بسم الله الرّحمن الرّحيم
صلة الباب الخامس
رجع :
[١٦٧ ـ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد.]
١٦٧ ـ ومن
الوافدين من الأندلس إلى المشرق الأديب الحسيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن
سعيد.
وكان صعب الخلق ،
شديد الأنفة ، جرى بينه وبين أقاربه ما أوجب خروجه إلى أقصى المشرق ، وفي ذلك يقول
، وكتب به إليهم : [بحر الخفيف]
من لصبّ يرعى
النجوم صبابه
|
|
ضيّع السير في
الهموم شبابه
|
زدت بعدا فزدت
فيه اقترابا
|
|
بودادي كذاك حكم
القرابه
|
منزلي الآن
سمرقند وبالقل
|
|
عة ربع وطئت
طفلا ترابه
|
شدّ ما أبعد
الفراق انتزاحي
|
|
هكذا الليث ليس يدري اغترابه
|
لا ولا أرتجي
الإياب لأمر
|
|
إن يكن يرتجي
غريب إيابه
|
وكتب لهم من بخارى
: [بحر الوافر]
إذا هبّت رياح
الغرب طارت
|
|
إليها مهجتي نحو
التلاقي
|
وأحسب من تركت به يلاقي
|
|
إذا هبت صباها
ما ألاقي
|
فيا ليت التفرق
كان عدلا
|
|
فحمل ما يطيق من
اشتياقي
|
وليت العمر لم
يبرح وصالا
|
|
ولم يحتم علينا بالفراق
|
إذا كان الشوق فوق
كل صفة ، فكيف تعبّر عنه الشفة ، لكن العنوان دليل على بعض ما في الصحيفة ،
والحاجب قد ينوب في بعض الأمور مناب الخليفة ، وما ظنكم بمشوق طريح ، في يد
الأشواق طليح ، يقطع مسافات الآفاق يتلقب تقلب الأفياء ، ويتلون تلون
الحرباء ،
__________________
حتى كأنه يخبر
مساحات الأرض ، ذات الطول والعرض ، ويجوب أهوية الأقاليم السبع ، خارجا بما أدخله
فيه اللجاج عن السمع ، فكأنه خليفة الإسكندر ، لكن ما يجيش من هموم الغربة
بفكري قائمة مقام الجيش والعسكر ، جزت إلى بر العدوة من الغرب الأقصى ، ثم تشوقت
نفسي فطمحت إلى مشاهدة الغرب الأوسط فلاقيت فيما بينهما من المسافة من
المشاق ما لا يحصى ، ثم تشوقت إلى إفريقية درب بلاد الشرق ، فاستشعرت من
هنالك ما بينها وبين بلادي من الفرق ، واختطفت من عيني تلك الطلاوة ، وانتزعت من
قلبي تلك الحلاوة : [بحر الطويل]
فلله عين لم تر
العين مثلها
|
|
ولا تلتقي إلا
بجنّات رضوان
|
ثم نازعتني النفس
التواقة إلى الديار المصرية ، فكابدت في البحر ما لا يفي بوصفه إلا
المشاهدة إلى أن أبصرت منار الإسكندرية ، فيا لك من استئناف عمر
جديد ، بعد اليأس من الحياة بما لقينا من الهول والتنكيد ، ثم صعدت إلى القاهرة
قاعدة الديار المصرية ، لمعاينة الهرمين وما فيهما من المعالم الأزلية ، وعاينت
القاهرة المعزية ، وما فيها من الهمم [العلية] الملوكية ، غير أني أنكرت مبانيها الواهية ، على ما حوت من أولي الهمم العالية ، وكونها حاضرة العسكر
الجرار ، وكرسيّ الملك العظيم المقدار ، وقلت : أصداف فيها جواهر ، وشوك محدق
بأزاهر ، ثم ركبت النيل وعاينت تماسيحه ، وجزت بحر جدة وذقت تباريحه ، وقضيت الحج والزيارة ، وملت إلى حاضرة الشام دمشق والنفس
بالسوء أمّارة ، فهنالك بعت الزيارة بالأوزار ، وآلت تلك التجارة إلى ما حكمت به الأقدار ، إذ هي كما
قال أحد من عاينها : [بحر البسيط]
أما دمشق فجنّات
معجّلة
|
|
للطالبين بها
الولدان والحور
|
فلله ما تضمن
داخلها من الحور والولدان ، وما زين به خارجها من الأنهار والجنان ، وبالجملة
فإنها حمى تتقاصر عن إدراكها أعناق الفصاحة ، وتقصر عن مناولتها في ميدان الأوصاف
كل راحة ، ولم أزل أسمع عن حلب ، أنها دار الكرم والأدب ، فأردت أن يحظى
__________________
بصري بما حظي به
سمعي ، ورحلت إليها وأقمت جابرا بالذاكرة والمطايبة صدعي ، ثم رحلت إلى الموصل
فألفيت مدينة عليها رونق الأندلس ، وفيها لطافة وفي مبانيها طلاوة ترتاح لها
الأنفس ، ثم دخلت إلى مقر الخلافة بغداد ، فعاينت من العظم والضخامة ما لا يفي به
الكتب ولو أن البحر مداد ، ثم تغلغلت إلى بلاد العجم بلدا بلدا ، غير مقتنع بغاية ولا قاصد أمدا ، إلى أن حللت
ببخارى قبة الإسلام ، ومجمع الأنام ، فألقيت بها عصا التسيار ، وعكفت على طلب
العلم واصلا في اجتهاده سواد الليل وبياض النهار ، انتهى.
وكتب إليهم أيضا
من هذه الرسالة : كتبت وقد حصلتني السعادة ، وحظ الأمل والإرادة ، بحضرة بخارى قبة
الإسلام.
وأجابه أهله من
الغرب بكلام من جملته : وإن كنت قد تحصنت بقبة الإسلام ، فقد تعجلت لنا ولك الفقد
قبل وقت الحمام .
وأتبعوا ذلك بما
دعاه لأن خاطبهم بشعر منه : [بحر الطويل]
عتبتم على حثّي
المطيّ وقلتم
|
|
تعجّلت فقدا قبل
وقت حمام
|
إذا لم يكن حالي
مهمّا لديكم
|
|
سواء عليكم
رحلتي ومقامي
|
وقتل المذكور
ببخارى ، حين دخلها التتر ، وهو عم علي بن سعيد الشهير.
وكان لعبد الرحمن
المذكور أخ يسمى يحيى قد عانى الجندية ، فلما بلغه أن أبا القاسم عبد الرحمن قتل
ببخارى قال : لا إله إلا الله! كان أبدا يسفّه رأيي في الجندية ، ويقول : لو اتبعت
طريق النجاة كما صنعت أنا لكان خيرا لك ، فها هو ربّ قلم قد قتل شر قتلة بحيث لا
ينتصر وسلب سلاحه ، وأنا ما زلت أغازي في عبّاد الصليب وأخلص ، فما يقدر أحد أن يحسن لنفسه عاقبة ، انتهى.
قال أبو الحسن علي
بن سعيد : ثم إن يحيى المذكور بعد خوضه في الحروب صرعه في طريقه غلام كان يخدمه ،
فذبحه على نزر من المال ، أفلت به ، فانظر إلى تقلب الأحوال كيف يجري في
أنواع الأمور لا على تقدير ولا احتياط ، انتهى.
ومن شعر أبي
القاسم عبد الرحمن المذكور ما خاطب به نقيب الأشراف ببخارى ، وقد
__________________
أهدى إليه فاختا
مع زوجه [بحر الطويل].
أيا سيد الأشراف
لا زلت عاليا
|
|
معاليك تنبو الدهر عن كل ناعت
|
من الفضل إقبال
على ما بعثته
|
|
لمغناك من شاد
دعوه بفاخت
|
ألا حبذا من
فاخت ساد جنسه
|
|
وأصبح مقرونا
بست الفواخت
|
لئن فاتني منه
الأنيس فكل ما
|
|
يحل إلى علياك
ليس بفائت
|
١٦٨ ـ ومنهم الشيخ الصالح الزاهد أبو
الحسن علي بن عبد الله بن يوسف بن حمزة ، القرطبي ، الأنصاري ، المعروف بابن
العابد.
نزيل رباط الصاحب
الصفي بن شكر ، قال بعض المشارقة عنه : إنما سميت الخمر بالعجوز لأنها
بنت ثمانين ، يعني عدد حدّها ، وأنشد له : [بحر المتقارب]
عذلنا فلانا على
فعله
|
|
ولمناه في شربه
للعجوز
|
فقال : دعوني من
أجلها
|
|
أنال أنا وأخي
والعجوز
|
[١٦٩ ـ محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف ، الأنصاري ، الشاطبي]
١٦٩ ـ ومنهم الشيخ
الفاضل المتقن أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف ، الأنصاري ،
الشاطبي الأصل ، البلنسي المولد في أحد ربيعي سنة إحدى وستمائة ، ولقبه المشارقة
برضي الدين.
وتوفي بالقاهرة في
جمادى الأولى سنة ٦٨٤ ، رحمه الله تعالى!.
ومن نظمه لما حضر
أجله ، وقد أمر خادمه أن ينظف له بيته ، وأن يغلق عليه الباب ويفتقده بعد زمان ،
ففعل ذلك ، فلما دخل عليه وجده ميتا ، وقد كتب في رقعة : [بحر الكامل]
حان الرحيل
فودّع الدار التي
|
|
ما كان ساكنها
بها بمخلد
|
واضرع إلى الملك
الجواد وقل له
|
|
عبد بباب الجود
أصبح يجتدي
|
لم يرض غير الله
معبودا ولا
|
|
دينا سوى دين
النبي محمد
|
ومن نظمه أيضا
رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]
__________________
أقول لنفسي حين
قابلها الردى
|
|
فرامت فرارا منه يسرى إلى يمنى
|
قري تحملي بعض الذي تكرهينه
|
|
فقد طالما اعتدت
الفرار إلى الأهنى
|
أنشده [له] تلميذه أبو حيّان إمام عصره في اللغة.
حدث عن ابن المنير
وغيره ، واشتغل الناس عليه بالقاهرة ، وله تصانيف مفيدة ، وسمع من الحافظ أبي
الربيع بن سالم ، وكتب على صحاح الجوهري وغيره حواشي في مجلدات ، وأثنى عليه
تلميذه أبو حيان ، رحم الله تعالى الجميع!.
ومن فوائده قوله :
نقلت من خط أبي الوليد بن خيرة الحافظ القرطبي في فهرست أبي بكر بن مفوّز قد أدركته
بسنّي ولم آخذ عنه واجتمعت به أنشدني له أبو القاسم بن الأبرش يخاطب بعض أكابر
أصحاب أبي محمد بن حزم ، والإشارة لابن حزم الظاهري : [بحر البسيط]
يا من تعاني
أمورا لن يعانيها
|
|
خلّ التعاني
وأعط القوس باريها
|
تروي الأحاديث
عن كلّ مسامحة
|
|
وإنما لمعانيها
معانيها
|
وقد سبق في ترجمة
القاضي أبي الوليد الباجي ذكر هذين البيتين عندما أجرينا ذكر ابن حزم ، قال ؛
وإنما قال هذا الشعر في ذكر رواية ادعيت على قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن
خالدا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله» وصحح رواية من روى «أعبده» جمع عبد ،
وعلّل رواية من روى «أعتده» بالتاء مثناة باثنتين من فوق جمع عتد ، وهو الفرس ،
قال ابن خيرة : الإحاطة ممتنعة ، وهذه الرواية قد رواها جماعة من الأثبات والعلماء
المحدّثين ، فهو إنكار غير معروف ، والله تعالى أعلم.
ومن فوائده ما
نقله تلميذه أبو حيان النحوي عنه ، قال : أنشدنا للمقري ونقلته من خطه : [بحر مجزوء الوافر]
إذا ما شئت
معرفة
|
|
لما حار الورى فيه
|
فخذ خمسا لأربعة
|
|
ودع للثوب رافيه
|
__________________
وهو لغز في ورد.
وقال : وأنشدنا
لبعضهم : [بحر الخفيف]
لا رعى الله
عزمة ضمنت لي
|
|
سلوة الصبر
والتصبر عنه
|
ما وفت غير ساعة
ثم عادت
|
|
مثل قلبي تقول :
لا بدّ منه
|
قال : وأنشدنا
لغيره : [بحر الطويل]
وكان غريب الحسن
قبل التحائه
|
|
فلما التحى صار
الغريب المصنّفا
|
وأنشدنا لغيره : [بحر
مجزوء الرمل]
طب على الوحدة
نفسا
|
|
وارض بالوحشة
أنسا
|
ما عليها من
يساوي
|
|
حين يستخبر فلسا
|
وقرأ الرضي ببلده
على ابن صاحب الصّلات آخر أصحاب ابن هذيل ، وسمع منه كتاب التلخيص للواني ، وسمع
بمصر من ابن المقير ، وجماعة ، وروى عنه الحافظ المزي واليونيني والظاهري وآخرون ، وانتهت إليه معرفة اللغة
وغريبها ، وكان يقول : أحرف اللغة على قسمين قسم أعرف معناه وشواهده ، وقسم أعرف كيف
أنطق به فقط ، رحمه الله تعالى!.
ومن فوائد الرضي
الشاطبي المذكور ما ذكره أبو حيان في البحر قال : وهو من غريب ما أنشدنا الإمام
اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت
إسحاق النصراني الرسعيني :
عديّ وتيم ، لا
أحاول ذكرهم
|
|
بسوء ، ولكنّي
محبّ لهاشم
|
وما يعتريني في
علي ورهطه
|
|
إذا ذكروا في
الله لومة لائم
|
يقولون : ما بال
النصارى تحبهم؟
|
|
وأهل النهى من
أعرب وأعاجم
|
__________________
فقلت لهم : إني
لأحسب حبهم
|
|
سرى في قلوب
الخلق حتى البهائم
|
ومن نظم الرضي
المذكور : [بحر البسيط]
منغّص العيش لا
يأوي إلى دعة
|
|
إن كان في بلد
أو كان ذا ولد
|
والساكن النفس
من لم ترض همته
|
|
سكنى بلاد ولم
يسكن إلى أحد
|
وله : [مخلع
البسيط]
لو لا بناتي
وسيئاتي
|
|
لطرت شوقا إلى
الممات
|
لأنني في جوار
قوم
|
|
بغّضني قربهم
حياتي
|
وقرأ عليه أبو
حيان كتاب «التيسير» وأثنى عليه ، ولما توفي أنشد ارتجالا : [بحر المتقارب]
نعوا لي الرضيّ
فقلت لقد
|
|
نعى لي شيخ
العلا والأدب
|
فمن للغات ومن
للثقات
|
|
ومن للنحاة ومن
للنسب
|
لقد كان للعلم
بحرا فغار
|
|
وإنّ غؤور
البحار العجب
|
فقدّس من عالم
عامل
|
|
أثار لشجوي لما
ذهب
|
وتحاكم إلى رضي
الدين المذكور الجزار والسراج الوراق أيهما أشعر ، وأرسل إليه الجزار شيئا ، فقال
: هذا شعر جزل ، من نمط شعر العرب ، فبلغ ذلك الوراق ، فأرسل إليه شيئا
فقال : هذا شعر سلس ، وآخر الأمر قال : ما أحكم بينكما ، رحمه الله تعالى!.
قلت : رأيت بخطه
كتبا كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللغة وعلى دواوين العرب ، رحمه الله تعالى!.
١٧٠ ـ ومنهم حميد
الزاهد ، وهو الأديب الفاضل الزاهد أبو بكر حميد بن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن
أحمد بن يحيى بن عبد الله ، الأنصاري ، القرطبي ، نزيل مالقة.
قال الرضي الشاطبي
المذكور قريبا : أنشدني حميد بالقاهرة لأبيه أبي محمد وقد تأخر شيبه مع علوّ سنه :
[بحر الطويل]
__________________
وهل نافعي أن
أخطأ الشيب مفرقي
|
|
وقد شاب أترابي
وشاب لداتي
|
إذا كان خط
الشيب يوجد عينه
|
|
بتربي فمعناه
يقوم بذاتي
|
واللّدات : من ولد
معه في زمان واحد ، انتهى.
وفي ذكري أنه قال
هذين البيتين لما قال له القاضي عياض : شبنا ولم تشب.
وقال الرضي أيضا :
أنشدني حميد لأبيه فيمن يكتب في الورق بالمقص ، وهو غريب : [بحر
المنسرح]
وكاتب وشي طرسه حبر
|
|
لم يشها حبره
ولا قلمه
|
لكن بمقراضه ينمنمها
|
|
نمنمة الروض
جاده رهمه
|
يوجد بالقطع
أحرفا عدمت
|
|
فاعجب لشيء
وجوده عدمه
|
والرهم : المطر.
قال : وتوفي حميد
الزاهد هذا بمصر ، قبيل الظهر من يوم الثلاثاء ، وصلي عليه خارج مصر بجامع راشدة
بعد صلاة العصر من يوم الثلاثاء المذكور ، ودفن بسفح المقطم بتربة الشيخ الفاضل
الزاهد أبي بكر محمد الخزرجي الذي يدق الرصاص ، حذاء رجليه ، في الثالث والعشرين
من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وستمائة ، انتهى.
١٧١ ـ ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن
عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي.
من أهل بلنسية
وأصله من جيّان ، ولكن المرية ثم مالقة ، يكنى أبا يحيى ، كتب لبعض الأمراء بشرقي
الأندلس ، وله تأليف سماه «المغرب ، في أخبار محاسن أهل المغرب» ، جمعه للسلطان صلاح الدين
يوسف بن أيوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة ستين وخمسمائة ،
وبها توفي يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة ، رحمه الله
تعالى.
١٧٢ ـ ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن علي
بن محمد التجيبي ، يكنى أبا عبد الله ، من أهل إشبيلية.
__________________
تجول في بلاد
الأندلس طالبا للعلم ، ثم حج ، ولقي الحافظ السّلفي وغيره ، واستوطن تلمسان ، وبها
توفي في جمادى الأولى سنة عشر وستمائة ، وله تواليف كثيرة.
١٧٣ ـ ومنهم أبو مروان محمد بن أحمد بن
عبد الملك اللّخمي ، الباجي.
من أهل إشبيلية ،
ولي القضاء بها وأصله من باجة إفريقية ، دخل المشرق لأداء الفريضة فحج ، وتوفي
بمصر بعد ما دخل الشام ، في اليوم الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين
وستمائة ، ومولده عام أربعة وستين وخمسمائة ، وكانت رحلته من المغرب أول يوم من
المحرم عام أربعة وثلاثين وستمائة.
١٧٤ ـ ومنهم وليد بن بكر بن مخلد بن
زياد العمري.
من أهل سرقسطة ،
يكنى أبا العباس ، له كتاب سماه «الوجازة ، في صحة القول بالإجازة» وله رحلة لقي
فيها ألف شيخ ومحدث وفقيه ، توفي بالدينور سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، يروي عنه
أبو ذر الهروي وعبد الغني الحافظ ، وكفاه فخرا بهذين الإمامين العظيمين ، رحم الله
تعالى الجميع!.
١٧٥ ـ ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد
الملك بن عبد الله بن محمد الرّعيني الرّندي ، يكنى أبا محمد.
استوطن مالقة ،
ورحل إلى المشرق ، وحج ، ولقي جماعة من العلماء ، وقفل إلى المغرب أواخر عام واحد
وثلاثين وستمائة ، وولي الإمامة بالمسجد الجامع بمالقة ، وبها توفي في ربيع الأول
سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ، ولقب في المشرق برشيد الدين ، وولد في ربيع الأول
سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بقرية من قرى الأندلس يقال لها يالمالتين كورة بشتغير ،
ذكر ذلك ابن المستوفي في تاريخ إربل.
١٧٦ ـ ومنهم أبو الربيع سليمان بن أحمد
، الينيني.
من أهل الأندلس ،
استوطن المشرق مدح الملك الكامل ، ومن شعره رحمه الله تعالى قوله : [بحر الكامل]
لو لا تحدّيه
بآية سحره
|
|
ما كنت ممتثلا
شريعة أمره
|
رشأ أصدقه وكاذب
وعده
|
|
يبدي لعاشقه
أدلة غدره
|
__________________
ظهرت نبوّة حسنه
في فترة
|
|
من جفنه وضلالة
من شعره
|
١٧٧ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن يحيى الضبي .
رحل حاجّا فلقي
ببجاية عبد الحق الإشبيلي ، وبالإسكندرية أبا الطاهر بن عوف ، ولقي غير واحد في
رحلته كالغزنوي [وابن بري] وأبي الثناء الحراني وأبي الحسين الحريثي ، وللحريثي أحاديث
ساوى بها البخاري ومسلما ، ولقي جماعة ممن شارك السّلفي في شيوخه.
١٧٨ ـ ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد بن
جبير ، الكناني ، صاحب الرحلة.
وهو من ولد ضمرة
بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، أندلسي ، شاطبي ، بلنسي ، مولده ليلة السبت عاشر
ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية ، وقيل في مولده غير ذلك ، وسمع من أبيه
بشاطبة ومن أبي عبد الله الأصيلي وأبي الحسن بن أبي العيش ، وأخذ عنه القراءات
وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه ، وتقدم في صناعة القريض والكتابة.
ومن شعره قوله ،
وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنا نضيرا من أحد بساتينها فذوى في يده : [بحر مجزوء الرجز]
لا تغترب عن وطن
|
|
واذكر تصاريف
النّوى
|
أما ترى الغصن
إذا
|
|
ما فارق الأصل
ذوى
|
وقال رحمه الله
تعالى يخاطب الصدر الخجندي : [بحر السريع]
يا من حواه
الدين في عصره
|
|
صدرا يحلّ العلم
منه فؤاد
|
ما ذا يرى سيدنا
المرتضى
|
|
في زائر يخطب
منه الوداد
|
لا يبتغي منه
سوى أحرف
|
|
يعتدّها أشرف
ذخر يفاد
|
ترسمها أنملة
مثل ما
|
|
نمّق زهر الروض
كف العهاد
|
__________________
في رقعة كالصبح
أهدى لها
|
|
يد المعالي مسك
ليل المداد
|
إجازة يورثنيها
العلا
|
|
جائزة تبقى
وتفنى البلاد
|
يستصحب الشكر
خديما لها
|
|
والشكر للأمجاد
أسنى عتاد
|
فأجابه الصدر
الخجندي : [بحر المتقارب]
لك الله من خاطب
خلّتي
|
|
ومن قابس يجتدي
سقط زندي
|
أجزت له ما
أجازوه لي
|
|
وما حدّثوه وما
صحّ عندي
|
وكاتب هذي
السطور التي
|
|
تراهنّ عبد
اللطيف الخجندي
|
١٧٩ ـ ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن
أحمد بن الحسن القضاعي ، وأصله من أندة من بلنسية ، رحل معه
فأدّيا الفريضة ، وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي ، وأجاز لهما أبو محمد بن أبي
عصرون وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما ، ودخلا بغداد وتجولا مدة ، ثم قفلا
جميعا إلى المغرب ، فسمع منهما به بعض ما كان عندهما.
وكان أبو جعفر هذا
متحققا بعلم الطب ، وله فيه تقييد مفيد ، مع المشاركة الكاملة في فنون العلم.
وكتب عن السيد أبي
سعيد بن عبد المؤمن ، وجدّه لأمه القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية.
وتوفي أبو جعفر
هذا بمراكش سنة ثمان ، أو تسع وتسعين وخمسمائة ، ولم يبلغ الخمسين في سنه ، رحمه
الله تعالى!.
رجع إلى ابن جبير
:
قال لسان الدين في
حقه : إنه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب ، وله الرحلة
المشهورة ، واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب له قصيدتان : إحداهما
أولها : [بحر المتقارب]
أطلّت على أفقك
الزاهر
|
|
سعود من الفلك
الدائر
|
ومنها :
__________________
رفقت مغارم مكس
الحجاز
|
|
بإنعامك الشامل
الغامر
|
وأمّنت أكناف
تلك البلاد
|
|
فهان السبيل على
العابر
|
وسحب أياديك
فيّاضة
|
|
على وارد وعلى
صادر
|
فكم لك بالشرق
من حامد
|
|
وكم لك بالغرب
من شاكر
|
والأخرى منها في
الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز: [بحر
الوافر]
وما نال الحجاز
بكم صلاحا
|
|
وقد نالته مصر
والشآم
|
ومن شعره : [بحر
المتقارب]
أخلاء هذا
الزمان الخؤون
|
|
توالت عليهم
حروف العلل
|
قضيت التعجب من
بابهم
|
|
فصرت أطالع باب
البدل
|
وقوله : [بحر
المتقارب]
غريب تذكر
أوطانه
|
|
فهيج بالذكر
أشجانه
|
يحلّ عرا صبره
بالأسى
|
|
ويعقد بالنجم
أجفانه
|
وقال رحمه الله
تعالى ، لما رأى البيت الحرام زاده الله شرفا [ومهابة وتعظيما] : [بحر المتقارب]
بدت لي أعلام
بيت الهدى
|
|
بمكة والنور باد
عليه
|
فأحرمت شوقا له
بالهوى
|
|
وأهديت قلبي
هديّا إليه
|
وقوله يخاطب من
أهدى إليه موزا : [بحر المجتث]
يا مهدي الموز
تبقى
|
|
وميمه لك فاء
|
وزايه عن قريب
|
|
لمن يعاديك تاء
|
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر السريع]
قد ظهرت في
عصرنا فرقة
|
|
ظهورها شؤم على
العصر
|
__________________
لا تقتدي في
الدين إلا بما
|
|
سنّ ابن سينا
وأبو نصر
|
وقال : [بحر
السريع]
يا وحشة الإسلام
من فرقة
|
|
شاغلة أنفسها
بالسّفه
|
قد نبذت دين
الهدى خلفها
|
|
وادّعت الحكمة
والفلسفه
|
وقال : [مخلع
البسيط]
ضلت بأفعالها
الشنيعه
|
|
طائفة عن هدى
الشريعه
|
ليست ترى فاعلا
حكيما
|
|
يفعل شيئا سوى
الطبيعه
|
وكان انفصاله ـ رحمه الله تعالى! ـ من غرناطة بقصد الرحلة
المشرقية أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال سنة ٥٧٨ ، ووصل الإسكندرية يوم السبت
التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام من السنة ، فكانت إقامته على متن البحر من
الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوما ، ونزل البر الإسكندراني في الحادي والثلاثين
، وحج رحمه الله تعالى وتجوّل في البلاد ودخل الشام والعراق والجزيرة وغيرها ،
وكان ـ رحمه الله تعالى! كما قال ابن الرقيق ـ من أعلام العلماء العارفين بالله ،
كتب في أول أمره عن السيد أبي سعيد بن عبد المؤمن صاحب غرناطة ، فاستدعاه لأن يكتب
عنه كتابا وهو على شرابه ، فمدّ يده إليه بكأس ، فأظهر الانقباض ، وقال : يا سيدي
ما شربتها قط ، فقال : والله لتشربنّ منها سبعا ، فلما رأى العزيمة شرب سبع أكؤس ،
فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات وصبّ ذلك في حجره ، فحمله إلى منزله وأضمر
أن يجعل كفارة شربه الحج بتلك الدنانير ، ثم رغب إلى السيد ، وأعلمه أنه حلف
بأيمان لا خروج له عنها أنه يحج في تلك السنة ، فأسعفه ، وباع ملكا له تزود به ،
وأنفق تلك الدنانير في سبيل البر.
ومن شعره في جارية
تركها بغرناطة. [بحر مخلع البسيط]
طول اغتراب وبرح
شوق
|
|
لا صبر والله لي
عليه
|
إليك أشكو الذي
ألاقي
|
|
يا خير من يشتكى
إليه
|
__________________
ولي بغرناطة
حبيب
|
|
قد غلق الرهن في
يديه
|
ودعته وهو في
دلال
|
|
يظهر لي بعض ما
لديه
|
فلو ترى طلّ
نرجسيه
|
|
ينهلّ في ورد
وجنتيه
|
أبصرت درّا على
عقيق
|
|
من دمعه فوق
صفحتيه
|
وله رحلة مشهورة
بأيدي الناس.
ولما وصل بغداد
تذكر بلده ، فقال : [بحر الطويل]
سقى الله باب
الطاق صوب غمامة
|
|
وردّ إلى الأوطان
كل غريب
|
وقال في رحلته في
حق دمشق : جنة المشرق ، ومطلع حسنه المونق المشرق ، هي خاتمه بلاد الإسلام التي
استقريناها ، وعروس المدن التي اجتليناها [التي] قد تحلّت بأزاهير الرياحين ، وتجلت في حلل سندسية من
البساتين ، وحلت من موضع الحسن بمكان مكين ، وتزينت في منصتها أجمل تزيين ، وتشرفت
بأن آوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى ربوة ذات قرار ومعين ، ظل ظليل ، وماء
سلسبيل ، تناسب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل ، ورياض يحيي النفوس نسيمها
العليل ، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل ، وتناديهم هلموا إلى معرّس للحسن ومقيل ، قد
سئمت أرضها كثرة الماء ، حتى اشتاقت إلى الظّمإ ، فتكاد تناديك بها الصمّ الصلاب ،
أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، قد أحدقت بها البساتين إحداق الهالة بالقمر ،
واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر ، وامتدّت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر ،
فكلّ موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قيد النظر ، ولله صدق القائلين فيها
: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها ، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها
وتحاذيها.
قال العلامة ابن
جابر الوادي آشي ، بعد ذكره وصف ابن جبير لدمشق ، ما نصه : ولقد أحسن فيما وصف
منها وأجاد ، وتوّق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد ، هذا ولم تكن بها
__________________
إقامة ، فيعرب
عنها بحقيقة علامة ، وما وصف ذهبيّات أصيلها وقد حان من الشمس غروب ، ولا أزمان
فصولها المتنوعات ، ولا أوقات سرورها المهنئات ، ولقد أنصف من قال : ألفيتها
كما تصف الألسن ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، انتهى.
رجع إلى كلام ابن
جبير فنقول :
ثم ذكر في وصف
الجامع أنه من أشهر جوامع الإسلام حسنا ، وإتقان بناء ، وغرابة صنعة ، واحتفال
تنميق وتزيين ، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه ، ومن عجيب
شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ، ولا تدخله ، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف ،
ثم مدّ النفس في وصف الجامع وما به العجائب ، ثم قال بعد عدة أوراق ما نصه : وعن
يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ، ولها هيئة طاق كبير
مستدير فيه طيقان صفر ، وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار دبرت تدبيرا
هندسيا ، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من
صفر قائمين على طاسي صفر تحت كل واحد منهما أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب
والثاني تحت آخرها ، والطاسان مثقوبتان ، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار
إلى الغرفة ، وتبصر البازين يمدّان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاسين ويقذفانها بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا ، وعند وقوع
البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين
بلوح من الصّفر ، لا يزال كذلك عند انقضاء كل ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب
كلها وتنقضي الساعات ، ثم تعود إلى حالها الأول ، ولها بالليل تدبير آخر ، وذلك أن
في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة ،
وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة ، مدبر ذلك كله منها خلف
الطيقان المذكورة ، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة ،
فإذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح ، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت
للأبصار دائرة محمرة ، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر
الدوائر كلها ، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها ، درب بشأنها وانتقالها ، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها ، وهي التي
تمسيها الناس المنجانة ، انتهى المقصود منه.
__________________
قلت : كل ما ذكر
رحمه الله تعالى في وصف دمشق الشام وأهلها فهو في نفس الأمر يسير ، ومن ذا يروم عدّ محاسنها التي إذا رجع البصر فيها انقلب وهو حسير ، وقد أطنب الناس فيها ، وما بقي أكثر مما ذكروه ، وقد
دخلتها أواخر شعبان من سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة ، وأقمت بها إلى أوائل شوال من
السنة ، وارتحلت عنها إلى مصر وقد تركت القلب فيها رهنا ، وملك هواها مني فكرا
وذهنا ، فكأنها بلدي التي بها ربيت ، وقراري الذي لي به أهل وبيت ، لأن أهلها
عاملوني بما ليس لي بشكره يدان ، وها أنا إلى هذا التاريخ لا أرتاح لغيرها من
البلدان ، ولا يشوقني ذكر أرض بابل ولا بغدان ، فالله سبحانه تعالى يعطّر منها بالعافية الأردان.
وقد عنّ لي أن أذكر جملة مما قيل فيها من الأمداح الرائقة ، وأسرد ما
خاطبني به أهلها من القصائد الفائقة ، فأقول :
قال البدر بن حبيب
: [بحر الكامل]
يمّم دمشق ومل
إلى غربيها
|
|
والمح محاسن حسن
جامع يلبغا
|
من قال من حسد
رأيت نظيره
|
|
بين الجوامع في
البلاد فقد لغا
|
وقال في كتاب «شنف
السامع ، بوصف الجامع» [بحر الكامل].
لله ما أحلى
محاسن جلّق
|
|
وجهاتها اللّاتي
تروق وتعذب
|
بيزيد ربوتها
الفرات وجنكها
|
|
يا صاح كم كنّا
نخوض ونلعب
|
وقال فيه أيضا : [بحر
الرجز]
لله ما أجمل وصف
جلّق
|
|
وما حوى جامعها
المنفرد
|
قد أطرب الناس
بصوت صيته
|
|
وكيف لا يطرب
وهو معبد
|
وقال في ذكر باب
الجامع المعروف بالزيادة : [بحر الكامل]
يا راغبا في غير
جامع جلق
|
|
هل يستوي الممنوع
والممنوح
|
__________________
أقصر عناك وفي
غلوّك لا تزد
|
|
إن الزيادة
بابها مفتوح
|
وقال في منارته
المعروفة بالعروس : [بحر الخفيف]
معبد الشام يجمع
الناس طرا
|
|
وإليه شوقا تميل
النفوس
|
كيف لا يجمع
الورى وهو بيت
|
|
فيه تجلى على
الدوام العروس
|
ومنه في ذكر بانيه
الوليد : [بحر الرجز]
تالله ما كان
الوليد عابثا
|
|
في صرفه المال
وبذل جهده
|
لكنه أحرز ملك
معبد
|
|
لا ينبغي لأحد
من بعده
|
ومن أبيات في آخره
: [بحر الوافر]
بجامع جلق رب
الزعامة
|
|
أقم تلق العناية
والكرامة
|
ويمم نحوه في كل
وقت
|
|
وصلّ به تصل دار
الإقامة
|
مصلى فيه للرحمن
ذكر
|
|
ومثوى للقبول به
علامه
|
محل كمّل الباري
حلاه
|
|
وبيت أبدع
الباني نظامه
|
دمشق لم تزل
للشام وجها
|
|
ومسجدها لوجه
الشام شامه
|
وبين معابد
الآفاق طرا
|
|
له أمر الإمارة
والإمامة
|
أدام الله بهجته
وأبقى
|
|
محاسنه إلى يوم
القيامة
|
ولم أقف على كل
هذا الكتاب المذكور ، بل على بعضه فقط.
ومن قصيدة القاضي
المهذب بن الزبير : [بحر مجزوء الكامل]
بالله يا ريح
الشما
|
|
ل إذا اشتملت
الرّند بردا
|
وحملت من عرف
الخزا
|
|
مى ما اغتدى
للندّ ندا
|
ونسجت ما بين
الغصو
|
|
ن إذا اعتنقن
هوى وودا
|
وهززت عند الصبح
من
|
|
أعطافها قدا
فقدا
|
ونثرت فوق الماء
من
|
|
أجيادها للزهر
عقدا
|
__________________
فملأت صفحة وجهه
|
|
حتى اكتسى آسا
ووردا
|
وكأنما ألقيت
فيه
|
|
منهما صدغا
وخدّا
|
مرّي على بردى
عسا
|
|
ه يزيد في مسراك
بردا
|
نهر كنصل السيف
تك
|
|
سر متنه الأزهار
عمدا
|
صقلته أنفاس
النس
|
|
يم بمرّهنّ فليس
يصدا
|
ومنها :
أحبابنا ما
بالكم
|
|
فينا من الأعداء
أعدى
|
وحياة حبكم وحر
|
|
مة أصلكم ما خنت
عهدا
|
وقال الكمال
الشّريشي : [بحر البسيط]
يا جيرة الشام
هل من نحوكم خبر
|
|
فإن قلبي بنار
الشوق يستعر
|
|
بعدت عنكم فلا
والله بعدكم
|
|
ما لذّ للعين لا
نوم ولا سهر
|
إذا تذكرت
أوقاتا نأت ومضت
|
|
بقربكم كادت
الأحشاء تنفطر
|
كأنني لم أكن
بالنّيّرين ضحى
|
|
والغيم يبكي
ومنه يضحك الزهر
|
والورق تنشد
والأغصان راقصة
|
|
والدوح يطرب
بالتصفيق والنهر
|
والسفح أين
عشياتي التي ذهبت
|
|
لي فيه فهي
لعمري عندي العمر
|
سقاك بالسفح سفح
الدمع منهمرا
|
|
وقلّ ذاك له إن
أعوز المطر
|
وحكى ابن سعيد
وغيره أن غرناطة تسمى «دمشق الأندلس» لسكنى أهل دمشق الشأم بها عند دخولهم الأندلس
، وقد شبهوها بها لما رأوها كثيرة المياه والأشجار ، وقد أطلّ عليها جبل الثلج ، وفي
ذلك يقول ابن جبير صاحب الرحلة : [بحر مجزوء الرمل]
يا دمشق الغرب
هاتي
|
|
ك لقد زدت عليها
|
تحتك الأنهار
تجري
|
|
وهي تنصبّ إليها
|
__________________
قال ابن سعيد :
أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكان مشرف وغوطتها تحتها تجري فيها الأنهار ،
ودمشق في وهدة تنصبّ إليها الأنهار ، وقد قال الله تعالى في وصف الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الفرقان : ١٠]
انتهى.
وقال الشيخ الصفدي
في تذكرته : أنشدني المولى الفاضل البارع شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله
الخياط بقلعة الجبل من الديار المصرية حرسها الله تعالى لنفسه في شعبان المكرم سنة
٧٣٣ : [السريع]
قصدت مصر من ربا
جلّق
|
|
بهمّة تجري
بتجريبي
|
فلم أر الطرة
حتى جرت
|
|
دموع عيني
بالمزيريب
|
وأنشدني لنفسه
أيضا : [بحر السريع]
خلقت بالشام
حبيبي وقد
|
|
يممت مصرا لعنا
طارق
|
والأرض قد طالت
فلا تبعدي
|
|
بالله يا مصر
على العاشق
|
وأنشدني لنفسه
أيضا : [بحر السريع]
يا أهل مصر أنتم
للعلا
|
|
كواكب الإحسان
والفضل
|
لو لم تكونوا لي
سعودا لما
|
|
وافيتكم أضرب في
الرمل
|
وذكرته برمته لحسن
مغزاه.
وقال الشيخ مجد
الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الظّهير الحنفي الإربلي : [بحر الطويل]
لعل سنى برق
الحمى يتألّق
|
|
على النأي أو
طيفا لأسماء يطرق
|
فلا نارها تبدو
لمرتقب ولا
|
|
وعود الأمانيّ
الكواذب تصدق
|
لعل الرياح
الهوج تدني لنازح
|
|
من الشام عرفا
كاللطيمة تعبق
|
ديار قضينا
العيش فيها منعما
|
|
وأيامنا تحنو
علينا وتشفق
|
__________________
سحبنا بها برد
الشباب وشربنا
|
|
لدينا كما شئنا
لذيذ مروّق
|
مواطن منها
السهم سهمي وظله
|
|
تخبّ مطايا
اللهو فيه وتعنق
|
جلا جانبيه معلم
متجعد
|
|
من الماء في
أطلاله يتدفق
|
إذا الشمس حلت
متنه فهو مذهب
|
|
وإن حجبتها دوحه
فهو أزرق
|
وإن فرج الأوراق
جادت بنورها
|
|
فرقم أجادته
الأكفّ منمّق
|
يطل عليه قاسيون
كأنه
|
|
غمام معلى أو
نعام معلق
|
تسافر عنه الشمس
قبل غروبها
|
|
وترجف إجلالا له
حين تشرق
|
وتصفرّ من قبل
الأصيل كأنها
|
|
محب من البين
المشتّت مشفق
|
وفي النّيرب
الميمون للبّ سالب
|
|
من المنظر
الزاهي وللطرف مومق
|
بدائع من صنع
القديم رضائع
|
|
تأنّق فيها
المحدث المتأنق
|
رياض كوشي
للبرود يشقها
|
|
جداولها فالنّور
بالماء يشرق
|
فمن نرجس يخشى
فراق فريقه
|
|
ترى الدمع في
أجفانه يترقرق
|
ومن كل ريحان
مقيم وزائر
|
|
يصافح رياه
الرياض فتعبق
|
كأن قدود السرو
فيه موائسا
|
|
قدود عذارى ميلها
مترفق
|
إذا ما تدلّت
للشقائق صدّها
|
|
عيون من النور
المفتح ترمق
|
وقصر يكلّ الطرف
عنه كأنه
|
|
إلى النسر نسر
في السماء معلق
|
وكم جدول جار
يطارد جدولا
|
|
وكم جوسق عال
يوازيه جوسق
|
وكم بركة فيها
تضاحك بركة
|
|
وكم قسطل للماء
فيه تدفق
|
وكم منزل يعشي
العيون كأنما
|
|
تألق فيها بارق
يتألق
|
وفي الربوة
الفيحاء للقلب جاذب
|
|
وللهم مسلاة
وللعين مرفق
|
عروس جلاها
الدهر فوق منصة
|
|
من الدهر
والأبصار ترمى وترمق
|
فهام بها الوادي
ففاضت عيونه
|
|
فكل قرار منه
بالدمع يشرق
|
__________________
تكفل من دون
الجداول شربها
|
|
يزيد يصفيه لها
ويروّق
|
وقال أبو تمام في
دمشق : [بحر الكامل]
لو لا حدائقها
وأنّي لا أرى
|
|
عرشا هناك
ظننتها بلقيسا
|
وأرى الزمان غدا
عليك بوجهه
|
|
جذلان بسّاما
وكان عبوسا
|
قد بوركت تلك
البطون وقد سمت
|
|
تلك الظهور
وقدّست تقديسا
|
وقال البحتري : [البسيط]
أمّا دمشق فقد
أبدت محاسنها
|
|
وقد وفى لك
مطريها بما وعدا
|
إذا أردت ملأت
العين من بلد
|
|
مستحسن وزمان
يشبه البلدا
|
تمشي السحاب على
أجبالها فرقا
|
|
ويصبح النور في
صحرائها بددا
|
فلست تبصر إلا
واكفا خضلا
|
|
أو يانعا خضرا
أو طائرا غردا
|
كأنما القيظ ولى
بعد جيئته
|
|
أو الربيع دنا
من بعد ما بعدا
|
وفي دمشق يقول
بعضهم : [بحر الكامل]
برزت دمشق
لزائري أوطانها
|
|
من كل ناحية
بوجه أزهر
|
لو أن إنسانا
تعمد أن يرى
|
|
مغنى خلا من
نزهة لم يقدر
|
وقال القيراطي في قصيدته التي أولها : [بحر الكامل]
للصب بعدك
|
|
حالة لا تعجب
|
لله ليل كالنهار
قطعته
|
|
بالوصل لا أخشى
به ما يرهب
|
وركبت منه إلى
التصابي أدهما
|
|
من قبل أن يبدو
لصبح أشهب
|
أيام لا ماء
الخدود يشوبه
|
|
كدر العذار ولا
عذارى أشيب
|
كم في مجال
اللهو لي من جولة
|
|
أضحت ترقص بالشباب
وتطرب
|
وأقمت للندماء
سوق خلاعة
|
|
تجني المجون
إليّ فيه وتجلب
|
__________________
وذكرت في مغنى
دمشق معشرا
|
|
أمّ الزمان
بمثلهم لا تنجب
|
لا يسأل القصاد
عن ناديّهم
|
|
لكن يدلهم
الثناء الطيب
|
قوم بحسن صفاتهم
وفعالهم
|
|
قد جاء يعتذر
الزمان المذنب
|
يا من لحرّان
الفؤاد وطرفه
|
|
بدمشق أدمعه غدت
تتحلّب
|
أشتاق في وادي
دمشق معهدا
|
|
كل الجمال إلى
حماه ينسب
|
ما فيه إلا روضة
أو جوسق
|
|
أو جدول أو بلبل
أو ربرب
|
وكأن ذاك النهر
فيه معصم
|
|
بيد النسيم
منقّش ومكتب
|
وإذا تكسّر ماؤه
أبصرته
|
|
في الحال بين
رياضة يتشعب
|
وشدت على
العيدان ورق أطربت
|
|
بغنائها من غاب
عنه المطرب
|
فالورق تنشد
والنسيم مشبب
|
|
والنهر يسقي
والحدائق تشرب
|
وضياعها ضاع
النسيم بها فكم
|
|
أضحى له من بين
روض مطلب
|
وحلت بقلبي من
عساكر جنة
|
|
فيها لأرباب
الخلاعة ملعب
|
ولكم رقصت على
السماع بجنكها
|
|
وغدا بربوتها
اللسان يشيب
|
فمتى أزور
معالما أبوابها
|
|
بسماحها كتب
السماح تبوّب
|
وقال الصّفيّ
الحلّي عند نزوله بدمشق مسمطا لقصيدة السموأل بالحماسة : [بحر الطويل]
قبيح بمن ضاقت
عن الرزق أرضه
|
|
وطول الفلا رحب
لديه وعرضه
|
ولم يبل سربال
الدجى فيه ركضه
|
|
(إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
|
فكل رداء يرتديه جميل)
إذا المرء لم
يحجب عن العين نومها
|
|
ويغل من النفس
النفيسة سومها
|
أضيع ولم تأمن
معاليه لومها
|
|
(وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
|
فليس إلى حسن الثناء سبيل)
رفعنا على هام
السّماك محلنا
|
|
فلا ملك إلا تغشاه
ظلنا
|
لقد هاب جيش
الأكثرين أقلنا
|
|
(ولا قلّ من كانت بقاياه مثلنا
|
__________________
شباب تسامى للعلا وكهول)
يوازي الجبال
الراسيات وقارنا
|
|
وتبنى على هام
المجرة دارنا
|
ويأمن من صرف
الزمان جوارنا
|
|
(وما ضرنا أنا قليل وجارنا
|
عزيز
وجار الأكثرين ذليل)
|
ولما حللنا
الشام تمّت أموره
|
|
لنا وحبانا ملكه
ووزيره
|
وبالنّيرب
الأعلى الذي عزّ طوره
|
|
(لنا جبل يحتله من نجيره
|
منيع
يرد الطرف وهو كليل)
|
يريك الثريا من
خلال شعابه
|
|
وتحدق شهب الأفق
حول هضابه
|
ويقصر خطو السحب
دون ارتكابه
|
|
رسا أصله تحت
الثرى وسما به
|
إلى
النجم فرع لا ينال طويل)
|
وقصر على
الشقراء قد فاض نهره
|
|
وفاق على فخر
الكواكب فخره
|
وقد شاع ما بين
البرية شكره
|
|
(هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره
|
يعز
على من رامه ويطول)
|
إذا ما غضبنا في
رضا المجد غضبة
|
|
لندرك ثأرا أو
لنبلغ رتبة
|
نزيد غداة الكر
في الموت رغبة
|
|
(وإنا لقوم لا نرى الموت سبّة
|
إذا
ما رأته عامر وسلول)
|
وكتب الشيخ محب
الدين الحموي في ترجمة الشيخ إسماعيل النابلسي شيخ الإسلام من مصر : [بحر الطويل]
لواء التهاني
بالمسرّة يخفق
|
|
وشمس المعالي في
سما الفضل تشرق
|
وسعد وإقبال
ومجد مخيم
|
|
وأيام عز بالوفا
تتخلق
|
فيا أيها المولى
الذي جلّ قدره
|
|
ويا أيها الحبر
اللبيب المدقق
|
__________________
أرى الشام مذ
فارقتها زال نورها
|
|
وثوب بهاها
والنضارة يخلق
|
إذا غبت عنها غاب
عنها جمالها
|
|
ونفس بدون الروح
لا تتحقق
|
وإن عدت فيها
عاد فيها كمالها
|
|
وصار عليها من
بهائك رونق
|
فيا ساكني وادي
دمشق مزاركم
|
|
بعيد وباب الوصل
دوني مغلق
|
وليس على هذا
النوى لي طاقة
|
|
فهل من قيود
البين والبعد أطلق
|
وإني إلى
أخباركم متشوّف
|
|
وإني إلى لقياكم
متشوق
|
أود إذا هب
النسيم لنحوكم
|
|
بأني في أذياله
أتعلّق
|
وأصبو لذكراكم
إذا هبت الصّبا
|
|
لعلي من أخباركم
أتنشق
|
ولي أنّة أودت
بجسمي ولوعة
|
|
ونار جوى من
حرها أتفلق
|
فحنّوا على
المضنى الذي ثوب صبره
|
|
إذا مسه ذيل
الهوى يتمزق
|
غريب بأقصى مصر
أضحت دياره
|
|
ولكنّ قلبي
بالشآم معلّق
|
وقد نسخ التبريح
جسمي فهل إلى
|
|
غبار ثرى أعتاب
وصل يحقّق
|
فيا ليت شعري هل
أفوز بروضة
|
|
وفيها عيون
النرجس الغض تحدق
|
وأنظر واديها
وآوي لربوة
|
|
وماء معين حولها
يتدفق
|
ويحلو لي العيش
الذي مر صفوه
|
|
وهل عائد ذاك
النعيم المروّق
|
وأنظر ذاك
الجامع الفرد مرة
|
|
وفي صحنه تلك
الحلاوة تشرق
|
وأصحابنا فيه
نجوم زواهر
|
|
ونور محيّا
وجههم يتألق
|
فلا برحوا في
نعمة وسعادة
|
|
وعز ومجد شأوه
ليس يلحق
|
وقال ابن عنين : [بحر
الكامل]
ما ذا على طيف
الأحبة لو سرى
|
|
وعليهم لو
ساعدوني بالكرى
|
جنحوا إلى قول
الوشاة وأعرضوا
|
|
والله يعلم أن
ذلك مفترى
|
يا معرضا عنى
بغير جناية
|
|
إلا لما نقل
العذول وزوّرا
|
هبني أسأت كما
تقول وتفتري
|
|
وأتيت في حبّيك
شيئا منكرا
|
__________________
ما بعد بعدك
والصدود عقوبة
|
|
يا هاجري ما آن
لي أن تغفرا
|
لا تجمعنّ عليّ
عتبك والنوى
|
|
حسب المحب عقوبة
أن يهجرا
|
عبء الصدود أخف
من عبء النوى
|
|
لو كان لي في
الحب أن أتخيرا
|
فسقى دمشق
ووادييها والحمى
|
|
متواصل الأرهام
منفصم العرا
|
حتى ترى وجه
الرياض بعارض
|
|
أخوى وفود
الدّوح أزهر نيرا
|
تلك المنازل لا
ملاعب عالج
|
|
ورمال كاظمة ولا
وادي القرى
|
أرض إذا مرت بها
ريح الصبا
|
|
حملت على
الأغصان مسكا أذفرا
|
فارقتها لا عن
رضا وهجرتها
|
|
لا عن قلى ورحلت
لا متخيرا
|
أسعى لرزق في
البلاد مشتّت
|
|
ومن العجائب أن
يكون مقترا
|
وابن عنين المذكور كان هجاء ، وهو صاحب «مقراض الأعراض» تجاوز الله
تعالى عنه ، فمن ذلك قوله : [بحر الوافر]
أرح من نزح ماء
البئر يوما
|
|
فقد أفضى إلى
تعب وعيّ
|
مر القاضي بوضع
يديه فيه
|
|
وقد أضحى كرأس
الدّولعيّ
|
يعني أقرع.
وسبب قوله البيتين
أن المعظّم أمر بنزح ماء بقلعة دمشق ، فأعياهم ذلك.
ومن هجوه قوله : [بحر الوافر]
شكا شعري إلي
وقال تهجو
|
|
بمثلي عرض ذا
الكلب اللئيم
|
فقلت له تسلّ
فربّ نجم
|
|
هوى في إثر
شيطان رجيم
|
وقال فيمن خرج
حاجّا فسقط عن الهجين فتخلف : [بحر الوافر]
إذا ما ذمّ فعل
النوق يوما
|
|
فإني شاكر فعل
النياق
|
__________________
أراد الله
بالحجّاج خيرا
|
|
فثبط عنهم أهل
النفاق
|
وقال : [بحر البسيط]
وراحل سرت في
ركب أودعه
|
|
تبارك الله ما
أحلى تلاجينا
|
جئنا إلى بابه
لاجين نسأله
|
|
فليتنا عاقنا
موت ولا جينا
|
راجين نسأل ميتا
لا حراك به
|
|
مثل النصارى إلى
الأصنام لا جينا
|
وقال : [بحر الخفيف]
وصلت منك رقعة
أسأمتني
|
|
صيّرت صبري
الجميل قليلا
|
كنهار المصيف
حرّا وكربا
|
|
وكليل الشتاء
بردا وطولا
|
وأول «مقراض
الأعراض» قوله : [بحر المنسرح]
أضالع تنطوي على
كرب
|
|
ومقلة مستهلة
الغرب
|
شوقا إلى ساكني
دمشق فلا
|
|
عدت رباها مواطر
السحب
|
مواطن ما دعا
توطنها
|
|
إلا ولبّى
نداءها لبّي
|
ثم ذكر من الهجو
ما تصم عنه الآذان.
وهو القائل في
دمشق : [بحر الطويل]
ألا ليت شعري هل
أبيتن ليلة
|
|
وظلّك يا مقرى
علي ظليل
|
وهل أرينّي بعد
ما شطت النوى
|
|
ولي في ذرا روض
هناك مقيل
|
ومنها : [بحر
الطويل]
دمشق بنا شوق
إليك مبرّح
|
|
وإن لجّ واش أو
ألحّ عذول
|
بلاد بها
الحصباء در ، وتربها
|
|
عبير ، وأنفاس
الشّمال شمول
|
تسلسل فيها
ماؤها وهو مطلق
|
|
وصح نسيم الروض
وهو عليل
|
__________________
وقد تقدم التمثيل
بهذه الأبيات الثلاثة في خطبة هذا الكتاب.
ومن هذه القصيدة :
[بحر الطويل]
وكيف أخاف الفقر
أو أحرم الغنى
|
|
ورأي ظهير الدين
فيّ جميل
|
من القوم أمّا
أحنف فمسفّه
|
|
لديهم ، وأما
حاتم فبخيل
|
فتى المجد أما
جاره فممنّع
|
|
عزيز ، وأما
ضدّه فذليل
|
وأما عطايا كفه
فمباحة
|
|
حلال ، وأما ظله
فظليل
|
وظهير الدين
الممدوح هو طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين ، وكان ملك اليمن ، وأحسن إلى
ابن عنين إحسانا كثيرا وافرا ، وخرج ابن عنين من اليمن بمال جم ، وطغتكين : بضم
الطاء المهملة ، وبعدها غين معجمة ، ثم تاء مثناة من تحتها مكسورة ، ثم كاف مكسورة
أيضا ، ثم ياء تحتية ، ثم نون ، وكان يلقب بالملك العزيز ، ولذلك قال ابن عنين لما
رجع من عنده إلى مصر أيام العزيز عثمان بن صلاح الدين فألزم أرباب الديون ابن عنين
بدفع الزكاة من المتاجر التي وصلت صحبته : [بحر البسيط]
ما كلّ من
يتسمّى بالعزيز له
|
|
أهل وما كلّ برق
سحبه غدقه
|
بين العزيزين
بون في فعالهما
|
|
هذاك يعطي وهذا
يأخذ الصّدقة
|
ومن هجو ابن عنين
قوله في فقيهين يلقب أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس : [بحر الكامل]
البغل والجاموس
في حاليهما
|
|
قد أصبحا مثلا
لكل مناظر
|
قعدا عشية يومنا
فتناظرا
|
|
هذا بقرنيه وذا
بالحافر
|
ما أحكما غير
الصياح كأنما
|
|
لقيا جدال
المرتضى بن عساكر
|
جلفان ما لهما
شبيه ثالث
|
|
إلا رقاعة
مذلويه الشاعر
|
لفظ طويل تحت
معنى قاصر
|
|
كالعقل في عبد
اللطيف الناظر
|
رجع إلى دمشق :
__________________
وقال العز الموصلي
: [بحر الوافر]
إليك حياض
حمّامات مصر
|
|
ولا تتكثّري
عندي بمين
|
حياض الشام أحلى
منك ماء
|
|
وأطهر وهي دون
القلتين
|
وهذان البيتان
جواب منه عن قول ابن نباتة : [بحر مجزوء الكامل]
أحواض حمام الشآ
|
|
م ألا اسمعي لي
كلمتين
|
لا تذكرى أحواض
مص
|
|
ر فأنت دون
القلتين
|
وأما قول النّواجي
سامحه الله تعالى : [بحر مجزوء الخفيف]
مصر قالت دمشق
لا
|
|
تفتخر قط باسمها
|
لو رأت قوس
روضتي
|
|
منه راحت بسهمها
|
فهو من باب تفضيل
الوطن من حبه ، ومنه قول الوداعي : [بحر المسريع]
روّ بمصر
وبسكانها
|
|
شوقي وجدد عهدي
الخالي
|
وارو لنا يا سعد
عن نيلها
|
|
حديث صفوان بن
عسال
|
فهو مرادي لا «يزيد»
ولا
|
|
«ثور» وإن رقّا ورقا لي
|
ومن ذلك النمط قول
الشهاب الحجازي : [بحر الرجز]
قالوا دمشق قد
زهت لزهرها
|
|
فامض وشاهد
جوزها ولوزها
|
فقلت لا أبدل
بلدتي بها
|
|
ولست أرضى زهرها
ولو زها
|
[وقول الخفاجي قاضي مصر ، وإن لم يكن
في دمشق ، لكن في السياق في النظم : [بحر المنسرح]
قد فتن العاشقين
حين بدا
|
|
بطلعة كالهلال
أبرزها
|
طرّ له شارب على
شفة
|
|
كالورد في الآس
حين طرزها]
|
__________________
وقول الآخر : [الكامل]
قد قال وادي جلق
للنيل إذ
|
|
كسروه أعين
جبهتي لك ترفع
|
فأجاب بحر النيل
لما أن طغى
|
|
عندي مقابل كل
عين أصبع
|
وقد تذكرت هنا قول
بعضهم :
ما ذا يفيد
المعنّى
|
|
من الأذى
المتتابع
|
بمصر ذات
الأيادي
|
|
ونيلها ذي
الأصابع
|
وقد شاع الخلاف
قديما وحديثا في المفاضلة بين مصر والشام ، وقد قال بعضهم : [مجزوء الرجز]
في حلب وشامنا
|
|
ومصر طال اللغط
|
فقلت قول منصف
|
|
خير الأمور
الوسط
|
وأما قول بعضهم : [بحر
المتقارب]
تجنّب دمشق ولا
تأتها
|
|
وإن راقك الجامع
الجامع
|
فسوق الفسوق بها
قائم
|
|
وفجر الفجور بها
طالع
|
فلا يلتفت إليه ،
ولا يعول عليه ، إذ هو مجرد دعوى خالية عن الدليل ، وهي من نزعات بعض الهجائين
الذين يعمدون إلى تقبيح الحسن الجميل الجليل.
وما زالت الأشراف
تهجى وتمدح ولا يقابل ألف مثن عدل بفاسق يقدح : [بحر الطويل]
وفي تعب من يحسد
الشمس نورها
|
|
ويأمل أن يأتى
لها بضريب
|
وأخف من هذا قول
بعض الأندلسيين ، وهو الكاتب أبو بكر محمد بن قاسم : [بحر الوافر]
دمشق جنة الدنيا
حقيقا
|
|
ولكن ليس تصلح
للغريب
|
بها قوم لهم عدد
ومجد
|
|
وصحبتهم تؤول
إلى الحروب
|
ترى أنهارهم ذات
ابتسام
|
|
وأوجههم تولّع
بالقطوب
|
__________________
أقمت بدارهم
ستين يوما
|
|
فلم أظفر بها
بفتى أديب
|
والجواب واحد ،
ولا يضر الحقّ الثابت إنكار الجاحد ، وأخف من الجميع قول العارف بالله تعالى سيدي
عمر بن الفارض رضي الله تعالى عنه : [بحر الرمل]
جلّق جنّة من
تاه. وباهى
|
|
ورباها أربي لو
لا وباها
|
قال غال : بردى
كوثرها
|
|
قلت : غال
برداها برداها
|
وطني مصر وفيها
وطري
|
|
ولنفسي مشتهاها
مشتهاها
|
ولعيني غيرها إن
سكنت
|
|
يا خليليّ سلاها
ما سلاها
|
وأخفّ منه قول ابن
عبد الظاهر : [بحر الخفيف]
لا تلوموا دمشق
إن جئتموها
|
|
فهي قد أوضحت
لكم ما لديها
|
إنها في الوجوه
تضحك بالزّهر
|
|
لمن جاء في
الربيع إليها
|
وتراها بالثلج
تبصق في لحية
|
|
من مرّ في
الشتاء عليها
|
وقول ابن نباتة
وهو بالشام يتشوق إلى المقياس والنيل : [بحر الكامل]
أرق له بالشام
نيل مدامع
|
|
يجريه ذكر منازل
المقياس
|
سقيا لمصر
منازلا معمورة
|
|
بنجوم أفق أو
ظباء كناس
|
وطني سهرت له
وشابت لمّتي
|
|
ونعم على عيني هواه
وراسي
|
من لي به والحال
ليس بآنس
|
|
كدر وعطف الدهر
ليس بقاسي
|
والطرف يستجلي
غزالا آنسا
|
|
بالنيل لم يعتد
على باناس
|
رجع إلى مدح دمشق.
وقال الناصر داود
بن المعظم عيسى : [بحر الطويل]
__________________
إذا عاينت عيناي
أعلام جلّق
|
|
وبان من القصر
المشيد قبابه
|
تيقنت أن البين
قد بان والنوى
|
|
نأى شخصه والعيش
عاد شبابه
|
وقال أيضا رحمه
الله تعالى : [بحر البسيط]
يا راكبا من
أعالي الشام يجذبه
|
|
إلى العراقين
إدلاج وإسحار
|
حدّثتني عن ربوع
طالما قضيت
|
|
للنفس فيها
لبانات وأوطار
|
لدى رياض سقاها
المزن ديمته
|
|
وزانها زهر غض
ونوّار
|
شحّ الندى أن
يسقّيها مجاجته
|
|
فجادها مفعم
الشّؤبوب مدرار
|
بكت عليها
الغوادي وهي ضاحكة
|
|
وراحت الريح
فيها وهي معطار
|
يا حسنها حين
زانتها جواسقها
|
|
وأينعت في أعالي
الدوح أثمار
|
فهي السماء
اخضرارا في جوانبها
|
|
كواكب زهر تبدو
وأقمار
|
حدثتني وأنا
الظامي إلى نبإ
|
|
لا فضّ فوك
فمنّي الري تمتار
|
فهو الزلال الذي
طابت مشاربه
|
|
وفارقته غثاءات
وأكدار
|
كرّر على نازح
شطّ المزار به
|
|
حديثك العذب لا
شطت بك الدار
|
وعلّل النفس
عنهم بالحديث بهم
|
|
إن الحديث عن
الأحباب أسمار
|
وهذا الملك الناصر
له ترجمة كبيرة ، وهو ممن أدركته الحرفة الأدبية ، ومنع حقه بالحمية والعصبية ،
وأنكرت حقوقه ، وأظهر عقوقه ، حتى قضى نحبه ، ولقي ربه.
رجع :
وقال سيف الدين
المشد رحمه الله تعالى : [بحر البسيط]
بشرى لأهل الهوى
عاشوا به سعدا
|
|
وإن يموتوا فهم
من جملة الشّهدا
|
شعارهم رقة
الشكوى ومذهبهم
|
|
أن الضلالة فيهم
في الغرام هدى
|
عيونهم في ظلام
الليل ساهرة
|
|
عبرى وأنفاسهم
تحت الدجى صعدا
|
__________________
تجرعوا كأس خمر
الحب مترعة
|
|
ظلوا سكارى
وظنوا غيهم رشدا
|
وعاسل القدّ
معسول مقبله
|
|
كالغصن لما
انثنى والبدر حين بدا
|
رقيم عارضه كهف
لعاشقه
|
|
يأوي إليه فكم
في حيّه شهدا
|
نادمته وثغور
البرق باسمة
|
|
والغيث ينزل
منحلا ومنعقدا
|
كأن جلّق حيا
الله ساكنها
|
|
أهدت إلى الغور
من أزهارها مددا
|
فاسترسل الجوّ
منهلّا يزيد على
|
|
«ثورى» ويعقد محلول الندى «بردا»
|
وقال أيضا : [بحر
الطويل]
فؤادي إلى بانات
جلق مائل
|
|
ودمعي على
أنهارها يتحدّر
|
يرنّحني لوز ابن
كلّاب مزهرا
|
|
وتهتزني أغصانه
وهو مثمر
|
وإني إلى زهر
السفر جل شيق
|
|
إذا ما بدا مثل
الدراهم ينثر
|
غياض يفيض الماء
في عرصاتها
|
|
فتزهو جمالا عند
ذاك وتزهر
|
ترى بردى فيها
يجول كأنه
|
|
وحصباءه سيف
صقيل مجوهر
|
وبي أحور لاح
العذار بخدّه
|
|
يسامح قلبي في
هواه ويعذر
|
يحاورني فيه على
الصبر صاحبي
|
|
وكيف أطيق الصبر
والطرف أحور
|
إذا اشتقت وادي
النيربين لمحته
|
|
فأنظر معناه به
وهو أنضر
|
حوى الشرف
الأعلى من الحسن خده
|
|
على أن ميدان
العوارض أخضر
|
وما أحسن قوله
رحمه الله تعالى : [بحر الكامل]
واد به أهل
الحبيب نزول
|
|
حيّا معاهده
الحيا والنيل
|
واد يفوح المسك
من جنباته
|
|
ويصحّ فيه
للنسيم عليل
|
يشتاقه ويودّ
لثم ترابه
|
|
شوقا ولكن ما
إليه سبيل
|
متقلقل الأحشاء
مسلوب الكرى
|
|
طلق الدموع
فؤاده متبول
|
يصبو إلى
الأثلاث من وادي الغضى
|
|
ويحن إن خطرت
هناك شمول
|
__________________
قالوا تبدّل قلت
يا أهل الهوى
|
|
والناس فيهم
عاذر وجهول
|
هل بعد قطع
الأربعين مسافة
|
|
للعمر فيها يحسن
التبديل
|
ولقد هفا بي في
دمشق مهفهف
|
|
يسبي العقول
رضابه المعسول
|
يهتز إن مر
النسيم بقدّه
|
|
ويميل بي نحو
الصّبا فأميل
|
أبدى لنا بردا
تبسّم ثغره
|
|
وإذا انثنى
فقوامه المجدول
|
لزم التسلسل
مدمعي وعذاره
|
|
فانظر إلى
المهجات كيف تسيل
|
وسقمت من سقم
الجفون لأنها
|
|
هي علة وفؤادي
المعلول
|
لا تعجبوا إن
راعني بذوائب
|
|
فالليل هول
والمحب ذليل
|
ما صح لي أن
الذاؤبة حية
|
|
حتى سعت في
الأرض وهي تجول
|
وقال ناظر الجيش
عون الدين بن العجمي : [بحر البسيط]
يا سائقا بقطع
البيداء معتسفا
|
|
بضامر لم يكن في
سيره واني
|
إن جزت بالشام
شم تلك البروق ولا
|
|
تعدل بلغت المنى
عن دير مرّان
|
|
واقصد أعالي
قلاليه فإن بها
|
|
ما تشتهي النفس
من حور وولدان
|
من كل بيضاء
هيفاء القوام إذا
|
|
ماست فوا خجل
المران والبان
|
وكل أسمر قد دان
الجمال له
|
|
وكمّل الحسن فيه
فرط إحسان
|
ورب صدغ بدا في
خد مرسله
|
|
في فترة فتنت من
سحر أجفان
|
فليت ريقته وردي
ووجنته
|
|
وردي ومن صدغه
آسي وريحاني
|
وعج على دير
متّى ثم حي به الر
|
|
بان بطرس
فالربان رباني
|
فهمت منه إشارات
فهمت بها
|
|
وصنت منشورها في
طي كتمان
|
وادخل بدير حنين
وانتهز فرص الل
|
|
ذات ما بين قسيس
ومطران
|
__________________
واستجل راحا بها
تحيا النفوس إذا
|
|
دارت براح
شماميس ورهبان
|
حمراء صفراء بعد
المزج كم قذفت
|
|
بشهبها من همومي
كل شيطان
|
كم رحت في الليل
أسقيها وأشربها
|
|
حتى انقضى
ونديمي غير ندمان
|
سألت توماس عمن
كان عاصرها
|
|
أجاب رمزا ولم
يسمح بتبيان
|
وقال : أخبرني
شمعون ينقله
|
|
عن ابن مريم عن
موسى بن عمران
|
بأنها سفرت
بالطّور مشرقة
|
|
أنوارها فكنوا
عنها بنيران
|
وهي المدام التي
كانت معتّقة
|
|
من عهد هرمس من
قبل ابن كنعان
|
وهي التي عبدتها
فارس فكنى
|
|
عنها بشمس الضحى
في قومه ماني
|
سكرت منها فلا
صحو وجدت بها
|
|
على الندامى
وليس الشح من شاني
|
وسوف أمنحها
أهلا وأنشده
|
|
ما قيل فيها
بترجيع وألحان
|
حتى تميل لها
أعطافه طربا
|
|
وينثني الكون من
أوصاف نشوان
|
وهذه وإن لم تكن في
دمشق على الخصوص فلا تخرج عما نحن بصدده ، والأعمال بالنيات ، وديباجة هذه القصيدة
على نسج طائفة من الصوفية ، وممن حاك هذه البرود الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى ،
وقيل : إنه الشيخ شعبان النحوي.
رجع :
وقال بعضهم : [بحر
البسيط]
شوقي يزيد وقلب
الصّبّ ما بردا
|
|
وبان يأسي من
المعشوق حين غدا
|
ومدمعي قنوات ،
والعذول حكى
|
|
ثورى ، يلوم
الفتى في عشقه حسدا
|
على مغنية
بالجنك جاوبها
|
|
شبّابة كم بها
من عاشق سهدا
|
فالبدر جبهتها ،
والردف ربوتها ،
|
|
وخلّها مات في
خلخالها كمدا
|
ولنذكر نبذة خوطبت
به من علماء الشام وأدبائه حفظ الله تعالى كمالهم ، وبلغ آمالهم!.
فمن ذلك قول شيخ
الإسلام ، مفتي الأنام ، سيدي الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي حفظه الله تعالى ،
وكتبه لي بخطه : [بحر السريع]
__________________
شمس هدى أطلعها
المغرب
|
|
وطار عنقاء بها
مغرب
|
فأشرقت في الشام
أنوارها
|
|
وليتها في الدهر
لا تغرب
|
أعني الإمام
العالم المقري
|
|
أحمد من يكتب أو
يخطب
|
شهاب علم ثاقب
فضله
|
|
ينظم عقدا وهو
لا يثقب
|
فرع علوم بالهدى
مثمر
|
|
وروض فضل بالندى
معشب
|
قد ارتدى ثوب
علا وامتطى
|
|
غارب مجد فزها
المركب
|
درس غريب كل يوم
له
|
|
يملي ولكن حفظه
أغرب
|
محاضرات مسكر
لفظها
|
|
بكأس سمع راحها
تشرب
|
رياض آداب سقاها
الحيا
|
|
ففاح مسكا نشرها
الأطيب
|
فضائل عمت وطمّت
فقد
|
|
قصر فيها كل من
يطنب
|
قلوبنا قد جذبت
نحوه
|
|
والحب من عادته
يجذب
|
إن بعدت عن غربه
شرقنا
|
|
فالفضل فينا نسب
أقرب
|
كم طلبت تشريفه
شامنا
|
|
بشرى لها
فليهنها المطلب
|
قد سبقت لي معه
صحبة
|
|
في حرم يؤمن من
يرهب
|
أخوّة في الله
من زمزم
|
|
رضاعها طاب لها
المشرب
|
أنهلني ثمّ
ودادا فلي
|
|
بالشام منه علل
أعذب
|
أهديت ذا النظم
امتثالا له
|
|
وقد هجرت الشعر
مذ أحقب
|
نشّط قلبي لطفه
فانثنى
|
|
والقلب في أهل
الهوى قلّب
|
ضاء دجى العلم
به للورى
|
|
ما لاح في جنح
الدجى كوكب
|
تحية الفقير
الداعي ، عبد الرحمن العمادي ، انتهى.
وأجبته بما نصه : [بحر
السريع]
ما تبر راح
كأسها مذهب
|
|
ما للنهى عن
حسنها مذهب
|
__________________
تستدفع الأكدار
من صفوها
|
|
وتنهل الأفراح
أو تنهب
|
تسعى بها هيفاء
من ثغرها
|
|
أو شعرها النور
أو الغيهب
|
فتانة الأعطاف
نفاثة
|
|
سحرا بألباب
الورى يلعب
|
في روضة قد كللت
بالنّدى
|
|
والزهر رأس
الغصن إذ يعصب
|
برودها بالنّور
قد نمنمت
|
|
كالوشي من صنعاء
بل أعجب
|
والماء يجري تحت
جناتها
|
|
والنار من
نارنجها تلهب
|
والظّل ضاف
والنسيم انبرى
|
|
والجوّ ذاكي
العرف مستعذب
|
والطير للعشاق
بالعود قد
|
|
غنّت فهاجت شوق
من يطرب
|
أبهى ولا أبهج
في منظر
|
|
من نظم من
تقديمه الأصوب
|
مفتي دمشق الشام
صدر الورى
|
|
من في العلا تم
به المطلب
|
علامة الدهر ولا
مرية
|
|
وملجأ الفضل ولا
مهرب
|
لله ما امتاز به
من حلّى
|
|
بغير منّ الله
لا تكسب
|
أبدى به الرحمن
في عبده
|
|
مظاهر المنح
التي تحسب
|
جود بلا منّ
وعلم بلا
|
|
دعوى به التحقيق
يستجلب
|
وبيت مجد مسند
ركنه
|
|
إلى عماد الدين
إذ ينسب
|
فبرقه الشاميّ
من شامه
|
|
نال مراما
والسّوى خلب
|
وما عسى أبدية
في مدحه
|
|
أو وصف أبناء له
أنجبوا
|
تسابقوا للمجد
حتى حووا
|
|
سبقا لما في
مثله يرغب
|
أعيذهم بالله من
شر ما
|
|
يخشى من الأغيار
أو يرهب
|
وأسأل الله لهم
عزة
|
|
بادية الأضواء
لا تحجب
|
ولما حللت دمشق
المحروسة ، وطلبت موضعا للسكنى يكون قريبا من الجامع الأموي الذي يعجز البليغ وصفه
وإن ملأ طروسه ، أرسل إلي أديب الشام فرد الموالي المدرسين ساحب أذيال الفخار
المولى أحمد الشاهيني حفظه الله تعالى بمفتاح المدرسة الجقمقية ، وكتب لي معه ما
نصه : [بحر الخفيف]
__________________
كنف المقري شيخي
مقرّي
|
|
وإليه من الزمان
مفرّي
|
كنف مثل صدره في
اتساع
|
|
وعلوم كالدر في
ضمن بحر
|
أي بدر قد أطلع
الغرب منه
|
|
ملأ الشرق نوره؟
أي بدر؟
|
أحمد سيدي وشيخي
وذخري
|
|
وسميّي وفوق ذاك
وفخري
|
لو بغير الأقدام
يسعى مشوق
|
|
جئته زائرا على
وجه شكري
|
العبد الحقير
المستعين ، المخلص أحمد بن شاهين ، انتهى.
فأجبته بقولي : [بحر
الخفيف]
أي نظم في حسنه
حار فكري
|
|
وتحلّى بدرّه
صدر ذكري
|
طائر الصّيت
لابن شاهين ينمي
|
|
من بروض الندى
له خير وكر
|
أحمد الممتطين
ذروة مجد
|
|
لعوان من المعالي
وبكر
|
حل مفتاح فضله
باب وصل
|
|
من معاني تعريفه
دون نكر
|
يا بديع الزمان
دم في ازديان
|
|
بالعلا وازدياد
تجنيس شكر
|
وكتب إلي لما وقف
على كتابي «فتح المتعال ، في مدح النعال» بما نصه : لكاتبه الحقير أحمد بن شاهين
الشامي في تقريظ تأليف سيدي ومولاي وقبلتي ومعتقدي شيخ الدنيا والدين ، وبركة
الإسلام والمسلمين ، حفظ الله تعالى وجوده آمين : [بحر الطويل]
أأحمد ، فخرا يا
ابن شاهين ساميا
|
|
بأحمد ذاك
المقريّ المسدّد
|
بمن راح خدّاما
لنعل محمد
|
|
وناهيك في
العليا بأرفع سؤدد
|
فإن أنا أخدم
نعله فلطالما
|
|
غدا خادما نعل
النبي الممجد
|
بتأليفه في وصف
نعل تكرمت
|
|
كتابا حوى إجلال
كل موحّد
|
ويكفيك فخرا يا
ابن شاهين أن ترى
|
|
خدوما لخدّام
لنعل محمد
|
فقلت له طوبى
بخدمة أحمد
|
|
فقال كذا طوبى
بخدمة أحمد
|
__________________
فلا زال يرقى
للمعالي مكرما
|
|
وينتعل العيوق
في رغم فرقد
|
فأجته بقولي :
أأحمد وصف
بالعوارف يرتدي
|
|
وأشرف مولى
للمعارف يهتدي
|
نجومك إذ أنت
الخليل توقّدت
|
|
فأنّى أجاريها
بنحو المبرد
|
أتاني نظام منك
خيّر فكرتي
|
|
على أنه أعلى
مرامي ومقصدي
|
فأنت ابن شاهين
الذي طار صيته
|
|
بجو العلا والضد
ضل بفرقد
|
فبرّك موصول
وشانيك منكر
|
|
وقدرك مرفوع على
رغم حسد
|
وعند حديث الفضل
أسند عاليا
|
|
بشام فهم يروون
مسند أحمد
|
فوجهك عن بشر
ويمناك عن عطا
|
|
وفكرك يروي في
الهدى عن مسدّد
|
فلا زلت ترقى
أوج سعد ورفعة
|
|
ودمت بتوفيق وعز
مخلد
|
ولما خاطبته بقولي
: [بحر الطويل]
يصيد ابن شاهين
بجو بلاغة
|
|
سوانح في وكر
البدائع تفرخ
|
وما كان ديك
الجن مدرك نيلها
|
|
إذا صرصر البازي
فلا ديك يصرخ
|
ولو جاد فكر
البحتري بمثلها
|
|
لكان على الطائي
بالأنف يشمخ
|
ولو أن نظم ابن
الحسين أتيحها
|
|
لفاز بسبق حكمه
ليس ينسخ
|
فلا زال ملحوظا
بعين عناية
|
|
وكتب التهاني عن
علاه تؤرخ
|
أجابني بما نصه : [بحر
الطويل]
أأنفاس عيسى ما
بروعي ينفخ
|
|
أم الطرس أضحى
بالعبير يضمّخ
|
__________________
وهذي قواف أم هي
الشمس؟ إنني
|
|
أراها على
الجوزاء بالأنف تشمخ
|
بل هي نصّ من
ودادك محكم
|
|
تزول الرواسي
وهي لم تك تنسخ
|
أتتني بمدح مخجل
فكأنها
|
|
لفرط حيائي قد
أتتني توبخ
|
وهل أنا إلا
خادم نعل سيدي
|
|
وبيني وبين
المدح في الحق برزخ
|
وما هي إلا غرة
حزت فخرها
|
|
وإني بها بادي
المحاسن أشدخ
|
فلا درّ درّي
وانحرفت عن العلا
|
|
إذا كان ودي عن
معاليك يفسخ
|
وحبك مهما طال
شرقا ومغربا
|
|
بوكر ابن شاهين
الوفيّ يفرّخ
|
وإني وإن أرخت
مجدا لماجد
|
|
فإني باسم
المقري أؤرخ
|
سمي ومولاي الذي
راح مدحه
|
|
لرأس الأعادي
بالمعاريض يرضخ
|
ودم يا نظير
البدر ترقى بأوجه
|
|
ولا زلت في طرفي
وقلبي ترسخ
|
وكنت يوما أروم
الصعود لموضع عال فوقعت ، وانفكت رجلي ، وألمت ، فكتب إلي:[بحر السريع]
لا ألمت رجلك يا
سيدي
|
|
وصانها الله من الشّين
|
ما هي إلا قدم
للعلا
|
|
لا احتاج ذاك
النصل للقين
|
زانت دمشق الشام
في حلها
|
|
فلا رأت فيها
سوى الزين
|
بانت عن الأهل
لتشريفنا
|
|
لا جمعت أينا
إلى بين
|
عجبت من راسخة
في العلا
|
|
والعلم إذ زاغت
من العين
|
إني أعاف المين
بين الورى
|
|
ولست والله أخا
مين
|
للمقري المجتبى
أحمد
|
|
دين الهوى
والمدح كالدين
|
وأحمد الله على
أنني
|
|
رأيته حاز
الفريقين
|
__________________
فلا أراه الله
في عمره
|
|
بينا يؤدّيه إلى
أين
|
تعويذا لمحب العبد
الحقير الداعي أحمد بن شاهين ، انتهى.
وأهديت إليه حفظه
الله تعالى سبحة وخاتما ، وكتبت إليه : [بحر مجزوء الكامل]
يا نجل شاهين
الذي
|
|
أحيا المعالي
والمعالم
|
يا من به ريشت
من الم
|
|
جد الخوافي
والقوادم
|
يا من دمشق بطيب
ما
|
|
يبديه عاطرة
النواسم
|
فالنهر منها ذو
صفا
|
|
والزهر مفترّ
المباسم
|
والغصن يثني
عطفه
|
|
طربا لتغريد
الحمائم
|
يا أحمد الأوصاف
يا
|
|
من حاز أنواع
المكارم
|
أنت الذي
طوّقتني
|
|
مننا لها تعنو
الأعاظم
|
فمتى أؤدي شكرها
|
|
والعجر لي وصف
ملازم
|
والعذر باد إن
بعث
|
|
ت إليك من جنس
الرتائم
|
بنتيجة الذكر
التي
|
|
جاءت بتصحيف
ملائم
|
وبحائم صاد إلى
|
|
فيض الندى من كف
حاتم
|
فامدد على جهد
المق
|
|
لّ رواق صفح ذا
دعائم
|
واقبل عقيلة فكر
من
|
|
هو في بحار
العيّ عائم
|
لا زلت سابق
غاية
|
|
بين الأعارب
والأعاجم
|
فأجابني بما صورته
: [بحر مجزوء الكامل]
يا سيدا شعري له
|
|
ما إن يقاوي أو
يقاوم
|
كلا ، ولا قدري
له
|
|
يوما يساوى أو
يساوم
|
يا من رأيت
عطاردا
|
|
منه بدا في شخص
عالم
|
يا من بنفحة
خلقه
|
|
وبنظمه السامي
الملائم
|
أضحى يريني معجز
|
|
ين من النواسم
والمباسم
|
__________________
ما زلت أبصر
منهما
|
|
حسن النّعامى
والنعائم
|
بهما زماني
حاسدا
|
|
أضحى وبالتنغيص
حاسم
|
قلمي وقلبي بين
ها
|
|
م في الثناء له
وهائم
|
حبّي لأحمد سيدي
|
|
شيخ الورى فرض
ملازم
|
المقري المعتلي
|
|
شرف المعالي
والمعالم
|
مالي إليه وسيلة
|
|
إلا هوى في
القلب دائم
|
قد جاء ما
شرفتني
|
|
بخصوصه دون
الأعاظم
|
من خاتم كفى به
|
|
ورثت سليمان
العزائم
|
وجعلتني لا أحسب
العي
|
|
وق لي في فص
خاتم
|
وبسبحة شبهتها
|
|
بالشهب في أسلاك
ناظم
|
فلتحسد الجوزاء
ما
|
|
أحرزت من تلك
المكارم
|
هي آلة للذكر لك
|
|
ن ليس ذكرى في
الحيازم
|
فهواك في قلبي
وما
|
|
في القلب جلّ عن
الرتائم
|
ما ذي رتائم
سيدي
|
|
بل إنها عندي
تمائم
|
لو أنها من جنس
ما
|
|
يطوى غدت فوق
العمائم
|
لكنها قد زيّنت
|
|
كفي وأزرت
بالخواتم
|
يا من يريش إذا
رمى
|
|
نسر السماء بلحظ
حازم
|
إن ابن شاهين
حوى
|
|
منك الخوافي
والقوادم
|
هذي نوافل يا
إما
|
|
م الدهر ليست
باللوازم
|
العذر عنها مخجل
|
|
عبدا لنعلك جدّ
خادم
|
بل أنت فوق
العذر قد
|
|
أصبحت للشعرى
تنادم
|
__________________
لا زال دهرك
سيدي
|
|
يلقاك منه ثغر
باسم
|
يهدي إليك من
المرا
|
|
حم والمكارم
والغنائم
|
ما لا يساوم
مثله
|
|
ذو الحظ في أسنى
المواسم
|
العبد الحقير
الداعي لأستاذه مولاي الأجل بالتمكين ، أحمد بن شاهين ، حامدا مصليا مسلما ،
انتهى.
وقال مستجيزا : [بحر
المجتث]
الشيخ يشرب ماء
|
|
ونحن نشرب قهوه
|
فقلت : [المجتث]
لأنه ذو قصور
|
|
فغطّ بالعذر
سهوه
|
ولما أزمعت العود إلى مصر أوائل شوال سنة ١٠٣٧ خاطبني بقوله ـ حفظه الله! ـ : [بحر الكامل]
أبدا إليك
تشوّقي وحنيني
|
|
وإلى جنابك ما
علمت سكوني
|
ولديك قلبي لا
يزال رهينة
|
|
غلقت وتعلم ذمّة
المرهون
|
وعليك قد حبست
شوارد مدحتي
|
|
لما رأيتك فوق
كل قرين
|
قلبي كقلبك في
المحبة والهوى
|
|
إذ كان في
الأشواق دينك ديني
|
ولّيته بهواك
أرفع رتبة
|
|
وغدوت تعزل عنه
كل خدين
|
وأطاع أمرك في
الوداد فلو أشا
|
|
منه ـ وحاشا ـ سلوة
يعصيني
|
ما كنت أحسب قبل
طبعك أن أرى
|
|
يوما عطارد
ناطقا بفنون
|
حتى رأيتك
فاستبنت بأنه
|
|
يروي أحاديث
العلا بشجون
|
ويفيد سمعي
معجزا بهر النهى
|
|
ويري عيوني آية
التكوين
|
يا من غدا يحيي
القلوب بلفظه
|
|
ويردّد الأنفاس
عن جبرين
|
أحييت بالوحي
المبين قلوبنا
|
|
وحي ـ لعمر الله
ـ جدّ مبين
|
__________________
هذي دمشق ، لعمر
خلقك ، روضة
|
|
قد جاد طبعك
دوحها بمعين
|
قد زارها غيث
الندى فبهارها
|
|
أضحى يلوح بحلّة
النّسرين
|
لو لم تكن بدرا
لما أحرزت ما
|
|
قد خص في
الأنوار بالتلوين
|
حققّت ما قد قيل
حين حللتها
|
|
إن المكان مشرّف
بمكين
|
هي غادة حلّيتها
فتزينت
|
|
ما كان أحوجها
إلى التزيين
|
مولاي أحمد يا
سليل بني العلا
|
|
يا فوق مدحي فيك
أو تحسيني
|
أغنى وجودك وهو
عين الدّين عن
|
|
علّامة الدنيا
لسان الدين
|
انظره تستغني به
عن غيره
|
|
وإلى العيان
ارغب عن المظنون
|
تلقى علوم الناس
في أوراقهم
|
|
وعلومه في صدره
المشحون
|
فبعلمه اعبر كل
بحر زاخر
|
|
وبفهمه اسبر
غامض المخزون
|
وبحلمه ارغب عن
تحلم أحنف
|
|
وبعزمه اصحب بأس
ليث عرين
|
لما رأيتك
فاستقمت لقبلتي
|
|
أدعو وأشكر
واردات شؤوني
|
ألفيت قطرك
يمنتي فأفادني
|
|
فضل اليمين على
اليسار يقيني
|
فسقى الحيا
للمقّريّ أخي العلا
|
|
بلدا بأقصى
الغرب جدّ هتون
|
بلدا تبينت
الهلال بأفقه
|
|
ورأيت منه قرة
لعيوني
|
لو لا هلال
الغرب نوّر شرقنا
|
|
بتنا بليل الحدس
والتخمين
|
يا راحلا رحل
الفؤاد بعزمه
|
|
رفقا بقلب
للوفاء ضمين
|
أستودع الله
العظيم ، وإنني
|
|
مستودع منه أجلّ
أمين
|
إني أودع يوم
بينك مهجتي
|
|
وشبيبتي وتصبري
وسكوني
|
وأعود من توديع
وجهك عودة
|
|
خلطت يقيني في
الهوى بظنون
|
حتى كأني قد
فقدت تمائما
|
|
تقضي علي بحالة
المجنون
|
وتود نفسي أنها
لو حرمت
|
|
أبدا سكوني
للهوى وركوني
|
__________________
أو شكت أقتل بين
معترك الهوى
|
|
نفسي ومعترك
الهوى بيميني
|
ولقد وددت بأنني
متحمل
|
|
تلك الخطا
بمحاجري وجفوني
|
كيف السبيل إلى
الحياة ومهجتي
|
|
في قبضة الأشواق
كالمسجون
|
ما أنت إلا
البدر لاح بأفقنا
|
|
شهرا وكان ضياؤه
يهديني
|
وإليكها يا شيخ
دهري غادة
|
|
غنيت عن التحسين
والتزيين
|
جاءتك تعرض في
الوداد كمالها
|
|
وإذا لحظت
جمالها يكفيني
|
هي بنت لحظتك
التي تؤوي النهى
|
|
لا بنت ليلتي
التي تؤويني
|
ما الفخر في
دعوى البديهة عندها
|
|
الفخر قولك إنها
ترضيني
|
حسبي أبا العباس
منك إصاخة
|
|
تقضي بموت عداي
أو تحييني
|
يا لهف نفسي كيف
أبلغ مدحة
|
|
أضمرتها في سرّي
المكنون
|
فلسان حبي بالغ
أقصى المدى
|
|
ولسان مدحي في
القصور يليني
|
ما الشعر يستوفي
حقوقكم ولو
|
|
أهديت من نظمي
عقود سنيني
|
حلّقت أصطاد
النجوم ، وإنها
|
|
تزهو بعقد في
علاك ثمين
|
فرأيت في
العيّوق طبعك سيدي
|
|
نسرا أسفّ لعجزه
شاهيني
|
قد خف شعري من
قصور طبيعتي
|
|
ولربما قد كان جدّ
ركين
|
يكفيك أحمد يا
ابن شاهين بأن
|
|
أحرزت خصل السبق
دون الدون
|
وإذا عجزت عن
الفرائض جاهدا
|
|
فادأب عساك تفوز
بالمسنون
|
هو قبلتي
فلأغتدي متمسكا
|
|
منه بحبل في
النجاة متين
|
واسلم فديتك
زائرا ومشرفا
|
|
أفدي مواطئ نعله
بجبيني
|
وكذلك عمري في
هواك مقسّم
|
|
بين الدعاء الجد
والتأمين
|
وقال حفظه الله
تعالى في ذلك : [بحر الطويل]
__________________
حنانيك إن الدمع
بالود معرب
|
|
وإني في شرق
وأنت مغرب
|
ورحماك بي إني
قتيل صبابة
|
|
بمن هو أوفى في
الفؤاد وأنجب
|
ووعدك لي بالعود
إني معلل
|
|
به مهجة قد
أوشكت تتصوّب
|
وهبتك قلبي ما
حييت ولم أقل
|
|
(ولكن من الأشياء ما ليس يوهب)
|
فلو كنت شيخا
واحدا هدّ صده
|
|
فكيف بشيخ لم
يكن مثله أب
|
وإنا بحمد الله
لما خصصتنا
|
|
بزورة ذي ودّ
دعاه التحبب
|
فرشنا له منا
الخدود مواطئا
|
|
وعدنا به شوقا
نجيء ونذهب
|
وقلنا دمشق أنت
فيها محكم
|
|
وأشرافها ودوا
وجدّوا وأوجبوا
|
وأنت لها روح
ومولى ومفخر
|
|
وقد زنت شرقا
مثل ما ازدان مغرب
|
وفخرا عظيما يا
ابن شاهين إنه
|
|
غدا وكرنا نسر
السما فيه يرغب
|
فنحن ، ونحن
الناس ، خدام نعله
|
|
فلا غرو أن يقلي
الغضنفر أكلب
|
وما نقموا منه
سوى أنه امرؤ
|
|
ليأكل فيما
قدروه ويشرب
|
هو الشيخ شيخ
الدهر أحمد من غدت
|
|
دمشق ومن فيها
بعلياه تخطب
|
هو المقريّ
العالم العلم الذي
|
|
إليه تناهي
الفضل والمجد ينسب
|
وما هو إلا
الشمس أزمع رحلة
|
|
وإنا لفي ليل
إذا هي تغرب
|
أو الغيث قد
وافى فأمرعت النهى
|
|
به وانثنى
والصدر بالود معشب
|
أو الطائر
العنقاء جاء مشرقا
|
|
فأغرب والعنقاء
في الطير مغرب
|
وإنك للخلّ
الوفيّ وإنه
|
|
هو الواحد
المطلوب إن عز مطلب
|
وإنك بالتحقيق
في كل حالة
|
|
لأسنى وأندى ثم
أوفى وأغرب
|
رعى الله وجها
رحت ترغب نحوه
|
|
وأي أخي جدّ له
أنت ترغب
|
__________________
وحيّا الحيا
أرضا وطئت ترابها
|
|
فأصبح مسكا وهي
بالمجد تخصب
|
ولا فارقت يوما
علاك كلاءة
|
|
من الله أنّى
كنت والله أغلب
|
مدى الدهر ما
حنت جوانح واله
|
|
مشوق فأمسى
للحقيقة يطرب
|
ولما قرأ علي ـ أدام
الله تعالى عزته ، وحرس حوزته! ـ عقيدتي المسماة «بإضاءة الدجنة ، في عقائد أهل
السنة» سألني أن أجيزه فيها وفي غيرها ، فكتبت إليه بما نصه : [بحر الرجز]
أحمد من أطار في
جوّ العلا
|
|
صيت ابن شاهين
الذي زان الحلى
|
وراش منه
للمعالي أجنحه
|
|
نال بها فضلا
غدا مستمنحه
|
وأسكن البيان من
أوكار
|
|
أفهامه بقنّة
الأفكار
|
فاصطاد كل شارد
بمخلب
|
|
أبحاثه ومن
يعارض يغلب
|
والصقر لا يقاس
بالبغاث
|
|
والحق ممتاز عن
الأضغاث
|
نشكر من بلغه
مناه
|
|
على نواله الذي
سناه
|
وننتحي نهج صلاة
باديا
|
|
لخير من جاء
الأنام هاديا
|
مبينا دلائل
التوحيد
|
|
وموضحا طرائق
التسديد
|
محمد خير
البرايا المنتقى
|
|
أجل من خاف
الإله واتقى
|
صلى عليه الله
مع أصحابه
|
|
وآله الراوين عن
سحابه
|
ما اعترف العبد
الفقير ذو العدم
|
|
للربّ باستغنائه
وبالقدم
|
وبعد ، فالعلوم
والعوارف
|
|
من أمّها يأوي
لظل وارف
|
وروضة أزهارها
تضوّعت
|
|
لأنها أفنانها
تنوعت
|
وليس يحتاط بها
نبيل
|
|
إذ ذاك أمر ما
له سبيل
|
فليصرف القول
إلى ما ينفعه
|
|
دنيا وفي أوج
الأجور يرفعه
|
وإن في علم أصول
الدين
|
|
هدى وخيرا جلّ
عن تبيين
|
__________________
لأنه أصل يعم
النفع
|
|
به وكل ما سواه
فرع
|
وكيف يعبد الإله
من لا
|
|
يعرفه وعن رشاد
صلا
|
فهو الذي لا
تقبل الأعمال
|
|
إلا به وتنجح
الآمال
|
وإنني كنت نظمت
فيه
|
|
لطالب عقيدة
تكفيه
|
سميتها «إضاءة
الدجنة»
|
|
وقد رجوت أن
تكون جنّة
|
وبعد أن أقرأتها
بمصر
|
|
ومكة بعضا من
اهل العصر
|
درستها لما دخلت
الشاما
|
|
بجامع في الحسن
لا يسامى
|
وكان في المجلس
جمع وافر
|
|
من جلة بدورهم
سوافر
|
منهم فريد الدهر
ذو المعالي
|
|
فخر دمشق الطيب
الفعال
|
أحمد من راح
لعلم واغتدى
|
|
وشام أنوار
الفهوم فاهتدى
|
العالم الصدر
الأجل المولى
|
|
من وصفه الممدوح
يعيي القولا
|
وهو ابن شاهين
وما أدراكا
|
|
من بذ جنس العرب
والأتراكا
|
ورام من مثلي
بحسن الظن
|
|
إجازة فيما رواه
عني
|
فحرت في أمرين
قد تناقضا
|
|
بالنفي والإثبات
إذ تعارضا
|
ترك الإجابة
لوصفي بالخطل
|
|
وبالخطا والجيد
مني ذو عطل
|
وكم فرائض بعجز
تسقط
|
|
فكيف غيرها وهذا
أحوط
|
أو فعلها بحسب
الإمكان
|
|
رعيا لود محكم
الأركان
|
منه وما له من
الحقوق
|
|
ولا يجازى البر
بالعقوق
|
وبعد ما مر من
الترداد
|
|
أسعفته بمقتضى
الوداد
|
وسرت في طرق من
التساهل
|
|
معترفا بالجهل
لا التجاهل
|
مع أنه الأهل
لأن يجيزا
|
|
لا أن يجاز إذ
حوى التبريزا
|
ومن رأى عيبي
بعين للرضا
|
|
لم يقف نهج من
غدا معترضا
|
فليرو عني كل ما
أسمعته
|
|
إياه بالشرط وما
جمعته
|
__________________
مع القصور راجيا
للأجر
|
|
من الفنون نظمها
والنثر
|
كهذه القصيدة
السديده
|
|
والنعل ذات
المدح العديده
|
كذاك ما ألفت في
عمامه
|
|
من خص بالإسراء
والإمامه
|
والفقه والحديث
والنحو وفي
|
|
أسرار وفق وهو
بالقصد وفي
|
وغيرها مما به
الوهاب من
|
|
على فقير عاجز
في غير فن
|
وما أخذت في
بلاد المغرب
|
|
عن كل فذّ في
العلوم مغرب
|
ولي أسانيد إذا
سردتها
|
|
طالت وفي كتبي
قد أوردتها
|
وقد أخذت الجامع
الصحيحا
|
|
وغيره عمن حوى
الترجيحا
|
عمي سعيد عن
سفين وهو عن
|
|
القلقشندي عن
الواعي السنن
|
العسقلاني في
الشهاب بن حجر
|
|
بما له من
الروايات اشتهر
|
|
وقد أجزته بكل
مالي
|
|
يصحّ من ذاك بلا
احتمال
|
على شروط قرروها
كافيه
|
|
ليست على أفكاره
بخافيه
|
وقال هذا
المقريّ الخطّا
|
|
والعيّ عمّ لفظه
والخطّا
|
عام ثلاثين وألف
بعدها
|
|
سبع أتمت في
السنين عدها
|
وكان ذا في
رمضان السامي
|
|
بحضرة السعد
دمشق الشام
|
والله نرجو أن
يتيح الختما
|
|
بالخير كي نعطى
القبول حتما
|
بجاه خير
العالمين أحمدا
|
|
صلى عليه الله
ما طال المدى
|
وآله وصحبه ومن
زكا
|
|
فنال من حسن
الختام مدركا
|
وتذكرت بهذه
الإجازة نظيرتها التي سألني فيها مولانا عين الأعيان ، مفتي الأنام في مذهب
النعمان ، مولانا الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام ـ حفظه الله تعالى! ـ لأولاده
الثلاثة ، وكتب لي أصغرهم سنا استدعاء لذلك : [بحر الرجز]
أحمد من شيّد
بالإسناد
|
|
بيت العلوم
السامي العماد
|
وعم من خصص
بالروايه
|
|
بنورها النافي
دجى الغوايه
|
__________________
وزان صدر النبها
كل زمن
|
|
بجوهر الإجازة
الغالي الثمن
|
نحمده سبحانه أن
عرّفا
|
|
من الحديث ما به
قد شرفا
|
ونسأل المزيد من
صلاته
|
|
لمن أتيح القصد
من صلاته
|
ملجؤنا المعصوم
أعلى سند
|
|
لنا برغم جاحد
مفنّد
|
كهف الضعيف
والقوي المرتجى
|
|
باب الهدايات
وليس مرتجا
|
من جاءنا
بالجامع الصحيح من
|
|
كلامه الهادي
إلى نهج أمن
|
من فضله ما شك
فيه مسلم
|
|
من حبه بكل خير
معلم
|
نبينا المرسل ذو
الخلق الحسن
|
|
والمعجز المفحم
أرباب اللّسن
|
محمد المرفوع
قدره على
|
|
سائر خلق الله
جل وعلا
|
صلى عليه ربنا
وسلما
|
|
أزكى صلاة
ننتحيها معلما
|
مع آله وصحبه
ومن روى
|
|
آثاره عن صحة
وما غوى
|
وبعد فالعلم
عظيم القدر
|
|
وليس من يدري
كمن لا يدري
|
ولم تزل همة أهل
المجد
|
|
منوطة بنيل علم
مجدي
|
ومنه علم السنة
الشريفة
|
|
لأنه ظلاله
وريفه
|
فمن درى الأخبار
والشمائل
|
|
لم يك عن صوب
الهدى بمائل
|
وكم سميدع لأجله
رفض
|
|
أوطانه وثوب
ترحال نفض
|
وكيف لا وهو أجل
ما طلب
|
|
موفق يروم حسن
المنقلب
|
لأنه وسيلة
السعادة
|
|
والعز في
الإبداء والإعادة
|
وإنني لما
انتحيت المشرقا
|
|
ميمما بدر
اهتداء مشرقا
|
ألقيت في مصر
عصا التسيار
|
|
بعد بلوغي أشرف
الديار
|
وبعد ذا جئت
دمشق الشام
|
|
مسكن من يزدان
باحتشام
|
__________________
فشاهدت عيناي
فيها ما ملا
|
|
قلبي سرورا إذ
بلغت مأملا
|
مدينة فياضة
الأنهار
|
|
فضفاضة الأثواب
بالأزهار
|
أرجاؤها زاكية
العبير
|
|
ومدحها يجل عن
تعبير
|
وجلّ أهليها
بحبي دانوا
|
|
مع أن مثلي منهم
يزدان
|
فلاحظوا بالأعين
الكليلة
|
|
عبدا غدا تقصيره
دليله
|
وقابلوا عيبي
بما اقتضاه
|
|
فضل لهم ربّ
الورى ارتضاه
|
خصوصا المولى
الكبير المعتبر
|
|
قرة عين من رآه
واختبر
|
مفتي الورى في
مذهب النعمان
|
|
بها الوجيه عابد
الرحمن
|
ابن عماد الدين
من تعيي القلم
|
|
أوصافه اللاتي
كنور في علم
|
حاوي طراف المجد
والتّلاد
|
|
نال المنى في
النفس والأولاد
|
وكنت في مكة قد
أبصرت
|
|
منه علا عن مدحه
قصرت
|
جلالة ومحتدا
وعلما
|
|
ورفعة وسوددا
وحلما
|
مع التواضع الذي
قد زانه
|
|
حسن اعتقاد مثقل
ميزانه
|
فحثّ من في
الشام من أخيار
|
|
لم يسلكوا مناهج
الأغيار
|
أن يأخذوا بعض
الفنون عني
|
|
بما اقتضاه منه
حسن الظن
|
مع أنني والله
لست أهلا
|
|
لذاك ، والتصدير
ليس سهلا
|
وكان من جملتهم
أبناؤه
|
|
عماد دين قد علا
بناؤه
|
وصنوه الشهاب من
توقدا
|
|
فهما وإبراهيم
سباق المدى
|
وهو الذي قد
ابتغى الإجازة
|
|
لهم بوعد طالبا
إنجازه
|
وكتب القصيدة
الطنانة
|
|
في ذاك لي
مهتصرا أفنانه
|
وإنهم كحلقة قد
أفرغت
|
|
دامت لهم آلاء
فيض سوّغت
|
فلم أجد بدّا من
الإجابة
|
|
مع كون جهلي
سادلا حجاجه
|
__________________
فقد أجزتهم بما
رويته
|
|
طرا ، وما
ارتجلت أو روّيته
|
وكل ما صنفت في
الفنون
|
|
مؤمّل التحقيق
للظنون
|
وما أخذت عن
شيوخ المغرب
|
|
وغيرهم من كل
حبر مغرب
|
ولي أسانيد يطول
شرحها
|
|
شيد على تقوى
الإله صرحها
|
ولو سردت كل
مروياتي
|
|
هنا لطال القول
في الأبيات
|
وكل طول غالبا
مملول
|
|
وحدّ من يعنى به
مفلول
|
فلنقتصر إذن على
القليل
|
|
تبركا بالمطلب
الجليل
|
وقد أخذت جامع
البخاري
|
|
عن عمي الحائز
للفخار
|
المقرى سعيد
الإمام عن
|
|
محمد يدعى خروفا
حين عنّ
|
التونسيّ الطيب
الأنفاس
|
|
نزيل حضرة
الملوك فاس
|
عن الكمال
القادريّ المرتضى
|
|
عن الحجازيّ عن
الحبر الرضا
|
نجل أبي المجد
عن الحجاري
|
|
عن الزبيديّ
بنقل جاري
|
عن مسند الإسلام
عبد الأوّل
|
|
عن الشهير
الداودي المعتلي
|
عن السرخسي عن
الفربري
|
|
عن البخاريّ
الإمام الحبر
|
وفضله أظهر من
أن يذكر
|
|
وعلمه المعروف
غير المنكر
|
ومسلم به إلى
الكمال
|
|
عن علم الدين
أخي الجلال
|
منسوب بلقين عن
التّنوخي
|
|
عن ابن حمزة عن
الشيوخ
|
كابن المقير عن
ابن ناصر
|
|
عن ابن مندة
اللبيب القاصر
|
عن جوزقيّ قد
روى عن مكي
|
|
عن مسلم نافي
دياجي الشّكّ
|
فليخبروا عني
بذا الباقي
|
|
من ستة جائزة
السباق
|
كذا موطأ الإمام
مالك
|
|
إمامنا منير كل
حالك
|
ومسند الفذ
الرضا ابن حنبل
|
|
والدارميّ ذي
الثناء الأجمل
|
والطبرانيّ وما
أرويه
|
|
من المعاجيم بما
تحويه
|
__________________
وكلها تشمله
الإجازة
|
|
بشرطها عند الذي
أجازه
|
فلتقبلوه فهي من
جهد المقلّ
|
|
إذ لست بالمطلوب
مني أستقل
|
ومن أسانيدي عن
القصّار
|
|
مفتي الأنام
بهجة الأعصار
|
عن شيخه خروف
الراقي الدرج
|
|
عن الشريف
الطحطحائي فرج
|
قال : سمعت
المصطفى في النوم
|
|
صلى عليه الله
كل يوم
|
يقول : من أصبح
، يعني آمنا
|
|
في سربه ،
الحديث فاعرف كامنا
|
ولنمسك العنان
في هذا الأرب
|
|
مصليا على الذي
زان العرب
|
وآله وصحبه
الأعلام
|
|
ومن تلا من أنجم
الإسلام
|
وخط هذا المقريّ
العاصي
|
|
أجير يوم الأخذ
بالنواصي
|
سنة سبع وثلاثين
تلت
|
|
ألفا لهجرة
بياسين علت
|
عليه أزكى صلوات
تستتم
|
|
نرجو بها الزلفى
وحسن المختتم
|
ونص الاستدعاء
المشار إليه وهو : [بحر السريع]
فازت دمشق الشام
بالمقري
|
|
الألمعيّ
اللوذعي العبقري
|
علامة العصر بلا
مفتري
|
|
وواحد الدهر بلا
ممتري
|
كم سمعت أخبار
أوصافه
|
|
فقصر المخبر عن
منظر
|
جامع علم بثّ
إملاءه
|
|
بالشام ملء
الجامع الأكبر
|
يقري فتقري
السمع أنفاسه
|
|
أنفس ما يقرى
وما قد قري
|
مولاي يا من درّ
ألفاظه
|
|
صحاحها تزري على
الجوهر
|
إجازة نرفل من
فضلها
|
|
فى ثوب عز وردا
مفخر
|
مسبلة الذيل على
أكبر
|
|
وأوسط الإخوة
والأصغر
|
أطل لنا إنشاءها
بل أطب
|
|
وانظم لنا من
درها وانثر
|
لا زلت في نفع
الورى دائبا
|
|
تجود جود العارض
الممطر
|
العبد الداعي
إبراهيم العمادي ، انتهى.
__________________
ومن الإجازات التي
قلتها بدمشق الشام ما كتبته للأديب الحسيب سيدي يحيى المحاسني حفظه الله تعالى : [بحر الرجز]
أحمد من زين
بالمحاسن
|
|
دمشق ذات الماء
غير الآسن
|
وأطلع النجوم من
أعيان
|
|
بأفقها السامي
مدى الأحيان
|
فكل أيامهم
مواسم
|
|
من الصفا ثغورها
بواسم
|
وذكرهم قد شاع
بين الأحيا
|
|
إذ قطرهم به
الكمال يحيا
|
وبشرهم حديثه لا
ينكر
|
|
ومسند الجامع
عنهم يذكر
|
وقد حكت جوارح
الذي ارتحل
|
|
إليهم صحيح ما
له انتخل
|
فسمعه عن جابر ،
والعين عن
|
|
قرّة تروي ،
واللسان عن حسن
|
فحل من أتاحهم
آلاءه
|
|
حتى أبان نورهم
لألاءه
|
نحمده سبحانه أن
اسدى
|
|
من الأمان ما
أنال القصدا
|
وننتحي صوب صلاة
باهره
|
|
إلى الرسول ذي
السجايا الطاهره
|
أجلّ من خاف
الإله واتقى
|
|
محمد الهادي
الرسول المنتقى
|
صلى عليه الله
طول الأبد
|
|
مع آله وصحبه
والمقتدي
|
وبعد ، فالعلم
أساس الخير
|
|
وكيف لا وهو
مزيح الضير
|
وهو موصل إلى
منهاج
|
|
هدى ورشد ما له
من هاجي
|
وما بغير العلم
يبدو العلم
|
|
وليس من يدري
كمن لا يعلم
|
خصوصا الحديث عن
خير البشر
|
|
فإن فضله على
الكل انتشر
|
ولم يزل يعنى به
كلّ زمن
|
|
من الرواة كلّ
صدر مؤتمن
|
وإنني عند دخول
الشام
|
|
لقيت من بها من
الأعلام
|
وشاهدت عيناي من
إنصافهم
|
|
ما حقق المحكي
عن أوصافهم
|
__________________
وإن من جملتهم
أوج الذكا
|
|
والنير المزري
سناه بذكا
|
ابن المحاسن
الذي قد طابقا
|
|
منه مسمى الاسم
إذ تسابقا
|
اللوذعيّ
الألمعيّ يحيى
|
|
لا زال رسم
المجد منه يحيا
|
وهو الذي أغراه
حسن الظن
|
|
على انتمائه
لأخذ عني
|
وكان قارىء
الحديث النبوي
|
|
لديّ في الجامع
، أعني الأموي
|
بمحضر الجمع
الغزير الوافر
|
|
ممن وجوه فضلهم
سوافر
|
وبعد ذاك استمطر
الإجازة
|
|
من نوء وعدي
واقتضى إنجازه
|
فلم أجد بدّا من
الإجابة
|
|
مع أنني لست بذي
النجابة
|
وإن أكن أجبت
أمرا يمتثل
|
|
منه ففي ذلك
تصديق المثل
|
فيمن درى شيئا
وغابت أشيا
|
|
عنه ومن أهدى
لصنعا وشيا
|
فليرو عنّي كل
ما يصح لي
|
|
بشرطه الذي يزين
كالحلي
|
وقد أخذت جامع
البخاري
|
|
عن عمي الإمام
ذي الفخار
|
سعيد الذي نأى
عن دنس
|
|
عن شيخه الحبر
الشهير التّنسي
|
أعنى أبا عبد
الإله وهو عن
|
|
والده محمد راوي
السنن
|
عن ابن مرزوق
محمد الرضا
|
|
عن جده الخطيب
عن بدر أضا
|
الفارقيّ عن
إمام يدعى
|
|
بابن عساكر
الجميل المسعى
|
بما له من
الروايات التي
|
|
على علوّ قدره
قد دلّت
|
وليرو عنّي ما
انتمى للنووي
|
|
بذا إلى السابق
ذي النهج السوي
|
أعني ابن مرزوق
الخطيب الراوي
|
|
عن شيخه يحيى
الرضي المغراوي
|
وهو روى عن صاحب
التمكين
|
|
النوويّ الشيخ
محيي الدين
|
وخط هذا أحمد
البادي الوجل
|
|
المقري المالكي
على خجل
|
__________________
في عام ألف
وثلاثين خلت
|
|
من هجرة الهادي
وسبعة تلت
|
ألبسه الله
البرود الضافيه
|
|
من منّه وعفوه
والعافيه
|
بجاه سيد
البرايا طرّا
|
|
ملجأ من إلى
الكروب اضطرا
|
عليه أسنى صلوات
تسدي
|
|
حسن الختام
ببلوغ القصد
|
وسأل مني بعض
ساكني دمشق المحروسة أن أقرظ له على شرحه لرسالة العارف بالله تعالى سيدي الشيخ
أرسلان ، فكتبت ما صورته : [بحر الرجز]
أحمد من خصص
بالأسرار
|
|
قدما من الصوفية
الأبرار
|
أتاحهم عوارف المعارف
|
|
والحكم السابغة
المطارف
|
فهم بهم تستمطر
الأنواء
|
|
وتظهر الأنوار
والأضواء
|
ومن أجلّهم سناء
وسنى
|
|
من ذاد عن عين
المعالي الوسنا
|
شيخ الشيوخ
العارف الكبير
|
|
الشيخ أرسلان
الشهير
|
فكم إشارات له
أبانا
|
|
بها علوما من
حلاها ازدانا
|
وكم عبارات تلا
آياتها
|
|
تعيا الفحول عن
مدى غاياتها
|
ومن رأى رسالة
التوحيد
|
|
له انتحى مناهج
التسديد
|
فهي تنادي من
أبي أن يسلكا
|
|
يا معرضا شرك
خفيّ كلّكا
|
ومن أضل القصد
في مهامه
|
|
هدته للخروج عن
أوهامه
|
وكم بها من باب
معنى مغلق
|
|
عمن يقيد الوجود
المطلق
|
فما بغير الفتح
يدرى الباطن
|
|
ووارد الفيض له
مواطن
|
وقد رأيت في
دمشق الشام
|
|
شرحا لها أنبأ
عن إلهام
|
للكلشنيّ ذي
الوفا بالوعد
|
|
شمس العلا محمد
بن سعد
|
لا زال في أوج
التجلي صاعدا
|
|
وعون ربنا له
مساعدا
|
ومذ أجلت ناظري
في حسنه
|
|
ألفيته مستبدعا
في فنه
|
__________________
ودلّ ما أبداه
من معاني
|
|
على شهور بالهدى
معانى
|
لأنه أجاد في
تقرير
|
|
ما اعتاص
بالإتقان والتحرير
|
وأبرز الأبكار
من خدور
|
|
أفكاره حالية
الصدور
|
فالله يجزيه
الجزاء الأوفى
|
|
في يوم تبدي
الأنبياء الخوفا
|
وخطّ هذا
المقريّ من وجل
|
|
مرتجيا من ربه
عز وجل
|
كشف كروب عقد
صبر حلت
|
|
منه وغفران ذنوب
جلت
|
بجاه طه الهاشمي
أحمدا
|
|
عليه أزكى صلوات
سرمدا
|
عاطرة النشر بلا
اكتتام
|
|
تأرجت بالمسك في
الختام
|
وخاطبني السري
الحسيب الماجد فخر المدرسين الأعيان مولانا الشمس محمد بن الكبير الشهير مولانا
يوسف بن كريم الدين الدمشقي حفظه الله تعالى بقوله : [بحر الكامل]
شمس المحاسن
شرّقي أو غرّبي
|
|
سعدت منازلنا
بشمس المغرب
|
شمس لنا منها
شموس فضائل
|
|
وسنا هدى قد راح
غير محجّب
|
المقريّ العالم
النّدب الذي
|
|
لسوى اسمه درج
الحجا لم يكتب
|
بدر ولم تبد
البدور بمشرق
|
|
إلا بدت من قبل
ذاك بمغرب
|
لسوى اكتساب
سناه لم تغرب ذكا
|
|
فلو انها شعرت
به لم تغرب
|
علّامة ملأ
البلاد بفضله
|
|
وأفاده لمشرّق
ومغرّب
|
عمري هو البحر
المحيط فضائلا
|
|
إن قيس بالعذب
الذي لم يعذب
|
مولى له سند
قويّ في العلا
|
|
فعن الجدود روى
العلا وعن الأب
|
نسب له المجد
المؤثّل في الورى
|
|
والمجد لم يكسب
إذا لم يوهب
|
هو في جبين
الفضل أضحى غرة
|
|
يجلى بها للجهل
ظلمة غيهب
|
آمالنا قطعت
ببشر جبينه
|
|
أن لا ترى للدهر
وجه مقطب
|
بدر به زهيت
دمشق وأهلها
|
|
أحبب ببدر حيث
حل محبّب
|
__________________
طود الفضائل
باكرت أرجاءه
|
|
ديم الحجا فغدا
كروض مخصب
|
بحر الهدى
والعلم إلا أنه
|
|
صفو من الأكدار
عذب المشرب
|
هو قطب دائرة
الفضائل في الورى
|
|
فيكاد يخبرنا
بكل مغيب
|
في الفضل ما
جاولت يوما مثله
|
|
كلّا ولا قست
البدور بكوكب
|
أنى يجارى في
الفضائل من له انق
|
|
اد الزمان بأدهم
وبأشهب
|
سنن لمدح الغير
تسقط عندنا
|
|
فله العلا تقضي
بفرض أوجب
|
ما روضة حلّى
أزاهرها الحيا
|
|
فافتر فيها كل
ثغر أشنب
|
ومشت بها خود
الصبا فتعطرت
|
|
أذيالها من كل
عرف طيب
|
للنور فيها جدول
أخذت به
|
|
شهب المجرة حيرة
المتعجب
|
باتت تناشدني
بها ذكر الهوى
|
|
ورق الأراك بكل
صوت مطرب
|
تشكو إليّ بمثل
ما أشكو لها
|
|
شكوى المعذّب في
الهوى لمعذب
|
فعلمت ما قد حل
من وجد بها
|
|
وجهلن ، وهو
الفرق ، ما قد حلّ بي
|
لم تلق فيها من
عليل يشتكي
|
|
إلا النسيم وذا
الهوى إن تطلب
|
بأغض حسنا من
ربا آداب من
|
|
حيّا رياض حجاه
ألطف صيب
|
طبع أرق من
النسيم ومنطق
|
|
مستعذب ، وكذاك
كل مهذب
|
لو جاد صوب حجاه
قفرا مجدبا
|
|
لنعمت منه بكل
روض معشب
|
مولاي عذرا
فالزمان يعوقني
|
|
عن مطلبي والآن
مدحك مطلبي
|
عفوا إذا أخّرت
مدحك سيدي
|
|
فعوائق الأيام
عذر المذنب
|
وكذاك يفعل
بالأديب زمانه
|
|
فلذا يطول على
الزمان تعتّبي
|
لم ألق يوما من
يديه مهربا
|
|
إلا ثناك ،
وحبذا من مهرب
|
لولاك ما جال
القريض بخاطري
|
|
فالدهر يوجب
للقريض تجنّبي
|
لولاك لم ينهض
جواد قريحتي
|
|
في كل واد
للضلالة متعب
|
__________________
فاسمع ، ولست
بآمر ، نظما غدا
|
|
في عقد مدحك
لؤلؤا لم يثقب
|
كالراح يلعب
بالعقول للطفه
|
|
لكن بغير مسامع
لم يشرب
|
من كل قافية غدت
من حسنها
|
|
مثلا لغيرك في
العلا لم يضرب
|
خود تقلّد من
ثناك قلائدا
|
|
بكر لغيرك في
الورى لم تخطب
|
غنيت بمدحك زينة
ولربما
|
|
يغني الجمال عن
الوشاح المذهب
|
هي بعض أوصاف
لذاتك قد غدت
|
|
كالبحر عذبا
ماؤه لم ينضب
|
جاءتك تسألك
القبول وحسبها
|
|
فخرا قبولك وهو
جلّ المطلب
|
وتروم منك إجازة
فاقت بما
|
|
ترويه بالسند
القوي عن النبي
|
حسبي الإجازة
منك جائزة ولم
|
|
أك قبل غير
الفضل بالمتطلب
|
لا بدع والإيجاز
إطنابا غدا
|
|
في مدحه إن لم
أطل أو أسهب
|
هيهات لا تحصى
مآثر فضله
|
|
بالمدح إن أطنب
وإن لم أطنب
|
خدمة الداعي محمد
بن يوسف الكريمي ، انتهى.
فأجزته بما [صورته
و] نصه : [بحر الرجز]
أحمد من أطلع
شمس الدين
|
|
في أفق الرواية
المبين
|
وخص فضلا منه
بالإسناد
|
|
أمّة طه مذهب
العناد
|
فلم يكن عصر من
الأعصار
|
|
إلا وفيه أهل
الاستبصار
|
ينفون عن حوزة
دين الله ما
|
|
يروم من عليه
رشد أبهما
|
وأنتحي سبل صلاة
كامله
|
|
على الذي له
العطايا الشامله
|
محمد المرسل
بالشرع الحسن
|
|
ذو المعجز
المفحم أرباب اللسن
|
مع حزبه من صحبه
وعترته
|
|
ومن تلا مؤمّلا
لأثرته
|
__________________
وبعد فالعلم أجل
ما اعتمد
|
|
موفق من فيض
مولاه استمد
|
خصوصا الحديث عن
خير الورى
|
|
صلى عليه الله
ما زند ورى
|
ولم يزل ذوو
النهى يسعون في
|
|
تحصيله إذ فضله
غير خفي
|
وإن مولانا
الشهير السامي
|
|
الماجد المولى
نبيه الشام
|
سالك نهج السنة
القويم
|
|
محمد بن يوسف
الكريمي
|
لا زال في عز
وفي أمان
|
|
مبلّغا من قصده
الأماني
|
وجّه لي لما
حللت الشاما
|
|
وبرق حسن الظن
مني شاما
|
قصيدة بليغة
مستعذبه
|
|
غريبة في فنها
مهذبه
|
يسأل من مثلي
بها الإجازة
|
|
بشرطها عند الذي
أجازه
|
مستمسكا بعروة
الصواب
|
|
ولم أجد بدّا من
الجواب
|
فليرو عني ما
سمعت كله
|
|
وما جمعت في
الفنون جمله
|
على شروط قررت
في الفن
|
|
مرتجيا حصول كل
منّ
|
وصنوه الأكمل قد
أبحته
|
|
ذاك على الوجه
الذي شرحته
|
وإن أكن فيما
ابتغي مقصرا
|
|
فذو الرضا ليس
لعيب مبصرا
|
ولي أسانيد أبى
وقتي عن
|
|
تفصيلها لما من
الرحلة عنّ
|
والعذر باد
والكريم يقبل
|
|
والصفح نهج
يقتفيه الأنبل
|
وخطّ هذا
المقريّ الجاني
|
|
أمنه الله من
الأشجان
|
في عام ألف
وثلاثين قفا
|
|
سبعا لهجرة
النبي المصطفى
|
عليه أزكى صلوات
تغتنم
|
|
يزكو بها مفتتح
ومختتم
|
وكتب إليّ الفاضل
الخطيب ، الفهامة الأديب ، وارث الفضل عن الأعلام ذوي اللّسن ، سيدي الشمس محمد
المحاسني سبط شيخ الإسلام مولانا البوريني حسن ، حفظه الله تعالى [بقوله] : [بحر المجتث]
__________________
يا سيدي وملاذي
|
|
وعالم الثقلين
|
ومن غدا بمكان
|
|
علا على
النّيّرين
|
أجزت بالدرس
قوما
|
|
فاقوا به
الفرقدين
|
فزيّن العبد
أيضا
|
|
من مثل ذاك بزين
|
وإن لم يكن في
ختام
|
|
فذاك قرّة عيني
|
فأجزته بما نصه : [بحر
الرجز]
أحمد من أطلع من
محاسن
|
|
دمشق ما أربى على
المحاسن
|
وزانها بالجلّة
الأعيان
|
|
الرافلين في حلى
التبيان
|
الراغبين في
الحديث النبوي
|
|
السالكين في
الهدى النهج السوي
|
وبعد فالعلم أجل
زينه
|
|
وسبله في الرشد
مستبينه
|
وإن علم السنة
الشريفه
|
|
ظلاله ضافية
وريفه
|
لذاك كان
باعتناء أجدرا
|
|
من كل ما يمليه
من تصدرا
|
وإن ذا الفضل
الأديب البارع
|
|
سابق ميدان
الذكا المسارع
|
الماجد المسدّد
السامي الحسب
|
|
محمد من للمحاسن
انتسب
|
ابن الشهير
الصدر تاج الدين
|
|
لا زال في عز
وفي تمكين
|
وجده لأمه الشيخ
الحسن
|
|
وذاك بورينيّهم
معطى اللسن
|
يسألني إجازة
بكل ما
|
|
أرويه عنوانا
بحالي معلما
|
وها أنا أجبته
غير بطل
|
|
مستغفرا من خطإ
ومن خطل
|
فليرو عني كل ما
يصح
|
|
على شروط غيثها
يسح
|
وهي عن الشروط
لن تريما
|
|
وليس يخفي علمه
الكريما
|
وكل ما ألفت أو
جمعت
|
|
نظما ونثرا مثل
ما أسمعت
|
ولي أسانيد يضيق
الوقت
|
|
عن سردها وبعضها
قد سقت
|
__________________
في غير هذا
فليحقّق ذلك
|
|
مقتفيا لأوضح
المسالك
|
وقد أخذت جامع
البخاري
|
|
ومسلم عن حائز
الفخار
|
عمي سعيد وهو
عمن يدعي
|
|
بالتّنسيّ قد
أفاد الجمعا
|
عن حافظ الغرب
الرضا أبيه
|
|
عن ابن مرزوق عن
النبيه
|
الحافظ المبجّل
العراقي
|
|
وقد سما في سلم
المراقي
|
وما له من
الروايات علم
|
|
من كتبه التي
حوت خير الكلم
|
وخطّ هذا
المقريّ عن عجل
|
|
مؤملا من ربه
عزّ وجلّ
|
غفران ما جنى من
الذنوب
|
|
والصفح عن معرّة
العيوب
|
بجاه خير
العالمين أحمدا
|
|
صلى عليه الله
دأبا سرمدا
|
وآله وصحبه
الأخيار
|
|
ومن تلا لآخر
الأعصار
|
ولما سألني في
الإجازة الفاضل الأديب سيدي محمد بن علي بن مولانا عالم الشام الشهير الذكر شيخ
الإسلام سيدي ومولاي الشيخ عمر القاري ـ حفظه الله تعالى! ـ وأنا مستوفز للسفر ؛ كتبت له عن عجل
ما صورته : [بحر الرجز]
أحمد من زين
بالآثار
|
|
جيدا من الراوي
النبيه القاري
|
وشاد للعلياء في
أوج السند
|
|
منازلا لم يبلها
طول الأمد
|
وميز الواعين
للحديث
|
|
بالفضل في
القديم والحديث
|
وزان منهم سماء
الدين
|
|
فأشرقت بالحفظ
والتبيين
|
فهم بها للمهتدي
نجوم
|
|
وإنها للمعتدي
رجوم
|
فكم أزاحوا عن
حديث المجتبى
|
|
صلى عليه الله
ما هبت صبا
|
تحريف ذي غل مضل
غالي
|
|
شان لمنهاج
الرشاد قالي
|
وبعد فالإسناد
للروايه
|
|
وسيلة تزحزح
الغوايه
|
__________________
والله قد خصص
هذي الأمه
|
|
به امتنانا
وأزاح الغمّه
|
هذا ولو لا ذاك
قال من شا
|
|
ما شاءه فهو بحق
منشا
|
فلم يزل أهل
النهى كل زمن
|
|
يسعون في تحصيله
عن مؤتمن
|
وإن من جملة من
تحرى
|
|
لجملة من العلوم
غرّا
|
الفاضل المسدد
النجيب
|
|
الواصل الممجد
الأريب
|
محمد سليل ذي
المجد على
|
|
ابن الإمام
العالم الحبر الولي
|
عمر الشيخ
الشهير القاري
|
|
طود السكون هضبة
الوقار
|
شيخ الشيوخ في
دمشق الشام
|
|
لا زال محفوفا
بعز سامي
|
فكان من جملة من
عنّي روى
|
|
بعض الصحيح
ظافرا بما نوى
|
وبعد ذاك اقترح
الإجازة
|
|
مني ووعدها
اقتضى إنجازه
|
فانعجمت نفسي عن
الإجابة
|
|
إذ لست في ذا
الأمر ذا نجابه
|
مع أنني مقصر ذو
عيّ
|
|
في مثل هذا
المطلب المرعي
|
وخفت أن آتيها
شنعاء
|
|
بحملي الوشي إلى
صنعاء
|
وبعد ذا أجبت
قصد الأجر
|
|
مرتجيا بذاك ربح
التّجر
|
وقد أجبته وإني
أعلم
|
|
أني من خوف
الخطا لا أسلم
|
فليروها ببالغ
التمني
|
|
جميع ما يصح لي
وعني
|
من ذلك الجامع
للبخاري
|
|
عن عمي الشهير
ذي الفخار
|
سعيد الآخذ عن
سفين
|
|
عن قلقشنديّ
مزيح المين
|
عن حافظ الإسلام
أعني ابن حجر
|
|
بما له من
الروايات اشتهر
|
وبعضها في صدر
فتح الباري
|
|
مبيّن لطالب
الأخبار
|
ولي أسانيد يطول
شرحها
|
|
والروضة الغناء
يكفي نفحها
|
__________________
ومن رواياتي عن
القصّار
|
|
مفتي البرايا
بهجة الأعصار
|
حدثنا خروف
الذاكي الأرج
|
|
عن الشريف
الطحطحائي فرج
|
سمعت في المنام
طه يملي
|
|
حديث من أصبح
وفق النقل
|
أي آمنا في سربه
معافى
|
|
في جسمه مع قوت
يوم وافى
|
وكل ما ألّفت في
الفنون
|
|
أرجو به التحقيق
للظنون
|
فليروه عني بشرط
معتبر
|
|
وربما يصدّق
الخبر الخبر
|
ولي تآليف على
العشرينا
|
|
زادت ثمانيا حوت
تعنينا
|
فليروها إن شا بلا
استثناء
|
|
والله أرجو نيل
قصد نائي
|
بجاه من شرف
بالإدناء
|
|
صلى عليه الله
في الآناء
|
أحمد خير
المرسلين الهادي
|
|
غوث البرايا
ملجأ الأشهاد
|
عليه أسنى صلوات
زاكيه
|
|
مع صحبه ذوي
المزايا الزاكيه
|
ومن تلا ممن
أطاب عمله
|
|
فنال من رجائه
ما أمّله
|
|
وشم من عرف قبول
أرجا
|
|
فنال من حسن
الختام ما رجا
|
وخاطبني من أهلها
أيضا خادم الشيخ الأكبر ابن عربي محيي الدين ، وهو الشيخ الأكرمي سيدي إبراهيم ، سلك الله بي وبه سبل المهتدين! بقوله : [بحر مجزوء
الكامل]
فكرت في فضل
الإما
|
|
م المقريّ الحبر
حينا
|
فوجدته بكر
الزما
|
|
ن وواحد الدنيا
يقينا
|
ما إن رأيت ولا
سمع
|
|
ت بمثله في
العالمينا
|
وافى دمشقا
زائرا
|
|
ألو انه أضحى
قطينا
|
وأتى عجيب
الاتفا
|
|
ق بفطر شهر
الصائمينا
|
فكأن غرّته
الهلا
|
|
ل ونحن كنا
ناذرينا
|
والعلم قال
مؤرخا
|
|
أدى بها فضلا
مبينا
|
__________________
وخاطبني أيضا منهم
الفقيه النبيه سيدي مصطفى بن محب الدين حفظه الله تعالى بقوله : [بحر الطويل]
فضائل قطب الغرب
في العلم والفضل
|
|
هو المقريّ
الأصل حائزة الخصل
|
حوى كل علم كلّ
عن بعضه السّوى
|
|
فلا غرو أن أضحى
فريدا بلا مثل
|
وحاز فنونا من
ضروب معارف
|
|
ومن فضل تحقيق
ومن منطق فصل
|
توخّى دمشق
الشام فافترّ ثغرها
|
|
سرورا به
وازيّنت من حلى الفضل
|
وشرف مصرا قبلها
فاكتست به
|
|
ملابس فخر زانها
كرم الأصل
|
لقد أشرقت من
أفق غرب شموسه
|
|
وناهيك أفقا
نوره قدره يعلي
|
نفاسته فيها
تنافست الورى
|
|
بما قد غدا من
در ألفاظه يملي
|
مليء من التحقيق
إن عنّ مشكل
|
|
تكفل بالتبيان
والشرح والحل
|
إذا ما أدار
الدر من كأس لفظه
|
|
سقانا عقار
الفضل علا على نهل
|
نظام له يحكي
قلائد عسجد
|
|
وثغر مليح فائق
الحسن والدل
|
وأسجاعه إن حاك
وشي نسيجها
|
|
حكت حبرا حيكت
نمارق من غزل
|
له القلم الأعلى
بشرق ومغرب
|
|
له الموضع
الأسمى على الكل في الكل
|
فيا سيدا حاز
المفاخر والعلا
|
|
وفاقت حلى
الآداب منه على الحلي
|
إليك من العبد
الحقير تحية
|
|
لقد نشأت عن
خالص الود من خل
|
موال يوالي الحب
والقرب منكم
|
|
بظاهر غيب لا
يحيد عن الوصل
|
فلا زلت محبوّا
بسابغ نعمة
|
|
وفضل نعيم وافر
وارف الظل
|
ودمت لدى
الأسفار في نجح أوبة
|
|
وجمع لشمل
بالمواطن والأهل
|
وخاطبني أيضا
الشيخ سيدي محمد بن سعد الكلشني بقوله : [بحر الخفيف]
__________________
شهر شعبان جاءنا
ليهني
|
|
بقدوم الأستاذ
كنز الفضائل
|
بهجة الكون روض
علم وحلم
|
|
وهو مغني اللبيب
إن جاء سائل
|
بمصابيح فضله قد
أضاءت
|
|
ساحة الجامع
الكبير لآمل
|
وبمختار لفظه
صار يحوي
|
|
لحديث مسلسل عن
أفاضل
|
ومن الغرب حين
وافى لشرق
|
|
فاق بدر التمام
وسط المنازل
|
حل مني في القلب
والطرف لما
|
|
لاح سعد السعود
لي غير آفل
|
وغدا بالأمان
والسعد أرخ
|
|
أحمد المقري في
الشام قائل
|
وقال أيضا شكرا
لله تعالى نيته ، وبلغه أمنيته : [بحر الطويل]
أتاك دمشق الشام
أكرم وارد
|
|
فقري به عينا
وللحسن شاهدي
|
وهزّي دلالا في
أزاهر روضه
|
|
معاطف لين
كالغصون الأمالد
|
لك البشر يا
عيني ظفرت بأمجد
|
|
رفيع الذرى من
فوق فرق الفراقد
|
لقد شاع بين
الناس واسع فضله
|
|
فكم قاصد يسعى
لنيل الفوائد
|
من العلم الفرد
المفيد الذي له
|
|
أياد سمت بالجود
تولى لقاصد
|
وذاك أبو العباس
أحمد من صفت
|
|
مناهله دوما إلى
كل وارد
|
تراه إذا وافيته
متهللا
|
|
ويبسم حبّا في
وجوه الأماجد
|
إمام سما قدرا
على النجم رفعة
|
|
أرى وصفه في بيت
نظم مشاهد
|
لديه ارتفاع
المشتري وسعوده
|
|
وسطوة بهرام
وظرف عطارد
|
شهدت بأن الله
أولاه منحة
|
|
بنقل حديث في
جميع المساجد
|
ومذ حلّ في وادي
دمشق ركابه
|
|
وسؤدده وافى
بأعدل شاهد
|
حوى كل إفضال
وكل فضيلة
|
|
بها يهتدى حقا
لنيل المقاصد
|
وما ذا عسى في
مدحه أنا قائل
|
|
ولو جئت فيه
مطنبا بالقصائد
|
إذا رمت أن تلقى
نظيرا لمثله
|
|
عجزت ورب الناس
عن عد واحد
|
__________________
فكم من معان
حازها ببيانه
|
|
وفكرته قد قيّدت
للشوارد
|
ومنطقه حاوي
الشفا بجواهر
|
|
صحاح بها يزدان
عقد القلائد
|
من الغرب وافى
نحو شرق فأشرقت
|
|
شموس علوم أسفرت
عن محامد
|
فناديته يا سيدي
من بفضله
|
|
تواترت الأخبار
عن غير واحد
|
عسى عطفة منكم
علي بنظرة
|
|
فأنت لموصول
الجدا خير عائد
|
وأنت على ريب
الزمان مساعدي
|
|
وأنت يميني
للحسود وساعدي
|
فلا زلت تولي كل
من هو آمل
|
|
لبغيته من صادر
ثم وارد
|
وتبقى مدى
الأيام في المجد رافلا
|
|
بثوب الهنا تكفى
شرور الحواسد
|
وهاك عروسا
تجتلي في حليّها
|
|
إليك أتت في زي
عذراء ناهد
|
تهني بعيد الفطر
من بعد صومكم
|
|
بخير جزيل من
لذيذ الموائد
|
وترجو جميل
الستر إن هي مثلت
|
|
بحضرتك العلياء
يا خير ماجد
|
وعش في أمان
الله بالعز دائما
|
|
مدى الدهر ما
سحّ الحيا في الفدافد
|
وما دارت
الأفلاك من نحو قطبها
|
|
وما بزغت شمس
الضحى للمشاهد
|
وقال أيضا زاده
الله تعالى من فضله : [بحر مخلع البسيط]
ظبي بوسط الفؤاد
قائل
|
|
أعجز بالوصف كل
قائل
|
ظبي بأجفانه
سباني
|
|
وسحرها ينتمي
لبابل
|
يرمي بسهم
اللحاظ لما
|
|
يرنو فيصمي
الفؤاد عاجل
|
قد فتن العقل مذ
تجنّى
|
|
عليّ حتى غدوت
ذاهل
|
له قوام كخوط
بان
|
|
أو كالقنا
السّمهري عادل
|
بدر بدا كامل
المعاني
|
|
في القلب والطرف
عاد نازل
|
قد أسر القلب في
هواه
|
|
بقيد حسن وفرع
سابل
|
وما بقي منه لي
خلاص
|
|
سوى مديحي رضا
الأفاضل
|
__________________
أعني به المقريّ
من قد
|
|
سما على البدر
في المنازل
|
أحمد مولى له
أياد
|
|
كالغيث يغني لكل
سائل
|
علامة حاز كل
فضل
|
|
سبقا ومن
بالعلوم عامل
|
من قد نشا في
العلوم طرّا
|
|
وحاز علم البيان
الكامل
|
طويل باع بسيط
فضل
|
|
مديد جود لكل
آمل
|
ووافر العقل راح
يهدي
|
|
سريع فضل لكل
فاضل
|
وجامع العلم في
ابتهاج
|
|
بمنطق في الأصول
حافل
|
وهكذا في الكلام
مهما
|
|
أفاده في الدروس
شامل
|
يروي صحيح
الحديث دأبا
|
|
بالسند الواصل
الدلائل
|
وكم علوم أفاد
من قد
|
|
أتاه في مشكل
المسائل
|
وحل إبهام كل
شكل
|
|
من فن وفق إلى الوسائل
|
وغاص في لجة
المعاني
|
|
واستخرج الدر في
المحافل
|
وفي فنون البديع
أضحى
|
|
جناسه قد حوى
رسائل
|
وكم دليل أقام
لما
|
|
برهانه أبهت
المعازل
|
إن كان وافى لنا
أخيرا
|
|
فهو الذي فاخر
الأوائل
|
بحر محيط يفيض
منه
|
|
على رياض بكل
ساحل
|
وافى من المغرب
نحو شرق
|
|
يجوب من فوق متن
بازل
|
في مهمه صحصح
مهول
|
|
وحزنه كم به
غوائل
|
وحثّ فيه المسير
حتى
|
|
خلفه من وراء
كاهل
|
وجاء باليمن في
أمان
|
|
وصحة الجسم
والشمائل
|
وحل في الشام
عند قوم
|
|
من أكرم الناس
في القبائل
|
ذاك ابن شاهين
ذو المعالي
|
|
رب الندى للألوف
باذل
|
__________________
كأنه الشمس جاء
يهدي
|
|
للبدر نورا وليس
آفل
|
بل كان غيثا لهم
وكانوا
|
|
روضا أريضا لشكر
وابل
|
فبجّلوه وعظموه
|
|
وادّخروا عاجلا
لآجل
|
جزاهم الله كل
خير
|
|
وصانهم من جدال
جاهل
|
وأحمد دام في
أمان
|
|
المقريّ الرضا
المعامل
|
لربه في دجى
الليالي
|
|
ويرشد الناس في
الأصائل
|
لا زال في نعمة
وخير
|
|
وفي أمان يعود
عاجل
|
وخاطبني الأديب
الفاضل ، الشيخ أبو بكر العمري شيخ الأدباء بدمشق ، حفظه الله تعالى بقوله : [بحر
الرجز]
تاهت تلمسان على
مدن الدنى
|
|
بعالم في
العالمين يحمد
|
المقري أحمد رب
الحجا
|
|
الكامل البحر
الخضم المزبد
|
مالك هذا العصر
شافعيه
|
|
أحمده نعمانه
المسدد
|
مذ حل مصر أذعنت
أعلامها
|
|
لفضله وبجّلوا
ومجدوا
|
وفي دمشق الشام
دام سعدها
|
|
كان له بها المقام
الأسعد
|
العلماء أجمعوا
جميعهم
|
|
على معاليه التي
لا تجحد
|
أقام شهرا أو
يزيد وانثنى
|
|
وفي الحشا منه
المقيم المقعد
|
سالت على فراقه
دموعنا
|
|
وفي القلوب زفرة
لا تخمد
|
لو قيل من يحمد
في تاريخه
|
|
ما قلت إلا
المقريّ أحمد
|
لا برحت أوقاته
مفيدة
|
|
ما صاح فوق عوده
مغرّد
|
قلت : وذكري لكلام
أعيان دمشق ـ حفظهم الله تعالى! ـ ومديحهم لي ، ليس علم الله لاعتقادي في نفسي
فضلا ، بل أتيت به دلالة على فضلهم الباهر ، حيث عاملوا مثلي من القاصرين بهذه
المعاملة ، وكسوه حلل تلك المجاملة ، مع كوني لست في الحقيقة له بأهل ، لما أنا
عليه من الخطأ والخطل والجهل.
__________________
ولقد خاطبت من مصر
مفتي الشام صدر الأكابر ، وارث المجد كابرا عن كابر ، ساحب أذيال الكمال ، صاحب
الخلال المبلغة الآمال ، مولانا شيخ الإسلام الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي ،
بكتاب لم يحضرني منه الآن غير بيتين في أوله ، وهما : [بحر السريع]
يا حادي الأظعان
نحو الشّآم
|
|
بلغ تحياتي لتلك
الفئام
|
وابدأ بمفتيها
العماديّ الرّضا
|
|
دام به شمل
الهنا في التئام
|
فأجابني بما نصه :
[السريع]
إلى أهالي مصر
أهدي السلام
|
|
مبتدئا بالمقريّ
الهمام
|
من ضاع نشر
العلم من عرفه
|
|
ولم يضع منه
الوفا للذّمام
|
أهدى تحف التحية ،
إلى حضرته العلية ، وذاته ذات الفضائل السنية الأحمدية ، التي من صحبها لم يزل
موصولا بطرائف الصّلات والعوائد ، الأوحدية الجامعة التي لها منها عليها شواهد : [بحر
السريع]
وليس لله
بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم
في واحد
|
فيا من جذب قلوب
أهل عصره إلى مصره ، وأعجز عن وصف فضله كلّ بليغ ولو وصل إلى النثرة بنثره ، أو إلى الشّعرى بشعره ، ومن زرع حبّ حبّه في القلوب فاستوى على سوقه ، وكاد كل
قلب يذوب بعد بعده من حر شوقه ، وظهرت شمس فضله من الجانب الغربي فبهرت بالشروق ،
وأصبح كل صب وهو إلى بهجتها مشوق ، زار الشام ثم ما سلّم حتى ودّع ، بعد أن فرع
بروضها أفنان الفنون فأبدع ، وأسهم لكل من أهلها نصيبا من وداده ، فكان أوفرهم
سهما هذا المحب الذي رفع بصحبته سمك عماده ، وعلق بمحبته شغاف فؤاده ، فإنه دنا من
قلبه فتدلّى ، وفاز من حبه بالسهم المعلّى ، أدام الله تعالى لك البقاء ، وأحسن
لنا بك الملتقى ، ومنّ علينا منك بنعمة قرب اللقاء ، آمين بمنه ويمنه ، هذا ، وقد
وصل من ذلك الجناب الوفي ، كتاب كريم هو اللطف الخفي ، بل هو من عزيز مصر القميص
اليوسفي ، جاء به البشير ذو
__________________
الفضل السني ،
الخل الأعز الأجل التاج المحاسني ، مشتملا على عقود الجواهر ، بل النجوم الزواهر ،
بل الآيات البواهر ، تكاد تقطر البلاغة من حواشيه ، ويشهد بالوصول إلى طرفها الأعلى لموشّيه ، فليت شعري بأي
لسان ، أثنى على فصوله الحسان ، العالية الشان ، الغالية الأثمان ، التي هي أنفس
من قلائد العقيان ، وأبدع من مقامات بديع الزمان ، فطفقت أرتع من معانيها في أمتع
رياض ، وأقطع بأنّ في منشئها اعتياضا لهذا العصر عن عياض : [بحر البسيط]
ليت الكواكب
تدنو لي فأنظمها
|
|
عقود مدح فلا
أرضى لها كلمي
|
ولا سيما فصل
التعزية والتسلية ، المشتمل على عقد التخلية بل عقود التحلية ، لتلميذكم الولد
إبراهيم ، فإنه كان له كرقية السليم ، بعد أن كاد يهيم ، فجاء ولله دره في أحسن
المحال ، ووقع الموقع حتى كأن الولد نشط ببركته من عقال : [بحر الرمل]
وإذا الشيء أتى
في وقته
|
|
زاد في العين
جمالا لجمال
|
فجزاكم الله تعالى
عنا أحسن الجزاء ، ثم أحسن لكم جميل العزاء ، فيمن ذكرتم من كريمتي الأصل والفرع ،
وأبقى منكم ماكنا في الأرض من به للناس أعم النفع ، وأما من كان وليي وسميي ومنجدي
، الشهيد السعيد المرحوم الشيخ عبد الرحمن المرشدي ، فإنها وإن أصابت منا ومنكم
الأخوين ، فقد عمّت الحرمين ، بل طمت الثقلين ، ولقد عدّ مصابه في الإسلام ثلمة ،
وفقد به في حرم الله تعالى من كان يدعى للملمة ، ولم يبق بعده إلا من يدعى إذا
يحاس الحيس ، واستحق أن ينشد في حقه وإن لم يقس به قيس : [بحر الطويل]
وما كان قيس
هلكه هلك واحد
|
|
ولكنه بنيان قوم
تهدما
|
فالله تعالى يرفع
درجاته في علّيين ، ويبقى وجودكم للإسلام والمسلمين ، وتلامذتكم الأولاد ، يرجون
من بركات أدعيتكم أعظم الأمداد ، ويهدون أكمل التحية ، إلى حضرتكم العلية ،
ونبلغكم دعاء صاحب السعادة ، أدام الله تعالى إسعادكم وإسعاده ، ونحن من صحبته
__________________
الشهية ، في رياض
فنون أدبية ، أبهاها لمعات محاضرة في ذكر شمائلكم الجميلة ، تنور المجالس ،
وأشهاها نسمات محاورة بنشر فضائلكم الجليلة ، تعطر المجالس ، وسلام جملة الأصحاب
من أهل الشام ، وعامة الخواص والعام ، والدعاء على الدوام ـ المخلص الداعي عبد
الرحمن العمادي مفتي الحنفية ، بدمشق المحمية.
ووردت عليّ مع
المكتوب المذكور مكاتبات لجماعة من أعيان الشام حفظهم الله تعالى ؛ فمنها من
الصديق الحميم ، الرافل في حلل المجد الصميم ، الخطيب ، الأديب ، سيدي الشيخ
المحاسني يحيى ، أسمى الله تعالى قدره في الدين والدنيا ، كتابان نص أولهما :
باسمه سبحانه : [بحر الطويل]
لئن حكمت أيدي
النّوى أو تعرّضت
|
|
عوارض بين بيننا
وتفرّق
|
فطرفي إلى
رؤياكم متشوّف
|
|
وقلبي إلى
لقياكم متشوّق
|
يقبل الأرض
الشريفة لا زالت مركزا لدائرة التهاني ، وقطبا لفلك تجري المجرة في حجرته على
الدقائق والثواني ، ولا برحت ألسن البلاغة عن تمييز براعة يراعة حامي حماها معربة ، وبلابل الآداب على الأغصان في رياض
فضله بمثاني الثناء صادحة وبألحان سجعها مطربة : [بحر الكامل]
أرض بها فلك
المعالي دائر
|
|
والشمس تشرق
والبدور تحوم
|
ولها من الزهر
المنضّد أنجم
|
|
ولها على أفق
السماء نجوم
|
عمر الله تعالى
بالمسرات محلها ، وعم بالخيرات من حلّها ، ويبتدئ بسلام يخبر عن صحيح وده السالم ،
ومزيد غرام يؤكد حبه الذي هو للولاء حازم ، وينعت شوقا يحرك ما سكن صميم الضمير ،
من صدق حب سلم جمعه من التكسير ، ويؤكد السلام بتوابع المدح والثناء ، ويعرب عن
محبة مشيدة البناء ، وينهي أن السبب في تسطيرها ، والباعث على تحريرها ، أشواق أضرم
نارها في الفؤاد ، ومحبة لو تجسمت لملأت البلاد ، وأقول : [بحر البسيط]
شوقي لذاتك شوق
لا أزال أرى
|
|
أجدّه يا إمام
العصر أقدمه
|
ولي فم كاد ذكر
الشوق يحرقه
|
|
لو كان من قال
نار أحرقت فمه
|
هذا وإن تفضل
المولى بالسؤال عن حال هذا العبد فهو باق على ما تشهد به الذات
__________________
[اللطيفة] العلية ، من صدق المحبة ورقّ العبودية ، ولم يزل يزين أفق المجالس
بذكركم ، ولا يقتطف عند المحاضرة إلا من زهركم ، ولم ينس حلاوة العيش في تلك
الأوقات التي مضت في خدمتكم المحروسة بعناية [الملك] المتعال ، وليالي الأنس التي
قيل فيها ، وكانت بالعراق لنا ليال : [بحر البسيط]
واها لما من
ليال هل تعود كما
|
|
كانت ، وأيّ
ليال عاد ماضيها؟
|
لم أنسها مذ نأت
عني ببهجتها
|
|
وأي أنس من
الأيام ينسيها؟
|
فنسأل الله تعالى
أن يمنّ بالتلاق ، ويفصل مانعة الجمع بطيّ شقة الفراق ، إن ذلك على الله يسير ، وهو على جمعهم
إذا يشاء قدير ، وبعد ، فالمعروض على مسامع سيدي الكريمة ، لا زالت من كل سوء
سليمة ، أنه وصلنا مكتوبكم الكريم ، صحبة العم المحب القديم ، فحصل لهذا العبد به جبر
عظيم ، وأنس جسيم ، كما شهد بذلك السميع العليم ، فعزمت على ترك الإجابة ، لعدم
الإجادة ، ومتى تبلغ الألفاظ المذمومة ما بلغته الألفاظ المقريّة؟ وأين يصل صاحب
الزّمر كما قيل إلى الدقات الخليلية؟ ولكنني خشيت من ترك الإجابة توهم نقض ما
أبنيه من رق العبودية وصحة الوداد ، ومن انقطاع برق شيخي الذي هو لبيت شرفي العمدة
والعماد ، فلزم من ذلك أن كتبت لجنابه الشريف الجواب ، وإن كان خطؤه أكثر من
الصواب ، وأرسلته قبل ذلك بعشرة أيام ، ومكتوب هذا العبد صحبته مكتوبان : أحدهما
من محبكم شيخ الإسلام المفتي العمادي ، والآخر من محبكم أحمد أفندي الشاهيني ،
وهما وبقية أكابر البلدة وأعيانها يبلغونكم السلام التام ، ولا تؤاخذونا في هذا
المكتوب فإني كتبته عجلا ، ومن جنابكم خجلا ، دام خيركم على الدوام ، إلى قيام
الساعة وساعة القيام ، وحرره يوم الاثنين ١١ من جمادى الثانية سنة ١٠٣٨ ، الفقير
الداعي يحيى المحاسني ، انتهى.
ونص الكتاب الثاني
من المذكور أسماه الله باسمه سبحانه : مخلصك الذي محض لك وداده ، ومحبك الذي أسلم لمحبتك قياده ، بل عبدك الذي
لا يروم الخروج عن رقّك ،
__________________
وتلميذك الذي لم
يزل مغترفا من فيض علومك معترفا بحقك ، من أسكنك لبه ، وأخلص لك حبه ، وأتخذك من
بين الأنام ذخرا نافعا ، وكهفا مانعا ، ومولى رفيعا ، وشهابا ساطعا ، وتشبّث
بأسباب علومك وتمسك ، يهدي إليك سلاما كأنما تعطر بمسك ثنائك وتمسك ، واكتسب
من لطف طبعك الرقة ، واستعار من سنا وجهك حلة مستحقة ، وتحية لم يكن مناه إلا أن تكون
بالمواجهة ، والمحاضرة والمشافهة ، على أن فؤاده لم يبرح لك سكنا ، وأحشاءه لك
موطنا ، ويبدي دعوات يحقق الفضل أنها من القضايا المنتجة ، وأن أبواب القبول لها غير مرتجة ، مقبلا أياديك التي وكفت بوابل جودها ، وكفت المهمّ بنتائج سعودها ، وحاكت الوشي المرقوم ، وسلكت
الدّرّ المنظوم ، فهذا يرفل في حللها ، وهذا يتحلى بعقودها : [بحر الكامل]
فهي التي تعنو
لرقمها
|
|
ويغار منها
الدرّ في تنضيدها
|
ويحار أرباب
البيان لنظمها
|
|
فهم بحضرتها
كبعض عبيدها
|
متمسكا من ولائك
بوثيق العرا ، متمسكا من ثنائك الذي لا يزال الكون منه معنبرا ، متشوقا للقائك
الذي بالمهج يستام وبالنفوس يشتري ، متشوقا إلى ما يرد من أنبائك التي تسرّ خبرا ،
وتحمد أثرا ، أعني بذلك المولى الذي أقام بفناء الفسطاط مخيما ، وانتجع حماه رائد
الفضل ميمما ، وشدّت لفضائله الرّحال ، ووقفت عندها بل دونها فحول الرجال ، وطلعت
شموس علومه في سماء القاهرة ، فاختفت نجوم فضلائها والأشعة باهرة : [بحر الطويل]
هو الشمس علما
والجميع كواكب
|
|
إذا ظهرت لم يبد
منهن كوكب
|
فهو العالم الذي
سرى ذكره في الآفاق ، مسير الصّبا جاذب ذيلها النسيم الخفاق ، الذي أطلع شمس
التحقيق من أفق بيانه ، وأظهر بدر التدقيق من تبيانه ، فلهذا عقدت عليه الخناصر
بين علماء عصره ، وانقطعت إليه الأواصر من فضلاء مصره ، فلا يضاهيه في ذلك أحد في
__________________
زمانه ، وينسق ما
نسقه من دره ومرجانه ، فهو المعوّل عليه في مشكلات العلوم ، معقولها ومنقولها
والمنطوق والمفهوم ، الذي لم تسمح بمثله الأزمان والعصور ، ولم يأت بنظيره تتابع
الأعصار والدهور ، من عجز لسان القلم ، عن التصريح باسمه الشريف في هذا الرقم ، لا
زالت المدارس مشرقة بإلقائه فيها الدروس ، ولا برحت البقع عامرة بوجوده بعد
الدّروس ، ما سطّرت آيات الأشواق في الصحائف والطروس ، وأرسلت من تلميذ إلى أستاذ بسبب نسبته إليه فحصل على
المطلوب من شرف النفوس ، هذا ، والذي يبدي لحضرتكم ، وينهي لطلعتكم ، أن الراقم
لهذه الصحيفة ، المشرفة ببعض أوصافكم اللطيفة ، المرسلة لساحة فضائلكم المنيفة ، هو تلميذكم من تشرف بدرسكم ، وافتخر بإجازتكم ، يبدي لكم
تلهفه لنيران أشواقه التي التهبت ، وتأسفه على الأيام السالفة مذهبة في خدمتكم لا
ذهبت ، وتوجّعه لهذه الأزمان التي استرجعت بالبعد عنه من ذمّته ما وهبت ، وتطلعه
إلى ما يشنّف به الأسماع من فضائله التي سلبت العقول وانتهبت ، فلم يزل يسأل
الرواة عنها ، ليلتقط منها ، وقد تحقق أن فرائدها لا يلفي لها نظيرا ولا يدرك لها كنها
، وكيف لا ومنها يتعلم الفاضل اللبيب ، وإليها يفتقر السعيد ويتودد حبيب ، وعليها يعتمد ابن
العميد ، ولم تنفك راقية في درج المزيد ، وعبد الحميد عبد الحميد ، وعلم شيخي محيط
بصدق محبتي وإخلاصها ، وشدة حرصي على تحصيل فوائد مولانا واقتناصها ، وأنني لا
أزال ذاكرا لمحاسنه التي ليست في غيره مجموعة ، ومتطفلا على ثمار أفكاره التي هي
لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وخاطره الشريف على الحقيقة يشهد بذلك ، فلا يحتاج هذا
العبد إلى بينة لدى مولانا الأستاذ المالك ، وحقيق على من فارق تلك الأخلاق الغرّ
، والشمائل الزّهر ، والعشرة المعشوقة ، والسجايا الموموقة ، والفضائل الموفورة ،
والمآثر المشهورة ، أن يشق جيب الصبر ، ويجعل النار حشو الصدر : [بحر الطويل]
وإني لتعروني
لذكراك هزّة
|
|
كما انتفض
العصفور بلله القطر
|
ولو ملكت مرادي ،
لما اخضرّ إلا في ذراه مرادي ، بل لو دار الفلك على اختياري ،
__________________
لما نضوت إلا عنده
ليلي ونهاري : [بحر الوافر]
ولو نعطى الخيار
لما افترقنا
|
|
ولكن لا خيار مع
الزّمان
|
[بحر الطويل]
وتحت ضلوعي لوعة
لو كتمتها
|
|
لخفت على
الأحشاء أن تتضرّما
|
ولو بحت في كتبي
بما في جوانحي
|
|
لأنطقتها نارا
وأبكيتها دما
|
وأنا لا أقترح على
الدهر إلا لقياه ، ولا أقطع حاضر الوقت إلا بذكراه ، وما أعد أيامي التي سعدت فيها
بلقائه إلا مفاتح السرور ، ومطالع السعود والحبور ، ولست أعيبها إلا بقلة البقاء ،
وسرعة الانقضاء ، وكذلك عمر السرور قصير ، والدهر بتفريق الأحبة بصير ، وربما نضر
العود بعد الذبول ، وطلع النجم بعد الأفول ، وأديل الوصال من الفراق ، وعاد العيش
المرّ حلو المذاق : [بحر الطويل]
وما أنا من أن
يجمع الله شملنا
|
|
كأحسن ما كنّا
عليه بآيس
|
فأما الآن فلا
أزجّي الوقت إلا بقلب شديد الاضطراب ، وجوانح لا تفيق من التوقد والالتهاب ، وكيف
لا وحالي حال من ودّع صفو الحياة يوم وداعه ، وانقطع عنه الأنس ساعة انقطاعه ،
وطوى الشوق جوانحه على غليل ، وحل أضلاعه على كمد دخيل ، وأغرى بي فلزمني ولزمته ،
وألف بيني وبين الوجد فألفني وألفته ، فلا أسلك للعزاء طريقا إلا وجدته مسدودا ، ولا
أقصد للصبر بابا إلا ألفيته مردودا ، ولا أعد اليوم بعد فراق سيدي إلا شهرا ،
والشهر دون لقائه إلا دهرا ، ولست بناس أيامنا التي هي تاريخ زماني ، وعنوان
الأماني ، إذ ماء الاجتماع عذب ، وغصن الازدياد رطب ، وأعين الحواسد راقدة ، وأسواق صروف الدهر كاسدة ، فما
كانت إلا لمحة الطّرف ، ووثبة الطّرف ، ولمعة البرق الخاطف ، وزورة الخيال الطائف
، وما تذكّر تلك الأيام في أكناف فضائله ونضرتها ، ورياض علومه في ظله وخضرتها ،
إلا أوجب على عينه أن تدمع ، وانثنى على كبده خشية أن تصدّع ، ثم لما ورد على عبدكم مكتوبكم الكريم ، صحبة حضرة العم
المحب القديم ، فكان كالعافية للصب السقيم ، كما يشهد بذلك السميع العليم ، فوقف
له منتصبا ، وخفف عنه برؤيته وصبا وذكر أيام الجمع فهام
__________________
وجدا بها وصبا ، فاستخفه الإعجاب طربا ، وشاهد صدوره فقال : هكذا تكون
الرياش ، وعاين لطفه فقال : هكذا تكون الصبا ، وقبّل كل حرف منه ووضعه على الراس ،
وحصل له بعد ترقبه غاية المجاورة والاستئناس ، فعند ذلك أنشد قول بعض الناس : [بحر الكامل]
ورد الكتاب فكان
عند وروده
|
|
عيدا ، ولكن
هيّج الأشواقا
|
ألفاته قد عانقت
صاداته
|
|
كعناق مشتاق
يخاف فراقا
|
فكأنما النونات
فيه أهلة
|
|
وكأنما صاداته
أحداقا
|
فعسى الإله كما
قضى بفراقنا
|
|
يقضي لنا يوما
بأن نتلاقى
|
فجعلته نصب عيني
أتسلى به عند استيلاء الشوق على قلبي ، وأطفىء بتأمّله نيران وجدي إذا التهبت في
صدري ، وسررت به سرور من وجد ضالة عمره ، وأدرك جميع أمانيه من دهره ، وأنست
بتصحفه أنس الرياض بانهلال القطر ، والساري بطلوع البدر ، والمسافر بتعريسة الفجر ، وكيف لا وقد أصبح في وجه الأماني خدّا ، بل في
خدّها وردا ، وصار حسنة من حسنات دهري ، لا يمحو مرور الأيام موضعها من صدري ،
وطلعت طوالع السرور وكانت آفلة ، واهتزت غصون الفرح وكانت ذابلة ، لا سيما لا تضمن
من البشارة السارة بصحة المولى وسلامته ، وحلوله في منازل عزه وكرامته ، وموعده
الكريم بعوده إلى دمشق الشام ، كساها ثوب الفخام مرة ثانية ، ويتم افتخارها على غيرها فلا تزال مفاخرة
مباهية ، نسأل الله تعالى أن يحقق ذلك ، وأن يسلك بسيدي أحسن المسالك ، إنه سبحانه
وتعالى سامع الأصوات ، ومجيب الدعوات ، فإن عودكم يا سيدي والله مرة أخرى هو
الحياة الشهية ، والأمنية التي ترتجي النفس بلوغها قبل المنية ، وما أنا من الله
بآيس من أن يتيح سببا ، يعيد المزار مقتربا ، والشمل مجتمعا ، وحبل البين منقطعا ،
ثم ليعرض على مسامع سيدي الكريمة ، لا زالت من كل سوء سليمة ، أنا أوصلنا مكاتيبكم
كما أمرتم لأربابها ، لا سيما مكتوب شيخ الإسلام سيدي عبد الرحمن أفندي المفتي
بالشام ، ومكتوب المولى الأعظم ، والهمام الأفخم ، أحمد أفندي الشاهيني ، أعزه
الله تعالى! فإنه وقع عنده الموقع العظيم ، وحصل له به السرور المقيم ، كما يدل
على ذلك جوابه الكريم ، المحفوف بالتعظيم والتكريم ، غير أنه قد ساءنا ما اتصل
بمولانا من نفوذ قضاء الله تعالى الذي
__________________
يعم ، في البنت
والأم ، فجعل الله تعالى في عمر سيدي البركة! وكان له في السكون والحركة! وما ذا
عسى أن يذكر لجنابكم في أمر التعزية ويقرر ، ومنكم يستفاد مثله وعنكم يحرّر ، والأستاذ أدرى بصروف الدهر وتفننها ، وأحوال الزمان
وتلوّنها ، وأعرف بأن الدنيا دار لها بسكانها مدار ، وأن الحياة ثوب مستعار ،
ونعيم الدنيا وبؤسها ما لواحد منهما فيها قرار ، وأن لكل طالع أفولا ، ولكل ناضر
ذبولا ، ووراء كل ضياء ظلاما ، ولكل عروة من عرا الدنيا انفصاما ، فهو محلّ لأن
يقوي في العزاء عزائمه ، ويصغر في عينه نوائب الدهر وعظائمه ، ويغنيه عن عظة تجد
له مقالا ، وتحلّ عن عقله عقالا ، وهو يتلقى المصائب ، بفكر ثاقب ، وفهم صائب ،
وصبر يقصر عنه الطّود الأشم ، وعزم ينفلق دونه الصخر الأصم ، وحلم يرجح إذا طاشت
الأحلام ، وقدم تثبت إذا زلّت الأقدام ، ومدّ المقال في ضرب الأمثال ، إلى جنابكم
الشريف نوع من تجاوز حدّ الإجلال ، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل هذه المصيبة
خاتمة ، ولا يريه بعدها إلا دولة ونعمة دائمة ، وأن يحرسه من غير الليل والنهار ، ويجعله وارث الأعمار بجاه نبينا محمد المختار ، صلى الله
عليه وسلم على آله وصحبه الأطهار ، بمنه وكرمه. ثم أبلغ سيدي ـ أطال الله عمره ،
وشرح صدره ، ونشر بالخير ذكره! ـ السلام التام ، المقرون بألف تحية وإكرام ، من
أهل البلدة جميعا ، لا سيما من مفتيها العمادي ، حرس الله ذاته التي هي منهل
للصادي والغادي ، وأولاده الكرام ، المستحقين للإعزاز والإكرام ، ومن كبيرها ،
ومدبّرها ومشيرها ، أحمد أفندي الشاهيني ، أعزه الله تعالى بعزه ، وجعله تحت كنفه
وحرزه! ومن خطيبها مولانا الشيخ أحمد البهنسي ، ونقيب أشرافها مولانا السيد كمال
الدين ، وجميع المحبين الداعين لذلكم الجناب ، والمتمسكين بتراب تلكم الأعتاب ،
ومن الوالد والعم ، والله يا سيدي إنه ناشر لواء الثناء والمحامد ، وداع لذلك
الجناب الكاسب للمفاخر والمحامل ، وحضرة شيخنا شيخ الإسلام ، وبركة الشام ، مولانا
وسيدنا الشيخ عمر القاري ، أبقى الله تعالى وجوده! وضاعف علينا إحسانه وجوده!
وأولاده يسلمون عليكم السلام الوافر ، وينهون لكم الشوق المتكاثر ، وحرّر في ٢
جمادى الثانية سنة ١٠٣٨ ، المحب الداعي يحيى المحاسني ، انتهى.
وكتب إليّ عمّه
الفاضل الأسمى ما صورته : باسمه سبحانه وتعالى : [بحر الطويل]
وإني لمشتاق إلى
وجهك الذي
|
|
تهلّله أهدى
السناء إلى البدر
|
__________________
وأخلاقك الغر
اللواتي كأنها
|
|
تساقط أنداء
الغمام على الزّهر
|
سيدي الذي عبوديتي
إليه مصروفة ، ودواعي محبتي لديه موفورة وعليه موقوفة ، علم الله سبحانه أنني لا
أزجّي أوقاتي إلا بذكراه ، ولا أرجّي اليمن من ساعاتي إلا باستنشاق نسيم ريّاه ،
وأنني إلى طلعته أشوق من الصادي إلى ماء صداء ، ومن كثير عزة إلى نوء تيماء. [بحر الوافر]
يرنّحني إليك
الشوق حتّى
|
|
أميل من اليمين
إلى الشمال
|
ويأخذني لذكراك
اهتزاز
|
|
كما نشط الأسير
من العقال
|
ولي على صدق هذه
الدعوى من نباهة لبه شاهد معدّل ، ومن نزاهة قلبه مزكّ غير ملوم ولا معذل ، كيف لا
ومطالع البيان مشرقها من أفلاك فهومه ، وجواهر التبيان مقذفها من بحار علومه ، وهو
بحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار ، وجبل الحلم الذي رسخ بالهيبة والوقار : [بحر
الطويل]
لو اقتسمت
أخلاقه الغر لم تجد
|
|
معيبا ولا خلقا
من الناس عائبا
|
وما ذا عسى أصف به
مولانا وقد عجز عن وصفه لسان كل واصف ، وحار في بث فضائله أرباب المعارف والعوارف
: [بحر المجتث]
فلو نظمت
الثريّا
|
|
والشّعريين
قريضا
|
وكاهل الأرض
ضربا
|
|
وشعب رضوى عروضا
|
وصفت للدرّ ضدّا
|
|
وللهواء نقيضا
|
ولكنني أقول :
الثناء منجح أنى سلك ، والسخيّ جوده بما ملك ، وإن لم يكن خمر فخل ، وإن لم يصبها وابل فطل ، هذا ، وقد أوصلنا مكاتيبكم الشريفة لأربابها ، فكانت
لديهم أكرم قادم ، وأشرف منادم ، وقد تداولها الأفاضل وشهدوا أنها من بنات الأفكار
، التي لم يكشف عنها لغير سيدي حجب الأستار ، وقد وجدنا كلا منهم ملتهبا بجمرات
الشوق ، متجاوزا حدّ الصبابة والتّوق ، ليس لهم شغل إلا ذكر أوصافكم الحميدة ،
وبثّ ما أبديتموه بدروسكم المفيدة ، وما منهم إلا ويرجو بلّ الصدى ونقع الظمأ
برؤية ذلك المحيا ، والتملّي
__________________
بتلك الطلعة
العليا ، وإن سأل سيدي عن أخبار دمشق المحروسة ، دامت ربوعها المأنوسة ، فهي ولله
الحمد منتظمة الأحوال ، أمنها الله من الشرور والأهوال ، ولم يتجدد من الأخبار ما
نعلم به ذلكم الجناب ، لا زال ملحوظا بعين عناية رب الأرباب ، وأنا أسأل الله
تعالى أن يصون جوهر تلك الذات من عوارض الحدثان ، وأن يحمي تلك الحضرة العلية من
طوارق حكم الدوران. [بحر البسيط]
آمين آمين لا
أرضى بواحدة
|
|
حتى أضيف إليها
ألف آمينا
|
وهذا دعاء للبرية
شامل ـ العبد الداعي ، بجميع البواعث والدواعي ، تاج الدين المحاسني ، عفا الله
تعالى عنه! انتهى.
وبالهامش ما صورته
: وكاتب الأحرف العبد الداعي محمد المحاسني يقبل يدكم الشريفة ، ويخصكم بالسلام
الوافر ، ويبث لديكم الشوق المتكاثر ، غير أنه قد نازعته نفسه في ترك المعاتبة ،
لسيده الذي لم يسعد عبده منه بالمكاتبة ، على أنها مكاتبة تحكم عقد العبودية ، ولا
تخرج رقبته من طوق الرقّيّة ، والمطلوب أن يخصه سيده وشيخه بدعواته المستطابة ،
التي لا شك أنها مستجابة ، كما هو في سائر أوقاته ، وحسبان ساعاته ، ودمتم ، وحرر
في رابع جمادى الثانية سنة ١٠٣٨ ، انتهى.
وكتب سيدي التاج
المذكور لي ضمن رسالة من بعض الأصحاب ما صورته : [بحرالمجتث]
يا فاضل العصر
يا من
|
|
للشّرق والغرب
شرّف
|
يا أحمد الناس
طرّا
|
|
في كل ما يتصرف
|
يهدي إليك محبّ
|
|
دموعه تتذرف
|
شوقا وودّا
قديما
|
|
منكّرا يتعرف
|
ولنختم مخاطبات
أهل دمشق لي بما كتبه لي أوحد الموالي الكرام ، السري ، عين الأعيان ، صدر أرباب البلاغة والبيان ، مولانا
أحمد الشاهيني السابق الذكر في هذا التأليف مرات ، ضاعف الله تعالى لديه أنواع
المبرات والمسرات ، آمين ، ليكون مسكا للختام ، إذ محاسنه ليس بها خفاء ولا لها
اكتتام ، ونص محل الحاجة منه هو الفياض : [بحر السريع]
__________________
يا سيدا أحرز
خصل العلا
|
|
بالبأس والرأي
الشديد السديد
|
ومن على أهل
النّهى قد علا
|
|
بطبعه السامي
المجيد المجيد
|
ومن يزين الدهر
منه حلى
|
|
قول نظيم
كالفريد النضيد
|
ومن صدا فكري
منه جلا
|
|
نظم له القلب
عميد حميد
|
ومن له من يوم
قالوا «بلى»
|
|
في مهجتي حبّ
جديد مزيد
|
ومن غدا بين
جميع الملا
|
|
بالعلم والحلم
الوحيد الفريد
|
أفديك بالنفس مع
الأهل لا
|
|
بالمال ، والمال
عتيد عديد
|
أقسم بالله الذي
علت كلمته ، وعمت رحمته ، وسحرت القلوب والعقول رأفته ومحبته وجعل الأرواح جنودا
مجنّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ، أنني أشوق إلى تقبيل أقدام
شيخي من الظمآن للماء ، ومن الساري لطلعة ذكاء ، وليس تقبيل الأقدام ، مما يدفع عن المشوق الأوام ، وقد
كانت الحال هذه وليس بيني وبينه حاجز إلا الجدار ، إذ كان حفظه الله تعالى جار
الدار ، فكيف الآن بالغرام ، وهو حفظه الله تعالى بمصر وأنا بالشام ، وليس غيبة
مولانا الأستاذ عنا ، إلا غيبة العافية عن الجسم المضني ، بل غيبة الروح ، عن
الجسد البالي المطروح ، ولا العيشة بعد فراقه ، وهجر أحبابه ورفاقه ، إلا ـ كما
قال بديع الزمان ـ عيشة الحوت في البر ، والثلج في الحر ، وليس الشوق إليه بشوق ،
وإنما هو العظم الكسير ، والنزع العسير ، والسم يسري ويسير ، وليس الصبر عنه بصبر
، وإنما هو الصاب والمصاب ، والكبد في يد القصاب ، والنفس رهينة الأوصاب ، والحين الحائن وأين يصاب ، ولا أعرف كيف أصف شرف الوقت
الذي ورد فيه كتاب شيخي بخطه ، مزينا بضبطه ، بلى ، قد كان شرف عطارد ، حتى اجتمع
من أنواع البلاغة عندي كل شارد ، وأما خطه فكما قال الصاحب ابن عباد : أهذا خط
قابوس ، أم جناح الطاووس؟ أو كما قال أبو الطيب : [بحر الكامل]
من خطه في كل
قلب شهوة
|
|
حتى كأن مداده
الأهواء
|
__________________
وأنا أقول ما هو
أبدع وأبرع ، وفي هذا الباب أنفع وأجمع : بل هو خط الأمان من الزمان ، والبراءة من
طوارق الحدثان ، والحرز الحريز ، والكلام الحر الإبريز ، والجوهر النفيس العزيز ،
وأما الكتاب نفسه فقد حسدني عليه إخواني ، واستبشر به أهلي وخلّاني ، وكان تقبيلي
لأماليه ، أكثر من نظري فيه ، شوقا إلى تقبيل يد وشّته وحشته ، واعتيادا للثم أنامل جسته ومسّته ، وأما اليراعة ، فلا
شك أنها ينبوع البراعة ، حتى جرى من سحر البلاغة منها ما جرى. [بحر المتقارب]
فجاء الكتاب
كسحر العيون
|
|
بما راح يسبي
عقول الورى
|
وينادي بإحراز خصل
السبق من الثريا إلى الثرى ، ولم أر كتابا قبل تكون محاسنه متداخلة مترادفة ،
ولطائفه وبدائعه متضاعفة متراصفة ، وذلك لأنه سرد من غرر درره الأحاسن ، وورد على
يد رأس أحبابنا تاج بني محاسن : [بحر الطويل]
أولئك قوم
أحرزوا الحسن كله
|
|
فما منهم إلا
فتى فاق في الحسن
|
وكما قلت فيهم
أيضا : [بحر مجزوء الكامل]
فبنو المحاسن
بيننا
|
|
كبنى المنجّم في
النجابه
|
فهم القرابة إن
عد
|
|
مت من الأنام
هوى القرابه
|
فيهم محاسن جمّة
|
|
منها الخطابة
والكتابه
|
ثم لم يكتف سيدي
وشيخي بما أنعم به ، وأحسن بكتبه ، من كتابه المزين بخطه ، المبين بضبطه ، المسمى
بين أهل الوفاء ، بكتاب الأصفياء ، حتى أضاف إليه كتاب الشفاء ، في بديع الاكتفاء ، كأنه لم
يرض طبعه الشريف المفرد المستثنى إلا أن تكون حسناته لدى أحبابه مثنى مثنى ، حتى
كأن مراده بتضعيف هذا الإكرام والإحسان ، تعجيز العبد عن أداء خدمة الحمد بحصر
البيان وعقد اللسان ، إذ لست ذا لسانين ، حتى أؤدي شكر إحسانين ، وغاية البليغ في
هذا المضمار الخطير ، أن يعترف بالقصور ويلتزم بالتقصير.
ومن فصول هذا
الكتاب ما نصه : ومن باب إدخال السرور على سيدي وشيخي وبركتي
__________________
خبر المدرسة
الداخلية التي تصدى لها ذلك المولى العظيم ، والسيد الحكيم ، صدر الموالي ، ورونق
الأيام والليالي ، سيدي وسندي ، وعمادي ومعتمدي ، الفهامة شيخي أفندي ، المعروف
بالعلامة ، حفظه الله ، ووقاه وأبقاه! الذي صدق عليه وعليّ قول الأول :
[بحرالمنسرح]
ولي صديق ما
مسّني عدم
|
|
مذ وقعت عينه
على عدمي
|
أغنى وأقنى فما
يكلفني
|
|
تقبيل كف له ولا
قدم
|
قام بأمري لما
قعدت به
|
|
ونمت عن حاجتي
ولم ينم
|
وقول الثاني : [مجزوء
الوافر]
صديق لي له أدب
|
|
صداقة مثله نسب
|
رعى لي فوق ما
يرعى
|
|
وأوجب فوق ما
يجب
|
فلو نقدت خلائقه
|
|
لبهرج عندها
الذهب
|
ولعمري إنه كذلك
قد تصدى لحاجتي فقضاها ، ولحجتي فأمضاها ، ولم يكن لي في الروم سواه وسواها ، وما
أصنع بالروم ، إذا تخلف عني ما أروم ، أبى الله إلا أن ينفعني ذلك الحر الكريم
بنهيه وأمره ، وأن يكون بياني وبناني مرتبطين بحمده وشكره ، وهذه حاجة في نفسي
قضيتها ، وأمنية رضيت بها وأرضيتها ، ولله الحمد. ولست أحصي ، ولا أستقصي ، يا
سيدي ومولاي ، شوق أخيكم سيدي ومولاي المفتي العمادي ، حفظه الله تعالى وإياكم!
وقد بلغ به شوقه وغرامه ، وتعطشه [وهيامه] وأوامه ، أن أفرد الجناب مولانا كتابا ، يستجلب مفخرا وجوابا ، إذ
الشام كما رأيتم عبارة عن وجوده الشريف والسلام ، وكذلك أولاده الكرام ، تلامذتكم
يقبلون الأقدام ، وأما محبكم وصديقكم الشيخ البركة شيخ الإسلام مولانا عمر القاري
فقد بلغته سلام سيدي ، فكان جوابه الدعاء والثناء ، مع العزيمة عليّ بأن أبالغ
لجنابكم الكريم في تأدية سلامه ، وتبليغ ما يتضمنه من المحبة الخالصة فصيح كلامه ،
وأما الكريميّان ولدكم محمد أفندي وأخوه سيدي أكمل الدين ، فهما لتقبيل
أقدامكم من المستعدين ، وكذلك لا أحصي ما هما عليه من الدعاء والثناء لجنابكم
الكريم العالي ، تلميذاكم بل عبداكم ولدانا الشيخ يحيى ابن سيدي أبي الصفاء ،
وولدنا الشيخ محمد بن سيدي تاج الدين المحاسنيان ، وأما
__________________
عبداكم وتلميذاكم
ولداي الشيخان الداعيان الأخوان الشيخ عبد السلام والقاضي نعمان ، فليس لهما وظيفة
إلا الدعاء والثناء ، في كل صبح ومساء ، لأن كلا منهما خليفتي ، والاشتغال بالدعاء
لسيدي وظيفتي ، ولا يقنعان بتقبيل اليدين الكريمتين ، ولا بد من تقبيل القدمين المباركتين
، وبعد ، فلا ينقضي عجبي من بلاغة كتابكم الشريف الوارد لجناب أخيكم المفتي
العمادي حفظكم الله تعالى وإياه! ولا كان من يشناك ! وعجبه به أعظم وأكبر ، إذ هو ـ حفظه الله! ـ بفهم كلام
سيدي أحق وأجدر ، فلا عدمنا تلك الأنفاس الملكية الفلكية ، من كل منكما إذ هي
والله البغية والأمنية ، كما قلت : [بحر الخفيف]
ليس فخري ولا
اعتدادي بدهر
|
|
غير دهر أراكما
من بنيه
|
اللهم اختم هذا
الكلام ، للقبول التام ، بالصلاة على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين!.
ومن فصول هذا
الكتاب ما صورته : أطال الله يا سيدي بقاءك! ولا كان من يكره لقاءك! ورعاك بعين
عنايته ووقاك! وأدامك وأبقاك! وضمن لك جزاء الصبر! وعوضك عن مصابك الخير والأجر!
ولقد كنت عزمت على أن أجعل في مصاب سيدي بأمه ، متعه الله بعمره وعلمه! ودفع عنه
سورة همه وغمه ! قصيدة تكون مرثية ، تتضمن تعزية وتسلية ، فنظرت في مرثية
أبي الطيب المتنبي لأمه ، واكتفيت بنظمها ونثرها ، وعقدها وحلها ، وانتخبت قوله
منها : [بحر الطويل]
لك الله من
مفجوعة بحبيبها
|
|
قتيلة شوق غير
مكسبها وصما
|
ومنها :
ولو لم تكوني
ينت أكرم والد
|
|
لكان أباك الضخم
كونك لي أما
|
لئن لذّ يوم
الشامتين بيومها
|
|
لقد ولدت مني
لآنفهم رغما
|
فقلت : هذه حال
مولانا الراغم لأنوف الأعداء ، المجدد لأسلافه حمدا ومجدا ، القاتل بشوقه لا خطأ
ولا عمدا ، ثم إني لما رأيت قوله في مرثية أخت سيف الدولة : [بحر الخفيف]
إن يكن صبري ذي
الرزية فضلا
|
|
تكن الأفضل
الأعز الأجلّا
|
أنت يا فوق أن
تعزّى عن الأحب
|
|
اب فوق الذي
يعزّيك عقلا
|
__________________
وبألفاظك اهتدى
فإذا عزّا
|
|
ك قال الذي له
قلت قبلا
|
قد بلوت الخطوب
حلوا ومرّا
|
|
وسلكت الأيام
حزنا وسهلا
|
وقتلت الزمان
علما فما يغ
|
|
رب قولا وما
يجدّد فعلا
|
قلت : هذه والله
حلى مولانا الأستاذ الذي عرف للزمان فعله ، وفهم قوله ، قد استعارها أبو الطيب
وحلّى بها مخدومه سيف الدولة ، وكيف أستطيع إرشاد شيخي لطريق الصبر ، وأذكره
بالثواب والأجر ، وكيف وأنا الذي استقيت من ديمه ، واهتديت إلى سبيل المعروف بشيمه ، وسلكت جادة البراعة
بهداية ألفاظه ، وارتقيت إلى سماء البلاغة برعاية ألحاظه ، وهل يكون التلميذ معلما
، وهل يرشد الفرخ قشعما ، وكيف يعضد الشبل الأسد ، وهو ضعيف المنّة والمدد ، ومن
يعلم الثغر الابتسام ، والصدر الالتزام ، ويختبر الحسام ، وهو مجرب صمصام ، وهل
تفتقر الشمس في الهداية إلى مصباح؟ وهل يحتاج البدر في سراه إلى دلالة الصباح؟ ذلك
مثل شيخي ومثل من يرشده إلى فلاح أو نجاح ، وإنما نأخذ عنه ما ورد في ذلك من
الكتاب والسنة ، ونحذو حذوه في الطريق الموصّلة إلى الجنة ، ثم لما وصلت في هذه
القصيدة إلى قول أبي الطيب : [بحر الخفيف]
إن خير الدموع
عينا لدمع
|
|
بعثته رعاية
فاستهلا
|
رأيته قد أبدع فيه
كل الإبداع ، ونظم ما كاد يجري الدمع من طريق السماع ، فقلت : إنا لله! وأكثرت الاسترجاع ، وقلت في نفسي : إن ذلك الدمع الذي بعثته رعاية الحقوق ،
هو دمع شيخي الذي حمى الله قلبه الشفوق من العقوق ، للمصيبة في الأم ، التي حزنها
يغم ، ومصابها يعم ، وكيف لا يعمنا مصابها ، وقد كمل للمصيبة كفاها الله بموتها
نصابها ، هذا مع الفقد للسليلة الجليلة ، والكريمة الخليلة وأي دمع لم تبعثه تلك الرعاية؟ وأي نفس
لا تتمنى أن تكون لسيدنا من كل ما يكره وقاية؟ وأي كبد قاسية ، لم تكن لأحبابها
مواسية؟ وأنى يتسنّى ، للعبد المعنّى ، تسلية شيخه وهو الصبور الشكور ، العارف
بالأمور ، العالم بتصاريف الدهور؟ وما ظننت أن بناني ، يساعدني على تحرير بياني ،
لتعزية شيخي حفظه الله تعالى في أصله وفرعه ، وضرعه وزرعه ، وفرعه ونبته ، وأمه
وبنته ، أما الوالدة الماجدة فإني إن أمسكت
__________________
عن بيان كرم أصلها
، يسمو بها كرم فرعها ونسلها ، فرحم الله تعالى سلفها ، وأبقى خلفها ، ولا حرم
سيدي ثمرة رضاها ، ورضي عنها وأرضاها! وأما المخدّرة الصغيرة ، فالمصيبة بها كبيرة ، إذ العمومة مقّرية ، والخؤولة وفائية ، فهي ذات
النّجارين ، وحائزة الفخارين ، كأن سيدي ـ أعزه الله تعالى! ـ لم يرض
لها كفؤا ومهرا ، فاختار القبر أن يكون له صهرا ، وخطبة الحمام لا يمكن ردها ، وسطوة الأيام لا يستطاع صدها ، كما قال أبو الطيب
المتنبي أيضا : [بحر الخفيف]
خطبة للحمام ليس
لها ردّ
|
|
وإن كانت
المسمّاة ثكلا
|
وإذا لم تجد من
الناس كفؤا
|
|
ذات خدر أرادت
الموت بعلا
|
أسأل الله تعالى
أن تكون هذه الخطبة قافية الخطوب ، وهذا النّدب المبرّح آخر الندوب ، وأن يعوض سيدي عن حبيبه المبرقع المقنع ، حبيبا معمّما
تتحرى النجابة منه المصنع ، وأن يبدله عن ذات الخمار والخضاب ، بمن يصول بالحراب ،
ويسطو باليراع ويشتغل بالكتاب : [بحر الوافر]
وما التأنيث
لاسم الشمس عيب
|
|
ولا التذكير فخر
للهلال
|
ولو كان النساء
كمن فقدنا
|
|
لفضّلت النساء
على الرجال
|
اللهم يا أرحم
الراحمين ، إني أتوسّل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم وآله الطيبين الطاهرين
، أن تأخذ بيد عبدك شيخي المقريّ في كل وقت وحين ، آمين.
ومن فصول هذه
الكتاب ما صورته : ولما وصلني سيدي بهديته التي أحسن بها من كتاب الاكتفاء ، داخل
طبعي الصفاء ، ونشطت إلى نظم بيتين فيهما التزام عجيب لم أر مثله ، وهو أن يكون
اللفظ المكتفي به بمعنى اللفظ المكتفى منه ، فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى
الاعتناء ، كما أفاده شيخي ، فيكون على هذا الاكتفاء وعدمه على حدّ سواء ، إذ لو
قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء ، مع تسمية النوع فيهما ، وهما
: [بحر السريع]
إن احتفال المرء
بالمرء لا
|
|
أحبّه إلا مع
الاكتفاء
|
__________________
مبالغات الناس
مذمومة
|
|
فاسلك سبيل
القصد في الاحتفا
|
ولقد انقطع الثلج
أيام الخريف ، وكانت الحاجة إليه شديدة بعد غيبة سيدي حفظه الله تعالى عن دمشق ،
فتذكرت شغف شيخي به ، فزاد على فقده غرامي ، وفاض عليه تعطشي وأوامي ، فجعلت في ذلك عدة مقاطيع ، وأحببت عرضها على سيدي :
أوّلها : [بحر الخفيف]
ثلج يا ثلج يا
عظيم الصفات
|
|
أنت عندي من
أعظم الحسنات
|
ما بياض بدا
بوجهك إلا
|
|
كبياض بدا بوجه
الحياة
|
ثانيها : [بحر
الرجز]
قد قلت لما ضلّ
عني رشدي
|
|
وما رأيت الثلج
يوما عندي
|
لا تقطع اللهم
عن ذا العبد
|
|
أعظم أسباب
الثنا والحمد
|
ثالثها : [بحر
الخفيف]
ثلج يا ثلج أنت
ماء الحياة
|
|
ضل من قال ضر
ذاك لهاتي
|
ما بياض بدا
بوجهك إلا
|
|
كبياض قد لاح في
المرآة
|
قد رأى الناس
وجههم في المرايا
|
|
وأنا فيك شمت
وجه حياتي
|
وما عللت سيدي هذا
التعليل ، إلا لأشوقه إلى نسيم دمشق الذي خلفه سيدي حفظه الله عليلا ، وهو على
الصحة غير عليل ، ولم يشف أعزه الله تعالى منه الغليل ، ولسيدي الدعاء بطول البقاء والارتقاء ، وهذه أبيات
أحدثها العبد في وصف القهوة ، طالبا من سيّده أن يغفر خطأه فيها وسهوه : [بحر
الرجز]
وقهوة كالعنبر
السحيق
|
|
سوداء مثل مقلة
المعشوق
|
أتت كمسك فائح
فتيق
|
|
شبهتها في الطعم
بالرّحيق
|
تدني الصديق من
هوى الصديق
|
|
وتربط الود مع
الرفيق
|
فلا
عدمت مزجها بريق
|
__________________
وما زلت ألهج بما
أفادنيه شيخي من أماليه ، وأتصفح الدهر الذي جمعته فيه ، من أسافله إلى أعاليه ، واستشكل على الأحباب والأصحاب في
أثناء المسامرة ، ما أفادنيه سيدي من تسمية المرحوم القاضي التنوخي كتابه «نشوار
المحاضرة» حتى ظفرت بأصلها في القاموس في مادة «نشر» ، فإذا هي عربية محضة ، فإنه
قال : «ونشورت الدابة نشوارا : أبقت من علفها» ولقد تعجبت من بلاغة هذه التسمية
وعذوبتها ، وحسن المجاز فيها مع سلاستها وسهولتها ، وأحببت عرضها على شيخي حفظه
الله تعالى ليفرح لي بين تلامذته كما فرح طبعي به حفظه الله تعالى بين أساتذته ،
وليعلم أني لم أنس ما أفادنيه في خلال المحاورة ، أيام المؤانسة والمجاورة ، فو
الله إنه سميري ، في ضميري ، وكليمي ، ما بين عظمي وأديمي : [بحر الطويل]
يديرونني عن
سالم وأديرهم
|
|
وجلدة بين العين
والأنف سالم
|
الطرس طما وما
مضت قصتنا
|
|
لاذنب لنا
حديثنا لذّ فطال
|
وحرر يوم السبت
المبارك غرة جمادى الآخرة من شهور سنة ثمان وثلاثين بعد الألف ، أحسن الله ختامها
بحرمة محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم
النصير ، والحمد لله وحده ، عبده الفقير الحقير المشتاق ، المذنب المقصر لسيده عن
اللحاق ، الذي لم يبرح عن العهد المتين ، أحمد الشامي بن شاهين ، انتهى.
ولو تتبعت ما له
حفظه الله تعالى من النظم والنثر ، اللذين غلب فيهما بلغاء أهل العصر ، بالشام
ومصر ، وغيرهما من الأقطار ، لا زال مقامه مقضي الأوطار ، لاستوعبت ، الأسفار. وفي الإشارات ما
يغني عن الكلم ، وقد تقدم في خطبة هذا التأليف ، ذكر شيء من نظمه ونثره وأنه هو
السبب الداعي إلى جمع هذا التصنيف ، والله سبحانه يديم جنابه السرى الشريف ،
ويبوئه من العز الظل الوريف ، فلقد أولى من الحقوق ما لا نؤدي بعضه فضلا عن كله ،
وناهيك بما جلبناه من كلامه دليلا على شرفه وفضله.
ورسالته هذه إلي
كانت جوابا عن مكتوب كتبته إليه من جملته : [بحر السريع]
يا من له طائر
صيت علا
|
|
في الجو فاصطاد
الشريد الشديد
|
__________________
يا نجل شاهين
البديع الحلى
|
|
تملّ بالعز
الطويل المديد
|
وفز بخصل السّبق
بين الملا
|
|
وسر بنهج
للمعالى سديد
|
ورد مع الأحباب
عذبا حلا
|
|
منتظما من
الأماني البديد
|
وارفل على طول
المدى في ملا
|
|
مسرة راقت وعز
جديد
|
والوالد المحروس
بالله ، لا
|
|
بعدّة الخلق ولا
بالعديد
|
ومن نثرها : سيدي
الذي في الأجياد من عوارفه أطواق ، وفي البلاد من معارفه ما تشهد به الفطر السليمة والأذواق ، وتشتدّ إلى مجده المطنب الذي لا يحطّ
له رواق الأشواق ، وتعمر بفوائده وفرائده من الآداب الأسواق ، وتنقطع دون نداه
السحب السواكب ، وتقصر عن مداه في السّمو الكواكب ، والله سبحانه له واق ، المولى
الذي ألقت إليه البلاغة أفلاذها واتخذت البراعة طاعته عصمتها وملاذها ، إذ بذّ أفرادها وأفذاذها ، وأمطرت سماء أفكاره ، على كل محبّ
أوكاره ، طائر في جو أو مستقر في أوكاره ، صيبها ورذاذها ، وفاخرت دمشق بعلاه
وحلاه أقطار البسيطة وبغذاذها .
ومنها : أبقاه
الله تعالى وحقيقة وعوده ينمقها المجاز ، وحقيقة سعوده لا يطرقها المجاز.
ومنها : فأنت الذي
نفّست عني مخنّقا ، وأصفيت مشربي وكان مرنّقا ، وكاثرت بما به آثرت ، وما استأثرت ـ رمل النقا فلو رآك المأمون بن الرشيد ، لعلم أنك المتمنى ببيتي
الغناء الذي غنى به والنشيد : [بحر الطويل]
وإني لمشتاق إلى
قرب صاحب
|
|
يروق ويصفو إن
كدرت لديه
|
عذيري من
الإنسان لا إن جفونه
|
|
صفا لي ، ولا إن
كنت طوع يديه
|
__________________
ولم يقل : أعطني
هذا الصديق وخذ مني الخلافة ، وأنا أقول : قد ظفرنا به بحمد الله ولم أجد أحدا في
دهره وافق الغرض فلم نر خلافه.
ومنها : فهذه يا
ابن شاهين أياديك البيض ، تفرخ لك الشكر وتبيض ، فلا دليل على ولائي ، كإملائي ،
ولا شاهد لما في أحنائي ، كثنائي ، ولا حجة على ودادي ، كتكراري ذكرك وتردادي.
وهي طويلة ، لا
يحضرني الآن منها سوى ما ذكرته.
ولنقتصر من
مكاتبات أعيان العصر من أهل دمشق المحروسة على هذا المقدار ، ونسأل الله تعالى أن
يحفظهم جميعا في الإيراد والإصدار.
وفي تاريخ ورود
هذه المكاتيب الشامية السابقة عليّ ، اتفق ورود كتب من المغرب ، وجّهها جماعة من
أعيانه إليّ.
فمن ذلك كتاب كتبه
لي الأستاذ المجوّد الأديب الفهامة معلم الملوك سيدي الشيخ محمد بن يوسف المراكشي
التامليّ نصه : الحمد لله تعالى ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد تتوالى ، من
المحب المخلص المشتاق ، إلى السيد الذي وقع على محبته الاتفاق ، وطلعت شموس معارفه
في غاية الإشراق ، وصار له في ميدان الكمال حسن الاستباق ، الصدر الكامل ، والعالم
العامل ، الفقيه الذي تهتدي الفقهاء بعلمه وعمله ، البليغ الذي تقتدي البلغاء
ببراعه وقلمه ، ناشر ألوية المعارف ، ومسدي أنواع العوارف ، العلّامة
إمام العصر ، بجميع أدوات الحصر ، سيدي أحمد بن محمد المقري قدّس الله السلف! كما
بارك في الخلف. سلام من النسيم أرقّ ، وألطف من الزهر إذا عبق.
وبعد ، فإن
أخباركم دائما ترد علينا ، وتصل إلينا ، بما يسر الخاطر ، ويقرّ الناظر ، مع كل
وارد وصادر ، والعبد يحمد الله تعالى على ذلك ، ويدعو الله بالاجتماع معكم هنالك.
ويرحم الله عبدا
قال آمينا
كتبته إليكم أيها
السيد من الحضرة المراكشية مع كثرة أشواق ، لا تسعها أوراق ، كتبكم الله سبحانه
فيمن عنده ، كما جعلكم ممن أخلص في موالاة الحق قصده ، وودي إليكم غضّ الحدائق ،
مستجل في مطلع الوفاء بمنظر رائق ، لا يحيله عن مركز الثبوت عائق ، وحقيق بمودة
__________________
ارتبطت في الحق
وللحق معاقدها ، وأسست على المحبة في الله قواعدها ، أن يزيد عقدها على
مر الأيام شدة ، وعهدها وإن شط المزار جدّة ، وأن تدّخر للأخرى عدّة ، وإني ويعلم
الله تعالى لممن يعتقد محبتكم وموالاتكم عملا صالحا يقرّب من الله تعالى ويزلف
إليه ، ويعتمدهما وزرا يعوّل في الآخرة يوم لا ظل إلا ظله عليه ، فإنكم واليتم
فأخلصتم في الولاء ، وعرفتم الله تعالى فقمتم بحقوق الصحبة على الولاء ، معرضين في
تلكم الأخوّة عن عرض الدنيا وعرضها ، موفين بشروط نفلها ومفترضها ، إلى أن قضى الله تعالى بإفتراقنا ، وحقوقكم المتأكدة دين
علينا ، والأيام تمطل بقضائها عنا ، وتوجه الملام إلينا ، فآونة أقف فأقرع السنّ
على التقصير ندما ، وآونة أستنيم إلى فضلكم ، فأتقدم قدما ، وفي أثناء هذا لا يخطر
بالبال حق لكم سابق ، إلا وقد كر عليه منكم آخر له لاحق ، حتى وقفت موقف العجز ،
وضاقت على العبارة عن حقيقة مقامكم في النفس فكدت لا أتكلم إلا بالرمز ، إجلالا
لحقكم الرفيع ، وإشفاقا من التقصير المضيع ، وقد كنت كتبت ـ أعزكم الله تعالى! ـ إليكم
قبل هذا بكتب أربعة أو خمسة فيها عجالة قصائد كالعصائد ، لا كالثريد من الكلام ككلامكم السلس الكثير الفوائد ، فعذرا ممن كان
أخرس من سمكة ، وأشد تخبطا من طائر في شبكة ، فما عرفت أوصل شيء من ذلك ، أم حصل
في أيدي المعاطب والمهالك؟ وما رأيت غير رجل من صعاليك الحجاج التقيت به يوما
بالحضرة المراكشية فقال لي : الشيخ الإمام المقري يسأل عنك ، وقد أرسل معي كتابا
إليك فوقع في البحر مع جملة ما وقع ، فقلت له : لا غرابة في ذلك فقد رجع إلى أصله
، ومن ظلمة البحار تستخرج الدرر ، وقد جاءني كتاب من بعض الأخلاء الصديقين وهو
الحاج الصالح السيد أبو بكر من مكة المكرمة شرفها الله تعالى ، وذكر لي فيه أنه
متعه الله تعالى بلقائكم ، وأخبرني بسؤالكم عني كثيرا ، وإلى الآن يا نعم السيد
إنما عرفته بما كتبته لسيادتكم تعريف تذكر لا تعريف منة ، فأنصفونا في الحكم عليكم
في عدم الجواب بما ألفته الأدباء شريعة وسنة ، وبالجملة ففؤادي لمجدكم صحيح لا
سقيم ، واعتدادي بودكم منتج غير عقيم ، والله تعالى يجعل الحب في ذاته الكريمة ،
ويقضي عن الأحبة دين المحبة ، فيوفي كل غريم غريمه ، ويصلكم إن شاء الله تعالى هذا
المرقوم ، وبه سؤال منظوم ، لتتفضلوا بالجواب عنه بعد حمد الله ، والصلاة والسلام
على مولانا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم. [بحر الطويل]
__________________
إلى المقريّ
الحبر صدر الأئمة
|
|
من المخلص
الوداد أزكى تحية
|
فذلك يا صدر
الصدور عجالة
|
|
لتسمح بالجواب
عمّا أكنت
|
فتى قد رأى عند
العذارى فتية
|
|
محرّمة عند
الزوال فحلّت
|
وعادت حراما عند
عصر فعندما
|
|
عشاء أتى عادت
حلالا تجلّت
|
وفي صبح ثاني
اليوم عادت محرّما
|
|
وزالت زوالا منه
في غير مرية
|
وفي ظهره حلت
فطابت قريرة
|
|
وفي عصره محرّما
قد تبدت
|
وعند العشاء
بالضّرورة حلّلت
|
|
وذلك بعد غرم
مال كفدية
|
وفي صبحه عادت
حراما ترى به
|
|
بروق سيوف
لامعات بسنة
|
وكان يضيق حسرة
وتأسّفا
|
|
وحلت له وقت
العشاء وتمت
|
وعن أمة أيضا
يموت سريّها
|
|
قد اولدها في
ملكه بعد وطأة
|
وعادت لمملوك
السريّ حليلة
|
|
بعقد نكاح بعد
من غير شبهة
|
فجاءت ببنت ، هل
لها من تزوّج
|
|
بنجل السريّ؟
بيّنوا لي قصتي
|
فإن السيوري
مانع من تزوج
|
|
له بابنة منها
بتلك القضية
|
وما الفرق بينها
وبين التي أتى
|
|
بها ابن أبي زيد
بأوضح حجة
|
وعن مشتر مملوكة
غير محرم
|
|
ومسلمة شرا
صحيحا بشرعة
|
وليس بملكه له
وطؤها يرى
|
|
جوازا على
التأبيد من حين حلت
|
وما طالق من
عدّة خرجت ولا
|
|
يجوز على
التأبيد في خير ملة
|
نكاح لها من
واحد ومطلق
|
|
لها غير معصوم
ترى في الشريعة
|
وتمت بحمد الله
مبدية لكم
|
|
سلاما كما أبدته
في صدر طلعة
|
وتقرير السؤال
الثاني : أمة أولدها سيدها فصارت حرة ، فمات عنها السيد ، ثم تزوجها عبد سيدها ،
فأتت ببنت ، أما لولد سيدها أن يتزوّج هذه البنت؟ فإن الرجل له أن يتزوّج بنت زوجة
أبيه من رجل غيره ، وهذه سرّيّة أبيه ، فإن الإمام السيوري يمنع هذه المسألة ، وما
الفرق بينهما؟ وتصلكم أيضا إن شاء الله تعالى عجالة رجزية ، في مآثركم السنية ،
ضمنتها أشطارا من
__________________
الألفية ، فتفضلوا
بالإغضاء ، وحسن الدعاء ، أن يجمع الله شملنا بكم في تلك الأماكن المشرفة ، ثم
المأمول من سيدنا ومولانا أن يتفضل علينا بكتاب «طبقات القراء» للإمام الحافظ
الداني ، إذ ليس عندنا منه نسخة ، وأما تأليفكم الكثير الفوائد المسمى «بأزهار
الرياض ، في أخبار عياض ، وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض»
فقد انتشر في هذه الأقطار المراكشية ، وانتسخت منه نسخ عديدة من نسخة المرحوم سيدي أحمد بن عبد
العزيز بن الولي سيدي أبي عمرو ، وكسا الله سبحانه تأليفكم المذكور جلباب القبول ، فما
رآه أحد إلا نسخه ، وعندي النسخة التي كتبها بخطه السيد أحمد المذكور بخط حسن ،
وعلى هامشها في بعض الأماكن خطكم الرائق ، وبعض التنبيهات من كلامكم الفائق ،
وأعلمونا بتأليفكم الذي سميتموه «قطف المهتصر ، من أفنان المختصر» هل خرج من المبيضة أم لا؟ ووددنا لو اتصلنا منه بنسخة ، وقد اشتاق فقهاء هذا الإقليم
إليه غاية كالفقيه قاضي القضاة محبكم سيدي عيسى وغيره من أخلاء خليل ، في كل محفل
جليل ، إلى أن قال : وأنا أتمثل بكلام مولانا عليّ كرم الله وجهه حيث يقول ، تبركا
به: [بحر المتقارب]
رضيت بما قسم
الله لي
|
|
وفوّضت أمري إلى
خالقي
|
كما أحسن الله
فيما مضى
|
|
كذلك يحسن فيما
بقي
|
ولي حفظكم الله
تعالى تخميس على البيتين ، وذلك أنه نزلت بي شدة لا يمكن الخلاص منها عادة ، فما
فرغت من تخميسهما إلا وجاء الفرج في الحين ، ونصه : [بحر المتقارب]
إذا أزمة نزلت
قبلي
|
|
وضقت وضاقت بها
حيلي
|
تذكرت بيت
الإمام علي
|
|
(رضيت بما قسم الله لي
|
وفوّضت
أمري إلى خالقي)
|
لأن الإله
اللطيف قضى
|
|
على خلقه حكمه
المرتضى
|
فسلّم وقل قول
من فوّضا
|
|
(كما أحسن الله فيما مضى
|
كذلك
يحسن فيما بقي)
|
فعذرا ـ أعزكم
الله سبحانه ونفع بإخائكم! ـ عن إغباب المراسلة بالمكاتبة عذرا ،
__________________
وصبرا على بعد
اللقاء صبرا ، فإن يقدر في هذه الدار نلنا فيها ما نتمنى ، وإلا فلن نعدم بفضل
الله جزاء الحسنى ، ولقاء لا يبيد ولا يفنى ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، إيقانا بالوعد وتحقيقا ، فمن
أوجب له محبته ، أدخله جنته ، وأحضره مأدبته ، وكمّل له أمنيته ، جعلنا الله من
المتحابين في جلاله ، بكرمه وإفضاله! وكتبه محبكم ومعظمكم ، الواصل حبل وده بودكم
، المشرف لعهدكم ، المنوه بفخركم ومجدكم ، العبد الفقير الحقير ، المشفق على نفسه
من التقصير والذنب الكبير ، محمد بن يوسف التاملي ، غفر الله ذنبه! وستر عيبه!
وجبر قلبه! وجمعه بمن أحبه! بالنبي صلى الله عليه وسلم ، في عاشوراء المحرم فاتح
سنة ثمانية وثلاثين وألف ، انتهى.
وصحبة هذا المكتوب
ورقة نصها : بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم. [بحر الرجز]
لله در العالم
الجيّاني
|
|
كأنما ينظر
بالعيان
|
للمقّريّ العالم
المفضال
|
|
منظّرا بأحسن
المثال
|
وعالم بأنني من
بعده
|
|
أشير في نظامنا
لقصده
|
وها أنا بالله
أستعين
|
|
مضمنا وربّنا
المعين
|
بالشطر من ألفية
ابن مالك
|
|
أيدنا الله لنسج
ذلك
|
قال محمد عبيد
المالك
|
|
وسالك الأحسن من
مسالك
|
نشير بالتضمين للتحرير
|
|
المقري الفاضل
الشهير
|
ذاك الإمام ذو
العلاء والهمم
|
|
(كعلم الأشخاص لفظا وهو عم)
|
فلن ترى في علمه
مثيلا
|
|
(مستوجبا ثنائي الجميلا)
|
ومدحه عندي لازم
أتى
|
|
(في النظم والنثر الصحيح مثبتا)
|
أوصاف سيدي بهذا
الرجز
|
|
(تقرب الأقصى بلفظ موجز)
|
فهو الذي له
المعالي تعتزي
|
|
(وتبسط البذل بوعد منجز)
|
رتبته فوق العلا
يا من فهم
|
|
(كلامنا لفظ مفيد كاستقم)
|
وكم أفاد دهره
من تحف
|
|
(مبدي تأوّل بلا تكلف)
|
__________________
لقد رقى على
المقام الطاهر
|
|
(كطاهر القلب جميل الظاهر)
|
وفضله للطالبين
وجدا
|
|
(على
الذي في رفعه قد عهدا)
|
قد حصل العلم
وحرر السير
|
|
(وما بإلا أو بإنما انحصر)
|
في كل فن ماهر
صفه ولا
|
|
(يكون إلا غاية الذي تلا)
|
سيرته جرت على
نهج الهدى
|
|
(ولا يلي إلا اختيارا أبدا)
|
وعلمه وفضله لا
ينكر
|
|
(مما به عنه مبينا يخبر)
|
يقول دائما بصدر
انشرح
|
|
(اعرف بنا فإننا نلنا المنح)
|
يقول مرحبا
لقاصديه من
|
|
(يصل إلينا يستعن بنا يعن)
|
صدق مقالتي وكن
متبعا
|
|
(ولم يكن تصريفه ممتنعا)
|
وانهض إليه فهو
بالمشاهده
|
|
(الخبر الجزء المتم الفائدة)
|
والزم جنابه
وإياك الملل
|
|
(إن يستطل وصل وإن لم يستطل)
|
واقصد جنابه ترى
مآثره
|
|
(والله يقضي بهبات وافره)
|
وانسب له فإنه
ابن معطي
|
|
(ويقتضي رضا بغير سخط)
|
واجعله نصب
العين والقلب ولا
|
|
(تعدل به فهو يضاهي المثلا)
|
قد طالما أفاد
علم مالك
|
|
(أحمد ربي الله خير مالك)
|
وحاسد له ومبغض
زمن
|
|
(وهالك وميّت به قمن)
|
وليس يشفي مبغض
له أعل
|
|
(عينا وفي مثل هراوة جعل)
|
يقول عبد ربه
محمد
|
|
(في نحو خير القول إني أحمد)
|
وهو بدهره عظيم
الأمل
|
|
(مروّع القلب قليل الحيل)
|
فادع له وسادة
قد حضروا
|
|
(وافعل أوافق نغتبط إذ تشكر)
|
واجبره بالدعا
عساه يغتنم
|
|
(فجره وفتح عينه التزم)
|
أنشدت فيكم ذا
وقال قائل
|
|
(في نحو نعم ما يقول الفاضل)
|
أدعو لكم بالستر
في كل زمن
|
|
(لكونه بمضمر الرفع اقترن)
|
مآثر لكم كثيرة
سوى
|
|
(ما مر فاقبل منه ما عدل روى)
|
قد انتهى تعريف
ذا المعرف
|
|
(وذو تمام ما برفع يكتفي)
|
لأنتم تاج
الأئمة الأول
|
|
(وما بجمعه عنيت قد كمل)
|
فالله يبقيكم
لدينا وكفى
|
|
(مصليا على الرسول المصطفى)
|
تترى عليه دائما
منعطفا
|
|
(وآله المستكملين الشرفا)
|
ومن ذلك ما كتبه
لي بعض الأصحاب ممن كان يقرأ علي بالمغرب ، وصورته:سيدنا وسيد أهل الإسلام ، حامل راية علوم الأمة
الأحمدية ، على صاحبها الصلاة والسلام ، آية الله في المعاني والمعالي ، وحسنة
الأيام والليالي ، وواسطة عقود الجواهر واللآلي ، إمام مذهب مالك والأشعري
والبخاري ، والواقدي والخليل ، العلامّة القدوة السيد الكبير الشهير الجليل ، ذو
الأخلاق العذبة المذاق ، والشمائل المفصحة عن طيب الأصول والأعراق ، كبير زمانه
دون منازع ، وعالم أوانه من غير منكر ولا مدافع ، شيخنا ومعلمنا ومفيدنا وحبيب
قلوبنا مولانا شيخ الشيوخ أبو العباس أحمد بن محمد المقريّ المغربي التلمساني نزيل
فاس ثم الديار المصرية ، حفظه الله تعالى في مواطن استقراره! ورفع درجته بإشادة
فخاره على مناره! عن شوق يود له الكاتب أن لو كان في طي كتابه ، وتوق إلى مشاهدتكم
هو الغاية في بابه ، بعد إهداء السلام المحفوف بأنواع التحيات والكرامات والبركات
، الدائم ما دامت في الوجود السكنات والحركات ، لمقامكم الأكبر ، ومحفلكم الأشهر ،
ومن تعلق بأذيالكم أو كان مستمطرا لنوالكم ، أو صبت عليه شآبيب أفضالكم ، من أهل ومحب وصاحب وخديم ، هذا وإنه ينهي إلى الوداد
القديم ، أن أهل المغرب الأدنى والأقصى حاضرة وبادية ، كلهم يتفكهون بل يتقوتون
بذكركم ، ويشتاقون لرؤية وجهكم ، ويتلذذون بطيب أخباركم ، وإن كان المغرب الآن في تفاقم
أحوال ، وتراكم أهوال ، في الغاية مدائن وبوادي ، لا سيما مدينة فاس فإنها في شر
عظيم ، وأميرها مولاي عبد الملك مات في السنة السابعة والثلاثين بل في ذي الحجة
قبلها ، وفي المحرم من سنة سبع وثلاثين ، توفي ملك المغرب السلطان أبو المعالي
زيدان وبويع من بعده ابنه مولاي عبد الملك ، وتقاتل مع أخويه الأميرين الوليد
وأحمد وهزمهما ، وإلى الله عاقبة الأمور ، وأهل داركم بفاس بخير وعافية ، ونعم
ضافية ، سوى ما أدركهم من طول الغيبة ، نسأل الله تعالى أن يملأ بقدومكم العيبة ،
ومحبكم الأكبر ، ووليكم لأصغر ، سيد أهل المغرب اليوم وشيخ الطريقة ، والمربى في
سلوك أهل الحقيقة ، العارف بالله الشيخ الرباني ، ذو
__________________
المقامات
والكرامات سيدي محمد بن أبي بكر الدلائي ، يحييكم ، ويعظم قدركم ، ولسانه لكم ذاكر ناشر شاكر ، وهو
على خير ، وقد اجتمعت عليّ من بركتكم في مدينة سلا جماعة من طلاب العلم وفتح الله
تعالى علي بتآليف عديدة منها «كفاية الطالب النبيل ، في حل ألفاظ مختصر خليل»
ومنها شرح على المنهج المنتخب للزّقّاق في قواعد مالك ، ومنظومة في أكثر من ألف
بيت في السير والشمائل ، ومنها في رجال البخاري ولا كنسج الكلاباذي ، ومنها خطب ، وغير ذلك ، والكل من بركتكم ،
ونسبته إليكم في صحيفتكم ، والسلام من ولدكم المقر بفضلكم تراب نعالكم علي بن عبد
الواحد الأنصاري ، لطف الله تعالى به ، وحامله كبير كبراء قومه ممن يحبكم ويعزكم وما تفعلوا معه خير فلن تكفروه ، والسلام ، انتهى.
ومنها كتاب وافاني
من علم قسنطينة وصالحها وكبيرها ومفتيها سلالة العلماء الأكابر ، ووارث
المجد كابرا عن كابر ، المؤلف العلامة سيدي الشيخ عبد الكريم الفكّون حفظه الله ،
نصه :
بسم الله الرحمن
الرحيم ، وصلى الله على من أنزل عليه في القرآن (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)) [القلم : ٤] وآله
وصحبه وسلم أفضل التسليم ، من مدنّس الإزار ، المتسربل بسرابيل الخطايا والأوزار ، الراجي للتنصل منه رحمة العزيز الغفار ، عبد الله عبد
الكريم بن محمد الفكون ، أصلح الله بالتقوى حاله! وبلغه من متابعة السنة النبوية
آماله! إلى الشيخ الشهير ، الصدر النحرير ، ذي الفهم الثاقب والحفظ الغزير ،
الأحبّ في الله المؤاخي من أجله سيدي أبي العباس أحمد المقري ، أحمد الله عاقبتي
وعاقبته! وأسبل على الجميع عافيته! أمّا بعد فإني أحمد الله إليك ، وأصلي على نبيه
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أريد إلا صالح الدعاء وطلبه منكم ، فإني أحوج
الناس إليه ، وأشدهم في ظني إلحاحا عليه ، لما تحققت من أحوال نفسي الأمّارة ،
واستبطنت من دخيلائها المثابرة على حب الدنيا الغرّارة ، كأنها عميت عن الأهوال ،
التي أشابت رؤوس الأطفال ، وقطعت أعناق كمل الرجال ، فتراها في لجج هواها حائضة ،
وفي ميدان شهواتها راكضة ، طغت في غيها وما لانت ، وجمحت فما انقادت ولا استقامت ،
فويلي
__________________
ثم ويلي من يوم
تبرز فيه القبائح ، وتنشر الفضائح ، ومنادي العدل قائم بين العالمين ، (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)) [الأنبياء : ٤٧] ،
فالله أسأل حسن الإلطاف ، والستر عما ارتكبناه من التعدي والإسراف ، وأن يجعلنا من
أهل الحمى العظيم ، وممن يحشر تحت لواء خلاصته الكريم ، سيدنا ومولانا وشفيعنا
النبي الرؤوف الرحيم ، ولنكفّ من القلم عنانه ، لما أرجو من أجله ثواب الله سبحانه
، وقد اتصل بيدي جوابكم ، أطال الله في العلم بقاءكم ، فرأيت من عذوبة ألفاظكم ،
وبلاغة خطابكم ، ما يذهل من العلماء فحولها ، وينيلها لدى الجثوّ لسماعه سؤلها
ومأمولها ، بيد ما فيه من أوصاف من أمره قاصر ، وعن الطاعة والاجتهاد فاتر ، وأصدق
قول فيه عند مخبره ومرآه ، أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، لكن يجازيكم المولى بحسن النية ، البلوغ في بحبوحة
الجنان غاية الأمنية ، وقد ذيلتم ذلك بأبيات أنا أقل من أن أوصف بمثلها ، على أني
غير قائم بفرضها ونفلها ، فالله تعالى يمدّكم بمعونته ، ويجعلكم من أهل مناجاته في
حضرته ، ويسقينا من كاسات القرب ما نتمتع منه بلذيذ منادمته ، وقد ساعد البنان
الجنان ، في إجابتكم بوزنها وقافيتها ، والعذر لي أنني لست من أهل هذا الشان ،
والاعتراف بأنني جبان وأيّ جبان ، والكمال لكم في الرضا والقبول ، والكريم يغضي عن
عورات الأحمق الجهول ، وظننا حققه الله تعالى أن نجعل على منظومتكم الكلامية يعني «إضاءة
الدّجنّة» تقييدا ، أرجو من الله توفيقا وتسديدا ، بحسب قدري لا على
قدركم ، وعلى مثل فكري القاصر لا على عظيم فكركم ، وإن ساعد الأوان ، وقضى بتيسيره
ربّ الزمان ، فآتى به إن شاء الله الآجل معي لأنني بالأشواق ، إلى حضرة راكب
البراق ، ومخترق السبع الطباق ، وكنت عازما على أن أبعث لكم من الأبيات أكثر من
الواقع ، إلا أن الرفقة أعجلت ، وصادفتني أيام موت قعيدة البيت ، فلم يتيسر عاجلا إلا ما ذكر وعلى الله قصد السبيل ، وهو
حسبي ونعم الوكيل : [بحر مخلع البسيط]
يا نخبة الدهر
في الدراية
|
|
علما تعاضده
الروايه
|
لا زلت بحرا بكل
فنّ
|
|
يروي به
الطالبون غايه
|
لقد تصدّرت في
المعالي
|
|
كما تعاليت في
العنايه
|
__________________
من فيك تستنظم
المعاني
|
|
بلّغت في حسنها
النهايه
|
رقّاك مولاك كل
مرقّى
|
|
تحوي به القرب
والولايه
|
أعجوبة ما لها
نظير
|
|
في الحفظ والفهم
والهدايه
|
يا أحمد المقريّ
دامت
|
|
بشراك تصحبها
الرعايه
|
بجاه خير العباد
طرا
|
|
والآل والصحب
والنّقايه
|
صلى عليه الإله
تترى
|
|
نكفى بها الشر
والغوايه
|
وأختم كتابي
بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب بغاية عجلة يوم
السبت سابع أو ثامن رجب ، من عام ثمانية وثلاثين وألف للهجرة على صاحبها الصلاة
والسلام! انتهى.
والمذكور عالم
المغرب الأوسط غير مدافع ، وله سلف علماء ذوو شهرة ، ولهم في الأدب الباع المديد ،
غير أن المذكور مائل إلى التصوّف ، ونعم ما فعل ، تقبل الله تعالى عملي وعمله!
وبلغ كلا منا أمله! ولأشهر أسلافه العلّامة الشيخ حسن بن علي بن عمر الفكون
القسنطيني أحد أشياخ العبدري صاحب الرحلة قصيدة مشهورة عند العلماء
بالمغرب ، وهي من در النظام ، وحرّ الكلام ، وقد ضمنها ذكر البلاد التي رآها في
ارتحاله من قسنطينة إلى مراكش ، وأوّلها : [بحر الوافر]
ألا قل للسّريّ
ابن السّريّ
|
|
أبي البدر
الجواد الأريحيّ
|
ومنها :
وكنت أظنّ أن
الناس طرا
|
|
سوى زيد وعمرو
غير شيّ
|
فلما جئت ببلة
خير دار
|
|
أمالتني بكل رشا
أبيّ
|
وكم أورت ظباء
بني أوار
|
|
أوار الشوق
بالريق الشهي
|
__________________
وجئت بجاية فجلت
بدورا
|
|
يضيق بوصفها حرف
الرويّ
|
وفي أرض الجزائر
هام قلبي
|
|
بمعسول المراشف
كوثريّ
|
وفي مليانة قد
ذبت شوقا
|
|
بلين العطف
والقلب القسيّ
|
وفي تنس نسيت
جميل صبري
|
|
وهمت بكل ذي وجه
وضي
|
وفي مازونة ما
زلت صبّا
|
|
بوسنان المحاجر لوذعي
|
وفي وهران قد
أمسيت رهنا
|
|
بظامي الخصر ذي
ردف رويّ
|
وأبدت لي تلمسان
بدورا
|
|
جلبن الشوق
للقلب الخلي
|
ولما جئت وجدة
همت وجدا
|
|
بمنخنث المعاطف
معنوي
|
وحل رشا الرباط
رشا رباطي
|
|
وتيمني بطرف
بابليّ
|
وأطلع قطر فاس
لي شموسا
|
|
مغاربهنّ في قلب
الشجي
|
وما مكناسة إلّا
كناس
|
|
لأحوى الطرف ذي
حسن سني
|
وإن تسأل عن ارض
سلا ففيها
|
|
ظباء كاسرات
للكميّ
|
وفي مراكش يا
ويح قلبي
|
|
أتى الوادي فطمّ
على القريّ
|
بدور بل شموس بل
صباح
|
|
بهيّ في بهي في
بهي
|
أبحن مصارع
العشاق لما
|
|
سعين به فكم ميت
وحيّ
|
بقامة كل أسمر
سمهريّ
|
|
ومقلة كل أبيض
مشرفي
|
إذا أنسينني
حسنا فإني
|
|
أنسّيهم هوى
غيلان ميّ
|
فها أنا قد تخذت
الغرب دارا
|
|
وأدعى اليوم
بالمراكشي
|
على أن اشتياقي
نحو زيد
|
|
كشوقك نحو عمرو
بالسوي
|
تقسمني الهوى
شرقا وغربا
|
|
فيا للمشرقي
المغربي
|
فلي قلب بأرض
الشرق عان
|
|
وجسم حل بالغرب
القصي
|
فهذا بالغدوّ
يهيم غربا
|
|
وذاك يهيم شرقا
بالعشي
|
__________________
فلولا الله مت
هوى وشوقا
|
|
وكم لله من لطف
خفي
|
وقد خرجنا
بالاستطراد إلى الطول ، وذلك منا استرسال مع جاذب الأدب ، فلنمسك العنان ، والله
المستعان.
وما عددناه من
القصائد والمقطوعات في مدح دمشق الشام فهو غيض من فيض ، وفي نيتي أن أجمع في ذلك كتابا حافلا أسميه «نشق عرف
دمشق» أو «مشق قلم المدح لدمشق» ولسان حالي الآن ينشد قول بعض الأكابر : [بحر
الخفيف]
نحن في مصر رهن
شوق إليكم
|
|
هل لديكم بالشام
شوق إلينا
|
فعجزنا عن أن ترونا
لديكم
|
|
وأبيتم عن أن
نراكم لدينا
|
وحفظ الله عهد
من حفظ العه
|
|
د ووفّى به كما
قد وفينا
|
وقول ابن الصائغ :
[بحر المجتث]
وددت لو أن عيني
|
|
مكان كتبي إليكم
|
حتى أراكم وأملي
|
|
أخبار شوقي
عليكم
|
رجع إلى ابن جبير
رحمه الله تعالى :
ومن شعره قوله : [البحر
السريع]
إياك والشهرة في
ملبس
|
|
والبس من
الأثواب أسمالها
|
تواضع الإنسان
في نفسه
|
|
أشرف للنفس
وأسمى لها
|
وقال : [بحر
الطويل]
تنزّه عن
العوراء مهما سمعتها
|
|
صيانة نفس فهو
بالحر أشبه
|
إذا أنت جاوبت
السفيه مشاتما
|
|
فمن يتلقى الشتم
بالشتم أسفه
|
وقال : [الطويل]
أقول وقد حان
الوداع وأسلمت
|
|
قلوب إلى حكم
الأسى ومدامع
:
|
أيا ربّ أهلي في
يديك وديعة
|
|
وما عدمت صونا
لديك الودائع
|
__________________
وقال أبو عبد الله
بن الحجاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يمدح ابن جبير المذكور : [بحر الكامل]
لأبي الحسين
مكارم لو أنها
|
|
عدّت لما فرغت
ليوم المحشر
|
وله عليّ فضائل
قد قصرت
|
|
عن بعض نعماها
عظام الأبحر
|
وقال ابن جبير من
قصيدة مطلعها : [بحر الرمل]
يا وفود الله
فزتم بالمنى
|
|
فهنيئا لكم أهل
منى
|
قد عرفنا عرفات
بعدكم
|
|
فلهذا برّح
الشوق بنا
|
نحن في الغرب
ويجري ذكركم
|
|
بغروب الدمع
يجري هتّنا
|
ومنها :
فيناديه على شحط
النّوى
|
|
من لنا يوما
فقلت ملّنا
|
سر بنا يا حادي
الركب عسى
|
|
أن نلاقي يوم
جمع سربنا
|
ما دعا داعي
النوى لما دعا
|
|
غير صب شفه برح
العنا
|
شم لنا البرق
إذا لاح وقل
|
|
جمع الله بجمع
شملنا
|
علنا نلقى خيالا
منكم
|
|
بلذيذ الذكر
وهنا علنا
|
لو حنا الدهر
علينا لقضى
|
|
باجتماع بكم
بالمنحنى
|
لاح برق موهنا
من نحوكم
|
|
فلعمري ما هنا
العيش هنا
|
أنتم الأحباب
نشكو بعدكم
|
|
هل شكوتم بعدنا
من بعدنا
|
وله رحمه الله
تعالى من قصيدة مطوّلة أوّلها : [بحر المتقارب]
لعل بشير الرضا
والقبول
|
|
يعلل بالوصل قلب
الخليل
|
وله أخرى أنشدها
عند استقباله المدينة المشرفة ، على صاحبها الصلاة وأتم السلام! وهي ثلاثة وثلاثون
بيتا من الغر ، أولها : [بحر المتقارب]
أقول وآنست
بالليل نارا
|
|
لعل سراج الهدى
قد أنارا
|
__________________
وإلا فما بال
أفق الدجى
|
|
كأن سنا البرق
فيه استطارا
|
ونحن من الليل
في حندس
|
|
فما باله قد
تجلّى نهارا
|
وكان أبو الحسين
بن جبير المترجم به قد نال بالأدب دنيا عريضة ، ثم رفضها وزهد فيها.
وقال صاحب «الملتمس»
في حقه : الفقيه الكاتب أبو الحسين بن جبير ، ممن لقيته وجالسته كثيرا ورويت عنه ،
وأصله من شاطبة ، وكان أبوه أبو جعفر من كتابها ورؤسائها ، ذكره ابن اليسع في
تاريخه ، ونشأ أبو الحسين على طريقة أبيه ، وتولع بغرناطة ، فسكن بها ، قال : ومما أنشدنيه
لنفسه قوله يخاطب أبا عمران الزاهد بإشبيلية : [بحر الوافر]
أبا عمران قد
خلّفت قلبي
|
|
لديك وأنت أهل
للوديعه
|
صحبت بك الزمان
أخا وفاء
|
|
فها هو قد تنمّر
للقطيعه
|
قال : وكان من أهل
المروءات ، عاشقا في قضاء الحوائج ، والسعي في حقوق الإخوان ، والمبادرة لإيناس
الغرباء ، وفي ذلك يقول : [بحر الرمل]
يحسب الناس بأني
متعب
|
|
في الشفاعات
وتكليف الورى
|
والذي يتعبهم من
ذاك لي
|
|
راحة في غيرها
لن أفكرا
|
وبودي لو أقضّي
العمر في
|
|
خدمة الطلاب حتى
في الكرى
|
قال : ومن أبدع ما
أنشده رحمه الله تعالى أول رحلته : [الخفيف]
طال شوقي إلى
بقاع ثلاث
|
|
لا تشدّ الرحال
إلا إليها
|
إن للنفس في
سماء الأماني
|
|
طائرا لا يحوم
إلا عليها
|
قصّ منه الجناح
فهو مهيض
|
|
كلّ يوم يرجو
الوقوع لديها
|
وقال : [بحر
المتقارب]
إذا بلغ العبد
أرض الحجاز
|
|
فقد نال أفضل ما
أمّ له
|
فإن زار قبر نبي
الهدى
|
|
فقد أكمل الله
ما أمّله
|
__________________
وعاد رحمه الله
تعالى إلى الأندلس بعد رحلته الأولى التي حلّ فيها دمشق والموصل وبغداد ، وركب إلى
المغرب من عكا مع الإفرنج ، فعطب في خليج صقلية الضيق ، وقاسى شدائد إلى أن وصل
الأندلس سنة ٥٨١ ، ثم أعاد المسير إلى المشرق بعد مدة إلى أن مات بالإسكندرية كما
تقدم.
ومن شعره أيضا : [بحر
الخفيف]
لي صديق خسرت
فيه ودادي
|
|
حين صارت سلامتي
منه ربحا
|
حسن القول سيىء
الفعل كالج
|
|
زار سمّى وأتبع
القول ذبحا
|
وحدّث رحمه الله
تعالى بكتاب «الشفاء» عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي عن القاضي عياض ، ولما
قدم مصر سمع منه الحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسن يحيى بن علي القرشي.
وتوفي ابن جبير
بالإسكندرية يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة ٦١٤ ، والدعاء عند قبره
مستجاب ، قاله ابن الرقيق رحمه الله تعالى وقال ابن الرقيق : في السنة بعدها.
وقال أبو الربيع
بن سالم : أنشدني أبو محمد عبد الله بن التميمي البجائي ، ويعرف بابن الخطيب ،
لأبي الحسين بن جبير ، وقال : وهو مما كتب به إليّ من الديار المصرية في رحلته
الأخيرة لما بلغه ولايتي قضاء سبتة ، وكان أبو الحسين سكنها قبل ذلك ، وتوفيت
هنالك زوجته بنت أبي جعفر الوقّشي فدفنها بها : [بحر المتقارب]
بسبتة لي سكن في
الثّرى
|
|
وخلّ كريم إليها
أتى
|
فلو أستطيع ركبت
الهوا
|
|
فزرت بها الحيّ
والميتا
|
وأنشد ابن جبير
رحمه الله تعالى لنفسه عند صدوره عن الرحلة الأولى إلى غرناطة ، أو في طريقها قوله
: [بحر البسيط]
لي نحو أرض
المنى من شرق أندلس
|
|
شوق يؤلف بين
الماء والقبس
|
إلى آخرها.
__________________
ومن شعره قوله : [بحر
مخلع البسيط]
يا خير مولى
دعاه عبد
|
|
أعمل في الباطل
اجتهاده
|
هب لي ما قد علمت
مني
|
|
يا عالم الغيب
والشهاده
|
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر المتقارب]
وإني لأوثر من
أصطفي
|
|
وأغضي على زلة
العاثر
|
وأهوى الزيارة
ممن أحب
|
|
لأعتقد الفضل
للزائر
|
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر البسيط]
عجبت للمرء في
دنياه تطمعه
|
|
في العيش والأجل
المحتوم يقطعه
|
يمسي ويصبح في
عشواء يخبطها
|
|
أعمى البصيرة
والآمال تخدعه
|
يغتر بالدهر
مسرورا بصحبته
|
|
وقد تيقن أن
الدهر يصرعه
|
ويجمع المال
حرصا لا يفارقه
|
|
وقد درى أنه
للغير يجمعه
|
تراه يشفق من
تضييع درهمه
|
|
وليس يشفق من دين
يضيعه
|
وأسوأ الناس
تدبيرا لعاقبة
|
|
من أنفق العمر
فيما ليس ينفعه
|
وقال : [بحر
الطويل]
صبرت على غدر
الزمان وحقده
|
|
وشاب لي السم
الزعاف بشهده
|
وجرّبت إخوان
الزمان فلم أجد
|
|
صديقا جميل
الغيب في حال بعده
|
وكم صاحب عاشرته
وألفته
|
|
فما دام لي يوما
على حسن عهده
|
وكم غرني تحسين
ظني به فلم
|
|
يضيء لي على طول
اقتداحي لزنده
|
وأغرب من عنقاء
في الدهر مغرب
|
|
أخو ثقة يسقيك
صافي وده
|
بنفسك صادم كلّ
أمر تريده
|
|
فليس مضاء السيف
إلا بحده
|
وعزمك جرّد عند
كل مهمة
|
|
فما نافع مكث الحسام
بغمده
|
__________________
وشاهدت في
الأسفار كل عجيبة
|
|
فلم أر من قد
نال جدّا بجدّه
|
فكن ذا اقتصاد
في أمورك كلها
|
|
فأحسن أحوال
الفتى حسن قصده
|
وما يحرم
الإنسان رزقا لعجزه
|
|
كما لا ينال
الرزق يوما بكدّه
|
حظوظ الفتى من
شقوة وسعادة
|
|
جرت بقضاء لا
سبيل لرده
|
وقال : [بحر
البسيط]
الناس مثل ظروف
حشوها صبر
|
|
وفوق أفواهها
شيء من العسل
|
تغرّ ذائقها حتى
إذا كشفت
|
|
له تبين ما
تحويه من دخل
|
وقال : [بحر
المتقارب]
تغير إخوان هذا
الزمان
|
|
وكل صديق عراه
الخلل
|
وكانوا قديما
على صحة
|
|
فقد داخلتهم
حروف العلل
|
قضيت التعجب من
أمرهم
|
|
فصرت أطالع باب
البدل
|
وقد تقدم بيتان من
هذه الثلاثة على وجه آخر أول ترجمة المذكور ، ورأيت بخط ابن سعيد البيتين على وجه
آخر ، وهو قوله : [بحر المتقارب]
ثكلت أخلّاء هذا
الزمان
|
|
فعندي مما جنوه
خلل
|
قضيت التعجب من
شأنهم
|
|
فصرت أطالع باب
البدل
|
ولابن جبير رحمه
الله تعالى : [بحر الطويل]
من الله فاسأل
كل أمر تريده
|
|
فما يملك
الإنسان نفعا ولا ضرا
|
ولا تتواضع
للولاة فإنهم
|
|
من الكبر في حال
تموج بهم سكرا
|
وإياك أن ترضى
بتقبيل راحة
|
|
فقد قيل عنها
إنها السجدة الصغرى
|
وهو نحو قول
القائل : [بحر الخفيف]
[قل لنصر والمرء في دولة
|
|
السلطان أعمى ما
دام يدعى أميرا]
|
__________________
[فإذا زالت الولاية عنه
|
|
واستوى بالرّجال
عاد بصيرا]
|
[وقال ابن جبير ، رحمه الله تعالى] : [بحر الخفيف]
أيّها المستطيل
بالبغي أقصر
|
|
ربّما طأطأ
الزّمان الرّؤوسا
|
وتذكّر قول الإله
تعالى (إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى) وقال ، وقد شهد العيد بطندتة من قرى مصر : [بحر الطويل]
شهدنا صلاة
العيد في أرض غربة
|
|
بأحواز مصر
والأحبة قد بانوا
|
فقلت لخلّي في
النوى جد بمدمع
|
|
فليس لنا إلا
المدامع قربان
|
وقال : [بحر
السريع]
قد أحدث الناس
أمورا فلا
|
|
تعمل بها إني
امرؤ ناصح
|
فما جماع الخير
إلا الذي
|
|
كان عليه السّلف
الصالح
|
وقال : [بحر مجزوء
الرمل]
رب إن لم تؤتني
سعة
|
|
فاطو عني فضلة
العمر
|
لا أحب اللبث في
زمن
|
|
حاجتي فيه إلى
البشر
|
فهم كسر لمنجبر
|
|
ما هم جبر
لمنكسر
|
ولما وصل ابن جبير
ـ رحمه الله تعالى! ـ إلى مكة في ١٢ ربيع الآخر سنة ٥٧٩ أنشد قصيدته التي أولها : [بحر
المتقارب]
بلغت المنى
وحللت الحرم
|
|
فعاد شبابك بعد
الهرم
|
فأهلا بمكة أهلا
بها
|
|
وشكرا لمن شكره
يلتزم
|
وهي طويلة ،
وسيأتي بعضها.
وقال رحمه الله
تعالى عند تحركه للرحلة الحجازية : [بحر الوافر]
أقول وقد دعا
للخير داع
|
|
حننت له حنين
المستهام
|
حرام أن يلذ لي
اغتماض
|
|
ولم أرحل إلى
البيت الحرام
|
ولا طافت بي
الآمال إن لم
|
|
أطف ما بين زمزم
والمقام
|
ولا طابت حياة
لي إذا لم
|
|
أزر في طيبة خير
الأنام
|
__________________
وأهديه السلام
وأقتضيه
|
|
رضا يدني إلى
دار السلام
|
وقال : [بحر
المتقارب]
هنيئا لمن حجّ
بيت الهدى
|
|
وحطّ عن النفس
أوزارها
|
وإن السعادة
مضمونة
|
|
لمن حج طيبة أو
زارها
|
ولنختم ترجمته
بقوله : [بحر الطويل]
أحب النبي
المصطفى وابن عمه
|
|
عليا وسبطيه
وفاطمة الزهرا
|
هم أهل بيت أذهب
الرجس عنهم
|
|
وأطلعهم أفق
الهدى أنجما زهرا
|
موالاتهم فرض
على كل مسلم
|
|
وحبهم أسنى
الذخائر للأخرى
|
وما أنا للصّحب
الكرام بمبغض
|
|
فإني أرى
البغضاء في حقهم كفرا
|
هم جاهدوا في
الله حق جهاده
|
|
وهم نصروا دين
الهدى بالظّبا نصرا
|
عليهم سلام الله
ما دام ذكرهم
|
|
لدى الملإ
الأعلى وأكرم به ذاكرا
|
وقوله في آخره
الميمية : [بحر المتقارب]
نبي شفاعته عصمة
|
|
فيوم التنادي به
يعتصم
|
عسى أن تجاب لنا
دعوة
|
|
لديه فنكفي بها
ما أهم
|
ويرعى لزواره في
غد
|
|
ذماما فما زال
يرعى الذّمم
|
عليه السلام ،
وطوبى لمن
|
|
ألم بتربته
فاستلم
|
أخي كم نتابع
أهواءنا
|
|
ونخبط عشواءها
في الظلم
|
رويدك جرت فعج
واقتصد
|
|
أمامك نهج
الطريق الأعم
|
وتب قبل عض بنان
الأسى
|
|
ومن قبل قرعك
سنّ الندم
|
ومنها :
وقل ربّ هب رحمة
في غد
|
|
لعبد بسيما
العصاة اتسم
|
__________________
جرى في ميادين
عصيانه
|
|
مسيئا ودان بكفر
النعم
|
فيا رب صفحك عما
جنى
|
|
ويا رب عفوك عما
اجترم
|
١٨٠ ـ ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الأديب أبو عامر بن
عيشون .
قال الفتح : رجل
حلّ المشيّدات والبلاقع ، وحكى النسرين الطائر والواقع ، واستدرّ خلفي البؤس
والنعيم ، وقعد مقعد البائس والزعيم ، فآونة في سماط ، وأخرى بين درانك وأنماط ،
ويوما في ناووس ، وأخرى في مجلس مأنوس ، رحل إلى المشرق فلم يحمد رحلته ، ولم يعلق
بأمل نحلته ، فارتد على عقبه ، وردّ من حبالة الفوت إلى منتظره ومرتقبه ، ومع هذا
فله تحقق بالأدب ، وتدفق طبع إذا مدح أو نسب ، وقد أثبتّ له ما تعلم حقيقة نفاذه ،
وترى سرعة وجده في طريق الإحسان وإغذاذه .
ثم قال : وأخبرني
أنه دخل مصر وهو سار في ظلم البوس ، عار من كل لبوس ، قد خلا من النقد كيسه ،
وتخلى عنه إلا تعذيره وتنكيسه ، فنزل بأحد شوارعها لا يفترش إلا نكده ، ولا يتوسّد
إلا عضده ، وبات بليلة ابن عبدل ، تهب عليه صرصر لا ينفح منها عنبر ولا مندل ، فلما كان من
السحر دخل عليه ابن الطوفان فأشفق لحاله ، وفرط إمحاله ، وأعلمه أن الأفضل ابن أمير
الجيوش استدعاه ، ولو ارتاد جوده بقطعة يغنيها له لأخصب مرعاه ، فصنع له في حينه :
[بحر البسيط]
قل للملوك وإن
كانت لهم همم
|
|
تأوي إليها
الأماني غير متّئد
|
إذا وصلت
بشاهنشاه لي سببا
|
|
فلن أبالي بمن
منهم نفضت يدي
|
من واجه الشمس
لم يعدل بها قمرا
|
|
يعشو إلى ضوئه
لو كان ذا رمد
|
فلما كان من الغد
وافاه فدفع إليه خمسين مثقالا مصرية وكسوة وأعلمه أنه غناه ، وجود الإظهار للفظه
ومعناه ، وكرره ، حتى أثبته في سمعه وقرره ، فسأله عن قائله فأعلمه بقلته ،
__________________
وكلمه في رفع
خلّته ، فأمر له بذلك.
وله أيضا رحمه
الله تعالى : [بحر الطويل]
قصدت على أن
الزيارة سنة
|
|
يؤكّدها فرض من
الود واجب
|
فألفيت بابا
سهّل الله إذنه
|
|
ولكن عليه من
عبوسك حاجب
|
مرضت ومرّضت
الكلام تثاقلا
|
|
إليّ إلى أن خلت
أنك عاتب
|
فلا تتكلف
للعبوس مشقة
|
|
سأرضيك بالهجران
إذ أنت غاضب
|
فلا الأرض تدمير
ولا أنت أهلها
|
|
ولا الرزق إن
أعرضت عنّي جانب
|
وله يستعتبني : [بحر
الطويل]
كتبت ولو وفّيت
برك حقه
|
|
لما اقتصرت كفي
على رقم قرطاس
|
ونابت عن الخط
الخطا وتبادرت
|
|
فطورا على عيني
وطورا على راسي
|
سل الكأس عني هل
أديرت فلم أصغ
|
|
مديحك ألحانا
يسوغ بها كاسي
|
وهل نافح الآس
الندامى فلم أذع
|
|
ثنائي أذكى من
منافحة الآس
|
١٨١ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو مروان الطبني ، وهو
عبد الملك بن زيادة الله.
قال في الذخيرة :
كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام ، وحملة ألوية الأقلام ، من أهل بيت
اشتهروا بالشعر ، اشتهار المنازل بالبدر ، أراهم طرؤوا على قرطبة قبل افتراق
الجماعة ، وانتثار شمل الطاعة ، وأناخوا في ظلها ، ولحقوا بسروات أهلها ، وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطبني هو أوّل
من بنى بيت شرفهم ، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم.
قال ابن حيان :
وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثا ومشاهدة ، وأنصفهم ظرفا ، وأحذقهم بأبواب الشّحذ والملاطفة ، وآخذهم بقلوب الملوك
والجلّة ، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة ، انتهى المقصود منه.
__________________
ثم قال في الذخيرة
: فأمّا ابنه أبو مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية ، ورحل إلى المشرق ، وسمع
من جماعة من المحدثين بمصر والحجاز ، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة ،
انتهى.
وقد ذكر قصة قتله
المستبشعة واتهم باغتياله ابنه.
ومن نظم أبي مروان
الطّبني المذكور ما وجده صاحب الذخيرة في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال :
لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضربا موجعا
، وأقرّ بذلك أعين مطالبيه ، قال أبو مروان الطّبني فيه : [بحر المنسرح]
شكرت للعامريّ
ما صنعا
|
|
ولم أقل
للحذيلميّ لعا
|
ليث عرين عدا
بعزته
|
|
مفترسا في وجاره
ضبعا
|
لا برحت كفه
ممكّنة
|
|
من الأماني فنعم
ما صنعا
|
وددت لو كنت
شاهدا لهما
|
|
حتى ترى العين
ذلّ ما خضعا
|
إن طال منه
سجوده فلقد
|
|
طال لغير السجود
ما ركعا
|
قال ابن بسام :
وابن رشيق القائل قبله : [بحر البسيط]
كم ركعة ركع
الصّفعان تحت يدي
|
|
ولم يقل سمع
الله لمن حمده
|
ثم قال ابن بسام
في الذخيرة ما نصه : والعرب تقول : «فلان يركع لغير صلاة» إذا كنوا عن عهر الخلوة
، ومن مليح الكناية لبعض المتقدّمين يخاطب امرأته : [بحر الكامل]
قلت : التشيّع
حبّ أصلع هاشم
|
|
فترفّضي إن شئت
أو فتشيعي
|
قالت : أصيلع
هاشم ، وتنفّست
|
|
بأبي وأمي كل
شيء أصلع
|
ولما صنت كتابي
هذا من شين الهجاء ، وكبرته أن يكون ميدانا للسفهاء ، أجريت ههنا طلقا من مليح
التعريض ، في إيجاز القريض ، مما لا أدب على قائليه ، ولا وصمة عظمى على من قيل
فيه ، والهجاء ينقسم قسمين : فقسم يسمونه هجو الأشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون
سبابا مقذعا ، ولا هجوا مستبشعا ، وهو طأطأ قديما من الأوائل ، وثلّ عرش القبائل ،
إنما هو
__________________
توبيخ وتعبير ،
وتقديم وتأخير ، كقول النجاشي في بني العجلان ، وشهرة شعره ، منعتني عن ذكره ، واستعدوا عليه عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وأنشدوه قول النجاشي فيهم ، فدرأ الحد بالشبهات ،
وفعل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة ، وسأله أن ينشد ما قاله فيه ، فأنشده قوله : [بحر
البسيط]
دع المكارم لا
ترحل لبغيتها
|
|
واقعد فإنك أنت
الطاعم الكاسي
|
فسأل عن ذلك كعب
بن زهير ، فقال : والله ما أودّ بما قال له حمر النعم ، وقال حسان : لم يهجه ، ولكن
سلح عليه بعد أن أكل الشّبرم ، فهمّ عمر رضي الله تعالى عنه بعقابه ، ثم استعطفه
بشعره المشهور.
وقال عبد الملك بن
مروان يوما : أحسابكم يا بني أمية ، فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال
في : [بحر الطويل]
تبيتون في
المشتى ملاء بطونكم
|
|
وجاراتكم غرثى
يبتن خمائصا
|
ولما سمع علقمة بن
علاثة هذا البيت بكى ، وقال : أنحن نفعل هذا بجاراتنا؟! ودعا عليه ، فما ظنك بشيء
يبكي علاثة ، وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال حس.
وقد كان الراعي
يقول : هجوت جماعة من الشعراء ، وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها.
ولما قال جرير : [بحر
الوافر]
فغضّ الطّرف إنك
من نمير
|
|
فلا كعبا بلغت
ولا كلابا
|
أطفأ مصباحه ونام
، وقد كان بات ليلته يتململ ، لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه.
قال الراعي :
فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه ،
حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون : قبحكم الله وقبح ما
جئتمونا به!.
__________________
والقسم الثاني :
هو السباب الذي أحدثه جرير أيضا وطبقته ، وكان يقول : إذا هجوتم فأضحكوا ، وهذا
النوع منه لم يهدم قط بيتا ، ولا عيرت به قبيلة ؛ وهو الذي صنّا هذا المجموع عنه ،
وأعفيناه أن يكون فيه شيء منه ، فإن أبا منصور الثعالبيّ كتب منه في يتيمته ما
شانه اسمه ، وبقي عليه إثمه.
ومن مليح التعريض
لأهل أفقنا قول بعضهم في غلام كان يصحب رجلا يسمى بالبعوضة : [بحر المتقارب]
أقول لشادنكم
قولة
|
|
ولكنّها رمزة
غامضه
|
لزوم البعوض له
دائما
|
|
يدل على أنها
حامضه
|
وأنشدت في مثله
قول بعض أهل الوقت : [بحر البسيط]
بيني وبينك سرّ لا
أبوح به
|
|
الكل يعلمه
والله غافره
|
وحكي أبو عامر بن
شهيد عن نفسه قال : عاتبت بعض الإخوان عتابا شديدا عن أمر أوجع فيه قلبي ، وكان
آخر الشعر الذي خاطبته به هذا البيت : [بحر الطويل]
وإني على ما هاج
صدري وغاظني
|
|
ليأمنني من كان
عندي له سرّ
|
فكان هذا البيت
أشد عليه من عض الحديد ، ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي منه بالدموع ، وهذا الباب
ممتدّ الأطناب ، ويكفي ما مر ويمرّ منه في أضعاف هذا الكتاب ، انتهى كلام ابن بسام
في الذخيرة بلفظه.
ولا خفاء أنه عارض
بالذخيرة يتيمة الثعالبي ، ولذا قال في خطبة الذخيرة : أما بعد حمد الله ولي الحمد
وأهله ، والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله ، فإن ثمرة هذا الأدب ، العالي الرتب ،
رسالة تنثر وترسل ، وأبيات تنظم وتفصل ، تنثال تلك انثيال القطار ، على صفحات الأزهار ، وتتصل هذه اتصال القلائد ، على نحور
الخرائد ، وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصيّ إلى وقتنا هذا من
فرسان الفنّين ، وأئمة النوعين ، قوم هم ما هم طيب مكاسر ، وصفاء
__________________
جواهر ، وعذوبة
موارد ومصادر ، لعبوا بأطراف الكلام المشقق ، لعب الدجنّ بجفون المؤرق ، وجدّوا بفنون السحر المنمق ، جدّ الأعشى ببنات المحلّق ، فصبوا على قوالب النجوم ، غرائب المنثور والمنظوم ،
وباهوا غرر الضحى والأصائل ، بعجائب الأشعار والرسائل ، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه ، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه ، ونظم لو سمعه
كثير ما نسب ولا مدح ، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح ، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة
أهل الشرق ، يرجعون إلى أخبارهم المعادة ، رجوع الحديث إلى قتادة ، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب ، أو طنّ بأقصى الشام
والعراق ذباب ، لجثوا على هذا صنما ، وتلوا ذلك كتابا محكما ، وأخبارهم الباهرة ،
وأشعارهم السائرة ، مرمى القصيّة ، ومناخ الرّذيّة ، لا يعمر بها جنان ولا خلد ، ولا يصرف فيها لسان ولا يد ،
فغاظني منهم ذلك ، وأنفت مما هنالك ، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري ،
وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري ، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة ، وتصبح
بحوره ثمادا مضمحلة ، مع كثرة أدبائه ، ووفور علمائه ، وقديما ضيعوا العلم وأهله ،
وربّ محسن مات إحسانه قبله ، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان ، وخص أهل
المشرق بالإحسان ، وقد كتبت لأرباب هذا الشان ، من أهل الوقت والزمان ، محاسن تبهر
الألباب ، وتسحر الشعراء والكتاب ، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية ، ولا
المدائح العامرية ، إذ كان ابن فرج الجيّاني قد رأى رأيي في النّصفة ، وذهب مذهبي
من الأنفة ، فأملى في محاسن أهل زمانه كتاب الحدائق معارضا لكتاب الزهرة للأصبهاني
، فأضربت أنا عما ألف ، ولم أعرض لشيء مما صنف ، ولا تعدّيت أهل عصري ، مما شاهدته
بعمري أو لحقه أهل دهري ، إذ كل مردّد ثقيل ، وكل متكرر مملول ، وقد مجّت الأسماع
:
يا دار مية بالعلياء فالسند
إلى أن قال بعد
ذكره أنه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف المرتضى والقاضي عبد
__________________
الوهاب والوزير
ابن المغربي وغيرهم ممن يطول ، ما صورته : وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور ،
في تأليفه المشهور ، المترجم بيتيمة الدهر ، في محاسن أهل العصر ، انتهى المقصود
منه.
قلت : وتذكرت بما
أنشده في الهجاء قول الباقعة الشاعر المشهور أبي العباس أحمد الغفجومي الشهير
بالجواري وعامة الغرب يقولون الجراوي يهجو قومه بني غفجوم وهم بربر
بتادلا متوصلا بذلك إلى هجو أصلاء فاس بني الملجوم ، ومستطردا في ذلك ما هو في
اطراده كالماء السجوم ، وهو [قوله] : [بحر الكامل]
يا ابن السبيل
إذا مررت بتادلا
|
|
لا تنزلنّ على
بني غفجوم
|
أرض أغار بها
العدو فلن ترى
|
|
إلا مجاوبة
الصدى للبوم
|
قوم طووا ذكر
السماحة بينهم
|
|
لكنهم نشروا
لواء اللوم
|
لا حظّ في
أموالكم ونوالهم
|
|
للسائل العافي
ولا المحروم
|
لا يملكون إذا
استبيح حريمهم
|
|
إلا الصّراخ
بدعوة المظلوم
|
يا ليتني من
غيرهم ولو انني
|
|
من أرض فاس من
بني الملجوم
|
وقد ذكر غير واحد
من المؤرخين أن أحد بني الملجوم قضاة فاس وأصلائها بيعت أوراق كتبه التي هي غير
مجلدة بل متفرقة بستة آلاف دينار ، ويكفيك ذلك في معرفة قدر القوم ، ومع ذلك هجاهم
بهذا ، والله سبحانه يغفر الزلات.
رجع إلى ما كنا
فيه من ذكر من ارتحل من علماء الأندلس إلى البلاد المشرقية المحروسة ، فنقول :
١٨٢ ـ ومنهم حبيب
بن الوليد بن حبيب الداخل إلى الأندلس ابن عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد
الملك بن مروان.
من أهل قرطبة ،
ويعرف بدحّون [رحل إلى المشرق ، وكان فقيها عالما ، أديبا شاعرا محسنا ، و] رحل إلى المشرق أيام عبد الرحمن بن الحكم ، وحج ، ولقي أهل
الحديث
__________________
فكتب عنهم ، وقدم بعلم كثير ، وكانت له حلقة بجامع قرطبة يسمع الناس فيها ،
وهو يلبس الوشي الشامي ، إلى أن أوصى إليه الأمير عبد الرحمن بترك ذلك ، فتركه ،
وتوفي بعد المائتين.
ومن شعره قوله : [بحر
الكامل]
قال العذول :
وأين قلبك؟ كلما
|
|
رمت اهتداءك لم
يزل متحيرا
|
قلت : اتئد
فالقلب أول خائن
|
|
لما تغير من
هويت تغيرا
|
ونأى فبان الصبر
عني جملة
|
|
وبقيت مسلول
العزاء كما ترى
|
ومن ولده سعيد بن
هشام ، وكان أديبا عالما فقيها ، رحم الله تعالى الجميع!.
ودخل دمشق وطنهم
الأقدم وعاملها يومئذ للمعتصم بن الرشيد عمر بن فرج الرّخّجي ، فوافق دخوله إياها
غلاء شديدا ومجاعة أشكت أهلها ، فضجوا إلى الرّخجي أن يخرج عنهم من عندهم من
الغرباء القادمين عليهم من البلاد ، فأمر بالنداء في المدينة على كل من بها من
طارىء وابن سبيل ليخرجوا عنها ، وضرب لهم أجلا ثلاثة أيام أوعد من تخلف منهم بعدها
بالعقاب ، فابتدر الغرباء الخروج عنها ، وأقام دحّون لم يتحرك ، فجيء به إلى الرخّجي
بعد الأجل ، فقال له : ما بالك عصيت أمري؟ أو ما سمعت ندائي؟ فقال له دحّون : ذلك
النداء الذي وقفني ، فقال له : وكيف؟ فانتمى له ، فقال له الرخّجي : صدقت والله
إنك لأحقّ بالإقامة فيها منا ، فأقم ما أحببت ، وانصرف إذا شئت.
وكان لدحّون هذا
ابن يقال له بشر بن حبيب ، ويعرف بالحبيبي ، وهو من المشهورين بقرطبة ، وأمه
المدنية الراوية عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه! وبنته عبدة بنت بشر مشهورة ،
ولها رواية عنه ، رحم الله تعالى الجميع!.
١٨٣ ـ ومنهم بهلول بن فتح من أهل أقليش ، له رحلة حجّ فيها ، وكان رجلا صالحا خيرا ، حكى عن نفسه
أنه رأى في منامه بعد قدومه من الحج كأنه بمكة وقائل يقول: انطلق بنا نصلّ مع
النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فكنت أقول لرجل من جيراني بأقليش : يا أبا فلان
انطلق بنا نصلّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول لي : لست أجد إلى ذلك سبيلا ،
فكنت أتوجه وأصلي مع الناس والنبي صلى الله عليه وسلم إمامنا ، فلما سلم من الصلاة
رجع إلي وقال لي : من أين أنت؟ قلت له : من الأندلس ، فكان يقول : من أي موضع؟
فكنت أقول : من مدينة أقليش ، فيقول لي : أتعرف أبا إسحاق البوّاني؟ فكنت أقول :
هو جاري ، وكيف لا أعرفه؟ فيقول لي : أقرئه مني السلام.
__________________
١٨٤ ـ ومنهم أبو الحسن ثابت بن أحمد بن
عبد الولي ، الشاطبي.
روى عن أبي زيد
عبد الرحمن بن يعيش المهري ، ورحل حاجا ، فسمع منه بالإسكندرية أبو الحسن بن المفضل
المقدسي ، وحدث عنه بالحديث المسلسل في الأخذ باليد عن ابن يعيش المذكور عن أبي
محمد عبد العزيز بن عبد الله بن سعيد بن خلف الأنصاري عن أبي الحسن طاهر بن مفوّز
، وعليه مداره بالأندلس ، عن نصر السمرقندي بإسناده ، وفيه بعد ، قال الحافظ ابن
الأبار : وقد رويته مسللا من طرق بعضها عن ابن المفضل ، وأنبأني به ابن أبي جمرة عن أبي بحر الأندلسي ، عن نصر السمرقندي ، فصار ابن المفضل بمنزلة من سمعه ممن
سمعه مني ، والحمد لله تعالى ، انتهى.
١٨٥ ـ ومنهم أبو أحمد جعفر بن لبّ بن
محمد بن عبد الرحمن بن يونس بن ميمون ، اليحصبي.
سكن شاطبة ، وأصله
من أنشيان عملها ، ويكنى أبا الفضل أيضا ، حج وسمع أبا طاهر بن عوف والحافظ
السّلفي وأبا عبد الله بن الحضرمي وأبا الثناء الحراني وبدر بن عبد الله الحبشي
وأبا الحسن بن المفضل وغيرهم ، وكان من أهل العناية بالرواية مع الصلاح والعدالة ،
حسن الخط ، جيد الضبط ، سماه التّجيبي في معجم مشيخته وهو في عداد أصحابه
لاشتراكهما في السماع بإسكندرية وتركه هنالك ، ثم قدم عليه تلمسان من شاطبة في
أضحى سنة ست وثمانين وخمسمائة ، وحكى مما أفاده عن ابن المفضل أن أبا عبد الله
الكيزاني ـ وكان شاعرا مجيدا ـ أتته امرأة مات ولدها ، فسألته أن
يرثيه ، فقال : [بحر المجتث]
تبكي عليه بشجو
|
|
فقلت لا تندبيه
|
هذا زمان عجيب
|
|
قد عاش من مات
فيه
|
وأخذ عنه الحافظ
أبو الربيع بن سالم وقال : إنه توفي بعد التسعين وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.
__________________
١٨٦ ـ ومنهم أبو أحمد جعفر بن عبد الله
بن محمد بن سيدبونه ، الخزاعي ، العابد.
من أهل قسطنطانية
عمل دانية ، أخذ القراءات عن ابن هذيل ، وسمع منه ومن ابن النعمة ببلنسية ، ورحل
حاجا فأدى الفريضة ، ودخل الإسكندرية مرافقا لمن سمع من السّلفي ، ولم يسمع منه هو
شيئا ، قال ابن الأبار : فيما علمت ، وقفل إلى بلده مائلا إلى الزهد والإعراض عن
الدنيا ، وكان شيخ المتصوفة في وقته ، وعلا ذكره ، وبعد صيته في العبادة ، إلا أنه
كانت فيه غفلة ، قال ابن الأبار : [بحر و] رأيته إذ قدم بلنسبة لإحياء ليلة النصف
من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة ، وتوفي عن سن عالية تقارب المائة ، منتصف ذي
القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة ، وشهد جنازته بشر كثير من جهات شتى ، وانتاب
الناس قبره دهرا طويلا يتبركون بزيارته إلى حين إجلاء الروم من كان يشاركهم من
المسلمين ببلاد شرق الأندلس التي تغلبوا عليها ، وذلك في شهر رمضان سنة خمس
وأربعين وستمائة.
١٨٧ ـ ومنهم أبو جعفر النحوي.
أندلسي نزل مصر ،
وكان من رؤساء أهل العلم بالنحو ، وممن له حال جليلة ذكره الطّبني فيما حكاه ابن
الأبار.
١٨٨ ـ ومنهم أبو الحسن جابر بن أحمد بن
عبد الله ، الخزرجي ، القرطبي ، وكناه بعضهم أبا الفضل.
سمع ببلده من أبي
محمد بن عتاب وغيره ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، وكان أديبا ناظما ، كتب عنه أبو
محمد العثماني بالإسكندرية بعض شعره.
١٨٩ ـ ومنهم أبو الحسن جهور بن خلف بن
أبي عمر بن قاسم بن ثابت المعافري.
رحل حاجا إلى
المشرق فأدى الفريضة ، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السّلفي سنة تسع وثلاثين
وخمسمائة ، وسمع أيضا من غيره ، وطال مكثه هنالك ، وهو ـ فيما رجحه بعضهم ـ من أهل
غرب الأندلس.
١٩٠ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن حفص بن
الحسن ، البهراني ، الأندلسي.
رحل وتجول ببلاد
المشرق ، فسمع أبا محمد عبد الله بن حمّويه وأبا حامد أحمد بن محمد بن رجاء بسرخس
، وأبا محمد بن أبي شريح بهراة ، وأبا عبد الله الحسين بن عبد الله المفلحي
بالأهواز ، وأبا بكر أحمد بن جعفر البغدادي وأبا حامد أحمد بن الخليل وأبا حاتم حامد
بن العباس وأبا محمد الحسن بن رشيق بمصر ، وقدم دمشق فروى عنه من أهلها تمام بن
محمد ، وبنيسابور أحمد بن منصور بن خلف المغربي وغيره.
ذكره ابن عساكر
وقال : أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن علي بن فطيمة وأبو القاسم زاهر بن
طاهر قالا : أنا أبو بكر أحمد بن منصور أنا أبو علي الحسن بن جعفر القضاعي ، وأنا
الحسن بن رشيق بمصر ، أنا المفضل بن محمد الجندي ، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر
الزهري ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : لا يحمل العلم عن أهل البدع كلهم ، ولا
يحمل العلم عمن لم يعرف بالطلب ومجالسة أهل العلم ، ولا يحمل عمن يكذب في حديث
الناس ، وإن كان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقا ؛ لأن الحديث والعلم
إذا سمع من العالم فقد جعل حجة بين الذي سمعه وبين الله تبارك وتعالى ، وإنما قال
فيه «القضاعي» لأن بهراء من قضاعة.
١٩١ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن خلف بن يحيى
بن إبراهيم بن محمد ، الأموي.
من أهل دانية ،
ويعرف بابن برنجال ، سمع من أبي بكر بن صاحب الأحباس وأبي عثمان طاهر بن هشام
وغيرهما ، وله رحلة حج فيها وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح القروي ، وببيت
المقدس من أبي الفتح نصر بن إبراهيم سنة خمس وستين وأربعمائة ، وبعسقلان من أبي
عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد التّجيبي ، وأخذ عنه كتاب الوقف والابتداء لابن
الأنباري بسماعه من عبد العزيز الشعيري عن مؤلفه ، وكان فقيها على مذهب مالك ،
وولي الأحكام ببلده ، وحدّث ، وأخذ عنه ، وسمع الناس منه بالإسكندرية سنة تسع
وستين ، ثم بدانية سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة ، وتوفي في نحو الخمسمائة ، رحمه
الله تعالى!.
١٩٢ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن إبراهيم
بن محمد بن تقي
، الجذامي ، المالقي.
روى بقرطبة عن أبي
محمد بن عتّاب ، وعن أبي سكّرة الصّدفي بمرسية سنة ثمان وخمسمائة ، وصحب أبا مروان
بن مسرّة ، وكان من أهل الرواية والتقييد ، وكانت له رحلة سمع فيها من أبي طاهر
السّلفي مجالسه التي أملاها بسلماس برجب سنة خمس عشرة وخمسمائة حسبما ألفى بخط
السلفي ، وفي رحلته لقيه أبو علي الحسن بن علي البطليوسي نزيل مكة ، وحدّث عنه أبو
طالب أحمد بن مسلم المعروف بالتّنوخي من أهل الإسكندرية بكتاب «الاستيعاب» لابن
عبد البر ، وأجاز له إجازة عامة في السنة السابقة ، وقال ابن عساكر في تاريخه ،
وذكر أبا ذر الهروي : سمعت أبا الحسن علي بن سليمان المرادي الحافظ
__________________
الأندلسي بنيسابور
يقول : سمعت أبا علي الحسن بن علي الأنصاري البطليوسي ، قال ابن عساكر : وقد لقيته
، ولم أسمعها منه ، قال : سمعت أبا علي الحسن بن إبراهيم بن تقي الجذامي المالقي
يقول : سمعت بعض الشيوخ يقول : قيل لأبي ذر الهروي : أنت من هراة ، فمن أين تمذهبت
لمالك والأشعري؟ فقال : إني قدمت بغداد أطلب الحديث ، فلزمت الدارقطني فلما كان في
بعض الأيام كنت معه ، فاجتاز به القاضي أبو بكر بن الطيب ، فأظهر الدارقطني من
إكرامه ما تعجبت منه ، فلما فارقه قلت : أيها الشيخ الإمام من هذا الذي أظهرت من
إكرامه ما رأيت؟ فقال : أو ما تعرفه؟ قلت : لا ، فقال : هذا سيف السنة أبو بكر
الأشعري ، فلزمت القاضي منذ ذلك ، واقتديت به في مذهبه ، انتهى.
١٩٣ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن علي بن
الحسن بن عمر ، الأنصاري ، البطليوسي.
رحل إلى المشرق ،
فأدى الفريضة ، وتجوّل هناك ، ولقي أبا الحسن بن المفرّج الصقلي وأبا عبد الله
الفراوي ، فسمع منهما الصحيحين بعلوّ ، وسمع من أبي الفتح ناصر بن أبي علي الطوسي
سنن أبي داود ، وحدّث بالموطإ عن أبي بكر الطّرطوشي ، وله أيضا رواية عن زاهر بن
الشّحّامي وعبد المنعم بن عبد الكريم القشيري وأبي محمد الحريري سمع منه مقاماته
الخمسين ببستانه من بغداد ، ونزل بمكة ، وجاور بها ، وحدث فيها وفي غيرها ،
وأسن ، وكان ثقة مسندا يروي عنه أبو عبد الله بن أبي الصيف اليمني وأبو حفص بن
شراحيل الأندلسي وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإربلي ، وسمع منه في صفر سنة ست
وستين وخمسمائة ، وقد لقيه أبو القاسم بن عساكر الحافظ وروى عنه.
١٩٤ ـ ومنهم أبو علي الحسن بن محمد بن
الحسن الأنصاري.
من أهل المرية عمل
بلنسية ، ويعرف بابن الرّهبيل ، سمع من أبي الحسن بن النعمة كثيرا ، واختص به ،
وعنه أخذ القراءات ، وسمع من ابن هذيل أيضا ، ثم رحل حاجا ، فلقي بالإسكندرية سنة
اثنتين وسبعين وخمسمائة أبا طاهر السّلفي وأبا عبد الله بن الحضرمي ، وسمع منهما ،
وجاور بمكة ، وأخذ بها عن أبي الحسن علي بن حميد الطرابلسي صحيح البخاري ، وكان
يرويه عن أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي عن أبيه ، وسمع أيضا من أبي محمد
المبارك بن الطباخ البغدادي ، وأجاز له أبو المفاخر سعيد بن الحسين الهاشمي وأبو
محمد عبد
__________________
الحق بن عبد
الرحمن الإشبيلي ببجاية عند صدوره في ربيع الأول سنة سبع وسبعين ، وقفل إلى بلده
فلزم الانقطاع والانقباض عن الناس والإقبال على ما يعنيه ، وكان قد خطب به قبل
رحلته ، وحكى التجيبي أن طلبة الإسكندرية تزاحموا عليه لسماع «التيسير» لأبي عمرو
المقري منه بروايته عن ابن هذيل سماعا في سنة ثلاث وخمسين ، وصارت له بذلك عندهم
وجاهة ، وبعد قفوله أصابه خدر منعه من التصرف ، وكان الصلاح غالبا عليه ، وتوفي
غدوة الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة ، وكانت جنازته مشهودة
، رحمه الله تعالى!.
١٩٥ ـ ومنهم الحسين بن أحمد بن الحسين
بن حي ، التّجيبي ، القرطبي.
أخذ علم العدد
والهندسة عن أبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بابن برغوث ، وكان كلفا بصناعة التعديل ، وله زيج مختصر ذكره القاضي
صاعد ونسبه ، وحكى أنه خرج من الأندلس في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة بعد أن
نالته بها وبالبحر محن شداد ، ولحق بمصر ، ثم رحل عنها إلى اليمن ، واتصل بأميرها
، فحظي عنده ، وبعثه رسولا إلى القائم بأمر الله الخليفة ببغداد ، ونال هناك دنيا
عريضة ، وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد سنة ست وخمسين وأربعمائة ، رحمه الله
تعالى!.
١٩٦ ـ ومنهم أبو يوسف حماد بن الوليد ،
الكلاعي.
أخذ بقرطبة عن أبي
المطرف القنازعي وغيره ، ورحل إلى المشرق ، وحدث بالإسكندرية فسمع منه بها يحيى بن
إبراهيم بن عثمان بن شبل شرح الاعتقاد من تأليفه ، ورسالة قمع الحرص ، وقصر الأمل
، والحث على العمل ، وذلك في سنة سبع وأربعين وأربعمائة ، ولقيه هنالك أبو مروان
الطّبني ، فسمع منه بعض فوائده.
١٩٧ ـ ومنهم أبو القاسم خلف بن فتح بن
عبد الله بن جبير.
من أهل طرطوشة ،
يعرف بالجبيري ، وهو والد أبو عبيد القاسم بن خلف الجبيري الفقيه ، وكانت له رحلة
إلى المشرق ، ومعه رحل ابنه وهو صغير ، وكان من أهل العلم والنزاهة ، وعليه نزل
القاضي منذر بن سعيد بطرطوشة في ولايته قضاء الثغور الشرقية ، قال أبو عبيد : نزل
القاضي منذر بن سعيد على أبي بطرطوشة ، وهو يومئذ يتولى القضاء في الثغور الشرقية
قبل أن يلي قضاء الجماعة بقرطبة ، فأنزله في بيته الذي كان يسكنه ، فكان إذا تفرغ
نظر
__________________
في كتب أبي ، فمر
على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم ،
ولم يذكر عليا فيهم ، ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن
محمد ، فلما رأى ذلك منذر غضب وسبّ ابن عبد ربه ، وكتب في حاشية الكتاب : [بحر
الكامل]
أوما عليّ ـ لا
برحت ملعنا
|
|
يا ابن الخبيثة!
ـ عندكم بإمام؟
|
ربّ الكساء وخير
آل محمد
|
|
داني الولاء
مقدّم الإسلام
|
قال أبو عبيد :
والأبيات بخطه في حاشية كتاب أبي إلى الساعة ، وكانت ولاية منذر للثغور مع الإشراف
على العمال بها والنظر في المختلفين من بلاد الإفرنج إليها سنة ثلاثين وثلاثمائة.
١٩٨ ـ ومنهم أبو القاسم خلف بن محمد بن
خلف ، الغرناطي.
له رحلة روى فيها
بالإسكندرية عن مهدي بن يوسف الوراق ، وحدث عنه أبو العباس بن عيسى الداني بالتلقين للقاضي عبد الوهاب.
١٩٩ ـ ومنهم أبو القاسم خلف بن فرج بن
خلف بن عامر بن فحلون
، القنطري.
من قنطرة السيف ،
وسكن بطليوس ويعرف بابن الروية ، رحل حاجا فأدى الفريضة ، ولقي بمكة رزين بن
معاوية الأندلسي فحمل عنه كتابه في تجريد الصحاح سنة خمس وخمسمائة ، وفيها حج وقفل
إلى بلده بعد ذلك ، وكان فقيها مشاورا ، حدّث عنه ابن خير في كتابه إليه من بطليوس
في نحو الثلاثين وخمسمائة.
٢٠٠ ـ ومنهم زرارة بن محمد بن زرارة
الأندلسي.
رحل حاجا إلى
المشرق ، وسمع بمصر أبا محمد الحسن بن رشيق سنة سبع وستين وثلاثمائة وأبا بكر
مسرّة بن مسلم الصدفي ، حدث ، وأخذ عنه.
٢٠١ ـ ومنهم طاهر الأندلسي ، من أهل
مالقة ، يكنى أبا الحسن .
رحل إلى قرطبة ،
وخرج منها لما دخلها البرابر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة ، فلم يزل بمكة
__________________
إلى حدود الخمسين
وأربعمائة ، وكان من أصحاب أبي عمر الطّلمنكي وملازميه لقراءة القرآن ، وطلب العلم
مع أبي محمد الشّنتجالي وأبي أيوب الزاهد إمام مسجد الكوّائين بقرطبة ، وجاور بمكة
طويلا ، وأقرأ على مقربة من باب الصفا ، وكان الشّيبيون يكرمونه ويفرجون له لضعفه
عند دخوله البيت الحرام ، ذكره الطبني ، قال ابن الأبار : وأحسبه المذكور في
برنامج الخولاني ، والذي قرأ لهم أكثر المدونة على أبي عمر أحمد بن محمد الزيات ، انتهى.
٢٠٢ ـ ومنهم أبو الطاهر الأندلسي ، من
أهل لبلة .
نزل مصر ، وكانت
له حلقة بجامع عمرو بن العاص ، وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ نحويا له شعر وترسيل
وتعلق بالملوك للتأديب بالنحو ، ثم ترك ذلك.
٢٠٣ ـ ومنهم أبو محمد طارق بن موسى بن
يعيش ، المنصفي ، المخزومي.
والمنصفي نسبة إلى
قرية بغربي بلنسية ، ويكنى أيضا أبا الحسن ، رحل قبل العشرين وخمسمائة ، فأدى
الفريضة ، وجاور بمكة ، وسمع بها من أبي عبد الله الحسين بن علي الطبري ، ومن
الشريف أبي محمد عبد الباقي الزهري المعروف بشقران أخذ عنه كتاب «الإحياء» للغزالي
عن مؤلفه ، وسمع بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي وأبي الحسن بن مشرف وأبي عبد
الله الرازي وأبي طاهر السّلفي وغيرهم ثم قفل إلى بلده فحدث ، وأخذ الناس عنه ،
وسمعوا منه ، وكان شيخا صالحا عالي الرواية ثقة ، قال ابن عياد : لم ألق أفضل منه ،
وكان مجاب الدعوة ، وحدث عنه بالسماع والإجازة جلّة ، منهم أبو الحسن بن هذيل وأبو
محمد القلّني وأبو مروان بن الصّيقل وأبو العباس الإقليشي وأبو بكر بن
خير وابن سعد الخير وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي وأبو بكر بن جزى وغيرهم ، ثم رحل
ثانية إلى المشرق مع صهره أبي العباس الأقليشي وأبي الوليد بن خيرة الحافظ سنة
اثنتين وأربعين وخمسمائة ، وقد نيف على السبعين ، فأقام بمكة مجاورا إلى أن توفي
بها عن سن عالية ـ رحمه الله تعالى! ـ سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
٢٠٤ ـ ومنهم محمد بن إبراهيم بن مزين
الأودي.
من أهل أكشونية غربي الأندلس ، يكنى أبا مضر ، ولاه عبد الرحمن بن معاوية
قضاء
__________________
الجماعة بقرطبة ،
وذلك في المحرم سنة سبعين ومائة ، وأقام أشهرا ، ثم استعفى فأعفاه ، ورحل حاجا
فأدى الفريضة ، وسمع في رحلته إمامنا مالك بن أنس وانصرف ومات عن سن عالية سنة
ثلاث وثمانين ومائة ، وذكره ابن شعبان في الرواة عن مالك ، وحكي أنه روى عنه : من
قطع لسانه استؤني به عاما ، وأن مالكا قال له : قد بلغني أن بالأندلس من نبت لسانه فإن لم
ينبت أقيد ، انتهى.
٢٠٥ ـ ومنهم أبو عبدالله محمد بن أحمد
حيّاز ، الشاطبي ، الأوسي.
قدم مصر ، وكان قد
أخذ عن ابن برطلة وابن البراء وغيرهما ، وعمل فهرست شيوخه على حروف المعجم ، وحج
وعاد إلى بلده ، ومات يوم الجمعة حادي عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبعمائة ، رحمه
الله تعالى وغفر له!.
٢٠٦ ـ ومنهم
القاضي أبو مروان محمد بن أحمد بن عبدالملك بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أحمد بن
عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة بن رفاعة بن صخر بن سماعة ، اللّخمي ، الأندلسي
، الإشبيلي.
قال أبو شامة : هو
من بيت كبير بالأندلس يعرف ببني الباجي مشهور ، كثير العلماء والفضلاء ، وأصلهم من
باجة القيروان ، وليس منهم القاضي أبو الوليد الباجي الفقيه ، فإنه من بيت آخر من
باجة الأندلس ، وقدم أبو مروان حاجا من بلاده في البحر إلى عكا من ساحل دمشق ، ثم
دخل دمشق سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة ، ونزل عندنا بالمدرسة
العادليّة ، وجدّه الأعلى أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قدم إلى الديار المصرية
، وحج منها ومعه ولده محمد أخو عبد الملك ويعرف بصاحب الوثائق ، وسمعا بها من
جماعة من العلماء ، وذكر أبو عبد الله الحميدي أحمد بن عبد الله هذا في «المقتبس» ، وكناه أبا عمر ، وذكر أنه سكن إشبيلية وأثنى عليه كثيرا
، وقال : مات في حدود الأربعمائة ، وروى عنه ابن عبد البر وغيره.
وأبوه عبد الله بن
محمد بن علي يعرف بالرواية ، ذكره الحميدي أيضا.
وذكر ابن بشكوال
في «الصلة» عبد الملك بن عبد العزيز جد هذا الشيخ القادم وأثنى عليه ، وقال : توفي
سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
وكان هذا الشيخ
أبو مروان حسن الأخلاق فاضلا متواضعا محسنا ، وسمعته يقول ، وقد
__________________
سئل إعارة شيء ،
فبادر إليه ، ثم قال : عندي في قوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ
الْماعُونَ (٧)) [الماعون : ٧] هو
كل شيء.
واستفدنا من هذا
الشيخ فائدة جليلة ، وهي معاينة قدر مدّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عندهم
متوارث ، وقد أخبر عن ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه «المحلى» وعايرت بذلك المدّ
المدّ الذي لنا بدمشق حينئذ ، وهو الكيل الكبير ، فوجدت مدّنا يسع صاعين إلا يسيرا
، ووجدته ممسوحا يسع صاعا ونصفا وشيئا فيكون مدان ممسوحان ثلاثة آصع زائدة ، وقرأت في كتاب «المحلى» لابن حزم قال أبو محمد :
وخرط لي مدّ على تحقيق المد المتوارث عند آل عبد الله بن علي الباجي ، وهو عند
أكثرهم لا يفارق داره ، أخرجه إليّ ثقتي الذي كلفته ذلك علي بن عبد الله بن أحمد
بن عبد الله بن علي المذكور ، وذكر أنه مدّ أبيه ، وأن جده أخذه وخرطه على مد أحمد بن خالد ، وأخبره أحمد بن خالد أنه خرطه على
مد يحيى بن يحيى ، على مد مالك ، قال أبو محمد : ولا شك أن أحمد بن خالد صححه أيضا على مد محمد بن وضاح الذي صححه
ابن وضاح بالمدينة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام! قال أبو محمد : ثم
كلته بالقمح الطيب ، ثم وزنته فوجدته رطلا ونصف رطل بالفلفلي لا يزيد حبة ، وكلته
بالشعير إلا أنه لم يكن بالطيب فوجدته رطلا واحدا ونصف أوقية ، وسألت عن الرطل
الفلفلي ، فقيل لي : هو ست عشرة أوقية كل أوقية عشرة دراهم ، وفي تقدير ابن حزم
نظر.
وتوفي هذا الشيخ
بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وستمائة بعد رجوعه من الحج ، رحمه الله تعالى! انتهى
كلام أبي شامة ، وبعضه بالمعنى.
٢٠٧ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد ،
الواعظ ، الإشبيلي ، ثم المصري.
فاضل شرح الصدور
بلفظه ، ومتكلم أحيا القلوب بوعظه ، أحواله مشهورة ، ومجالسه بالذكر معمورة ، وله
معرفة بالأدب ، وخبرة بالشعر والخطب ، وكلام وجهه حسن ، ونظم يمتاز به على كثير من
أرباب اللّسن ، قاله ابن حبيب الحلبي ، قال : وهو القائل : [بحر البسيط]
من أنت محبوبه
من ذا يعيّره
|
|
ومن صفوت له من
ذا يكدره
|
__________________
هيهات عنك ملاح
الكون تشغلني
|
|
والكل أعراض حسن
أنت جوهره
|
وقال : [بحر
الخفيف]
اكشف البرقع عن
بكر العقار
|
|
واخل في ليلك مع
شمس النهار
|
وانهب العيش
ودعه غلطا
|
|
ينقضي ما بين
هتك واستتار
|
إن تكن شيخ
خلاعات الصبا
|
|
فالبس الصبوة في
خلع العذار
|
وارض بالعار وقل
: قد آن لي
|
|
في هوى خمّار
كاسي لبس عاري
|
وقال : [بحر
السريع]
حثّوا إلى نجد
نياق الهوى
|
|
فثمّ واد جوّه
معشب
|
وانتظروا حتى
يلوح الحمى
|
|
فالعيش فيه طيب
طيب
|
وتوفي سنة أربع
وثمانين وستمائة ، هكذا ذكر ترجمته ابن حبيب ، ثم بعد كتبها حصل لي شك : هل هو ممن
ارتحل بنفسه من الأندلس أو ولد بمصر وإنما ارتحل إليها بعض سلفه؟
والله تعالى أعلم.
٢٠٨ ـ وكذا ذكر
آخر بقوله في سنة سبع وثمانين وستمائة : وفيها توفي الإمام زكي الدين أبو إسحاق
إبراهيم بن عبد العزيز بن يحيى بن علي الإشبيلي المالكي ، محدث ، عالم ، زاهد فيما
ليس بدائم ، كثير الخير ، جزيل المير ، كان حسن المناهج ، قاضيا للحوائج ، محسنا
إلى الصامت والمعرب ، مقصدا لمن يرد من الحجاز والمغرب ، سمع بمصر ودمشق وحلب ،
وأفتى ودرس ، مفيدا لذوي الطلب ، ولم يبرح يعين بأياديه ويغيث ، وهو أول من باشر
بظاهرية دمشق مشيخة الحديث ، وكانت وفاته بدمشق عن نيف وسبعين سنة ، انتهى.
٢٠٩ ـ ومنهم الأحق
بالسبق والتقدم ، بقيّ بن مخلد بن يزيد ، أبو عبد الرحمن ، القرطبي ، الأندلسي ،
الحافظ ، أحد الأعلام ، وصاحب التفسير والمسند .
أخذ عن يحيى بن
يحيى الليثي ومحمد بن عيسى الأعشى ، وارتحل إلى المشرق ، ولقي الكبار ، وسمع
بالحجاز مصعبا الزهري وإبراهيم بن المنذر وطبقتهما ، وبمصر يحيى بن بكير وزهير بن
عبّاد وطائفة ، وبدمشق إبراهيم بن هشام الغساني ، وصفوان بن صالح وهشام بن
__________________
عمار وجماعة ،
وببغداد أحمد بن حنبل وطبقته ، وبالكوفة يحيى بن عبد الحميد الحماني ومحمد بن عبد
الله بن نمير وأبا بكر بن أبي شيبة وطائفة ، وبالبصرة أصحاب حماد بن زيد ، وعني
بالأثر عناية عظيمة لا مزيد عليها ، وعدد شيوخه مائتان وأربعة وثلاثون رجلا ، وكان
إماما ، زاهدا ، صوّاما ، صادقا ، كثير التهجد ، مجاب الدعوة ، قليل المثل ،
مجتهدا ، لا يقلد ، بل يفتي بالأثر.
ولد في رمضان سنة
إحدى ومائتين ، وتوفي في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين.
قال ابن حزم : أقطع
أنه لم يؤلّف في الإسلام مثل تفسيره ، لا تفسير محمد بن جرير ولا غيره ، وكان محمد
بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محبا للعلوم عارفا بها ، فلما دخل بقي بن مخلد
الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة وقرىء عليه أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف
واستبشعوه ، وقام جماعة من العامة عليه ، ومنعته من قراءته ، فاستحضره الأمير محمد وإياهم ، وتصفح الكتاب
جزءا جزءا حتى أتى على آخره ، ثم قال لخازن كتبه : هذا الكتاب لا تستغني خزانتنا
عنه ، فانظر في نسخه لنا ، وقال لبقي : انشر علمك ، وارو ما عندك ، ونهاهم أن
يتعرضوا له.
قال ابن حزم :
مسند بقي روي فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف ، ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه
فهو مسند ومصنّف ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله ، مع ثقته وضبطه وإتقانه
واحتفاله في الحديث وله مصنف في فتاوى الصحابة والتابعين ممن ذكرهم أربى فيه على
مصنف أبي بكر بن أبي شيبة وعلى مصنف عبد الرزاق وعلى مصنف سعيد بن منصور.
ثم ذكر تفسيره
فقال : فصارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام ، لا نظير لها ، وكان متخيرا
لا يقلد أحدا ، وكان جاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي.
وذكر القشيري أن
امرأة جاءته فقالت له : إن ابني قد أسرته الفرنج ، وإني لا أنام الليل من شوقي
إليه ، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأفتكّه بها ، فإن رأيت أن تشير إلى من يأخذها
ويسعى
__________________
في فكاكه ، فليس
لي ليل ولا نهار ، ولا صبر ولا قرار ، فقال : نعم ، انصرفي حتى ننظر في ذلك إن شاء
الله تعالى ، وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز وجل لولدها بالخلاص ، فذهبت ،
فما كان غير قليل حتى جاءت وابنها معها ، فقالت : اسمع خبره يرحمك الله تعالى!
فقال : كيف كان أمرك؟ فقال : إني كنت فيمن يخدم الملك ، ونحن في القيود ، فبينا
أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي ، فأقبل على الموكل بي فشتمني ، وقال :
فككت القيد من رجليك ، فقلت : لا والله ولكن سقط ولم أشعر ، فجاؤوا بالحداد فأعاده
، وسمر مسماره وأيده ، ثم قمت ، فسقط أيضا ، فسألوا رهبانهم ، فقالوا : ألك والدة؟
فقلت : نعم ، فقالوا : إنه قد استجيب دعاؤها له ، فأطلقوه ، فأطلقوني وخفروني إلى أن وصلت إلى بلاد الإسلام ، فسأله [بقي] عن الساعة
التي سقط القيد من رجليه فيها ، فإذا هي الساعة التي دعا له فيها ، فرحمه الله
تعالى.
٢١٠ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى
المشرق يوسف بن يحيى بن يوسف الأندلسي الأزدي ، المعروف بالمغامي.
من أهل قرطبة ،
وأصله من طليطلة ، وهو من ذرية أبي هريرة رضي الله عنه تعالى!.
سمع من يحيى بن
يحيى وسعيد بن حسان ، وروى عن عبد الملك بن حبيب مصنفاته ، وارتحل إلى مصر ، وسمع
من يوسف بن يزيد القراطيسي ، وعاد إلى الأندلس ، وكان فقيها ، نبيلا ، فصيحا بصيرا
بالعربية ، ثم بعد عوده من مصر أقام بقرطبة أعواما ، ثم عاد إلى مصر ، وأقام بها ،
وسمع الناس منه ، وعظم أمره بالبلاد بالمشرقية ، ثم إنه عاد إلى المغرب فتوفي
بالقيروان سنة ثمان وثمانين ومائتين ، وبين بمصر الواضحة لابن حبيب ، وصنف شيئا في الرد على الشافعية في عشرة أجزاء ، وألف
كتاب فضائل مالك رضي الله تعالى عنه ، والذي يرتضي أن من قلد إماما من المجتهدين
لا ينبغي له أن يغضّ من قدر غيره ، وإن كان ولا بد من الانتصار لمذهبه وتقوية حجته
فليكن ذلك بحسن أدب مع الأئمة ، رضي الله تعالى عنهم! فإنهم على هدى من ربهم ، وقد
ضلّ بعض الناس فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما لا يجوز في حق العلماء الذين
هم نجوم الملّة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وقد حكى أبو عبد الله
الوادي آشي ـ حسبما رأيته بخطه ـ أن القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي
ألف كتابا لنصرة مذهب مالك على غيره من المذاهب في مائة جزء ، وسماه «النصرة ،
لمذهب
__________________
إمام دار الهجرة»
فوقع الكتاب بخطه بيد بعض قضاة الشافعية بمصر ، فغرقه في النيل ، فقضى الله تعالى
أن السلطان فرج بن برقوق سافر إلى الشام ومعه القضاة الأربعة وغيرهم من الأعيان
لدفع تيمور لنك عن البلاد ، فلم يستطع شيئا ، وهزم إلى مصر ، وتفرقت العساكر ،
وأخذ القضاة والعلماء أسارى ومن جملتهم ذلك القاضي ، فبقي في أسر تيمور لنك إلى أن
ارتحل عن الشام ، فأخذه معه أسيرا إلى أن وصل إلى الفرات ، فغرق فيه ، أعني القاضي
، فرأى بعض الناس أن ذلك بسبب تغريقه الكتاب المذكور ، والجزاء من جنس العمل ،
والله تعالى أعلم.
وقد نجى الله
تعالى من هذه الورطة قاضي القضاة أبا زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي المالكي
صاحب كتاب «العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في تاريخ العرب والعجم والبربر ، ومن
عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» فإنه كان من جملة القضاة الحاضرين في الهزيمة ،
فلما أدخلوا على تيمور لنك قال لهم ابن خلدون : قدّموني للكلام تنجوا إن شاء الله
تعالى ، وإلا فأنتم أخبر ، فقدموه وعليه زي المغاربة ، فلما رآه تيمور لنك قال :
ما أنت من هذه البلاد؟ وتكلم معه فخلبه ابن خلدون بلسانه ، وكان آية الله الباهرة ، ثم قال لتيمور لنك : إني ألفت
كتابا في تاريخ العالم ، وحليته بذكرك ، أو كما قال ، ويقال : إن تيمور لنك هو
الذي قال له : بلغني أنك ألفت كتابا في تاريخ العالم ، ثم قال له تيمور لنك : كيف
ساغ لك أن تذكرني فيه وتذكر بختنصر مع أننا خربنا العالم؟ فقال له ابن خلدون :
أفعالكما العظيمة ألحقتكما بالذكر مع ذوي المراتب الجسيمة ، أو نحو هذا من
العبارات فأعجبه ذلك ، وقيل : إنه لما أنس بابن خلدون قال له : يا خوند ، ما أسفي
إلا على كتاب ألفته في التاريخ ، وأنفقت فيه أيام عمري ، وقد تركته بمصر ، وإن
عمري الماضي ذهب ضياعا حيث لم يكن في خدمتك وتحت ظل دولتك ، والآن أذهب فآتي بهذا
الكتاب وأرجع سريعا حتى أموت في خدمتك ، ونحو هذا من الكلام ، فأذن له ، فذهب ولم
يعد إليه ، وقال بعض العلماء : إنه لم ينج من يد ذلك الجبار أحد من العلماء غير
ابن خلدون ورجل آخر ، وقد ذكر ذلك ابن عرب شاه في «عجائب المقدور» وقد طال عهدي به فليراجع ، وحكى غير واحد أن تيمور لنك لما
أخذ حلب على الوجه المشهور في كتب التاريخ جمع العلماء فقال لهم على عادته في
التعنت : قتل منا ومنكم جماعة ، فمن الذي في الجنة قتلانا أو قتلاكم؟ وكان مراده
إبراز سبب لقتلهم ، لأنهم إن قالوا
__________________
أحد الأمرين هلكوا
، فقال بعض العلماء ، وأظنه ابن الشّحنة : دعوني أجبه ، وإلا هلكتم ، فتركوه ،
فقال له : يا خوند ، هذا السؤال أجاب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل
عنه ، فغضب [تيمور لنك] وقال : كيف يمكن أن يجيب عن هذا السؤال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ونحن لم نكن في زمانه؟ أو كلاما هذا معناه ، فقال العالم المذكور :
روينا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل
حمية ويقاتل ليذكر ويرى مكانه ، فمن الذي في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم
: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الّذي في الجنّة» أو كما قال صلى الله
عليه وسلم ، فتعجب تيمور لنك من هذا الجواب المفحم المسكت ، وحقّ له أن يتعجب منه
، فإن هذا من الأجوبة التي يقل نظيرها ، وفيها المخلص على كل حال بالإنصاف ، وقد
وفق الله تعالى هذا العالم لهذا الجواب حتى يتخلص على يده أولئك الأقوام من
الطاغية الجبار العنيد الذي جعل الله تعالى فتنته في الإسلام وفتنة جنكزخان
وأولاده من أعظم الفتن التي وهى بها المسلمون .
وذكر بعض العلماء
أن ابن خلدون لما أقبل على تيمور لنك قال له : دعني أقبل يدك ، فقال : ولم؟ فقال
له : لأنها مفاتيح الأقاليم ، يشير إلى أنه فتح خمسة أقاليم ، وأصابع يده
خمسة : فلكل أصبع إقليم ، وهذا أيضا من دهاء ابن خلدون.
وقد كدنا نخرج عن
المقصود في هذه الترجمة فلنصرف العنان ، والله سبحانه المستعان.
٢١١ ـ ومن الراحلين من الأندلس الإمام
الحافظ أبو بكر بن عطية
، رحمه الله تعالى!
قال الفتح : شيخ
العلم ، وحامل لوائه ، وحافظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكوكب سمائه ، شرح
الله تعالى لحفظه صدره ، وطاول به عمره ، مع كونه في كل علم وافر النصيب ، مياسرا
بالمعلّى والرقيب ، رحل إلى المشرق لأداء الفرض ، لابس برد من العمر الغض ، فروى وقيد ، ولقي العلماء وأسند ، وأبقى تلك المآثر وخلد
، نشأ في بيئة كريمة ، وأرومة من الشرف غير مرومة ، لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم ، وأرباب مجد ضخم
، قد قيدت مآثرهم الكتب ، وأطلعتهم التواريخ كالشهب ، وما برح الفقيه أبو بكر
يتسنم كواهل المعارف وغواربها ،
__________________
ويقيد شوارد
المعاني وغرائبها ، لاستضلاعه بالأدب الذي أحكم أصوله وفروعه ، وعمر برهة من
شبيبته ربوعه ، وبرز فيه تبريز الجواد المستولي على الأمد ، وجلّى عن نفسه به كما
جلى الصقال عن النصل الفرد ، وشاهد ذلك ما أثبته من نظمه الذي يروق جملة وتفصيلا ،
ويقوم على قوة العارضة دليلا ، فمن ذلك قوله يحذر من خلطاء الزمان ، وينبه على
التحفظ من الإنسان : [بحر الرمل]
كن بذئب صائد
مستأنسا
|
|
وإذا أبصرت
إنسانا ففر
|
إنما الإنسان
بحر ما له
|
|
ساحل فاحذره
إياك الغرر
|
واجعل الناس
كشخص واحد
|
|
ثم كن من ذلك
الشخص حذر
|
وله في الزهد : [بحر
الرمل]
أيها المطرود من
باب الرضا
|
|
كم يراك الله
تلهو معرضا
|
كم إلى كم أنت
في جهل الصبا
|
|
قد مضى عمر
الصبا وانقرضا
|
قم إذا الليل
دجت ظلمته
|
|
واستلذّ الجفن
أن يغتمضا
|
فضع الخد على
الأرض ونح
|
|
واقرع السّنّ
على ما قد مضى
|
وله في هذا المعنى
: [مخلع البسيط]
قلبي يا قلبي
المعنّى
|
|
كم أنا أدعى فلا
أجيب
|
كم أتمادى على
ضلال
|
|
لا أرعوي لا ولا
أنيب
|
ويلاه من سوء ما
دهاني
|
|
يتوب غيري ولا
أتوب
|
وا أسفى كيف برء
دائي
|
|
دائي كما شاءه
الطبيب
|
لو كنت أدنو
لكنت أشكو
|
|
ما أنا من بابه
قريب
|
أبعدني منه سوء
فعلي
|
|
وهكذا يبعد
المريب
|
ما لي قدر وأي
قدر
|
|
لمن أخلّت به
الذنوب
|
وله في هذا المعنى
أيضا : [بحر الكامل]
__________________
لا تجعلن رمضان
شهر فكاهة
|
|
تلهيك فيه من
القبيح فنونه
|
واعلم بأنك لا
تنال قبوله
|
|
حتى تكون تصومه
وتصونه
|
وله في مثل ذلك : [بحر
الطويل]
إذا لم يكن في
السمع مني تصاون
|
|
وفي بصري غضّ
وفي مقولي صمت
|
فحظي إذا من
صومي الجوع والظما
|
|
وإن قلت إني صمت
يوما فما صمت
|
وله في المعنى
الأول : [بحر الطويل]
جفوت أناسا كنت
آلف وصلهم
|
|
وما في الجفا
عند الضرورة من باس
|
بلوت فلم أحمد ،
وأصبحت آيسا
|
|
ولا شيء أشفى للنفوس
من الياس
|
فلا تعذلوني في
انقباضي فإنني
|
|
رأيت جميع الشر
في خلطة الناس
|
وله يعاتب بعض
إخوانه : [بحر الوافر]
وكنت أظن أن
جبال رضوى
|
|
تزول وأن ودك لا
يزول
|
ولكنّ الأمور
لها اضطراب
|
|
وأحوال ابن آدم
تستحيل
|
فإن يك بيننا
وصل جميل
|
|
وإلا فليكن هجر
طويل
|
وأما شعره الذي
اقتدحه من مرخ الشباب وعفاره ، وكلامه الذي وشحه بمآرب الغزل وأوطاره ، فإنه نسي إلى ما
تناساه ، وتركه حين كساه العلم والورع من ملابسه ما كساه ، فمما وقع من ذلك قوله :
[بحر الكامل]
كيف السلو ولي
حبيب هاجر
|
|
قاسي الفؤاد
يسومني تعذيبا
|
لما درى أن
الخيال مواصلي
|
|
جعل السهاد على
الجفون رقيبا
|
وله أيضا : [بحر
مخلع البسيط]
يا من عهودي
لديك ترعى
|
|
أنا على عهدك
الوثيق
|
إن شئت أن تسمعي
غرامي
|
|
من مخبر عالم
صدوق
|
__________________
فاستخبري قلبك
المعنى
|
|
يخبرك عن قلبي
المشوق
|
انتهى كلام الفتح.
وأبو بكر بن عطية
المذكور هو والد الحافظ القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية صاحب التفسير الشهير ،
رحم الله تعالى الجميع!.
قال في الإحاطة في
حقه ما ملخصه : هو الشيخ الإمام المفسر عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي ، فقيه
عالم بالتفسير والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة والأدب ، حسن التقييد ، له
نظم ونثر ، ولي قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة في المحرم ، وكان غاية في
الذكاء والدهاء والتهمم بالعلم ، سريّ الهمة في اقتناء الكتب توخى الحق ، وعدل في
الحكم ، وأعز الخطة ، روى عن أبيه وأبوي علي الغساني والصدفي وطبقتهما ، وألف
كتابه «الوجيز» في التفسير فأحسن فيه وأبدع ، وطار بحسن نيته كلّ مطار ، وبرنامجا
ضمنه مروياته وأسماء شيوخه فحرر وأجاد.
ومن نظمه يندب عهد
شبابه : [بحر البسيط]
سقيا لعهد شباب
ظلت أمرح في
|
|
ريعانه وليالي
العيش أسحار
|
أيام روض الصبا
لم تذو أغصنه
|
|
ورونق العمر غضّ
والهوى جار
|
والنفس تركض في
تضمير شرّتها
|
|
طرفا له في زمان
اللهو إحضار
|
عهدا كريما
لبسنا فيه أردية
|
|
كانت عيانا
ومحّت فهي آثار
|
مضى وأبقى بقلبي
منه نار أسى
|
|
كوني سلاما
وبردا فيه يا نار
|
أبعد أن نعمت
نفسي وأصبح في
|
|
ليل الشباب لصبح
الشّيب إسفار
|
وقارعتني
الليالي فانثنت كسرا
|
|
عن ضيغم ما له
ناب وأظفار
|
إلا سلاح خلال
أخلصت فلها
|
|
في منهل المجد
إيراد وإصدار
|
أصبو إلى روض
عيش روضه خضل
|
|
أو ينثني بي عن
العلياء إقصار
|
إذا فعطّلت كفي
من شبا قلم
|
|
آثاره في رياض
العلم أزهار
|
__________________
مولده سنة إحدى
وثمانين وأربعمائة ، وتوفي في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وأربعين
وخمسمائة بلورقة ، قصد ميورقة يتولى قضاءها فصدّ عن دخولها وصرف منها إلى لورقة
اعتداء عليه ، رحمه الله تعالى! انتهى.
وقال الفتح في حقه
ما نصه : فتى العمر كله العلاء ، حديث السن قديم السناء ، لبس الجلالة بردا ضافيا
، وورد ماء الأصالة صافيا ، وأوضح للفضل رسما عافيا ، وثنى في ذهنه للأغراض فننا
قصدا ، وجعل فهمه شهابا رصدا ، سما إلى رتب الكهول صغيرا ، وسنّ كتيبة ذهنه على
العلوم مغيرا ، فسباها معنى وفصلا ، وحواها فرعا وأصلا ، وله أدب يسيل رضراضا ، ويستحيل ألفاظا مبتدعة وأغراضا.
وقال أيضا فيه :
نبعة دوح العلاء ، ومحرز ملابس الثناء ، فذّ الجلالة ، وواحد العصر والأصالة ،
وقار كما رسا الهضب ، وأدب كما اطّرد السّلسل العذب ، وشيم تتضاءل لها قطع الرياض
، وتبادر الظن به إلى شريف الأغراض ، سابق الأمجاد فاستولى على الأمد بعباه ، ولم ينض ثوب شبابه ، أدمن التعب في السؤدد جاهدا ، فتى تناول الكواكب قاعدا ،
وما اتكل على أوائله ، ولا سكن إلى راحات بكره وأصائله ، أثره في كل معرفة علم في
رأسه نار ، وطوالعه في آفاقها صبح أو منار ، وقد أثبتّ من نظمه المستبدع ما ينفح
عبيرا ، ويتضح منيرا ، فمن ذلك قوله من قصيدة : [بحر البسيط]
وليلة جبت فيها
الجزع مرتديا
|
|
بالسيف أسحب
أذيالا من الظلم
|
والنجم حيران في
بحر الدجى غرق
|
|
والبرق في
طيلسان الليل كالعلم
|
كأنما الليل
زنجيّ بكاهله
|
|
جرح فيثعب أحيانا
له بدم
|
انتهى المقصود
منه.
وهو ـ أعني أبا
بكر ـ أحد مشايخ عياض ، حسبما ألمعت به في «أزهار الرياض».
٢١٢ ـ ومنهم شهاب
الدين أبو العباس أحمد بن فرح ـ بالحاء المهملة ـ بن أحمد بن محمد ، الإمام ،
الحافظ ، الزاهد ، بقية السلف ، اللّخمي ، الإشبيليّ ، الشافعي ، أسره الإفرنج
__________________
سنة ست وأربعين
وستمائة ، وخلص ، وقدم مصر سنة بضع وخمسين ، وقيل : إنه تمذهب للشافعي ، وتفقه على
الشيخ عز الدين بن عبد السلام قليلا ، وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري
الحموي ، والمعين أحمد بن زين الدين وإسماعيل بن عزون والنجيب بن الصيقل وابن علّان ، وبدمشق من ابن عبد الدائم وخلق ، وعني بالحديث ، وأتقن
ألفاظه ، وعرف رواته وحفاظه ، وفهم معانيه ، وانتقى لبابه ومبانيه.
قال الصفدي : وكان
من كبار أئمة هذا الشان ، وممن يجري فيه وهو طلق اللسان ، هذا إلى ما فيه من ديانة
، وورع وصيانة ، وكانت له حلقة اشتغال بكرة بالجامع الأموي يلازمها ، ويحوم عليه
من الطلب حوائمها ، سمع عليه الشيخ شمس الدين الذهبي ، واستفاد منه ، وروى في
تصانيفه عنه ، وعرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية فأباها ، ولم يقبل حباها ، وكان بزيّ الصوفية ، ومعه فقاهة بالشافعية ، ولم يزل على
حاله حتى أحزن الناس ابن فرح ، وتقدّم إلى الله وسرح ، وشيع الخلق جنازته ،
وتولّوا وضعه في القبر وحيازته ، وتوفي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الآخرة سنة تسع
وتسعين وستمائة ، ومولده سنة خمس وعشرين وستمائة.
وله قصيدة غزلية
في ألقاب الحديث سمعها منه الدّمياطي واليونيني ، وسمع منه البرزالي والمقاتلي
والنابلسي وأبو محمد بن الوليد ، ومات بتربة أم الصالح بالإسهال.
والقصيدة المذكورة
هي هذه : [بحر الطويل]
غرامي صحيح
والرّجا فيك معضل
|
|
وحزني ودمعي
مطلق ومسلسل
|
وصبري عنكم يشهد
العقل أنه
|
|
ضعيف ومتروك ،
وذلّي أجمل
|
ولا حسن إلا
سماع حديثكم
|
|
مشافهة يملى علي
فأنقل
|
وأمري موقوف
عليك ، وليس لي
|
|
على أحد إلا
عليك المعوّل
|
ولو كان مرفوعا
إليك لكنت لي
|
|
على رغم عذالي
ترقّ وتعدل
|
وعذل عذولي منكر
لا أسيغه
|
|
وزور وتدليس يرد
ويهمل
|
أقضّي زماني فيك
متصل الأسى
|
|
ومنقطعا عما به
أتوصّل
|
__________________
وها أنا في
أكفان هجرك مدرج
|
|
تكلّفني ما لا
أطيق فأحمل
|
وأجريت دمعي
بالدماء مدبّجا
|
|
وما هو إلا
مهجتي تتحلّل
|
فمتفق سهدي
وجفني وعبرتي
|
|
ومفترق صبري
وقلبي المبلبل
|
ومؤتلف شجوي
ووجدي ولوعتي
|
|
ومختلف حظي وما
منك آمل
|
خذ الوجد عني
مسندا ومعنعنا
|
|
فغيري موضوع
الهوى يتحيل
|
وذي نبذ من مبهم
الحب فاعتبر
|
|
وغامضه إن رمت
شرحا أحول
|
عزيز بكم صب
ذليل لغيركم
|
|
ومشهور أوصاف
المحب التذلل
|
غريب يقاسي
البعد عنك ، وما له
|
|
وحقّ الهوى عن
داره متحوّل
|
فرفقا بمقطوع
الوسائل ، ما له
|
|
إليك سبيل لا
ولا عنك معدل
|
فلا زلت في عز
منيع ورفعة
|
|
وما زلت تعلو
بالتجني فأنزل
|
أورّي بسعدى
والرّباب وزينب
|
|
وأنت الذي تعنى
وأنت المؤمّل
|
فخذ أوّلا من
آخر ثم أولا
|
|
من النّصف منه
فهو فيه مكمل
|
أبر إذا أقسمت
أني بحبّه
|
|
أهيم وقلبي
بالصبابة يشعل
|
وقد ذكرت شرحها في
الجزء الثلاثين من تذكرتي ، انتهى كلام الصفدي.
وظاهر كلامه أنه
ابن فرح ـ بفتح الراء ـ والذي تلقيناه عن شيوخنا أنه بسكون الراء ، وقد شرح هذه
القصيدة جماعة من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم ، وهي وحدها دالة على تمكن
الرجل ، رحمه الله تعالى!
٢١٣ ـ ومنهم عبد العزيز بن عبد الملك بن
نصر ، أبو الأصبغ ، الأموي ، الأندلسي.
سمع بمكة وبدمشق
ومصر وغيرها ، وحدث عن سليمان بن أحمد بن يحيى بسنده إلى جابر بن عبد الله قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ لكلّ نبيّ أب عصبة ينتمون إليها ، إلّا ولد
فاطمة فأنا وليّهم وأنا عصبتهم ، وهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ويل للمكذّبين
بفضلهم ، من أحبّهم أحبّه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله» وحدث عن أبي العباس أحمد
بن محمد البرذعي بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال : كنت عند مالك بن أنس وهو
يحدثنا ، فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرة ، ومالك يتغير لونه ويتصبر ، ولا يقطع
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من
__________________
المجلس وتفرق
الناس عنه قلت له : يا أبا عبد الله ، قد رأيت منك عجبا ، قال : نعم ، أنا صبرت
إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولد أبو الأصبغ
المذكور بقرطبة وتوفي ببخارى سنة ٣٦٥.
قال الحاكم أبو
عبد الله : رأيت أبا الأصبغ في المنام في بستان فيه خضرة ومياه جارية وفرش كثيرة ،
وكأني أقول : إنها له ، فقلت : يا أبا الأصبغ ، بماذا وصلت إليه؟ أبا لحديث؟ فقال : إي والله ،
وهل نجوت إلا بالحديث؟ قال : ورأيته أيضا وهو يمشي بزي أحسن ما يكون ، فقلت : أنت
أبو الأصبغ؟ فقال : نعم ، قلت : ادع الله تعالى أن يجمعني وإياك في الجنة ، فقال :
إن أمام الجنة أهوالا ، ثم رفع يديه وقال : اللهم اجعله معي في الجنة بعد عمر طويل
، انتهى.
٢١٤ ـ ومنهم القاضي أبو البقاء خالد ،
البلوي ، الأندلسي ، رحمه الله تعالى .
وهو خالد بن عيسى
بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد ، البلوي ، ووصفه الشاطبي بأنه الشيخ الفقيه القاضي
الأعدل ، انتهى.
وهو صاحب الرحلة
المسماة : «تاج المفرق ، في تحلية أهل المشرق» ، ومما أنشده رحمه الله تعالى فيها
لنفسه : [بحر الكامل]
ولقد جرى يوم
النوى دمعي دما
|
|
حتى أشاع الناس
أنك فاني
|
والله إن عاد
الزمان بقربنا
|
|
لكففت عن ذكر
النوى وكفاني
|
وهذه الرحلة
المسماة بتاج المفرق مشحونة بالفوائد والفرائد ، وفيها من العلوم والآداب ما لا
يتجاوزه الرائد ، وقد قال رحمه الله تعالى فيها في ترجمة الولي نجم الدين
الحجازي رضي الله تعالى عنه ، ما نصه : وذكر لي رضي الله تعالى عنه قال : مما وصّى
به الجد الأكبر أبو الحجاج يوسف المذكور ـ يعني سيدي أبا الحجاج يوسف بن عبد
الرحيم الأقصري القطب الغوث رضي الله تعالى عنه ، وأعاد علينا من بركاته ـ خواصّه
وأصدقاءه ، قال : إذا أدركتكم الضرورة والفاقة فقولوا : حسبي الله ، ربي الله يعلم أنني في ضيق ، قال :
وذكر لي أيضا
__________________
رضي الله تعالى
عنه قال : رأى هذا الجد يوسف المذكور النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم ، بعد أن
سأل الله تعالى ذلك ، وقد كان أصابته فاقة ، فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قل يا برّ يا رحيم ، يا برّ يا رحيم ، الطف بي في قضائك ، ولا تولّ أمري أحدا
سواك ، حتى ألقاك» فلما قالها أذهب الله تعالى عنه فاقته. قال : وكان رحمه الله
تعالى يوصي بها أصحابه وأحبابه ، انتهى.
ونسب بعضهم القاضي
خالدا المذكور إلى انتحال كمال العماد في «البرق الشامي» ، لأن خالدا أكثر في
رحلته من الأسجاع التي للعماد ، فلذا قال لسان الدين ابن الخطيب فيه : [بحر الطويل]
خليليّ إن يقض
اجتماع بخالد
|
|
فقولا له قولا
ولن تعدوا الحقّا
|
سرقت العماد
الأصبهاني برقه
|
|
وكيف ترى في
شاعر سرق البرقا
|
وأظن أن لسان
الدين كان منحرفا عنه ، ولذلك قال في كتابه «خطرة الطيف ، ورحلة الشتاء والصيف» عندما جرى ذكر قنتورية وقاضيها خالد المذكور ما صورته : لم يتخلف ولد عن والد ،
وركب قاضيها ابن أبي خالد ، وقد شهرته النزعة الحجازية ، ولبس من خشن الحجازيّة ، وأرخى من البياض طيلسانا ، وتشبّه بالمشارقة شكلا ولسانا
، والبداوة تسمه على الخرطوم ، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم ،
انتهى.
ومن نظم أبي
البقاء خالد البلوي المذكور قوله : [بحر الطويل]
أتى العيد
واعتاد الأحبة بعضهم
|
|
ببعض وأحباب
المتيم قد بانوا
|
وأضحى وقد ضحوا
بقربانهم وما
|
|
لديه سوى حمر
المدامع قربان
|
وقال في رحلته :
إنه قال هذين البيتين بديهة بمصلّى تونس في عيد النحر من سنة سبع وثلاثين
وسبعمائة.
ومن نظمه أيضا
قوله رحمه الله تعالى : [بحر الطويل]
ومستنكر شيبي
وما ذهب الصّبا
|
|
ولا جف إيناع
الشبيبة من غصني
|
__________________
فقلت فراقي
للأحبة مؤذن
|
|
بشيبي وإن كنت
ابن عشرين من سني
|
ومحاسنه ـ رحمه
الله تعالى! ـ كثيرة ، وفي الرحلة منها جملة.
٢١٥ ـ ومنهم برهان الدين أبو إسحاق بن
الحاج إبراهيم ، النميري ، الغرناطي.
وهو أيضا مذكور في
ترجمة ابن الخطيب بما يغني عن تكرير اسمه هنا وقال رحمه الله تعالى في رحلته :
أخبرني شيخنا ـ يعني الشيخ الإمام الصالح أبا عبد الله محمد المعروف بخليل التوزري
إمام المالكية بالحرم الشريف رضي الله تعالى عنه ـ قال : اعتكفت بجامع عمرو بن
العاص كفّا لشرّتي عن الناس ، خصوصا أدّى الغيبة ، نحو خمسين ليلة ، أردت أن أدعو
لطائفة من أصحابي بمطالب مختلفة ، كل بحسب ظني فيه يومئذ ، فأدركتني حيرة في
التمييز والتخصيص ، فألهمت أن قلت بديهة : [بحر المتقارب]
شهدنا بتقصير
ألبابنا
|
|
فحسن اختيارك
أولى بنا
|
وأنت البصير
بأعدائنا
|
|
وأنت البصير
بأحبابنا
|
قال : ثم أردفتها
بدعاء ، وهو : اللهم يا من لا يعلم خيره إلا هو ، أنت أعلم بأعدائنا وأودّائنا ، فافعل بكل منهم ما يناسب حسن اختيارك لنا ، حسبما علمته
منا ، وكفى بك عليما ، وكفى بك قديرا ، وكفى بك بصيرا ، وكفى بك لطيفا ، وكفى بك
خبيرا ، وكفى بك نصيرا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
كثيرا كثيرا كثيرا.
وقال ابن الحاج
المذكور في الرحلة المذكورة : إذا التقى الرجل بعدوه وهو على خوف منه فليقرأ هذه
الحروف (كهيعص (١)) [مريم : ١] ، (حم (١) عسق (٢)) [الشورى : ١ ـ ٢] وليعقد بكل حرف منها أصبعا ، يبدأ بإبهام
يده اليمنى ويختم بإبهام يده اليسرى ، فإذا قرب من عدوه فليقرأ في نفسه سورة الفيل
، فإذا وصل إلى قوله (تَرْمِيهِمْ) [الفيل : ٤]
فليكررها ، وكلما كررها فتح أصبعا من أصابعه المعقودة تجاه العدو ، فيكررها عشر
مرات ، ويفتح جميع أصابعه ، فإذا فعل ذلك أمن من شره إن شاء الله تعالى وهو مجرب ،
انتهى.
ومن بديع نظم أبي
إسحاق ابن الحاج النميري المذكور قوله : [بحر الكامل]
يا رب كاس لم
يسحّ شمولها
|
|
فاعجب لها جسما
بغير مزاج
|
__________________
لما رأينا السحر
من أشكالها
|
|
جملا نسبناه إلى
الزجاج
|
وله فيما أظن : [بحر
الوافر]
له شفة أضاعوا
النّشر فيها
|
|
بلثم حين سدّت
ثغر بدر
|
فما أشهى لقلبي
ما أضاعوا
|
|
(ليوم كريهة وسداد ثغر)
|
وهو تضمين حسن.
٢١٦ ـ ومن
الراحلين من الأندلس إلى المشرق إمام النحاة أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن
علي بن يوسف بن حيان ، النّفزي ، الأثري ، الغرناطي .
قال ابن مرزوق
الخطيب في حقه : هو شيخ النحاة بالديار المصرية ، وشيخ المحدثين بالمدرسة
المنصورية ، انتهت إليه رياسة التبريز في علم العربية واللغة والحديث سمعت عليه
وقرأت ، وأنشدني الكثير ، وإذا أنشدني شيئا ولم أقيده استعاده مني ، فلم أحفظه ،
فأنشدني وكنت أظنه لنفسه ارتجالا إلى أن أخبرني أحد أصحابنا عنه أنه أخبره أنهما
لأبي الحسن التّجاني أنشدهما له ببيته بالمدرسة الصالحية رحمه الله تعالى : [بحر
السريع]
إن الذي يروي
ولكنه
|
|
يحفظ ما يروي
ولا يكتب
|
كصخرة تنبع
أمواجها
|
|
تسقي الأراضي
وهي لا تشرب
|
قال : ورويت عنه
تآليف ابن أبي الأحوص : منها «التبيان ، في أحكام القرآن» و «المعرب المفهم ، في
شرح مسلم» ولم أقف عليه و «الوسامة ، في أحكام القسامة» و «والمشرع السلسل ، في الحديث المسلسل» وغير ذلك.
وحدثني بسنن أبي
داود عن ابن خطيب المزّة عن أبي حفص بن طبرزد عن أبي البدر الكرخي ومفلح الرومي عن أبي بكر بن ثابت الخطيب عن أبي عمر
الهاشمي عن اللؤلؤي
__________________
عن أبي داود ،
وبسنن النسائي عن جماعة عن ابن باقا عن أبي زرعة عن ابن حميد الدّوسي عن أبي نصر الكسار عن ابن السني عن النسائي ،
وبالموطإ عن أبي جعفر بن الطباع بسنده.
وشكوت إليه يوما
ما يلقاه الغريب من أذاة العداة ، فأنشدني لنفسه : [بحر الطويل]
عداتي لهم فضل
عليّ ومنّه
|
|
فلا أذهب الرحمن
عني الأعاديا
|
هم بحثوا عن
زلّتي فاجتنبتها
|
|
وهم نافسوني
فاكتسبت المعاليا
|
وأنشدني أيضا من
مداعباته ، وله في ذلك النظم الكثير مع طهارته وفضله : [بحر البسيط]
علقته سبجيّ
اللون قادحه
|
|
ما ابيضّ منه
سوى ثغر حكى الدررا
|
قد صاغه من سواد
العين خالقه
|
|
فكل عين إليه
تدمن النظرا
|
وأنشدني في جاهل
لبس صوفا وزهي فيه : [بحر الطويل]
أيا كاسيا من
جيّد الصوف نفسه
|
|
ويا عاريا من كل
فضل ومن كيس
|
أتزهى بصوف وهو
بالأمس مصبح
|
|
على نعجة واليوم
أمسى على تيس
|
انتهى ما اختصرته
من كلام الخطيب ابن مرزوق :
وأنشد الرحالة ابن
جابر الوادي آشي لأبي حيّان قوله : [بحر الطويل]
وقصّر آمالي
مآلي إلى الردى
|
|
وأنّي وإن طال
المدى سوف أهلك
|
فصنت بماء الوجه
نفسا أبية
|
|
وجادت يميني
بالذي كنت أملك
|
ووقفت على «أعيان
العصر ، وأعوان النصر» للصفدي ، فوجدت فيه ترجمة أبي حيان واسعة فرأيت أن أذكرها
بطولها لما فيها من الفوائد ، وهي :
الشيخ ، الإمام ،
العالم ، العلامة ، الفريد ، الكامل ، حجة العرب ، مالك أزمّة الأدب ، أثير الدين
، أبو حيان الأندلسي الجيّاني ـ بالجيم ، والياء آخر الحروف مشدّدة ، وبعد الألف
نون ـ وكان أمير المؤمنين في النحو ، والشمس السافرة شتاء في يوم الصّحو ،
والمتصرف في هذا العلم فإليه الإثبات والمحو ، لو عاصر أئمة البصرة لبصّرهم ، أو
أهل الكوفة لكف عنهم اتباعهم السواد وحذرهم ، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن
كان طريدا ، وأصبح به
__________________
التسهيل بعد
تعقيده مفيدا ، وجعل سرحة شرحه وجنة راقت النواظر توريدا ، ملأ الزمان تصانيف ، وأمال عنق الأيام بالتآليف ، تخرج به أئمة في هذا الفنّ ، وروّق لهم في عصره منه
سلافة الدّن ، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضا غير مجيب ، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقصيره وهو محذّر ، أو الخليل
لكان بعينه قذاه ، أو سيبويه لما تردى من مسألته الزنبورية برداه ، أو الكسائي
لأعراه حلة جاهه عند الرشيد وأناسه ، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولدا المأمون
تقديم مداسه ، أو اليزيدي لما ظهر نقصه من مكامنه ، أو الأخفش لأخفى جملة من
محاسنه ، أو أبو عبيدة لما تركه ينصب لشعب الشعوبية ، أو أبو عمرو لشغله بتحقيق
اسمه دون التعلق بعربية ، أو السكري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا ، أو
المازني لما زانه قوله : «إن مصابكم رجلا» أو قطرب لما دبّ في العربية ولا درج ،
أو ثعلب لاستكن بمكره في وكره ولما خرج ، أو المبرد لأصبحت كواه مقترة ، أو الزجاج لأمست قواريره مكسرة ، أو ابن الوزان
لعدم نقده ، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه ، أو ابن باب لعلم أن قياسه ما اطرد ، أو
ابن دريد ما بلع ريقه ولا ازدرد ، أو ابن قتيبة لأضاع رحله ، أو ابن السراج
لمشى إذ رأى وحله ، أو ابن الخشاب لأضرم فيه نارا ، ولم يجد معه نورا ، أو ابن
الخباز لما سجّر له تنورا ، أو ابن القوّاس لما أغرق في نزعه ، أو ابن يعيش لأوقعه
في نزعه ، أو ابن خروف لما وجد له مرعى ، أو ابن إياز لما وجد لأوزاره وقعا ، أو
ابن الطراوة لم يكن نحوه طريا ، أو الدباج لكان من جلته الرائقة عريّا ، وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره
شرقا وغربا ، وفريد هذا الفن الفذ بعدا وقربا ، وفيه قلت : [بحر السريع]
__________________
سلطان علم النحو
أستاذنا الش
|
|
يخ أثير الدين
حبر الأنام
|
فلا تقل زيد
وعمرو ، فما
|
|
في النحو معه
لسواه كلام
|
خدم هذا العلم
مدّة تقارب الثمانين ، وسلك من غرائبه وغوامضه طرقا متشعبة الأفانين ، ولم يزل على
حاله إلى أن دخل في خبر كان ، وتبدّلت حركاته بالإسكان ، وتوفي رحمه الله تعالى
بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة في يوم السبت بعد العصر الثامن والعشرين من صفر
سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر ، وصلي
عليه بالجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر ، ومولده
بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخمسين وستمائة.
وقلت أنا أرثيه
رحمه الله تعالى : [بحر السريع]
مات أثير الدين
شيخ الورى
|
|
فاستعر البارق
واستعبرا
|
ورق من حزن نسيم
الصبا
|
|
واعتل في
الأسحار لمّا سرى
|
وصادحات الأيك
في نوحها
|
|
رثته في السجع
على حرف را
|
يا عين جودي
بالدموع التي
|
|
يروي بها ما ضمه
من ثرى
|
واجري دما
فالخطب في شأنه
|
|
قد اقتضى أكثر
مما جرى
|
مات إمام كان في
فنه
|
|
يرى إماما
والورى من ورا
|
أمسى منادى
للبلى مفردا
|
|
فضمه القبر على
ما ترى
|
يا أسفا كان هدى
ظاهرا
|
|
فعاد في تربته
مضمرا
|
وكان جمع الفضل
في عصره
|
|
صح فلما أن قضى
كسّرا
|
وعرّف الفضل به
برهة
|
|
والآن لما أن
مضى نكّرا
|
وكان ممنوعا عن
الصرف لا
|
|
يطرق من وافاه
خطب عرا
|
لا أفعل التفضيل
ما بينه
|
|
وبين من أعرفه
في الورى
|
__________________
لا بدل عن نعته
بالتقى
|
|
ففعله كان له
مصدرا
|
لم يدّغم في
اللحد إلا وقد
|
|
فك من الصبر
وثيق العرا
|
بكى له زيد
وعمرو فمن
|
|
أمثلة النحو
وممن قرا
|
ما أعقد التسهيل
من بعده
|
|
فكم له من عسرة
يسّرا
|
وجسر الناس على
خوضه
|
|
إذ كان في النحو
قد استبحرا
|
من بعده قد حال
تمييزه
|
|
وحظه قد رجع
القهقرى
|
شارك من قد ساد
في فنه
|
|
وكم له فنّ به
استأثرا
|
دأب بني الآداب
أن يغسلوا
|
|
بدمعهم فيه
بقايا الكرى
|
والنحو قد سار
الردى نحوه
|
|
والصرف للتصريف
قد غيرا
|
واللغة الفصحى
غدت بعده
|
|
يلغي الذي في
ضبطها قررا
|
تفسيره البحر
المحيط الذي
|
|
يهدي إلى وراده
الجوهرا
|
فوائد من فضله
جمة
|
|
عليه فيها نعقد
الخنصرا
|
وكان ثبتا نقله
حجة
|
|
مثل ضياء الصبح
إن أسفرا
|
ورحلة في سنّة
المصطفى
|
|
أصدق من يسمع إن
أخبرا
|
له الأسانيد
التي قد علت
|
|
فاستفلت عنها
سوامي الذرا
|
ساوى بها
الأحفاد أجدادهم
|
|
فاعجب لماض فاته
من طرا
|
وشاعرا في نظمه
مفلقا
|
|
كم حرّر اللفظ وكم
حبّرا
|
لها معان كلما
خطها
|
|
تستر ما يرقم في
تسترا
|
__________________
أفديه من ماض
لأمر الردى
|
|
مستقبلا من ربه
بالقرى
|
ما بات في أبيض
أكفانه
|
|
إلا وأضحى سندسا
أخضرا
|
تصافح الحور له
راحة
|
|
كم تعبت في كل
ما سطر
|
إن مات فالذكر
له خالد
|
|
يحيا به من قبل
أن ينشرا
|
جاد ثرى وافاه
غيث إذا
|
|
مساه بالسّقي له
بكّرا
|
وخصه من ربه
رحمة
|
|
تورده في حشره
الكوثرا
|
وكان قد قرأ
القراءات على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحوا من عشرين ختمة
إفرادا وجمعا ، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطباع
بغرناطة ، ثم قرأ السبعة إلى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن
عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص بمالقة ، ثم إنه قدم الإسكندرية ، وقرأ القراءات
على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي ، ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن
هبة الله المليحي ، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية
والإسكندرية وديار مصر والحجاز ، وحصّل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك ،
واجتهد في طلب التحصيل والتقييد والكتابة ، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالا منه ،
لأني لم أره قط إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب ، ولم أره على غير ذلك ، وله إقبال على
الطلبة الأذكياء ، وعنده تعظيم لهم ، ونظم ونثر ، وله الموشحات البديعة ، وهو ثبت
فيما ينقله ، محرر لما يقوله ، عارف باللغة ، ضابط لألفاظها ، وأما النحو والصرف ، فهو إمام الناس كلهم فيهما ، لم يذكر معه في أقطار الأرض
غيره في حياته ، وله اليد الطّولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم
الناس وطبقاتهم وحوادثهم ، خصوصا المغاربة ، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من
إمالة وترقيق وتفخيم ، لأنهم يجاورون بلاد الإفرنج وأسماؤهم قريبة من لغاتهم ،
وألقابهم كذلك ، وقيده وحرره ، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلق بذلك ، وأجابه
عنها.
وله التصانيف التي
سارت وطارت ، وانتشرت وما انتثرت ، وقرئت ودريت ونسخت وما فسخت ، أخملت كتب
الأقدمين ، وألهت المقيمين بمصر والقادمين ، وقرأ الناس عليه ، وصاروا أئمة
وأشياخا في حياته ، وهو الذي جسّر الناس على مصنفات ابن مالك رحمه الله
__________________
تعالى ، ورغبهم في
قراءتها ، وشرح لهم غامضها ، وخاض بهم لججها ، وفتح لهم مقفلها ،
وكان يقول عن مقدمة ابن الحاجب : هذه نحو الفقهاء ، وكان التزم أن لا يقرئ أحدا إلا إن
كان في كتاب سيبويه أو في التسهيل لابن مالك أو في تصانيفه ، ولما قدم من بلاده
لازم الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى كثيرا ، وأخذ عنه كتب الأدب ، وكان شيخا
حسن العمة ، مليح الوجه ، ظاهر اللون ، مشرب الحمرة ، منور الشيبة ، كبير اللحية ، مسترسل الشعر فيها لم تكن
كثّة ، عبارته فصيحة بلغة الأندلس يعقد حرف القاف قريبا من الكاف ، على أنه لا
ينطق بها في القرآن إلا فصيحة ، وسمعته يقول : ما في هذه البلاد من يعقد حرف
القاف.
وكانت له خصوصية
بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك ، ينبسط معه ، ويبيت عنده في قلعة الجبل ،
ولما توفيت ابنته نضار طلع إلى السلطان الملك الناصر محمد ، وسأل منه أن يدفنها في
بيته داخل القاهرة في البرقوقية ، فأذن له في ذلك ، وكان أولا يرى رأي الظاهرية ، ثم إنه
تمذهب للشافعي رضي الله تعالى عنه ، بحث على الشيخ علم الدين العراقي «المحرر»
للرافعي ، و «مختصر المنهاج» للنووي ، وحفظ «المنهاج» إلا يسيرا ، وقرأ أصول الفقه
على أستاذه أبي جعفر بن الزبير ، بحث عليه من الإشارة للباجي ، ومن المستصفى
للغزالي ، وعلى الخطيب أبي الحسن بن فضيلة ، وعلى الشيخ علم الدين العراقي ، وعلى
الشيخ شمس الدين الأصبهاني ، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي ، وقرأ شيئا من أصول الدين على شيخه ابن الزبير ، وقرأ عليه شيئا من
المنطق ، وقرأ أشياء من المنطق على بدر الدين محمد بن سلطان البغدادي ، وقرأ
عليه شيئا من «الإرشاد» للعميدي في الخلاف ، ولكنه برع في النحو ، وانتهت إليه
الرياسة والمشيخة فيه ، وكان خاليا من الفلسفة والاعتزال والتّجسيم
، وكان أولا يعتقد في الشيخ تقي الدين بن تيمية وامتدحه بقصيدة ، ثم إنه انحرف عنه
لما وقف على كتاب «العرش» له ، قال الفاضل كمال الدين الأدفوي : وجرى على مذهب كثير
من النحويين في
__________________
تعصبه للإمام علي
بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه التعصب المتين ، قال : حكي لي أنه قال لقاضي
القضاة بدر الدين بن جماعة : إن عليا رضي الله تعالى عنه عهد إليه النبي صلى الله
عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، أتراه ما صدق في هذا! فقال :
صدق ، قال فقلت له : فالذين سلّوا السيوف في وجهه يبغضونه أو يحبونه أو غير ذلك؟
قال : وكان سيّىء الظن بالناس كافة ، فإذا نقل له عن أحد خبر لا يتكيف به وينثني عنه حتى عمن هو عنده مجروح ، فيقع في
ذم من هو بألسنة العالم ممدوح ، ، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كبير ، منه ألم كثير ،
انتهى.
قلت : أنا لم أسمع
منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيرا ، وما كنت أنقم عليه شيئا إلا ما كان
يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، على أنني أنا ما سمعت في
حقه شيئا ، نعم كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح حتى قلت له يوما : يا سيدي ،
فكيف تعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال : هو رجل مسلم دين ، وإلا ما كان يطير في
الهواء ، ولا يصلي الصلوات الخمس في مكة كما يدعي فيه هؤلاء الأغمار.
وكان فيه ـ رحمه
الله تعالى! ـ خشوع يبكي إذا سمع القرآن ، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية ،
وقال كمال الدين المذكور : قال لي : إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها ، وكذلك
أشعار الشجاعة تستميلني ، وغيرهما ، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ ، انتهى.
قلت : كان يفتخر
بالبخل ، كما يفتخر غيره بالكرم ، وكان يقول لي : أوصيك احفظ دراهمك ويقال عنك
بخيل ، ولا تحتج إلى السفل.
وأنشدني من لفظه
لنفسه : [بحر الطويل]
رجاؤك فلسا قد
غدا في حبائلي
|
|
قنيصا رجاء
للنّتاج من العقم
|
أأتعب في تحصيله
وأضيعه
|
|
إذن كنت معتاضا
من البرء بالسقم
|
قلت : والذي أراه
فيه أنه طال عمره ، وتغرب ، وورد البلاد ولا شيء معه ، وتعب حتى حصل المناصب تعبا
كثيرا ، وكان قد جرب الناس ، وحلب أشطر الدهر ومرت به حوادث ،
__________________
فاستعمل الحزم ،
وسمعته غير مرة يقول : يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس : يشتري له بائتة بفلسين ،
وبفلس زبيبا ، وبفلس كوز ماء ، ويشتري ثاني يوم ليمونا بفلس يأكل به الخبز ، وكان
يعيب على مشتري الكتب ويقول : الله يرزقك عقلا تعيش به ، أنا أي كتاب أردته
استعرته من خزائن الأوقاف ، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك ،
وأنشدني له إجازة : [بحر الكامل]
إن الدراهم
والنساء كلاهما
|
|
لا تأمننّ
عليهما إنسانا
|
ينزعن ذا اللب
المتين عن التقى
|
|
فترى إساءة فعله
إحسانا
|
وأنشدني له من
أبيات : [بحر الطويل]
أتى بشفيع ليس
يمكن رده
|
|
دراهم بيض
للجروح مراهم
|
تصيّر صعب الأمر
أهون ما يرى
|
|
وتقضي لبانات
الفتى وهو نائم
|
ومن حزمه قوله :
عداتي لهم فضل ـ البيتين
وقد مدحه كثير من
الشعراء ، والكبار الفضلاء ، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بقوله : [بحر
الكامل]
قد قلت لما أن
سمعت مباحثا
|
|
في الذات قرّرها
أجلّ مفيد
|
هذا أبو حيان
قلت صدقتم
|
|
وبررتم هذا هو
التوحيدي
|
وكان قد جاء يوما
إلى بيت الشيخ صدر الدين بن الوكيل فلم يجده ، فكتب بالجص على مصراع الباب ، فلما
رأى ابن الوكيل ذلك قال : [بحر الكامل]
قالوا أبو حيان
غير مدافع
|
|
ملك النحاة فقلت
بالإجماع
|
اسم الملوك على
النقود وإنني
|
|
شاهدت كنيته على
المصراع
|
ومدحه شرف الدين
بن الوحيد بقصيدة مطولة أولها : [بحر الطويل]
__________________
إليك أبا حيان
أعملت أنيقي
|
|
وملت إلى حيث
الركائب تلتقي
|
دعاني إليك
الفضل فانقدت طائعا
|
|
ولبيت أحدوها
بلفظي المصدق
|
ومدحه نجم الدين
إسحاق بن المنّيّ التركي ، وسأله تكملة شرح التسهيل بقصيدة ، وأرسلها إليه
من دمشق ، وأولها : [بحر الطويل]
تبدّى فقلنا
وجهه فلق الصبح
|
|
وكمله باليمن
فيه وبالنجح
|
وسهلت تسهيل
الفوائد محسنا
|
|
فكن شارحا صدري
بتكملة الشرح
|
ومدحه مجير الدين
عمر بن اللّمطي بقصيدة أولها : [بحر السريع]
يا شيخ أهل
الأدب الباهر
|
|
من ناظم يلفى
ومن ناثر
|
ومدحه نجم الدين
يحيى الإسكندري بقصيدة أولها : [بحر البسيط]
ضيف ألمّ بنا من
أبرع الناس
|
|
لا ناقض عهد
أيامي ولا ناسي
|
عار من الكبر
والأدناس ذو شرف
|
|
لكنه من سرابيل
العلا كاسي
|
ومدحه نجم الدين
الطوفي بقصيدتين أول الأولى : [بحر الرمل]
أتراه بعد هجران
يصل
|
|
ويرى في ثوب وصل
مبتذل
|
قمر جار على
أحلامنا
|
|
إذ تولاها بقدّ
معتدل
|
وأول الثانية : [بحر
الرمل]
اعذروه فكريم من
عذر
|
|
قمرته ذات وجه
كالقمر
|
ومدحه بهاء الدين
محمد بن شهاب الدين الخيمي بقصيدة أولها : [بحر البسيط]
[إن الأثير أبا حيان أحيانا
|
|
بنشره طي علم
مات أحيانا
|
ومدحه القاضي ناصر
الدين شافع بقصيدة أولها] : [بحر الطويل]
فضضت عن العذب
النمير ختامها
|
|
وفتّحت عن زهر
الرياض كمامها
|
ومدحه جماعة آخرون
يطول ذكرهم ، وكتبت أنا إليه من الرحبة سنة ٧٢٩ : [بحر البسيط]
__________________
لو كنت أملك من
دهري جناحين
|
|
لطرت لكنه فيكم
جنى حيني
|
يا سادة نلت في
مصر بهم شرفا
|
|
أرقى به شرفا
ينأى عن العين
|
وإن جرى لسما
كيوان ذكر علا
|
|
أحلني فضلهم فوق
السماكين
|
وليس غير أثير
الدين أثّله
|
|
فشاد ما شاد لي
حقا بلا مين
|
حبر ولو قلت إن
الباء رتبتها
|
|
من قبل صدّقك
الأقوام في ذين
|
أحيا علوما أمات
الدهر أكثرها
|
|
مذ جلّدت خلّدت
ما بين دفين
|
يا واحد العصر
ما قولي بمتهم
|
|
ولا أحاشي امرأ
بين الفريقين
|
هذي العلوم بدت
من سيبويه كما
|
|
قالوا وفيك
انتهت يا ثاني اثنين
|
قدم لها وبودي لو
أكون فدى
|
|
لما ينالك في
الأيام من شين
|
يا سيبويه الورى
في الدهر لا عجب
|
|
إذا الخليل غدا
يفديك بالعين
|
يقبل الأرض وينهى
ما هو عليه من الأشواق التي برّحت بألمها ، وأجرت الدموع دما ، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها
، وأربت بسحّها على السحائب ، وأين دوام هذه من ديمها ، وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها : [بحر الطويل]
فيا شوق ما أبقى
، ويا لي من النوى
|
|
ويا دمع ما أجرى
، ويا قلب ما أصبى
|
ويذكر ولاءه الذي
تسجع به في الأرض الحمائم ، يسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم ، وثناءه الذي
يتضوّع كالزهر بين الكمائم ، ويتنسّم تنسّم هامات الربا إذا لبست من الربيع
ملوّنات العمائم ، ويشهد الله على ما قد قلته والله سبحانه نعم الشهيد.
فكتب هو الجواب عن
ذلك ولكنه عدم مني.
وأنشدته يوما
لنفسي : [بحر الخفيف]
__________________
قلت للكاتب الذي
ما أراه
|
|
قط إلا ونقّط
الدمع شكله
|
إن تخطّ الدموع
في الخد شيئا
|
|
ما يسمى؟ فقال
خطّ ابن مقله
|
وأنشدني هو من
لفظه لنفسه :
سبق الدمع
بالمسير المطايا
|
|
إذ نوى من أحبّ
عني نقله
|
وأجاد الخطوط في
صفحة الخ
|
|
دّ ولم لا يجيد
وهو ابن مقله
|
وأنشدني في مليح
نوتيّ : [بحر الطويل]
كلفت بنوتيّ كأن
قوامه
|
|
إذا ينثني خوط
من البان ناعم
|
مجاذفه في كل
قلب مجاذب
|
|
وهزاته للعاشقين
هزائم
|
وأنشدته أنا لنفسي
: [بحر الخفيف]
إنّ نوتيّ مركب
نحن فيه
|
|
هام فيه صبّ
الفؤاد جريحه
|
أقلع القلب عن
سلوّي لما
|
|
أن بدا ثغره وقد
طاب ريحه
|
وأنشدته لنفسي
أيضا : [بحر مخلع البسيط]
نوتيّنا حسنه
بديع
|
|
وفيه بدر السماء
مغرى
|
ما حك برّا إلا
وقلنا
|
|
يا ليت أنا نحك
برّا
|
فأعجباه رحمه الله
تعالى ، وزهزه لهما .
وأنشدني هو لنفسه
في مليح أحدب : [بحر المتقارب]
تعشقته أحدبا
كيسا
|
|
يحاكي نحيبا
حنين النّعام
|
إذا كدت أسقط من
فوقه
|
|
تعلقت من ظهره
بالسّنام
|
فأنشدته لنفسي : [بحر
السريع]
وأحدب رحت به
مغرما
|
|
إذ لم تشاهد
مثله عيني
|
لا غرو إن هام
فؤادي به
|
|
وخصره ما بين
دفين
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه في أعمى : [بحر البسيط]
__________________
ما ضرّ حسن الذي
أهواه أنّ سنى
|
|
كريمتيه بلا شين
قد احتجبا
|
قد كانتا زهرتي
روض وقد ذوتا
|
|
لكنّ حسنهما
الفتان ما ذهبا
|
كالسيف قد زال
عنه صقله فغدا
|
|
أنكى وآلم في
قلب الذي ضربا
|
وأنشدته لنفسي في
ذلك : [بحر السريع]
ورب أعمى وجهه
روضة
|
|
تنزّهي فيها
كثير الديون
|
وخدّه ورد غنينا
به
|
|
عن نرجس ما
فتحته العيون
|
وأنشدته أيضا
لنفسي في ذلك : [بحر الطويل]
فيا حسن أعمى لم
يخف حدّ طرفه
|
|
محبّ غدا سكران
فيه وما صحا
|
إذا صاد خلّ بات
يرعى حدوده
|
|
غدا آمنا من مقلتيه
الجوارحا
|
وكتبت إليه
استدعاء ، وهو : المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العالم العلامة ، لسان العرب ،
ترجمان الأدب ، جامع الفضائل ، عمدة وسائل السائل ، حجة المقلّدين ، زين المقلّدين
، قطب المؤملين ، أفضل الآخرين ، وارث علوم الأولين ، صاحب اليد الطولى في كل مكان
ضيق ، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب فكل ذي لبّ إليها شيّق ، والمباحث التي
أثارت الأدلة الراجحة من مكامن أماكنها ، وقنصت أوابدها الجامحة من مواطئ مواطنها ، كشاف معضلات الأوائل ، سبّاق غايات قصر
عن شأوها سحبان وائل ، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقى مرقدها
، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فوق فرقدها ، حتى أبرز كلامه جنان
فكلّ جنّان من بعده عن الدخول إليها جبان ، وأتى ببراهين وجوه حورها لم يطمثهن إنس
قبله ولا جان ، وأبدع خمائل نظم ونثر لا تصل إلى أفنان فنونها يد جان ، أثير الدين
أبي حيان ، لا زال ميت العلم يحييه وهل عجيب ذلك من أبي حيان : [بحر الكامل]
حتى ينال بنو
العلوم مرامهم
|
|
ويحلهم دار
المنى بأمان
|
إجازة كاتب هذه
الأحرف ما رواه فسح الله تعالى في مدته من المسانيد والمصنفات
__________________
والسنن والمجاميع
الحديثية ، والتصانيف الأدبية ، نظما ونثرا ، إلى غير ذلك من أصناف العلوم على
اختلاف أوضاعها ، وتباين أجناسها وأنواعها ، مما تلقاه ببلاد الأندلس وإفريقية
والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية وغيرها من البلدان ، بقراءة أو سماع
أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة ، كيفما تأدّى ذلك إليه ، وإجازة ما له أدام الله
إفادته من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها ،
وما له من نظم ونثر إجازة خاصة ، وأن يثبت بخطه تصانيفه إلى حين هذا التارخ ، وأن
يجيزه إجازة عامة لما يتجدّد له من بعد ذلك على رأي من يراه ويجوّزه ، منعما
متفضلا إن شاء الله تعالى.
فكتب الجواب رحمه
الله تعالى : أعزك الله! ظننت بإنسان جميلا فغاليت ، وأبديت من الإحسان جزيلا وما باليت ، وصفت
من هو القتام يظنه الناس سماء ، والسراب يحسبه الظمآن ماء ، يا ابن
الكرام وأنت أبصر من يشيم ، أمع الروض النضير يرعى الهشيم أما أغنتك فضائلك ، وفواضلك ، ومعارفك ، وعوارفك ، عن نغبة
من دأماء ، وتربة من يهماء ، لقد تبلجت المهارق من نور صفحاتك ، وتأرجت الأكوان من
أريج نفحاتك ، ولأنت أعرف من يقصد للدراية ، وأنقد من يعتم عليه في الرواية ، لكنك
أردت أن تكسو من مطارفك ، وتتفضل من تالدك وطارفك ، وتجلو الخامل في منصة النباهة
، وتنقذه من لكن الفهاهة ، فتشيد له ذكرا ، وتعلي له قدرا ، ولم يمكنه إلا إسعافك
فيما طلبت ، وإجابتك فيما إليه ندبت ، فإن المالك لا يعصى ، والمتفضل المحسن لا
يقصى ، وقد أجزت لك ـ أيدك الله تعالى! ـ جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس
وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك ، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة
بمشافهة وكتابة ووجادة ، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك ،
وجميع ما صنفته واختصرته وجمعته وأنشأته نظما ونثرا ، وجميع ما سألت في هذا
الاستدعاء : فمن مروياتي الكتاب العزيز قرأته بقراءة السبعة على جماعة من أعلاهم
الشيخ المسند المعمّر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة
الله
__________________
المصري ابن
المليحي ، آخر من روى القرآن بالتلاوة على أبي الجود ، والكتب الستة والموطأ ومسند عبد بن حميد ومسند الدارميّ
ومسند الشافعي ومسند الطّيالسي والمعجم الكبير للطّبراني والمعجم الصغير له وسنن
الدارقطني وغير ذلك.
وأما الأجزاء
فكثيرة جدا ، ومن كتب النحو والآداب فأروي بالقراءة كتاب سيبويه ، والإيضاح ،
والتكملة ، والمفصل ، وجمل الزجاجي ، وغير ذلك ، والأشعار الستة والحماسة وديوان
حبيب والمتنبي والمعري ، وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو القراءة فهم كثير
، وأذكر الآن منهم جماعة : فمنهم القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص
القرشي ، والمقري أبو جعفر أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشير الأنصاري ، وإسحاق بن عبد
الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن درباس ، وأبو بكر بن عباس بن يحيى بن غريب القوّاس
البغدادي ، وصفي الدين الحسين بن أبي منصور بن الخزرجي ، وأبو الحسين محمد بن يحيى
بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري ، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي
بن الدّهّان ، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن القسطلاني ، ورضي الله
محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي ، ونجيب الدين محمد بن أحمد [بن محمد]
بن المؤيد الهمداني ، ومكي بن محمد بن أبي القاسم بن حامد الأصبهاني الصّفّار
، ومحمد بن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير بن الفارض ، وزين الدين أبو بكر محمد
بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي ، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني ،
ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداريّ بن الخليلي ، ومحمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف
الأنصاري بن الخيمي ، ومحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر العنسي عرف بابن النّنّ ، وعبد الله بن محمد بن هارون بن عبد العزيز الطائي
القرطبي ، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان بن كامل الخزمي ، وعبد
الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي ، وعبد الرحمن بن يوسف بن
يحيى بن يوسف ابن خطيب المزة ، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري
السكري ، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني ، وعبد
العزيز بن
__________________
عبد القادر بن
إسماعيل الفيالي الصالحي الكتّاني ، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم بن
منجى الخزرجي ، وعلي بن صالح بن أبي علي بن يحيى بن إسماعيل الحسني البهنسي
المجاور ، وغازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي ، والفضل بن علي بن نصر بن
عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي ، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي ،
واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري ، ومؤنسة بنت الملك العادل
أبي بكر بن أيوب بن شادي ، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد
التيمية ، وزينب بنت عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي.
وممن كتبت عنه من
مشاهير الأدباء أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن الفرج المالقي بن المرحل ، وأبو الحسن بن حارم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني ، وأبو عبد الله محمد
بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي ، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن
محمد بن زنّون المالقي ، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكي
المالقي ، وأبو الحسين يحيى بن عبدالعظيم بن يحيى الأنصاري الجزار ، وأبو عمرو
عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي ، وأبو حفص عمر بن محمد بن أبي علي
الحسن المصري الوراق ، وأبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن ياسين الكومي التلمساني ، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن
باتكين القاهري ، وأبو عبد الله محمد بن سعيد [بن محمد] بن حماد بن محسن الصنهاجي البوصيري ، وأبو العباس أحمد بن
عبد الملك بن عبد المنعم العزازي .
وممن أخذت عنه من
النحاة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخشني الأبّدي ، وأبو الحسن
علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي بن الضائع ، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير
الثقفي ، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللّبلي ، وأبو عبد الله
محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر الحلبي ابن النحاس.
__________________
وممن لقيته من
الظاهرية أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري الإشبيلي الزاهد ، وأبو الفضل
محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشّنتمري.
وجملة الذين سمعت
منهم نحو من أربعمائة شخص وخمسين. وأما الذين أجازوني فعالم كثير جدا من أهل
غرناطة ومالقة وسبتة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام ، وأما ما
صنفته فمن ذلك «البحر المحيط» في تفسير القرآن العظيم «إتحاف الأديب ، بما في القرآن من الغريب» كتاب «الأسفار ، الملخص من
كتاب الصّفّار» شرحا لكتاب سيبويه ، كتاب «التجريد لأحكام سيبويه» كتاب «التذييل
والتكميل ، في شرح التسهيل» كتاب «التنخيل ، الملخص من شرح التسهيل» كتاب «التذكرة»
كتاب «المبدع» في التصريف ، كتاب «الموفور» كتاب «التقريب» كتاب «التدريب» كتاب «غاية
الإحسان» كتاب «النكت الحسان» كتاب «الشذا ، في مسألة كذا» كتاب «الفضل ، في أحكام
الفصل» كتاب «اللمحة» كتاب «الشذرة» كتاب «الارتضاء ، في الفرق بين الضاد والظاء»
كتاب «عقد اللآلي» كتاب «نكت الأمالي» كتاب «النافع ، في قراءة نافع» «الأثير ، في
قراءة ابن كثير» «المورد الغمر ، في قراءة أبي عمرو» «الروض الباسم ، في قراءة
عاصم» «المزن الهامر ، في قراءة ابن عامر» «الرمزة ، في قراءة حمزة» «تقريب النائي
، في قراءة الكسائي» «غاية المطلوب ، في قراءة يعقوب» قصيدة «النيّر الجليّ ، في
قراءة زيد بن عليّ» «الوهاج ، في اختصار المنهاج» «الأنور الأجلى ، في اختصار
المحلى» «الحلل الحالية ، في أسانيد القرآن العالية» كتاب «الإعلام ، بأركان
الإسلام» «نثر الزهر ، ونظم الزهر» قطر الحبّي ، في جواب أسئلة الذهبي» فهرست مسموعاتي «نوافث السحر ، في
دمائث الشعر» «تحفة النّدس ، في
نحاة الأندلس» «الأبيات الوافية ، في علم القافية» جزء في الحديث ، مشيخة ابن أبي
المنصور ، كتاب «الإدراك ، للسان الأتراك» «زهو الملك ، في نحو الترك» «نفحة المسك
، في سيرة الترك» كتاب «الأفعال ، في لسان الترك» «منطق الخرس ، في لسان الفرس»
ومما لم يكمل تصنيفه كتاب «مسلك الرشد ، في تجريد مسائل نهاية ابن رشد» كتاب «منهج
السالك ، في الكلام على ألفية ابن مالك» «نهاية الإغراب ، في علمي التصريف والإعراب» رجز «مجاني الهصر ، في آداب
وتواريخ لأهل
__________________
العصر» «خلاصة
التبيان ، في علمي البديع والبيان» رجز «نور الغبش ، في لسان الحبش» «المخبور ، في
لسان اليخمور» قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان.
وأنشدني الشيخ
أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف : [بحر الخفيف]
أنا هاو لمستطيل
أغنّ
|
|
كلما اشتد صارت
النفس رخوه
|
أهمس القول وهو
يجهر سبّي
|
|
وإذا ما انخفضت
أظهر علوه
|
فتح الوصل ثم
أطبق هجرا
|
|
بصفير والقلب
قلقل شجوه
|
لان دهرا ثم
اغتدى ذا انحراف
|
|
وفشا السر مذ
تكررت نحوه
|
وأنشدني أيضا
لنفسه : [بحر الوافر]
يقول لي العذول
ولم أطعه
|
|
تسلّ فقد بدا
للحبّ لحيه
|
تخيل أنها شانت
حبيبي
|
|
وعندي أنها زين
وحليه
|
وأنشدني لنفسه
أيضا : [بحر البسيط]
شوقي لذاك
المحيّا الزاهر الزاهي
|
|
شوق شديد وجسمي
الواهن الواهي
|
أسهرت طرفي
وولّهت الفؤاد هوى
|
|
فالطرف والقلب
مني الساهر الساهي
|
نهبت قلبي وتنهى
أن أبوح بما
|
|
يلقاه واشوقه
للناهب الناهي
|
بهرت كل مليح
بالبهاء فما
|
|
في النّيّرين
شبيه الباهر الباهي
|
لهجت بالحب لما
أن لهوت به
|
|
عن كل شيء فويح
اللاهج اللاهي
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه : [بحر السريع]
راض حبيبي عارض
قد بدا
|
|
يا حسنه من عارض
رائض
|
وظن قوم أن قلبي
سلا
|
|
والأصل لا يعتدّ
بالعارض
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه : [بحر الطويل]
تعشقته شيخا كأن
مشيبه
|
|
على وجنتيه
ياسمين على ورد
|
__________________
أخا العقل يدري
ما يراد من الهوى
|
|
أمنت عليه من
رقيب ومن صدّ
|
وقالوا الورى
قسمان في شرعة الهوى
|
|
لسود اللحى ناس
وناس إلى المرد
|
ألا إنني لو كنت
أصبو لأمرد
|
|
صبوت إلى هيفاء
مائسة القدّ
|
وسود اللحى
أبصرت فيهم مشاركا
|
|
فأحببت أن أبقى
بأبيضهم وحدي
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه : [بحر الطويل]
ألا إن ألحاظا
بقلبي عوابثا
|
|
أظنّ بها هاروت
أصبح نافثا
|
إذا رام ذو وجد
سلوّا منعنه
|
|
وكنّ على دين
التصابي بواعث
|
وقيدن من أضحى
عن الحب مطلقا
|
|
وأسر عن للبلوى
بمن كان رائثا
|
بروحي رشا من آل
خافان راحل
|
|
وإن كان ما بين
الجوانح لابثا
|
غدا واحدا في
الحسن للفضل ثانيا
|
|
وللبدر والشمس
المنيرة ثالثا
|
وأنشدني لنفسه ،
ومن خطه نقلت : [بحر الطويل]
أسحر لتلك العين
في القلب أم وخز
|
|
ولين لذاك الجسم
في اللمس أم خز
|
وأملود ذاك
القدّ أم أسمر غدا
|
|
له أبدا في قلب
عاشقه هز
|
فتاة كساها
الحسن أفخر حلة
|
|
فصار عليها من
محاسنها طرز
|
وأهدى إليها
الغصن لين قوامه
|
|
فماس كأن الغصن
خامره العز
|
يضوع أديم الأرض
من نشر طيبها
|
|
ويخضرّ من آثار
تربتها الجرز
|
وتختال في برد
الشباب إذا مضت
|
|
فينهضها قدّ
ويقعدها عجز
|
أصابت فؤاد الصب
منها بنظرة
|
|
فلا رقية تجدي
المصاب ولا حرز
|
وأنشدني إجازة في
مليح أبرص ، ومن خطه نقلت : [بحر الطويل]
وقالوا الذي قد
صرت طوع جماله
|
|
ونفسك لاقت في
هواه نزاعها
|
به وضح تأباه
نفس أولي النهى
|
|
وأفظع داء ما
ينافي طباعها
|
__________________
فقلت لهم لا عيب
فيه يشينه
|
|
ولا علة فيه
يروم دفاعها
|
ولكنها شمس
الضحى حين قابلت
|
|
محاسنه ألقت
عليه شعاعها
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه في فحام : [بحر الطويل]
وعلّقته مسود
عين ووفرة
|
|
وثوب يعاني صنعة
الفحم عن قصد
|
كأن خطوط الفحم
في وجناته
|
|
لطاخة مسك في
جنيّ من الورد
|
وأنشدني إجازة ،
ومن خطه نقلت : [بحر الخفيف]
سأل البدر هل
تبدّى أخوه
|
|
قلت يا بدر لن
تطيق طلوعا
|
كيف يبدو وأنت
يا بدر باد
|
|
أو بدران يطلعان
جميعا
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني.
عاذلي في الأهيف
الأنس
|
|
لو رآه الآن قد
عذّرا
|
رشأ
قد زانه الحور
|
غصن
من فوقه قمر
|
قمر
من سحبه الشعر
|
ثغر
من فيه أم درر
|
حال بين الدر
واللّعس
|
|
خمرة من ذاقها
سكرا
|
رجة
بالردف أم كسل
|
ريقة
بالثغر أم عسل
|
وردة
بالخد أم خجل
|
كحل
بالعين أم كحل
|
يا لها من أعين
نعس
|
|
جلبت للناظر
السهرا
|
مذ
نأى عن مقلتيّ سني
|
ما
أذيقا لذة الوسن
|
__________________
طال ما ألقاه من شجن
عجبا ضدّان في بدن
بفؤادي جذوة
القبس
|
|
وبعيني الماء
منفجرا
|
قد
أتاني الله بالفرج
|
إذ
دنا مني أبو الفرج
|
قمر
قد حل في المهج
|
كيف
لا يخشى من الوهج
|
غيره لو صابه
نفسي
|
|
ظنه من حره شررا
|
نصب
العينين لي شركا
|
فانثنى
والقلب قد ملكا
|
قمر
أضحى له فلكا
|
قال
لي يوما وقد ضحكا
|
أتجي من أرض
أندلس
|
|
نحو مصر تعشق
القمرا
|
وأما موشحة ابن
التلمساني فهي :
قمر يجلو دجى
الغلس
|
|
بهر الأبصار مذ
ظهرا
|
آمن
من شبهة الكلف
|
ذبت
من عينيه بالكلف
|
لم
يزل يسعى إلى تلفي
|
بركاب
الدّلّ والصّلف
|
آه لولا أعين
الحرس
|
|
نلت منه الوصل
مقتدرا
|
يا
أميرا جار مذ وليا
|
كيف
لا ترثي لمن بليا
|
__________________
فبثغر منك قد جليا
قد حلا طعما وقد حليا
وبما أوتيت من
كيس
|
|
جد فما أبقيت
مصطبرا
|
بدرتم
في الجمال سني
|
ولهذا
لقبوه سني
|
قد
سباني لذة الوسن
|
بمحيا
باهر حسن
|
هو خشفي وهو
مفترسي
|
|
فارو عن أعجوبتي
خبرا
|
لك
خدّ يا أبا الفرج
|
زين
بالتوريد والضّرج
|
وحديث
عاطر الأرج
|
كم
سبى قلبا بلا حرج
|
لو رآك الغصن لم
يمس
|
|
أو رآك البدر
لاستترا
|
يا
مذيبا مهجتي كمدا
|
فقت
في الحسن البدور مدى
|
يا
كحيلا كحله اعتمدا
|
عجبا
أن تبرىء الرمدا
|
وبسقم الناظرين
كسي
|
|
جفنك السحار
وانكسرا
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه أيضا :
إن كان ليل داج
وخاننا الإصباح
|
|
فنورها الوهاج ،
يغني عن المصباح
|
سلافة تبدو
|
|
كالكوكب الأزهر
|
مزاجها شهد
|
|
وعرفها عنبر
|
وحبذا الورد
|
|
منها وإن أسكر
|
قلبي بها قد هاج
، فما تراني صاح
|
|
عن ذلك المنهاج
، وعن هوى يا صاح
|
__________________
وبي رشا أهيف
|
|
قد لج في بعدي
|
بدر فلا يخسف
|
|
منه سنى الخدّ
|
بلحظه المرهف
|
|
يسطو على الأسد
|
كسطوة الحجاج في
الناس والسفاح
|
|
فما ترى من ناج
، من لحظه السفاح
|
علل بالمسك
|
|
قلب رشا أحور
|
منعم المسك
|
|
ذي مبسم أعطر
|
ريّاه كالمسك
|
|
وريقه كوثر
|
غصن على رجراج ،
طاعت له الأرواح
|
|
فحبذا الآراج ،
إن هبت الأرواح
|
مهلا أبا القاسم
|
|
على أبي حيان
|
ما إن له عاصم
|
|
من لحظك الفتان
|
وهجرك الدائم
|
|
قد طال بالهيمان
|
فدمعه أمواج ،
وسره قد باح
|
|
لكنه ما عاج ،
ولا أطاع اللاح
|
يا رب ذي بهتان
|
|
يعذل في الراح
|
وفي هوى غزلان
|
|
دافعت بالراح
|
وقلت لا سلوان
|
|
عن ذاك يا لاح
|
سبع الوجوه
والتاج ، هي منية الأفراح
|
|
فاختر لي يا
زجّاج ، قمصال وزوج أقداح
|
وأنشدني من لفظه
لنفسه القصيدة الدالية التي نظمها في مدح النحو والخليل وسيبويه ، ثم خرج منها إلى
مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه ، وأولها : [بحر الطويل]
هو العلم لا كالعلم
شيء تراوده
|
|
لقد فاز باغيه
وأنجح قاصده
|
وهي قصيدة جيدة
تزيد على مائة بيت.
وحكي لي أن الشيخ
أثير الدين رحمه الله تعالى ضعف فتوجه إليه جماعة يعودونه ، وفيهم شمس الدين بن
دانيال ، فأنشدهم الشيخ رحمه الله تعالى القصيدة المذكورة ، فلما فرغت قال ابن
دانيال : يا جماعة أخبركم أن الشيخ قد عوفي ، وما بقي عليه بأس ، لأنه لم يبق عنده
فضلة ، قوموا باسم الله.
__________________
وأنشدني من لفظه
لنفسه رحمه الله تعالى قصيدة السينية التي أولها : [بحر الطويل]
أهاجك ربع حائل
الرسم دارسه
|
|
كوحي كتاب أضعف
الخط دارسه
|
انتهى نص الصفدي ،
وما ذكره رحمه الله تعالى في موضع ولادة أبي حيان غير مخالف لما ذكره في الوافي
أنه ولد بغرناطة ، إلا أن قوله : «بمدينة مطخشارش» فيه نظر ، لأنه يقتضي أنها
مدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي موضع بغرناطة ، ولذا قال الرعيني : إن مولد أبي حيان
بمطخشارش من غرناطة ، ونحوه لابن جماعة ، انتهى ، وهو صريح في المراد ، وصاحب
البيت أدرى [بالذي فيه] على أنه يمكن أن يرد كلام الصفدي لذلك ، والله تعالى أعلم.
وذكر في الوافي
أنه تولى تدريس التفسير بالقبة المنصورية ، والإقراء بالجامع الأقمر ، قال الصفدي
: وقال لي : لم أر بعد ابن دقيق العيد أفصح من قراءتك ، وكان ذلك حين قرأت عليه
المقامات الحريرية بمصر جماعة ، انتهى.
وما وقع في كلام كثير
من أهل المغرب أن أبا حيان توفي سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة غير ظاهر ، لأن أهل
المشرق أعرف بذلك ، إذ توفي عندهم ، وقد تقدم أنه توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة ،
فعلى كلام أهل المشرق في هذا المعول ، والله أعلم.
وكانت نضار بنت
أبي حيان حجت ، وسمعت بقراءة العلم البرزالي على بعض الشيوخ ، وحدثت بشيء من
مروياتها ، وحضرت على الدمياطي ، وسمعت على جماعة ، وهي بضم النون وتخفيف الضاد ،
وأجازها من المغرب أبو جعفر بن الزبير ، وحفظت مقدمة في النحو ، ولما توفيت عمل
والدها فيها كتابا سماه «النّضار ، في المسلاة عن نضار» وكان والدها يثني عليها كثيرا ،
وكانت تكتب وتقرأ ، قال الصفدي : قال لي والدها : إنها خرّجت جزءا لنفسها ، وإنها
تعرب جيدا ، وأظنه قال لي : إنها تنظم الشعر ، وكان يقول دائما : ليت أخاها حيان
كان مثلها ، وتوفيت رحمها الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ٧٣٠ ، في حياة والدها ،
فوجد عليها وجدا عظيما ولم يثبت ، وانقطع عند قبرها بالبرقية ، ولازمه سنة ، ومولدها في جمادى الآخرة سنة ٧٠٢ ، قال
الصفدي : وكنت بالرحبة لما توفيت ، فكتبت لوالدها بقصيدة أولها : [بحر الوافر]
__________________
بكينا باللجين
على نضار
|
|
فسيل الدمع في
الخدين جاري
|
فيالله جارية
تولّت
|
|
فنبكيها بأدمعنا
الجواري
|
وقال الفقيه
المحدث أبو عبد الله محمد بن سعيد الرعيني الأندلسي في برنامجه ، عند ذكره شيخه
أبا حيان زيادة على ما قدمناه ، ما ملخصه : إن أبا حيان قال : سمعت بغرناطة ومالقة
وبلش والمرية وبجاية وتونس والإسكندرية ومصر والقاهرة ودمياط والمحلة وطهرمس
والجيزة ومنية ابن خصيب ودشنا وقنا وقوص وبلبيس وبعيذاب من بلاد السودان وينبع ومكة شرفها الله تعالى وجدة وأيلة ، ثم فصّل من لقيه في كل
بلد إلى أن قال : وبمكة أبا اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن عبد الله
بن عساكر ، إلى أن قال : فهذه نبذة من شيوخي ، وجملة من سمعت منهم [نحو] خمسمائة ، والمجيزون أكثر من ألف ، وعد من كتب القراءات
التي أخذ تسعة عشر كتابا ، وقال في حق ابن المليحي : إنه أعلى شيوخي في القراءات
وإن آخر من روى عنه السبع أبو الجود غياث بن فارس المنذري اللّخمي ، وإجازته منه
سنة ٦٠٤ ، قال : وقرأت البخاري على جماعة أقدمهم إسنادا فيه أبو العز الحراني
قرأته عليه بلفظي إلا بعض كتاب التفسير من قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ
هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)) [البقرة : ٢٢٢]
إلى قوله سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ
(٢٤)) [النور : ٢٤] في
سورة النور ، فسمعته بقراءة غيري ، قال : أنبأنا به أبو المعالي أحمد بن يحيى بن
عبيد الله الخازن البيع سماعا عليه سنة ستمائة ببغداد ، أنبأنا أبو الوقت بسنده ،
وكمل له رحمة الله تعالى جامع الترمذي بين قراءة وسماع على ابن الزبير بغرناطة ،
وسمعه على محمد بن ترجم ، أنبأنا ابن البناء أنبأنا الكرخي بسنده ، وقرأ السنن لأبي داود بغرناطة على أبي زيد عبد
الرحمن الربعي ، عرف بالتونسي ، أنبأنا به سهل بن مالك ، وقرأه بالقاهرة على أبي
الفضل عبد الرحيم ابن خطيب المزة عن أبي حفص بن طبرزد عن أبي بدر الكرخي ومفلح
الرومي عن أبي بكر بن ثابت الخطيب أنبأنا أبو عمر الهاشمي أنبأنا اللؤلؤي أنبأنا
أبو داود ، وقرأ الموطأ على أبي حفص بن الطباع عن أبي القاسم بن بقي عن ابن عبد الحق عن ابن
الطلاع بسنده ، وهذا أعلى سند يوجد عن يونس بن مغيث في عصره ،
__________________
وسمع أبو حيان
الأجزاء الخلعيات والغيلانيات والقطيعيات والنهروانيات والمحامليات والثقفيات
وسداسيات الرازي بعلو ، قرأها على صفي الدين عبد الوهاب بن الفرات عن أبي الطاهر
إسماعيل بن ياسين الجيلي ، وهو آخر من حدث عنه ، عن أبي عبد الله الرازي سماعا ،
وقرأ جزء الأنصاري على أبي بكر بن الأنماطي بسماعه حضورا في الرابعة على أبي اليمن
زيد بن الحسن الكندي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار سنة ٥٣٢ ، أنبأنا
إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي قراءة عليه في رجب سنة ٤٤٥ ، أنبأنا عبد الله بن
إبراهيم بن ماس ، أنبأنا أبو مسلم الكشي البصري ، أنبأنا محمد بن عبد الله
الأنصاري ، وقرأ جميع كتاب سيبويه على البهاء بن النحاس المشهور بالنحو في مصر
والشام ، بقراءته على علم الدين أبي محمد القاسم بن أحمد بن الموفق ، بقراءته على
التاج أبي اليمن الكندي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد البغدادي مؤلف
كتاب المبهج ، أنبأنا أبو الكرم المبارك بن فاخر بن محمد بن يعقوب عرف بابن
الدبّاس ، أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن عمر بن برهان الأسدي ، أنبأنا القاسم
علي بن عبيد الله الرقيقي ، أنبأنا علي بن عيسى بن عبد الله الرماني ، أنبأنا أبو
بكر بن السراج ، أنبأنا أبو العباس المبرد ، أنبأنا أبو عمر الجرمي وأبو عثمان
المازني ، قالا : أنبأنا أبو الحسن الأخفش ، أنبأنا سيبويه ، قال الشيخ أبو حيان :
ولا أعلم راويا له بمصر والشام والعراق واليمن والمشرق غيري ، ورويته عن الأساتيذ
أبوي علي بن الضائع وابن أبي الأحوص وأبي جعفر اللّبلي عن أبي علي الشلوبين ،
وسنده مشهور بالمغرب ، ووقع لأبي حيان تساعيات كثيرة ، وأغرب ما وقع له ثلاثة
أحاديث بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثمانية ، أخبره المحدث نجيب
محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني بقراءته عليه والجليلة السلطانية مؤنسة
بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي قراءة عليها وهو يسمع قالا : أنبأنا أبو
الفخر أسعد بن سعيد بن روح في كتابه ، أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد
الجوزدانية ، أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريدة الضبي الأصبهاني ، أنبأنا الحافظ
أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطر اللخمي الطبراني ، أنبأنا عبيد الله بن
رماحس القيسي برمادة الرملة سنة ٢٧٤ ، أنبأنا أبو عمر زياد بن طارق وقد أتت عليه
عشرون ومائة سنة ، قال : سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول : لما أسرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم هوازن أتيته فقلت : [بحر البسيط]
__________________
امنن علينا رسول
الله في كرم
|
|
فإنك المرء
ترجوه وننتظر
|
امنن على بيضة
قد عاقها قدر
|
|
مشتّت شملها في
دهرها غير
|
أبقت لنا الدهر
هتّانا على حزن
|
|
علا قلوبهم
الغماء والغمر
|
إن لم تداركهم
نعماء تنشرها
|
|
يا أرجح الناس
حلما حين يختبر
|
امنن على نسوة
قد كنت ترضعها
|
|
إذ فوك تملؤه من
محضها الدرر
|
إذ أنت طفل صغير
كنت ترضعها
|
|
وإذ يريبك ما
تأتي وما تذر
|
لا تجعلنّا كمن
شالت نعامته
|
|
واستبق منا فإنا
معشر زهر
|
إنا لنشكر
للنعماء إذ كفرت
|
|
وعندنا بعد هذا
اليوم مدّخر
|
فألبس العفو من
قد كنت ترضعه
|
|
من أمهاتك إن
العفو مشتهر
|
يا خير من مرحت
كمت الجياد به
|
|
عند الهياج إذا
ما استوقد الشرر
|
إنا نؤمل عفوا
منك تلبسه
|
|
هذي البرية إذ
تعفو وتنتصر
|
فاعف عفا الله
عما أنت راهبه
|
|
يوم القيامة إذ
يهدي لك الظفر
|
فلما سمع صلى الله
عليه وسلم هذا الشعر قال : «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فقالت قريش : ما كان لنا فهو
لله ولرسوله ، وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لله ولرسوله ، قال أبو القاسم
الطبراني : لا يروى عن زهير إلا بهذا الإسناد ، وتفرد به عبيد الله بن رماحس ،
وبالإسناد إلى الطبراني أنبأنا جعفر بن حميد بن عبد الكريم بن فرّوخ بن ديزج بن
بلال بن سعد الأنصاري الدمشقي ، قال : حدثني جدي لأمي عمر بن أبان بن مفضل بن أبان
المدني ، قال : أراني أنس بن مالك الوضوء : أخذ ركوة فوضعها عن يساره ، وصبّ على يده اليمنى فغسلها ثلاثا ، ثم
أدار الركوة عن يده اليمنى وصبّ على يساره فغسلها ثلاثا وثلاثا ومسح برأسه ثلاثا
وأخذ ماء جديدا لصماخيه فمسح صماخيه ، فقلت له : قد مسحت أذنيك ، فقال : يا غلام ،
هل رأيت وفهمت أو أعيد عليك؟ فقلت : قد كفاني ، وقد فهمت ، قال : فكذا رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، قال الطبراني : لم يرو عمر بن أبان عن أنس حديثا
غير هذا ، وبالإسناد
__________________
إلى الطبراني :
حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد القصاص البصري ، أنبأنا دينار بن عبد الله مولى أنس بن
مالك ، حدثني أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «طوبى لمن
رآني وآمن بي ، ومن رأى من رآني وآمن بي ، ومن رأى من رأى من رآني».
ثم قال الرعيني :
وتصانيف أبي حيان تزيد على خمسين ما بين طويل وقصير ، ثم قال الرعيني : وخرج أبو
حيان من الأندلس مفتتح سنة ٦٧٩ ، واستوطن القاهرة بعد حجه ، وأنشد لشيخه أبي الحسن
الزّجّاج : [بحر الطويل]
رضيت كفافي رتبة
ومعيشة
|
|
فلست أسامي
موسرا ووجيها
|
ومن جر أثواب
الزمان طويلة
|
|
فلا بد يوما أن
سيعثر فيها
|
وأنشد بإسناده
لموسى بن أبي تليد : [بحر المنسرح]
حالي مع الدهر
في تقلّبه
|
|
كطائر ضم رجله
شرك
|
فهمه في خلاص
مهجته
|
|
يروم تخليصها
فتشتبك
|
ثم أورد الرعيني
جملة من نظم الإمام أبي حيان ، منها قوله : [بحر الطويل]
أريد من الدنيا
ثلاثا وإنها
|
|
لغاية مطلوب لمن
هو طالب
|
تلاوة قرآن ،
ونفس عفيفة ،
|
|
وإكثار أعمال
عليها أواظب
|
وقوله : [بحر
البسيط]
أرحت روحي من
الإيناس بالناس
|
|
لما غنيت عن
الأكياس بالياس
|
وصرت في البيت
وحدي لا أرى أحدا
|
|
بنات فكري وكتبي
هنّ جلاسي
|
وقوله : [بحر الطويل]
وزهدني في جمعي
المال أنه
|
|
إذا ما انتهى
عند الفتى فارق العمرا
|
فلا روحه يوما
أراح من العنا
|
|
ولم يكتسب حمدا
ولم يدخر أجرا
|
وقوله : [بحر
الوافر]
__________________
يظن الغمر أن
الكتب تجدي
|
|
أخا ذهن لإدراك
العلوم
|
وما يدري الجهول
بأن فيها
|
|
غوامض حيرت عقل
الفهيم
|
إذا رمت العلوم
بغير شيخ
|
|
ضللت عن الصراط
المستقيم
|
وتلتبس الأمور
عليك حتى
|
|
تصير أضل من
توما الحكيم
|
وله لغز في قيراط
زاعما أنه لا يفك : [بحر الطويل]
وما اسم خماسي
إذا ما فككته
|
|
يصير لنا فعلين
أمرا وماضيا
|
بعكس وهو كل
وجزء وجمعه
|
|
بإبدال عين حاز
فيه التناهيا
|
ومع كونه فردا
وجمعا فأول
|
|
وآخره أضحى لشخص
معاديا
|
وفي عكسه صوت
فتبنيه صيغة
|
|
وتبني بمعناه
وما أنت بانيا
|
فكم فيه من معنى
خفي وإنما
|
|
عنيت بذكري للذي
ليس خافيا
|
ثم قال الرعيني :
وهو شيخ فاضل ، ما رأيت مثله ، كثير الضحك والانبساط ، بعيد عن الانقباض ، جيد
الكلام ، حسن اللقاء ، جميل المؤانسة ، فصيح الكلام ، طلق السان ، ذو لمة وافرة ، وهمة فاخرة ، له وجه مستدير ، وقامته معتدلة
التقدير ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، انتهى ما لخصته من كلام الرعيني.
ولما قدم الأستاذ
أبو حيان إلى مصر أوصى أهله بقوله : ينبغي للعاقل أن يعامل كل أحد في الظاهر
معاملة الصديق ، وفي الباطن معاملة العدو في التحفظ منه والتحرز ، وليكن في التحرز
من صديقه أشد من التحرز من عدوه ، وأن يعتقد أن إحسان شخص إلى آخر وتودده إليه
إنما هو لغرض قام له فيه يتعلق به يبعثه على ذلك لا لذات ذلك الشخص ، وينبغي أن
يترك الإنسان الكلام في ستة أشياء : في ذات الله تعالى ، وما يتعلق بصفاته ، وما
يتعلق بأحوال أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين! وفي التعرض لما جرى بين
الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين! وفي التعرض أيضا لأئمة المذاهب رحمهم الله
تعالى ورضي عنهم! وفي الطعن على صالحي الأمة نفع الله بهم! وعلى أرباب المناصب والرتب من
أهل زمانه ، وأن لا يقصد أذى
__________________
أحد من خلق الله
سبحانه وتعالى إلا على حسب الدّفع عن نفسه ، وأن يعذر الناس في مباحثهم وإدراكاتهم
، فإن ذلك على حسب عقولهم ، وأن يضبط نفسه عن المراء والاستزراء والاستخفاف بأبناء
زمانه ، وأن لا يبحث إلا مع من اجتمعت فيه شرائط الديانة والفهم والمزاولة لما
يبحث ، وأن لا يغضب على من لا يفهم مراده ومن لم يدر ما يدركه ، وأن يلتمس مخرجا
لمن ظاهر كلامه الفساد ، وأن لا يقدم على تخطئة أحد ببادي الرأي ، وأن يترك الخوض
في علوم الأوائل ، وأن يجعل اشتغاله بعلوم الشريعة ، وأن لا ينكر على الفقراء ،
وليسلم لهم أحوالهم ، وينبغي للعاقل أن يلزم نفسه التواضع لعبيد الله سبحانه
وتعالى ، وأن يجعل نصب عينيه أن عاجز مفتقر ، وأن لا يتكبر على أحد ، وأن يقلّ من
الضحك والمزاح والخوض فيما لا يعنيه ، وأن يتظاهر لكل بما يوافقه فيما لا معصية
لله تعالى فيه ولا خرم مروءة ، وأن يأخذ نفسه باجتناب ما هو قبيح عند الجمهور ، وأن لا
يظهر الشكوى لأحد من خلق الله تعالى ، وأن لا يعرض بذكر أهله ، ولا يجري ذكر حرمه
بحضرة جليسه ، وأن لا يطلع أحدا على عمل خير يعمله لوجه الله تعالى ، وأن يأخذ
نفسه بحسن المعاملة من حسن اللفظ وجميل التغاضي ، وأن لا يركن إلى أحد إلا إلى الله تعالى ، وأن يكثر من
مطالعة التواريخ فإنها تلقح عقلا جديدا ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، انتهت وصية
أبي حيان الجامعة النافعة ، وقد نقلتها من خط الشيخ العلامة أبي الطيب بن علوان
التونسي المالكي الشهير المصري ، وهو ممن أخذ عن تلامذة الشيخ أبي حيان ، رحمه
الله تعالى.
قلت : وبما في هذه
الوصية من نهيه عن الطعن في صالحي الأمة نفع الله تعالى بهم وأمره بالتسليم
لأحوالهم وعدم الإنكار عليهم ؛ تعلم أن ما نقله الصفدي عنه فيما تقدم من قوله : «إن
الشيخ أبا مدين إلى آخره» كلام فيه نظر ، لأن أبا حيان رضي الله تعالى عنه لا ينكر
كرامات الأولياء ، كيف وقد ذكر رحمه الله تعالى منها كثيرا ، فمن ذلك ما حكى عنه
تلميذه الرعيني بسنده إلى الفقيه المقري الصالح أبي تمام غالب بن حسن بن أحمد بن
سيد بونة الخزاعي ، حدث أنه زار قبر أبي الحسن بن جالوت ، ولم يكن
زاره قبل ، فاشتبه عليه فتركه ، فسمع النداء من قبر معين : يا غالب أتمشي وما
زرتني؟ فزار ذلك القبر ، وقعد عنده ، ثم جاء ابن أبي الحسن المذكور ، فسأله عن
القبر ، فقال : هو الذي قعدت عنده ، وغالب هذا وابن
__________________
جالوت هما من
أصحاب الشيخ أبي أحمد [جعفر] بن سيد بونة الخزاعي ، وهو من أصحاب الشيخ أبي مدين ،
انتهى ، فكيف ينكر أبو حيان كرامات الصالحين وهو ينهى عن الطعن فيهم ، ويحكي كراماتهم ، نعم قول الصفدي قبل
ذلك الكلام «إنه كان ينكر على فقراء الوقت» كلام صحيح في الجملة ، لكثرة الدعاوى
الباطلة ممن ليس من أهل الصلاح ، وأما إنكار الكرامات مطلقا فمقام أبي حيان يجل عن
ذلك ، والله تعالى أعلم.
وقد أورد ابن
جماعة له من قطعة قوله في أهل عصره : [بحر الوافر]
ومن يك يدّعي
منهم صلاحا
|
|
فزنديق تغلغل في
الضلال
|
وأول هذه القطعة :
[الوافر]
حلبت الدهر
أشطره زمانا
|
|
وأغناني العيان
عن السؤال
|
فما أبصرت من
خلّ وفيّ
|
|
ولا ألفيت مشكور
الخلال
|
ذئاب في ثياب قد
تبدّت
|
|
لرائيها بأشكال
الرجال
|
ومن يك يدعي
منهم صلاحا
|
|
فزنديق تغلغل في
الضلال
|
ترى الجهال
تتبعه وترضى
|
|
مشاركة بأهل أو
بمال
|
فينهب مالهم
ويصيب منهم
|
|
نساءهم بمقبوح
الفعال
|
ويأخذ حاله زورا
فيرمي
|
|
عمامته ويهرب في
الرمال
|
ويجرون التيوس
وراء رجس
|
|
تقرمط في
العقيدة والمقال
|
أي اعتقدوا رأي
القرامطة ، ومذهبهم مشهور ، فلا نطيل به ، فظهر بما ذكر أن أبا حيان إنما أنكر على
أهل الدعاوى ، لا على غيرهم ، والله تعالى أعلم.
وقد أورد قاضي
القضاة ابن جماعة للشيخ أبي حيان من النظم غير ما قدمنا ذكره [وهو] قوله : [بحر الطويل]
__________________
أما إنه لولا
ثلاث أحبّها
|
|
تمنّيت أني لا
أعدّ من الأحيا
|
فمنها رجائي أن
أفوز بتوبة
|
|
تكفّر لي ذنبا
وتنجح لي سعيا
|
ومنهن صوني
النفس عن كل جاهل
|
|
لئيم فلا أمشي
إلى بابه مشيا
|
ومنهن أخذي
بالحديث إذا الورى
|
|
نسوا سنة
المختار واتّبعوا الرأيا
|
أتترك نصّا
للرسول وتقتدي
|
|
بشخص؟ لقد بدّلت
بالرشد الغيّا
|
وقوله : [بحر
الخفيف]
سال في الخد
للحبيب عذار
|
|
وهو لا شكّ سائل
مرحوم
|
وسألت التثامه
فتجنّى
|
|
فأنا اليوم سائل
محروم
|
وقوله : [بحر
الطويل]
أمدّعيا علما
ولست بقارئ
|
|
كتابا على شيخ
به يسهل الحزن
|
أتزعم أن الذهن
يوضح مشكلا
|
|
بلا موضح؟ كلا
لقد كذب الذهن
|
وإن الذي تبغيه
دون معلم
|
|
كموقد مصباح
وليس له دهن
|
وقوله «عداتي ـ البيتين»
قال : وأخذ هذا المعنى من قول الطغرائي : [بحر الكامل]
من خص بالود
الصحاب فإنني
|
|
أحبو بخالص ودّي
الأعداء
|
جعلوا التنافس
في المعالي ديدني
|
|
حتى وطئت بأخمصي
الجوزاء
|
ونعوا إليّ مثالبي
فحذرتها
|
|
ونفيت عن أخلاقي
الأقذاء
|
ولربما انتفع
الفتى بعدوّه
|
|
كالسم أحيانا
يكون دواء
|
ومن نظم أبي حيان
: [بحر البسيط]
يا منضي الطّرف
في ميدان لذته
|
|
وناضي الطرف بين
الراح والرود
|
ستشرب الروح راح
الوقت كارهة
|
|
ويذهب الجسم بين
الترب في الدود
|
__________________
وله رحمه الله
تعالى قصيدة سماها «بالمورد العذب ، في معارضة قصيدة كعب» وقصيدة في مدح الإمام
الشافعي مطلعها :
غذيت بعلم النحو إذ درّ لي ثديا
وله رحمه الله
تعالى من قصيدة في مدح أم ولده حيّان : [بحر الطويل]
جننت بها سوداء
لون وناظر
|
|
ويا طالما كان
الجنون بسوداء
|
وجدت بها برد
النعيم وإن يكن
|
|
فؤادي منها في
جحيم ولأواء
|
وشاهدت معنى
الحسن فيها مجسدا
|
|
فأعجب لمعنى صار
جوهر أشياء
|
أطاعنة من قدها
بمثقف
|
|
أصبت وما أغنى
الفتى لبس حصداء
|
لقد طعنت والقلب
ساه فما درى
|
|
أبالقدّ منها أم
بصعدة سمراء
|
ثم غير البيت
الأول ، وأنشد :
جننت بها سوداء
شعر وناظر
|
|
وسمراء لون
تزدري كل بيضاء
|
وقال يهنئ ، قال
ابن جماعة : خاطبني به ارتجالا عند ولادة ابني عمر بعد بنتين : [بحر المتقارب]
حبيت بريحانتي
روضة
|
|
وبعدهما جاء نجل
أغر
|
وسميته اسم إمام
إذا
|
|
رآه أبو مرّة
منه فر
|
ولا عجب منك عبد
العزيز
|
|
إذا كان نجلك
يسمى عمر
|
تفرّعتما من
إمام الهدى
|
|
وبدر الدجى
ورئيس البشر
|
فلا زال يوضح
سبل الهدى
|
|
ولا زلتما
تقفوان الأثر
|
وقال : [بحر
الطويل]
لقد زادني
بالناس علما تجاربي
|
|
ومن جرّب الأيام
مثلي تعلما
|
وإني وتطلابي من
الناس راحة
|
|
لكالمبتغي وسط
الجحيم تنعما
|
سأزهد حتى لا
أرى لي صاحبا
|
|
وأنجد حتى لا
ألاقي متهما
|
__________________
قال ابن جماعة :
وقال في إملاك علي بن قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي. وكان جميل
الصورة ، على أختي شقيقتي فاطمة : [بحر الطويل]
هنيئا بتأليف
غريب نظامه
|
|
لقد حار في
أوصافه نظم عارف
|
غدت شمس حسن بنت
بدر سيادة
|
|
تزفّ لبدر نجل
شمس معارف
|
سميان للزهرا
البتول وللرضا
|
|
علي ونجلا
الأكرمين الغطارف
|
فدام عليّ عالي
الجد سيدا
|
|
ولا زال في ظل
من العيش وارف
|
وقال يخاطب شيخه
ابن النحاس وقد أغبّ زيارته : [بحر الطويل]
أعين حياتي
والذي ببقائه
|
|
بقائي لقد أصبحت
نحوك شيّقا
|
أقمت بقلبي غير
أنّ لمقلتي
|
|
برؤيتك الحظ
الذي يذهب الشقا
|
وما كان ظني أنك
الدهر تاركي
|
|
ولو أنني أصبحت
بين الورى لقا
|
لطائف معنى في
العيان ولم تكن
|
|
لتدرك إلا
بالتزاور واللّقا
|
وقال يخاطب قاضي
القضاة شمس الدين السروجي الحنفي ، وقد أعيد إلى منصب القضاء ، وكان يتطلع إليه
رجل يدعى نجم الدين : [بحر الطويل]
ذوو العلم في
الدنيا نجوم زواهر
|
|
وإنك فيها الشمس
حقا بلا لبس
|
إذا لحت أخفى
نوركم كل نير
|
|
ألم تر أن النجم
يخفى مع الشمس
|
وقال : [بحر
الخفيف]
لم أؤخر عمن أحب
كتابي
|
|
لقلى فيه أو
لترك هواه
|
غير أني إذا
كتبت كتابا
|
|
غلب الدمع مقلتي
فمحاه
|
وقال : [بحر
البسيط]
تذكري للبلى في
قعر مظلمة
|
|
أصارني زاهدا في
المال والرتب
|
أنّي أسرّ بحال
سوف أسلبها
|
|
عما قريب وأبقى
رمّة الترب؟
|
__________________
وقال : [بحر
الطويل]
أتيت وما أدعي
وأقبلت سامعا
|
|
فوائد مولى سيد
ماجد ندب
|
وأحضر جمعا أنت
فيه جماله
|
|
أشنف سمعي منك
باللؤلؤ الرطب
|
وقال : [بحر
البسيط]
لنا غرام شديد
في هوى السّود
|
|
نختارهن على بيض
الطلا الغيد
|
لون به أشرقت
أبصارنا وحكى
|
|
في اللون والعرف
نفح المسك والعود
|
لا شيء أحسن من
آس تركّبه
|
|
في آبنوس ولا
أشفى لمبرود
|
لا تهو بيضاء
لون الجص واسم إلى
|
|
سوداء حسناء لون
الأعين السود
|
في جيدها غيد ،
في قدها ميد
|
|
في خدّها صيد ،
من سادة صيد
|
من آل حام حمت
قلبي بنار جوى
|
|
من هجرها وابتلت
عيني بتسهيد
|
وقال في عكسه : [بحر
الوافر]
إذا مال الفتى
للسود يوما
|
|
فلا رأي لديه
ولا رشاد
|
أتهوى خنفساء
كأن زفتا
|
|
كسا جلدا لها
وهو السّواد
|
وما السوداء إلا
قدر فرن
|
|
وكانون وفحم أو
مداد
|
وما البيضاء إلا
الشمس لاحت
|
|
تنير العين منها
والفؤاد
|
سبيكة فضة حشيت
بورد
|
|
يلذ السهد معها
والرقاد
|
وبين البيض
والسودان فرق
|
|
لدى عقل به اتضح
المراد
|
وجوه المؤمنين
بها ابيضاض
|
|
ووجه الكافرين
به اسوداد
|
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر الطويل]
أعاذل ذرني
وانفرادي عن الورى
|
|
فلست أرى فيهم
صديقا مصافيا
|
نداماي كتب
أستفيد علومها
|
|
أحبّاي تغني عن
لقائي الأعاديا
|
وآنسها القرآن
فهو الذي به
|
|
نجاتي إذا فكرت
أو كنت تاليا
|
لقد جلت في غرب
البلاد وشرقها
|
|
أنقب عمن كان
لله داعيا
|
__________________
فلم أر إلا
طالبا لرياسة
|
|
وجمّاع أموال
وشيخا مرائيا
|
قبضت يدي عنهم
وآثرت عزلة
|
|
عن الناس
واستغنيت بالله كافيا
|
قال العز بن جماعة
: وخاطب والدي وقد أبلّ من ضعف أشيع فيه موته مهنئا له: [بحر المتقارب]
أدام الإله لك العافيه
|
|
وصيّر دور العدا
عافيه
|
إذا لاح من
بدركم نوره
|
|
فكل النجوم به
خافيه
|
تخذت كلام الإله
الدوا
|
|
فآياته كانت
الشافيه
|
تشوّف ناس
لمنصبكم
|
|
ورتبتهم للعلا
نافيه
|
فأين العلوم
وأين الحلوم
|
|
وخلق موارده
صافيه؟
|
هم عصبة لا تنال
العلا
|
|
ولو أنها قد سعت
حافيه
|
إذا كان خرق
تداركته
|
|
وليست لما مزقت
رافيه
|
فإن عنّ خطب
ثبتّ له
|
|
وآراؤهم عنده
هافيه
|
سجاياك لين ورفق
بنا
|
|
وأخلاقهم كلها
جافيه
|
تصلي على سبعة
منهم
|
|
وثامنهم نفسه
طافيه
|
يقيمون في تربهم
همّدا
|
|
وتسفي على قبرهم
سافيه
|
فلا زلت في صحة
دائما
|
|
تجر ذيول السنى
ضافيه
|
ويوردك الله عين
الحياة
|
|
فتحيا بها مائة
وافيه
|
فإن زاد عشرا
فذاك المنى
|
|
وعشرون أيضا هي
الكافيه
|
وهذي القوافي
أتت كمّلا
|
|
فلم تبق لي
بعدها قافيه
|
وقال رحمه الله
تعالى أيضا : [بحر الرمل]
خلق الإنسان في
كبد
|
|
بوجود الأهل
والولد
|
كل عضو فيه
نافعه
|
|
غير عضو ضر
للأبد
|
__________________
منتج ذلا وفقد
غنّى
|
|
وفراخا جمة
العدد
|
من يمت منهم
يذقه أسى
|
|
أو يعش ألقاه في
نكد
|
عاش في أمن فتى
عزب
|
|
مستريح الفكر
والجسد
|
وقال رحمه الله
تعالى أيضا : [بحر الخفيف]
جنّ غيري بعارض
فترجّى
|
|
أهله أن يفيق
عما قريب
|
وفؤادي بعارضين
مصاب
|
|
فهو داء أعيا
دواء الطبيب
|
وقال : [بحر
الطويل]
سعت حية من شعره
نحو صدغه
|
|
وما انفصلت من
خده ، إن ذا عجب
|
وأعجب من ذا أنّ
سلسال ريقه
|
|
برود ولكن شبّ
في قلبي اللهب
|
وقال : [بحر
البسيط]
طالع تواريخ من
في الدهر قد وجدوا
|
|
تجد خطوبا تسلّي
عنك ما تجد
|
تجد أكابرهم قد
جرعوا غصصا
|
|
من الرزايا بها
كم فتتت كبد
|
عزل ونهب وضرب
بالسياط وحب
|
|
س ثم قتل وتشريد
لمن ولدوا
|
وإن وقيت بحمد
الله شرّتهم
|
|
فلتحمد الله
فالعقبى لمن حمدوا
|
وقال رحمه الله
تعالى يمدح البخاري ، وكتابه الصحيح : [بحر الطويل]
أسامع أخبار
الرسول لك البشرى
|
|
لقد سدت في
الدنيا وقد فزت في الأخرى
|
تشنف آذانا بعقد
جواهر
|
|
تود الغواني لو
تقلّده النحرا
|
جواهر كم حلّت
نفوسا نفيسة
|
|
فحلت بها صدرا
وحلّت بها قدرا
|
هل الدين إلا ما
روته أكابر
|
|
لنا نقلوا
الأخبار عن طيب خببرا
|
وأدوا أحاديث
الرسول مصونة
|
|
عن الزّيف
والتصحيف فاستوجبوا الشكرا
|
وإن البخاريّ
الإمام لجامع
|
|
بجامعه منها
اليواقيت والدرا
|
__________________
على مفرق
الإسلام تاج مرصع
|
|
أضاء به شمسا
ونار به بدرا
|
وبحر علوم يلفظ
الدّرّ لا الحصا
|
|
فأنفس بها درا
وأعظم به بحرا
|
تصانيفه نور
ونور لناظر
|
|
فقد أشرقت زهرا
وقد أينعت زهرا
|
نحا سنة المختار
ينظم شتّها
|
|
يلخصها جمعا ويخلصها
تبرا
|
وكم بذل النفس
المصونة جاهدا
|
|
فجاز لها بحرا
وجاب لها برا
|
فطورا عراقيا
وطورا يمانيا
|
|
وطورا حجازيا
وطورا أتى مصرا
|
إلى أن حوى منها
الصحيح صحيفة
|
|
فوافى كتابا قد
غدا الآية الكبرى
|
كتاب له من شرع
أحمد شرعة
|
|
مطهرة تعلو
السماكين والنسرا
|
قلت : وتتصل
روايتي عن الإمام أبي حيّان من طرق عديدة : منها من عمي وليّ الله العارف به شيخ
الإسلام مفتي الأنام الخطيب الإمام ملحق الأحفاد بالأجداد سيدي سعيد بن أحمد
المقري التّلمساني ، عن شيخه العالم أبي عبد الله التّنسي ، عن والده حافظ عصره سيدي
محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التّنسي ثم التلمساني الأموي ، عن عالم الدنيا أبي
عبد الله بن مرزوق ، عن جده الرئيس الخطيب سيدي أبي عبد الله محمد بن مرزوق ، عن
الأثير أبي حيان بكل مروياته : فمنها أن أبا حيان قال : حدثنا ابن أبي الأحوص عن
قاضي الجماعة أبي القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن
مخلد بن عبد الرحمن بن أحمد بن بقي بن مخلد بن يزيد القرطبي عن أبيه عن أبيه عن
أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه الإمام بقي بن مخلد عن أبي
بكر المقدمي عن عمر بن علي وعبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن
بن رافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «مر بمجلسين أحدهما يدعون
الله ويدعون إليه ، والآخر يتعلمون العلم ويعلمونه فقال : كل المجلسين خير ،
وأحدهما أفضل من الآخر ، أما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل فهم أفضل ، وأما هؤلاء
فيدعون الله ويرغبون إليه إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وأنا بعثت معلما ، ثم جلس
معهم».
قال أبو حيان :
قلت : لا أعرف حديثا اجتمعت فيه رواية الأبناء عن الآباء بعدد ما اجتمع في هذا إلا
ما أخبرنا به أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن بن ماجة بقراءتي عليه ، أنبأنا
__________________
أبو المعالي
الأبرموي أنبأنا أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن سابور القلانسي ، أنبأنا أبو
المبارك عبد العزيز بن محمد بن منصور الشيرازي ، أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب
التميميّ ، قال : سمعت أبي أبا الفرج عبد الوهاب يقول : سمعت أبي أبا الحسن عبد
العزيز يقول : سمعت أبي أبا بكر الحارث يقول : سمعت أبي أسدا يقول : سمعت أبي
الليث يقول : سمعت أبي سليمان يقول : سمعت أبي الأسود يقول : سمعت أبي سفيان يقول
: سمعت أبي يزيد يقول : سمعت أبي أكيمة يقول : سمعت أبي الهيثم يقول : سمعت أبي عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : «ما اجتمع قوم على ذكر إلّا حفّتهم الملائكة وعمّتهم الرّحمة» انتهى.
قلت : قال الحافظ
ابن حجر في فوائده : ما اجتمع حديث فيه من عدد الآباء أكثر من هذا ، انتهى.
ورأيت بخط بعض
الحفاظ على قول أبي أكيمة ما صورته : صوابه أكينة ، انتهى ، فليحرر.
ومنها أن أبا حيان
قال : أنبأنا الأستاذ أبو جعفر الزبير صاحب الصلة ، أنبأنا القاضي أبو عبد الله
محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن الحسن بن عطية ، ح
قال أبو حيان : وأنبأنا الأصولي أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر بن ربيع الأشعري ،
عن أبي الحسن أحمد بن علي الغافقي ، قال : أنبأنا عياض ، ح وكتب لنا الخطيب أبو
الحجاج يوسف بن أبي ركانة ، عن القاضي أبي القاسم أحمد بن عبد الودود بن سمحون عن
عبد الله بن عطية قال هو وعياض : أنبأنا القاضي أبو بكر بن العربي ،
أنبأنا أبو محمد هبة الله الأكفاني ، أنبأنا الحافظ عبد العزيز الكناني الدمشقي ،
أنبأنا أبو عصمة نوح بن الفرغاني قال : سمعت أبا المظفر عبد الله بن محمد
بن عبد الله ابن قتّ الخزرجي وأبا بكر محمد بن عيسى البخاري قالا : سمعنا أبا ذر
عمار بن محمد بن مخلد التميمي يقول : سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن
الفضل البخاري يقول : لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن يزيد الهمداني عن
قضاء الريّ ورد بخارى سنة ٣١٨ لتجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي ،
فنزل في جوارنا ، فحملني معلمي أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الختليّ إليه فقال له
: أسألك أن تحدث هذا الصبي ما سمعته من مشايخك فقال : مالي سماع ، فقال : وكيف
__________________
وأنت فقيه؟ فما
هذا؟ قال : لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى طلب الحديث ورواية الأخبار
وسماعها ، فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب التاريخ والمنظور إليه في
علم الحديث ، وأعلمته مرادي ، وسألته الإقبال على ذلك ، فقال لي : يا بني ، لا
تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره ، فقلت. عرّفني ـ رحمك الله
تعالى! ـ حدود ما قصدتك له ، ومقادير ما سألتك عنه ، فقال لي : اعلم أن الرجل لا
يصير محدّثا كاملا في حديثه إلا بعد أن يكتب أربعا مع أربع كأربع مثل أربع في أربع
عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع ، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع
أربع ، فإذا تمت له كلها هان عليه أربع ، وابتلي بأربع ، فإذا صبر على ذلك أكرمه
الله تعالى في الدنيا بأربع ، وأثابه في الآخرة بأربع ، قلت له : فسّر لي ـ رحمك
الله تعالى ! ـ ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات من قلب صاف بشرح كاف
وبيان شاف طلبا للأجر الواف ، فقال : نعم ، أما الأربع التي تحتاج إلى كتبها فهي أخبار
الرسول صلى الله عليه وسلم وشرائعه ، والصحابة رضي الله تعالى عنهم ومقاديرهم ،
والتابعين وأحوالهم ، وسائر العلماء وتواريخهم ، مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم
وأزمانهم ، كالتحميد مع الخطب ، والدعاء مع التوسّل والبسملة مع السورة ، والتكبير
مع الصلوات ، مثل المسندات والمرسلات ، والموقوفات والمقطوعات ، في صغره وفي
إدراكه ، وفي شبابه وفي كهولته ، عند فراغه وعند شغله ، وعند فقره وعند غناه ،
بالجبال والبحار ، والبلدان والبراري ، على الأحجار والأخزاف ، والجلود والأكتاف ،
إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق ، عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه
، وعن كتاب أبيه يتيقن أنه بخط أبيه دون غيره ، لوجه الله تعالى طلبا لمرضاته ،
والعمل بما وافق كتاب الله عز وجل منها ، ونشرها بين طالبيها ، ومحبيها ، والتأليف
في إحياء ذكره بعده ، ثم لا تتم له هذه الأشياء إلا بأربع ، هي من كسب العبد ،
أعني معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو ، مع أربع هي من إعطاء الله تعالى ، أعني
القدرة والصحة والحرص والحفظ ، فإذا صحت له هذه الأشياء كلها هان عليه أربع : الأهل
، والولد ، والمال ، والوطن. وابتلي بأربع : بشماتة الأعداء ، وملامة الأصدقاء ،
وطعن الجهلاء ، وحسد العلماء ، فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله جل وعلا في
الدنيا بأربع : بعز القناعة ، وبهيبة النفس ، وبلذّة العلم ، وبحياة الأبد ،
وأثابه في الآخرة بأربع : بالشفاعة لمن أراد من إخوانه ، وبظل العرش حيث لا ظل إلا
ظله وبسقي من أراد من حوض نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبجوار
__________________
النبيين في أعلى
عليين في الجنة ، فقد أعلمتك يا بني بمجملات جميع ما سمعت من مشايخي متفرقا في هذا
الباب ، فأقبل الآن على ما قصدتني له أو دع ، فهالني قوله ، فسكتّ متفكرا ، وأطرقت متأدبا ،
فلما رأى ذاك مني قال : وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه ، يمكنك
تعلمه وأنت في بيتك قارّ ساكن لا تحتاج إلى بعد الأسفار ، ووطء الديار ، وركوب
البحار ، وهو ذا ثمرة الحديث ، وليس ثواب الفقيه دون ثواب المحدّث في الآخرة ، ولا
عزه بأقلّ من عز المحدث ، فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث ، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت
فيه متقدما ، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته ،
فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لهذا الصبي يا أبا إبراهيم ، فقال له أبو إبراهيم : إن
هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك ،
انتهى.
وجاء أبو حيان إلى
ابن تيمية والمجلس غاصّ فقال يمدحه ارتجالا : [بحر البسيط]
لما أتينا تقيّ
الدين لاح لنا
|
|
داع إلى الله
فرد ما له وزر
|
على محياه من
سيما الألى صحبوا
|
|
خير البرية نور
دونه القمر
|
حبر تسربل منه
دهره حبرا
|
|
بحر تقاذف من
أمواجه الدرر
|
قام ابن تيمية
في نصر شرعتنا
|
|
مقام سيد تيم إذ
عصت مصر
|
فأظهر الحقّ إذ
آثاره درست
|
|
وأخمد الشر إذ
طارت له الشرر
|
كنا نحدث عن حبر
يجيء فها
|
|
أنت الإمام الذي
قد كان ينتظر
|
ثم انحرف أبو حيان فيما بعد عن ابن تيمية ، ومات وهو على انحرافه ، ولذلك
أسباب : منها أنه قال له يوما : كذا قال سيبويه ، فقال : يكذب سيبويه ، فانحرف عنه ،
رحم الله تعالى الجميع!
وحضر الشيخ أبو
حيان مع ابن بنت الأعز في الروضة فكتب إلى أبي حيان ووجّهه مع بعض غلمانه : [بحر
المنسرح]
__________________
حيّيت أثير
الدين شيخ الأدبا
|
|
أقضي له حقا كما
قد وجبا
|
حييت فتى بطاق
آس نضر
|
|
كالقدّ بدا ملئت
منه طربا
|
قال فأنشدته : [بحر
البسيط]
أهدى لنا غصنا
من ناضر الآس
|
|
أقضى القضاة
حليف الجود والباس
|
لما رأى سقمي
أهداه مع رشإ
|
|
حلو التثني فكان
الشافي الآسي
|
ولما أنشد الشيخ
أبو حيان قول نور الدين القصري في روضة مصر : [بحر الخفيف]
ذات وجهين فيهما
قسم الحس
|
|
ن فأضحت بها
القلوب تهيم
|
ذا يلي مصر فهو
مصر وهذا
|
|
يتولى وسيم فهو
وسيم
|
قد أعادت عصر
التصابي صباها
|
|
وأبادت فيها
الغموم الغيوم
|
زاد فيها بيتا ،
وهو : [بحر الخفيف]
فبلجّ البحار
يسبح نون
|
|
وبفجّ القفار
يسفح ريم
|
قال أبو حيان :
وكنت ماشيا بين القصرين مع ابن النحاس ، فعبر علينا صبي يدعى بجمال ، وكان مصارعا
، فقال البهاء : لينظم كل منا فيه ، ثم قال : [بحر البسيط]
مصارع تصرع
الآساد شمرته
|
|
تيها فكل مليح
دونه سمج
|
لما غدا راجحا
في الحسن قلت لهم
|
|
عن حسنه حدثوا
عنه ولا حرج
|
فنظمت أنا : [بحر
الطويل]
سباني جمال من
مليح مصارع
|
|
عليه دليل
للملاحة واضح
|
لئن عزّ منه
المثل فالكل دونه
|
|
وإن خفّ منه
الخصر فالرّدف راجح
|
وسمع العزازي
نظمنا فقال ، وأنشدنيه : [بحر السريع]
هل حكم ينصفني
في هوى
|
|
مصارع يصرع أسد
الشرى
|
مذ فرّ عني
الصبر في حبه
|
|
حكى عليه مدمعي
ما جرى
|
أباح قتلي في
الهوى عامدا
|
|
وقال كم لي عاشق
في الورى
|
__________________
رميته في أسرحبي
ومن
|
|
أجفان عينيه
أخذت الكرى
|
وقال لسان الدين
في الإحاطة : كان أثير الدين أبو حيان نسيج وحده في ثقوب الذهن ، وصحة الإدراك ،
والاضطلاع بعلم العربية والتفسير وطريق الرواية ، إمام النحاة في
زمانه غير مدافع ، نشأ في بلده غرناطة مشارا إليه في التبريز بميدان الإدراك ،
وتغيير السوابق في مضمار التحصيل ، ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق ، واستقر بمصر ، فنال بها ما شاء من
عزّ وشهرة وتأثل وافر وحظوة ، وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة ملجأ وعدّة ، وكان شديد
البسط مهيبا جهوريا مع الدّعابة والغزل وطرح التّسمّت ، شاعرا ، مكثرا ، مليح
الحديث ، لا يمل وإن أطال ، وأسن جدّا فانتفع به ، قال لي بعض أصحابنا : دخلت عليه
وهو يتوضأ ، وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى كما تفعل البرك والأوز ، فقال لي : لو كنت اليوم جار شلير ما تركني لهذا العمل في
هذا السن ، ثم قال لي بعد كلام حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا كالحاج أبي
يزيد خالد بن عيسى والمقري الخطيب أبي جعفر الشّقوري والشريف أبي عبد الله بن راجح
وشيخنا الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق قال : حدّثنا شيخنا أبو حيان في الجملة سنة
٧٣٥ بالمدرسة الصالحية بين القصرين بمنزله ، حدّثنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير
سماعا من لفظه وكتبه من خطه بغرناطة ، عن الكاتب أبي إسحاق بن عامر الهمداني
الطّوسي ـ بفتح الطاء ـ حدّثنا أبو عبد الله بن محمد العنسي القرطبي ، وهو آخر من
حدّث عنه ، أنبأنا أبو علي الحسن بن محمد الحافظ الجيّاني ، أنبأنا حكم بن محمد ،
أنبأنا أبو بكر بن المهندس ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا طالوت بن عباد بن
نصال بن جعفر ، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : «اكفلوا لي بستّ أكفل لكم بالجنّة ، إذا حدّث أحدكم فلا يكذب ، وإذا ائتمن
فلا يخن ، وإذا وعد فلا يخلف ، غضّوا أبصاركم ، وكفّوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم».
ثم قال ابن الخطيب
: إن أبا حيان حملته حدّة الشبيبة على التعرض للأستاذ أبي جعفر الطباع ، وقد وقعت
بينه وبين أستاذة ابن الزبير الوحشة ، فنال منه ، وتصدّى للتأليف في الرد عليه
وتكذيب روايته فرع أمره للسلطان ، فامتعض له ، ونفذ الأمر بتنكيله ، فاختفى ، ثم أجاز البحر مختفيا
، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه.
__________________
ثم قال : وشعره
كثير يتصف بالإجادة وضدها ، فمن مطوّلاته قوله : [بحر البسيط]
لا تعذلاه فما
ذو الحب معذول
|
|
العقل مختبل
والقلب متبول
|
هزت له أسمرا من
خوط قامتها
|
|
فما انثنى الصلب
إلا وهو مقتول
|
جميلة فصّل
الحسن البديع لها
|
|
فكم لها جمل منه
وتفصيل
|
فالنحر مرمرة ،
والنشر عنبرة ،
|
|
والثغر جوهرة ،
والريق معسول
|
والطرف ذو غنج ،
والعرف ذو أرج
|
|
والخصر مختطف ،
والمتن مجدول
|
هيفاء ينطق في
الخصر الوشاح لها
|
|
درماء تخرس في
الساق الخلاخيل
|
من اللواتي
غذاهنّ النعيم فما
|
|
يشقين ، آباؤها
الصّيد البهاليل
|
إلى أن قال :
وقوله : [بحر الكامل]
نور بخدّك أم
توقّد نار
|
|
وضنى بجفنك أم
فتور عقار
|
وشذا بريقك أم
تأرّج مسكة
|
|
وسنى بثغرك أم
شعاع دراري
|
جمعت معاني الحس
فيك فقد غدت
|
|
قيد القلوب
وفتنة الأبصار
|
متصاون خفرا إذا
ناطقته
|
|
أغضى حياء في
سكون وقار
|
في وجهه زهرات
روض تجتلى
|
|
من نرجس مع وردة
وبهار
|
خاف اقتطاف
الورد من وجناتها
|
|
فأدار من آس
سياج عذار
|
وتسللت نمل
العذار بخده
|
|
ليردن شهدة ريقه
المعطار
|
وبخده نار حمته
وردها
|
|
فوقفن بين الورد
والإصدار
|
كم ذا أداري في
هواه محبّتي
|
|
ولقد وشى بي فيه
فرط أواري
|
وقال ابن رشيد :
حدثنا أبو حيان قال : حدثنا التاجر أبو عبد الله البرجوني بمدينة عيذاب من بلاد
السودان ، وبرجونة قرية من قرى دار السلام ، قال : كنت بجامع لو لم من بلاد الهند
ومعنا رجل مغربي اسمه يونس ، فقال لي : اذكر لنا شيئا ، فقلت له : قال علي رضي
الله تعالى عنه : «إذا وضع الإحسان في الكريم أثمر خيرا ، وإذا وضع في اللئيم أثمر
شرا ، كالغيث يقع
__________________
في الأصداف فيثمر
الدر ، ويقع في فم الأفاعي فيثمر السم» فما راعنا إلا ويونس المغربي قد أنشد لنفسه
: [بحر السريع]
صنائع المعروف
إن أودعت
|
|
عند كريم زكّت
النّعما
|
وإن تكن عند
لئيم غدت
|
|
مكفورة موجبة
إثما
|
كالغيث في
الأصداف در ، وفي
|
|
فم الأفاعي يثمر
السما
|
قال أبو حيان :
فلما سمعت هذه الأبيات نظمت معناها في بيتين ، وهما : [بحر الطويل]
إذا وضع الإحسان
في الخبّ لم يفد
|
|
سوى كفره ،
والحر يجزي به شكرا
|
كغيث سقى أفعى
فجاءت بسمها
|
|
وصاحب أصدافا
فأثمرت الدرّا
|
قال أبو حيان :
وأنشدنا الأمير بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن سيف الدولة أبي المعالي بن رمّاح الهمداني لنفسه بالقاهرة : [بحر الوافر]
فلا تعجب لحسن
المدح مني
|
|
صفاتك أظهرت حكم
البوادي
|
وقد تبدي لك
المرآة شخصا
|
|
ويسمعك الصّدى
ما قد تنادي
|
وبعد كتبي ما نقله
ابن رشيد عن أبي حيان رأيت لبعضهم أن أبا حيان هذا الذي ذكره ابن رشيد ليس هو أبو
حيان النحوي الأندلسي ، وإنما هو شخص آخر ، وفيه عندي نظر لا يخفى ، والذي أعتقده
ولا أرتاب فيه أنه أبو حيان النحوي.
وقال ابن رشيد :
وأنشدني أبو حيان لنفسه : [بحر الطويل]
إذا غاب عن عيني
أقول سلوته
|
|
وإن لاح حال
اللون فاضطرب القلب
|
يهيّجني عيناه
والمبسم الذي
|
|
به المسك منظوم
به اللؤلؤ الرطب
|
وقال الشريف بن
راجح : رأيت أن ما وضعه الشيخ أبو حيان في تقديم لسان الأتراك تضييع لعمره ، وقلت : [بحر السريع]
نفائس الأعمار
أنفقتها
|
|
أنا وأمثالي على
غير شيء
|
__________________
شيوخ سوء ليس
يرضى بما
|
|
ترضى به من
المخازي صبي
|
ومن نظم أبي حيان
قوله : [بحر الخفيف]
إن علما تعبت
فيه زماني
|
|
باذلا فيه طارفي
وتلادي
|
لجدير بأن يكون
عزيزا
|
|
ومصونا إلا على
الأجواد
|
وقوله : [بحر
الطويل]
ومالك والإتعاب
نفسا شريفة
|
|
وتكليفها في
الدهر ما ليس يعذب
|
أرحها فعن قرب
تلاقي حمامها
|
|
فتنعم في دار
البقا أو تعذب
|
واستشكل هذان
البيتان بأن ظاهرهما خلاف الشرع ، وأجيب بأن مراده أمر الرزق ، لا أمر التكليف.
وأفاد غير واحد أن
سبب رحلة الشيخ أبي حيان عن الأندلس أنه نشأ شر بينه وبين شيخه أحمد بن علي بن
الطباع فألف أبو حيان كتابا سماه «الإلماع ، في إفساد إجازة ابن الطباع» فرفع ابن
الطباع أمره للأمير محمد بن نصر المدعوّ بالفقيه ، وكان أبو حيان كثير الاعتراض
عليه أيام قراءته عليه ، فنشأ شر عن ذلك ، وذكر أبو حيان أنه لم يقم بفاس إلا
ثلاثة أيام ، وأدرك فيها أبا القاسم المزياتي ، وخرج أبو حيان من الأندلس سنة تسع
وسبعين وستمائة.
٢١٧ ـ وكان جماعة
من أعلام الأندلس رحلوا منها ، فلما وصلوا إلى العدوة أقاموا بها ، ولم يذهبوا إلى
البلاد المشرقية ، منهم الشيخ النحوي الناظم الناثر أبو الحسن حازم بن محمد
القرطاجنّي ، وهو القائل يمدح أمير المؤمنين المستنصر بالله صاحب تونس : [بحر
الطويل]
أمن بارق أورى
بجنح الدجى سقطا
|
|
تذكرت من حلّ
الأجارع فالسقطا
|
وبان ولكن لم
يبن عنك ذكره
|
|
وشطّ ولكن طيفه
عنك ما شطا
|
حبيب لو ان
البدر جاراه في مدى
|
|
من الحسن
لاستدنى مدى البدر واستبطا
|
إذا انتجعت مرعى
خصيبا ركابه
|
|
غدا لحظ عيني
يشتكي الجدب والقحطا
|
لقد أسرعت عني
المطيّ بشادن
|
|
تسرع في قتل
النفوس وما أبطا
|
ظننت الفلا دار
ابن ذي بزن بها
|
|
وخلت المحاريب
الهوادج والغبطا
|
فكم دمية للحسن
فيها وصورة
|
|
تروق وتمثال من
الحسن قد خطا
|
__________________
حمائل لاحت
كالخمائل بهجة
|
|
سقيط الحيا فيهن
لا يسأم السقطا
|
توسّد غزلان
الأوانس والمها
|
|
به الوشي
والديباج لا السّدر والأرطى
|
ولم يسب قلبي
غير أبهرها سنى
|
|
وأطولها جيدا
وأخفقها قرطا
|
أيا ربة الأحداج
سيري فتعلمي
|
|
وما بك جهل ، أن
سهمك ما أخطا
|
قفي تستبيني ما
بعينيك من صنّى
|
|
كجسمي وعنوان
الهوى فيه مختطا
|
فلم أر أعدى منك
لحظا وناظرا
|
|
لقلبي ولا أعدى
عليه ولا أسطى
|
سقى الله عيشا
قد سقانا من الهوى
|
|
كؤوسا بمعسول
اللّمى خلطت خلطا
|
وكم جنة قد ردت
في ظل كافر
|
|
فلم أجز ما
أولاه كفرا ولا غمطا
|
وكم ليلة
قاسيتها نابغيّة
|
|
إلى أن بدت شيبا
ذوائبها شمطا
|
وبت أظن الشهب
مثلي لها هوى
|
|
وأغبطها في طول
ألفتها غبطا
|
على أنها مثلي
عزيزة مطلب
|
|
ومن ذا الذي ما
شاء من دهره يعطى
|
كأن الثريا كاعب
أزمعت نوى
|
|
وأمّت بأقصى
الغرب منزلة تخطى
|
كأن نجوم الهقعة
الزّهر هودج
|
|
لها عن ذرا
الحرف المناخة قد حطّا
|
كان رشاء الدلو
رشوة خاطب
|
|
لها جعل الأشراط
في مهرها شرطا
|
كأن السها قد دق
من فرط شوقه
|
|
إليها كما قد
دقق الكاتب النّقطا
|
كأن سهيلا إذ
تناءت وأنجدت
|
|
غدا يائسا منها
فأتهم وانحطا
|
كأن خفوق القلب
قلب متيم
|
|
تعدى عليه الدهر
في البين واشتطا
|
كأن كلا النسرين
قد ريع إذ رأى
|
|
هلال الدجى يهوى
له مخلبا سلطا
|
كأن الذي ضمّ
القوادم منهما
|
|
هوى واقعا للأرض
أو قص أو قطا
|
كأن أخاه رام فوتا
أمامه
|
|
فلم يعد أن مد
الجناح وأن مطا
|
كأن بياض الصبح
معصم غادة
|
|
جنت يدها أزهار
زهر الدجى لقطا
|
__________________
كأن ضياء الشمس
وجه إمامنا
|
|
إذا ازداد بشرا
في الوغى وإذا أعطى
|
محمد الهادي
الذي أنطق الورى
|
|
ثناء بما أسدى
إليهم وما أنطى
|
إمام غدا شمس
المعالي وبدرها
|
|
وقد أصبحت زهر
النجوم له رهطا
|
جميل المحيا
مجمل طيب ذكره
|
|
يعاطى سرورا
كالحميا ويستعطى
|
إذا ما الزمان
الجعد أبدى تجهما
|
|
أرانا الحياء
الطلق والخلق السّبطا
|
كلا أبوي حفص
نماه إلى العلا
|
|
فأصبح عن مرقاته
النجم منحطا
|
بسيماه تدري أن
كعبا جدوده
|
|
وإن هو لم يذكر
رزاحا ولا قرطا
|
إذا قبض الروع
الوجوه فوجهه
|
|
يزيد لكون النصر
نصلا له بسطا
|
به تترك الأبطال
صرعى لدى الوغى
|
|
كأن قد سقوا من
خمر بابل إسفنطا
|
تراه إذا يعطي
الرغائب باسما
|
|
له جذل يربي على
جذل المعطى
|
وكم عنق قد
قلّدت بنواله
|
|
فريدا وقد كانت قلادتها
لطا
|
متى ما تقس جود
الكرام بجوده
|
|
فبالبحر قايست
الوقيعة والوقطا
|
يشف له عن كل
غيب حجابه
|
|
فتحسبه دون
المحجّب ما لطّا
|
تطيع الليالي
أمره في عصاته
|
|
وتردي أعاديه
أساودها نشطا
|
وتمضي عليهم
سيفه وسنانه
|
|
فتبري الكلى طعنا
وتفري الطّلى قطّا
|
فكيف ترجت غرة
منه فرقة
|
|
غدا عزها ذلا
ورفعتها هبطا
|
وكم بالنهى
والحلم غطى عليهم
|
|
إلى أن جنوا
ذنبا على العلم قد غطّى
|
فأمطاهم دهم
الحديد وطالما
|
|
أنالهم دهم
الجياد وما أمطى
|
ورام لهم هديا
ولكنهم أبوا
|
|
بغيّهم إلا الضلالة
والخبطا
|
__________________
وكان لهم يبغي
المثوبة والرضا
|
|
ولكن أبوا إلا
العقوبة والسخطا
|
ولو قوبلت
بالشكر منه مآرب
|
|
لما اعتاض منها
أهلها الأثل والخمطا
|
هو الناصر
المنصور والملك الذي
|
|
أعاد شباب الدهر
من بعدما اشمطّا
|
أصاخت له الأيام
سمعا وطاعة
|
|
وأحكمت الدنيا
له عهدها ربطا
|
فلا بد من أن
يملك الأرض كلّها
|
|
وأن تملأ الدنيا
إيالته قسطا
|
ويغزو في آفاق
أندلس العدا
|
|
بجيش تخطّ الأرض
ذبّله خطا
|
وكل جواد خف
سنبكه فما
|
|
يمس الثرى إلا
مخالسة فرطا
|
يؤم بها الأعداء
ملك أمامه
|
|
من الرعب جيش
يسرع السير إن أبطا
|
ويرمى جبال
الفتح من شط سبتة
|
|
بها فتوافي
سبّقا ذلك الشطا
|
بحيث التقى
بالخضر موسى وطارق
|
|
وموسى به رحلا
لغزو العدا حطا
|
وسعيك ينسي ذكر
سعيهما به
|
|
ويوسع سعي
المشركين به حبطا
|
ويوقع في
الأعداء أعظم وقعة
|
|
بها تملأ
الأسماع طير الملا لغطا
|
تجاوب سحم الطير
فيه وشهبها
|
|
كما راطن الزنج
النبيط أو القبطا
|
وتنكر فيها الجو
والأرض أعين
|
|
ترى الجو نارا
والصعيد دما عبطا
|
فتخضب منهم من
أشابت بخوفها
|
|
نصول ترى منها
بفود الدجى وخطا
|
ويحسم أدواء
العدا كل صارم
|
|
حسام إذا لاقى
الطلى حدّه قطّا
|
وكل كميّ كلما
خط صفحة
|
|
بسيف غدا بالرمح
ينقط ما خطا
|
شجاع إذا التفّ
الرماحان مثل ما
|
|
تقلقل في أسنان
مشط يد مشطا
|
إذا ما رجت منه
أعاديه غرة
|
|
رأت دون ما ترجو
القتادة والخرطا
|
فيجدع آناف
العداة بسيفه
|
|
وينشقها بالرمح
ريح الردى قسطا
|
__________________
يبيد الأعادي
سطوة ومكيدة
|
|
فيحكي الأسود
الغلب والأذؤب الملطا
|
سرى في طلاب
المعلوات فلم يزل
|
|
يمد يدا مبسوطة
وندى بسطا
|
ولو نازعت يمناه
جذبا شماله
|
|
لبوسا من
الماذيّ لا نعقّ وانعطا
|
يصول بخطيّ فكل
مرشة
|
|
به أثر يعزوه
للحية الرّقطا
|
قنا تبصر الآكام
فرعا كواسيا
|
|
بهنّ وقد أبصرن
عارية مرطا
|
إذا نسبت للخطّ
أو لردينة
|
|
نسبن إلى العليا
ردينة والخطّا
|
كماة حماة ما
يزال إلى الوغى
|
|
حنين لهم ما حنّ
نضو وما أطّا
|
عليهم نسيج
السابغات كأنها
|
|
جلود عن الحيات
قد كشطت كشطا
|
إذا لمع للشمس
لاحت عليهم
|
|
رأيت صلالا
ألبست حللا رقطا
|
ترجرج كالزاروق
لينا ومثله
|
|
ترى نقطة من بعد
ما طرحت خطا
|
جيوش إذا غطى
البلاد عبابها
|
|
وأمواجها غطت
نفوس العدا غطا
|
فكم قد حكت في
حصر حصن ومعقل
|
|
وشاحا على خصر
فآسفنه ضغطا
|
وخيل كأمثال
النّعام تخالها
|
|
لإفراط لوك
اللجم تبغي لها سرطا
|
تخيلها فتخا إذا
ارتفعت وإن
|
|
سبحن بماء خلتها
خفة بطا
|
فينعق منها مرط
كل عجاجة
|
|
موادع لا يسأمن
مرا ولا مرطا
|
وكم خالطت سمر
الرماح وأوردت
|
|
مياها غدت حمر
الدماء لها خلطا
|
يجرونها ليل
السرى فإذا دعوا
|
|
نزال امتطوا
منهن أفضل ما يمطى
|
فكم جنبوها خلف
معتادة السرى
|
|
عوارف لم تسمع
لها أذن نحطا
|
__________________
وقد وسمت
أعناقهن أزمة
|
|
بطول السرى حتى
تظن لها علطا
|
إذا أوقدت نارا
بقذف الحصا حكت
|
|
وبحر الدجى طام
سفينا رمت نفطا
|
إمام الهدى
أعليت للدين معلما
|
|
وسمت العدا من
بعد رفعتهم حطا
|
وألحفتهم عقم
المنى عن حيالها
|
|
فما ولدت عقما
ولا نتجت سقطا
|
وصيرتم في عقلة
سارح العدا
|
|
وسرحتم الآمال
من عقلها نشطا
|
ومن كان يشكو
سطوة الدهر قد غدا
|
|
بعدلك لا يعدى
عليه ولا يسطى
|
ففي كل حال تؤثر
القسط جاريا
|
|
على سنن التقوى
وتجتنب القسطا
|
فبوركت سبطا
جدّه عمر الرضا
|
|
وبورك من جد
غدوت له سبطا
|
تلوت الإمام
العدل يحيى فلم تزل
|
|
تزيد أمور الخلق
من بعده ضبطا
|
فزدتم وضوحا
بعده واستقامة
|
|
وتوطئة نهج
السبيل الذي وطّا
|
وما كان أبقى
غاية غير أنه
|
|
حبيت بما لم يحب
خلق ولم يعطا
|
إذا درر الأملاك
في الفخر نظّمت
|
|
على نسق عقدا
فدولتك الوسطى
|
وله أيضا فيه : [بحر
الكامل]
في كل أفق من
صباح دجاكم
|
|
نور جلا خيط
الظلام بخيطه
|
راقت محاسن
مجدكم فبهرن ما
|
|
كسيته من حبر
المديح وريطه
|
٢١٨ ـ وله ـ رحمه الله تعالى! ـ عدة
تآليف ، وولد سنة ٦٠٨ ، وتوفي ليلة السبت ٢٤ رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة بتونس
، وممن أخذ عنه الحافظ ابن رشيد الفهري ، وذكره في رحلته وأثنى عليه ، كما أثنى
عليه العبدري في رحلته ، فقال : حازم ، وما أدرك ما حازم ، وقد عرّفت به في «أزهار
الرياض» مما يغني عن الإعادة ، وكان هو والحافظ أبو عبد الله بن الأبار فرسي رهان
، غير أن ابن الأبار كان أكثر منه رواية وهو الإمام الحافظ الكاتب الناظم الناثر
المؤلف الراوية أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر
، القضاعي ، الأندلسي ، البلنسي ، كتب ببلنسية عن السيد أبي عبد الله بن السيد أبي
حفص ابن أمير المؤمنين
__________________
عبد المؤمن بن علي
، ثم عن ابنه السيد أبي زيد ، ثم كتب عن الأمير ابن مردنيش ولما نازل الطاغية بلنسية بعثه الأمير زيان بن مردنيش مع
وفد أهل بلنسية بالبيعة للسلطان أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص وفي ضمن
ذلك استصرخه لدفع عادية العدو ، فأنشد السلطان قصيدته السينية التي مطلعها : [بحر
البسيط]
أدرك بخيلك خيل
الله أندلسا
|
|
إن السبيل إلى
منجاتها درسا
|
وقد ذكرناها في
غير هذا الموضع ، ثم لما كان من أمر بلنسية ما كان رجع بأهله إلى تونس غبطة بإقبال
السلطان عليه ، فنزل منه بخير مكان ، ورشّحه لكتب علامته في صدور مكاتباته ،
فكتبها مدة ، ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني لكونه يحسن كتابتها ،
فكتبها مدة بالخط المشرقي ، وكان آثر عند السلطان من المغربي ، فسخط ابن الأبار
أنفة من إيثار غيره عليه ، وافتات على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه ،
لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه ، وأن يبقى موضع العلامة منه لكاتبها ، فجاهر
بالرد ، ووضعها استبدادا وأنفة ، وعوتب على ذلك ، فاستشاط غضبا ، ورمى بالقلم ، وأنشد متمثلا : [بحر الخفيف]
اطلب العز في
لظّى وذر ال
|
|
ذلّ ولو كان في
جنان الخلود
|
فنمي ذلك إلى
السلطان ، فأمر بلزومه بيته ، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب
من الكتاب ، وأعتبه ، وسماه «إعتاب الكتاب» واستشفع فيه بابنه المستنصر ، فغفر
السلطان له ، وأقال عثرته ، وأعاده إلى الكتابة ، ولما توفي السلطان رفعه أمير
المؤمنين المستنصر إلى حضور مجلسه ، ثم حصلت له أمور معه كان آخرها أنه تقبض عليه
، وبعث إلى داره ، فرفعت إليه كتبه أجمع ، وألفى أثناءها ، فيما زعموا ، رقعة
بأبيات أولها : [بحر المجتث]
طغى بتونس خلف
|
|
سموه ظلما خليفه
|
فاستشاط السلطان
لها ، وأمر بامتحانه ، ثم بقتله ، فقتل قعصا بالرماح وسط محرم سنة ٦٥٨ ، ثم أحرق شلوه ، وسيقت مجلدات
كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه ، وكان مولده ببلنسية سنة ٥٩٥.
__________________
وقال في حقه ابن
سعيد في «المغرب» ما ملخصه : حامل راية الإحسان ، المشار إليه في هذا الأوان ، ومن
شعره قوله يصف الياسمين : [مجزوء الوافر]
حديقة ياسمين لا
|
|
تهيم بغيرها
الحدق
|
إذا جفن الغمام
بكى
|
|
تبسّم ثغرها
اليقق
|
فأطراف الأهلة
سا
|
|
ل في أثنائها
الشفق
|
وكتب إلى الوزير
أبي عبد الله بن أبي الحسين بن سعيد يستدعي منه منثورا : [بحر الطويل]
لك الخير أتحفني
بخيريّ روضة
|
|
لأنفاسه عند
الهجوم هبوب
|
أليس أديب الروض
يجعل ليله
|
|
نهارا فيذكو
تحته ويطيب
|
ويطوي مع
الإصباح منشور نشره
|
|
كما بان عن ربع
المحب حبيب
|
أهيم به عن نسبة
أدبية
|
|
ولا غرو أن يهوى
الأديب أديب
|
وقوله في الخسوف :
[بحر المتقارب]
نظرت إلى البدر
عند الخسوف
|
|
وقد شين منظره
الأزين
|
كما سفرت صفحة
للحب
|
|
يب يحجبها برقع
أدكن
|
وقوله في المعنى :
[بحر الوافر]
ألم تر للخسوف
وكيف أبدى
|
|
ببدر التم لماع
الضياء
|
كمرآة جلاها
القين حتى
|
|
أنارت ثم ردت في
غشاء
|
وقوله : [بحر
الخفيف]
والثريّا بجانب
البدر تحكي
|
|
راحة أومأت
لتلطم خدا
|
وقوله : [بحر
الكامل]
من عاذري من
بابلي طرفه
|
|
ولعمره ما حلّ
يوما بابلا
|
أعتدّه خوطا
لعيشي ناعما
|
|
فيعود خطّيّا
لقتلي ذابلا
|
__________________
وهو حافظ متقن ،
له في الحديث والأدب تصانيف ، وله كتاب في متخير الأشعار سماه «قطع الرياض» وتكلمة
الصّلة لابن بشكوال ، و «هداية المعترف ، في المؤتلف والمختلف» وكتاب التاريخ ،
وبسببه قتله صاحب إفريقية ، وأحرقت كتبه على ما بلغنا ، رحمه الله تعالى! وله «تحفة
القادم ، في شعر الأندلس» و «الحلة السيراء ، في أشعار الأمراء».
ومن شعره قوله : [بحر
مجزوء الكامل]
أمري عجيب في
الأمور
|
|
بين التواري
والظهور
|
مستعمل عند المغ
|
|
يب ومهمل عند
الحضور
|
وسبب هذا أن ملك
تونس كان إذا أشكل عليه شيء أو ورد عليه لغز أو معمّى أو مترجم بعث به إليه ،
فيحله ، وإذا حضر عنده لا يكلمه ولا يلتفت إليه ، ووجد في تعاليقه ما يشين دوله
صاحب تونس ، فأمر بضربه ، فضرب حتى مات ، وأحرقت كتبه ، رحمه الله تعالى! وكان
أعداؤه يلقبونه بالفار ، وحصلت بينه وبين أبي الحسن علي بن شلبون المعافري البلنسي
مهاجاة ، فقال فيه : [بحر الكامل]
لا تعجبوا لمضرة
نالت جمي
|
|
ع الناس صادرة
عن الأبار
|
أو ليس فارا
خلقة وخليقة
|
|
والفار مجبول
على الإضرار
|
فأجابه ابن الأبار
: [بحر الكامل]
قل لابن شلبون
مقال تنزه
|
|
غيري يجاريك
الهجاء فجار
|
(إنا اقتسمنا خطّتينا بيننا
|
|
فحملت برّة
واحتملت فجار)
|
وهذا مضمن من شعر
النابغة الذبياني ، انتهى ما لخصناه من كلام ابن سعيد في حقه.
ومن شعر ابن
الأبار أيضا : [بحر الكامل]
لو عنّ لي عون
من المقدار
|
|
لهجرت للدار
الكريمة داري
|
وحللت أطيب طيبة
من طيبة
|
|
جارا لمن أوصى
بحفظ الجار
|
حيث استبان الحق
للأبصار
|
|
لما استتار
حفائظ الأنصار
|
__________________
يا زائرين القبر
قبر محمد
|
|
بشرى لكم بالسبق
في الزوّار
|
أوضعتم لنجاتكم
فوضعتم
|
|
ما آدكم من فادح
الأوزار
|
فوزوا بسبقكم
وفوهوا بالذي
|
|
حملتم شوقا إلى
المختار
|
أدوا السلام
سلمتم وبرده
|
|
أرجو الإجارة من
ورود النار
|
اللهمّ أجرنا منها
يا رحيم يا رحمن يا كريم!.
ولنختم ترجمته
بقوله : [بحر الوافر]
رجوت الله في
اللّأواء لما
|
|
بلوت الناس من
ساه ولاهي
|
فمن يك سائلا
عني فإني
|
|
غنيت بالافتقار
إلى إلهي
|
وقد جوّدت ترجمته
في «أزهار الرياض ، في أخبار عياض» فليراجع ذلك فيه من شاء.
رجع إلى ما كنا
فيه من ذكر المرتحلين من الأندلس إلى المشرق :
٢١٩ ـ ومنهم الحافظ أبو المكارم جمال
الدين بن مسدّي .
وهو أبو بكر محمد
، ويقال : أبو المكارم ، ابن أبي أحمد يوسف بن موسى بن يوسف بن موسى بن مسدّي ،
المهلبي ، الأزدي ، الأندلسي.
شيخ السنة ، وحامل
راياتها ، وفريد الفنون ، ومحكم آياتها ، عرف الأحاديث ، وميز بين شهرتها وغرابتها
وكان المتلقّي لراية السنة بيمين عرابتها ، طلع بمغربه شمسا قبل بزوغه بأفق المشرق ، وملأ جزيرته
الخضراء من بحر علومه المتدفق ، وأفعمها بنوره المشرق ، وطاف البلاد الإسلامية ، المغربية
والمشرقية ، فعقدت على كماله الخناصر ، وجعله أرباب الدراية لمقلة الدين الباصر ،
ولقي أعيان الشيوخ في القطرين ، وأخذ عنهم ما تقر به العين ، ويدفع به عن القلب
الرّين ، مع فصاحة لسان ، وطلاقة بيان وبنان ، وخلال حسان ،
وبلاغة سحبته على
__________________
سحبان ، وظهر
أزهار بان ، وفوّضت إليه خطابة الحرم الشريف بمكة فكان كما يقال : هذا السّوار
لمثل هذا المعصم ، فكم وشّى بها من مطارف للبلاغة وكم عنّم ، حتى يظن الرائي عود
منبره من وعظه مائسا ، ولئن مال من سجع الحمام رطبا فقد مال من سجع هذا الإمام
يابسا ، وترجم على من لقي من الأعيان بسحر البيان ، وفصّل أحوالهم بأحسن تبيان ،
وعدّتهم أربعة آلاف شيخ وناهيك بهذه مزية تقاد لها الفضائل في أرسان ، وأرى تحقيق
قول القائل : جمع الله تعالى العالم في إنسان ، وله موضوعات مفيدة من حديث وفقه
ونظم ونثر ، وله مسند غريب جمع فيه مذاهب العلماء المتقدّمين والمتأخرين ، وهو أشهر من نار على علم ، وكان يكتب بالقلمين المغربي
والمشرقي ، وكلاهما في غاية الجودة ، ومثل هذا يعدّ نادرا ، توفي شهيدا مطعونا من
أناس كانوا يحسدونه ، فختم الله تعالى له بالشهادة ، وبوّىء بها دار السعادة ،
وتوفي سنة ٦٦٣ بمكة ، ومولده سنة ٥٩٨ ، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بأمثاله!.
٢٢٠ ـ ومنهم
الكاتب أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد بن خلف الغافقي القبتوري ـ بفتح
القاف ، وسكون الباء الموحدة ، وفتح التاء ثالثة الحروف ، وسكون الواو ، وبعدها
راء ـ الإشبيلي المولد والمنشأ .
ولد في شوال سنة
٦١٥ ، وقرأ على الأستاذ الدباج كتاب سيبويه والسبع ، وله باع مديد في الترسّل مع
التقوى والخير ، وله إجازة من الرضى بن برهان والنجيب بن الصيقل ، وكتب لأمير سبتة
، وحدث بتونس عن العراقي ، وجاور زمانا ، وتوفي بالمدينة سنة ٧٠٤ ، وحج مرتين ، قال
أبو حيان : قدم القاهرة مرتين ، وحج في الأولى ، وأنشدني من لفظه لنفسه : [بحر
الوافر]
أسيلي الدمع يا
عيني ولكن
|
|
دما ، ويقلّ ذلك
لي ، أسلي
|
فكم في الترب من
طرف كحيل
|
|
لترب لي ومن خدّ
أسيل
|
__________________
وقال : [بحر
البسيط]
ما ذا جنيت على
نفسي بما كتبت
|
|
كفّي ، فياويح
نفسي من أذى كفّي
|
ولو يشاء الذي
أجرى عليّ بذا
|
|
قضاءه الكف عنه
كنت ذا كف
|
وقال : [بحر
البسيط]
وا حسرتا لأمور
ليس يبلغها
|
|
مالي وهنّ منى
نفسي وآمالي
|
أصبحت كالآل لا
جدوى لديّ وما
|
|
ألوت جهدا ولكن
جدّي الآلي
|
وقال العلامة فتح
الدين بن سيد الناس : إنه أنشده لنفسه بالحرم الشريف النبوي سنة ثلاث وسبعمائة : [بحر
الطويل]
رجوتك يا رحمن
إنك خير من
|
|
رجاه لغفران
الجرائم مرتجي
|
فرحمتك العظمى
التي ليس بابها
|
|
وحاشاك في وجه
المسيء بمرتج
|
وقد أنشد له أبو
حيان كثيرا من نظمه ، رحمه الله تعالى!.
٢٢١ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن
مفرج بن أبي الخليل ، الأموي ، الإشبيلي ، النباتي ، المعروف بابن الرومية.
كان عارفا بالعشب
والنبات ، صنف كتابا حسنا كثير الفائدة في الحشائش ، ورتب فيه أسماءها على حروف
المعجم ، ورحل إلى البلاد ، ودخل حلب ، وسمع الحديث بالأندلس وغيرها.
وقال البرزالي في
حقه : إنه كان يعرف الحشائش معرفة جيدة ، وسمع الحديث بدمشق من ابن الحرستاني ،
وابن ملاعب ، وابن العطار ، وغيرهم ، وقال بعضهم : اجتمعت به ، وتفاوضت معه في ذكر
الحشائش ، فقلت له : قصب الذريرة قد ذكر في كتب الطب ، وذكروا أنه يستعمل منه شيء
كثير ، وهذا يدل على أنه كان موجودا كثيرا ، وأما الآن فلا يوجد ، ولا يخبر عنه
بخبر ، فقال : هو موجود ، وإنما لا يعلمون أين يطلبونه ، فقلت له: وأين هو؟ فقال : بالأهواز
منه شيء كثير ، انتهى.
وأجاز البحر بعد
سنة ٥٨٠ للقاء ابن عبيد الله بسبتة فلم يتهيأ له ذلك ، وحج ـ رحمه الله
__________________
تعالى! ـ في رحلته
الأولى ، ولقي كثيرا ، وروى عن عدد من الرجال والنساء ضمنهم التذكرة له ، وله
مختصر كتاب «الكامل» لأحمد بن عدي في رجال الحديث ، وله كتاب «المعلم ، بما زاده
البخاري على كتاب مسلم» ويعرف بالنباتي لمعرفته بالنبات ، ومولده في نحو سنة ٥٦١ ،
وتوفي رحمه الله تعالى بإشبيلية منسلخ ربيع الثاني سنة ٦٣٧ ، وقد رثاه أناس من
تلامذته ، وألف بعضهم في التعريف به ، وسمع من ابن زرقون وابن الجد وابن عفير وغير
واحد كأبي ذر الحبشي ، وسمع ببغداد من جماعة ، وحدث بمصر أحاديث من حفظه ، ويقال
له «الحزمي» بفتح الحاء ـ نسبة إلى مذهب ابن حزم لأنه كان ظاهري المذهب ، وكان
زاهدا صالحا ، وحكى بعضهم عنه أنه كان جالسا في دكانه بإشبيلية يبيع الحشائش وينسخ
، فاجتاز به الأمير أبو عبدالله بن هود سلطان الأندلس ، فسلم عليه ، فرد عليه
السلام ، واشتغل بنسخه ، ولم يرفع إليه رأسه ، فبقي واقفا منتظرا أن يرفع إليه
رأسه ساعة طويلة ، فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى ، وله كتابان حسنان في علم
الحديث : أحدهما يقال له «الحافل ، في تكملة الكامل لابن عدي وهو كتاب كبير. قال ابن الأبار : سمعت شيخنا أبا الخطاب بن
واجب يثني عليه ويستحسنه ، والثاني اختصر فيه الكامل لأبي أحمد بن عدي كما سبق في
مجلدين ، وسمع بدمشق والموصل وغيرهما جماعة من أصحاب الحافظ أبي الوقت السجزي وأبي
الفتح بن البطي وأبي عبد الله الغراوي وغيرهم من الأئمة ، وله فهرسة حافلة أفرد
فيها روايته بالأندلس من روايته بالمشرق ، وكان متعصبا لابن حزم بعد أن تفقه في
المذهب المالكي على ابن زرقون أبي الحسين ، وطالت صحبته له ، وكان بصيرا بالحديث
ورجاله ، كثير العناية به ، واختصر كتاب الدارقطني في غريب حديث مالك ، وغيره أضبط
منه ، وفاق أهل زمانه في معرفة النبات ، وفعد في دكان لبيعه ، قال ابن الأبار :
وهنالك رأيته ولقيته غير مرة ، ولم آخذ عنه ، ولم أستجزه ، وسمع منه جلّ أصحابنا ،
ومولده في شهر المحرم سنة ٥٦٧ ، وتوفي بإشبيلية ليلة الاثنين مستهلّ ربيع الآخر
سنة ٦٣٧ ، وقال ابن زرقون : منسلخ شهر ربيع الأول ، وحكى ذلك عن ولده أبي النور
محمد بن أحمد ، انتهى.
٢٢٢ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد
السلام ، الغافقي ، الإشبيلي ، الشهير بالمسيلي.
رحل حاجّا ، وقفل
إلى بلده ، وحدث عنه أبو بكر بن خير بوفاة القاضي ابن أبى حبيب ، وروى عن أبي محمد
بن أبي السعادات المروروذي الخراساني ، وأنه أنشده بثغر الاسكندرية
__________________
عند وداعه إياه ،
قال : أنشدني أبو تراب جندل عند الوداع لبعضهم : [مخلع البسيط]
السم من ألسن
الأفاعي
|
|
أعذب من قبلة
الوداع
|
ودّعتهم والدموع
تجري
|
|
لما دعا للوداع
داعي
|
٢٢٣ ـ ومنهم أبو العباس ـ ويقال : أبو جعفر ـ أحمد بن معدّ بن عيسى
بن وكيل ، التجيبي ، الزاهد ، ويعرف بابن الأقليشي.
صاحب كتاب «النجم
، من كلام سيد العرب والعجم» صلى الله عليه وسلم عارض به كتاب القضاعي ، وأصل أبيه
من أقليش ، وضبطها بعضهم بضم الهمزة ، وسكن دانية ، وبها ولد ونشأ ، سمع أباه أبا
بكر وأبا العباس بن عيسى ، وتلمذ له ، ورحل إلى بلنسية فأخذ العربية والآداب عن
أبي محمد البطليوسي ، وسمع الحديث من صهره أبي الحسن طارق بن يعيش والحافظ أبي بكر
بن العربي وأبي الوليد بن خيرة وابن الدباغ ، ولقي بالمريّة أبا القاسم بن
ورد وأبا محمد عبد الحق بن عطية وولي الله سيدي أبا العباس بن العريف ، ورحل إلى
المشرق سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، وجاور بمكة سنين ، وسمع بها من أبي الفتح
الكروخي جامع الترمذي برباط أم الخليفة العباسي سنة سبع وأربعين وخمسمائة ، ثم كر
راجعا إلى الغرب ، فقبض في طريقه ، وحدث بالأندلس والمشرق ، وكان عالما ،
عاملا ، متصوّفا ، شاعرا مجوّدا ، مع التقدم في الصلاح والزهد والعزوف عن الدنيا
وأهلها ، والإقبال على العلم والعبادة ، وله تصانيف : منها كتاب «الغرر ، من كلام
سيد البشر» وكتاب «ضياء الأولياء» وهو أسفار عدة ، وحمل الناس عنه معشّراته في
الزهد ، وكتبها الناس ، وكان يضع يده على وجهه إذا قرأ القارئ فيبكي حتى يعجب
الناس من بكائه ، وكان الناس يدخلون عليه بيته والكتب عن يمينه وشماله ، وقد وصف
غير واحد إمامته وعلمه وورعه وزهده ، وروى عنه أبو الحسن بن كوثر وابن بيبش وغيرهما.
ومن شعره قوله : [بحر
الطويل]
أسير الخطايا
عند بابك واقف
|
|
له عن طريق الحق
قلب مخالف
|
قديما عصى عمدا
وجهلا وغرّة
|
|
ولم ينهه قلب من
الله خائف
|
__________________
تزيد سنوه وهو
يزداد ضلة
|
|
فها هو في ليل
الضلالة عاكف
|
تطلّع صبح الشيب
والقلب مظلم
|
|
فما طاف منه من
سنا الحق طائف
|
ثلاثون عاما قد
تولت كأنها
|
|
حلوم تقضّت أو بروق
خواطف
|
وجاء المشيب
المنذر المرء أنه
|
|
إذا رحلت عنه
الشبيبة تالف
|
فيا أحمد
الخوّان قد أدبر الصبا
|
|
وناداك من سن
الكهولة هاتف
|
فهل أزق الطرف
الزمان الذي مضى
|
|
وأبكاه ذنب قد
تقدم سالف
|
فجد بالدموع
الحمر حزنا وحسرة
|
|
فدمعك ينبي أن
قلبك آسف
|
وقد وافق في أول
هذه القطعة قول أبي الوليد بن الفرضي ، أو أخذه منه نقلا ، وتوفي في صدوره عن المشرق بمدينة قوص من صعيد مصر في عشر الخمسين وخمسمائة
، ودفن عند الجميزة التي في المقبرة التالية لسوق العرب ، وقال ابن عباد : إنه توفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين بعدها ـ رحمه الله
تعالى! ـ وقد نيف عن الستين.
٢٢٤ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن عمر ،
المعافري ، المرسي.
وأصله من طلبيرة ،
ويعرف بابن إفرند ، روى عن أبي الحسين الصفدي وغيره كالقاضي الحافظ أبي بكر بن
العربي وأبي محمد الرشاطي وأبي إسحاق بن حبيش وغيرهم ، وله رحلة حج فيها ، ولقي
أبا الفتح بن الزندانقاني ببلد بين سرخس ومرو من أصحاب أبي حامد الغزالي ، وأنشد
عنه مما قاله في وداع إخوانه بالبيت المقدس : [بحر الطويل]
لئن كان لي من
بعد عود إليكم
|
|
قضيت لبانات
الفؤاد لديكم
|
وإن تكن الأخرى
ولم تك أوبة
|
|
وحان حمامي
فالسلام عليكم
|
وقد روى هذين
البيتين أبو عمر بن عباد وابنه محمد عن ابن إفرند هذا ، وكان صالحا زاهدا متصوفا ،
رحمه الله تعالى!.
٢٢٥ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن عبد الملك
بن عميرة بن يحيى ، الضبي.
من أهل لورقة ،
رحل حاجّا ، وكان منقبضا زاهدا صواما قواما ، وأقرأ القرآن ، وأسمع
__________________
الحديث ، وممن حدث
عنه الحافظان أبو سليمان وأبو محمد بن حوط الله ، ولقيه أبو سليمان بلورقة سنة ٥٧٥
، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ٥٧٧ ، وقد قارب المائة.
٢٢٦ ـ ومنهم أبو عمر بن عات ، وهو أحمد
بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي.
من أهل شاطبة ،
سمع أباه وأبا الحسن بن هذيل ، وأبا عبد الله بن سعادة وابن حبيش وغير واحد وطائفة
كثيرة ، ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة ، وسمع أبا الطاهر السّلفي وأبا الطاهر بن
عوف وغيرهما ممن يطول ذكره ، وأجاز له أبو الفرج بن الجوزي وغيره ممن أخذ عنه وسمع
منه ، وقد ضمن ذكر أشياخه وجملة صالحة من مروياته عنهم برنامجيه اللذين سمي أحدهما
«بالنزهة ، في التعريف بشيوخ الوجهة» وهو كتاب حافل جامع ، والآخر «بريحانة النفس ، وراحة الأنفس ، في ذكر شيوخ الأندلس» قال ابن عبد الملك
المراكشي في الصلة : حدثنا عنه شيخنا أبو محمد حسن بن علي بن القطان ، وكان من
أكابر المحدثين ، وجلة الحفاظ المسندين للحديث والآداب بلا مدافعة ، يسرد
الأسانيد والمتون ظاهرا فلا يخل بحفظ شيء منها ، متوسط الطبقة في حفظ فروع الفقه
ومعرفة المسائل ، إذ لم يعن بذلك عنايته بغيره ، فكان أهل شاطبة يفاخرون بأبوي عمر
بن عبد البر وابن عات ، وكان على سنن السلف الصالح في الانقباض ، ونزارة الكلام ،
ومتانة الدين ، وأكل الحشف ، ولزوم التقشف ، والتقلل من الدنيا ، والزهد فيها ،
والمثابرة على كثير من أفعال البر كالأذان والإمامة وبذل المعروف والتوسع بالصدقات
على الضعفاء والمساكين.
وحكي أنه حضر في
جماعة من طلبة العلم لسماع السير على بعض شيوخهم ، فغاب الكتاب أو القارئ بكتابه ،
فقال أبو عمر : أنا أقرأ لكم ، فقرأ لهم من حفظه ، وقال أبو عمر عامر بن نذير :
لازمته مدة ستة أشهر ، فلم أر أحفظ منه ، وحضرت إسماع الموطأ وصحيح البخاري منه ،
فكان يقرأ من كل واحد من الكتابين نحو عشر أوراق عرضا بلفظه كل يوم عقب صلاة الصبح
، لا يتوقف في شيء من ذلك ، انتهى.
وقال بعض المؤرخين
: إنه كان آخر الحفاظ للحديث ، يسرد المتون والأسانيد ظاهرا لا يخل بحفظ شيء منها
، موصوفا بالدراية والرواية ، غالبا عليه الورع والزهد ، على منهاج السلف ، يلبس الخشن
، ويأكل الحشف ، وربما أذن في المساجد ، وله تآليف دالة على سعة حفظه ،
مع حظ من النظم والنثر ، وشهد وقعة العقاب التي أفضت إلى خراب الأندلس
__________________
بالدائرة على
المسلمين فيها ، وكانت السبب الأقوى في تحيّف الروم بلادها حتى استولت عليها ، ففقد حينئذ ولم يوجد حيا ولا
ميتا ، وذلك يوم الاثنين منتصف صفر سنة تسع وستمائة ، ومولده سنة اثنتين وأربعين
وخمسمائة ، قاله ابن الأبار : وهو ممن أجاز له المذكور فيها رواه أو ألفه ، رحمه
الله تعالى!.
٢٢٧ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن تميم بن
هشام بن أحمد بن حنون ، البهراني.
من ساكني إشبيلية
، وأصله من لبلة ، روى عن أبيه وابن الجد وابن زرقون وابن جهور وغيرهم من أعلام
الأندلس ، ثم رحل إلى المشرق ، فسمع ببغداد من أبي حفص عمر بن طبرزد ، وبخراسان من
المؤيد الطوسي ، وبهراة من أبي روح عبد المعز ، وبمرو من عبد الرحيم بن عبد الكريم
السمعاني ، ومن جماعة غير هؤلاء وسمع أيضا بدمشق من أبي الفضل الحرستاني وسواه ،
وبها توفي قبل العشرين وستمائة ، فيما نقل ابن الأبار عن ابن نقطة ، وقال غيره :
إنه مات سنة خمس وعشرين وستمائة.
٢٢٨ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم
بن محمد بن أحمد ، المخزومي.
من أهل قرطبة ،
ويعرف أبوه بكوران ، روى عن أبيه وغيره من مشيخة بلده ، ورحل حاجّا فلقي
بالإسكندرية أبا الحسن بن المقدسي وسمع منه ، وأنشد من لفظه بعض أصحاب ابن الأبار ، قال : أنشدني شرف الدين أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي ، قال : أنشدتني تقية بنت غيث بن علي الأرمنازي لنفسها : [بحر السريع]
لا خير في الخمر
، على أنها
|
|
مذكورة في صفة
الجنّه
|
لأنها إن خامرت
عاقلا
|
|
خامره في عقله
جنّه
|
يخاف أن تقذفه
من علا
|
|
فلا تقي مهجته
جنّه
|
٢٢٩ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن عياش ، الكناني ،
المرسي.
__________________
سمع من ابن بشكوال
موطأ مالك رواية يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير بقراءة محمد بن حوط الله ، ورحل
إلى المشرق سنة تسع وسبعين وخمسمائة ، فحج سنة ثمانين بعدها ، وأقام بالحجاز
والشام مدة ، ولقي أبا الطاهر الخشوعي بدمشق فسمع منه مقامات الحريري وأخذها الناس
عنه ، ومما أفاد وزاد في قول الحريري :
إذا ما حويت جنى
نخلة
الأبيات ـ قوله : [بحر
المتقارب]
ولا تأسفنّ على
خارج
|
|
إذا ما لمحت سنى
الداخل
|
ولا تكثر الصمت
في معشر
|
|
وإن زدت عيّا
على باقل
|
وسمع من أبي
القاسم ابن عساكر السنن للبيهقي ، ومن أبي حفص الميانشي جامع الترمذي ، وقفل إلى
الأندلس في سنة سبع وتسعين ، وحدث بيسير ، وكان يحسن عبارة الرؤيا ، وكفّ بصره سنة
ثمان وعشرين وستمائة أو نحوها ، وتوفي على إثر ذلك ، ومولده سنة اثنتين وخمسين
وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.
٢٣٠ ـ ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن عبد
الله بن حصن بن أحمد بن حزم ، الغافقي.
ويقال فيه :
إبراهيم بن حصن بن عبد الله بن حصن.
أندلسي ، سكن دمشق
، وولي الحسبة بها ، ويكنى أبا إسحاق ، سمع ببغداد من أبي بكر بن مالك القطيعي
وطبقته ، وبدمشق من عبد الوهاب الكلابي ويوسف بن القاسم الميانجي ، وبمصر من أبي
طاهر الذّهلي وأبي أحمد الغطريفي ، وله أيضا سماع بالرملة وأطرابلس والدينور
وغيرها من البلدان ، وحدث بيسير ، روى عنه أبو نصر عبد الوهاب بن عبد الوهاب بن
عبد الله الجياني من شيوخ عبد العزيز بن أحمد الكناني ، وكان مالكيا ، وقيل
: إنه يذهب إلى الاعتزال ، وكان صارما في الحسبة ، ووليها سنة خمس وتسعين
وثلاثمائة في أيام الحاكم العبيدي ، وتوفي بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وأربعمائة ،
قيل : ثاني عيد الأضحى ، وقيل غير ذلك ، ذكره ابن عساكر ، رحمه الله تعالى!.
قلت : ما سمعت
بمالكيّ معتزليّ غير هذا ، ولعله كان مالكيا بالمغرب ، فلما دخل في خدمة الشيعة
حصل منه ما حصل من نسبته لمذهب الاعتزال ، فالله تعالى أعلم.
__________________
٢٣١ ـ ومنهم أبو أمية إبراهيم بن منبه
بن عمر بن أحمد ، الغافقي .
من أهل المرية ،
ونزل مرسية ، سمع ببلده من ابن شفيع ، وأخذ عنه القراءات ، ومن الحافظ ابن سكرة
وابن رغيبة وعبد القادر بن الحناط ، وبقرطبة من ابن عتاب وابن طريف وأبي بحر
الأسدي وابن مغيث وغيرهم ، ورحل حاجا ، فسمع بمكة من أبي علي بن العرجاء أحاديث
جعفر بن نسطور وغيرها في شعبان سنة ست وعشرين ، وسمع أيضا من أبي الفتح سلطان بن
إبراهيم المقدسي ، وقفل إلى بلده ، وانتقل بعد الحادثة عليه إلى مرسية ، وولي
القضاء والخطبة هنالك ، وحدّث ، وأخذ عنه ، وكان فقيها مشاورا ، وقيل : إن ابن
حبيش سمع منه الأحاديث النسطورية ، وأسمع صحيح البخاري آخر الحجة سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، وكان يحدّث به عن سلطان بن
إبراهيم عن كريمة المروزية ، وحكى رحمه الله تعالى عن أبي ذرّ الهروي أنه قال عند
موته : عليكم بكريمة فإنها تحمل كتاب البخاري من طريق أبي الهيثم ، رحم الله تعالى
الجميع!.
٢٣٢ ـ ٢٣٣ ـ ومنهم أبو القاسم بن فورتش
، وهو إسماعيل بن يحيى بن عبد الرحمن ، السّرقسطي ، وأخوه القاضي محمد بن يحيى ،
وكانا جميعا زاهدين ، لهما رحلة سمعا فيها من أبي ذر الهروي بمكة ، وعادا إلى
بلدهما ، وولي محمد منهما القضاء ، وقد لقيهما القاضي الحافظ أبو علي بن سكّرة ولم
يسمع منهما ، ويرويان عن أبي عمر الطلمنكي وأبي الحزم بن أبي درهم ، وتوفي أبو القاسم في نحو الخمسمائة.
٢٣٤ ـ ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد
بن عمر ، القرشي ، العلوي ، الإشبيلي.
رحل حاجا ، ودخل
العراق والموصل ، وقيد الكثير ورواه ، وسمع من أبي حفص الميانشي بمكة سنة ٥٧٠ ،
وحدث بالموطإ عن أبي الحسن علي بن هابيل الأنصاري عن أبي الوليد الباجي ، وحدث
أيضا عن غيره بما دل على أنه كان يخلط ولا يضبط ، وكذلك قال أبو الصبر : كان له في
الموطأ إسناد عال جدا ، فتصفحته فوجدته ينقص منه رجل واحد ، فاستربت في الرواية عنه بعد تحسين الظن به ، ولم يتنبه أبو الصبر
لأن ابن هابيل وغيره من شيوخه مجهولون ، وأبو الصبر ممن روى عن المذكور ، وهو أبو
الصبر السبتي ، والله تعالى أعلم بحقيقة حال الرجل.
__________________
٢٣٥ ـ ومنهم أبو
الروح عيسى بن عبد الله بن محمد بن موسى بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن خليل ،
النفزي ، الحميري ، التاكرنّيّ.
قال في تاريخ إربل
: كان شابا متأدبا فاضلا ، قدم مصر ، وله شعر حسن ، وقال الحافظ عبد العظيم
المنذري : أنشدنا المذكور لنفسه : [بحر الكامل]
يا قلب مالك لا
تفيق من الهوى
|
|
أو ما يقرّ بك
الزمان قرار؟
|
ألكلّ ذي وجه
جميل صبوة
|
|
ولكل عهد سالف
تذكار؟
|
وله : [بحر البسيط]
يا رب أضحية
سوداء حالكة
|
|
لم ترع في البيد
إلا الشمس والقمرا
|
تخال باطنها في
اللون ظاهرها
|
|
فهي الغداة
كزنجيّ إذا كفرا
|
ولد سنة ٥٩٠
بتاكرنّا من بلاد الأندلس ، وهي من نظر قرطبة ، وتوفي بأرزن من ديار بكر سنة ٦٢٩ ، عائدا من آمد ، رحمه الله تعالى!.
ومن بديع شعره : [بحر
البسيط]
إن أودع الطرس
ما وشّاه خاطره
|
|
أبدى لعينيك
أزهارا وأشجارا
|
وإن تهدّد فيه
أو يعد كرما
|
|
بثّ البرية
آجالا وأعمارا
|
وتاكرنا ـ بضم
الكاف والراء وتخفيفها ، وشد النون ـ وورد المذكور إربل سنة سبع وعشرين وستمائة ،
وله أبيات أجاز فيها أبيات شرف الدين عمر بن الفارض في غلام اسمه بركات ، قال الأسدي
الدمشقي ، ومن خطه نقلت : كنت حاضرا هذه الواقعة بالقاهرة بالجامع الأزهر ، إذ قال
ابن الفارض : [بحر الكامل]
بركات يحكي
البدر عند تمامه
|
|
حاشاه ، بل شمس
الضّحى تحكيه
|
__________________
فقال أبو الروح ،
وأنشدني ذلك : [بحر الكامل]
هذا الكمال فقل
لمن قد عابه
|
|
حسدا وآية كل
شيء فيه
|
لم تذو إحدى
زهرتيه ، وإنما
|
|
كملت بذاك ملاحة
التشبيه
|
وكأنه رام يغلّق
جفنه
|
|
ليصيب بالسهم
الذي يرميه
|
وقال ابن المستوفي
في تاريخ إربل : أنشدني أبو الروح لنفسه : [بحر الكامل]
أوصيت قلبي أن
يفرّ عن الصّبا
|
|
ظنا بأنّي قد
دعوت سميعا
|
فأجابني لا تخش
مني بعد ما
|
|
أفلتّ من شرك
الغرام وقوعا
|
حتى إذا نادى
الحبيب رأيته
|
|
آوي إليه ملبيا
ومطيعا
|
كذبالة أخمدتها
فإذا دنا
|
|
منها الضرام
تعلقته سريعا
|
قال : وأنشدني : [بحر
البسيط]
وزائر زارني
واللّيل معتكر
|
|
والطّيب يفضحه
والحلي يشهره
|
أمسكت قلبي عنه
وهو مضطرب
|
|
والشوق يبعثه
والصّون يزجره
|
فبتّ أصدى إلى
من لا يحللني
|
|
والورد صاف ولا
شيء يكدّره
|
تراه عيني وكفّي
لا تلامسه
|
|
حتى كأني في
المرآة أنظره
|
قال : وأنشدني [قال
: أنشدني] الإمام أبو عمرو بن غياث الشريشي لنفسه رحمه الله تعالى : [بحر
الطويل]
صبوت وهل عار
على الحر إن صبا
|
|
وقيد ثغر
الأربعين إلى الصبا
|
وقالوا مشيب قلت
وا عجبا لكم
|
|
أينكر صبح قد
تخلل غيهبا
|
وليس مشيبا ما
ترون ، وإنما
|
|
كميت الصبا لما
جرى عاد أشهبا
|
وتوفي أبو عمرو
سنة ٦٢٠ ، عن تسعين سنة.
قال ابن المستوفي
: وأنشدني أبو عمرو أيضا لنفسه : [بحر السريع]
__________________
أودع فؤادي حسرة
أو دع
|
|
نفسك تؤذي أنت
في أضلعي
|
أمسك سهام اللحظ
أو فارمها
|
|
أنت بما ترمي
مصاب معي
|
موقعها القلب
وأنت الذي
|
|
مسكنه في ذلك
الموضع
|
قال : وأنشدني قال
: أنشدني مطرف الغرناطي : [بحر الخفيف]
أنا صبّ كما
تشاء وتهوى
|
|
شاعر ماجد كريم
جواد
|
سنّة سنّها
قديما جميل
|
|
وأتى المحدثون
مثلي فزادوا
|
قال : وأنشدني
أيضا المطرف : [بحر السريع]
وفي فروع الأيك
ورق إذا
|
|
بلّ الندى
أعطافها تسجع
|
أو هزّها نفح
نسيم الصبا
|
|
شاقك منها غرّد
شرّع
|
كأنما ريطتها
منبر
|
|
وهي خطيب فوقه
مصقع
|
إن شبّها في طرف
لوعة
|
|
جرى لها في طرف
مدمع
|
أخذه من قول عبد
الوهاب بن علي المالقيّ الخطيب : [المتقارب]
كأنّ فؤادي
وطرفي معا
|
|
هما طرفا غصن
أخضر
|
إذا اشتعل النار
في جانب
|
|
جرى الماء في
الجانب الآخر
|
٢٣٦ ـ ومن المرتحلين من الأندلس إلى
المشرق الإمام النحوي اللغوي نور الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن حمدون ،
الحميري ، الأندلسي ، المالقي.
قال شرف الدين
الصابوني : أنشدنا المذكور لنفسه سنة ٦٦٧ : [بحر الطويل]
فؤادي بأيدي
النائبات مصاب
|
|
وجفن لفيض الدمع
فيه مصاب
|
تناءت ديار قد
ألفت وجيرة
|
|
فهل لي إلى عهد
الوصال إياب
|
وفارقت أوطاني
ولم أبلغ المنى
|
|
ودون مرادي أبحر
وهضاب
|
مضى زمني والشيب
حل بمفرقي
|
|
وأبعد شيء أن
يردّ شباب
|
__________________
إذا مر عمر
المرء ليس براجع
|
|
وإن حل شيب لم
يفده خضاب
|
فحل حمام الشيب
في فرق لمّتي
|
|
وقد طار عنها
للشباب غراب
|
وكم عظة لي في
الزمان وأهله
|
|
وبين فؤادي
والقبول حجاب
|
فدع شهوات النفس
عنك بمعزل
|
|
فعذب الليالي
مقتضاه عذاب
|
وسلّ فؤادا عن
رباب وزينب
|
|
فما القصد منها
زينب ورباب
|
وأنوي متابا ثم
أنقض نيتي
|
|
فربع صلاحي
بالفساد خراب
|
أقر بتقصيري
وأطمع في الرضا
|
|
وما القصد إلا
مرجع ومتاب
|
ويعتبني في
العجز خلّ وصاحب
|
|
وهل نافع في
الجامدات عتاب
|
أطهر أثوابي
وقلبي مدنس
|
|
وأزعم صدقا
والمقال كذاب
|
وفارقت من غرب
البلاد مواطنا
|
|
فيسقي ربا غرب
البلاد سحاب
|
فبالقلب من نار
التشوق حرقة
|
|
وبالعين من فيض
الدموع عباب
|
وما بلغ المملوك
قصدا ولا منّى
|
|
ولا حطّ عن وجه
المراد نقاب
|
وأخشى سهام
الموت تفجأ غفلة
|
|
وما سار بي نحو
الرسول ركاب
|
وقلبي معمور بحب
محمد
|
|
فمالي في غير
الحجاز طلاب
|
يحنّ إلى أوطانه
كل مسلم
|
|
فقدس منها منزل
وجناب
|
فأسعد أيامي إذا
قيل هذه
|
|
منازل من وادي
الحمى وقباب
|
فجسمي بمصر
وروحي بطيبة
|
|
فللروح عن جسمي
هناك مناب
|
على مثل هذا
العجز والعمر منقض
|
|
تشقّ قلوب لا
تشق ثياب
|
وأرجو ثوابا
بامتداحي محمدا
|
|
وما كل مثن في
الزمان يثاب
|
به أخمدت من قبل
نيران فارس
|
|
وحقق من ظبي
الفلاة خطاب
|
وكم قد سقى من
كفه الجيش فارتووا
|
|
وكم قد شفى منه
العيون رضاب
|
أجيب لما يختار
في حضرة العلا
|
|
وما كل خلق حيث
قال يجاب
|
__________________
فلم تلهه دنياه
عن خوف ربه
|
|
ولا شغلته عن
رضاه كعاب
|
محمد المختار
أعلى الورى ندى
|
|
وأكرم مبعوث
أتاه كتاب
|
أتحسب أن تحصي
بعدّ صفاته
|
|
وهيهات ما يحصي
علاه حساب
|
ثناء رسول الله
خير ذخيرة
|
|
وقد ذل جبار
وخيف عقاب
|
وقد نصب الميزان
والله حاكم
|
|
وذلت لأحكام
الإله رقاب
|
فكل ثناء واجب
لصفاته
|
|
فما مدح مخلوق
سواه صواب
|
إليك رسول الله
أنهي مدائحي
|
|
وإن رجائي راحة
وثواب
|
إذا قيل من تعني
بمدحك كله
|
|
فأنت إذا خبرت
عنه جواب
|
(فليتك تحلو والحياة مريرة
|
|
وليتك ترضى
والأنام غضاب)
|
فأنت أجلّ
العالمين مكانة
|
|
وأكرم مدفون
حواه تراب
|
وله يرثي العز بن
عبد السلام : [بحر الكامل]
أمد الحياة كما
علمت قصير
|
|
وعليك نقّاد بها
وبصير
|
عجبا لمغتر بدار
فنائه
|
|
وله إلى دار
البقاء مصير
|
فسليمها
للنائبات معرّض
|
|
وعزيزها بيد
الردي مقهور
|
أيظن أن العمر
ممدود له
|
|
والعمر فيه على
الردى مقصور
|
وهي طويلة ، ولم
يحضرني سوى ما ذكرته.
٢٣٧ ـ ومنهم عبد البر بن فرسان بن
إبراهيم بن عبد الرحمن ، الغسّاني ، الوادي آشي ، أبو محمد.
وله أخبار كثيرة
في الحماسة وعلوّ الهمة.
ومن نظمه لما تعمم
مخدومه ابن غانية بعمامة بيضاء ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء : [بحر الطويل]
فديتك بالنفس
التي قد ملكتها
|
|
بما أنت موليها
من الكرم الغضّ
|
__________________
تردّيت للحسن
الحقيقي بهجة
|
|
فصار لها الكليّ
في ذاك كالبعض
|
ولما تلالا نور
غرّتك التي
|
|
تقسم في طول
البلاد وفي عرض
|
تلفعتها خضراء
أحسن ناظر
|
|
نبت عنك إجلالا
وذاك من الفرض
|
وأسدلت حمراء
الملابس فوقها
|
|
بمفرق تاج المجد
والشرف المحض
|
فأصبحت بدرا
طالعا في غمامة
|
|
على شفق دان إلى
خضرة الأرض
|
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر الطويل]
أجبنا ورمحي
ناصري وحسامي
|
|
وعجزا وعزمي
قائدي وإمامي
|
ولي منك بطّاش
اليدين غضنفر
|
|
يحارب عن أشباله
ويحامي
|
وقال رحمه الله
تعالى لما أسنّ يستأذن مخدومه في الحج والزيارة : [بحر الكامل]
أمنن بتسريح
عليّ وفعله
|
|
سبب الزيارة
للحطيم ويثرب
|
ولئن تقوّل كاشح
أن الهوى
|
|
درست معالمه
وأنكر مذهبي
|
فمقالتي ما إن
مللت وإنما
|
|
عمري أبى حمل
النّجاد ومنكبي
|
وعجزت عن أن
أستثير كمينها
|
|
وأشق بالصمصام
صدر الموكب
|
وقال رحمه الله
تعالى ، ولا خفاء ببراعته : [بحر الطويل]
ندى مخضلا ذاك
الجناح المنمنما
|
|
وسقيا وإن لم
تشك يا ساجعا ظما
|
أعدهن ألحانا
على سمع معرب
|
|
يطارح مرتاحا
على القضب معجما
|
وطر غير مقصوص
الجناح مرفّها
|
|
مسوّغ أشتات
الحبوب منعما
|
مخلّى وأفراخا
بوكرك نوّما
|
|
ألا ليت أفراخي
معي كنّ نوّما
|
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر الطويل]
كفى حزنا أن
الرماح صقيلة
|
|
وأن الشّبا رهن
الصدى بدمائه
|
__________________
وأن بياديق
الجوانب فرزنت
|
|
ولم يعد رخ
الدست بيت بنائه
|
وكان ـ رحمه الله
تعالى! ـ من جلة الأدباء ، وفحول الشعراء ، وبرعة الكتاب كتب عن ابن غانية الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن محمد
بن علي المسوفي الميرقي الثائر على منصور بني عبد المؤمن ، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم ، وكان
منقطعا إليه ، وممن صحبه في حركاته ، وكان آية في بعد الهمة ، والذهاب بنفسه ،
والغناء في مواقف الحرب ، والجنسية علة الضم ، إذ ابن غانية كان غاية في ذلك أيضا
، ووجّهه الميرقي المذكور عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق ، وقد طال العراك ،
وكاد الناس ينفصلون عن الحرب [إلى أن يباكروها من الغد ، فلما بلغ الصدر اشتدّ على
الناس] وذمّر أرباب الحفيظة ، وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة ،
فانهزم عدوّهم شرّ هزيمة ، ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة ،
فقال له الأمير : وما حملك على ما صنعت؟ فقال : الذي عملت هو شأني ، وإذا أردت من
يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحهم فانظر غيري.
وتشاجر له ولد
صغير مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا فنال منه ولد الأمير ، وقال: وما قدر أبيك؟
فلما بلغ أباه خرج مغضبا لحينه ، ولقي ولد الأمير المخاطب لولده فقال : حفظك الله تعالى! لست
أشك في أني خديم أبيك ، ولكني أحب أن أعرفك بنفسي ومقداري ومقدار أبيك ، اعلم أن
أباك وجّهني رسولا إلى دار الخلافة ببغداد بكتاب عن نفسه ، فلما بلغت بغداد أنزلت
في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر ، وأجري علي سبعة دراهم في اليوم ، وطولع
بكتابي ، وقيل : من الميرقي الذي وجّهه؟ فقال بعض الحاضرين : هو رجل مغربي ثائر
على أستاذه ، فأقمت شهرا ، ثم استدعيت ، فلما دخلت دار الخلافة وتكلمت مع من بها
من الفضلاء وأرباب المعارف والآداب اعتذروا إلي ، وقالوا للخليفة : هذا رجل جهل
مقداره ، فأعدت إلى محل اكتري لي بسبعين درهما ، وأجري على مثلها في اليوم ، ثم
استدعيت فودعت الخليفة ، واقتضيت ما تيسر من حوائجه وصدر لي شيء له حظ من صلته ،
وانصرفت إلى أبيك ، فالمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار ،
والثانية كانت على قدري ، وترجمته رحمه الله تعالى واسعة .
__________________
٢٣٨ ـ ومنهم عبد المنعم بن عمر الغساني
، الوادي آشي
المؤلف ، الرحالة
، المتجول ببلاد المشرق سائحا ، صاحب المؤلفات الكثيرة التي منها «جامع أنماط
السائل ، في العروض والخطب والرسائل».
ومن نظمه قوله
رحمه الله : [بحر الطويل]
ألا إنما الدنيا
بحار تلاطمت
|
|
فما أكثر الغرقى
على الجنبات
|
وأكثر من لاقيت
يغرق إلفه
|
|
وقلّ فتى ينجى
من الغمرات
|
توفي سنة ٦٠٣ ،
رحمه الله تعالى!.
٢٣٩ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود
بن محمد ، القرطبي ، الخزرجي.
كان إماما في
التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب ، وله تآليف حسان ،
وشعر رائق ، فمنه قوله رحمه الله تعالى : [بحر الوافر]
وفي الوجنات ما
في الروض لكن
|
|
لرونق زهرها
معنى عجيب
|
وأعجب ما
التعجّب عنه أني
|
|
أرى البستان
يحمله قضيب
|
وتوفي رحمه الله
تعالى سنة ٦٠١.
٢٤٠ ـ ومنهم أبو
العباس القرطبي ، صاحب «المفهم ، في شرح مسلم» وهو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر
الأنصاري ، المالكي ، الفقيه ، المحدث ، المدرس ، الشاهد بالإسكندرية.
ولد بقرطبة سنة
٥٧٨ ، وسمع الكثير هنالك ، ثم انتقل إلى المشرق ، واشتهر وطار صيته ، وأخذ الناس
عنه ، وانتفعوا بكتبه ، وقدم مصر ، وحدث بها ، واختصر الصحيحين ، وكان بارعا في
الفقه والعربية ، عارفا بالحديث ، وممن أخذ عنه القرطبي صاحب التذكرة ، ومن
تصانيفه رحمه الله تعالى «المفهم ، في شرح مسلم» وهو من أجلّ الكتب ، ويكفيه شرفا
اعتماد الإمام النووي رحمه الله تعالى عليه في كثير من المواضع ، وفيه أشياء حسنة
مفيدة ، منها اختصاره للصحيحين كما مر ، وله غير ذلك وتوفي رحمه الله تعالى
بالإسكندرية رابع ذي القعدة سنة ٦٥٦ ، وكان يعرف في بلاده بابن المزين ، وله كتاب
__________________
«كشف الإقناع ، عن الوجد والسماع» أجاد فيه وأحسن وكان يشتغل أولا
بالمعقول ، وله اقتدار على توجيه المعاني بالاحتمال.
قال الشيخ شرف
الدين الدمياطي : أخذت عنه ، وأجاز لي مصنفاته ، رحمه الله تعالى! وحدث
بالإسكندرية وغيرها ، وصنف غير ما ذكرناه ، وكان إماما عالما جامعا لمعرفة الحديث
والفقه والعربية وغيرها.
٢٤١ ـ ومنهم العارف الكبير ، الولي الصالح
الشهير ، أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونة ، الخزاعي ، الأندلسي.
أحد الأعلام
المنقطعين المقربين أولي الهداية ، كان ـ رضي الله تعالى عنه ونفعنا به! ـ كثير
الأتباع ، بعيد الصيت ، فذّا شهيرا .
قال الحافظ ابن
الزبير : هو أحد الأعلام المشاهير فضلا وصلاحا ، قرأ ببلنسية وتفقه ، وحفظ نصف
المدوّنة ، وأقرأها ، وكان يؤثر التفسير والحديث والفقه على غيرها ، أخذ عن أبوي
الحسن بن النعمة وابن هذيل ، وحج ، ولقي في رحلته من الأندلس جلّة أكبرهم الولي
الكبير سيد أبو مدين شعيب ، أفاض الله تعالى علينا من أنواره! وانتفع به ، ورجع
عنه بعجائب ، فشهر بالعبادة ، وتبرك الناس به ، فظهرت عليه بركته ، توفي رحمه الله
تعالى في شوال سنة ٦٢٤ ، وعاش نيفا وثمانين سنة.
وله ترجمة في
الإحاطة ملخصها ما ذكرناه.
٢٤٢ ـ ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن
يعقوب ، الخزرجي ، الأنصاري ، الشاطبي ، الفقيه ، القاضي ، الصّدر ، المتفنن ، المحصل ، المجيد.
له علم محكم ،
وعقد صحيح مبرم ، رحل إلى المشرق وحج ، وكانت رحلته بعد تحصيله ، فزاد فضلا إلى
فضل ، ونبلا إلى نبل ، وكان متثبتا في فقهه ، لا يستحضر من النقل الكثير ، ولكنه
يستحضر ما يحتاج إليه ، وكان له علم بالعربية وأصول الفقه ، ومشاركة في أصول الدين
، له شرح على الجزولية ، وكان أبوه قاضيا ، وبيتهم بيت قضاء وعلم وسؤدد متوارث
ومجد مكسوب ومنسوب ، ثم ولي قضاء بجاية ، فكان في قضائه على سنن الفضلاء
__________________
وطريق الأولياء
العقلاء بالحق مع الصدق ، معارضا للولاة ، وكان يرى أن لا يقدم الشهود إلا عند
الحاجة ، وأما إن حصل من تحصل به الكفاية فلا يقدم غيره ، ويرى أن الكثرة مفسدة ،
وقد طلب منه الملك أن يقدم رجلا من أهل بجاية ، فقال له مشافهة : إن شئتم قدمتموه
وأخرتموني وكان إذا جرى الأمر في مجرى الشهادة وما قاله القاضي ابن العربي أبو بكر وغيره من أنها «قبول قول الغير على الغير
بغير دليل» يرى أن هذا من الأمر العظيم الذي لا يليق أن يمكن منه إلا الآحاد الذين
تبيّن فضلهم في الوجود ، وكان يرى أن جنايات الشاهد إنما هي في صحيفة من يقدمه من
باب قوله عليه الصلاة والسلام : «من سنّ سنّة حسنة ، ومن سنّ سنّة سيّئة» وقد سئل
: من أولياء الله؟ فقال : شهود القاضي ، لأنهم لا يأتون كبيرة ، ولا يواظبون على
صغيرة ، وإن كانت الشهادة على هذه الصفة فلا شيء أجل منها ، وإن كانت خطة لا صفة
فلا شيء أخس منها ، ولما كانت واقعة ابن مرين بطنجة عرض عليه أهلها أن يتقدم وأن يبايعوه ، فقال :
والله لا أفسد ديني ، ولما توفي عجز القاضي الذي تولى بعده عن سلوك منحاه ،
واقتفاء سننه الذي اقتفاه ، قال هذا كله بمعناه وبعضه بحروفه الغبرينيّ في «عنوان
الدراية في علماء بجاية».
٢٤٣ ـ ومنهم محمد
بن يحيى الأندلسي ، اللبسي ـ بلام فموحدة فسين ـ قاضي القضاة ، أخذ عن الحافظ ابن
حجر ، ونوّه به عند الأشراف ، حتى ولاه قضاء المالكية بحماة ، وسار سيرة السلف الصالح
، ثم حنق على نائبها في بعض الأمور ، وسافر إلى حلب مظهرا إرادة السماع على حافظها
البرهان.
ووصفه ابن حجر في
بعض مجاميعه بقوله : الشيخ ، الإمام ، العالم ، العلامة في الفنون ، قاضي الجماعة.
وقال : إنه إنسان حسن إمام في علوم منها الفقه والنحو وأصول الدين ، يستحضر علوما
كأنها بين عينيه ، ووصفه أيضا بعلامة دهره ، وخلاصة عصره ، وعين زمانه ، وإنسان
أوانه ، جامع العلوم ، وفريد كل منثور ومنظوم ، قاضي القضاة ، لا زالت رايات
الإسلام
__________________
به منصورة ،
وأعلام الإيمان به منشورة ، ووجوه الأحكام الشرعية بحسن نظره محبورة ، ولد سنة ٨٠٦
، وتوفي ببرسّا من بلاد الروم أواخر شعبان سنة ٨٨٤ ، قاله السخاوي «في الضوء
اللامع».
٢٤٤ ـ ومنهم الوزير الشهير أبو عبد الله
بن الحكيم ، الرندي ، ذو الوزارتين.
رحل إلى مصر
والحجاز والشام ، وأخذ الحديث عن جماعة ، وقد ترجمناه في باب مشيخة لسان الدين عند
تعرضنا لذكر ابنه الشيخ أبي بكر بن الحكيم ، ولا بأس أن نزيد هنا ما ليس هنالك ،
فنقول : إن من مشايخه برندة الشيخ الأستاذ النحوي أبا الحسن علي بن يوسف العبدري السفاح ، أخذ عنه العربية ، وقرأ عليه القرآن بالروايات
السبع ، وأخذ عن الخطيب بها أبي القاسم بن الأيسر ، وأخذ ـ رحمه الله تعالى! ـ عن
جماعة من أعلام الأندلس ، وأخذ في رحلته عن الجلّة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر ،
فمن شيوخه الحافظ أبو اليمن بن عساكر ، لقيه بالحرم الشريف ، وانتفع به ، وأكثر من
الرواية عنه ، والشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرّاني المعروف بابن
هبة الله ، والشيخ الشرف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام
الجزائري ـ جزائر المغرب ـ نزيل بغداد والشيخ أبو الصفاء خليل بن أبي بكر المرادي
الحنبلي ، لقيه بالقاهرة ، والشيخ رضي الدين أبو بكر القسمطيني ، والشيخ شرف الدين
الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث
وحافظها ومؤرخها ،! والشهاب ابن الخيمي ، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي
أولها : [بحر البسيط]
يا مطلبا ليس لي
في غيره أرب
|
|
إليك آل التقصّي
وانتهى الطّلب
|
وفيها البيت
المشهور الذي وقع النزاع فيه :
يا بارقا بأعالي
الرقمتين بدا
|
|
لقد حكيت ولكن
فاتك الشّنب
|
والشيخ جمال الدين
أبو صادق محمد بن يحيى القرشي ، ومن تخريجه «الأربعون المروية بالأسانيد المصرية»
وسمع الحلبيات من ابن عماد الحراني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة ،
ومولده سنة ٥٩٨ ، وزينب بنت الإمام أبي محمد عبد
__________________
اللطيف بن يوسف
البغدادي ، وتكنى أم الفضل ، وسمعت من أبيها ، ومن أشياخ ذي الوزارتين ابن الحكيم
المذكور الملك الأوحد يعقوب ابن الملك الناظر صلاح الدين داود بن الملك المعظم
عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، والشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن طرخان
وأخوه محمد بن سليمان ، في طائفة كبيرة من مشايخ مصر والشام والعراق وغيرها من
البلاد يطول تعدادهم ، وأخذ ببجاية عن خطيبها أبي عبد الله بن رحيمة الكناني ،
وبتونس عن قاضيها أبي العباس بن الغماز البلنسي وأخذ العربية عن قدوة النحاة أبي
الحسين عبد الله بن أحمد بن عبيد الله بن أبي الربيع القرشي .
ومن شعر ذي الوزارتين
ابن الحكيم المذكور قوله : [بحر الرمل]
هل إلى ردّ
عشيات الوصال
|
|
سبب أم ذاك من
ضرب المحال
|
حالة يسري بها
الوهم إلى
|
|
أنها تثبت برأ
باعتلال
|
وليال ما تبقى
بعدها
|
|
غير أشواقي إلى
تلك الليال
|
إذ مجال الوصل
فيها مسرحي
|
|
ونعيمي آمر فيها
ووال
|
ولحالات التراضي
جولة
|
|
مرحت بين قبول
واقتبال
|
فبوادي الخيف
خوفي مسعد
|
|
وبأكناف منّى
أسنى موال
|
لست أنسى الأنس
فيها أبدا
|
|
لا ولا بالعذل
في ذاك أبال
|
وغزال قد بدا لي
وجهه
|
|
فرأيت البدر في
حال الكمال
|
ما أمال التيه من
أعطافه
|
|
لم يكن إلا على
خصل اعتدال
|
خصّ بالحسن فما
أنت ترى
|
|
بعده للناس حظا
في الجمال
|
من تسلّى عن
هواه فأنا
|
|
بسواه عن هواه
غير سال
|
فلئن أتعبني حبي
له
|
|
فلكم نلت به
أنعم حال
|
إذ لآلي جيده من
قبلي
|
|
ووشاحاه يميني
وشمال
|
__________________
خلف النوم لي
السهد به
|
|
وترامى الشخص لا
طيف الخيال
|
فتداوى بلماه
ظمئي
|
|
مزجك الصهباء
بالماء الزلال
|
أو إشادات بناء
الملك الأو
|
|
حد الأسمى
الهمام المتعال
|
ملك إن قلت فيه
ملكا
|
|
لم تكن إلا محقا
في المقال
|
أيد الإسلام
بالعدل فما
|
|
إن ترى رسما
لأصحاب الضلال
|
ذو أياد شملت كل
الورى
|
|
ومعال يا لها
خير معال
|
همة هامت بأحوال
التقى
|
|
وصفات بالجلالات
حوال
|
وقف النّفس على
إجهادها
|
|
بين صوم وصلاة
ونوال
|
وهي طويلة ، ومنها
:
أيها المولى الذي
نعماؤه
|
|
أعجزت عن شكرها
كنه المقال
|
ها أنا أنشدكم
مهنئا
|
|
من بديع النظم
بالسحر الحلال
|
فأنا العبد الذي
حبّكم
|
|
لم يزل والله في
قلبي وبال
|
أورقت روضة
آمالي بكم
|
|
مذ تولّاها
الرّباب المتوال
|
[واقتنيت الجاه من خدمتكم
|
|
فهي ما أذخره من
كنز مال]
|
ومنها :
يا أمير
المسلمين هذه
|
|
خدمة تنبىء عن
أصدق حال
|
هي بنت ساعة أو
ليلة
|
|
سهلت بالحب في
ذاك الجلال
|
ما عليها إذ
أجادت مدحها
|
|
من بعيد الفهم
يلغيها وقال
|
فهي في تأدية
الشكر لكم
|
|
أبدا بين احتفاء
واحتفال
|
__________________
وكتب رحمه الله
تعالى يخاطب أهله من مدينة تونس : [بحر الخفيف]
حي حيّي بالله
يا ريح نجد
|
|
وتحمّل عظيم
شوقي ووجدي
|
وإذا ما بثثت
حالي فبلّغ
|
|
من سلامي لهم
على قدر ودّي
|
ما تناسيتهم وهل
في مغيبي
|
|
قد نسوني على
تطاول بعدي
|
بي شوق إليهم
ليس يعزى
|
|
لجميل ولا لسكان
نجد
|
يا نسيم الصّبا
إذا جئت قوما
|
|
ملئت أرضهم بشيح
ورند
|
فتلطف عند
المرور عليهم
|
|
وحقوقا لهم عليّ
فأدّ
|
قل لهم قد غدوت
من وجدهم في
|
|
حال شوق لكل رند
وزند
|
وإن استفسروا
حديثي فإني
|
|
باعتناء الإله
بلّغت قصدي
|
فله الحسد إذ
حباني بلطف
|
|
عنده قلّ كلّ
شكر وحمد
|
وافتتح مخاطبته
لأخيه الأكبر أبي إسحاق إبراهيم بقصيدة أولها : [بحر الكامل]
ذكر اللّوى شوقا
إلى أقماره
|
|
فقضى أسى أو كاد
من تذكاره
|
وعلا زفير حريق
نار ضلوعه
|
|
فرمى على وجناته
بشراره
|
لو كنت تبصر خطه
في خده
|
|
لقرأت سر الوجد
من أسطاره
|
يا عاذليه
أقصروا فلشدّ ما
|
|
أفضى عتابكم إلى
إضراره
|
إن لم تعينوه
على برحائه
|
|
لا تنكروا بالله
خلع عذاره
|
ما كان أكتمه
لأسرار الهوى
|
|
لو أن جند الصبر
من أنصاره
|
ما ذنبه والبين
قطّع قلبه
|
|
أسفا وأذكى
النار في أعشاره
|
بخل اللوى
بالساكنيه وطيفهم
|
|
وحديثه ونسيمه
ومزاره
|
يا برق خذ دمعي
وعرج باللوى
|
|
فاسفحه في
باناته وعراره
|
وإذا لقيت بها
الذي بإخائه
|
|
ألقى خطوب الدهر
أو بجواره
|
__________________
فاقر السلام
عليه قدر محبتي
|
|
فيه وترفيعي إلى
مقداره
|
والمم بسائر
إخوتي وقرابتي
|
|
من لم أكن
لجوارهم بالكاره
|
ما منهم إلا أخ
أو سيد
|
|
أبدا أرى دأبي
على إكباره
|
فابثث لذاك الحي
أنّ أخاهم
|
|
في حفظ عهدهم
على استبصاره
|
وقال رحمه الله
تعالى في غرض كلفه سلطانه القول فيه : [بحر الوافر]
ألا واصل مواصلة
العقار
|
|
ودع عنك التخلق
بالوقار
|
وقم واخلع عذارك
في غزال
|
|
يحق لمثله خلع
العذار
|
قضيب مائس من
فوق دعص
|
|
تعمم بالدجى فوق
النهار
|
ولاح بخده ألف
ولام
|
|
فصار معرّفا بين
الدراري
|
رماني قاسم والسين
صاد
|
|
بأشفار تنوب عن
الشّفار
|
وقد قسمت محاسن
وجنتيه
|
|
على ضدين من ماء
ونار
|
فذاك الماء من
دمعي عليه
|
|
وتلك النار من
فرط استعاري
|
عجبت له أقام
بربع قلبي
|
|
على ما شبّ فيه
من الأوار
|
ألفت الحب حتى
صار طبعا
|
|
فما أحتاج فيه إلى
ادكار
|
فما لي عن
مذاهبه ذهاب
|
|
وهذا فيه أشعاري
شعاري
|
وقال العلامة ابن
رشيد في «ملء العيبة» : لما قدمنا المدينة سنة ٦٨٤ كان معي رفيقي الوزير أبو عبد
الله بن أبي القاسم بن الحكيم ، وكان أرمد ، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار ، وقوي
الشوق لقرب المزار ، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار ،
وإعظاما لمن حل تلك الديار ، فأحس بالشفاء ، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله : [بحر
الطويل]
ولما رأينا من
ربوع حبيبنا
|
|
بيثرب أعلاما
أثرن لنا الحبّا
|
__________________
وبالترب منها إذ
كحلنا جفوننا
|
|
شفينا فلا بأسا
نخاف ولا كربا
|
وحين تبدّى
للعيون جمالها
|
|
ومن بعدها عنا
أديلت لنا قربا
|
نزلنا عن
الأكوار نمشي كرامة
|
|
لمن حلّ فيها أن
نلم به ركبا
|
نسح سجال الدمع
في عرصاتها
|
|
ونلثم من حبّ
لواطئه التربا
|
وإن بقائي دونه
لخسارة
|
|
ولو أن كفي تملأ
الشرق والغربا
|
فيا عجبا ممن
يحب بزعمه
|
|
يقيم مع الدعوى
ويستعمل الكتبا
|
وزلّات مثلي لا
تعدد كثرة
|
|
وبعدي عن
المختار أعظمها ذنبا
|
وخط الوزير ابن
الحكيم في غاية الحسن ، وقد رأيته مرارا ، وملكت بعض كتبه ، ونثره ـ رحمه الله
تعالى! ـ أعلى من شعره كما نبه عليه لسان الدين في الإحاطة.
ومن نثره في رسالة
طويلة كتبها عن سلطانه ، ما صورته : وقد تقرر عند الخاص والعام ، من أهل الإسلام.
واشتهر في آفاق الأقطار ، اشتهار الصباح في سواد الظلام. أنا لم نزل نبذل جهدنا في
أن تكون كلمة الله هي العليا ، ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا
لعرض الدنيا. وأنا ما قصرنا في الاستنفار والاستنصار ، ولا أقصرنا عن الاعتضاد بكل من أملنا معاملته والاستظهار. ولا اكتفينا بمطوّلات
الرسائل وبنات الأفكار حتى اقتحمنا بنفسنا لجج البحار ، فسمحنا بالطارف من
أموالنا والتّلاد ، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد ، واشترينا
بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد ، فلم يكن بين
تلبية المدعوّ وزهده ، ولا بين قبوله ورده ، إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد ،
ويأبى الله أن يكل نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه ، ولا يجعل فيها شيئا إلا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه ، ولما أسلم
الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مناويه ، وبقي المسلمون يتوقعون حادثا ساءت
ظنونهم لمباديه ، ألقينا إلى الثقة بالله تعالى يد الاستسلام ، وشمرنا عن ساعد
الجد في جهاد عبدة الأصنام ، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٥]
أخذ الاعتزام ، فأمدّنا الله تعالى في ذلك بتوالي البشائر ، ونصرنا بألطاف أغنى
فيها
__________________
خلوص الضمائر عن
قود العساكر ، ونفّلنا على أيدي قوّادنا ورجالنا من السّبايا والغنائم ما غدا
ذكره في الآفاق كالمثل السائر (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)) [إبراهيم : ٣٤]
وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر ، وحين أبدت لنا العناية الربانية وجوه الفتح
سافرة المحيّا ، وانتشقنا نسائم النصر الممنوح عبقة الرّيّا ، استخرنا الله تعالى
في الغزو بنفسنا ونعم المستخار ، وكتبنا بما قد علمتم إلى ما قرب من أعمالنا
بالحضّ على الجهاد والاستنفار ، وحين وافى من خفّ للجهاد من الأجناد والمطوعين ،
وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين ، خرجنا بهم ونصر الله تعالى
أهدى دليل ، وعناية الله تعالى بهذه الفئة المفردة من المسلمين تقضي بتقريب البعيد
من آمالنا وتكثير القليل ، ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادّة الرضا
والقبول ، وأن يرشدنا إلى طريق تقضي إلى بلوغ الأمنية والمأمول.
وهذه رسالة طويلة
سقنا بعضها كالعنوان لسائرها.
ونال ابن الحكيم ـ
رحمه الله تعالى! ـ من الرياسة والتحكم في الدولة ما صار كالمثل السائر ، وخدمته
العلماء الأكابر ، كابن خميس وغيره ، وأفاض عليهم سجال خيره ، ثم ردت الأيام منه
ما وهبت ، وانقضت أيامه كأن لم تكن وذهبت ، وقتل يوم خلع سلطانه ، ومثّل به سنة
٧٠٨ ، رحمه الله تعالى! وانتهب من أمواله وكتبه وتحفه ما لا يعلم قدره إلا الله
تعالى ، أثابه الله تعالى بهذه الشهادة بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشرف
وكرم ومجد وعظم.
٢٤٥ ـ ومن
المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الحافظ نجيب الدين أبو محمد عبد العزيز بن الأمير
القائد أبي علي الحسن بن عبد العزيز بن هلال ، اللخمي ، الأندلسي.
ولد سنة ٥٧٧
تقريبا ، ورحل فسمع بمكة من زاهر بن رستم ، وببغداد من أبي بكر أحمد بن سكينة وابن
طبرزد وطائفة ، وبواسط من أبي الفتح بن المنداني وبأصبهان من عين الشمس الثقفية وجماعة ، وبخراسان من
المؤيد الطوسي وأبي روح وأصحاب الفراوي وهذه الطبقة ، وخطه مليح مغربي في غاية
الدقة. وكان كثير الأسفار ، دينا متصوّفا كبير القدر ، قال الضياء في حقه : رفيقنا
وصديقنا ، توفي بالبصرة عاشر رمضان سنة ٦١٧ ، ودفن إلى جانب قبر سهل التّستري رضي
الله تعالى عنه! وما رأينا من أهل المغرب مثله ، وقال ابن نقطة : كان ثقة فاضلا ،
صاحب حديث وسنة ، كريم الأخلاق ، وقال مفضل القرشي : كان كثير المروءة غزير
__________________
الإنسانية ، وقال
ابن الحاجب : كان كيّس الأخلاق ، محبوب الصورة ، لين الكلام ، كريم النفس ، حلو الشمائل ،
محسنا إلى أهل العلم بماله وجاهه ، وقيل : إنه أوصى بكتبه للشرف المرسي ، رحمه
الله تعالى!.
٢٤٦ ـ ومنهم محمد بن عبد الله بن أحمد
بن محمد ، أبو بكر بن العربي الإشبيلي ، حفيد القاضي الحافظ الكبير أبو بكر بن
العربي.
قرأ لنافع على
قاسم بن محمد الزقاق صاحب شريح ، وحج فسمع من السّلفي وغيره ، ثم رحل بعد نيف
وعشرين سنة إلى الشام والعراق ، وأخذ عن عبد الوهاب بن سكينة وطبقته ، ورجع فأخذوا
عنه بقرطبة وإشبيلية ، ثم سافر سنة ٦١٢ وتصوف وتعبد ، وتوفي بالإسكندرية سنة ٦١٧.
قاله الذهبي في تاريخه الكبير.
٢٤٧ ـ ومن المرتحلين من الأندلس يحيى بن
عبد العزيز ، المعروف بابن الخرّاز (٢) أبو زكريا ، القرطبي.
سمع من العتبي
وعبد الله بن خالد ونظائرهما من رجال الأندلس ، ورحل فسمع بمصر من المزني والربيع
بن سليمان المؤذن ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويونس بن عبد الأعلى ومحمد
بن عبد الله بن ميمون وعبد الغني بن أبي عقيل وغيرهم ، وسمع بمكة من علي بن عبد
العزيز ، وكانت رحلته ورحلة سعيد بن عثمان الأعناقي وسعيد بن حميد وابن أبي تمام
واحدة ، وسمع الناس من يحيى المذكور مختصر المزني ورسالة الشافعي وغير ذلك من علم
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وكان يميل في فقهه إلى مذهب الشافعي ، وكان
مشاورا مع عبيد الله بن يحيى وأضرابه ، وحدث عنه من أهل الأندلس محمد بن قاسم وابن
بشر وابن عبادة وغير واحد ، ولم يسمع منه ابنه محمد لصغره ، وتوفي سنة ٢٩٥ ، رحمه
الله تعالى ورضي عنه!.
٢٤٨ ـ ومنهم الشيخ
الإمام العالم العامل الكامل الزاهد الورع ، العلامة جمال الدين أبو بكر محمد بن
أحمد بن محمد بن عبد الله ، البكري ، الشريشي ، المالكي.
__________________
كان من أكابر
الصالحين المتورعين ، ومولده سنة ٦٠١ بشريش ، وتوفي برباط الملك الناصر بسفح
قاسيون سنة ٦٨٥ في ٢٤ رجب ، ودفن قبالة الرباط ، وله المصنفات المفيدة ، تولى
مشيخة الصخرة بحرم القدس الشريف ، وقدم دمشق ، وتولى مشيخة الرباط الناصري ، فلما
توفي قاضي القضاة جمال الدين المالكي ولوه مشيخة المالكية بدمشق ، وعرضوا عليه
القضاء فلم يقبل ، وبقي في المشيخة إلى أن توفي ، رحمه الله تعالى ونفعنا به
وبأمثاله! آمين.
٢٤٩ ـ ومن الراحلين من الأندلس الفقيه
الصالح أبو بكر بن محمد بن علي بن ياسر ، الجيّاني ، المحدث الشهير.
ذكره ابن السمعاني
وغيره ، سافر الكثير ، وورد العراق ، وطاف في بلاد خراسان ، وسكن بلخ ، وأكثر من
الحديث ، وحصّل الأصول ، ونسخ بخطه ما لا يدخل تحت حصر ، قال ابن السمعاني : وله
أنس ومعرفة بالحديث ، لقيته بسمرقند ، وكان قدمها سنة ٥٤٩ مع جماعة من أهل الحجاز
لدين له عليهم ، وسمعت منه جزءا خرّجه من حديث يزيد بن هارون مما وقع له عاليا ،
وجزءا صغيرا من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا ، وأحاديث أبي بكر الشافعي في أحد عشر
جزءا المعروف بالغيلانيات بروايته عن ابن الحصين عن ابن غيلان عنه ، وكان مولده
بجيّان سنة ٤٩٣ [أو في التي بعدها ، الشك منه ، ثم لقيته بنسف في أواخر سنة خمسين] ولم أسمع منه شيئا ، ثم قدم علينا في بخارى في أوائل سنة
إحدى وخمسين وسمعت من لفظه جميع كتاب الزهد لهنّاد بن السّري الكوفي بروايته عن أبي القاسم سهل بن إبراهيم المسجدي عن
الحاكم أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد الشاذياخي عن الحاكم أبي الفضل محمد بن الحسين
الحدّادي عن حماد بن أحمد السلمي عن مصنفه ، وأخبرنا الجيّاني بسمرقند أنبأنا أبو
القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين الكاتب ببغداد ، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد
بن إبراهيم بن غيلان البزار ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي ، أخبرنا
محمد بن مسلمة أنبأنا يزيد بن هارون ، أنبأنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنّة
الجنّة وأهل النّار النّار ناداهم مناد : يا أهل الجنّة ، إنّ لكم عند الله موعدا
لم تروه ، قالوا : وما هو؟ ألم يثقّل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنّة
وينجنا من النّار؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فو الله ما أعطاهم
__________________
شيئا أحبّ إليهم
من النّظر إليه» ثم تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].
وقال ابن السمعاني
أيضا : وأخبرنا الجيّاني المذكور بسمرقند ، أنبأنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد
ببغداد ، أنبأنا أبو طالب بن غيلان ، أنبأنا أبو بكر الشافعي ، أنبأنا أبو بكر عبد
الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي ، أنبأ محمد بن حسان ، أنبأنا مبارك بن سعيد ،
قال : أردت سفرا ، فقال لي الأعمش : سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين ، فإن مجاهدا
حدثني قال : خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني صحابة ، ولم أشترط في دعائي ، فاستويت أنا
وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير.
وقال ابن السمعاني
أيضا : أخبرنا أبو بكر الجياني المغربي بسمرقند ، سمعت الإمام أبا طالب إبراهيم بن
هبة الله ببلخ يقول : قرأت على أبي يعلى محمد بن أحمد العبدي بالبصرة قال : قرأت
على شيخنا أبي الحسين بن يحيى في كتاب «العين» بإسناده إلى الخليل بن أحمد أنه
أنشد قول الشاعر : [بحر الخفيف]
إن في بيتنا
ثلاث حبالى
|
|
فوددنا أن قد
وضعن جميعا
|
زوجتي ثم هرتي
ثم شاتي
|
|
فإذا ما وضعن
كنّ ربيعا
|
زوجتي للخبيص ،
والهر للفا
|
|
ر ، وشاتي إذا
اشتهينا مجيعا
|
قال أبو يعلى :
قال شيخنا ابن يحيى : وذكر عن الخليل بن أحمد في العين أن المجيع أكل التمر باللبن
، انتهى.
٢٥٠ ـ ومنهم أبو الخطاب العلاء بن عبد
الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن حزم ، الأندلسي ، المري.
ذكره الحميدي في
تاريخه وأثنى عليه ، وقال : كان من أهل العلم والأدب والذكاء والهمة العالية [في
طلب العلم] ، كتب بالأندلس فأكثر ، ورحل إلى المشرق فاحتفل في العلم والرواية والجمع.
وذكره الحافظ
الخطيب أبو بكر [أحمد بن علي] بن ثابت البغدادي ، وقال : هو من
__________________
بيت جلالة وعلم
ورياسة ، وأخرج عنه في غير موضع من مصنفاته ، وقدم بغداد ودمشق وحدّث فيهما ، ثم
عاد إلى المغرب فتوفي ببلده المريّة سنة ٤٥٤ ، وحدّث عن أبي القاسم إبراهيم بن
محمد بن زكريا الزهري ، ويعرف بابن الإفليلي ، الأندلسي النحوي وغيره ، وكان صدوقا
ثقة ، رحمه الله تعالى!.
٢٥١ ـ ومنهم العالم الحسيب أبو حفص عمر
بن الحسن الهوزني .
ذكره ابن بسّام في
«الذخيرة» والحجاري في «المسهب» ولما تولى المعتضد بن عباد والد المعتمد خاف منه
فاستأذنه في الحج سنة ٤٤٤ ، ورحل إلى مصر وإلى مكة ، وسمع في طريقه كتاب صحيح
البخاري ، وعنه أخذه أهل الأندلس ، ورجع فسكن إشبيلية ، وخدم المعتضد ، فقتله ،
ومن خاف من شيء سلط عليه ، وكان قتله يوم الجمعة لليلة خلت من ربيع الأوّل سنة ٤٦٠
، رحمه الله تعالى!.
ومن شعره يحرضه
على الجهاد قوله : [بحر الطويل]
أعبّاد جلّ
الرزء والقوم هجّع
|
|
على حالة من
مثلها يتوقع
|
فلقّ كتابي من
فراغك ساعة
|
|
وإن طال
فالموصوف للطول موضع
|
إذا لم أبثّ
الداء رب شكاية
|
|
أضعت وأهل
للملام المضيّع
|
ووصله بنثر ، وهو
: وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها ، ولا أرجأ الدليل من ناط الأمور بأربابها
، ولربّ أمل بين أثناء المحاذير مدبج ، ومحبوب في طي المكاره مدرج ، فانتهز فرصتها
فقد بان من غيرك العجز ، وطبّق مفاصلها فكأن قد أمكنك الحز ، ولا غرو أن يستمطر
الغمام في الجدب ، ويستصحب الحسام في الحرب.
وله : [بحر الرمل]
صرّح الشر فلا
يستقل
|
|
إن نهلتم جاءكم
بعد علّ
|
بدء صعق الأرض
رشّ وطلّ
|
|
ورياح ثم غيم
أبل
|
خفضوا فالداء
رزء أجلّ
|
|
واغمدوا سيفا
عليكم يسل
|
وبسبب قتل بني
عباد لأبي حفص الهوزني المذكور تسبب ابنه أبو القاسم في فساد دولة
__________________
المعتمد بن عباد ،
وحرض عليه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب المغرب حتى أزال ملكه ، ونثر سلكه ،
وسبب هلكه ، كما ذكرناه في غير هذا الموضع من هذا الكتاب غير مرة ، فليراجعه من
أراده في محاله ، وبيت بني الهوزني المذكور بالأندلس بيت كبير مشهور ، ومنهم عدة
علماء وكبراء ، رحم الله تعالى الجميع!.
٢٥٢ ـ ومنهم أبو زكريا يحيى بن قاسم بن
هلال ، القرطبي ، الفقيه المالكي.
أحد الأئمة الزهاد
، كان يصوم حتى يعجز ، توفي سنة ٢٧٢ ، وقيل : سنة ٢٧٨ ، ورحل إلى المشرق ، وسمع
من عبد الله بن نافع صاحب مالك بن أنس ، ومن سحنون بن سعيد ، وغيرهما ، وكان فاضلا
فقيها عابدا عالما بالمسائل ، وروى عنه أحمد بن خالد ، وكان يفضله ويصفه بالفضل
والعلم ، وهو صاحب الشجرة ، قال عباس بن أصبغ : كانت في داره شجرة تسجد لسجوده إذا
سجد ، قال ابن الفرضي رحمه الله تعالى ، ورضي عنه ، ونفعنا به!.
٢٥٣ ـ ومنهم أبو بكر يحيى بن مجاهد بن
عوانة ، الفزاري ، الإلبيري ، الزاهد.
سكن قرطبة ، قال
ابن الفرضي : كان منقطع القرين في العبادة ، بعيد الاسم في الزهد ، حج ، وعني بعلم
القرآن والقراءات والتفسير ، وسمع بمصر من الأسيوطي وابن الورد وابن شعبان وغيرهم
، وكان له حظ من الفقه والرواية إلا أن العبادة غلبت عليه ، وكان العمل أملك به ،
ولا أعلمه حدّث ، توفي رحمه الله تعالى سنة ست وستين وثلاثمائة ، ودفن في مقبرة
الرّبض ، وصلى عليه القاضي محمد بن إسحاق بن السليم ، ثم صلى عليه حيّان مرة ثانية
، رحمه الله تعالى! وأفاض علينا من أنوار عنايته! آمين.
٢٥٤ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن
إبراهيم ، الصدفي ، الإشبيلي ، الأديب البارع.
له نظم حسن ،
وموشحات رائقة ، قرأ على الأستاذ الشلوبين وغيره ، ومدح الملوك ، ورحل من الأندلس
فقدم ديار مصر ، ومدح بها بعض من كان يوصف بالكرم ، فوصله بنزر يسير ، فكر راجعا إلى المغرب ، فتوفي ببرقة ، رحمه الله تعالى!
وكان من النجباء في النحو وغيره.
ومن نظمه من قصيدة
: [بحر البسيط]
ما بي موارد أمر
بل مصادره
|
|
اللحظ أوّله
واللحد آخره
|
__________________
أرسلت طرفي
مرتادا فطلّ دمي
|
|
روض من الحسن
مطلول أزاهره
|
رعيت في خصبه
لحظي فأعقبني
|
|
جدبا بجسمي ما
يرويه هامره
|
وبي وإن لم أكن
بالذكر أشهره
|
|
فالوصف فيه لفقد
المثل شاهره
|
وهي طويلة ، وأثنى
عليه أثير الدين أبو حيّان ، وأورد جملة من محاسن كلامه وبدائع نظامه ، رحم الله
تعالى الجميع!.
٢٥٥ ـ ومنهم أبو يحيى زكريا بن خطاب ،
الكلبي ، التّطيلي.
رحل سنة ٢٩٣ ،
فسمع بمكة كتاب «النسب» للزبير بن بكار من الجرجاني الذي حدث به عن علي بن عبد
العزيز بن الجمحي عن الزبير ، وروى موطأ مالك بن أنس رواية أبي مصعب أحمد بن عبد
الملك الزهري عن إبراهيم بن سعيد الحذاء ، وسمع بها من إبراهيم بن عيسى الشيباني
والقزاز في آخرين ، وقدم الأندلس فكان الناس يرحلون إليه إلى تطيلة للسماع منه ، واستقدمه المستنصر
الحكم وهو ولي عهد فسمع منه أكثر مروياته ، وسمع منه جماعة من أهل قرطبة ، وكان
ثقة مأمونا ، ولي قضاء بلدة تطيلة إحدى مدائن الأندلس بعد عمر بن يوسف بن الإمام.
٢٥٦ ـ ومنهم سعد الخير بن محمد بن سعد ،
أبو الحسن ، الأنصاري ، البلنسي ، المحدّث.
رحل إلى أن دخل
الصين ، ولذا كان يكتب البلنسي الصيني ، وركب البحار ، وقاسى المشاق ، وتفقه
ببغداد على أبي حامد الغزالي ، وسمع بها أبا عبد الله النعال وطرادا وغيرهما ، وبأصبهان أبا سعد المطرز ، وسكنها وتزوّج
بها وولدت له فاطمة بها ، ثم سكن بغداد ، وروى عنه ابن عساكر وابن السمعاني وأبو
موسى المديني وأبو اليمن الكندي وأبو الفرج بن الجوزي وابنته فاطمة بنت سعد الخير
في آخرين ، وتأدب على أبي زكريا التبريزي ، وتوفي في المحرم سنة ٥٤١ ، رحمه الله تعالى!
ببغداد ، وصلى عليه الغزنوي والشيخ الواعظ بجامع القصر ، وكان وصيه ، وحضر جنازته
قاضي القضاة الزينبي والأعيان ، ودفن إلى جانب عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين بوصية
منه.
٢٥٧ ـ ومنهم أبو عثمان سعيد بن نصر بن
عمر بن خلفون ، الإستجي.
سمع بقرطبة من
قاسم بن أصبغ وابن أبي دليم وغيرهما ، ورحل فسمع بمكة من ابن الأعرابي ، وببغداد
من أبي علي الصفار وجماعة ، وبها مات.
__________________
٢٥٨ ـ ومنهم أبو عثمان سعيد الأعناقي ،
ويقال : العناقي ، القرطبي.
كان ورعا زاهدا
عالما بالحديث بصيرا بعلله ، سمع من محمد بن وضاح وصحبه ومن يحيى بن إبراهيم بن
مزين ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهم ، ورحل فلقي جماعة من أصحاب الحديث منهم
نصر بن مرزوق كتب عنه مسند أسد بن موسى وغير ذلك من كتبه ، ويونس بن عبد الأعلى
ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والحارث بن مسكين في آخرين ، وحدث عنه أحمد بن
خالد وابن أيمن ومحمد بن قاسم وابن أبي زيد في عدد كثير ، ومولده سنة ٢٣٣ ، وتوفي
سنة ٣٠٥ بصفر.
والأعناقي : نسبة
إلى موضع يقال له أعناق وعناق.
٢٥٩ ـ ومنهم أبو المطرف عبد الرحمن بن
خلف ، التجيبي ، الإقليشي.
روى عن أبي عثمان
سعيد بن سالم المجريطي وأبي ميمونة دارس بن إسماعيل فقيه فاس ، ورحل حاجا سنة ٣٤٩ ، فسمع بمكة من
أبي بكر الآجري وأبي حفص الجمحي ، وبمصر من أبي إسحاق بن شعبان ، وروى عنه كتاب «الزاهي»
جميعه وقد قرىء عليه جميعه ، وحمل عنه ، ومولده سنة ٣٠٣ رحمه الله تعالى!
٢٦٠ ـ ومنهم أبو الأصبع عبد العزيز بن
علي ، المعروف بابن الطحان ، الإشبيلي ، المقري.
ولد بإشبيلية سنة
٤٩٨ ، ورحل فدخل مصر والشام وحلبا ، وتوفي بحلب بعد سنة ٥٥٩ ، وله كتاب «نظام
الأداء ، في الوقف والابتداء» ومقدمة في مخارج الحروف ، ومقدمة في أصول القراءات ،
وكتاب «الدعاء» وكان من القراء المجوّدين الموصوفين بالإتقان ، ومعرفة وجوه
القراءات ، وسمع الحديث على شريح بن محمد بن أحمد بن شريح الرعيني خطيب إشبيلية
وأبي بكر يحيى بن سعادة القرطبي.
وله شعر حسن منه
قوله : [بحر الهزج]
دع الدنيا
لعاشقها
|
|
سيصبح من
رشائقها
|
وعاد النفس
مصطبرا
|
|
ونكّب عن
خلائقها
|
__________________
هلاك المرء أن
يضحى
|
|
مجدّا في
علائقها
|
وذو التقوى
يذللها
|
|
فيسلم من
بوائقها
|
وأخذ القراءات
ببلده عن أبي العباس بن عيشون وشريح بن محمد ، وروى عنهما وعن أبي عبد الله بن عبد
الرزاق الكلبي ، وروى مصنف النسائي عن أبي مروان بن مسرة ، وتصدى للإقراء ، ثم
انتقل إلى فاس ، وحج ودخل العراق ، وقرأ بواسط القراءات وأقرأها أيضا ، ودخل الشام
واشتهر ذكره ، وجل قدره ، وروى عنه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي الحافظ ، وعلي بن
يونس ، قال بعضهم : سمعت غير واحد يقول : ليس بالغرب أعلم بالقراءات من ابن الطحان
، قرأ عليه الأثير أبو الحسن محمد بن أبي العلاء وأبو طالب بن عبد السميع وغيرهما
، رحم الله تعالى الجميع!.
٢٦١ ـ ومنهم أبو الأصبغ عبد العزيز بن
خلف ، المعافري.
قدم مصر سنة ٥٠٢ ،
وولد سنة ٤٤٨ ، وحدث بالموطإ عن سليمان بن أبي القاسم ، أنبأنا أبو عمر بن عبد
البر ، أنبأنا سعيد بن نصر ، عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن يحيى بن يحيى عن
مالك بن أنس إمام دار الهجرة ، رضي الله تعالى عنه!.
٢٦٢ ـ ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن عبد
الله بن ثعلبة ، السعدي ، الشاطبي .
قدم مصر ودمشق
طالب علم ، وسمع أبا الحسن بن أبي الحديد وأبا منصور العكبري وغيرهما ، وصنف غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام على حروف المعجم ،
وسمعه عليه أبو محمد الأكفاني ، وتوفي بأرض حوران من أعمال دمشق في رمضان سنة ٤٦٥
، رحمه الله تعالى ورضي عنه!.
٢٦٣ ـ ومنهم الحكيم الطبيب أبو الفضل
محمد بن عبد المنعم ، الغساني ، الجلياني.
وهو عبد المنعم بن
عمر بن عبد الله بن أحمد بن خضر بن مالك بن حسان ، ولد بقرية جليانة من أعمال
غرناطة سابع المحرم سنة ٥٣١ ، وقدم إلى القاهرة ، وسار إلى دمشق فسكنها مدّة ، ثم
سافر إلى بغداد فدخلها سنة ٦٠١ ، ونزل بالمدرسة النظامية ، وكتب الناس عنه كثيرا
__________________
من نظمه ، وكان
أديبا فاضلا ، له شعر مليح المعاني أكثره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس
والرياضات ، وكان طبيبا حاذقا ، وله رياضات ومعرفة بعلم الباطن ، وله كلام مليح
على طريق القوم ، وكان مليح السّمت ، حسن الأخلاق ، لطيفا ، حاضر الجواب ، ومات
بدمشق سنة ٦٠٢ ، وكان يقال له : حكيم الزمان ، وأراد القاضي الفاضل أن يغضّ منه فقال له بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب : كم
بين جليانة وغرناطة؟ فقال : مثل ما بين بيسان وبيت المقدس.
ومن شعره قوله : [بحر
الطويل]
خبرت بني عصري
على البسط والقبض
|
|
وكاشفتهم كشف
الطبائع بالنبض
|
فأنتج لي فيهم
قياسي تخلّيا
|
|
عن الكل إذ هم
آفة الوقت والعرض
|
ألازم كسر البيت
خلوا ، وإن يكن
|
|
خروج ففردا ملصق
الطّرف بالأرض
|
أرى الشخص من
بعد فأغضي تغافلا
|
|
كمشدوه بال في
مهمته يمضي
|
ويحسبني في غفلة
وفراستي
|
|
على الفور من لمحي
بما قد نوى تقضي
|
أجانبهم سلما
ليسلم جانبي
|
|
وليس لحقد في
النفوس ولا بغض
|
تخليت عن قومي
ولو كان ممكني
|
|
تخليت عن بعضي
ليسلم لي بعضي
|
وقال : [بحر
الكامل]
قالوا نراك عن
الأكابر تعرض
|
|
وسواك زوّار لهم
متعرّض
|
قلت الزيارة
للزمان إضاعة
|
|
وإذا مضى زمن
فما يتعوض
|
إن كان لي يوما
إليهم حاجة
|
|
فبقدر ما ضمن
القضاء نقيّض
|
وقال : [بحر
الكامل]
حاول مفازك قبل
أن يتحولا
|
|
فالحال آخرها
كحالك أولا
|
إن المني من
المنية لفظه
|
|
لتدل في أصل
البناء على البلا
|
وسماه بعضهم عبد
المنعم ، وذكره العماد في «الخريدة» وقال : هو صاحب البديع البعيد ، والتوشيح
والترشيح ، والترصيع والتصريع ، والتجنيس والتطبيق ، والتوفيق والتلفيق ،
__________________
والتقريب والتقرير
، والتعريف والتعريب ، وهو مقيم بدمشق ، وقد أتى العسكر المنصور الناصري سنة ٥٨٦
بظاهر ثغر عكا ، وكتب إلى السلطان صلاح الدين وقد جرح فرسه : [بحر الطويل]
أيا ملكا أفنى
العداة حسامه
|
|
ومنتجعا أقنى
العفاة ابتسامه
|
لقاؤك يوما في
الزمان سعادة
|
|
فكيف بثاو في
حماك حمامه
|
وعبدك شاك دينه
وهو شاكر
|
|
نداك الذي يغني
الغمام غمامه
|
ولي فرس أصماه
سهم فردّه
|
|
أثافيّ ربع
بالثلاث قيامه
|
تعمر فيه
بالجراحة ساحة
|
|
وعطل منه سرجه
ولجامه
|
أتينا لما
عودتنا من مكارم
|
|
يلوذ بها الراجي
فيشفي غرامه
|
فرحماك غوث لا
يغيب نصيره
|
|
ونعماك غيث لا
يغبّ انسجامه
|
وله رحمه الله
تعالى غير هذا ، وترجمته واسعة.
٢٦٤ ـ ومنهم
الأستاذ أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد القدوس القرطبي ،
مؤلف «المفتاح» في القراءات ، ومقرئ أهل قرطبة
رحل وقرأ القراءات
على أبي علي الأهوازي ، وبحرّان على أبي القاسم الرّيدي ، وبمصر على أبي العباس بن
نفيس ، وبمكة على أبي العباس الكازريني ، وسمع بدمشق من أبي الحسن بن السمسار ،
وكان عجبا في تحرير القراءات ومعرفة فنونها ، وكانت الرحلة إليه في وقته ، ولد سنة
٤٠٣ ، ومات في ذي القعدة سنة ٤٦١ ، قرأ عليه أبو القاسم خلف بن النحاس وجماعة ،
رحمه الله تعالى!.
٢٦٥ ـ ومنهم عبيد
الله ، وقيل : عبد الله ، بغير تصغير ، ابن المظفر بن عبد الله بن محمد ، أبو
الحكم ، الباهلي ، الأندلسي.
ولد بالمرية سنة
٤٨٦ ، وحج سنة ٥١٦ وحج أيضا سنة ٥١٨ ، ودخل دمشق وقرأ بصعيد مصر وبالإسكندرية ، ثم
مضى إلى العراق ، وأقام ببغداد يعلم الصبيان وخدم السلطان
__________________
محمود بن ملك شاه
سنة ٥٢١ ، وأنشأ له في معسكره مارستانا ينقل على أربعين جملا ، فكان طبيبه ، ثم
عاد إلى دمشق ومات بها سنة ٥٤٩ ، ودفن بباب الفراديس ، وكان ذا معرفة بالأدب والطب
والهندسة ، وله ديوان شعر سماه «نهج الوضاعة ، لأولي الخلاعة» ذكر فيه جملة شعراء
كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري ونصر الهيتي وغيرهما كعرقلة ، وفيه نزهات أدبية ،
ومفاكهات غريبة ، ممزوج جدها بسخفها ، وهزلها بظرفها ، ورثى فيه أنواعا من الدواب
وأنواعا من الأثاث وخلقا من المغنين والأطراف ، وشرح هذا الديوان ابنه الحكيم
الفاضل أبو المجد محمد بن أبي الحكم الملقب بأفضل الدولة ، وكان كثير الهزل
والمداعبة ، دائم اللهو والمطايبة ، وكان إذا أتاه الغلام وما به شيء فيجس نبضه ثم
يقول له : تصلح لك الهريسة ، وكان أعور فقال فيه عرقلة : [بحر السريع]
لنا طبيب شاعر
أعور
|
|
أراحنا من طبّه
الله
|
ما عاد في صبحة
يوم فتى
|
|
إلا وفي باقيه
رثّاه
|
وله أيضا يرثيه : [بحر
البسيط]
يا عين سحّي
بدمع ساكب ودم
|
|
على الحكيم الذي
يكنى أبا الحكم
|
قد كان لا رحم
الرحمن شيبته
|
|
ولا سقى قبره من
صيّب الدّيم
|
شيخا يرى
الصلوات الخمس نافلة
|
|
ويستحلّ دم
الحجاج في الحرم
|
ومن كنايات أبي
الحكم المستحسنة قوله : [بحر الوافر]
ألم ترني أكابد
فيك وجدي
|
|
وأحمل منك ما لا
يستطاع
|
إذا ما أنجم
الجوّ استقلت
|
|
ومال الدلو
وارتفع الذراع
|
ومن شعره قوله : [بحر
السريع]
محاسن العالم قد
جمعت
|
|
في حسنه
المستكمل البارع
|
(وليس لله بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم
في الجامع)
|
٢٦٦ ـ ومنهم أبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن صافي ، الغرناطي ،
القيساني.
وقيسانة من عمل
غرناطة.
__________________
الفقيه المالكي
ولد سنة ٥٦٤ ، وقدم القاهرة وناب في الحسبة ، وله شعر حسن توفي بالقاهرة سنة ٦٣٤ ،
رحمه الله تعالى!.
٢٦٧ ـ ومنهم طالوت بن عبد الجبار ،
المعافري ، الأندلسي.
دخل مصر ، وحج
ولقي إمامنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه ، وعاد إلى قرطبة ، وكان ممن خرج على
الحكم بن هشام بن عبد الرحمن من أهل ربض شقندة يريد خلعه وإقامة أخيه المنذر ، وزحفوا إلى قصره بقرطبة ،
فحاربهم ، وقتلهم ، وفر من بقي منهم ، فاستتر الفقيه طالوت عاما عند يهودي ، ثم
ترامى على صديقه أبي البسّام الكاتب ليأخذ له أمانا من الحكم ، فوشى به إلى الحكم
، وأحضره إليه فعنفه ووبخه ، فقال له : كيف يحل لي أن أخرج إليك وقد سمعت مالك بن
أنس يقول : سلطان جائر مدة خير من فتنة ساعة؟ فقال : الله تعالى لقد سمعت هذا من
مالك؟ فقال طالوت : اللهم إني قد سمعته ، فقال : انصرف إلى منزلك وأنت آمن ، ثم
سأله : أين أستتر؟ فقال : عند يهودي مدة عام ، ثم إني قصدت هذا الوزير فغدر بي ،
فغضب الحكم على أبي البسّام وعزله عن وزارته ، وكتب عهدا أن لا يخدمه أبدا ، فرئي
أبو البسام بعد ذلك في فاقة وذل ، فقيل : استجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت ، رحمه
الله تعالى!.
٢٦٨ ـ ومنهم أبو
الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد ، ضياء الدين ونظامه ، ابن خروف الأديب ، القيسي
، القرطبي ، القيذافي ، الشاعر
قدم إلى مصر ، ثم
سار إلى حلب ومات بها مترديا في جب حنطة سنة ٦٠٣ وقيل : في التي بعدها ، وقيل :
سنة خمس وستمائة ، وله شرح كتاب سيبويه ، وحمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار
، وله شرح جمل الزجاجي ، وكتب في الفرائض وردّ على أبي زيد السهيلي ، وغير ذلك ،
ومدح الأفضل ابن السلطان صلاح الدين ومدح الظاهر بن الناصر أيضا.
وشعره جيد ، فمنه
قوله في كأس : [بحر مجزوء الرمل]
أنا جسم للحميّا
|
|
والحميّا لي روح
|
بين أهل الظرف
أغدو
|
|
كل يوم وأروح
|
وقال في صبيّ حبس
: [بحر الوافر]
__________________
أقاضي المسلمين
حكمت حكما
|
|
غدا وجه الزمان
به عبوسا
|
حبست على
الدراهم ذا جمال
|
|
ولم تسجنه إذ
سلب النفوسا
|
وقال : [بحر
البسيط]
ما أعجب النيل
ما أحلى شمائله
|
|
في ضفّتيه من
الأشجار أدواح
|
من جنة الخلد
فياض على ترع
|
|
تهب فيها هبوب
الريح أرواح
|
ليست زيادته ماء
كما زعموا
|
|
وإنما هي أرزاق
وأرباح
|
والقيذافي : بقاف
، ثم ياء آخر الحروف ، بعدها ذال معجمة ، ثم ألف ، وفاء.
وله رسالة كتب بها
إلى بهاء الدين بن شداد بحلب يطلب منه فروة ، وهي : [بحر الهزج]
بهاء الدين
والدنيا
|
|
ونور المجد
والحسب
|
طلبت مخافة
الأنوا
|
|
ء من جدواك جلد
أبي
|
وفضلك عالم أني
|
|
خروف بارع الأدب
|
حلبت الدهر
أشطره
|
|
وفي حلب صفا
حلبي
|
ذو الحسب الباهر ،
والنسب الزاهر ، يسحب ذيول سير السيراء ، ويحبّ النحاة من أجل القرّاء ، ويمن على الخروف النبيه ، بجلد أبيه ،
قاني الصباغ ، قريب عهد بالدباغ ، ما ضل طالب قرظه ولا ضاع ، بل ذاع ثناء صانعه
وضاع ، إذا طهر إهابه ، يخافه البرد ويهابه ، أثيث خمائل الصوف ، يهزأ بكل هوجاء
عصوف ، ما في اللباس له ضريب ، إذا نزل الجليد والضريب ، ولا في الثياب له نظير ، إذا عري من ورقه الغصن النّضير
، والمولى يبعثه فرجي النوع ، أرجي الضوع ، يكون تارة لحافا وتارة بردا ، وهو في
الحالين يحيى حرّا ويميت بردا ، لا كطيلسان ابن حرب ، ولا كجلد عمرو الممزق بالضرب
، إن عزاه السواد إلى حام فحام ، أو نماه البياض إلى سام فسام ، كأنه من جلد جمل
الحرباء ، الذي يرعى القمر والنجم ، لا من جلد السّخلة الجرباء ، التي ترعى الشجر
والنجم ، لا زال مهديه سعيدا ، ينجز للأخيار وعدا وللأشرار وعيدا ، بالمنة والطول
، والقوة والحول.
__________________
٢٦٩ ـ ومنهم مالك
بن مالك ، من أهل جيان ، رحل حاجا فأدى الفريضة ، وسكن حلبا ، ولقي عبد الكريم بن
عمران ، وأنشد له قوله : [بحر البسيط]
يا رب خذ بيدي
مما دفعت له
|
|
فلست منه على
ورد ولا صدر
|
الأمر ما أنت
رائيه وعالمه
|
|
وقد عتبت ولا
عتب على القدر
|
من يكشف السوء
إلا أنت بارئنا
|
|
ومن يزيل بصفو
حالة الكدر
|
٢٧٠ ـ ومنهم أبو علي بن خميس ، وهو منصور بن خميس بن محمد بن
إبراهيم ، اللخمي من أهل المرية.
سمع من أبي عبد
الله البوني وابن صالح ، وأخذ عنهما القراءات ، وروى أيضا عن الحافظ القاضي أبي
بكر بن العربي ، وأبوي القاسم ابن رضا وابن ورد وأبي محمد الرشاطي وأبي الحجاج
القضاعي وأبي محمد عبد الحق بن عطية وأبي عمرو الخضر بن عبد الرحمن وأبي القاسم
عبد الحق بن محمد الخزرجي وغيرهم ، ورحل حاجا فنزل الإسكندرية ،
وسمع منه أبو عبد الله بن عطية الداني سنة ٥٩٦ ، وحدث عنه بالإجازة أبو العباس
العزفي وغيره.
٢٧١ ـ ومنهم منصور بن لبّ بن عيسى ،
الأنصاري.
من أهل المرية ،
يكنى أبا علي ، أخذ القراءات ببلده عن ابن خميس المذكور قبله ، ورحل بعده ، فنزل
الإسكندرية ، وأجازه أبو الطاهر السّلفي في صغره ، وقد أخذ عنه فيما ذكر بعضهم ،
ومولده سنة ٥٧١ رحمه الله تعالى!.
٢٧٢ ـ ومنهم مفرج بن حماد بن الحسين بن
مفرج ، المعافري.
من أهل قرطبة ،
وهو جد ابن مفرج صاحب كتاب «الاحتفال ، بعلم الرجال» صحب المذكور محمد بن وضاح في
رحلته الثانية ، وشاركه في كثير من رجاله ، وصدر عن المشرق معه ، فاجتهد في
العبادة ، وانتبذ عن الناس ، ثم كر راجعا إلى مكة عند موت ابن وضاح ، فنزلها
واستوطنها إلى أن مات ، فقبره هنالك.
وقال في حقه أبو
عمر عفيف : إنه كان من الصالحين ، رحل فحج وجاور بمكة نحو عشرين سنه إلى أن مات
بها ، رحمه الله تعالى!.
__________________
٢٧٣ ـ ومنهم محب بن الحسين ، من أهل
الثغر الشرقي ، كانت له رحلة حج
فيها ، وسمع بالقيروان من أبي عبد الله بن سفيان الكناني «الهادي في القراءات» من تأليفه وكان رجلا صالحا ، حدث عنه
أبو عبد الله محمد بن عبد الملك التجيبي من شيوخ أبي مروان بن الصيقل.
٢٧٤ ـ ومنهم مساعد بن أحمد بن مساعد ،
الأصبحي.
من أهل أوريولة ، يكنى أبا عبد الرحمن ، ويعرف بابن زعوقة ، روى عن ابن
أبي تليد وابن جحدر ، والحافظين أبي علي الصدفي وأبي بكر بن العربي ، وكتب إليه
أبو بكر بن غالب بن عطية ، ورحل حاجا في سنة أربع وتسعين وأربعمائة ، فأدى الفريضة
سنة خمس بعدها ، ولقي بمكة أبا عبد الله الطبري ، فسمع منه صحيح مسلم ، مشتركا في
السماع مع أبي محمد بن جعفر الفقيه ، ولقي أبا محمد بن العرجاء وأبا بكر بن الوليد الطرطوشي
وأصحاب الإمام أبي حامد الغزالي وأبا عبد الله المازري وجماعة سواهم ساوى بلقائهم
مشيختهم ، وانصرف إلى بلده فسمع منه الناس ، وأخذوا عنه لعلو
روايته ، وكان من أهل المعرفة والصلاح والورع ، وممن حدث عنه من الجلة أبو القاسم
بن بشكوال وأبو الحجاج الثغري الغرناطي ، وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس وغيرهم ،
وأغفله ابن بشكوال فلم يذكره في الصلة مع كونه روى عنه ، وقال تلميذه أبو الحجاج
الثغري الغرناطي : أخبرني أبو سليمان بن حوط الله وغيره عنه ، قال : أخبرني الحاج
أبو عبد الرحمن بن مساعد رضي الله تعالى عنه : أنه لقي بالمشرق امرأة تعرف بصباح
عند باب الصفا ، وكان يقرأ عليها بعض التفاسير ، فجاء بيت شعر شاهد ، فسألت : هل
له صاحب ، فسألوا الشيخ أبا محمد بن العرجاء ، فقال الشيخ : لا أذكر له صاحبا ،
فأنشدت : [بحر الخفيف]
طلعت شمس من
أحبّك ليلا
|
|
واستضاءت فما
لها من مغيب
|
إن شمس النهار
تغرب باللي
|
|
ل وشمس القلوب
دون غروب
|
__________________
ولد في صفر سنة
٤٦٨ ، وتوفي بأوريولة سنة ٥٤٥ ، قاله ابن شعبان .
٢٧٥ ـ ومنهم أبو حبيب نصر بن القاسم.
قال ابن الأبار :
أظنه من أهل غرناطة ، له رحلة حج فيها ، وسمع من أبي الطاهر السّلفي ، وحدث عنه عن
ابن فتح بمسند الجوهري ، انتهى.
٢٧٦ ـ ومنهم النعمان بن النعمان ،
المعافري.
من أهل ميورقة
منسوب إلى جده ، رحل حاجا فأدى الفريضة وجاور بمكة ثم قفل إلى بلده ، واعتزل الناس
، وكان يشار إليه بإجابة الدعوة ، وتوفي سنة ٦١٦ رحمه الله تعالى! ونفعنا به!.
٢٧٧ ـ ومنهم نعم الخلف بن عبد الله بن
أبي ثور ، الحضرمي.
من أهل طرطوشة أو
ناحيتها ، رحل إلى المشرق ، وأدى الفريضة ، ولقي بمكة أبا عبد الله الأصبهاني ،
فسمع منه سنة ٤٢٢ ، حدث عنه ابنه القاسم بن نعم الخلف بيسير.
٢٧٨ ـ ومنهم نابت ـ بالنون ـ ابن المفرج
بن يوسف ، الخثعمي.
أصله من بلنسية ،
وسكن مصر ، يكنى أبا الزهر ، قال السّلفي : قدم مصر بعد خروجي منها ، وتفقه على
مذهب الشافعي ، وتأدب ، وقال الشعر الفائق ، وكتب إلي بشيء من شعره ، ومات في رجب
سنة ٥٤٥ بمصر.
٢٧٩ ـ ومنهم ضمام بن عبد الله ،
الأندلسي .
رجل إلى المشرق ،
ودخل بغداد ، وهو ممن يروي عن عبد السلام بن مسلم الأندلسي ، وممن روى عن ضمام أبو الفرج أحمد بن القاسم
الخشاب البغدادي من شيوخ الدارقطني ، قال ابن الأبار : هكذا وقع في نسخة عتيقة من
تأليف الدارقطني في الرواة عن مالك في باب مسلمة منه ضمام ـ بالضاد المعجمة ـ وهكذا
ثبت في رواية أبي زكريا بن مالك بن عائذ عن الدارقطني ، وقال فيه غيره : همّام بن عبد الله ـ بالهاء
وتشديد الميم ـ وفي حرف
__________________
الهاء أثبته أبو
الوليد بن الفرضي من تاريخه ، والأول عندي أصح ، والله تعالى أعلم ، انتهى.
٢٨٠ ـ ومنهم ضرغام
بن عروة بن حجاج بن أبي فريعة ، واسمه زيد ، مولى عبد الرحمن بن معاوية والداخل
معه إلى الأندلس ، من أهل لبلة ، له رحلة إلى المشرق ، وكان فقيها ، ذكره الرازي.
٢٨١ ـ ومنهم عبد الله بن محمد بن عبد
الله بن عامر بن أبي عامر ، المعافري.
من أهل قرطبة ، وأصله
من الجزيرة الخضراء ، وهو والد المنصور بن أبي عامر ويكنى أبا حفص ، سمع الحديث ،
وكتبه عن محمد بن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد ومحمد بن فطيس وغيرهم ، ورحل إلى
المشرق فأدى الفريضة ، وكان من أهل الخير والدين والصلاح والزهد والقعود عن
السلطان ، أثنى عليه الراوية أبو محمد الباجي وقال : كان لي خير صديق أنتفع به
وينتفع بي ، وأقابل معه كتبه وكتبي ، ومات منصرفه من حجه ، ودفن بمدينة طرابلس
المغرب ، وقيل : بموضع يقال له رقّادة ، وكان رجلا عالما صالحا ، وقال بعضهم : إنه
توفي في آخر خلافة عبد الرحمن الناصر.
٢٨٢ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن حمود
، الزبيدي ، الإشبيلي ، ابن عم أبي بكر محمد بن الحسن ، الزبيدي ، اللغوي.
كان من مشاهير
أصحاب أبي علي البغدادي ، ورحل إلى المشرق فلم يعد إلى الأندلس ، ولازم السيرافي
في بغداد إلى أن توفي ، فلازم بعده صاحبه أبا علي الفارسي ببغداد والعراق ، وحيثما
جال ، واتبعه إلى فارس ، وحكى أبو الفتوح الجرجاني أن أبا علي البغدادي غلّس لصلاة
الصبح في المسجد ، فقام إليه أبو محمد الزبيدي من مذود كان لدابته خارج الدار
قد بات فيه أو أدلج إليه ليكون أول وارد عليه ، فارتاع منه ، وقال : ويحك! من تكون؟
قال : أنا عبد الله الأندلسي ، فقال له : إلى كم تتبعني؟ والله إنه ليس على وجه
الأرض أنحى منك ، وكان من كبار النحاة وأهل المعرفة التامة والشعر ، وجمع
شرحا لكتاب سيبويه ، ويقال : إنه توفي ببغداد سنة ٣٧٣ .
__________________
٢٨٣ ـ ومنهم عبد الله بن رشيق ،
القرطبي.
رحل من الأندلس ،
فأوطن القيروان ، واختص بأبي عمران الفاسي ، وتفقه به ، وكان أديبا شاعرا
عفيفا خيرا ، وفي شيخه أبي عمران أكثر شعره ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، وتوفي في
انصرافه بمصر سنة ٤١٩ ، وأنشد له ابن رشيق في «الأنموذج» قوله رحمه الله تعالى : [بحر
مجزوء الخفيف]
خير أعمالك
الرضا
|
|
بالمقادير
والقضا
|
بينما المرء
ناضر
|
|
قيل : قد مات
وانقضى
|
وقوله : [بحر
الطويل]
سأقطع حبلي من
حبالك جاهدا
|
|
وأهجر هجرا لا
يجر لنا عرضا
|
وقد يعرض
الإنسان عمن يوده
|
|
ويلقى ببشر من
يسرّ له البغضا
|
قال في «الأنموذج»
: وأراد الحج فناله وجع فمات بمصر بعد اشتهاره فيها بالعلم والجلالة ، وقد بلغ
عمره نحو الأربعين سنة ، رحمه الله تعالى! وهو مخالف لما قدمناه من أنه أدى
الفريضة ، وقد ذكر ابن الأبار العبارتين ، والله تعالى أعلم.
٢٨٤ ـ ومنهم أبو بكر اليابري ، ويكنى
أيضا أبا محمد ، وهو عبد الله بن طلحة بن محمد بن عبد الله.
أصله من يابرة ،
ونزل هو إشبيلية ، وروى عن أبي الوليد الباجي وعن جماعة بغرب الأندلس منهم أبو بكر
بن أيوب وأبو الحزم بن عليم وأبو عبد الله بن مزاحم البطليوسيّون وغيرهم ، وكان ذا
معرفة بالنحو والأصول والفقه وحفظ التفسير والقيام عليه ، وحلّق به مدّة بإشبيلية وغيرها ، وهو كان الغالب عليه مع القصص
فيسرد منه جملا على العامّة ، وكان متكلما ، وله رد على أبي محمد بن حزم ، وكان
أحد الأئمة بجامع العديس ، ورحل إلى المشرق ، فروى عن أبي بكر محمد بن زيدون بن علي
كتابه المؤلف في الحديث المعروف بالزيدوني ، وألف كتابا في شرح صدر رسالة ابن أبي
زيد ، وبين ما فيها من العقائد ، وله
__________________
مجموعة في الأصول
والفقه منها كتاب سماه «المدخل» إلى كتاب آخر سماه «سيف الإسلام ، على مذهب مالك
الإمام» ألفه للأمير علي بن تميم بن المعز الصّهناجي صاحب المهدية ، وذكر في فصل الحج
منه أنه رحل إلى المهدية سنة ٥١٥ ، واستوطن مصر مدة ، ثم رحل إلى مكة ، وبها توفي رحمه الله
تعالى! وروى عنه أبو المظفر الشيباني وأبو محمد العثماني وأبو الحجاج يوسف بن محمد
القيرواني وأبو عمرو عثمان بن فرج العبدري وأبو محمد بن صدقة للمنكبي وأبو عبد بن يعيش البلنسي
وغيرهم ، وكان سماع أبي الحجاج منه موطأ مالك سنة ٥١٦ ، رحم الله تعالى الجميع!.
٢٨٥ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد
بن مرزوق ، اليحصبي ، الأندلسي.
رحل حاجا فسمع منه
بالإسكندرية أبو الطاهر السّلفي كتاب «طبقات الأمم لأبي القاسم صاعد بن أحمد
الطليطلي ، وحدّث به عنه عن ابن برأل عن صاعد.
٢٨٦ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد
، الصريحي ، المرسي ، ويعرف بابن مطحنة
روى عن أبي بكر بن
الفرضي النحوي ، وتأدب به ، ورحل إلى المشرق ، ولقي أبا محمد العثماني وغيره ، وحج
، وقعد لتعليم الآداب ، وممن أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عبد السلام وأبو عبد
الله المكناسي وغيرهما ، وأنشد رحمه الله تعالى قال : أنشدني أبو محمد عبد الله بن
البيّاسي بالإسكندرية لنفسه : [بحر الوافر]
يمدّ الدهر من
أجلي وعمري
|
|
كما أني أمد من
المداد
|
لنا خطان
مختلفان جدا
|
|
كما اختلف
الموالي والمعادي
|
فأكتب بالسواد
على بياض
|
|
ويكتب بالبياض
على السواد
|
وهذا نظير قول
الآخر : [بحر الوافر]
ولي خط وللأيام
خط
|
|
وبينهما مخالفة
المداد
|
فأكتبه سوادا في
بياض
|
|
وتكتبه بياضا في
سواد
|
وبعضهم ينسب
الأبيات الثلاثة السابقة للسّلفي الحافظ ، فالله تعالى أعلم.
٢٨٧ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى
، الشّلبي.
__________________
سمع من الصدفي
وغيره ، وكان من أهل الحفظ للحديث ورجاله والعلم بالأصول والفروع ومسائل الخلاف
وعلم العربية والهيئة مع الخير والدين والزهد ، وامتحن بالأمراء في قضاء بلده بعد
أن تقلده نحو تسعة أعوام لإقامته الحق وإظهاره العدل حتى أدى ذلك إلى اعتقاله بقصر
إشبيلية ، ثم سرح فرحل حاجا إلى المشرق ، ودخل المهدية فلقي بها المازري ، وأقام
في صحبته نحو ثلاث سنين ، ثم انتقل إلى مصر ، وحج سنة ٥٢٧ ، وأقام بمكة مجاورا ،
وحج ثانية سنة ٥٢٨ ، ولقي بمكة أبا بكر عتيق بن عبد الرحمن الأوريولي في هذه السنة
، فحمل عنه ، ودخل العراق وخراسان ، وأقام بها أعواما ، وطار ذكره في هذه البلاد ،
وعظم شأنه في العلم والدين ، وكان من بيت شرف وجاه في بلده عريض مع سعة الحال
والمال ، وتوفي بهراة سنة ٥٥١ ، وقيل : إن وفاته سنة ٥٤٨ ، وذكره العماد في «الخريدة»
والسمعاني في الذيل ، وأنشد له : [بحر الطويل]
تلوّنت الأيام
لي بصروفها
|
|
فكنت على لون من
الصبر واحد
|
فإن أقبلت أدبرت
عنها وإن نأت
|
|
فأهون بمفقود
لأكرم فاقد
|
وولد سنة ٤٨٤ بشلب
، رحمه الله تعالى!.
٢٨٨ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن موسى
، الأزدي ، المرسي ، ويعرف بابن برطلة.
سمع من صهره
القاضي الشهيد أبي علي الصدفي ، ورحل حاجا سنة ٥١٠ ، فأدى الفريضة وسمع من
الطرطوشي والأنماطي والسّلفي وغيرهم ، وانصرف إلى مرسية بلده ، وكان حسن السّمت
خاشعا مخبتا خيرا متواضعا نبيها نزها سالم الباطن ، وحكى عن شيخه أبي عبد الله
الرازي عن أبيه أنه أخبره أن قاضي البرلس ، وكان رجلا صالحا ، خرج ذات ليلة إلى
النّيل فتوضأ وأسبغ وضوءه ، ثم قام فقرن قدميه وصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي ،
فسمع قائلا يقول : [بحر البسيط]
لولا أناس لهم
سرد يصومونا
|
|
وآخرون لهم ورد
يقومونا
|
لزلزلت أرضكم من
تحتكم سحرا
|
|
لأنكم قوم سوء
لا تبالونا
|
قال : فتجوّزت في
صلاتي ، وأدرت طرفي فما رأيت شخصا ولا سمعت حسا ، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى!.
__________________
وقال ابن برطلة
رحمه الله تعالى : أنشدني أبو عامر قال : دخلت بعض مراسي الثغر ، فوجدت في حجر
منقوش هذه الأبيات : [بحر المتقارب]
نزلت ولي أمل
عودة
|
|
ولكنني لست أدري
متى
|
ودافعني قدر لم
أطق
|
|
دفاعا لمكروهه
إذ أتى
|
ومن أمره في يدي
غيره
|
|
سيغلب إن لان أو
إن عتا
|
فيا نازلا بعدنا
ههنا
|
|
نحييك إن كنت
نعم الفتى
|
فسألت عن منشدها ،
فقيل لي : هو أبو بكر بن أبي درهم الوشقي ، وكان قد حج وأراد العودة ، فقال هذه
الأبيات ، ورواها بعضهم «رحلت» مكان نزلت ، وهو أصوب ، وأبدل قوله : «يا نازلا» بيا ساكنا ، والخطب سهل
فيه ، وبعض يقول : إن الأبيات وجدت بجامع مصر ، والله تعالى أعلم.
٢٨٩ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد
بن خلف بن سعادة ، الداني ، الأصبحي.
لازم ابن سعد
الخير ، واحتذى أول أمره مثال خطه فقاربه ، وسمع منه ، ثم رحل إلى المشرق فسمع
بالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف والسّلفي وغير واحد. قال التجيبي : كان معنا
بالإسكندرية بالعادلية منها ، وبقراءته سمعنا صحيح البخاري على السلفي سنة ٥٧٣ ، قال : وأنشدنا لشيخه الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سعد الخير
البلنسي : [بحر الكامل]
يا لاحظا تمثال
نعل نبيه
|
|
قبّل مثال النعل
لا متكبرا
|
والثم له
فلطالما عكفت به
|
|
قدم النبي
مروّحا ومبكرا
|
أولا ترى أن
المحب مقبل
|
|
طللا وإن لم يلف
فيه مخبرا
|
وقد سبق ابن سعادة
أبو عبد الله وهو غير هذا ، والله تعالى أعلم!.
٢٩٠ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف
، القضاعي ، المري.
سمع من أبي جعفر
بن غزلون صاحب الباجي وغير واحد ، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من السّلفي
والرازي ، وتجول هنالك ، وأخذ عنه أبو الحسن بن المفضل المقدسي وغير واحد ، وقال
ابن المفضل : أنشدني المذكور ، قال : أنشدني أبو محمد بن صارة : [بحر البسيط]
__________________
وكوكب أبصر
العفريت مسترقا
|
|
للسمع فانقضّ
يدني خلفه لهبه
|
كفارس حلّ إعصار
عمامته
|
|
فجرها كلها من
خلفه عذبه
|
٢٩١ ـ ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن مهاجر ، الوادي آشي ،
الحنفي.
سكن طرابلس الشام
، ثم انتقل إلى حلب ، وأقام بها ، وصار من العدول المبرزين في العدالة بحلب ، يعرف
النحو والعروض ، ويشتغل فيهما ، وله انتماء إلى قاضي القضاة الناصر بن العديم ،
قال الصفدي : رأيته بحلب أيام مقامي بها سنة ٧٢٣ فرأيته حسن التودد ، وأنشدني
لنفسه من لفظه : [بحر الكامل]
ما لاح في درع
يصول بسيفه
|
|
والوجه منه يضيء
تحت المغفر
|
إلا حسبت البحر
مدّ بجدول
|
|
والشمس تحت
سحائب من عنبر
|
قال الصفدي : جمع
هذا المقطوع بين قول ابن عباد : [بحر المتقارب]
ولما اقتحمت
الوغى دارعا
|
|
وقنّعت وجهك
بالمغفر
|
حسبنا محيّاك
شمس الضحى
|
|
عليها سحاب من
العنبر
|
وبين قول أبي بكر
الرصافي : [بحر الكامل]
لو كنت شاهده
وقد غشي الوغى
|
|
يختال في درع
الحديد المسبل
|
لرأيت منه
والقضيب بكفه
|
|
بحرا يريق دم
الكماة بجدول
|
وقال يمدح الشيخ
كمال الدين محمد بن الزملكاني وقد توجه إلى حلب قاضي القضاة: [بحر
البسيط]
يمن ترنّم فوق
الأيك طائره
|
|
وطائر عمت الدنيا
بشائره
|
وسؤدد أصبح
الإقبال ممتثلا
|
|
في أمره ما أخوه
العز آمره
|
ومنها : [بحر
البسيط]
من مخبر عني
الشهباء أن كما
|
|
ل الدين قد
شيّدت فيه مقاصره
|
وأن تقليده
الزاهي وخلعته الت
|
|
ي تطرّز عطفيها
مآثره
|
__________________
بالنفس أفديك من
تقليد مجتهد
|
|
سواه يوجد في
الدنيا مناظره
|
أنشدت حين أدار
البشر كأس طلى
|
|
حكت أوائله صفوا
أواخره
|
وقد بدت في بياض
الطّرس أسطره
|
|
سودا لتبدي ما
أهدت محابره
|
ساق تكوّن من
صبح ومن غسق
|
|
فابيض خداه
واسودت غدائره
|
وخلعة قلت إذ
لاحت لتزرينا
|
|
بالروض تطفو على
نهر أزاهره
|
وقد رآها عدو
كان يضمر لي
|
|
من قبل سوءا
فخانته ضمائره
|
ورام صبرا
فأعيته مطالبه
|
|
وغيّض الدمع
فانهلّت بوادره
|
بعودة الدولة
الغراء ثالثة
|
|
أمنت منك ونام
الليل ساهره
|
وقال أيضا : [بحر
الوافر]
تسعر في الوغى
نيران حرب
|
|
بأيديهم مهنّدة
ذكور
|
ومن عجب لظى قد
سعرتها
|
|
جداول قد أقلتها
بدور
|
وقال ملغزا في
قالب لبن : [بحر المجتث]
ما آكل في فمين
|
|
يغوط من مخرجين
|
مغرى بقبض وبسط
|
|
وما له من يدين
|
ويقطع الأرض
سعيا
|
|
من غير ما قدمين
|
وخمس لامية العجم
مدحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الصفدي : ولما كنت في حلب كتب إلي
أبياتا ، انتهى.
٢٩٢ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن صابر ،
القيسي.
قال أبو حيان :
كان المذكور رفيقا للأستاذ أبي جعفر بن الزبير شيخنا ، وكان كاتبا مترسلا شاعرا ،
حسن الخط ، على مذهب أهل الظاهر ، وكان كاتبا للأمير أبي سعيد فرج بن السلطان الغالب بالله بن الأحمر ملك
الأندلس ، وسبب خروجه من الأندلس أنه كان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث
، فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله ، فتوعده بقطع يديه ، فضج من ذلك وقال : إن
إقليما تمات فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتوعد بقطع اليد من يقيمها
__________________
لجدير أن يرحل منه
، فخرج وقدم ديار مصر ، وسمع بها الحديث ، وكان فاضلا نبيلا ، ومن شعره : [بحر
الطويل]
أتنكر أن يبيضّ
رأسي لحادث
|
|
من الدهر لا
يقوى له الجبل الراسي
|
وكان شعارا في
الهوى قد لبسته
|
|
فرأسي أميّ
وقلبي عباسي
|
قلت : لو قال «شيبي»
لكان الغاية.
وأنشد له بعضهم : [بحر
الطويل]
فلا تعجبا ممن
عوى خلف ذي علا
|
|
لكل عليّ في
الأنام معاويه
|
قلت : لا يخفى ما
فيه من عدم سلوك الأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ويرحم الله بعض
الأندلسيين حيث قال في رجز كبير : [بحر الرجز]
ومن يكن يقدح في
معاويه
|
|
فذاك كلب من
كلاب عاويه
|
وأنشد أبو حيان
للمذكور : [بحر المتقارب]
أرى الدهر ساد
به الأرذلو
|
|
ن كالسّيل يطفو
عليه الغثا
|
ومات الكرام
وفات المديح
|
|
فلم يبق للقول
إلا الرثا
|
وأنشد له أيضا : [بحر
الخفيف]
لولا ثلاث هن
والله من
|
|
أكبر آمالي في
الدنيا
|
حج لبيت الله
أرجو به
|
|
أن يقبل النية
والسعيا
|
والعلم تحصيلا
ونشرا إذا
|
|
رويت أوسعت
الورى ريا
|
وأهل ود أسأل
الله أن
|
|
يمتع بالبقيا
إلى اللقيا
|
ما كنت أخشى
الموت أنّى أتى
|
|
بل لم أكن ألتذ
بالمحيا
|
وقال أبو حيان في
هذه المادة : [بحر الطويل]
أما إنه لولا
ثلاث أحبها
|
|
تمنيت أني لا
أعدّ من الأحيا
|
__________________
فمنها رجائي أن
أفوز بتوبة
|
|
تكفر لي ذنبا
وتنجح لي سعيا
|
ومنهن صوني
النفس عن كل جاهل
|
|
لئيم فلا أمشي
إلى بابه مشيا
|
ومنهن أخذي
بالحديث إذا الورى
|
|
نسوا سنة
المختار واتبعوا الرأيا
|
أتترك نصا
للرسول وتقتدي
|
|
بشخص؟ لقد بدّلت
بالرشد الغيا
|
٢٩٣ ـ ومنهم الأستاذ أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد
الباجي.
سكن سرقسطة وغيرها
، وروى عن أبيه معظم علمه ، وخلفه بعد وفاته في حلقته وغلب عليه علم الأصول والنظر
، وله تآليف تدل على حذقه : منها «العقيدة ، في المذاهب السديدة» ورسالة «الاستعداد
، للخلاص من المعاد» وكان غاية في الورع ، توفي بجدة بعد منصرفه من الحج سنة ٤٩٣ ،
رحمه الله تعالى!.
٢٩٤ ـ ومنهم الإمام الفاضل الأديب أبو
إسحاق إبراهيم بن محمد الساحلي ، الغرناطي.
قال العز بن جماعة
: قدم علينا من المغرب سنة ٧٢٤ ، ثم رجع إلى المغرب في هذه السنة ، وبلغنا أنه
توفي بمراكش سنة نيف وأربعين وسبعمائة ، وأنشد والدي قصيدة من نظمه امتدحه بها ،
وأنا أسمع ، ومن خطه نقلت ، وهي : [بحر الطويل]
قفا موردا عينا
جرت بعدكم دما
|
|
أناضي أسفار
طوين على ظما
|
غدون أهلّات
تناقل أنجما
|
|
ورحن حنيات
تفوّق أسهما
|
يجشمها الحادي
الأمرين حسّرا
|
|
ويوطئها الحادي
الأحرّين هيّما
|
على منسميها
للشقائق منبت
|
|
وفي فمويها
للشقاشق مرتمى
|
إلى أن قال : [بحر
الطويل]
وتعسا لآمال
جهام سحابها
|
|
تزجّى ركاما ما
استهلّ ولا همى
|
تجاذبها نفس
تجيش نفيسة
|
|
ومن لم يجد إلا
صعيدا تيمما
|
فهل ذمم يرعاه
ليل طويته
|
|
طواني سرا بين
جنبيه منهما
|
أقبل منه للبروق
مباسما
|
|
وأرشف من بهماء
ظلمائه لمى
|
__________________
إلى أن تجلّى من
كنانة بدرها
|
|
فعرس ركبي في
حماه وخيما
|
ثمال اليتامى
حيث ليس مظلل
|
|
وكهف الأيامى
أيما عزّ مرتمى
|
ومنها :
فيا كفه أأنت أم
غيث ديمة
|
|
أسالت عبابا في
ثرى الجود عيلما
|
ويا سعيه يهنيك
أجر ثنى به
|
|
على معطفي علياه
بردا مسهّما
|
قضى بمنى أوطار
نفس كريمة
|
|
وروّى صداها حين
حل بزمزما
|
وناداه داعي
الحق حيّ على الهدى
|
|
فأسرج طوعا في
رضاه وألجما
|
فلله ما أهدى
وأرشد واهتدى
|
|
ولله ما أعطى
وأوفى وأنعما
|
ومنها :
أمتّ بآداب وعلم
كليهما
|
|
أقاما لديك
الدعي فرضا وألزما
|
وهي طويلة.
٢٩٥ ـ ومن الراحلين من الأندلس الوليد
بن هشام ، من ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل فيما حكى بعض المؤرخين.
خرج من الأندلس
على طريقة الفقر والتجرد ، ووصل برقة بركوة لا يملك سواها فعرف بأبي ركوة ، وأظهر
الزهد والعبادة ، واشتغل بتعليم الصبيان وتلقينهم القرآن ، وتغيير المنكر ، حتى
خدع البربر بقوله وفعله ، وزعم أن مسلمة بن عبد الملك بشر بخلافته بما كان عنده من
علم الحدثان ، وكان يقال عن مسلمة : إنه أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن
معاوية ، وأخرج لهم أرجوزة أسندها إلى مسلمة ، ومنها في وصفه : [بحر الرجز]
وابن هشام قائم
في برقه
|
|
به ينال عبد شمس
حقه
|
يكون في بربرها
قيامه
|
|
وقرة العرب لها
إكرامه
|
واتفق أن قرة
انحرفوا عن الحاكم فمالوا إليه ، وحصروا معه مدينة برقة حتى فتحوها ، وخطبوا له
فيها بالخلافة ، وكان قيامه في رجب سنة ٣٩٧ ، فهزم عسكر باديس الصّنهاجي صاحب
إفريقية وعسكر الحاكم بمصر ، وأحيا أمره ، وخاطبه بطانة الحاكم لكثرة خوفهم من
__________________
سفك الحاكم الدماء
، ورغبوه في الوصول إلى أوسيم ، وهو مكان بالجيزة قبالة القاهرة ، فلما وصل إليها قام
بمحاربته الفضل بن صالح القيام المشهور إلى أن هزم أبا ركوة ، ثم جاء به إلى
القاهرة ، فأمر الحاكم أن يطاف به على جمل ، ثم قتل صبرا في ١٣ رجب سنة ٣٩٩ ، ولما
حصل في يد الحاكم كتب إليه : [بحر الطويل]
فررت ولم يغن
الفرار ، ومن يكن
|
|
مع الله لم
يعجزه في الأرض هارب
|
ووالله ما كان
الفرار لحاجة
|
|
سوى فزعي الموت
الذي أنا شارب
|
وقد قادني جرمي
إليك برمت
|
|
ي كما اجتر ميتا
في رحى الحرب سالب
|
وأجمع كل الناس
أنك قاتلي
|
|
فيا ربّ ظنّ
ربّه فيه كاذب
|
وما هو إلا
الانتقام وينتهي
|
|
وأخذك منه واجبا
وهو واجب
|
ولأبي ركوة
المذكور أشعار كثيرة ، منها قوله : [بحر الكامل]
بالسيف يقرب كل
أمر ينزح
|
|
فاطلب به إن كنت
ممن يفلح
|
وله : [بحر الطويل]
على المرء أن
يسعى لما فيه نفعه
|
|
وليس عليه أن
يساعده الدهر
|
وقوله : [بحر
السريع]
إن لم أجلها في
ديار العدا
|
|
تملأ وعر الأرض
والسهلا
|
فلا سمعت الحمد
من قاصد
|
|
يوما ولا قلت له
أهلا
|
وله غير ذلك مما
يطول ، وخبره مشهور.
٢٩٦ ـ ومنهم أبو زكريا الطليطلي ، يحيى
بن سليمان.
قدم إلى
الإسكندرية ، ثم رحل إلى الشام واستوطن حلب ، وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح
والهجاء ، قال بعض من طالعه : ما رأيته مدح أحدا إلا وهجاه ، وله مصنفات في الأدب
، ومن نظمه قوله : [بحر الكامل]
أرض سقت غيطانها
أعطانها
|
|
وزهت على
كثبانها قضبانها
|
ومنها :
__________________
فتكت بألباب
الكماة فسيفها
|
|
من طرفها
وسنانها وسنانها
|
لم يبق شخص
بالبسيطة سالما
|
|
إلا سبى إنسانه
إنسانها
|
ومنها :
وتصاحبت وتجاوبت
أطيارها
|
|
وتداولت وتناولت
ألحانها
|
وتنسمت وتبسمت
أيامها
|
|
وتهللت وتكللت
أزمانها
|
بمديرها ومنيرها
ونميرها
|
|
ومعيرها حسنا
جلاه عيانها
|
٢٩٧ ـ ومنهم أبو بكر يحيى بن عبد الله بن محمد ، القرطبي ، المعروف
بالمغيلي.
سمع من محمد بن
عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وغيرهما ، ورحل فسمع من أبي سعيد بن الأعرابي ،
وكان بصيرا بالعربية والشعر ، ومؤلفا جيد النظر حسن الاستنباط ، حدث ، وتوفي فجأة
في شهر ربيع الأول سنة ٣٦٢ ، قاله ابن الفرضي.
٢٩٨ ـ ومنهم الإمام المحدث أبو عبد الله
محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن سلمة ، الأنصاري ، الغرناطي.
قدم المشرق وتوفي
بمصر سنة ٧٠٣ عن نحو خمسين سنة ، بالبيمارستان المنصوري ، قال قاضي القضاة عبد
العزيز بن جماعة الكناني في كتابه «نزهة الألباب» : أنشدنا المذكور لنفسه بالقاهرة
، بعد قدومه من مكة والمدينة ، وقد رام أن يعود إليهما فلم يتيسر له : [بحر الطويل]
لئن بعدت عني
ديار الذي أهوى
|
|
فقلبي على طول
التباعد لا يقوى
|
فحدث رعاك الله
عن عرب رامة
|
|
فإني لهم عبد
على السّر والنجوى
|
فإن مت شوقا في
الهوى وصبابة
|
|
فيا شرفي إن مت
في حب من أهوى
|
فيا أيها
العذّال كفوا ملامكم
|
|
فما عندكم بعض
الذي بي من الشكوى
|
ويا جيرة الحي
الذي ولهي بهم
|
|
أما ترحموا صبا
يحن إلى حزوى
|
ويا أهل ذيّاك
الحمى وحياتكم
|
|
يمين وفيّ صادق
القول والدّعوى
|
__________________
ملكتم قيادي
فارحموا وترفّقوا
|
|
فأنتم مرادي لا
سعاد ولا علوى
|
فما لي سواكم
سادتي لا عدمتكم
|
|
فجودوا بوصل
أنتم الغاية القصوى
|
انتهى.
٢٩٩ ـ ومنهم الفاضل الأديب أبو عبد الله
محمد بن علي بن يحيى بن علي ، الغرناطي.
قال ابن جماعة في
الكتاب المسمى قريبا : أنشدني المذكور لنفسه ، على قبر سيدنا حمزة رضي الله تعالى
عنه : [بحر الكامل]
يا سيد الشهداء
بعد محمد
|
|
ورضيع ذي المجد
المرفع أحمد
|
يا ابن الأعزة
من خلاصة هاشم
|
|
سرج المعالي
والكرام المجد
|
يا أيها البطل
الشجاع المحتمي
|
|
دين الإله ببأسه
المستأسد
|
يا نبعة الشرف
الأصيل المعتلي
|
|
يا ذروة الحسب
الأثيل الأتلد
|
يا نجدة الملهوف
في قحم الوغى
|
|
عند التهاب
جحيمها المتوقد
|
يا غيث ذي الأمل
البعيد مرامه
|
|
يا غيث موتور
الزمان الأنكد
|
يا من لعظم
مصابه خص الأسى
|
|
قلب الرسول وعمّ
كلّ موحّد
|
يا حمزة الخير
المؤمّل نفعه
|
|
يوم الهياج وعند
فقد المنجد
|
وافاك يا أسد
الإله وسيفه
|
|
وفد ألمّوا من
حماك بمعهد
|
جئناك يا عمّ
الرسول وصنوه
|
|
قصد الزيارة
فاحتفل بالقصد
|
واسأل إلهك في
اغتفار ذنوبنا
|
|
شيم المزور
قيامه بالعوّد
|
لذنا بجانبك
الكريم توسلا
|
|
وكذا العبيد
ملاذهم بالسيد
|
فاشفع لضيفك
فالكريم مشفّع
|
|
عند الكريم ومن
يشفّع يقصد
|
يا ابن الكرام
المكرمين نزيلهم
|
|
أهل المكارم
والعلا والسؤدد
|
نزل الضيوف جناب
ساحتك التي
|
|
منها يؤمّل كل
عطف مسعد
|
فاجعل أبا يعلى
قرانا عطفة
|
|
وارغب لربك في
هدانا واقصد
|
__________________
فعسى يمنّ على
الجميع بتوبة
|
|
يهدي بها نهج
الطريق الأرشد
|
فقد اعتمدنا منك
خير وسيلة
|
|
نرجو بها حسن
التجاوز في غد
|
لم لا تؤم وأنت
عم محمد
|
|
ولدينه قد صلت
صولة أيّد
|
وصحبته ونصرته
وعضدته
|
|
وذببت عنه
باللسان وباليد
|
وبذلت نفسك في
رضاه بصولة
|
|
فقتلت في ذات
الإله الأوحد
|
فجزاك عنا الله
خير جزائه
|
|
وسقا ثراك حيا
الغمام المرعد
|
وعلى رسول الله
منه سلامة
|
|
وعليك متّصل
الرضا المتجدد
|
ولد ببعض أعمال
غرناطة قبل التسعين وستمائة ، وتوفي بالمدينة الشريفة طابة على ساكنها أفضل الصلاة
والسلام سنة ٧١٥ ، ودفن بالبقيع ، رحمه الله تعالى! انتهى.
٣٠٠ ـ ومنهم الشيخ نور الدين أبو الحسن
، المايرقي.
من أقارب بعض ملوك
المغرب ، وكان من الفضلاء العلماء الأدباء ، وله مشاركة جيدة في العلوم ونظم حسن ،
ومنه قوله : [بحر البسيط]
القضب راقصة ،
والطير صادحة
|
|
والنشر مرتفع ،
والماء منحدر
|
وقد تجلّت من
اللذات أوجهها
|
|
لكنها بظلال
الدوح تستتر
|
فكل واد به موسى
يفجّره
|
|
وكل روض على
حافاته الخضر
|
وقوله : [بحر
الطويل]
وذي هيف راق
العيون انثناؤه
|
|
بقدّ كريّان من
البان مورق
|
كتبت إليه هل
تجود بزورة
|
|
فوقع «لا» خوف
الرقيب المصدق
|
فأيقنت من «لا»
بالعناق تفاؤلا
|
|
كما اعتنقت «لا»
ثم لم تتفرق
|
وهذا أحسن من قول
ذي القرنين بن حمدان : [بحر البسيط]
إني لأحسد «لا»
في أحرف الصحف
|
|
إذا رأيت اعتناق
اللام للألف
|
__________________
وما أظنهما طال
اعتناقهما
|
|
إلا لما لقيا من
لوعة الأسف
|
وأحسن من هذا قول
القيسراني : [بحر البسيط]
أستشعر اليأس من
«لا» ثم يطمعني
|
|
إشارة في اعتناق
اللام للألف
|
وكانت وفاة أبي الحسن
المذكور في ربيع الأول سنة ٦٥٥ ، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى! والأبيات التي
أولها «القضب راقصة» نسبها له اليونيني وغير واحد ، والصواب أنها ليست له ، وإنما
هي لنور الدين سعيد ابن صاحب المغرب ، وقد تقدم ذكره ، ولعل السهو سرى من
تشارك الاسم واللقب والقطر ، ومثل هذا كثيرا ما يقع ، والله تعالى أعلم.
٣٠١ ـ ومن الراحلين من أهل الأندلس إلى
المشرق ابن عتبة الإشبيلي ، وكان فارق إشبيلية حين تولاها ابن هود ، واضطرمت بفتنته الأندلس نارا ، ولما
قدم مصر هاربا من تلك الأهوال تغيرت عليه البلاد ، وتبدّدت به الأحوال ، فلما سئل عن حاله ، بعد بعده عن أرضه وترحاله
، بادر وأنشد : [بحر مخلع البسيط]
أصبحت في مصر
مستضاما
|
|
أرقص في دولة
القرود
|
وا ضيعة العمر
في أخير
|
|
مع النصارى أو
اليهود
|
بالجدّ رزق
الأنام فيهم
|
|
لا بذوات ولا
جدود
|
لا تبصر الدهر
من يراعي
|
|
معنى قصيد ولا
قصود
|
أودّ من لؤمهم
رجوعا
|
|
للغرب في دولة
ابن هود
|
وتذكرت بقوله : «أرقص
في دولة القرود» ما وقع لأبي القاسم بن القطان ، وهو مما يستطرف ويستظرف ، وذلك
أنه لما ولي الوزارة الزينبيّ دخل عليه أبو القاسم المذكور والمجلس حافل بالرؤساء
والأعيان ، فوقف بين يديه ودعا له ، وأظهر الفرح والسرور ، ورقص ، فقال الوزير
لبعض من يفضي إليه بسره : قبح الله هذا الشيخ! فإنه يشير برقصه إلى قول الشاعر:
وأرقص للقرد في دولته
__________________
٣٠٢ ـ ومن المرتحلين أبو عبد الله محمد
بن أحمد بن علي ، الهراوي .
من أهل المرية ،
ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير ، وله ترجمة في الإحاطة ذكرناها مع زيادة عليها
عند تعرضنا لأولاد لسان الدين بن الخطيب ، رحمه الله تعالى! ورحل إلى المشرق ودخل
مصر والشام واستوطن حلب ، وهو صاحب البديعية المعروفة ببديعية العميان ، وله أمداح
نبوية كثيرة وتآليف منها : «شرح ألفية ابن مالك» وغير ذلك ، وله ديوان شعر وأمداح
نبوية في غاية الإجادة ، ومن نظمه رحمه الله تعالى مورّيا بأسماء الكتب : [بحر
الطويل]
عرائس مدحي كم
أبين لغيره
|
|
فلما رأته قلن
هذا من الأكفا
|
نوادر آدابي
ذخيرة ماجد
|
|
شمائل كم فيهن
من نكت تلفى
|
مطالعها هن
المشارق للعلا
|
|
قلائد قد راقت
جواهرها رصفا
|
رسالة مدحي فيك
واضحة ، ولي
|
|
مسالك تهذيب
لتنبيه من أغفى
|
فيا منتهى سؤلي
ومحصول غايتي
|
|
لأنت امرؤ من
حاصل المجد مستصفى
|
وقد اشتملت هذه
الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتابا ، وهي : العرائس للثعالبي ، والنوادر
للقالي وغيره ، والذخيرة لابن بسام وغيره ، والشمائل للترمذي ، والنكت لعبد الحق
الصقلي وغيره ، والمطالع لابن قرقول وغيره ، والمشارق للقاضي عياض وغيره ،
والقلائد لابن خاقان وغيره ، و «رصف المباني ، في حروف المعاني» للأستاذ ابن عبد
النور ، وهو كتاب لم يصنف في فنه مثله ، والرسالة لابن أبي زيد وغيره ، والواضحة
لابن حبيب ، والمسالك للبكري وغيره ، والجواهر لابن شاس وغيره ، و «التهذيب في اختصار المدونة» وغيره ، و «التنبيه»
لأبي إسحاق وغيره ، و «منتهى السؤل» لابن الحاجب ، و «المحصول» للإمام الرازي ، و
«الغاية» للنووي وغيره و «الحاصل» مختصر المحصول و «المستصفى» للغزالي ، وما أحسن
قول الحكيم موفق الدين : [بحر البسيط]
لله أيامنا
والشّمل منتظم
|
|
نظما به خاطر
التفريق ما شعرا
|
__________________
والهف نفسي على
عيش ظفرت به
|
|
قطعت مجموعه
المختار مختصرا
|
وهذه ثلاث كتب
مشهورة : المختار ، والمجموع ، والمختصر ، وأحسن منه قول الآخر: [بحر الكامل]
عن حالتي يا نور
عيني لا تسل
|
|
ترك الجواب جواب
تلك المسأله
|
حالي إذا حدّثت
لا لمعا ولا
|
|
جملا لإيضاحي
بها من تكمله
|
عندي جوى يذر
الفصيح مبلدا
|
|
فاترك مفصّله
ودونك مجمله
|
القلب ليس من
الصحاح فيرتجى
|
|
إصلاحه ، والعين
سحب مثقله
|
وقد أوردنا في
ترجمة أبي عبد الله بن جزى الكاتب الأندلسي جملة مستكثرة في التورية بأسماء الكتب
فلتراجع ثمة .
رجع إلى الشمس بن جابر
ـ فنقول : ومن نظمه رحمه الله تعالى تثمينه للأبيات المشهورة :
لم يبق فيّ
اصطبار
|
|
مذ خلّفوني
وساروا
|
وللحبيب أشاروا
|
|
جار الكرام
فجاروا
|
لله
ذاك الأوار
|
بانوا
فما الدار دار
|
يا بدر أهلك
جاروا
|
|
وعلموك التّجرّي
|
كانوا من الود
أهلي
|
|
ما عاملوني بعدل
|
أصموا فؤادي
بنبل
|
|
يا بين بينت
ثكلي
|
__________________
يا روح قلبي قل
لي
|
|
أهم دعوك لقتلي
|
وحرموا لك وصلي
|
|
وحللوا لك هجري
|
حسبي وما ذا
عناد
|
|
هم المنى
والمراد
|
وإن عن الحق
حادوا
|
|
أو جاملوني
وجادوا
|
يا من به الكلّ
سادوا
|
|
والكل عندي سداد
|
فليفعلوا ما
أرادوا
|
|
فإنهم أهل بدر
|
وتذكرت بهذا قول
أبي البركات أيمن بن محمد السعدي رحمه الله تعالى :
للعاشقين انكسار
|
|
وذلّة وافتقار
|
وللملاح افتخار
|
|
وعزة واقتدار
|
وأهل بدري
أثاروا
|
|
وودعوني وساروا
|
يا بدر ـ إلخ.
كتبت والوجد
يملي
|
|
جدّ الهوى بعد
هزل
|
وحار ذهني وعقلي
|
|
ما بين بدري
وأهلي
|
يا بدر فاحكم
بعدل
|
|
إذا أتوك بعذل
|
وحرّموا ـ إلخ.
لولا هواك
المراد
|
|
ما كنت ممن يصاد
|
ولا شجاني
البعاد
|
|
يا بدر أهلك
جادوا
|
غلطت جاروا
وزادوا
|
|
لكنهم بك سادوا
|
انتهى
__________________
فليفعلوا ـ إلخ.
رجع إلى ابن جابر
، فنقول :
توفي رحمه الله
تعالى في إلبيرة في جمادى الآخرة سنة ٧٨٠ ، ومن نظمه قوله : [بحر البسيط]
يا أهل طيبة في
مغناكم قمر
|
|
يهدي إلى كل
محمود من الطّرق
|
كالغيث في كرم ،
والليث في حرم
|
|
والبدر في أفق ،
والزهر في خلق
|
وقوله : [بحر البسيط]
أما معاني
المعاني فهي قد جمعت
|
|
في ذاته فبدت
نارا على علم
|
كالبدر في شيم ،
والبحر في ديم
|
|
والزهر في نعم ،
والدهر في نقم
|
وقال : [بحر
الطويل]
ولما وقفنا كي
نودّع من نأى
|
|
ولم يبق إلا أن
تحثّ الركائب
|
بكينا وحقّ
للمحبّ إذا بكى
|
|
عشية سارت عن
حماه الحبائب
|
وقال : [بحر
الكامل]
ضحكت فقلت كأن
جيدك قد غدا
|
|
يهدي لثغرك من
جواهر عقده
|
وكأن ورد الخدّ
منك بمائه
|
|
قد شاب عذب لماك
حالة ورده
|
وقال : [بحر
الخفيف]
منعتنا قرى
الجمال وقالت
:
|
|
ليس في غير
زادنا من مجال
|
فأقمنا على
الرحال وقلنا
|
|
مالنا حاجة بحط
الرحال
|
وقال : [بحر
السريع]
عذّب قلبي رشأ
ناعم
|
|
أسهر طرفي طرفه
الناعس
|
يحرس باللحظ جنى
خدّه
|
|
يا ليته لو غفل
الحارس
|
__________________
وقال : [بحر
الكامل]
وافيت ربعهم وقد
بعد المدى
|
|
ونأى الفريق من
الديار وسارا
|
ما كدت أعرف بعد
طول تأمل
|
|
دارا بها طاف
السرور ودارا
|
وله : [بحر الوافر]
ولست أرى الرجال
سوى أناس
|
|
همومهم موافاة
الرجال
|
أطالوا في
النّدى إهلاك مال
|
|
فعاشوا في
الأنام ذوي كمال
|
وقال : [بحر
الخفيف]
أيها المتهمون
نفسي فداكم
|
|
أنجدوني على
الوصول لنجد
|
وقفوا بي على
منازل ليلى
|
|
فوجودي هناك
يذهب وجدي
|
وما كتبه على كتاب
«نسيم الصّبا» لابن حبيب ، وصورته : لما وقفت على الفصول الموسومة بنسيم الصبا ،
المرسومة في صفحات الحسن فإذا أبصرها اللبيب صبا ، انتعش بها الخاطر انتعاش النبت
بالغمام ، وهملت سحائب بيانها فأثمرت حدائق الكلام ، وأخرجت أرض القرائح ما
فيها من النبات ، وسمعت الآذان ضمخة الأذهان بهذه الأبيات : [بحر المنسرح]
هذي فصول الربيع
في الزمن
|
|
كم حسن أسندت
إلى حسن
|
رقّت وراقت فمن
شمائلها
|
|
بمثل صرف الشمول
تتحفني
|
كم ملح قد حوت
وكم لمح
|
|
يعجبني لفظها
ويعجزني
|
كم فيه من نفث
ومن نكت
|
|
أشهدني حسنها
فأدهشني
|
جمع عدمنا له
النظير فلا
|
|
يصرف عن خاطر
ولا أذن
|
يا خير أهل
العلا وبحرهم
|
|
أيّ بديع الكلام
لم ترني
|
بدرك في مطلع
الفضائل لا
|
|
يكون مثل له ولم
يكن
|
هذي الفصول التي
أتيت بها
|
|
قد أفحمت كل
ناطق لسن
|
__________________
كم فن معنى بها
يذكرني
|
|
شجوي لشدو
الحمام في فنن
|
فمن نسيب مع
النسيم جرى
|
|
لطفا فأزرى
بالجوهر الثمن
|
وحسن سجع كالزهر
في أفق
|
|
والزهر في ناعم
من الغصن
|
له معان أعيت
مداركها
|
|
كل معان بنيلهن
عني
|
لا زال راق
للمجد راقمها
|
|
ذا سنن حاز أحسن
السنن
|
فصول ، هي للحسن
أصول ، وشمول ، لها على كل القلوب شمول ، ليس لقدامة على التقدم إليها حصول ، ولا
لسحبان لأن يسحب ذيلها وصول ، ولا انتهى قسّ الإيادي ، إلى هذه الأيادي ، ولا ظفر بديع الزمان ، بهذه البدائع
الحسان ، لقد قصر فيها حبيب عن ابنه ، وحار بين لطافة فضله وفضل ذهنه ، نزهت في طرف
خمائلها ، ونبهت بلطف شمائلها ، تالله إنها لسحر حلال ، وخلال ما مثلها خلال ،
كلام كله كمال ، ومجال لا يرى فيه إلا جمال ، راقم بردها ، وناظم عقدها ، في كل
فصل ، جاء بكمال فضل ، وفي كل معنى ، عمر بالبراعة مغنى ، أعرب فأغرب ، وأوجر
فأعجز ، وأطال فأطاب ، وأجاد حين أجاب ، فما أنفس فرائده ، وأنفع فوائده ،
وأفصح مقاله ، وأفسح مجاله ، وأطوع للنظم طباعه ، وأطول في النثر باعه ، أزاهر
نبتت في كتاب ، وجواهر تكوّنت من ألفاظ عذاب ، ومواهب لا تدرك بيد اكتساب ، فسبحان
من يرزق من يشاء بغير حساب ، فصول أحلى في الأفواه من السهد ، وأشهى إلى النواظر من النوم بعد السّهد ، سبك أدبها في قالب النكت الحسان ، وذهب بمحامد عبد الحميد ومحاسن
حسّان ، فما أحقها أن تسمى فصول الربيع ، وأصول البديع ، لا زال حسنها يملأ
الأوراق بما راق ، ويزين الآفاق بما فاق ، ولا برحت حدائق براعته نزهة للأحداق ،
وحقائق بلاغته في جيد الإجادة بمنزلة الأطواق ، بمن الله تعالى وكرمه ، انتهى.
وحيث جرى ذكر كتاب
«نسيم الصبا» فلا بأس أن نذكر تقاريظ العلماء له ، فمن ذلك قول القاضي شرف الدين
بن ريان : وقفت على هذا الكتاب الذي أبدع فيه مؤلفه ، ونظم فيه الجواهر النفيسة مصنفه
، وأينعت حدائق أدبه فدنا ثمرها لمن يقطفه ، وعرفت مقدار ما فيه من
__________________
الإنشاء وأين من
يعرفه ، فوجدته ألطف من اسمه ، وأحسن من الدرر في نظمه ، وأطيب من الورد عند شمه ،
هبّت على رياض فصوله نسيم صباها ، ففاقت الأزهار في رباها ، وتشوفت قلوب الأدباء إلى انتشاق شذاها وطيب ريّاها ، وفاضت عليه
أنوار البدر فأغنى سناها ، عن الشمس وضحاها ، وتحلّت نحور البلغاء من كلامه بالدر
اليتيم ، ومن معانيه بالعقد النظيم ، وترنّحت أفنان فنون الفصاحة لما هب عليها ذلك
النسيم ، كل فصل له في الفضل أسلوب على بابه ، وطريق انفرد به منشئه محاسن لا توجد
إلا في كتابه ، صدر هذا الكتاب عن علم سابق ، وفكر ثاقب وذهن رائق ونفس صادق ،
وروية ملأت تصانيفها المغارب والمشارق ، وقريحة إذا ذقت جناها ، وشمت سناها ، تذكرت ما بين العذيب وبارق فالله تعالى يبقي مصنفه قبلة لأهل الأدب ويديمه ، ويبلغه
من سعادة الدنيا والآخرة ما يرومه ، بمنه وكرمه ، انتهى.
وقرظ عليه بعضهم
بقوله : وقف المملوك سليمان بن داود المصري على فصول الحكم من هذه الفصول ، ووجد من نسيم الصبا أمارات القبول ، ونزه
طرفه في رياض هذا الكتاب ، وخاطب فكره العقيم في وصفه فعجز عن رد الجواب : [بحر
الكامل]
ما ذا أقول وكلّ
وصف دونه
|
|
أين الحضيض من
السّماك الأعزل
|
يا لها كلمات نقصت
قدر الأفاضل ، وفضحت فصحاء الأوائل ، وسحبت ذيل الفصاحة على سحبان وائل ، وزادت في
البلاغة على فريد ، وغيرت حال القدماء فما عبد الرحيم الفاضل وما عبد الحميد ، وذلت لها تشبيهات ابن المعتز طوعا ، وملكت زمام البيان
فما تركت للبديع منه نوعا : [بحر الكامل]
قطف الرجال
القول حين نباته
|
|
وقطفت أنت القول
لما نوّرا
|
وخطاب أعجز
الخطباء وصفه ، وجواب ألغى البلغاء رصفه ، وغرائب تعرّفت بمبديها ، وشوارد تألفت
بمهديها ، وجنان بلاغة لم يطمث أبكارها إنس قبلك ولا جان ، ولم يقطف
__________________
أزهارها عين ناظر
ولا يد جان ، معان تطرب السمع لها حكم وأحكام ، وألفاظ هي الأرواح لا أرواح أجسام
، فلما ألقى فهمه عروة المتماسك ، وضاقت عليه في وصفه المسالك ، وعجز عن وصف بلوغ
بلاغته ، عطف على حسن كتابته ، فرأى خطا يسبي الطرف ، ويستغرق الظرف ، نسج قلمه الكريم من وشي البلاغة ديباجا ، واتخذ من محاسن الحسان
طريقا ومنهاجا ، فألفى ألفات كاعتدال القدود ، ونونات كأهلّة السعود ، وسينات كالطرر
، ونقطا كالدرر ، جعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف ، وحلّى الأسماع بحلية زائدة
على الشنوف ، فعطف ساعة يطنب في دعائه وشكره ، وآونة يميل من طربه بألفاظه وسكره ، فلله
در ألفاظك ودرر فضلك ، وأحسن بوابلك الهاطل بالبيان وطلّك : [بحر الطويل]
لسانك غواص ،
ولفظك جوهر
|
|
وصدرك بحر
بالفضائل زاخر
|
والله المسؤول أن
يرفع قدر مقالك ومقام قدرك ، ويوضح منهاج الأدب بنور بدرك بمنه وكرمه ، إنه على كل
شيء قدير.
وكتب قاضي القضاة
تاج الدين السبكي ، رحمه الله تعالى! في تقريظ الكتاب المذكور ما نصه : الحمد لله
وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، حدقت نحو الحدائق ، وفوّقت
سهمي تلقاء الغرض الشائق ، وطرقت إلى ما يضيء أخا الحجى أسهل الطرائق ، فما علّل
صداي كنسيم الصبا ، ولا كمثله سهما صائبا صبابه من لا صبا ، ولا نظرت نظيره حديقة تنبت فضة وذهبا : [بحر مجزوء
الكامل]
وتجيء من ملح
الكلا
|
|
م بطارف أو
تالده
|
كلم نوابغ نحو آ
|
|
فاق المطالع
صاعده
|
لو رامها قسّ
لما
|
|
ألفى أباه ساعده
|
أبدى نتائج عيّه
|
|
في ذي المعاني
الشارد
|
فعين الله تعالى
عليها كلمات عليها منه رقيب ، ومحاسن تسلى عندها بالحسن حبيب ، وفوائد حسان يذكرنا
بها حسان البعيد حسن القريب ، كتبه عبد الوهاب [بن] السبكي ، انتهى.
__________________
وكتب ناصر الدين
صاحب دواوين الإنشاء ما صورته : وقفت على هذا الكتاب الذي أشبه الدر في انتظامه ،
والثغر في ابتسامه ، وقطر الندى في انسجامه ، وزهر الروض في البكر إذا غنت على غصونه مطربات حمامه ، فوجدت بين اسمه ومسماه
مناسبة اقتضاها طبع مؤلفه السليم ، واتصالا قريبا كاتصال الصديق الحميم ، فتحققت
أن مؤلفه ـ أبقاه الله تعالى وحرسه! ـ أبدع في تأليفه ، وأصاب في تمييزه بهذا
الاسم وتعريفه ، فهو في اللطافة كالماء في إروائه ، وكالهواء المعتدل في ملاءمة
الأرواح بجوهر صفائه ، وكالسلك إذا انتقى جوهره وأجيد في انتقائه ، قد أينعت ثمرات
فضائله فأصبحت دانية القطوف ، وتجلت عرائس بلاغته فظهر بدرها بلا كسوف ، وانجابت
ظلمات الهموم بسماع موصول مقاطعه التي هي في الحقيقة لآذان الجوزاء شنوف ، فأكرم
به من كتاب ما الروض بأبهى من وسيمه ، ولا الرّيحان بأعطر من شميمه ، ولا المدامة بأرق من هبوب نسيمه ، ولا الدر بأسنى زهرا
بل زهوا من رسومه ، إذا تدبره الأديب أغنته تلك الأفانين ، عن نغمات القوانين ،
وإذا تأمله الأريب نزه طرفه في رياض البساتين ، قد سوّر على كل نوع من البديع باب
، لا يدخله إلا من خص من البلاغة باللّباب ، والله تعالى يؤتيه الحكمة وفصل الخطاب ، ويمتع بفضائله
التي شهدها أهل العلم وذوو الألباب ، بمنه وكرمه ، وكتبه محمد بن يعقوب الشافعي.
وكتب الصفدي شارح
لامية العجم بما نصه : وقفت على هذا المصنف الموسوم بنسيم الصبا ، والتأليف الذي
لو مرّ بالمجنون لما ألف ليلاه ولا مال إليها ولا صبا ، والإنشاد الذي إن شاء
قائله جعل الكلام غيره في هبّات الهواء هبا ، والنثر الذي أغار قائله على سبائك
الذهب الإبريز وسبا ، والكلام الذي نبا عنه الجاحظ جاحدا وما له ذكر ولا
نبا ، فسبّحت جواهر حروفه لمن أوجده في هذا العصر ، وعلمت أن ألفاظه ترمي قلوب
حساده بشرر كالقصر ، وتحققت أن قعقعة طروسه أصوات أعلامه التي تخفق له بالنصر ،
وتيقنت أن سطوره غصون لا تصل إليها كف جناية بجنّى ولا هصر : [بحر الطويل]
وقلت لأهل النظم
والنثر قابلوا
|
|
(ترائبها مصقولة كالسجنجل)
|
وميلوا بأعطاف
التعجب إنها
|
|
(نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل)
|
__________________
ولما ملت بعد ما
ثملت ، وغزلت بعد ما هزلت ، جردت من نفسي شخصا أخاطبه وأجاريه ، في أوصاف محاسنها
التي أناهبه منها وأناهيه ، فقال لي : هذا الفن الفذ ، والنثر الذي قهر أقران هذه
الصناعة وبذ ، والأدب الذي سد الطرق على أوابده فما فاته شيء ولا شذ ، وهذا
الإنشاء الذي ما له عديل في هذا العديد ولا ضريب ، وهذا الكلام الذي فاق في الآفاق
فما لحبيب بن أوس حسن حسن بن حبيب ، فعين الله تعالى على هذه الكلم الساحرة ،
والفوائد التي أيقظت جفن الأدب بعد ما كان بالساهرة ، ومتع الله تعالى الزمان
وأهله بهذا النوع الغض ، والنقد النض ، والبز البض ، والبديع الذي رمّ ما تشعّث من
ربع هذا الفن ورض ، واقتض المعاني أبكاره وافتض ، وأرسل جارح بلاغته على الجوارح
فصادها وانقص وانقض ، وأنبط ماء الفصاحة لما تحدر وارفضّ ، واستمال القلب الفظ لما
فك ختم ذهوله وفض ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، بمنه وكرمه ، وكتبه
خليل الصفدي ، انتهى.
٣٠٣ ـ ومنهم الأديب أبو جعفر الإلبيري.
رفيق ابن جابر
السابق الذكر ، وهو البصير وابن جابر الأعمى ، وله نظم بديع منه قوله : [بحر
السريع]
أبدت لي الصدغ
على خدها
|
|
فأطلع الليل لنا
صبحه
|
فخدها مع قدها
قائل
|
|
(هذا شقيق عارض رمحه)
|
وقوله وقد دخل حمص
: [بحر السريع]
حمص لمن أضحى
بها جنة
|
|
يدنو لديها
الأمل القاصي
|
حل بها العاصي
ألا فاعجبوا
|
|
من جنة حل بها
العاصي
|
وقوله : [بحر
الخفيف]
إن بين الحبيب
عندي موت
|
|
وبه قد حييت منذ
زمان
|
ليت شعري متى
تشاهده العي
|
|
ن وتقضي من
اللقاء الأماني
|
__________________
قال : وفيه
استخدام ، لأن البين يطلق على البعد والقرب ، انتهى.
ومن نظمه أيضا
رحمه الله تعالى : [بحر الكامل]
ومورد الوجنات
دبّ عذاره
|
|
فكأنه خط على
قرطاس
|
لما رأيت عذاره
مستعجلا
|
|
قد رام يخفي
الورد منه بآس
|
ناديته قف لي
أودع ورده
|
|
(ما في وقوفك ساعة من باس)
|
وهذا المعنى قد
تبارى فيه الشعراء وتسابقوا في مضماره ، فمنهم من جلى وبرز ، وحاز خصل السبق وأحرز
، ومنهم من كان مصليا ، ومنهم من غدا لجيد الإحسان محليا ، ومنهم من عاد قبل
الغاية موليا.
رجع ـ ومن تأليفه
رحمه الله تعالى شرحه لبديعية رفيقه ابن جابر المذكور ، وقال في خطبته : ولما كانت
القصيدة المنظومة في علم البديع المسماة «بالحلة السيرا في مدح خير الورى» التي
أنشأها صاحبنا العلامة شمس الدين أبو عبد الله بن جابر الأندلسي ، نادرة في فنها
، فريدة في حسنها ، تجنى ثمر البلاغة من غصنها ، وتنهل سواكب الإجادة من مزنها ، لم ينسج على منوالها ، ولا سمحت قريحة بمثالها ، رأيت أن
أضع لها شرحا يجلو عرائس معانيها لمعانيها ، ويبدي غرائب ما فيها لموافيها ، لا
أملّ الناظر فيه بالتطويل ، ولا أعوقه بكثرة الاختصار عن مدارك التحصيل ، فخير
الأمور أوسطها ، والغرض ما يقرب المقاصد ويضبطها ، فأعرب من ألفاظها كل خفي ،
وأسكت من لغاتها عن كل جلي ، والله أسأل أن يبلغنا ما قصدناه ، ويوردنا أحسن
الموارد فيما أردناه ، انتهى ، وسمي الشرح المذكور «طراز الحلة ، وشفاء الغلة» ومما أورده رحمه الله تعالى في ذلك الشرح من نظم نفسه قوله
: [بحر السريع]
طيبة ما أطيبها
منزلا
|
|
سقى ثراها المطر
الصيب
|
طابت بمن حل
بأرجائها
|
|
فالترب منها
عنبر طيب
|
يا طيب عيشي عند
ذكري لها
|
|
والعيش في ذاك
الحمى أطيب
|
__________________
وقال رحمه الله
تعالى في هذا الشرح بعد كلام ما نصه : وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام
في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي : كيف جاء إلى قصر مشيد ، ومحل سرور جديد ،
فخاطبه بما يخاطب به الطلول البالية ، والمنازل الدارسة الخالية ، فقال :
يا دار غيّرك البلى ومحاك
فأحزن في موضع
السرور ، وأجرى كلامه على عكس الأمور ، وانظر إلى قول القطامي : [بحر البسيط]
إنا محيوك فاسلم
أيها الطلل
|
|
وإن بليت وإن
طالت بك الطّيل
|
فانظر كيف جاء إلى
طلل بال ، ورسم خال ، فأحسن حين حياه ، ودعا له بالسلامة ، كالمبتهج برؤية محيّاه
، فلم يذكر دروس الطلل وبلاه ، حتى آنس المسامع بأوفى التحية وأزكى السلامة ،
والذي فتح هذا الباب ، وأطنب فيه غاية الإطناب ، صاحب اللواء ، ومقدم الشعراء ، حيث قال : [بحر الطويل]
ألا عم صباحا
أيها الطلل البالي
|
|
وهل يعمن من كان
في العصر الخالي
|
وهل يعمن إلا
سعيد مخلد
|
|
قليل هموم ما
يبيت بأوجال
|
قيل : وهذا البيت
الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة ، لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال
لا توجد إلا في الجنة ، انتهى.
وقال رحمه الله
تعالى عند رحيله من غرناطة وأعلام نجد تلوح ، وحمائمه تشدو على الأيك وتنوح : [بحر
الطويل]
ولما وقفنا
للوداع وقد بدت
|
|
قباب بنجد قد
علت ذلك الوادي
|
نظرت فألفيت
السبيكة فضة
|
|
لحسن بياض الزهر
في ذلك النادي
|
فلما كستها
الشمس عاد لجينها
|
|
لها ذهبا فاعجب
لإكسيرها البادي
|
والسبيكة : موضع
خارج غرناطة.
وقال رحمه الله : [بحر
الخفيف]
هذه عشرة تقضّت
وعندي
|
|
من أليم البعاد
شوق شديد
|
__________________
وإذا ما رأيت
إطفاء شوقي
|
|
بالتلاقي فذاك
رأي سديد
|
وقال رحمه الله
تعالى وقد أهدى طاقية : [بحر مجزوء الكامل]
خذها إليك هدية
|
|
ممن يعز على
أناسك
|
اخترتها لك عندما
|
|
أضحت هدية كل
ناسك
|
أرسلتها طاقية
|
|
لتنوب في تقبيل
راسك
|
وله من رسالة :
وافى كتابك فوجدناه أزهى من الأزهار ، وأبهى من حسن الحباب على الأنهار. يشرق إشراق نجوم السماء ، ويسمو إلى الأسماع
سمو حباب الماء.
وقال رحمه الله
تعالى في العروض على مذهب الخليل : [بحر الكامل]
خلّ الأنام ولا
تخالط منهم
|
|
أحدا ولو أصفى
إليك ضمائره
|
إن الموفّق من
يكون كأنه
|
|
متقارب فهو
الوحيد بدائره
|
وقال على مذهب
الأخفش : [بحر الكامل]
إن الخلاص من
الأنام لراحة
|
|
لكنه ما نال ذلك
سالك
|
أضحى بدائرة له
متقارب
|
|
يرجو الخلاص
فعاقه متدارك
|
وله : [بحر مخلع
البسيط]
دائرة الحب قد
تناهت
|
|
فما لها في
الهوى مزيد
|
فبحر شوقي بها
طويل
|
|
وبحر دمعي بها
مديد
|
وإنّ وجدي بها
بسيط
|
|
فليفعل الحسن ما
يريد
|
وهذا المعنى
استعمله الشعراء كثيرا ، ومنهم الشيخ شهاب الدين بن صارو البعلي قال أبو جعفر
المترجم له : أنشدنا شهاب الدين المذكور لنفسه بحماة : [بحر السريع]
وبي عروضيّ سريع
الجفا
|
|
يغار غصن البان
من عطفه
|
الورد من وجنته
وافر
|
|
لكنه يمنع من
قطفه
|
قال : وأنشدنا
أيضا لنفسه : [بحر السريع]
__________________
وبي عروضي سريع
الجفا
|
|
وجدي به مثل
جفاه طويل
|
قلت له قطّعت
قلبي أسّى
|
|
فقال لي التقطيع
دأب الخليل
|
وأنشد رحمه الله
تعالى لرفيقه ابن جابر الضرير السابق الترجمة في ذلك : [بحر البسيط]
إن صدّ عني فإني
لا أعاتبه
|
|
فما التنافر في
الغزلان تنقيص
|
شوقي مديد وحبي
كامل أبدا
|
|
لأجل ذلك قلبي
فيه موقوص
|
وأنشدنا في ذلك
أيضا : [بحر الخفيف]
عالم بالعروض
يخبن قلبي
|
|
في مديد الهوى
بلحظ سريع
|
عنده وافر من
الرّدف يبدو
|
|
وخفيف من خصره
المقطوع
|
وله : [بحر الكامل]
سبب خفيف خصرها
، ووراءه
|
|
من ردفها سبب
ثقيل ظاهر
|
لم يجمع النوعان
في تركيبها
|
|
إلا لأن الحسن
فيها وافر
|
وله : [بحر المجتث]
صدوده لي مديد
|
|
وأمر حبي طويل
|
وفيه أسباب حسن
|
|
وتلك عندي
الأصول
|
فخصره لي خفيف
|
|
وردفه لي ثقيل
|
وقد ذكر أبو جعفر
ـ رحمه الله تعالى! ـ لرفيقه ابن جابر السابق الذكر مقطوعات كثيرة ، منها قوله : [بحر
الكامل]
يا أيها الحادي
اسقني كأس السّرى
|
|
نحو الحبيب
ومهجتي للساقي
|
حي العراق على
النوى واحمل إلى
|
|
أهل الحجاز
رسائل العشاق
|
يا حسن ألحان
الحداة إذا جرت
|
|
نغماتها بمسامع
المشتاق
|
وأورده له أيضا : [بحر
الكامل]
يا حسن ليلتنا
التي قد زارني
|
|
فيها فأنجز ما
مضى من وعده
|
__________________
قوّمت شمس جماله
فوجدتها
|
|
في عقرب الصّدع
الذي في خدّه
|
رجع إلى أبي جعفر
ـ رحمه الله تعالى! ـ ومن فوائده أنه لما ذكر فذلكة الحساب فقال : هي التي يضعها أهل الحساب آخر جملهم المتقدمة فيقولون : فذلك كذا كذا ، انتهى.
ولما أنشد رحمه
الله تعالى قول بعضهم : [مجزوء الوافر]
غزال قد غزا
قلبي
|
|
بألحاظ وأحداق
|
له الثلثان من
قلبي
|
|
وثلثا ثلثه
الباقي
|
وثلثا ثلث ما
يبقى
|
|
وباقي الثلث
للساقي
|
وتبقى أسهم ست
|
|
تقسم بين عشاق
|
قال ما نصه : هذا
الشاعر قسم قلبه إلى ٨١ سهما ، فجعل لمحبوبه منها الثلثين ٥٤ ، وبقي الثلث ٢٧ ،
فزاده ثلثيه ١٨ ، فصار له ٧٢. يبقى ثلث الثلث وهو ٩ ، زاده منها ثلثي ثلثها ، وهو
اثنان ، وبقي من الثلث واحد أعطاه للساقي ، فبقي من التسعة ستة ، قسمها بين العشاق
، فاجتمع لمحبوبه ٧٤ ، وللساقي سهم واحد ، وللعشاق ستة ، والجملة ٨١ ، انتهى.
وأنشد رحمه الله
تعالى في علم الحساب لرفيقه ابن جابر السابق الذكر : [بحر الخفيف]
قسم القلب في
الغرام بلحظ
|
|
يضرب القلب حين
يرسل سهمه
|
هذه في هواه يا
قوم حالي
|
|
ضاع قلبي ما بين
ضرب وقسمه
|
وأنشد له في
الهندسة : [بحر الطويل]
محيط بأشكال
الملاحة وجهه
|
|
كأن به أقليدسا
يتحدّث
|
فعارضه خط
استواء ، وخاله
|
|
به نقطة ،
والشكل شكل مثلث
|
وأنشد له في خط
الرمل : [بحر الخفيف]
فوق خديه للعذار
طريق
|
|
قد بدا تحته
بياض وحمره
|
قيل ما ذا فقلت
أشكال حسن
|
|
تقتضي أن أبيع
قلبي بنظره
|
وأنشد له في علم
الخط : [بحر المنسرح]
__________________
قد حقق الحسن
نور حاجبه
|
|
وخطّ في الصّدغ
واو ريحان
|
ومدّ من حسن
قدّه ألفا
|
|
أوقف عيني وقوف
حيران
|
وأنشد له أيضا : [بحر
الكامل]
ألف ابن مقلة في
الكتاب كقدّه
|
|
والنون مثل الصدغ
في التحسين
|
والعين مثل
العين لكن هذه
|
|
شكلت بحسن وقاحة
ومجون
|
وعلى الجبين
لشعره سين بدت
|
|
حار ابن مقلة
عند تلك السين
|
قل للذي قد خط
تحت الصدغ من
|
|
خيلانه نقطا
لجلب فنون
|
يا للرجال ويا
لها من فتنة
|
|
في وضع ذاك
النقط تحت النون
|
وأورد له في ذكر
الأقلام السبعة وغيرها : [بحر البسيط]
تعليق ردفك
بالخصر الخفيف له
|
|
ثلث الجمال وقد
وفّته أجفان
|
خد عليه رقاع
الروض قد جعلت
|
|
وفي حواشيه
للصدغين ريحان
|
خطّ الشباب
بطومار العذار به
|
|
سطرا ففضّاحه
للناس فتان
|
محقق نسخ صبري عن
هواه ومن
|
|
توقيع مدمعي
المنثور برهان
|
يا حسن ما قلم
الأشعار خطّ على
|
|
ذاك الجبين فلا
يسلوه إنسان
|
أقسمت بالمصحف
الشامي وأحرفه
|
|
ما مر بالبال
يوما عنك سلوان
|
ولا غبار على
حبي فعندك لي
|
|
حساب شوق له في
القلب ديوان
|
وأنشد له : [بحر السريع]
يا صاحب المال ألم
تستمع
|
|
لقوله ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ)
|
فاعمل به خيرا
فو الله ما
|
|
يبقى ولا أنت به
مخلد
|
وله : [بحر الكامل]
إن شئت أن تجد
العدوّ وقد غدا
|
|
لك صاحبا يولي
الجميل ويحسن
|
فاعمل كما قال
الخبير بخلقه
|
|
في قوله (ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
|
__________________
وله : [بحر
المتقارب]
إذا شئت رزقا
بلا حسبة
|
|
فلذ بالتقى
واتبع سبله
|
وتصديق ذلك في
قوله
|
|
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ)
|
وأورد له أيضا : [بحر
الرمل]
عمل إن لم يوافق
نية
|
|
فهو غرس لا يرى
منه ثمر
|
«إنما الأعمال بالنيات» قد
|
|
نصّه عن سيد
الخلق عمر
|
وقوله : [بحر
الكامل]
الخير في أشياء
عن خير الورى
|
|
وردت فأبدت كل
نهج بيّن
|
دع ما يريبك ،
واعملنّ بنية ،
|
|
وازهد ولا تغضب
، وخلقك حسّن
|
وقوله : [بحر
الوافر]
حياء المرء
يزجره فيخشى
|
|
فخف من لا يكون
له حياء
|
فقد قال الرسول
بأن مما
|
|
به نطق الكرام
الأنبياء
|
إذا ما أنت لم
تستحي فاصنع
|
|
كما تختار وافعل
ما تشاء
|
وقوله : [مخلع
البسيط]
قال الرسول «الحياء
خير»
|
|
فاصحب من الناس
ذا حياء
|
وعن قليل الحياء
فابعد
|
|
فخيره ليس ذا
رجاء
|
وقوله : [بحر
المنسرح]
من سلم المسلمون
كلهم
|
|
وآمنوا من لسانه
ويده
|
فذلك المسلم
الحقيق ، بذا
|
|
جاء حديث لا شك
في سنده
|
ولابن جابر مما
كتب به إلى الصلاح الصّفدي : [بحر البسيط]
إن البراعة لفظ
أنت مغناه
|
|
وكل شيء بديع
أنت معناه
|
إنشاد نظمك أشهى
عند سامعه
|
|
من نظم غيرك لو
إسحاق غنّاه
|
__________________
وهو طويلة ،
فأجابه الصفدي بقوله : [بحر البسيط]
يا فاضلا كرمت
فينا سجاياه
|
|
وخصّنا بالآلي
في هداياه
|
خصصتني بقريض
شفّ جوهره
|
|
لما تألق منه
نور معناه
|
من كل بيت
مبانيه مشيدة
|
|
كم من خبايا
معان في زواياه
|
وهي طويلة.
رجع إلى نظم أبي
جعفر ـ فمن ذلك قوله : [بحر الطويل]
تريك قدا على
ردف تجاذبه
|
|
كخوطة في كثيب
الرمل قد نبتت
|
ريّا القرنفل في
ريح الصبا سحرا
|
|
يضوع منها إذا
نحوي قد التفتت
|
عقد بهما ألفاظ
قول امرئ القيس : [بحر البسيط]
إذا التفتت نحوي
تضوّع ريحها
|
|
نسيم الصبا جاءت
بريا القرنفل
|
وأورد له قوله : [بحر
الطويل]
ولو لا نجاء
العيس حول ديارها
|
|
غداة منّى لم
يبق في الركب محرم
|
ففوق ذرى
المتنين برد مهلل
|
|
وتحت رداء الخز
وجه معلم
|
عقد في الأول قول
قيس بن الخطيم : [بحر الطويل]
ديار التي كنا
ونحن على منّى
|
|
تحوط بنا لو لا
نجاء الركائب
|
وعقد في الثاني
قول ابن أخي ربيعة : [بحر الطويل]
أماطت رداء الخز
عن حرّ وجهها
|
|
وأرخت على
المتنين بردا مهللا
|
وأورد له قوله : [بحر
البسيط]
إن ادعى لك
مروان الجلال فقل
|
|
لا يجهل المرء
بين الناس رتبته
|
__________________
إن الجلالة حقا
للمقول له
|
|
«هذا الذي تعرف البطحاء وطأته»
|
وقوله : [بحر
السريع]
من منصفي يا قوم
من ظبية
|
|
تسرف في هجري
وتأبى الوصال
|
وكلما أسأل عن
عذرها
|
|
تقول لي : ما كل
عذر يقال
|
وقوله : [بحر
الوافر]
هم حسدوا الرسول
فلم يجيبوا
|
|
وكم حسدوا فصار
لهم فرار
|
وهاجر عند ما
هجروا فأضحى
|
|
لخيمة أم معبد
الفخار
|
وقوله : [بحر
الوافر]
بحسبك أن تبيت
على رجاء
|
|
ولو حطّتك لليأس
الخطوب
|
ومهما أقربتك
صروف دهر
|
|
فقل ما قاله
الرجل الأريب
|
(عسى الكرب الذي أمسيت فيه
|
|
يكون وراءه فرج
قريب)
|
وقوله : [بحر
الطويل]
خليليّ هذا قبر
أشرف مرسل
|
|
(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)
|
رويدكما نبكي
الذنوب التي خلت
|
|
(بسقط اللوى بين الدخول فحومل)
|
منازل كانت
للتصابي فأقفرت
|
|
(لما نسجتها من جنوب وشمأل)
|
قال : ثم جرى على
هذا النمط ، واستخرج الدرر النفيسة من ذلك السّفط ، وقال قبله : إنه أخذ أعجاز هذه
القصيدة من أولها إلى آخرها على التوالي ، وصنع لها صدورا ، وصرفها إلى مدح النبي
صلى الله عليه وسلم ، فجاء في ذلك بما لم يسبق إليه ، ولم يقف أحد في تلك المعاني
على ما وقف عليه ، انتهى.
__________________
وقوله : [بحر
الخفيف]
كم ليال خلت بكم
كاللآلي
|
|
نظمتها لنا يد
الأزمان
|
أيها النازحون
عن رأي عيني
|
|
وهم في جوانحي
وجناني
|
ما ألذّ الوصال
بعد التنائي
|
|
وأمر الفراق بعد
التداني
|
قد وكلنا كم لرب
كريم
|
|
غير وان عن عبده
في أوان
|
ما رحلنا عن
اختيار ولكن
|
|
رحلتنا تلوّنات
الزمان
|
وقوله : [بحر
الخفيف]
تشتكي الصفر من
يديه وترضى السم
|
|
ر عن راحتيه عند
الحروب
|
أحمر السيف أخضر
السيب حيث الأر
|
|
ض غبراء من سواد
الخطوب
|
وقوله مما التزم
في أوله الدال : [بحر الطويل]
دفاع لمكروه ،
أمان لخائف
|
|
سحاب لمستجد ،
هلاك لمستعدي
|
دروب على الحسنى
، عفوّ لمن جنى
|
|
مثيب لمن أثنى ،
مجيب لذي قصد
|
دع الغيث إن
أعطى ، دع الليث إن سطا
|
|
دع الروض إذ
يهدي ، دع البدر إذ يهدي
|
وقوله : [بحر
الوافر]
غزال ما توسّد
ظلّ بان
|
|
بهاجرة ولا عرف
الظلالا
|
تبسم لؤلؤا ، واهتز
غصنا
|
|
وأعرض شادنا ،
وبدا هلالا
|
وقوله : [بحر
الخفيف]
رفع الخصر فوق
منصوب ردف
|
|
ولجزم القلوب
فرعيه جرّا
|
مال غصنا ، دنا
رشا ، فاح مسكا
|
|
تاه درا ، أرخى
دجى ، لاح بدرا
|
وقوله حين زار قبر
قسّ بن ساعدة بجبل سمعان : [بحر مجزوء الكامل]
__________________
هذي منازل ذي
العلا
|
|
قسّ بن ساعدة
الإيادي
|
كم عاش في
الدنيا وكم
|
|
أسدى إلينا من
أيادي
|
قد زانها بحلى
البلا
|
|
غة مفصحا في كل
نادي
|
قد قرّ في بطن
الثرى
|
|
متفرّدا بين
العباد
|
قال أبو جعفر :
زرنا قبره فرأينا موضعا ترتاح إليه النفس ، ويلوح عليه الأنس ، وعند قبره عين ماء
يقال : إنه ليس بجبل سمعان عين تجري غيرها هنالك ، وأورد له قوله : [بحر الطويل]
كرام فخام من
ذؤابة هاشم
|
|
يقولون للأضياف
أهلا ومرحبا
|
فيفعل في فقر
المقلّين جودهم
|
|
كفعل عليّ يوم
حارب مرحبا
|
رجع إلى أبي جعفر
رحمه الله تعالى ـ فنقول : إنه كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم سنة ٧٥٥ ،
ولما ذكر الروضة قال : قيل : ولا تكون الروضة إلا بما سقتها ، أزال جنبها ، ولا يقال في موضع الشجر روضة ، انتهى ، وقال : [بحر
مجزوء الكامل]
لقوامه الألف
التي
|
|
جاءت بحسن ما
ألف
|
عانقته فكأنني
|
|
لام معانقة
الألف
|
وقال رحمه الله
تعالى معتذرا عمن لم يسلم : [بحر البسيط]
لا تعتبن على
ترك السلام فقد
|
|
جاءتك أحرفه
كتبا بلا قلم
|
فالسين من طرّتي
واللام مع ألف
|
|
من عارضيّ وهذا
الميم ميم فمي
|
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر المجتث]
لا يقنطنّك ذنب
|
|
قد كان منك عظيم
|
فالله قد قال
قولا
|
|
وهو الجواد
الكريم
|
__________________
نبّىء عبادي أني
|
|
أنا الغفور
الرحيم
|
وقال : [بحر
المتقارب]
إذا ظلم المرء
فاصبر له
|
|
فبالقرب يقطع
منه الوتين
|
فقد قال ربك وهو
القوي
|
|
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ)
|
ومن نثره لما ذكر
قصيدة كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه ما نصه : وهذه القصيدة لها الشرف الراسخ ،
والحكم الذي لم يوجد له ناسخ ، أنشدها كعب في مسجد المصطفى بحضرته وحضرة أصحابه ،
وتوسّل بها فوصل إلى العفو عن عقابه ، فسدّ صلى الله عليه وسلم خلّته ، وخلع عليه حلّته ، وكف عنه كفّ من أراده ، وأبلغه في
نفسه وأهله مراده ، وذلك بعد إهدار دمه ، وما سبق من هذر كلمه ، فمحت حسناتها تلك الذنوب ، وسترت محاسنها وجه تلك العيوب
، ولولاها لمنع المدح والغزل ، وقطع من أخذ الجوائز على الشعر الأمل ، فهي حجة
الشعراء فيما سلكوه ، وملاك أمرهم فيما ملكوه ، حدثني بعض شيوخنا بالإسكندرية
بإسناده أن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب ، فقيل له في ذلك ،
فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قصيدة كعب
أنشدها بين يديك؟ فقال : نعم ، وأنا أحبها وأحب من يحبها ، قال : فعاهدت الله أني لا أخلو من قراءتها كل يوم.
قلت : ولم تزل
الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها ، ويقتدون بأقوالها ، تبركا بمن
أنشدت بين يديه ، ونسب مدحها إليه ، ولما صنع القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر
قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم على وزن «بانت سعاد» قال : [بحر الطويل]
لقد قال كعب في
النبيّ قصيدة
|
|
وقلنا عسى في
مدحه نتشارك
|
فإن شملتنا
بالجوائز رحمة
|
|
كرحمة كعب فهو
كعب مبارك
|
انتهى.
وقال رحمه الله
تعالى : [بحر الوافر]
لقد كر العذار
بوجنتيه
|
|
كما كر الظلام
على النهار
|
فغابت شمس وجنته
وجاءت
|
|
على مهل عشيّات
العذار
|
__________________
فقلت لناظري لما
رآها
|
|
وقد خلط السواد
بالاحمرار
|
(تمتع من شميم عرار نجد
|
|
فما بعد العشية
من عرار)
|
وقال : [بحر
الكامل]
قالوا عشقت وقد
أضرّ بك الهوى
|
|
فأجبتهم يا
ليتني لم أعشق
|
قالوا سبقت إلى
محبة حسنه
|
|
فأجبتهم ما فاز
من لم يسبق
|
ولما أنشد رحمه الله تعالى قول ابن الخشاب في المستضيء بالله : [بحر
الكامل]
ورد الورى سلسال
جودك فارتووا
|
|
ووقفت دون الورد
وقفة حائم
|
ظمآن أطلب خفة
من زحمة
|
|
والورد لا يزداد
غير تزاحم
|
قال ما نصه :
فانظر حسن هذين البيتين كيف جريا كالماء في سلاسته ، ووقعا من القلوب كالشهد في
حلاوته ، مع أن ناظمهما ما خرج عن وصف الماء كلامه ، ولا تعدى ذلك المعنى نظامه ،
حتى قيل : إن فيهما عشرة مواضع من مراعاة النظير ، فهما في الحسن ما لهما من نظير
، لكنه ما سلم مليح من عيب ، ولا خلا من وقوع ريب ، فمع هذه المحاسن الوافية ، ما
سلما من عيب القافية ، انتهى.
ولنختم ترجمته
بقوله عند شرح بيت رفيقه : [بحر البسيط]
خير الليالي
ليالي الخير في إضم
|
|
والقوم قد بلغوا
أقصى مرادهم
|
ما نصه : يقول :
إن خير الليالي التي تنشرح لها الصدور ، ويحمد فيها الورود والصدور ، ليالي الخير
في إضم ، حيث النزيل لم يضم ، والقوم قد وردوا موارد الكرم ، وبلغوا أقصى مرادهم
في ذلك الحرم.
٣٠٤ ـ ومن الراحلين الوليّ الصالح أبو
مروان عبد الملك بن إبراهيم بن بشر ، القيسي.
وهو ابن أخت ابن صاحب
الصلاة البجانسي ، نسبة إلى بجانس قرية من قرى وادي آش ، وكان ـ رحمه الله تعالى!
ـ في أواسط المائة السابعة ، وقد ذكره الفقيه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن يحيى
الأزدي الفشتالي في تأليفه الذي سماه «تحفة المغرب ، ببلاد المغرب» وقال فيه :
راضوا نفوسهم لتنقاد للمولى سرا وعلنا ، وزهدوا في الدنيا فلم يقولوا معنا ولا لنا
، وانتدبوا لقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)) [العنكبوت : ٦٩].
__________________
وقال صاحب التأليف
المذكور : سألت الشيخ أبا مروان يوما في مسيري معه من وادي آش إلى بلده بجانس سنة
تسع وأربعين وستمائة ، فقلت له : أنت يا سيدي لم تكن قرأت ولا لازمت المشايخ قبل
سفرك للمشرق ، ولا سافرت مع عالم تقتدي ببركته في هذا الطريق ، فقال لي : أقام
الله تعالى لي من باطني شيخا ، قلت له : كيف؟ قال : كنت إذا عرض لي أمر
نظرت في خاطري فيخطر لي خاطران في ذلك ، أحدهما محمود والآخر مذموم ، فكنت أجتنب
المذموم وأرتكب المحمود ، فإذا وصلت إلى أقرب بلد سألت عمن فيه من المشايخ
والعلماء ، فأسأله عن ذلك ، فكان يذكر لي المحمود محمودا والمذموم مذموما ، فأحمد
الله تعالى أن وفقني ، ومع تتابع ذلك واتصاله دون مخالفة لم أعتمد على ما يقع
بخاطري من الأمور الشرعية إلى الآن حتى أسأل عنه من حضر من العلماء ، انتهى.
ومن كلام صاحب
التأليف المذكور قوله في حق الصوفية ، نفعنا الله تعالى بهم : حموا طريق الحق
فحاماهم ، ونوّر بصائرهم فأصمهم عن الباطل وأعماهم ، وأهانوا في رضاه نفوسهم ،
ورفضوا نعماهم ، فأعلى قدرهم عنده وعند الناس وأسماهم ، انتهى.
وما أحسن قوله في
التأليف المذكور : يا هذا ، من حافظ حوفظ عليه ، ومن طلب الخير بصدق وصل إليه ،
ومن أخلص العبودية لربه قام الأحرار خدمة بين يديه ، انتهى.
٣٠٥ ـ ومنهم الطبيب الماهر الشهير ضياء
الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار ، المالقي ، نزيل القاهرة .
وهو الذي عناه ابن
سعيد في كتابه «المغرب» بقوله : وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر
كتابا في هذا الشأن حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب
الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها ، وضبطه على حروف
المعجم ، وهو النهاية في مقصده.
وقد ذكرت كلام ابن
سعيد هذا بجملته في غير هذا الموضع ، فليراجع.
وكان ابن البيطار
أوحد زمانه في معرفة النباتات ، سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم والمغرب ،
واجتمع بجماعة كثيرة من الذين يعانون هذا الفن ، وعاين منابته وتحققها ،
__________________
وعاد بعد أسفاره ،
وخدم الكامل بن العادل ، وكان يعتمد عليه في الأدوية والحشائش ، وجعله في الديار
المصرية رئيسا على سائر العشّابين وأصحاب البسطات ، ومن بعده خدم ولده الصالح ، وكان حظيا عنده ، إلى أن توفي بشعبان سنة ٦٤٦ التي توفي
بها ابن الحاجب ، وله من المصنفات كتاب «الجامع في الأدوية المفردة» وكتاب «المغني»
أيضا في الأدوية ، وكتاب «الإبانة والإعلام ، بما في المنهاج من الخلل والأوهام»
وكتاب «الأفعال العجيبة ، والخواص الغريبة» وشرح كتاب ديسقوريدوس ، قال الذهبي :
انتهت إليه معرفة تحقيق النبات وصفاته ، وأماكنه ومنافعه ، وتوفي بدمشق ، انتهى.
٣٠٦ ـ ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن
محمد بن محمد بن علي ، القرشي ، البسطي ، الشهير بالقلصادي ـ بفتحات ـ كما قال السخاوي
الصالح ، الرحلة ،
المؤلف ، الفرضي ، آخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس ، وأكثر تصانيفه في
الحساب والفرائض ، كشرحيه العجيبين على تلخيص ابن البناء والحوفي ، وكفاه فخرا أن
الإمام السنوسي صاحب العقائد أخذ عنه جملة من الفرائض والحساب ، وأجازه جميع
مروياته ، وأصله من بسطة ، ثم انتقل إلى غرناطة ، فاستوطنها ، وأخذ بها عن جماعة
كابن فتوح والسرقسطي وغيرهما ، ثم ارتحل إلى المشرق ومر بتلمسان فأخذ بها عن
الإمام عالم الدنيا ابن مرزوق والقاضي أبي الفضل قاسم العقباني وأبي العباس بن زاغ
وغيرهم ، ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة كابن عقاب والقلشاني وحلول وغيرهم ،
ثم حج ولقي أعلاما ، وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل ، فتحيل في خلاصه
من الشرك وارتحل ، ومر بتلمسان فنزل بها على الكفيف ابن مرزوق ابن شيخه ، ثم جدت
به الرحلة إلى أن وافته منيته بباجة إفريقية منتصف ذي الحجة سنة ٨٩١ ، وكان كثير
المواظبة على الدرس والكتابة والتأليف ، ومن تآليفه «أشرف المسالك ، إلى مذهب مالك»
وشرح مختصر خليل ، وشرح الرسالة ، وشرح التلقين و «هداية الأنام ، في شرح مختصر
قواعد الإسلام» وهو شرح مفيد ، وشرح رجز القرطبي ، و «تنبيه الإنسان ، إلى علم
الميزان» و «المدخل الضروري» وشرح إيساغوجي في المنطق ، وله شرح الأنوار السنية
لابن جزى ، وشرح رجز الشراز في الفرائض الذي أوله : [بحر الرجز]
__________________
بحمد خير
الوارثين أبتدي
|
|
وبالسراج
النبويّ أهتدي
|
وشرح حكم ابن عطاء
الله ، ورجز أبي عمرو بن منظور في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، وشرح البردة ،
ورجز ابن بري ، ورجز شيخه أبي إسحاق بن فتوح في النجوم الذي أوله : [بحر الرجز]
سبحان رافع السماء
سقفا
|
|
ناصبها دلالة لا
تخفى
|
وشرح رجز أبي
مقرعة ، وله «النصيحة ، في السياسة العامة والخاصة» و «هداية النظّار ، في تحفة
الأحكام والأسرار» و «كشف الجلباب ، عن علم الحساب» و «كشف الأسرار ، عن علم
الغبار» و «التبصرة» و «قانون الحساب» في قدر التلخيص ، وشرحه ، وشرحان على
التلخيص كبير وصغير ، وشرح ابن الياسمين في الجبر والمقابلة ، ومختصره ، وكليات
الفرائض ، وشرحها ، وشرحان للتلمسانية كبير وصغير ، وشرح فرائض صالح بن شريف وابن
الشاط وفرائض مختصر خليل والتلقين وابن الحاجب ، وله كتاب «الغنية ، في الفرائض» و
«غنية النحاة» ، وشرحاها الكبير والصغير ، و «تقريب المواريث» و «منتهى العقول
البواحث» وشرح مختصر العقباني ، ولم يتم ، و «مدخل الطالبين» ومختصر مفيد في النحو
، شرح رجز ابن مالك ، والجرومية ، وجمل الزجاجي ، وملحة الحريري ، والخزرجية ، ومختصر في العروض ، وغير ذلك ، وأخذ بمصر عن
الحافظ ابن حجر والزين طاهر النويري وأبي القاسم النويري والعلامة الجلال المحلّي
والتقى الشمني وأبي الفتح المراغي وغيرهم ، حسبما ذكر ذلك في رحلته الشهيرة ، وهي
حاوية لشيوخه بالمغرب والمشرق وجملة من أحوالهم ، رحم الله تعالى الجميع!.
٣٠٧ ـ ومنهم أبو عبد الله الراعي ، وهو
شمس الدين محمد بن إسماعيل ، الأندلسي ، الغرناطي .
ولد بها سنة ٧٨٢
تقريبا ، ونشأ بها ، وأخذ الفقه والأصول والعربية عن جماعة منهم أبو جعفر أحمد بن
إدريس بن سعيد الأندلسي ، وسمع على أبي بكر عبد الله بن محمد بن محمد المعافري بن
الدب ، ويعرف بابن أبي عامر ، والخطيب أبي عبد الله محمد بن علي بن الحفار ومحمد
بن عبد الملك بن علي القيسي المنتوري ، صاحب الفهرسة الكبيرة الشهيرة ، ومما أخذ
__________________
عنه الجرومية
بأخذه لها عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجذامي عن القاضي أبي عبد
الله محمد بن إبراهيم الحضرمي عن مؤلفها أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود
الصنهاجي عرف بابن آجروم ، وجميع «خلاصة الباحثين ، في حصر حال الوارثين» للقاضي
أبي بكر عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري بأخذه لها عن مؤلفها ، وأجاز له أبو
الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي ، والقاضي أبو الفضل قاسم بن سعيد
العقباني ، والعلامة أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الإمام ، وعالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني ،
وغيرهم من المغاربة ، ومن أشياخه من أهل المشرق الكمال بن خير السكندري ، والزين
أبو بكر المراغي ، والزين محمد الطبري ، وأبو إسحاق إبراهيم بن العفيف النابلسي ،
في آخرين ، ودخل القاهرة سنة ٨٢٥ فحج واستوطنها ، وسمع بها من الشهاب المتبولي
وابن الجزري والحافظ ابن حجر وطائفة ، وأمّ بالمؤيدية وقتا ، وتصدى للاشتغال ،
فانتفع به الناس طبقة بعد أخرى ، لا سيما في العربية ، بل هي كانت فنه الذي اشتهر
به وبجودة الإرشاد لها ، وشرح كلا من الجرومية والألفية والقواعد وغيرها مما حمله
عنه الفضلاء ، وله نظم وسط ، قال السخاوي : كتبت عنه منه الكثير ، ومما لم أسمعه
منه ما أودعه في مقدمة كتاب صنفه في نصرة مذهبه وأثبته دفعا لشيء نسب إليه ، فقال
: [بحر الطويل]
عليك بتقوى الله
ما شئت واتّبع
|
|
أئمة دين الحق
تهدى وتسعد
|
فمالكهم
والشافعي وأحمد
|
|
ونعمانهم كل إلى
الخير يرشد
|
فتابع لمن أحببت
منهم ولا تمل
|
|
لذي الجهل
والتعصيب إن شئت تحمد
|
فكل سواء في
وجيبة الاقتدا
|
|
متابعهم جنات
عدن يخلد
|
وحبهم دين يزين
وبغضهم
|
|
خروج عن الإسلام
والحق يبعد
|
فلعنة رب العرش
والخلق كلهم
|
|
على من قلاهم
والتعصب يقصد
|
وكان حادّ اللسان
والخلق ، شديد النفرة من الشيخ يحيى العجيسي ، أضر بأخرة ، ومات بسكنه بالصالحية
يوم الثلاثاء ٢٧ ذي الحجة سنة ٨٥٣ ، بعد أن أنشد قبيل موته بشهر في حال صحته الشيخ
جمال الدين بن الأمانة من نظمه قوله : [بحر الطويل]
__________________
أفكر في موتي
وبعد فضيحتي
|
|
فيحزن قلبي من
عظيم خطيئتي
|
وتبكي دما عيني
وحقّ لها البكا
|
|
على سوء أفعالي
وقلة حيلتي
|
وقد ذابت اكبادي
عناء وحسرة
|
|
على بعد أوطاني
وفقد أحبتي
|
فما لي إلا الله
أرجوه دائما
|
|
ولا سيما عند
اقتراب منيّتي
|
فنسأل ربي في
وفاتي مؤمنا
|
|
بجاه رسول الله
خير البرية
|
قال السخاوي :
ومما كتبته عنه : [بحر الكامل]
ألفيته حول
المعلم باكيا
|
|
ودموعه قد صاغها
من كوثر
|
نثر الدموع على
الخدود فخلتها
|
|
درا تناثر في
عقيق أحمر
|
وقوله : [بحر
المتقارب]
عليك بنعمة رب
العلا
|
|
وراع الملوك
لرعي الذمم
|
وذو العلم فارع
له حقّه
|
|
وإلا تفارق وتلق
الندم
|
فهذا مقالي
فلتسمعوا
|
|
نصيحة حبر من
اهل الحكم
|
إذا كنت في نعمة
فارعها
|
|
فإن المعاصي
تزيل النعم
|
وقال : [بحر
الكامل]
للغرب فضل شائع
لا يجهل
|
|
ولأهله شرف ودين
يكمل
|
ظهرت به أعلام
حقّ حقّقت
|
|
ما قاله خير الأنام المرسل
|
من أنهم حتى
القيامة لن يزا
|
|
لوا ظاهرين على
الهدى لن يخذلوا
|
وممن حدث عن الراعي
الحافظ ابن فهد والبرهان البقاعي ، ومن تأليفه «شرح القواعد» وكتاب «انتصار
الفقير السالك ، لمذهب الإمام الكبير مالك» في كراريس أربعة حسن في موضوعة ، وله «النوازل
النحوية» في عشرة كراريس أو أكثر وفيها فوائد حسنة وأبحاث رائقة ، تكلم معه في
بعضها أبو عبد الله بن العباس التلمساني.
وذكر بعضهم أنه
اختصر شرح شيخه ابن مرزوق على مختصر الشيخ خليل من باب القضاء إلى آخر الكتاب ،
انتهى.
__________________
وجرت له في صغره
حكاية دلت على نبله ، وهي أنه دخل على الطلبة رجل وهم بجامع غرناطة فسألهم عمن كان
وراء إمام ، فحدث للإمام عذر ذهب لأجله ، مثل الرعاف مثلا ، فصلوا بعض الصلاة
لأنفسهم ، ثم اقتدوا بإمام منهم قدموه فيما بقي ، فهل تصح صلاتهم أم لا؟ فلم يكن
عند أحد من الحاضرين فيها علم ، فقال هو : إن الصلاة باطلة ، لأن النحاة يقولون :
الإتباع بعد القطع لا يجوز.
وقد حكى ذلك في
شرحه للجروميّة الذي سماه بعنوان الإفادة في باب النعت إذ قال ما نصه : كنت جالسا
بمسجد قيسارية غرناطة أنتظر سيدنا وشيخنا أبا الحسن علي بن سمعة رحمه الله تعالى
مع جماعة من كبار طلبته ، وكنت إذ ذاك أصغرهم سنا وأقلهم علما ، فدخل سائل سأل عن
مسألة فقهية نصها : إن إماما صلى بجماعة جزءا من صلاة ، ثم غلب عليه الحدث ، فخرج
ولم يستخلف عليهم ، فقام كل واحد من الجماعة وصلى وحده جزءا من الصلاة ، ثم
بعد ذلك استخلفوا من أتم بهم الصلاة ، فهل تصح تلك الصلاة أم لا؟ فلم يكن فيها
عند الحاضرين جواب ، فقلت : أنا أجاوب فيها بجواب نحوي ، فقال : هات الجواب ، فقلت
: هذا إتباع بعد القطع ، وهو ممتنع عند النحويين ، فصلاة هؤلاء باطلة ، فاستظرفها
مني من حضر لصغر سني ، ثم طلبنا النص فيها فلم نلقه في ذلك التاريخ ، ولو لقيناه
لكان حسنا ، انتهى.
ومن ألغازه قوله :
[بحر الرجز]
حاجيتكم نحاتنا
المصرية
|
|
أولي الذكا
والعلم والطعميه
|
ما كلمات أربع
نحويه
|
|
جمعن في حرفين
للأحجيه
|
يعني فعل الأمر
للواحد من «وأى يئي» إذا أضمر ، فإنك تقول فيه : إيا زيد على حرف واحد ، وهو
الهمزة المقطوعة ، فإذا قلت «قل إ» ونقلت حركته على لغة النقل إلى الساكن صار هكذا
«قل» فذهب فعل الأمر وفاعله ، فهي كلمات أربع فعلا أمر وفاعلاهما جمعن في حرفين
القاف واللام ، فافهم.
وأحسن من هذا قوله
ملغزا في ذلك أيضا : [بحر الرجز]
في أي لفظ يا
نحاة الملة
|
|
حركة قامت مقام
الجملة
|
__________________
وبالجملة فمحاسنه
كثيرة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه!.
ومن فوائده قوله :
حكى لي بعض علماء المالكية قال : كنا نقرأ المدوّنة على الشيخ سراج الدين البلقيني
الشافعي ، فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي فقال الشيخ في مسألة «مذهبنا كذا»
في مسألة لم يقل فيها الشافعي بما قال ، وإنما نسبها البلقيني لنفسه ، ثم فطن وخاف
أن ينتقد عليه المالكية ويقولون له : أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي ، فقال :
فإن قلتم يا مالكية لسنا بمالكية ، وإنما أنتم شافعية ، قلنا : كذلك أنتم قاسمية ،
وقد اجتمعنا الكل في مالك ، قال : وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ.
قال : ولما قرىء
عليه كتاب «الشفاء» مدحه وأثنى عليه إلى الغاية ، وكان يحضره جماعة من المالكية
فقال القاضي جمال الدين ابنه : ما لكم يا مالكية لا تكونون مثل القاضي عياض؟
فقال له أبوه
الشيخ سراج الدين المذكور : وما لك لا تقول للشافعية ما لكم يا شافعية لا تكونون
مثل القاضي عياض؟.
ومن فوائد الراعي
في باب العلم من شرحه على الألفية : في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل
فقير ، لا يزال جائعا ، وهو من دأب الصالحين ، ولا يكون له موضع يعرف به ، وذلك من
علامة المتوكلين ، ولا ينام من الليل إلا القليل ، وذلك من صفات المحبين ، وإذا
مات لا يكون له ميراث ، وذلك من أخلاق الزاهدين ، ولا يهجر صاحبه وإن جفاه وطرده ،
وذلك من شيم المريدين ، ويرضى من الدنيا بأدنى يسير ، وذلك من إشارة القانعين ،
وإذا غلب عن مكانه تركه وانصرف إلى غيره ، وذلك من علامة المتواضعين ، وإذا ضرب
وطرد ثم دعي أجاب ، وذلك من أخلاق الخاشعين ، وإذا حضر شيء من الأكل وقف ينظر من
بعيد ، وذلك من أخلاق المساكين ، وإذا رحل لم يرحل معه بشيء ، وذلك من علامة المتجردين ، انتهى بمعناه.
وقد نسبه للحسن
البصري رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنه.
ومن تصانيفه رحمه
الله تعالى كتاب «الفتح المنير ، في بعض ما يحتاج إليه الفقير» في غاية الإفادة ،
ملكته بالمغرب ولم أره بهذه البلاد المشرقية ، وحفظت منه فوائد ممتعة.
ومن الراحلين من
الأندلس إلى المشرق بعد أخذ جميع بلاد الأندلس ـ أعادها
__________________
الله تعالى! ـ قاضي
الجماعة بغرناطة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الأزرق.
قال السخاوي : إنه
لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد بن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق ،
بحيث كان جل انتفاعه به ، وحضر مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السّرقسطي العالم
الزاهد مفتيها أيضا في الفقه ، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني ،
والشهاب قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس أحمد بن أبي يحيى بن شرف التلمساني ، انتهى.
وله رحمه الله تعالى
تآليف : منها «بدائع السلك ، في طبائع الملك» كتاب حسن مفيد في موضوعه ، لخص فيه
كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخه وغيره مع زوائد كثيرة ، ومنها «روضة الأعلام ،
بمنزلة العربية من علوم الإسلام» مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنه مثله
، وقفت عليه بتلمسان وحفظت منه ما أنشده لبعض أهل عصره مما يكتب في سيف : [بحر
البسيط]
إن عمت الأفق من
نقع الوغى سحب
|
|
فشم بها بارقا
من لمع إيماضي
|
وإن نوت حركات
النصر أرض عدى
|
|
فليس للفتح إلا
فعلي الماضي
|
ومن إنشائه في
التأليف المذكور ما صورته : قلت : ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن
أحمد بن فتوح قدّس الله تعالى روحه يفسح لصاحب البحث مجالا رحبا ، ويوسع المراجع
له قبولا ورحبا ، بل يطالب بذلك ويقتضيه ، ويختار طريق التعليم به ويرتضيه ،
وتوقيفا على ما خلص له تحقيقه ، ووضح له في معيار الاختيار تدقيقه ، وإلا فقد كان
ما يلقيه غاية ما يتحصل ، ويتمهد به مختار ما يحفظ ويتأصّل ، انتهى.
وهو يدل على ملكته
في الإنشاء ، ويحقق ما يحصله ، إلا أن ذلك إذا طال حتى وقع الملل والضجر أو كاد
فينبغي الإمساك عن البحث ، لئلا يفضي الحال إلى ما ينهى عنه.
قال : ومخالفة
التلميذ الشيخ في بعض المسائل إذا كان لها وجه وعليها دليل قائم يقبله غير الشيخ
من العلماء ليس من سوء أدب التلميذ مع الشيخ ، ولكن مع ملازمة التوقير الدائم ،
__________________
والإجلال الملائم
، فقد خالف ابن عباس عمر وعليا وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم ، وكان قد أخذ
عنهم ، وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة ، وإنما أخذوا العلم عنهم ، وخالف مالك
كثيرا من أشياخه ، وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكا في كثير من المسائل ،
وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي ، وقال : لا أحد أمنّ عليّ من مالك ، وكاد كل من
أخذ العلم أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل ، ولم يزل ذلك دأب التلاميذ مع
الأساتيذ إلى زماننا هذا ، وقال : وشاهدنا ذلك في أشياخنا مع أشياخهم رحمهم الله
تعالى! قال : ولا ينبغي للشيخ أن يتبرّم من هذه المخالفة إذا كانت على الوجه الذي وصفناه ، والله
تعالى أعلم ، انتهى.
ولما أنشد ابن
الأزرق المذكور في كتابه «روضة الأعلام» قول القائل في مدح ابن عصفور : [الرمل]
نقل النحو إلينا
الدّؤلي
|
|
عن أمير
المؤمنين البطل
|
بدأ النحو عليّ
وكذا
|
|
ختم النحو ابن
عصفور علي
|
قال بعده ما نصه :
على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد بن الأزرق الوادي آشي رحمه
الله تعالى قد قال فيما يدافع ابن عصفور عما اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ
المحقق أبي الحسن بن الضائع عليه ، ولقد أبدع في ذلك ما شاء لما تضمن من
التورية : [بحر الطويل]
بضائعك ابن
الضائع النّدب قد أتت
|
|
بحظ من التحقيق
والعلم موفور
|
فطرت عقابا
كاسرا أو ما ترى
|
|
مطارك قد أعيا
جناح ابن عصفور
|
انتهى.
وقد نقل عن ابن
الأزرق صاحب المعيار في جامعه ، وأثنى عليه غير واحد ، ومن أعظم تآليفه شرحه
الحافل على مختصر خليل المسمى «بشفاء الغليل ، في شرح مختصر خليل» وقد توارد معه
الشيخ ابن غازي على هذه التسمية ، وكان مولانا العم الإمام شيخ الإسلام سيدي
__________________
سعيد بن أحمد
المقري رضي الله تعالى عنه قال لي حين سألته عن هذا التوارد : لعل تسمية ابن
الأزرق «شفاء العليل» بالعين ، قلت : يبعد ذلك أن جماعة من تلامذته الأكابر
كالوادي آشي وغيره كتبوه بخطوطهم بالغين المعجمة ، فبان أنه من توارد الخواطر ،
وأن كلا منهما لم يقف على تسمية الآخر ، والله تعالى أعلم ، وقد رأيت جملة من هذا
الشرح بتلمسان وذلك نحو ثلاث مجلدات ، ولا أدري هل أكمله أم لا ، لأن تقديره بحسب
ما رأيت يكون عشرين مجلدا ، إذ المجلد الأول ما أتم مسائل الصلاة ، ورأيت الخطبة
وحدها في أكثر من كراسة أبان فيها عن علوم ، ولم أر في شروح خليل مع كثرتها مثله ،
ودخل تلمسان لما استولى العدو على بلاد الأندلس ، ثم ارتحل إلى المشرق ، فدخل مصر
، واستنهض عزائم السلطان قايتباي لاسترجاع الأندلس ، فكان كمن يطلب بيض الأنوق ،
أو الأبيض العقوق ، ثم حج ورجع إلى مصر فجدّد الكلام في غرضه ، فدافعوه عن
مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس ، فتولاه بنزاهة وصيانة وطهارة ، ولم تطل مدته
هنالك حتى توفي به بعد سنة خمس وتسعين وثمانمائة ، حسبما ذكره صاحب «الأنس الجليل
، في تاريخ القدس والخليل» فليراجع فإنه طال عهدي به.
ومن بارع نظمه
رحمه الله تعالى قوله في المجبّنات : [بحر مخلع البسيط]
ورب محبوبة تبدت
|
|
كأنها الشمس في
حلاها
|
فأعجب لحال
الأنام من قد
|
|
أحبها منهم
قلاها
|
ومنه قوله رحمه
الله تعالى : [بحر السريع]
عذري في هذا
الدخان الذي
|
|
جاور داري واضح
في البيان
|
قد قلتم إن بها
زخرفا
|
|
ولا يلي الزخرف
إلا الدخان
|
وقوله : [بحر
الطويل]
تأملت من حسن
الربيع نضارة
|
|
وقد غرّدت فوق
الغصون البلابل
|
__________________
حكت في غصون
الدّوح قسّا فصاحة
|
|
لتعلم أن النبت
في الروض باقل
|
وقوله : [بحر
الطويل]
وقائلة صف
للربيع محاسنا
|
|
فقلت وعندي
للكلام بدار
|
همي ببطاح الأرض
صوب من الحيا
|
|
فللنبت في وجه
الزمان عذار
|
وقوله : [بحر
المتقارب]
تعجّبت من يانع
الورد في
|
|
سنى وجنة نبتها
بارض
|
ولم لا يرى
وردها يانعا
|
|
وقد سال من
فوقها العارض
|
وقوله رحمه الله
تعالى عند وفاة والدته : [بحر البسيط]
تقول لي ودموع
العين واكفة
|
|
ما أفظع البيت
والتّرحال يا ولدي
|
فقلت أين السّرى
قالت لرحمة من
|
|
قد عزّ في الملك
لم يولد ولم يلد
|
قال تلميذه الحافظ
ابن داود : مما ألفيته بخط قاضي الجماعة أبي عبد الله بن الأزرق عن علي رضي الله
تعالى عنه : من أراد أن يطوّل الله عمره ، ويظفر بعدوّه ، ويصان من فتن الدنيا ،
ويوسّع عليه باب رزقه ، فليقل هذا التسبيح إذا أصبح ثلاثا ، وإذا أمسى ثلاثا :
سبحان الله ملء الميزان ، ومنتهى العلم ، ومبلغ الرضا ، وعدد النعم ، وزنة العرش ،
والحمد لله ملء الميزان ، ومنتهى العلم ، ومبلغ الرضا ، وعدد النعم ، وزنة العرش ،
وو لا إله إلا الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضا وعدد النعم وزنة العرش ،
والله أكبر ملء الميزان ومنتهى العلم وبلغ الرضا وعدد النعم وزنة العرش ، ولا حول
ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم مثل ذلك ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله مثل
ذلك.
قال : وبخطه أيضا
لنيل الرزق وما يراد : يا باسط ، يا جواد ، يا علي في عرشك ، بحق حقك على جميع
خلقك ، ابسط لي رزقك ، وسخر لي خلقك.
وبخطه أيضا : بسم
الله الرحمن الرحيم الدافع المانع الحافظ الحي القيوم القوي القادر
__________________
الولي الناصر
الغالب الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
وبخطه أيضا : يا
فتاح ، يا عليم ، يا نور ، يا هادي ، يا حق ، يا مبين ، افتح لي فتحا تنّور به
قلبي ، وتشرح به صدري ، واهدني إلى طريق ترضاه ، وبين لي أمري ، وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، انتهى.
وقال رحمه الله
تعالى مورّيا : [بحر الرمل]
من تكن صنعته
الإنشاء لا
|
|
ينكر الرزق
لأقصى العمر
|
ولو استعلى على
السبع الدرا
|
|
ري بما في فمه
من درر
|
فأنا الكاتب لكن
لو يبا
|
|
ع لي العتق لكنت
المشتري
|
هكذا رأيت نسبتها
إليه.
ولنختم ترجمته ـ بل
والباب جميعا ـ بقوله رحمه الله تعالى! ـ عند نزول طاغية النصارى بمرج غرناطة
أعادها الله تعالى للإسلام بجاه النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : [بحر
الطويل]
مشوق بخيمات
الأحبة مولع
|
|
تذكّره نجد
وتغريه لعلع
|
مواضعكم يا
لائمين على الهوى
|
|
فلم يبق
للسّلوان في القلب موضع
|
ومن لي بقلب
تلتظي فيه زفرة
|
|
ومن لي بجفن
تنهمي منه أدمع
|
رويدك فارقب
للطّائف موضعا
|
|
وخلّ الذي من
شره يتوقّع
|
وصبرا فإن الصبر
خير غنيمة
|
|
ويا فوز من قد
كان للصبر يرجع
|
وبت واثقا
باللطف من خير راحم
|
|
فألطافه من لمحة
العين أسرع
|
وإن جاء خطب
فانتظر فرجا له
|
|
فسوف تراه في غد
عنك يرفع
|
وكن راجعا لله
في كل حالة
|
|
فليس لنا ، إلا
إلى الله ، مرجع
|
__________________
الباب السادس
في ذكر بعض
الوافدين على الأندلس من أهل المشرق ، المهتدين في قصدهم إليها بنور الهداية
المضيء المشرق ، والأكابر الذين حلوا بحلولهم فيها الجيد منها والمفرق والمفتخرين برؤية قطرها المونق ، على المشئم والمعرق .
اعلم أنّ الداخلين
للأندلس من المشرق قوم كثيرون لا تحصر الأعيان منهم ، فضلا عن غيرهم ، ومنهم من
اتّخذها وطنا ، وصيّرها سكنا ، إلى أن وافته منيّته ، ومنهم من عاد إلى المشرق بعد
أن قضيت بالأندلس أمنيّته.
١ ـ فمن الداخلين إلى الأندلس المنيذر
الذي يقال إنه صحابي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الأبار في
التكملة : المنيذر الإفريقي ، له صحبة ، وسكن إفريقية ، ودخل الأندلس فيما ذكره
عبد الملك بن حبيب ، قاله أبو محمد الرشاطي ، ولم يذكره أحد غيره ، وروى عنه عبد
الرحمن الحبليّ ، انتهى.
وأنكر غير واحد
دخول أحد من الصحابة الأندلس.
وذكر بعض الحفّاظ
المنيذر المذكور ، وقال : إنه المنيذر اليماني ، وذكر الحجاري أنه من الصحابة
رضوان الله تعالى عليهم ، وأنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير غازيا ، وقال ابن
بشكوال : يقال فيه المنيذر لكونه من أحداث الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وقد حكى
ذلك الرازي ، وذكره ابن عبد البرّ في كتاب «الاستيعاب في الصحابة» وسمّاه بالمنيذر الإفريقي ،
__________________
وقال ابن بشكوال :
إن ابن عبد البرّ روى عنه حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره أبو
علي بن السكن في كتاب الصحابة وقال : روي عنه حديث واحد ، وأرجو أن يكون صحيحا ،
وذكره ابن قانع في معجم الصحابة له ، وذكره البخاري في تاريخه الكبير إذ قال : أبو
المنيذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد حدّث بإفريقية عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال : «من قال رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمّد
صلى الله عليه وسلم نبيّا ، فأنا الزعيم لآخذنّ بيده فأدخله الجنّة» كذا ذكره البخاري بالكنية ،
وهذا الحديث هو الذي رووه عنه لا يعرف له غيره ، وذكره أبو جعفر أحمد بن رشد في
كتاب «مسند الصحابة» له ، فقال : المنيذر اليماني إمّا من مذحج أو غيرها ، وذكر
الحديث سواء ، وقد أشرنا فيما سبق إلى المنيذر هذا.
٢ ـ ومن التابعين
الداخلين الأندلس أميرها موسى بن نصير ، وقد سبق من الكلام عليه ما فيه كفاية.
٣ ـ ومن التابعين
الداخلين الأندلس حنش الصنعاني.
وفي كتاب ابن
بشكوال قال ابن وضاح : حنش لقب له ، واسمه حسين بن عبد الله ، وكنيته أبو علي ،
ويقال : أبو رشدين ، قال ابن بشكوال : وهو من صنعاء الشام. وذكره أبو سعيد بن يونس
في تاريخ أهل مصر وإفريقية والأندلس ، فقال : إنه كان مع علي بن أبي طالب ، رضي
الله تعالى عنه ، وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت ، وغزا الأندلس مع موسى بن
نصير ، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان ، فأتى به عبد الملك
في وثاق فعفا عنه ، وكان أوّل من ولي عشور إفريقية في الإسلام ، وتوفي بإفريقية
سنة مائة.
وذكر ابن يونس عن
حنش أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل أوقد المصباح ، وقرّب
المصحف وإناء فيه ماء ، فإذا وجد النّعاس استنشق الماء ، وإذا تعايا في آية نظر في
المصحف ، وإذا جاء سائل يستطعم لم يزل يصيح بأهله «أطعموا السائل»
حتى يطعم.
قال ابن حبيب :
دخل الأندلس من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني ، وهو الذي أشرف على قرطبة من
الفجّ المسمّى بفج المائدة ، وأذّن ، وذلك في غير وقت الأذان ، فقال
__________________
له أصحابه في ذلك
، فقال : إن هذه الدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلّا أن تقوم الساعة ، هكذا ذكره غير واحد ، وقد كشف الغيب خلاف
ذلك ، فلعلّ الرواية موضوعة أو مؤولة ، والله تعالى أعلم.
وذكره ابن عساكر
في تاريخه ، وطوّل ترجمته ، وقال : إنّ صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام ،
وليست صنعاء اليمن ، وقد قيل : إنه لم يرو عن حنش الشاميون ، وإنما روى عنه
المصريون ، وحدّث حنش عن عبد الله بن عباس أنه قال له : إن استطعت أن تلقى الله
تعالى وسيفك حليته حديد فافعل. وكان عبد الملك بن مروان حين غزا المغرب مع معاوية
بن حديج نزل عليه بإفريقية سنة خمسين ، فحفظ له ذلك ، فعفا عنه حين
أتي به في وثاق حين ثار مع ابن الزبير ، وسئل أبو زرعة عن حنش فقال : ثقة ، ولم
يذكر ابن عساكر أن حنشا لقب له ، وأن اسمه حسين ، بل اقتصر على اسمه حنش ، ولعلّه
الصواب ، لا ما قاله ابن وضاح ، والله تعالى أعلم.
وفي تاريخ ابن
الفرضي أبي الوليد أنّ حنشا كان بسرقسطة ، وأنه الذي أسّس جامعها ، وبها مات ،
وقبره بها معروف عند باب اليهود بغربي المدينة.
وفي تاريخ ابن
بشكوال أنه أخذ أيضا قبلة جامع إلبيرة ، وعدّل وزن قبلة جامع قرطبة الذي هو فخر
الأندلس.
٤ ـ ومن التابعين الداخلين
للأندلس أبو عبد الله علي بن رباح ، اللخمي.
ذكر ابن يونس في
تاريخ مصر أنه ولد سنة خمس عشرة عام اليرموك ، وكان أعور ذهبت عينه يوم ذات
السّواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثلاثين ، وكان يفد لليمانية من
أهل مصر على عبد الملك بن مروان ، وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة ، وهو
الذي زفّ أمّ البنين بنت عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك ، ثم عنت عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية ، فلم يزل بإفريقية إلى أن
توفي بها ، ويقال : كانت وفاته سنة أربع عشرة ومائة. قال ابن بشكوال : أهل مصر
يقولون : علي بن رباح ، بفتح العين ، وأما أهل العراق فعليّ ، بضم العين ، وقد سبق
هذا الكلام عن ابن معين في الباب الثاني. وقال : وقال ابنه موسى بن علي : من قال
لي موسى بن عليّ بالتصغير لم أجعله في حلّ.
__________________
٥ ـ ومن التابعين الداخلين أبو عبد
الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبليّ .
قال ابن بشكوال :
إنه يروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمر ، رضي الله تعالى عنهم وغيرهم ، وروي عنه جماعة. وذكر البخاري في تاريخه الكبير أنه يعدّ
في المصريين ، وذكر ابن يونس في تاريخ المغرب أنه توفي بإفريقية سنة مائة ، وكان
رجلا صالحا فاضلا ، رحمه الله تعالى! ويذكر أهل قرطبة أنه توفي بقرطبة ، وأنه دفن
بقبليّها ، وقبره مشهور يتبرّك له ، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
٦ ـ ومن الداخلين من التابعين حبّان بن
أبي جبلة.
ذكر ابن بشكوال
أنه مولى قريش ، ويكنى أبا النضر ، وذكره أبو العرب محمد بن تميم في تاريخ إفريقية
، وقال : حدّثني فرات بن محمد أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من التابعين يفقّهون
أهل إفريقية منهم حبّان بن أبي جبلة ، روى عن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وابن عمر ، رضي
الله تعالى عنهم! ويقال : توفي بإفريقية سنة اثنتين وعشرين ومائة ، وقيل : سنة خمس
وعشرين ومائة. وذكر ابن الفرضي أنه غزا مع موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى
انتهى إلى حصن من حصونها يقال له قرقشونة فتوفي به. قال : وقال لنا أبو محمد
الثغري : بين قرقشونة وبرشلونة مسافة خمسة وعشرين ميلا ، وفيها الكنيسة المعظّمة
عندهم المسمّاة شنت مرية ، ذكر أنّ فيها سبع سوار فضّة خالصة لم ير الراءون مثلها
لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط ، هكذا نقله ابن سعيد عمّن ذكر ،
والله تعالى أعلم.
٧ ـ ومن الداخلين من التابعين فيما ذكر
: المغيرة بن أبي بردة نشيط بن كنانة العذري.
روى عن أبي هريرة
، رضي الله تعالى عنه ، ويروي عنه مالك في موطّئه ، وذكره البخاري في تاريخه
الكبير ، وفي كتاب الحافظ ابن بشكوال أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير فكان موسى
بن نصير يخرجه على العساكر.
__________________
٨ ـ ومن التابعين حيوة بن رجاء التميمي.
ذكر ابن حبيب أنه
دخل الأندلس مع موسى بن نصير وأصحابه ، وأنه من جملة التابعين ، رضي الله تعالى
عنهم! قاله ابن بشكوال في مجموعه المترجم ب «التنبيه والتعيين ، لمن دخل الأندلس
من التابعين».
قال ابن الأبار :
وقد سمعته من أبي الخطاب بن واجب ، وسمعه هو منه ، انتهى.
وقال ابن الأبار
في موضع آخر ما صورته : رجاء بن حيوة مذكور في الذين دخلوا الأندلس من التابعين ،
وفي ذلك عندي نظر ، وما أراه يصح ، والله تعالى أعلم ، انتهى.
فانظر هذا فإنه
سمّاه رجاء بن حيوة ، وذلك السابق حيوة بن رجاء ، فالله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر
في ذلك.
٩ ـ ومنهم عياض بن عقبة الفهري.
من خيار التابعين
، ذكره ابن حبيب في الأربعة الذين حضروا غنائم الأندلس ، ولم يغلّوا .
١٠ ـ ومنهم عبد الله بن شماسة الفهري.
ذكر ابن بشكوال
أنه مضري ، وأن البخاري ذكره في تاريخه.
١١ ـ ومنهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن
عبد الرحمن بن عوف الزهري.
جدّه عبد الرحمن
أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم ، وهو ممّن ذكره ابن بشكوال في
الأربعة من التابعين الذين لم يغلّوا.
١٢ ـ ومنهم منصور بن خزامة فيما يذكر.
قال ابن بشكوال :
قرأت في كتاب روايات الشيخ أبي عبد الله بن عائد الراوية رحمه الله تعالى قال :
وممّن دخل الأندلس من المعمّرين ما وجدت بخطّ المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن
الناصر ، رضي الله تعالى عنه في بعض كتبه المختزنة أنه قال : طرأ علينا رجل أسود
من ناحية السودان في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، فذكر أنه منصور بن خزامة مولى
__________________
رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وكان يزعم أنه أدرك أيام عثمان بن عفان ، رضي الله تعالى عنه ،
وأنه كان مراهقا ، وكان مع عائشة ، رضي الله تعالى عنها ، يوم الجمل ، وأنه شهد
صفّين ، وأن خزامة أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج عن الأندلس في سنة
ثلاثين وثلاثمائة إلى المغرب ، انتهى.
قلت : هذا كلّه لا
أصل له ، ويرحم الله تعالى حافظ الإسلام ابن حجر حيث كتب على هذا الكلام ما صورته : هذا هذيان لا أصل له ،
ولا يغترّ به ، وكذلك ترجمة أشج العرب اتّفق الحفّاظ على كذبه ، انتهى.
قلت : وما هو إلّا
من نمط عكراش ، والله تعالى يحفظنا من سماع الأباطيل بمنّه.
ومن هذه الأكاذيب
ما يذكرون عن أبي الحسن علي بن عثمان بن خطاب ، وأنه يعرف بأبي الدنيا ، وأنه كان
معمّرا مشهورا بصحبة علي بن أبي طالب ، كرّم الله وجهه ، وأنه رأى جماعة من كبار
الصحابة ، رضي الله تعالى عنهم ، ووصفهم بصفاتهم ، وأنه رأى عائشة ، رضي الله
تعالى عنها ، فيما زعم ، وقدم قرطبة على المستنصر الحكم بن الناصر وهو ولي عهد ،
وسأله أبو بكر بن القوطية عن مغازي علي وكتبها عنه ، وقد ذكره ابن بشكوال وغيره في
كتبهم وتواريخهم ، فقد ذكر الثقات العارفون بالفنّ أنه كذّاب دجّال مائن جاهل ، فإيّاك والاغترار بمثل ذلك ممّا يوجد في كتب كثير
من المؤرّخين بالمشرق والأندلس ، ولا يلتفت إلى قول تميم بن محمد التميمي : إنه
كان إذ لقيه ابن ثلاثمائة سنة وخمس سنين ، قال تميم : واتّصلت بنا وفاته ببلده في
نحو سنة عشرين وثلاثمائة ، وبالجملة فلا أصل له ، وإنما ذكرناه للتنبيه عليه.
وقد عرفت بما
ذكرناه التابعين الداخلين الأندلس ، على أن التحقيق أنهم لم يبلغوا ذلك العدد ،
وإنما هم نحو خمسة أو أربعة كما ألمعنا به في غير هذا الموضع ، والله تعالى أعلم.
١٣ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس مغيث
فاتح قرطبة.
وقد تقدّم بعض
الكلام عليه ، وذكر ابن حيان والحجاري أنه رومي ، زاد الحجاري : وليس برومي على
الحقيقة ، وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني ،
سبي من الروم بالمشرق وهو صغير ، فأدّبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد ،
وأنجب في الولادة ، وصار منه بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة ، وسادوا وعظم بيتهم،
__________________
وتفرّعت دوحتهم ، وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية
صاحب الأندلس وغيره. ونشأ مغيث بدمشق ، ودخل الأندلس مع طارق فاتحها ، وجاز على ما
في طريقها من البلاد إلى الشام ، وقدّمه طارق لفتح قرطبة ففتحها ووقع بينه وبين
طارق ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير سيّد طارق فرحل معهما إلى دمشق ثم عاد ظافرا
عليهما إلى الأندلس ، وأنسل بقرطبة البيت المذكور ، وفي «المسهب» أنه فتح قرطبة في
شوال سنة ٩٢ ، ثم فتح الكنيسة التي تحصّن بها ملك قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في
محرم سنة ٩٣ ، ولم يذكر له مولدا ولا وفاة.
وذكر الحجاري أنه
تأدّب بدمشق مع بني عبد الملك فأفصح بالعربية ، وصار يقول من الشعر والنثر ما يجوز
كتبه ، وتدرّب على الركوب ، وأخذ نفسه بالإقدام في مضايق الحروب ، حتى تخرّج في
ذلك تخرّجا أهّله للتقدّم على الجيش الذي فتح قرطبة ، وكان مشهورا بحسن الرأي
والكيد ، وقد قدّمنا كيفية فتحه قرطبة وأسره ملكها الذي لم يؤسر من ملوك الأندلس
غيره ؛ لأن منهم من عقد على نفسه أمانا ، ومنهم من فرّ إلى جليقية.
وذكر الحجاري أنه
لمّا حصل بيده ملك قرطبة وحريمه رأى فيهنّ جارية كأنها بينهنّ بدر بين نجوم ، وهي
تكثر التعرّض له بجمالها ، فوكّل بها من عرض عليها العذاب إن لم تقرّ بما عزمت
عليه في شأن مغيث ، وأنه قد فطن من كثرة تعرّضها له بحسنها لما أضمرته من المكر في
شأنه ، فأقرّت أنها أكثرت التعرّض لتقع بقلبه ، إذ حسنها فتّان ، وقد أعدّت له
خرقة مسمومة لتمسح بها ذكره عند وقاعها ، فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من
مكرها ، وقال : لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها ما أخذت قرطبة من ليلة. وذكر
أن سليمان بن عبد الملك ، لمّا أصغى إلى طارق في شأن سيّده موسى بن نصير فعذّبه
واستصفى أمواله ، أراد أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق ، وكان مغيث قد تغيّر عليه
، فاستشار سليمان مغيثا في تولية طارق ، وقال له : كيف أمره بالأندلس؟ فقال : لو
أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا ، فعملت هذه
المكيدة في نفس سليمان ، وبدا له في ولايته ، فلقيه بعد ذلك طارق ، فقال له : ليتك
وصفت أهل الأندلس بعصياني ، ولم تضمر في الطاعة ما أضمرت ، فقال مغيث : ليتك تركت
لي العلج فتركت لك الأندلس ، وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه ملك
__________________
قرطبة الذي حصل في
يده ، فلم يمكنه منه ، فأغرى به سيّده موسى بن نصير ، وقال له : يرجع إلى دمشق وفي
يده عظيم من عظماء الأندلس ، وليس في أيدينا مثله ، فأي فضل يكون لنا عليه؟ فطلبه
منه ، فامتنع من تسليمه. قال ابن حيان : فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث ،
فقيل له : إن سرت به معك حيّا ادعاه مغيث والعلج لا ينكر ، ولكن اضرب عنقه ، ففعل
، فاضطغنها عليه مغيث ، وبالغ في أذيّته عند سليمان.
وذكر الحجاري في «المسهب»
أنّ لمغيث من الشعر ما يجوز كتبه ، فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقا
ويكفي منه هنا قوله : [بحر الوافر]
أعنتكم ولكن ما
وفيتم
|
|
فسوف أعيث في
غرب وشرق
|
وعنوان طبقته في
النثر أنّ موسى بن نصير قال له وقد عارضه بكلام في محفل من الناس : كفّ لسانك ،
فقال : لساني كالمفصل ، ما أكفّه إلّا حيث يقتل. وأضافه ابن حيّان والحجاري إلى
ولاء الوليد بن عبد الملك ، وهو الذي وجّهه إلى الأندلس غازيا ففتح قرطبة ، ثم عاد
إلى المشرق ، فأعاده الوليد رسولا عنه إلى موسى بن نصير يستحثّه على القدوم عليه ،
فوفد معه ، فوجدوا الوليد قد مات ، فخدم بعده سليمان بن عبد الملك.
١٤ ـ ١٥ ـ ومن الداخلين أيوب بن حبيب
اللخمي.
ذكر ابن حيان أنه
ابن أخت موسى بن نصير ، وأنّ أهل إشبيلية قدّموه على سلطان الأندلس بعد قتل عبد
العزيز بن موسى ، واتّفقوا في أيامه على تحويل السلطان من إشبيلية إلى قرطبة ،
فدخل إليها بهم ، وكان قيامه بأمرهم ستة أشهر ، وقيل : إن الذي نقل السلطنة من
إشبيلية إلى قرطبة الحرّ بن عبد الرحمن الثقفي. قال الرازي : قدم الحرّ واليا على
الأندلس في ذي الحجّة سنة سبع وتسعين ومعه أربعمائة رجل من وجوه إفريقية ، فمنهم
أول طوالع الأندلس المعدودين ، وقال ابن بشكوال : كانت مدة الحرّ سنتين وثمانية
أشهر ، وكانت ولايته بعد قيام أيوب بن حبيب اللخمي .
١٦ ـ ٢٦ ـ ومن الداخلين السّمح بن مالك
الخولاني.
ولي الأندلس بعد
الحرّ بن عبد الرحمن السابق. قال ابن حيان : ولّاه عمر بن
__________________
عبد العزيز ،
وأوصاه أن يخمّس من أرض الأندلس ما كان عنوة ، ويكتب إليه بصفتها وأنهارها وبحارها ، قال : وكان من
رأيه أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم ، قالوا : وليت الله
تعالى أبقاه حتى يفعل ، فإنّ مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلّا أن يستنقذهم الله تعالى برحمته.
وذكر ابن حيان أن
قدوم السّمح كان في رمضان سنة مائة ، وأنه الذي بنى قنطرة قرطبة بعد ما استأذن عمر
بن عبد العزيز ، رحمه الله تعالى! وكانت دار سلطانه قرطبة.
قال ابن بشكوال :
استشهد بأرض الفرنجة يوم التروية سنة اثنتين ومائة.
قال ابن حيان :
كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر ، وذكر أنه قتل في الوقعة المشهورة عند أهل
الأندلس بوقعة البلاط ، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين ،
فلم ينج من المسلمين أحد.
قال ابن حيان :
فيقال : إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن.
وقدّم أهل الأندلس
على أنفسهم بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي.
وذكر ابن بشكوال
أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس ، وأنه يروي عن عبد الله بن عمر ، رضي الله
تعالى عنهما! قال : وكانت ولايته للأندلس في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد
الرحمن القيسي صاحب إفريقية ، واستشهد في قتال العدوّ بالأندلس سنة خمس عشرة ،
انتهى.
وفيه مخالفة لما
سبق أنه ولي بعد السمح ، وأن السمح قتل سنة ١٠٢ ، وهذا يقول تولّى سنة ١١٠ ، فأين
ذا من ذاك؟ والله تعالى أعلم.
ووصفه الحميدي
بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم. وذكر الحجاري أنه ولي الأندلس مرتين ، وربما
يجاب بهذا عن الإشكال الذي قدّمناه قريبا ، ويضعفه أن ابن حيان قال : دخل الأندلس
حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة ، وغزا
الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمّة إلى أن استشهد ، وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة
١١٤ ، في موضع يعرف ببلاط الشهداء.
__________________
قال ابن بشكوال :
وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط ، وقد تقدّم مثل هذا في غزوة السّمح ، فكانت ولايته
سنة وثمانية أشهر ، وفي رواية سنتين وثمانية أشهر ، وقيل غير ذلك ، وكان سرير
سلطانه حضرة قرطبة.
وولي الأندلس بعده
عنبسة بن سحيم الكلبي ، وذكر ابن حيان أنه قدم على الأندلس واليا من قبل يزيد بن
أبي مسلم ، كاتب الحجاج ، حين كان صاحب إفريقية ، وكان قدومه الأندلس في صفر سنة
١٠٣ ، فتأخّر بقدومه عبد الرحمن المتقدّم الذكر. قال ابن بشكوال : فاستقامت به
الأندلس ، وضبط أمرها ، وغزا بنفسه إلى أرض الإفرنجة وتوفي في شعبان سنة ١٠٧ ،
فكانت ولايته أربعة أعوام وأربعة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر. وذكر ابن حيان أنه في
أيامه قام بجليقية علج خبيث يدعى بلاي ، فعاب على العلوج طول الفرار ، وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثأر ، ودافع عن أرضه ، ومن
وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عمّا بقي بأيديهم من أرضهم والحماية عن
حريمهم ، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك ، وقيل : إنه لم يبق بأرض جليقية قرية فما
فوقها لم تفتح إلّا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج ومات أصحابه جوعا إلى أن بقي في
مقدار ثلاثين رجلا ونحو عشر نسوة ، وما لهم عيش إلّا من عسل النحل في جباح معهم في
خروق الصخرة ، وما زالوا ممتنعين بوعرها إلى أن أعيا المسلمين أمرهم ، واحتقروهم ،
وقالوا : ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم؟ فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوّة والكثرة
والاستيلاء ما لا خفاء به.
وملك بعده أذفونش
جدّ عظماء الملوك المشهورين بهذه السّمة .
قال ابن سعيد :
فآل احتقار تلك الصخرة ومن احتوت عليه إلى أن ملك عقب من كان فيها المدن العظيمة ،
حتى إنّ حضرة قرطبة في يدهم الآن ، جبرها الله تعالى! وهي كانت سرير السلطنة
لعنبسة. ا ه.
قال ابن حيان
والحجاري : إنه لمّا استشهد عنبسة قدّم أهل الأندلس عليهم عذرة بن عبد الله الفهري. ولم يعدّه ابن بشكوال في سلاطين
الأندلس ، بل قال : ثم تتابعت ولاة الأندلس مرسلين من قبل صاحب إفريقية : أولهم
يحيى بن سلمة ، وذكر الحجاري أن عذرة
__________________
كان من صلحائهم
وفرسانهم ، وصار لعقبه نباهة ، وولده هشام بن عذرة هو الذي استولى على طليطلة قصبة
الأندلس ، وفي عقبه بوادي آش من مملكة غرناطة نباهة وأدب ، قال ابن سعيد : وهم إلى
الآن ذوو بيت مؤصّل ، ومجد مؤثّل ، وكان سرير سلطنة عذرة قرطبة.
وولي بعده يحيى بن
سلمة الكلبي ؛ قال ابن بشكوال : أنفذه إلى الأندلس بشر بن صفوان الكلبي والي
إفريقية إذ استدعى منه أهلها واليا بعد مقتل أميرهم عنبسة ، فقدمها في شوال سنة
سبع ومائة ، وأقام عليها سنة وستة أشهر لم يغز فيها بنفسه غزوة ، ونحوه لابن حيان
، وكان سريره قرطبة.
وتولّى بعده عثمان
بن أبي نسعة الخثعمي ، وذكر ابن بشكوال : أنه قدم عليها واليا من قبل عبيدة بن عبد
الرحمن السلمي ، صاحب إفريقية ، في شعبان سنة عشر ومائة ، ثم عزل سريعا بعد خمسة
أشهر ، وكان سرير سلطانه بقرطبة.
وولي بعده حذيفة
بن الأحوص القيسي ، قال ابن بشكوال : وأتى إليها واليا من قبل عبيدة المذكور ، على
اختلاف فيه وفي ابن أبي نسعة أيهما تولّى قبل صاحبه ، وكان قدوم حذيفة في ربيع
الأول سنة عشر ومائة ، وعزل عنها سريعا أيضا ، وقيل : إنّ ولايته استتمّت سنة ،
وكان بقرطبة.
وولي بعده الأندلس
الهيثم بن عبيد الكلابي ؛ قال ابن بشكوال : ولّاه عبيدة المذكور فوافى الأندلس في
المحرم سنة إحدى عشرة ومائة ، وقيل : إنه ولي سنتين وأياما ، وقد قيل : أربعة أشهر
، وكان بقرطبة.
وولي بعده محمد بن
عبدالله الأشجعي ؛ قال ابن بشكوال : قدّمه الناس عليهم ، وكان فاضلا فصلّى بهم شهرين.
قال : ثم قدم
عليهم واليا عبدالرحمن بن عبد الله الغافقي الذي تقدّمت ترجمته ، وذكرت ولايته
الأولى للأندلس ، وليها من قبل عبيد الله بن الحبحاب ، صاحب إفريقية إلى أن استشهد
كما تقدّم.
وولي الأندلس بعده
عبدالملك بن قطن الفهري ، وذكر الحجاري أنّ من نسله بني القاسم أصحاب البونت وبني
الجدّ أعيان إشبيلية. قال ابن بشكوال : قدم الأندلس في شهر رمضان سنة أربع عشرة
ومائة فكانت مدّة ولايته عامين ، وقيل : أربع سنين ، ثم عزل عنها ذميما
__________________
في شهر رمضان سنة
ست عشرة ومائة ، قال : وكان ظلوما في سيرته ، جائرا في حكومته ، وغزا أرض البشكنس
فأوقع بهم. وذكر ابن بشكوال أنه لمّا عزل وولي عقبة بن الحجاج وثب ابن قطن عليه
فخلعه ، لا أدري أقتله أم أخرجه ، وملك الأندلس بقية إحدى وعشرين ومائة إلى أن رحل
بلج بن بشر بأهل الشام إلى الأندلس ، فغلبه عليها ، وقتل عبدالملك بن قطن ، وصلب
في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة بعد ولاية بلج بعشرة أشهر ، وصلب بصحراء ربض
قرطبة بعدوة النهر حيال رأس القنطرة ، وصلبوا عن يمينه خنزيرا وعن يساره كلبا ،
وأقام شلوه على جذعه إلى أن سرقه مواليه بالليل وغيّبوه ، فكان المكان
بعد ذلك يعرف بمصلب ابن قطن. فلمّا ولي ابن عمّه يوسف بن عبد الرحمن الفهري
استأذنه ابنه أمية بن عبد الملك ، وبنى فيه مسجدا نسب إليه ، فقيل : مسجد أمية ،
وانقطع عنه اسم المصلب ، وكان سنّ عبدالملك عند مقتله نحو التسعين ، وذكر ابن
بشكوال أن عقبة بن الحجاج السلولي ولّاه عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية
الأندلس ودخلها سنة سبع عشرة ومائة ، وقيل : في السنة التي قبلها ، فأقام بها سنين
محمود السيرة ، مثابرا على الجهاد ، مفتتحا للبلاد ، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة
، وصار رباطهم على نهر ردونة ، فأقام عقبة بالأندلس سنة إحدى وعشرين ومائة ، وكان
قد اتّخذ بأقصى ثغر الأندلس الأعلى مدينة يقال لها أربونة كان ينزلها للجهاد ،
وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام ويبيّن له عيوب دينه ، فأسلم
على يده ألفا رجل ، وكانت ولايته خمس سنين وشهرين. قال الرازي : فثار أهل الأندلس
بعقبة ، فخلعوه في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبدالملك ، وولّوا على
أنفسهم عبدالملك بن قطن ، وهي ولايته الثانية ، فكانت ولاية عقبة الأندلس ستة
أعوام وأربعة أشهر ، وتوفي في صفر سنة ١٢٣ ، وسريره قرطبة.
٢٧ ـ ٣١ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس بلج
بن بشر بن عياض القشيري.
قال ابن حيان :
لمّا انتهى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ما كان من أمر خوارج البربر بالمغرب
الأقصى والأندلس وخلعهم لطاعته وعيثهم في الأرض شقّ عليه فعزل عبيد الله بن الحبحاب عن إفريقية ، وولّى
عليها كلثوم بن عياض القشيري ، ووجّه معه جيشا كثيفا لقتالهم ، كان فيه مع ما
انضاف إليه من جيوش البلاد التي صار عليها سبعون ألفا ، ومع ذلك فإنه لمّا تلاقى
مع ميسرة البربري المدّعي للخلافة هزمه ميسرة وجرح كلثوم ولاذ بسبتة ، وكان بلج
ابن
__________________
أخيه معه ، فقامت
قيامة هشام لمّا سمع بما جرى عليه ، فوجّه لهم حنظلة بن صفوان فأوقع بالبربر وفتح
الله تعالى على يديه. ولمّا اشتدّ حصار بلج وعمّه كلثوم ومن معهما من فلّ أهل
الشام بسبتة وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد إلى الغاية استغاثوا بإخوانهم من
عرب الأندلس ، فتثاقل عنهم صاحب الأندلس عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم ،
فلمّا شاع خبر ضرهم عند رجال العرب أشفقوا عليهم ، فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي
بمركبين مشحونين ميرة أمسكا من أرماقهم ، فلمّا بلغ ذلك عبد الملك بن قطن ضربه سبعمائة سوط ، ثم
اتّهمه بعد ذلك بتغريب الجند عليه ، فسمل عينيه ، ثم ضرب وصلب عن يساره كلبا ، واتفق في هذا الوقت أنّ
برابر الأندلس لمّا بلغهم ما كان من ظهور برابر العدوة على العرب انتقضوا على عرب
الأندلس ، واقتدوا بما فعله إخوانهم ، ونصبوا عليهم إماما ، فكثر إيقاعهم بجيوش
ابن قطن ، واستفحل أمرهم ، فخاف ابن قطن أن يلقى منهم ما لقي العرب ببرّ العدوة من
إخوانهم ، وبلغه أنهم قد عزموا على قصده ، فلم ير أجدى من الاستعداد بصعاليك عرب
الشام أصحاب بلج الموتورين ، فكتب لبلج وقد مات عمّه كلثوم في ذلك الوقت ، فأسرعوا
إلى إجابته ، وكانت أمنيتهم ، فأحسن إليهم ، وأسبغ النعم عليهم ، وشرط عليهم أن يأخذ
منهم رهائن ، فإذا فرغوا له من البربر هزمهم إلى إفريقية ، وخرجوا له عن أندلسه ،
فرضوا بذلك ، وعاهدوه عليه ، فقدّم عليهم وعلى جنده ابنيه قطنا وأمية ، والبربر في
جموع لا يحصيها غير رازقها ، فاقتتلوا قتالا صعب فيه المقام ، إلى أن كانت الدائرة
على البربر ، فقتلتهم العرب بأقطار الأندلس حتى ألحقوا فلّهم بالثغور ، وخفوا عن
العيون ، فكرّ الشاميون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم ، فاشتدّت شوكتهم ، وثابت
همتهم ، وبطروا ، ونسوا العهود ، وطالبهم ابن قطن بالخروج عن الأندلس إلى إفريقية ،
فتعلّلوا عليه ، وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم في سبتة ، وقتله الرجل الذي
أغاثهم بالميرة ، فخلعوه ، وقدّموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر ، وتبعه جند ابن
قطن ، وحملوا عليه في قتل ابن قطن ، فأبى فثارت اليمانية وقالوا : قد حميت لمضرك ،
والله لا نطيعك ، فلما خاف تفرّق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير
كفرخ نعامة قد حضر وقعة الحرّة مع أهل اليمامة ، فجعلوا يسبّونه ، ويقولون له :
أفلتّ من
__________________
سيوفنا يوم الحرّة
، ثم طالبتنا بتلك التّرة فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضّنك حتى أمتنا جوعا ، فقتلوه وصلبوه كما تقدّم ، وكان أمية
وقطن ابناه عندما خلع قد هربا ، وحشدا لطلب الثأر ، واجتمع عليهما العرب الأقدمون
والبربر ، وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري كبير
الجند ، وكان في أصحاب بلج ، فلمّا صنع بابن عمّه عبدالملك ما صنع فارقه ، فانحاز
فيمن يطلب ثأره ، وانضمّ إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة ، وكان
فارس الأندلس في وقته ، فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون ، وبلج قد استعدّ
لهم في مقدار اثني عشر ألفا سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين ، فاقتتلوا ،
وصبر أهل الشام صبرا لم يصبر مثله أحد قط ، وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي :
أروني بلجا ، فو الله لأقتلنّه أو لأموتنّ دونه ، فأشاروا إليه نحوه ، فحمل بأهل
الثغر حملة انفرج لها الشاميون ، والراية في يده ، فضربه عبد الرحمن ضربتين مات
منهما بعد ذلك بأيام قلائل. ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمة قبيحة ، واتبعهم
الشاميون يقتلون ويأسرون ، فكان عسكرا منصورا مقتولا أميره ، وكان هلاك بلج في
شوال سنة أربع وعشرين ومائة ، وكانت مدّته أحد عشر شهرا ، وسريره قرطبة ، والعرب
الشاميون الداخلون معه الأندلس يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين ، والذين كانوا في
الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين.
ولمّا هلك بلج
قدّم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي ، وقد كان عندهم عهد الخليفة
هشام بذلك ، فسار فيهم بأحسن سيرة ، ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر
همّوا بعد الوقعة لطلب الثأر ، فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة ، وهم لا
يشكّون في الظّفر ، إلى أن حضر عيد تشاغلوا به ، فأبصر ثعلبة منهم غرّة وانتشارا وأشرا بكثرة العدد والاستيلاء ، فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم
ذاهلون ، فهزمهم هزيمة قبيحة ، وأفشى فيهم القتل ، وأسر منهم ألف رجل ، وسبى
ذرّيّتهم وعيالهم ، وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون ، حتى نزل
بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة.
__________________
وأصبح الناس
منتظرين لقتل الأسارى ، فإذا بهم قد طلع عليهم لواء فيه موكب ، فنظروا فإذا أبو
الخطار قد أقبل واليا على الأندلس ، وهو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي. وذكر ابن
حيان أنه قدم واليا من قبل حنظلة بن صفوان صاحب إفريقية ، والخليفة حينئذ الوليد بن
يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وذلك في رجب سنة خمس وعشرين ومائة ، بعد عشرة أشهر
وليها ثعلبة بن سلامة ، قال : وكان مع فروسيته شاعرا محسنا ، وكان في أوّل ولايته
قد أظهر العدل فدانت له الأندلس ، إلى أن مالت به العصبية اليمانية على المضرية ،
فهاج الفتنة العمياء ، وكان سبب هذه الفتنة أن أبا الخطّار بلغ به التعصّب
لليمانية أن اختصم عنده رجل من قومه مع خصم له من كنانة كان أبلج حجّة من ابن عم أبي الخطار ، فمال أبو الخطار مع ابن عمّه
، فأقبل الكناني إلى الصّميل بن حاتم الكلابي أحد سادات مضر ، فشكا له حيف أبي الخطار
، وكان أبيّا للضيم ، حاميا للعشيرة ، فدخل على أبي الخطار ، وأمضّ عتابه ، فنجهه أبو الخطار ، وأغلظ له ، فردّ الصميل عليه ، فأمر به أبو
الخطار ، فأقيم ودعّ قفاه حتى مالت عمامته ، فلمّا خرج قال له بعض من على الباب :
أبا جوشن ، ما بال عمامتك مائلة؟ فقال : إن كان لي قوم فسيقيمونها. وأقبل إلى داره
، فاجتمع إليه قومه حين بلغهم ذلك ممتعضين ، فباتوا عنده ، فلمّا أظلم الليل قال :
ما رأيكم فيما حدث عليّ فإنه منوط بكم؟ فقالوا : أخبرنا بما تريد ، فإنّ رأينا تبع
رأيك ، فقال : أريد والله إخراج هذا الأعرابي من هذا السلطان على ما خيّلت ، وأنا
خارج لذلك عن قرطبة ، فإنه ما يمكنني ما أريد إلّا بالخروج ، فإلى أين ترون أقصد؟
فقالوا : اذهب حيث شئت ، ولا تأت أبا عطاء القيسي ، فإنه لا يواليك على أمر ينفعك
، وكان أبو عطاء هذا سيّدا مطاعا يسكن بأستجة ، وكان مشاحنا للصّميل ، مساميا له
في القدر ، فسكت عند ذكره أبو بكر بن الطفيل العبدي ، وكان من أشرافهم ، إلّا أنه
كان حدث السنّ ، فقال له الصميل : ألا تتكلم؟ قال : أتكلّم بواحدة
ما عندي غيرها ، قال : وما هي؟ قال : إن عدوت إتيان أبي عطاء وشتتّ أمرك به لم يتمّ أمرنا وهلكنا ، وإن
أنت قصدته لم ينظر في شيء ممّا سلف بينكما ، وحركته الحمية لك ، فأجابك إلى ما
تريد ، فقال له الصميل : أصبت الرأي ، وخرج من ليلته ، وقام أبو عطاء في نصرته على
ما قدّره العبدي ، وعمد إلى ثوابة بن يزيد الجذامي أحد أشراف اليمن وساداتهم ،
وكان ساكنا بمورور وقد استفسد إليه أبو الخطار ،
__________________
فأجابهما في القيام
والتقدّم على المضرية ، فاجتمعوا في شذونة ، وآل الأمر إلى أن هزموا أبا الخطار على وادي لكّة وحصل
أسيرا في أيديهم ، فأرادوا قتله ، ثم أرجئوه ، وأوثقوه وأقبلوا به إلى قرطبة ،
وذلك في رجب سنة ١٢٧ بعد ولاية أبي الخطار بسنتين. ولمّا سجن أبو الخطار في قرطبة
امتعض له عبد الرحمن بن حسان الكلبي ، فأقبل إلى قرطبة ليلا في ثلاثين فارسا معهم
طائفة من الرّجّالة ، فهجموا على الحبس وأخرجوه منه ، ومضوا به إلى غرب الأندلس ،
فعاد في طلب سلطانه ، ودبّ في يمانيته حتى اجتمع له عسكر أقبل بهم إلى قرطبة ،
فخرج إليه ثوابة ومعه الصّميل ، فقام رجل من المضرية ليلا فصاح بأعلى صوته : يا
معشر اليمن ، ما لكم تتعرّضون إلى الحرب وتردون المنايا عن أبي الخطار؟ أليس قد
قدرنا عليه لو أردنا قتله لفعلنا ، لكنّنا مننّا وعفونا وجعلنا الأمير منكم ، أفلا
تفكرون في أمركم ، فلو أن الأمير من غيركم عذرتم ، ولا والله لا نقول هذا رهبة
منكم ولا خوفا لحربكم ، ولكن تحرّجا من الدماء ورغبة في عاقبة العامّة ، فتسامع الناس به ، وقالوا : صدق ، فتداعوا
للرحيل ليلا ، فما أصبحوا إلّا على أميال. قال الرازي : ركب أبو الخطار البحر من
ناحية تونس في المحرم سنة ١٢٥ ، وفي كتاب أبي الوليد بن الفرضي : كان أبو الخطار
أعرابيّا عصبيّا ، أفرط في التعصّب لليمانيين ، وتحامل على مضر ، وأسخط قيسا ،
فثار به زعيمهم الصّميل ، فخلعه ، ونصب مكانه ثوابة ، وهاج بين الفريقين الحروب
المشهورة ، وخلع أبو الخطار بعد أربع سنين وتسعة أشهر ، وذلك سنة ١٢٨ ، وآل أمره
إلى أن قتله الصّميل.
وولي الأندلس
ثوابة بن سلامة الجذامي ؛ قال ابن بشكوال : لمّا اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد
الرحمن بن حبيب ، صاحب القيروان ، فكتب إليه بعهد الأندلس ، وذلك سلخ رجب سنة ١٢٧
، فضبط البلد ، وقام بأمره كلّه الصّميل واجتمع عليه أهل الأندلس ، وأقام واليا
سنة أو نحوها ، ثم هلك ، وفي كتاب ابن الفرضي أنه ولي سنتين.
ثم ولي الأندلس
يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري ، وجدّه عقبة بن
نافع صاحب إفريقية وباني القيروان المجاب الدعوة صاحب الغزوات والآثار الحميدة ،
ولهذا البيت في السلطنة بإفريقية والأندلس نباهة. وذكر الرازي أنّ مولده بالقيروان
، ودخل أبوه الأندلس من إفريقية مع حبيب بن أبي عبيدة الفهري عند افتتاحهم ، ثم
عاد إلى إفريقية ، وهرب عنه ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضبا له ،
فهوي الأندلس ، واستوطنها فساد بها. قال الرازي : كان يوسف يوم ولي
الأندلس ابن سبع
__________________
وخمسين سنة ،
وأقامه أهل الأندلس بعد أميرهم ثوابة ، وقد مكثوا بغير وال أربعة أشهر ، فاجتمعوا
عليه بإشارة الصّميل من أجل أنه قرشي رضي به الحيان ، فرفعوا الحرب ، ومالوا إلى
الطاعة ، فدانت له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر ، وقال ابن حيان : قدّمه
أهل الأندلس في ربيع الآخر سنة ١٢٩ ، واستبدّ بالأندلس دون ولاية أحد له غير من
بالأندلس ، وحكى ابن حيان أنه أنشد قول حرقة بنت النعمان بن المنذر يوم خلعه
بالأمان من سلطانه ودخوله عسكر عبد الرحمن الداخل المرواني : [بحر الطويل]
فبينا نسوس
الناس والأمر أمرنا
|
|
إذا نحن فيهم
سوقة نتنصّف
|
قال ابن حيان :
لمّا سمع أبو الخطار بتقديمه حرّك يمانيته ، فأجابوا دعوته ، فأدّى ذلك إلى وقعة
شقندة بين اليمانية والمضرية فيقال : إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب حرب أصدق منها
جلادا ولا أصبر رجالا ، طال صبر بعضهم على بعض ، إلى أن فني السلاح ، وتجاذبوا
بالشعور ، وتلاطموا بالأيدي ، وكلّ بعضهم عن بعض ، وثابت للصميل غرّة في اليمانية في بعض الأيام ، فأمر بتحريك أهل الصناعات
بأسواق قرطبة ، فخرجوا في نحو أربعمائة رجل من أنجادهم بما حضرهم من السكاكين والعصيّ ليس فيهم حامل رمح ولا سيف
إلّا قليلا ، فرماهم على اليمانية وهم على غفلة ، وما فيهم من يبسط يد القتال ، ولا ينهض لدفاع ، فانهزمت اليمانية ووضعت المضرية السيف
فيهم ، فأبادوا منهم خلقا ، واختفى أبو الخطار تحت سرير رحى ، فقبض عليه وجيء به
إلى الصميل ، فضرب عنقه ، وقد ذكرنا خبر انخلاع يوسف عن سلطانه في ترجمة عبد
الرحمن الداخل ، وهو آخر سلاطين الأندلس الذين ولوها من غير موارثة ، حتى جاءت
الدولة المروانية.
وذكر ابن حيان أنّ
القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصّميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الكلابي ،
وجدّه شمر هو قاتل الحسين ، رضي الله تعالى عنه! وكان شمر قد فرّ من المختار بولده
من الكوفة إلى الشام ، فلمّا خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصّميل فيمن خرج معه ،
ودخل الأندلس في طالعة بلج ، وكان شجاعا جوادا جسورا على قلب الدول ،
__________________
فبلغ ما بلغ ، وآل
أمره إلى أن قتله عبد الرحمن الداخل المرواني في سجن قرطبة مخنوقا.
وذكر ابن حيان أنه
كان ممّن ثار على يوسف الفهري عبد الرحمن بن علقمة اللخمي فارس الأندلس ، ووالي
ثغر أربونة ، وكان ذا بأس شديد ووجاهة عظيمة ، فبينما هو في تدبير غزو يوسف إذ
اغتاله أصحابه وأقبلوا برأسه إليه.
ثم ثار عليه بعد
ذلك بمدينة باجة عروة بن الوليد في أهل الذمّة وغيرهم ، فملك إشبيلية ، وكثر جمعه
، إلى أن خرج له يوسف فقتله ، وثار عليه بالجزيرة الخضراء عامر العبدري ، فخرج له
، وأنزله على أمان في سكنى قرطبة ، ثم ضرب عنقه بعد ذلك.
وقيل : إنّ أول من
خرج على يوسف عمرو بن يزيد الأزرق في إشبيلية فظفر به فقتله ، وثار عليه في كورة
سرقسطة الحباب الزهري إلى أن ظفر به يوسف فقتله ، ثم جاءته الداهية العظمى بدخول
عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس وسعيه في إفساد سلطانه ، فتمّ له ما
أراده ، والله تعالى أعلم.
٣٢ ـ ومن الداخلين
من المشرق إلى الأندلس ملكها عبد الرحمن بن معاوية ابن أمير المؤمنين هشام بن عبد
الملك بن مروان ، المعروف بالداخل.
وذلك أنه لمّا
أصاب دولتهم ما أصاب ، واستولى بنو العباس على ما كان بأيديهم ، واستقرّ قدمهم في
الخلافة ، فرّ عبد الرحمن إلى الأندلس ، فنال بها ملكا أورثه عقبه حقبة من الدهر.
قال ابن حيان في «المقتبس»
: إنه لمّا وقع الاختلال في دولة بني أمية والطلب عليهم ، فرّ عبد الرحمن ، ولم
يزل في فراره منتقلا بأهله وولده إلى أن حلّ بقرية على الفرات ذات شجر وغياض ، يريد المغرب ، لما حصل في خاطره من بشرى مسلمة ، فممّا
حكي عنه أنه قال : إني لجالس يوما في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمد كان
بي ، وابني سليمان بكر ولدي يلعب قدّامي ، وهو يومئذ ابن أربع سنين أو نحوها ، إذ
دخل الصبيّ من باب البيت فازعا باكيا فأهوى إلى حجري ، فجعلت أدفعه لما كان بي
ويأبى إلّا التعلق ، وهو دهش يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع ، فخرجت لأنظر ،
فإذا بالرّوع قد نزل بالقرية ، ونظرت فإذا بالرايات
__________________
السود عليها منحطة ، وأخ لي حدث السنّ كان معي يشتدّ هاربا ويقول لي : النجاء يا أخي ، فهذه رايات المسوّدة ،
فضربت بيدي على دنانير تناولتها ، ونجوت بنفسي والصبي أخي معي ، وأعلمت أخواتي
بمتوجّهي ومكان مقصدي ، وأمرتهنّ أن يلحقنني ومولاي بدر معهنّ ،
وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية ، فما كان إلّا ساعة حتى أقبلت الخيل ، فأحاطت
بالدار ، فلم تجد أثرا ، ومضيت ، ولحقني بدر ، فأتيت رجلا من معارفي بشطّ الفرات ،
فأمرته أن يبتاع لي دوابّ وما يصلح لسفري ، فدلّ عليّ عبد سوء له العامل ، فما
راعنا إلّا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا في الهرب ، فسبقناها إلى الفرات ، فرمينا
فيه بأنفسنا ، والخيل تنادينا من الشط : ارجعا لا بأس عليكما ، فسبحت حاثّا لنفسي
وكنت أحسن السبح ، وسبح الغلام أخي ، فلمّا قطعنا نصف الفرات قصّر أخي ودهش ،
فالتفتّ إليه لأقوّي من قلبه ، وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه ،
فناديته : تقتل يا أخي ، إليّ ، إليّ ، فلم يسمعني ، وإذا هو قد اغتر بأمانهم ،
وخشي الغرق ، فاستعجل الانقلاب نحوهم ، وقطعت أنا الفرات ، وبعضهم قد همّ بالتجرّد
للسباحة في أثري ، فاستكفّه أصحابه عن ذلك ، فتركوني ، ثم قدّموا الصبيّ أخي الذي
صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه ، ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة
سنة ، فاحتملت فيه ثكلا ملأني مخافة ، ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساع على
قدميّ ، فلجأت إلى غيضة آشبة ، فتواريت فيها حتى انقطع الطلب ، ثم خرجت أؤمّ المغرب حتى
وصلت إلى إفريقية.
قال ابن حيان :
وسار حتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أمّ الأصبغ مولاه بدرا ، ومولاه سالما
، ومعهما دنانير للنفقة ، وقطعة من جوهر ، فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من
فلّ بني أمية ، وكان عند واليها عبد الرحمن بن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب
مسلمة بن عبد الملك ، وكان يتكهّن له ويخبره بتغلّب القرشي المرواني الذي هو
من أبناء ملوك القوم ، واسمه عبد الرحمن ، وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها
عقبه ، فاتّخذ
__________________
الفهري عند ذلك
ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية ، فلمّا جيء بعبد الرحمن ونظر إلى ضفيرتيه
قال لليهودي : ويحك! هذا هو ، وأنا قاتله ، فقال له اليهودي : إنك إن قتلته فما هو
به ، وإن غلبت على تركه إنه لهو وثقل فلّ بني أمية على ابن حبيب صاحب إفريقية ،
فطرد كثيرا منهم مخافة ، وتجنّى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به ،
فقتلهما ، وأخذ مالا كان مع إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان ، وغلبه على
أخته فتزوّجها بكرهه ، وطلب عبد الرحمن فاستخفى ، انتهى.
وذكر ابن عبد الحكم
أن عبد الرحمن الداخل أقام ببرقة مستخفيا خمس سنين ، وآل أمره في سفره إلى أن
استجار ببني رستم ملوك تيهرت من المغرب الأوسط ، وتقلّب في قبائل البربر إلى أن
استقرّ على البحر عند قوم من زنانة ، وأخذ في تجهيز بدر مولاه إلى العبور للأندلس
لموالي بني أمية وشيعتهم بها ، وكانت الموالي المروانية المدوّنة بالأندلس في ذلك
الأوان ما بين الأربعمائة والخمسمائة ، ولهم جمرة ، وكانت رياستهم إلى شخصين : أبي عثمان عبيد الله بن عثمان
، وعبد الله بن خالد ، وهما من موالي عثمان ، رضي الله تعالى عنه! وكانا يتوليان
لواء بني أمية يعتقبان حمله ورياسة جند الشام النازلين بكورة إلبيرة ، فعبر بدر
مولى عبد الرحمن إلى أبي عثمان بكتاب عبد الرحمن يذكّره فيه أيادي سلفه من بني
أمية وسببه بهم ويعرفه مكانه من السلطان وسعيه لنيله ، إذ كان الأمر لجدّه هشام
فهو حقيق بوراثته ، ويسأله القيام بشأنه وملاقاة من يثق به من الموالي الأموية
وغيرهم ، ويتلطّف في إدخاله إلى الأندلس ليبلي عذرا في الظهور عليها ، ويعده
بإعلاء الدرجة ، ولطف المنزلة ، ويأمره أن يستعين في ذلك بمن يأمنه ، ويرجو قيامه
معه ، ويأخذ فيه مع اليمانية ذوي الحنق على المضرية لما بين الحيين من التّرات ، فمشى أبو عثمان لما دعاه إليه ، وبانت له فيه طماعية ،
وكان عند ورود بدر قد تجهّز إلى ثغر سرقسطة لنصرة صاحبها الصّميل بن حاتم وجه دولة
يوسف بن عبد الرحمن ، صاحب الأندلس ، فقال لصهره عبد الله بن خالد المذكور : لو
كنّا ذاكرنا الصّميل خبر بدر وما جاء به لنختبر ما عنده في موافقتنا ، وكانا على
ثقة في أنه لا يظهر على سرّهما أحدا لمروءته وأنفته ، فقال له : إن نحن فعلنا لم
نأمن من أن تدركه الغيرة على سلطان يوسف لما هو عليه من شرف القدر وجلالة المنزلة
فيتوقّع سقوط رياسته فلا يساعدنا ، قال أبو عثمان : فنمسح إذا على أمره ، ونذكر له
أنه قصد لإرادة الإيواء والأمان وطلب أخماس جدّه
__________________
هشام لدينا
ليتعيّش بها ، لا يريد غير ذلك ، فاتّفقا على هذا ، فلمّا ودّعا الصّميل خلوا به
في ذلك ، وقد ظهر لهما منه حقد على صاحبه يوسف في إبطائه عن إمداده لما حاربه
الحباب الزهري بكورة سرقسطة ، فقال لهما : أنا معكما فيما تحبّان ، فاكتبا إليه أن
يعبر ، فإذا حضر سألنا يوسف أن ينزله في جواره وأن يحسن له ، ويزوّجه بابنته ، فإن
فعل وإلّا ضربنا صلعته بأسيافنا ، وصرفنا الأمر عنه إليه ، فشكراه ، وقبّلا يده ،
ثم ودّعاه ، وأقام بطليطلة وقد ولّاه يوسف عليها وعزله عن الثغر ، وانصرفا إلى
وطنهما بإلبيرة ، وقد كانا لقيا من كان معهما في العسكر من وجوه الناس وثقاتهم ،
فطارحاهم أمر ابن معاوية ، ثم دسّا في الكور إلى ثقاتهما بمثل ذلك ، فدبّ أمره
فيهم دبيب النار في الجمر ، وكانت سنة خلف بالأندلس بعد خروج من المجاعة التي دامت
بالناس.
وفي رواية أنّ
الصّميل لان لهما في أن يطلب الأمر عبد الرحمن الداخل لنفسه ثم دبّر ذلك لما
انصرفا ، فتراجع فيه ، فردّهما ، وقال : إني روّيت في الأمر الذي أردته معكما
فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم
في بوله ، وهذا رجل نتحكّم عليه ، ونميل على جوانبه ، ولا يسعنا بدل منه ، وو الله
لو بلغتما بيوتكما ثم بدا لي فيما فارقتكما عليه لرأيت أن لا أقصّر حتى ألقاكما
لئلّا أغركما من نفسي ، فإني أعلمكما أنّ أوّل سيف يسلّ عليه سيفي ، فبارك الله
لكما في رأيكما ، فقالا له : ما لنا رأي إلّا رأيك ، ولا مذهب لنا عنك. ثم انصرفا عنه على أن يعينهما في أمره إن طلب غير
السلطان ، وانفصلا عنه إلى إلبيرة عازمين على التصميم في أمره ، ويئسا من مضر
وربيعة ، ورجعا إلى اليمانية ، وأخذا في تهييج أحقاد أهل اليمن على مضر ، فوجداهم قوما قد وغرت صدورهم عليهم ، يتمنّون شيئا يجدون به السبيل إلى إدراك
ثأرهم ، واغتنما بعد يوسف صاحب الأندلس في الثغر ، وغيبة الصّميل ، فابتاعا مركبا
ووجّها فيه أحد عشر رجلا منهم مع بدر الرسول ، وفيهم تمام بن علقمة وغيره ، وكان
عبد الرحمن قد وجّه خاتمه إلى مواليه ، فكتبوا تحت ختمه إلى من يرجونه في طلب
الأمر ، فبثّوا من ذلك في الجهات ما دبّ به أمرهم ، ولمّا وجّه أبو عثمان المركب
المذكور مع شيعته ألفوه بشطّ مغيلة من بلاد البربر ، وهو يصلّي ، وكان قد اشتدّ
قلقه وانتظاره لبدر رسوله ، فبشّره بدر بتمكّن الأمر ، وخرج إليه تمام مكثرا
لتبشيره ، فقال له
__________________
عبدالرحمن : ما
اسمك؟ قال : تمام ، قال : وما كنيتك؟ قال : أبو غالب ، فقال : الله أكبر! الآن تمّ
أمرنا وغلبنا بحول الله تعالى وقوته ، وأدنى منزلة أبي غالب لما ملك ، ولم يزل
حاجبه حتى مات عبد الرحمن. وبادر عبد الرحمن بالدخول إلى المركب ، فلمّا همّ بذلك
أقبل البربر فتعرّضوا دونه ، ففرقت فيهم من مال كان مع تمام صلات على أقدارهم ، حتى لم يبق أحد حتى أرضاه ، فلمّا صار عبد
الرحمن بداخل المركب أقبل عات منهم لم يكن أخذ شيئا فتعلّق بحبل الهودج يعقل
المركب ، فحوّل رجل اسمه شاكر يده بالسيف ، فقطع يد البربري ، وأعانتهم الريح على
التوجّه بمركبهم ، حتى حلّوا بساحل إلبيرة في جهة المنكّب ، وذلك في ربيع الآخر
سنة ١٣٨ ، فأقبل إليه نقيباه أبو عثمان وصهره أبو خالد ، فنقلاه إلى قرية طرش منزل أبي عثمان ، فجاءه يوسف بن بخت ، وانثالت عليه الأموية ، وجاءه جدران بن عمرو المذحجي من أهل مالقة ، فكان بعد ذلك قاضيه في العساكر ، وجاءه أبو
عبدة حسان بن مالك الكلبي من إشبيلية فاستوزره ، وانثال عليه الناس انثيالا ، فقوي أمره مع الساعات فضلا
عن الأيام ، وأمدّه الله تعالى بقوّة عالية ، فكان دخوله قرطبة بعد ذلك بسبعة
أشهر. وكان خبر دخوله للأندلس قد صادف صاحبها يوسف الفهري بالثغر ، وقد قبض على
الحباب الزهري الثائر بسرقسطة ، وعلى عامر العبدري الثائر معه ، فبينما هو بوادي
الرمل بمقربة من طليطلة وقد ضرب عنق عامر العبدري وابن عامر برأي الصّميل إذ جاءه
قبل أن يدخل رواقه رسول يركض من عند ولده عبد الرحمن بن يوسف من قرطبة يعلمه بأمر
عبد الرحمن ونزوله بساحل جند دمشق ، واجتماع الموالي المروانية إليه ، وتشوف الناس لأمره ، فانتشر الخبر في العسكر لوقته ، وشمت الناس
بيوسف لقتله القرشيين عامرا وابنه ، وختره بعهدهما ، فسارع عدد كثير إلى البدار لعبد الرحمن الداخل ، وتنادوا
بشعارهم ، وقوّضوا عن عسكره.
واتّفق أن جادت
السماء بوابل لا عهد بمثله لما شاء الله تعالى من التضييق على يوسف ،
فأصبح وليس في عسكره سوى غلمانه وخاصّته وقوم الصّميل قيس وأتباعه ، فأقبل إلى
__________________
طليطلة وقال
للصّميل : ما الرأي؟ فقال : بادره الساعة قبل أن يغلظ أمره ، فإنّي لست آمن عليك
هؤلاء اليمانية لحنقهم علينا ، فقال له يوسف : أتقول ذلك؟ ومع من نسير إليه وأنت
ترى الناس قد ذهبوا عنا؟ وقد أنفضنا من المال ، وأنضينا الظهر ، ونهكتنا المجاعة في سفرتنا هذه ، ولكن نسير إلى قرطبة ، فنستأنف
الاستعداد له ، بعد أن ننظر في أمره ويتبيّن لنا خبره ، فلعلّه دون ما كتب إلينا.
فقال الصميل : الرأي ما أشرت به عليك ، وليس غيره ، وسوف تتبيّن غلطك فيما تنكبه ،
ومضوا إلى قرطبة. وسار عبد الرحمن الداخل إلى إشبيلية ، وتلقّاه رئيس عربها أبو الصباح
بن يحيى اليحصبي ، واجتمع الرأي على أن يقصدوا به دار الإمارة قرطبة ، فلمّا نزلوا
بطشانة قالوا : كيف نسير بأمير لا لواء له ولا علم نهتدي إليه؟ فجاؤوا بقناة
وعمامة ليعقدوها عليه ، فكرهوا أن يميلوا القناة لتعقد تطيّرا فأقاموها بين
زيتونتين متجاورتين ، فصعد رجل فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة ، كما سيأتي
، وحكي أنّ فرقدا العالم صاحب الحدثان مرّ بذلك الموضع ، فنظر إلى الزيتونتين ،
فقال : سيعقد بين هاتين الزيتونتين لواء لأمير لا يثور عليه لواء إلّا كسره ، فكان
ذلك اللواء يسعد به هو وولده من بعده ، ولمّا أقبل إلى قرطبة خرج له يوسف ، وكانت
المجاعة توالت قبل ذلك ست سنين فأورثت أهل الأندلس ضعفا ، ولم يكن عيش عامّة الناس
بالعسكر ما عدا أهل الطاقة مذ خرجوا من إشبيلية إلّا الفول الأخضر الذي يجدونه في
طريقهم ، وكان الزمان زمان ربيع ، فسمّي ذلك العام عام الخلف ، وكان نهر قرطبة
حائلا ، فسار يوسف من قرطبة وأقبل ابن معاوية على برّ إشبيلية والنهر بينهما ،
فلمّا رأى يوسف تصميم عبد الرحمن إلى قرطبة رجع مع النهر محاذيا له ، فتسايرا
والنهر حاجز بينهما ، إلى أن حلّ يوسف بصحراء الصارة غربي قرطبة ، وعبد الرحمن في
مقابلته ، وتراسلا في الصلح ، وقد أمر يوسف بذبح الجزر ، وتقدم بعمل الأطعمة ، وابن معاوية آخذ في خلاف ذلك قد
أعدّ للحرب عدّتها ، واستكمل أهبتها ، وسهر الليل كلّه على نظام أمره ، كما سنذكره
، ثم انهزم أهل قرطبة ، وظفر عبد الرحمن الداخل ، ونصر نصرا لا كفاء له ، وانهزم الصّميل ، وفرّ إلى شوزر من كورة جيّان ، وفرّ
يوسف إلى جهة ماردة.
وذكر أن أبا
الصّبّاح رئيس اليمانية قال لهم عند هزيمة يوسف : يا معشر يمن ، هل لكم
__________________
إلى فتحين في يوم؟
قد فرغنا من يوسف وصميل ، فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية ، فيصير الأمر لنا
، نقدم رجلا منّا ، ونحل عنه المضرية ، فلم يجبه أحد لذلك ، وبلغ الخبر عبد الرحمن
فأسرّها في نفسه إلى أن اغتاله بعد عام ، فقتله.
ولمّا انقضت
الهزيمة أقام ابن معاوية بظاهر قرطبة ثلاثة أيام ، حتى أخرج عيال يوسف من القصر ،
وعفّ ، وأحسن السيرة ، ولمّا حصل بدار الإمارة ، وحلّ محلّ يوسف ، لم يستقرّ به
قرار من إفلات يوسف والصّميل ، فخرج في إثر عدوه واستخلف على قرطبة القائم بأمره
أبا عثمان ، واستكتب كاتب يوسف أمية بن زياد ، واستنام إليه إذ كان من موالي بني
أمية ، ونهض في طلب يوسف ، فوقع يوسف على خبره ، فخالفه إلى قرطبة ، ودخل القصر ،
وتحصّن أبو عثمان خليفة عبد الرحمن بصومعة الجامع فاستنزله بالأمان ، ولم يزل عنده
إلى أن عقد الصلح بينه وبين ابن معاوية ، وكان عقد الصلح المشتمل عليه وعلى وزيره
الصّميل في صفر سنة ١٣٩ ، وشارطه على أن يخلّي بينه وبين أمواله حيثما كانت ، وأن
يسكن بلاط الحر منزلة بشرقي قرطبة ـ على أن يختلف كلّ يوم إلى ابن معاوية ويريه
وجهه ، وأعطاه رهينة على ذلك ابنه أبا الأسود محمد بن يوسف ، زيادة على ابنه عبد
الرحمن الذي أسره ابن معاوية يوم الوقعة ، ورجع العسكران وقد اختلطا إلى قرطبة.
وذكر ابن حيان أن
يوسف بن عبدالرحمن نكث سنة ١٤١ ، فهرب من قرطبة ، وسعى بالفساد في الأرض ، وقد
كانت الحال اضطربت به في قرطبة ، ودسّ له قوم قاموا عليه في أملاكه ، زعموا أنه
غصبهم إياها ، فدفع معهم إلى الحكام ، فأعنتوه ، وحمل عنه في التألم بذلك كلام رفع إلى ابن
معاوية أصاب أعداء يوسف به السبيل إلى السعاية به والتخويف منه ، فاشتدّ توحّشه ،
فخرج إلى جهة ماردة ، واجتمع إليه عشرون ألفا من أهل الشتات ، فغلظ أمره ، وحدّثته
نفسه بلقاء ابن معاوية ، فخرج نحوه من ماردة ، وخرج ابن معاوية من قرطبة ، فبينما
ابن معاوية في حصن المدوّر مستعدّا ، إذ التقى بيوسف عبد الملك بن عمر بن مروان
صاحب إشبيلية ، فكانت بينهما حرب شديدة انكشف عنها يوسف بعد بلاء عظيم منهزما ،
واستحرّ القتل في أصحابه ، فهلك منهم خلق كثير ، وسار يوسف لناحية طليطلة
، فلقيه في قرية من قراها عبد الله بن عمرو الأنصاري ، فلمّا عرفه قال لمن معه :
هذا الفهري يفرّ ، قد
__________________
ضاقت عليه الأرض ،
وقتله الراحة له ، والراحة منه. فقتله ، واحتزّ رأسه ، وقدم به إلى عبد الرحمن ،
فلمّا قرب وأوذن عبد الرحمن به أمره أن يتوقّف به دون جسر قرطبة ، وأمر
بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده ، وضمّ إلى رأسه رأسه ، ووضعا على قناتين
مشهّرين إلى باب القصر. وكان عبد الرحمن لمّا فرّ يوسف قد سجن وزيره الصّميل لأنه
قال له : أين توجه؟ فقال : لا أعلم ، فقال : ما كان ليخرج حتى يعلمك ، ومع ذلك
فإنّ ولدك معه ، وأكّد عليه في أن يحضره ، فقال : لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها
لك عنه ، فاصنع ما شئت ، فحينئذ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمدا
المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن ، فتهيّأ لهما الهرب من نقب ، فأمّا أبو الأسود
فنجا سالما ، واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه ، وأمّا عبدالرحمن فأثقله اللحم فانبهر ، فردّ إلى الحبس ، حتى قتل كما تقدّم ، وأنف الصميل من
الهرب ، فأقام بمكانه ، فلمّا قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصّميل من خنقه ،
فأصبح ميتا ، فدخل عليه مشيخة المضرية في السجن ، فوجدوه ميتا ، وبين يديه كأس
ونقل ، كأنه بغت على شرابه ، فقالوا : والله إنّا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها
ولكن سقيتها.
وممّا ظهر من بطش
الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بأحد دعائم دولته رئيس اليمانية أبي
الصباح بن يحيى ، وكان قد ولّاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به.
ومن ذلك النوع
حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي ، إذ ثار بباجة ، وكان قد وصل من إفريقية على أن
يظهر الرايات السود بالأندلس ، فدخل في ناس قليلين ، فأرسى بناحية باجة ، ودعا
أهلها ومن حولهم ، فاستجاب له خلق كثير ، إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية
فهزمه ، وجيء به وبأعلام أصحابه ، فقطع يديه ورجليه ، ثم ضرب عنقه وأعناقهم ، وأمر
فقرّطت الصّكاك في آذانهم بأسمائهم ، وأودعت جوالقا محصنا ، ومعها اللواء
الأسود ، وأنفذ بالجوالق تاجرا من ثقاته ، وأمره أن يضعه بمكّة أيام الموسم ، ففعل
، ووافق أبا جعفر المنصور قد حجّ ، فوضعه على باب سرادقه ، فلمّا كشفه ونظر إليه
سقط في يده ، واستدعى عبد الرحمن
__________________
وقال : عرضنا هذا
البائس ـ يعني العلاء ـ للحتف ، ما في هذا الشيطان مطمع ، فالحمد لله الذي صيّر هذا
البحر بيننا وبينه.
ولمّا أوقع عبد
الرحمن باليمانية الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل
فيهم ، استوحش من العرب قاطبة ، وعلم أنهم على دغل وحقد ، فانحرف عنهم إلى اتّخاذ المماليك ، فوضع يده في
الابتياع ، فابتاع موالي الناس بكل ناحية ، واعتضد أيضا بالبرابر ، ووجّه عنهم إلى برّ العدوة فأحسن لمن وفد
عليه إحسانا رغّب من خلفه في المتابعة. قال ابن حيان : واستكثر منهم ومن العبيد ،
فاتّخذ أربعين ألف رجل ، صار بهم غالبا على أهل الأندلس من العرب ، فاستقامت
مملكته وتوطّدت.
وقال ابن حيان :
كان عبدالرحمن راجح الحلم ، فاسح العلم ، ثاقب الفهم ، كثير الحزم ، نافذ العزم ،
بريئا من العجز ، سريع النهضة ، متّصل الحركة ، لا يخلد إلى راحة ، ولا يسكن إلى
دعة ، ولا يكل الأمور إلى غيره ، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه ، شجاعا ، مقداما ،
بعيد الغور ، شديد الحدّة ، قليل الطمأنينة ، بليغّا ، مفوّها ، شاعرا ، محسنا ،
سمحا ، سخيّا ، طلق اللسان ، وكان يلبس البياض ويعتمّ به ويؤثره ، وكان قد أعطي
هيبة من وليّه وعدوّه ، وكان يحضر الجنائز ، ويصلّي عليها ، ويصلّي بالناس إذا كان
حاضرا الجمع والأعياد ، ويخطب على المنبر ، ويعود المرضى ، ويكثر مباشرة الناس
والمشي بينهم ، إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدّى له في منصرفه عنها رجل متظلّم عامي
وقاح ذو عارضة فقال له : أصلح الله الأمير! إنّ قاضيك ظلمني ، وأنا أستجيرك من
الظلم ، فقال له : تنصف إن صدقت ، فمدّ الرجل يده إلى عنانه وقال : أيها الأمير ،
أسألك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك ، فوجم الأمير
والتفت إلى من حوله من حشمه ، فرآهم قليلا ، ودعا بالقاضي ، وأمر بإنصافه ، فلمّا
عاد إلى قصره كلّمه بعض رجاله ممّن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى ، فقال له :
إنّ هذا الخروج الكثير ـ أبقى الله تعالى الأمير! ـ لا يجمل بالسلطان العزيز ،
وإنّ عيون العامّة تخلق تجلته ، ولا تؤمن بوادرهم عليه ، فليس الناس كما عهدوا ،
فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل ، ووكّل بذلك ولده هشاما.
ومن نظم عبد
الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام : [بحر الخفيف]
__________________
أيها الراكب
الميمّم أرضي
|
|
اقر منّي بعض
السلام لبعضي
|
إنّ جسمي كما
تراه بأرض
|
|
وفؤادي ومالكيه
بأرض
|
قدّر البين
بيننا فافترقنا
|
|
وطوى البين عن
جفوني غمضي
|
قد قضى الدهر
بالفراق علينا
|
|
فعسى باجتماعنا
سوف يقضي
|
وكتب إلى بعض من
وفد عليه من قومه لما سأله الزيادة في رزقه ، واستقلّ ما قابله به وذكّره بحقّه
بهذه الأبيات : [بحر مخلع البسيط]
شتّان من قام ذا
امتعاض
|
|
منتضي الشّفرتين
نصلا
|
فجاب قفرا وشقّ
بحرا
|
|
مساميا لجّة
ومحلا
|
دبّر ملكا وشاد
عزّا
|
|
ومنبرا للخطاب
فصلا
|
وجنّد الجند حين
أودى
|
|
ومصّر المصر حين
أجلى
|
ثم دعا أهله
إليه
|
|
حيث انتؤوا أن
هلمّ أهلا
|
فجاء هذا طريد
جوع
|
|
شديد روع يخاف
قتلا
|
فنال أمنا ونال
شبعا
|
|
ونال مالا ونال
أهلا
|
ألم يكن حقّ ذا
على ذا
|
|
أعظم من منعم
ومولى
|
وحكى ابن حيان أن
عبد الرحمن لمّا أذعن له يوسف صاحب الأندلس واستقرّ ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة
، فانثالوا عليه ، ووالى القعود لهم في قصره عدّة أيام في مجالس يكلّم فيها رؤساءهم
ووجوههم بكلام سرّهم وطيّب نفوسهم ، مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم ، فانصرفوا عنه
محبورين مغتبطين ، يتدارسون كلامه ، ويتهافتون بشكره ، ويتهانون
بنعمة الله تعالى عليهم فيه. وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجل من جند قنسرين
يستجديه فقال له : يا ابن الخلائف الراشدين ، والسادة الأكرمين ، إليك فررت ، وبك
__________________
عذت ، من زمن ظلوم
، ودهر غشوم ، قلّل المال ، وكثر العيال ، وشعث الحال ، فصيّر إلى نداك المآل ،
وأنت ولي الحمد والمجد ، والمرجوّ للرّفد ، فقال له عبد الرحمن مسرعا : قد سمعنا
مقالتك ، وقضينا حاجتك ، وأمرنا بعونك على دهرك ، على كرهنا لسوء مقامك ، فلا
تعوذنّ ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطّلبة ،
وإذا ألمّ بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك ، كيما نستر عليك
خلّتك ، ونكفّ شمات العدوّ عنك ، بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عزّ وجهه بإخلاف الدعاء وصدق النيّة ، وأمر له بجائزة حسنة ، وخرج الناس
يتعجّبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه ، وكفّ فيما بعد ذوي الحاجات عن مقابلته
بها شفاها في مجلسه.
قال ابن حيان :
ووقّع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع : أما بعد ،
فدعني من معاريض المعاذير ، والتعسّف عن جادة الطريق ، لتمدّنّ يدا إلى الطاعة ، والاعتصام
بحبل الجماعة ، أو لأزوينّ بنانها عن رصف المعصية ، نكالا بما قدمت يداك ، وما الله بظلّام للعبيد.
وفي «المسهب» أن
عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي ، الذي يرتدّ عنه أكثر بني مروان حسيرا.
وقد جرى بينه وبين
مولاه بدر ما لا يجب إهماله ، وذلك أنه لمّا سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها
إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنيّة ، فأوّل ما بدأ به أن
قال : بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لمّا بلغ أقصى أمله. وقال وقد
أمره بالخروج إلى غزاة : إنما تعبنا أوّلا لنستريح آخرا ، وما أرانا إلّا في أشدّ
ممّا كنّا ، وأطال أمثال هذه الأقوال ، وأكثر الاستراحة في جانبه ، فهجره وأعرض
عنه ، فزاد كلامه ، وكتب له رقعة منها : أما كان جزائي في قطع البحر ، وجوب القفر ، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر ،
الذي أهانني في عيون أكفائي ، وأشمت بي أعدائي ، وأضعف أمري
__________________
ونهيي عند من يلوذ
بي ، وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني على الطمع والرجاء ، وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت
بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. فلمّا وقف عبد
الرحمن على رقعته اشتدّ غيظه عليه ، فوقّع عليها : «وقفت على رقعتك المنبئة عن
جهلك ، وسوء خطابك ، ودناءة أدبك ، ولئيم معتقدك ، والعجب أنك متى أردت أن تبني
لنفسك عندنا متاتا أتيت بما يهدم كل متات مشيّد ممّا تمن به ، ممّا قد أضجر
الأسماع تكراره ، وقدحت في النفوس إعادته ، ممّا استخرنا الله تعالى من أجله على
أمرنا باستئصال مالك ، وزدنا في هجرك وإبعادك ، وهضنا جناح إدلالك ، فلعلّ ذلك يقمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى ، فنحن
أولى بتأديبك من كل أحد ، إذ شرّك مكتوب في مثالبنا ، وخيرك معدود في مناقبنا».
فلمّا ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده ، وسلم للقضاء ، وعلم أنه لا ينفع فيه
قول ، ووجّه عبد الرحمن من استأصل ماله ، وألزمه داره ، وهتك حرمته ، وقصّ جناح
جاهه ، وصيّره أهون من قعيس على عمّته ، ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من
مخاطبة مولاه ، تارة يستلينه ، وتارة يذكره ، وتارة ينفث مصدورا بخطّ قلمه ما
يلقيه عليه بلسانه ، غير مفكر فيما يؤول إليه ، إلى أن كتب له : قد طال هجري ،
وتضاعف همّي وفكري ، وأشدّ ما عليّ كوني سليبا من مالي ، فعسى أن تأمر لي بإطلاق
مالي وأتّحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ، ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت ،
فوقّع له : إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته ،
ولا سبيل إلى ردّ مالك ، فإنّ تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلّي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه
بالنقمة ، فايأس من ذلك ، فإن اليأس مريح. فسكت لمّا وقف على هذه الإجابة مدّة إلى
أن أتى عيد فاشتدّ به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس ،
فكتب إليه في ذلك رقعة منها : «وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء
إليك وسعى في خراب دولتك ، ممّن عفوت عنه ، فتبنّك النعمة في ذراك ، واقتعد ذروة العزّ ، وأنا على ضدّ من هذا سليبا
من النعمة ، مطّرحا حضيض الهوان ، أيأس ممّا يكون ، وأقرع السنّ على ما كان».
فلمّا وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر ، وكتب له على ظهر
رقعته : «لتعلم
__________________
أنك لم تزل بمقتك
، حتى ثقلت على العين طلعتك ، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك ، ثم زدت إلى أن
ثقل على النفس جوارك ، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلّا ما أقصرت ،
ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق معي الدنيا ، ورأيتك تشكو لفلان وتتألّم من فلان ، وما تقوّلوه عليك ،
وما لك عدوّ أكبر من لسانك ، فما طاح بك غيره ، فاقطعه قبل أن يقطعك».
ولمّا فتح الداخل
سرقسطة ، وحصل في يده ثائرها الحسين الأنصاري ، وشدخت رؤوس وجوهها بالعمد ، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله ،
أقبل خواصّه يهنّئونه ، فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند ، فهنّأه بصوت عال
، فقال : والله لو لا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليّ فيه النعمة من هو فوقي فأوجب
عليّ ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال ، من تكون
حتى تقبل مهنّئا رافعا صوتك غير متلجلج ولا متهيّب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها
حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟ وإنّ جهلك ليحملك على العود لمثلها ، فلا تجد مثل
هذا الشافع في مثلها من عقوبة ، فقال : ولعلّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتّصال
جهلي وذنوبي ، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة ، لا أعدمنيه الله تعالى ، فتهلّل
وجه الأمير ، وقال : ليس هذا باعتذار جاهل ، ثم قال : نبّهونا على أنفسكم ، إذا لم
تجدوا من ينبّهنا عليها ، ورفع مرتبته ، وزاد في عطائه.
ولمّا أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال
: لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم ، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم ، يشير إلى
استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين.
ولمّا اشتدّ الكرب
بين يديه يوم حربه مع الفهري ، ورأى شدّة مقاساة أصحابه ، قال : هذا اليوم هو أسّ
ما يبنى عليه ، إمّا ذلّ الدهر وإمّا عزّ الدهر ، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون
تربحوا بها بقيّة أعماركم فيما تشتهون.
ولمّا خرج من
البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر ، فقال : إني محتاج لما يزيد
__________________
في عقلي ، لا لما
ينقصه ، فعرفوا بذلك قدره ، ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال : إن هذه
من القلب والعين بمكان ، وإن أنا اشتغلت عنها بهمّتي فيما أطلبه ظلمتها ، وإن
اشتغلت بها عمّا أطلبه ظلمت همتي ، ولا حاجة لي بها الآن ، وردّها على صاحبها.
ولمّا استقامت له
الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال : لولا أنا ما توصّل لهذا الملك ، ولكان منه
أبعد من العيّوق ، وأن آخر قال :
سعده أعانه ، لا عقله وتدبيره ، فحركه ذلك إلى أن قال : [بحر الكامل]
لا يلف ممتنّ
علينا قائل
|
|
لولاي ما ملك
الأنام الداخل
|
سعدي وحزمي
والمهنّد والقنا
|
|
ومقادر بلغت
وحال حائل
|
إنّ الملوك مع
الزمان كواكب
|
|
نجم يطالعنا
ونجم آفل
|
والحزم كلّ
الحزم أن لا يغفلوا
|
|
أيروم تدبير
البريّة غافل؟
|
ويقول قوم سعده
لا عقله
|
|
خير السعادة ما
حماها العاقل
|
أبني أميّة قد
جبرنا صدعكم
|
|
بالغرب رغما
والسعود قبائل
|
ما دام من نسلي
إمام قائم
|
|
فالملك فيكم
ثابت متواصل
|
وحكى ابن حيان أن
جماعة من القادمين عليه من قبل الشام حدّثوه يوما في بعض مجالسهم عنده ما كان من
الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم ، وكلامه لعبد الله بن علي بن عبد الله بن
عباس الساطي بهم ، وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسوّدة من دعاة القوم وشيعتهم
رادّا على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية ، وسلبهم والبراءة منهم ، فلم
تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والردّ عليه بتفضيله لأهل بيته
والذبّ عنهم ، وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصّه بريقه ، وعاجل الغمر
بالحتف ، فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام ، وكثر القوم
في تعظيم ذلك ، فكأنّ الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما
كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوّهم ، والأنف من طاعتهم ، والسعي في
اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه ، وقام عن مجلسه ، فصاغ هذه الأبيات بديهة : [بحر
مخلع البسيط]
__________________
شتّان من قام ذا
امتعاض
|
|
فمرّ ما قال
واضمحلا
|
ومن غدا مصلتا
لعزم
|
|
مجرّدا للعداة
نصلا
|
فجاب قفرا وشقّ
بحرا
|
|
ولم يكن في
الأنام كلّا
|
فشاد ملكا وشاد
عزّا
|
|
ومنبرا للخطاب
فصلا
|
وجنّد الجند حين
أودى
|
|
ومصّر المصر حين
أجلى
|
ثم دعا أهله
جميعا
|
|
حيث انتؤوا أن
هلمّ أهلا
|
وله غير ذلك من
الشعر ، وسيأتي بعضه ممّا يقارب هذه الطبقة.
وأول ناصر لعبد
الرحمن سائر معه في الخمول والاستخفاء مولاه المتقدّم الذكر ، سعى في سلطانه شرقا
وغربا وبرّا وبحرا ، فلمّا كمل له الأمر سلبه من كل نعمة ، وسجنه ، ثم أقصاه إلى
أقصى الثغر ، حتى مات وحاله أسوأ حال ، والله تعالى أعلم بالسرائر ، فلعلّ له عذرا
ويلومه من يسمع مبدأه ومآله .
ورأس الجماعة
الذين توجّه إليهم بدر في القيام بسلطانه أبو عثمان ، ولمّا توطّدت دولة الداخل
استغنى عنه وعن أمثاله ، فأراد أبو عثمان أن يشغل خاطره ، وينظر في شيء يحتاج به
إليه ، فجعل ابن أخيه يثور عليه في حصن من حصون إلبيرة ، فوجّه عبد الرحمن
من قبض عليه وضرب عنقه ، ثم أخذ أبو عثمان مع ابن أخي الداخل ، وزيّن له القيام
عليه ، فسعي لعبد الرحمن بابن أخيه قبل أن يتمّ أمره ، فرب عنقه وأعناق الذين
دبّروا معه ، وقيل له : إن أبا عثمان كان معه ، وهو الذي ضمن له تمام الأمر ، فقال
: هو أبو سلمة هذه الدولة ، فلا يتحدّث الناس عنه بما تحدّثوا عن بني
العباس في شأن أبي سلمة ، لكن سأعتبه عتبا أشدّ من القتل ،
__________________
وجعل يوعده ، ورجع له إلى ما كان عليه في الظاهر.
وكان صاحبه الثاني
في المؤازرة والقيام بالدولة صهره عبد الله بن خالد ، وكان قد ضمن لأبي الصباح
رئيس اليمانية عن الداخل أشياء لم يف بها الداخل ، وقتل أبا الصباح ، فانعزل عبد
الله وأقسم لا يشتغل بشغل سلطان حياته ، فمات منفردا عن السلطان.
وكان ثالثهما في
النصرة والاختصاص تمّام بن علقمة ، وهو الذي عبر البحر إليه وبشّره باستحكام أمره
، فقتل هشام بن عبد الرحمن ولد تمام المذكور ، وكذلك فعل بولد أبي عثمان المتقدّم
الذكر. قال ابن حيان : فذاقا من ثكل ولديهما على يدي أعزّ الناس عليهما ما أراهما
أنّ أحدا لا يقدر أن ينظر في تحسين عاقبته.
وإذا تتبّع الأمر
في الذين يقومون في قيام دولة كان مآلهم مع من يظهرونه هذا المآل وأصعب.
وذكر أن أول حجّاب
الداخل تمام بن علقمة مولاه ذو العمر الطويل ، ثم يوسف بن بخت الفارسي ، مولى عبد
الملك بن مروان ، وله بقرطبة عقب نابه ، ثم عبد الكريم بن مهران من ولد الحارث بن أبي شمر
الغساني ، ثم عبد الرحمن بن مغيث بن الحارث بن حويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني ،
وأبوه مغيث فاتح قرطبة ، الذي تقدمت ترجمته ، ثم منصور الخصيّ ، وكان أول خصيّ
استحجبه بنو مروان بالأندلس ، ولم يزل حاجبه إلى أن توفي الداخل.
ولم يكن للداخل من
يطلق عليه سمة وزير ، لكنه عيّن أشياخا للمشاورة والمؤازرة ، أولهم أبو عثمان
المتقدّم الذكر ، وعبد الله بن خالد السابق الذكر ، وأبو عبدة صاحب إشبيلية ،
وشهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان بن الحكم ، وكان من سبي البرابر ،
وقيل : إنه رومي ، وبنو شهيد الفضلاء من نسله ، وعبد السلام بن بسيل الرومي مولى
عبد الله بن معاوية ، ولولده نباهة عظيمة في الوزارة وغيرها ، وثعلبة بن عبيد بن
النظام الجذمي صاحب سرقسطة لعبد الرحمن ، وعاصم بن مسلم الثقفي من كبار شيعته وأول
من خاض النهر وهو عريان يوم الوقعة بقرطبة ، ولعقبه في الدولة نباهة .
__________________
وأول من كتب له
عند خلوص الأمر له واحتلاله بقرطبة كبير نقبائه أبو عثمان وصاحبه عبد الله بن خالد
المتقدّما الذكر ، ثم لزم كتابته أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان ، وكان في
عديد من يشاوره أيضا ويفضل أمره وآراءه ، وكان يكتب قبله ليوسف الفهري ، وقيل :
إنه ممّن اتّهم في ممالأة اليزيدي في إفساد دولة عبد الرحمن ، فاتفق أن مات قبل
قتل اليزيدي واطلاع عبد الرحمن على الأمر.
وذكر ابن زيدون أن
الداخل ألفى على قضاء الجماعة بقرطبة يحيى بن يزيد اليحصبي ، فأقرّه حينّا ، ثم
ولّى بعده أبا عمرو معاوية بن صالح الحمصي ، ثم عمر بن شراحيل ، ثم عبد الرحمن بن
طريف ، وكان جدار بن عمرو يقضي في العساكر.
وكان الداخل يرتاح
، لمّا استقرّ سلطانه بالأندلس ، إلى أن يفد عليه فلّ بيته بني مروان ، حتى
يشاهدوا ما أنعم الله تعالى عليه ، وتظهر يده عليهم ، فوفد عليه من بني هشام بن عبد الملك أخوه الوليد بن
معاوية وابن عمّه عبد السلام بن يزيد بن هشام. قال ابن حيان : وفي سنة ١٦٣ قتل
الداخل عبد السلام بن يزيد بن هشام المعروف باليزيدي ، وقتل معه من الوافدين عليه
عبيد الله بن أبان بن معاوية بن هشام المعروف باليزيدي ، وهو ابن أخي الداخل ، وكانا
تحت تدبير يبرمانه في طلب الأمر ، فوشى بهما مولى لعبيد الله بن أبان ، وكان قد
ساعدهما على ما همّا به من الخلاف أبو عثمان كبير الدولة ، فلم ينله ما نالهما.
وذكر الحجاري أن
الداخل كان يقول : أعظم ما أنعم الله تعالى به عليّ بعد تمكّني من هذا الأمر
القدرة على إيواء من يصل إليّ من أقاربي ، والتوسّع في الإحسان إليهم ، وكبري في
أعينهم وأسماعهم ونفوسهم بما منحني الله تعالى من هذا السلطان الذي لا منّة علي
فيه لأحد غيره.
وذكر ابن حزم أنه
كان فيمن وفد عليه ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية ، فسعى في طلب الأمر لنفسه
، فقتله سنة ١٦٧ ، وقتل معه من أصحابه هذيل بن الصّميل بن حاتم ، ونفى أخاه الوليد
بن معاوية والد المغيرة المذكور إلى العدوة بماله وولده وأهله.
وفي «المسهب» حدّث
بعض موالي عبد الرحمن الخاصّين به أنه دخل على الداخل إثر قتله ابن أخيه المغيرة
المذكور ، وهو مطرق شديد الغمّ ، فرفع رأسه إليّ وقال : ما عجبي إلّا من هؤلاء
القوم ، سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة ، وخاطرنا فيه بحياتنا ، حتى
__________________
إذا بلغنا منه إلى
مطلوبنا ، ويسّر الله تعالى أسبابه ، أقبلوا علينا بالسيوف ، ولمّا أويناهم
وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرّت عليهم أخلاف النعم هزّوا
أعطافهم ، وشمخوا بآنافهم ، وسموا إلى العظمى ، فنازعونا فيما منحنا الله تعالى ،
فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم ، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا ،
وأدّى ذلك إلى أن ساء ظنّنا في البريء منهم ، وساء أيضا ظنّه فينا ، وصار يتوقّع
من تغيرنا عليه ما نتوقّع نحن منه ، وإن أشدّ ما عليّ في ذلك أخي والد هذا المخذول
، فكيف تطيب لي نفس بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه؟! أم كيف يجتمع بصري مع بصره؟
اخرج له الساعة فاعتذر إليه ، وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه ، واعزم عليه في
الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من برّ العدوة.
قال : فلمّا وصلت
إلى أخيه فوجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء ، فآنسته وعرفته ، ودفعت له المال ،
وأبلغته الكلام ، فتأوّه وقال : إن المشؤوم لا يكون بليغا في الشؤم حتى يكون على
نفسه وعلى سواه ، وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل
طلب العافية ، وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرّة الزمان وكلّه ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، لا مردّ لما حكم به وقضاه
، ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى برّ العدوة.
قال : ورجعت إلى
الأمير فأعلمته بقوله ، فقال : إنه نطق بالحق ، ولكن لا يخدعني بهذا القول عمّا في
نفسه ، والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عفّ عنه لحظة ، فالحمد لله الذي أظهرنا
عليهم بما نويناه فيهم ، وأذلّهم بما نووه فينا.
واعلم أنه دخل
الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم
غير واحد من المؤرخين ، وذكر أعقابهم بالأندلس ، ومنهم جزيّ بن عبد العزيز أخو عمر
بن عبد العزيز ، وسيأتي قريبا.
وقد ثار على عبد
الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفّره الله تعالى بهم ، وقد سبق
ذكر بعضهم ، ومنهم الدعي الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره ، وطال شرّه
سنين متوالية ، إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله.
ومنهم حيوة بن
ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية ، وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة ، وعمرو بن
طالوت رئيس باجة ، اجتمعوا وتوجّهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح
، فقتلوا في هزيمة عظيمة ، وقيل : نجوا بالفرار ، فأمّنهم الداخل.
__________________
وفي سنة ١٥٧ ثار
بسرقسطة الحسين بن يحيى بن سعد بن عبادة الخزرجي ، وشايعه سليمان بن يقظان الأعرابي
الكلبي رأس الفتن ، وآل أمرهما إلى أن فتك الحسين بسليمان ، وقتل الداخل الحسين
كما مرّ.
وفي سنة ١٦٣ ثار
الرحامس بن عبد العزيز الكناني بالجزيرة الخضراء ، فتوجّه له عبد
الرحمن الداخل ، ففرّ في البحر إلى المشرق.
قال ابن حيان :
كان مولد ، عبد الرحمن الداخل سنة ١١٣ ، وقيل : في التي قبلها ، بالعلياء من تدمر
، وقيل : بدير حنا من دمشق ، وبها توفي أبوه معاوية في حياة أمير المؤمنين هشام بن
عبد الملك ، وكان قد رشّحه للخلافة ـ وبقبر معاوية المذكور استجار الكميت الشاعر
حين أهدر هشام دمه ـ وتوفي الداخل لست بقين من ربيع الآخر سنة ١٧١ ،
وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة أشهر ، وقيل : اثنتان وستون سنة ، ودفن بالقصر من
قرطبة ، وصلّى عليه ابنه عبد الله.
وكان منصورا
مؤيّدا مظفّرا على أعدائه ، وقد سردنا من ذلك جملة ، حتى قال بعضهم: إنّ الراية
التي عقدت له بالأندلس حين دخلها لم تهزم قط ، وإنّ الوهن ما ظهر في ملك بني أمية إلّا بعد ذهاب تلك الراية ، قال
أكثر هذا مؤرخ الأندلس الثّبت الثقة أبو مروان بن حيّان ، رحمه الله تعالى!
ولا بأس أن نورد
زيادة على ما سلف وإن تكرّر بعض ذلك ، فنقول : قال بعض المؤرخين من أهل المغرب بعد
كلام ابن حيان الذي قدّمنا ذكره ، ما نصّه : كان الإمام عبد الرحمن الداخل راجح
العقل ، راسخ الحلم ، واسع العلم ، كثير الحزم ، نافذ العزم ، لم ترفع له قط راية
على عدوّ إلّا هزمه ، ولا بلد إلّا فتحه ، شجاعا ، مقداما ، شديد الحذر ، قليل
الطمأنينة ، لا يخلد إلى راحة ، ولا يسكن إلى دعة ، ولا يكل الأمر إلى غيره ، كثير الكرم ، عظيم السياسة ،
يلبس البياض ، ويعتمّ به ، ويعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، ويصلّي بالناس في الجمع
والأعياد ، ويخطب بنفسه ، جنّد الأجناد ، وعقد الرايات ، واتّخذ الحجّاب والكتّاب
، وبلغت جنوده مائة ألف فارس.
__________________
وملخّص دخوله
الأندلس أنه لمّا اشتدّ الطلب على فلّ بني أمية بالمشرق من وارثي ملكهم بني العباس
خرج مستترا إلى مصر ، فاشتدّ الطلب على مثله ، فاحتال حتى وصل برقة ، ثم لم يزل
متوغّلا في سيره إلى أن بلغ المغرب الأقصى ، ونزل بنفزة وهم أخواله ، فأقام عندهم أياما ثم ارتحل إلى مغيلة
بالساحل ، فأرسل مولاه بدرا بكتابه إلى مواليهم بالأندلس عبيد الله بن عثمان وعبد
الله بن خالد وتمام بن علقمة وغيرهم ، فأجابوه واشتروا مركبا وجهّزوه بما يحتاج
إليه ، وكان الذي اشتراه عبيد الله بن عثمان ، وأركب فيه بدرا ، وأعطاه خمسمائة
دينار برسم النفقة ، وركب معه علقمة بن تمام بن علقمة ، وبينما هو يتوضّأ لصلاة المغرب على الساحل إذ
نظر إلى المركب في لجّة البحر مقبلا حتى أرسى أمامه ، فخرج إليه بدر سابحا ،
فبشّره بما تمّ له بالأندلس ، وبما اجتمع عليه الأمويون والموالي ، ثم خرج إليه
تمام ومن معه في المركب فقال له : ما اسمك وما كنيتك؟ فقال : اسمي تمام ، وكنيتي
أبو غالب ، فقال : تم أمرنا وغلبنا عدوّنا إن شاء الله تعالى ، ثم ركبوا المركب
معه فنزل بالمنكّب ، وذلك غرة ربيع الأول سنة ١٣٨.
فلمّا اتّصل خبر
جوازه بالأموية أتاه عبيد الله بن عثمان وجماعة فتلقّوه بالإعظام والإكرام ، وكان
وقت العصر ، فصلّى بهم العصر ، وركبوا معه إلى قرية طرّش من كور إلبيرة فنزل بها ،
وأتاه بها جماعة من وجود الموالي وبعض العرب ، فبايعوه وكان من أمره ما يذكر ،
وقيل : إنه أقام بإلبيرة حتى كمل من معه ستمائة فارس من موالي بني أمية ووجوه
العرب ، فخرج من إلبيرة إلى كورة ريّة فدخلت في جماعته ثم بايعته أهلها وأجنادها ،
ثم ارتحل إلى شذونة ثم إلى مدور ، ثم سار إلى إشبيلية.
وقال بعضهم : لمّا
أراد عبد الرحمن قصد قرطبة عند دخوله الأندلس من المشرق نزل بطشّانة ، فأشاروا
عليه أن يعقد له لواء ، فجاؤوا بعمامة وقناة ، فكرهوا أن يميلوا القناة تطيرا ،
فأقاموها بين شجرتين من الزيتون متجاورتين ، وصعد رجل على فرع إحداهما فعقد اللواء
والقناة قائمة ، وتبرّك هو وولده بهذا اللواء ، فكان بعد أن بلي لا تحلّ منه
العقدة التي عقدت أوّلا ، بل تعقد فوقها الألوية الجدد ، وهي مستكنة تحتها ، ولم
يزل الأمر على ذلك حتى انتهت الدولة إلى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد
الرحمن الداخل ، وقيل : إلى ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد
الرحمن الداخل ، فاجتمع الوزراء على
__________________
تجديد اللّواء ،
فلمّا رأوا تحت اللواء أسمالا خلقة ملفوفة معقدة جهلوها فاسترذلوها ، وأمروا بحلّها ونبذها ، وجدّدوا غيرها ، وكان جهور بن يوسف بن بخت شيخهم غائبا ،
فحضر في اليوم الثاني ، وطولع بالقصّة ، فأنكرها أشدّ إنكار ، وساءه ما فعلوه ،
وقال : إن جهلتم شأن تلك الأخلاق فكان ينبغي أن تتوقّفوا عن نبذها حتى تسألوا المشايخ
وتتفكّروا في أمرها ، وخبرهم خبرها ، فتطلّبوا تلك الأخلاق فلم توجد ، ويقال كما قال ابن حيان : إنه لم يزل يعرف
الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم ، وقد كان الذي عقده أوّلا عبد الله
بن خالد من موالي بني أمية ، وكان والده خالد عقد لواء مروان بن الحكم جدّ عبد
الرحمن الأعلى لمّا اجتمع عليه بنو أمية وبنو كلب بعد انقراض دولة بني حرب على قتال الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهط ، فانتصر على
الضحاك وقتله ، ولمّا عرف الأمير بقصة اللواء حزن أشدّ حزن ، وانفتقت عليه إثر ذلك
الفتوق العظام ، وكانوا يرون أنها جرت بسبب اللواء لأنه لم ينهزم قطّ جيش كان تحته
، على ما اقتضته حكمة الله التي لا تتوصّل إليها الأفكار ، وتولّى حمل هذا اللواء
لعبد الرحمن الداخل أبو سليمان داود الأنصاري ، ولم يزل يحمله ولده من بعده إلى
أيام محمد بن عبد الرحمن.
ولمّا تلاقى عبد
الرحمن الداخل مع أمير الأندلس يوسف الفهري بالقرب من قرطبة وتراسلا ، فخادعه
يومين آخرهما يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائة ، أظهر عبد الرحمن قبول الصلح ،
فبات الناس على ذلك ليلة العيد ، وكان قد أسرّ خلاف ما أظهر ، واستعدّ للحرب ،
ولمّا أصبح يوم الأضحى لم ينشب أن غشيت الخيل ، ووكّل عبد الرحمن بخالد بن زيد ، الكاتب
رسول يوسف جماعة ، وأمرهم إن كانت الدائرة عليهم أن يضربوا عنقه ، وإلّا فلا ،
فكان خالد يقول : ما كان شيء في ذلك الوقت أحبّ إليّ من غلبة عبد الرحمن الداخل
عدوّ صاحبي ، وركب عبد الرحمن جوادا ، فقالت اليمانية الذين أعانوه : هذا فتّى
حديث السنّ تحته جواد وما نأمن أول ردعة يردعها أن يطير منهزما على جواده ويدعنا ، فأتى عبد الرحمن
أحد مواليه فأخبره بمقالتهم ، فدعا أبا الصباح ، وكان له بغل أشهب
__________________
يسمّيه الكوكب ،
فقال له : إنّ فرسي هذا قلق تحتي ، لا يمكنني من الرمي ، فقدّم إلي بغلك المحمود
أركبه ، فقدّمه ، فلمّا ركب اطمأنّ أصحابه ، وقال عبد الرحمن لأصحابه : أي يوم هذا؟
قالوا : الخميس يوم عرفة ، فقال : فالأضحى غدا يوم الجمعة ، والمتزاحفان أموي
وفهري ، والجندان قيس ويمن ، قد تقابل الأشكال جدا ، وأرجو أنه أخو يوم مرج راهط ، فأبشروا وجدّوا
، فذكرهم يوم مرج راهط الذي كانت فيه الوقعة بين جدّه مروان بن الحكم وبين الضحاك
بن قيس الفهري ، وكانت يوم جمعة ويوم أضحى ، فدارت الدائرة لمروان على الضحاك ،
فقتل الضحاك ، وقتل معه سبعون ألفا من قبائل قيس وأحلافهم ، وقيل : إنه لم يحضر
مرج راهط من قيس مع مروان غير ثلاثة نفر : عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري ، وابن
هبيرة المحاربي ، وصالح الغنوي ، وكذا لم يحضر مع عبد الرحمن الداخل يوم الصّارة
غربي قرطبة من قيس غير ثلاثة : جابر بن العلاء بن شهاب ، والحصين بن الدجن ،
العقيليان ، وهلال بن الطفيل العبدي ، وكان الظفر لعبد الرحمن ، وانهزم يوسف ،
وصبر الصّميل بن حاتم بعده معذرا وعشيرته يحفونه ، فلمّا خاف انهزامهم عنه تحوّل
على بغله الأشهب معارضة لعبد الرحمن الداخل ، فمرّ به أبو عطاء فقال له : يا أبا
جوشن ، احتسب نفسك ، فإنّ للأشباه أشباها : أموي بأموي ، وفهري بفهري ، وكلبي
بكلبي ، ويوم أضحى بيوم أضحى ، ويمني بقيسي ، والله إنّي لأحسب هذا اليوم بمثل مرج
راهط سواء ، فقال له الصّميل ، كبرت وكبر علمك ، الآن تنجلي الغمّاء ، وسحرك منتفخ
، فانثنى أبو عطاء لوجهه منقلبا ، وانهزم الصّميل ، وملك عبد الرحمن قرطبة.
ويوسف الفهري هو
ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري ، باني القيروان ،
وأمير معاوية على إفريقية والمغرب ، وهو مشهور.
وأما الصّميل فهو
ابن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ، وقيل : الصميل بن حاتم بن عمرو بن جندع بن شمر بن
ذي الجوشن ، كان جدّه شمر من أشراف الكوفة وهو أحد قتلة الحسين ، رضي الله تعالى
عنه! ودخل الصّميل الأندلس حين دخل كلثوم بن عياض المغرب غازيا ، وساد بها ، وكان
شاعرا كثير السكر أمّيّا لا يكتب ، ومع ذلك فانتهت إليه في زمانه رياسة العرب
بالأندلس ، وكان أميرها يوسف الفهري كالمغلوب معه ، وكانت ولاية الفهري الأندلس
__________________
سنة تسع وعشرين
ومائة ، فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر ، وعنه كما مرّ انتقل سلطانها إلى بني أمية
، واستفحل ملكهم بها إلى بعد الأربعمائة ، ثم انتثر سلكهم ، وباد ملكهم ، كما وقع لغيرهم من الدول في القرون السالفة
، سنّة الله التي قد خلت في عباده.
وكانت مدة الأمراء
قبل عبد الرحمن الداخل من يوم فتحت الأندلس إلى هزيمة يوسف الفهري والصميل ستا
وأربعين سنة وشهرين وخمسة أيام ؛ لأن الفتح كان حسبما تقدّم لخمس خلون من شوّال
سنة اثنتين وتسعين ، وهزيمة يوسف يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان
وثلاثين ومائة ، والله غالب على أمره.
وحكي أن عبد
الرحمن بن معاوية دخل يوما على جدّه هشام ، وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك ، وكان
عبد الرحمن إذ ذاك صبيّا ، فأمر هشام أن ينحّى عنه ، فقال له مسلمة : دعه يا أمير
المؤمنين ، وضمّه إليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، هذا صاحب بني أمية ، ووزرهم عند زوال ملكهم ، فاستوص به خيرا ، قال : فلم أزل أعرف
مزية من جدي من ذلك الوقت.
وكان الداخل يقاس
بأبي جعفر المنصور في عزمه وشدّته وضبط المملكة ، ووافقه في أن أمّ كلّ منهما
بربرية ، وأنّ كلّا منهما قتل ابن أخيه ، إذ قتل المنصور ابن السفاح ، وقتل عبد
الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية.
ومن شعر عبد
الرحمن وقد رأى نخلة برصافته : [بحر الطويل]
تبدّت لنا وسط
الرّصافة نخلة
|
|
تناءت بأرض
الغرب عن بلد النخل
|
فقلت شبيهي في
التغرّب والنّوى
|
|
وطول اكتئابي عن
بنيّ وعن أهلي
|
نشأت بأرض أنت
فيها غريبة
|
|
فمثلك في
الإقصاء والمنتأى مثلي
|
سقتك غوادي
المزن في المنتأى الذي
|
|
يصحّ ويستمري
السّماكين بالوبل
|
وكان نقش خاتمه «بالله
يثق عبد الرحمن ، وبه يعتصم». وأشاع سنة ١٦٣ الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني
العباس ، وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته ، وعمل على أن يستخلف ابنه
سليمان بالأندلس في طائفة ، ويذهب بعامة من أطاعه ، ثم أعرض عن ذلك بسبب
__________________
أمر الحسين
الأنصاري الذي انتزى عليه بسرقسطة ، فبطل ذلك العزم.
ومن شعر عبد
الرحمن أيضا قوله يتشوّق إلى معاهد الشام : [بحر الخفيف]
أيها الراكب
الميمّم أرضي
|
|
اقر منّي بعض
السلام لبعضي
|
إنّ جسمي كما
علمت بأرض
|
|
وفؤادي ومالكيه
بأرض
|
قدّر البين
بيننا فافترقنا
|
|
وطوى البين عن
جفوني غمضي
|
قد قضى الله
بالفراق علينا
|
|
فعسى باجتماعنا
سوف يقضي
|
وترجمة الداخل
طويلة ، وقد ذكر منها ما فيه مقنع ، انتهى. والله تعالى الموفق للصواب. وفي بنائه
جامع قرطبة يقول بعضهم : [بحر الطويل]
وأبرز في ذات
الإله ووجهه
|
|
ثمانين ألفا من
لجين وعسجد
|
وأنفقها في مسجد
زانه التّقى
|
|
وقرّ به دين
النبيّ محمد
|
ترى الذهب
الوهّاج بين سموكه
|
|
يلوح كلمح
البارق المتوقّد
|
٣٣ ـ ومن الوافدين على الأندلس أبو الأشعث الكلبي.
دخل الأندلس ،
وكان شيخا مسنّا يروي عن أمّه عن عائشة ، رضي الله تعالى عنها! إلّا أنه كان مندرا
صاحب دعابة ، وكان مختصّا بعبد الرحمن بن معاوية ، وله منه مكانة لطيفة يدلّ
بها عليه ، ولمّا توفي حبيب بن عبدالملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك
بن مروان ، وكانت له من عبد الرحمن خاصّة لم تكن لأحد من أهل بيته ، جعل عبد
الرحمن يبكي ويجتهد في الدعاء والاستغفار لحبيب ، وكان إلى جنبه أبو الأشعث هذا
قائما ، وكانت له دالّة عليه ودعابة يحتملها منه ، فأقبل عند استقباره كالمخاطب
للمتوفّى علانية يقول : يا أبا سليمان ، لقد نزلت بحفرة قلّما يغني عنك فيها بكاء
الخليفة عبد الرحمن بعده ، فأعرض عنه عبد الرحمن ، وقد كاد التبسّم يغلبه ، هكذا
ذكره ابن حيّان ، رحمه الله تعالى في «المقتبس» ، ونقله عنه الحافظ ابن الأبار.
٣٤ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس جزي بن
عبدالعزيز ، أخو عمر بن عبد العزيز ، رضي الله تعالى عنه!
__________________
دخل الأندلس ،
ومات في مدّة الداخل ، وكان من أولياء الله تعالى مقتفيا سبيل أخيه عمر بن عبد العزيز ، رحمهما الله تعالى!.
٣٥ ـ ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة ،
الجذامي.
ويكنى أبا ثمامة ،
وجدّه صحابي ، وكان بكر هذا فقيها كبيرا من التابعين ، روى عن جماعة من الصحابة
كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد السّاعدي وسفيان بن
وهب الخولاني وحبّان بن سمح الصّدائي ، وقيد اسمه الدارقطني ، رحمه الله تعالى ،
حبّان. بكسر الحاء المهملة ، وبباء معجمة بواحدة ـ ونقله الأمير كذلك ، وهو ممّن
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد فتح مصر. قال ابن يونس : ويقال فيه
حبان بالكسر ، وحبّان بالفتح أصحّ ، انتهى ، وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت.
رجع ـ وممّن روى
عنه بكر من الصحابة أبو ثور الفهمي ، وأبو عميرة المزني ، وروى عن جماعة من
التابعين أيضا كسعيد بن المسيّب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة
سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم ، منهم ربيعة بن قيس الحملي وأبو عبد الرحمن الحبلي
وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانىء الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله
بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان
بن أمية القتباني وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني
وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي وهانىء بن معاوية الصدفي وغيرهم ممّن اشتمل على ذكرهم
التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس.
وممّن روى عن بكر
المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر بن ربيعة وأبو زرعة بن عبد الحكم
الإفريقي وغيرهم.
قال ابن يونس :
توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبدالملك ، وقيل : بل غرق في مجاز الأندلس ، سنة
ثمان وعشرين ومائة ، قال : وجدّه ثمامة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وله بمصر حديث رواه عمرو بن الحارث.
وقال أبو بكر عبد
الله بن محمد القيرواني المالكي في تاريخه المسمّى ب «رياض النفوس» وقد ذكر بكرا
هذا : إنه كان أحد العشرة التابعين ، يعني الموجّهين إلى إفريقية من قبل
__________________
عمر بن عبدالعزيز
في خلافته ليفقّهوا أهل إفريقية ويعلّموهم أمر دينهم ، قال : وأغرب بحديث عن عقبة
بن عامر ، لم يروه غيره فيما علمت ، حدّث عبد الله بن لهيعة عنه عن عقبة بن عامر
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ،
ولا تنه عن منكر ، وعليك بخاصّة نفسك». وحكى المالكي أيضا عن أبي سعيد بن يونس قال
: كان فقيها مفتيا ، سكن القيروان ، وكانت وفاته كما تقدّم ، وذكره الحميدي في
الداخلين إلى الأندلس ، ولم يذكره ابن الفرضي.
٣٦ ـ ومنهم زريق بن حكيم
، أحد المعدودين في الداخلين إلى الأندلس ، ذكره أبو الحسن بن النعمة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن
يوسف الرفاء القرطبي ، وحكي أنه كتب ذلك من خطّه ، وسمّاه مع جماعة منهم حبّان بن
أبي جبلة وعلي بن أبي رباح وأبو عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله الصنعاني
ومعاوية بن صالح وزيد بن الحباب العكلي ، وانتهى عددهم بزريق هذا سبعة ، ولم يذكره
ابن الفرضي ولا غيره ، قاله الحافظ أبو عبد الله القضاعي.
٣٧ ـ ومنهم زيد بن قاصد السّكسكي.
قال ابن الأبار :
وهو تابعي ، دخل الأندلس وحضر فتحها ، وأصله من مصر ، يروي عن عبد الله بن عمرو بن
العاص ، رضي الله تعالى عنه! وروى عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، ذكره
يعقوب بن سفيان ، وأورد له حديثّا ؛ من كتاب الحميدي ، انتهى.
٣٨ ـ ومنهم زرعة بن روح الشامي.
دخل الأندلس ،
وحدّث عنه ابنه مسلمة بن زرعة بحكاية عن القاضي مهاجر بن نوفل.
٣٩ ـ ومنهم محمد بن أوس بن ثابت ،
الأنصاري.
قال ابن الأبار :
تابعي ، دخل الأندلس ، يروي عن أبي هريرة ، قرأته بخطّ ابن حبيش ، وقال أبو سعيد
بن يونس مؤرّخ مصر : إنه يروي عنه الحارث بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ،
وكان غزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير ، ويروي عن أبي هريرة ، رضي الله عنه!
وقال الحميدي : إنه كان من أهل الدين والفضل معروفا بالفقه ، ولي بحر إفريقية سنة
ثلاث وتسعين ، وغزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير ، فيما حكاه ابن
__________________
يونس صاحب تاريخ
مصر ، وكان على بحر تونس سنة ثنتين ومائة على ما حكاه عبد الرحمن بن عبد الله بن
عبد الحكم. ولمّا قتل يزيد بن أبي مسلم والي إفريقية اجتمع رأي أهلها عليه ،
فولّوه أمرهم ، وذلك في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ، إلى أن ولي بشر بن
صفوان الكلبي إفريقية ، وكان على مصر فخرج إليها واستخلف أخاه حنظلة ، انتهى.
٤٠ ـ ومنهم عبد الملك بن عمر بن مروان
بن الحكم ، الأموي .
فرّ من الشام خوفا
من المسوّدة ، فمرّ بمصر ومضى إلى الأندلس ، وقد غلب عليها الأمير عبد الرحمن بن
معاوية الداخل ، فأكرمه ونوّه به ، وولّاه إشبيلية لأنه كان قعدد بني أمية ، ثم إنه لمّا وجد الداخل يدعو لأبي جعفر المنصور
أشار عليه بقطع اسمه من الخطبة ، وذكّره بسوء صنيع بني العباس ببني أمية ، فتوقّف
عبد الرحمن في ذلك ، فما زال به عبد الملك حتى قطع الدعاء له ، وذلك أنه قال له
حين امتنع من ذلك : إن لم تقطع الخطبة لهم قتلت نفسي ، فقطع حينئذ عبد الرحمن
الخطبة بالمنصور بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر. ولمّا زحف أهل غرب الأندلس نحو قرطبة
لحرب الأمير عبد الرحمن أنهض إليهم عبد الملك هذا ، فنهض في معظم الجيش ، وقدّم
ابنه أمية أمامه في أكثر العساكر ، فخالطهم أمية ، فوجد فيهم قوّة ، فخاف الفضيحة
معهم ، فانحاز منهزما إلى أبيه ، فلما جاءه سقط في يده ، وقال له : ما حملك على أن استخففت بي وجرّأت الناس علي
والعدوّ؟ إن كنت قد فررت من الموت فقد جئت إليه ، فأمر بضرب عنقه ، وجمع أهل بيته
وخاصّته وقال لهم : طردنا من الشرق إلى أقصى هذا الصقع ، ونحسد على لقمة تبقي
الرمق ، اكسروا جفون السيوف ، فالموت أولى أو الظفر ، ففعلوا وحملوا ، وتقدّمهم ،
فهزم اليمانية وأهل إشبيلية ، ولم تقم بعدها لليمانية قائمة ، وقتل بين الفريقين
ثلاثون ألفا ، وجرح عبد الملك ، فأتاه عبد الرحمن وجرحه يجري دما وسيفه يقطر دما ،
وقد لصقت يده بقائم سيفه ، فقبّل بين عينيه ، وجزّاه خيرا ، وقال له : يا ابن عمّ ، قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاما
ابنتك فلانة ، وأعطيتها كذا وكذا ، وأعطيتك كذا ، ولأولادك كذا ، وأقطعتك وإياهم
كذا ، وولّيتكم الوزارة.
ومن شعره لمّا نظر
نخلة منفردة بإشبيلية فتذّكر وطنه بالشام ، وقال : [بحر الكامل]
__________________
يا نخل ، أنت
فريدة مثلي
|
|
في الأرض نائية
عن الأهل
|
تبكي وهل تبكي
مكمّمة
|
|
عجماء لم تجبل
على جبل
|
ولو أنها عقلت
إذا لبكت
|
|
ماء الفرات
ومنبت النخل
|
لكنها حرمت
وأخرجني
|
|
بغضي بني العباس
عن أهلي
|
٤١ ـ ومن الداخلين من المشرق إلى
الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين! ونزل حين دخوله بلبلة ، وتعرف منازلهم
فيها بمنازل الهاشمي ، وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه «أنساب
الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب».
٤٢ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله
بن المغيرة ، الكناني ، حليف بني عبد الدار.
سمّاه أبو محمد
الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين ، حكى ذلك عنه أبو القاسم بن
بشكوال في مجموعه المسمّى ب «التنبيه والتعيين» ، قال ابن الأبار : وما أراه يتابع
عليه ، وذكره أبو سعيد بن يونس من أهل إفريقية ، انتهى ، وذكر أنه يروي عن سفيان
بن وهب الخولاني.
٤٣ ـ ومنهم عبد الله المعمر الذي طرأ
على الأندلس في آخر الزمان ، وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين.
قال ابن الأبار :
روى عنه أبو محمد أسد الجهني ، ذكر ذلك القيسيّ ، وفيه عندي نظر ، انتهى.
٤٤ ـ ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن
شماسة بن ذئب
، المهري
روى عن أبي ذر ،
وقيل : عن أبي نضرة عن أبي ذر ، وعائشة وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وزيد بن
ثابت وأبي نضرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني وعوف بن مالك الأشجعي ، ومعاوية بن
حديج ومسلمة بن مخلد وأبي رهم ، ذكره ابن يونس في تاريخ مصر،
__________________
وسمّاه ابن بشكوال
في الداخلين الأندلس من التابعين ، وروي ذلك عن الحميدي ، قاله ابن الأبار ، وقال
ابن يونس : وآخر من حدّث عنه بمصر حرملة بن عمران.
٤٥ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس من
المشرق عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر ، رضي الله تعالى عنه!.
وقد ذكره ابن حيان
في مقتبسه ، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كتب له أن يدافع عبد الرحمن
المرواني الداخل للأندلس ، وكان المذكور إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق ،
وإنما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمّار وبني أمية من الثأر بسبب
قتل عمّار بصفّين ، وكان عمّار ، رضي الله تعالى عنه ، من شيعة علي ، كرّم الله
وجهه.
وهذا عبد الله بن
سعيد هو جدّ بني سعيد أصحاب القلعة الذين منهم عدّة رؤساء وأمراء وكتّاب وشعراء ،
ومنهم صاحب «المغرب» وغير واحد ممّن عرّفنا به في هذا الكتاب ، ومن مشاهيرهم أبو
بكر محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد ، صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثّمين ، قال : هو
القائل يفتخر : [بحر مخلع البسيط]
إن لم أكن
للعلاء أهلا
|
|
بما تراه فمن
يكون
|
فكلّ ما أبتغيه
دوني
|
|
ولي على همّتي
ديون
|
ومن يرم ما يقلّ
عنه
|
|
فذاك من فعله
جنون
|
فرع بأفق السماء
سام
|
|
وأصله راسخ مكين
|
وقوله : [بحر
المجتث]
الله يعلم أنّي
|
|
أحبّ كسب
المعالي
|
وإنّما أتوانى
|
|
عنها لسوء المآل
|
تحتاج للكدّ
والبذ
|
|
ل واصطناع
الرجال
|
دع كلّ من شاء
يسمو
|
|
لها بكلّ احتيال
|
فحالهم في
انعكاس
|
|
بها وحالي حالي
|
وتراجمهم واسعة ،
وقد بسطت في «المسهب» و «المغرب» وغيرهما ، وقد قدّمنا في الباب قبل هذا من أخبار
بني سعيد هؤلاء ما يثلج الصّدر فليراجع.
__________________
٤٦ ـ ومن الوافدين
على الأندلس من المشرق أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن
مزاحم بن غياث ، التميمي ، البخاري ، الحافظ ، نزيل مصر .
سمع ببخارى بلده
من إبراهيم بن محمد بن يزداد وأخيه أحمد ، وكانا يرويان معا عن عبد الرحمن بن أبي
حاتم الرازي وعن أبي الفضل السليماني ببيكند ، وأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار ، وأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي وأقرانه باليمن ،
وأبي القاسم تمام بن محمد الرازي بدمشق ، وابن أبي كامل بأطرابلس الشام ، وأبي
محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ بمصر ، وله رواية عن أبي نصر الكلاباذي ، وأبي عبد
الله الحاكم ، وأبي بكر بن فورك المتكلّم ، وأبي العباس بن الحاج الإشبيلي ، وأبي
القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، صاحب الهيثم بن كليب ، وأبي الفضل العباس بن محمد
الحدّاد التنيسي ، وأبي الفتح محمد بن إبراهيم بن الجحدري ، وأبي بكر محمد بن داود
العسقلاني ، وهلال الحفار وصدقة بن محمد بن مروان الدمشقي ، ولقي بإفريقية العابد
وليّ الله سيدي محرز بن خلف التميمي مولاهم وصحبه ، وقال : لقد هبته يوم لقيته لا
هيبة لم أجدها لأحد في نفسي من الناس ، ودخل الأندلس وبلاد المغرب ، وكتب بها عن
شيوخها ، ولم يزل يكتب إلى أن مات حتى كتب عمّن دونه ، وله «رسالة الرحلة وأسبابها
وقول لا إله إلّا الله وثوابها» ، فسمع منه أبو عبد الله الرازي وذكره في مشيخته ،
قال الحافظ ابن الأبار : ومنها نقلت اسمه وتعرّفت دخوله الأندلس ، وحدّث عنه هو
وجماعة منهم أبو مروان الطبني. وقال : هو من الرحالين في الآفاق ، أخبرني أنه
يحدّث عن مئين من أهل الحديث. وأبو عبد الله الحميدي ، وأبو بكر الطّليطلي ، وأبو عبد الله بن منصور الحضرمي ، وأبو سعيد الرهاوي ،
وأبو محمد جعفر بن محمد السراج ، وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي ، وأبو
الحسن بن مشرف الأنماطي ، وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي ، وأبو محمد شعيب بن
سبعون الطرطوشي ، وأبو بكر بن نعمة العابد ، وأبو الحسن علي بن الحسين الموصلي
الغراف ، وأبو عثمان سعد بن عبد الله الحيدري من شيوخ السلفي ، وأبو محمد عبد
الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي ، وأبو إسحاق الكلاعي من شيوخ أبي بحر الأسدي ،
وأبو محمد بن عتاب كتب إليه بجميع ما رواه
__________________
ولم يعرف ذلك في
حياته. وسمّاه أبو الوليد بن الدباغ في الطبقة العاشرة من طبقات أئمّة المحدّثين
من تأليفه ، مع أبي عمر بن عبد البرّ ، وأبي محمد بن حزم ، وأبي بكر بن ثابت
الخطيب ، وذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه ، وقال : سمع بما وراء النهر
والعراق ومصر واليمن والقيروان ، ثم سكن مصر ، وقدم دمشق قديما وحدّث بها ، وسمّى
جماعة كثيرة من الرواة عنه ، وحكي أنه قال : لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء حديث
أريد أن أمضي وأجيء بها ، قال : وسئل عن مولده ، فقال : في شهر ربيع الأول سنة
اثنتين وثمانين وثلاثمائة ، قال : وتوفي بالحوراء سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه!
انتهى.
قلت : والذي
أعتقده أنه لم يدخل الأندلس من أهل المشرق أحفظ منه للحديث ، وهو ثقة عدل ليس له
مجازفة ، والحقّ أبلج.
٤٧ ـ وممّن دخل الأندلس من المشرق عبد
الجبار بن أبي سلمة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ، القرشي ، الزهري.
دخل الأندلس مع
موسى بن نصير ، وكان على ميسرة معسكره ، ونزل باجة ثم بطليوس ، ومن نسله الزّهريون
الأشراف الذين كانوا بإشبيلية انتقلوا إلى سكناها قديما ، هكذا في خبر القاضي أبي
الحسين الزهري منهم عن أبي بكر بن خير وغيره ، قال ابن بشكوال في مجموعه المسمّى ب
«التنبيه والتعيين ، لمن دخل الأندلس من التابعين» : عبد الجبار بن أبي سلمة بن
عبد الرحمن بن عوف من التابعين ، وقع ذكره في كتاب شيخنا أبي الحسن بن مغيث ،
انتهى.
قال ابن الأبار :
ولم يزد على هذا ، انتهى.
٤٨ ـ ومن الداخلين إلى الأندلس من
المشرق أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب.
من أهل مصر ، وسكن
بغداد ، ويعرف بالطندتائي ، قرية بمصر نسب إليها ، روى عن أبي محمد الشارمساحي ،
وتفقّه به ، وقدم الأندلس رسولا بزعمه من عند الخليفة العباسي ، فسكن مرسية ، ودرس
بها ، وخرج منها سنة اثنتين وأربعين وستمائة بعد أن تملّكها النصارى صلحا ، وأسر
بناحية صقلية ، قال ابن الأبار : ثم بلغني أنه تخلّص ولحق ببلده ، رحمه الله تعالى!.
__________________
٤٩ ـ ومنهم عبد الخالق بن إبراهيم
الخطيب ، يكنى أبا القاسم.
قال ابن الأبار :
لا أعرف موضعه من بلاد المشرق ، وكان أديبا قويّ العارضة ، مطبوع الشعر ، مديد
النفس ، ومن شعره من قصيدة صنعها في وقت رحلته إلى الأندلس قوله : [بحر الطويل]
على الذلّ أو
فاحلل عقال الركائب
|
|
وللضّيم أو
فاحلل صدور الكتائب
|
فإمّا حياة بعد
إدراك منية
|
|
وإمّا ممات تحت
عزّ القواضب
|
فما العيش في
ظلّ الهوان بطيّب
|
|
وما الموت في
سبل العلاء بعائب
|
٥٠ ـ ومنهم أبو محمد عبد اللطيف بن أبي الطاهر أحمد بن محمد بن هبة
الله ، الهاشمي ، الصدفي.
من أهل بغداد ،
يعرف بالنّرسي ، دخل الأندلس ، وكان يزعم أنه روى عن أبي الوقت السّجزي وأبي الفرج
بن الجوزي وغيرهما ، وله تأليف سمّاه بالدّليل في الطريق ، من أقاويل
أهل التحقيق» ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وضعّفه بعد ما سمع منه ، أخذ
عنه وسمع منه هو وأبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم المغيلي وغيرهما ، وقال : ورد
علينا غرناطة قريبا من سنة ثلاث عشرة وستمائة ، وتوفي ـ عفا الله تعالى عنه ـ!
بإشبيلية قريبا من هذا التاريخ ، وقال فيه أبو القاسم بن فرقد : عبد اللطيف بن عبد
الله الهاشمي البغدادي النرسي ، منسوب إلى قرية من قرى بغداد ، سمع صحيح البخاري
من أبي الوقت السّجزي ، وروى عن غيره ، وله تآليف. قال ابن الأبار : في التصوّف ،
منها تأليف في إباحة السماع ، قرأت عليه أكثره ، وقرأت عليه عوالي النقيب بمدينة
إشبيلية بحومة القصر المبارك عام خمسة عشر وستمائة.
٥١ ـ ومنهم أبو بكر عمر بن عثمان بن
محمد بن أحمد ، الخراساني ، الباخرزي ، الماليني.
يكنى أبا بكر ،
سمع من أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني ، وأبي يعقوب يوسف بن عمر بن
أحمد الخالدي الزنجاني ، وقدم الأندلس ، وحدّث بصحيفتي الأشجّ
__________________
وجعفر بن نسطور
الرومي ، وسمع منه بغرناطة ومرسية وغيرهما من بلاد الأندلس ، وحدّث عنه أبو القاسم
الملاحي ، وسمع منه بمالقه أبو جعفر بن عبد الجبار وأبو علي بن هاشم في صفر سنة
٦٠٠ ، ومولده في ربيع الأوّل سنة ٥٦٠ ، انتهى من تكملة ابن الأبّار.
قلت : ولا يخفى
على من له بصر بعلم الحديث أن الأشج وابن نسطور لا يلتفت إليهما ، ويرحم الله
تعالى السّلفي الحافظ إذ قال : [بحر الطويل]
حديث ابن نسطور
وقيس ويعنم
|
|
وبعد أشجّ الغرب
ثم خراش
|
ونسخة دينار
ونسخة تربه
|
|
أبي هدبة
القيسيّ شبه فراش
|
قال ابن عات : كان
الحافظ السّلفي إذا فرغ من إنشاد هذين البيتين ينفخ في يديه إشارة إلى أن هذه
الأشياء كالريح ، انتهى.
٥٢ ـ ومن الوافدين على الأندلس من أهل
المشرق علي بن بندار بن إسماعيل بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك ، البرمكي ، من
أهل بغداد.
قدم الأندلس ،
تاجرا سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، وكان قد أخذ عن أبي الحسن عبد الله بن أحمد بن
محمد بن المغلس الفقيه الداودي ، وتلمذ له ، وسمع منه «الموضح» و «المنجح» من
تآليفه في الفقه ، وما تمّ له من أحكام القرآن ، هكذا نقله الحافظ ابن حزم عن أمير
المؤمنين الحكم المستنصر بالله المعتني بهذا الشأن ، رحمه الله تعالى!
٥٣ ـ ومنهم أبو العلاء عبيد بن محمد بن
عبيد ، أبو العلاء ، النيسابوري.
لقيه الحافظ أبو
علي الصدفي ببغداد وأخذ عنه إذ قدمها حاجّا ، وهو يحدّث عن أبي سعيد عبد الرحمن بن
أحمد البصروي ، قال أبو علي : وأراه دخل الأندلس ، ويغلب على ظنّي أني لقيته
بسرقسطة ، ذكر ذلك القاضي عياض في «المعجم» من تآليفه ، والله تعالى أعلم.
٥٤ ـ ومنهم سهل بن علي بن عثمان ،
التاجر ، النيسابوري ، يكنى أبا نصر.
سمع جماعة من
الخراسانيين وغيرهم ، منهم أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي وأبو الفتح السمرقندي ،
وأدرك الإمام أبا المعالي الجويني ، وحضر مجلسه ودرسه ، ولقي بعده أصحابه القشيري
والطوسي وغيرهما ، وكان شافعيّ المذهب ، ذكره عياض وقال : حدّثني بحكايات وفوائد ،
وأنشدني لأبي طاهر السّلفي ، وأجازني جميع رواياته وحدّثني أنّ وفاة أبي المعالي
كانت بنيسابور سنة خمس أو أربع وسبعين وأربعمائة ، وقال أبو محمد العثماني : أنشدني
أبو نصر سهل بن علي النيسابوري الحقواني قال : أنشدنا أبو الفتح نصر بن الحسن ،
أنشدنا أبو العباس العذري ، قال : أنشدنا أبو محمد بن حزم الحافظ لنفسه : [بحر
الطويل]
ولمّا رأيت
الشّيب حلّ مفارقي
|
|
نذيرا بترحال
الشباب المفارق
|
رجعت إلى نفسي
فقلت لها انظري
|
|
إلى ما أتى ،
هذا ابتداء الحقائق
|
دعي دعوات اللهو
قد فات وقتها
|
|
كما قد أفات
الليل نور المشارق
|
دعي منزل
اللّذّات ينزل أهله
|
|
وجدّي لما ندعى
إليه وسابقي
|
قال عياض : توفي
سهل هذا غريقا في البحر متصرفا إلى بلده من المريّة ، رحمه الله تعالى !.
٥٥ ـ ومنهم أبو المكارم هبة الله بن
الحسين ، المصري.
كان من أهل العلم
، عارفا بالأصول ، حافظا للحديث ، متيقّظا ، حسن الصورة والشّارة ، دخل الأندلس ،
وولي قضاء إشبيلية منها آخر شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
قال ابن الأبار :
وبه صرف أبو القاسم الخولاني ، وأقام بها سنة ، وحضر غزوة شنترين ، وكان قدوم أبي
المكارم هذا الأندلس خوفا من صلاح الدين يوسف بن أيوب في قوم من شيعة العبيدي ملك
مصر ، ووفد أيضا معه أبو الوفاء المصري ، ثم استصحبه أمير المؤمنين يعقوب المنصور
معه في غزوة قفصة الثانية ، وولّاه حينئذ قضاء تونس ، وكان قد ولي قضاء فاس ، وولي
أيضا أبو الوفا صاحبه القضاء ، وتوفي وهو متولي قضاء تونس سنة ست وثمانين وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.
٥٦ ـ ومنهم يحيى بن عبد الرحمن بن عبد
المنعم بن عبد الله ، القيسي ، الدمشقي.
أصله من دمشق ،
وبها ولد ، ويعرف بالأصبهاني في مجلس أبي طاهر السّلفي لدخوله إيّاها وإقامته بها
أزيد من خمسة أعوام لقراءة الخلافيات ، ويكنى أبا زكريا ، وسمع بالمشرق أبا بكر بن
ماشاذة السكري ، وأبا الرشيد بن خالد البيع ، وأبا الطاهر السلفي
وغيرهم ، وقصد المغرب بعد أداء الفريضة فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق الإشبيلي ،
وأجازه وحضّه على الوعظ والتذكير ، فامتثل ذلك ، ودخل الأندلس ، وتجوّل ببلادها ،
واستوطن غرناطة منها ،
__________________
وكان فقيها على
مذهب الشافعي ، عارفا بالأصول والتصوّف ، زاهدا ، ورعا ، كثير المعروف والصدقة ،
يعظ الناس ، ويسمع الحديث ، ولم يكن بالضابط فيما قاله الحافظ ابن الأبار ، قال : وله
كتاب «الروضة الأنيقة» من تأليفه ، حدّث عنه جماعة من الجلّة ، منهم أبو جعفر بن عميرة الضبي ابنا حوط الله أبو محمد وأبو سليمان ، وأبو القاسم الملاحي
، وأبو العباس بن الجيار ، وأبو الربيع بن سالم ، وقال : أنشدني عند توديعي إيّاه
بغرناطة قال : سمعت بعض المذكورين ينشد : [بحر السريع]
يا زائرا زار
وما زارا
|
|
كأنه مقتبس نارا
|
مرّ بباب الدار
مستعجلا
|
|
ما ضرّه لو دخل
الدارا
|
نفسي فداء لك من
زائر
|
|
ما زار حتى قيل
قد سارا
|
وسمع منه أبو جعفر
بن الدلال كتاب «المعالم» للخطّابي في شرح «سنن أبي داود» بقراءة جميعه عليه.
ومولده في شوال
سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، وتوفي بغرناطة بعد أن سكنها يوم الاثنين سادس شوّال
سنة ثمان وستمائة ، قال ابن الأبار : وفي هذا اليوم بعينه كانت وفاة شيخنا أبي عبد
الله بن نوح ببلنسية ، رحمهما الله تعالى!.
٥٧ ـ ومن الوافدين من المشرق إلى
الأندلس إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي ، القرشي.
من ذرّيّة عبد بن
زمعة أخي سودة أم المؤمنين ، رضي الله تعالى عنها!.
رحل من مصر إلى
الأندلس في زمن السلطان الحكم المستنصر بالله أعوام الستين وثلاثمائة حين ملك بنو
عبيد مصر وأظهروا فيها معتقدهم الخبيث ، فحلّ يومئذ من الحكم المستنصر محلّ الرحب
والسعة ، ولمّا ثارت الدولة العامرية أوى إلى إشبيلية ، وأوطنها دارا ، واتّخذها
قرارا ، وبها لقيه أبو عمر بن عبدالبر علّامة الأندلس فدرس عليه ، واقتبس ممّا
لديه ، وقد ذكره في تاريخ شيوخه ، ولم يزل عقبه بها إلى أن نجم منهم أبو الحسين سالم بن محمد بن سالم ، وهو من رجال «الذخيرة»
وله نثر ، كما تفتّح الزّهر ، وتدفّق البحر ، ونظم كما اتّسق الدّرّ ، وسفرت عن
محاسنها الأنجم الغرّ ، فمن نظمه قوله : [بحر الطويل]
__________________
خليليّ ، هل
ليلى ونجد كعهدنا
|
|
فيا حبّذا ليلى
ويا حبّذا نجد
|
عسى الدّهر أن
يقضي لنا بالتفاتة
|
|
فيا ربّ عهد قد
يجدّده بعد
|
وله أثناء رسالة
قوس : [بحر البسيط]
قوس العلا وضعت
في كفّ باريها
|
|
وأسهم الخطب
عادت نحو راميها
|
وإنما الشمس
لاحت في مطالعها
|
|
بلى وأجرى جياد
الخيل مجريها
|
ونشأ هذا النجم
الثاقب ، والصّيّب الساكب ، وقد أخذ من العلوم في غير ما فنّ ، وحقّق فيه كلّ ما ظنّ
، وذكره في «المسهب» و «سمط الجمان» وفضله أشهر ، رحمه الله تعالى!.
٥٨ ـ ومنهم أبو علي القالي ، صاحب
الأمالي والنوادر.
وفد على الأندلس
أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن ، فأمر ابنه الحكم ـ وكان يتصرّف عن أمر
أبيه كالوزير ـ عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة ، ويتلقّاه في وفد
من وجوه رعيّته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة لأبي علي ، ففعل ، وسار معه نحو
قرطبة في موكب نبيل ، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم ، ويتناشدون الأشعار ، إلى
أن تحاوروا يوما ، وهم سائرون ، أدب عبد الملك بن مروان ومساءلته جلساءه عن أفضل
المناديل وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب : [بحر البسيط]
ثمّت قمنا إلى
جرد مسوّمة
|
|
أعرافهنّ
لأيدينا مناديل
|
وكان الذاكر
للحكاية الشيخ أبا علي ، فأنشد الكلمة في البيت «أعرافها لأيدينا مناديل» فأنكرها
ابن رفاعة الألبيري ، وكان من أهل الأدب والمعرفة ، وفي خلقه حرج وزعارة ، فاستعاد
أبا علي البيت متثبّتا مرتين في كلتيهما أنشده «أعرافها» فلوى ابن رفاعة عنانه
منصرفا وقال : مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشّم الرحلة لتعظيمه ، وهو لا
يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه؟! والله لا تبعته خطوة ، وانصرف
عن الجماعة ، وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل ، فلم يجد فيه حيلة ، وكتب إلى
الحكم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة
__________________
ويشكوه ، فأجابه
على ظهر كتابه : الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وافد أهل العراق
إلينا ، وابن رفاعة أولى بالرضا عنه من السخط ، فدعه لشأنه ، وأقدم بالرجل غير
منتقص من تكرمته ، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطّه.
وبعض المؤرخين
يزعم أن وفادة أبي علي القالي إنما كانت في خلافة الحكم المستنصر بالأندلس ، لا في
خلافة أبيه الناصر ، والصواب أن وفادته في أيام الناصر ؛ لما ذكره غير واحد من
حصره وعيّه عن الخطبة يوم احتفال الناصر لرسول الإفرنج كما ألمعنا به في غير هذا
الموضع.
وفي القالي يقول
شاعر الأندلس الرمادي : [بحر الكامل]
من حاكم بيني
وبين عذولي؟
|
|
الشجو شجوي
والعويل عويلي
|
في أي جارحة
أصون معذّبي
|
|
سلمت من التعذيب
والتنكيل
|
إن قلت في بصري
فثم مدامعي
|
|
أو قلت في قلبي
فثمّ غليلي
|
لكن جعلت له
المسامع موضعا
|
|
وحجبتها عن عذل
كلّ عذول
|
ولمّا سمع المتنبي
البيت الثاني قال : يصونه في استه.
وكان الرمادي لمّا
سمع قول المتنبي : [بحر البسيط]
كفى بجسمي نحولا
أنني رجل
|
|
لولا مخاطبتي
إيّاك لم ترني
|
قال : أظنّه ضرطة
، والجزاء من جنس العمل.
وباسم أمير
المؤمنين الحكم المستنصر بالله طرّز الشيخ أبو علي القالي كتاب «الأمالي».
وكان الحكم كريما
، معنيّا بالعلم ، وهو الذي وجّه إلى الحافظ أبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن
يوجّه له نسخة من كتاب الأغاني ، وألّف أبو محمد الفهري كتابا في نسب أبي علي
البغدادي ورواياته ودخوله الأندلس. وحكى ابن الطيلسان عن ابن جابر أنه قرأ هذين
البيتين في لوح رخام كان سقط من القبّة المبنيّة على قبر أبي علي البغدادي عند
تهدّمها ، وهما : [بحر الطويل]
__________________
صلوا لحد قبري
بالطريق وودّعوا
|
|
فليس لمن وارى
التراب حبيب
|
ولا تدفنوني بالعراء
فربما
|
|
بكى أن رأى قبر
الغريب غريب
|
واسم أبي علي
إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان ، وجدّه سليمان
مولى عبد الملك بن مروان ، وكان أبو علي أحفظ أهل زمانه باللغة والشعر ونحو
البصريين ، وأخذ الأدب عن أبي بكر بن دريد الأزدي وأبي بكر بن الأنباري وابن
درستويه وغيرهم ، وأخذ عنه أبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب «مختصر العين». ولأبي
علي التصانيف الحسان ك «الأمالي» و «البارع» ، وطاف البلاد ، وسافر إلى بغداد سنة
٣٠٣ ، وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي ، ودخل بغداد سنة ٣٠٣.
وأقام بها إلى سنة ٣٢٨ ، وكتب بها الحديث ، ثم خرج من بغداد قاصدا الأندلس ، وسمع
من البغوي وغيره.
وقال ابن خلّكان :
ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة ، انتهى.
وهو ممّا يعين أنه
قدم في زمن الناصر ، لا في زمن ابنه الحكم كما تقدّم ، وقد صرّح بذلك الصفدي في
الوافي فقال : ولما دخل المغرب قصد صاحب الأندلس الناصر لدين الله عبد الرحمن ،
فأكرمه ، وصنّف له ولولده الحكم تصانيف وبثّ علومه هناك ، انتهى.
وقال ابن خلّكان
إنه استوطن قرطبة إلى أن توفي بها في شهر ربيع الآخر ، وقيل : جمادى الأولى سنة ٣٥٦
، ليلة السبت لستّ خلون من الشهر المذكور ، ودفن ظاهر قرطبة ، ومولده بمنازجرد من ديار بكر سنة ٢٨٨ ، وقيل : سنة ٢٨٠.
وإنما قيل له «القالي»
لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قاليقلا ، وهي من أعمال ديار بكر.
وهو من محاسن
الدنيا ، رحمه الله تعالى!
وعيذون : بفتح العين
، وسكون الياء المثناة التحتية ، وضمّ الذال المعجمة.
__________________
وقال ابن خلّكان
في ترجمة ابن القوطية : إن أبا علي القالي لمّا دخل الأندلس اجتمع به ، وكان يبالغ
في تعظيمه ، قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر : من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في
اللغة؟ فقال : محمد بن القوطية ، وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العبّاد
النّسّاك ، وكان جيّد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلّا أنه تركه
ورفضه ، وقال الأديب أبو بكر بن هذيل : إنه توجّه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة
، وهي من بقاع الأرض الطيبة المونقة ، فصادف أبا بكر بن القوطية المذكور صادرا عنها ، وكانت له
أيضا هناك ضيعة ، قال : فلما رآني عرّج عليّ ، واستبشر بلقائي ، فقلت مداعبا له : [بحر
البسيط]
من أين أقبلت يا
من لا شبيه له
|
|
ومن هو الشمس
والدنيا له فلك
|
قال : فتبسّم
وأجاب بسرعة : [بحر البسيط]
من منزل تعجب
النّسّاك خلوته
|
|
وفيه ستر على
الفتّاك إن فتكوا
|
فما تمالكت أن
قبّلت يده ، إذ كان شيخي ، ودعوت له ، انتهى.
وهو صاحب كتاب «الأفعال»
الذي فتح فيه هذا الباب ، فتلاه ابن القطّاع وله كتاب «المقصور والممدود» جمع فيه
ما لا يحدّ ولا يعد ، وأعجز من بعده به ، وفاق من تقدّمه ، رحمه الله تعالى ورضي
عنه!.
وممّن أخذ عن أبي
علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب «مختصر العين» وغيره ، وكان
الزبيدي كثيرا ما ينشد : [بحر السريع]
الفقر في
أوطاننا غربة
|
|
والمال في
الغربة أوطان
|
والأرض شيء كلّها
واحد
|
|
والناس إخوان
وجيران
|
وترجمة الزبيدي
واسعة ، وكان مؤدّب المؤيّد هشام ، ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء
، رحمه الله تعالى!.
وكان القالي قد
بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه ، ودقّق النظر ، وانتصر للبصريين ، وأملى شيئا من
حفظه ككتاب «النوادر» و «الأمالي» ، و «المقصور والممدود» ، و «الإبل والخيل» ، و
«البارع في اللغة» نحو خمسة آلاف ورقة ، ولم يصنّف مثله في الإحاطة
__________________
والجمع ، ولم يتمّ
، ورتّب كتاب «المقصور والممدود» على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق مستقصى في
بابه لا يشذّ منه شيء ، وكتاب «فعلت وأفعلت» وكتاب «مقاتل الفرسان» و «تفسير السبع
الطوال».
وكان الزبيدي
إماما في الأدب ، ولكنه عرف فضل القالي ، فمال إليه ، واختصّ به ، واستفاد منه ،
وأقرّ له.
وكان الحكم
المستنصر قبل ولايته الأمر وبعدها ينشط أبا علي ، ويعينه على التأليف بواسع العطاء
، ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام ، وكانوا يسمّونه «البغدادي» لوصوله إليها من
بغداد ، ويقال : إنّ الناصر هو الذي استدعاه من بغداد لولائه فيهم ، وفيه يقول
الرمادي متخلّصا في لاميّته السابق بعضها : [بحر الكامل]
روض تعاهده
السحاب كأنه
|
|
متعاهد من عهد
إسماعيل
|
قسه إلى الأعراب
تعلم أنّه
|
|
أولى من الأعراب
بالتفضيل
|
حازت قبائلهم
لغات فرّقت
|
|
فيهم وحاز لغات
كلّ قبيل
|
فالشرق خال بعده
وكأنما
|
|
نزل الخراب
بربعه المأهول
|
فكأنه شمس بدت
في غربنا
|
|
وتغيّبت عن
شرقهم بأفول
|
يا سيدي هذا
ثنائي لم أقل
|
|
زورا ولا عرّضت
بالتنويل
|
من كان يأمل
نائلا فأنا امرؤ
|
|
لم أرج غير
القرب في تأميلي
|
وقد تقدّمت أبيات
القالي التي أجاب بها منذر بن سعيد في الباب قبل هذا ، فلتراجع ثمّة ، والله تعالى
أعلم.
٥٩ ـ ومن الوافدين إلى الأندلس من
المشرق أبو العلاء صاعد بن الحسن بن عيسى البغدادي ، اللغوي .
__________________
وأصله من الموصل ،
قال ابن بسام : ولمّا دخل صاعد قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر عزم المنصور على أن
يقضي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية ، فما وجد عنده ما يرتضيه ،
وأعرض عنه أهل العلم ، وقدحوا في علمه وعقله ودينه ، ولم يأخذوا عنه شيئا لقلّة
الثقة به ، وكان ألّف كتابا سمّاه كتاب «الفصوص» فدحضوه ورفضوه ونبذوه في النهر ، ومن شعره قوله : [بحر الكامل]
ومهفهف أبهى من
القمر
|
|
قهر الفؤاد
بفاتن النّظر
|
خالسته تفّاح
وجنته
|
|
فأخذتها منه على
غرر
|
فأخافني قوم
فقلت لهم
:
|
|
لا قطع في ثمر
ولا كثر
|
والكثر : الجمّار
، وهذا اقتباس من الحديث.
وقال الحميدي :
سمعت أبا محمد بن حزم الحافظ يقول : سمعت أبا العلاء صاعدا ينشد بين يدي المظفر
عبد الملك بن أبي عامر من قصيدة يهنيه فيها بعيد الفطر سنة ٣٩٦ : [بحر الوافر]
حسبت المنعمين
على البرايا
|
|
فألفيت اسمه صدر
الحساب
|
وما قدّمته إلّا
كأني
|
|
أقدّم تاليا أمّ
الكتاب
|
وذكر الحميدي أن
عبد الله بن ماكان الشاعر تناول نرجسة فركبها في وردة ثم قال لصاعد ولأبي عامر بن
شهيد : صفاها ، فأفحما ، ولم يتّجه لهما القول ، فبينما هم على ذلك إذ دخل الزهيري
صاحب أبي العلاء وتلميذه ، وكان شاعرا أديبا أمّيّا لا يقرأ ، فلمّا استقرّ به
المجلس أخبر بما هم فيه ، فجعل يضحك ويقول : [بحر السريع]
ما للأديبين قد
اعيتهما
|
|
مليحة من ملح
الجنّه
|
نرجسة في وردة
ركّبت
|
|
كمقلة تطرف في
وجنه
|
انتهى.
ومن غريب ما جرى
لصاعد أن المنصور جلس يوما وعنده أعيان مملكته ودولته من أهل العلم كالزبيدي
والعاصمي وابن العريف وغيرهم ، فقال لهم المنصور : هذا الرجل الوافد علينا
__________________
يزعم أنه متقدّم
في هذه العلوم ، وأحب أن يمتحن ، فوجّه إليه ، فلمّا مثل بين يديه والمجلس قد
احتفل خجل فرفع المنصور محلّه وأقبل عليه ، وسأله عن أبي سعيد السيرافي ، فزعم أنه
لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه ، فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب ، فلم
يحضره جوابها ، واعتذر بأن النحو ليس جلّ بضاعته ، فقال له الزبيدي : فما تحسن
أيّها الشيخ؟ فقال : حفظ الغريب ، قال : فما وزن أولق ، فضحك صاعد ، وقال : أمثلي يسأل عن هذا؟ إنما يسأل عنه
صبيان المكتب ، قال الزبيدي : قد سألناك ، ولا نشكّ أنك تجهله ، فتغيّر لونه ،
وقال : أفعل وزنه ، فقال الزبيدي : صاحبكم ممخرق ، فقال له صاعد ، إخال الشيخ صناعته الأبنية ، فقال له :
أجل ، فقال صاعد : وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ، ورواية الأخبار ، وفكّ المعمّى ،
وعلم الموسيقى ، فقال : فناظره ابن العريف ، فظهر عليه صاعد ، وجعل لا يجري في
المجلس كلمة إلّا أنشد عليها شعرا شاهدا ، وأتى بحكاية تجانسها ، فأعجب المنصور ، ثم أراه كتاب «النوادر» لأبي علي القالي
، فقال : إن أراد المنصور أمليت على كتّاب دولته كتابا أرفع منه وأجلّ لا أورد فيه
خبرا ممّا أورده أبو علي ، فأذن له المنصور في ذلك ، وجلس بجامع مدينة الزاهرة
يملي على كتابه المترجم ب «الفصوص» ، فلمّا أكمله تتبعه أدباء الوقت ، فلم تمرّ فيه كلمة صحيحة عندهم ، ولا خبر
ثبت لديهم ، وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها ، حتى توهّم القدم ،
وترجم عليه كتاب «النكت» تأليف أبي الغوث الصنعاني ، فترامى إليه صاعد حين رآه ،
وجعل يقبله ، وقال : إي والله ، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان ، فأخذه
المنصور من يده خوفا أن يفتحه ، وقال له : إن كنت قد قرأته كما تزعم ، فعلام يحتوي؟
فقال : وأبيك لقد بعد عهدي به ، ولا أحفظ الآن منه شيئا ، ولكنه يحتوي على لغة
منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر ، فقال له المنصور : أبعد الله مثلك! فما رأيت
أكذب منك ، وأمر بإخراجه ، وأن يقذف كتاب «الفصوص» في النهر ، فقال فيه بعض
الشعراء : [بحر السريع]
قد غاص في النهر
كتاب الفصوص
|
|
وهكذا كلّ ثقيل
يغوص
|
فأجابه صاعد : [بحر
السريع]
عاد إلى معدنه ،
إنما
|
|
توجد في قعر
البحار الفصوص
|
__________________
قال ابن بسام : وما أظنّ أحدا يجترئ على مثل هذا ، وإنما صاعد اشترط أن
لا يأتي إلّا بالغريب غير المشهور ، وأعانهم على نفسه بما كان يتنفّق به من الكذب.
وحكى ابن خلكان أن المنصور أثابه على كتاب «الفصوص» بخمسة آلاف دينار! ومن
أعجب ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور ، فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم
يستتمّ فتح ورقها ، فقال فيها صاعد مرتجلا : [بحر المتقارب]
أتتك أبا عامر
وردة
|
|
يذكرك المسك
أنفاسها
|
كعذراء أبصرها
مبصر
|
|
فغطّت بأكمامها
راسها
|
فسرّ بذلك المنصور
، وكان ابن العريف حاضرا ، فحسده ، وجرى إلى مناقضته ، وقال لابن أبي عامر : هذان
البيتان لغيره ، وقد أنشدنيهما بعض البغداديين لنفسه بمصر ، وهما عندي على ظهر كتاب بخطّه ، فقال له المنصور : أرنيه
، فخرج ابن العريف ، وركب وحرّك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر ، وكان أحسن أهل زمانه
بديهة ، فوصف له ما جرى ، فقال هذه الأبيات ودسّ فيها بيتي صاعد : [بحر المتقارب]
عدوت إلى قصر
عبّاسة
|
|
وقد جدّل النوم
حرّاسها
|
فألفيتها وهي في
خدرها
|
|
وقد صرع السكر
أناسها
|
فقالت : أسار
على هجعة؟
|
|
فقلت : بلى ،
فرمت كاسها
|
ومدّت يديها إلى
وردة
|
|
يحاكي لك الطّيب
أنفاسها
|
كعذراء أبصرها
مبصر
|
|
فغطّت بأكمامها
راسها
|
وقالت : خف الله
لا تفضحن
|
|
ن في ابنة عمّك
عبّاسها
|
فولّيت عنها على
غفلة
|
|
وما خنت ناسي
ولا ناسها
|
__________________
فطار ابن العريف
بها ، وعلّقها على ظهر كتاب بخطّ مصريّ ومداد أشقر ، ودخل بها على المنصور ، فلمّا
رآها اشتدّ غيظه على صاعد ، وقال للحاضرين : غدّا أمتحنه ، فإن فضحه الامتحان
أخرجته من البلاد ، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان ، فلمّا أصبح وجّه إليه فأحضر ،
وأحضر جميع الندماء ، فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعدّ فيه طبقا عظيما فيه سقائف
مصنوعة من جميع النواوير ، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري ، وتحت
السقائف بركة ماء ، قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء ، وفي البركة حيّة تسبح ،
فلمّا دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور : إنّ هذا يوم إمّا أن تسعد فيه معنا ،
وإمّا أن تشقى بالضدّ عندنا ؛ لأنه قد زعم قوم أنّ كلّ ما تأتي به دعوى ، وقد وقفت
من ذلك على حقيقة ، وهذا طبق ما توهّمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله ، فصفه
بجميع ما فيه ، وعبّر بعض عن هذه القصة بقوله : أمر فعبىء له طبق فيه أزهار
ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ ، وكان في البركة حيّة تسبح ، وأحضرها
صاعد ، فلمّا شاهد ذلك قال له المنصور : إنّ هؤلاء يذكرون أن كلّ ما تأتي به دعوى
لا صحّة لها ، وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله ، فإن وصفته بجميع ما فيه علمت
صحّة ما تذكره ، فقال صاعد بديهة : [بحر الطويل]
أبا عامر ، هل
غير جدواك واكف؟
|
|
وهل غير من
عاداك في الأرض خائف
|
يسوق إليك الدهر
كلّ غريبة
|
|
وأعجب ما يلقاه
عندك واصف
|
وشائع نور صاغها
هامر الحيا
|
|
على حافتيها
عبقر ورفارف
|
ولمّا تناهى
الحسن فيها تقابلت
|
|
عليها بأنواع
الملاهي الوصائف
|
كمثل الظّباء
المستكنّة كنّسا
|
|
تظلّلها
بالياسمين السقائف
|
وأعجب منها
أنهنّ نواظر
|
|
إلى بركة ضمّت
إليها الطرائف
|
حصاها اللآلي
سابح في عبابها
|
|
من الرّقش مسموم
الثعابين زاحف
|
ترى ما تراه
العين في جنباتها
|
|
من الوحش حتى
بينهنّ السلاحف
|
__________________
فاستغربت له يومئذ
تلك البديهة في مثل ذلك الموضع ، وكتبها المنصور بخطّه ، وكان إلى ناحيته من تلك
السقائف سفينة فيها جارية من النوّار تجذف بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد ، فقال له
المنصور : أحسنت ، إلّا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية ، فقال للوقت :
وأعجب منها غادة
في سفينة
|
|
مكلّلة تصبو
إليها المهاتف
|
إذا راعها موج
من الماء تتّقي
|
|
بسكّانها ما
أنذرته العواصف
|
متى كانت
الحسناء ربّان مركب
|
|
تصرّف في يمنى
يديه المجاذف
|
ولم تر عيني في
البلاد حديقة
|
|
تنقّلها في
الراحتين الوصائف
|
ولا غرو أن شاقت معاليك روضة
|
|
وشتها أزاهير
الرّبا والزخارف
|
فأنت امرؤ لو
رمت نقل متالع
|
|
ورضوى ذرتها من
سطاك نواسف
|
|
إذا قلت قولا أو
بدهت بديهة
|
|
فكلني له إني
لمجدك واصف
|
فأمر له المنصور
بألف دينار ومائة ثوب ، ورتّب له في كل شهر ثلاثين دينارا ، وألحقه بالندماء.
قال : وكان شديد
البديهة في ادّعاء الباطل ، قال له المنصور يوما : ما الخنبشار؟ قال : حشيشة يعقد
بها اللبن ببادية الأعراب ، وفي ذلك يقول شاعرهم : [بحر الوافر]
لقد عقدت
محبّتها بقلبي
|
|
كما عقد الحليب
الخنبشار
|
وقال له يوما ،
وقد قدّم إليه طبق فيه تمر : ما التّمركل في كلام العرب؟ فقال : «يقال تمركل الرجل
تمركلا» إذا التفّ في كسائه. وكان مع ذلك عالما.
قال : وكان لابن
أبي عامر فتى يسمّى فاتنا أوحد لا نظير له في علم كلام العرب ، فناظر صاعدا هذا
فقطعه وظهر عليه وبكّته ، فأعجب المنصور منه ، فتوفي فاتن هذا سنة ٤٠٢ ، وبيعت في
تركته كتب مضبوطة جليلة مصحّحة ، وكان منقادا لما نزل به من المثلة فلم يتّخذ
النساء كغيره ، وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممّن أخذ
بأوفر نصيب من الأدب.
__________________
قال : ورأيت
تأليفا لرجل منهم يعرف بحبيب ترجمه بكتاب «الاستظهار والمغالبة ، على من أنكر فضائل
الصقالبة» وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم.
وقال ابن بسام
وغيره : ومن عجائب ما جرى لصاعد أنه أهدى أيّلا إلى المنصور ، وكتب على يد موصله : [بحر الكامل]
يا حرز كلّ مخوّف
وأمان كلّ مشرّد ومعزّ كلّ مذلّل
يا سلك كلّ فضيلة
ونظام كلّ جزيلة وثراء كلّ معيّل
ومنها :
ما إن رأت عيني
وعلمك شاهد
|
|
جدوى علائك في
معمّ مخول
|
ومنها :
وأبي مؤانس
غربتي وتحفّظي
|
|
من صفر أيامي
ومن مستعملي
|
عبد جذبت بضبعه
ورفعت من
|
|
مقداره أهدى
إليك بأيّل
|
سمّيته غرسيّة
وبعثته
|
|
في حبله ليصحّ
فيه تفاؤلي
|
فلئن قبلت فتلك
أنفس منّة
|
|
أهدى بها ذو
منحة وتطول
|
منحتك غادية
السرور بعزّة
|
|
وحللت أوجا
بالسحاب المخضل
|
فقضي في سابق علم
الله سبحانه وتعالى أنّ ملك الروم غرسية أسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه بالأيّل ، وسمّاه
باسمه على التفاؤل ، انتهى.
وكان غرسية أمنع
من النجم ، وسبب أخذه أنه خرج يتصيّد ، فلقيته خيل للمنصور من غير قصد ، فأسرته
وجاءته به ، فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب.
ولنورد أخبار صاعد فنقول : حكي أنّ المنصور قال بسبب هذه القضية :
إنه لم يتّفق
__________________
لصاعد هذا الفأل
الغريب إلّا لحسن نيّته وسريرته ، وصفاء باطنه ، فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما
كان ، ورجّحه على أعدائه ، وحقّ له ذلك.
وفي الزهرة
الثامنة والعشرين من كتاب «الأزهار المنثورة ، في الأخبار المأثورة» حكي أنّ صاعدا
قال : جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر ،
فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصا كالمرقعة ، وبكرت به معي إلى قصر المنصور ،
فاحتلت في تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت : يا مولانا لعبدك حاجة ، فقال : أذكرها ،
قلت : وصول غلامي كافور إلى هنا ، فقال : وعلى هذه الحال؟ فقلت : لا أقنع بسواه
إلّا بحضوره بين يديك ، فقال : أدخلوه ، فمثل قائما بين يديه في مرقعته وهو
كالنخلة إشرافا ، فقال : قد حضر ، وإنه لباذل الهيئة ، فمالك أضعته؟ فقلت : يا مولانا ، هنالك الفائدة ،
اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالا ، فتهلّل وقال : لله درّك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر! وأمر
لي بمال واسع وكسوة ، وكسا كافورا أحسن كسوة ، انتهى.
ولمّا دخل صاعد
دانية ، وحضر مجلس الموفق مجاهد العامري أمير البلد ، كان في المجلس أديب يقال له بشار ،
فقال للموفّق : دعني أعبث بصاعد ، فقال له : لا تتعرّض إليه ، فإنه سريع الجواب ،
فأبى إلّا مساءلته ، وكان بشار المذكور أعمى ، فقال لصاعد : يا أبا العلاء ، ما
الجرنفل في كلام العرب؟ فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة ، وليس لها أصل في اللغة ،
فقال بعد أن أطرق ساعة : الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهنّ
إلى غيرهنّ ، وهو في ذلك كلّه يصرح ولا يكني ، فخجل بشار وانكسر ، وضحك من كان
حاضرا ، فقال له الموفّق : قلت لك لا تفعل فلم تقبل ، انتهى.
والجرنفل. بضمّ
الجيم والراء ، وسكون النون ، وضمّ الفاء ، وبعدها لام.
ولصاعد أخبار
ونوادر كثيرة غير ما تقدّم ، وله مع المنصور بن أبي عامر ، رحمه الله تعالى ، من
ذلك كثير ، وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب.
ومن حكاياته أنه خرج معه يوما إلى رياض الزاهرة ، فمدّ المنصور يده إلى
شيء من الريحان المعروف بالتّرنجان ، فعبث به ورماه إلى صاعد ، وأشار إليه أن يقول
فيه ، فارتجل: [بحر البسيط]
لم أدر قبل ترنجان عبثت به
__________________
الأبيات الآتية .
وهذا المنصور بن
أبي عامر قد تقدّمت جملة من أخباره ، ومن أعجب ما وقع له ما رأيته بخزانة فاس في
كتاب ألّفه صاحبه في الأزهار والأنوار ، حكى فيه في ترجمة النيلوفر أن المنصور
لمّا قدم عليه رسول ملك الروم الذي هو أعظم ملوكهم في ذلك الزمان ليطّلع على أحوال
المسلمين وقوّتهم ، فأمر المنصور أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر ، ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضّة
فسبكت قطعا صغارا على قدر ما تسع النيلوفرة ، ثم ملأ بها جميع النيلوفر الذي في
البركة ، وأرسل إلى الرومي فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه السامي بالزاهرة بحيث
يشرف على موضع البركة ، فلمّا قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم أقبية
الذهب والفضّة ومناطق الذهب والفضّة ، وبيد خمسمائة أطباق ذهب ، وبيد خمسمائة
أطباق فضة ، فتعجّب الرسول من حسن صورهم وجميل شارتهم ، فلم يدر ما المراد ، فحين
أشرقت الشمس ظهر النيلوفر من البركة ، وبادروا لأخذ الذهب والفضّة من النيلوفر ، وكانوا يجعلون الذهب في
أطباق الفضّة والفضّة في أطباق الذهب ، حتى التقطوا جميع ما فيها ، وجاؤوا به
فوضعوه بين يدي المنصور ، حتى صار كوما بين يديه ، فتعجّب النصراني من ذلك ،
وأعظمه ، وطلب المهادنة من المسلمين ، وذهب مسرعا إلى مرسله ، وقال له : لا تعاد
هؤلاء القوم ، فإني رأيت الأرض تخدمهم بكنوزها ، انتهى.
وهذه القضية من
الغرائب ، وإنّها لحيلة عجيبة في إظهار عزّ الإسلام وأهله.
وكان المنصور بن
أبي عامر آية الله سبحانه في السعد ونصرة الإسلام ، قال ابن بسام نقلا عن ابن حيان
: إنه لمّا انتهت خلافة بني مروان بالأندلس إلى الحكم تاسع الأئمة ، وكان مع
فضله قد استهواه حبّ الولد ، حتى خالف الحزم في توريثه الملك بعده في سنّ الصبا ،
دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة ، ومن كان ينهض بالأمر ويستقلّ بالملك. قال ابن
بسام : وكان يقال «لا يزال ملك بني أمية بالأندلس في إقبال ودوام ما توارثه
الأبناء عن الآباء ، فإذا انتقل إلى الإخوة وتوارثوه فيما بينهم أدبر وانصرم» . ولعلّ الحكم لحظ ذلك ، فلمّا مات الحكم أخفى
__________________
جؤذر وفائق فتياه
ذلك ، وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة ، وكان فائق قد قال له : إن هذا لا
يتمّ لنا إلّا بقتل جعفر المصحفي ، فقال له جؤذر : ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ
مولانا؟ فقال له : هو والله ما أقول لك ، ثم بعثا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم ،
وعرّفاه رأيهما في المغيرة ، فقال لهما المصحفي : وهل أنا إلّا تبع لكما ، وأنتما
صاحبا القصر ، ومدبّرا الأمر؟ ؛ فشرعا في تدبير ما عزما عليه ، وخرج المصحفي وجمع
أجناده وقوّاده ونعى إليهم الحكم ، وعرّفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة ، وقال :
إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة لنا ، وإن بدلنا استبدلنا ، فقالوا : الرأي رأيك ، فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي
عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله ، فوافاه ولا خبر عنده ، فنعى إليه
الحكم أخاه ، فجزع ، وعرّفه جلوس ابنه هشام في الخلافة ، فقال : أنا سامع مطيع ،
فكتب إلى المصحفي بحاله ، وما هو عليه من الاستجابة ، فأجابه المصحفي بالقبض عليه
، وإلّا وجّه غيره ليقتله ، فقتله خنقا. فلمّا قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن
الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطّراح الكبر ومساواة الوزراء في
الفرش ، وكان ذلك من أوّل ما استحسن منه ، وتوفّر على الاستئثار بالأعمال
والاحتجان للأموال ، وعارضه محمد بن أبي عامر ، فتّى ماجد أخذ معه
بطرفي نقيض بالبخل جودا وبالاستبداد أثرة ، وتملّك قلوب الرجال إلى أن تحرّكت
همّته للمشاركة في التدبير بحقّ الوزارة ، وقوي على أمره بنظره في الوكالة ،
وخدمته للسيدة صبح أمّ هشام ، وكانت حاله عند جميع الخدم أفضل الأحوال بتصدّيه لمواقع الإرادة ، ومبالغته في تأدية
لطيف الخدمة ، فأخرجت له أم هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد
عنه برأي ، وكان غير متخيّل منه سكوتا إلى ثقته ، فامتثل الأمر وأطلعه على سرّه ،
وبالغ في برّه ، وبالغ محمد بن أبي عامر في مخادعته والنصح له ، فوصل المصحفي يده
بيده ، واستراح إلى كفايته ، وابن أبي عامر يمكر به ، ويضرّب عليه ، ويغري به
الحرّة ، ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس ، ويقضي حوائجهم ،
ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحلّ أمر المصحفي ، وهوى نجمه ، وتفرّد محمد بن
أبي عامر بالأمر ، ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم
__________________
وأهلكهم وشرّدهم
وشتّتهم وصادرهم ، وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم ، وصادر الصقالبة ،
وأهلكهم ، وأبادهم في أسرع مدّة.
قال ابن حيان :
وجاشت النصرانية بموت الحكم ، وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة ، ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة ، وكان ممّا
أتى عليه أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سدّ نهرهم ، لما تخيله من أنّ في ذلك النجاة
من العدوّ ، ولم تقع حيلته لأكثر منه ، مع وفور الجيوش وجموم الأموال ، وكان
ذلك من سقطات جعفر ، فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدّنيّة ، وأشار على جعفر
بتبديد الجيش بالجهاد ، وخوّفه سوء العاقبة في تركه ، وأجمع
الوزراء على ذلك ، إلّا من شذّ منهم ، واختار ابن أبي عامر الرجال ، وتجهّز للغزاة
، واستصحب مائة ألف دينار ، ونفذ بالجيش ، ودخل على الثغر الجوفي ، ونازل حصن الحافة ، ودخل الرّبض ، وغنم وقفل فوصل الحضرة
بالسبي بعد اثنين وخمسين يوما ، فعظم السرور به ، وخلصت قلوب الأجناد له ،
واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه.
ومن أخبار كرمه ما
حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال : دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي
، ولم يبق معي سوى لجام محلّى ، ولمّا ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضّرب حين كان
صاحبها ، والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة ، فأعلمته ما جئت له ، فابتهج بما سمعه
منّي ، وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره ، فملأ حجري ، وكنت غير
مصدق بما جرى لعظمه ، وعملت العرس ، وفضلت لي فضلة كثيرة ، وأحبّه قلبي حتى لو
حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت ، وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد ابن
أبي عامر الذّروة.
وقال غير واحد :
إنه صنع يومئذ قصرا من فضّة لصبح أمّ هشام ، وحمله على رؤوس الرجال ، فجلب حبّها
بذلك ، وقامت بأمره عند سيّدها الحكم ، وحدّث الحكم خواصّه بذلك ، وقال : إنّ هذا
الفتى قد جلب عقول حرمنا بما يتحفهم به ، قالوا : وكان الحكم لشدّة نظره في علم
الحدثان يتخيّل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان ، ويقول لأصحابه: أما
تنظرون
__________________
إلى صفرة كفّيه؟
ويقول في بعض الأحيان : لو كانت به شجّة لقلت إنه هو بلا شكّ ، فقضى الله أنّ تلك الشّجّة حصلت
للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدّة.
قال ابن حيان : وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي
وفارس الأندلس عداوة عظيمة ، ومباينة شديدة ، ومقاطعة مستحكمة ، وأعجز المصحفي
أمره ، وضعف عن مباراته ، وشكا ذلك إلى الوزراء ، فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه
، وشعر بذلك ابن أبي عامر ، فأقبل على خدمته ، وتجرّد لإتمام إرادته ، ولم يزل على
ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر ، وخرج ابن أبي عامر إلى
غزوته الثانية ، واجتمع به ، وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي ، وقفل ابن عامر ظافرا
غانما ، وبعد صيته ، فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة ، وكانت في
يده يومئذ ، وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي ، وملك ابن أبي عامر الباب
بولايته للشرطة ، وأخذ عن المصحفي وجوه الحيلة ، وخلّاه وليس بيده من الأمر إلّا
أقلّه ، وكان ذلك بإعانة غالب له ، وضبط المدينة ضبطا أنسى به أهل الحضرة من سلف
من الكفاة وتولّى السياسة ، وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب ، ففطن
المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه ، فكاتب غالبا يستصلحه ، وخطب أسماء بنته لابنه
عثمان ، فأجابه غالب لذلك ، وكادت المصاهرة تتمّ له ، وبلغ ابن أبي عامر الأمر ،
فقامت قيامته ، وكاتب غالبا يخوّفه الحيلة ، ويهيج حقوده ، وألقى عليه أهل الدار
وكاتبوه فصرفوه عن ذلك ، ورجع غالب إلى ابن أبي عامر ، فأنكحه البنت المذكورة ،
وتمّ له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة ، فأدخل السلطان تلك الابنة إلى
قصره ، وجهّزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله ، فظهر أمره وعزّ جانبه ، وكثر رجاله ، وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كل شيء ،
واستقدم السلطان غالبا ، وقلّده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي ، ودخل ابن أبي عامر
على ابنته ليلة النيروز ، وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس ، وأيقن المصحفي بالنكبة
وكفّ عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير ، وابن أبي عامر يسايره ولا يظاهره
، وانفضّ عنه الناس ، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر
قرطبة ويروح وهو وحده ، وليس بيده من الحجابة سوى اسمها ، وعوقب المصحفي
__________________
بإعانته على ولاية
هشام ، وقتل المغيرة. ثم سخط السلطان على المصحفي وأولاده وأهله وأسبابه وأصحابه ،
وطولبوا بالأموال ، وأخذوا برفع الحساب لما تصرّفوا فيه ، وتوصّل ابن أبي عامر
بذلك إلى اجتثاث أصولهم وفروعهم ، وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصّل إلى أن سرق
من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزاة الثالثة ليقدم بها
على الحضرة ، وغاظه ذلك منه ، فبادره بالقتل في المطبق قبل عمّه جعفر المصحفي ،
فما استقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة ، وكانت من
أعظم قصور قرطبة ، واستمرّت النكبة عليه سنتين ، مرّة يحتبس ومرّة يترك ومرة يقرّ بالحضرة ومرّة ينفر
عنها ، ولا براح له من المطالبة بالمال ، ولم يزل على هذا الحكم حتى استصفي ، ولم
يبق فيه محتمل ، واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك ، وأخرج إلى أهله ميتا ،
وذكر أنه سمّه في ماء شربه ، قال محمد بن إسماعيل : سرت مع محمد بن مسلمة إلى
الزهراء لنسلّم جسد جعفر بن عثمان إلى أهله بأمر المنصور ، وسرنا إلى منزله فكان
مغطّى بخلق كساء لبعض البوّابين ألقاه على سريره ، وغسل على فردة باب اختلع
من ناحية الدار ، وأخرج وما حضر أحد جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه
ومن حضر من ولده ، فعحبت من الزمان ، انتهى.
وما أحسن عبارة
المطمح عن هذه القضية إذ قال : قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور : سرت بأمره
لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده ، والحضور على إنزاله في ملحده ، فنظرته ولا أثر فيه ، وليس عليه شيء يواريه ، غير كساء
خلق لبعض البوّابين ، فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله والله على فردة باب اقتطع
من جانب الدار ، وأنا أعتبر من تصرّف الأقدار ، وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا
سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ، وما تجاسر أحد منّا للنظر إليه ، وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله
طالب وعظ ، ولا وقع في سمع ولا تصوّر في لحظ ، وقفت له في طريقه من قصره ، أيام
نهيه وأمره ، أروم أن أناوله قصّة ، كانت به مختصّة ، فو الله ما تمكّنت من الدنوّ منه بحيلة
لكثافة موكبه ، وكثرة من حفّ به ، وأخذ الناس السّكك عليه وأفواه الطرق داعين ،
ومارّين بين يديه وساعين ، حتى ناولت قصّتي بعض كتّابه الذين نصبهم جناحي موكبه
لأخذ القصص ، فانصرفت وفي نفسي ما فيها من
__________________
الشّرق بحاله
والغصص ، فلم تطل المدّة حتى غضب عليه المنصور واعتقله ، ونقله معه في الغزوات
واحتمله ، واتّفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن
وقود النيران ليخفى على العدوّ أثره ، ولا ينكشف إليه خبره ، فرأيت والله عثمان
ولده يسقيه دقيقا قد خلطه بماء يقيم به أوده ، ويمسك بسببه رمقه ،
بضعف حال وعدم زاد ، وهو يقول : [بحر الطويل]
تعاطيت صرف
الحادثات فلم أزل
|
|
أراها توفّي عند
موعدها الحرّا
|
فلله أيام مضت
بسبيلها
|
|
فإني لا أنسى
لها أبدا ذكرا
|
تجافت بها عنّا
الحوادث برهة
|
|
وأبدت لنا منها
الطّلاقة والبشرا
|
ليالي ما يدري
الزمان مكانها
|
|
ولا نظرت منها
حوادثه شزرا
|
وما هذه الأيام
إلّا سحائب
|
|
على كلّ أرض
تمطر الخير والشّرّا
|
انتهى.
وأما غالب الناصري
فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات ، وصعدا إلى بعض القلاع ، لينظرا في أمرها ، فجرت محاورة بين ابن
أبي عامر وغالب ، فسبّه غالب وقال له : يا كلب ، أنت الذي أفسدت الدولة ، وخرّبت
القلاع ، وتحكّمت في الدولة ، وسلّ سيفه فضربه ، وكان بعض الناس حبس يده ، فلم
تتمّ الضربة وشجّه ، فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفا من أن يجهز عليه ، فقضى الله تعالى أنه وجد شيئا في الهواء منعه من الهلاك ، فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برىء ، ولحق
غالب بالنصارى ، فجيّش بهم ، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام ، فحكمت
الأقدار بهلاك غالب ، وتمّ لابن أبي عامر ما جدّ له ، وتخلّصت دولته من الشوائب.
قالوا : ولمّا
وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيّد ، وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما ،
وعلم أنه ما دهي إلّا من جانب حاشية القصر ، فرّقهم ومزّقهم ، ولم يدع فيه منهم
إلّا من وثق به أو عجز عنه ، ثم ذكر له أن الحرم قد انبسطت أيديهنّ في الأموال
المختزنة بالقصر ،
__________________
وما كانت السيدة
صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر ،
وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب
والفضّة ، وموّهت ذلك كلّه بالمرّي والشهد وغيره والأصباغ المتّخذة بقصر الخلافة ، وكتبت على
رؤوس الكيزان أسماء ذلك. ومرّت على صاحب المدينة ، فما شكّ أنه ليس فيها إلّا ما
هو عليها ، وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار ، فأحضر ابن أبي
عامر جماعة وأعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة ، وأنّ
في إضاعتها آفة على المسلمين ، وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه ، فحمل منها
خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار ، وكانت صبح قد دافعت عمّا
بالقصر من الأموال ، ولم تمكّن من إخراجها ، فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام ،
واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة ، فخرست ألسنة العدا والحسدة ، وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام
ورؤيتهم له ، إذ كان منهم من لم يره قطّ ، فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة ،
واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى ، وكانت عليه الطويلة والقضيب في يده زيّ الخلافة
، والمنصور يسايره. ثم خرج المنصور لآخر غزواته ، وقد مرض المرض الذي مات فيه ،
وواصل شنّ الغارات ، وقويت عليه العلّة ، فاتّخذ له سرير خشب ووطّئ عليه ما يقعد عليه ، وجعلت عليه ستارة ، وكان يحمل على
أعناق الرجال والعساكر تحفّ به ، وكان هجر الأطباء في تلك العلّة لاختلافهم فيها ،
وأيقن بالموت ، وكان يقول : إنّ زماني يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح فيهم
أسوأ حالة مني. ولعلّه يعني من حضر تلك الغزاة ، وإلّا فعساكر الأندلس ذلك الزمان
أكثر من ذلك العدد ـ واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم ، فلمّا أيقن
بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرّر وصايته ، وكلّما أراد أن ينصرف يردّه ، وعبد الملك يبكي ، وهو
ينكر عليه بكاءه ويقول : وهذا من أول العجز ، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على
العسكر.
وخرج عبد الملك
إلى قرطبة ومعه القاضي أبو ذكوان ، فدخلها أول شوّال ، وسكّن الإرجاف بموت والده ، وعرّف الخليفة كيف تركه.
__________________
ووجد المنصور خفّة
فأحضر جماعة بين يديه ، وهو كالخيال لا يبين الكلام ، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلّم المودع ، وخرجوا من عنده
، فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان ، وأوصى أن يدفن حيث يقبض ،
فدفن في قصره بمدينة سالم.
واضطرب العسكر ،
وتلوّم ولده أياما ، وفارقه بعض العسكر إلى هشام ، وقفل هو إلى قرطبة فيمن
بقي معه ، ولبس فتيان المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخزّ.
وقام ولده عبد
الملك المظفر بالأمر ، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه ، وخلع عليه ، وكتب له
السجلّ بولاية الحجابة ، وكان الفتيان قد اضطربوا فقوّم المائل ، وأصلح الفاسد ، وجرت الأمور على السداد ، وانشرحت
الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد ، فكان أسعد مولود ولد في الأندلس.
ولنمسك عنان القلم
في أمر ابن أبي عامر ، فقد قدّمنا في محلّه جملة من أحواله ، وما ذكرناه هنا وإن
كان محلّه ما سبق وبعضه قد تكرّر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد ، والله تعالى
ولي التوفيق.
رجع إلى أخبار
صاعد اللغوي البغدادي :
وحكي أنه دخل على المنصور يوم عيد ، وعليه ثياب جدد وخفّ جديد ،
فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصف ، فزلق فسقط في الماء ، فضحك المنصور ، وأمر بإخراجه ، وقد
كان البرد أن يأتي عليه ، فخلع عليه ، وأدنى مجلسه ، وقال له : هل حضرك شيء؟ فقال
: [بحر الكامل]
شيئان كانا في
الزمان عجيبة
|
|
ضرط ابن وهب ثم
وقعة صاعد
|
فاستبرد ما أتى به
أبو مروان الكاتب الجزيري ، فقال : هلّا قلت : [بحر المتقارب]
سروري بغرّتك
المشرقه
|
|
وديمة راحتك
المغدقه
|
__________________
ثناني نشوان حتى
غرق
|
|
ت في لجّة
البركة المطبقه
|
لئن ظلّ عبدك
فيها الغريق
|
|
فجودك من قبلها
أغرقه
|
فقال له المنصور :
لله درّك يا أبا مروان! قسناك بأهل بغداد ففضلتهم ، فبمن نقيسك بعد؟ انتهى.
وقال في الذخيرة
في ترجمة صاعد : وفد على المنصور نجما من المشرق غرّب ، ولسانا عن العرب
أعرب ، وأراد المنصور أن يقفي به آثار أبي علي القالي فألفى سيفه كهاما ، وسحابه جهاما ، من رجل يتكلّم بملء فيه ، ولا يوثق بكلّ
ما يذره ولا ما يأتيه ، انتهى باختصار.
وأصل صاعد من ديار
الموصل ، وقال ارتجالا وقد عبث المنصور بترنجان : [بحر البسيط]
لم أدر قبل
ترنجان عبثت به
|
|
أنّ الزّمرّد
أغصان وأوراق
|
من طيبه سرق
الأترجّ نكهته
|
|
يا قوم حتى من
الأشجار سرّاق
|
كأنما الحاجب
المنصور علّمه
|
|
فعل الجميل
فطابت منه أخلاق
|
وقدّمه الحجاري
بقوله : [بحر البسيط]
كأن إبريقنا
والراح في فمه
|
|
طير تناول
ياقوتا بمنقار
|
وقبله : [بحر
البسيط]
وقهوة من فم
الإبريق صافية
|
|
كدمع مفجوعة
بالإلف معبار
|
وقال في بدائع
البداءة : دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب ، فملأ الساقي قدحا من
إبريق ، فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكوّنت ولم تقطر ، فاقترح عليه
الحاضرون وصف ذلك فقال : [بحر البسيط]
وقهوة من فم
الإبريق ساكبة
البيتين.
__________________
ثم قال بعدهما :
وإنما هدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين اللغوي : [بحر
السريع]
كأنّ ريح الروض
لمّا أتت
|
|
فتّت علينا مسك
عطّار
|
كأنما إبريقنا
طائر
|
|
يحمل ياقوتا
بمنقار
|
انتهى.
ومن نظم صاعد : [بحر
المنسرح]
قلت له والرقيب
يعجله
|
|
مودعا للفراق :
أين أنا
|
فمدّ كفّا إلى
ترائبه
|
|
وقال : سر وادعا
فأنت هنا
|
وقال صاعد ، لمّا
أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس : [بحر مجزوء الكامل]
إنّي لأستحيي
علا
|
|
ك من ارتجال
القول فيه
|
من ليس يدرك
بالروي
|
|
ية كيف يدرك
بالبديه
|
وقال حاشد
البغدادي في صاعد اللغوي ، وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول : ما هجيت بشيء أشدّ
عليّ منهما : [بحر الكامل]
إقبل هديت أبا
العلاء نصيحتي
|
|
بقبولها وبواجب
الشكر
|
لا تهجونّ أسنّ
منك فربما
|
|
تهجو أباك وأنت
لا تدري
|
نعوذ بالله من
لسان الشعراء ، وأنواع البلاء ، بجاه نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن نظم صاعد قوله
: [بحر الوافر]
بعثت إليك من
خيري روض
|
|
مخرّمة كأوراق
العقيق
|
توكّل بالغروب
عن التصابي
|
|
وتصطاد الخليع
من الطريق
|
وروى صاعد عن
القاضي أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي ، وأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي ،
وأبي بكر بن مالك القطيعي ، وأبي سليمان الخطابي ، وغيرهم.
__________________
قال الحميدي : خرج
من الأندلس في الفتنة ، فمات بها قريبا من سنة عشر وأربعمائة.
وقال ابن حزم :
توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة.
وقال ابن بشكوال
في حقه : «إنه يتّهم بالكذب وقلّة الصدق فيما يورده ، عفا الله تعالى عنه»! وقدم
الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة ٣٨٠ ، فأكرمه
المنصور ، وزاد في الإحسان إليه ، والإفضال عليه ، وكان عالما باللغة والآداب
والأخبار ، سريع الجواب ، حسن الشعر ، طيّب المعاشرة ، فكه المجالسة.
وقال بعضهم : دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في
بعض الجهات اسمه ميدمان بن يزيد يذكر فيه القلب والتربيل ، وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها ، فقال له : يا أبا
العلاء ، قال : لبيك يا مولانا ، فقال : هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة
والروالبة لميدمان بن يزيد ؟ ، قال : إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد بخطّه
ككراع النمل ، في جوانبها ، فقال له : أما تستحيي أبا العلاء من هذا الكذب؟ هذا
كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا ، فجعل يحلف له أنه ما كذب ، ولكنه
أمر وافق. ومات عن سنّ عالية ، رحمه الله تعالى!.
٦٠ ـ ومن الوافدين على الأندلس من
المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي.
ولد سنة ٥٧٣ ، وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم ،
فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري ، قال :
سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئا من تصانيف المغاربة ، وروي لنا عن
الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن قرقول ، وولي ابن حوط الله
المذكور قضاء غرناطة ، وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا
يزيد السهيلي صاحب الروض وغيرهم. ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب
الفقيه ابن أبي تميم قال : وأنشدني : [بحر مجزوء الكامل]
__________________
اسمع أخيّ
نصيحتي
|
|
والنّصح من محض
الديانه
|
لا تقربنّ إلى
الشّها
|
|
دة والوساطة
والأمانه
|
تسلم من ان تعزى
لزو
|
|
ر أو فضول أو
خيانه
|
وذكر أنه أدرك
الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي ، صاحب
الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغريبة والأحوال العجيبة ، قال : أدركته
بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين ، ومهما حصل عنده مال فرّقه في
الحال ، وتركته في سنة ثمان وتسعين حيّا يرزق ، انتهى.
ووليّ الله السبتي
قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله ، فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان
الدين بن الخطيب ، ومحلّه مقصود لقضاء الحاجات ، وقد زرته مرارا عديدة سنة ١٠١٠.
وقال لسان الدين
في «نفاضة الجراب» : كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ، ونحن بفاس
، يخاطب الضريح المقصود ، والمنهل المورود ، والمرعى المنتجع ، والخوان الذي يكفي
الغرثى ، ويمرّض المرضى ، ويقوت الزّمنى ويتعدّاهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى ، قبر ولي الله سيدي
أبي العباس السبتي نفعنا الله به ، وجبر حالنا ، وأعاد علينا النعم ، ودفع عنّا
النقم : [بحر الخفيف]
يا وليّ الإله
أنت جواد
|
|
وقصدنا إلى حماك
المنيع
|
راعنا الدهر
بالخطوب فجئنا
|
|
نرتجي من علاك
حسن الصّنيع
|
فمددنا لك
الأكفّ نرجّي
|
|
عودة العزّ تحت شمل
جميع
|
قد جعلنا وسيلة
تربك الزا
|
|
كي وزلفى إلى
العليم السميع
|
كم غريب أسرى
إليك فوافى
|
|
برضا عاجل وخير
سريع
|
يا وليّ الله الذي
جعل جاهه سببا لقضاء الحاجات ، ورفع الأزمات ، وتصريفه باقيا بعد الممات ، وصدّق
قول الحكايات ظهور الآيات ، نفعني الله بنيّتي في بركة تربك! وأظهر عليّ
__________________
أثر توسّلي بك إلى
الله ربّك! مزّق شملي ، وفرق بيني وبين أهلي ، وتعدّي عليّ ، وصرفت وجوه المكايد إليّ
، حتى أخرجت من وطني وبلدي ، ومالي وولدي ، ومحلّ جهادي ، وحقّي الذي صار لي طوعا
عن آبائي وأجدادي ، عن بيعة لم يحلّ عقدتها الدين ، ولا ثبوت جرحة تشين ، وأنا قد قرعت
باب الله سبحانه بتأميلك ، فالتمس لي قبوله بقبولك ، وردّني إلى وطني على أفضل حال
، وأظهر عليّ كرامتك التي تشدّ إليها ظهور الرّحال ، فقد جعلت وسيلتي إليك رسول
الحقّ ، إلى جميع الخلق ، والسلام عليك أيها الوليّ الكريم ، الذي يأمن به الخائف
وينتصف الغريم ، ورحمة الله ، انتهى.
رجع : والسرخسي
المذكور قال في حقّه بعض الأئمّة : إنه الشيخ الإمام ، شيخ الشيوخ ، تاج الدين أبو
محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه ، له رحلة مغربية ، انتهى.
وهو من بيت كبير ،
وقال البدري في حقّه ما صورته : تاج الدين ، شيخ الشيوخ بدمشق ، أحد
الفضلاء المؤرّخين المصنّفين ، له كتاب في ثمان مجلّدات ذكر فيه أصول الأشياء ،
وله «السياسة الملوكية» صنّفها للملك الكامل محمد ، وغير ذلك ، وسمع الحديث ، وحفظ
القرآن ، وكان قد بلغ الثمانين ، وقيل : لم يبلغها ، وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة
ثلاث وتسعين ، واتّصل بمراكش ، عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ،
فأقام هنالك إلى سنة ستمائة ، وقدم مصر ، وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن
حمويه ، انتهى.
وقال غيره : إنه
كان فاضلا متواضعا نزها حسن الاعتقاد ، قال أبو المظفر : كان يحضر مجالسي ،
وأنشدني يوما : [بحر البسيط]
لم ألق مستكبرا
إلّا تحوّل لي
|
|
عند اللقاء له
الكبر الذي فيه
|
ولا حلا لي من
الدنيا ولذّتها
|
|
إلّا مقابلتي
للتّيه بالتّيه
|
وقال السرخسي
المذكور في رحلته : إني وإن كنت خراساني الطينة ، لكنّي شامي المدينة ، وإن كانت
العمومة من المشرق ، فإن الخؤولة من المغرب ، فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار
، ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار ، وذلك في حال ريعان الشباب
__________________
الذي تعضده عزائم
النفوس بنشاطها ، والجوارح بخفّة حركاتها وانبساطها ، فخرجت سنة ثلاث وتسعين
وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته ، واغتنام الأجر في حلول
بقاعه ومزاراته ، ثم سرت منه إلى الديار المصرية ، وهي آهلة بكلّ ما تتجمّل به
البلاد وتزدهي ، وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي ، ثم دخلت الغرب من
الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين أبي يوسف
يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، فاتّصلت بخدمته ، والذي علمت من
حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن ، ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها ، ويتكلّم في الفقه
كلاما بليغا ، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى ، وله فتاوى مجموعة حسبما
أدّى إليه اجتهاده ، وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر ، وقد شرحت أحوال سيرته
، وما جرى في أيام دولته ، في كتاب التاريخ المسمّى «عطف الذيل». وقد صنّف كتابا
جمع فيه متون أحاديث صحاح تتعلّق بها العبادات سمّاه «الترغيب». وتهدّده ملك
الإفرنج ألفنش في كتابه فمزّقه ، وقال لرسوله (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ
فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها
أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)) [النمل : ٣٧] إن
شاء الله تعالى ، ثم قال للكاتب : اكتب على هذه القطعة ، يعني من كتابه الذي مزّقه
: الجواب ما ترى لا ما تسمع : [بحر الطويل]
فلا كتب إلّا
المشرفيّة والقنا
|
|
ولا رسل إلّا
الخميس العرمرم
|
ومن شعره أبيات
كتب بها إلى العرب ، وهي : [بحر البسيط]
يا أيها الراكب
المزجي مطيّته
|
|
على عذافرة تشقى
بها الأكم
|
بلّغ سليمى على
بعد الديار بها
|
|
بيني وبينكم
الرحمن والرّحم
|
يا قومنا لا
تشبّوا الحرب إن خمدت
|
|
واستمسكوا بعرى
الإيمان واعتصموا
|
كم جرّب الحرب
من قد كان قبلكم
|
|
من القرون فبادت
دونها الأمم
|
حاشى الأعارب أن
ترضى بمنقصة
|
|
يا ليت شعري هل
ترآهم علموا
|
يقودهم أرمنيّ
لا خلاق له
|
|
كأنه بينهم من
جهلهم علم
|
يعني بالأرمني
قرقوش مملوك بني أيوب ، الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب الأدنى ،
__________________
وأوقد النار
الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللّمتوني ، وحديثه مشهور ، وتمام
الأبيات :
الله يعلم أني
ما دعوتكم
|
|
دعاء ذي قوة
يوما فينتقم
|
ولا لجأت لأمر
يستعان به
|
|
من الأمور وهذا
الخلق قد علموا
|
لكن لأجزي رسول
الله عن نسب
|
|
ينمى إليه وترعى
تلكم الذّمم
|
فإن أتيتم فحبل
الوصل متّصل
|
|
وإن أبيتم فعند
السيف نحتكم
|
ثم قال السرخسي :
وبلغني أنّ قوما من الغرباء قصدوه ، ومعهم حيوانات معلّمة منها أسد وغراب ، أما
الأسد فيقصده من دون أهل المجلس ، ويربض بين يديه ، وربما أومأ بالسجود ومدّ ذراعيه ، وأمّا الغراب
فكان يقول : النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [بحر
الرمل]
أنس الشبل
ابتهاجا بالأسد
|
|
ورأى شبه أبيه
فقصد
|
أنطق الخالق
مخلوقاته
|
|
شهدوا والكلّ
بالحقّ شهد
|
أنّك الخيرة من
صفوته
|
|
بعد ما طال على
الناس الأمد
|
فأعطاهم وكساهم ،
وأحسن حباهم.
وبلغني أنّ قوما
أتوه بفيل من بلاد السودان هديّة ، فأمر لهم بصلة ، ولم يقبله منهم ، وقال : نحن
لا نريد أن نكون أصحاب الفيل .
وقال لي يوما :
كيف ترى هذه البلاد؟ وأين هي من بلادك الشامية؟ فقلت : يا سيدنا ، بلادكم حسنة
أنيقة مجملة مكملة ، وفيها عيب واحد ، فقال : ما هو؟ فقلت : إنها تنسي الأوطان ،
فتبسّم وظهر لي إعجابه بالجواب ، وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان.
وحدّثني بعض
عمّالهم أنه فرّق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة
وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز.
__________________
ودرج إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة : وكان قد
استخلف ولده محمدا وقرّر الأمر له ، انتهى.
قلت : بهذا
وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أنّ يعقوب المنصور هذا تخلّى عن الملك ، وفرّ
زاهدا فيه إلى المشرق ، وأنه دفن بالبقاع ؛ لأن هذه مقالة عامّيّة لا يثبتها علماء
المغرب ، وسبب هذه المقالة تولّع العامّة به ، فكذبوا في موته ، وقالوا : إنه ترك
الملك ، وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع ممّا ليس له أصل. ويرحم الله تعالى الإمام
العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية ، إذ قال في شرح مقصورة حازم عند
ذكره وقعة الأرك ما معناه : إن بعض الناس يزعمون أنّ المنصور ترك الملك وذهب إلى
المشرق ، وهذا كلام لا يصحّ ، ولا أصل له. انتهى. وقال في «المغرب» : كان أبوه
يوسف قد استوزره في حياته ، وتخرّج بين يديه ، وتمرّس ، وهزم الفرنج الهزيمة
الفظيعة ، وتولّع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب ، وقتل على السكر ،
انتهى.
وحكى لسان الدين
الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه «رقم الحلل ، في نظم الدول» أنّ المنصور طلب من
بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما برّا في عمله ، والآخر بحرا في علمه ، فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق
مقترح المنصور ، فلمّا اختبرهما لم يجدهما كما وصف ، فكتب إلى الآتي بهما (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)) [الروم : ٤١]
انتهى. وناهيك بهذا دلالة على قوّة فطنته ومعرفته ، رحمه الله تعالى.
رجع إلى أخبار
السرخسي :
وقال في رحلته
لمّا ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي
، وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها ؛ اجتمعت به حين قدم إلى
مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد ، فرأيته شيخا بهيّ المنظر ، حسن
المخبر ، فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية. ومن كلامه في جواب رسالة إلى
ملك
__________________
السودان لغانة
ينكر عليه تعويق التجار قوله : نحن نتجاور بالإحسان ، وإن تخالفنا في الأديان ،
ونتّفق على السيرة المرضية ، ونتألّف على الرفق على الرعية ، ومعلوم أن العدل من
لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة ، والجور لا تعانيه إلّا النفوس الشريرة
الجاهلة ، وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرّف فيما هم بصدده ،
وتردّد الجلّابة إلى البلد مفيد لسكانها ، ومعين على التمكّن من استيطانها ، ولو
شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية ، لكنّا لا نستصوب فعله ، ولا
ينبغي لنا أن ننهي عن خلق ونأتي مثله ، والسلام.
ووقّع إلى عامل له
كثرت الشكاوى منه : قد كثرت فيك الأقوال ، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقّظ فتنصلح
الحال ، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شرّ الاختيار وعدم الاختبار ،
فاحذر فإنك على شفا جرف هار .
ومن شعره المشهور
قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب : [بحر الكامل]
هبّت بنصركم
الرياح الأربع
|
|
وجرت بسعدكم
النجوم الطّلّع
|
واستبشر الفلك
الأثير تيقّنا
|
|
أنّ الأمور إلى
مرادك ترجع
|
وأمدّك الرحمن
بالفتح الذي
|
|
ملأ البسيطة
نوره المتشعشع
|
لم لا وأنت بذلت
في مرضاته
|
|
نفسا تفدّيها
الخلائق أجمع
|
ومضيت في نصر
الإله مصمّما
|
|
بعزيمة كالسيف
بل هي أقطع
|
لله جيشك
والصوارم تنتضى
|
|
والخيل تجري
والأسنّة تلمع
|
من كلّ من تقوى
الإله سلاحه
|
|
ما إن له غير
التوكّل مفزع
|
لا يسلمون إلى
النوازل جارهم
|
|
يوما إذا أضحى
الجوار يضيّع
|
ومنها يصف انهزام
العدوّ :
إن ظن أنّ فراره
منج له
|
|
فبجهله قد ظنّ
ما لا ينفع
|
أين المفرّ ولا
فرار لهارب
|
|
والأرض تنشر في
يديك وتجمع
|
أخليفة الله
الرضا هنّيته
|
|
فتح يمدّ بما
سواه ويشفع
|
__________________
فلقد كسوت
الدّين عزّا شامخا
|
|
ولبست منه أنت
ما لا يخلع
|
هيهات سرّ الله
أودع فيكم
|
|
والله يعطي من
يشاء ويمنع
|
لكم الهدى لا
يدّعيه سواكم
|
|
ومن ادّعاه يقول
ما لا يسمع
|
إن قيل : من خير
الخلائق كلّها
|
|
فإليك يا يعقوب
تومي الأصبع
|
إن كنت تتلو
السابقين فإنما
|
|
أنت المقدّم
والخلائق تبّع
|
خذها ، أمير
المؤمنين ، مديحة
|
|
من قلب صدق لم
يشنه تصنّع
|
واسلم ، أمير
المؤمنين ، لأمّة
|
|
أنت الملاذ لها
وأنت المفزع
|
فالمدح مني في
علاك طبيعة
|
|
والمدح من غيري
إليك تطبّع
|
وعليك يا علم
الهداة تحيّة
|
|
يفنى الزمان
وعرفها يتضوّع
|
قال لي الفقيه أبو
عبد الله محمد القسطلاني : دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصر سجلماسة ، وبين يديه
أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة ، وهو
ينكت الأرض بقضيب من الأبنوس ، ويقول : [بحر الطويل]
ولا غرو أن كانت
رؤوس عداته
|
|
جوابا إذا كان
السيوف رسائله
|
ومات بعد الستمائة
، رحمه الله تعالى! انتهى.
وقال لمّا هجره
أمير المؤمنين يعقوب المنصور ، ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من
العرب والغزّ من بلاد المشرق ، ونزلوا بتمرتاسقت ظاهر مراكش ، واستأذنوا في وقت الدخول ، فكتب إلى المنصور
: [بحر الكامل]
يا كعبة الجود
التي حجّت لها
|
|
عرب الشآم
وغزّها والدّيلم
|
طوبى لمن أمسى
يطوف بها غدا
|
|
ويحلّ بالبيت
الحرام ويحرم
|
__________________
ومن العجائب أن
يفوز بنظرة
|
|
من بالشآم ومن
بمكة يحرم
|
فعفا عنه ، وأحسن
إليه ، وأمره بالدخول بهم ، والتقدّم عليهم.
وقال في «المغرب»
في حقّ السيد أبي الربيع المذكور ، ما ملخصه : لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في
هذا الشأن الذي نحن بصدده ، وكان تقدّم على مملكتي سجلماسة وبجاية ، وكان كاتبا
شاعرا أديبا ماهرا ، وشعره مدوّن ، وله ألغاز ، وهو القائل في جارية اسمها ألوف : [بحر
الطويل]
خليلّي ، قولا
أين قلبي ومن به
|
|
وكيف بقاء المرء
من بعد قلبه
|
ولو شئتما اسم
الذي قد هويته
|
|
لصحّفتما أمري
لكم بعد قلبه
|
وله الأبيات
المشهورة التي منها : [بحر الطويل]
أقول لركب
أدلجوا بسحيرة
|
|
قفوا ساعة حتى
أزور ركابها
|
وأملأ عيني من
محاسن وجهها
|
|
وأشكو إليها أن
أطالت عتابها
|
فإن هي جادت
بالوصال وأنعمت
|
|
وإلّا فحسبي أن
رأيت قبابها
|
وقال يخاطب ابن
عمّه يعقوب المنصور : [بحر الكامل]
فلأملأنّ
الخافقين بذكركم
|
|
ما دمت حيّا
ناظما ومرسّلا
|
ولأبذلن نصحي
لكم جهدي وذا
|
|
جهد المقلّ وما
عسى أن أفعلا
|
ولأخلصنّ لك
الدعاء ، وما أنا
|
|
أهل له ، ولعلّه
أن يقبلا
|
وله مختصر كتاب «الأغاني»
انتهى.
رجع : وذكر
السرخسي أيضا في رحلته السيّد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن
، وقال في حقّه : إنه كان من أهل الأدب والطرب ، ولي بجاية مدّة ، ثم عزل عنها
لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذّه ، أنشدني محمد بن سعيد المهدي كاتبه قال : كتب
الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده ، ويطلب منه ما يقضي به
ديونه : [بحر المتقارب]
وجوه الأماني
بكم مسفره
|
|
وضاحكة لي
مستبشره
|
ولي أمل فيكم
صادق
|
|
قريب عسى الله أن
يوسره
|
عليّ ديون
وتصحيفها
|
|
وعندكم الجود
والمغفره
|
__________________
يعني ذنوب.
وحدّثني الشيخ أبو
الحسن بن فشتال الكاتب وقد أنشدته : [بحر الكامل]
أوحشتني ولو
اطّلعت على الذي
|
|
لك في ضميري لم
تكن لي موحشا
|
فقال : أنشدته هذا
البيت في مجلس السيد أبي الحسن ، فقال لي ولمن حضر : هل تعرفون لهذا البيت ثانيا؟
فما فينا من عرفه ، فأنشدنا : [بحر الكامل]
أترى رشيت على
اطّراح مودّتي
|
|
ولقد عهدتك ليس
تثنيك الرّشا
|
أوحشتني ـ البيت ،
انتهى.
وقال في «المغرب»
في حقّ السيّد المذكور ، ما ملخّصه : كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان
وبجاية ، وله حكايات في الجود برمكية ، ونفس عالية زكية ، كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة :
[بحر مجزوء الرجز]
اليوم يوم
الجمعه
|
|
يوم سرور ودعه
|
وشملنا مفترق
|
|
فهل ترى أن
نجمعه
|
فأجابه بقوله : [بحر
مجزوء الرجز]
اليوم يوم
الجمعه
|
|
وربّنا قد رفعه
|
والشرب فيه بدعة
|
|
فهل ترى أن ندعه
|
قال : ولفظة «السيد»
في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلّا على بني عبد المؤمن بن علي ، انتهى.
رجع : قال السرخسي
، وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس : وله من أبيات في
الفخر وقد انتحلها غيره : [بحر الطويل]
ألست ابن من
تخشى الليالي انتقامهم
|
|
وترجو نداهم
غاديات السحائب
|
يخطّون بالخطّيّ
في حومة الوغى
|
|
سطور المنايا في
نحور المقانب
|
__________________
كتابا بأطراف
العوالي ونقسه
|
|
دم القلب مشكولا
بنضح الترائب
|
وما كنت أدري
قبلهم أنّ معشرا
|
|
أقاموا كتابا من
نفوس الكتائب
|
وأنشدني المقدم
الأمير أبو زيد بن بكيت قال : أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن : [بحر السريع]
فديت من أصبحت
في أسره
|
|
وليس لي من حكمه
فادي
|
إن حلّ يوما
واديا كان لي
|
|
جنّة عدن ذلك
الوادي
|
ثم ذكر ، رحمه
الله تعالى ، جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة.
ومن نظم السرخسي
المذكور قوله رحمه الله تعالى : [بحر السريع]
يا ساهر المقلة
لا عن كرى
|
|
غفلت عن هجعي
وأوصابي
|
لو لم يكن وجهك
لي قبلة
|
|
ما أصبح الحاجب
محرابي
|
وكان متفنّنا في
العلوم ، وهو عمّ الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته ، ومن مصنّفاته «المسالك
والممالك» و «عطف الذيل» في التاريخ ، وله أمال وتخاريج. وقدّمه المنصور صاحب
المغرب على جماعة. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق ، ودفن في مقابر الصوفية عند
المنيبع. وكان عالي الهمة ، شريف النفس ، قليل الطمع ، لا يلتفت إلى أحد رغبة في
دنياه ، لا من أهله ولا من غيرهم ، وذكره صاحب «المرآة» وغيره ، وترجمته واسعة ،
رحمه الله تعالى!
٦١ ـ ومن الوافدين على الأندلس ظفر
البغدادي.
سكن قرطبة ، وكان
من رؤساء الورّاقين المعروفين بالضبط وحسن الخطّ كعباس بن عمر الصقلي ويوسف
البلوطي وطبقتهما ، واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة ، لما علم من شدّة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها. وقد
أشار ابن حيان في كتاب «المقتبس» إلى ظفر هذا ، رحمه الله تعالى!
٦٢ ـ ومنهم الرازي ، وهو محمد بن موسى
بن بشير بن جناد بن لقيط ، الكناني ، الرازي.
__________________
والد أبي بكر محمد
صاحب التاريخ ، غلب عليه اسم بلده ، وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجرا
، وكان مع ذلك متفننا في العلوم ، وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن
محمد بإلبيرة ، في شهر ربيع الآخر سنة ٢٧٣ ، ذكره ابن حيان في «المقتبس».
٦٣ ـ ومنهم الوزير
أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان
بن الأسود بن سفيان ، التميمي ، الدارمي ، البغدادي.
سمع من أبي طاهر
محمد بن عبد الرحمن المخلّص وغيره ، وخرج من بغداد رسولا عن أمير المؤمنين القائم
بأمر الله العباسي ، رضي الله تعالى عنه ، إلى صاحب إفريقية المعزّ بن باديس ،
واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرّة ، وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب ،
فقبّل عينيه ، وقال له : لله أنت من ناظم! وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب ،
وخيّم عند المأمون بن ذي النون بطليطلة ، وله فيه أمداح كثيرة ، ومن فرائد شعره
قوله : [بحر المنسرح]
يا ليل ، ألّا
انجليت عن فلق
|
|
طلت ولا صبر لي
على الأرق
|
جفت لحاظي التغميض
فيك فما
|
|
تطبق أحفانها
على الحدق
|
كأنني صورة
ممثّلة
|
|
ناظرها الدّهر
غير منطبق
|
وقال : [بحر
السريع]
يزرع وردا ناضرا
ناظري
|
|
في وجنة كالقمر
الطالع
|
أمنع أن أقطف
أزهاره
|
|
في سنّة المتبوع
والتابع
|
فلم منعتم شفتي
قطفها
|
|
والشرع أنّ
الزرع للزارع
|
هكذا نسبها له غير
واحد كابن سعيد وابن كتيلة ، وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهّاب.
قلت : وقد أجاب
عنها بعض المغاربة بقوله : [بحر السريع]
سلّمت أنّ الحكم
ما قلتم
|
|
وهو الذي نصّ عن
الشارع
|
فكيف تبغي شفة
قطفه
|
|
وغيرها المدعوّ
بالزارع
|
__________________
ورده شيخ شيوخ
شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التّنسي ثم التلمساني بقوله : [بحر السريع]
في ذا الذي قد
قلتم مبحث
|
|
إذ فيه إيهام
على السامع
|
سلّمتم الحكم له
مطلقا
|
|
وغير ذا نصّ عن
الشارع
|
يعني أنه يلزم على
قول المجيب أن يباح له النظر مطلقا ، والشرع خلافه.
وأجاب بعض الحنفية
بقوله : [بحر السريع]
لأنّ أهل الحبّ
في حكمنا
|
|
عبيدنا في شرعنا
الواسع
|
والعبد لا ملك
له عندنا
|
|
فحقّه للسّيّد
المانع
|
وهو جواب حسن لا
بأس به.
ورأيت جوابا لبعض
المغاربة على غير رويّه ، وهو : [بحر السريع]
قل لأبي الفضل
الوزير الذي
|
|
باهى به مغربنا
الشرق
|
غرست ظلما وأردت
الجنى
|
|
وما لعرق ظالم
حقّ
|
قلت : وهذا ممّا
يعيّن أنّ الأبيات لأبي الفضل الدارمي المذكور في الذخيرة ، لا للقاضي عبد الوهّاب
، والله تعالى أعلم.
ومن شعر الوزير
المذكور قوله : [بحر المنسرح]
بين كريمين منزل
واسع
|
|
والودّ حال
تقرّب الشاسع
|
والبيت إن ضاق
عن ثمانية
|
|
متّسع بالوداد
للتاسع
|
وولد ، رحمه الله
تعالى ، سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، وهو من بيت علم وأدب. قال الحميدي : أخبرني
بذلك أبو عمر رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث ، وتوفي بطليطلة سنة
أربع وخمسين وأربعمائة. وقال ابن حيان : توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من
شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة ، في كنف المأمون يحيى بن ذي النون ، وذكر أنه كان
يتّهم بالكذب ، فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.
وقال ابن ظافر في
كتابه «بدائع البداءة» ما نصّه : حضر أبو الفضل الدارمي البغدادي مجلس المعزّ بن
باديس ، وبالمجلس ساق وسيم قد مسّك عذاره وورّد خديه ، وعجزت
__________________
الراح أن تفعل في
الندامى فعل عينيه ، فأمره المعزّ بوصفه ، فقال بديها : [بحر الكامل]
ومعذّر نقش
الجمال بمسكه
|
|
خدّا له بدم
القلوب مضرّجا
|
لمّا تيقّن أنّ
سيف جفونه
|
|
من نرجس جعل
العذار بنفسجا
|
وقوله في جارية
تبخّرت بالندّ : [بحر الطويل]
ومحطوطة المتنين
مهضومة الحشى
|
|
منعّمة الأرداف
تدمى من اللّمس
|
إذا ما دخان
النّدّ من جيبها علا
|
|
على وجهها أبصرت
غيما على شمس
|
وقوله : [بحر
الكامل]
لأغرّزنّ بمهجتي
في حبّه
|
|
غرزا يطيل مع
الخطوب خطابي
|
ولئن تعزّز إنّ
عندي ذلّة
|
|
تستعطف الأعداء
للأحباب
|
وقوله : [بحر
المتقارب]
دعتني عيناك نحو
الصبا
|
|
دعاء يكرّر في
كل ساعه
|
ولولا وحقّك عذر
المشيب
|
|
لقلت لعينيك
سمعا وطاعه
|
وقد تمثّل بهذين
البيتين لسان الدين بن الخطيب في خطبة تأليفه المسمّى ب «روضة التعريف ، بالحب
الشريف».
وقال أبو الفضل
الدارمي المذكور أيضا : [بحر البسيط]
سطا الفراق
عليهم غفلة فغدوا
|
|
من جوره فرقا من
شدّة الفرق
|
سرت شرقا
وأشواقي مغرّبة
|
|
يا بعد ما نزحت
عن طرقهم طرقي
|
لو لا تدارك
دمعي يوم كاظمة
|
|
لأحرق الركب ما
أبديت من حرق
|
يا سارق القلب
جهرا غير مكترث
|
|
أمنت في الحبّ
أن تعدى على السّرق
|
لم يبق مني سوى
لفظ يبوح بما
|
|
ألقى ، فيا عجبا
للفظ كيف بقي
|
__________________
صلني إذا شئت أو
فاهجر علانية
|
|
فكلّ ذلك محمول
على الحدق
|
وقال : [بحر
الطويل]
تذكّر نجدا
والحمى فبكى وجدا
|
|
وقال : سقى الله
الحمى وسقى نجدا
|
وحيّته أنفاس الخزامى
عشيّة
|
|
فهاجت إلى الوجد
القديم به وجدا
|
فأظهر سلوانا
وأضمر لوعة
|
|
إذا طفئت
نيرانها وقدت وقدا
|
ولو أنه أعطى
الصبابة حكمها
|
|
لأبدى الذي أخفى
وأخفى الذي أبدى
|
وقال أيضا : [بحر
مجزوء الرمل]
قلت للملقي على الخدّين من ورد خمارا
سبل الصّدغ على خدّك من مسك عذارا
أم أعان الليل
حتّى
|
|
قهر الليل
النهارا
|
قال
: ميدان جرى الحسن عليه فاستدارا
|
ركضت فيه عيون
|
|
فأثارته غبارا
|
وقال : [بحر
السريع]
وكاتب أهديت
نفسي له
|
|
فهي من السوء
فدى نفسه
|
فلست أدري بعد
ما حلّ بي
|
|
بمسكه أتلف أم
نقسه
|
سلّط خدّيه على
مهجتي
|
|
فاستأصلتها وهي
من غرسه
|
وقال : [بحر
السريع]
وشادن أسرف في
صدّه
|
|
وزاد في التّيه
على عبده
|
الحسن قد بثّ
على خدّه
|
|
بنفسجا يزهو على
ورده
|
رأيته يكتب في
طرسه
|
|
خطّا يباري
الدّرّ من عقده
|
فخلت ما قد خطّه
كفّه
|
|
للحسن قد خطّ
على خدّه
|
__________________
وقال : [بحر
المجتث]
إني عشقت صغيرا
|
|
قد دبّ فيه
الجمال
|
وكاد يغشى حديث
ال
|
|
فضول منه
الدّلال
|
لو مرّ في طرق
الهج
|
|
ر لاعتراه ضلال
|
يريك بدرا منيرا
|
|
في الحسن وهو
هلال
|
وقال : [بحر
السريع]
ظبي إذا حرّك
أصداغه
|
|
لم يلتفت خلق
إلى العطر
|
غنّى بشعري
منشدا ليتني ال
|
|
لفظ الذي أودعته
شعري
|
فكلّما كرّر
إنشاده
|
|
قبّلته فيه ولم
يدر
|
وقال : [بحر
الطويل]
أينفع قولي إنني
لا أحبّه
|
|
ودمعي بما يمليه
وجدي يكتب
|
إذا قلت للواشين
لست بعاشق
|
|
يقول لهم فيض
المدامع يكذب
|
وقال : [بحر
الطويل]
وهبني قد أنكرت
حبّك جملة
|
|
وآليت أني لا
أروم محطّها
|
فمن أين لي في
الحبّ جرح شهادة
|
|
سقامي أملاها
ودمعي خطّها
|
وقال : [بحر
الخفيف]
أنا أخشى إن دام
ذا الهجر أن ين
|
|
شط من حبّه عقال
وثاقي
|
فأريح الفؤاد
ممّا اعتراه
|
|
وأردّ الهوى على
العشّاق
|
وقال : [بحر
الطويل]
كلانا لعمري
ذائبان من الهوى
|
|
فنارك من جمر
وناري من هجر
|
أنت على ما قد
تقاسين من أذى
|
|
فصدرك في نار
وناري في صدري
|
وقال : [بحر
المتقارب]
__________________
ومن عجب العشق
أنّ القتيل
|
|
يحنّ ويصبو إلى
القاتل
|
وقال : [بحر
الوافر]
ألم أجعل مثار
النّقع بحرا
|
|
على أنّ الجياد
له سفين
|
وقال : [بحر
البسيط]
أصبحت أحلب تيسا
لا مدرّ له
|
|
والتّيس من ظنّ
أنّ التيس محلوب
|
وأما الحكيم أبو
محمد المصري وهو القائل : [بحر الطويل]
رعى الله دهرا
قد نعمنا بطيبه
|
|
لياليه من شمس
الكؤوس أصائل
|
ونرجسنا درّ على
التّبر جامد
|
|
وخمرتنا تبر على
الدّرّ سائل
|
فقد ترجمه في «الذخيرة»
فليراجع ، فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية. وقد كان عندي بالمغرب من هذا
النوع ما أستعين به ، فخلفته هنالك ، والله تعالى يلم الشمل. وقد ذكر فيها أنه
مغربي سافر إلى مصر ، فقيل له «المصري» لذلك ، فليعلم ، والله تعالى أعلم.
٦٤ ـ ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن
العضد الخراساني.
قال ابن سعيد :
أنشدنا لمّا وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه : [بحر الكامل]
طاب الصّبوح لنا فهاك وهات
وادعاها ، وفيها :
في روضة غنّا
تخال طيورها
|
|
وغصونها همزا
على ألفات
|
ولم أجد هذا البيت
في قصيدة ابن النبيه ، انتهى.
٦٥ ـ ومن الوافدين على الأندلس من
المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك.
وهو مذكور في
الذخيرة ، وكان حلو الجواب ، مليح التندر ، يضحك من حضر ، ولا يضحك هو إذا ندّر ،
وكان قصيرا دميما.
__________________
قال : ورأيته يوما
وقد لبس ثوبا أحمر على بياض ، وفي رأسه طرطور أخضر ، عمّم عليه عمّة
لازوردية ، وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعرا قال فيه : [بحر المتقارب]
وأنت سليمان في
ملكه
|
|
وبين يديك أنا
الهدهد
|
وأنشد له في
المعتمد : [بحر الطويل]
أبا القاسم
الملك المعظّم قدره
|
|
سواك من الأملاك
ليس يعظّم
|
|
لقد أصبحت حمص
بعدلك جنّة
|
|
وقد أبعدت عن
ساكنيها جهنّم
|
ولي في محيّاك
الربيع وإنني
|
|
أزخرف أعلام
الثناء وأرقم
|
وأنفقت ما
أعطيتني ثقة بما
|
|
أؤمّل فالدينار
عندي درهم
|
وقلبي إلى بغداد
يصبو وإنني
|
|
لنشر صباها
دائما أتنسّم
|
وقال : [بحر
الطويل]
وروّى على ربع
العقيق دموعه
|
|
عقيقا ففيها
توأم وفريد
|
شهدت وما تغني
شهادة عاشق
|
|
بأنّ قتيل
الغانيات شهيد
|
ومنها :
إذا قابلوه
قبّلوا ترب أرضه
|
|
وهم لعلاه ركّع
وسجود
|
وقد هزّ منه
الله للملك صارما
|
|
تقام بحدّي
شفرتيه حدود
|
وقال : [بحر
الطويل]
لأية حال حال عن
سنة الكرى
|
|
ولم أصغ يوما في
هواه إلى العذل
|
ومنها :
كأنّ بقاء
الطّلّ فوق جفونها
|
|
دموع التصابي
حرن في الأعين النّجل
|
ومنها :
__________________
تملّكت رقّي
بالعوارف منعما
|
|
وأغنيتني بالجود
عن كلّ ذي فضل
|
وأنسيتني أرض
العراق ودجلة
|
|
وربعي حتى ما
أحنّ إلى أهلي
|
وقال في المقتدر
بن هود : [بحر المتقارب]
لعزّك ذلّت ملوك
البشر
|
|
وعفّرت تيجانهم
في العفر
|
وأصبحت أخطرهم
بالقنا
|
|
وأركبهم لجواد
الخطر
|
سهرت وناموا على
المأثرات
|
|
فما لهم في
المعالي أثر
|
وجلّيت في حيث
صلّى الملوك
|
|
فكلّ بذيل العلا
قد عثر
|
ومنها :
وأنتم ملوك إذا
شاجروا
|
|
أظلّتهم من
قناهم شجر
|
وقال فيه من قصيدة
: [بحر البسيط]
غنّى حسامك في
أرجاء قرطبة
|
|
صوتا أباد العدى
والليل معتكر
|
حيث الدماء مدام
والقنا زهر
|
|
والقوم صرعى
بكأس الحتف قد سكروا
|
وكان مشهورا
بالهجاء ، وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدّة : [بحر الكامل]
بلغ الأمانة فهي
في حلقومه
|
|
لا ترتقي صعدا
ولا تتنزّل
|
وقال في ناصر الدولة
بن حمدان : [بحر الكامل]
ولئن غلطت بأن
مدحتك طالبا
|
|
جدواك مع علمي
بأنّك باخل
|
الدولة الغرّاء
قد غلطت بأن
|
|
سمّتك ناصرها
وأنت الخاذل
|
إن تمّ أمرك مع
يد لك أصبحت
|
|
شلّاء فالأمثال
شيء باطل
|
ومما ينسب إليه ،
وقيل لغيره : [بحر الكامل]
__________________
ووعدتني وعدا
حسبتك صادقا
|
|
فجعلت من طمعي
أجيء وأذهب
|
فإذا جمعت أنا
وأنت بمجلس
|
|
قالوا : مسيلمة
وهذا أشعب
|
٦٦ ـ ومنهم إبراهيم بن سليمان الشامي.
دخل الأندلس من
المشرق في أخريات أيام الحكم شاديا للشعر ، وهو من موالي بني أمية ، ولم ينفق على
الحكم ، وتحرّك في أيام ولده الأمير عبد الرحمن فنفق عليه ، ووصله ، ثم في أيام
الأمير محمد بن عبد الرحمن ، وكان أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي نواس وأبي
العتاهية.
ومن شعره ما كتب
به إلى الأمير عبد الرحمن : [بحر الكامل]
يا من تعالى من
أميّة في الذّرى
|
|
قدما فأصبح عالي
الأركان
|
إنّ الغمام
غياثه في وقته
|
|
والغيث من كفّيك
كلّ أوان
|
فالغيث قد عمّ
البلاد وأهلها
|
|
وظمئت بينهم
فبلّ لساني
|
وله في الأمير عبد
الرحمن بن الحكم : [بحر الطويل]
ومن عبد شمس
بالمغارب عصبة
|
|
فأسعدها الرحمن
حيث أحلّها
|
دحا تحتها مهدا
من العزّ آمنا
|
|
ومدّ جناحا
فوقها فأظلّها
|
٦٧ ـ ومنهم أبو بكر بن الأزرق ، وهو
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حامد بن موسى بن العباس بن محمد بن يزيد ،
وهو الحصني ، ابن محمد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان.
من أهل مصر ، خرج
من مصر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة ، وصار إلى القيروان ، وامتحن بها مع الشيعة ،
وأقام محبوسا بالمهدية ، ثم أطلق ووصل الأندلس سنة تسع وأربعين ، فأحسن إليه
المستنصر بالله الحكم ، وكان أديبا حكيما ، سمع من خاله أبي بكر أحمد بن مسعود
الزهري ، وولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة بمصر ، وتوفي بقرطبة في ذي القعدة سنة خمس
وثمانين وثلاثمائة ، رحمه الله تعالى!
٦٨ ـ ومن الوافدين
على الأندلس من المشرق رئيس المغنين أبو الحسن علي بن نافع ، الملقب بزرياب ، مولى
أمير المؤمنين المهدي العباسي.
قال في «المقتبس»
زرياب لقب غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه ، مع فصاحة
__________________
لسانه ، وحلاوة
شمائله ، شبّه بطائر أسود غرد عندهم ، وكان شاعرا مطبوعا ، وكان ابنه أحمد قد غلب
عليه الشعر أيضا ، وكان من خبره في الوصول إلى الأندلس أنه كان تلميذا لإسحاق
الموصلي ببغداد ، فتلقّف من أغانيه استراقا ، وهدي من فهم الصناعة وصدق العقل مع
طيب الصوت وصورة الطبع إلى ما فاق به إسحاق وإسحاق لا يشعر بما فتح عليه ، إلى أن
جرى للرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغنّ غريب مجيد للصنعة ، لم
يشتهر مكانه إليه ، فذكر له تلميذه هذا ، وقال : إنه مولى لكم ، وسمعت له نزعات
حسنة ، ونغمات رائقة ، ملتاطة بالنفس ، إذا أنا وقفته على ما استغرب منها وهو من اختراعي
واستنباط فكري ، وأحدس أن يكون له شأن ، فقال الرشيد : هذا طلبتي ، فأحضرنيه لعل
حاجتي عنده ، فأحضره ، فلمّا كلّمه الرشيد أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب ،
وسأله عن معرفته بالغناء ، فقال : نعم أحسن منه ما يحسنه الناس ، وأكثر ما أحسنه
لا يحسنونه ، ممّا لا يحسن إلّا عندك ولا يدّخر إلّا لك ، فإن أذنت غنيتك ما لم
تسمعه أذن قبلك ، فأمر بإحضار عود أستاذه إسحاق ، فلما أدني إليه وقف عن تناوله ،
وقال : لي عود نحتّه بيدي ، وأرهفته بإحكامي ، ولا أرتضي غيره ، وهو بالباب ،
فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه ، فأمر بإدخاله إليه ، فلمّا تأمّله الرشيد
وكان شبيها بالعود الذي دفعه قال له : ما منعك أن تستعمل عود أستاذك؟ فقال : إن
كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده ، وإن كان يرغب في غنائي فلا بدّ لي من
عودي ، فقال له : ما أراهما إلّا واحدا ، فقال : صدقت يا مولاي ، ولا يؤدّي النظر
غير ذلك ، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في
الثلث أو نحوه ، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثة ورخاوة ، وبمّها
ومثلثها اتّخذتهما من مصران شبل أسد ، فلها في الترنّم والصفاء والجهارة والحدّة
أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان ، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب
المتعاورة بها ما ليس لغيرها ، فاستبرع الرشيد وصفه وأمره بالغناء ، فجس ، ثم
اندفع فغنّاه : [بحر البسيط]
يا أيها الملك
الميمون طائره
|
|
هارون راح إليك
الناس وابتكروا
|
فأتمّ النوبة ،
وطار الرشيد طربا ، وقال لإسحاق : والله لو لا أني أعلم من صدقك لي على كتمانه
إيّاك لما عنده وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي
بشأنه ، فخذه إليك واعتن بشأنه ، حتى أفرغ له ، فإن لي فيه نظرا ، فسقط في يد
إسحاق ،
__________________
وهاج به من داء
الحسد ما غلب على صبره ، فخلا بزرياب وقال : يا علي ، إنّ الحسد أقدم الأدواء
وأدوؤها ، والدنيا فتّانة ، والشركة في الصناعة عداوة ، ولا حيلة في حسمها ، وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلوّ طبقتك ،
وقصدت منفعتك فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك ، وعن قليل تسقط منزلتي ،
وترتقي أنت فوقي ، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي ، ولولا رعيي لذمّة تربيتك
لما قدمت شيئا على أن أذهب نفسك ، يكون في ذلك ما كان ، فتخيّر في ثنتين لا بدّ لك
منهما : إمّا أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبرا بعد أن تعطيني على ذلك
الأيمان الموثقة ، وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره ، وإمّا أن تقيم على كرهي
ورغمي مستهدفا إليّ ، فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك ، ولا أدع اغتيالك
باذلا في ذلك بدني ومالي ، فاقض قضاءك. فخرج زرياب لوقته ، وعلم قدرته على ما قال
، واختار الفرار قدامه ، فأعانه إسحاق على ذلك سريعا ، وراش جناحه ، فرحل عنه ، ومضى يبغي مغرب الشمس ، واستراح قلب إسحاق
منه.
وتذكّره الرشيد
بعد فراغه من شغل كان منغمسا فيه ، فأمر إسحاق بحضوره ، فقال : ومن لي به يا أمير
المؤمنين؟ ذاك غلام مجنون يزعم أن الجنّ تكلّمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه ، فما
يرى في الدنيا من يعدله ، وما هو إلّا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك
استعادته ، فقدّر التقصير به ، والتهوين بصناعته ، فرحل مغاضبا ذاهبا على وجهه
مستخفيا عنّي ، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين ، فإنه كان به لمم يغشاه ويفرط خبطه ، فيفزع من رآه ، فسكن الرشيد إلى قول
إسحاق ، وقال : على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير.
ومضى زرياب إلى
المغرب ، فنسي بالمشرق خبره ، إذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ،
ونزعت إليه نفسه ، وسمت به همّته ، فأمّ أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه ، وخاطبه ، وذكر له
نزاعه إليه ، واختياره إياه ، ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها ، ويسأله
الإذن في الوصول إليه ، فسرّ الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتّطلّع إليه
وإجمال الموعد ما تمنّاه ، فسار زرياب نحوه بعياله وولده ، وركب بحر الزّقاق إلى
الجزيرة الخضراء ، فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم ، فهمّ بالرجوع
إلى العدوة ، فكان معه
__________________
منصور اليهودي
المغني رسول الحكم إليه ، فثناه عن ذلك ورغّبه في قصد القائم مقام الحكم ، وهو عبد
الرحمن ولده ، وكتب إليه بخبر زرياب ، فجاءه كتاب عبد الرحمن يذكر تطلّعه إليه ،
والسرور بقدومه عليه ، وكتب إلى عمّاله على البلاد أن يحسنوا إليه ، ويوصلوه إلى
قرطبة ، وأمر خصيّا من أكابر خصيانه أن يتلقّاه ببغال ذكور وإناث وآلات حسنة ،
فدخل هو وأهله البلد ليلا صيانة للحرم ، وأنزله في دار من أحسن الدور ، وحمل إليها
جميع ما يحتاج إليه ، وخلع عليه ، وبعد ثلاثة أيام استدعاه ، وكتب له في كل شهر
بمائتي دينار راتبا ، وأن يجرى على بنيه الذين قدموا معه ـ وكانوا أربعة : عبد
الرحمن ، وجعفر ، وعبيد الله ، ويحيى. عشرون دينارا لكلّ واحد منهم كلّ شهر ، وأن
يجرى على زرياب من المعروف العام ثلاثة آلاف دينار ، منها لكلّ عيد ألف دينار ،
ولكلّ مهرجان ونوروز خمسمائة دينار ، وأن يقطع له من الطعام العام ثلاثمائة مدي
ثلثاها شعير وثلثها قمح ، وأقطعه من الدّور والمستغلّات بقرطبة وبساتينها ومن
الضياع ما يقوّم بأربعين ألف دينار. فلمّا قضى له سؤله وأنجز موعوده وعلم أن قد
أرضاه وملك نفسه استدعاه ، فبدأ بمجالسته على النبيذ وسماع غنائه ، فما هو إلّا أن
سمعه فاستهوله واطّرح كل غناء سواه ، وأحبّه حبّا شديدا ، وقدّمه على جميع المغنين
، وكان لمّا خلا به أكرمه غاية الإكرام ، وأدنى منزلته ، وبسط أمله ، وذاكره في
أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء ، فحرّك منه بحرا زخر عليه مدّه ، فأعجب الأمير به ، وراقه ما أورده ، وحضر وقت الطعام
فشرّفه بالأكل معه هو وأكابر ولده ، ثم أمر كاتبه بأن يعقد له صكّا بما ذكرناه
آنفا ، ولمّا ملك قلبه واستولى عليه حبّه ، فتح له بابا خاصّا يستدعيه منه متى
أراده.
وذكر أنّ زريابا
ادّعى أنّ الجن كانت تعلّمه كلّ ليلة ما بين نوبة إلى صوت واحد ، كان يهبّ من نومه
سريعا فيدعو بجاريتيه غزلان وهنيدة ، فتأخذان عودهما ، ويأخذ هو عوده ، فيطارحهما
ليلته ، ثم يكتب الشعر ، ثم يعود عجلا إلى مضجعه ، وكذلك يحكى عن إبراهيم
الموصلي في لحنه البديع المعروف بالماخوري أنّ الجن طارحته إياه ، والله تعالى
أعلم بحقيقة ذلك.
وزاد زرياب
بالأندلس في أوتار عوده وترا خامسا اختراعا منه ، إذ لم يزل العود ذا أربعة أوتار
على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع ، فزاد عليها وترا خامسا أحمر
متوسّطا ، فاكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة ، وذلك أن الزير . صبغ أصفر اللون ،
__________________
وجعل في العود
بمنزلة الصفراء من الجسد ، وصبغ الوتر الثاني بعده أحمر ، وهو من العود مكان الدم
من الجسد ، وهو في الغلظ ضعف الزير ، ولذلك سمي مثنى ، وصبغ الوتر الرابع أسود ،
وجعل من العود مكان السوداء من الجسد ، وسمّي البمّ ، وهو أعلى أوتار العود ، وهو
ضعف المثلث الذي عطل من الصبغ وترك أبيض اللون ، وهو من العود بمنزلة البلغم من
الجسد ، وجعل ضعف المثنى في الغلظ ، ولذلك سمّي المثلث ، فهذه الأربعة من الأوتار
مقابلة للطبائع الأربع تقضي طبائعها بالاعتدال ، فالبم حارّ يابس يقابل المثنى وهو
حار رطب وعليه تسويته ، والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب ، قوبل كل طبع
بضدّه حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه ، إلّا أنه عطل من النفس ، والنفس
مقرونة بالدم ، فأضاف زرياب من أجل ذلك إلى الوتر الأوسط الدموي هذا الوتر الخامس
الأحمر الذي اخترعه بالأندلس ، ووضعه تحت المثلث وفوق المثنى ، فكمل في عوده قوى
الطبائع الأربع ، وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد.
وهو الذي اخترع بالأندلس
مضراب العود من قوادم النّسر ، معتاضا به من مرهف الخشب ، فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفّته على الأصابع
وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه.
وكان زرياب عالما
بالنجوم وقسمة الأقاليم السبعة ، واختلاف طبائعها وأهويتها وتشعّب بحارها ، وتصنيف
بلادها ، وسكّانها ، مع ما سنح له من فكّ كتاب الموسيقى ، مع حفظه لعشرة آلاف
مقطوعة من الأغاني بألحانها ، وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع
هذه العلوم ومؤلّفها.
وكان زرياب قد جمع
إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب ، ولطف المعاشرة ، وحوى
من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل
صناعته ، حتى اتّخذه ملوك أهل الأندلس وخواصّهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه ،
واستحسنه من أطعمته ، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبا إليه معلوما به.
فمن ذلك أنه دخل
إلى الأندلس وجميع من فيها من رجل أو امرأة يرسل جمّته مفروقا وسط الجبين عامّا للصدغين والحاجبين ، فلمّا عاين
ذوو التحصيل تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم ، وتقصيرها دون جباههم ، وتسويتها مع
حواجبهم ، وتدويرها إلى آذانهم ، وإسدالها
__________________
إلى أصداغهم ـ حسبما
عليه اليوم الخدم الخصية والجواري. هوت إليه أفئدتهم ، واستحسنوه.
وممّا سنّه لهم
استعمال المرتك المتّخذ من المرداسنج لطرد ريح الصنان من مغابنهم ، ولا شيء يقوم مقامه ، وكانت ملوك الأندلس تستعمل قبله
ذرور الورد وزهر الريحان وما شاكل ذلك من ذوات القبض والبرد ، فكانوا لا تسلم
ثيابهم من وضر ، فدلّهم على تصعيدها بالملح ، وتبييض لونها ، فلما جرّبوه
أحمدوه جدّا.
وهو أول من اجتنى
بقلة الهليون المسمّاة بلسانهم الإسفراج ، ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله.
وممّا اخترعوه من
الطبيخ اللون المسمى عندهم بالتفايا ، وهو مصطنع بماء الكزبرة الرطبة محلّى بالسنبوسق والكباب
، ويليه عندهم لون التقلية المنسوبة إلى زرياب.
وممّا أخذه عنه
الناس بالأندلس تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضّة ، وإيثاره فرش
أنطاع الأديم الليّنة الناعمة على ملاحف الكتّان ، واختياره سفر الأديم
لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية إذ الوضر يزول عن الأديم بأقلّ مسحة ،
ولبسه كلّ صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به ، فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس
للباس البياض وجعلهم للملوّن من يوم مهرجان أهل البلد المسمّى عندهم بالعنصرة
الكائن في ست بقين من شهر يونيه الشمسي من شهورهم الرومية ، فيلبسونه إلى أول شهر
أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية ويلبسون بقية السنة الثياب الملوّنة ، ورأى
أن يلبسوا في الفصل الذي بين الحرّ والبرد المسمّى عندهم الربيع من مصبغهم جباب
الخزّ والملحم والمحرّر والدّراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض الظهائر التي
ينتقلون إليها لخفتها وشبهها بالمحاشي ، ثياب العامة ، وكذا رأى أن يلبسوا في آخر
الصيف وعند أول الخريف المحاشي المروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف
الثياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة ، وذلك عند قرص البرد في الغدوات ،
إلى أن يقوى البرد فينتقلون إلى أثخن منها من الملونات ، ويستظهرون من تحتها إذا
احتاجوا إلى صنوف الفراء.
__________________
واستمرّ بالأندلس
أنّ كلّ من افتتح الغناء فيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان ، ويأتي أثره بالبسيط ، ويختم بالمحركات والأهزاج تبعا لمراسم زرياب.
وكان إذا تناول
الإلقاء على تلميذ يعلّمه أمره بالقعود على الوساد المدوّر المعروف بالمسورة ، وأن
يشدّ صوته جدّا إذا كان قويّ الصوت ، فإن كان ليّنه أمره أن يشدّ على بطنه عمامة ،
فإنّ ذلك ممّا يقوّي الصوت ، ولا يجد متّسعا في الجوف عند الخروج على الفم ، فإن
كان ألصّ الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه ، أو كانت عادته زمّ أسنانه عند
النطق ، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه
ليالي حتى ينفرج فكّاه ، وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من
غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته : يا حجّام ، أو يصيح : آه ، ويمدّ بها صوته
، فإن سمع صوته بهما صافيا نديّا قويّا مؤدّيا لا يعتريه غنّة ولا حبسة ولا ضيق
نفس عرف أن سوف ينجب ، وأشار بتعليمه ، وإن وجده خلاف ذلك أبعده.
وكان له من ذكور
الولد ثمانية : عبد الرحمن ، وعبيد الله ، ويحيى ، وجعفر ، ومحمد ، وقاسم ، وأحمد
، وحسن. ومن الإناث ثنتان : علية ، وحمدونة. وكلّهم غنّى ، ومارس الصناعة ،
واختلفت بهم الطبقة ، فكان أعلاهم عبيد الله ، ويتلوه عبد الرحمن ، لكنه ابتلي من
فرط التّيه وشدّة الزهو وكثرة العجب بغنائه والذهاب بنفسه بما لم يكن له شبه فيه ،
وقلّما يسلم مجلس حضوره من كدر يحدثه ، ولا يزال يجترئ على الملوك ، ويستخفّ
بالعظماء ، ولقد حمله سخفه على أن حضر يوما مجلس بعض الأكابر الأعاظم في أنس قد
طاب به سروره ، وكان صاحب قنص تغلب عليه لذّته ، فاستدعى بازيا كان كلفا به كثير
التذكّر له ، فجعل يمسح أعطافه ويعدّل قوادمه ، ويرتاح لنشاطه ، فسأله عبد الرحمن
أن يهبه له ، فاستحيا من ردّه ، وأعطاه إياه مع ضنّه به ، فدفعه عبد الرحمن إلى
غلامه ليعجل به إلى منزله ، وأسرّ إليه فيه بسرّ لم يطلع عليه ، فمضى لشأنه ، ولم
يلبث أن جاءه بطيفورية مغطاة مكرمة بطابع مختوم عليها من فضّة ، فإذا به لون مصوص قد اتّخذ من البازي بعد ذبحه على ما حده
__________________
لأهله ، وذهب إلى
الانتقال إليه في شرابه ، وقال لصاحب المجلس : شاركني في نقلي هذا فإنه
شريف المركّب بديع الصنعة ، فلمّا رآه الرجل أنكر صفته ، وعاب لحمه ،
وسأله عنه ، فقال : هو البازي الذي كنت تعظم قدره ، ولا تصبر عنه وقد صيّرته إلى
ما ترى ، فغضب صاحب المنزل حتى ربا في أثوابه ، وفارقه حلمه ، وقال له : قد كان
والله أيها الكلب السفيه على ما قدرته وما اقتديت فيه إلّا بكبار الناس المؤثرين
لمثله ، وما أسعفتك به إلّا معظما من قدرك ما صغّرت من قدري ، وأظهرت من هوان
السنة عليك باستحلالك لسباع الطير المنهيّ عنها ، ولا أدع والله الآن تأديبك إذ
أهملك أبوك معلّم الناس المروءة ، ودعا له بالسّوط ، وأمر بنزع قلنسوته ، وساط
هامته مائة سوط ، فاستحسن جميع الناس فعله به وأبدوا الشّماتة به.
وكان محمد منهم
مؤنثا ، وكان قاسم أحذقهم غناء مع تجويده ، وتزوّج الوزير هاشم بن عبد العزيز
حمدونة.
وذكر عبادة الشاعر
أن أول من دخل الأندلس من المغنين علون وزرقون ، دخلا في أيام الحكم بن هشام ،
فنفقا عليه ، وكانا محسنين ، لكن غناؤهما ذهب لغلبة غناء زرياب عليه.
وقال عبد الرحمن
بن الشمر منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه في زرياب : [بحر الخفيف]
يا عليّ بن نافع
يا عليّ
|
|
أنت أنت المهذّب
اللّوذعيّ
|
أنت في الأصل
حين يسأل عنه
|
|
هاشميّ وفي
الهوى عبشمي
|
وقال ابن سعيد :
وأنشد لزرياب والدي في معجمه : [بحر مجزوء الكامل]
علّقتها ريحانة
|
|
هيفاء عاطرة
نضيره
|
بين السّمينة
والهزي
|
|
لة والطويلة
والقصيرة
|
لله أيام لنا
|
|
سلفت على دير
المطيره
|
لا عيب فيها
للمتي
|
|
يم غير أن كانت
يسيره
|
انتهى.
__________________
وكان لزرياب جارية
اسمها متعة ، أدّبها وعلّمها أحسن أغانيه حتى شبّت ، وكانت رائعة
الجمال ، وتصرّفت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم تغنّيه مرّة وتسقيه أخرى ،
فلمّا فطنت لإعجابه بها أبدت له دلائل الرغبة ، فأبى إلّا التستّر ، فغنّته بهذه
الأبيات ، وهي لها في ظنّ بعض الحفّاظ : [بحر المجتث]
يا من يغطّي
هواه
|
|
من ذا يغطّي
النهارا
|
قد كنت أملك
قلبي
|
|
حتى علقت فطارا
|
يا ويلتا أتراه
|
|
لي كان ، أو
مستعارا
|
يا بأبي قرشيّ
|
|
خلعت فيه
العذارا
|
فلما انكشف لزرياب
أمرها أهداها إليه ، فحظيت عنده .
وكانت حمدونة بنت
زرياب متقدّمة في أهل بيتها ، محسنة لصناعتها ، متقدّمة على أختها علية ، وهي زوجة
الوزير هاشم بن عبد العزيز كما مرّ ، وطال عمر علية بعد أختها حمدونة ،
ولم يبق من أهل بيتها غيرها ، فافتقر الناس إليها ، وحملوا عنها.
وكانت مصابيح
جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل أخذت عن زرياب الغناء ، وكانت غاية في الإحسان
والنبل وطيب الصوت ، وفيها يقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد ، وكتب به إلى
مولاها : [بحر البسيط]
يا من يضنّ بصوت
الطائر الغرد
|
|
ما كنت أحسب هذا
الضّنّ من أحد
|
لو أنّ أسماع
أهل الأرض قاطبة
|
|
أصغت إلى الصوت
لم ينقص ولم يزد
|
من أبيات ، فخرج
حافيا لمّا وقف على ذلك ، وأدخله إلى مجلسه ، وتمتّع من سماعها ، رحم الله تعالى
الجميع!.
وقال علويه : كنت
مع المأمون لمّا قدم الشام ، فدخلنا دمشق ، وجعلنا نطوف فيها على أماكن بني أمية ، فدخلنا قصرا مفروشا بالرخام الأخضر ، وفيه بركة
يدخلها الماء ويخرج منها
__________________
فيسقي بستانا ،
وفي القصر من الأطيار ، ما يغني صوته عن العود والمزمار ، فاستحسن المأمون ما رأى
، وعزم على الصّبوح ، فدعا بالطعام فأكلنا وشربنا ، ثم قال لي : غنّ بأطيب صوت
وأطربه ، فلم يمرّ على خاطري غير هذا الصوت : [بحر المنسرح]
لو كان حولي بنو
أمية لم
|
|
ينطق رجال أراهم
نطقوا
|
فنظر إليّ مغضبا ،
وقال : عليك لعنة الله وعلى بني أمية! فعلمت أني قد أخطأت ، فجعلت أعتذر من هفوتي
، وقلت : يا أمير المؤمنين ، أتلومني أن أذكر مواليّ بني أمية ، وهذا زرياب مولاك
عندهم بالأندلس ، يركب في أكثر من مائة مملوك وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون
الضياع ، وإني عندكم أموت جوعا ، وفي الحكاية طول واختلاف ، ومحلّ الحاجة منها ما
يتعلّق بزرياب ، رحم الله تعالى الجميع!.
وذكرها الرقيق في
كتاب «معاقرة الشراب» على غير هذا الوجه ، ونصّه : وركب المأمون يوما من دمشق يريد
جبل الثلج ، فمرّ ببركة عظيمة من برك بني أمية ، وعلى جانبها أربع سروات ، وكان
الماء يدخل سيحا ، فاستحسن المأمون الموضع ، ودعا بالطعام والشراب ، وذكر
بني أمية ، فوضع منهم وتنقّصهم ، فأخذ علويه العود واندفع يغني : [بحر الطويل]
أرى أسرتي في
كلّ يوم وليلة
|
|
يروح بهم داعي
المنون ويغتدي
|
أولئك قوم بعد
عزّ وثروة
|
|
تفانوا فإلّا
أذرف العين أكمد
|
فضرب المأمون
بكأسه الأرض ، وقال لعلويه : يا ابن الفاعلة ، لم يكن لك وقت تذكر مواليك فيه إلّا
هذا الوقت؟ فقال : مولاكم زرياب عند مواليّ بالأندلس يركب في مائة غلام ، وأنا
عندكم بهذه الحالة ، فغضب عليه نحو شهر ، ثم رضي عنه ، انتهى.
ونحوه لابن الرقيق
في كتابه «قطب السرور» وقال في آخر الحكاية : وأنا عندكم أموت من الجوع ، ثم قال :
وزرياب مولى المهدي ، ووصل إلى بني أمية بالأندلس فعلت حاله ، حتى كان كما قال
علويه ، انتهى.
ولمّا غنّى زرياب بقوله : [بحر الطويل]
__________________
ولو لم يشقني
الظاعنون لشاقني
|
|
حمام تداعت في
الديار وقوع
|
تداعين فاستبكين
من كان ذا هوى
|
|
نوائح ما تجري
لهنّ دموع
|
ذيّلها عباس بن
فرناس يمدح بعض الرؤساء بديهة فقال : [بحر الطويل]
شددت بمحمود يدا
حين خانها
|
|
زمان لأسباب
الرجاء قطوع
|
بنى لمساعي
الجود والمجد قبلة
|
|
إليها جميع
الأجودين ركوع
|
وكان محمود جوادا
، فقال له : يا أبا القاسم ، أعزّ ما يحضرني من مالي القبّة ، يعني قبة قامت عليه
بخمسمائة دينار ، وهي لك بما فيها مع كسوتي هذه ، ونكون في ضيافتك بقية يومنا ،
ودعا بكسوة فلبسها ، ودفع إليه الكسوة.
٦٩ ـ ومن الوافدين من المشرق الأمير
شعبان بن كوجبا .
من غزّ الموصل ،
وفد على أمير المؤمنين يعقوب المنصور ملك الموحّدين ، ورفع له أمداحا جليلة ،
وقدّمه على إمارة مدينة بسطة من الأندلس.
قال أبو عمران بن
سعيد : أنشدني لنفسه : [بحر الطويل]
يقولون إنّ
العدل في الناس ظاهر
|
|
ولم أر شيئا منه
سرّا ولا جهرا
|
ولكن رأيت الناس
غالب أمرهم
|
|
إذا ما جنى زيد
أقادوا به عمرا
|
وإلّا فما بال
النّطاسيّ كلّما
|
|
شكوت له يمنى
يدي فصد اليسرى
|
٧٠ ـ ومن الوافدين من المشرق على الأندلس أبو اليسر إبراهيم بن
أحمد الشيباني.
من أهل بغداد ،
وسكن القيروان ، ويعرف بالرياضي ، وكان له سماع ببغداد من جلّة المحدّثين والفقهاء
والنحويين ، لقي الجاحظ والمبرد وثعلبا وابن قتيبة ، ولقي من الشعراء أبا تمام
والبحتري ودعبلا وابن الجهم ، ومن الكتّاب سعيد بن حميد وسليمان بن وهب وأحمد بن
أبي طاهر وغيرهم ، وهو الذي أدخل إفريقية رسائل المحدثين وأشعارهم وطرائف أخبارهم
، وكان عالما أديبا ، ومرسّلا بليغا ، ضاربا في كل علم وأدب ، سمع وكتب بيده أكثر
كتبه ، مع براعة خطّه وحسن وراقته.
__________________
وحكي أنه كتب على
كبره كتاب سيبويه كلّه بقلم واحد ، ما زال يبريه حتى قصر ، فأدخله في قلم آخر ،
وكتب به حتى فني بتمام الكتاب.
وله تآليف : منها «لقط
المرجان» وهو أكبر من «عيون الأخبار» وكتاب «سراج الهدى» في القرآن ومشكله وإعرابه ومعانيه ، و
«المرصعة» و «المدبجة».
وجال في البلاد
شرقا وغربا من خراسان إلى الأندلس ، وقد ذكر ذلك في أشعار له.
وكان أديب الأخلاق
، نزيه النفس ، كتب لأمير إفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ، ثم لابنه أبي
العباس عبد الله ، وكان أيام زيادة الله بن عبد الله آخر ملوك الأغالبة على بيت
الحكمة ، وتوفي بالقيروان سنة ثمان وتسعين ومائتين في أوّل ولاية عبيد الله الشيعي
، وهو ابن خمس وسبعين سنة.
وممّن ألمّ بذكره
المؤرخ الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق .
وقال عريب بن سعد
في حقّه : إنه كان أديبا شاعرا مرسّلا حسن التأليف ، وقدم الأندلس على الإمام محمد
بن عبد الرحمن ، وذكر له معه قصّة ذكرها ابن الأبّار في كتابه «إفادة الوفادة»
وحكي أنّ له مسندا في الحديث ، وكتابا في القرآن سمّاه «سراج الهدى» والرسالة
الوحيدة ، والمؤنسة ، وقطب الأدب ، وغير ذلك من الأوضاع.
قال : وكتب لبني
الأغلب حتى انصرمت أيامهم ، ثم كتب لعبيد الله حتى مات.
ومن الرواة عنه
أبو سعيد عثمان بن سعيد الصيقل مولى زيادة الله بن الأغلب ، وأسند إليه الحافظ ابن
الأبار رواية شعر أبي تمام بأن قال : قرأت شعر حبيب على أبي الربيع بن سالم ، وقرأت جملة منه على غيره ،
وناولني جميعه وحدّثني به عن أبي عبد الله بن زرقون عن الخولاني عن أبي القاسم
حاتم بن محمد عن أبي غالب تمام بن غالب بن عمر اللغوي عن أبيه أبي تمام عن أبي
سعيد المذكور ، يعني ابن الصيقل ، عن أبي اليسر عن حبيب ، وهو إسناد غريب ، انتهى.
__________________
٧١ ـ ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن خلف بن
منصور ، الغساني ، الدمشقي ، المعروف بالسنهوري
وسنهور : من بلاد
مصر ، روى عن أبي القاسم بن عساكر وأبي اليمن الكندي وأبي المعالي الفراوي وأبي
الطاهر الخشوعي وغيرهم.
قال أبو العباس
النباتي : قدم علينا ـ يعني إشبيلية ـ سنة ثلاث وستمائة ، وسمّى جماعة من شيوخه ،
وحكي أنه كان يروي موطّأ أبي مصعب وصحيح مسلم بعلوّ.
وقال أبو سليمان
بن حوط الله : أجازني وابني محمدا جميع ما رواه عن شيوخه الذين منهم أبو الفخر
فناخسرو بن فيروز الشيرازي ، وذكر أنّ روايته بنزول ؛ لأنه لم يرحل إلّا بعد وفاة
الشيوخ المشاهير بهذا الشأن.
وقال أبو الحسن بن
القطان ، وسمّاه في شيوخه : قدم علينا تونس سنة اثنتين وستمائة ، واستجزته لابني
حسن فأجازه وإياي ، قال : وانصرف من تونس إلى المغرب ، ثم الأندلس ، وقدم علينا
بعد ذلك مراكش مفلتا من الأسر ، فظهر في حديثه عن نفسه تجازف واضطراب وكذب زهّد
فيه ، وأثر ذلك انصرف إلى المشرق راجعا ، وقد كان إذا أجاز ابني كتب بخطّه جملة من
أسانيده وسمّى كتبا منها الموطأ والصحيحان وغير ذلك ، قال : وقد تبرأت من عهدة
جميعه لما أثبتّ من حاله ، وحدّثني أبو القاسم بن أبي كرامة صاحبنا بتونس أنّ
السنهوري هذا لمّا انصرف إلى مصر امتحن بملكها الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن
أيوب لأجل معاداته أبا الخطاب بن الجميّل ، فضرب بالسياط ، وطيف به على جمل مبالغة
في إهانته ، انتهى.
وقال بعض المؤرخين
في حقّه ، ما نصّه : الشيخ المحدّث الرحالة إبراهيم السنهوري صاحب الرحلة إلى
البلاد ، دخل الأندلس كما ذكره ابن النجار وغيره ، وهو الذي ذكر لمشايخ الأندلس
وعلمائها أنّ الشيخ أبا الخطاب بن دحية يدّعي أنه قرأ على جماعة من شيوخ الأندلس
القدماء ، فأنكروا ذلك وأبطلوه وقالوا : لم يلق هؤلاء ولا أدركهم ، وإنما اشتغل
بالطلب أخيرا ، وليس نسبه بصحيح فيما يقوله ، ودحية لم يعقب ، فكتب السنهوري محضرا
وأخذ خطوطهم فيه بذلك ، وقدم به ديار مصر ، فعلم أبو الخطاب بن دحية بذلك ، فاشتكى
إلى السلطان منه ، وقال : هذا يأخذ عرضي ويؤذيني ، فأمر السلطان بالقبض عليه ،
فقبض وضرب بالسّياط وأشهر على حمار ، وأخرج من ديار مصر ، وأخذ ابن دحية المحضر
وحرقه ، ولم يزل ابن دحية على
__________________
قرب من السلطان
إلى حين وفاته ، وبنى له دارا للحديث ، وهي الكاملية ببين القصرين ، فلم يزل يحدّث
بها إلى أن مات.
وقد ذكرنا في
ترجمة ابن دحية من هذا الكتاب شيئا من أحواله ، وأنّ الناس فيه معتقد ومنتقد ،
وهكذا جرت العادة خصوصا في حقّ الغريب المنتسب للعلم : [بحر الوافر]
وعند الله تجتمع الخصوم
وممّن كان عليه لا
له أبو المحاسن محمد بن نصر المعروف بابن عنين فإنه قال فيه : [بحر السريع]
دحية لم يعقب فلم
تعتزي
|
|
إليه بالبهتان
والإفك
|
ما صحّ عند
الناس شيء سوى
|
|
أنك من كلب بلا
شكّ
|
هكذا ذكره ابن
النجار ، وأطال في الوقيعة في أبي الخطاب بن دحية.
وقال الذهبي :
قرأت بخطّ الضياء عندما ذكر ابن دحية أنه قال : لقيته بأصبهان ، ولم أسمع منه شيئا
، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب ، وأنّ مشايخه كتبوا له جرحه
وتضعيفه ، وقد رأيت أنا منه غير شيء ممّا يدلّ على ذلك ، وبسببه بنى السلطان الملك
الكامل دار الحديث بالقاهرة وجعله شيخها ، وقد سمع منه الإمام أبو عمرو بن الصلاح
الموطأ سنة نيّف وستمائة ، وأخبره به عن جماعة منهم أبو عبد الله بن زرقون.
وقال ابن واصل :
كان أبو الخطاب ـ مع فرط معرفته بالحديث ، وحفظه الكثير منه ـ متّهما بالمجازفة في
النقل ، وبلغ ذلك الملك الكامل ، فأمره أن يعلّق شيئا على كتاب الشّهاب» ، فعلّق
كتابا تكلّم فيه على أحاديثه وأسانيده ، فلمّا وقف الملك الكامل على ذلك قال له
بعد أيام : قد ضاع مني ذلك الكتاب ، فعلّق لي مثله ، ففعل ، فجاء في الثاني مناقضة
للأول ، فعلم الملك الكامل صحة ما قيل عنه ، ونزلت مرتبته عنده ، وعزله عن دار
الحديث أخيرا ، وولّى أخاه أبا عمر وعثمان.
وقال ابن نقطة :
كان أبو الخطاب موصوفا بالمعرفة والفضل ، ولم أره ، إلّا أنه كان يدّعي أشياء لا
حقيقة لها ؛ ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام ـ وكان ثقة ـ قال : نزل عندنا ابن
دحية
__________________
فقال : إني أحفظ
صحيح مسلم والترمذي ، فأخذت خمسة أحاديث من الترمذي ومثلها من المسند ومثلها من
الموضوعات ، فجعلتها في جزء ، ثم عرضت عليه حديثا من الترمذي فقال : ليس بصحيح ،
وآخر فقال : لا أعرفه ، ولم يعرف منها شيئا ، فأفسد نفسه بذلك.
وقال سبط ابن
الجوزي : إنه كان يتزيّد في كلامه ، ويثلب المسلمين ، ويقع فيهم ، فترك الناس الرواية عنه وكذّبوه ،
وقد كان الملك الكامل مقبلا عليه ، فلمّا انكشف له شأنه أخذ منه دار الحديث
وأهانه.
وقال العماد بن
كثير : قد تكلّم الناس فيه بأنواع من الكلام ، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر
صلاة المغرب ، وكنت أودّ أن أقف على إسناده ليعلم كيف رجاله ، وقد أجمع العلماء ـ كما
ذكره ابن المنذر وغيره ـ على أنّ صلاة المغرب لا تقصر ، واتّفق أنه وصل في جمادى الأولى سنة ٦١٦ إلى غزة ، فخرج
كلّ من في غزة بالأسلحة والعصي والحجارة إلى الموضع الذي هو فيه ، وضربوه ضربا
شديدا بعد أن انهزم من كان معه ، انتهى.
وقدّمنا في ترجمته
توثيق جماعة له ، فربّك أعلم بحاله.
٧٢ ـ ومنهم عبد الله بن محمد بن آدم ،
القاري ، الخراساني .
رحل من خراسان إلى
الأندلس ، يكنى أبا محمد ، ذكره أبو عمرو المقري ، وقال : سمعته يقرأ مرات كثيرة ،
فكان من أحسن الناس صوتا ، ولم تكن له معرفة بالقراءة ولا دراية بالأداء ، انتهى.
٧٣ ـ ومنهم عبد الرحمن بن داود بن علي ،
الواعظ.
من أهل مصر ، يعرف
بالزبزاري ، يكنى أبا البركات وأبا القاسم ، ويلقّب زكي الدين. قدم على الأندلس ،
وتجوّل في بلادها واعظا ومذكرا ، وسمع منه الناس بقرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسية
سنة ٦٠٨.
قال ابن الأبار :
وسمعت ، وعظه إذ ذاك بالمسجد الجامع من بلنسية ، وادّعى الرواية عن
__________________
أبي الوقت السّجزي
والسّلفي وأبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي وأبي محمد بن المبارك بن الطباخ وأبي
الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وشهدة الكاتبة بنت الأبرى ، زعم أنه قرأ عليها صحيح
البخاري ، وجماعة بالمشرق والأندلس لم يلقهم ولم يسمع منهم ، وربما حدّث بواسطة عن بعضهم ، وأكثرهم مجهولون ، وقفت على ذلك في فهرست
روايته ، فزهد أكثر السامعين منه ، واطّرحوا الرواية عنه ، ومنهم أبو العباس النباتي وأبو عبد الله بن أبي البقاء ،
وجمع أربعين حديثا مسلسلة سمّاها باللآلىء المفصلة ، حدّث فيها عن ابن بشكوال وابن
غالب الشراط وغيرهما من الأندلسيين الذين لم يلقهم ولا أجازوا له ، أخذها عنه ابن
الطّيلسان وغيره ، وكان ـ مع هذا ـ فقيها على مذهب الشافعي ، رضي الله تعالى عنه!
فصيحا ، مشاركا في فنون من العلم ، سمح الله تعالى له! انتهى.
ولا بأس أن نذكر
جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس ، ثم نعود أيضا إلى ذكر أعلام الرجال
، فنقول :
٧٤ ـ من النساء الداخلات الأندلس من
المشرق عابدة المدنية ، أم ولد حبيب بن الوليد المرواني ، المعروف بدحون.
وكانت جارية سوداء
، من رقيق المدينة ، حالكة اللون ، غير أنها تروي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة
وغيره من علماء المدينة ، حتى قال بعض الحفاظ : إنها تروي عشرة آلاف حديث.
وقال ابن الأبار :
إنها تسند حديثا كثيرا ، وهي أم ولده بشر بن حبيب ، والذي وهبها لدحون في رحلته إلى الحجّ هو
محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان ، فقدم بها الأندلس ، وقد أعجب
بعلمها وفهمها ، واتّخذها لفراشه ، رحم الله تعالى الجميع!.
٧٥ ـ ومنهنّ فضل المدنية.
وكانت حاذقة
بالغناء ، كاملة الخصال ، وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد ، ونشأت وتعلّمت ببغداد
، ودرجت من هناك إلى المدينة المشرّفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام! فازدادت
ثمّ طبقتها في الغناء ، واشتريت هنالك للأمير عبد الرحمن صاحب الأندلس مع
__________________
صاحبتها علم
المدنية ، وصواحب غيرها إليهنّ تنسب دار المدنيات بالقصر ، وكان يؤثرهنّ لجودة
غنائهنّ ونصاعة ظرفهنّ ورقّة أدبهنّ ، وتضاف إليهن جارية قلم وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عند الأمير المذكور ،
وكانت أندلسية الأصل ، رومية من سبي البشكنس ، وحملت صبيّة إلى المشرق ، فوقعت
بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعلّمت هنالك الغناء فحذقته ، وكانت أديبة ، ذاكرة ، حسنة الخطّ ، راوية للشعر ، حافظة
للأخبار ، عالمة بضروب الآداب.
٧٦ ـ ومن النساء الداخلات إلى الأندلس
من المشرق قمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي ، صاحب إشبيلية.
وكانت من أهل
الفصاحة والبيان ، والمعرفة بصوغ الألحان ، وجلبت إليه من بغداد ، وجمعت أدبا
وظرفا ، ورواية وحفظا ، مع فهم بارع ، وجمال رائع ، وكانت تقول الشعر بفضل أدبها ،
ولها في مولاها تمدحه : [بحر الكامل]
ما في المغارب
من كريم يرتجى
|
|
إلّا حليف الجود
إبراهيم
|
إنّي حلّلت لديه
منزل نعمة
|
|
كلّ المنازل ما
عداه ذميم
|
وأنشد لها السالمي
لمّا ذكرها عدّة أشعار : منها قولها تتشوّق إلى بغداد : [بحر الكامل]
آها على بغدادها
وعراقها
|
|
وظبائها والسحر
في أحداقها
|
ومجالها عند
الفرات بأوجه
|
|
تبدو أهلّتها
على أطواقها
|
متبخترات في
النعيم كأنّما
|
|
خلق الهوى
العذريّ من أخلاقها
|
نفسي الفداء لها
فأيّ محاسن
|
|
في الدهر تشرق
من سنا إشراقها
|
٧٧ ـ ومنهن الجارية العجفاء .
قال الأرقمي : قال
لي أبو السائب ، وكان من أهل الفضل والنّسك : هل لك في أحسن الناس غناء؟ فجئنا إلى
دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة ، فأذن لنا فدخلنا بيتا عرضه اثنا عشر ذراعا في
مثلها ، وطوله في السماء ستة عشر ذراعا ، وفي البيت نمرقتان قد ذهب عنهما
__________________
اللّحمة وبقي
السّدى ، وقد حشيتا بالليف ، وكرسيّان قد تفكّكا من قدمهما ، ثم اطلعت علينا عجفاء
كلفاء ، عليها قرقل هرويّ أصفر غسيل ، وكأنّ وركيها في خيط من وسخها ، فقلت لأبي
السائب : بأبي أنت! ما هذه فقال : اسكت ، فتناولت عودا فغنّت : [بحر الكامل]
بيد الذي شغف
الفؤاد بكم
|
|
تفريج ما ألقى
من الهمّ
|
فاستيقني أن قد
كلفت بكم
|
|
ثم افعلي ما شئت
عن علم
|
قد كان صرم في
الممات لنا
|
|
فعجلت قبل الموت
بالصرم
|
قال : فتحسّنت في
عيني ، وبدا ما أذهب الكلف عنها ، وزحف أبو السائب وزحفت معه ، ثم تغنّت : [بحر
الكامل]
برح الخفاء
فأيّما بك تكتم
|
|
ولسوف يظهر ما
تسرّ فيعلم
|
ممّا تضمّن من
عزيز قلبه
|
|
يا قلب إنك
بالحسان لمغرم
|
يا ليت أنّك يا
حسام بأرضنا
|
|
تلقي المراسي
طائعا وتخيّم
|
فتذوق لذة عيشنا
ونعيمه
|
|
ونكون إخوانا
فماذا تنقم
|
فقال أبو السائب :
إن يقم هذا فأعضّه الله تعالى بكذا وكذا من أبيه ، ولا يكني ، فزحفت مع أبي السائب
حتى فارقنا النمرقتين ، وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة ، ثم غنّت
: [بحر المنسرح]
يا طول ليلي
أعالج السّقما
|
|
إذ أدخل كلّ
الأحبّة الحرما
|
ما كنت أخشى
فراقكم أبدا
|
|
فاليوم أمسى
فراقكم عزما
|
فألقيت طيلساني ،
وأخذت شاذكونة فوضعتها على رأسي ، وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة ،
وقام أبو السائب فتناول ربعة في البيت فيها قوارير ودهن ، فوضعها على رأسه ، وصاح
صاحب الجارية وكان ألثغ : قوانيني ، يعني قواريري ، فاصطكّت القوارير وتكسّرت ،
وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره ، وقال للعجفاء : لقد هجت لي داء قديما ، ثم
__________________
وضع الربعة. وكنا
نختلف إليها حتى بعث عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فابتيعت له العجفاء ،
وحملت إليه.
٧٨ ـ ومن القادمين على الأندلس من
المشرق الشيخ عبد القاهر بن محمد بن عبد الرحمن ، الموصلي.
قال أبو حيان :
قدم علينا رسولا من ملك مصر إلى ملك الأندلس ، فسمعت منه بالمرية ، انتهى.
٧٩ ـ ومنهم أحمد بن الحسن بن الحارث بن
عمرو بن جرير بن إبراهيم بن مالك ، المعروف بالأشتر ، بن الحارث ، النخعي.
يكنى أبا جعفر ،
دخل الأندلس في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن ، وأصله من الكوفة ، وكان يروي
أحاديث عظيمة العدد ، ذكر ذلك الرازي ، وحكي أنّ الأمير محمدا روى عنه منها ،
وأنزله بريّة.
٨٠ ـ ومنهم أحمد بن أبي عبد الرحمن ،
واسمه يزيد بن أحمد بن عبد الرحمن
، القرشي ، الزهري ، من ولد عبد الرحمن بن عوف.
من أهل مصر ، وفد
على الناصر بقرطبة ، وكان دخوله إليها في محرم سنة ٣٤٣ ، فأكرم الناصر مثواه وكان فقيه أهل مصر ، ذكره ابن حيان.
٨١ ـ ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن
الإسكندراني.
لقي ببلده أبا
طاهر السّلفي ، وسمع منه ، ودرس عليه كتاب «الاصطلاح» للسمعاني ، وقدم الأندلس ،
ودخل مرسية تاجرا ، وكان فقيها على مذهب الشافعي ، وأنشد عن السلفي قوله : [بحر مجزوء الرمل]
أنا من أهل
الحدي
|
|
ث وهم خير فئه
|
عشت تسعين وأر
|
|
جو أن أعيش
لمائه
|
__________________
فعاش ما تمنّى ،
رحمه الله تعالى!.
٨٢ ـ ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن
إسماعيل بن بشر ، الأنطاكي ، الإمام ، أبو الحسن ، التميمي .
نزيل الأندلس
ومقريها ومسندها ، أخذ القراءة عرضا وسماعا عن إبراهيم بن عبد الرزاق ومحمد بن
الأخرم وأحمد بن يعقوب التائب وأحمد بن محمد بن خشيش ومحمد بن جعفر بن بيان ، وصنف
قراءة ورش ، قرأ عليه جماعة : منهم أبو الفرج الهيثم الصباغ وإبراهيم بن مبشر
المقرئ وطائفة آخرون من قراء الأندلس ، وسمع منه عبد الله بن أحمد بن معاذ
الداراني.
قال أبو الوليد بن
الفرضي : أدخل الأنطاكي الأندلس علما جمّا ، وكان بصيرا بالعربية والحساب ، وله
حظّ من الفقه ، قرأ الناس عليه ، وسمعت أنا منه ، وكان إماما في القراءات ، لا يتقدّمه أحد في معرفتها في وقته ، وكان مولده
بأنطاكية سنة ٢٩٩ ، ومات بقرطبة في ربيع الأول سنة ٣٧٧ ، رحمه الله تعالى!
٨٣ ـ ومنهم عمر بن مودود بن عمر ،
الفارسي ، البخاري ، يكنى أبا البركات
ولد بسلماس ، ونشأ
بها ، وكتب الحديث هنالك ، وتعلم العربية والفقه ، وهو من أبناء الملوك ، وانتقل
إلى المغرب ، فدخل الأندلس ، ونزل مالقة في حدود ثلاثين وستمائة ، ودخل إشبيلية ،
وكانت له رواية بالمشرق.
قال ابن الأبار :
أجاز لي ما رواه ، ولم يسمّ أحدا من شيوخه ، وبلغني أنه سمع صحيح البخاري
بالدامغان على أبي عبد الله محمد بن محمود ، وكانت إجازته لي سنة ٦٣١
، وعاش بعد ذلك ، وتوفي بمراكش بعد الأربعين وستمائة ، وحدّث بالأندلس ، وأخذ عنه
الناس ، وكان من أهل التصوّف والتحقّق بعلم الكلام ، رحمه الله تعالى!.
٨٤ ـ ومنهم الشريف الأجلّ الرحالة الشيخ
نجم الدين بن مهذّب الدين.
__________________
وكنت لا أتحقّق من
أي البلاد هو من المشرق ، ثم إني علمت أنه من بغداد إذ وقفت على كتابين كتبهما في
شأن العناية به الأديب العلامة أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي :
أحدهما لأبي العلاء حسان ، والثاني للكاتب أبي الحسن العنسي ، وهو الذي يفهم منه
أنه من بغداد.
ونصّ الأول : [بحر
الكامل]
يا ابن الوصيّ ،
إذا حملت وصيّتي
|
|
أوجبت حقّا
للحقوق يضاف
|
وتحيّتي كلّ
التحايا دونها
|
|
وكذاك دون
رسولها الأشراف
|
أحسن بأن تلقى
ابن حسّان بها
|
|
مهتزّة لورودها
الأعطاف
|
كالروض باكره
الندى فلعرفها
|
|
يا ابن النبيّ
على النديّ مطاف
|
وعلاك إنّ أبا
العلا ومكانه
|
|
يلفى به الإسعاد
والإسعاف
|
وأحقّ من عرف
الكرام بوصفهم
|
|
من جمّعت منهم
له أوصاف
|
هذه يا سيدي ،
تحية تجب لها إجابة وحيّة ، وتصلح بها هشاشة وأريحية ، أودعتها بطن هذه العجالة ،
وبعثتها مع صدر من أبناء الرسالة ، ولله درّه من راضع درّ النبوّة ، متواضع مع شرف
الأبوّة ، نازعته طرف الأشعار ، وأطراف الأخبار ، فوجدته بحرا حصاه الدّرّ النفيس ، وروضا يجني منه أطايب السمر
الجليس ، وينعت بنجم الدين وهو كنعته نجم يضيء سناه ، ويحلّ بيتا من الشرف ربّه
بناه ، وقد جاب الفضاء العريش ، ورأى القصور الحمر والبيض ، وورد الحجون ، بعد ما
شرب من ماء جيحون ، وزار مشاهد الحرمين ، ثم سار في أرض الهرمين ، وفارق إفريقية
لهذا الأفق مختارا ، وعبر إلى الأندلس فأطال بها اعتبارا ، وتشوّق إلى حضرة
الأنوار المفاضة ، والنعم السابغة الفضفاضة ، وجعل قصدها بحجّة سفره طواف الإفاضة ، وهمّه أن يشاهد
سناها العلوي ، ويبصر ما يحقر عنده المرئي والمروي ، وهي غاية يقول للأمل : عليها
أطلت حومي ، وجنّة يتلو الداخل لها (قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦)) [يس : ٢٦] وسيدي هو منها باب على الفتح بني ، وجناب عنان الأمل إليه
ثني ، وقصده من هذا الشريف أجلّ قاصد ، وأظلّته
__________________
سماء المجد بجمال
المشتري وظرف عطارد ، ومتى نعتناه فالخبر ليس كالعيان ، ومتى شبّهناه فالتمويه
بالشبه عقوق العقيان ، ومن يفضح قريحته بأن يقول لها صفيه ، لكن يعرف عن نفسه بما
ليس في وسع واصفيه ، ويقتضي من عزيمة برّه ما لا سعة للمترخص فيه ، إن شاء الله
تعالى ، وهو يديم علاكم ، ويحرس مجدكم وسناكم ، بمنّه ، والسلام الكريم ، الطيب
العميم ، يخصّكم به معظّم مجدكم ، المعتدّ بذخيرة ودّكم ، المحافظ على كريم عهدكم
، ابن عميرة ، ورحمة الله تعالى وبركاته ، في الرابع والعشرين لربيع الآخر من سنة
٦٣٩ انتهى.
ونصّ الثاني : [بحر
المنسرح]
هل لك يا سيدي
أبا الحسن
|
|
فيمن له كلّ
شاهد حسن
|
في الشرف
المنتقى له قدم
|
|
أثبتها بالوصيّ
والحسن
|
أيها الأخ الذي
ملّكته قيادي ، وأسكنته فؤادي ، عهدي بك تعتام الآداب النقية ، وتشتاق اللطائف المشرقية ، وتنصف فترى أنّ
في سيلنا جفاء ، وفي مغربنا جفاء ، وأنّ المحاسن نبت أرض ما بها ولدنا ، وزرع واد
ليس ممّا عهدنا ، وأنا في هذا أشايعك وأتابعك ، وأناضل من ينازلك وينازعك ، وقد
أتانا الله تعالى بحجّة تقطع الحجج ، وتسكت المهج ، وهو الشريف الأجلّ ، السيد
المبارك نجم الدين بن مهذب الدين نجم الذية المختارة ، ونجم الدرية السيارة ، جرى
مع زعزع ونسيم ، ورتع في جميم وهشيم ، وشاهد عجائب كل إقليم ، وشرّق إلى مطلع ابن جلا ، وغرّب حتى نزل بشاطئ سلا ، وقد توجّه الآن إلى حضرة
الإمامة الرشيدية أيّدها الله تعالى لينتهي من أصابع العدّ إلى العقدة ، ويحصل من
مخض الحقيقة على الزّبدة ، وقد علم أنه ما كلّ الخطب كخطبة المنبر ، ولا جميع
الأيام مثل يوم الحجّ الأكبر ، وأدبه يا سيدي من نسبه أفقه ، بل على شكل حسبه
وخلقه ، فإذا رأيته شهدت بأنّ الشرق قد أتحف إفريقية ببغداده ، بل رمانا بجملة
أفلاذه ، والحظّ فيما يجب من بره وتأنيسه ، إنما هو في الحقيقة لجليسه ، فيا غبطة
من يسبق لجواره ، ويقبس من أنواره ، وأنت لا محالة تفهمه فهمي ، وتشيم من شيمه
عارضا بريّ القلوب الهيم يهمي ، وتضرب في الأخذ من فوائده وقلائده بسهم وددت أنه
سهمي ، والسلام ، انتهى.
__________________
٨٥ ـ ومنهم تقي الدين محمد ابن الشيخ
شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الغرس،
الحنفي ، المصري.
قال الوادي آشي
فيه : إنه من أعيان مصر ، قال : وسألته هل يقع بين أهل مصر تنازع في تفضيل بعض
المذاهب على بعض؟ فأجابني بأنّ هذا لا يقع عندهم بين أهل الرسوخ في العلم ، وذوي
المعرفة والفهم ، وإنما يصدر هذا بين الناشئين قال : وللحنفية الظهور عليهم حين
يقولون لهم : لنا عليكم اليد الطولى في الخبز ، لكونه بمصر يطبخ في الفرن بأرواث
الدواب ، وكذلك تسخين الحمام ، فإنّ المالكية وغيرهم بمصر يقلّدون الحنفية في ذلك
، قال : وسألته ، حفظه الله تعالى : هل للوباء بمصر وقت معلوم؟ فقال لي : جرت
العادة عندهم بقدر الله تعالى وسرّه في خليقته أنّ كلّ سنة أولها ثاء مثلثة يكون فيها الوباء ، والله تعالى أعلم ، وأنّ هذا متعارف
عندهم ، هكذا قال لي ، وعيب ما يقع من بعض النقاد بتونس وما يصدر عنهم بكثرة من
إلقائهم الأسئلة العويصة في أصول الدين وغيرها على من يرد عليهم قصدا في تعجيزه وتعنيته
، ثم قال : إنّ من المنقول عن الإمام أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ، أنّ من حفظت
عنه تسعة وتسعون خصلة تقتضي الكفر وواحدة تقتضي الإيمان أنّ الواحدة المقتضية
للإيمان تغلب وتبقى حرمتها عليه ، انتهى.
وقد ذكرنا في
الباب الأول من هذا القسم حكاية البصري المغني القادم من المشرق من البصرة على عبد
الوهاب الحاجب بإفريقية في دولة بني المعز بن باديس ، وسردنا دخوله عليه في مجلس
أنسه ، وما اتّفق في ذلك له معه ، وأنه وصف له بلاد الأندلس وحسنها وطيبها ،
فارتحل المغني إليها ، ومات بها ، حسبما لخصناه من كلام الكاتب ابن الرقيق الأديب المؤرخ في كتابه «قطب السرور» ولو لا أنه لم يسمّ
المغني المذكور لجعلنا له ترجمة في هذا الباب ، إذ هو به أليق ، والأمر في ذلك سهل
، والله تعالى الموفّق للصواب.
٨٦ ـ ومنهم الولي الصالح العارف بالله
سيدي يوسف الدمشقي ، رضي الله تعالى
عنه!
وهو كما قال ابن
داود من كبار الأولياء ، شاذلي الطريقة ، قدم من المشرق إلى الأندلس ،
__________________
وكان يأتي مدينة
وادي آش الكرّة بعد الكرّة لزيارة معارف له بها ، وكان من الذين أخفاهم الله ، لا
يعرف به إلّا من تعرف له ، أعاد الله تعالى علينا من بركاته!.
قال العلامة ابن
داود : وحدّثني مولاي والدي ، رضي الله تعالى عنه ، من لفظه بتلمسان أمّنها الله
تعالى يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأوّل الشريف سنة ٨٩٥ ، قال : دخل عليّ سنة شهر رمضان المعظّم في زمان
ولايتي الخطابة والإمامة بالعراص من خارج وادي آش ، أعادها الله تعالى! فقعدت أوّل
ليلة منه منفردا بالمسجد الأعظم من الرباط المذكور بين العشاءين ، وفكّرت في ذكر
أتّخذه في هذا الشهر المبارك يكون جامعا بين الدنيا والآخرة ، فأجمعت على مطالعة «حلية»
النواوي لعلّي أقف على ما أختاره لذلك ، فلمّا أصبحت دخلت إلى المدينة ، ولم أكن
أطلعت على فكرتي أحدا ، فلقيني الحاج الأستاذ أبو عبدالله بن خلف ، رحمه الله تعالى
، في الطريق ، فقال لي : سيدي يوسف الدمشقي يسلّم عليك ويقول لك : الذكر الذي تعمر
به هذا الشهر الفاضل : «اللهمّ ارزقني الزهد في الدنيا ، ونوّر قلبي بنور معرفتك»
قال والدي ، رضي الله تعالى عنه : وكان هذا سبب تعرّفي له ، ولقائي
إياه ، وكنت قبل ذلك منكرا عليه لكثرة الدعاوى في هذا الطريق ، نفع الله تعالى به!
انتهى.
ولنجعل هذه
الترجمة آخر هذا الباب ، تبركا بهذا الولي الصالح ، نفعنا الله تعالى ببركاته! مع
علمي بأنّ الوافدين من المشرق على الأندلس كثيرون جدا ، إلّا أنّ عدم المادة التي
أستعين بها في هذه البلاد تبين عذري ، ولو اجتمعت على كتبي المخلّفة بالمغرب لأتيت
في ذلك وغيره بما يشفي ويكفي : [بحر البسيط]
وفي الإشارة ما يغني عن الكلم
بحمده تعالى تم الجزء الثالث من نفح الطيب
ويليه الجزء الرابع
__________________
فهرس الرسائل والخطب والإجازات
للجزء الثالث من كتاب نفح الطيب
ابن
جبير : فصول من رحلته.......................................................................................... ١٦
ابن الحاج ، أبو
البركات : نبذة من رحلته............................................................................ ١٤٠
ابن الحكيم ، أبو عبد
الله : بعض رسالة كتبها عن السلطان......................................................... ٢٢٠
ابن سعيد ، عبد
الرحمن : رسالته إلى أهله من بخارى.................................................................... ٣
رسالة أخرى تنحو نحو
السابقة.......................................................................................... ٥
رد أهله على رسالته..................................................................................................... ٥
عبد الرحمن العبادي :
رسالته إلى المقري............................................................................... ٧١
أبو حيان أثير الدين
النحوي : جواب له عن رسالة من الصفدي.................................................... ١٥٤
وصيته لأهله لما
ارتحل إلى مصر...................................................................................... ١٦٩
أبو العباس الغساني :
رسالته إلى أبي الحسن بن سعيد............................................................... ١٢٨
أبو العباس المقري (مؤلف
الكتاب) : رسالته إلى المفتي العمادي....................................................... ٧١
رسالته إلى أحمد
الشاهيني............................................................................................. ٨٩
أحمد بن شاهين :
رسالة أخرى منه إلى المؤلف........................................................................ ٨٧
تاج الدين المحاسني :
رسالته إلى المقري مؤلف الكتاب................................................................. ٨١
خالد البلوي : نبذة
من رحلته....................................................................................... ١٣٨
الصفدي ، خليل بن
أيبك : رسالته إلى أبي حيان................................................................... ١٥٠
رسالة إلى أبي حيان
يستدعي إجازة................................................................................. ١٥٣
عبد الرحمن العمادي
المفتي : جواب له عن رسالة المقري المؤلف........................................................ ٧١
عبد الكريم الفكون :
رسالته إلى المقري مؤلف الكتاب................................................................ ٩٨
علي بن عبد الواحد
الأنصاري : رسالته إلى المقري مؤلف الكتاب..................................................... ٩٨
محمد بن يوسف التاملي
: رسالته إلى المقري مؤلف الكتاب........................................................... ٩١
يوسف بن تاشفين
تقاريظ على كتاب نسيم الصبا.................................................................. ٢٥٩
فهرس الجزء الثالث
من
كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري
ابن سعيد
|
٣
|
ثابت بن أحمد الشاطبي وجعفر بن لبّ اليحصبي
|
١١٨
|
علي بن عبد الله الأنصاري القرطبي (ابن العابد)
|
٦
|
جعفر بن عبد الله الخزاعي العابد وأبو جعفر النحوي ،
وجابر الخزرجي ، وابن خلف ، والبهراني
|
١١٩
|
محمد بن علي الأنصاري الشاطبي حميد الزاهد أبو بكر بن عبد
الله الأنصاري القرطبي
|
٩
|
الحسن بن خلف الأموي ، والحسن بن إبراهيم بن تقي
|
١٢٠
|
اليسع بن عيسى بن حزم ، ومحمد التجيبي
|
١٠
|
الحسن بن علي الأنصاري البطليوسي والحسن بن محمد بن الحسن
الأنصاري المعروف بابن الرهبيل
|
١٢١
|
ومحمد اللخمي ، وليد العمري ، وعيسى الرعيني ، وسليمان
الينيني
|
١١
|
الحسين التجيبي ، وحماد الكلاعي ، وخلف الجبيري وخلف بن
فتح بن عبد الله بن جبير
|
١٢٢
|
أحمد بن يحيى الضبي ، ومحمد بن أحمد بن جبير (صاحب الرحلة)
|
١٢
|
خلف الغرناطي ، وخلف القنطري ، وابن زرارة ، وطاهر
المالقي
|
١٢٣
|
أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي
|
١٣
|
أبو طاهر اللبلي ، وطارق بن موسى المنصفي المخزومي ،
ومحمد الأودي
|
١٢٤
|
ابن جبير يصف دمشق
|
١٦
|
محمد الشاطبي ، وابن سماعة
|
١٢٥
|
ابن جبير يصف جامع دمشق
|
١٧
|
أحمد بن محمد بن الواعظ الإشبيلي المصري
|
١٢٦
|
أقوال الشعراء في دمشق
|
١٨
|
إبراهيم الإشبيلي المالكي ، وبقي الدين بن مخلد
|
١٢٧
|
بعض ما دار بين المؤلف وأهل الشام
|
٣٦
|
يوسف بن يحيى الأزدي المعروف بالمغامي
|
١٢٩
|
رسائل من المغرب إلى المؤلف
|
٩١
|
بين ابن خلدون وتيمور لنك
|
١٣٠
|
شوق المؤلف إلى الشام وأهله
|
١٠٢
|
أبو بكر بن عطية
|
١٣١
|
عود إلى ابن جبير
|
١٠٢
|
|
|
أبو عامر بن عيشون
|
١١٠
|
|
|
أبو مروان الطبني
|
١١١
|
|
|
الهجاء نوعان
|
١١٢
|
|
|
وصف كتاب الذخيرة
|
١١٤
|
|
|
حبيب بن الوليد بن حبيب المعروف بدحّون
|
١١٦
|
|
|
بهلول بن فتح الأقليشي
|
١١٧
|
|
|
ترجمة عبد الحق بن عطية المحاربي
|
١٣٥
|
عبد المنعم الوادي آشي ، وأحمد الخزرجي ، وأحمد بن عمر
|
٢١٢
|
أبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الملك الأموي الأندلسي
|
١٣٧
|
جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيد بونة الخزاعي ومحمد بن
عبد الرحمن بن يعقوب الخزرجي الأنصاري الشاطبي
|
٢١٣
|
خالد بن عيسى البلوي
|
١٣٨
|
محمد بن يحيى اللبسي قاضي القضاة
|
٢١٤
|
برهان الدين ابن الحاج إبراهيم النميري
|
١٤٠
|
الوزير أبو عبد الله بن الحكيم الرندي ذو الوزارتين
|
٢١٥
|
أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف النفزي الأثري الغرناطي
|
١٤١
|
نجيب الدين عبد العزيز اللخمي
|
٢٢١
|
أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني
|
١٨٦
|
محمد بن عبد الله (ابن العربي) ويحيى بن عبد العزيز (ابن
الخراز) ومحمد بن أحمد الشريشي
|
٢٢٢
|
أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي (ابن الأبّار)
|
١٩١
|
أبو بكر بن محمد بن علي بن ياسر الجياني
|
٢٢٣
|
الحافظ أبو المكارم جمال الدين بن مسدّي
|
١٩٥
|
العلاء بن عبد الوهاب المري
|
٢٢٤
|
أبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري
|
١٩٦
|
أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني
|
٢٢٥
|
أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج بن أبي خليل (ابن
الرومية)
|
١٩٧
|
أبو زكريا يحيى بن قاسم بن هلال القرطبي ويحيى بن مجاهد
الإلبيري ، ومحمد بن أحمد الصدفي الإشبيلي
|
٢٢٦
|
أحمد الغافقي ، وأحمد التجيبي (ابن الأقليشي)
|
١٩٨
|
زكريا الكلبي التطيلي ، وسعد الخير الأنصاري البلنسي ابن
خلفون
|
٢٢٧
|
أحمد بن معدّ التجيبي (ابن الأقليشي)
|
١٩٩
|
سعيد الأعناقي ، وعبد الرحمن بن خلف ، وابن الطحان
|
٢٢٨
|
أحمد المعافري ، وأحمد الضبي
|
٢٠٠
|
أبو الأصبغ عبد العزيز بن خلف المعافري وعبد العزيز
السعدي الشاطبي ، ومحمد الغساني الحكيم
|
٢٢٩
|
أحمد بن هارون (ابن عات)
|
٢٠١
|
محمد بن عبد المنعم الغساني الجلياني الحكيم
|
٢٣٠
|
أحمد بن تميم البهراني ، وأحمد بن إبراهيم المخزومي وأحمد
الكناني المرسي
|
٢٠٢
|
عبد الوهاب بن محمد القرطبي ، وعبيد الله بن المظفر
الباهلي
|
٢٣١
|
إبراهيم الغافقي
|
٢٠٣
|
سليمان الغرناطي القيساني وطالوت المعافري ، وابن خروف
علي بن محمد (ابن خروف) القيسي
|
٢٣٣
|
أبو أمية إبراهيم بن منبه بن عمر بن أحمد الغافقي
وإسماعيل بن يحيى وأخوه ، وإسماعيل القرشي العلوي ، وعيسى النفزي
|
٢٠٤
|
مالك بن مالك الجياني ، ومنصور بن خميس اللخمي المرّي
ومنصور بن
|
|
عيسى بن عبد الله النفزي الحميري التاكرني
|
٢٠٥
|
|
|
علي بن أحمد بن محمد بن حمدون المالقي النحوي
|
٢٠٧
|
|
|
عبد البر بن فرسان الغساني الوادي آشي أبو محمد
|
٢٠٩
|
|
|
عبد المنعم الوادي آش ، وأحمد
|
|
|
|
لب ، والمعافري
|
٢٣٥
|
سليمان بن داود يقرظ كتاب نسيم الصبا ..
|
٢٥٩
|
ابن الحسين ، والأصبحي
|
٢٣٦
|
تاج الدين السبكي يقرظ كتاب نسيم الصبا
|
٢٦٠
|
أبو حبيب نصر بن القاسم النعمان المعافري ، والحضرمي ،
والخثمي ، وضمام بن عبد الله
|
٢٣٧
|
ناصر الدين بن محمد بن يعقوب يقرظ كتاب نسيم الصبا
|
٢٦١
|
ضرغام بن عروة ، وعبد الله المعافري ، وعبد الله الزبيدي
|
٢٣٨
|
الصفدي يقرظ كتاب نسيم الصبا
|
٢٦١
|
عبد الله بن رشيق القيرواني ، وعبد الله بن طلحة اليابري
|
٢٣٩
|
أبو جعفر الإلبيري
|
٢٦٢
|
عبد الله اليحصبي ، وعبد الله الصريحي المرسي وعبد الله
بن عيسى الشلبي
|
٢٤٠
|
أبو مروان عبد الملك بن إبراهيم بن بشر القيسي
|
٢٧٥
|
عبد الله بن موسى الأسدي المرسي (ابن برطلة)
|
٢٤١
|
الطبيب ضياء الدين أبو محمد بن عبد الله بن أحمد بن
البيطار المالقي
|
٢٧٦
|
عبد الله بن محمد الداني ، وعبد الله بن يوسف القضاعي
|
٢٤٢
|
أبو الحسن علي بن محمد القرشي البسطي الشهير بالقلصادي
|
٢٧٧
|
شهاب الدين بن أحمد بن عبد الله ابن مهاجر الوادي آشي
الحنفي
|
٢٤٣
|
أبو عبد الله محمد بن محمد الغرناطي الراعي
|
٢٧٨
|
أبو جعفر أحمد بن صابر القيسي
|
٢٤٤
|
أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الأزرق
|
٢٨٣
|
أبو القاسم الباجي ، وإبراهيم بن محمد الساحلي
|
٢٤٦
|
الباب السادس : في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من الشرق
|
٢٨٨
|
الوليد بن هشام المعروف بأبي ركوة
|
٢٤٧
|
المنيذر اليماني الذي قيل إنه صحابي
|
٢٨٨
|
أبو زكريا يحيى بن سليمان الطليطلي
|
٢٤٨
|
الأمير موسى بن نصير
|
٢٨٩
|
يحيى القرطبي (المغيلي) ، ومحمد بن علي الأنصاري الغرناطي
|
٢٤٩
|
حنش الصنعاني
|
٢٨٩
|
أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي الغرناطي
|
٢٥٠
|
أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي
|
٢٩٠
|
أبو الحسن نور الدين المايرقي
|
٢٥١
|
أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي
|
٢٩١
|
ابن عتبة الإشبيلي
|
٢٥٢
|
حيان بن أبي جبلة
|
٢٩١
|
محمد بن أحمد بن علي الهراوي المعروف بابن جابر الضرير
|
٢٥٣
|
المغيرة بن أبي بردة نشيط بن كنانة العذري
|
٢٩١
|
محمد بن أحمد الهراوي وتقريظه كتاب نسيم الصبا لابن نجيب
|
٢٥٨
|
حيوة بن رجاء التميمي
|
٢٩٢
|
شرف الدين بن ريان يقرّظ كتاب نسيم الصبا
|
٢٥٨
|
عياض بن عقبة الفهري
|
٢٩٢
|
|
|
عبد الله بن شماسة الفهري
|
٢٩٢
|
|
|
عبد الجبار بن أبي سلمة
|
٢٩٢
|
|
|
منصور بن خزامة
|
٢٩٢
|
|
|
مغيث بن الحارث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني
|
٢٩٣
|
أيوب بن حبيب اللخمي
|
٢٩٥
|
هاشم بن الحسين الطالبي
|
٣٣٢
|
السمح بن مالك الخولاني
|
٢٩٥
|
عبد الله بن المغيرة الكناني
|
٣٣٢
|
ولاة الأندلس بعد السمح بن مالك الخولاني
|
٢٩٧
|
عبد الله المعمر
|
٣٣٢
|
بلج بن عياض القشيري وبعض الداخلين إلى الأندلس
|
٢٩٩
|
أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة المهري
|
٣٣٢
|
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك المعروف
بالداخل
|
٣٠٥
|
عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر
|
٣٣٣
|
نقض يوسف بن عبد الرحمن عقد الصلح
|
٣١١
|
أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد البخاري الحافظ
|
٣٣٤
|
أمثلة من بطش عبد الرحمن الداخل
|
٣١٢
|
عبد الجبار بن أبي سلمة القرشي الزهري الفقيه
|
٣٣٥
|
صفات عبد الرحمن الداخل
|
٣١٣
|
أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله الطندتائي
|
٣٣٥
|
بعض شعر عبد الرحمن الداخل
|
٣١٤
|
أبو القاسم عبد الخالق بن إبراهيم الخطيب
|
٣٣٦
|
الوفود على عبد الرحمن الداخل
|
٣١٤
|
أبو محمد عبد اللطيف بن أحمد الهاشمي الصدفي النرسي
|
٣٣٦
|
عبد الرحمن وبدر مولاه
|
٣١٥
|
أبو بكر عمر بن عثمان الخراساني الباخرزي الماليني
|
٣٣٦
|
تأديب عبد الرحمن لأتباعه
|
٣١٧
|
علي بن بندار البغدادي البرمكي
|
٣٣٧
|
همة عبد الرحمن وبعده عن الصغائر
|
٣١٨
|
أبو العلاء عبيد بن محمد النيسابوري
|
٣٣٧
|
فتك عبد الرحمن بمن عاونوه في ملكه
|
٣١٩
|
أبو نصر سهل بن علي النيسابوري
|
٣٣٧
|
حجاب عبد الرحمن ووزراؤه وكتابه
|
٣٢٠
|
أبو المكارم هبة الله بن الحسين المصري
|
٣٣٨
|
قضاة عبد الرحمن الداخل
|
٣٢١
|
أبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن القيسي الدمشقي
|
٣٣٨
|
الوافدون على عبد الرحمن من بني أمية
|
٣٢١
|
إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي أبو علي القالي
|
٣٣٩
|
عبد الرحمن يقتل ابن أخيه
|
٣٢١
|
أبو بكر الزبيدي من تلاميذ القالي
|
٣٤٣
|
الثائرون على عبد الرحمن
|
٣٢٢
|
مصنفات أبي علي القالي
|
٣٤٣
|
نسب يوسف الفهري
|
٣٢٦
|
تكريم المستنصر لأبي علي القالي
|
٣٤٤
|
الصميل بن حاتم الكوفي
|
٣٢٦
|
أبو العلاء صاعد بن الحسين البغدادي
|
٣٤٤
|
نبوءة مسلمة بن عبد الملك لعبد الرحمن
|
٣٢٧
|
شيء من أخبار المنصور بن أبي عامر
|
٣٥٢
|
موازنة بين عبد الرحمن والمنصور العباسي
|
٣٢٧
|
ابن أبي عامر وغالب الناصري
|
٣٥٧
|
أبو الأشعث الكلبي
|
٣٢٨
|
ابن أبي عامر والمؤيد
|
٣٥٧
|
بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي
|
٣٢٩
|
وفاة المنصور بن أبي عامر
|
٣٥٩
|
زريق بن حكيم
|
٣٣٠
|
رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي
|
٣٥٩
|
زيد بن قاصد السكسكي
|
٣٣٠
|
أبو محمد تاج الدين عبدالله بن عمر بن
|
|
زرعة بن روح الشامي
|
٣٣٠
|
|
|
محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري
|
٣٣٠
|
|
|
عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم الأموي
|
٣٣١
|
|
|
حمويه السرخسي
|
٣٦٢
|
مصابيح : جارية أخذت عن زرياب
|
٣٨٩
|
حديث للسرخسي عن منصور بني عبد المؤمن
|
٣٦٥
|
الأمير شعبان بنن كوجيا
|
٣٩١
|
حديث للسرخسي عن أبي الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد
المؤمن
|
٣٦٧
|
أبو اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني
|
٣٩١
|
حديث لأبي سعيد صاحب المغرب عن أبي الربيع سليمان بن عبد
المؤمن
|
٣٦٩
|
أبو إسحاق إبراهيم الغساني الدمشقي المعروف بالسنهوري
|
٣٩٣
|
حديث للسرخسي عن أبي الحسن علي بن عمر بن عبد المؤمن
|
٣٧٠
|
حديث أبي الخطاب بن دحية وكلام العلماء فيه
|
٣٩٤
|
حديث عن أبي الحسن من المغرب
|
٣٧٠
|
عبد الله بن محمد الخراساني
|
٣٩٥
|
حديث السرخسي عن أبي محمد عبد الله صاحب فاس
|
٣٧١
|
عبد الرحمن بن داود الزبزاري
|
٣٩٥
|
من نظم السرخسي
|
٣٧١
|
عابدة المدينة
|
٣٩٦
|
ظفر البغدادي
|
٣٧٢
|
فضل المدينة
|
٣٩٦
|
محمد بن موسى الكناني
|
٣٧٢
|
قمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي
|
٣٩٧
|
أبو الفضل محمد بن عبد الواحد التميمي الدارمي الوزير
|
٣٧٣
|
الجارية العجفاء المغنية
|
٣٩٧
|
أشهب بن العضد الخراساني
|
٣٧٨
|
عبد القاهر بن محمد بن عبد الرحمن الموصلي
|
٣٩٩
|
أبو الحسن الفكيك البغدادي
|
٣٧٨
|
أبو جعفر أحمد بن الحسن النخعي
|
٣٩٩
|
إبراهيم بن سليمان الشامي
|
٣٨١
|
أحمد بن يزيد القرشي الزهري المصري
|
٣٩٩
|
أبو بكر محمد بن أحمد بن الأزرق
|
٣٨١
|
أبو الطاهر إسماعيل بن الاسكندراني
|
٣٩٩
|
أبو الحسن علي بن نافع (زرياب) المغني
|
٣٨١
|
أبو الحسن علي بن محمد الأنطاكي التميمي
|
٤٠٠
|
أول من دخل الأندلس من المغنين
|
٣٨٨
|
أبو البركات عمر بن مودود الفارسي البخاري
|
٤٠٠
|
من مدح به زرياب
|
٣٨٨
|
نجم الدين بن مهذب الدين البغدادي
|
٤٠٠
|
من شعر زرياب
|
٣٨٨
|
تقي الدين محمد بن أحمد بن الغرس الحنفي المصري
|
٤٠٣
|
متعة : جارية زرياب
|
٣٨٩
|
الشيخ يوسف الدمشقي الشاذلي
|
٤٠٣
|
حمدونة بنت زرياب
|
٣٨٩
|
|
|
|