتيجية» يفرض عليهم التعامل معنا بهكذا ظلم وقسوة.

قسماً بالله العظيم! لولا الوقفة الأبوية المعهودة لداهمونا في عقر دارنا ، في النجف وكربلاء وبغداد حتى تخوم الجنوب ، ولفعلوا كما فعلوه بنا سالفاً ، فما غُزي قومٌ في عقر دارهم إلاّ ذُلّوا.

إنّها الفرصه الذهبية التي علينا اغتنامها كي نعرف مصالحنا الاستراتيجية جيّداً ، نعرفها من مصادرها الأصلية لا غير ، نعرفها معرفة


فهم واستيعاب وبلورة وتجسيد.

(إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (١).

والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

١. سورة الرعد : ١١.


سحر السيستاني

أين هم اُولاء الذين شنّوا الهجمات الظالمة على المرجعية المباركة ونعتوها بالصامتة تارةً والمتخاذلة اُخرى والعميلة ثالثةً واللاّ عالمة رابعةً و ...

مالنا لا نسمع لهم همهمةً ولا نرى لهم حسيساً ، هل طبع الله على قلوبهم وعقولهم وحواسّهم؟!

أين هم من هذه المرجعية التي سحرت القلوب وفتحت العقول وألهبت الناس بكلمات موجزة معبّرة فجعلت الشارع يغلي من أجل الذبّ عن الدين والحرمات والمقدّسات؟!

نعم ، حينما أخلصت المرجعية المباركة لربّها تبارك وتعالى وقيمها ومبادئها بالقول والفعل والسيرة أفاض الله عليها من أسراره القدسية ونفحاته الربوبية أنواراً وخيرات كثيرة ، وجعل أفئدةً من الناس تهوي إليها وتذوب ولاءً لها ، فلا عجب أن صار السيستاني ساحر الضمائر وصمّام الأمان ; إذ أخلص فمنّ الله علينا وعليه بهذه النعمة الطيّبة ... وهل أروع


من اُمّة صمّامُ أمانها مرجعُها النائب عن إمامها عجّل الله تعالى فرجه الشريف؟!

أين وخزة الضمير يا ترى؟ أما آنَ لاُولاء الذين ظلموا هذا الرجل الإلهي أن تخشع قلوبهم لأمر الله؟! أما آنَ لهم أن يستغفروا ويتوبوا كما استغفر الذين من قبلهم؟! أما آنَ لهم أن يسلّموا بهذه الحقيقة الربّانية ويصطفّوا خلف المرجعية المباركة ونحن في ظلّ هذه الظروف الحرجة المصيرية التي تهدّد مقدّساتنا وقيمنا ووجودنا؟!

لقد أثبتت المراحل التاريخية المختلفة أنّ الوقوف خلف المرجعية المباركة لطالما أنقذ الاُمّة من شتّى المحن والأخطار وأعاد لها عزّها وشأنها واستقرارها.

بوركنا بك سيدي أبا الرضا وأنت ـ بألطاف السماء ـ تأخذ بأيدينا إلى برّ الأمان وسواحل الاطمئنان ، حرستك من السماء عيون ، عيون تحرسنا بك وتشحذ هممنا نحو الذود عن مفاهيمنا واُصولنا.


عجينة السيستاني

تبعاً لثقافة الآباء والأجداد نشأنا ، جزاهم الله خير الجزاء ; إذ غرسوا في قلوبنا حبّ النبيّ وآله الأطهار ، فعلى إثرهم سرنا ..

إلاّ أنّ الغالب منّا بحكم الفضاء الموجود سكن متّكلاً مسلّماً فافتقد روح المبادرة والبحث والتحصيل ، وحقيقة الأمر : إنّه افتقد لذّه الاستمتاع بقطف ثمار الجهد المعرفي السائر صوب الإثبات العلمي لِما يؤمن به ويعتقده من قيم ومبادئ ، فما عاد حتى للخوف مفهومٌ واقعي لديه «إذا خفت من شيء فقع فيه» .. ولا يعرف حينئذ من أين هو وفي أين وإلى أين .. فيفتقد أدنى مقوّمات الرسوخ المعرفي على المبدأ ولا يبقيه عليه سوى الأحاسيس والمشاعر التي هي عرضة لمخاطر الانحراف والضلال ، فيهتزّ ويضطرب لأبسط شبهة وتساؤل وتركبه الفوضى ، سواء في ذلك أكان الاعتراض من الممانع أو المآلف. والطامّة الكبرى فيما لو سرى الشكّ فيه تجده يحمّله على ذات الانتماء والمبدأ فيلوذ بعباءة تبرير التقصير بكيل اللوم على المنظومة القيَمية ، فتكون الأخيرة ضحية الاتّكال والجهل والترف الهويّتي.


حتى العلم وحده لا يكفي ، بل العلم ليس بكثرة التعلّم ، فهو بلا عقل يدير ويدبّر وبالٌ وكارثة ، والحكمة لا تأتي عبثاً واعتباطاً ، إنّما هي عجينة العلم والعقل والقلب ، فيسمو الحكيم ويحلّق في آفاق الضمائر ويخترق الحنايا والأعماق ، فيجود بالخير الكثير ، بمناهج الهداية والسعادة والفلاح والحبّ والوئام والسلام ، بما منّ الله تبارك وتعالى عليه من فضل ونعمة لا تساويها القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة ولا كلّ شيء ، نعم ولا كلّ شيء.

فالرسل والأنبياء والأولياء الطاهرون والصالحون من المؤمنين خالدون بسيرتهم ، بإيمانهم وعملهم الصالح وتواصيهم بالحقّ والصبر ، لا بأشياء اُخر ، رغم كلّ الاحترام والإجلال لتلك الأشياء إن كانت تهدي إلى الخير والفلاح.

فنحن وكلّ شرفاء العالم إنّما قاموا تعظيماً وتبجيلاً لسيّدنا السيستاني مدّ ظلّه فلأجل تلك العجينة المعهودة التي غُرست في ذاته بإخلاص ونوايا صادقة ، فلا يعرفون فيه سوى أنّه رجلٌ دعى بالقول والعمل إلى الصلاح والحبّ والسلام والتآلف ونبذ العنف واحترام الإنسان وحقّه في الحياة السليمة.

وإن عرف القليل منّا السيستاني العالم المفكّر المعرفي المؤلّف ، فهذه المعرفة محدودٌ مكانها وتأثيرها إزاء قلوب الملايين وعقولها التي هفت ولازالت تهفو إليه مدّ ظلّه لتغترف من معين عقله وحكمته وسيرته النقية


«وأيم الله لإن يهدي الله على يديك رجلاً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت» ..

إنّها الأخلاق يا كرام ، فلولا الأخلاق التي امتاز بها هذا الرجل المترشّحة من تلك العجينة الطاهرة لَما ترك تأثيره في البشرية بهذا الحال العظيم.

فسلامٌ عليك سيّدي أبا الرضا وعلى عجينتك الطاهرة ورحمة الله وبركاته.


تركة السيستاني

ماذا لو رحل السيستاني والكلّ راحل؟

ما الموروث الذي يمكن أن يخلّفه هذا الرجل؟ هل من إشارة سرمدية وخلود يبقيه حيّاً في الضمير الإنساني؟ أيكون مدرسةً أو ظاهرةً؟ أم حاله كأغلب نظائره يعيش ويذهب وينتهي الأمر؟

لنفترض جدلاً أنّنا في الصفّ الذي لا يُحسِن الظنّ كثيراً ، أو همّه وعادته النقد والتهويل ، فنقول :

السيستاني لم يَبْنِ صرح مرحلة اُصولية أو فقهية أو تفسيرية.

ولم نَرَ له نتاجاً علمياً مطبوعاً.

مع حديث عن صعوبة في بيانه التدريسي.

أمّا متابعاته ومطالعاته الواسعة وإحاطته بمجريات الأحداث فلا تعدّ مائزاً فائقاً.

وبالنسبة إلى زهده وتواضعه ودماثة خلقه فهي صفات غالب علمائنا ومراجعنا.


إلاّ أنّي لو كنتُ منصفاً موضوعيّاً ، مستقرئاً فاحصاً ، مراجعاً ، محلّلاً ، فأدنى ما يشغل ذهني ويطرق سمعي هو قوله تبارك وتعالى : (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (١) الذي يجعلني استيقظ من غفلتي وأصرخ : وجدتُ ضالّتي ..

بالله عليكم كيف وجدتها؟

فأقول :

حينما ينطق السيستاني فهل تلحظون في نطقه سوى الدعوة إلى الحبّ والسلام والوحدة ونبذ العنف ، مقرونةً بالنصح وصالح الابتهال؟!

ينطق فيتكلّم بلغة القوم ، فيُلزِم ، سعياً منه لتشييد اُسس الحق والعدل.

يصمت وإذا بصمته تُبنى مشاريع لفهم هذا السكوت واستيعابه وتأويله ، والقلق إذ يساور هذا وذاك تتشبّث التبريرات للنأي عن دائرة الاعتراض السيستاني.

نعم ، فهذا الرجل إذا نطق ففي نطقه الصمت ، وإذا صمت ففي صمته النطق ، وإذا سكن ففي سكونه الفعل ، وإذا فعل ففي فعله السكون.

يغادر السيستاني وإذا برحيله تعمّ الفتنة وتضطرب البلاد .. يعود وإذا بنار الفتنة تخمد وتستقرّ الأوضاع.

يوافق السيستاني على اللقاء بهذا أو يرفض اللقاء بذاك ، فتغدو

__________________

١. سورة البقرة : ٢٦٩.


الموافقة والرفض ملاك الرضى من العدم ، ميزان التزكية من العدم.

بيان السيستاني له طعمٌ آخر.

ثبوت هلال العيد لدى السيستاني له مذاقٌ آخر.

مباركة السيستاني ، إجازته ... لها مائزٌ آخر.

بالله عليكم! فهل لمصداق الحكمة والحكيم تفسيرٌ آخر؟!

وهل الحكمة إلاّ العقل والتدبير وإدارة اُمور العباد بما يرضي الله ورسوله وأولياءه الطاهرين؟!

وهل فوق الحكمة والخير الكثير شيءٌ يفوقهما؟!

وهل من سرمدية وخلود أرفع من سرمدية وخلود الحكمة؟!


السيستاني في قراءة كمال وولي

استمعتُ إلى المفاهيم والآراء التي قالها السيّد كمال الحيدري من خلال لقائه بشخص قادم من لندن اسمه «إيهاب» كما قرأت كتاب «الانبعاث الشيعي» بقلم ولي نصر ابن السيّد حسين نصر وتعريب مختار الأسدي.

ليس ما استمعت إليه وقرأته يمثّلان ملاكاً وضابطاً وميزاناً بقدر ما أنّهما تصوّران ورؤيتان وجد صاحباهما الواقع والفهم يجريان على هذا المنوال.

لا شكّ أنّهما يختلفان وبينهما بون شاسع ; إذ يعقد الحيدري رؤيته حول «المرجعيّة الدينيّة» على أنّها يجب أن تكون شاملة لكلّ قضايا الدين العَقَدية والأخلاقيّة والاجتماعيّة والشرعيّة والسياسيّة ... لا أنّها مجرّد مسائل الحلال والحرام.

إنّها رؤية وفهم قابل للبحث والنقاش والقبول والردّ ، كما قال هو ذلك أيضاً .. لكنّه في مجال تطبيق هذه الرؤية وبيان مصاديقها نجده يشنّ


هجوماً قاسياً على المراجع العظام أمثال الشيخ الوحيد والشيخ ميرزا جواد والسيّد محمّد سعيد الحكيم والشيخ الفيّاض والسيّد السيستاني ، ويصف الأخير بأ نّه لا شيء عنده وأ نّه مرجع في مسائل الحلال والحرام فقط وقد لعبت الدوائر الغربيّة والمخابرات دوراً في بروز مرجعيّته ...

أمّا ولي نصر فعلى الرغم من كونه يروم الوقوف على مستقبل الصراع السنّي والشيعي ، لكنّه في الحقيقة يعقد مقارنةً بين التأثير الشيعي الإيراني بعد انتصار الثورة الإسلاميّة على دول وشعوب المنطقة ، وبين التأثير الشيعي العراقي بعد سقوط نظام صدّام حسين وتسلّم الغالبيّة الشيعيّة مقاليد الحكم فيها ، ويرى أنّ إيران بكلّ إمكانيّاتها وطاقاتها ونشاطاتها لم تستطع إيجاد التأثير المطلوب بقدر ما أوجده التأثير الشيعي العراقي ، ويُرجِع الأمر إلى الدور المحوري الذي اضطلع به السيّد السيستاني وبمنهجه العقلاني الذي اضطرّ معه الأميركان إلى قبول رؤيته في الانتخابات وكتابة الدستور وغيرهما ، مع رفضه الالتقاء بأيّ أحد من رجالاتهم .. كما تمكّن بهدوئه ومتانته من منع نشوب حرب أهليّة ناهيك عن إمكانيّة حدوث صراعات شيعيّة ـ شيعيّة. إنّه تمكّن بحكمته وعقلانيّته وحضاريّته أن يعطي بُعداً وضّاءً عن التشيّع ومحتواه السليم ، الأمر الذي أوجد تأثيرات هامّة على صعيد العراق ودول المنطقة شعوباً وحكومات ، فتهيّأت لشيعة دول المنطقة فرص التعبير عن مطالبهم بطرق حضاريّة سلميّة ، وقد استجابت كثير من الحكومات لهذه المطالب.

لقد غدا وجود السيّد السيستاني عاملاً محوريّاً في تحقّق الأمان


والاستقرار وتوقّف أعمال العنف والفتنة التي كادت تعصف بالعراق والمنطقة عموماً ، كما صار نقطة قوّة الشيعة في الحصول على حقوقهم سواء داخل العراق أو خارجه.

والأهمّ في ذلك أنّ السيّد السيستاني باعتراف الكثيرين ـ حتى القادة الإيرانيّين ـ بات يمثّل التشيّع العقلاني ، التشيّع الحواري الهادف إلى تحقيق مطالبه عبر الطرق والأساليب الحضاريّة السلميّة.

إنّ منهج السيستاني وعقلانيّته وما حقّقاه من نتائج ملموسة على الأرض هل هما رشح من رواشح مسائل الحرام والحلال؟! ـ رغم أنّ مراجعنا العظام كانوا ولازالوا يديرون شؤون العباد والبلاد ، سعةً وضيقاً ، لا أنّهم مراجع في مسائل الحلال والحرام فقط ، مع كون هذه المسائل هي من أهمّ أركان الدين والشريعة والحياة ـ أم أنّها منهجيّة وفكر متكامل الرؤى والأساليب؟! وهل يغيب عنّا البعد الأخلاقي في هذه المنهجيّة وهذا الفكر؟! ولاسيّما أنّ الرسول الأكرم قد قال : «إنّما بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق» سواء جعلنا «إنّما» أداة حصر أو تأكيد. ثم في أيّة خانة نضع الجهود الكبيرة التي تضطلع بها مؤسّسات السيّد السيستاني في شتّى بقاع الأرض وعلى مختلف الأصعدة والمحاور التي لا يمكن حصرها هنا ، إلى ذلك التأثيرات العَقَديّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي عمّت شعوب المنطقة وأعطت رؤية جدّيّة عن التشيّع تختلف تماماً عن الرؤية التي ترى فيه فكراً راديكاليّاً عدائيّاً ... فهل كلّ ذلك من رواشح مسائل الحلال


والحرام فقط؟! أم هي عبارة عن نسق ومناهج ومعرفة تستوعب شتّى جوانب الدين والحياة ولا تقتصر على جانب دون آخر؟!

إلى ذلك : فإنّ الدين هو المعاملة ، أي الممارسة الصحيحة للقيم والمبادئ الحقّة ، لا الكبر والغروروالادّعاءات التصوريّة والثبوتيّة ، هذا إن ثبت كونها تصوّريّة وثبوتيّة.


هل اتّفق العَلِيّان؟

من خلال العنوان المدرج أعلاه فلسنا بصدد الإشارة إلى اختلاف العَلَمَين مبنائيّاً بشأن «ولاية الفقيه» ضِيقاً وسِعَةً ، إطلاقاً وتقييداً ، فهذا اختلافٌ طبيعيٌّ موجودٌ في ثقافة مدرسه التشيّع الفقهية منذ زمن طويل ..

إنّما نحن بصدد الإشارة خاطفاً إلى القرائن والشواهد والمؤيّدات التي تؤكّد وجود خط ساخن بالحصيلة بين النجف وطهران ، خطّ تواصل وتشاور وتنسيق واتّخاذ مواقف وقرارات متناغمة حول شتّى القضايا والأحداث والمستجدّات ، التي تصبّ بأسرها في قناة حفظ القيم والمقدّسات الدينية والإنسانية ومجابهة مختلف الأخطار التي تحدق بنا من قريب أو بعيد.

إنّ المرجعية الدينية في النجف الأشرف بما تمتاز به من حكمة وعقلانية وتدبير وعلم ونفوذ في قلوب الملايين وتقدير واحترام عالميَّين ..

وإنّ جمهورية إيران الإسلامية بقيادتها الرفيعة وبما تتمتّع به من


استقرار وقدرة فائقة في أنواع المضامير والمجالات ، ممّا جعلها رقماً صعباً يستحيل تغافله وغضّ البصر عنه دون التواصل والتنسيق معه في ألوان القضايا والمسائل الحادثات ..

لبإمكانهما خلق أغلى فرصة تعمل على تدعيم القيم الحقّة والمبادئ السامية لمدرسة آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، وتتصدّى بكلّ حزم وعزم لأيّة محاولة من شأنها المسّ أو النيل من المقدّسات والحرمات الدينية والإنسانية ، وإبقاء راية الدين خفّاقةً عالية بعون الله تعالى.


فكرة العليّين

تعجّ أروقتنا العلمية والثقافية والدينية بالمدوّنات والمكتوبات والأدوات السمعية والمرئية ومنابر المساجد والحسينيات والملتقيات والمؤتمرات ومواقع التواصل والمراكز والمعاهد والمؤسّسات .. التي تتّخذ من : «قال المعصوم» «فعل المعصوم» «قرّر المعصوم» أساساً ودليلاً وحجّةً ومحوراً معرفيّاً وعَقَديّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وفنّيّاً ... مفتاحاً تلج به كلّ الفضاءات اللازمة ، ذلك بطبيعة الحال بعد القرآن الكريم وقبل دليلي العقل والإجماع ، ناهيك عن الاُصول العملية من البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب ، وهكذا الأحكام الثانوية ... متداوِلةً روايات وأحاديث المعصومين (عليهم السلام) بالشروح والبيانات والحواشي والاستدراكات والاستدلالات والاستنباطات والاستنتاجات ، التي تتفاوت كمّاً وكيفاً من «فقيه» إلى آخر.

لا شكّ أنّنا نعتزّ ونفخر بتراثنا ونقدّس الجهود المضنية التي جمعته وحفظته لنا بهذا الشكل والمضمون رغم الغثّ والضعيف الذي لم ولن يمرّ عليه علما الدراية والرجال وفلترة المتن دون محاكمة وجزاء.


إنّما الإشكال في أنّنا إلى أيّ مدى قد تمكّنّا من تنفيذ قول وفعل وتقرير المعصوم (عليه السلام)؟ هل تمكّنّا ـ باستيعاب النصّ ـ من صنع الفكرة والتخطيط إلى قبولها جمعيّاً كي تأخذ طريقها إلى ميدان العمل والممارسة ، أم لازلنا امتداداً لاُولئك الذين طبع عليهم المولى (عليه السلام) : «ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيضا وجرّعتموني نغب التهمام أنفاسا»؟

أين نحن من البوصلة ، أين موقعنا من المعصوم (عليه السلام) : موالون ، تابعون ، محبّون ، مدّعون ، حربائيّون ، متزلّفون ، حقيقيّون ، شفّافون ، وهميّون ، ضبابيّون ...

هل نحن حقّاً ملتزمون بأحكام الدين والشريعة؟ هل نعي معنى أن يجود «وليّ الأمر» بكلّ شيء حتى بنفسه من أجلنا ومن أجل المبادئ الإلهيّة والإنسانية النبيلة؟ فكم هو مؤلم ومحزن ومثير أن يذوب قلب المولى جوىً لنا ونحن لاهون برغباتنا ، غاية همّنا أن نغدو مبرمجين من الطراز الرفيع في كيفية جعل أكبر عدد ممكن من الناس يلهث وراءنا ، مطيعاً لأمرنا ، دوماً في حاجة لنا لا لغيرنا ، يدور في فلك أفكارنا وشهواتنا ، نصنع به أداتنا في حذف الندّ والرقيب خلال صراع الحلقات أو حلقات الصراع ... فهنا يكبَّل العلم والمعرفة والفكر والثقافة وقيم الجمال وتطلق حرّيّة الصنميّة والنفاق والتملّق والميول الضيّقة وقيم الانحلال!!

أمّا تراجيديّة «الانتظار» فمصيبة اُخرى تضاف إلى سائر المصائب ، فهل نحن حقّاً نعرف الإمام الذي نندبه في ابتهالاتنا وتوسّلاتنا وآهاتنا؟


وكيف لنا أن لا نعرف إماماً ندّعي انتظار ظهوره؟ ولعلّ البعض منّا رغم ميله الباطني يدعو إلى تعجيل فرج المولى ، والمولى يأتي بلا ترديد ليملأ الأرض قسطاً وعدلا ، الأمر الذي لا يروق لهذا البعض قطعاً ويتمنّى جدولة الظهور حيث مهمّة الدنيويّات الظالمة لم تنته بعد!!

إنّ معاناة الرسل والأنبياء والأوصياء والولاة الصالحين والمؤمنين هي هي لم تتغيّر رغم تغيّر الزمان والمكان والحياة والإمكانيّات ، فهاهم مراجعنا ، علماؤنا ، نخبنا ، خيّرونا ، يألمون لغربة الدين واُنس الناس بمناهج المنحرفين.

الحلّ يكمن في أن يحسم الإنسان موقفه من الله تبارك وتعالى ، واللعب على الحبلين ليس عقيدةً أبدا ، إنّما هو مناورة سياسية سرعان ما تنكشف أوراقها ، ولعلّ من الغرابة الإشارة هنا إلى ذاك الذي خاطب الإله : «أجبرني كرهي لك على الاعتراف بك» لكنّه حسم أمره نهاية المطاف.

الحسم السرمدي يعني عدم الاستغناء عن التفكير مطلقاً ، ولا خير في حسم لم يُعجَن بالتدبّر والتأمّل ; إذ هو حسم العبيد ، أمّا حسم الأحرار فيعني : من أين ، في أين ، إلى أين .. حينها يهتف كلّ شيء في الإنسان : ما ألذّ عبادة الاحرار ، ما أروع الأوبة إلى فطرة العزيز الجبّار.

إنّ تنفيذ مراد المولى ، مراد المعصوم ، من ينوب عن المعصوم ، بفهم ونضج ووعي ، يعني أنّه تنفيذ مسبوق بتفكير ، بصناعة فكرة ، بتخطيط إلى


نيل رضى العقل الجمعي ، إلى فتح نافذة وتعبيد طريق نحو ميدان العمل والممارسة .. فإذا استنارت الروح بنور الإيمان أفاضت على سائر أركان الذات وعمّ سناها باقي الذوات ، حيث فلسفة الحياة أن يسعد الإنسان السعادة الحقيقية ويُسعِدَ الآخرين. وهل سعادة أرقى من سعادة الكمال البشري السالك سبل الهداية والفلاح الأبدي.

وإذا كان نجاح الفكرة لابدّ أن ينطوي على سلسلة مراحل بخصوصيات وشروط وفضاءات معيّنة ، فما ظنّنا بالفكرة الوافية التي تُصنَع في فضاء العليّين ، فكرة كهذه لاغرو أنّها معجونة بطينة العقل والعلم وحكمة اُولي النُهى ، فكرة سيضبط التاريخ أنّها كسبت وتكسب ليس الرضى الجمعي فحسب بل هي فكرةٌ ارتشفتها وترتشفها العقول النيّرة والقلوب السليمة ارتشاف الضامي وسط البراري ، كما سيدوّن الضمير الحيّ أنّ يعمل بها ينال خير الدنيا وخير الآخرة.


النجف حاضرة الدين والمعرفة

حينما يطرق السمعَ اسمُ مدينة النجف الأشرف يرتسم في الذهن والشعور : روحانيّة وقدسيّة حاضنة علي بن أبي طالب عليه السلام ، وما أدراك ما علي ; إذ يكفي أنّنا طرّاً في جهل به إلاّ الله والنبي صلّى الله عليه وآله.

لكنّي وكلّ محبّ يرى أنّ أبا تراب هو الذي احتضن النجف ، بل هي وليدة وجوده المبارك عليه السلام ، وإلاّ لما كانت ولن تكون بدونه ، فقد شادها علي عليه السلام وشاد بها حاضرة التشيّع الاُولى ، مدرسة العلم والقيم والأدب التي رفدت وضمّت وغذّت معاقل وميادين الثقافة والمعرفة برجال وطاقات وكوادر هم نجوم متلالئة وأنوار مضيئة على مرّ القرون والدهور.

إنّها مصنع المرجعيّة الشيعيّة الأكبر ، الذي أنتج كبار الفقهاء والمجتهدين والعلماء والفضلاء والأساتذة والمحقّقين ، ناهيك عن أنديتها الأدبيّة ومكتباتها النفيسة ، فأنت فيها لا تستنشق إلاّ عبير المعرفة والثقافة والشعر الممتزج بأريج الرحاب الطاهر ومسك الإنسانيّة الفوّاح ، القرآن


الناطق ، يعسوب الدين وقائد الغرّ المحجّلين ، شهيد المبادئ المقدّسة والاُسس الإلهيّة الحقّة ، وصيّ النبي الأكرم وبعل البضعة المرضيّة ، عليّ الهيجان والحركة التي لا تفهم معنى السكون المميت ، بل تظلّ اقيانوساً موّاجاً وسيلاً هادراً من المناهج والمعارف لا ينفد ، الحركة التي نستوحي منها التجديد والتغيير والعدل والإنصاف والعقلانيّة والحزم والعزم والإيمان والفلاح ، فلا غرو أن تكون النجفُ نجفَ عليٍّ بقيمه ومعارفه وعلومه وأن تغدو الموئل والملاذ لكلّ من يمّم جانبها زيارةً ومكوثاً ودراسةً وتعلّماً وتعليماً.

إنّ النجف بكيانها العلمي الديني ، تتجاذبها اُمور :

منها : الفضاء النموذجي نسبيّاً في تلقّي العلوم وبثّها وتداولها ومناقشتها والتحقيق فيها وإبداء الآراء الصريحة حولها ، بلا تعسّف فكري أو استبداد معرفي ، فانتعشت العقلانيّة أيّ انتعاش ، وسادت الحوارية أجواء الميادين العلميّة ، المرتكزة على الاُسس والمناهج والأدوات الحضاريّة ; فنأت بنفسها نتيجة هذا الفضاء عن العراكات الاُخرى ، فأراحت واستراحت وفرغ بالها .. وهذا ماهيّأ لحركة التأليف والتدوين أن تنشط ، فرفدت المكتبات الإسلاميّة والمراكز العلميّة والثقافيّة باُمّهات المصادر والمراجع والآثار القيّمة .. ولحركة الدرس أن تموج بحلقات وحلقات من طلاّب المعرفة والفقهاهة والفكر .. ناهيك عن المنتديات الأدبيّة والشعريّة التي عرّفت كبار الشعراء وفحول الأدب ، وباتت


الملازمة بين النجف والمرجعيّة والدراسات الدينيّة والأنديّة الأدبيّة غير خافية على أحد.

منها : فقدان الغطاء الواقي والإسناد القوي الذي يحميها من جور الأنظمة الظالمة وأدوات الضغط المختلفة ، ممّا أثّر بشكل فاعل ولفترات متعدّدة على أجوائها العلميّة وأنشطتها الثقافيّة والأدبيّة ، حتى تضاءل عدد طلاّبها في بعض المقاطع الزمانيّة إلى أقلّ حدٍّ ممكن ، وانحسرت حركة التأليف وحلقات الدرس والمنتديات الأدبيّة بشكل لافت. كلّ ذلك بفعل الضعف الذي أصابها جرّاء انتفاء الحماية والدعم اللذين يحصّنانها قبال كلّ قوّة تحاول النيل منها أو النفوذ في مناهجها وأفكارها التي ترفض التعسّف والاستبداد والاختناق.

وإنّها إن انتعشت في العقد الأخير فلا زال هذا الانتعاش لا يلبّي الطموح ، ولابدّ من عمل مزيد من الجهد لإعادة كيان النجف العلمي إلى سابق عهده بتلك الطراوة المعروفة.

وللإنصاف ، فإنّ المراجع والفقهاء والعلماء والأساتذة والفضلاء وسائر النخب والمختصّين يبذلون المساعي المطلوبة من أجل أن تستعيد «النجف المعرفية» مكانتها ودورها الريادي في صنع وإنتاج العلم والعلماء.

ولابدّ من التفكير الحثيث في صياغة آلية محكمة ـ غير مختصّة بآن معيّن ـ تأخذ على عاتقها حماية هذا الكيان الطاهر من كلّ أدوات الضغط


والاختراق والتأثير ; فكيان «النجف العلمي» مقرونٌ بالانفتاح والحرّيّة المعرفية وإلاّ فإنّه يفقد ميزته وسمته البارزة.

منها : طغيان القيم والأعراف التقليديّة المعروفة بالارثوذكسيّة الدينيّة على أروقة الحياة فيها ، ممّا صنع من مجتمعها مجتمعاً محافظاً في تعامله مع الأساليب الجديدة والأفكار الحديثة ; وهذا ما وضعها بين محذورين :

إمّا الالتزام بالمبادئ والمفاهيم الدينيّة وعدم الانزلاق وراء المظاهر والمغريات المنحرفة بشتّى مناهجها وأدواتها ، فتبقى النجف تمثّل الخاصرة المصيريّة والفلتر الحاسم في حفظ وحماية ونشر معارف الدين وكلمته الحقّة.

وإمّا الانفتاح اللاّمشروط تجاه الأنساق الجديدة والرؤى الحديثة بما هي عليه من برامج وأدوات. الأمر الذي يعرّضها لمخاطر التغريب والانسلاخ عن أداء الدور الريادي الديني العلمي ، وهذا ممّا لا يتناسب مع كيانها القائم بوجود أميرالمؤمنين (عليه السلام) والفضاء المعرفي الكبير والتاريخ الشهير.

ولعلّ القول بالتفصيل طبق الظرف الراهن والإمساك بالعصا من وسطها بمقدوره إرساء وحفظ التوازنات ومعالجة الإشكاليّات ومواجهة الأخطار التي تتّسع آناً بعد آن .. وهذا ما يحفظ للنجف الدينيّة العلميّة منزلتها ويحفظ الثوابت والاُصول مع إمكانيّة التعامل مع الوارد الجديد تعاملاً منهجيّاً.


فلابدّ إذن من الثبات بكلّ عزم وحزم على القيم والمبادئ التي تمثّل وجودنا وحقيقتنا والذود عنها بأرقى الأدوات المعرفيّة والعلميّة ذوداً يخلو من كلّ أنواع المداهنة والمساومة والنكوص ، متلقّين الوارد الجديد والحديث تلقّياً نسقيّاً استقرائيّاً تحليليّاً يخضع لكلّ مراحل الاختبار والمقارنة والتحقيق والمراجعة والاستنطاق ، ثم الأخذ بما لا يتنافى مع أصالتنا وقيمنا ، بل ويسهم في تحريك واقعنا نحو النموّ والازدهار والخير والأمان والفلاح.

منها : لقد اُتيحت الفرصة لمدينة النجف ـ بما اختصّت به من مزايا وصفات ـ أن تكون قطب الرحى وكعبة العلم والمعرفة ومعقل المرجعيّة ومهوى أفئدة عشّاق الثقافة والأدب والفنون .. وهذا ما ترك آثاره الواضحة على المجتمع النجفي ، فراح أبناء هذه المدينة يفخرون بانتمائهم إليها ، فخراً جاوز بعض الأحيان خطوطه المنطقيّة إلى حالات التعالي والغرور اللذين صنعا أوهاماً ابتُلي بها هذا المجتمع كما ابتُلي بها غيره.

فراح العديدون يحتمون تحت عباءة الحرم الطاهر والحوزة العلميّة والأندية الثقافيّة ، وهذه المحاور لا تقيم لهم وزناً ولا تعرف لهم مجداً ولا تحفظ لهم جهداً معرفيّاً ثقافيّاً سوى أنّهم من هذه المدينة جغرافيّاً ; وغدا الانتماء الاُسري سيّد الموقف والحاكم على الملاكات والموازين الاُخرى .. والمعروف بين أوساطنا : أنّ بعض النجفيّين من ذوي الاُسر الشهيرة يعدّون هويّتهم الاُسريّة قيمةً غاليةً تفوق القيم والاُسس المعهودة ،


أمّا الناس من سائر المدن والأمصار فهم بأعين بعض النجفيّين إمّا سذّج أو معدان أو لا يفقهون شيئاً.

وإن تأ لّق أحدٌ سواهم فلابدّ أنّه تعلّم بالنجف!! على حدّ زعمهم ، علماً بأنّ الغالبيّة العظمى من قاطني النجف ليسوا منها بل وفدوا إليها من البلدان والمدن الاُخرى ، وهذا هو حال الحواضر العلميّة والثقافيّة والمدنيّة حيث تمتاز بتعقيداتها الإثنيّة والعرقيّة والمذهبيّة وتلوّن الانتماءات واختلاف المشارب والاُصول فيها ، فاختاروا البقاء بين ظهرانيها وكوّنوا اُسرهم ووجودهم في رحابها. والمتداول منذ القدم أنّ النجف لم تكن معروفةً أو مأهولةً إلاّ بعد احتضانها الجسد الطاهر لأميرالمؤمنين عليه السلام ، واشتهرت فيها عشيرتان هما «الشمرت» و «الزگرت» والباقون جاءُوها من الأماكن الاُخرى للأسباب التي ذكرنا.

إنّ هذا الابتلاء قد صنع فجوةً لازالت تتفاعل وتكبر يوماً بعد آخر ، ونحن إذ نعلم والكلّ يعلم ما لهذه الفجوة من عواقب سيّئة تضرّ بنا جميعاً وتخدم مناوئينا كثيراً ، بات من الضروري التصدّي لهذه الظاهرة غير الحضاريّة بالحوار والعقلانيّة كي تزداد العقول والقلوب اُلفةً ومحبّة بالقيم والاُسس الحقّة ، ولاسيّما أنّ الذي يجمعنا أشمخ ممّا يفرّقنا .. وفي التولّي لمن قامت به النجف وازدهرت ربوعها بفضله خيرُ موعظة وأرقى تذكرة وعبرة.


معاناة طلبة العلوم الدينيّة

لكلّ فكر ورسالة وهوية وانتماء مؤنٌ ومبادىءٌ وأدواتٌ ومناهج ، علومٌ ومعارفٌ وثقافات وأعراف ، تضحّي من أجلها وتجاهد لصونها وبثّها أيّما تضحية وجهاد. الجميع يدّعي الريادة والصدارة القيميّة الحضاريّة من خلال أدلّة وبراهين وشواهد يرى أنّها الأحكم والأقوى. الجميع عندهم أقطابهم ومحاورهم من العلماء والمفكّرين والمنظّرين والمثقّفين والمتخصّصين والخبراء والكتّاب والنقّاد وغيرهم.

نحن أيضاً اُمّة لنا ما لغيرنا ممّا هو مذكور أعلاه ، بافتراق اعتقادنا أنّ رسالتنا الإلهيّة خاتمة ومكمّلة كلّ الرسالات التي جاءت قبلها ، أنّ رسالتنا خير الرسالات ، بدليل نصّ القرآن الكريم النازل على صدر خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله).

ونرى نحن الشيعة الإثني عشريّة أنّنا الفرقة الناجية من فرق الإسلام التي جاوزت السبعين فرقة ; إذ سرنا على خطى ورؤى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ـ وصي النبيّ الأكرم وخليفته بالحقّ من بعده ـ وأبنائه الطيّبين الطاهرين (عليهم السلام) ، آخرهم المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف الذي نعتقد بوجوده


حيّاً بين ظهرانينا وسيظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً. نؤمن أنّنا ـ كمذهب ـ نمثّل الإسلام الحقيقي بمبادئه ومفاهيمه وأصالته ، الإسلام الذي يعني : المحبّة والسلام والخير والأمان والازدهار والفلاح ، الإسلام الذي يمثّل مكارم الأخلاق بكلّ فضائلها ومحاسنها ، إنّنا الوجه العقلاني الحواري الحضاري للإسلام الصحيح ، هكذا نرى.

إنّ رجالنا من علماء ومفكّرين ومنظّرين ومثقّفين ومتخصّصين وخبراء وكتّاب ونقّاد وما سواهم ، بحسب قدراتهم وإمكانيّاتهم وآليّاتهم المتفاوتة ، يبذلون الجهد والسعي لإبراز المحتوى والشكل السليم لانتمائنا وهويّتنا وفكرنا ورسالتنا.

وقد تحمّل رجال الدين عبر مرّ التاريخ ـ فقهاءً وعلماءً وطلاّباً ـ العبء الأثقل في الذود عن قيم الدين والمذهب ، بمختلف السبل والوسائل ، وعانوا الأمرّين وقدّموا التضحيات الغالية وجادوا بما لديهم ليرقى الإسلام وتشمخ الاُسس الحقّة.

وبات من الضروري أن تجد المؤسّسة الدينيّة لكيانها الكبير نسقاً ونظماً يدير شؤونها ويبرمج خطواتها ، ولاسيّما مع هذا الكمّ الهائل من طلاّب العلوم الدينيّة المستقرّين في شتّى أنحاء العالم ، الذين هم في تزايد مضطرد يوماً بعد آخر.

وتعدّ مدينة قم في إيران حاضرة التشيّع الاُولى في العصر الحاضر ، من حيث عدد طلبة العلوم الدينيّة الذي يربو على الثمانين ألف طالب ،


والإمكانيّات الهائلة والأساتذة المرموقين ، والدعم اللاّمتناهي من القيادة العليا في البلاد .. إلى ذلك : وجود حرم السيّدة العلويّة فاطمة بنت موسى

ابن جعفر (عليه السلام) ، والمراجع العظام ، اللذين ميّزا هذه المدينة وجعلا من حوزتها العلميّة هي الرائدة بين الحوزات العلميّة الشيعيّة حالياً ، ممّا أضفى عليها أهمّيّة مضاعفة من حيث التفوّق العلمي والثقافي والتحقيقي ; فلا غرابة من وجود أكثر من خمسمائة مركز ومؤسّسة ومعهد معرفي تخصّصي فيها.

إنّ مدينةً بهذه الأهمّيّة والمحوريّة والعالميّة لابدّ أن تضطلع مؤسّستها الدينيّة بدور حضاري راق في إدارة شؤون علمائها وأساتذتها وطلاّبها ومدارسها ، وبالفعل فإنّ مديريّة الحوزة العلميّة في قم هي المعقل الرسمي الذي يدير ذلك ، التي انبثق إلى جانبها بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المركز العالمي للدراسات الإسلاميّة ـ تغيّر اسمه مؤخّراً إلى جامعة المصطفى العالميّة ـ حيث يدير شؤون الطلبة الأجانب.

إنّ طالب العلوم الدينيّة متفرّغٌ ومنهمكٌ تماماً ـ إلاّ القليل ـ بتلقّي الدروس والمعارف الإسلاميّة ثم التباحث فيها ومراجعتها وتدريسها ، طبق النمط السائد في السلك والتسلسل الحوزوي ، وإلاّ فإنّ فرص التقدّم والتطوّر العلمي تبقى محدودة ضئيلة لمن لا يبذل الجهد على النسق المذكور.

هذا الطالب مصدر رزقه الوحيد ما تمنحه له المراجع العظام من


رواتب ومعاشات شهريّة مع بعض الهدايا بمناسبة الأعياد الدينيّة خلال السنة. وتتولّى مديريّة الحوزة أو جامعة المصطفى العالميّة مهمّة التنسيق والتنفيذ في منح الراتب وعدمه عبر ضوابط ونظام يطول بيان جزئيّاته ومراحله الشاقّة المعقّدة والتي لابدّ منها بعض الأحيان ; لغربلة وانتماء وإبقاء من هو أهل وكفء لمواصلة الدراسات الدينيّة ، حتى يكون جنديّاً من جنود صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف بالمعنى الصحيح ، جنديّاً يفهم القيم ويذود عنها ويسعى لنشرها ، جنديّاً يصبح نموذجاً علميّاً عمليّاً أخلاقيّاً ، واجهةً ناطقةً حاكيةً الخزين الثرّ والمحتوى النفيس من الرؤى والبصائر والمبادئ الإنسانيّة السليمة ، مترفّعاً بذلك عن تفاهات المادّة ومغرياتها وظواهر الدنيا ومهاويها ، مندفعاً بدافع العقيدة والحبّ والإخلاص على جناح العزّة والشرف والكرامة المحمديّة السرمديّة.

إلاّ أنّه من المؤسف حقّاً أن نجد أحياناً غياب النظم وطغيان اللامبالاة على أذهان المتصدّين لإدارة شؤون الطلبة ، ممّا يترك انطباعاً وصورةً سيّئةً لا تتناسب مع أهمّيّة الدور وخطورة المهام.

إنّ المشاهدات الميدانيّة المتكرّرة لظواهر البيروقراطيّة والفوضى وفقدان الإحساس بالمسؤوليّة واللاّمركزيّة المثيرة والتسيّب الملحوظ وعدم الجدّيّة في أداء المهامّ وحلّ المشكلات ... لا تحتاج إلى مزيد استقراء وعناء لضبطها والعثور عليها ، فهي واضحة جليّة لكلّ من ابتلي بها.


فهذا يبحث عن وثيقته التي فُقدت ـ وفقدان الوثائق والأوراق أشبه بالأمر العادي هناك ـ منذ شهر وشهرين بل وأكثر من سنة أحياناً ، وذاك الذي ينتظر درجات اختباره التي ضاعت ولا يعلم عنها شيئاً ، وثالث ينتظر سنةً أو سنتين ولم تُضف درجاته الجديدة في اختبارات الترقية إلى سجلّه ، ورابع طال نقله من كذا مدينة إلى قم أو العكس كذا فترة ماراثونيّة ، وخامس لم يتحقّق انتقاله من سجلّ الطلبة الأجانب إلى مديريّة الحوزة منذ منحه وثيقة الانتقال قبل عام ونصف وأكثر ، وسادس يلهث كي يحصل بشقّ الأنفس مع كلّ التوصيات على إجازة فتح مدرسة علميّة في كذا مدينة نائية فلا يحصل عليها إلاّ بالمعجزة ، وسابع رغم الأوامر المكتوبة من قبل الرجل الأوّل في مديريّة الحوزة العلميّة بوجوب إنجاز طلبه لا يعار له ولتلك الأوامر أيّ اهتمام وعناية ، وثامن مكبوس في حاجته بين مطرقة الفريق الذي غادر وسندان الفريق الذي تسلّم مقاليد الاُمور حديثاً فغدا هو الضحيّة ، وتاسع لا يدري ماهيّة الموظّف والمسؤول الذي ينجز طلبه ، فهذا يرشده إلى غرفة رقم كذا وذاك يرشده إلى غرفة اُخرى وهكذا ، وعاشر كلّما قصد الشخص المسؤول عن قضيّته وجد بابه مغلقاً فهو إمّا في إجازة قصيرة أو طويلة أو في الدرس ، وإن تواجد فبالكاد تصله النوبة ، وإن وصلته يعلّق مسألته إلى اُسبوع أو اُسبوعين وأكثر ، وحذاري أن تكون أوراقك وملفّك ناقصة استنساخاً أو صورة بعد كلّ مراحل العناء والانتظار ، فهذا يعني تأخّر إنجاز قضيّتك لوقت غير معلوم إثر الأوضاع السائدة من تسيّب ولا مبالاة وغيرهما.


أمّا أنّك في وضع لا يمكّنك من استلام مرتّبك الشهري بسبب ظروف ملفّك وسجلّك الحوزوي المعلّقة على همّة وحزم وعزم المديريّة نفسها ، أو أنّ تأمينك الصحّي والاجتماعي معلّق لذات السبب ، فهذا ما لا يحرّك غيرة أيّ أحد من هؤلاء لينجز عملك المؤخّر بسبب إهماله وعدم شعوره بالمسؤوليّة.

ولطالما ذكّرتُ المهتمّين بشؤون الحوزة العلميّة بهذه الحالة السلبيّة المعشعشة في واحدة من أهم وأخطر معاقلنا ، المؤسّسة الرسميّة التي تُعنى بشؤون مَن هم حملة العلم والفقاهة والمعارف ، الذين يبذلون كلّ ما بوسعهم لخدمة الدين والمذهب ، هذه المؤسّسة التي ينبغي لها أن تكون نموذجاً يُحتذى به في النظم والعزم والحزم والشعور بالمسؤوليّة والالتزام ، لكنّها للأسف غير كفوءة لإدارة شؤون هذه الطبقة العظيمة الشريفة من اُمّتنا الإسلاميّة ، طبقة الروحانيّين.

من المؤسّف حقّاً أن تكون من الهموم الكبيرة التي يعاني منها طالب العلوم الدينيّة هذه المراجعات الإداريّة التي تقضّ مضجعه وتؤرّق جفونه وتثير اضطرابه ، وهو المفروض به التفرّغ والانهماك في دراساته وأبحاثه ومطالعاته ، وشغل ذهنه وأفكاره بما ينمّي مواهبه وطاقاته العلميّة والثقافيّة لا أن ينشغل بأسماء الذين ينبغي مراجعتهم إداريّاً.

ولعلّه من المناسب الإشارة إلى حالة مقلقة في النظام الحوزوي الموجود ، قد لا يكون لمديريّة الحوزة دخل أساسي فيها ، إنّها مسألة كسر


وتخفيض راتب الطالب غير المعمّم ، بداعي إيجاد المحرّك عنده نحو التعمّم.

إنّ العمامة شرفٌ ومظهر روحاني مقدّس ، إنّها تمثّل الوجود العلمي والمعنوي لطالب العلوم الدينيّة ، والتتوّج بها يستلزم شروطاً ومواصفات خاصّة ، وطالب العلوم الدينيّة المعمّم لابدّ وأن يبلغ مرتبة علميّة وأخلاقيّة تؤهلانه لتقلّدها ، بحيث تصير وسيلة لمواصلة السعي المعرفي والمعنوي ، لا غاية ومترساً يختبئ خلفها ويصنع منها درعاً وملجأً ومصدر رزق ; إذ تغدو بذلك سلعة رخيصةً تفقد هيبتها وموضوعيّتها وتنزل أسوأ العواقب بصاحبها الذي ما عاد يمثّل نفسه فقط ، إنّما هو واجهة كلّ هذه الشريحة المقدّسة التي تحمّلت ـ ولا زالت ـ أعباء حفظ ونشر القيم والمفاهيم الحقّة. فلِمَ نحوّلها إلى سلعة رخيصة بالدعوة لها من خلال المال والتطميع؟! وما يدرينا فلعلّ المناوئ الدني قد استفاد من هذه الفرصة ليضاعف أجر من يمتنع عنها أو يخلعها بعد ارتدائها مادامت القضيّة قد لبست ثوباً جديداً ، ثوباً من الربح والخسارة الدنيويّة.

وما شكواي إلاّ لدوام اعتقادي أنّ طبقة الروحانيّين هي أشرف وأجلّ طبقات المجتمع وأنبلها أخلاقاً وإيماناً وعلماً ومعرفةً وعملاً.

ومن الإنصاف أن نقول : إنّ المركز العالمي للدراسات الإسلاميّة

ـ جامعة المصطفى العالميّة ـ يمتاز بالنظم والجدّيّة والالتزام والإحساس بالمسؤوليّة أكثر قياساً إلى مديريّة الحوزة العلميّة ، وهذا ما يعترف به


بعض أعضاء المديريّة الذين قابلتهم وسمعت منهم ذلك مباشرة.

كيف لنا أن ننهض بقيم واُسس ومناهج نقنع بها الدنيا ونحن لازلنا نعاني ضعفاً في أوّليات اُمورنا نظماً وتفكيراً وأداءً ، لازلنا نحبو أبطأ من السلحفاة في عالم ملاكه السرعة والحركة المثيرة ، حبواً فيه الكثير من الوقفات والتعثّرات والالتواءات الخطيرة. إنّنا إن لم نستطع إرساء المفاهيم والأساليب الحضاريّة في معاقلنا الرئيسة وكياناتنا الاستراتيجيّة فأ نّى لنا طرح رسالتنا عالميّاً بادّعاءات عريضة وأهداف كبيرة.

إن بقينا على أوهامنا وتعبّداتنا المطلقة واللطم على عزّنا السالف ومجدنا الضائع ; إن ظلّت القشور والمظاهر همّنا الأوّل وغايتنا المرجوّة خشيةً من الولوج في عمق المحتوى الذي يستدعي الاستنطاق والمراجعة والمقابلة والبعثرة ; إن لم نفهم مبادئنا فهماً صحيحاً ; فسوف لن تقوم لنا قائمة أبداً ، وستلاحقنا لعنة السالفين واللاحقين من أبناء اُمّتنا الذين سلّمونا مقاليد اُمورهم ووثقوا بنا أيّة ثقة ، الثقة التي فرّطنا بها بفعل أدواتنا الخاطئة وهوى أنفسنا الذي لا يتوقّف عند حدٍّ معيّن ، ومن المؤسف حقّاً أن نكون على هذا الحال ونحن دعاة رسالة غزت العقول والقلوب على السواء وأزالت الفوارق العنصريّة ودعت الناس إلى الحبّ والايمان والخير والفلاح ، إنّنا بلا شكّ دون الكفاءة المناسبة لهكذا رسالة مادمنا لا نغيّر ما بأنفسنا من صور وحالات تسير بالاُمّة إلى مهاوي التخلّف والخسران.


الشهرستاني حلقة الوصل بين الخامئني والسيستاني

كثيرةٌ هي الأبحاث والدراسات والمطالعات التي خاضت وتخوض غمار النقاش والحوار بخصوص حوزتي النجف الأشرف وقم المقدّسة ، من حيث النشأة والتاريخ والخصائص والمزايا ومراحل النموّ والازدهار وعوامل التراجع في بعض الأزمان ، ومن حيث التلاقي والافتراق في بعض القضايا والنقاط.

وعزف غير قليل من النقّاد والمراقبين على وتر الاختلاف بين الحاضرتين الشهيرتين ، فراح جاهداً توسيع الهوّة وتعميق الفجوة وتصوير الحال بصورة النزاع والصراع والتباعد الشديد المآل ، من خلال التركيز على المسائل المبنائية الخلافية التي تعدّ في الأوساط المعرفية الشيعية من الاُمور الطبيعية ; لذا لم ينتج هذا العزف لحناً مقبولاً ; فطالما نجد خلافات علمية مبنائية بين فقهاء وعلماء الحوزة الواحدة ، بل الحلقة الواحدة ، الخلافات التي لا تُعدّ نقطةً مظلمةً فحسب ، بل علامةً مضيئةً في الأوساط الحوزوية ; بسبب كونها تثير التنافس العلمي الشريف وتشحذ الهمم الفكرية نحو خلق مناخ يحفل بالبحوث الجادّة والنقاشات الساخنة التي


تتمخض أرقى النتاجات وأدقّ الآثار ، وهذا ما نلحظه بوضوح وجلاء في كلا الحوزتين ، حيث خرّجتا أساطين العلم والمعرفة من الفقهاء والمجتهدين والنخب الشامخة على مدى الحقب والأعوام ـ ولاسيّما حوزة النجف ذات الأكثر من ألف عام ـ ورفدتا المحافل الثقافية بروائع الكتب والمصنّفات.

وبإزاء ذلك ، لعب البعض الآخر دوراً هامّاً في ردم الهوّة وكسر الفجوة بين قطبي العلم والمعرفة ، بين النجف وقم ، الهوّة والفجوة اللتين صنعتهما الرؤى الغريبة المغرضة والأفكار الحاقدة الدخيلة على فضاء التشيّع وثقافته الحوارية.

ومن الذين يشار إليهم بالبنان في هذا الميدان السيّد جواد الشهرستاني ذي الستّين عام ، هذا الرجل ـ المعروف بحفظ التوازنات ، وفكره الخلاّق المؤسّساتي ومبناه الجذبي الاستقطابي وأدائه الإداري الاستثنائي وخلقه الرفيع الإنساني ـ كان يصرّ منذ البدء ـ وقبل أن يؤسّس مؤسّسته الشهيرة المعروفة بمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث سنة ١٩٨٤ م ـ على ضرورة التواصل بين حوزتي النجف وقم ، وقد لاقى جرّاء ذلك أشدّ الضغوط والمضايقات والافتراءات من القريب ناهيك عن البعيد ، لكنّه واصل العزم بجدّ وحزم ; لإيمانه الراسخ بكون كلا الحاضرتين إحديهما عمق الاُخرى ، إحديهما لا تستغني عن الاُخرى.

نعم ، لقد أينعت الثمار وحان وقت الحصاد ، فإذا بهذا الرجل قد غدا


بجدارة حلقة الوصل الأمينة ، بين النجف وقم ، بين النجف وطهران ، حيث طهران هي قم وقم هي طهران في الحسابات المعروفة ، هذا الرجل الحاذق صار نقطة الارتكاز العميقة بين المرجع الأعلى السيد علي السيستاني وبين قائد جمهورية إيران الإسلامية السيد علي الخامنئي.

وغير خاف على الجميع ما نتج عن هذا التواصل والتنسيق والانسجام من خيرات لاحت بشائرها على العراق وإيران سريعاً ، وستعمّ بركاتها على المنطقة والعالم قريباً ، مع أنّ آتي الثمار سيكون أكثر وأكبر وأينع بعون الله تبارك وتعالى.

إنّها خصيصة ابتكار ورشحة دهاء وشهادة نقاء وشاخص عطاء تسجّل للشهرستاني وتحسب له في ملفّه الإبداعي.


السيّد جواد الشهرستاني كما عرفته

قيل لي كراراً مراراً : لِمَ لا تكتب في السيّد جواد الشهرستاني شيئاً وأنت قريبٌ منه وإليه؟

قلت وأقول : طالما كنت أقفز فوق الجواب متشبّثاً بهذا العذر وذاك ; حتى اُموّه على السبب الأساس ، وإذ أجدني غير مضطرٍّ إلى الكشف عمّا أعمل عليه منذ زمن طويل وأمد بعيد ، فلا مندوحة من تسليط الضوء على بعض الاُمور سريعاً خاطفاً.

ولعلّ ما طالعته عنه مؤخّراً منقولاً في موقع «المسلّة» قد حفّزني كي اُضيف على الشعر بيتاً.

لستُ بصدد الإشارة إلى سيرته وخصائصه ومميّزات شخصيّته وعطائه العلمي والديني والاجتماعي ، فقد قيل ودُوِّن عنها الكثير ، بل هي نارٌ على علم ، وتكرار المكرّرات من أشكل المشكلات ، إنّما شهادة التاريخ تدعوني كي أعترف لهذا الرجل بأ نّي لولاه لما حقّقتُ حلمي الشغوف منذ الصبا وطموحي الناهد منذ زمن طويل مضى ، حين همس


في قلبي وعقلي وأفكاري ، هَمْسَ الناصح الرفيق والعضيد الشفيق ، بالجدّ والعمل ، لا باللفظ والهزل ، «سر على بركة الله» فانطلقتُ سائراً في رحاب المعارف ومناخ الأنظار أشمّ عبير الكتب وأريج الأسفار ، أهوى بساتين الأبرار وحدائق الأخيار ، أنهل منها نهل الصادي قدر ما يروي ضمأي ويشفي غليلي ويحقّق مرادي ، حتى صارت الكتابة متنفّسي وأداتي لاُعبّر بها عمّا يرشح من رؤاي وآلامي ، معاناتي وأفكاري ، ولا تهافت بين إقراري بحبوي وضعفي وقلّة زادي في دروب الكتابة والتدوين وبين كيمياء الجرأة والثقة بالنفس اللذين زرعهما هذا الرجل في عقلي وقلبي وروحي وغذّاهما حناياي وأعماقي.

ولعلّ من عجائب الدهر وقسوة الأيّام أن ينال قلمي هذا الرجل بين الفينة والاُخرى بالنقد الجارح تارةً والملاحظة الشفّافة اُخرى والاستشكال المؤلم ثالثة ، فلا يجابهني إلاّ بمنهج الحوار والنقاش الساخن الجادّ رغم قدرته الفائقة ونفوذه الواسع وكلمته المدوّية التي تمكنّه من فعل ما يشاء دون صعوبة وعناء. ناهيك عن إعزازه لي بعدئذ وزيادة احترامه أكثر من ذي قبل وأنا الذي تعلّمت منه الكثير ثم قابلته بالنقد والاستشكال المرير .. ألا يتداعى إليك هنا الشاهد الشهير : «وكم علّمته صنع القوافي فلمّا قال قافيةً هجاني» أو نظيره : «اُعلّمه الرماية كلّ يوم فلمّا استدّ ساعده رماني»؟! أمّا هو فيتداعى إليه ـ اعتقاداً ـ مبنى «الجذب والاستقطاب خيرٌ من الطرد والاستبعاد».

وهذا ما جعله الكهف والملجأ والملاذ لشتّى ألوان الناس وأطيافهم.


أمّا تستّره على عيوب وأفعال الآخرين رغم فضاعتها وأضرارها الجسيمة عليه ، فهو من جميل خصاله وروائع خصائصه.

سريع الغضب وسريع الرضى ، وهنيئاً لمن يناله غضب هذا الرجل ، فإنّه يغدق عليه من سابغ جوده وحنانه فلا يُبقي أيّ أثر سيّء في الذهن والقلب.

حركته الدؤوبة لا تلمس فيها تصنّعاً ولا تكلّفاً ، حركةٌ ذائبة في عمق القيم والمبادئ والمفاهيم الحقّة ; لذا نالت حظّها من التسديد والمباركة والتأييد.

يجمع بين حزم المدير المقتدر وربّ البيت المدبّر وإخلاص الرفيق وحنان الشقيق.

كثيراً ما اُصمّم على عدم الذهاب إلى المؤسّسة وعدم الالتقاء به ، لكنّي أجد نفسي نهاية المطاف مستأنساً مجالساً له ، ما السرّ يا تُرى؟ لا أدري.

أقولها قاطعاً : كلّنا نخطأ ونغفل وننسى ، ولا يُستثنى هذا الرجل منها .. إلاّ أنّنا لو وضعنا ما له في كفّة وما عليه في الاُخرى لهوت الاُولى سريعاً من فرط ثقلها وزيادة وزنها ..

لنا : الدليل الساطع والبرهان القاطع والمؤيّد اللامع ، فلا تصل النوبة لمبحث الجرح والتعديل.


هذه ليست سوى إضاءة ، ومضة ، زاوية ، وإلاّ فالمشروع ضخم مثير يفتقر الجهد الغفير والسعي الكبير.

أقول : سيّدنا السيستاني! سيّدنا المرجع الأعلى! بوركتَ وبوركنا وبورك الدين والانتماء وطرّ الإنسانية جمعاء بهذا الصهر البارّ والوكيل المطلق المغوار والعلم العيلم الموّار ، بورك الكلّ بهذا الفخر وهذه الدرّة الناصعة على جبين الحبّ والسلام والإيقونة الزاهرة بالأمان والاطمئنان ، واللوحة المشرقة بالإيمان والوفاء والعطاء ، عطاء الوصف والعنوان.


وقفة بلا عنوان

حينما يقال : مرجعيّة السيستاني ، يتبادر إلى الذهن : الدين والتقوى ، الحكمة والوقار ، المنزلة الطيّبة في القلوب ، الإخلاص والجهد الحثيث للارتقاء بواقع الاُمّة على شتّى الأصعدة والميادين ...

يتبادر إلى الذهن : الالتزام العملي بالمباني والمناهج والأنساق التي ألزمت المرجعيّة نفسها بها ، فمهما حاول الآخرون إرغامها كي تحيد عن ذلك ، لكنّها بقيت طوداً أشمّ وصرحاً شامخاً لا تناله أدوات الاستفزاز الرخيصة والأساليب السخيفة ، وبقي السيستاني صمّام الأمان وقطب الاطمئنان وملاذ الناس بمختلف صنوفهم ومراتبهم ، يشهد بذلك الداني والقاصي ويقرّ به العدوّ قبل الصديق.

وللسيستاني رجالٌ ، وأشهرهم وكيله العامّ السيّد جواد الشهرستاني ، ابن المرحوم آية الله السيّد عبدالرضا ، إحدى الشخصيّات العلميّة المعروفة بكربلاء ، المدفون بمشهد الإمام الرضا عليه السلام.

لقد شغل السيّد جواد الناس وملأ الدنيا بحركته الدؤوبة التي


لا تعرف السكون والتوقّف ، فما إن وجد في مدينة مشهد المجال الضيّق الذي لا يلبّي طموحاته وأهدافه حتى انطلق قاصداً الفضاء الرحب ، حوزة قم المقدّسة ، كي يترجم أمانيه إلى واقع عملي وممارسة حقيقيّة ، ولم يأبه أبداً بهيبة أجوائها العلميّة المزدهرة.

استفاد السيّد جواد الشهرستاني من ميادين قم الثقافيّة أيّما استفادة رغم محاولات بعض الجهات والأفراد الحدّ من نشاطاته أو إفشال جهوده التي كانوا يعدّونها نوع منافسة ومزاحمة أو مخالفة لتوجّهاتهم ، ولاسيّما صدورها من طالب علوم دينيّة في مقتبل العمر ، قادم من النجف ، لم ينخرط في سلك السياسة ، بل اعتبره البعض مناوئاً لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة ، مع كونه مؤيّداً داعماً لهذا النظام ، لكنّه يسير طبق المبنى الذي يعتقد به. والأعجب أنّ طرفي المعادلة كليهما ـ أهل الثورة ومخالفيها ـ صنّفاه في الصفّ المناوئ!! وإنّنا طبق معرفتنا بهذا الرجل فإنّ قلبه مع الثورة لكنّه غير ملتزم بمبنى ولاية الفقيه المطلقة ، ولقد ثبت ـ على مدى الأعوام الماضية ـ صدق هذا المدّعى لدى مسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة من خلال ما يبديه من إخلاص وشفّافيّة وحبّ لهذا النظام ، وباتوا لا يغضبون كثيراً من انتقاداته التي يضعونها في خانة الحرص على النظام.

لقد حاول الشهرستاني إيجاد موطئ قدم له في حوزة قم من خلال إنجاز بعض المشاريع الصغيرة مثل طبع ونشر المصادر التي تحتاجها


الحوزة العلميّة ، ثم المشاركة في تحقيق بعض الكتب ، هذان الأمران أخذا به إلى تأسيس مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، باعتماد منهج واُسلوب العمل الجماعي في تحقيق الكتب والمصادر.

ورغم الصعوبات والمشاقّ التي تحمّلها ـ ولاسيّما الاقتصاديّة والسياسيّة منها ـ لكنّه نجح نجاحاً كبيراً في هذا المضمار ، واستطاع الانتقال إلى مرحلة أكسبته موقعاً مناسباً واحتراماً جيّداً بين الأوساط العلميّة والثقافيّة ، من خلال شبكة العلاقات الواسعة التي اشتغل عليها كثيراً عبر أنواع الأدوات والآليات المتاحة ، المقرونة بنجاح مؤسّسته التحقيقيّة عبر رفد الأوساط المختصّة بنتاجات ذات كيفيّة نالت إعجاب وتقدير أهل الخبرة والاطّلاع.

لقد ضحّى الشهرستاني بمستقبله العلمي ـ بتوقّفه عن حضور الدروس العالية والاكتفاء بما بلغه من حضور لبضع سنوات في دروس بحوث الخارج فقهاً واُصولاً ـ لصالح المسؤوليّات الإداريّة والتنفيذيّة ; اعتقاداً منه بأنجعيّة آليّتها في خدمة الدين والطائفة وبلوغ الأهداف والطموحات المرجوّة ، ولقد تأ لّق بهما تأ لّقاً منحه الشهرة وفتح له الآفاق نحو وظائف أكبر ومهامّ أخطر.

جاءت مرجعيّة السيّد السيستاني لتضع النقاط على الحروف وتصنع الفرصة الذهبيّة كي يفرغ الشهرستاني ما في جعبته من مهارات وإمكانيّات كامنة ويضعها في طبق الوفاء والإخلاص لعمّه ـ والد حرمه ـ


الذي لم يتوان في منح هذا الصهر وكالته العامّة المطلقة ، فخصّه بمزايا دون غيره.

ولقد أبلى الشهرستاني بلاءً حسناً في الإسهام بتسنّم مرجعيّة السيستاني المقام الأعلى بين سائر المرجعيّات الشيعيّة ، وكان الذراع الفولاذي الأمين في الذبّ عنها وبيان رؤاها ومواقفها ، بشكل غدا به رجل المرجعيّة الذي يشار له بالبنان.

لا ننسى أنّ المرجعيّة جاءت أيضاً لتترجم أمانيّ الشهرستاني وطموحاته إلى واقع عملي ملموس ، فلولا المرجعيّة ما استطاع الشهرستاني تنفيذ أهدافه أبداً ، بل فاق الأهداف وبلغ ما لم يكن يفكّر ببلوغه واستفاد من حصن المرجعيّة أيّما استفادة ، فصار القوّة الضاربة التي تغلغلت وأ ثّرت في مختلف ميادين الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ، بل السياسيّة كذلك ، رغم المبنى والمنهج الذي تلتزم به المرجعيّة.

نال الشهرستاني ثقة مختلف الانتماءات والتيّارات بانتهاجه آلية «حفظ التوازنات» عبر السعي إلى البقاء بفاصلة متساوية عن الجميع ، رغم ما اُثير حوله مؤخّراً من ميول أظهرها ـ كما يدّعى ـ لتيّار على حساب تيّار آخر ، فعدّوها نقطة ضعف في ملفّ الشهرستاني.

انهمك في بناء وتشييد المؤسّسات والمراكز والمعاهد الثقافيّة والاجتماعيّة والخيريّة وفتح باب الدعم والمساعدة لشتّى المشاريع


الناهدة وسجّل حضوراً فاعلاً قويّاً منحه الشهرة والمكانة الكبيرتين ، فصار مهوى الكثيرين ومقصد ذوي الحاجات وغيرهم ، وكان لشخصيّته الجذّابة واُسلوبه اللطيف الدور المؤثّر في عمليّة الاستقطاب ، التي يوليها أهمّيّة خاصّة ويؤكّد دوماً أنّ الجذب مهما أمكن أولى من الطرد ، إلاّ أنّه بين الفينة والاُخرى يبتلي بخروج هذا وذاك من ظلّ المجموعة ، الخروج الذي يُعدّ نوعاً من الطرد ، وهذا ما يثير تأمّل البعض في مصداقيّة «الاستقطاب» المذكور.

يقول البعض : صار الشهرستاني عَلَماً ، بل ملكاً وسلطاناً ، له الحاشية والخدم والحشم ، كلٌّ يؤدّي دوره المعهود إليه ، وصار الكثيرون يحلمون بمجرّد لقاء به ، ناهيك عن التقرّب إليه والانضمام إلى مجموعته ، المجموعة التي يتسابق كلّ واحد فيها ويتفانى لإثبات أرقى مراتب الإخلاص والحبّ له ، ومن ينتخبه الشهرستاني منهم كي يكون «سائقه» هذه المرّة ـ مثلاً ـ فهو ذو حظّ كبير ، ومنهم يكتفي بحمل «نعليه» ـ الحذاء ـ فهذا الحامل يعدّها نوعاً من أنواع النعمة عليه ، إذ بات حافظ نعلي الشهرستاني.

نعم ، أصبح حبّ الشهرستاني ملاك الحبّ ، والوفاء له ميزان الوفاء ، والطاعة له ضابط الطاعة ، فغدا هذا الرجل كلّ شيء للمجموعة المذكورة ، إن أظهرت الحبّ والوفاء والطاعة للشهرستاني أحبّوك وساندوك وإلاّ فلا. انتهى.


من هنا يأتي السؤال : ماذا فعل الشهرستاني بهؤلاء حتى جعلهم على هذه الحالة من الانقياد والاستسلام المحض له وهو صرف وكيل عامّ لمرجع من المراجع العظام؟

لا شكّ أنّه الإنسان الذكي الذي يعرف تماماً ماذا يريد ويقصد ، إنّه صاحب مشروع كبير وأهداف أكبر لا يمكن تحقيقها إلاّ عبر إرساء الأرضيّة المناسبة من خلال الأدوات والآليات والسبل المختلفة التي منها تشكيل مجموعة تخضع خضوعاً تامّاً لإرادته وتحصل بالمقابل على ما لم تحلم به وتريد ، وبإزاء ذلك لم يتوان الشهرستاني من حذف كلّ من يقف حجر عثرة في طريقه ، حذفاً دبلوماسيّاً بالطرق السلميّة ، فخرجت ثلّة لامعة من الرموز والنخب مطرودة عمليّاً «بلا زعل» وحلّت محلّها «فدائيّو الشهرستاني» ـ كما يحلو للبعض إطلاق هذه التسمية عليهم ـ لتأخذ على عاتقها تنفيذ أوامره تنفيذاً عالياً.

«إنّهم» ليسوا على مرتبة واحدة ، بل على مراتب من العلوّ والدنو ، وتلعب بعض الخصائص ـ ولاسيّما التكوينيّة منها ـ دوراً هامّاً في تعيين المرتبة ، فالجاذبيّة والجمال مع اللباقة لهما مدخليّة هامّة في الانتخاب.

وأكثر ما يثير حفيظة السيّد الشهرستاني انتقادك واحداً من خاصّة المقرّبين بوجه حقّ أو بغير حقّ. والمعروف أنّه لا يرتّب الأثر على الانتقادات ترتيباً فوريّاً ، بل إنّما يفعل ذلك آجلاً وبالطرق التي لا تُشعِر الكثيرين بأ نّها عملية ردّ وجواب لتلك الانتقادات ، سواء تلك الموجّهة إليه أو إلى خاصّته من المقرّبين.


يسعى السيّد الشهرستاني إلى الحفاظ على الظاهر المعهود عنه من القوّة والتماسك والنشاط رغم المشاكل العديدة التي يتعرّض لها سواء الاقتصاديّة منها أو السياسيّة أو الاجتماعيّة بل وحتى الجسديّة ، وهذا دأبه منذ أيّامه الاُولى في قم ، فقد أشاع البعض سابقاً نبأ انتكاسة الشهرستاني اقتصاديّاً لكنّه بقي بأعين الناس محافظاً على تماسكه وقوّته رغم الهزّات العنيفة التي تعرّض لها آنذاك ، وهكذا يفعل الآن في ظلّ الصعاب التي تمرّ به بين الحين والآخر ، فيظهر للملأ أنّ الاُمور على ما يرام ، بل يقدم على بعض الخطوات والمشاريع كي يطمئن الآخرين بأن كلّ شيء سائر طبق البرامج الطبيعيّة.

مئات الأفراد بشتّى المستويات والانتماءات تعمل تحت مظلّة الشهرستاني وكيانه المترامي الأطراف ، الغالب منهم منشغل بمهامّه وأعماله وليس لهم دخل في ما يحدث من قضايا واُمور ، وهؤلاء في راحة والشهرستاني منهم في راحة ، أمّا الذين يهتّمون أو تهمّهم تلك القضايا والاُمور فهم على صنفين :

الأوّل : صنف السمع والطاعة المطلقة.

الثاني : صنف السمع والطاعة المشروطة.

والصنف الأوّل اختار طريقه وفهم ما له وعليه ، وكذا الصنف الثاني ، والفرق بينهما أنّ نظرة وتعامل أحدهما للآخر مختلفة اختلافاً شاسعاً ، فالأوّل يرى في الشهرستاني كلّ شيء ، فالحبّ حبّ الشهرستاني والوفاء


هو الوفاء له ، وكلّ من يخرج عن هذه القاعدة محكوم مدان .. بينما يرى الثاني أنّ الشهرستاني رجلٌ له ما له وعليه ما عليه ، يصيب ويخطأ ، ومع حفظ الاحترام وعدم إنكار ما لهذا الرجل من مكانة وخدمات جليلة ، فإنّ عليه من الملاحظات والانتقادات ما يجب مناقشتها للوصول إلى حلول منصفة تنهض بالواقع الموجود ، وتسهم في تحسين الأوضاع ، وتسلب الحجّة من الذين لا يفهمون إلاّ منطق التخريب والاستفزاز وإساءة الظنّ.

يمكن القول : إنّ الفضاء الذي تكوّن على هذه الشاكلة الموجودة حالياً إنّما تولّد عبر تناغم بين ما يريده السيّد الشهرستاني وما تريده المجموعة الملتفّة حوله ، وإلاّ فلو كان السيّد الشهرستاني رافضاً لهذا الفضاء فما تكوّن وما وُلد بالمرّة.

ولا شكّ أنّ سماحة المرجع الأعلى على علم واطّلاع بكلّ ما يحدث هنا في قم ، والتقارير الواصلة إليه من مختلف الجهات والشخصيّات موضوعة نصب عينيه ، ولا يمكن لأيّ أحد أن يعيّن تكليفاً ما لسماحته ، فهو المرجع الأعلى مع كون سماحته قد أثنى ـ كما ينقل الرواة الثقاة ـ في أكثر من مناسبة وموقف على شخصيّة السيّد الشهرستاني وجهوده ومساعيه في الذبّ عن حريم الولاية ونشر قيم الطائفة الحقّة والدين المبين.

يقول البعض : مخطئٌ تماماً من يعتقد أنّ «فضاء الشهرستاني» فضاءٌ يعتمد المحبّة والتواصل والاُخوّة بلا ثمن ، فإنّها إن تكن فهي مشروطة


بالشهرستاني لا غير ، فكلّ شيء في هذا الفضاء منوط بالشهرستاني ، فهو ملاك وميزان وضابط كلّ شيء ، إن فرح فرحوا وإن غضب غضبوا ، إن قبل قبلوا ، إن رفض رفضوا ، إن قال قالوا ، إن سكت سكتوا ... فهو مؤشّر القيم والمفاهيم والأخلاق ...!!

خلاصة الأمر : هنا حقيقة واحدة ، حقيقة الشهرستاني ، وكلّ مادونه هراء وفراغ ، فلو تصوّرنا هذا الفضاء والكيان بلا الشهرستاني ، اُنظره كيف يكون ، إنّه مجرّد أطلال خاوية ساكنة مقفرة موحشة. أليس الشهرستاني مَلِكاً وسلطاناً إذن؟! بل أكثر من ذلك فالملوك والسلاطين إذا ماتوا تبقى الحياة آخذةً سيرها ومجراها ، لكنّ الشهرستاني بفقده سيؤول كلّ شيء في هذا الفضاء والكيان إلى الاُفول والاضمحلال والدمار ...

يا لها من سلطة عجيبة ، يا لها من كاريزميّة رهيبة .. لكنّنا يجب الاعتراف والإقرار أنّ ثقافتنا وتاريخنا قد فرضا علينا ألاّ تستقيم الاُمور ولا تصلح الأوضاع إلاّ بحاكم قويّ مستبدّ مهيمن ـ وإن كان عادلاً فنورٌ على نور ـ على كلّ القضايا وجزئيّاتها ، فتشرئبّ له الأعناق ويطاع حدّ الصنميّة ، ومن هنا يظهر على مسرح الأحداث الحربائيّون والببغائيّون والمتزلّفون والمنافقون ... وتنمو مواهبهم وينشروا أساليبهم وأدواتهم التي بها يبلغون مقاصدهم ويحصلون على مرامهم ، وبإزاء ذلك تزداد النخب والرموز عزلةً وانزواءً ; حيث لا يمكن لها الانسجام مع فضاء كهذا الفضاء ، فالأمر يتطلّب نزولاً وتنازلات يصعب عليهم تنفيذها والقبول بها.


فالذنب ليس ذنب الشهرستاني ، إنّما هو موروث ثقافة ومناهج لا يمكن تغييرها بين ليلة وضحاها ; إذ التغيير يستدعي قراءة ومراجعة واستنطاق الاُصول بعمليّة نسقية عمليّة مقترنة بالحفر والبعثرة والمقارنة والاستقراء والتحليل ، الأمر الذي يعني ـ مثلاً ـ الحصول على نتائج تكشف حدود وصلاحيّات واختيارات الأفراد بشتّى صنوفهم ورتبهم ، وتبيّن أنّ الفهم البراغماتي النفعي لماهيّة المعصوم عليه السلام عند الشيعة الإماميّة ـ نعني به فهم شريحة صغيرة من شرائح علماء الشيعة الذين عملوا بالقياس الباطل فاستفادوا منه في تسرية خيارات المعصوم إلى غيره ـ هو الذي أرسى قواعد الثقافة المشار إليها والتي يعدّ السيّد الشهرستاني ـ مورد بحثنا ـ رشحاً من رواشحها .. أمّا عموم الناس فهم مأخوذون بالتعبّد وقبول الأمر الواقع ، حيث الغالب منهم يمنح رجال الدين الثقة في اُمورهم الشرعيّة وغيرها ، رغم انعقاد الإجماع في المدوّنات الفقهيّة على حرمة الولوج إلى حريم خيارات الإمام المعصوم وحرمة العمل بالقياس المعروف دون منصوص العلّة ومفهوم الأولويّة ، لكن هذا الرفض نظريٌّ لدى بعضهم ، وإلاّ فهو لا ينسجم مع الذين يجدون في التصرّف بخيارات المعصوم سبيلهم الوحيد لتحقيق المقاصد والغايات.

لذا نحن لا نوجّه اللوم إلى شخص السيّد الشهرستاني ، بل نلوم نوعَ ثقافة سرت في جسد الأُمّة واخترقت عقلها وأحاسيسها ، ثقافة مخالفة لعقيدة المذهب الإثني عشري وقيمه ومفاهيمه التي تميّز الإمام المعصوم ولا تمنح خياراته الخاصّة به لغيره ; من باب أنّ منح هذه الخيارات خارج


عن قدرة غير المعصوم ، وإثبات ذلك دونه خرط القتاد. ولا نقصد بهذه الخيارات ما ثبت صدوره من المعصوم بمنح بعضها إلى الفقيه الجامع للشرائط كما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ، مع أنّ هناك من يناقش في سند المقبولة ومتنها .. بل نقصد التصرّف بخيارات هي من خصائص الإمام المعصوم دون غيره ، أودى بنا إلى مزيد من الاستبداد والتفرّد وبالتالي إلى مزيد من التخلّف والتراجع ..

نقول : بمنأى عن كلّ الإثارات والإشكاليّات ، بمنأى عن المخالفة والموافقة ، فإن كنّا على التزام أخلاقيٍّ ديني ، ذوي منهج علمي معرفي ; ينبغي علينا لحاظ جميع الاُمور لحاظاً شاملاً خاضعاً للنسق المنطقي ذي الأدوات التي تقود إلى حصيلة لا تقبل الشكّ والترديد. فليس من المقبول لحاظ قسم الإناء الفارغ فقط دون لحاظ القسم الممتلئ منه.

من هنا وطبق القاعدة المذكورة سنجد أنّنا كثيراً ما نكون غير أخلاقيّين ، غير علميّين ، في رؤانا وأحكامنا ، فنظلم ونتجاوز ثم نأثم ونخسر.


الوجه الآخر لمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)

مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) معهدٌ يعنى بتحقيق التراث العلميّ الثقافيّ الإمامي ، بمنهج واُسلوب ابتكاريٍّ جماعي ، مضى على تشييده قرابة ثلاثة عقود ونصف .. ببداية اُوفسيتيّة تهتمّ بطباعة وتكثير المصادر المطلوبة حوزويّاً ، أعقبتها التجربة الثلاثيّة على كتاب الخلاف لشيخ الطائفة الطوسيّ (قدس سره) ، وإنّه لَكبيرُ الثلاثة قيادةً صغيرُهم حياةً هو الذي علّمهم السبيل الذي سيسحر الوسط المعرفيّ قريباً بالنتاج الأرقى والحلّة الأبهى ، فكانت مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) هي الخطوة الاُولى نحو الهدف الأسمى ، والمعنى في قلب الشاعر يبقى نابضاً ويحيا.

هذا الرجل الغريب الآتي من ديار الحبيب ، ديار الغريّ البعيد القريب ، ماذا يا تُرى يبغي ويريد ، هنا قم المعصومة (عليها السلام) حيث أساطين العلم ومراجع الدين وأركان العالمين ، فتىً لم يُكمل العقود الثلاثة من الأعوام والسنين؟

اجتمعت الضغوط والصعاب والآلام بشتّى ألوانها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لتصبّ جام غضبها على هذا السيّد الحسينيّ


الحوزويّ الوسيم ، فلم يرأف به حتى الصديق والقريب ناهيك عن العدوّ والبعيد .. إلاّ أنّه تجرّع الغصص لحاجة في نفس يعقوب شاءت الأقدار ـ بعد معاناة من الأيّام الطوال ـ تحقّقها باقتدار.

شقّت المؤسّسة دربها بين الريح العاصف والموج الهائج قاصدةً برّ الأمان وساحل السلام ومرفأ الاطمئنان ; ذلك بفضل الإدراك السوسيولوجيّ الدقيق والفهم الإنثروبولوجيّ العميق ومديريّة العقل اللبيب ، بإيمان واعتقاد مفاده أنّ المقصود والمطلوب مشتركٌ واحدٌ تختصره جملة : خدمة الدين الحنيف والقيم الحقّة. التي من خيرة مصاديقها : السعي الحثيث لإيجاد التقارب الفاعل البنّاء بين حاضرتيّ التشيّع العملاقتين ، من حيث إنّ إحديهما تكمل الاُخرى ، إحديهما عمق الاُخرى .. ولقد تناهى إلى الأسماع والأنظار مؤخّراً بعض ثمار السعي المذكور ، الذي سنلمس منه ـ بعونه تعالى ـ في قابل الأوقات مزيد العطاء الميمون والنتاج المبرور.

تسنّمت المؤسّسة قلل العلياء : إصداراتٌ ولا أرقى ، شهادات إشادة وتقدير وتكريم ، جوائز نفيسة وتعظيم ، تربية النخب والكوادر وتخريج المتخصّصين الذين نثروا خبراتهم في أنواع الميادين ، فروعٌ في مختلف الأصقاع والبلدان ، مؤتمرات ، معارض كتاب ، نشريّة محكّمة معتبرة ، شبكة انترنت رائدة ، علاقات عالميّة واسعة بشتّى المعاهد والجامعات والشخصيّات اللامعة ، تلاقح أفكار وتبادل آراء هادفة ...


لم تكن هذه نهاية المطاف ، فأفكار الطَّموح تَمور وعقارب الساعة تنبض بالحركة وتدور ، ولازلنا نتداول الاُمور بعقلانيّة لم تخرج عن مرسوم الاُطر ومعهود الحدود ..

لكنّا إزاء تساؤل لا يعلم الكثير منّا بأيّ خانة يضع الجواب عنه وفي أيّ تصنيف يضمّه ويرميه ..

فعندنا هنا فقيهٌ استجمع الشرائط فصار مرجع الطائفة باقتدار ثم غدا مرجعها الأعلى بكلّ عظمة وجلال ، رغم ما كان يُعرَف عنه من العزلة والابتعاد عن الأضواء والحضور الاجتماعيّ المحدود وكمّ التلامذة المعدود ..

وهنا عندنا صهرٌ خاض تجربة رائدة مؤفّقة اسمها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) ، تجربةٌ صقلت مواهبه وكشفت نبوغه في علم الإدارة والبرمجة والتخطيط ، صاحَبَها حفظُ التوازنات على جناح مبنى : «أنّ الجذب خيرٌ من الطرد ، والاستقطاب أرجح من الاستبعاد» .. صهرٌ أفلت من كفّي عفريت أحرق الحرث والنسل ولم يرع المحارم والذمم ، فهاجر خائفاً بعد ما نالت منه سياط الجلاّد قسطاً وافراً من الترويع والإيلام ، هاجر لتصنع منه دار الهجرة ذراعاً فولاذيّةً تحمي وتذبّ عن الدين والمبادئ العظام ..

ولمّا باتت التجربة تؤتي اُكلها واختمرت العقليّة المديرة بالمؤنة المطلوبة نسبيّاً ، وناغمها زمانيّاً سطوع مرجعيّة المرجع الأعلى ، اضطلع


الصهر بمهامّ الوكيل ذي الخيارات العليا ، الذي أفاد أيّما إفادة واغتنم الفرصة أيّما اغتنام بحنكة ودراية ، ثم ازداد الوكيل المطلق خبرةً ونفوذاً واعتباراً ومنزلةً وشهرةً ورفعةً ; بفضل مواهبه الذاتيّة وبركات المرجعيّة الدينيّة ، وصرنا لا نعهد سلفاً أن تمتاز مرجعيّةٌ بحضور فاعل ونشاط مزدهر خارج عقر دارها كالذي امتازت به مرجعيّة السيّد السيستانيّ مدّ ظلّه ، ولاسيّما في مدينة قم على وجه الخصوص مع لحاظ الشروط والظروف المعروفة عنها وصعوبة التعامل فيها ..

فهل لازلنا وزلتم تعتقدون أنّ الأمر عقلانيّ محض؟ أم فيه شيءٌ من تلك اليد؟ لا أدري!!

ولعلّ من نافلة القول الإشارة إلى ترامي شهرة المؤسّسة بعد المرجعيّة وتعاظم نفوذها وتأثيرها وانشغال الأوساط المختلفة بمتابعة ومداولة أخبارها والتعرّض لها مدحاً وقدحاً ، نقضاً وإبراماً .. وهذا أمرٌ طبيعيّ بالنسبة لكيان بهذا الاُفق الشاهق والحضور الفاعل.

نعم ، تعدّد النشاط وتوالت محاوره : من خدمات اجتماعيّة إلى مراكز علميّة وثقافيّة وتحقيقيّة وطبّيّة وإعلاميّة ، تشمل الجميع وتعنى بالطفل والمرأة ، بالكهل واليافع والشابّ ... وصار الأغلب يرى المؤسّسة واحدةً من معاقل ونتاجات المرجعيّة رغم كونها حصيلة جهد شخصيّ استبق بروز المرجعيّة المباركة المعهودة بحوالي العقد ونصف.

وإنّنا إذ لا ننسى التذكير بالفوائد الجمّة التي حصلت عليها المؤسّسة


بسبب المرجعيّة الرشيدة فلا ننسى أيضاً التذكير ـ مفتخرين معتزّين ـ بتضحيات المؤسّسة دفاعاً عن المرجعيّة العليا.

في مثل كيان عظيم عملاق كالمؤسّسة ، من الرائج جدّاً أن تتقاطع المشارب أو تلتقي ، تتباين الأفكار أو في بوتقة واحدة تنصهر وتنضوي ، تتلوّن المطامح والآمال ، تتصاعد العطاءات والأخلاق وقد تهبط إلى سىّء الحال ، العابد الزاهد العالم العارف الفاضل الأبيّ العزيز حاضرٌ كما الحربائيّ الببغائيّ الصنميّ التزلّفي الجاهل حاضر .. يا له من قلب كبير وصدر وسيع آلَ على نفسه إلاّ الصبر والأناة سيراً على مبنى «الجذب والاستقطاب» فتحمّل شتّى النقد والمعاناة وبالغ الأضرار .. كلّنا بلا استثناء نخطأ ونسهو ونغفل ، نأثم ونذنب ، نندم طوراً وطوراً نصرّ ونهوي.

وكما شاءت الأقدار أن يتحوّل الحلم الجميل رويداً رويداً إلى حقيقة طيّبة ينعم بها الجميع ويرفل ، حقيقة التقارب والتناغم والتناسق والتكامل والتماهيّ بين حاضرتي الفكر الإمامي ومدرسة آل العصمة الميامين الغرر ، حوزتي قم المقدّسة والنجف الأغرّ .. أينعت بعض الثمار ، والآتي أينع وأنضر ، شريطة العزم الأكيد والخلوص الشديد والحرص المديد وكسب دعوات الوليّ الغائب أرواحنا لتراب مقدمه الفدى وإمضاء الباري تبارك وتعالى .. ففي ذلك خير الاُمّة وصلاحها في دنياها واُخراها ..

كذلك شاءت الأقدار أيضاً أن يكون لمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث نصيبٌ وافرٌ ودورٌ باهر في صنع مقدّمات التقارب البنّاء بين الحاضرتين المباركتين ; فما كان لله ينمو ، وله الشكر والحمد.


مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) في اسبانيا

صرحٌ جديدٌ من صروح المرجعيّة العليا

من قلب اُوربّا النابض بالحياة ، من أرض تروّت قروناً متماديةً ـ رغم كلّ شيء ـ برواء الإسلام العظيم وتأرّج فضاها بأريج الدين الحنيف ; حيث لازالت لمسات ثقافته ومعالم أفكاره تعكس أجلى الأثر وتحاكي القلوب والعقول بأبهج المضامين والصور ، من هناك حيث إشبيلية وغرناطة وقرطبة وملقا وطليطلة وبلدالوليد ... من مدريد عاصمة مملكة اسبانيا ذي التأريخ المديد .. شَمَخَ صرحٌ يحمل عنوان «آل البيت (عليهم السلام)» ، صرحٌ إسلاميٌّ شيعيٌّ شادته المرجعية العليا ، مرجعيّة السيد السيستاني ممثّلةً بوكيلها العامّ السيد جواد الشهرستاني .. صرحٌ أبرز ما قيل فيه : إنّه يحمل قرائنه وشواهده ودلائله معه ; إذ في طيّاته بشائر الخير والحبّ والسلام ونبذ العنف والإرهاب وشرور اللئام .. كيف لا؟! وقد شاده الكيان الدينيّ المقدّس الذي يؤمن بالحوار وتلاقح الأفكار وقبول الآخر والتآلف والاستقطاب تنظيراً وتجسيداً ، ويلفظ التناحر وحذف الآخر والتشتّت والاستبعاد قولاً وفعلاً وتقريراً ، الكيان الذي يسعى إلى


جمع الجمع ولمّ الشمل وتوحيد الصفّ تحت كلمة الله العليا ، على جناح المعرفة الإنسانية النابضة بالحكمة ، المفعمة بالعقلانية والكياسة والفطنة.

نعم ، على بركة الله تبارك وتعالى ، وبظلّ ألطاف الحجّة المنتظر أرواحنا فداه ، وبمناسبة إطلالة ذكرى ميلاد عقيلة الطالبيّين صوت النسوة المؤمنة والإعلام الرسالي الهادف السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) ، وبحضور أكثر من مائتي شخصيّة دينية وثقافيّة واجتماعية وسياسيّة ، وتواجد لافت للمرأة ، وتمثيل حكوميٍّ رسميٍّ على أرقى مستوى ، ومشاركة فاعلة من مختلف المذاهب والأديان .. افتتحت مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) في قلب مدينة مدريد عاصمة اسبانيا .. وقد اتّفق المشاركون بكلماتهم على ضرورة العمل الجادّ وبذل الجهد الحقيقيّ السائر نحو إقرار الأمن والسلام والحبّ والوئام ورفض التطرّف والترويع ورؤى الضلال والظلام.

ولاقت إزاحة الستار عن هذا الصرح المبارك صدىّ واسعاً في الإعلام الاسباني ، إذا خصّصت الجريدة الرسميّة الواسعة الانتشار «عالمية» غداة الافتتاح نصف صفحة من صفحاتها لتغطية وقائعه وماجرى فيه ، وأعقب ذلك سلسلة لقاءات مرئيّة والكترونيّة وتدوينيّة مع بعض القائمين على المشروع المعهود والمنتمين إلى المرجعيّة العليا.

وممّا تجدر الإشارة إليه : إنّ إنشاء مدرسة أكاديميّة يمازجها تفعيل المفاهيم الإسلامية عبر دروس التفسير ونهج البلاغة والأخلاق ... يعدّ من أولويّات مهامّ المؤسّسة وفي صدر برامجها ونشاطاتها ، ولا سيّما أنّ


الجالية المسلمة هناك تتمتّع بتواجد متميّز يبقى مفتقراً متعطّشاً دوماً إلى من يلوذ به ويؤويه ويذبّ عنه ويحميه من شتّى الآلام والمصائب المعنويّة والمادّية.

حرس الباري عزّوجلّ بعينه التي لا تنام دينَه القويم وحفظه بأوليائه الطاهرين (عليهم السلام) ونوّابهم العامّين ، خصوصاً رائد الحكمة والسلم والحبّ والمعرفة المرجع الأعلى دام ظلّه الوارف على رؤوس المسلمين ، وإلى مزيد من أعمال البرّ والخير ، آمين ربّ العالمين.


تحقيق النصوص غاية أم وسيلة؟

كيف يمكن تصنيف «تحقيق النصوص» وأيّة خانة أو مربّع يضمّه ويدّعي به ، هل هو علم ، متمّم ، فنّ ، حرفة ، ضرورة ، جمال ، خدمة ، غاية ، وسيلة؟

من خلال استعراض خاطف لممارسة ذاتيّة ناهزت الثلاثة عقود في مجال «التحقيق» قد أتمكّن من إماطة اللثام عن أجوبةِ تساؤلات طالما شغلت الأذهان وفتحت أبواباً من البحوث والمطالعات.

قيل في التحقيق : إنّه إثبات الحقّ ، التصديق ، إحكام الشيء وصحّته ، الرصانة ، التزيين ... ويرادفه «التحرير» ; إذ قيل : تحرير الكتاب : خلوصه وتقويمه.

واختُلف في بيان المراد منه :

فمنهم من جعله ضبط النصّ فقط.

ومنهم من أضاف إليه : توضيح الغوامض وتوثيق النصوص من مصادرها وصنع الفهارس ومتابعة الكتاب بكلّ مراحله حتى تناله يد القارئ.


ومنهم من أضاف إلى ذلك كلّه : الصقل والتجميل و ...

لا شكّ أنّ أرقى مراتب التحقيق «ضبط النصّ» وما سواه من التخريج والبيانيّات وإعداد الفهارس والمتابعة والتأنيق ، فإنّها من مكمّلات التحقيق ولوازمه.

ولسنا بصدد بيان الخلفيّة التاريخيّة لموضوعنا وحضوره إسلاميّاً منذ عهد الرسول صلّى الله عليه وآله ; حيث البحث عندنا يحوم حول الداعويّة والمحرّكيّة والباعثيّة اللاّتي يستمدّ منها التحقيق وجوده ومشروعيّته وديمومته وأهمّيّته.

إنّنا نعني بالتحقيق : إجراء سلسلة من الخطوات وتنفيذ مناهج مختصّة غايتها الحصول أو الخروج بمشروع ذي مواصفات تتلاءم مع حاجة الظرف.

إذن نحن لا نبدأ من نقطة الصفر ، بل نرى أنفسنا إزاء منجَز علمي معرفي ثقافي لا نستطيع ـ غالباً ـ التصرّف فيه وفي حجم المادّة المودعة بين حدوده ، فهذا أوّل مكبِّل مفروض علينا في عمل التحقيق.

وتعدّ «الأمانة» في حفظ الموجود والمحتوى شرطاً وصفةً أساسيّةً لابدّ من توفّرها في كلّ من يمارس التحقيق.

كما يعدّ الذود عن رأي المؤلّف واستفراغ الوسع في دعمه وإسناده وعدم المساس به من الخطوط الحمر التي لا يمكن تجاوزها بأيّ حال من الأحوال ، ولابدّ من انتخاب أدقّ ألفاظ الاحتياط في التعبير عن خطأ


المؤلّف إن كان موجوداً. وهذا ناشئ من مقدّمات مفادها : إنّ الإقدام على تحقيق المشروع يعني التسليم بالنفع والفائدة التي يتركها انتشاره على الأوساط العلميّة والثقافيّة ، فالمؤلِّف والمؤلَّف مقبولان ، وقبولهما يستدعي الدفاع عنهما غاية الإمكان.

فليس الميدان ميدان الأفكار والرؤى والإبداعات المعرفيّة والعلميّة بقدر ما هو نقل مشروع منجز من ظرف إلى ظرف آخر ، ومهما بلغت الجهود والمساعي العقليّة والفنّيّة من رقيٍّ فإنّها لا تتجاوز حدود الموجود من المشروع ، بمعنى : أنّ المشروع التحقيقي هو الذي يتحكّم فينا ويرسم لنا خارطة الطريق ويوجّه أفكارنا وقوانا ومواهبنا ، فلا يقودنا إلى اكتشاف أو اختراع أو ابتكار كالتي يقودها البحث العلمي المعرفي المستجمع للشرائط والمعايير المنهجيّة.

إنّنا إذن أشبه بالفرقة الموسيقيّة التي تنفّذ مقطوعة أو سمفونيّة صاغها صانعها وابتكرها ولم يعهد لنا سوى بإجرائها ، فمرّة نجريها في القرن السادس عشر واُخرى في القرن الحادي والعشرين بتفاوت الأدوات والآليات ، دون الخروج عن النصّ والتجاوز عليه ، وليس لنا سوى العواطف والمشاعر والأحاسيس التي تتحرّك وتموج على الأنغام والألحان مع كلّ البعد عن الإبداع والابتكار.

إنّ فضاء التحقيق فضاءٌ محدود ، فيه من القيود والشروط والتعبّد ما قد يمرّن العقل والشعور على التأطّر والانحسار ، ولا يمكن مقارنته بفضاء


الإرادة الحرّة الخالية من قيود المشاريع الجاهزة الأفكار التي لا نكون في معادلتها سوى الجسر أو الوسيلة التي تنقلها من هناك إلى هنا.

الفكر الإنساني يعني صياغة الرؤى وترجمة المواهب وبلورتها بإرساء القواعد والاُسس العلميّة لها ، إنّه يراجع ويحفر ويبعثر ويستقرئ ويقارن ويحلّل ويغوص في اللاّمفكّر فيه ويستنطق ... من أجل البلوغ بالقيم والمبادئ مبلغاً حضاريّاً متجاوزاً عقدة الثابت والمتغيّر والأصيل والمعاصر ..

ولا يلبّي «التحقيق» حاجة الإنسان الفكريّة الناهدة نحو فضاءات من الحرّيّة تتيح لها فرصة الإبداع والابتكار ، ولاسيّما إذا أضفنا إلى مدّعانا «مسألة النسبي» إزاء المطلق ، بمعنى : أنّ كلّ المشاريع التحقيقيّة مهما شمخ بها العمق والضبط والدقّة فهي تبقى في إطار النسبي في النسبي ، والنسبي ليس سوى فهماً من الأفهام ومعنىً من المعاني ظهر وارتقى سلالم المجد العلمي والمعرفي والثقافي يوماً من الأيّام ، ولا نعلم هل يلبّي حاجة العصر أم لا ، ناهيك عن النسبي في النسبي ، مع عدم إنكارنا على «التحقيق» دوره الريادي المؤثّر في إبراز محاولات الماضين التي تركت لنا عطاءً ثرّاً وتراثاً زاهراً نفخر به ونهتزّ غروراً بانتمائنا إليه وانتمائه لنا.

بجولة «أشبه بالخاطفة» في أروقة «التحقيق» وما يجري فيها من خطوات ومراحل وأعمال وما يواكبها من عطاءات عقليّة ومشاعريّة


وجسديّة وفنّيّة ، ممزوجة بوابل من الالتزامات والشروط والخصائص التي يفرضها واقع التخصّص ، سواء تناغمت معها الذات وتلاحمت أم تلقّتها تلقّي الواجب الذي ينبغي القيام به وإنجازه .. يمكننا رسم صورة واضحة تطابق المدّعى وتثبته شكلاً ومضموناً.

تقول المعايير العلميّة والمنهجيّة : إنّ أيّة خطوة أو مشروع أو تحرّك لابدّ من دواعي وبواعث ومبادئ وأهداف تنطلق به إلى حيّز الوجود والإمكان والتحقّق وتبني هيكله وترسم معالمه وتشيد اُطره ومضامينه.

إنّ المشاريع التحقيقيّة نوعيّةٌ في دواعيها وبواعثها ومبادئها وأهدافها ، فإنّها تتحرّك بمقدار وحجم ما يمنحها الفضاء الخاصّ من مجال الحركة والفاعليّة ، فلا يمكننا إدخالها في صنف «الفللوجيا» التي هي أيضاً تهتمّ بالفكر الجاهز إلاّ أنّه اهتمام نقدي يرقى إلى فتح آفاق من الحركة والفاعليّة المعرفيّة اللتين تفتقدهما المشاريع التحقيقيّة موضوعيّاً.

والكيانات التحقيقيّة التي خضنا ـ ولا زلنا ـ تجربة الممارسة الميدانيّة في شتّى أروقتها تروم إعادة طرح التراث العلمي والفكري والثقافي بما يتناسب مع الظرف الراهن فنّيّاً وجماليّاً مع دعم وإسناد «المشروع» عبر التوثيق والضبط والتصحيح والتوزيع السليم للنصّ الذي يبسّط ويمهّد للفهم والتلقّي المريح نسبيّاً ، مضافاً إلى البيانيّات والتوضيحات المساهمة في فتح المغاليق والمبهمات ، إلى ذلك الفهارس العلميّة والفنّيّة التي تختزل كثير العناء والبحث والتتبّع.


وبذلك فإنّها تمدّ الفضاءات العلميّة والمعرفيّة والثقافيّة بنتاجات منظّفة ومجمّلة ومنقّحة ومحمية حماية علميّة وفنّيّة ، إنّها عملية أشبه بإعادة انتشار متأقلمة مع حاجة الزمان والمكان ، ولا شكّ أنّها فرصة جديدة تمنح المشروع إمكانيّة الظهور والتداول بسرعة وسهولة كبيرتين.

كما أنّ الكيانات التحقيقيّة تصير بحكم دورها وحاجتها المحور المستقطب لذوي الفضل والخبرة والتخصّص ، وملاذ الطاقات الجديدة الفنّيّة والاستعدادات اليافعة التي تنمو وتصقل مواهبها بفعل الفضاء المهيمن والجوّ السائد المفعم بالاستشارة والمتابعة والبحث والمناقشة.

وهذه هي ميزة كلّ كيان تحقيقي يأخذ على عاتقه نهج العمل الجماعي ، غير متناسين بالمرّة أريج المعنويّات الذي يعطّر الأثير فيغدق بتلك النسمات التي قلّما تهبّ على معاقل اُخر ; إذ الشعور ـ الذي لا ينفكّ عن الإنسان ـ بالمساهمة في نشر القيم والمبادئ ـ التي نعتقدها صحيحة سليمة ـ الرامية إلى انتشال البشريّة من حضيض البهيميّة إلى شوامخ العزّ والسعادة السرمديّة ; هو شعورٌ يخالط العقل وينبعث من عمق الحنايا والأعماق.

ولستُ مصرّاً على تركيز البحث حول عمل التحقيق باُسلوبه الجماعي ، فالتحقيق الفردي كان ولا زال فاعلاً في ميادين العلم والثقافة ، وله من الخصائص والمزايا ما قد يفتقدها التحقيق الجماعي ، مثل : الجري على النسق الواحد علميّاً وفنّيّاً وارتفاع التزاحم الذي يحتمل حدوثه في الجماعي وغيرها ..


بل البحث إنّما يحوم حول التحقيق بحاله النوعي ، وما التركيز على الجماعي منه الذي اُكثر الإشارة إليه بين الفينة والاُخرى إلاّ بسبب الممارسة الميدانيّة التي قاربت الثلاثة عقود ، مع ما لي من تجارب في مجال الفردي منه أيضاً ..

يحوم حول أنّ التحقيق ـ سواء كان فنّاً أو علماً أو مهنة ... ـ يُقصِر الجهد العلمي والمعرفي والثقافي ويُمحوِر العزم والهمّة والرغبة والصبر والشوق والعشق والأمانة ... على نتاجات جاهزة تَكلَّفَ عناءها آخرون ، فإنّنا نحوم إذن حول أفكار غيرنا ونغور فيها ونبذل ونوظّف ما لدينا من إمكانيّات عقليّة وشعوريّة كي تطلّ تلك النتاجات بحلّة جديدة.

وعلى الرغم من الإجلال والاحترام النوعي لآثار الماضين من العلماء والمفكّرين وما جادت به أذهانهم ورؤاهم وبصائرهم من معاني وأفهام لازالت ساطعة في سماء العلم والمعرفة ، يُقتبس منها الكثير ويُستفاد منها كمصادر ومراجع لا غنى عنها أبداً ..

إلاّ أنّ الإنسان المحقّق مهما علا وتأ لّق يبقى أسير أفكار ورواشح غيره ، تابعاً مقيّداً بسلسلة شروط صارمة تسلب منه حقّ التحليق في فضاء الفكر الحرّ أو حتى النقد العلمي البنّاء ، لذا فإنّ المواهب والرؤى والأفكار لا تنمو ولا تتبلور إلاّ بمقدار ما يتيح لها «التحقيق» من النموّ والتبلور ، حدّها إلى الخطوط الحمراء ، الخطوط التي يُعدّ تجاوزها مخالفةً للأمانة وموضوعيّة التحقيق.


إلى ذلك : فالمحقّق يبقى لاهثاً بمحاولات خلف أفهام مهما ألقت وتسنّمت فهي تدور في فضاء «النسبي في النسبي» وخصائصه ، ولاسيّما تأ ثّره الزمكاني الذي قد يشكّل عائقاً أمام بزوغه من جديد بتلك العظمة والهيبة والحاجة.

لذا يبقى «التحقيق» صنعةً ثقافيّةً مرحليّةً بالنسبة لإنسان يسعى في مطامحه توظيفَ العقل لصناعة الأفكار وإبداعها وابتكارها ; حيث متابعة سائر الأفكار المصنوعة سلفاً وتجهيزها وعرضها في أروقة العلم والمعرفة لا يُعدّ بذاك الفتح والإنجاز الذي يُشار له بالبنان .. ولاسيّما أنّ التمرّن والإدامة والتمحّض في السير خلف نتاج الآخرين سيكبّل ويميت أو يكسّل فرصة العطاء الذاتي ويظلّ العقل لا يعرف إلاّ المضايفة والتزاوج مع النتاجات الاُخرى ; كونه مسلوب القدرة على الإنتاج والإبداع.

إنّنا لا ننكر على التحقيق ـ لما فيه من الخصائص السامية كالدقّة والضبط والأناة والعشق والأمانة والتتبّع والفنّ والجمال والعلم والمعرفة والثقافة وحركة الفكر والاستشارة وغيرها ـ آثاره الجليلة على العقل والمشاعر والأخلاق وبناء الذات ; فهو يمنح الفرد المحقّق فرص التمسّك بالموازين والقيم والمبادئ العلميّة والأخلاقيّة ، ويشيد فيها خصائص المراجعة والاستقراء والتحليل والمقارنة والحفر والاستنطاق والاستنتاج ، القائمة على الدقّة والصبر والضبط المزيّنة بالعوامل الفنيّة والجماليّة ، فهو ـ التحقيق ـ يهيّىء الأفكار الطامحة نحو مقاصدها الكبيرة ومراميها الأساسيّة ، وبذلك يمكن عدّه نقطة انطلاق هامّة في حياة الفكر والمعرفة


لا نقطة انتهاء ، إنّه الذراع والساعد المطمئن نحو بلوغ المطلوب ; إذ الباحث والمفكّر والكاتب يحتاج ممّا يحتاج : خصائص ومواصفات ، يمكنه الحصول عليها وغرسها في أعماقه وحناياه وعقله من خلال ممارسة عمليّة التحقيق ، لذا فإنّ التحقيق إذا كان جسراً وممهّداً لخطوات إبداعيّة وابتكاريّة في أروقة الحضارة والثقافة ، وإلاّ فإنّه مؤطّر ومضيِّق قد يُخاف نتيجة الإدمان عليه من اتّساع فواصل التراجع وترامي مساحات الابتعاد عن صنع الأفكار الجديدة والرؤى المعاصرة التي تستند إلى الاُصول والثوابت وتستفيد من أدوات الحاضر بلا أدنى تهافت وتنافي وابتسار من الاُولى.

ويرى الكثيرون تعرّض الحركة الفكريّة الإبداعيّة لتراجعات ملموسة إثر تنامي الحركة التحقيقيّة تنامياً خلخل التوازنات ممّا حدا بالأصوات المعرفيّة أن تعلو داعيةً إلى العمل على تنشيط حركة التدوين والكتابة ، وهذا ما ساهم في جعل الإبداع الفكري والثقافي يستعيد بعض عافيته وفاعليّته من جديد ، فصدرت نتاجات وظهرت مشاريع أقلّ ما يقال عنها : إنّها خطوه بالاتّجاه الصحيح ، رغم كونها لا تلبّي ذلك الطموح الذي يراود النخب والطاقات في عرض ثمار معرفيّة حضاريّة من شأنها بيان القيم والمبادئ باُسلوب وأدوات تتناسب مع حاجة اليوم ، ثم ملء الفراغ الكبير بالحضور الفاعل في الفضاءات العلميّة والفكريّة ، ولاسيّما إزالة الغموض وتوضيح المبهمات وردّ الشبهات على غاية من الدقّة والشفّافيّة والإحاطة ، فالعقلانيّة قد غرست أوتادها وضربت جذورها في عمق


الواقع الثقافي والحضاري لكلّ الاُمم والشعوب ، وهي تدعونا أن نكون كما ينبغي أن يكون أيّ عقلاني يروم تسويغ ما عنده من الرؤى والبصائر دفاعاً عنها وإسناداً لها وتمهيداً لتوسيع رقعة تواجدها الفكري بما يتوفّر من إمكانيّات وشروط مناسبة.

ونحن إن سُمّينا وصُنّفنا أحياناً ضمن معسكر العقلانيّة لابدّ لنا من إشهار المؤن والأدوات التي نستعين بها في طرح القيم والمبادئ التي نؤمن بها ونذود عنها ، وبذلك فإنّنا بحاجة إلى نهضة فكريّة شاملة يتّخذ الإبداع المعرفي والابتكار الثقافي موقع الريادة فيها ، أمّا المشاريع التحقيقيّة فإنّها لا يمكن أن تكون الرائدهنا ; لافتقادها خصائص اليوم ، على الرغم من مصدريّتها ومرجعيّتها والحاجة الملموسة لها.

إنّنا إذن مع «التحقيق» إذا كان بوابّةً ومنطلقاً ودافعاً ومنصّةً تقذف بنا إلى فضاءات الاختراع والاكتشاف ، أمّا إن كان مكبّلاً ومؤطّراً لقوى الفكر الكامنة التي تجهد لتنقش على واقع المعرفة والثقافة رؤاها وبصائرها وابتكاراتها ، فإنّه سيخلق مشكلةً تتطلّب مزيداً من السعي لحلّها وتجاوز آثارها.


موجزٌ في اُصول تحقيق النصوص

ينطوي «تحقيق النصوص» على سلسلة خطوات وشروط وخصائص نعرضها خاطفاً على النسق التالي :

١ ـ انتخاب الكتاب

تراعى في الانتخاب جملة قضايا واُمور ، منها : الفائدة المتوخّاة من الكتاب المعهود ، فائدة علميّة ثقافيّة ، بأن يكون الكتاب المحقّق مرجعاً ومصدراً ودليلاً ومفتاحاً لا يمكن الاستغناء عنه بحال.

فلابدّ من إحراز ذلك عبر التفحّص والتنقيب والاستشارة.

إلى ذلك : ألاّ يكون الكتاب المنتخَب عامل زعزعة استقرار وتمزيق صفّ وفتح ملفّات لا طائل لها ; إذ قد يحمل المشروع في طيّاته مزيداً من الإيجابيّات إلاّ أنّ سلبيّةً واحدة قد تعود بأضعاف من الإضرار قياساً إلى المنافع الحاصلة.

كما لابدّ من مطالعة منهجيّة وبحث علمي مشفوعين بالاستشارة ، تشخّصان حدود التلقّي والترحيب ومدى الرغبة إليه.


ولا يخفى ما لشهرة المؤلِّف من تأثير حاسم في الانتخاب .. كذلك فإنّ مشهوريّة المؤلَّف من حيث المحتوى الرفيع والمستوى الراقي تساهم مساهمةً كبيرةً في صوابيّة الاختيار رغم مغموريّة المصنِّف في كثير من الأحيان.

كما وأنّ الاُسلوب الحاكم على فضاء الكتاب واللغة المستفادة فيه ونوع البيان والهيكليّة المشاد بها وتسلسل البحوث وتنظيم الأفكار ، لها الأثر الملموس في الانتخاب ، مضافاً إلى الخصائص الابتكاريّة والإبداعيّة التي اشتُهر بها وميّزته عن غيره ، فكذا كتاب ـ مثلاً ـ قد عُرف بجامعيّته وآخر بكثرة تفريعاته وثالث بإيجازه المفيد ورابع بتطويله غير المملّ وهكذا.

ولابدّ أيضاً أن يكون الكتاب المنتخَب متناسباً مع حجم وإمكانيّات الكيان أو الفرد المتصدّي لتحقيقه ، علميّاً وفنيّاً واقتصاديّاً ، فكم وجدنا نتاجات تفتقد الكيفيّة التخصّصيّة ، بل لم تراعَ فيها أوّليات التخصّص ، فكانت وبالاً على المؤلِّف والمؤلَّف والانتماء والأوساط الثقافيّة ، وياليتها بقيت مخطوطةً وحجريّةً لم تظهر هذا الظهور الهابط.

وكم وجدنا من المعاهد والمراكز والمؤسّسات والأفراد احتفظت لنفسها بعشرات بل بمئات النفائس من المخطوطات ، أملاً منها بنيل قصب السبق بتحقيق ونشر هذه المخطوطات ، فظلّت قابعةً على رفوفها يعلوها غبار الاحتكار والأفكار الضيّقة ، فما استطاعت ولا مكّنت غيرها منها.


لذا بات من الضروري حضور المعايير العلميّة والمنهجيّة والدينيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة في انتخاب الكتاب المزمع تحقيقه مقروناً بالدقّة والتفحّص والاستشارة ، وقبل كلّ ذلك : توفّر الشروط المناسبة للعمل.

ولابدّ من الابتعاد عن التكرار ، فكم من آثار حُقّقت أكثر من مرّة فضاع معها الوقت والجهد والإمكانيّات الهائلة التي كان يمكن توظيفها في مشاريع اُخرى ، على أنّ لكلّ قاعدة شواذ.

«الانتخاب» إذن أوّل وأخطر خطوة في «خارطة طريق التحقيق» ، إنّه ينمّ عن حجم القدرة والمهارة والخبرة والدقّة وسعة النظر والإحاطة بشتّى الظروف والفهم والاستشارة والفحص ، علوّاً وهبوطاً.

ونرى من الراجح ـ طبق التجربة ـ وجود لجنة علميّة تخصّصيّة تأخذ على عاتقها مهمّة الانتخاب بمراعاة الخصائص والشروط الآنفة الذكر.

وقد أثبتت الممارسة العمليّة أنّ الاستقراء والفحص والتنقيب وتنظيم القوائم والجداول بأسماء الكتب المقصودة طبق موضوعاتها ومؤلّفيها وتواريخها وخصائصها ومميّزات مخطوطاتها بشكل كاف ودقيق يمهّد الطريق لانتخاب أفضل ، ولاسيّما مع وجود المنهج والنسق المطلوب في إرساء المعلومات المطلوبة. إنّه يفتح آفاقاً إيجابيّة أمام اللجان العلميّة المختصّة بالانتخاب ، كما يصنع الرغبة المضاعفة عند أهل الفضل والخبرة


في المساهمة والإرشاد إلى المصنّفات الجديرة بالنزول إلى معاقل التحقيق.

وبعد الانتخاب وحصول «الكتاب» على الموافقة النهائيّة تُرسَم له الخطوط العامّة والخاصّة.

نعني بالعامّة : استقراء واقتناء المخطوطات ، تشكيل اللجنة التي تدير عمليّة تحقيق الكتاب علميّاً وإداريّاً ، توفير المصادر والمراجع المعوّل عليها في توثيق وإسناد مدّعيات المصنّف.

ومن الخاصّة : ما تظهر من اُمور وقضايا وعوائق واحتياجات علميّة وفنّيّة أثناء الخوض في تحقيق الكتاب ، التي لا يمكن التعرّف عليها غالباً قبل البدء به ، ولاسيّما أنّ لكلّ أثر خصوصيّاته وظروفه التي تختلف باختلاف الموضوع والتاريخ ونوع المؤلَّف ومزايا المؤلِّف وغيرها.

هذا ، ولابدّ من إذاعة خبر الشروع بالعمل على الكتاب المعهود ; كي لا يحصل التكرار.

كما وأنّ من الاُصول والضوابط : التحرّي والتفحّص أوّلاً وقبل البدء بأيّة خطوة عمّا إذا كان الكتاب مطروحاً للعمل في سائر المراكز والمؤسّسات المختصّة أو حتى الأفراد.

٢ ـ استقراء واقتناء المخطوطات

رحلة شاقّة وطويلة في فهارس المخطوطات ، استقراءٌ ومسحٌ وتنقيبٌ وجردٌ وإحصاءٌ لكلّ ما يتوفّر من مصادر ومراجع الفهرسة


المختصّة ، سواء على صعيد المكتبات الخاصّة أو العامّة ، في هذا البلد أو ذاك. من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن محلّ استقرار المخطوطات أو مصوّراتها أو حتى «المايكروفيلم» منها.

تدوّن خصائص المخطوطات في قوائم على شكل جداول تتضمّن : محلّ الحفظ ورقمها وتاريخ النسخ وماهيّة المحتوى واسم الناسخ ، والملاحظات ، وفي القسم الأخير يسجّل ما إذا كانت المخطوطة بخطّ المصنّف ، أو كونها كتبت وقوبلت أثناء حياته ، أو عليها بلاغاته وحواشيه وتصحيحاته ، أو أنّ ناسخها من العلماء المرموقين ، أو عليها تعليقات وحواشي وما شابههما ، كما يشار إلى مالكها في بعض الأحيان إن كان جديراً بالذكر ، إلى ذلك : التنبيه إلى النقص والبياض والاخترام وتغيّر الخطّ ونوعه والحجم والقياسات المطلوبة وما إلى ذلك من الاُمور التي لابدّ من التذكير بها.

وباكتمال القوائم وجداولها تعمل اللجنة المختصّة على دراسة المخطوطات دراسةً وافية بمختلف جوانبها كي تتّخذ القرار النهائي باقتناء أيّ المخطوطات الواجب توفّرها في العمل.

وقد تكون الظروف مؤاتية فتسهل عمليّة الاقتناء ; حيث اليد مفتوحة وحرّيّة الانتخاب موجودة ، وقد تكون الظروف على خلاف ذلك ممّا يعسر الحصول على مخطوطة واحدة ، وهذا ما يكبّل اليد ويترك آثاره السلبيّة على سير التحقيق وكيفيّته.


إلى ذلك : سوء الحفظ وعدم رعاية المتطلّبات الفيزيائيّة والكيميائيّة ونظائرهما الواجب توفّرها في تلك الأماكن ، ولاسيّما في المكتبات الخاصّة ، وبالأخصّ إن كان صاحبها لا يفقه ثروتها العلميّة والثقافيّة ، فيتركها معرّضة للآفات الطبيعيّة حتى يصيبها التلف والاخترام ، وبذلك يحرم المعاقل العلميّة من نسخة نفيسة تهفو إليها أفئدة المعرفة والتحقيق.

أو تبقى مركونة في رفوف تلك المكتبة أو هذه لا يُسمح باقتنائها أو تصويرها بحجّة المحافظة عليها أو المتاجرة بها أو قصد تحقيقها ، ولم يحصل أيٌّ من الثلاث ، فتبقى تشكو لأهل العلم والتخصّص ما يمرّ عليها من ظلم وحيف وتقييد.

وبتجاوز العقبات وبعد الحصول على مصوّرات المخطوطات يعمد إلى وضع رمز خاصّ لكلّ مصوّرة عبارة عن حرف من الحروف مثل «ص» «ك» «ع».

هذا ، وقد تتوفّر للكتاب الواحد ـ كما أسلفنا ـ عدّة مصوّرات من المخطوطات وقد لا تتوفّر إلاّ مصوّرة واحدة ، الأمر الذي تظهر آثاره على كيفيّة سير التحقيق ونوعيّته.

ولا ننسى ما للنسخ المطبوعة على الحجر أو حتى المنضّدة بالحروف الحديثة نضداً أوّليّاً من أهمّيّة في تدعيم وتيسير عمليّة التحقيق.

ويقع الاختيار على المصوّرة الأكثر وضوحاً إن لم يكن الكتاب مطبوعاً حروفيّاً أو حتى حجريّاً ، لطبعها حروفيّاً وجعلها المحور


والأساس في إجراء مراحل التحقيق المختلفة لغاية الطبع النهائي الكومبيوتري.

وبعد تصحيح المطبوع من المصوّرة المشار إليها تكون الأرضيّة ممهّدة للبدء بمرحلة مقابلة المصوّرات.

٣ ـ المقابلة

مرحلة مقابلة المخطوطات هي الانطلاقة الميدانيّة الاُولى والخطوة العمليّة الحسّاسة على جادّة التحقيق المليئة بالأشواك والورود ، بالمرارة واللذّة ، بالحزن والفرح ...

قد تكون مقابلة المصوّرات من المخطوطات والمطبوعات المشار إليها ثنائيّة أو ثلاثيّة أو رباعيّة ... تبعاً لعدد المصوّرات والمطبوعات المتوفّرة.

وتقع القراءة على المصوّرة الأصعب خطّاً ; لتوخّي الدقّة والضبط والتأ نّي ، فصاحب هذه المصوّرة يقرأ قراءةً مسموعةً واضحةً كي يسجّل الآخرون ما في المصوّرات المفروشة بين أيديهم من تفاوت واختلاف ، أدنى تفاوت واختلاف ممكن.

ويسبق كلّ ذلك ترقيم صفحات المصوّرات وترقيم أسطرها بقلم الجرافيت ، وإعداد قصاصات ورق يدوّن عليها الاختلاف إن وجد مع الإشارة إلى رمز المصوّرة ورقم الصفحة والسطر بالإضافة إلى رقم صفحة المطبوع المعوّل عليه في مراحل التحقيق بأجمعها.


ولعلّ الغفلة والخطأ في القراءة والتساهل في التتبّع من قبل الذين يستمعون ولا يقرءُون ، فيها من الخسائر والأضرار الفادحة ما لا يمكن تلافيها أبدا ، فتترك آثارها السلبيّة على كيفيّة العمل علميّاً وتحقيقيّاً. لذا قيل : إنّ مقابلة المصوّرات والمخطوطات عماد التحقيق وأساسه ، إن سلمت سلم المشروع والعكس بالعكس.

بعد الانتهاء من مقابلة الصفحة المطبوعة مع المتوفّر من مصوّرات المخطوطات تلحق بها ـ أي بالمطبوعة ـ القصاصة المدوّن عليها الاختلافات المثبّتة.

هذا ، ويسجّل رئيس قسم المقابلة ملاحظاته وإحصائيّاته كلّ يوم ليعدّ بها تقريراً اُسبوعيّاً أو شهريّاً يرفعه إلى رئاسة الكيان واللجنة العلميّة ، كما يُعدّ مسؤولاً عن المصوّرات المحفوظة في القسم ، ولا يسمح بإخراجها أو التفريط بها ; أمّا أوامر الرئاسة أو اللجنة العلميّة فلها قواعدها واُصولها.

والاستراحة ما بين ٥ ـ ١٠ دقائق في كلّ ساعة مطلوبة في هكذا عمل شاقّ ، استراحة يتخلّلها تناول شيء أو ذكر طريفة ونكتة ونظائرها.

ويعدّ الانضباط الإداري عموماً وفي قسم المقابلة خصوصاً من مقوّمات النجاح ولاسيّما الالتزام بالوقت ; إذ تأخّر واحد من أعضاء لجنة المقابلة عن الحضور في الموعد المحدّد يعني توقّف العمل بأكمله ، ممّا يسبّب إرباكاً وتسيّباً يسري على كيفيّة الأداء ونوعيّته.


ولابدّ هنا من تعيين أعضاء على البدل والاحتياط لسدّ الفراغ الحاصل بغياب هذا الفرد أو ذاك.

كما لابدّ لمحلّ قسم المقابلة أن يكون خاصّاً لا تؤثّر الضوضاء فيه ولا يؤثّر هو في الأقسام الاُخرى.

أمّا الإضاءة والتهوية ونوع الكراسي والطاولات فلها الأثر البارز في عمل هذا القسم ، كما لها الأثر ذاته في عمل الأقسام الاُخرى.

٤ ـ الاستخراج

سعة مرحلة الاستخراج ومحدوديّتها مرتبطة بظرف النصّ ، فقد يكون النصّ مشحوناً بالآيات والأحاديث والأقوال والأشعار والأمثال والكلمات الغامضة والأعلام ـ إذا كان المبنى ذكر تراجم الأعلام في الهوامش ـ وغير ذلك ممّا يكون مورد الاستخراج ; وقد لا يكون كذلك.

ومرحلة الاستخراج تعني أوّلاً : ترقيم الموارد المشمولة به ، ثم العمل على العثور عليها في مصادرها ومراجعها.

فالآية القرآنيّة والإصحاحات والأسفار تستخرج من القرآن الكريم والإنجيل والتوراة ـ مثلاً ـ والحديث من الموسوعات والكتب الروائيّة المختصّة ، مثل : الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار ، والصحاح الستّة ، وغيرها.

وتخرّج الأقوال على اختلافها ـ الكلاميّة والفلسفيّة والاُصوليّة والفقهيّة والرجاليّة والتاريخيّة والتفسيريّة والأدبيّة ... شيعيّها وسنّيها ،


إسلاميّها ومسيحيّها ويهوديّها ، وأمثال ذلك ـ من مصادرها الاُولى والأساسيّة .. فإذا لم تتوفّر مصادرها الأصليّة فمن المصادر الحاكية عنها ، على ألاّ يكون الحاكي والناقل متأخّراً عن زمن مؤلّف المشروع التحقيقي ، فلا يمكن التوثيق للأقوال الموجودة في كتب العلاّمة الحلّي ـ مثلاً ـ من مصنّفات الشهيد الثاني (رحمه الله) ، أو الأقوال الموجودة في المغني والشرح الكبير لابني قدامة من مؤلّفات ابن تيميّة ; لتأخّرها عنهما زماناً.

وقد يكون الأمر سهلاً جدّاً حينما يصرّح المؤلّف مثلاً : قال الطوسي في المبسوط ، ذكر الشافعي في الاُم ... وأقلّ سهولةً حينما تكون العبارة : قال الطوسي ، قال الشافعي ... إذ لابدّ من العثور على قول الطوسي أو الشافعي في واحد من مصنّفاتهما. أمّا إذا عبّر المؤلّف بمثل : قيل ، اُجيب ، اعتُرض ... فهنا لابدّ من معرفة القائل أو المجيب أو المعترض أولاً ثم معرفة المصدر ثانياً.

وقد يكون النقل عن الآخرين بالمضمون والإشعار والمعنى ، وهذا الأمر يتطلّب جهداً علميّاً أكثر للوقوف على المراد أوّلاً ثم تشخيص القائل ثانياً والعثور عليه في مؤلّفاته ثالثاً.

وإذا عبّر بمثل : قال به جماعة ، ذهبت إليه طائفة ... فأقلّ الجماعة أو الطائفة ثلاثة ، أي يشار إلى أقوال ثلاثة من الذين ذهبوا إلى ذلك القول. وإذا عبّر بـ : بعبارة «البعض» يكتفى بواحد منهم.

وبعد الجهد المضني والتتبّع الطويل قد نرى في الحديث والقول


وبيت الشعر والمثل وغيرها تفاوتاً بين ما نقله المصنّف وبين الموجود في المصدر ، فلابدّ حينئذ من الإشارة والتنبيه إلى ذلك التفاوت كي يعمل على معالجته بالطرق التحقيقيّة اللازمة ، التي سنأتي على ذكرها لاحقاً في مرحلة «تقويم النصّ» والمعاناة في مثل هذه الاختلافات كبيرة ، ولاسيّما في مجال الشواهد الشعريّة ، حينما يكون محلّ الشاهد مختلفاً أو غير موجود في مصادره ، أو مرويّاً برواية لا تتطابق مع المدّعى ، ممّا يعني بذل مزيد من التفحّص والتنقيب للعثور على البيت الشعري مرويّاً في مصدر ما بالمحتوى الذي ادّعاه المصنّف. وليس ذلك مختصّاً بالشواهد الشعريّة وإنّما هي حالة من الحالات وعائق من العوائق المنتشرة في طول المسيرة التحقيقيّة وعرضها ، على أنّ لكلّ حالة وعائق خطوات وإجراءات علاجيّة.

ويمرّ الاستخراج بثلاثة أدوار غالباً :

الدور الأوّل : الاستخراج البدائي الذي أشرنا إلى بعض جوانبه أعلاه.

الدور الثاني : تدقيق الاستخراج البدائي ، فتحدث التغييرات والتصحيحات والحذف والإضافات وربما الإشارات اللازمة والضروريّة.

الدور الثالث : الموارد المتبقيّة غير المخرّجة بأيّ سبب من الأسباب والتي تعسّر حتى على المدقّق الوصول إليها ، مضافاً إلى الموارد التي يوصي مقوّم النصّ أو المراجع النهائي بتخريجها. فهذا الدور هو دور


الحسم النهائي لكلّ الموارد المذكورة ، وبه يغلق ملفّ الاستخراج نهائيّاً.

ولابدّ من تنظيم قصاصات خاصّة بالاستخراج تتناغم ترقيماتها مع ترقيمات المطبوعة المعهودة ثم تلحق بها بعد الانتهاء من الاستخراج.

ويشترط في الشخص المستخرج الخبرة بالمؤلّفين والمؤلّفات خبرةً شافية ، ومعرفة أماكن الكتب ، كما يشترط فيه معرفة ماهيّة المصادر الأساسيّة والحاكية والمرشدة.

والفهم العلمي شرطٌ لا اختلاف فيه. وباضطراد الممارسة وتوفّر الخبرة المناسبة فإنّه يتمكّن من التسلّط على الآراء والأقوال والزوايا الضيّقة التي تغيب على المبتدئ غالباً.

ولا اختلاف في كون الاستخراج عمليّة كماليّة في فضاء التحقيق ; إذ المدار إنّما هو حول النصّ وكيفيّة تحريره وتصحيحه وضبطه استناداً إلى المعايير العلميّة والتخصّصيّة ، ولكن هذا لا يمنع من دعم النصّ والمؤلِّف دعماً علميّاً حين توثّق وتؤيّد المدّعيات المنسوبة من قِبَلِهِ للآخرين من خلال تخريجها من مصادرهم وكتبهم أو المراجع الحاكية عنهم.

وهذه الصفة الكماليّة للاستخراج قد تمنحه أبعاداً أوسع ومنزلةً أرقى ، حينما تكتنف على نكات علميّة ومضامين معرفيّة تتجاوز إطار الكماليّات وتلتحق بالنصّ من حيث الأهمّيّة التخصّصيّة والثقافيّة.

وطبق المناهج الأكاديميّة فإنّه يذكر اسم المؤلِّف أوّلاً ثم الكتاب ورقم الجزء والصفحة ثم خصائص الطبعة من حيث ترتيبها وتأريخها وما


إلى ذلك. وكتب الحديث على هذا المنوال أيضاً مع إضافة رقم الحديث وعنوان الباب وسائر التفصيلات المفيدة. أمّا الآيات القرآنيّة والأسفار والإصحاحات فكذا يشار إلى رقم السورة والآية والسفر والإصحاح بالشكل الذي لا يقبل اللبس ، بمراعاة بعض الاُمور مثل كونه العهد القديم أو الجديد وغير ذلك.

والمحبّذ في حقل الاستخراج تأشير كلّ الموارد المحتملة القابلة له ثم العمل على العثور عليها في مظانّها ; خدمةً للكتاب والمؤلِّف والتحقيق.

٥ ـ ضبط الأسانيد والأعلام

يندر ألاّ يحتوي النصّ على عَلَم سواء جاء ذكره منفرداً أو ضمن مجموعة ، كأن يكون ضمن سند رواية أو قول ذهب إليه جماعة وردت أسماؤهم بالخصوص ، أو بحث في الأنساب والطوائف والفرق والجماعات والقرّاء والعلماء والنخب والمختصّين وسائر الموارد التي استدعت ذكر ذلك العَلَم.

وإزاء ذكر العَلَم في النصّ لابدّ من ضبطه بالشكل الصحيح ; إذ الضبط غير الدقيق آثاره سيّئة جدّاً وتترتّب عليه نتائج غير محمودة ، فلو تغيّر ضبط أحد رجال سند رواية من الروايات ـ مثلاً ـ فإنّه قد يقلبها من رواية صحيحة السند إلى اُخرى ضعيفة السند وكذا العكس ، الأمر الذي تبرز آثاره الخطرة على الأحكام واستنباطاتها ، وهكذا تسري المشكلة لتخلق مضاعفات مختلفة فقهيّة كانت أو عقائديّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة


أو سياسيّة .. كلّ ذلك قد يحدث بفعل التهاون وعدم الدقّة في ذلك الاسم والعَلَم الوارد في المتن.

وليس ضبط الأسانيد والأعلام بالعمل السهل ، فإنّه يتطلّب خبرة واسعة في علوم الرجال والأنساب والسيَر والطبقات ومصادرها ومراجعها ، فلو اشتبه علينا ـ على سبيل المثال ـ كون الراوي عيينة أو عنبسة ، بشّار أو يسار ، فمن أجل رفع الالتباس وتثبيت الصحيح لابدّ من الاستفادة من أدوات ومؤن علم الرجال من خلال الولوج في طبقات الرجال في باب الراوي والمرويّ عنه ، ونرى عمّن يروي عنبسة أو عيينة ، بشّار أو يسار ، ومن الراوي عنه ، وهل الفترة التي عاشها تتناسب مع فترة هؤلاء الرواة ، من تقدّم منهم عليه أو تأخّر ، وهل بإمكانه على ضوء ذلك الحضور في سند رواية تنتهي ـ مثلاً ـ بالإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أو البخاري أو مسلم.

إلى ذلك : لابدّ من بحث المشتركين هنا ، فلعلّ الاسم المذكور مشتركٌ بين عدّة رواة ، مثل : أبي بصير ، المشترك بين خمسة كما قيل ، منهم الثقة ومنهم غير الثقة.

إنّ ضبط الأسانيد والأعلام ضبطاً صحيحاً دقيقاً مستنداً إلى المعايير العلميّة والأدلّة القطعيّة ، من شأنه أن يحفظ أو يُغيّر كثيراً من الثوابت ويكشف الحقائق ويعيد الحسابات ، وقد يُدخِل هذا في قفص الاتّهام ويُخرج آخراً ، يشمخ بفرد ويهبط بثاني ، يسمو برأي وقول وفكرة وحكم ... ويُنزِل بغيرها.


والأمانة التي نتحدّث عنها مراراً وتكراراً في أروقتنا الأخلاقيّة والاجتماعيّة والعمليّة هي ذاتها الأمانة الواجب مراعاتها في «التحقيق» : الأمانة في الانتخاب ، الأمانة في المقابلة ، الأمانة في الاستخراج ، الأمانة في ضبط الأسانيد والأعلام ، الأمانة في ضبط وتقويم النصّ ، الأمانة في صياغة الهوامش ، الأمانة في المراجعة والإشراف النهائي ، الأمانة في الفهرسة ، الأمانة في كتابة المقدّمة ، الأمانة في الطباعة والنشر والتوزيع ، وهكذا الرغبة والعشق والأناة ... كلّها يجب أن تكون حاضرةً في العقل والضمير والأحاسيس كي يكون النتاج التحقيقي بكيفيّة أرقى ونوعيّة أسمى.

٦ ـ تقويم النصّ

حينما يقال : تحقيق النصوص ، فالمتبادر منه تقويم النصّ ، إذ التحرير والتصحيح والتهذيب والإثبات والتصديق ، كلّها عناوين لمفاهيم ومعاني يكشف عنها تقويم النصّ ، بل التغاير بينها وبينه تغايرٌ مفهومي ليس إلاّ. ومن هنا فإنّ تقويم النصّ اُسّ التحقيق وقلبه ، ولا معنى للثاني بدون الأوّل.

إنّ حسّاسيّة وأهمّيّة تقويم النصّ تكمن في ضبط المتن والعبارة والمفردة والحرف ضبطاً علميّاً دقيقاً مستنداً إلى الأدلّة والمعايير المنهجيّة السليمة ، وكلّما كان النصّ دقيق الضبط كلّما كان المستوى التحقيقي مرتفعاً عالياً ، وهكذا العكس.


إنّ مرحلة تقويم النصّ تنطوي على دعامتين أساسيّتين :

أ ـ الدعامة العلميّة : حيث يُقرَأ النصّ قراءةً دقيقةً معمّقةً توجب الفهم الشافي والاستيعاب الوافي ; إذ الفهم الصحيح يوجب توزيعاً صحيحاً للمتن ، والفهم الخاطئ يوجب توزيعاً خاطئاً للمتن.

ب ـ الدعامة الفنّيّة : المستندة إلى الدعامة العلميّة ، حيث يترشّح منها كيفيّة التوزيع الفنّي للنصّ من خلال وضع الفارزة والفارزة المنقوطة والنقطة ورأس السطر والصفحة الجديدة ، وسائر العلائم والإشارات من الشارحات والمعترضات والأقواس والمعقوفات والمنجّمات .. إلى ذلك القواعد الإملائيّة الصحيحة التي تُعدّ من الاُمور التي طالما يُبتلى بها في ضبط النصّ.

ويمتلك مقوّم النصّ الصلاحيّات والاختيارات الواسعة ويخضع له عمل اللجان السابقة ، فهو يفترش قصاصات المقابلة والتخريج وضبط الأسانيد والأعلام ، ويناقشها ويبحث فيها ويراجعها بعناية ودقّة كافية كي يتّخذ القرار المناسب في الإبقاء على الموجود أو التغيير حذفاً أو إضافةً أو تحويراً.

إنّ مقوّم النصّ ينظر في اختلاف النسخ المخطوطة من خلال قصاصة المقابلة فيقرّر ماهيّة الراجح والمرجوح ، الصحيح والخطأ ; فلعلّ الخطأ في تلك المخطوطة بيّنٌ واضح لا يحتاج إلى إشارة ، ولعلّ اللفظ أو العبارة محتملة الوجهين ، حينها يعمد إلى تشخيص الراجح فيثبت في


المتن وتشخيص المرجوح فيشار له في الهامش.

كلّ هذا على ضوء مبنى التلفيق بين النسخ المخطوطة ، أي لا توجد لدينا نسخة أصل في المقام ، ونسخة الأصل هي التي تكون عادةً بخطّ المصنّف أو مقروءة عليه أو مقابلة في حياته أو عليها بلاغاته وما سوى ذلك. وبفقدان نسخة الأصل يعمد إلى التلفيق بين محتوى النسخ المخطوطة المتوفّرة للحصول على نصّ ومتن أقرب إلى الأصل وأقلّ خطأً.

وفرقٌ ما بين منهج الأصل ومنهج التلفيق :

فعلى الأوّل : يبقى المتن على حاله دون أدنى تغيير ، وإن كانت هناك استظهارات وآراء مخالفة فالهامش محلّها ، لذا التقيّد بالنصّ والحفاظ عليه مؤشّرٌ أساسي في منهج الأصل.

أمّا الثاني ـ أي منهج التلفيق ـ : فاليد فيه مفتوحة للتغييرات والإضافات والحذف والتصحيحات طبق المتوفّر من المخطوطات من غير الأصل ، فيلتئم النصّ بهذه المخطوطة وتلك ، وصولاً إلى أقرب متن للمؤلّف.

وكما أسلفنا فإنّ مقوّم النصّ ناظر ومشرف ومتصرّف بعمل المراحل واللجان السابقة عليه. وهو الذي بعمله يعطي الهيئة والمحتوى العلمي النهائي ـ تقريباً ـ للمشروع ; إذ لم تبق إلاّ اللمسات الأخيرة التي يضعها المراجع والمشرف النهائي.


وممّا يميّز دور وعمل مقوّم النصّ نهوضه بأعباء ومهامّ ثقيلة في آن واحد ; حيث يقرأ النصّ قراءةً علميّةً دقيقةً تستدعي فهماً ودركاً تامّاً للمطلب والجملة والكلمة ، وجرّاء ذلك الفهم يعمد إلى توزيع النصّ فنّيّاً مع ملاحظة المسائل النحويّة والإعرابيّة والإملائيّة واختلاف النسخ وضبط الأسانيد والكلمات الغامضة والمواضع المفتقرة إلى نوع بيان هامشياً ، والنظر في الاستخراجات ومصادرها ومراجعة بعضها إذا اقتضت الضرورة ، ولاسيّما حين الاستعانة بها في ضبط المتن أو الشكّ بها وحصول التردّد من وجود المطلب المشار إليه في المتن فيها وعدمه .. وسائر الجهات التي لابدّ من مراعاتها ليأخذ النصّ شكله النهائي.

ولا تتناسب السرعة والعجلة مع خصائص مقوّم النصّ ، فلابدّ أن يكون متعمّقاً متأنيّاً دقيقاً في استيعاب النصّ وفهمه كي يتمكّن من اتّخاذ القرار الحاسم في التغيير أو الإبقاء ، الحذف أو الإضافة ، الإشارة وعدمها ، البيان هامشيّاً وعدمه.

ولا يلتفت مقوّم النص إلاّ إلى النصّ فقط ، ولا يهمّه كثيراً كون المؤلّف فلاناً أو فلاناً ، بل الذي يهمّه صحّة النصّ من عدمها ، نقصه أو الإضافة فيه ، إبهامه أو وضوحه ... ففي ذات الوقت الذي يمتلك فيه الجرأة على الإقدام فهو يمتلك أرقى مراتب الحيطة الحذر والاحتياط ; إنّه يميل بميل الدليل ولا يكترث بغير ذلك.

إنّ عمليّة تقويم النصوص لو جرت طبق الموازين الصحيحة


والملاكات السليمة والضوابط الصائبة ، فإنّها لا تعدّ حينئذ مجرّد فحص وتحرير وتحقيق وتصحيح للمتون ، بل توجِد البواعث القويّة والدواعي الراسخة والهمّة العالية نحو الانفتاح على مراتب الطموح الراقية ، المراتب التي تجعل العقل يبدع ويبتكر ويمتلك زمام المبادرة نحو صنع الجديد ، نحو التفكير بالموجود وبغير الموجود.

إنّها تخلق وتبلور الإرادة الصلبة نحو تهذيب وتنقيح الذهن وتغذيته بالطرق الناجعة للتفكير.

نعم ، إنّها معادلة منطقيّة فيها مقدّمات وتوالي ، صغرى وكبرى ونتيجة ، إنّها مجموعة علاقات ودلالات وتصوّرات وتصديقات وقضايا وصناعات ، تجري بنسق منتظم لتبلغ نقطة الهدف.

إنّ عمليّة تقويم النصوص تساهم في الحصول على حرّيّة أكبر في التفكير والتصميم واتّخاذ القرار الحاسم ، فهي بالرغم من جمعها المتناقضات ـ مثل الجرأة والخوف ـ لكنّها تزرع وتغرس بذور الانطلاقة الواسعة نحو ذهنيّة تَقْبَلُ وتَرْفِضُ ، تغيّر وتثبّت ، تحذف وتضيف ، تبيّن وتعلّق ، تصوّب وتنتقد.

وهذه بحدّ ذاتها خطوة وجسر ومعبر إلى المقصد الأساس ، المقصد المتسامي فوق القيود والحدود والخطوط التي قد تعيق حركة العقل والفكر بلا أدنى تجاوز أو تهافت مع القيم والاُصول والثوابت ... وما هذا المقصد المعهود إلاّ الفهم الذي يستوعب ضرورات الظرف أنّى كانت


ويحافظ على المبادئ بل يزيدها صقلاً وتأ لّقاً وبهاءً.

أمّا إذا توقّفت عمليّة تقويم النصّ بحدودها الروتينيّة فإنّها توقف صاحبها وتودعه زنزاناتها التي تجعل منه مجرّد آلة ذهنيّة لأغراض خاصّة.

٧ ـ صياغة الهوامش

بعد الفراغ من ضبط النصّ علميّاً وفنّيّاً يعمد مقوّم النصّ إلى تنظيم قصاصة الهوامش وتسجيل ما ينبغي الإتيان به في الهامش وممّا لا ينبغي الإتيان به ; فيدفع بها إلى كاتب الهوامش ليصوغها صياغةً فنّيّة طبق المنهج المقرّر.

ولابدّ لكاتب الهوامش أن يمتلك الخطّ الواضح والمؤهّلات الخاصّة التي تمكّنه من صياغة الهوامش بشكل فنّي صحيح ، فهو يعرف ـ بطبيعة الحال ـ تسلسل المصادر والمراجع والعلماء تأريخيّاً ، كي لا يُقدِّم المتأخّر زماناً ولا يؤخّر المتقدّم ، وهو أيضاً يجيد فنّيّات الربط بين المتن والهامش ، وكيفيّة تدوين أسماء الأعلام والمصادر ، والفرق بين الحديثيّة منها ـ مثلاً ـ والفقهيّة والرجاليّة ، وهكذا. كما له اطّلاع مقبول في اللغة العربيّة وعلومها.

ولنا في أصل وأساس موضوع الهوامش كلام ، إذ البعض يعمد إلى التوسّع فيها بشكل يزيد من حجم الكتاب ويثقل كاهل القارئ ويشتّت


الذهن ، فلو كان ـ مثلاً ـ بحثٌ في قراءة قرآنيّة معيّنة ، ترى المحقّق يشير إلى شتّى الاختلافات في تلك القراءة ومصادرها والموارد الاُخرى في غيرها من الآيات ، فينتفخ الهامش انتفاخاً عجيباً .. أو في ترجمة عَلَم من الأعلام ، ترى التفصيل فيها وفي مراجعها يكاد يخرج الهامش عن طبيعته المعتادة .. أو توثيق قول ورواية ومَثَل وبيت شعر .. وهكذا في سائر الموارد الاُخرى.

بينا نرى البعض مقتصداً تمام الاقتصاد بحيث يجعل القارئ محتاجاً إلى توسّع أكثر.

ونرى ثالثاً ينهج نهجاً متوسّطاً بين هذا وذاك.

ومعقول الأمر أن يكون الهامش ذا محتوى منطقي ، أي بمقدار ما يحتاجه المتن من إشارات وتوثيقات وبيانيّات ، لا أكثر ولا أقلّ ، فلا نحمّله أكثر من طاقته ولا نقتصد فيه اقتصاداً مُفْقِراً ، حينها يبقى الهامش في سياق الموضوعيّة المقرّرة له ولا يتجاوز الحدود المعهودة ، فيجعل القارئ محافظاً على التركيز والاستقرار ، ممّا يمهّد له الآليّات المناسبة التي تسهّل الربط بين المتن والهامش.

هذا ، وأنّ هناك من يجمع الهوامش كلّها نهاية كلّ موضوع ، أو نهاية كلّ كتاب ، أو يجعلها صفحة بصفحة .. ولعلّ النسق الأخير هو الأنسب والأكثر قبولاً عند القرّاء.


٨ ـ المراجعة النهائيّة

لا تقلّ شأناً عن عمليّة تقويم النصّ ، بل تعدّ علميّاً أرقى رتبةً ; فهي عمليّة إشراف ونظارة وملاحظة وتفتيش وفحص لما قام به مقوّم النصّ من خطوات وجهود ، وهي تصطاد ما زاغ عنه الفكر والبصر وتوحّد الجهود المعرفيّة والتحقيقيّة والفنّيّة والتخصّصيّة كلّها تحت غطاء نهج ونسق واحد ، فهي محاولة أخيرة لإزالة ما يمكن إزالته من أخطاء ونواقص علميّة وفنّيّة وترمّم وتملأ الفجوات وتسدّ الثغرات إن وجدت. وخصائص صاحبها كخصائص مقوّم النصّ ، بل أوسع وأرقى وأكثر تجربة وحنكة وهيمنة.

ولا يغيب عن المراجع النهائي التواصل الدائم مع مقوّم النصّ للتباحث والمشورة قبل اتّخاذ القرار النهائي.

المراجع النهائي لابدّ أن يمتلك الشخصيّة العلميّة التخصّصيّة التي تجعل منه مرجعاً ومصدراً يلوذ به الآخرون لتجاوز الصعاب والمشكلات العالقة.

والمراجعة النهائيّة هي التي تمنح المشروع شكله ومحتواه العلمي النهائي.


٩ ـ الفهرسة

الفهرسة عمليّة اختزال المطالب والموضوعات الموجودة.

وتختلف باختلاف الحاجة إليها ، فمن المشاريع التحقيقيّة ما يُكتفى فيه أو لا يتحمّل غير الفهارس الموضوعيّة ، يلحق بها الفهارس المتعارفة : الآيات ، الروايات ، الآثار ، الأمثال ، الأماكن ، الأعلام ، الألبسة ، الحيوانات ، الفرق والمذاهب والأديان ...

ومن المشاريع التحقيقيّة ما تضمّ أيضاً الفهارس العلميّة مثل : مباني المؤلّف الفلسفيّة ، الكلاميّة ، الاُصوليّة ، الرجاليّة ، اللغوية ، التفسيريّة ...

وهي بلا شكّ تساهم مساهمة فاعلة في الوصول إلى المقصود بأسرع وقت ممكن وتمهّد لإجراءات علميّة وتحقيقيّة وتخصّصيّة على غاية من اليسر والسهولة.

١٠ ـ المقدّمة

كتابة المقدّمة من المراحل المتعارفة في عمليّات التحقيق.

والمقدّمات على أصناف ، فمنها : مقدّمات كلاسيكيّة تتناول حياة المؤلّف ، وسيرته وما يتعلّق بها ، ومواصفات الكتاب وخصائصه ، إضافة إلى ما قيل بحقّ المؤلِّف والمؤلَّف.

ومنها : مقدّمات تعنى بالبحوث والدراسات العلميّة والتخصصيّة التي تعدّ بحدّ ذاتها نتاجاً معرفيّاً متوفّراً على الإبداع والابتكار نوعاً.


وبإمكان كتابة المقدّمات أن تفتح آفاقاً للمواهب والطاقات التي قد لا تجد فرصاً اُخرى للتأ لّق في ميادين التدوين ، فتكون لها بوّابةً ومنطلقاً نحو مشاريع تأليفيّة أكبر ، وهذا ما يعني مزيداً من الإبداع والابتكار والتحرّر الفكري المشار إليه آنفاً.

١١ ـ الملاحظة الفنّيّة

عمليّة تخصّصيّة فنّيّة تمنح الكتاب شكله ومظهره من حيث تناسق الحروف والكلمات والأسطر والفقرات والصفحات والعناوين وأحجامها جميعاً طبق قياسات وحسابات معيّنة ودقيقة.

والملاحظة الفنّيّة لها الدور المؤثّر في إضفاء الجمال والجاذبيّة على صفحات الكتاب ; فكم من النتاجات التي يملّ الإنسان مطالعتها لسوء إخراجها الفنّي ; وكم من الكتب التي تأنس بها العين وتهفو لها الأذواق وتزداد لهفةً إلى تداولها وقراءتها لحسن إخراجها الفنّي.

وهذا الأمر أيضاً هامّ جدّاً بالنسبة إلى نوع الورق المستفاد في طباعة الكتاب وكيفيّة تصميم الغلاف والخطّ ونوع الجلد ولونه ، فكلّها اُمور دخيلة ومؤثّرة في مرغوبيّة الكتاب وعدمها.

١٢ ـ المطالعة

مطالعة الكتاب يتكفّل مهمّتها أحد الأساتذة المرموقين والفضلاء البارزين علميّاً وتخصّصيّاً ، في أجواء وفضاءات بعيدة كلّ البعد عن أجواء


وفضاءات مراحل التحقيق التي مرّ بها الكتاب. إنّها قراءة علميّة متأ نّيّة تفيد المشروع بملاحظات وإشارات ربما غُفل عنها أثناء مراحل التحقيق برمّتها.

١٣ ـ الطباعة والنشر

وهي على مراحل ، إذ يطبَع المتن النهائي كومبيوتريّاً ، ثم يقابَل ويصحّح ، ثم يطبع طبعة نهائيّة لينقل على القرص المضغوط CD ، الذي يأخذ طريقه لدور الطباعة والنشر.

هذا مضافاً إلى الطبعة الاُولى التي طُبع المتن بها وجرت عليها مراحل التحقيق المختلفة.

وآلية النشر والتوزيع لها الأثر الأساس في وصول النتاج إلى الأماكن والأيادي التي لابدّ من وصوله إليها.

* * *

هذا ، وتلعب فضاءات العمل ونوعيّة الأجواء دوراً هامّاً في الارتقاء بكيفيّة المشروع التحقيقي أو انخفاضها ، ونقصد بالفضاءات والأجواء : وجود المتنفّس المعنوي والداعي القوي والباعث المتين والإيمان بسلامة الهدف ، وتوفّر المرغّبات والمشجّعات وعمليّات الجذب والاستقطاب والاهتمام بالكوادر التحقيقيّة اهتماماً يعني التجليل والاحترام وتقدير الجهود وتذليل الصعاب المختلفة ولو بالمساهمة والمشاطرة ومتابعة


قضاياهم والاستماع الجادّ لهم ولما يقولون ويفصحون عن هموم ومعاناة ، فالكيان التحقيقي قائمٌ بهم ، فبإزاء الحرص والإتقان والأمانة والرغبة والتفوّق لابدّ من الاهتمام والاستجابة المنطقيّة لمطالب الكادر التحقيقي المتوفّرة فيه الصفات المذكورة ; سعياً إلى الارتقاء بالكيان ومشاريعه التحقيقيّة.

كما وتلعب التدفئة والتبريد والإضاءة المناسبة ونوعيّة الطاولات والكراسي والقرطاسيّات والخدمات المتنوّعة وطريقة تنظيم الكتب والمكتبة دوراً هامّاً في الحصول على نتاج أفضل.

ولا ننسى أيضاً أهمّيّة الهدوء وانعدام الضوضاء في الارتقاء بمستوى العمل.

* * *

إنّنا بعرضنا المراحل الثلاثة عشر ـ التي قد تكثر عند البعض وتقلّ لدى آخرين ـ نكون قد أعطينا صورةً تقريبيّة لمعنى التحقيق العملي وما يجري خلاله من عمليّات وخطوات وممارسات. ولا شكّ أنّه استعراض سريع وخاطف لجهود كبيرة تتخلّلها الصعاب والمعاناة والآلام ، قد تمتدّ إلى سنوات وسنوات طوال حتى يرى المشروع التحقيقي النور بحلّته الجديدة وشكله الحديث.

والمتأمّل جيّداً في المراحل المشار إليها يجد أنّها ضوابط وشروط وواجبات لابدّ من تنفيذها والتقيّد بها للخروج بمشروع تحقيقي ناجح ،


فكلّ المساعي والطاقات والفضاءات في خدمة ذلك المشروع الموجود مسبقاً ، موجود بمحتواه وأفكاره وإبداعاته وثقافته ، تجتمع حوله مجموعة من النخب والأخصّائيّين ليعالجوا فيه سلسلة من الفجوات والفراغات المحتوائيّة والشكليّة والفنّيّة والجماليّة ليظهر بزيّ اليوم والعصر الحديث.

إذن هي أفكار وعقول وأحاسيس وبذل ذهني جسدي كلّها باختيار الأفكار والثقاقات والإبداعات والمضامين العائدة للآخرين.

وفي زحمة العمل التحقيقي ذي المشاقّ الفكريّة والعقليّة والروحيّة والجسديّة هل تتوقّف الحركة الذهنيّة وتتقوقع حول الجاهز من الأفكار لتخدمها وتلبّي حاجاتها؟ أم تجعل ذلك نقطة إنطلاق وجولات تمرين وساحات اختبار لمشاريع إبداع وابتكار تعلن الاستقلال الفكري والاكتفاء المعرفي الذاتي؟ بمعنى الالتحاق بركب الإنتاج الذاتي المعرفي والعطاء الثقافي الجديد المتحرّر من قيود المشاريع الجاهزة والنصوص الحاضرة؟

إنّ النخب التحقيقيّة حريٌّ بها أن تحكم وجودها ومصيرها بالخيار الثاني ، وإلاّ فإنّ الخيار الأوّل ليس سوى الموت البطيء للأفكار والإبداعات الكامنة ، والقوّة الفكريّة الكامنة إن رامت الفعل فعليها بالخيار الثاني.

إنّنا إذن مع «التحقيق» إن كان جسراً ومعبراً ونقطة انطلاق للإبداع الفكري الذاتي والنتاج الثقافيّ المستقل.


الكتابة شحنة حياتي

حين يهفو القلب لرشفة حنان فلا يُروى ، ويبحث عن أحاسيس تقاسمه الهموم فلا يعثر ، ويترقّب الحبيب فلا يأتي ، ويعير السمع إلى كلمات هامسات ناعمات فلا صدى ، ويرجو المثل وأدون فلا اعتناء ... حين يحبّ ويعشق ، يخلص ويجهد ، وينوي التوب بحفظ الإيمان وحفظ العهد ، فلا يجني إلاّ الجرح والإحباط ، جرح الصميم والأعماق.

«فلا مفرّ من الغربة والوحدة آنذاك»

غربة الروح والقلب والأفكار ووحدة الآلام والأحزان والمعاناة ; إذ تبدو الحياة وكأ نّها دائرة ملساء.

لا مفرّ لي ولا ملجأ أتوجّه إليه آنذاك ـ وما أكثر تلك الآنات ـ إلاّ الكتابة ; إذ فيها اُخفّف من آلام أحزاني ووحشة غربتي ، أروي بها ضمأ حناني وحاجة أحاسيسي وأمل عيوني وأشواق أسماعي ، اُضمّد جروح أعماقي ، اُعالج إحباطي ، اُنظّم أفكاري ، فاسترجع توازني .. إنّها شحنة الحياة التي أنطلق بها من جديد لاُواصل طموحي وبيان آرائي بذات


الحبّ والعشق والإخلاص والجهد ، وتلك النيّة بحفظ الإيمان والعهد.

ستبقى الكتابة متنفّسي مادامت تلبّي حاجتي لتجنّب الدوائر الملساء ، مادامت تعينني على نهج الخط المستقيم الذي يقودني إلى مراتع راحتي واسترخائي ، إلى ربوع نجاتي واطمئناني وفلاحي.

همّي ألاّ اُخفي على كتاباتي ما اُخفيه على غيرها ، أكشف لها وبها ما في قلبي وعقلي وضميري من أفكار وكلمات ، من قبائح وسيّئات ، من أحلام وطموحات ، من غربة ومعاناة ، من آلام وآهات ، من أسرار ومكتوبات.

أعقد معها وبها مجالس وندوات ومؤتمرات ، مجالس لا تخلو من الوعظ والإرشاد ، ندوات يتخلّلها النقد والسؤال وبيان الآراء ، مؤتمرات تناقش وتصدر توصيات وقرارات ، بلا أدنى منّة وإحراجات ، أو تكاليف ومجاملات.

إنّها الساعد المثير الذي طالما مدّ يد العون لي في أحلك الظروف وأشدّ الأزمات ، فكيف لي لا أدعوها وأستضيفها وتستضيفني مرّات ومرّات ، تضايفاً امتزج بأرقى مراتب الحفاوة والصفاء ، بل تسامى ما بيننا فصرنا كالعشّاق نخشى العذّال الرقباء ، وللعشق قيمٌ ولوازم وأخلاق لا تأفل ، كاتّحاد العاشق والمعشوق واندكاك أحدهما بالآخر.

تستحثّني الكتابة كي اُقيّم واُراجع واُبعثر وأستنطق واُقارن وألحظ وأعقل وأتحسّس وألمس ، كما تستنهض في ذاتي كلّ مقوّمات العدل


والإنصاف والحقيقة والإبداع بنسق من الوضوح والجلاء. إنّها جزء عظيم من رسالتي ، رسالة أيّ إنسان أحبّ الناس ومبادئ الخير والسلام ، المبادئ التي تعلّمها بالبحث والفحص والتجربة وعدم الجمود على مجرّد الانتماء إلى دين الآباء والأجداد ، فأيقنت ـ رغم سوء أعمالي ـ أنّ الله إنّما يصطفي من عباده ذوي الأنفس الطاهرة المؤمنة الأوّابة ، المنعوتة بصفات حسنات اتّفق عليها العقلاء. وهذا ما يتقاطع مع الهويّة التي أعتقد بها والاُمّة التي أنتمي إليها (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ) (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) المتبادرة بأفعال وأقوال وتقريرات محمّد وعلي وأبنائه (عليهم السلام) ، لا التي خبطتها وشوّهتها براغماتيّة ذاك وراديكاليّة هذا وتفريط ثالث ...

على إثر ذلك ، كان ولابدّ أن تكون الكتابة المرآة التي تعكس رواشح الضمير الحيّ رغم كلّ الغمائم والعتمات الساعية لحجب أنوار الحقيقة.

علّمتني الكتابة أن أفهم قيَمي فأفهم الذود عنها ، وفهمتُ أنّ الذود عنها لا يثمر إلاّ بالحوار والعقلانيّة والأدوات الحضاريّة ، وما عادت آليات العنف بألوانها ـ اللفظيّة والفعليّة والتقاريريّة ـ تجدي نفعاً في يومنا هذا ، بل تزيد الطين بلّة ; خصوصاً أنّنا نمتلك مقوّمات الإثبات والتفوّق المعرفي والعملي ، فالخوف والخشية والتردّد لا معنى لها في قاموس مفاهيمنا حالئذ. إنّنا معقل العقلانيّة وقطبها منذ القدم ، منذ صَمَتَ عليٌّ على مضض كي يبقى الدين ويرقى.


شدّتني الإناسة ـ الإثنولوجيا ـ نحو الاهتمام بمميّزات وفرائد الناس ، اهتماماً أسعى أن يُلقي بظلاله على كتاباتي ، وكان منشؤه أنّي وجدت الكثيرين ـ بل الغالب إن لم أقل الجميع ـ يأنسون باعتناء مودّديهم بخصائصهم ويتوقون لسماعها منهم ، كأن يخبره أحدهم : أنّ لك ستّ ابتسامات : واحدة حين تفرح واُخرى لمّا تتأمّل وثالثة لمّا تصمّم ورابعة لمّا تُنجز وخامسة لمّا تستهزئ وسادسة لمّا تُفاجَأ ...

إنّ اهتمامات كهذه طالما قلبت موازين وأذابت حواجز وصهرت قلوباً بعضها بالبعض الآخر وشيّدت صروحاً مفاهيميّة نقشت آثارها بكلّ شموخ وعنفوان على صفحات الإنسانيّة ، وفعلت ما لم تفعله المغريات بشتّى صنوفها ومساحاتها.

إنّ حلّ شفرة الناس وفتح رموزهم إنّما يتيسّر بفهم لغة القلوب والعيون وقراءة ما خلف المكتوب وسماع ما دون الصمت ، الأمر الذي يفتح آفاقاً واسعةً نحو تلاحم الأحاسيس وتجانس العقول.


لماذا أكتب؟

حين تجد ذاتك تكابد وتعاني ، تفرح وتنتشي ، لوحدها لا آخر يشاطرها أو حتى مستعدّاً لسماع همس الحزن والشدو فيها.

حين لا تجد الملاذ الآمِن الذي تشكو إليه لواعجك وآلامك وتبوح له بما تودّ البوح به كعقل وقلب يحفظ العهد والوفاء.

حين تفتقد الصاحب والصديق والرفيق والحبيب والناصح الأمين.

تتكدّس آنذاك في حناياك متناقضاتٌ من الهموم والمسرّات ، الآمال والطموحات والإحباطات ، فتحسّ أنّ روح الإبداع والأصالة ، الغضاضة والطراوة ، تهدّدك بتذكرة الرحيل ، وكيف بهكذا إنسان أن يستمرّ ويستقيم؟! إنّه يفتقد عناصر الرغبة واللّذة في البقاء والدوام والنموّ والازدهار.

أين ذلك الصدر الرحيب والقلب الكبير والفؤاد الرحيم والعقل القويم والمرشد الفهيم الذي ترتمي في أحضانه لتقول له كلّ شيء وتسمع منه كلّ شيء ، لتبكي وتفرح وتبوح وتستشير وتفعل ما لا يمكن فعله إلاّ بين


يديه .. أين ذلك الذي يفهمك ويحبّك ويهدّئ بالك وتسترخي أعماقك بين صنويه؟

في أضلعي وعلى صفحات قلبي وأروقة ذهني كلمات العمر كلّه وأحاسيسه ورؤاه وأسراره ، سماعاته ومشاهداته وانطباعاته ، رغباته وأهواؤه ; حملتها جميعاً في ذاتي طيلة هذه السنين فَثَقُلَتْ وأثْقَلَتْ ، لم تجد ما يعينها على الخروج والانطلاق.

لم أجد إلاّ الكتابة متنفّساً لكلماتي وأحاسيسي ورؤاي وبعض أسراري وسماعاتي ومشاهداتي وانطباعاتي.

أحلم بذاك الذي يشاطرني همومي وأسراري ، أنا لا أنتظر ذاك الذي يأتي من خلف الضباب في بياض على بياض ، فارس الأحلام المنشود ; إذ أقصد الحقيقة بحدودها ورسومها ، بالمنطق الذي شادها وبنى كيانها ، لست سوى إنساناً يطلب ما يطلب غيره من المعقول المناسب بلا إفراط وتفريط.


ماذا أكتب؟

دارت بي السنون والسؤال الذي يستوقفني ويدور في ذهني دوماً : ماذا أكتب؟

فأنا أرفض كتابة العرض والطلب ; حيث مهنة التجّار التي بها تفقد الكتابة عنفوانها وتميّزها.

أرفض الجمود والتقليد ; إذ يجعلني عبئاً على غيري وآلة مجترّة ليس إلاّ.

لا اُطيق الكتابات الماراثونيّة فإنّها تتعبني وتتعب قارئي.

أستوحي كتاباتي من واقعي بكلّ ما فيه من رؤى وأحاسيس وجوارح ، أمزج أفكاري بمطالعاتي وثوابتي وإيماني بحركة العقل ورفض القيم الجاهزة التي تجافي حركة الوعي والمراجعة والبعثرة والتنقيب والحفر والمقارنة والتحليل ، أصنع من جميعها عجينة معرفيّة ذهنيّة فأصوغها بقلم تصوّراتي وتصديقاتي بقدر ما أفهمه من الحقيقة والإنصاف العلمي الذي يعني : الجدّ والعزم والأمانة سعياً نحو المقصود الأسمى.


أكتب آلامي ، رواشح جوارحي ، أفكاري ، عقائدي ، غربتي ، عشقي ، مطامحي.

أكتب لأنّ الكتابة همّي وسعدي ومتنفّسي وحصيلة كدحي.

أكتب إذ لابدّ لي أن أكتب ، ولا طريق لي في قول الحقيقة غير ذلك.

جبلاً من الهموم أزيح حين أكتب.

إنّ الكتابة اختبارُ الذاكرة والذهن والمشاعر والمروءة والهويّة .. اختبار إنسانيّة الإنسان.


الكتابة

يطرح الدكتور عمر مهيبل في كتابه من النسق إلى الذات «باب : إشكاليّة الكتابة : مساءلة مفهوميّة» رؤى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي يمثّل الجيل اللاحق للبنيوية ، أي الجيل الذي استفاد من البنيوية ولم يقبلها كليّةً ورفضها ولم يتخلّص منها كليّةً أيضاً. دريدا الذي عُرِف عبر مصطلحه الشهير «التفكيك» ومن ثمّة عُرِفت فلسفته بالتفكيكية ، وهي كما يقول : لا شيء وكلّ شيء في الوقت ذاته. دريدا الذي نادى في علم الكتابة ـ الغراماتولوجيا ـ بأولويّة الكتابة على الكلام مخالفاً الألسنيين المعاصرين وعلى رأسهم دوسوسير ، القائلين بأسبقية الكلام من الكتابة وأنّ الأصوات هي أكثر بكثير من الحروف.

نعم ، يطرح مهيبل رؤى دريدا حينما يعبّر عن ذلك : هل نكتب وفقاً لمبدأ العرض والطلب فنسقط في العبوديّة المقنّنة والبذاءة اللفظية والتبسيط المملّ فتفقد الكتابة عنفوانها ويطمس رونقها وتنحسر دلالتها حتى تلامس مراتب العدم؟ هذا النمط من الكتابة اُسمّيه «الكتابة اللامرئيّة» ; لأنّ ما تقع عليه عينا العقل منها لا يتعدّى شكلها أو بنيتها


الطبيعية ، فهي لشدّة وضوحها وخوائها المعنوي والدلالي لا تُرى ، إذن فهي رسم وليست كتابة ، وشتّان بين الرسم والكتابة.

أم أنّنا نباشر الكتابة ليس بمقتضى قانون العرض والطلب هذا ، ولكن بما هي همٌّ أبدي ونهمٌ لا يروي ، نباشر الكتابة بوصفها تحقيقاً لوجود طبيعي وتصوّراً عقلياً واعياً أيضاً ، هذه هي «الكتابة المرئية» التي ينطلق فيها شعاع الوعي من الذات إلى البنية الطبيعية والعكس ، أي أنّ الكتابة تكون بمثابة عملية اختراق مزدوجة للبنية والمخيّلة في آن واحد ، فتحصل الكتابة بالمعنى المرئي ، وهي ليست إلاّ الكتابة المؤدّية إلى المعرفة الدلالية ، الإرادية الواعية.


مسلك التدوين

العقل وكلّ الجوارح تمارس وظائفها المعتادة ، هذه الممارسة تتباين من فرد إلى آخر تبعاً لنوع الملاحظة وكيفيّتها وزمانها ومكانها ، وكذلك تبعاً لنوع التلقّي والقراءة والاستيعاب والتحليل وتركيب الآثار واللوازم.

وفي زحمة الحياة واضطراب الأفكار والإرهاق الدائم لابدّ للملاحظة من التدوين ، مهما كانت تلك الملاحظة تافهة وصغيرة وبسيطة ، ومهما كان موضوعها وظرفها عاديّاً ، ستجتمع لدينا ـ رويداً رويدا ـ العشرات بل المئات والآلاف من الملاحظات ، فعامل التسجيل هامٌّ كمرحلة اُولى ، وفي المرحلة الثانية يعاد اصطفاف الملاحظات موضوعيّاً وزمانيّاً ومكانيّاً ، يضاف لها ما يمكن إضافته ، ويحذف ما يمكن حذفه ، ثم تهذّب وتصحّح وتنقّح وتراجع ، حينها تظهر ملامح الفكرة المتكاملة بشكلها الأولي.

وبجهد آخر مماثل يضاف إليه عناصر : المقارنة والموازنة والمساءلة والمسانخة والمخالفة ، نتّجه حينها إلى تأسيس مشروع علمي معرفي فكري قابل للطرح والعرض.


هناك من يسلك الطريق الماراثوني في التدوين ، وآخر يسلك المختصر السريع منه ، وثالث يختار ما بينهما ، ولكلّ منها خصائصه ومميّزاته ، والأمر أشبه بعدّائي المسافات الطويلة والقصيرة والمتوسّطة :

فالأوّل يمتلك الصبر وطول النفس والمهارة في توزيع القوى وإجادة الحسم في اللحظات الأخيرة.

والثاني يمركز قدراته وقابليّاته ويفرز غاية عصارتها خلال تلك المسافة القصيرة التي لا تتجاوز المئة أو المئتي متر.

أمّا الثالث فيسعى للجمع بين خصائص الأوّل والثاني.

وهكذا تكون آلية عرض المشروع الفكري والثقافي والمعرفي والعلمي ، فهناك من يسلك مسلك عدّاء المسافات الطويلة بما له من خصائص الصبر وطول النفس وتوزيع القوى وحسن الإنهاء .. على أنّ الصبر الفكري وطول النفس الفكري وتوزيع القوى الفكرية وحسن إنهاء الفكرة كلّ واحد منها عنصر محوري ذو تفصيلات واسعة. وكذا الذي يسلك مسلك عدّاء المسافات القصيرة ، فلابدّ له أن يجيد فهم العصارة الفكريّة التي توصل المراد والمطلوب إلى المقصد بذات الكيفيّة التي يوصلها ذلك الماراثوني ، بل لربما أدقّ وأنفذ وأجدى ، وهكذا الذي يجمع بين الاُسلوبين ، فإنّه لابدّ أن يستوعب معنى الجمع وأساليبه وأدواته ولوازمه كي ينال الثمار المرجوّة.


من مقدّمة تحقيق كتاب مستند الشيعة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد حمد الله على عظيم منّه وإفضاله والصلاة والسلام على مفخر قطّان أرضه وسمائه محمّد وآله خير بريّته وأصفيائه.

فلا ريب أنّ كلّ أُمّة تروم المجد وتنشد الرقي عليها أن ترسم لنفسها دستوراً للعمل ومنهاجاً في الحياة ، والاُمم الإلهيّة ـ بما فيها الأُمّة الإسلامية ـ أخذت دستور عملها ومنهاجها من تعاليم السماء ، وهي أجدر وأسمى من القوانين الوضعية التي رسمتها كثير من الاُمم لغرض إيصال الإنسان إلى مجده ورقيّه.

وهذا الهدف الذي يجسّد السعادة بذاتها لا يمكن تحقّقه إلاّ عبر الجمع بين مفردات الفكر وواقع الممارسة ، فالعالِم الذي لا يعمل بعلمه لا أنّه لن يصل إلى غايته ومطلوبه فحسب ، بل يكون العلم وبالاً عليه ،

__________________

١. مستند الشيعة : موسوعة فقهيّة من تأليف الملاّ أحمد النراقي (قدس سره) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، طُبع في عشرين مجلّداً .. هذه المقدّمة دوّنتها مستفيداً من آراء بعض الفضلاء الأجلاّء ، شكر الله مساعيهم.


وقد جعل الله سبحانه وتعالى إبليس المثال البارز للعالم غير العامل.

إذن ، فالعمل هو الخطوة الثانية بعد المعرفة والعلم ، وذلك طبق المفاهيم المستوحاة من القرآن الكريم .. ونعني بالعمل : إتيان ما أمر الله أن يؤتى به والانتهاء عمّا نهى عنه.

هذا ، والمعروف من التعاليم السماوية أنّها تعطي للجانب العملي أهمّيّة خاصّة ، مع الحفاظ على تقوية الجانب الروحي في آن واحد ، وبهما يرتفع الإنسان من حضيص النفس البهيميّة إلى ذروة المجد والمراتب الكماليّة ، حتى يعدّ بمنزلة الملائكة ، بل مثله تبارك وتعالى ، كما ورد في قوله عزّ من قال : «عبدي أطعني تكن مَثَلي ، أو مثلي».

ولقد تأ لّق علماؤنا وفقهاؤنا في عكس الصورة الواضحة والسليمة عن أسس ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي يمثّل مرحلة الكمال في التعاليم السماوية ، فهو المكمّل لكل الأديان والرسالات التي انتشرت قبله ، ثم إنّه لا شريعة بعده مطلقاً.

وإنّنا والحال هذه نجد أنفسنا أمام كنز غني من الفكر والثقافة يدعو أهل الفنّ والخبرة إلى السعي لإظهاره بالشكل المطلوب ، بل إنّ التضلّع بإحيائه يعدّ محوراً هامّاً من محاور تحقّق المجد والسعادة.

وللمناسبة فإنّ إطلاق لفظة «الإحياء» كان من باب الكناية والمجاز ، وإلاّ فإنّ التراث حيّ حاضر لا غبار عليه ، ولاسيّما وأ نّه مستبط من شريعة خاتم المرسلين والأئمّة الميامين صلوات الله عليهم أجمعين ،


التي تكاملت بحذافيرها ـ على المشهور من مذهب الاُصوليين ـ في زمنه صلّى الله عليه وآله ; أو أنّ خطوطها العريضة وكلّياتها قد بيّنها بنفسه صلّى الله عليه وآله وأوكل التفصيل والتوسعة فيها إلى الأئمّة (عليهم السلام) ، كما هو رأي البعض.

ويشهد للقول المشهور ، قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْسْلاَمَ دِيناً) (١).

والنصّ المرويّ عن مولانا الباقر (عليه السلام) ، قال : «خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع ، فقال : يا أيّها الناس ، ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه» الخبر (٢).

إلى ذلك : فإنّ الاُمّة في الظرف الراهن على الخصوص محفوفة بالمخاطر والدسائس من كلّ جانب ، بل عاد النضوج المعنوي والحسّ الروحي منحصراً ، وغدا التعقّل والتدبّر والاشتغال بالعلم مرتبطاً بفئة قليلة جدّاً ، وصار السواد الأعظم يهوى التطوّر الكاذب ، ويلهث وراء الدنيا ومظاهرها ، تاركاً القيم السامية والمبادئ الرفيعة وراء ظهره.

ومن هنا فقد برزت بوضوح ضرورة تجاوز هذه الإخفاقات الغريبة عن الفكر الإسلامي وعقيدته المتكاملة من خلال العمل بجملة من

__________________

١. سورة المائدة : ٣.

٢. الكافي ٢ : ٦٠ / ١.


المناهج التربوية ، على رأسها الاغتراف من المعين الصافي للتراث الإسلامي ، المتمثّل بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

ثم إنّ التعامل مع التراث يحتاج إلى منهجية عمل متكاملة ذات اُسس وقواعد متينة تضمن قطف أينع الثمار ، ولضيق المجال ، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أهمّ محاورها ، فنقول :

لابدّ أوّلاً : من تشخيص ماهية التراث وتثبيت موضوعه ، فما وصل بأيدينا منه مختلف الألوان ، والذي نحوم حوله ونقصده : ما يعكس هويّة الاُمّة الحقيقية ، ويوضّح قيمها وتعاليمها ، ويحفظها من كيد أعدائها ، ويصون أصالتها الإلهيّة ، وبالتالي هو ما يشكّل القناة الرئيسية التي توصل الإنسان إلى الرقيّ المعنوي والغنى الدنيوي والاُخروي.

فالمطلوب إذن مراعاة أعلى مراحل الدقّة في الانتخاب ، حيث فيه خدمة عظيمة للاُمّة ، وإلاّ فإنّ التهاون فيه سيترك أسوأ الأثر وتكون له عواقب وخيمة لا تحمد عقباها.

وأمّا ثانياً : فهو تهيئة الكادر المتخصّص الذي يُلقَى على عاتقه تنفيذ هذه المهمّة الحسّاسة ، ممّا يستدعي توفّر عدّة مواصفات ومميّزات ، كالعشق والغيرة والدقّة والذكاء والتواضع والصبر والأمانة والذوق الرشيق والالتزام الديني والاستعانة بأهل الخبرة ، إلى غير ذلك.

ونجد لزاماً أن نقول : إنّنا بالقدر الذي ندعو فيه إلى إحياء التراث ، ندعو إلى السعي الحثيث لتدعيم جانب التصنيف والتأليف ، فالعصر


الحاضر ـ بمستحدثاته ومستجدّاته ، وبما يحمل من تساؤلات وشبهات مصدرها التآمر الفكري الثقافي الذي يتّسع يوماً بعد آخر ضدّ الدين الإسلامي وقيمه الرفيعة ، إلى سائر العوامل والأسباب ـ يُبرز الحاجة الملحّة لردم الهوّة الفاصلة بينه وبين التراث ، وتؤيَّد دعوانا هذه بأنّ التغاير المكاني والزماني لهما أقوى الأثر في توسيع الثغرة بينهما .. لذا لابدّ من مسايرة أحدهما للآخر من أجل عكس الصورة الكاملة والمتينة عن الثقافة الإسلامية ، الأمر الذي يشكّل بطبيعته الخطوة الأساس نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف الأصعدة ، ولاسيّما الصعيد الفكري منها.

ولكون إحياء التراث هو مدار البحث ، ارتأينا تسليط الضوء على بعض زواياه تاركين الخوض في باب التصنيف لفرص اُخرى.

ولنا الجرأة بأن ندّعي بالدليل القاطع : أنّ الاُمة الإسلامية تمتلك تراثاً هائلاً من الآثار النفيسة التي حُرّرت في مختلف ألوان العلم والمعرفة ، كالفقه والاُصول والأدب والكلام والطبّ والهندسة والفلك والرياضيات ، حتى عاد المخزون الثقافي لها من أهم ما اعتمدته النهضات المختلفة في برامج عملها ، بل إنّ الاُمّة الإسلاميه بذاتها لمّا كانت رائدة العلم والتطوّر ، كان الفضل الأوّل والأخير في ذلك يعود إلى اعتمادها الإسلام كفكر وممارسة ; ولخصوصية تكيّفه مع مختلف الأعصار والأصقاع فإنّه يجدر بنا أن نستلهم ونستنبط من كنوزه نظاماً أرقى وواقعاً أعزّ وأرفع.


وفي الوقت الذي نشدّ فيه على الأيدي التي طرقت هذا الجانب ـ أي عملية إحياء التراث ـ من مؤسّسات ومجامع ومعاهد علمية وأفراد ، سعت لنشره بعد إجراء سلسلة من مراحل التصحيح والتحقيق والطبع وتسهيل مهمّة إيصاله بين أيدي القرّاء بالوفرة المطلوبة بعدما كان مغموراً مخطوطاً لا تتجاوز نسخه عدد الأصابع ..

نؤكّد على ضرورة ممارسة أعلى مراحل الدقّة والأمانة المقترنتين بالالتزام الديني ; لِما لهذه المميّزات من أثر بارز في عرض تراث سليم يترجم الطموحات المرجوّة على أحسن الوجوه وأكملها.

ولسنا في مقام التعريض أو المساس بهذا النتاج أو ذاك ، بل غاية مقصودنا هو الدعوة إلى الاهتمام التامّ بالكيفية والنوعية ، وأن لا تكون الوفرة والتسابق على حسابهما ، فلا ضرورة ـ مثلاً ـ في البدء بمشروع قطع الآخرون منه شوطاً طويلاً ، فإنّ لدينا من التراث المخزون ما يحتاج معه إلى سنين طوال لإنجازه ، فاللازم أن تنسّق كافة الجهات أعمالها بالنحو الذي يرتفع معه التكرار وإضاعة الوقت ، وأن يجري تبادل الآراء وتلاقح الأفكار ، كي لا تكون بضاعةً مزجاة وتجارةً قد تبور .. وإلاّ فكم من المصنّفات قد نالتها يد التحقيق والتصحيح وياليتها لم تنلها ، وكم من غيرها ينتظر فرصة الظهور بشوق لا يوصف ، لكنه شوقٌ مشوب بالخوف من عاقبة ما آل إليها نظيره.

وبحكم التخصّص ، فلا مندوحة من الميل بالبحث إلى موضوع


مشروعنا التحقيقي ، نعني : علم الفقه ذي الأهمّيّة والمكانة الخاصّة .. فهو أشرف العلوم وأفضلها ، وقد وردت به الروايات المستفيضة الدالّة بوضوح على علوّ مرتبته وعظم منزلته ، كيف لا؟! وهو برنامج الحياة المتكامل والموجّه لكلّ الأفعال والممارسات على النحو الصحيح.

والقوانين التشريعية التي صاغها الفقه الإسلامي تعدّ من أرقى القوانين التي تضمن سعادة الإنسان المطلقة وتوفّر له كامل حقوقه وتبيّن وظائفه من الواجبات والمنهيات والمباحات ، بل والوضعيات من الأحكام ، حيث تمنح نظام الحياة رونقاً خاصّاً.

ولذا قد ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «لَوَدَدْتُ أنّ أصحابي ضربتُ رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا» (١).

وقال (عليه السلام) أيضاً : «تفقّهوا في الدين فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي ، إنّ الله يقول في كتابه : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٢)». (٣)

وكذا قال (عليه السلام) : «عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً ، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يزكّ له عملاً» (٤).

__________________

١. الكافي ١ : ٣١ / ٨.

٢. التوبة : ١٢٢.

٣. الكافي ١ : ٣١ / ٦.

٤. الكافي ١ : ٣١ / ٧.


وعنه أيضاً : «إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين» (١).

وعن أبيه الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «الكمال كلُّ الكمال التفقّه في الدين» الخبر (٢).

وقد روت العامّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قوله : «من يرد الله به خيراً فقهّه في الدين» (٣).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على شرف الفقه ورفيع مكانته ومقدار أهمّيّته.

والفقه الإمامي يمثّل الوجه الناصع والانعكاس الحقيقي لِما ورد في القرآن والسنّة من مفاهيم وأحكام ، فقد جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله : «يا جابر ، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأُصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم» (٤).

والتصانيف الفقهيّة التي ألّفها علماء الشيعة الإماميّة ـ بمختلف الطرق والأساليب ـ تعدّ المنوذج الأرقى للفقه الإسلامي ، والبرهان الساطع على علوّ كعب هذه الطائفة ، سواء كان ذلك من حيث الكمّ أو الكيف ، ولقد

__________________

١. الكافي ١ : ٣٢ / ٣.

٢. الكافي ١ : ٣٢ / ٤.

٣. صحيح البخاري ١ : ٢٧ ، صحيح مسلم ٣ : ١٥٢٤ / ١٧٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٨٠ ب ١٣ ، موطأ مالك ٢ : ٩٠٠ / ٨ ، سنن الترمذي ٤ : ١٣٧ / ٢٧٨٣ ، مسند أحمد ١ : ٣٠٦.

٤. بصائر الدرجات ٣٢٠ / ٤ ب ١٤ ، الاختصاص : ٢٨٠ بتفاوت يسير ، وعنهما في البحار ٢ : ١٧٢ / ٣.


جدّت الخطى وتآزرت الجهود وبُذلت أقصى الإمكانيات لإظهار ما جادت به أقلام عباقرة العلم والمعرفة والفكر والفضيلة بلباس جديد بعد التصحيح والتحقيق ، مع مراعاة الذوق الرشيق والفن المبتكر والجاذبية العالية.

ولا يخفى على أهل الفنّ والخبرة من المتخصّصين والباحثين والمحقّقين ما لمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) من دور فاعل ونشاط ملموس وإكبار لمسؤولية إحياء تراث ونتاجات فقهاء مدرسة آل البيت (عليهم السلام).

وقد شهد لها القريب والداني من كلّ حدب وصوب أنّ عنوانها لم يكن مجرّد رؤية أو شعار ، بل أثبتت على مستوى التطبيق والإنجاز أنّها تتحسّس الضرورة وتؤمن إيماناً عميقاً بالأهداف التي شيدت لأجلها ، فكان أن جاءت نتاجاتها رفيعة المستوى ، متينة العرض ، فريدة الاُسلوب ، حسنة الذوق ، يهفو إليها الجميع. وهذا ما يعكس الهويّة الحقيقية لها.

ويشغل الجانب الفقهي حيّزاً واسعاً وهامّاً من برنامج عملها ، يُلمَس ذلك بوضوح ممّا صدر عنها من نتاج ، وما هو في طور الصدور أو قيد التحقيق .. وهذا ما يؤكّد حجم اهتمامها بلزوم رفع المستوى الفقهي عموماً وعلى صعيد الحوزات العلمية خصوصاً ، وكذا إحساسها بعلوّ مرتبة الفقه وشرفه ومنزلته.

ولعلّ السبب الأساس في نجاحها يعود وبفضل الله تبارك وتعالى


إلى سلامة المنهجية التحقيقية التي سلكتها في إنجاز أعمالها ، وهو ما نقصد به اُسلوب العمل الجماعي.

وإن كانت المؤسّسة قد استطاعت أن ترفد المكتبة الإسلامية بما تفتقره من آثار نفيسة ـ بعدما علا عليها غبار الدهر وبنى ـ وبحلّة قشيبة ، محقّقة ، مصحّحة ، تختزل عناء البحث ولوازمه ; فإنّها ولله الحمد تكون قد ترجمت أهدافها إلى واقع ملموس ، مع أن الطموح يرقى يوماً بعد آخر.

وأقلّ ما يقال : إنّ المؤسّسة قد أحكمت القدم على طريق إحياء تراث آل البيت (عليهم السلام).

نحن والكتاب :

صنّف فقهاؤنا العظام الكثير في الفقه الاستدلالي ، ولكلّ واحد من هذه الكتب سماته ومميّزاته ، من متانة الاستدلال والجامعية وكثرة التفريعات ونقل الأقوال والإيجاز وغيرها.

ويمتاز كتاب مستند الشيعة بالإضافة إلى ذلك بالدقّة البليغة والاُسلوب العميق ، مع فرز جهات المسألة وجوانبها المختلفة وبيان تعارض الآراء وأسانيدها بالنقض أو الإبرام ، كلّ ذلك ببضع أسطر أو صفحات.

وقد قال بعض الأعلام في مقدّمة الطبعة الحجرية من الكتاب ما نصّه :

لا يعادله كتاب في الجامعية والتمامية ، لاشتماله على الأقوال ، مع


الإحاطة بأوجز مقال ، من غير قيل وقال ، وارتجاله في الاستدلال ، وما به الإناطة بأخصر بيان ومثال ، من دون خلل وإخلال ، فلقد أجمل في الإيجاز والإعجاز ، وفصّل في الإجمال حقّ الامتياز ، فهو بإجماله فصيل ، وفي تفصيله جميل ، ولاسيّما في كتاب القضاء ، فقد اشتهر بين الفضلاء أنّه لم يكتب مثله.

ثم إنّه لا يدع برهاناً أو دليلاً إلاّ واستقرأه واستقصاه إثباتاً لمختاره ومدّعاه ، غير غافل عن التعرض لما تُمسِّك به للأقوال الاُخرى من الوجوه والأسانيد ، خائضاً فيها خوض البحر المتلاطم ناقضاً عليها بألوان الوجوه والحجج.

ولعلّ ما يكسب الكتاب قيمةً ومكانةً : تفرّسه ـ رحمه الله ـ في سائر العلوم ، كالفلك والرياضيات ، وترى آثار هذه المقدرة الفذّة بارزة في بحث القبلة وكتاب الفرائض والمواريث وغيرها من المباحث التي يشتمل عليها الكتاب.

والمشهور والمعروف عن مستند الشيعة أنّه اختصّ وامتاز بكثرة تفريعاته إلى غاية ما يمكن ، وذلك بعد تحقّق أصل المسألة عنده وإثبات مشروعيتها ، وعلى سبيل المثال لا الحصر تراه في مبحث : أنّ نصف الخمس لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من أهله (عليه السلام) دون غيرهم ، يذكر أوّلاً اعتبار السيادة أو عدمها ، ثم يعرّف السادة ويبيّن أدلّة استحقاقهم الخمس ، ثم يتناول كيفية النسبة إلى بني هاشم .. هذا ، مع أنّه يذكر لكلّ


فقرة من فقرات البحث الأقوال المختلفة فيها مع ذكر أدلّتها ثم الإشكال والردّ على المخالف منها وتدعيم وتوجيه المختار.

وحكي عن الفقيه المتتبّع آية الله العظمى السيّد محمّد كاظم اليزدي الطباطبائي صاحب الأثر الجليل كتاب العروة الوثقى أنّه كان يراجع كتاب المستند في تفريعاته الفقهية ، ويأمر تلامذته بالاستخراج منها.

هذا ويستفاد من مطاوي الكتاب عدّة مبان للمؤلّف ، فإنّا نشير إليها لا بنحو الاستقصاء ، بل هي شوارد جالت للبصر وفي فترة كتابتنا للمقدّمة.

منها : انقلاب النسبة فيما كان التعارض بين أكثر من دليلين.

منها : أنّ الشهرة الفتوائيّة جابرة وكاسرة لسند الرواية.

منها : أنّ قاعدة التسامح تفيد الاستحباب وتجري حتى لفتوى الفقيه.

منها : أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

منها : أنّ الجملة الخبريّة لا تفيد الوجوب والتحريم.

منها : ذهابه إلى عدم اجتماع الأمر والنهي.

منها : أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الخبرين بعد فقدان المرجّح هو التخيير لا التساقط.

منها : عدم جريان الاستصحاب في الحكم الكلّي.


ترجمة المؤلّف

هو المولى أحمد بن المولى مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني.

ولد في قرية نراق من قرى كاشان ، في ١٤ من جمادى الآخرة سنة ١١٨٥ هـ. ق ، الموافق لسنة ١١٥٠ هـ. ش ، وقيل سنة ١١٨٦ هـ. ق.

أخذ مقدّمات دروسه من النحو والصرف وغيرهما في بلده ، ثم درس المنطق والرياضيات والفلك على أساتذة الفنّ حتى برع فيها وبلغ درجة عالية غبطه عليها زملاؤه.

ثم قرأ الفقه والاُصول والحكمة والكلام والفلسفة عند والده المولى مهدي النراقي كثيراً.

وقد امتاز من أوائل عمره الشريف بحدّة الذهن النقّاد والذكاء الوقّاد ، وهذا ما أعانه في تسنّمه مراحل الفضل والعلم بالسرعة المذهلة.

ألقى دروسه في «المعالم» و «المطوّل» ، مرّات عديدة ، وكان يجمع بغيرته الكاملة مستعدّي الطلاّب ، وفي ضمن التدريس لهم يلتقط من ملتقطاتهم ما رام ، ويأخذ من أفواههم ما لم يقصدوا فيه الإفهام إلى أن بلغ من العلم ما أراد وفاق كلّ اُستاذ ماهر.

رحل إلى العراق سنة ١٢٠٥ هـ. ق لغرض الزيارة ومواصلة الدراسة والتلمّذ على فقهاء الطائفة وزعماء الأُمّة ، فحضر في النجف مجلس درس السيّد محمّد مهدي بحرالعلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء ، والفتوني كما


قيل ، وكان حضوره حضور المجدّ المثابر ، حتى ارتوى من نمير منهلهم العذب بقدر ما أراد.

ثم قصد كربلاء لغرض الاستفادة والاستزادة من نور العلم أكثر فأكثر ، فحضر دروس السيّد علي الطباطبائي صاحب الرياض والسيّد ميرزا محمّد مهدي الشهرستاني ، وحكي في «نجوم السماء» عن «الروضة البهية» قوله : سمعت أنّ ملاّ أحمد كان يحضر درس اُستاذ الكلّ الوحيد البهبهاني برفقة والده. عاد إلى كاشان فانتهت إليه الرئاسة بعد وفاة والده سنة ١٢٠٩ هـ. ق ، وحصلت له المرجعيّة وكثر إقبال الناس عليه وصار من أجلّة العلماء ومشاهير الفقهاء.

وأقوى دليل وأسطع برهان على مكانته العلمية وشهرته الطائلة أنّ الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري رحل إليه للحضور عليه والإفادة منه.

غادر بلده مرّة اُخرى قاصداً العراق ، وذلك في سنة ١٢١١ هـ. ق لغرض الزيارة والاتّصال بالشخصيات العلمية هناك.

هذا ، ومن جملة صفاته أنّه كان (قدس سره) وقوراً غيوراً صاحب شفقة على الرعيّة والضعفاء وهمّة عالية في كفاية مؤوناتهم وتحمّل أعبائهم وزحماتهم.

وكان له من البنين ثلاثة ، أشهرهم وأعظمهم ملاّ محمّد ، فقد كان عالماً جليلاً فاضلاً نبيلاً ، صاحب تصنيف ، توفّي بكاشان سنة ١٢٩٧ هـ. ق.


والآخر ميرزا نصيرالدين ، له مصنّفات ، منها شرحه على الكافي.

والثالث ملاّ محمّد جواد ، وهو عالم فاضل تقي نقي ، فقيه فطين ، وكان لا يتوانى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواظباً على إقامة صلاة الجماعة ، يطمئن الناس في الائتمام به ، توفّي سنة ١٢٧٨ هـ عن عمر يناهز السادسة والخمسين.

ومن البنات واحدة ، هي حليلة ملاّ أحمد النطنزي ، ومن أبنائها الميرزا أبوتراب.

تلامذته :

وقد تتلمذ عليه الكثير من طلبة العلم والمعرفة ، أعظمهم وأجلّهم وأشهرهم حجّة الحقّ شيخ الطائفة الأعظم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه الذي يروي عنه أيضاً.

ومن تلامذته ابنه ملاّ محمّد.

وميرزا حبيب الله المعروف بـ : ميرزا بابا ، جدّ ملاّ حبيب الله لأُمّه ، صاحب «لباب الألقاب».

السيّد محمّد تقي البشت المشهدي.

وأخوه ميرزا أبوالقاسم النراقي.

وملاّ محمّد حسن الجاسبي.


وفاته :

توفّي رحمه الله تعالى في نراق إحدى قرى كاشان إثر الوباء الذي اجتاح تلك البلاد آنذاك ، غير أنّه لم يحصل القطع في تاريخها ، إلاّ أنّ الأقوى كونها في ليلة الأحد ٢٣ ربيع الآخر عام ١٢٤٥ هـ. ق (١) ، ويعضدها ما ذهب إليه تلميذه الملاّ محمّد حسن الجاسبي في قصيدته التي أرّخ فيها عام وفاته ، والتي يقول فيها :

أضحى فؤادي رهين الكرب والألم

أضحى فؤادي أسير الداء والسقم

تلك الضحى أورثت ما قد فجعت به

يا ليتها لم اُصادفها ولم أدم

لو حملت كربات قد أصبت به

مطيّة الفلك الدوّار لم تقم

ما ذاك إلاّ لرزء قد نعيت به

للعالم العلم ابن العالم العلم

علاّمة في فنون الفقه والأدب

مجموعة الفضل والأخلاق والشيم

مبدي المناهج هادي الخلق مستند

الأنام في جمل الأحكام للاُمم

جزاه خيراً عن الإسلام شارعه

جزاء ربّ وفي العهد بالذمم

إلى أن قال :

قضى على الحقّ أعلى الله منزله

وأيتم الناس من عرب ومن عجم

من النراق سرى صبح الفراق إلى

كلّ العراق صباحاً غير منكتم

بل عمّ أهل الولا هذا المصاب فما

لواحد منهم شمل بمنتظم

__________________

١. وقيل : إنّه توفّي عام ١٢٤٤ هـ. ق ، وقيل غير ذلك.


لم يبق للخلق جيب لم يشقّ ولا

عمامة لحدوث الحادث العمم

لا بل على ما روينا الدين ينثلم

لمثل ذاك فيا للدين من ثلم

لي سلوة أنّ شمس العلم إن أفلت

بدت كواكب منها في دجى الظلم

إن شئت تدري متى هذا المصاب جرى

وقد تحقّق هذا الحادث الصمم

عام مضى قبل عام الحزن يظهر من

قولي (له غرف) تخلو من الألم

فقد أرَّخ الشاعرُ العامَ السابق لعام الحزن (عام الوفاة) ، بقوله (عامٌ مضى) وأنّ هذا (العامَ) يظهر من قوله (له غرفٌ ـ تخلو من ـ الألمِ) حيث يكون الحساب الأوّلي للحروف لعبارة (له غرف) ١٣١٥ ، وبطرح ٧١ لعبارة (الألم) يكون الباقي ١٢٤٤ ، فيلحقه العامُ التالي (عام الحزن) وهو سنة وفاته ، فيكون عام ١٢٤٥ هـ ، وهو ما ذهبنا إليه آنفاً.

وحُمِل رحمه الله تعالى إلى النجف الأشرف حيث دفن في الصحن العلوي بجانب والده في الايوان جهة باب الطوسي من أبواب الحضرة الشريفة.

مؤلّفاته :

قد صنّف المحقّق ملاّ أحمد النراقيّ الكثير من الكتب الفقهيّة والأُصوليّة والأخلاقيّة ، طبع منها البعض وبقي الآخر ليرى النور ، فإنّا نسجّل قائمة بأسمائها وفق ما جاء في كتاب الذريعة وغيره.


١ : مناهج الأحكام في اُصول الفقه (١) : في مجلّدين ، وقد طبع بطهران سنة ١٢٦٩ بعنوان (مناهج الأُصول).

٢ : مفتاح الأحكام في اُصول الفقه (٢).

٣ : أساس الأحكام في تنقيح عمدة مسائل الأُصول بالأحكام (٣).

٤ : وسيلة النجاة (٤) : رسالتان كبيرة وصغيرة ، وهما فتوائيّتان عمليّتان فارسيّتان ، الكبيرة في مجلّدين ، وأورد فيها الضروريّات في الأعمال.

٥ : سيف الأُمّة وبرهان الملّة (٥) : فارسي ، كتبه بإسم السلطان فتح

__________________

١. منه مخطوطة في مكتبة مدرسة المروي في طهران رقم ٢٨٠ كتبت سنة ١٢٢٩ وصحّحت سنة ١٢٣٢ واُخرى في مكتبة سبهسالار رقم ٨٩٤ كتبت سنة ١٢٤١ وثالثة في مكتبة شاه چراغ في شيراز رقم ٣٣١ كتبت سنة ١٢٤٦ ومخطوطة في مكتبة المرعشي رقم ٦١٣٢ كتبت سنة ١٢٤٢ واُخرى فيها رقم ٧٠٥٠ كتبت سنة ١٢٥١ مصحّحة وعليها تعليقات للمؤلّف منقولة من خطّه ، وفيها اُخرى رقم ٨٠٩٦ كتبت سنة ١٢٥٦ ، واُخرى في جامعة طهران برقم ٧٦٤٠ و ٧٦٦٧ / ٢ و ٧٧٠٤ / ٢ و ٨٧٠٩. ومنها نسخ في مكتبات اُخرى.

٢. منه مخطوطة في مكتبة شاه چراغ في شيراز رقم ٣٤٩ ربما هي بخطّ المؤلّف ، واُخرى في مكتبة مدرسة نمازي في خوي رقم ٣١٦ تاريخها سنة ١٢٢٨ وفي مكتبة المرعشي رقم ٧١٤٧ م كتبت سنة ١٢٢٨ ورقم ٦٣٢٢ م كتبت سنة ١٢٤٩ ورقم ٥١٩٣ كتبت سنة ١٢٥٧ ، واُخرى في مكتبة جامعة طهران برقم ٢٩٢٦ و ٩٧٣ كما في فهرستها ج ٥ : ١٧٢٤.

٣. منه مخطوطة في مكتبة كليه الإلهيات في مشهد رقم ٩٦٥ وفي مكتبة الإمام الرضا (عليه السلام) في مشهد ، رقم ٩٦٢٣ كتبت سنة ١٢١٧ ومنه مخطوطتان في المرعشية ٤٨٠٥ و ٦٤٢٨.

٤. منه مخطوطة في جامعة طهران برقم ٩١١٤.

٥. منه مخطوطة في مكتبة البرلمان الايراني السابق رقم ٢٠٧١ قوبلت وصحّحت بإشراف المؤلّف وفيها اُخرى برقم ٤٩٨٢ م كتبت سنة ١٢٤٣ في حياة المؤلّف ، وفي جامعة طهران برقم ٢٧٢٠ و ٩٣٠ كما هو مذكور في فهرستها ج ٣ : ٥٨٤.


عليّ شاه القاجاري ، مرتّباً على ثلاثة أبواب ، وطبع بإيران سنة ١٢٦٧ وسنة ١٣٠٠ وسنة ١٣٣٠. وهو في الردّ على البادري النصراني الذي أورد الشبهات على دين الإسلام. وكان من أفضل ثلاثة كتب صنّفت في هذا المورد.

٦ : عين الأُصول ، في اُصول الفقه (١).

٧ : مشكلات العلوم ، وقد جاء في الروضات بعنوان : (كتاب في مشكلات العلوم) ، وهو غير مشكلات العلوم الذي لوالده ، وغير الخزائن.

٨ : الخزائن (٢) ، فارسيّ بمنزلة التتميم والذيل لمشكلات العلوم تأليف والده ، وكلاهما مطبوعان ، والخزائن طبع مكرّراً منها سنة ١٢٩٠ ، ١٢٩٥ ، ١٣٠٧ ، ١٣٠٨ ، ١٣١٠ ، و ١٣٨٠ هـ.

٩ : شرح تجريد الأُصول : شرح كبير في ٧ مجلّدات ، مشتمل على جميع ما يتعلّق بعلم الأُصول ، فرغ منه سنة ١٢٢٢ هـ.

١٠ : عوائد الأيّام في مهمّات أدلّة الأحكام (٣) ، وقد طبع بإيران في سنة ١٢٤٥ و ١٢٦٦ هـ ، وعليه بعض الحواشي للشيخ الأنصاري سنة ١٣٢١ وطبع بالتصوير عليها أيضاً.

__________________

١. فرغ منه المؤلّف ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٠٨ منه مخطوطة في مكتبة البرلمان السابق رقم ٥٥٣٨ من مخطوطات القرن ١٣.

٢. منه مخطوطة في جامعة طهران برقم ٨٣٧ كما جاء في فهرسها ٣ : ٢٥٨.

٣. منه مخطوطة في مكتبة جامعة طهران برقم ٩٣٣٧ كتبت سنة ١٢٦٠ ذكرت في فهرسها ١٧ / ٣٥٠ ، ومخطوطة برقم ٨٦٨٨ ورقم ٨ / ١٠٥٣ وفي مكتبة المرعشي ٧١٤٨ كتبت في عهد المؤلّف ومصحّحة.


١١ : هداية الشيعة (١) : في الفقه مختصراً ، ذكره نقلاً عن خطّه في لباب الألباب ، فرغ المؤلّف من كتاب الصلاة ١٣ شهر رمضان ١٢٣٤ هـ.

١٢ : معراج السعادة : فارسي (٢) في الأخلاق ، مأخوذ من كتاب والده : (جامع السعادات) ، ومرتّب على ترتيبه ، وطبع بإيران مكرّراً ، وتوجد منه نسخ متعدّدة بإيران والعراق ، وأقدم نسخة في النجف في مكتبة أميرالمؤمنين (عليه السلام) العامّة : كتابتها سنة ١٢٣٨ هـ ، واُخرى : كتابتها ١٢٦٥ هـ ، في كلّيّة الإلهيّات بمشهد خراسان.

١٣ : حجّية المظنّة : ذكر في فهرس تصانيفه.

١٤ : أسرار الحجّ : فارسىّ في أسراره وحكمه الباطنيّة وآدابه وأعماله الظاهريّة من الأدعية وبعض الزيارات ، طبع سنة ١٣٢١ هـ.

١٥ : رسالة في اجتماع الأمر والنهي.

١٦ : طاقديس : مثنوي فارسي ، لطيف في الحكم والمواعظ ، وقد طبع في طهران وغيرها أكثر من عشر مرّات من سنة ١٢٧١ إلى سنة ١٣٧٤.

١٧ : خلاصة المسائل : رسالة عمليّة فارسيّة في الطهارة والصلاة

__________________

١. منه مخطوطة في مكتبة المرعشي رقم ١٢٥ كتبت سنة ١٢٣٥ وعليها حواشي منه مدّ ظلّه وفي مكتبة سپهسالار رقم ٢٢٢٤ ، وفي جامعة طهران برقم ٣ / ٤٤٠٧.

٢. منه مخطوطة في مكتبة جامعة طهران رقم ٦٣٢١ كتبت سنة ١٢٦٤ ذكرت في فهرسها ١٦ / ٢٤١ واُخرى في مكتبة سبهسالار رقم ٥٨٥٤ كتبت سنة ١٢٧٥.

وقد طبع في طهران وتبريز وبمبي أكثر من ثلاثين مرّة أقدمها طبعة سنة ١٢٦٥ وآخرها وأحسنها طبعة دار الهجرة في قم سنة ١٤١٣.


أحال في أواخره إلى (تذكرة الأحباب) له.

١٨ : الرسائل والمسائل : فارسيّ في أجوبة المسائل ينقل فيه عن كتب والده وعن (كشف الغطاء) لأُستاذه ، وهو في مجلّدين.

أولّهما : في الفروع التي سألها السلطان فتح علي شاه القاجار وغيره.

وثانيهما : في بعض المسائل الأُصوليّة وحلّ المشكلات ، صرّح بآسم الكتاب في أوّل المجلّد الثاني ، نسخة كتابتها سنة ١٢٣٠ ، في مكتبة أميرالمؤمنين (عليه السلام) في النجف.

١٩ : ديوان شعره الكبير بالفارسية. وكان يتلقب في شعره (صفائي) وذكر في الذريعة ٩ / ٦١٢ بآسم ديوان صفائي نراقي وقال : ترجمه في ض (رياض العارفين وهو معجم الشعراء الفرس) ص ٤٦٣ وفي مع (مجمع الفصحاء وهو أيضاً معجم الشعراء) ٢ / ٣٣ وذكر أنّه رأى ديوانه ونقل عنه قرب مائة بيت.

٢٠ : شرحه على كتاب لأبيه في الحساب.

٢١ : تذكرة الأحباب.

٢٢ : كتابٌ في التفسير.

٢٣ : لسان الغيب ، وهو منظومة فارسية مطبوعة.

٢٤ : منظومة فارسية اُخرى اسمها چهار صفر.


من مقدّمة كتاب رياض المسائل (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله بجميع محامده كلّها على جميع نعمه كلّها ، ثم الصلاة والسلام على أشرف أنبيائه وخاتم رسله وخير بريّته محمّد المصطفى وآله عترة الطُّهر والتُّقى.

إنّ الله تبارك وتعالى قد شرّف الفقه وجعله أفضل العلوم ، وأمر بتعلّمه وتعليمه بنصّ القرآن الكريم وعلى لسان نبيّه الأمين وعترته الميامين.

ولقد استطاعت المؤسّسة الفقهيّة الشيعيّة ـ بفضل ديمومة عطائها ، وعظم حيويتها ، وتكريسها لحركة الفكر والعقل ـ أن تكون الرائد الذي لا يجارى في هذا المضمار ، ابتداءً بمدرستي المدينة المنوّرة والكوفة وما ثبّته أميرالمؤمنين والصادقَين (عليهم السلام) من الاُسس المتينة ، ومروراً بمدرسة

__________________

١. رياض المسائل : موسوعة فقهيّة من تأليف السيّد علي الطباطبائي (قدس سره) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، طبع في سبعة عشر مجلّداً .. هذه المقدّمة دوّنتها مستفيداً من آراء بعض الفضلاء الأجلاّء ، شكر الله مساعيهم.


الريّ ، ثم بغداد والنجف والحلّة وجبل عامل واصفهان والبحرين وكربلاء ، وانتهاءً بقم في عصرنا الحاضر.

والملاحظ أنّ حركة الفقه والاجتهاد قد انبثق منها محوران أساسيان خلال مسيرتها المباركة ، كلّ واحد منهما يمثّل مصداقاً بارزاً وعنواناً مضيئاً لهذه المؤسّسة ، بما له من الميزة والاختصاص ، من دون أن يكون منافياً للآخر ، فهما صنوان لا يفترقان.

أحدهما : الفقه الفتوائي.

وهو الذي يعنى ببيان الأحكام والفتاوى الشرعيّة من دون التعرّض إلى أدلّتها بالنقض والإبرام ; ويعرف من خلاله ـ وعند ذوي الاختصاص ـ مدى دقّة مصنّفه وقوّة مبانيه وبراعته في إرجاع الفرع إلى الأصل.

ومصاديقه كثيرة ، منها : المقنعة للشيخ المفيد ، النهاية والمبسوط لشيخ الطائفة الطوسي ، المهذّب لابن البرّاج ، المختصر النافع للمحقّق الحلّي ، القواعد والتبصرة للعلاّمة الحلّي ، واللمعة للشهيد الأوّل .. وغيرها ، مضافاً إلى الرسائل العملية لفقهائنا المعاصرين.

وقد يكون الغرض في بعض تلك المصنّفات صيرورتها دستوراً عمليّاً لعامّة المؤمنين الذين لا بُدّ لهم من الرجوع إلى فتاوى الفقهاء ، وذلك مثل : الرسائل العمليّة للفقهاء المعاصرين.

وفي بعضها الآخر ـ ولأجل أنّ عباراتها كانت مضغوطة معقّدة ، لم تكن ملائمة لعامّة الناس ـ صيرورتها متوناً دراسيّة لطلاّب الفقه ، وذلك مثل : قواعد الأحكام وتبصرة المتعلّمين.


الآخر : الفقه الاستدلالي.

وهو الذي يهتمّ بالتفصيل في عرض الأحكام الشرعيّة مع أدلّتها ، بالقبول أو الردّ ، بالترجيح أو التضعيف ، بالإبرام أو النقض ، على نحو من التوسّع في البيان ، والإحاطة بالأسانيد والأقوال ، وكثرة الفروع وتشعّبها ، ملحوظٌ فيه جانب البحث والمناقشة والعرض العلميّ بشكل جلي.

ومن أمثلته : منتهى المطلب للعلاّمة الحلّي ، الذكرى للشهيد الأوّل ، المسالك والروضة للشهيد الثاني ، جامع المقاصد للمحقّق الكركي ، مجمع الفائدة للأردبيلي ، المدارك للسيّد السند ، كشف اللثام للفاضل الهندي ، رياض المسائل للطباطبائي ، المستند للنراقي ، جواهر الكلام للشيخ محمّد حسن النجفي ، وغيرها.

ولقد مرّ الفقه الشيعي بعدّة أدوار ، يعتقد البعض أنّها سبعة : التشريع ، التدوين ، التطوّر ، الجمود والتقليد ، النهوض ، الرشد والنمو ، التكامل ; وهذا الأخير استطاع فيه الفقه الشيعي أن يبلغ ذروته من حيث المتانة ، والمرتبة الرفيعة من الدقّة ، والضبط ، وتقوية الاُصول ، وتفريع الفروع ، ورقيّ الاستنباط.

ولعلّ هذه الدرجة السامية ، والمقام الشامخ ، والنضوج التام ، هي حصيلة النزاع الذي كان دائراً آنذاك بين المدرسة الأخباريّة ومدرسة الفقه والاجتهاد ، فقد كانت الاُولى سائدة ومزدهرة في كربلاء بعد أن تركّزت وانتشرت في البحرين.


ولا يبعد أن يقال : إنّ فكرة الأخباريّة في الإماميّة قد نشأت منذ عهد قديم في قبال فكرة الاجتهاد.

فالاتّجاه الأخباري يعتمد الجمود على ظواهر النصوص ، بينما يعتمد الاتّجاه الاجتهادي ـ بالإضافة إلى ظواهر النصوص ـ الإدراك العقلي ، ويقيس ظواهر النصوص على اُمور خارجة عن نطاقها من المدركات العقليّة والاُصول المسلّمة.

وهذا الاتّجاهان قد شكّلا في الفقه العامّي والإمامي مدرستين متقابلتين ، فنشأت في الأوّل مدرسة الرأي والقياس ، وعلى رأسها أبوحنيفة ، وفي قبالها مدرسة الظاهريّة ، وعلى رأسها داود الظاهري وأحمد بن حنبل.

ونشأت في الثاني مدرسة الاجتهاد والاستنباط ، وعلى رأسها أمثال : زرارة بن أعين ويونس بن عبدالرحمن والفضل بن شاذان ، وفي قبالها مدرسة كان يعبّر عن أهلها بأصحاب الحديث أو الحشويّة.

ولا نعني بهذه المقارنة إثبات وحدة المسلكين ـ الظاهري والأخباري أو القياسي والاجتهادي ـ كلاّ ، فإنّ بينهما فوارق أساسيّة ، فإنّ مثل زرارة ويونس بريء من القول بالقياس الذي تبنّاه أبوحنيفة وأصحابه (١).

__________________

١. وإن كانوا قد نُسِبوا إلى القول بالقياس ، فإنّ له معنى آخر لا مجال لذكره هنا .. وهذه النسبة هي من الشواهد على وجود اتّجاه عقليّ في الأشخاص المنسوب إليهم يشابه القياس في بعض الجهات.


وإنّما عنينا بهذه المقارنة اشتراك المدرسة الظاهريّة في الفقه العامّي والأخباريّة في الفقه الإمامي في نقطة ، هي شجب الإدراك العقلي والجمود على محتوى الحديث ، وتقترن هذه الفكرة في الغالب بتسرّع في تصديق الأخبار ، وحسن ظنّ بالرواة ، وقلّة التدبّر في مضمون الروايات ، مع ما كان يمتلكه أصحابها من شموخ في الفضيلة وعلوّ في المرتبة.

وقد أشار الشيخ المفيد (رحمه الله) إلى جماعة منهم بقوله : لكنّ أصحابنا المتعلّقين بالأخبار أصحاب سلامة وبُعد ذهن وقلّة فطنة ، يمرّون على وجوههم في ما سمعوه من الأحاديث .. (١).

وقد شكاهم شيخ الطائفة في مقدّمة المبسوط بقوله : وتضعف نيّتي أيضاً فيه ـ أي في عمل كتاب يشتمل على مسائل الفروع ـ قلّة رغبة هذه الطائفة فيه ، وترك عنايتهم به ; لأ نّهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ ، حتى أنّ مسألة لو غيّر لفظها وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها (٢).

وأشار إليهم المحقّق في أوّل المعتبر ، وعبّر عنهم بالحشويّة (٣).

وعن نهاية الاُصول للعلاّمة (قدس سره) في مقام إثبات حجّية خبر الواحد : أمّا الإماميّة ، فالأخباريون منهم لم يعوّلوا في اُصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة (عليهم السلام) ، والاُصوليون منهم ـ كأبي

__________________

١. حكاه عنه في كشف القناع : ٢٠٤.

٢. المبسوط ١ : ٢.

٣. المعتبر ١ : ٢٩.


جعفر الطوسي وغيره ـ وافقوا على خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه (١).

ثم إنّ الاتّجاه الأخباري وإن كان موجوداً بين الإمامية منذ عصر قديم ، ولكن الفكرة السائدة بينهم هي فكرة الاجتهاد والاُصول ، التي كانت متمثّلة في كتب المفيد والمرتضى والطوسي والحلّي والمحقّق والعلاّمة والشهيد الأوّل والكركي والشهيد الثاني والأردبيلي وتلميذيه صاحبي المدارك والمعالم وغيرهم ، ومع اختلافهم في الآراء الاُصوليّة وطريقة الاستنباط لكنّهم متّفقون على شجب فكرة الأخباريّة.

وفي أوائل القرن الحادي عشر تحوّلت الفكرة الأخباريّة إلى حركة في ساحة التدوين والتأليف وضع أُسسها الميرزا محمّد أمين الاسترآبادي (قدس سره) (١٠٣٢ هـ. ق) فأ لّف لهذه الغاية كتابه «الفوائد المدنيّة».

قال المحدّث البحراني (قدس سره) في المقدّمة الثانية عشرة من الحدائق : ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الاعتساف إلاّ من زمن صاحب الفوائد المدنيّة سامحه الله تعالى برحمته المرضيّة ، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب ، وأسهب في ذلك أيّ إسهاب ، وأكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب (٢).

وقد تأ ثّرت بأفكاره من بعده جماعة من أجلّة علمائنا المحدّثين ،

__________________

١. حكاه عنه في كشف القناع : ٢٠٣.

٢. الحدائق الناضرة ١ : ١٧٠.


من قبيل : المحدّث الفيض الكاشاني والمحدّث الحرّ العاملي (قدس سرهما) ، فصنّف الفيض كتابه «الاُصول الأصيلة» والذي هو كالتلخيص للفوائد المدنيّة ، وإن خالفها في بعض المواضيع.

وفي تلك الفترة ـ أي القرن الحادي عشر حتى أواسط القرن الثاني عشر ـ نشأت في مدرسة الإماميّة حركة نشيطة همّها جمع الأحاديث أو شرحها ، وهي حركة مباركة أمدّت العلوم الإسلاميّة بشتى أشكالها ، فاُلّفت موسوعات حديثيّة من قبيل : وسائل الشيعة وبحارالأنوار والوافي ، وشروح وتعليقات على كتب الحديث ، مثل : روضة المتّقين ، مرآة العقول ، ملاذ الأخيار.

وقد أصاب الفقه الاجتهادي في ذلك العصر شيءٌ من الفتور ، ولكن ذلك لم يقف حائلاً أمام ديمومة حركته ، فقد صُنّفت في تلك الفترة ـ وعلى مبنى الاجتهاد ـ مؤلّفات ..

منها : كشف اللثام في شرح قواعد العلاّمة ، لمحمّد بن الحسن الاصبهاني المعروف بالفاضل الهندي (١١٣٥ هـ. ق) الذي يعتمد عليه في الجواهر على حدّ كبير ، وحكي أنّه لا يكتب شيئاً من الجواهر لو لم يحضره ذلك الكتاب (١).

ومنها : مشارق الشموس في شرح الدروس ، للمحقّق الكبير السيّد حسين الخوانساري (١٠٩٨ هـ. ق) فإنّه وإن لم يبرز منه إلاّ كتاب الطهارة ،

__________________

١. اُنظر الكنى والألقاب ٣ : ٨.


لكنّه مشحون بتحقيقات اُصوليّة يحكيها عنه المتأخّرون ، مثل الشيخ الأعظم الأنصاري. وذكر المحقّق التستري : أنّ الوحيد البهبهاني قد يعبّر عن الخوانساري باُستاذ الكلّ في الكلّ (١).

ثم في أواخر القرن الثاني عشر وجد المسلك الأخباري نفسه وجهاً لوجه أمام بطل الاجتهاد العملاق وفذّه المقدام ، طود العلم الشامخ ، الاُستاذ الأكبر ، وحيد الدهر وفريد العصر ، مولانا العلاّمة محمّد باقر البهبهاني (١٢٠٦ هـ. ق) الذي كرّس غاية جهوده لأجل عزل هذا المسلك وإضماره ، فكان أن نال من التوفيق ذروته ، ومن النصر أعزّه وأبهاه.

وقد وصفه المحقّق التستري بقوله : شيخنا العظيم الشأن ، الساطع البرهان ، كشّاف قواعد الإسلام ، حلاّل معاقد الأحكام ، مهذّب قوانين الشريعة ببدائع أفكاره الباهرة ، مقرّب أفانين الملّة المنيعة بفرائد أنظاره الزاهرة ، مبيّن طوائف العلوم الدينيّة بعوالي تحقيقاته الرائقة ، مزيّن صحائف الرسوم الشرعيّة بلآلئ تدقيقاته الفائقة ، فريد الخلائق ، واحد الآفاق في محاسن الفضائل ومكارم الأخلاق ، مبيد شبهات اُولي الزيغ واللجاج والشقاق على الإطلاق بمقاليد تبيانه الفاتحة للأغلاق الخالية عن الإغلاق ، الفائز بالسباق الفائت عن اللحاق ... (٢).

وهو ـ رحمه الله ـ كان جامعاً للعلوم الإسلاميّة ، فكان متضلّعاً بعلم الحديث بشعبه ، والقواعد الاُصولية الرصينة ، خبيراً جدّاً بالمباني الفقهيّة ،

__________________

١. اُنظر مقابس الأنوار : ١٧.

٢. مقابس الأنوار : ١٨.


وشرحه الكبير على المفاتيح وحواشيه على المدارك أصدق شاهد على ذلك.

وقد عاد ـ بفضل ما قام به المولى الوحيد نوّر الله مرقده من دور عظيم ـ إلى مدرسة الفقه والاجتهاد ـ بل إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عموماً ـ مجدها وانسجامها ، وتطوّرت وازدهرت ، وتخرّج من حوزته الكبرى (رحمه الله) جمٌّ غفير من أعاظم الفقهاء وفطاحل العلماء ، لكلّ منهم ميزة فائقة ، وشدّ بعضهم الرحال إلى النجف الأشرف ، مثل : السيّد بحرالعلوم ، والشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء ، وبعضهم إلى قم المقدّسه ، مثل : الميرزا القمّي ، وبقي بعضهم بكربلاء المقدّسة ـ موطن الوحيد ـ كالسيّد صاحب الرياض والميرزا الشهرستاني.

وبقيت كربلاء محافظة على دورها العلمي الريادي حتى وفاة المربّي العظيم محمّد بن حسن علي الآملي الحائري المشهور بشريف العلماء سنة ١٢٤٥ هـ. ق ، الذي تتلمذ على صاحب الرياض.

وتكميلاً للفائدة ، فلا بأس بالإشارة إلى المحاور الهامّة التي صارت محلاًّ للخلاف بين الأخباريين والاُصوليين ، وهي كالتالي :

١ ـ استقلاليّة علم الاُصول ووضعه أساساً للفقه.

قال الشيخ حسين الكركي (قدس سره) أحد علماء الأخباريين بهذا الصدد : إنّ علم الاُصول ملفّق من علوم عدّة ومسائل متفرّقة ، بعضها حقّ وبعضها باطل ، وضعه العامّة لقلّة السنن الدالّة على الأحكام عندهم وبنوا عليه


استنباط المسائل الشرعيّة النظرية (١).

ونقل عنهم الوحيد بقوله : وشبهتهم الاُخرى هي : أنّ رواة الحديث منّا والتالين لهم لم يكونوا عالمين به قطعاً ، مع علمهم بهذه الأحاديث الموجودة ، ولم ينقل عن أحد من الأئمّة (عليهم السلام) إنكارهم ، بل المعلوم تقريرهم لهم ، وكان هذا الحال مستمرّاً إلى عصر ابن أبي عقيل وابن الجنيد رحمهما الله ثم حدث هذا العلم بين الشيعة ، فلا حاجة إليه.

وأجاب عنه المجتهدون بـ : أنّ كثيراً من المسائل الاُصوليّة كانت موجودة لدى فقهاء أصحاب الأئمّة منذ أيّام الصادقَين (عليهما السلام) ، ووردت فيها روايات عنهم (عليهم السلام) من قبيل : حجّية الخبر ، وحجّية ظواهر الكتاب ، وأصالة البراءة ، والبحث عن القياس ، وعلاج التعارض.

ونرى في كلام الفضل بن شاذان (٢) صورة جليّة عن التفكير الاُصولي ، أشار فيه إلى مسألة اجتماع الأمر والنهي وقال بجوازه ، وإلى الفرق بين النهي المولوي والإرشادي ، وأنّ الثاني يقتضي الفساد في المعاملات دون الأوّل.

مضافاً إلى أنّ استغناء أصحابهم (عليهم السلام) عن الاُصول ـ لمعاصرتهم إيّاهم (عليهم السلام) ـ لا يدلّ على استغناء الفقهاء البعيدين عن عصرهم (عليهم السلام) وقد خفي عليهم أكثر القرائن والملابسات التي كانت تكتنف بالنصوص ممّا يؤدّي إلى وضوح معناها.

__________________

١. هداية الأبرار : ٢٣٤.

٢. المحكي في الكافي ٦ : ٩٢ ـ ٩٣.


٢ ـ اعتماد المجتهدين في إثبات الأحكام الشرعيّة على الظنون.

وهذا ما نسبه الأخباريّون إلى المجتهدين ، وهم قد برّءوا أنفسهم عن العمل بالظنّ ، وقالوا : نحن نعمل بالأخبار دون الظنون ; وجماعة منهم ادّعوا قطعيّتها.

وأجاب عنه المجتهدون في ما يرجع إلى الدعوى الاُولى ـ أي عمل المجتهدين بالظنون ـ بأ نّه إن كان المراد بالظنّ : الظنّ الذي لم يقم على حجّيته دليل قطعي ، فالعمل به ممنوع عند الاُصوليين بتاتاً. وإن كان المراد منه : الظنّ الذي قام على حجّيته دليل قطعي ، فهو مسلّم ولا ضير فيه ، كالظنّ الحاصل من ظهورات الكلام أو أخبار الثقاة .. وقد توسّعوا في البحث عنه في محلّه في علم الاُصول.

وأمّا بالنسبة إلى الدعوى الثانية ـ أي العمل بالأخبار ـ فهي أمر وافق عليه المجتهدون مع توفّر شرائط الحجّية ، فإنّ الأخبار هي العمدة في استنباط الأحكام عند المجتهدين كما هو واضح ، ولكنّها في الأغلب تكون ظنّيةً صدوراً أو دلالةً ، والشواهد التي اُقيمت على إثبات قطعيّة الأخبار غير وافية (١).

٣ ـ قد يعتمد المجتهدون في إثبات الحكم الشرعي على مقدّمات عقليّة ، في حين أنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، والعمل بالرأي والقياس ممنوع في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

__________________

١. اُنظر معجم رجال الحديث ١ : ٢٢ ـ ٣٦.


وأجاب عنه المجتهدون بما أوضحوه في بحث القطع من الاُصول بـ : أنّ المقدّمات العقليّة إذا لم تنتج إلاّ الظنّ فهي ليست بحجّة ، وتدخل في باب القياس والاستحسان والمصالح المرسلة.

وأمّا الملازمات العقليّة التي بها يستفاد الحكم من النصوص الشرعيّة ، فهي حجّة ذاتيّة لا يعقل الردع عنها ، بل أمضاها الشارع وأرشد إليها ، من قبيل : استلزام الأمر بالشيء الأمر بمقدّمته ، وغير ذلك .. فمتى سلّم هذا الاستلزام لا معنى لطرح حجّيته ، فإنّه من قبيل لوازم الكلام ، ولا يرتبط بالقياس والرأي الممنوعين.

٤ ـ يعتمد المجتهدون على ظواهر الكتاب ولو لم يرد فيه تفسير عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهو عند الأخباريين مصداق التفسير بالرأي الممنوع عنه في الروايات .. وهذا ما ذهب إليه معظمهم ، وشذّ عنه بعضهم (١).

وقد بحث المجتهدون عنه في الاُصول موسّعاً ، وأثبتوا حجّية ظاهر الكتاب بحسب الروايات وشهادة نفس الكتاب ، ودفعوا الإشكال عنها.

٥ ـ عدم التزام الاُصوليين بحجّية الرواية بمجرّد وجودها في إحدى الكتب الروائيّة ، وإنّما يرون لحجّيتها شروطاً بلحاظ الرواة ، أو بلحاظ عمل المشهور وعدم إعراضهم عنها.

وفي قبالهم يعتقد الأخباريّون حجّية كلّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة وما يماثلها ، وبعضهم ادّعى قطعيّتها ; واستشهدوا على

__________________

١. كالفيض الكاشاني في الاُصول الأصيلة : ٣٦ ـ ٣٧.


دعواهم بأمور زيّفها المجتهدون (١).

٦ ـ يعتني المجتهدون بعلم الرجال ; باعتباره متصدّياً لتمييز آحاد السند من الجرح والتعديل ، والذي هو دخيل في اعتبار الرواية وعدمه.

وأمّا الأخباريّون ، فلاعتقادهم صحّة كلّ الروايات الموجودة في الجوامع الحديثيّة ، وجدوا أنفسهم في غنىً عن علم الرجال وعلم الدراية الذي يبحث عن أحوال الحديث.

وهذا المحور من الخلاف متفرّع عن المحور السابق.

٧ ـ المشهور بين المجتهدين جريان البراءة في الشبهات التحريميّة.

وخالفهم الأخباريّون وقالوا بوجوب الاحتياط فيها ; أخذاً بظاهر الأدلّة الآمرة بالتوقّف والاحتياط في الشبهات.

وأجاب عنهم المجتهدون بـ : أنّ التأمّل الوافي في الروايات المشار إليها يعطي أنّ الأمر بالتوقّف فيها إرشاديٌّ لا مولوي ، ومقتضى حديث الرفع وغيره هو البراءة.

هذا ، وهناك خلافات اُخر لعلّها لا تكون إلاّ بين الأخباريين وجمع من الاُصوليين لا جميعهم ، وذلك مثل : حجّية الإجماع المنقول.

كما أنّه قد تذكر نماذج من مسائل فقهيّة بعنوان الخلاف بين الفريقين وهي أيضاً متفرّعة عن بعض الخلافات المتقدّمة في المسائل الاُصوليّة.

__________________

١. راجع الفصل الثامن من كتاب اجتهاد الأخبار للوحيد البهبهاني ، رجال السيّد بحرالعلوم ٤ : ١٧٣ الفائدة الرابعة ، الحقّ المبين لكاشف الغطاء : ٣٤ ، معجم رجال الحديث ١ : ١٩.


نحن والكتاب

إنّ الجهود التي كرّسها الوحيد ـ نوّر الله مرقده ـ قد أينعت وأتت بالثمر العظيم على مختلف المجالات ، ولاسيّما مجال التصنيف ، الذي عاش ـ ولا زال ـ عصراً باهراً يمتاز بالتكامليّة ، المقرونة بالدقّة الفائقة ، والضبط الرفيع ، والقواعد المحكمة ، وكثرة الفروع وتشعّبها ، ومتانة الاستنباط.

ويعدّ كتابنا «رياض المسائل» خير نموذج وأوضح مصداق يجمع ـ وبشكل شامل ـ بين مباني الوحيد وخصائص مرحلة التكامل ، فإنّ مصنّفه «السيّد علي الطباطبائي» المشتهر بتبحّره في علم الاُصول ، قد أبدى مهارة فائقة وبراعة قلّ نظيرها في إرجاع الفروع إلى الاُصول ، الاُصول التي اعتمدها اُستاذه الوحيد ودحر بها الأخباريين ، فلقّنها إيّاه خير تلقين ، وأجاد استثمارها وأبدع فيها خير إبداع ، سالكاً في الاستدلال بها مسلكاً استحال على غيره ، بل عسر ، متعرّضاً لكلّ ما توصّل إليه من الأدلّة والأقوال.

إنّ «رياض المسائل» غرّة ناصعة على جبهة الفقه الشيعي ـ بل الإسلامي ـ ونجم ساطع في سماء الفقه الاستدلالي ، وآية باهرة لكيفيّة الاجتهاد والاستنباط ، حسن الترتيب ، كثير الفوائد جدّاً ، يضمّ ـ بالإضافة إلى دقّته في الاستدلال ـ الإحاطة بشتّى جوانب البحث ، مشفوع بنقل الروايات والكلمات بعبارات موجزة بليغة ، اقتصر فيه على اُمّهات الفروع


الفقهيّة ، مع غاية في الاختصار في أداء المقاصد وإيراد المطالب ، بحيث يصعب ـ بل لعلّه يتعذّر ـ الوقوف على جملة بل كلمة زائدة لا يضرّ إسقاطها بالمطلب ، وذلك في جميع فصوله ، فمنهجه في الإصرار على الاختصار منهج كتاب «الروضة البهيّة» و «زبدة الاُصول».

ويدلّك على عظمته أنّه اشتهر به كاتبه ، فيعرف به غالباً ، كما هو الحال في «كشف الغطاء» و «جواهر الكلام».

وهو ـ في ما بأيدينا من تراث فقهائنا ـ أوّل كتاب فقهيّ استدلاليّ مبسوط حاو لجميع الأبواب الفقهيّة ، إلاّ ما شذّ (١).

شرح مزجيّ على المختصر النافع للمحقّق الحلّي ، وقد يعبّر عنه بالشرح الكبير في قبال شرحه الصغير عليه المطبوع حديثاً .. وهذا النوع من الشرح له تأثير خاص في انسجام مطالب الكتاب واتّصالها ، بحيث يعدّ المتن والشرح كتاباً واحداً ، يحثّ الطبع على ملاحظته والنظر فيه.

ولعلّ أوّل شرح مزجيّ معروف لفقهاء الإماميّة هو كتاب «الروضة البهيّة» الذي متنه كتاب «اللمعة الدمشقية».

ولم يوجد قبل الرياض شرح مزجيّ لمتن فقهيّ على هذا النهج ، فما صُنِّف على هذا المنوال ممّا تقدّم عليه إمّا ناقص كمّاً نقصاً فاحشاً ، كما هو الحال في كتاب «كشف اللثام» للفاضل الهندي ، الفاقد لعدّة من الكتب الفقهيّة ; أو كيفاً ، كما في كتاب «الروضة البهيّة» للشهيد الثاني ، القاصر عن

__________________

١. أي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكتاب المفلّس.


الاستدلال التامّ المشتمل على النقض والإبرام في غالب الفروع الفقهيّة.

ويمتاز أيضاً عمّا تقدّم عليه من الموسوعات الفقهيّة الاستدلاليّة بأ نّه على نسق واحد واُسلوب فارد ، وبنفس السعة التي ابتدأ بها انتهى إليها ، فإنّ كتاب «المسالك» ـ مثلاً ـ وإن كان جامعاً لأبواب الفقه ، إلاّ أنّ فصل العبادات منها في غاية الاختصار ، بخلاف المعاملات.

ومن أبرز خصائصه كذلك : اُسلوب تعامله مع النصوص الروائية ، حيث تراه يورد محلّ الشاهد على نحو من الاختصار والدقّة الرفيعة ، مكتفياً بذكر كونها صحيحة أو موثّقة أو مرسلة أو ... وهذا ممّا يدعو إلى البحث والتحقيق لتشخيص المراد ، الذي يعسر في كثير من الأحيان حصره أو تعيينه.

كما وأ نّه ليس كتاباً فقهيّاً فحسب ، بل كأ نّه بمنزلة الاُستاذ الخبير الذي يرشد الطالب إلى كيفيّه النقاش العلمي ، وتنقيح المسائل الفقهيّة ، وسبل الورود والخروج منها .. وأنت ترى بين غضون الكتاب ـ من روعة البيان ، وقوّة الحجّة ، وسلاسة التعبير ، وحسن التخلّص إلى المقصد ـ ما ينمّ عن بلاغة مؤلّفه البارعة ، وإحاطته بفنون الأدب اللامعة.

ويمكن التعرّف على مدى أهمّيّة الكتاب وعناية الفضلاء والباحثين والمحقّقين به ، من أنّه في سالف الأيّام ـ حيث ربوع العلم كانت مزدهرة عامرة ـ قد صار محوراً دراسيّاً في الحوزات العلميّة ، وتناولته أيدي المشتغلين ببالغ الاهتمام والتقييم ، فكانوا يتباحثون حول مسائله تشحيذاً


لأذهانهم وتقويةً لملكة الاستنباط عندهم ، وكم كان جديراً إحياء تلك السنّة الحسنة بين أهل العلم وطلبته في زماننا هذا.

ثم إنّه قد يعثر المتتبّع في هذا الأثر النفيس على موارد وافرة من العبارات المشابهة ـ بل المتّحدة ـ لعبارات من تقدّم عليه من الفقهاء ، كالذخيرة والكفاية والمسالك والروضة وكشف اللثام ، الموجبة للاطمئنان بكونها مأخوذة منها ، من دون إشارة إلى هذا الاقتباس ، ممّا يقضى منه العجب.

ولكنّه هيّنٌ عند المطّلع على طريقة أهل الفنّ ، فإنّ نقل العبارات من دون ذكر المصدر كان سيرة مألوفة مستمرّة عندهم ، فإنّهم لمّا رأوا عبارات السابقين وافية بالمراد ، وكان الغرض الأهمّ عند السابق واللاحق أداء المطلب الصحيح ، وفهم المقصد ، من دون ملاحظة القائل ـ فانظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال ـ استراحوا في أداء مقاصدهم إلى نقل عبارة مرضيّة عندهم من الأقدمين ، من دون تصرّف فيها ، أو تغييرها إلى صورة اُخرى.

وهذا لا مساس له بانتحال نظريّة وإسنادها إلى نفسه ، فإنّه القبيح المذموم المنزّه عنه فقهاؤنا الأمجاد.

ولعلّه لذا نقف على عدّة موارد من هذا القبيل في الكتب الفقهيّة ، ولاسيّما «الروضة البهيّة» و «مسالك الأفهام» بالإضافة إلى جامع المقاصد ، وكذا «الجواهر» بالنسبة إلى «الرياض» وغيره.


ويشهد على ما ذكرناه ـ من أنّه كان غرضه تحقيق الحقّ بأيّ نحو اتّفق ـ ما أفاده في آخر كتابه من أنّ المرجوّ ممّن يقف على هذا التعليق ويرى فيه خطأً أو خللاً أن يصلحه وينبّه عليه ، ويوضحه ويشير إليه ، حائزاً بذلك منّي شكراً جميلاً ، ومن الله أجراً عظيماً جزيلاً ، إلى آخر ما قال.

ويرى الباحث المدقّق مدى العناية الخاصّة التي أولاها العلاّمة الفقيه الملاّ أحمد النراقي في موسوعته الفقهيّة المرموقة «مستند الشيعة» ـ التي قامت مؤسّستنا بتحقيقها وطبعها ـ إلى ما في «رياض المسائل» من المباني والأقوال ... ثم الملاحظ غالباً أنّه في حال الموافقة له يعبّر عنه بـ : بعض مشايخنا المعاصرين ، أو : بعض مشايخنا ; وبنحو : قيل ، في حال المخالفة له.

كما ويشاهد أنّ الشيخ محمّد حسن النجفي قد تعرّض في موارد كثيرة جدّاً من مجموعته الفقهيّة الشهيرة «جواهر الكلام» إلى عبارات «رياض المسائل» بالنصّ والتفصيل ، خائضاً فيها خوض النقض أو الإبرام.

ثم إنّه لم يظهر لنا زمان الشروع في تأليفه ولا زمان الاختتام .. إلاّ أنّه صرّح في آخر كتاب الصلاة منه : تمّ المجلّد الأوّل والثاني من «رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل» على يد مؤلّفه المفتقر إلى الله الغني عليّ بن محمّد الطباطبائي ، في أواخر العشر الثاني من الشهر الثاني من


السنة الرابعة من العشر الآخر من المائة الثانية من الألف الثاني من الهجرة النبويّة على صاحبها ألف سلام وثناء وتحيّة. انتهى.

والمشاهد أنّه قد فرغ من كتاب الديات في ٢٧ صفر سنة ١١٩٢ هـ ، ومن كتاب الاعتكاف في ٢٦ ربيع الأوّل سنة ١١٩٦ هـ.

قال في الذريعة : وقد فرغ من صلاة المسافر في سنة ١١٩٦ هـ ـ وهذا ما يخالف تصريح المصنّف (قدس سره) بفراغه من كتاب الصلاة سنة ١١٩٤ هـ ـ والظاهر أنّه كتبه بغير الترتيب ، وأ نّه بدأ بالمجلّد الثاني ، لأ نّي رأيت المجلّد الثاني من موقوفات السادة «آل الخرسان» بخطّ الشيخ محمّد بن درويش بن عوض الحلّي ، فرغ من كتابته سنة ١١٩٢ هـ ، فيظهر أنّ فراغه قبل هذا التاريخ ، فيكون مقدّماً على الطهارة والصلاة الذي فرغ منه سنة ١١٩٦ هـ ، وفي آخر القضاء منه في نسخة ذكر أنّه فرغ المصنّف منه في منتصف ليلة الجمعة السابع والعشرين من صفر سنة ١١٩٢ هـ (١). انتهى.

وبملاحظة تاريخ مولده الشريف ، الذي كان في سنة ١١٦١ هـ. ق ، يظهر بُعد ما نقله الشيخ الجليل المامقاني في موسوعته الرجاليّة «تنقيح المقال» من أنّه (رحمه الله) شرع في طلب العلم في زمن الرجوليّة (٢).

__________________

١. الذريعة ١١ : ٣٣٦.

٢. تنقيح المقال ٢ : ٣٠٧.


أقوال العلماء في الكتاب

وقد تناولته آراء أكابر العلماء بالإعجاب والثناء ، ونعتوه ببالغ النعت ..

ومن جملة من أشاد به الشيخ أبو عليّ في «منتهى المقال» ، حيث قال فيه : وهو في غاية الجودة جدّاً ، لم يسبق بمثله ، ذكر فيه جميع ما وصل إليه من الأقوال ، على نهج عسر على سواه ، بل استحال (١).

وقال فيه الشيخ أسد الله التستري (قدس سره) في مقابس الأنوار : أحسن الكتب الموجودة (٢).

وفي إجازته محمّد علي بن باقر الهزارجريبي ، قال فيه السيّد محمّد جواد العاملي صاحب «مفتاح الكرامة» : الذي شاع وذاع وطبق الآفاق في جميع الأقطار ، وهو ممّا يبقى إلى أن يقوم صاحب الدار ... (٣)

ووصفه المحقّق الكنتوري في كشف الحجب بأ نّه كتاب دقيق متين ، يعرف منه كمال مصنّفه ، وطول باعه في الفقه ، استدلّ فيه على جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات (٤).

ونقل الشيخ عبّاس القمّي في فوائد الرضويّة ، عن صاحب التكملة ،

__________________

١. منتهى المقال ٥ : ٦٤.

٢. مقابس الأنوار : ١٩.

٣. حكاه عنه في أعيان الشيعة ٨ : ٣١٤.

٤. كشف الحجب : ٣٠٠.


عن شيخه محمّد حسن آل يس الكاظمي ، عن الشيخ محمّد حسن النجفي صاحب «الجواهر» قوله : لو أردت أن أكتب كتاباً مصنّفاً في الفقه لكنت أحبّ أن يكون على نحو «رياض» المير سيّد علي ، فبه عنوان الكتابيّة في التصنيف (١).

وقال فيه الشيخ مرتضى الأنصاري في إحدى وصاياه لتلامذته : ابحثوا وحقّقوا في كتاب «رياض المسائل» للسيّد علي الطباطبائي ، فإنّه سيعينكم كثيراً في نيل مرتبة الاجتهاد.

أمّا السيّد الخوانساري صاحب «روضات الجنّات» ، فبعد نقله أنّ المصنّف كان يذكر كثيراً : إنّي ما أردت به النشر والتدوين ، بل المشق والتمرين ، قال فيه : فرفعه الله تعالى إلى ما رفع ، ونفع به أحسن ما به ينتفع (٢).

ترجمة المؤلّف

هو الاُستاذ الوحيد ، سيّد المحقّقين ، وسند المدقّقين ، العلاّمة النحرير ، مالك مجامع الفضل بالتقرير والتحرير ، المتفرّع من دوحة الرسالة والإمامة ، المترعرع في روضة الجلالة والكرامة ، الرافع للعلوم الدينيّة أرفع راية ، الجامع بين محاسن الدراية والرواية ، محيي شريعة أجداده المنتجبين ، مبيّن معاضل الدين المبين بأوضح البراهين ، نور الله

__________________

١. فوائد الرضويّة : ٤٥٣.

٢. روضات الجنّات ٤ : ٤٠٢.


الجلي ، والحبر الملي ، والمجتهد الاُصولي ، مولانا سيّد علي بن السيّد محمّد علي بن السيّد أبي المعالي الصغير بن السيّد أبي المعالي الكبير ، الطباطبائي النسب ، الاصفهاني المحتد ، الكاظمي المولد ، الحائري المنشأ والمقام أعلى الله مقامه (١).

ميلاده واُسرته

كان ميلاده الشريف في مشهد الكاظمين على مشرّفيه صلوات الخافقين ، في أشرف الأيّام ، وهو الثاني عشر من شهر ولد فيه أشرف الأنام عليه وآله أفضل التحيّة والسلام ، في السنة الحادية والستّين بعد المائة والألف.

جدّه الأعلى السيّد أبوالمعالي الكبير ، صهر مولانا المقدّس الصالح المازندراني ، وقد خلّف ثلاثة أولاد ذكور ، وهم : السيّد أبوطالب ، السيّد علي ، السيّد أبوالمعالي وهو أصغرهم ، وعدّة بنات ... والسيّد أبوالمعالي خلّف السيّد محمّد علي لا غير ـ وهو والد سيّدنا المترجم له ـ وواحدة من البنات ، كانت زوجة المولى محمّد رفيع الجيلاني ، القاطن في المشهد المقدّس الرضويّ حيّاً وميّتاً.

خاله الاُستاذ الوحيد (قدس سره) وهو صهره على ابنته ، تلمّذ عليه وتربّى في

__________________

١. كذا نعته الشيخ أسد الله التستري في مقابس الأنوار : ١٩ ، والسيد الخوانساري في روضات الجنّات ٤ : ٣٩٩.


حجره ونشأ ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (١).

له ولدان ، أحدهما : السيّد السند محمّد ، صاحب كتابي «المناهل» و «مفاتيح الاُصول» ، وهو صهر العلاّمة بحرالعلوم ; والآخر : السيّد مهدي المعروف بزهده.

دراسته

قال في منتهى المقال : اشتغل أولاً على ولد الاُستاذ العلاّمة [الوحيد البهبهاني] ، فقرنه في الدرس مع شركاء أكبر منه في السنّ وأقدم في التحصيل بكثير ، وفي أيّام قلائل فاقهم طرّاً وسبقهم كلاًّ ، ثم بعد قليل ترقّى فاشتغل عند خاله الاُستاذ العلاّمة ، وبعد مدّة قليلة اشتغل بالتصنيف والتدريس والتأليف (٢).

مشايخه

الذي يظهر من عبارة المقابس وصريح الروضات أنّه لم يرو إلاّ عن خاله واُستاذه الوحيد (قدس سره) (٣) ، ولم يتلمّذ ـ كما يظهر من منتهى المقال ـ إلاّ على يد ابن خاله وخاله ..

إلاّ أنّ السيّد الأمين قال في أعيان الشيعة : يروي عن السيّد

__________________

١. منتهى المقال ٥ : ٦٥ ـ ٦٦.

٢. منتهى المقال ٥ : ٦٥.

٣. مقابس الأنوار : ١٩.


عبدالباقي الاصفهاني عن والده المير محمّد حسين عن جدّه لاُمّه المجلسي ، ويروي أيضاً عن خاله واُستاذه الآقا محمّد باقر البهبهاني ، وعن صاحب الحدائق (١).

تلامذته والراوون عنه

شغف بعلمه وارتوى من نميره العذب الكثير من الأجلّة الأفاضل ، منهم :

١ ـ الرجالي الشهير والشيخ الجليل صاحب كتاب «منتهى المقال» ، أبو علي ، محمّد بن إسماعيل بن عبدالجبّار المازندراني الحائري ، المتوفّى سنة ١٢١٥ هـ.

٢ ـ المحقّق السيّد محمّد جواد بن محمّد الحسني الحسيني العاملي الغروي ، صاحب الموسوعة الفقهيّة المعروفة «مفتاح الكرامة» ، المتوفّى سنة ١٢٢٦ هـ.

٣ ـ العلاّمة الفقيه الشيخ أسد الله بن إسماعيل التستري الدزفولي الكاظمي ، صاحب «مقابس الأنوار» ، المتوفّى سنة ١٢٣٦ هـ.

قال في روضات الجنّات : أمّا الرواية عنه (رحمه الله) فهي لكثير ، وشرف التلمّذ لديه إلى غفير ، وذكر منهم :

٤ ـ العلاّمة السيّد محمّد باقر الشفتي ، المعروف بحجّة الإسلام صاحب كتاب «مطالع الأنوار» ، المتوفّى سنة ١٢٦٢ هـ.

__________________

١. أعيان الشيعة ٨ : ٣١٥.


٥ ـ المحقّق المدقّق الشيخ محمّد إبراهيم الخراساني الكاخي الاصفهاني الكلباسي ، صاحب كتابي «الإشارات» و «الإيقاظات» ، المتوفّى سنة ٦١ ـ ١٢٦٢ هـ.

٦ ـ الفاضل المتبحّر الحاج ملاّ جعفر الاسترآبادي الحائري ، المتوفّى سنة ١٢٦٣ هـ.

٧ و ٨ ـ الأخوان الفاضلان ، الكاملان ، الفقيهان ، الحاج محمّد تقي ، والحاج محمّد صالح ، البرغانيان ، القزوينيان ، المتوفّيان سنتي ١٢٦٣ هـ و ١٢٧١ هـ ، على الترتيب.

٩ ـ المولى محمّد شريف الاُصولي ، المازندراني الحائري ، المشهور بشريف العلماء ، المتوفّى سنة ١٢٤٥ هـ.

١٠ ـ الشيخ العارف المشهور أحمد بن زين الدين الأحسائي ، المتوفّى سنة ٤١ ـ ١٢٤٤ هـ.

١١ ـ الشيخ الفقيه المبرور خلف بن عسكر الكربلائي ، المتوفّى سنة ٤٦ ـ ١٢٥٠ هـ.

١٢ و ١٣ ـ خلفاه الصالحان الرشيدان ، الفاضلان الفقيهان ، السيّد محمّد المجاهد ، صاحب كتابي «المناهل في الفقه» و «مفاتيح الاُصول» ، المتوفّى سنة ١٢٤٢ هـ ، والسيّد مهدي المقدّس.

١٤ ـ السيّد أبوالقاسم بن السيّد المحقّق الفقيه السيّد حسين الموسوي الخوانساري صاحب «مشارق الشموس» ، المتوفّى سنه ١٢٤٠ هـ.


رحمهم الله جميعاً (١).

مصنّفاته

ذكر تلميذه الشيخ أبو علي في «منتهى المقال» أنّ له مصنّفات فائقة ومؤلّفات رائعة ، عدّ منها :

١ ـ شرحه على المفاتيح ، برز منه كتاب الصلاة ، وهو مجلّد كبير جمع فيه جميع الأقوال.

٢ ـ شرحه على النافع : رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل.

٣ ـ رسالة في تثليث التسبيحات الأربع في الأخيرتين وكيفيّة ترتيب الصلاة المقضيّة عن الأموات.

٤ ـ رسالة في الاُصول الخمس ، جيّدة.

٥ ـ رسالة في الإجماع والاستصحاب.

٦ ـ شرح ثان على المختصر ، اختصره من الأوّل ، جيّد ، لطيف ، سلك في العبادات مسلك الاحتياط ليعمّ نفعه العامّي والمبتدئ والمنتهي ، والفقيه والمقلّد له ولغيره ، في أيّام حياته وبعد وفاته.

وهو مطبوع محقّق في ثلاثة مجلّدات.

٧ ـ رسالة في تحقيق حجّية مفهوم الموافقة.

__________________

١. روضات الجنّات ٤ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ بتصرّف.


٨ ـ رسالة في جواز الاكتفاء بضربة واحدة في التيمّم مطلقاً.

٩ ـ رسالة في اختصاص الخطاب الشفاهي بالحاضر في مجلس الخطاب ، كما هو عند الشيعة.

١٠ ـ رسالة في تحقيق أنّ منجّزات المريض تحسب من الثلث أم من أصل التركة (١).

١١ ـ رسالة في تحقيق حكم الاستظهار للحائض إذا تجاوز دمها عن العشرة.

١٢ ـ ترجمة رسالة في الاُصول الخمس ، فارسيّة ، لخاله الوحيد (قدس سره) ، إلى العربية.

١٣ ـ رسالة في بيان أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع عند الشيعة ، بل وغيرهم ، إلاّ أباحنيفة.

١٤ ـ رسالة في أصالة براءة ذمّة الزوج عن المهر ، وأنّ على الزوجة إثبات اشتغال ذمّته به.

١٥ ـ رسالة في حجّية الشهرة ، وفاقاً للشهيد (قدس سره).

١٦ ـ رسالة في حلّية النظر إلى الأجنبيّة في الجملة وإباحة سماع صوتها كذلك.

__________________

١. قال السيّد علي الطباطبائي (قدس سره) في الرياض : ج ٢ ص ٦٧ (الحجري) : ولقد كتبتُ في المسألة رسالة منفردة ، رجّحت فيها خلاف ما هنا ـ حيث إنّه اختار فيها احتساب منجّزات المريض من الثلث لا من أصل التركة ـ لغفلتي عن الشهرة القديمة والإجماعين المتقدّم إلى ذكرهما الإشارة ، وعن كون الأخبار الأوّلة موافقة للعامّة ، فشيّدتها زعماً منّي اعتضادها بالشهرة ، وطرحت ما خالفها ، وهو كما ترى ، فالمصير إلى القول الثاني أقوى ثم أقوى.


١٧ ـ حاشية على كتاب معالم الاُصول ، غير مدوّنة ، كتبها بخطّه على حواشي المعالم في صغره وأوائل مباحثته له.

١٨ ـ حواشي متفرّقة على «مدارك الأحكام».

١٩ ـ حواشي متفرّقة على «الحدائق الناضرة» لشيخنا يوسف البحراني (قدس سره).

٢٠ ـ أجزاء غير تامّة في شرح مبادئ الاُصول للعلاّمة الحلّي.

وغير ذلك من حواش ورسائل وفوائد وأجوبة مسائل (١).

أقوال العلماء فيه

تعرّض لوصفه ببالغ المديح والثناء والإشادة والإطراء الكثير من العلماء العظام وأصحاب التراجم المعروفة ..

فقد قال فيه الوحيد (قدس سره) عند إجازته له الرواية عنه : استجازني السيّد السند ، الماجد الأمجد ، الموفّق المسدّد ، الرشيد الأرشد ، المحقّق المدقّق ، العالم الكامل ، الفاضل الباذل ، صاحب الذهن الدقيق والفهم الملي ، الطاهر المطهّر ، النابغة النورانية ، صاحب النسب الجليل الرفيع والحسب الجميل ، والطبع الوقّاد ، والذهن النقّاد ، ولدي الروحي ، مير سيّد عليّ بن سيّد محمّد علي ، وفّقه الله لمراضيه ، وأيّده وسدّده وأرشده.

أمّا الشيخ الجليل أبو علي فقد قال فيه في «منتهى المقال» : ثقة ،

__________________

١. منتهى المقال ٥ : ٦٤ ـ ٦٥.


عالم ، عرّيف ، وفقيه فاضل غطريف ، جليل القدر ، وحيد العصر ، حسن الخلق ، عظيم الحلم ، حضرت مدّةً مجلس إفادته ، وتطفّلت برهةً على تلامذته ، فإن قال لم يترك مقالاً لقائل ، وإن صال لم يدع نصالاً لصائل (١).

وأطرى عليه السيّد محمّد باقر الشفتي ، المعروف بحجّة الإسلام ، صاحب «مطالع الأنوار» ، في بعض إجازاته عند عدّ شيوخه ، بقوله : منهم شمس فلك الإفادة والإفاضة ، بدر سماء المجد والعزّ والسعادة ، محيي قواعد الشريعة الغرّاء ، مقنّن قوانين الاجتهاد في الملّة البيضاء ، فخر المجتهدين ، ملاذ العلماء العاملين ، ملجأ الفقهاء الكاملين ، سيّدنا واُستاذنا العليّ العالي ، الأمير السيّد علي الطباطبائي الحائري (٢).

وقال السيّد محمّد جواد العاملي صاحب «مفتاح الكرامة» عند إجازته محمّد علي بن باقر هزارجريبي :

فأجزت له أن يروي عنّي ما استجزته وقرأته وسمعته من السيّد الاُستاذ ، رحمة الله سبحانه في البلاد والعباد ، الإمام العلاّمة ، مشكاة البركة والكرامة ، صاحب الكرامات ، أبوالفضائل ، مصنّف الكتاب المسمّى برياض المسائل ، الذي عليه المدار في هذه الأعصار ، النور الساطع المضيء ، والصراط الواضح السوي ، سيّدنا واُستاذنا ، الأمير الكبير ، السيّد علي أعلى الله شأنه (٣).

__________________

١. منتهى المقال ٥ : ٦٤.

٢. حكاه في أعيان الشيعة ٨ : ٣١٥.

٣. حكاه في أعيان الشيعة ٨ : ٣١٥.


وأثنى عليه الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء في كتابه «الحقّ المبين» بعد نقله ما دار بينه وبين أحد أعلام الأخباريّين ، بقوله : وقد اجتمعت مع أعظم علمائهم في مكان ، فقال لي : رأيت في رسالتك ورسالة سيّد علي ـ يعني جناب زبدة المجتهدين وأفضل العلماء العاملين مولانا ومقتدانا مير سيّد علي دام ظلّه ـ أنّ مسّ المحدث لاسم الله حرام ، وليس عليه دليل ، فقلت له : إذا لم يكن على وجوب تعظيم المحترمات دليل ، فما الدليل على عدم جواز تنجيس القرآن وإلقائه في القذارات؟! فسكت (١).

وأشاد به السيّد محمّد الزنوزي ـ الذيّ يعدّ من تلامذته أيضاً ـ حيث عبرّ عنه بـ : اُستاذنا الأعظم ، عالم عامل كامل ، فاضل باذل عادل ، فقيه وحيد تقي نقي ، عابد زاهد ، ثقة موثّق ، صاحب أخلاق كريمة وأوصاف عظيمة.

وذكره المحدّث النيسابوري في رجاله ، مع أنّه كان من المعاندين له في ظاهر السياق ، بهذه العبارة :

شيخ في الفقه واُصوله ، مجتهد صرف ، يراعي الاحتياط بما يراه ، عاصرناه (٢).

ووصفه السيّد الأمين في أعيان الشيعة بأ نّه المحقّق المؤسّس ، الذي ملأ الدنيا ذكره ، وعمّ العالم فضله ، تخرّج عليه علماء أعلام ، وفقهاء

__________________

١. الحقّ المبين : ٨٨.

٢. حكاه عنه في روضات الجنّات ٤ : ٤٠١.


عظام ، صاروا من أكابر المراجع في الإسلام ، كصاحب المقابيس ، وصاحب المطالع ، وصاحب مفتاح الكرامة ، وأمثالهم من الأجلّة (١).

وقد تقدّم مدح الشيخ أسد الله التستري صاحب المقابس والسيّد الخوانساري صاحب الروضات له في أوّل ترجمتنا له (قدس سره).

من كراماته

ذكر المحقّق الخوانساري في روضاته :

لمّا شنّ الوهّابيون النواصب هجومهم بإمارة رئيسهم الملحد المردود الملقّب بـ «سعود» ، على مشهد مولانا الحسين (عليه السلام) ، في السنة السادسة عشرة بعد الألف والمائتين من الهجرة المقدّسة ، وفي يوم عيد الغدير ، حيث أغلب أهل البلد توجّهوا إلى زيارة أميرالمؤمنين (عليه السلام) المخصوصة ، ووقوع المجزرة الرهيبة ، حصلت حادثة عجيبة لسيّدنا المترجم له ـ عليه الرحمة ـ فإنّه لمّا وقف على قصدهم الهجوم على داره بعزيمة قتله وقتل عياله ونهب أمواله ، أرسل بحسب الإمكان أهاليه وأمواله في الخفاء عنهم إلى مواضع مأمونة ، وبقي هو وحده في الدار مع طفل رضيع لم يذهبوا به مع أنفسهم ، فحمل ذلك الطفل معه ، وارتقى إلى زاوية من بيوتاتها الفوقانيّة ، معدّة لخزن الحطب والوقود وأمثاله ، ليختفي فيها عن عيونهم ، فلمّا وردوا وجعلوا يجوسون خلال حجرات الدار في طلبه وينادون في كلّ جهة منها بقولهم : أين مير علي؟ ثم عمدوا إلى تلك الزاوية ، فأخذ

__________________

١. أعيان الشيعة ٨ : ٣١٤.


هو (رحمه الله) ذلك الطفل الرضيع على صدره ، متوكّلاً على الله تعالى في جميع أمره ، ودخل تحت سلّة كبيرة كانت هناك من جملة ضروريات البيت ، فلمّا صعدوا إلى تلك الزاوية ، وما رأوا فيها غير حزمة من الحطب موضوعة في ناحية منها ، وكان قد أعمى الله أبصارهم عن مشاهدة تلك السلّة ، تخيّلوا أنّ جناب السيّد لعلّه اختفى بين الأحطاب والأخشاب ، فأخذوها واحداً بعد واحد ، ووضعوها بأيديهم فوق تلك السلّة ، إلى أن نفدت ، ويئس الذين كفروا من دينهم ، فانقلبوا خائبين وخاسرين ، وخرج السيّد المرحوم لنعمة الله من الشاكرين ، وفي عصمة الله من الحائرين ، وأ نّه كيف سكن ذلك الطفل من الفزع والأنين ، وأخمد منه التنفّس والحنين كما يخمد الجنين ، إلى أن جعل الأمر الخارق للعادة عبرة للناظرين وعظة للفاكرين (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ).

ثم إنّ اُولئك الفجرة الفسقة الملاعين لمّا فعلوا ما فعلوا ، وقتلوا ما قتلوا ، ونهبوا من المؤمنين والمسلمين ، وهدموا أركان الدين المتين ، وهتكوا حرمة ابن بنت رسول الله الأمين ، بحيث ربطوا الدوابّ الكثيرة القذرة في الصحن المطهّر ، وأخذوا جميع ما كان من النفائس في الحرم المنوّر ، بل قلعوا ضريحه الشريف ، وكسروا صندوقه المنيف ، ووضعوا هاون القهوة فوق رأس الحضرة المقدّسة على وجه التخفيف ، ودقّوها وطبخوها وشربوها ، وسقوها كلّ شقي عتريف وفاسق غير عفيف .. خافوا على أنفسهم الخبيثة من سوء عاقبة الأطوار ، ومن هجوم رجال


الحقّ عليهم بعد ذلك من الأقطار ، فاختاروا الفرار على القرار ، ولم يلبثوا في البلد إلاّ بقيّة ذلك النهار (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهَ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ) (١).

وفاته ومدفنه

قال في روضات الجنّات : توفّي (قدس سره) في حدود سنة ١٢٣١ هـ ، ودفن بالرواق المشرقي من الحضرة المقدّسة ، قريباً من قبر خاله العلاّمة ، وكان ولده الأمجد الأرشد الآقا السيّد محمّد المرحوم انذاك قاطناً بمدينة اصفهان العجم ، فلمّا بلغه نعي أبيه المبرور أقام مراسم تعزيته هناك ، وجلس أيّاماً للعزاء يأتون إلى زيارته من كلّ فجّ عميق ، ثم رجع إلى موطنه الأصيل ومقامه الجليل ، بعد زمان قليل ، وبقي في خلافة أبيه ونيابته في جميع ما يأتيه ، إلى زمان انتقاله في موكب سلطان العجم إلى دفاع الروسيّة ، ووفاته في ذلك السفر ببلدة قزوين (٢).

وجاء في تاريخ وفاته :

بموت عليّ مات علم محمّد

وفي نخبة المقال :

وصاحب الرياض سيّد الأجل

محقّق عن خاله الآقا نقل

قد عاش سبعين بعلم وعمل

مقبضه مؤلّف الرياض حلّ (٣)

__________________

١. روضات الجنات ٤ : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

٢. روضات الجنات ٤ : ٤٠٢.

٣. حكاه في فوائد الرضويّة : ٣٢٤.



نداء الضمير..................................................................... ٥

شكراً يا ربّ..................................................................... ٦

فطرة الله........................................................................ ٨

فاز المخفّون.................................................................... ١٣

إلاّ الذاكرة الأزليّة............................................................... ١٥

ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد...................................................... ١٩

تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها.................................................... ٢٢

عميت عينٌ لا تراك............................................................. ٢٥

حقّ الدِّين..................................................................... ٣٠


الإسلام دين التغيير............................................................. ٣٤

رجل الدين.................................................................... ٣٨

إذا فسد العالِم فسد العالَم....................................................... ٤٠

أين نحن من محمّد؟............................................................. ٤٥

من مقدّمة تحقيق كتاب التبيان في تفسير القرآن..................................... ٤٩

التبيان في تفسير القرآن....................................................... ٥٤

دواعي التأليف.............................................................. ٥٤

ممّا قيل في التبيان والشيخ (قدس سره).......................................... ٥٧

منهج الشيخ (قدس سره) في التبيان............................................ ٦٣

الإساءة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والقرآن الكريم................................ ٦٨

منهج الحذف أم حذف المنهج.................................................... ٦٨

مقدّمة كتاب البيان في تفسير القرآن............................................... ٧٢

ومضة شعبانيّة................................................................. ٧٤

ومضة رمضانيّة................................................................. ٧٥


ومضة حيدريّة.................................................................. ٧٨

وقفتان........................................................................ ٨٢

وجدتك يا علي................................................................ ٨٥

ألسنا أتباع أبي تراب؟........................................................... ٨٧

ومضة فاطميّة.................................................................. ٨٩

ومضة حسنيّة.................................................................. ٩٢

ومضة حسينيّة................................................................. ٩٤

من وحي الحسين............................................................... ٩٨

لماذا الحسين؟................................................................. ١٠٥

... إلاّ حبّ الحسين.......................................................... ١٢١

ماذا لو لم يخرج الحسين؟....................................................... ١٢٤

لا يوم كيومك أبا عبدالله....................................................... ١٢٨

الحسينُ سِرٌّ إلهي.............................................................. ١٣١

ومضة أربعينيّة................................................................ ١٣٤


لكي يبقى الأربعون حسينيّاً بامتياز.............................................. ١٣٦

محرّم وصفر................................................................... ١٣٩

أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة.................................. ١٤٤

ألسنا على الحقّ؟............................................................. ١٥٣

رحلة العتبات عطاءٌ وذكريات................................................... ١٦٣

اليوم الأوّل................................................................ ١٦٥

طهران ـ النجف الأشرف.................................................... ١٦٥

اليوم الثاني................................................................ ١٧٢

الكاظميّة ـ الكوفة.......................................................... ١٧٢

اليوم الثالث............................................................... ١٧٦

كربلاء المقدّسة............................................................ ١٧٦

اليوم الرابع................................................................ ١٨٤

كربلاء المقدّسة............................................................ ١٨٤

اليوم الخامس.............................................................. ١٨٧


النجف الأشرف........................................................... ١٨٧

الدم والسيف................................................................. ١٩١

لحظات السعادة.............................................................. ٢٠٠

ومضة رضويّة................................................................. ٢٠٣

مشهد الرضا................................................................. ٢٠٥

ديار المولى الحبيب............................................................. ٢٠٧

وطوس بقبر يالها من خصيصة تسامت على الأوطان بالدرجات..................... ٢١١

الأوبة....................................................................... ٢١٣

وقفة مع مفهوم الانتظار....................................................... ٢١٥

حبيب الزهراء................................................................ ٢١٩

ومضة زينبيّة.................................................................. ٢٢٠

من مفردات المؤسّسة الدينية / ١................................................ ٢٢٣

من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٢................................................ ٢٢٦

المرجعيّة العليا بين المحاسبات البشريّة والإرادة الإلهيّة.............................. ٢٢٦


من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٣................................................ ٢٣٠

الفكر الديني بين مطرقة المصالح وسندان المفاسد................................ ٢٣٠

من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٤................................................ ٢٣٤

ولاية الفقيه................................................................ ٢٣٤

من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٥................................................ ٢٣٨

مهامّ رجل الدين........................................................... ٢٣٨

الاجتهاد وحاجة المكلّف....................................................... ٢٤١

ظلّ المرجعيّة المباركة............................................................ ٢٤٣

المرجعيّة الدينيّة............................................................... ٢٤٦

المرجعيّة خيارنا ، لماذا؟......................................................... ٢٤٨

حقّ النَّظْم................................................................... ٢٥٢

نظم المرجعيّة الدينيّة........................................................... ٢٥٤

من يهتمّ بنا من يعتني بأخطائنا؟................................................ ٢٥٧

الأروع في القائد.............................................................. ٢٦٠


قادتنا....................................................................... ٢٦٢

أثر التناغم بين الخطاب والقراءة................................................. ٢٦٥

أنا خادمٌ لكم................................................................ ٢٦٩

ذلك الإنسان الكبير.......................................................... ٢٧٢

لا مناطق فراغ بين الفقيه والناس................................................ ٢٧٦

حينما تقرّر المرجعية........................................................... ٢٧٩

هل نقرأ حقّاً؟................................................................ ٢٨٢

ماذا نحن فاعلون؟............................................................. ٢٨٦

القرار المناسب................................................................ ٢٨٨

صمّامُ الأمان................................................................. ٢٩٠

نتاج مختبرات الغيب واللاهوت.................................................. ٢٩٢

مصالحنا الاستراتيجيّة.......................................................... ٢٩٥

سحر السيستاني.............................................................. ٢٩٩

عجينة السيستاني............................................................. ٣٠١


تركة السيستاني............................................................... ٣٠٤

السيستاني في قراءة كمال وولي.................................................. ٣٠٧

هل اتّفق العَلِيّان؟............................................................. ٣١١

فكرة العليّين.................................................................. ٣١٣

النجف حاضرة الدين والمعرفة................................................... ٣١٧

معاناة طلبة العلوم............................................................. ٣٢٣

الشهرستاني حلقة الوصل بين الخامئني والسيستاني.................................. ٣٣١

السيّد جواد الشهرستاني كما عرفته.............................................. ٣٣٤

وقفة بلا عنوان............................................................... ٣٣٨

الوجه الآخر لمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)................................... ٣٤٩

مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) في اسبانيا..................................... ٣٥٤

صرحٌ جديدٌ من صروح المرجعيّة العليا............................................ ٣٥٤

تحقيق النصوص غاية أم وسيلة؟................................................. ٣٥٧

موجزٌ في اُصول تحقيق النصوص................................................. ٣٦٧


١ ـ انتخاب الكتاب........................................................ ٣٦٧

٢ ـ استقراء واقتناء المخطوطات............................................... ٣٧٠

٣ ـ المقابلة................................................................. ٣٧٣

٤ ـ الاستخراج............................................................. ٣٧٥

٥ ـ ضبط الأسانيد والأعلام................................................. ٣٧٩

٦ ـ تقويم النصّ............................................................ ٣٨١

٧ ـ صياغة الهوامش......................................................... ٣٨٦

٨ ـ المراجعة النهائيّة......................................................... ٣٨٨

٩ ـ الفهرسة............................................................... ٣٨٩

١٠ ـ المقدّمة............................................................... ٣٨٩

١١ ـ الملاحظة الفنّيّة....................................................... ٣٩٠

١٢ ـ المطالعة.............................................................. ٣٩٠

١٣ ـ الطباعة والنشر....................................................... ٣٩١

الكتابة شحنة حياتي........................................................... ٣٩٤


لماذا أكتب؟................................................................. ٣٩٨

ماذا أكتب؟................................................................. ٤٠٠

الكتابة...................................................................... ٤٠٢

مسلك التدوين............................................................... ٤٠٤

من مقدّمة تحقيق كتاب مستند الشيعة........................................... ٤٠٦

ترجمة المؤلّف............................................................... ٤١٨

تلامذته................................................................... ٤٢٠

وفاته..................................................................... ٤٢١

مؤلّفاته................................................................... ٤٢٢

من مقدّمة كتاب رياض المسائل................................................. ٤٢٧

نحن والكتاب.............................................................. ٤٤٠

أقوال العلماء في الكتاب.................................................... ٤٤٦

ترجمة المؤلّف............................................................... ٤٤٧

ميلاده واُسرته.............................................................. ٤٤٨


دراسته.................................................................... ٤٤٩

مشايخه................................................................... ٤٤٩

تلامذته والراوون عنه........................................................ ٤٥٠

مصنّفاته.................................................................. ٤٥٢

أقوال العلماء فيه........................................................... ٤٥٤

من كراماته................................................................ ٤٥٧

وفاته ومدفنه............................................................... ٤٥٩

المحتويات..................................................................... ٤٦١

نفحات الذات - ١

المؤلف:
الصفحات: 471