بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذا باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام

وحروف الأمر والنهي

وهى حروف النفي شبهوها بألف الاستفهام ، حيث قدم الاسم قبل الفعل ؛ لأنهن غير واجبات ، كما أن الألف وحروف الجزاء غير واجبة وكما أن الأمر والنهي غير واجبين ، وسهل تقديم الاسم فيها لأنها نفي واجب ، وليست كحروف الاستفهام والجزاء.

قال أبو سعيد وقد قدمنا أن قولك : " زيد ضربته" أجود من" زيدا ضربته" وقولك : " أزيدا ضربته" في الاستفهام أجود من قولك : " أزيد ضربته" ، وقد توسطت هذين البابين حروف يتقارب النصب فيها والرفع ، وهي" ما" و" لا" ، تقول : " ما زيدا ضربته" و" ما زيد ضربته" و" لا زيدا كلمته ولا عمرا أكرمته ، وإن شئت قلت : " لا زيد كلمته"" ولا عمرو أكرمته".

وإنما تقارب النصب فيها والرفع ، لأنها تشبه حروف الاستفهام من جهة ، وتشبه المبتدأ من جهة.

فأما شبهها بحروف الاستفهام ؛ فلأنها حروف دخلت على المبتدأ فأخرجته من حد الإيجاب إلى حد النفي ، كما أن حروف الاستفهام أخرجت ما دخلت عليه من الإيجاب إلى الاستفهام.

وأما شبهها بالمبتدأ فلأنها نقيضة المبتدأ ، ونفي له ، والنفي يجري مجرى الإيجاب ، ألا ترى أنك إذا قلت : " قام زيد" ، فنفي هذا أن تقول : " ما قام زيد" ، تردّ الكلام على لفظه وتدخل حرف النفي.

وأنشد أبياتا بالنصب منها قول جرير :


ولا حسبا فخرت به لتيم

ولا جدا إذا ازدحم الجدود (١)

أراد فلا ذكرت حسبا فخرت به ، وقد يجوز أن تكون" لا" للنفي ونوّن الحسب اضطرارا ، وقد كان يونس يذهب إليه.

قال : " وإن شئت رفعت ، والرفع فيه أقوى ؛ إذ كان في ألف الاستفهام ؛ لأنهن نفي واجب".

يعني لما جاز أن يكون الرفع في الاستفهام ، وإن كان الاختيار النصب كان الرفع في حروف النفي أقوى ؛ لأنها لم تبلغ أن تكون في القوة مثل حروف الاستفهام والجزاء ؛ لشبه المبتدأ الذي ذكرناه.

قال : (فإن جعلت" ما" بمنزلة" ليس" في لغة أهل الحجاز لم يكن إلا الرفع ؛ لأنك تجيء بالفعل بعد ما عمل فيه ما هو بمنزلة فعل يرفع ، كأنك قلت : ليس زيد ضربته).

يعني أن أهل الحجاز يرفعون الاسم ب" ما" ، ويجعلونها بمنزلة" ليس" فإذا قلت : " ما زيد ضربته" ، فالرفع لا غير في" زيد" على قولهم ؛ لأنهم جعلوها عاملة في" زيد" فغير جائز أن تضمر فعلا آخر ينصب زيدا ، وقد رفعته ب" ما" وذكرت" ضربته" بعد ما عملت" ما" في" زيد" ، فكأنك قلت : " كان زيد ضربته" و" ليس زيد ضربته".

قال : (وقد أنشد بعضهم هذا البيت رفعا :

وقالوا تعرّفها المنازل من منى وما كلّ من وافى منى أنا عارف) (٢)

كأنما قال : اطلبها في المنازل. قال : (فإن شئت حملته على" ليس").

يعني إن شئت جعلت" كلّ" مرفوعا بما ، وجعلت" أنا عارف" في موضع الخبر ، وأضمرت في عارف" ها" تعود إلى" كلّ" كأنك قلت : أنا عارفه ، وهذا على لغة أهل الحجاز.

قال : (وإن شئت حملته على" كلّه لم أصنع" وهذا أبعد الوجهين).

__________________

(١) الخزانة ١ / ٤٧٧ ، ديوان جرير ١٦٥.

(٢) البيت لمزاحم العقيلي ، انظر شرح شواهد المغني ٣٢٨.


يعني : وإن شئت رفعت كلا بالابتداء ، وجعلت الجملة في موضع الخبر ، وأضمرت الهاء في" عارف" على لغة بني تميم كما قلت : " كلّه لم أصنع" فرفعت" كلّ" بالابتداء ، وأضمرت في" أصنع" هاء تعود إلى" كلّ" ، ومعنى قوله : " وهذا أبعد الوجهين".

يعنى : رفع كل بالابتداء أبعد الوجهين ؛ وذلك لأن من يرفعه بالابتداء لا يعمل" ما" ؛ فإذا لم يعملها أمكنه أن يعمل" عارف" في" كل" ، فإذا لم يعمل فقد قبح ؛ إذ قد وجد السبيل إلى الكلام المختار ، ولا ضرورة تدعو إلى غيره ، ومن رفع" كلّ"" بما" فهو لا يجد السبيل إلى إعمال" عارف" في" كل" إلا بحذف" ما" ، وحذفها يغير المعنى.

قال : (وقد زعم بعضهم أنّ" ليس" تجعل ك" ما" وذلك قليل لا يكاد يعرف ، فهذا يجوز أن يكون منه : " ليس خلق الله مثله" و" ليس قالها زيد").

يعني أن بعضهم يجعل" ليس" محمولة على" ما" فيلغي عملها ، ولا يجوز أن يكون الذي يفعل هذا من العرب ، إلا من كانت من لغته في" ما" إلغاؤها ، فتحمل" ليس" على" ما" ، وتجعلها حرفا لا تعمل في اللفظ شيئا ، كما لم تعمل" ما" ، وليس على هذه اللغة دليل قاطع ، ولا حجّة تقطع العذر ؛ لأن كل ما يستشهد به يحتمل التأويل ؛ لأنه إذا احتجّ محتج بقولهم : " ليس خلق الله مثله" فقال : " خلق" فعل ، ولو كانت" ليس" فعلا لما وليها الفعل ، فللقائل أن يقول في : " ليس" ضمير الأمر والشأن و" خلق" وما بعده جملة في موضع الخبر ؛ فلذلك قال سيبويه : " فهذا يجوز أن يكون منه" لهذا المعنى الذي ذكرناه.

وقد احتجوا بشيء آخر ـ وهو أقوى من الأول ـ وهو قول بعض العرب : " ليس الطيب إلا المسك" فقالوا : هذا بمنزلة : ما الطيب إلا المسك ، قالوا : ولو كان في" ليس" ضمير الأمر والشأن ، لكانت الجملة التي في موضع الخبر قائمة بنفسها ، وفي موضع خبرها ، ونحن لا نقول : " الطيب إلا المسك" بغير تقديم حرف النفي ، وليس الأمر على ما ظنوا ؛ لأن الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم قد وقع عليه حرف النفي فقد لحقها في المعنى ، ألا ترى أنك إذا قلت : " ما زيد أبوه قائم" فقد نفيت قيام أبيه كما لو قلت : " ما أبو زيد قائم" وعلى هذا يجوز أن تقول : " ما زيد أبوه إلا قائم" ، كأنك قلت : " ما أبو زيد إلا قائم".


وأنشد لحميد الأرقط ، على لغة من يجعل" ليس" بمعنى" ما" :

فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم

وليس كلّ النوى يلقي المساكين (١)

فنصب" كلّ" بيلقي ، وجعل" ليس" بمعنى" ما" ، كأنه قال : ما يلقي ، وبقول هشام أخي ذي الرمة :

هي الشفاء لدائي إن ظفرت بها

وليس منها شفاء الداء مبذول (٢)

على قولك : ما منها شفاء الداء مبذول.

قال : (هذا كله سمع من العرب ، والوجه والحد فيه أن تحمله على أن في" ليس" إضمارا ، وهذا مبتدأ كقوله : "" إنه أمة الله ذاهبة").

يعني ضمير الأمر.

قال : (إلا أن بعضهم قال" ليس الطيب إلا المسك" و" ما كان الطيب إلا المسك").

وكان هذا عنده أقوى من الحجة الأولى ؛ وذلك أن الذين رفعوا المسك في" ليس" هم الذين نصبوه في" كان" فأشبه أن يكون لفرق بين ليس وكان ، والوجه هو الذي ذكرناه ، ولو جعل في" كان" ضمير الأمر والشأن لرفع المسك أيضا.

قال : (فإن قلت : " ما أنا زيد لقيته" رفعت إلا في قول من نصب" زيدا لقيته" ؛ لأنك شغلت الفعل بضميره).

يعني أنك إذا قلت : " ما أنا زيد لقيته" فالذي ولى حرف النفي غير زيد ، ففصل بين" زيد" وبين حرف النفي ، فصار" زيد" بمحله في الابتداء ، وكان الاختيار فيه الرفع ، وهذا يشبه قولك : " أنت زيد ضربته" لما فصلت بين ألف الاستفهام وبين" زيد" وقد مضى الكلام في هذا.

قال : (وهو فيه أقوى لأنه عامل في الاسم).

يعني الرفع في : " ما أنا زيد ضربته" أقوى منه في : " أنت زيد ضربته" لأن" ما" عاملة

__________________

(١) العيني ٢ / ٨٢ ـ الخزانة ٤ / ٥٨ ـ آمالي ابن الشجري ٢ / ٢٠٣.

(٢) انظر شواهد المغني ٢٤٠ ، الدرر ١ / ٨٠ ، المقتضب ٤ / ١٠١.


في الاسم الذي بعدها ، يعني في لغة أهل الحجاز فلما كانت عاملة في الاسم الذي بعدها ، وألف الاستفهام غير عاملة كان الرفع أقوى في" ما".

قال : (وأما ألف الاستفهام وما في لغة بني تميم يفصلن ولا يعملن ، فإذا اجتمع أنك تفصل وتعمل الحرف فهو أقوى).

يعني أن" ما" وألف الاستفهام في لغة بني تميم يفصلن عن الاسم الذي وقع الفعل على ضميره باسم آخر ، كقولك : " أأنت زيد ضربته" و" ما أنا زيد لقيته" ، فصلت الألف و" ما" عن زيد بدخول" أنا" و" أنت" بينهما ، وهما لا يعملان في الاسم الذي يليها فمجراهما واحد.

فإذا جئت إلى لغة أهل الحجاز في" ما" فصلت بينها وبين الاسم الذي وقع الفعل على ضميره وأعملتها في الاسم الذي يليها ، فبعد النصب عن الاسم الذي وقع الفعل على ضميره ؛ لبعدها منه لمّا اجتمع الفصل بينها وبينه ، وعملها فيما وليها ، ويجوز" ما أنا زيدا لقيته" على قول من قال في الابتداء : " زيدا لقيته" ، والاختيار الرفع.

واعلم أن الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم متقدم ، أو في محل بعينه كان سبيلها كسبيلها إذا وقعت مبتدأة ، ويختار فيها ما يختار في الابتداء.

وكونها خبرا في أربعة أشياء. وهي : خبر المبتدأ ، وخبر كان وأخواتها ، وخبر إن وأخواتها ، والمفعول الثاني في" ظننت" وأخواتها ، تقول : " زيد أبوه ضربته" و" كنت زيد ضربته" و" إني عمرو كلمته" و" حسبتني أخوك رأيته" ، وإنما صار الاختيار الرفع في هذه الأشياء ؛ لأنك جئت بهذه الجمل ، وهي كلام قائم بنفسه ، فوضعته في موضع خبره ، فينبغي أن تعطي الكلام حقه وإعرابه ، ثم توقعه في هذا الموقع ، ويجوز نصبه بما جاز في الابتداء.

وأما قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(١) فإنه على قول من يقول : " زيدا ضربته".

فإن قال قائل : فأنتم تزعمون أن قول القائل : " إني زيد كلمته" الاختيار فيه الرفع ؛

__________________

(١) سورة القمر ، آية : ٤٩.


لأنه جملة في موضع الخبر ، فلم اختير النصب في : " إنا كلّ شيء خلقناه" وكلام الله تعالى أولى بالاختيار؟ فالجواب أن في النصب هاهنا دلالة على معنى لا يوجد ذلك المعنى في حالة الرفع ؛ وذلك أنك إذا قلت : " إنا كلّ شيء خلقناه بقدر" ، فتقديره : إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، فهو يوجب العموم ؛ لأنه إذا قال : إنا خلقنا كلّ شيء فقد عمّ ، وإذا رفع فقال : كلّ شيء خلقناه بقدر ، فليس فيه عموم ؛ لأنه يجوز أن نجعل" خلقناه" نعتا لشيء ، ويكون" بقدر" خبرا لكل ، ولا تكون فيه دلالة لفظه على خلق الأشياء كلها ، بل تكون فيه دلالة على أن ما خلق منها خلقه بقدر ، ومثل هذا في الكلام" كلّ نحوي أكرمته في الدار" فقد أوجبت أنه ما بقي أحد من النحويين إلا وقد أكرمته ؛ لأن تقديره : أكرمت كلّ نحوي أكرمته في الدار ، وإذا قلت : " كلّ نحوي أكرمته في الدار" ، وجعلت" أكرمته" نعتا لنحوي ، فمعناه كل من أكرمته من النحويين فهو حاصل في الدار ، ويجوز أن يكون في النحويين من لم تكرمه في الدار.

قال : وقد قرأ بعضهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ)(١).

والاختيار الرفع وهو الأكثر في القراءة ، ونصبه على إضمار فعل ، كأنه قال : وأما ثمود فهدينا فهديناهم يعني قراءة من قرأ : إنا كلّ شيء خلقناه ، وإن كان الاختيار الرفع لقراءة من قرأ" وأما ثمود فهديناهم" والاختيار الرفع لأن" أمّا" من حروف الابتداء ، وقد بينا ما في ذلك.

قال : (وتقول : " كنت عبد لله لقيته" لأنه ليس من الحروف التي ينصب ما بعدها كحروف الاستفهام وحروف الجزاء وما شبه بها).

يعني" كنت" ليس مثل هذه الحروف التي يختار النصب فيما بعدها كحروف الاستفهام ، وحروف الجزاء ، وما شبه بها من الأمر ، وحروف النفي ، وليس بفعل ذكرته ليعمل في شيء فينصبه أو يرفعه ، ثم تضم إلى الكلام الأول الاسم ، يعني أن" كنت" ليست بجملة مبنية على فعل عطفت عليها جملة أخرى كقولك : " ضربت زيدا وعمرا كلمته" ، فوجب أن يكون الاختيار الرفع فيما كان في موضع الخبر على ما وصفنا.

وتكلم بكلام طويل لم يخرج عن الجملة التي عندنا ، فأرى أن الجملة التي تقع في

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ١٧.


موضع الخبر لا تشبه الجملة المعطوفة ، وكان فيما ذكر أن الجملة التي تقع في موضع الخبر قد حالت بين الأول وبين مفعوله أن تنصبه ، فكيف يختار فيه النصب وقد حال بينه وبين مفعوله.

يعني أنك إذا قلت : " كنت زيد ضربته" فقد وقع" زيد ضربته" في موضع مفعول" كنت" كأنك قلت : " كنت قائما" ، فإذا كانت الجملة قد منعت كنت المنصوب وحلت في محله ، لم تشبه الجملة المعطوفة وهي" ضربت زيدا وعمرا كلمته" ؛ لأن الأول قد نصب مفعوله ، وعطف الثاني عليه ، فأجري مجراه في تسلطه على مفعوله.

قال : (ومثله" قد علمت لعبد الله تضربه" ، فدخول اللام يدلّك على أنه إنما أراد به ما أراد إذا لم يكن قبله شيء).

يعني أن اللام منعت من أن يكون" عبد الله" مفعولا لعلمت فارتفع كما يرتفع في الابتداء ، وكذلك وقوع هذه الجملة في موضع خبر كان قد منع كان من التسلط عليها ، ونصبها لها كما تنصب خبرها فصارت كالمبتدأ ، وليس ذلك بمنزلة حروف العطف.

قال : (وترك الواو في الأول هو كدخول اللام هنا). يعني ترك الواو في" كنت زيد ضربته" حين جعلته خبرا ، ولم تجعله عطفا كدخول اللام في : " قد علمت لعبد الله تضربه".

قال : (فإن شاء نصب كما قال الشاعر ، وهو المرّار الأسديّ :

فلو أنها إياك عضّتك مثلها

جررت على ما شئت نحرا وكلكلا

وهذا البيت على قول من قال : " إني زيدا ضربته" ، وأنت إذا قلت : " إني زيدا ضربته" ثم خاطبت زيدا لقلت : " إني إياك ضربتك" فيكون" إياك" بمنزلة" زيد" ، والكاف بمنزلة الهاء ، والتقدير : لو أنها إياك عضت مثلها عضتك مثلها ، وإذا قلت : " إني زيد ضربته" ثم خاطبت زيدا قلت : " إني أنا ضربتك".

هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم

ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسم آخر فيعمل فيه كما عمل في الأول.

وذلك قولك : " رأيت قومك أكثرهم" و" رأيت قومك ثلثيهم" و" رأيت بني عمك ناسا منهم" ، و" رأيت عبد الله شخصه" و" صرفت وجوهها أولها".

قال أبو سعيد اعلم أن البدل إنما يجيء في الكلام على أن يكون مكان المبدل منه


كأنه لم يذكر ، والنحويون يقولون : إن التقدير فيه تنحية الأول ـ وهو المبدل منه ـ ووضع البدل مكانه وليس تقديرهم تنحية الأول على معنى الإلغاء له ، وإزالة الفائدة به ولكن على أن البدل قائم بنفسه ، غير مبين للمبدل منه تبيين النعت للمنعوت الذي هو تمام للمنعوت ، والدليل على أن المبدل منه لا يلغي أنك تقول : " زيد رأيت أباه عمرا" وتجعل" عمرا" بدلا من" أباه" ، فلو كان في تقدير اللغو لكان الكلام زيد رأيت عمرا ، وهذا فاسد محال ؛ فقد صح أن البدل غير منحّ للأول حتى يكون بمعنى الملغى.

فإن قال قائل : فلأي شيء دخل؟ قيل له : قد يكون للشيء الواحد أسماء من معان يشتق له منها تلك الأسماء فيجوز أن يشتهر ببعض الأسماء عند قوم ، وببعض أسمائه عند آخرين ، فإذا جمع الاسمين جميعا على طريق بدل أحدهما من الآخر ، فقد بينه بغاية البيان ، وذلك أنه إذا قال : " زيد رأيت أباه عمرا" فقد يجوز أن يكون المخاطب يعرف أبا زيد ولا يعلم أنه عمرو ، وقد يجوز أن يكون عارفا بعمرو ، ولا يعرف أبا زيد من هو ، فإذا أتى بالأمر جميعا عرفه من وجه آخر.

وإذا قال : " رأيت زيدا رجلا صالحا" يجوز أن يكون غرضه أن يبين للناس مروره برجل صالح ، ويبين أيضا أنه زيد ، وليس كل من عرف أنه زيد عرف أنه رجل صالح ، فأتى بالعلم الذي يعرف به ، وبالمذهب الذي هو عليه ؛ ليجتمع له بذلك غرضه ، فهذا هو القصد في البدل.

وهو يشتمل على أربعة أوجه :

فالوجه الأول : بدل الشيء من الشيء ، وهو هو ، كقولك : " مررت بزيد رجل صالح" ، و" مررت برجل صالح زيد".

والوجه الثاني : بدل الشيء من الشيء وهو بعضه ، كقولك" رأيت زيدا وجهه" و" أتاني بنو تميم أكثرهم".

وبدل الشيء من الشيء وهو مشتمل عليه ، كقولك : " سلب زيد ثوبه" ، و" أعجبني زيد حسنه" ، والمشتمل على الشيء هو الذي تصح العبارة عنه بلفظه عن ذلك الشيء ، وذلك أنك إذا قلت : " سلب زيد" فقد يجوز أن يكون ذلك وأنت تعني الثوب ، وإذا قلت : " أعجبني زيد" فإنما تعني كلامه أو حسنه ، أو ما أشبه ذلك من أفعاله وهيئاته ، أو ما يتعلق به ؛ ولا يجوز أن تقول : " ضربت زيدا عبده" ؛ وذلك أنك لا تقول : " ضربت زيدا"


وأنت تريد عبده ؛ لأنه لا يعبر بزيد عن عبده ، فلفظ" زيد" ليس يشتمل على العبد.

وبدل المعرفة من النكرة ، والنكرة من المعرفة ، والمضمر من المظهر ، والمظهر من المضمر ، في هذه الأبواب سواء ، وليست كالنعت ؛ لأن النعت تمام المنعوت ، وتجلية له ، والبدل منقطع من المبدل منه على ما ذكرنا ، فلم تكن حال توجب استواءهما في التعريف والتنكير.

والوجه الرابع : بدل الغلط ، ولا يجوز أن يقع في شعر ولا قرآن ولا كلام معمول محكّك وإنما يجيء في الكلام الذي يبتدؤه الإنسان على جهة سبق اللسان إلى الشيء الذي لا يريده ، فيلغيه ، حتى كأنه لم يذكره بلفظ مما يريده ، كقولك : " رأيت زيدا" وأنت تريد عمرا فتلغي زيدا ، وتذكر عمرا فتقول : رأيت زيدا عمرا ، وتكون مريدا لزيد ، فيبدو لك ، إما لأنك تبينت أن الفعل لم يقع بعد بزيد ، وأنه كان واقعا بعمرو ، وإما لأنك أردت الإضراب عن نسبة ذلك الفعل إلى زيد ، وإنما يقع في بديه الكلام.

والعامل في البدل في ذلك كله هو العامل في المبدل منه ؛ لتعلقهما به من طريق واحد.

قال سيبويه على إثر ما ذكره من البدل : (فهذا يجيء على وجهين : على أنه أراد رأيت أكثر قومك ورأيت ثلثي قومك ، وصرفت وجوه أولها ، ولكنه ثنّى الاسم توكيدا كما قال الله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(١)).

فهذا أحد الوجهين ، والمعنى في ذلك أنه حين قال : " رأيت قومك" كان غرضه رأيت ثلثي قومك ؛ لأنه قد يجوز أن تعبّر باللفظ العام وأنت تريد البعض ، كما قد يقول القائل : " شغب الجند" وإنما تريد بعضهم ، و" ضج أهل بغداد" ، وعسى ألا يكون ضج منهم إلا نفر ، فإذا أراد باللفظ الأول العام البعض ثم أتى بذلك البعض فكرره بلفظ آخر فقد أكّد ، كما أكّد في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ،) وكما قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)(٢) ، ف" قتال فيه" بدل وهو تأكيد على هذا الوجه الذي ذكرناه ، لأنه أراد بقوله : " الشهر الحرام" القتال ، ثم أعاد القتال توكيدا قال

__________________

(١) سورة الحجر ، آية : ٣٠.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢١٧.


الشاعر :

وذكرت تقتد برد مائها

وعتك البول على أنسائها (١)

فأبدل" برد مائها" من" تقتد" ، و" تقتد" موضع ، و" برد مائها" بدل الاشتمال ، وأنشده سيبويه للتأكيد الذي ذكره في البدل و" وعتك البول" يعني قدمه وصفرته ، يقال : قوس عاتكة إذا اصفرت من القدم ، والمعنى أن هذه الناقة ذكرت برد ماء هذا الموضع ، وهذه حالها لطول السفر ، ويروى" وعبك البول على أذنابها" ، وهو تركده وتراكبه عليه ، ويجوز" عتك البول" على معنى وقد عتك البول.

قال : (وقد يكون هذا البيت على الوجه الآخر الذي أذكره لك).

يعني من الوجهين اللذين ذكرنا أحدهما أنه على سبيل التأكيد.

قال : (وهو أن يتكلم فيقول رأيت قومك ، ثم يبدو له أن يبين ما الذي رأى منهم ، فيقول : " ثلثيهم" أو" ناسا منهم").

وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين ، وهو أن يقول : " رأيت قومك" ، وقصده إلى جميعهم ، ثم بدا له في ذلك ، وامتنع أن يخبر عن جميعهم ، فعدل إلى الإخبار عن البعض ، فهذا لم يكن في أول كلامه قاصدا إلى ذكر البدل ، وإنما بدا له ذلك بعد ما مضى صدر كلامه على الوجه الذي لفظ ، والذي قبل هذا لم يبد له شيء لم يرد أن يتكلم به من بعد.

قال : (ولا يجوز أن تقول : " رأيت زيدا أباه" ، والأب غير زيد ؛ لأنك لا تبيّنه بغيره ، ولا بشيء ليس منه).

وقد بينا ذلك.

قال : (وإنما يجوز" رأيت زيدا أباه" و" رأيت زيدا عمرا" أن يكون أراد أن يقول : رأيت عمرا ورأيت أبا زيد ، فغلظ أو نسي ، ثم استدرك كلامه).

قال : (ومن هذا الباب" بعت متاعك أسفله قبل أعلاه" واشتريت متاعك أسفله أسرع من اشترائي أعلاه ، واشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض ، وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كبارها ، وضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا).

قال أبو سعيد فهذا كله على البدل ، والمنصوب الثالث على الحال.

__________________

(١) سيبويه ١ / ٧٥ (بولاق) ، ١ / ١٥١ هارون.


قال سيبويه : (فهذا لا يكون فيه إلا النصب ، لأن ما ذكرت بعده ليس مبنيّا على الاسم فيكون الاسم مبتدأ وإنما هو من نعت الفعل ، زعمت أن بيعك أسفله كان قبل بيعك أعلاه ، وأن الشراء كان في بعض أعجل من بعض ، وسقيه الصغار كان أحسن من سقيه الكبار ولم تجعله خبرا لما قبله).

يعني أنك لا تقول : " اشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض" ، فتجعله ابتداء وخبرا في موضع الحال من" متاعك" ؛ لأنك لم ترد اشتريت متاعك وبعضه أعجل من بعض ؛ لأنه لا فائدة فيه ، ولم ترد سقيت إبلك وصغارها أحسن من كبارها ، كما تقول" ضربت زيدا أبوه قائم" على معنى ضربت زيدا وأبوه قائم ، وإنما المعنى اشتريت بعض متاعك أعجل من بعض ، فلما قدمت المتاع جعلت البعض بدلا منه ، وأدخلته في عمل الفعل ، وذلك معنى قوله : " وإنما هو من نعت الفعل".

قال : (ومن ذلك" مررت بمتاعك" بعضه مرفوعا وبعضه مطروحا ، فهذا لا يكون مرفوعا ؛ لأنك جعلت النعت على المرور فجعلته حالا للمرور ولم تجعله مبنيّا على مبتدأ ، ولم يجز ابتداء بعضه ، ولا تسند إليه شيئا).

يعني أنك لا تقول : " مررت بمتاعك بعضه مرفوعا" فترفع البعض ، وتنصب مرفوعا ؛ لأنك إذا رفعته فقد جعلته مبتدأ ولا خبر له ، ففسد لذلك ، ولو قلت : " بعضه مرفوع وبعضه مطروح" جاز ، وتكون الجملة في موضع الحال ، كما تقول : " مررت بقومك بعضهم قائم وبعضهم قاعد" ، أي هذه حالهم.

ومعنى قوله : " لأنك جعلت النعت على المرور فجعلته حالا".

يعني أنك جعلت" مرفوعا" و" مطروحا" حالا محمولا على المرور ؛ إذ كان العامل فيه ، وسمّي مرفوعا ومطروحا نعتا وليس بجار على منعوت ؛ لأنه سمي النعت كل ما كان فيه تمييز شيء من شيء ، لو لم يكن ذلك النعت لجاز وقوعه عليه وعلى غيره ، فمن ذلك" مررت برجل ظريف" و" ظريف" نعت لرجل ، وقد كان" رجل" قبل ورود" ظريف" يصلح أن يكون لظريف وغيره.

وإذا قلت : " مررت بمتاعك" صلح أن يكون مرفوعا ، وصلح ألا يكون مرفوعا ، فصار" مرفوع" نعتا له من طريق التمييز بين أحواله التي تتوهم ، وعلى ذلك سمي قائما وقاعدا في قولك : " ضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا" من نعت الفعل لأنك إذا


قلت : " ضربت الناس" جاز أن يكون مستوعبا لكلهم ، وجاز أن يكون لبعضهم ، فصار ذكر البعض كالتحلية للضرب والتمييز بين أحواله.

قال : (ومن هذا الباب" ألزمت الناس بعضهم بعضا" و" خوّفت الناس ضعيفهم وقويّهم").

فالوجه في ذا نصب الثاني على البدل!! ؛ وذلك أنّ" ألزمت" و" خوفت" فعلان منقولان من لزم وخاف ، وكان الأصل لزم الناس بعضهم بعضا ، وخاف الناس ضعيفهم قويّهم على البدل ، فلما أدخلت الألف في" لزم" وشدّدت عين الفعل من" خاف" جئت بفاعل آخر ، فصيرت الفاعل الأول مفعولا ، وأبدلت منه في حال النصب ما أبدلت منه في حال الرفع.

قال : (وعلى ذلك" دفعت الناس بعضهم ببعض" على قولك : دفع الناس بعضهم بعضا ، ودخول الباء هاهنا بمنزلة قولك" ألزمت" كأنك قلت في التمثيل" أدفعت" كما أنك تقول : " ذهبت به من عندنا ، وأذهبته من عندنا" وأخرجته معك وخرجت به معك).

قال أبو سعيد : اعلم أن الباء قد تقوم في نقل الفعل مقام الألف ، وتشديد عين الفعل ، تقول : " قام زيد" فإذا نقلته قلت : " أقمت زيدا" فنقلته بالألف وتقول : " قمت بزيد" على معنى أقمت زيدا ، فقامت الباء مقام الألف ، وتقول : " عرف زيد عمرا" فإذا نقلت قلت : " عرّفت زيدا عمرا" فالنقل بهذه الثلاثة الأشياء.

وربما استعمل في شيء بعضها دون بعض ، فمن ذلك" دنا زيد" ثم تقول : أدنيت زيدا ، ولا يقال : دنّيته ، وتقول : " عرّفت زيدا عمرا" ولا تقول : أعرفت ، وتقول : دفع زيد عمرا فإذا نقلته أدخلت الباء فقلت : " دفّعت زيدا بعمرو" ولا تقول : " دفعّت زيدا عمرا" فهذا كله على نحو ما استعملته العرب في النقل ، والأكثر في كلامهم النقل بالهمزة ، وإنما ينقل من الأفعال ما كان ثلاثيّا ، وليس كل فعل ثلاثي ينقل ؛ لأنك إذا قلت : " ظننت زيدا منطلقا ، فأكثر البصريين لا يجيزون من طريق القياس" أظننت زيدا بكرا منطلقا" ، وكان الأخفش يجيزه.

ومعنى قولنا : " نقل الفعل على الجملة" هو أن تجعل الفاعل مفعولا ، وكان أبو العباس يفرق بين" ذهبت به"" وأذهبته" فيقول : " ذهبت به" إذا ذهب وأنت معه ،


" وأذهبته" إذا نحيته وأزلته ، ويجوز أن تكون معه ، ويجوز ألا تكون معه ، وقد ردّ عليه ذلك بقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)(١) على معنى أزاله لا غيره ؛ لأن الله لا يجوز عليه التغير ، وقال امرؤ القيس :

كما زلّت الصفواء بالمتنزل (٢)

على معنى أزلّته ولم تزلّ الصفواء.

قال ومن ذلك أيضا البدل مما هو منقول : (ميّزت متاعك بعضه من بعض وأوصلت القوم بعضهم إلى بعض).

لأنك تقول : وصل القوم بعضهم إلى بعض فأما" ميزت" فالأصل الذي وقع منه النقل ماز متاعك بعضه من بعض ، غير أنه لا يستعمل" ماز" الذي نقل عنه" ميّزت" ، وإنما يستعمل" ماز" الذي في معنى" ميّزت" متعديا ، كما قال الله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٣) في معنى ليميّز.

قال : (ومثل ذلك" صككت الحجرين أحدهما بالآخر" على أنه منقول من اصطك الحجران أحدهما بالآخر).

يعني إذا قلت : اصطك الحجران أحدهما بالآخر ، " فأحدهما" بدل من" الحجران".

قال أبو سعيد : اعلم أن من الأفعال فعل المطاوعة ، وهو ضد النقل ، وذلك أن النقل يصير الفاعل فيه مفعولا ويؤتى بفاعل آخر على ما وصفنا ، وفعل المطاوعة يحذف منه الفاعل ، ويصير المفعول فاعلا ، فهما في الطرفين ، تقول : " كسرت القلم" و" انكسر القلم" و" شققت الثوب" و" انشق الثوب" فحذفت الفاعل وجعلت المفعول فاعلا.

وعلى هذا تقول : " صككت الحجرين أحدهما بالآخر" ، وفعل المطاوعة من ذلك : اصطك الحجران أحدهما بالآخر ؛ لأنك جعلت المفعول فاعلا فمنزلة فعل المطاوعة من الفعل الأصلي كمنزلة الفعل الأصلي من فعل النقل ؛ لأنك إذا رددت فعل المطاوعة إلى الأصل صيرت الفاعل مفعولا ، وجئت بفاعل آخر ، فجعل سيبويه" صككت الحجرين

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠.

(٢) ديوان امرئ القيس ١ / ٥٩ ، شرح القصائد السبع للأنباري ٨٤.

(٣) سورة الأنفال ، آية : ٣٧.


أحدهما بالآخر" مفعولا من" اصطك الحجران" كما جعل" ألزمت الناس بعضهم بعضا" مفعولا من" لزم" وهذا على العكس ؛ لأن" ألزمت" هو فرع على" لزم" ، وصككت هو أصل لاصطك ، ولكنهما قد اشتركا بجعل الفاعل في" لزم" وفي" اصطك" مفعولا في" ألزمت" و" صككت".

قال سيبويه : (وهذا ما يجري فيه مجرورا كما يجري منصوبا ، وذلك قولك : عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض).

قال أبو سعيد : يعني أن المصادر تجري في هذا الباب مجرى أفعالها كما جرت في غير هذا الباب ، أضيفت أو لم تضف ؛ فإذا أضيفت انجرّ ما بعدها بالإضافة ، وإذا لم تضف جرى ما بعدها على الفعل كما بينا فيما قبل ، فقولك : " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض" تقديره إذا ردّ إلى الفعل : عجبت من أن دفعت الناس بعضهم ببعض.

وهذا معنى قوله : " إذا جعلت الناس مفعولين ، والفاعل في النية وكذلك" عجبت من إذهاب الناس بعضهم بعضا".

وتقديره : من أن أذهب الناس بعضهم بعضا ، فالمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول ، وقد أضيف في المسألة الأولى إلى المفعول ، وفي الثانية إلى الفاعل ، وجرّا جميعا ، ويجري هذا المجرور على مجراه ، إذا نوّن المصدر ، أو ردّ إلى الفعل في تعدّيه بحرف وبغير حرف.

قال سيبويه : (وتقول : سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض جرى على قولك : وقعت أنيابه بعضها فوق بعض).

فالمصدر مضاف إلى الفاعل.

قال : (وتقول : عجبت من إيقاع أنيابه بعضها فوق بعض).

فيكون المصدر مضافا إلى ما أقيم مقام الفاعل ، وفيه عندي وجه آخر وهو أن تقدر مقام" الأنياب" تقدير مفعول ، فيكون : عجبت من أن أوقعت أنيابه بعضها فوق بعض ، فإذا رددته إلى المصدر ، أضفت" إيقاع" إلى" الأنياب" ، وهي في موضع نصب ، فيكون التقدير : من إيقاع أنت أنيابه بعضها فوق بعض ، والفاعل منوي ، والبعض في هذه المسائل كلها بدل ما قبله.

ثم قال : (هذا وجه اتفاق الرفع والنصب في هذا الباب ، واختيار النصب ،


واختيار الرفع).

يريد أن المنصوب بالفعل ، والمرفوع به يتفقان في الجر إذا أضفت المصدر إليهما ، وبيّن بتقديره ما الاختيار فيه النصب وما الاختيار فيه الرفع.

فالذي الاختيار فيه النصب قولك : " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض". على تقدير : أن دفعت الناس بعضهم ببعض ، والذي الاختيار فيه الرفع" سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض" ، على معنى : أن وقعت أنيابه بعضها فوق بعض.

ويجوز أن يكون قوله : " هذا وجه اتفاق الرفع والنصب في هذا الباب ، واختيار النصب واختيار الرفع". للكلام الذي يأتي من بعد ، لا ما تقدم.

قال : (وتقول : رأيت متاعك بعضه فوق بعض ، إذا جعلت" فوق" في موضع الاسم المبني على المبتدأ ، وجعلت الأول مبتدأ ، كأنك قلت : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض).

فالرؤية هاهنا تكون من رؤية القلب ، ورؤية العين ، فإذا كانت من رؤية القلب ، فالجملة في موضع المفعول الثاني ، وإذا كانت من رؤية العين فالجملة في موضع الحال.

(فإن جعلته حالا بمنزلة قولك : مررت بمتاعك بعضه مطروحا ، وبعضه مرفوعا ، نصبته لأنك لم تبن عليه شيئا فتبتدئه).

يعني : إذا جعلت" فوق بعض" في موضع الحال ، ولم تجعله خبرا فلا بد من أن يتبع البعض ما قبله ، فتنصبه على البدل.

قال : (وإن شئت قلت : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض ، فيكون بمنزلة قولك : رأيت بعض متاعك الجيّد ، فتوصل إلى مفعولين).

يعني : تجعل" رأيت" من رؤية القلب.

قال : (والرفع في هذا أعرف ؛ لأنهم شبهوه بقولك : " رأيت زيدا أبوه أفضل منه" ؛ لأنه اسم هو الأول ومن سببه ، كما أن هذا له ومن سببه والآخر هو المبتدأ الأول ، كما أن الآخر هو المبتدأ الأول).

يعني : أن قولك : " رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض" أجود من قولك : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض ، وإنما صار الاختيار الرفع ؛ لأنك إذا رفعت فلست تنوي اطّراح المتاع ، وإبدال غيره منه ، ولا ينوى في شيء من الكلام إذا كان مرفوعا تغيير في


ترتيبه ووضعه ، وإذا كان منصوبا فقد أبدل الثاني من الأول ، واعتمد بالحديث على الثاني.

قال سيبويه : (فمما جاء في الرفع قوله عزوجل : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)(١)) ولو قال" وجوههم مسودة" لجاز على البدل ، والرفع أجود.

قال : (ومما جاء في النصب قول العرب : خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها).

ولو قال : " يداها أطول من رجليها" جاز.

قال : (وحدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت وهو لعبدة بن الطبيب :

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدّما) (٢)

فهذا على قوله : خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها ، جعل" هلك" الأول بدلا من" قيس" ، والثاني خبرا لكان ، وعلى الوجه الآخر ـ وهو الاختيار ـ هلكه هلك واحد ، والهلك الأول ابتداء والثاني خبره ، والجملة في موضع خبر" قيس".

و (قال رجل من خثعم أو بجيلة :

ذرينى إن أمرك لن يطاعا

وما ألفيتني حلمي مضاعا) (٣)

فالحلم بدل من النون والياء.

(وقال الآخر في البدل :

إنّ عليّ الله أن تبايعا

تؤخذ كرها أو تجيء طائعا) (٤)

فأبدل" تؤخذ" من" تبايع" ، و" تجيء" عطف على" تؤخذ" ، وينبغي أن تعلم أنه ليس في بدل الفعل من الفعل إلا وجه واحد ، من أقسام البدل التي ذكرناها في الأسماء ، من بدل البعض ، وبدل الاشتمال ، وبدل الشيء من الشيء وهو هو ، لا يبدل الفعل إلا من شيء هو هو في معناه ؛ لأنه لا يتبعض ، ولا يكون فيه الاشتمال الذي ذكرناه ، وصار" تؤخذ كرها أو تجيء طائعا" هو معنى المبايعة ؛ لأنها تقع على أحد هذين الوجهين.

__________________

(١) سورة الزمر ، آية : ٦٠.

(٢) ديوان الحماسة شرح المرزوقي ٧٩٠ ـ ابن يعيش ٣ / ٦٥.

(٣) الخزانة ٢ / ٣٦٨ ـ العيني ٤ / ١٩٢ ـ ابن يعيش ٣ / ٦٥.

(٤) الخزانة ٢ / ٣٧٣ ـ العيني ٤ / ١٩٩ ـ شواهد الكشاف ٧٥.


قال : (فهذا عربي حسن والأول أكثر وأعرب).

يعني الإنشاد في هذه الأبيات على البدل ، ولو رفع على الابتداء لكان أكثر وأعرب فتقول : هلكه هلك واحد ، و" ما ألفيتني حلمي مضاع" ، يكون" حلمي مضاع" في موضع الحال ، و" تؤخذ كرها أو تجيء طائعا" ، على معنى أنت تؤخذ كرها ، فتكون" أنت تؤخذ كرها" في موضع الحال من المبايعة.

قال : (وتقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض ، فله ثلاثة أوجه في النصب : إن شئت جعلت" فوق" في موضع الحال ، كأنه قال : عملت متاعك وهو بعضه على بعض ، أي في هذه الحال ، كما فعلت ذلك في رأيت ، وإن شئت نصبت كما نصبت عليه" رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان".

وإن شئت نصبته على أنك إذا قلت : جعلت متاعك يدخله معنى" ألقيت" ، فيصير كأنك قلت : ألقيت متاعك بعضه فوق بعض ، لأن" ألقيت" كقولك : أسقطت متاعك بعضه على بعض ، وهو مفعول من قولك : سقط متاعك بعضه على بعض).

قال أبو سعيد : اعلم أن" جعلت" تكون بمعنيين ، بمعنى صنعت وعملت ، ومعنى صيّرت ، فإذا كانت بمعنى صنعت فهي تتعدى إلى مفعول واحد ، قال الله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)(١) بمعنى صنع وخلق ، وقال : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(٢).

وإذا كانت بمعنى" صيرت" تعدت إلى مفعولين ، لا يجوز الاقتصار على أحدهما وهي في هذا الوجه تنقسم على ثلاثة أقسام ، كما تنقسم" صيرت". أحدها بمعنى" سمّيت" كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)(٣) أي صيروهم إناثا بالقول والتسمية ، كما تقول : " جعل زيد عمرا فاسقا" أي صيره بالقول كذلك.

والوجه الثاني : أن تكون على معنى الظن والتخيل كقولك : " اجعل الأمير عاميا وكلمه" أي صيّره في نفسك كذلك.

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١.

(٢) سورة الأعراف ، آية : ١٨٩.

(٣) سورة الزخرف ، آية : ١٩.


والوجه الثالث : أن يكون في معنى النقل ، فتقول : جعلت الطين خزفا أي صيرته خزفا ، ونقلته عن حال إلى حال وقال الله عزوجل : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً)(١) أي صيّره آمنا وانقله عن هذه الحال.

فأما الثلاثة الأوجه التي ذكرها سيبويه فوجهان فيها يرجعان إلى الوجه الأول مما ذكرناه ، وهو أن تجعل" جعلت" متعدّيا إلى واحد ، غير أن معنى الوجهين اللذين ذكرهما سيبويه مختلف ، وإن كانا يجتمعان في التعدي إلى واحد ، فأحد الوجهين هو الأول الذي قال فيه : " إن شئت جعلت فوق في موضع الحال" فيكون معناه عملت متاعك عاليا ، كأنك أصلحت بعضه وهو عال ، فيكون فوق في موضع الحال كما تقول : عملت الباب مرتفعا أي أصلحته ، وهو في هذه الحال.

والوجه الثاني من هذين الوجهين هو الثالث مما ذكره سيبويه في قوله : " وإن شئت نصبته ، على أنك إذا قلت : " جعلت متاعك" يدخله معنى : ألقيت متاعك بعضه فوق بعض ، لأن" ألقيت" كقولك : أسقطت متاعك بعضه فوق بعض".

فيكون هذا متعديا إلى مفعول.

وهو منقول من سقط متاعك بعضه فوق بعض.

فهو يوافق الوجه الأول في التّعدي إلى مفعول واحد ، ويخالف في غير ذلك ، لأنك لم تعمل المتاع هاهنا ؛ لإصلاح شيء منه وتأثير فيه ، كما تعمل الباب بنجره ونحته وقطعه ، و" فوق" في هذا كالمفعول ، لا في موضع الحال ؛ لأنه في جملة الفعل الذي هو" ألقيت" ؛ لأنه منقول من" سقط متاعك بعضه فوق بعض" ، والسقوط وقع على فوق ، وعمل فيه على طريق الظرف ، وفي المسألة الأولى لم يعمل فيه" جعلت" ، إنما عمل فيه الاستقرار وصار في موضع الحال ، فهذان الوجهان كوجه واحد. وقوله : " وإن شئت نصبت على ما نصبت عليه" رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان".

فتعديه إلى مفعولين من جهة النقل والعمل ، كما تقول : " صيّرت الطين خزفا" ، وإنما حملنا هذا الوجه على هذا ؛ لأنه في ذكر" جعلت" الذي في معنى" عملت وأثّرت".

قال : والوجه الثالث أن تجعله مثل : " ظننت متاعك بعضه أحسن من بعض".

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٢٦.


فهذا أحد وجوه جعلت التي ذكرناها ، وهو الذي في معنى التخيل ، والذي هو من طريق التسمية يشبه هذا الوجه ، إلا أنه لم يذكره اكتفاء بهذا.

قال : " والرفع فيه أيضا عربي كثير".

يعني رفع" البعض" ، فتجعل ما بعده خبرا ، وتجعل الجملة في موضع المفعول الثاني ، إن كان يتعدى إلى مفعولين ، وفي موضع الحال إن كان يتعدى إلى مفعول واحد.

قال : (وتقول : " أبكيت قومك بعضهم على بعض" و" حزّنت قومك بعضهم على بعض" ، فأجريت هذا على حد الفاعل ، إذا قلت : بكى قومك بعضهم على بعض ، وحزن قومك بعضهم على بعض ، فالوجه هاهنا النصب ، لأنك إذا قلت : أحزنت قومك بعضهم على بعض ، وأبكيت قومك بعضهم على بعض ، لم ترد أبكيت قومك ، وبعضهم على بعض في عون).

أعني أمارة وولاية ، ولا أبكيتهم وبعض أجسادهم على بعض فإنما هو منقول من" بكى قومك بعضهم على بعض" ، وبعضهم بعضا وحرف الجر في موضع اسم منصوب مفعول ، فإن قلت : " حزّنت قومك بعضهم أفضل من بعض" ، فالوجه الرفع ، ويجوز فيه النصب ، وإنما حسن الرفع هاهنا واختير ؛ لأنه ليس بمنقول ؛ لأن فضل بعضهم على بعض بمعنى لم يصر فيهم بتحزينك إياهم ، ولا هو متعلق بالتحزين ، " وأبكيت قومك بعضهم على بعض" ، أنت فاعل بهم الإبكاء ومصيرهم إلى أن بكى بعضهم على بعض ، فإنما أردت حزّنت قومك وبعضهم أفضل من بعض.

ولو نصبت" بعضهم" وجعلت" أفضل" حالا جاز ، والرفع أجود على مضى من تجويد الرفع على النصب إذا استوى معناهما.

قال : " وإن كان مما يتعدى إلى مفعولين أنفذته إليه ، لأنه كأنه لم تذكر قبله شيئا".

يعني أنك إذا جعلت مكان" حزّنت قومك بعضهم" أفضل من بعض فعلا يتعدى إلى مفعولين عديته إليه كقولك : حسبت قومك بعضهم قائما وبعضهم قاعدا".

وإن كان مما يتعدى إلى مفعول واحد ، نحو حزّنت ، ورأيت من رؤية العين ، فإن شئت قلت : " حزنت قومك" وسكتّ ، وإن شئت قلت : " حزنت قومك منطلقين" فجئت بالحال ، وإن شئت قلت : " حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض" فجئت بجملة في


موضع الحال ، وإذا كان الفعل يتعدى إلى مفعولين ، فلا يجوز حذف المفعول الثاني ، ولا حذف الجملة التي في موضع المفعول الثاني ، إذا قلت : " حسبت قومك بعضهم أفضل من بعض".

ومعنى قوله : " كأنه لم تذكر قبله شيئا".

يعني أن المفعولين لا بد منهما في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ، كما لا يستغنى عنهما لو لم يكن فعل ؛ لأن أحدهما خبر عن الآخر.

وقوله : " كأنه قال : رأيت قومك وحزّنت قومك".

يعني أن سقوط الحال في" حزنت قومك ، ورأيت قومك" من رؤية العين لا يخل بالكلام ، ولا يفسده.

واعلم أن ما كان في هذا الباب من المصادر المضافة يجوز فيه بدل الاسم الثاني من لفظ الاسم الأول ، ومن معناه ، فإذا قلت : " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض" فقد أبدلت" بعضهم" من لفظ" الناس".

ويجوز أن تقول : " بعضهم" فتنصب على المعنى ، كأنك قلت : عجبت من دفعك الناس بعضهم لأن الناس فيه مفعولون ، وإذا قلت : عجبت من دفع الناس بعضهم بعضا ، فبعضهم بدل على اللفظ ، ويجوز" بعضهم بعضا" ، فتحمله على موضع" الناس" ؛ لأنهم في المعنى فاعلون ، فالبدل على لفظ الأول معناه.

هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر

من الأول ويجري على الاسم

كما يجري أجمعون على الاسم ، وينصب أيضا بالفعل لأنه مفعول ، فالبدل أن تقول : " ضرب عبد الله ظهره وبطنه" ، و" ضرب زيد الظهر والبطن".

يعني أنك تبدل" ظهره وبطنه" من" عبد الله" و" زيد" ويجري عليه في إعرابه ؛ لأن الظهر والبطن بعض عبد الله وزيد. قال : " ومطرنا سهلنا وجبلنا" ، و" مطرنا السهل والجبل" وإن شئت كان على الاسم بمنزلة أجمعين".

يريد تبدل السهل والجبل من النون والألف بدل الاشتمال ، وإن شئت جعلته تأكيدا لا بدلا ، فيكون قولك : " ضرب عبد الله ظهره وبطنه" كقولك : ضرب أعضاؤه كلّها ، ويصير الظهر والبطن توكيدا لعبد الله ، كما يصير" أجمعون" توكيدا للقوم إذا قلت : " رأيت


القوم أجمعين" كأنه قال : " ضرب زيد" كلّه" ، وقولك : " مطرنا سهلنا وجبلنا" كقولك : " مطرت بقاعنا كلّها".

قال : " وإن شئت نصبت فقلت : ضرب زيد ظهره وبطنه ، ومطرنا السهل والجبل".

قال أبو سعيد : فتنصب هذا على أن تجعله مفعولا ثانيا ، وإن كان الضرب في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد ، فتقدر حرف الجر في الأصل ، ثم تحذفه ، فيصل الفعل ، كما قال عزوجل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(١) أي من قومه ، فكأنك قلت : ضرب زيد على ظهره وبطنه ، فحذفت" على".

ولا يطرد هذا في الأشياء كلها ، لا تقول : " ضرب زيد يده ورجله" على ذلك التقدير كما لا يجوز" مررت زيدا" قياسا على قول الشاعر : " أمرتك الخير".

وكما لا يجوز" أخذت زيدا ثوبا" على معنى : من زيد ثوبا ، قياسا على قوله : " واختار موسى قومه".

وقد يجوز أن تنصب البطن والظهر على الظرف ، وحذف حرف الجر منه ، كأنك قلت : ضرب في ظهره وبطنه ، ولا يقال ضرب زيد يده ورجله" على الظرف ، وإنما خالف الظهر والبطن اليد والرجل ؛ لأن الظهر والبطن عامّان في الأشياء ، ألا ترى أن لكل شيء بطنا وظهرا ، أو لأكثر الأشياء فيما جرت به العادة في كلام الناس ، فأشبه الظهر والبطن المبهمات من الظروف لعمومها ، وليس اليد والرجل ، والسهل والجبل بمنزلة الظهر والبطن ؛ لأن المواضع إما أن تكون سهلا أو تكون جبلا ، فجعلت ظروفا لهذا الإبهام ، ومع هذا التشبيه الذي ذكرنا ، فالقياس فيه ألا يكون ظرفا ، ألا ترى أنّك لو قلت : " هذا الشّعر ظهر زيد أو بطن زيد" لم يجز كما تقول : " هذا خلف زيد وأمام زيد" ، وصار في الشذوذ بمنزلة" دخلت البيت" و" ذهبت الشّام".

قال : " ولم يجيزوه في غير السهل والجبل ، والظهر والبطن ، كما لم يجز دخلت عبد الله ، فجاز هذا في ذا وحده ، كما لم يجز حذف حرف الجر إلا في الأماكن".

يعني لم يقولوا : " ضرب زيد اليد والرجل" على الشذوذ كما لم يقولوا دخلت هذا

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ١٥٥.


الأمر ، من حيث قالوا : " دخلت البيت".

فتركوا القياس في الظهر والبطن ، والسهل والجبل خاصة ، حين حذفوا حرف الجر ، كما تركوا القياس في" دخلت" حين حذفوا" في" من الأماكن ، فإذا استعملوا" دخلت" في غير الأماكن عادوا إلى القياس ، فقالوا : " دخلت في هذه القصة" ، و" دخل زيد في مذهب سوء" ، وكذلك إذا استعملوه في غير البطن والظهر فقالوا : " ضرب زيد على اليد والرجل" عادوا إلى القياس ثم ذكر أشياء من الشذوذ ، وترك القياس ، قد تقدم ذكرنا لها.

قال : " وزعم الخليل أنهم يقولون : مطرنا الزرع والضرع وإن شئت رفعت على وجهين : على البدل وعلى أن تتبعه الاسم".

قال أبو سعيد : " الزرع والضرع" شبيه بالسهل والجبل ؛ لأن أكثر ما يراد به المطر الزرع والمواشي ، فجاز النصب على الوجهين اللذين ذكرنا ، والرفع أيضا على الوجهين ، وكل ذلك مسموع من العرب.

قال : فإن قلت : " ضرب زيد اليد والرجل" فيجوز على بدل البعض من الكل ، ولا يجوز فيه النصب على ما ذكرنا».

قال : «وقد سمعناهم يقولون : مطرتهم ـ يعني السماء ـ ظهرا وبطنا».

فنصبه على الظرف والمفعول الثاني ، وعلى البدل أيضا.

قال : " وتقول : مطر قومك الليل والنهار" فيجوز نصب الليل والنهار على الظرف ، وعلى أنه مفعول على سعة الكلام ، ويجوز رفعه على البدل ، كأنك قلت : مطر الليل والنهار ، كما تقول : صيد عليه الليل والنهار ، فيكون على وجهين : أحدهما : مطر أصحاب الليل وأصحاب النهار ، فتحذف المضاف ، وتقيم المضاف إليه مقامه.

والآخر : أن تجعل الليل والنهار ممطورين على المجاز ، وقد مضى نحو هذا ،

وقال الشاعر في البدل :

وكأنه لهق السّراة كأنه

ما حاجبيه معيّن بسواد (١)

والشاهد فيه : بدل (الحاجبين) من الهاء التي في" كأنه" و" ما" زائدة ، والبيت الذي يتلوه :

__________________

(١) الخزانة ٢ / ٣٧٢ ، ابن يعيش ٣ / ٦٧ ، اللسان ١٧ / ١٧٧.


ملك الخورنق والسدير ودانه

ما بين حمير أهلها وأوال (١)

فأبدل" أهلها" من" حمير" وجعل" حمير" مكانا ، و" حمير" في الأصل للقبيلة ، ولكنهم لما سكنوا اليمن جعل" حمير" عبارة عن بلادها ، كأنه قال : ما بين أهل اليمن وأوال ، و" ودانه" في معنى أطاعه.

قال : (فأما قوله :

مشق الهواجر لحمهن مع السّرى

حتى ذهبن كلاكلا وصدورا) (٢)

نصب" كلاكل" و" صدور" عند سيبويه على الحال ، وجعل كلاكلا وصدورا في معنى ناحلات ، كما قال ذو الرمة :

فلم تبلغ ديار الحي حتى

طرحن سخالهن وإضن آلا (٣)

فجعل" الآل" بمعنى الناحلات ، وكان المبرد يقول : نصبها على التمييز ، لأن الكلاكل والصدور أسماء ليس فيها معنى الفعل.

قال : ومثل ذلك" ذهب زيد قدما" ، و" ذهب أخرا"

فجعل" قدما" في معنى متقدما ، و" أخرا" في معنى متأخرا ، والقدم والأخر اسمان ، ألا ترى قول الشاعر :

وعين لها حدرة بدرة

شقّت مآقيهما من أخر (٤)

وقال الشاعر :

طويل متلّ العنق أشرف كاهلا

أشقّ رحيب الجوف معتدل الجرم (٥)

فجعل كاهلا حالا في معنى عاليا ، والكاهل اسم أصل العنق ولكنه من أعاليه ، فجعله نائبا عن قولك عاليا وصاعدا قال : وكأنه قال" ذهب صعدا" في معنى صاعدا ، ومثله قوله ويقال : إنه للعمانّي الراجز :

إذا أكلت سمكا وفرضا

ذهبت طولا وذهبت عرضا

__________________

(١) سيبويه ١ / ٨١ ، واللسان (أول) ١٣ / ٤١ ونسبه إلى النابغة الجعدي.

(٢) ديوان جرير ٢٩٠ قصيدة يهجو بها الأخطل.

(٣) الخزانة ٤ / ٥٠ ، ديوان ذي الرمة ٤٣٩.

(٤) البيت لامريء القيس في ديوانه ١٦٦. الخزانة ٣ / ٢٣٨.

(٥) نسبه سيبويه إلى عمرو بن عمار النهدي ١ / ٨١.


فجعل طولا وعرضا في معنى ذاهبا في الطول وذاهبا في العرض ، وأبو العباس يجعل ذلك كلّه على التمييز.

وقوله : " ذهبت طولا وذهبت عرضا" خلاف الأبيات التي تقدمت ؛ لأن الطول والعرض مصدران ، والمصادر تستعمل أحوالا ، والأبيات التي تقدمت فيها أسماء جعلت أحوالا.

قال : " فإنما شبهه بهذا الضرب من المصادر" يعني شبه الاسم الذي جعله حالا بالمصدر.

وليس هو كقول الشاعر ، وهو عامر بن الطفيل :

فلأبغينكم قنا وعوارضا

ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد

لأن" قنا وعوارضا" مكانان ، وإنما يريد بقنا وعوارض قال أبو سعيد : حذف حرف الجر ، وشبهه بدخلت البيت ، والمعنى فلأطلبنكم بهذين المكانين ، وإنما ذكر هذه الأبيات التي جعل فيها الأسماء أحوالا ، ليريك أنها مخالفة لمطرنا السهل والجبل ، وأنها على معنى الحال.

هذا باب من اسم الفاعل

جرى مجرى الفعل المضارع في المفعول في المعنى فإذا أردت فيه من المعنى مثلما أردت في" يفعل" كان منونا نكرة ، وذلك قولك : هذا ضارب زيدا غدا.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا في باب من الاستفهام تعدي اسم الفاعل إلى المفعول ، وجريه على فعله ، وأحكمنا ذلك بما أغنى عن إعادته ، وذكرنا أيضا جواز حذف التنوين منه ، وإضافته تخفيفا ، وقد أنشد سيبويه أبياتا في التنوين والإعمال ، وفي حذف التنوين والجر ، وزعم أن المضاف لا يتعرف في هذا الباب بما يضاف إليه ؛ لأن التنوين هو الأصل ، وهو مقدر في المضاف.

قال سيبويه : (والأصل التنوين ، لأن هذا الموضع لا يقع فيه معرفة).

يعني أن أسماء الفاعلين المضافة إلى المعارف تقع في الموضع الذي لا يقع فيه معرفة نحو قوله :


سلّ الهموم بكلّ معطي رأسه (١)

ومررت برجل ضارب زيد ، فعلم أن الأصل التنوين.

قال : " ولو كان الأصل هاهنا ترك التنوين لما دخله التنوين".

يعني أن الأصل في اسم الفاعل التنوين ، والإضافة دخلت تخفيفا ، ولو كان الأصل الإضافة لما نوّنوا ؛ لأنهم لا يزيدون على التخفيف فيثقلونه ، ويخففون الثقيل ، ولو كان الأصل ترك التنوين والإضافة ، لما كان أيضا نكرة ؛ لأنه مضاف إلى معرفة.

قال : وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلا قليلا (٢)

فحذف التنوين لاجتماع الساكنين ، ولم يحذفه للإضافة ، ولو حذفه للإضافة لقال :

" ولا ذاكر الله إلا قليلا" وهو أجود ؛ لأن تحريك التنوين لالتقاء الساكنين أجود من حذفه ؛ إذ كان حرفا يحتمل التحريك ، والذي يحذفه يشبهه بحروف المد واللين.

قال : وتقول في هذا الباب : " هذا ضارب زيد وعمرو" على العطف والإشراك ، ويجوز" ضارب زيد وعمرا" على معنى ويضرب عمرا ؛ لأن ضاربا قد دل على يضرب ، فحمله على المعنى ، ثم احتج للحمل على المعنى بقول الشاعر :

جئني بمثل بني بدر لقومهم

أو مثل أسرة منظور بن سيّار (٣)

يريد أو هات مثل أسرة ؛ لأن جئني قد دل عليه.

وقال :

أعنّي بخوّار العنان تخاله

إذا راح يردي بالمدجّج أحردا

وأبيض مصقول السّطام مهنّدا

وذا حبك من نسج داود مسردا

فحمل نصب ما في البيت الثاني على المعنى كأنه قال : " أعطني أبيض مصقول السطام".

__________________

(١) نسبه سيبويه للمرار الأسدي وهذا صدر البيت وعجزه : ناج مخالط صهبة متعيس.

(٢) الخزانة ٤ / ٥٥٤ ـ المقتضب ١ / ١٩ ، ٢ / ٣١٣. ديوان أبي الأسود ١٢٣.

(٣) قائله جرير ، سيبويه ١ / ٤٨ ، ٨٦ ـ ديوان جرير ٣١٢ ـ المقتضب ٤ / ١٥٣.


وأراد بقوله : " تخاله أحردا" يعني تخال هذا الفرس أحردا من نشاطه ومرحه وخيلائه ، والأحرد الذي في يديه استرخاء.

قال : " والنصب في الأول أقوى".

يعني النصب في" هذا ضارب زيد وعمرا" أحسن وأقوى من النصب في قوله : " جئني بمثل بني بدر" أو" مثل أسرة" و" أعنّي بخوار العنان" و" أبيض مصقولا" ، وذلك أن" ضارب زيد" أصله" ضارب زيدا" ، و" جئني بمثل بني بدر" أصله الجر بسبب الباء ، فكان النصب فيما أصله النصب أقوى من النصب فيما أصله الجر ، وهو" جئني بمثل بني بدر" وهذا هو معنى قوله : " ولم يدخل الجر على ناصب ولا رافع".

يعني حرف الجر لم يكن ناصبا ولا رافعا كما كان اسم الفاعل قبل أن يضاف قال :

" وهو على ذلك عربي جيد".

وأنشد فيه أبياتا ثم بين أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي لا ينّون وينصب ما بعده به ، وقد بينا ذلك ، وأجاز في الفعل الماضي : (هذا ضارب عبد الله وزيدا على معنى وضرب زيدا ثم أنشد بيتا في الحمل على المعنى وهو :

يهدي الخميس نجادا في مطالعها

إمّا المصاع وإمّا ضربة رغب (١)

فحمل" ضربة رغب" على المعنى ، وذلك أن معنى قوله : إما المصاع ، أي : إما يماصع مصاعا ، أي يضارب ويقاتل.

ولو جعل مكان ذلك إما أمره مصاع لكان مستقيما ، نائبا عن ذلك المعنى ، فحمل" وإما ضربة رغب" على ذلك المعنى ، كأنه قال : وإما أمره ضربة رغب ، وهي الواسعة.

وقال :

فلم يجدا إلا مناخ مطية

جافى بها زور نبيل وكلكل (٢)

ومفحصها عنها الحصي بجرانها

ومثنى نواج لم يخنهنّ مفصل

وسمر ظماء وا ترتهنّ بعد ما

مضت هجعة من آخر الليل ذبّل

الشاهد في الأبيات : رفع" وسمر ظماء" ، وما قبلها منصوب بقوله : " فلم يجدا" كأنه

__________________

(١) سيبويه ١ / ٨٧ ، اللسان (مصع) ١٠ / ٢١٤.

(٢) الأبيات لكعب بن زهير ديوانه ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤.


قال : فلم يجدا في هذا المكان إلا مناخ مطية وإلا مفحص هذه المطية الحصي عنها بجرانها ، وكان ينبغي أن يقول : وإلا سمرا ظماء ذبلا ، وإنما يعني بالسمر الظماء الذبل بعر هذه المطية ، كأنه قال : وبها سمر" ظماء".

وقال آخر :

بادت وغيّر آيهنّ مع البلى

إلا رواكد جمرهن هباء (١)

ومشجّج أمّا سواء قذال

فبدا وغيّر ساره المعزاء

والشاهد في رفع" مشجّج" كالبيت الأول ، والمشجج الوتد يدقه في الأرض ، وقد بدا وسط رأسه وظهر ، " وغيّر ساره" يعني باقيه ، لمعزاء وهي الأرض ذات الحصى وقيل" سار" في معنى سائر ، كما يقال" هار" في معنى هائر : و" رواكد" يريد بها الأثافي ، واستثناها من آي الدار ، لأنها لم تبل ولم تغيّر فيما قد تغيّر.

قال : (والنصب في الفصل أقوى إذا قلت : " هذا ضارب زيد فيها وعمرا" ، وكلما طال الكلام كان أقوى).

يعني أن قولك : " هذا ضارب زيد فيها وعمرا" أجود من قولك : " هذا ضارب زيد وعمرا فيها" ، وإن كان الجر فيهما أجود من النصب ، وذلك أنك إذا قلت : " هذا ضارب زيد وعمرو" فالعامل في" عمرو" الجر هو العامل في" زيد" ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فحكمه أن يكون إلى جنبه ويتصل به ، فلما فصلت بينهما بغيرهما بعد من الجار ، فقوي النصب فيه بعض القوة.

وإذا قلت : " هذا ضارب زيد فيها وعمرو" ، فهو أحسن وأجود من قولك" هذا ضارب فيها زيد" ؛ لأن الأول في المسألة الأولى قد حصل فيه المجرور الذي صار معاقبا للتنوين قبل أن يأتي الفصل بينهما بفيها ، ولم يحصل في المسألة الثانية ، ولا تجوز المسألة الثانية إلّا في الشعر كقوله :

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل (٢)

__________________

(١) البيتين للشماخ وقيل لذي الرمة انظر سيبويه ١ / ٨٨ ، ملحق ديوان الشماخ ٢٤٧ ، أساس البلاغة ٢ / ٣٩٣.

(٢) نسبه سيبويه إلى أبي دحية النميري ١ / ٩١ ، الخصائص ٢ / ٤٠٥ المقتضب ٤ / ٣٧٧ ، العيني ٣ / ٤٧٠ ـ ابن الشجري ٢ / ٢٥٠.


قال : ومن ذلك قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً)(١).

يعني أنه فصل بين الليل وبين الشمس بسكنا فقوي النصب ، وإن كان" جاعل الليل والشمس والقمر" لكان الجر أقوى ، ويجوز أن يكون" جاعل" في معنى فعل ماض ، ويجوز أن يكون في معنى فعل مستقبل.

فإذا جعلته في معنى الفعل الماضي فتقديره" جعل" الليل ، ومعناه قدر الليل لهذا ، ونظيره : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ)(٢) وهو أظهر الوجهين ، وتنصب الشمس والقمر بإضمار فعل.

ومن جعله بمنزلة المستقبل فهو على تقدير" يجعل" ، وذلك لأنه فعل لم ينقطع ؛ لأن الليالي متصلة ، منها ما قد كان ، ومنها ما يكون ، فهو بمنزلة قولك" زيد يأكل" إذا كان في حال أكل قد تقضّى بعضه وبقي بعضه ، وكذلك" زيد يصلّي" إذا كان في صلاة تقضّى بعضها وبقي بعضها.

قال : وكذلك إن جئت باسم الفاعل الذي تعداه فعله إلى مفعولين ، وذلك قولك : " هذا معطي زيد درهما وعمرو" إذا لم تجره على الدرهم ، والنصب على ما نصب عليه ما قبله.

يعني أنك تجر" عمرا" إذا أجريته على زيد ، ولم تجره على الدرهم ، بأن تنصبه على إضمار فعل ، وذلك أن قولنا" هذا معطي زيد درهما" تنصب الدرهم فيه على إضمار فعل ؛ لأن" معطي" في معنى الفعل الماضي ، فكأنك قلت : أعطاه درهما ، فإذا نصبت عمرا فقد أجريته على الدرهم في إضمار فعل ينصب ، وقد ذكرنا أنه يجوز أن يكون اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي ينصب المفعول الثاني إذا أضيف إلى الاسم الذي يليه ؛ بالشبه الذي بين الفعل الماضي وبين الاسم الذي أوجب له البناء على الفتح ، وقولك : " هذا معطي زيد درهما وعمرا" أقوى في النصب من قولك : " هذا معطي زيد وعمرا" ؛ لفصل الدرهم بينهما.

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ٩٦.

(٢) سورة يونس ، آية : ٦٧.


قال : " فإذا لم ترد بالاسم الذي تعدى فعله إلى مفعولين أن يكون الفعل قد وقع ، أجريته مجرى الفاعل الذي تعدى فعله إلى مفعول في التنوين".

يعني أنك إذا قلت : " هذا معطي زيد درهما" وأردت الحال أو الاستقبال ، لم تلزم الإضافة ، وجاز التنوين والإضافة كما جاز في قولك : " هذا ضارب زيد" و" ضارب زيدا" إذا أردت الاستقبال أو الحال ، ولا تبالي أيّهما قدمت كما لم تبال أيهما قدمت في الفعل ، فقلت : " هذا معط زيدا درهما" و" معط درهما زيدا ، " كما تقول : " يعطي درهما زيدا" ، فإن لم تنون وأضفته إلى أحدهما ، لم يجز أن تفصل بينه وبين ما أضفته إليه ، ولا يجوز" هذا معطي درهما زيد ، ولا" هذا معطي زيدا درهم" ، لأنك لا تفصل بين الجار والمجرور ؛ لأن المجرور داخل في الاسم فإذا نوّنت انفصل كانفصاله في الفعل.

ولا يجوز أيضا هذا في الشعر عند سيبويه إلا في الظروف وإنما خصّ الظروف ؛ لأنه قد يفصل بها بين شيئين لا يجوز الفصل بينهما بغيرها ، كإنّ واسمها.

وقد أجازه قوم في الشعر ، وأنشدوا :

وزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبي مزاده (١)

أراد زجّ أبي مزادة القلوص ، وهذا غير معروف ولا مشهور ، وهذا بيت يروى لبعض المدنيين المولدين ، ولا يعرف مثله من حيث يصح.

هذا باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين

في اللفظ لا في المعنى

وذلك قولك : يا سارق الليلة أهل الدار.

قال أبو سعيد : أما قوله : هذا باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعدى فعله ، وليس للفعل فعل ، وإنما أراد مجرى الفعل الذي يتعدى في تصاريفه ، يعني في ماضيه واستقباله واسم الفاعل منه.

وقوله : " في اللفظ لا في المعنى" يعني أنك إذا قلت : يا سارق الليلة أهل الدار ، فهو بمنزلة قولك : " يا معطي زيد الدرهم" أضفته إلى أحد المفعولين ونصبت الآخر ؛ فلذلك

__________________

(١) هذا البيت من زيادات أبي الحسن الأخفش سعيد بن مسعده في حواشي كتاب سيبويه ابن يعيش ٣ / ١٩ ، الخزانة ٢ / ٢٥١ ، الخصائص ٤٠٦.


أضفت" سارق" وهو اسم فاعل إلى" الليلة" كما تضيف اسم الفاعل إلى أحد المفعولين وتنصب الآخر ، فهذا شبهه به في اللفظ.

وأما خلافه له في المعنى فلأن الليلة كانت ظرفا في الأصل ، وأهل الدار قد كان يتعدّى السّرق إليهم بحرف الجر ، وهو" من" ، فكان الأصل" سرقت في الليلة من أهل الدار" فحذفت" في" وجعلت الليلة مفعولة على السّعة وحذفت" من" فوصل الفعل إلى أهل الدار ، كما قال تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(١) أي من قومه ، فقلت بعد الحذف : " سرقت الليلة أهل الدار".

ثم أجريت اسم الفاعل على ذلك.

قال : (فتجرى الليلة على الفعل في سعة الكلام ، كما قالوا : صيد عليه يومان ، وولد له ستّون عاما).

يعني جرت الليلة مفعولة على السّعة ، وإن كان أصلها الظرف ، كما أقيم اليومان والستون عاما مقام الفاعل في" صيد عليه" وولد له ، وإن كان اليومان لم يصادا وإنما صيدا فيهما ، والستون لم تولد ، وإنما ولد للرجل أولاد فيها.

قال : (فإن نونت فقلت : " يا سارقا الليلة أهل الدار" كان حد الكلام أن يكون أهل الدار على سارق منصوبا وتكون الليلة ظرفا ؛ لأن هذا موضع انفصال).

يعني أنك إن لم تضف" سارق" إلى" الليلة" نونته وهو منادى فهو معرفة ، وإنما يجب تنوينه وهو مفرد معرفة ، لأنك قد أعملته فيما بعده. فلم يتم آخره فيبنى ، فصار بمنزلة المضاف والنكرة ، وإن كان القصد إلى واحد بعينه ، ومثله : " يا خيرا من زيد أقبل" تنصبه ، وإن كنت تقصده بعينه ، ولا تبنيه لأن" من زيد" تمام لخبر ، وتنصب الليلة بها على الظرف ، وأهل الدار نصب لوقوع السّرق عليهم ، وإن شئت نصبت الليلة ؛ لأنها مفعول بها على سعة الكلام.

قال : ولا يجوز" يا سارق الليلة أهل الدار" إلا في شعر كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور.

قال أبو سعيد : وإنما كرهوا ذلك لأن المجرور من تمام الجار ، لأنه يقوم مقام التنوين

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ١٥٥.


ويعاقبه ، ولا يفصل بين الاسم وتنوينه ؛ فكرهوا الفصل بين الجار والمجرور لذلك.

قال : " فإذا كان منوّنا فهو بمنزلة الفعل الناصب تكون الأسماء فيه منفصلة".

يعني إذا نونت فقد بطلت الإضافة وصار بمنزلة الفعل. إذ كان لا إضافة في الفعل ، وعمل عمله.

قال الشماخ :

ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل

فهذا وجه الإنشاد بنصب الزاد ، وإضافة طباخ إلى ساعات ، و" المشمعل" المنكمش السريع ، وقد روي : " طباخ ساعات الكرى زاد الكسل" ، وبإضافة طباخ إلى زاد وتكون" ساعات" في موضع نصب.

وللقائل أن يقول : إذا كان سيبويه قد منع الفصل بين الجار والمجرور إلا في شعر ، وما يجوز في الشعر لا يجوز في الكلام ، إنما يكون للضرورة ، ولا ضرورة في هذا ؛ إذ كان يمكنه أن ينصب" الزاد" ويضيف" طباخ". قيل له : يجوز أن يكون الشاعر لم يجعل" ساعات" مفعولا على السعة ، فيمكنه إضافة" طباخ" إليها ، وليس عليه أن يخرجها عن الظرف إلى المفعول على السعة ، فإذا جعلها ظرفا لم يجز إضافة" الطباخ" إليها ، فيضيفه إلى" الزاد" لا محالة اضطرارا.

وقال الأخطل :

وكرّار خلف المحجرين جواده

إذا لم يحام دون أنثى حليلها (١)

فهذا هو الوجه ، وقد أنشد بعضهم :

" وكرار خلف المحجرين جواده"

فهذا على مثل التفسير الذي مضى في البيت الذي قبله إذا قال : " طباخ ساعات الكرى زاد الكسل" وهو في" كرار خلف" أحسن ؛ لأن" خلف أقل تمكنا ؛ وأضعف من ساعات.

قال : " ومما جاء في الشعر ففصل بينه وبين المجرور قول عمرو بن قميئة :

لما رأت ساتيد ما استعبرت

لله درّ اليوم من لامها (٢)

فأضاف" درّ" إلى" من" ، و" من" في موضع جر ، ونصب" اليوم" على الظرف ، ولا

__________________

(١) ديوان الأخطل ٢٤٥. خزانة الأدب ٣ / ٤٧٤.

(٢) ديوان عمرو بن قميئة ٦٢ ، الخزانة ٢ / ٢٤٧ ، المقتضب ٤ / ٣٧٧.


يجوز في هذا البيت ما جاز فيما قبله من الإضافة إلى الظرف ونصب ما بعده ، فلا يجوز" لله درّ اليوم من لامها" ، كما جاز" وكرار خلف المحجرين جواده" وذلك أن" كرار" يجري على الفعل وتنصب ، فإذا أضفناه إلى الظرف نصبنا الذي بعده به ، وصارت الإضافة بمنزلة التنوين فيه ، ولا يجوز التنوين في" درّ" لأنك لا تقول : " لله درّ زيدا" ، كما تقول : " وكرار جواده" ، فوجب إضافة" درّ" إلى" من" اضطرارا ، وإذا وجبت إضافته إليه ، وجب نصب" اليوم" ، وقال أبو حيّة النّميري :

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل

وهذا كالبيت الذي قبله ، ولا يجوز" بكف يوم يهوديّا" ، والجر في هذا البيت والذي قبله اضطرارا ؛ لأنه لا يجوز فيه غير الفصل بين المضاف والمضاف إليه.

قال : " ومما جاء مفصولا بينه وبين المجرور قول الأعشى :

ولا نقاتل بالعص

يّ ولا نرامى بالحجاره

إلا علالة أو بدا

هة قارح نهد الجزاره (١)

فأضفت" علالة" إلى" قارح" وأسقطت التنوين من أجل الإضافة ، وفصلت بينها وبين" قارح"" بالبداهة" ، فهذا قول" سيبويه" ، وهو أجود من الذي مضى ، من الفصل بين المضاف والمضاف إليه ، وذلك أن هذين شيئان أضيفا إلى شيء واحد ، وأقحم أحدهما على الآخر ، وهما في معنى واحد ، يتناولان المضاف إليه تناولا واحدا ، ومثله يجوز في الكلام كقولك : " مررت بخير وأفضل من ثمّ".

وكان بعض أصحابنا يتأول في هذا غير هذا التأول ، فيقول : أسقط المضاف إليه من الأول اكتفاء بالثاني ، فكأنه قال : إلا علالة قارح أو بداهة قارح ، فحذف الأول اكتفاء بالثاني.

والذي قاله سيبويه أليق ، لأن الأشبه أن تحذف الثاني اكتفاء بالأول ، لأن الأول إذا ورد فحكمه أن يوفّى حقّه من اللفظ.

ثم أنشد أبياتا على منهاج الأول منها قول ذي الرّمّة :

كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (٢)

__________________

(١) ديوان الأعشى : ١٥٩ ، الخزانة ١ / ٨٣ ، الخصائص ٢ / ٤٠٧.

(٢) ديوان ذي الرمة ٧٦ ، الخزانة ٢ / ١١٩ ، الخصائص ٢ / ٤٠٤.


أراد : كأنّ أصوات أواخر الميس ، ومنها قول درنا بنت عبعبة ، من بني قيس بن ثعلبة :

هما أخوا في الحرب من لا أخا له

إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (١)

فأضاف" أخوا" إلى" من" ، وفرق بينهما بفي.

ومما يشبه قول الأعشى : " إلا علالة أو بداهة قارح" قول الفرزدق :

يا من رأى عارضا أكففه

بين ذراعي وجبهة الأسد (٢)

فأضاف" ذراعي" إلى" الأسد" وأقحم" الجبهة" ، وفيه التفسير الثاني الذي ذكرناه ، كأنه قال : بين ذراعي الأسد وجبهته ، ويروى :

يا من رأى عارضا أرقت له

قال : " أما قوله عزوجل : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٣) فإنما جاز لأنه ليس ل" ما" معنى سوى ما كان قبل أن تجيء إلا التوكيد ، فمن ثمّ جاز ذلك إذ لم ترد بها أكثر من هذا ، وكانا حرفين ، أحدهما في الآخر عامل ، ولو كان اسما أو ظرفا أو فعلا لم يجز".

يعني أنه إنما جاز الفصل بين الباء وبين" نقضهم"" بما" لأن" ما" لا تغيّر الكلام ، ولا تزيد فيه معنى لم يكن من قبل دخولها إلا التوكيد ، فلما كانت كذلك كان دخولها كخروجها ، ولو كان الفصل بين الجار والمجرور باسم أو ظرف أو فعل ، لم يجز على الشرائط التي تقدمت ، وقد اختلف النحويون فيما إذا كانت زائدة ، فبعضهم يجعلها اسما ، وبعضهم يجعلها حرفا ، وكلا القولين محتمل ، لأنا قد رأينا الأسماء والحروف قد تجيء مزيدة ، فأما الاسم فقولك : " كان زيد هو العاقل" ، وأما الحرف فقولك : " لمّا أن قام زيد" لأن المعنى فيهما كان زيد العاقل ، ولما قام زيد.

وقوله : " كانا حرفين أحدهما في الآخر عامل".

يعني بالحرفين الباء و" نقضهم" ولم يدخل بينهما شيء يعتد به.

قال : وأما قوله : " أدخل فوه الحجر" فهذا جرى على سعة الكلام والجيد أدخل

__________________

(١) الخصائص ١ / ٩٢ ، ٢ / ٤٠٥. العيني ٣ / ٤٧٢ ، ابن يعيش ٣ / ٢١.

(٢) الخزانة ١ / ٣٦٩ ـ الخصائص ٢ / ٤٠٦ ـ ديوان الفرزدق : ٢١٥.

(٣) سورة النساء ، آية : ١٥٥ ، المائدة ، آية : ١٣.


فاه الحجر كما قال : أدخلت في رأسي القلنسوة".

يعني أنه كان الوجه وحقيقة الكلام أن يقال : " أدخل فاه الحجر" ، وذلك أن الحجر والفم مفعولان ، أحدهما فاعل بالآخر ، والحجر هو الفاعل ، لأنه الداخل الفم ، فإذا رددناه إلى ما لم يسمّ فاعله أقيم الذي كان فاعلا في المعنى مقام الفاعل ، وهو الحجر ، كما قال : " أعطي زيد درهما" ، فإذا قلت : " أدخل فوه الحجر" فقد أقمت الفم مقام الفاعل ، وهو مفعول في المعنى.

قال : " فجرى هذا على سعة الكلام" ، إذ كان لا يشكل كما قيل : أدخلت في رأسي القلنسوة. والرأس هو الداخل فيها لأنها محيطة به.

قال : " وليس مثل اليوم والليلة ؛ لأنهما ظرفان ، فهو مخالف له في هذا ، موافق له في السعة".

يعني أن اليوم والليلة لا يقامان مقام الفاعل ؛ إذ كان معهما مفعول صحيح كما تقام القلنسوة والفم ، ولا يقال : " ضرب زيدا اليوم" ، ولا" سيرت الليلة زيدا" كما يقال : " أدخلت القلنسوة رأس زيد" فهذا باب اختلافهما.

وأما اتفاقهما في سعة الكلام ، فلأن الظرف قد يقام مقام الفاعل ، وقد يضاف اسم الفاعل إليه ، ويؤتى بالمفعول من بعده كقوله :

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل (١)

فجعل" الساعات" مفعولة على السعة ، فصارت هي والزاد مفعولين ، ثم قدمها على الزاد ، وجعلها كالمفعول الأول كما قدم القلنسوة على الرأس فجعلها كالمفعول الأول.

قال الشاعر : ـ

ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه

وسائره باد إلى الشمس أجمع (٢)

وكان الوجه أن يقول : مدخل رأسه الظّلّ ؛ وذلك لأن الرأس هو المفعول الأول.

قال : " فوجه الكلام فيه هذا ؛ كراهية الانفصال".

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) من الخمسين التي لم يعرف قائلها آمالي المرتضى ١ / ٢١٦ ـ سيبويه ١ / ٩٢ بولاق ، ١ / ١٨١ هارون.


يعني وجه الكلام في هذا البيت إضافة" مدخل" إلى الظل ؛ لأنك لو لم تفعل هذا فأضفته إلى الرأس لكنت قد فصلت بينهما بالظل ، فكأن إضافته إلى الظل على السعة أحسن من الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظل.

قال : " وإذا لم يكن في الجرّ فحدّ الكلام أن يكون الناصب مبدوءا به".

يعني إذا لم تضف فالوجه أن يكون المفعول الأول هو المبدوء به ؛ لأن المفعول الأول هو الفاعل في المعنى ، وهو الناصب للمفعول الثاني قبل أن يجعل مفعولا.

وهذا الكلام من سيبويه يوهم أنا إذا قلنا : " ضرب زيد عمرا" ، أن للفاعل تأثيرا في نصب المفعول ، وإنما سماه ناصبا يريد الفاعل في المعنى ، لأنهما حيث اجتمعا في الفعل قبل النقل ، وجعله فاعلا للفعل أوجب نصب الآخر ، كما قال الله تعالى : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ)(١) ولم يكن الشيطان المخرج وإنما كان سببا لإخراج الله إياهما.

[ويجوز أن يكون معنى قول سيبويه : " يكون الناصب مبدوءا به" يريد المنصوب ، ويكون لفظ الفاعل في موضع مفعول ، كما قيل (عِيشَةٍ راضِيَةٍ)(٢) في معنى" مرضيّة" أي ذات رضا].

(هذا باب صار فيه الفاعل بمنزلة الذي فعل في المعنى وما يعمل فيه).

وذلك قولك : " هذا الضارب زيدا" ، فصار في معنى هذا الذي ضرب زيدا ، وعمل عمله ؛ لأن الألف واللام منعتا الإضافة ، وصارتا بمنزلة التنوين ، وكذلك" هذا الضارب الرجل".

قال أبو سعيد : يعني أن الألف واللام قد صارتا بمنزلة الذي ، وصار اسم الفاعل المتصل به بمعنى الفعل.

فإن قال قائل : فأنتم قد منعتم أن يعمل اسم الفاعل إذا كان في معنى فعل ماض فكيف أجزتم نصب زيد في : " هذا الضارب زيدا" وهو في معنى فعل ماض؟

قيل له : إنما جاز هذا لأنا لما جعلنا الألف واللام بمعنى الذي ، ونوينا به نية" الذي" ، ووصلناها بما توصل به الذي وإن كانت الذي اسما ، والألف واللام حرفا ، جعلنا

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٦.

(٢) سورة الحاقة ، آية : ٢١.


اسم الفاعل المتصل بالألف واللام في مذهب الفعل ، وإن كان اسما.

ووجه ثان وهو أن الألف واللام لمّا لم يجز أن يليها لفظ الفعل ، اضطرنا ذلك إلى نقل اللفظ عن الفعل إلى الاسم ؛ ليتصل بالألف واللام ، فكأنّ الذي نقل لفظ الفعل إلى الاسم حكم أوجبته تسوية اللفظ فقط ، فبقي المعنى على حاله.

ووجه ثالث : وهو أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي كان حكمه أن يضاف إلى المفعول به ، كقولك : " هذا ضارب زيد" ، فلما دخلت الألف واللام فمنعت الإضافة واحتيج إلى ذكر المفعول للفائدة نصب.

وحكي عن الأخفش أنه قال : " هذا الضارب زيدا" إذا كان في معنى الفعل الماضي ، إنما ينصب كما ينصب" الحسن الوجه" وليس على نصب المفعول الصحيح ، والقول ما ذكرناه عن سيبويه للحجة التي ذكرناها.

فإن قال قائل : لم جعل سيبويه" الضارب" مفسرا بالذي ضرب ولم يفسّره بالذي يضرب؟

قيل له : من قبل أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي لا ينصب الاسم الذي بعده مع غير الألف واللام ، والذي في معنى المستقبل ينصب ، فإذا ذكر نصب اسم الفاعل مع الألف واللام ، في معنى الفعل الماضي ، لم يقع شك في أن المستقبل يعمل ذلك العمل ؛ لأن المستقبل أقوى عملا من الماضي ؛ ولو فسره بالمستقبل جاز أن يقول قائل : إن الماضي لا يعمل ذلك العمل. قال : " وقد قال قوم من العرب ترضى عربيّتهم : " هذا الضارب الرجل" شبّهوه بالحسن الوجه ، وإن كان ليس مثله في المعنى ولا في أحواله".

قال أبو سعيد : قد بينا أن اسم الفاعل يجوز أن يضاف إلى المفعول ، فيما ليس فيه الألف واللام ، ويجوز أن ينصب به ما بعده ، كقولنا" هذا ضارب زيد" و" ضارب زيدا" ، فإذا أدخلنا الألف واللام وجب النصب عند" سيبويه" ، ولم يجز عنده الإضافة ، وذلك أن الإضافة هي" معاقبة" للتنوين في قولك" هذا ضارب زيدا" ؛ لأنه سقط بالإضافة التنوين الذي كان في قولك" ضارب زيدا" فإذا قلت : " هذا الضارب زيدا" لم يجز إضافة الضارب إلى زيد ؛ لأنا لا نقدر على حذف شيء بالإضافة ، فتكون الإضافة معاقبة له ، فلم يجز" هذا الضارب زيد" لذلك.

فإذا قلت : " هذا الضارب الرجل" وما كان فيه الألف واللام من المفعولات جاز


جره ، وإن كان القياس النصب لما ذكرنا ، وإنما جاز الجر تشبيها بالحسن الوجه إذا كان في الوجه الألف واللام ، وإن لم يكن فيه ألف ولام لم يجز ، لأنك لا تقول : " مررت بالحسن وجه" ، كما تقول : " مررت بالحسن الوجه" بالألف واللام وهذا يحكم في بابه.

وقد أجاز سيبويه" هذا الضارب الرجل وزيد" و" هذا الضارب الرجل زيد" على عطف البيان ، وإنما جاز في الاسم الثاني الجر ، وإن لم يكن فيه ألف ولام ؛ لأنه تابع للاسم الذي قبله ، ولم يل اسم الفاعل ، وقد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع ، ألا ترى أنك تقول : " يأيها الرجل ذو الجمّة" فتجعل" ذو الجمّة" نعتا للرجل ولا يجوز أن يقع موقعه ، وتقول : " يا زيد والرجل" ، ولا يجوز أن يقع موقع الأول ؛ لأنك لا تقول : يأيها ذو الجمّة ، " يا الرجل" وأنشد في ذلك قول المرّار الأسديّ : (١)

أنا ابن التارك البكريّ بشر

عليه الطير ترقبه وقوعا (٢)

فجعل" بشرا" عطف بيان من" البكري" ، وأجراه عليه ولا يصح أن يكون بدلا ، لأن البدل يقع موقع المبدل منه وكان أبو العباس المبرد لا يجيز الجر في الاسم الثاني عطفا كان أو بدلا ، أو عطف بيان.

وينشد البيت نصبا :

أنا ابن التارك البكريّ بشرا

والقول ما ذكرناه عن سيبويه ؛ للقياس الذي بيناه ولإنشاد العرب والنحويين البيت بالجر ، والفراء يجيز" هذا الضارب زيد"" وهذا الضارب رجل" ، ويزعم أن تأويله : هذا الذي هو ضارب زيد ، وضارب رجل ، فيلزمه" هذا الحسن وجه" ، على تقدير هذا الذي هو حسن وجه ، و" هذا الغلام زيد" على تقدير هذا الذي هو غلام زيد ، لأنه قدّر دخول الألف واللام على الاسم ، ولم ينقل الفعل عن لفظه لدخولها وصيّر ما بعد الألف واللام معها على حكاية لفظ" الذي" وهذا قول فاسد ، وأنشد سيبويه في العطف قول الأعشى :

__________________

(١) هو المراد بن سعيد الأسدي أو الفقعسي فينسب تارة إلى أسد بن خزيمة وهو جده الأعلى وتارة إلى فقعس الخزانة ٢ / ١٩٣.

(٢) الخزانة ٢ / ١٩٣ ـ العيني ٤ / ١٢١ ـ ابن يعيش ٣ / ٧٢.


الواهب المائة الهجان وعبدها

عودا تزجّى خلفها أطفالها (١)

فعطف" عبدها" على المائة الهجان ، وقال بعض المخالفين له : ليس له في هذا البيت حجة ، وإن كان" عبدها" مجرورا ؛ وذلك أنه لا خلاف أن المضاف إلى الألف واللام في هذا الباب بمنزلة ما فيه الألف واللام ، وأن قولنا : " هذا الضارب غلام الرجل" بمنزلة قولنا : " هذا الضارب الرجل" ، كما أن قولنا : " هذا الحسن وجه الأخ" بمنزلة قولنا" هذا الحسن الوجه" فلما قال : " الواهب المائة الهجان" جاز ذلك بإجماع ؛ لأن المائة فيها الألف واللام ، والهاء في" عبدها" تعود إلى المائة فصار العبد كمضاف إلى ما فيه الألف واللام ، فكأنه قال : الواهب المائة وعبد المائة ، وهذا جائز بلا خلاف ، وإنما احتج سيبويه بهذا بعد أن صح عنده بالقياس الذي ذكرناه ، جواز الجر في الاسم المعطوف ، وأنشد البيت ليرى من المثال في الاسم المعطوف ، لأنه لا حجة له في غيره.

قال سيبويه : وإذا ثنّيت أو جمعت فأثبتّ النون قلت : هذان الضاربان زيدا ، وهؤلاء الضاربون الرجل ، لا يكون فيه غير هذا ؛ لأن النون ثابتة ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ)(٢).

فهذا بيّن وقال ابن مقبل : (٣)

يا عين بكّي حنيفا رأس حيّهم

الكاسرين القنا في عورة الدّبر (٤)

" فالقنا" في موضع نصب ، و" حنيف" قبيلة ، والعورة الموضع الذي يبقى فيه العدو ، ولا يكون بينهم حاجز ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ)(٥) أي ممكنة للعدو وليس بينها وبينه حائل ، و" عورة الدبر" ما تبقى من خلف فهؤلاء يقاتلون إذا أدبر غيرهم وولى.

قال : " فإذا كففت النون جررت ، وصار الاسم داخلا في الجار ، وبدلا من النون ، لأن النون لا تعاقب الألف واللام ، ولم تدخل على الاسم بعد أن ثبتت فيه الألف

__________________

(١) الخزانة ٢ / ١٨١ ـ ديوان الأعشى ٢٩ ـ الهمع ٢ / ٤٨.

(٢) سورة النساء ، آية : ١٦٢.

(٣) هو تميم بن أبيّ بن مقبل من بني عجلان شاعر جاهلي أدرك الإسلام وأسلم عاش أكثر من مائة سنة خزانة الأدب ١ / ١١٣ الأعلام ٢ / ٧٠.

(٤) ديوان ابن مقبل ٨٢.

(٥) سورة الأحزاب ، آية : ١٣.


واللام. لأنه لا يكون واحدا معروفا ثم يثنى ، فالتنوين قبل الألف واللام ؛ لأن المعرفة بعد النكرة".

يعني أنك إذا قلت : " هذان الضاربا زيد" جررت ، وجعلت زيدا مكان النون ، والفرق بين التثنية والواحد في الإضافة أن المثنى إذا أضفته أسقطت النون للإضافة ، فجازت الإضافة فيه كما جازت في المثنى الذي ليس فيه ألف ولام ، إذا قلت : " هذان ضاربا زيد" ؛ لأنك تسقط النون للإضافة فيهما جميعا ، وإذا قلت : " هذا الضارب زيد" لم يجز ؛ لأنه ليس في" الضارب" تنوين ولا نون تسقطها بسبب الإضافة.

وقوله : " لأن النون لا تعاقب الألف واللام".

يعني أن النون توجد مع الألف واللام ، فجازت الإضافة بإسقاطها مع الألف واللام ، وكانت مخالفة للتنوين ، إذ كان لا يوجد مع الألف واللام.

وقوله : " لأنه لا يكون واحدا معروفا ثم يثنّى"

يعني أن التثنية لحقت المنكور ، ودخلت عليه ، وكان المنكور منونا ، فجعلت النون في التثنية عوضا من الحركة والتنوين ، ثم دخلت الألف واللام على المثنى الذي قد ثبت فيه النون ، فلم تحذف لقوتها ، وقد ذكرنا هذا مستقصى في أول الكتاب.

وإنما لم يبن الواحد المعروف ، لأن الواحد المعروف إنما يدل على شيء بعينه ، فإذا ضممنا إليه مثله فقد أخرجنا كل واحد منهما أن يدل على شيء بعينه لمشاركة الآخر له ، وإنما أراد أن يبين بهذا أن النون لم تدخل على ما فيه الألف واللام لأن النون عنده عوض من التنوين والحركة ، وما فيه الألف واللام ليس فيه تنوين ، وإنما يثنّى الاسم قبل دخول الألف واللام وكانت النون عوضا من الألف واللام ، ثم ثنّيت بعد دخول الألف واللام ؛ لما ذكرنا.

قال : " فالنون مكفوفة ، والمعنى معنى ثبات النون كما جاز ذلك في الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع ، وذلك قولك : " هما الضاربا زيد" و" الضاربو عمرو".

يعني أن النون في قولنا : " هما الضاربا زيد" مرادة ولو لا ذلك لم تجز إضافة ما فيه الألف واللام إلى زيد ، لأن الإضافة توجب التعريف ، وما فيه الألف واللام قد تعرف بهما ، كما تعرف" غلاما زيد" بزيد ، ولا يجوز أن تقول : " الغلاما زيد" فلولا أن التقدير : هما الضاربان زيدا ، لم تجز الإضافة ، وهذا نظير اسم الفاعل الذي جرى مجرى الفعل


المضارع ، في أن الإضافة لا تخرجه عن نية التنوين ، إذا قلت : " مررت برجل ضارب زيد" فهو مضاف في اللفظ ، والنية فيه التنوين.

قال الفرزدق :

أسيّد ذو خرّيطة نهارا

من المتلقّطي قرد القمام (١)

أضاف" المتلقطي" إلى" قرد القمام" ، و" أسيّد" تصغير أسود ، و" قرد القمام" ما تراكب من القمامة ، وقال رجل من بني ضبّة :

الفارجي باب الأمير المبهم

وقال رجل من الأنصار :

الحافظو عورة العشيرة لا

يأتيهم من ورائهم نطف (٢)

ويروى : " وكف" ويروى" الحافظو عورة العشيرة" فمن قال : " الحافظو عورة العشيرة" فعلى ما ذكرنا ، وإذا قال : " الحافظو عورة العشيرة" فلم يرد الإضافة ، وحذف النون اختصارا واستخفافا ، لمّا كانت الألف واللام بمعنى الذي واللذين وهذه الأسماء موصولة ، تكون هي وصلاتها كالاسم الواحد ، فحذفوا منها لطولها ، فقالوا في : " الذي" : " اللّذ" بحذف الياء وكسر الذال قال الشاعر :

واللذ لو شاء لكانت برّا

أو جبلا أصمّ مشمخرّا (٣)

ومنهم من قال : " اللّذ" بحذف الياء وإسكان الذال قال الشاعر :

كاللذ تزبّى زبية فاصطيدا (٤)

وقال في" الّذي" : " الذيّ" ، وليس يدخل فيما قصدناه ، ولكنا لم نحب أن نغفله ؛ ليكون مضافا إلى نظائره من اللغات قال الشاعر :

وليس المال فاعلمه بمال

وإن أنفقت إلّا للّذيّ

ينال به العلاء ويصطفيه

لأقرب أقربيه وللقصيّ (٥)

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٨٣٥.

(٢) اختلف في نسبة هذا البيت فقيل قائله : قيس بن الخطيم ديوانه ١٧٢ ، وقيل عمرو بن امرئ القيس الخزرجي الخزانة ٢ / ١٨٩.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) هذا عجز بيت صدره في الإنصاف ٣٩٣ (فظلت في شرّ من اللذ كيدا).

(٥) اللسان (زبي) ٢٠ / ١١١.


وكذلك" اللذان" يقال فيهما : " اللّذا" تخفيفا واختصارا ؛ لطول الاسم مع الصلة.

قال الأخطل :

أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا

سلبا الملوك وفكّكا الأغلالا (١)

وقال الأشهب ابن رميلة (٢) :

وإن الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (٣)

أراد" إن الذين" ، والدليل على ذلك قوله : " دماؤهم" ، فجعل العائد جمعا ، فلما جاز في" الذي واللّذين والّذين" من الحذف والتخفيف ما ذكرنا من غير إضافة ، جاز في الألف واللام التي في معناها حذف النون من غير إضافة.

" والنطف والنكف" جميعا الدنس والعار ، وما يعاب به فاعلمه.

قال : وإذا قلت : " هم الضاربوك" و" هما الضارباك" فالوجه فيه الجرّ ؛ لأنك إذا كففت النون من هذه الأسماء في المظهر كان الوجه الجر ، إلا في قول من قال : " الحافظو عورة العشيرة".

قال أبو سعيد اعلم أن سيبويه يعتبر المضمر بالمظهر في هذا الباب فيقول : الكاف في الضاربوك والضارباك في موضع جر ؛ لأنك لو قلت : " الضاربو زيد" جررت ، وهذا هو الاختيار.

ويجوز أن يكون في موضع نصب لأنك تقول : " الضاربو زيدا" على من قال : " الحافظو عورة العشيرة" وإذا قلت : " هم ضاربوك" فالكاف في موضع جر لا غير ؛ لأنك تقول : " هم ضاربو زيد" لا غير.

وكان" الأخفش" يجعل الكاف في موضع نصب على كل حال ، وحجته في ذلك

__________________

(١) ديون الأخطل ٤٤ ـ الخزانة ٢ / ٤٩٩.

(٢) هو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة بن عبد المدان النهشلي الدارمي التميمي شاعر نجدي ولد في الجاهلية وأسلم ولم يجتمع بالنبي وعاش إلى العصر الأموي ونسبته إلى أمه رميلة وكانت أمة.

الخزانة ٢ / ٥٠٩ ـ السمط ٣٥ ـ ابن سلام ٢٥.

(٣) قال السيوطي : عزا هذا البيت صاحب الحماسة البصرية والآمدي للأشهب ابن زميلة بضم الزاء المعجمة وقيل الراء وهي أمه وأبوه ثور بن أبي حارثة يكنى أبا ثور الجمعي. الخزانة ٢ / ٥٠٧ ـ المقتضب ٤ / ١٤٦ ـ الدرر ١ / ٢٤.


أن اتصال الكناية قد عاقبت النون والتنوين ألا ترى أنك لا تقول : " هو ضاربنك" ولا : " هما ضاربانك" ولا" هم ضاربونك" كما تقول : هو" ضارب زيدا" و" هما ضاربان زيدا" ، فلما امتنع التنوين والنون لاتصال الكناية ، صار بمنزلة ما لا ينصرف من الأسماء ، ويعمل من غير تنوين ، كقولك للنساء : " هؤلاء ضوارب زيدا" ، والذي جمع بينهما أن التنوين حذف من" ضوارب" ؛ لمنع الصرف ، لا للإضافة ، وحذف من" ضاربك" لاتصال الكناية ، لا للإضافة ، وقد حكى بعضهم جواز" ضاربنك" و" ضاربني" في الشعر ، وأنشدوا أبياتا لا تصح منها قوله :

وليس حاملني إلا ابن حمّال (١)

والرواية الصحيحة" وليس يحملني" وأنشد بعضهم ـ وزعم سيبويه أنه مصنوع ـ :

هم القائلون الخير والآمرونه

إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما (٢)

وقال الآخر :

ولم يرتفق والناس محتضرونه

جميعا وأيدي المعتفين رواهقه

فوصل الكناية في" آمرونه" و" محتضرونه" بالنون ، والوجه أن يقول : " آمروه" و" محتضروه" ، فزعم سيبويه أن هذا من ضرورة الشعر ، وجعل الهاء كناية.

وقد روي عن بعض القراء : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ) ـ ذهب إلى" مطلعونني" ـ فأثبت نون الجمع مع اتصال الكناية ، والكناية هي النون الثانية وياء المتكلم ، وحذف إحدى النونين لاجتماعهما ، وأسقط الياء لدلالة الكسرة عليها.

وأما" الآمرونه" و" محتضرونه" فذكر أبو العباس : أن هذه الهاء هي هاء السكت ، وكان حكمها أن تسقط في الوصل ، فاضطر الشاعر أن يجريها في الوصل مجراها في الوقف ، وحركها ؛ لأنها لما ثبتت في الوصل أشبهت الحروف التي حكمها أن تثبت في

__________________

(١) عجز بيت وصدره" ألا فتى من بني ذبيان يحملني" وقائله أبو محلم السعدي الإنصاف ٨٢ ـ الخزانة ٢ / ١٨٥.

(٢) قال البغدادي في الخزانة : (وهذا البيت أيضا مصنوع) الخزانة ٢ / ١٨٨.


الوصل كهاء الكناية إذا قلت" غلامه" وما أشبه ذلك ؛ وأما القراءة في" مطلعون" فهي شاذة رديئة في القياس.

فإن قال قائل : وما السبب الذي أوجب سقوط التنوين والنون مع اتصال الكناية؟ قيل له : سبب ذلك أن علامة المضمر غير منفصلة من الاسم الذي اتصلت به ، ولا ينطق بها وحدها ، وهي زائدة في الاسم ، والتنوين والنون زائدان أيضا ، والكناية تقع في آخر الاسم كالنون والتنوين فتعاقبتا ؛ كراهة أن يجتمع في آخر الاسم هاتان الزيادتان ، فاكتفى بإحداهما عن الأخرى لمّا صارتا كشيئين من جنس واحد.

وهذا الفصل قد اشتمل على تفسير كلام سيبويه الذي لم يذكره من هذا الباب في هذا المعنى.

هذا باب من المصادر جرى مجرى الفعل

المضارع في عمله ومعناه

وذلك قولك : " عجبت من ضرب زيدا بكر ومن ضرب زيد عمرا" إذا كان هو الفاعل.

قال أبو سعيد : قد قدمنا أن المصادر تعمل عمل الأفعال المأخوذة منها ، إذا نوّنت ، أو دخلتها الألف واللام ، بما أغنى عن إعادته.

وتقدير المصدر إذا كان كذلك تقدير" أن" ، وما بعدها من الفعل ، واعلم أن المصدر متى كان عاملا ، فتقديره تقدير (أن) وما بعدها من الفعل ، وإذا كان مؤكّدا لفعله ، أو عاملا فيه الفعل ، الذي أخذ منه على وجه من الوجوه ، لم يجز أن يقدّر بأن ، وذلك قولك : " ضربت زيدا ضربا" و" ضربت زيدا الضرب الشديد" ، لا يقدّر بأن ، لأنك لا تقول : " ضربت زيدا أن أضرب" ، ولو قلت : " أنكرت ضربك زيدا" لكان في معنى" أن" ، لأنك تقول : أنكرت أن تضرب زيدا ، وأنكرت أن ضربت زيدا ، والعامل فيه غير الفعل المأخوذ منه.

أما قولك آمرا : " ضربا زيدا" و" الضرب زيدا" فكثير من النحويين يتسعون فيه فيقولون : العامل في" زيد" المصدر ، والحقيقة في ذلك غير ما قالوه اتساعا ، وإنما العامل في زيد الفعل الذي نصب المصدر ، وتقديره : " اضرب ضربا زيدا" ، فالعامل في" ضرب" وفي" زيد" جميعا الفعل ولكن هذا المصدر صار بدلا من اللفظ بفعل الأمر فاتسعوا أن يقولوا :


إنه العامل في الاسم ، لما كان خلفا من العامل.

ويجوز إضافة المصدر إلى الفاعل إن شئت ، وإلى المفعول ؛ لتعلقه بكل واحد منها ؛ فتعلقه بالفاعل وقوعه منه ، وتعلقه بالمفعول وقوعه به ، فإلى أيهما أضفته جررته ، وأجريت ما بعده على حكمه ، إن كان فاعلا فمرفوع وإن كان مفعولا فمنصوب ، كقولك : عجبت من دقّ الثوب القصار" إذا أضفت إلى المفعول ، و" من دقّ القصار الثوب" إن أضفت إلى الفاعل ، وإنما جاز أن تأتي بعد المصدر بالفاعل والمفعول ، ولم يجز أن تأتي بعد اسم الفاعل إلا بالمفعول ؛ من قبل أن المصدر غير الفاعل وغير المفعول. فلا يستغنى بذكره عن ذكرهما ، واسم الفاعل هو الفاعل ، فلا يحتاج إلى ذكر الفاعل بعده ، ولا يجوز إضافته إلى الفاعل ، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه.

ومعنى قول سيبويه : " وإنما خالف هذا الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع".

يعني : خالف المصدر الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع وهو اسم الفاعل ؛ من أجل ما ذكرنا وهو أن المصدر ليس بفاعل ولا مفعول.

قال : فمما جاء من هذا قوله عزوجل : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ)(١) فالتقدير فيه : أو أن تطعموا ، فحذف الفاعل ، ولو أظهر لقال أو إطعام أنتم.

ويجوز عندي ألّا يقدر فاعل وينصب بالمصدر نفسه ، كما نصب التمييز في قولك : " عشرون درهما" ، و" ما في السماء موضع راحة سحابا" من غير أن يقدّر فاعل.

فإن قال قائل : فإذا نصبت" يتيما" ولم تقدر فاعلا في" إطعام" وشبّهته" بعشرين" ؛ فقد جعلته تمييزا فلا يجوز أن تنصب إلا نكرة ، ولا يقال" أو إطعام زيدا" ، قيل له : نحن وإن نصبناه من غير أن نقدر فاعلا ، فإنما ننصبه تشبيها بالفعل الذي ينصب المفعول ، فلا يلزم أن يكون مثل الفعل في جميع أحواله ، ألا ترى أنا نقول : " أو إطعام زيد عمرا" فننصب" عمرا" بإطعام ، ونقيم" زيدا" منه مقام التنوين وهو مجرور ، ولا نقدر فاعلا غير" زيد" ، فقد حصل في المصدر بطلان لفظ الفاعل الذي هو مرفوع من الفعل لا محالة ، ولم يكن المصدر في هذه الحال بمنزلة الفعل ، فكذلك ما ذكرناه.

__________________

(١) سورة البلد ، آية : ١٤ ، ١٥.


قال الشاعر في إعمال المصدر :

فلولا رجاء النّصر منك ورهبة

عقابك قد صاروا لنا كالموارد (١)

فعدى" رهبة" إلى" عقابك" وقال آخر :

أخذت بسجلهم فنفحت فيه

محافظة لهنّ إخا الذّمام (٢)

فنصب" إخا الذمام" بمحافظة ، وقال :

بضرب بالسيوف رؤوس قوم

أزلنا هامهنّ عن المقيل (٣)

نصب" الرؤوس"" بضرب"

ومما جاء من المصادر غير منوّن قول لبيد :

عهدي بها الحيّ الجميع وفيهم

قبل التّفرّق ميسر وندام (٤)

أضاف عهدي إلى الياء ؛ ونصب" الحيّ" به ، والياء في معنى الفاعل ، و" عهدي" في موضع ابتداء ، والخبر قوله : " وفيهم" ؛ لأن الواو تكون حالا والحال يكون خبرا للمصدر ، كقولك : " قيامك ضاحكا" ، و" قيامك وأبوك يضحك" كما تقول : " مررت بزيد ضاحكا" و" مررت بزيد وأبوه يضحك".

قال : ومنه قولهم : " سمع أذني زيدا يقول ذاك" فأضاف السمع إلى الأذن. و" يقول" حال يسد مسد الخبر ، كأنه قال : سمع أذني زيدا قائلا ذاك.

وهذا كلام على المجاز ، لأن زيدا لا يسمع ؛ إنما يسمع كلامه ، ولكنه أراد سمع أذني كلام زيد ، فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، وقال رؤبة :

ورأي عينيّ الفتى أخاكا

يعطي الجزيل فعليك ذاكا (٥)

" فرأي عينيّ" ابتداء ، و" يعطي" حال يسد مسدّ الخبر.

قال : وتقول عجبت من ضرب زيد وعمرو ، إذا أشركت بينهما ، كما فعلت

__________________

(١) سيبويه ١ / ٩٧ (بولاق) ـ ١ / ١٨٩ (هارون) ابن يعيش ١ / ٦١.

(٢) سيبويه ١ / ٩٧ بولاق ـ ١ / ١٨٩ هارون.

(٣) البيت للمرار بن منقذ التميمي (العيني ٣ / ٤٩٩) ابن يعيش ٦ / ٦١.

(٤) سيبويه ١ / ٩٨ (بولاق) ديوان لبيد ٢٨٨ ، ابن يعيش ٦ / ٦٢ ورواية الديوان" عهدي بها الإنس الجميع".

(٥) سيبويه ١ / ٩٨ بولاق ، الخزانة ٢ / ٤٤١. ملحقات ديوان رؤبة ١٨١.


ذلك في الفاعل ، ومن قال : " هذا ضارب زيد وعمرا" قال : " عجبت له من ضرب زيد وعمرا" كأنه أضمر" ويضرب عمرا" أو" وضرب عمرا".

يعني أن قولك : " عجبت من ضرب زيد وعمرو" هو الوجه ، ويجوز" عمرا" ، وهو بمنزلة قولك : " هذا ضارب زيد وعمرو" و" ضارب زيد وعمرا" وصار الجر أجود ؛ لمشاكلة اللفظيين ، واتفاق المعنيين ، وإذا نصبته كان المنصوب مردودا على الأول في معناه ، وليس بمشاكل له في لفظه ، فإذا حصل اتفاق اللفظ والمعنى كان أجود.

وقوله : كأنه أضمر" ويضرب" أو" ضرب"

يعني أنك تردّ" عمرا" على المعنى ، فإذا رددته على المعنى فلا بد من تقدير شيء ينصبه ، إذ ليس في اللفظ ناصب ، قال الراجز :

قد كنت داينت بها حسّانا

مخافة الإفلاس واللّيانا (١)

يحسن بيع الأصل والقيانا

فنصب" القيان" على المعنى ، وأما نصب" الليان" فيجوز أن يكون من هذا الوجه ، كأنه قال : وخاف الليان ، ويجوز أن يكون مخافة الإفلاس ، ومخافة الليان ، فحذف المخافة ، وأقام" الليان" مقامها ، ويجوز أن يكون على" المفعول له" كأنه قال : ولليان فحذف اللام ونصب كما تقول : " جئتك ابتغاء الخير" أي لابتغاء الخير.

قال : وتقول : " عجبت من الضرب زيدا كما تقول : عجبت من الضارب زيدا.

فيكون الألف واللام بمنزلة التنوين ، قال الشاعر :

ضعيف النّكاية أعداءه

يخال الفرار يراخي الأجل (٢)

فنصب" أعداءه" بالنكاية كأنه قال : نكاية أعداءه.

وقال المرّار :

لقد علمت أولى المغيرة أنني

لحقت فلم أنكل عن الضّرب مسمعا (٣)

__________________

(١) ينسب البيت لرؤبة بن العجاج وقيل قائل زياد الغنبري انظر سيبويه ١ / ٩٨ بولاق ـ ١ / ١٩١ هارون وملحقات ديوان رؤبة ١٨٧.

(٢) الخزانة ٣ / ٤٣٩ والعيني ٣ / ٥٠٠ وابن يعيش ٦ / ٦٤ وهو من الأبيات التي لا يعرف قائلها.

(٣) نسبه سيبويه إلى المرار الأسدي ونسبه بعضهم إلى مالك بن زغبة الباهلي من شعراء الجاهلية


فنصب" مسمعا" بالضرب ، ويجوز أن يكون منصوبا" بلحقت" كأنه قال : لحقت مسمعا ، فلم أنكل عن الضرب.

وكان بعض البصريين المتأخرين لا ينصب بالمصدر إذا كان فيه الألف واللام ، فإذا ورد شيء منصوب بالمصدر الذي فيه الألف واللام أضمر بعده مصدرا ليس فيه ألف ولام ، فيقدر ضعيف النكاية نكاية أعداءه. وعن الضرب ضرب مسمعا ، وإنما دعاه إلى هذا أن المصدر إنما يعمل بمضارعة الفعل ، والفعل لا يكون إلا منكورا.

قال ومن قال : " هذا الضارب الرجل" لا يقول عجبت من الضرب الرجل ، لأن" الضارب الرجل" مشبه" بالحسن الوجه" لأنه وصف للاسم كما أن" الحسن" وصف ، وليس هو بحد الكلام مع ذلك".

يعني أن قولك : " الضارب الرجل" ليس بحد الكلام وإنما هو مشبه بالحسن الوجه ؛ لاتفاقهما أنهما وصفان.

قال : وتقول : " عجبت من ضرب اليوم زيدا" كما قال : يا سارق الليلة أهل الدّار (١).

يعني أن الوجه إضافة المصدر إلى ما بعده ظرفا كان أو اسما ، على أن يجعل الظرف مفعولا على السعة ، وليس ذلك بمنزلة قوله :

لله درّ اليوم من لامها (٢)

لأن" درّ" ليس بمصدر يعمل الفعل ، ولا تقول : " لله درّ اليوم من لامها" ، كما قلت : " عجبت من ضرب اليوم زيدا" ؛ لأن" درّ" لا ينصب ولا ينوّن ، ولا يجوز أن تقول : " لله درّ زيدا" فإذا احتاج الشاعر إلى مثل : " عجبت من ضرب اليوم زيدا" كان الأجود أن يخفض اليوم وينصب زيدا ، ويجوز نصب" اليوم" وخفض" زيد" على ما تقدم القول فيه ، وإذا احتاج إلى مثل : " لله درّ اليوم زيدا" لم يجز له خفض اليوم ، ونصب زيد.

قال : لأنهم لم يجعلوا" درّ" فعلا ، ولم يجعلوه فعل في اليوم شيئا ، إنما هو

__________________

الخزانة ٣ / ٤٣٩ ـ العيني ٣ / ٥٠١ ـ ابن يعش ٦ / ٦٤.

(١) الخزانة ١ / ٤٨٥ ـ ابن الشجري ٢ / ٢٥٠ / ابن يعش ٢ / ٤٥.

(٢) سبق تخريجه.


بمنزلة قولك : لله بلادك ، وتقول : " عجبت له من ضرب أخيه" يكون المصدر مضافا فعل أو لم يفعل ، ويكون منوّنا ، وليس بمنزلة" ضارب".

يعني أن المصدر إذا نونته عمل فيما بعده ، سواء أكان من فعل ماض أم مستقبل ، كقولك : " عجبت من ضرب زيد عمرا أمس".

ولا يجوز إعمال اسم الفاعل إذا كان مأخوذا من فعل ماض ، وقد تقدم القول في الفرق بين هذين.

هذا باب الصفة المشبهة

بالفاعل فيما عملت فيه ، ولم تقو أن تعمل عمل الفاعل ؛ لأنها ليست في معنى الفعل المضارع ، فإنما شبّهت بالفاعل فيما عملت فيه ، وما تعمل فيه معلوم ، إنما تعمل فيما كان من سببها معرّفا بالألف واللام أو نكرة لا تجاوز هذا لأنه ليس بفعل ، ولا اسم هو في معناه.

قال أبو سعيد : ينبغي أن نقدم جملة نوطئ بها شرح هذا الباب ونقربه ؛ حتى نوقف على أصله ، والسبب الذي أجاز تغييره عنه ، وبالله تسديدنا.

اعلم أن العرب قد تصف الشيء بفعل غيره إذا كانت بينهما وصلة في اللفظ بضمير يرجع إلى الموصوف ، فمن ذلك قولك : " مررت برجل قائم أبوه" ، و" مررت برجل ذاهب عمرو إليه" و" رأيت رجلا محبّة له جاريتك" نعت رجلا بقيام أبيه ، وذهاب عمرو ، ومحبة الجارية ، لما كان في الكلام ضمير يعود إليه ولو لم يكن ضمير يعود إليه لم يجز الكلام ، ولا تقول : " مررت برجل قائم عمرو" لأنه لا وصلة بينهما.

فإذا قد تبين ما وصفناه ، وصح أن الشيء يوصف بفعل غيره ؛ للعلاقة اللفظية التي بينهما جاز أيضا أن ترفع الشيء بفعل غيره إذا كان على ما ذكرنا ، من الضمير العائد إلى الأول ، وهو الذي يشتمل عليه ابتداء هذا الباب ، وتلزمه هذه الترجمة ، ويقال له : " الصفة المشبهة" وذلك قولك : " مررت برجل حسن الوجه" و" مررت برجل قائم الأب" ، " وبامرأة حسنة الوجه" وكان الأصل في ذلك : " مررت برجل حسن وجهه" ، و" بامرأة حسن وجهها" ، فإذا قلت ذلك فقد نعتّ الرجل والمرأة بالحسن الذي للوجه ، ورفعت الوجه بفعله ، وكذلك إذا قلت : " مررت برجل قائم الأب" فالأصل فيه : " مررت برجل قائم أبوه" نعتّ رجلا بقيام أبيه ورفعت الأب بفعله ، وجعلت الضمير العائد إلى الرجل


متصلا بالأب والوجه ، وأخليت النعت الذي هو" حسن" و" قائم" من ضمير الأول ؛ لأنك رفعت الأب والوجه بفعلهما ، وجعلت الضمير العائد إلى الأول متصلا بهما ، ثم إنك توسعت على مذهب العرب ، فجعلت الأول فاعلا للحسن وللقيام في اللفظ ، وإن كانت حقيقة الحسن للوجه ، والقيام للأب ، فإذا فعلت ذلك جعلت في" حسن" و" قائم" ضميرا للأول مرفوعا بحسن وقائم ، كأنهما فعل ، فإذا فعلت ذلك لم يجز أن ترفع الأب والوجه ، لأنه لا يرتفع فاعلان بفعل واحد ، إلا على سبيل العطف ، ولم يجز أن يبقى الضمير الذي في الأب والوجه ؛ لأنك قد جعلت ذلك الضمير بعينه فاعلا ، وجعلته مستكنا في الفعل ، فبطل أن يكون الوجه مرفوعا لمّا جعلت ضمير الأول فاعلا في" حسن" ولم يكن بد من ذكر الوجه ، لأنك لو لم تذكره لم يعلم أن الحسن في الأصل للأول ، أو منقول إليه عن غيره ، فذكرت الوجه ؛ ليعلم أن الفعل كان له ، ونقل عنه فلما ذكرته للحاجة إليه وكان متعلقا بالفعل وقد ارتفع بالفعل غيره ، وجب أن يكون محله كمحل المفعول لفظا ، والمفعول قد يكون نصبا إذا نوّن اسم الفاعل ، وقد يكون جرا إذا أضيف إليه اسم الفاعل ، فجاز في" الوجه" النصب والجر على ذلك المعنى.

وأنا أعيد ما فسرته ممثلا له بمثال حاضر قريب ، تقول : " مررت برجل حسن وجهه" ، فترفع الوجه بحسن ، وليس في" حسن" ضمير ، والضمير الذي في" وجهه" يعود إلى رجل و" حسن" هو صفة للرجل ، ثم تنزع الضمير الذي في وجهه ، فتجعله في" حسن" فاعلا ، فتقول : " مررت برجل حسن وجها وحسن وجه" فيصير الوجه لفظه لفظ المفعول ، لما جعلت الفاعل غيره ، فيصير بمنزلة قولك : " مررت برجل ضارب زيد وضارب زيدا" ، فالصفة المشبهة" حسن" واسم الفاعل" ضارب" ، فحسن يعمل في الوجه ما يعمل" ضارب" في" زيد" وليس" حسن" كضارب ؛ لأن" ضاربا" يعمل كعمل فعله ، ويجري عليه ، تقول" هذا ضارب زيدا" كما تقول ؛ " هذا يضرب زيدا" ، وتقول : " هذا حسن وجها" ولا تقول : " هذا يحسن وجها" غير أنا شبهنا" حسن" بضارب لما قدمنا ، وبينهما اختلاف في وجوه نذكرها والذي يبين لك أنك إذا قلت : " مررت برجل حسن وجها" أو" حسن الوجه" ولم ترفع الوجه بالحسن ، ورفعت به ضمير الأول ، أنك تثنيه وتجمعه وتؤنثه على حسب الأول ، تقول : " مررت برجلين حسني الوجوه ، وبرجال حسني الوجوه ، وبامرأة حسنة الوجه" ، كما تقول : " مررت برجل قائم ، وبرجلين قائمين ،


وبامرأة قائمة".

ولو لم تجعل فيه ضميرا ورفعت الوجه بفعله ، لم تثن ولم تجمع ، وقلت : " مررت برجلين حسن أوجههما ، وبرجال حسن أوجههم ، وبامرأة حسن وجهها ، وبنساء حسن أوجههنّ" فإذ قد وصفنا السبب المغيّر للفظ الأصلي في الصفة المشبهة ، فإنا نذكر ضروب اللفظ بذلك ، والاختيار منها.

إذا قلت : " مررت برجل حسن الوجه" ففيه خمسة ألفاظ : أولها : " مررت برجل حسن وجهه" والثاني : " مررت برجل حسن الوجه" وهو أجود الوجوه بعد الأول ، إذا نقلت الفعل ، و" مررت برجل حسن الوجه" ، و" مررت برجل حسن وجه" ، و" مررت برجل حسن وجها".

فأما قولك : " مررت برجل حسن وجهه" فهو الأصل غير مغيّر ، وأما قولك" مررت برجل حسن الوجه" ، فهو الاختيار من وجهين : أحدهما أن الوجه في هذا الباب تختار فيه الإضافة ، وإدخال الألف واللام في المضاف إليه.

فأما الذي أوجب اختيار الإضافة ، فمن قبل أن اسم الفاعل في هذا الباب لم يكن منه فعل مؤثر فيما بعده ، كما كان ذلك في قولك : " زيد ضارب عمرا" ؛ لأن" حسن" لم يعمل بالوجه شيئا ، كما عمل زيد" الضرب بعمرو" فأرادوا الفرق بين ما كان له فعل مؤثر وبين ما لم يكن له فعل مؤثر ، فاختاروا فيما كان له فعل مؤثر إجراؤه على الفعل ونصبه ، وما لم يكن له فعل مؤثر يجري عليه ، جعلوه بمنزلة الاسم إذا اتصل بالاسم ، كقولك : " غلام زيد" ، و" دار عمرو" ؛ لأن الصفة المشبهة غير معتبرة بفعلها ، وإنما حدث لها هذا المعنى حيث صارت اسما.

ووجه ثان يوجب اختيار الجر ، وهو أن الصفة المشبهة غير مستغنية عن الاسم الذي بعدها ؛ لأنك لو حذفت الاسم تغير المعنى ، ألا ترى أنك إذا قلت : " زيد حسن الوجه" فقد أوجبت أن الحسن للوجه ، منقول إلى لفظ زيد ، ولو حذفت فقلت : " زيد حسن" كان الحسن له دون غيره ، وأنت إذا قلت : " زيد ضارب عمرا" ثم حذفت" عمرا" لم يجهل أن الضرب واقع منه بغيره فحذف" عمرو" لا يخل بالمعنى ، فلما كان كذلك ، وكان ذكر الوجه ألزم من ذكر المفعول الصحيح ، وجب أن يكون الجر أولى به ؛ لأن المجرور داخل في الاسم الأول كبعض حروفه.


وأما الاختيار للألف واللام فيه ؛ فمن قبل أنه قد كان" الوجه" معرّفا بالإضافة إلى الهاء التي هي ضمير الأول فلما نزعوا ذلك الضمير ، وجعلوه فاعلا مستكنا في الأول جعلوا مكانه ما يتعرف به ، وهو الألف واللام.

وأما الذي قال : " مررت برجل حسن الوجه" فإنه ترك الاختيار حين ترك الإضافة ، وأتى بالتشبيه باسم الفاعل الذي يوجب النصب.

ومن قال : " مررت برجل حسن وجه" فقد أتى بأحد وجهي الاختيار وهو الإضافة ، وحذف الألف واللام ؛ استغناء بعلم المخاطب أنه لا يعني من الوجوه إلا وجهه.

ومن قال : " مررت برجل حسن وجها" ففيه وجهان : أحدهما أنه أعمل" حسن" في الوجه كما يعمل" ضارب" في" زيد" إذا قلت : " هذا ضارب زيدا" ، والوجه الثاني : أن يكون على التمييز كما تقول : " هو أحسن منك وجها" ، و" ما في السماء موضع راحة سحابا".

واعلم أن المضاف في هذا الباب لا يكتسب بالإضافة تعريفا إذ كانت النية فيه التنوين ، فلذلك جاز أن تدخل الألف واللام على المضاف ، فيقال : " مررت بالرجل الحسن الوجه" فيعرّف" الحسن" بالألف واللام لا بالإضافة.

فإن قال قائل : يلزمكم على هذا أن تقولوا : " مررت بالرجل الضارب زيد" لأنكم إذا قلتم : " مررت برجل ضارب زيد" ، وعنيتم المستقبل والحال لم يكن" ضارب" متعرفا بزيد ، فإذا احتجتم إلى تعريفه ، أدخلتم عليه الألف واللام كما أدخلتموها على" الحسن". قيل له : بينهما فرق ، وطريقهما مختلف ، فمن ذلك أن" حسن الوجه" إنما هو مأخوذ من فعل ماض ، وأمر مستقر ، وإذا كان" ضارب" في مذهب" حسن" من المضي وجبت إضافته ، وتعرّف بما يضاف إليه.

ومنها أن الأصل في" حسن" والأولى به الجر ، الذي لا يوجب له تعريفا ، فإذا أدخلنا عليه الألف واللام لتعريفه تركناه على ما هو حقيق به.

والأصل في" ضارب" التنوين ؛ لأنه يجري مجرى الفعل ، وإنما يضاف تخفيفا ، فإذا أدخلنا عليه الألف واللام ، جرى مجرى الفعل المضارع ، وإنما يضاف تخفيفا ؛ فإذا أدخلنا الألف واللام عليه جرى على أصله الذي يوجبه له القياس ؛ لبطلان التخفيف الذي يلتمس بحذف التنوين.


قال سيبويه في" الحسن الوجه" :

فالإضافة فيه أحسن وأكثر ؛ لأنه ليس كما جرى مجرى الفعل ، ولا في معناه ، فكان أحسن عندهم أن يتباعد منه في اللفظ ، كما أنه ليس مثله في المعنى ، وفي قوته في الأشياء".

يعني أن قولك : " حسن الوجه" لم يجر مجرى" حسن" كما جرى" ضارب" مجرى" ضرب" ، فكان الأحسن عندهم في" حسن" الإضافة ؛ لبعد الإضافة من الفعل في اللفظ ، كما تباعد" حسن الوجه" من الفعل ، ومما جرى مجراه في المعنى.

قال : " والتنوين عربيّ جيد" لما ذكرناه.

قال : " ومع هذا أنهم لو تركوا التنوين أو نون الجمع لم يكن أبدا إلا نكرة على حاله منوّنا ، فلما كان ترك التنوين والنون فيه ، لا يجاوز به معنى التنوين والنون كان تركهما أخفّ عليهم ، فهذا يقوي الإضافة مع التفسير الأول".

يعني أن الإضافة والتنوين في" حسن الوجه" لا يختلفان في المعنى ، فلأنهما لا يختلفان في المعنى مع طلب التباعد بين" حسن الوجه" و" ضارب زيدا" قويت الإضافة.

والمضاف إلى ما فيه الألف واللام بمنزلة ما فيه الألف واللام في هذا الباب ، كقولك : " هذا أحمر بين العينين" و" هو جيّد وجه الدار" كأنك قلت : هذا أحمر العينين ، وهو جيد الدار ، ولو نونت لكان أيضا عربيّا ، كقولك : " هذا جيّد وجه الدار" كقول زهير :

أهوى لها أسفع الخدين مطّرق

ريش القوادم لم تنصب له الشّرك (١)

أراد مطرق ريش القوادم ، أي متراكب كثير ، يعني بذلك صقرا ، قال العجاج : (٢)

محتبك ضخم شؤون الرأس (٣)

أي شؤون رأسه ، وقال" النابغة" فيما كان على مذهب التنوين :

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظهر ليس له سنام (٤)

__________________

(١) ديوان زهير ١٧٢.

(٢) ملحقات ديوان العجاج ٧٩ وهذا صدر بيت وعجزه والسّدس أحيانا وفوق السدّس.

(٣) العجاج هو عبد الله بن رؤبة راجز مجيد عاش في الجاهلية ثم أسلم وعاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك وهو والد رؤبة الراجز المشهور شواهد المغني ١٨ ، الشعر والشعراء ٢٣٠.

(٤) ديوان النابغة ٧٥ ، الخزانة ٤ / ٩٥ ، العيني ٣ / ٥٧٩ ، ابن يعيش ٦ / ٨٣.


أراد : " أجبّ الظهر ليس له سنام" على مذهب" حسن الوجه" إلا أنه لا ينصرف ، ولو جعله على مذهب" حسن الوجه" بالإضافة لقلت : " أجبّ الظهر".

قال : (واعلم أن كينونة الألف واللام في الاسم الآخر أحسن وأكثر من ألّا تكون فيه الألف واللام ؛ لأن الأول في الألف واللام وفي غيرهما هاهنا في حال واحدة ، وليس كالفاعل فكان إدخالهما أحسن ، كما كان ترك التنوين أكثر ، وكان الألف واللام أولى ؛ لأن معناه حسن وجهه ، فكما لا يكون في هذا إلا معرفة اختاروا في ذلك المعرفة).

يعني أن الألف واللام إثباتهما في الوجه أحسن ، لأن المعنى في إثباتهما ونزعهما سواء ، وفي إثباتهما تعريف عوض من التعريف الذي كان في" وجهه" ، حيث كان مضافا إلى الهاء ، وقد بينا هذا.

قال : " والأخرى عربية".

يعني نزع الألف واللام ، قال عمرو بن شأس :

ألكني إلى قومي السّلام رسالة

بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا (١)

ولا سيئي زيّ إذا ما تلبّسوا

إلى حاجة يوما مخيّسة بزلا

فهذا على من قال : " مررت بحسن وجه" ، ومن قال : " مررت بحسن الوجه" قال سيّئي الزيّ ، ومن قال : " بحسن الوجه" قال : سيئي الزيّ ، ومن قال : " حسن وجها" قال : " سيئين زيّا" قال حميد الأرقط :

" لاحق بطن بقرا سمين" (٢)

قال : " ومما جاء منونا قول أبي زبيد :

كأن أثواب نقّاد قدرن له

يعلو بخملتها كهباء هدّابا (٣)

أراد كهباء هدابها ، ولو كان مما يتصرف قلت : متكهّبا هدّابا كقولك : " حسنا

__________________

(١) من شواهد سيبويه انظر العيني ٣ / ٥٩٦ ـ الخصائص ٣ / ٢٧٤ / المقتضب ٤ / ١٦٠ وقائله عمرو بن شأس بن عبيد بن نكلبة بن دومة بن مالك بن الحارث شاعر مخضرم ، الشعر والشعراء ١٦٣ ـ سمط الآلئ ٧٥٠.

(٢) انظر سيبويه ١ / ١٠١ بولاق ـ ١ / ١٩٧ هارون. ابن يعيش ٦ / ٨٣ ، ٨٥.

(٣) خزانة الأدب ٢ / ١٥٥ ـ الشعر والشعراء ٢٦٠ ـ اللسان (نقد) ٤ / ٤٣٧.


وجها" ، تنصبه على الحال من ضمير الثياب المتصل بخملتها ، كأنه قال : تعلو الخملة الثياب أكهب هدابا يصف أسدا ، و" النقّاد" : الراعي صاحب النّقد ، وهو ضرب من الغنم صغار ، فشبّه لون الأسد بثوب النقّاد ، والكهباء : الغبراء.

وقال أيضا :

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

محطوطة جدلت شنباء أنيابا (١)

كأنه قال : نقية أنيابها ، المحطوطة : البراقة اللون المصقولة.

وقال عدي :

من حبيب أو أخي ثقة

أو عدوّ شاحط دارا (٢)

أراد : شاحط داره.

وقال سيبويه : " وقد جاء في الشعر حسنة وجهها ، شبهوه بحسنة الوجه ، وذلك رديء".

يعني أن من العرب من يقول : " زيد حسن وجهه" و" هند حسنة وجهها" ، فيضيف" حسن" إلى" الوجه" ، وفي الوجه ضمير يعود إلى الأول ، وذلك رديء ؛ من قبل أن في" حسن" ضميرا يرتفع به يعود إلى" زيد" ، فلا حاجة بنا إلى الضمير الذي في" الوجه" ؛ لأن الأصل : " كان زيد حسن وجهه" ، والهاء تعود إلى" زيد" ، فنقلنا هذه الهاء بعينها إلى" حسن" ، فجعلناها في حال رفع ، فاستكنّت فيه ، فلا معنى لإعادتها ، ولكن من أعادها ـ إن كان قد أعادها معيد ـ جعل الضمير مكان الألف واللام ، وبقي الضمير الأول على حاله مرفوعا ، وجعل للاسم الأول ضميرين يعودان إليه ، وصيّره كقولك : " زيد ضارب غلامه" ففي" ضارب" ضمير" يعود إليه مرفوع" وفي الغلام ضمير يعود إليه مجرور.

وأنشد سيبويه قول الشماخ استشهادا لحسنة وجهها :

أمن دمنتين عرّج الركب فيهما

حقل الرّخامي قد عفا طللاهما (٣)

أقامت على ربعيهما جارتا صفا

كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما

__________________

(١) قائله أبو زيد بن حرملة بن المنذر الطائي العيني ٣ / ٥٩٣ ـ ابن يعيش ٦ / ٨٣ ، ٨٤.

(٢) قائله عدي بن زيد من دهاة الجاهليين من أهل الحيرة وكان شاعرا فصيحا يحسن العربية والفارسية الخزانة ١ / ١٨٤ ـ الأغاني ٢ / ٩٧ ـ الشعر والشعراء ٦٣.

(٣) ديوان الشماخ ٣٠٨ ـ الخصائص ٢ / ٤٢٠ ـ الخزانة ٢ / ١٩٨ والدرر ٢ / ١٣٢.


والشاهد في البيت الثاني في قوله : " جونتا مصطلاهما" فجونتا مثنى ، وهو بمنزلة" حسنتا" وقد أضيفتا إلى" مصطلاهما" ، ومصطلاهما بمنزلة" وجوههما" فكأنه قال : حسنتا وجوههما ، والضمير الذي في مصطلاهما يعود إلى" جارتا صفا".

ومعنى" جارتا صفا" الأثافي و" الصفا" هو الجبل ، وإنما يبنى في أصل الجبل في موضعين ما يوضع عليه القدر ، ويكون الجبل هو الثالث ، فالبناء في الموضعين هما جارتا صفا ، وقوله : " كميتا الأعالي" ، يعني أن الأعالي من موضع الأثافي لم تسود ؛ لأن الدخان لم يصل إليها فهي على لون الجبل ، وجعل ما علا من الجبل أعالي الجارتين ، و" جونتا مصطلاهما" يعني مسودّتا المصطلى ، يعني الجارتين ، مسودّتا" المصطلى" ؛ وهو موضع الوقود.

وقد أنكر ذلك على سيبويه ، وخرّج للبيت ما يخرّج به عن" حسن وجهه" ، و" حسنة وجهها" وذلك أنه لا خلاف بين النحويين أن قولنا : " زيد حسن وجه الأخ جيد بالغ ، وأنه يجوز أن تكني عن الأخ فتقول : " زيد" حسن وجه الأخ وجميل وجهه فالهاء تعود إلى الأخ ، لا إلى زيد ، فكأنا قلنا : زيد حسن وجه الأخ وجميل وجه الأخ ، فعلى هذا قوله :

" كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما"

كأنه قال : كميتا الأعالي ، جونتا مصطلى الأعالي ، فالضمير في" المصطلى" يعود إلى" الأعالي" ، لا إلى الجارتين ، فيصير بمنزلة قولك : " الهندان حسنتا الوجوه ، مليحتا خدودهما" فإن أردت بالضمير الذي في خدودهما" الوجوه" كان الكلام مستقيما كأنك قلت : حسنتا الوجوه ، مليحتا خدود الوجوه ، وإن أردت بالضمير فإن أردت بالضمير" الهندين" فالمسألة فاسدة ، فكذلك" جونتا مصطلاهما" إن أردت بالضمير الأعالي ؛ فهو صحيح وإن أردت بالضمير الجارتين فهو رديء ، لأنه مثل قولك : " هند حسنة وجهها".

فإن قال قائل : فإذا كان الضمير الذي في" مصطلاهما" يعود إلى الأعالي فلم ثنّي والأعالي جمع؟ قيل له : الأعالي في معنى الأعليين فرد الضمير إلى الأصل ، ومثله :

متى ما تلقني فردين ترجف

روانف أليتيك وتستطارا (١)

__________________

(١) البيت لعنترة الخزانة ٣ / ٣٥٩ ، الدرر ٢ / ٨٠.


فرد" تستطارا" إلى رانفتين ؛ لأن" روانف" في معنى رانفتين ، وعلى هذا يجوز أن تقول : " الهندان حسنتا الوجوه جميلتا خدودهما" لأن الوجوه في معنى الوجهين ، فكأنك قلت : جميلتا خدود الوجهين ، وقد يجوز أن يكون" تستطارا" للمخاطب ، وتنصب" تستطارا" على الجواب بالواو ، كما قال الله عزوجل : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(١) ومما يدخل في هذا النحو قول طرفة :

رحيب قطاب الجيب منها رفيقة

بجسّ الندامى بضّة المتجرّد (٢)

فهذا هو الإنشاد الصحيح بتنوين" رحيب" ، ورديء إضافته بمنزلة" حسنة وجهها" ، وذلك لأن الأصل رحيب قطاب الجيب منها ، فقطاب يرتفع برحيب ، والضمير في" منها" يعود إلى الأول ، فإذا أضفنا" رحيب" فقد جعلنا فيها الضمير العائد فلا معنى لمنها ، على ما بينا في" حسنة الوجه" وكذا لا يحسن أن تقول : " زيد حسن العين منه" على ذلك.

قال سيبويه : " واعلم أنه ليس في العربية مضاف تدخل عليه الألف واللام ، غير المضاف إلى المعرفة في هذا الباب ، وذلك قولك هذا الحسن الوجه" :

فإن قال قائل : لم جاز أن تدخل الألف واللام على الصفة المشبهة إذا كانت مضافة قيل له : من قبل أن الإضافة لا تكسوها تعريفا البتة ، وقد بينا أمرها وأصلها ، وأنها في تقدير المنفصل ، فإذا كانت الإضافة لا تكسوها تعريفا ولا تخصيصا ، لم تمنعها الإضافة دخول الألف واللام ، وحلت محل النكرة ، التي تتعرّف بدخول الألف واللام لمّا احتاجت إلى دخولهما حين احتاجت إلى التعريف الذي لا تكتسبه بالإضافة.

فإن قال قائل : ولم جعله" سيبويه" مضافا ، والمضاف ما كان مقدرا فيه اللام ، أعني لام الإضافة أو" من"؟ فإن الجواب في ذلك أنه أراد أنه مضاف في اللفظ ، والتقدير على ما وصفنا ثم ذكر ما أغنى عنه التفسير المتقدم.

ثم قال : فأما النكرة فلا يكون فيها إلا" الحسن وجها" تكون الألف واللام بدلا من التنوين.

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٤٢.

(٢) ديوان طرفة ٤٨ ، الخزانة ٣ / ٤٨١.


يعني أنك إذا أدخلت الألف واللام في الصفة ، ونكّرت ما بعدها لم تجز إضافتها.

فإن قال قائل : فلم لا تجوز إضافة الصفة إلى نكرة في اللفظ ، وليست الإضافة فيه صحيحة ، فيقال : " الحسن وجه"؟ قيل له : ومن قبل أنا إذا أعطيناها لفظ الإضافة ـ وإن لم يكن معناها معنى الإضافة ـ لم يجز أن يكون لفظها خارجا عن لفظ الإضافة الصحيحة. لأنا سميناها بها ، وليس في شيء من الإضافات لفظا وحقيقة ما يكون المضاف معرفة ، والمضاف إليه نكرة فلم يحسن أن تقول : " مررت بزيد الحسن وجه" فيكون" الحسن" معرفة و" الوجه" نكرة ، فيجري على خلاف ألفاظ الإضافة التي سميناها بها.

فإن قال قائل فأنتم تقولون : " مررت بالحسن الوجه" فتضيفون ما فيه الألف واللام ، وليس ذلك في باب المضاف؟ فالجواب عن ذلك ، أنه غير مخالف لباب الإضافة ، وإن كان في المضاف الألف واللام ، وذلك من قبل أن المضاف قد يكون معرفة بالمضاف إليه ، إذا قلت : " غلام زيد" و" دار بكر" فالمضاف معرفة بالمضاف إليه ، والمضاف إليه معرفة بنفسه ، وقد صح أن المضاف قد يكون معرفة إذا كان المضاف إليه معرفة ، فغير مستنكر أن يكون في" الحسن" الألف واللام ، ويكون مضافا ، إذا كان التعريف والإضافة لا يتنافيان في اللفظ ، غير أن قولنا : " الحسن الوجه" ، لما لم يقع له التعريف بالإضافة كما وقع" لغلام زيد" أدخلوا ما يقع به لتعريف من الألف واللام ، مكان ما يقع من التعريف بالإضافة ، و" غلام زيد" وما بعده قد وقع تعريفه بزيد ، فلم يحتج إلى دخول الألف واللام ، " فالحسن الوجه" يشبه" غلام زيد" في هذا المعنى.

ومع هذا فإن الأصل دخول الألف واللام في الوجه ، وطرحهما استخفافا ، والشيء الذي هو الأصل أقوى وألزم ، فلما كان دخول الألف واللام مع الإضافة ، إنما هو ضرورة ، لم يتجاوز بها اللفظ الذي هو الأصل ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

وقال سيبويه : بعد قوله : " تكون الألف واللام بدلا من التنوين".

لأنك لو قلت : " حديث عهد" أو" كريم أب" لم تخلل بالأول في شيء فيحتمل به الألف واللام ؛ لأنه على ما ينبغي أن يكون عليه".

" أما قوله : " فأما النكرة فلا يكون فيها إلا الحسن وجها"

يعني إذا كان الثاني نكرة وهو" وجها" والأول فيه الألف واللام ، لم تجز الإضافة ، ووجب نصب الثاني.


وقوله : " تكون الألف واللام بدلا من التنوين" يعني أن الألف واللام في الأول بدل من التنوين فيه فلو كان منوّنا كان مثل قولك : " حسن وجها" لا غير ، فإذا أدخلت فيه الألف واللام كان محلّ إدخال التنوين.

وقوله : " لأنك لو قلت حديث عهد ، أو كريم أب".

فهو بمنزلة قولك : " حديث العهد" أو" كريم الأب" ؛ لأنك وإن نكرته فقد علم أنه ليس تعني من العهود إلا عهده ، ومن الآباء إلا أباه ، فتنكير الثاني لا يخل ولا يزوله عن حاله لو كان معرفا ، وليس بمنزلة سائر الأشياء المضافة تتنكر بتنكير المضاف إليه ، وتتعرف بتعريفه.

قوله : (فيحتمل به الألف واللام) يعني لو كانت إضافة الأول إلى الثاني في التنكير ، تخالف الإضافة في حال التعريف ، لجاز أن تدخل الألف واللام على الأول ، وإن كان مضافا إلى نكرة ، فتقول" الحسن وجه" كما جاز أن تدخل عليه الألف واللام ، وهو مضاف إلى المعرفة ، فلما كان الثاني المضاف إليه ، تنكيره وتعريفه سواء في المعنى ، ثم أردنا إدخال الألف واللام في الأول ، وهو مضاف إلى المعرفة ، أدخلناهما في الثاني ؛ لئلا يخرج عن لفظ الإضافة على ما بيناه قبل هذا.

ولو كان الثاني منكورا على خلاف معناه معروفا ، جاز إدخال الألف واللام في الأول ، وإن كان الثاني نكرة ؛ لأن الألف واللام تعرفه فقط دون غيره ، ولو عرفنا الثاني زال عن معناه منكورا ، فلما لم يكن كذلك آثروا تعريف الثاني ، إذا عرفوا الأول ؛ لاستواء التعريف والتنكير في المعنى ، وصحة لفظ التعريف في مشاكلة الإضافات على ما مر.

ومما يدل على صحة القول بتعريف الأول ، وتنكير الثاني عند الحاجة والضرورة ، أنا لو نادينا رجلا فقلنا : " يا حسن وجه" و" يا ضارب رجل" ، وقصدنا واحدا بعينه دون سائر أمته ، لكان الأول معرفة بالقصد بالنداء ، والثاني منكورا على حاله الأولى.

وقوله : " فيحتمل به الألف واللام" يحتمل أن يكون الضمير في" به" عائدا إلى الأول ، ويحتمل أن يكون إلى الثاني ، فإن كان إلى الأول فالمعنى فيحتمل بالأول الألف واللام لما ذكرناه ، وإن كان إلى الثاني فمعناه فيحتمل بالثاني دخول الألف واللام على الأول.

وقوله : " لأنه على ما ينبغي أن يكون عليه" يعني لو كان تنكير الثاني يخالف


تعريفه لجاز أن تدخل الألف واللام على الأول ، وتدع الثاني نكرة على ما كان ؛ لأنه على ما ينبغي أن يكون عليه ، يعني أن الثاني يكون على حاله منكورا لصحة معناه ، وتدخل الألف واللام في الأول.

ثم قال : قال رؤبة :

الحزن بابا والعقور كلبا (١)

ومعناه الحزن بابه وهو الشديد ، والعقور كلبه ، ثم نصب لدخول الألف واللام في الأول.

قال : وزعم أبو الخطاب (٢) أنه سمع قوما من العرب ينشدون هذا البيت للحارث بن ظالم (٣).

فما قومي بثعلبة بن بكر

ولا بغزارة الشّعرى رقابا (٤)

و" الشّعرى" جمع أشعر ، وهو الكثير الشعر ، وكانت العرب تمدح بالجلاء وخفة الشعر ، قال الشاعر هدبة :

فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا

أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا

ضروبا بلحييه على عظم زوره

إذا القوم هشّوا للفعال تقنّعا (٥)

فهجاه بكثرة شعر قفاه ووجهه ، وكذلك قوله :

ولا بغزارة الشعرى رقابا

هجاهم بكثرة شعور رقابهم.

والشاهد أنه أدخل الألف في" الشّعرى" ، ونصب رقابا ، وانتفى الحارث بن ظالم من ثعلبة بن سعد ، وهم من بني ذبيان ، ومن فزارة بن ذبيان ، وانتسب إلى قريش من قصيدة له طويلة.

__________________

(١) ديوان رؤبة ١٥ ، الخزانة ٣ / ٤٨٠ ، العيني ٣ / ٦١٧.

(٢) أبو الخطاب هو الأخفش الكبير عبد الحميد بن عبد المجيد من متقدمي علماء العربية انظر الإنبا ٥ / ١٥٧ ، نزهة الألباء ٤٣.

(٣) الحارث من أشهر فتاك العرب في الجاهلية الخزانة ٣ / ١٨٥.

(٤) العيني ٣ / ٦٠٩ ـ ابن الشجري ٢ / ١٤٣ ـ ابن يعيش ٦ / ٨٩.

(٥) الخزانة ٤ / ٨٤ ـ البيان والتبيين ٤ / ١٠ وهما لهدبة بن خشرم.


قال سيبويه : وإنما أدخلت الألف واللام في" الحسن" ثم أعملته كما قلت : الضارب زيدا.

يعني أنك أدخلت الألف واللام على" حسن وجها" ، فصارت الألف واللام بمنزلة التنوين ، فعمل في" وجه" مع الألف واللام ، كما عمل مع التنوين كما قلت : ضارب زيدا" ثم أدخلت الألف واللام في" الضارب زيدا" فصار بمنزلة التنوين وكان ذلك بمنزلة قولك : " ضارب زيدا" ، ثم تقول : الضارب زيدا تنصب زيدا مع الألف واللام ، كما كنت تنصبه مع التنوين.

وعلى هذا الوجه تقول : " الحسن الوجه" وهي عربية جيدة ، قال الحارث بن ظالم :

فما قومي بثعلبة بن سعد

ولا بغزارة الشعرى رقابا (١)

قال سيبويه : وقد يجوز في هذا أن تقول : " هو الحسن الوجه" على قوله : " هو الضارب الرجل" ، فالجر في هذا الباب من وجهين.

قال أبو سعيد اعلم أنّا إذا قلنا : " الضارب زيدا والضارب رجلا" لم يجز فيه إلا النصب ؛ لأنّ" ضارب" قبل دخول الألف واللام عليه كان أصله منونا ناصبا لما بعده ، ويجوز حذف التنوين منه وجر ما بعده استخفافا ، وإن كان الأصل التنوين ، فإذا أدخلنا الألف واللام أدخلناه على ما بعده قبل أن ننقله عن أصله وحدّه ؛ لطلب الخفة ، فعاقبت الألف واللام التنوين ، فوجب نصب ما بعده ، وذلك قولك : " الضارب زيدا" و" الضارب رجلا" ، وعلى هذا تقول : " الضارب الرجل" ، كما قلت : " الضارب زيدا" ، وقد بينا أن الصفة المشبهة قد أعملت عمل اسم الفاعل فقيل : " الحسن الوجه" ، كأنا قلنا : " حسن وجها" ، ثم أدخلنا الألف واللام للتعريف ، كما قلنا : " ضارب الرجل" ، ثم قلنا : " الضارب الرجل".

وقد بينا وجه الجر في : " الحسن الوجه" الذي يستحقه في بابه ، وبينا ما بينه وبين اسم الفاعل من المناسبة ، فأجازوا لذلك أن يقولوا : " الضارب الرجل" ، فحملوه على" الحسن الوجه" لفظا للألف واللام التي في الرجل ، بالمشابهة للألف واللام التي في الوجه ، فلما كان" الحسن الوجه" في حال النصب ، قد جعل في منزلة" الضارب الرجل" وفي

__________________

(١) سبق تخريجه.


خبره ، وحملوا" الضارب" بعد النصب على" الحسن الوجه" في حال الخفض لما بينهما من المناسبة ، ولاشتباه لفظيهما ، حملوا على" الحسن الوجه" كل محمول نصبه على" الضارب الرجل" فجروه ، وحصل" للحسن الوجه" الجر من وجهين ؛ أحدهما : ما كان له من الجر في الأصل ، والآخر : دخوله مع" الضارب الرجل" بعد أن كان منصوبا في تشبيه" الحسن الوجه" في الأصل.

وتحصيل هذا المعنى ، أنّا إذا قلنا : " حسن الوجه" فأدخلنا الألف واللام ، فقد أدخلناهما على مخفوض ، لم يكن منونا.

والوجه الثاني : أنا إذا قلنا : " الحسن الوجه" ، فكأنه كان" حسن الوجه" ، ثم دخل عليه الألف واللام ، فعاقب التنوين ، فصار بمنزلة" الضارب الرجل" على ما فسرنا ثم خفضناه كخفض" الضارب الرجل" ، فأحد وجهي الجر على أصله والآخر حملا على ما شبه بأصله ، وهو الضارب الرجل.

وقد حكي عن المازني (١) أنه قال : النصب في" الضارب الرجل" من وجهين ؛ أحدهما : ما له من الأصل على ما وصفنا من النصب ، والآخر : أنّا لما قلنا : " الضارب الرجل" تشبيها" بالحسن الوجه" في الخفض ، وقد جاز في" الحسن الوجه" أن تنصبه تشبيها بالرجل ، نصبنا كل محمول على" الحسن الوجه" في الخفض ، فصار نصب" الضارب الرجل" من وجهين : أحدهما ما له في الأصل ، والآخر حملا على ما شبه به على نحو ما ذكرنا في الجر. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

قال سيبويه : (وإذا ثنيت أو جمعت فأثبتّ النون فليس إلا النصب ، وذلك قولك : هم الطيبون الأخبار ، وهما الحسنان الوجوه وهم الحسنون الوجوه ، وهما الكريمان (الآباء).

وإنما لم يكن إلا النصب من قبل أن النون في الاثنين والجماعة محل التنوين من الواحد. والدليل على ذلك أنك تثبت النون إذا لم تضف ، وتحذفها في الإضافة ، كما تفعل ذلك في التنوين ، فإذا أثبت النون في التثنية والجمع فقد فصلته من الثاني ، وبطل الجر ، فلم

__________________

(١) هو أبو عثمان بكر بن محمد بن بقيسة وقيل بكر بن محمد بن عدي بن حبيب المازني العدوي نزهة الألباء ١٨٢.


يكن إلا النصب من ذلك قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً)(١) ، وقالت خرنق : (٢)

لا يبعدن قومي الذين هم

سم العداة وآفة الجزر

النازلون بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر (٣)

والشاهد في البيت : نصب" معاقد" لما ثبتت النون في الطيبين.

قولها : " سم العداة وآفة الجزر" يعني أنهم حتف من عاداهم ، وآفة الإبل ؛ لما ينحرونها للأضياف ، و" النازلون بكل معترك" يعني النازلون بمواضع القتال والاعتراك ، والغاشون للحروب ، " والطيبون معاقد الأزر" يعني أنهم أعفاء ، يقال : فلان طيب معقد الإزار ، وهو كناية عن العفة.

قال سيبويه : " فإن كففت النون جررت كان المعمول فيه نكرة أو فيه الألف واللام ، كما قلت : " هؤلاء الضاربو زيد".

يعني أن النون لما كانت في التثنية والجمع بمنزلة التنوين في الواحد ، وكانت الإضافة تعاقب التنوين عاقبت النون ، فقد حصل لك بهذا أن قولنا : " الضاربا زيد" و" الضاربو زيد" جائز ، وإن كان لا يجوز" الضارب زيد" ؛ لأنك قد حذفت في التثنية والجمع النون ، وجعلت الإضافة معاقبة لها ، وكذلك لا يجوز" الحسن وجه" ويجوز" الحسنا وجوه"" الحسنو وجوه" ؛ لمعاقبة النون الإضافة تشبيها" بالضاربي زيد" و" الضاربي زيد".

قال سيبويه : " وإن شئت نصبت على قولهم : الحافظو عورة العشيرة".

يعني أنك إن شئت حذفت النون استخفافا ، ونصبت على تقدير النون ، فقلت : " الطيور أخبارا" كأنك أردت النون ، وحذفتها تخفيفا ، وإنما جاز هذا لأن الألف واللام بمنزلة" الّذين" و" اللّذين" ، وقد جاز حذف النون من" الذين" و" اللذين" تخفيفا ، فحذفت أيضا من أسماء الفاعلين التي في معنى الذين قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ١٠٣.

(٢) الخزنق بنت بدر بن هفان شاعرة جاهلية شعرها في الرثاء والهجا وهي أخت طرفة بن العبد لأمه الخزانة ٢ / ٣٠٦ ـ أعلام النساء ١ / ١٩٤ ـ الأعلام ٢ / ٣٤٧.

(٣) ديوان خرنق ٢٩ ، الخزانة ٢ / ٣٠١ ، الدرر ٢ / ١٥٠.


وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (١)

أراد الذين حانت بفلج دماؤهم ، فحذف النون ، ولو جعل الألف واللام مكانها لقال : إن الحائني بفلج دماؤهم.

والحافظو عورة العشيرة ، كقولك : حفظوا بحذف النون ، وكما حذف من" الذي" حذف مع الألف واللام ، قال الأخطل في التثنية :

أبني كليب إن عمّيّ اللذا

قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا

فحذف النون من" اللذا" ، ولو جعل مكانها الألف واللام لقال" القاتلا الملوك" فحذف النون تخفيفا.

قال سيبويه : " وتقول فيما لا يقع إلا منونا عاملا في نكرة وإنما وقع منونا ؛ لأنه فصل به بين العامل والمعمول ، فالفصل لازم له أبدا مظهرا أو مضمرا ، وذلك قولك : " هو خير منك أبا وأحسن منك وجها" ، ولا يكون المفعول فيه إلا ما كان من سببه".

إن قال قائل : لم لم يقع" خير منك" و" أفضل منك" وبابهما مضافا؟ ففي ذلك جوابان : أحدهما أن هذا الباب وضع للتفضيل ، فإذا قلت : " زيد أفضل من عمرو" ؛ فقد زعمت أن فضل زيد ابتدأ من فضل عمرو راقيا صاعدا ، فدللت بهذا على أنه أفضل من كل أحد مقدار فضله كمقدار فضل عمرو ، فكأنك قلت : علا فضله عن هذا المقدار ، فتبين المخاطب أنه قد علا عن هذا الابتداء ، ولم يعلم موضع الانتهاء ، فصار كقولك : " سار زيد من بغداد" فقد علم المخاطب أن زيدا ابتدأ مسيره من بغداد ، فجاوزها ولم يعلم أين انتهى ، فلما كان معنى هذا الباب الدلالة على ابتداء التفضيل عن مقدار المفضل عليه ، وكل من كان في محله ومنزلته ، لم يكن بدّ من من ظاهرة أو مضمرة ، فلما كانت كذلك نوّن ولم تصلح إضافته إلى المفضل عليه ؛ لدخول" من" فاصلة بينهما لفظا وتقديرا ، وانتصب ما بعده لتنوين الأول ؛ لأنه ليس بفاعل ، والفاعل" هو" مضمر في" أفضل" وفي" خير" وهو الأول.

والعلة الثانية أنك إذا قلت : " زيد أفضل منك" فأفضل بمنزلة الفعل ، لأنك إنما أردت به العبارة عن الفعل ، فكأنك قلت : فضله يزيد على فضلك ، ولذلك لم يثنّ ولم

__________________

(١) سبق تخريجه.


يجمع ؛ لمّا كان متضمنا للمصدر وزيادته ، فكان بمنزلة الفعل الذي هو متضمن للمصدر والزمان ، فلما كان الفعل لا يضاف ، ولم يضف هذا.

فإن قال قائل : فلم لا يكون" أفضل" وبابه إلا نكرة ، وخالف باب الصفة المشبهة في لزوم التنكير ، والصفة المشبهة يجوز فيها التنكير والتعريف؟ فالجواب في ذلك أن" أفضل" حين" منع التثنية والجمع بحلوله محل الفعل ؛ بسبب دلالته على المصدر والزيادة كدلالة الفعل على المصدر والزمان منع التعريف ، كما لا يكون الفعل معرفا ، ولا يكون مثنّى ولا مجموعا.

فإن قال قائل : فلم لا يعمل إلا في نكرة؟ ففي ذلك وجهان :

أحدهما : أن المنتصب في" أفضل" وبابه إنما هو دال على نوع كما يدل مفسر" عشرين" وما جرى مجراه ، فنكّر مفسر" أفضل" كما نكر ما فسر العشرين وبابها ؛ لأنه لا يدل على شيء بعينه.

فإن قال قائل : لم وجب تنكيره؟

فالجواب في ذلك أنا إذا ذكرنا المقدار الذي هو العدد ، لم يعلم على ما ذا وقع ؛ لأن الأنواع كلها مشتملة على المقادير ، فلا بد من ذكر النوع المذكور مقداره ؛ ليعلم أنه المقصود بالكلام ، فلما كانت الحاجة إلى ذكر النوع ـ لما ذكرناه ـ وجب أن نذكر منه نكرة شائعة فيه ؛ لأن كل ما كان معروفا هو في حكم نفسه ، ولا يذهب الوهم إلى غيره ، والنكرة شائعة في نوعها ، فإذا أردنا إبانة النوع أبنّاه بالشائع فيه دون المنفرد منه.

ووجه آخر في هذا ، وذلك أنا إذا أردنا الدلالة على النوع دللنا عليه بأخف الأشياء منه ، وهو الواحد المنكور ، كما أنا إذا احتجنا إلى تحريك شيء فقط ، آثرنا أخف الحركات وهو الفتح إلا أن تعرض عليه علة مانعة.

والوجه الثاني من الوجهين الدالين على أن" أفضل" وبابه لا يعمل إلا في نكرة ، هو أنه لا يكون إلا نكرة ، فلما خالف في نفسه الصفات المشبهة ، فلم يكن إلا نكرة نقص عملها على مقدار ضعفها ، فلم تعمل إلا في نكرة.

فإن قال قائل : فإن الفعل نكرة في نفسه ، ومع هذا فهو يعمل في المعارف والنكرات.

قيل له : الفصل بينهما أن الفعل يستحيل أن يكون معرفة بحال ، وهو الأصل في


التأثير والعمل في الأسماء ، فعمل في الأسماء كلها ؛ إذ كانت الأسماء العاملة في الأسماء إنّما عملت لمضارعتها ، وليس كذلك باب" أفضل" ؛ لأنه اسم يعمل بمضارعة اسم هو أقوى منه ، وهو الصفة المشبهة ، فلما كانت الصفة المشبهة التي عمل" أفضل" وبابه لمضارعتها ، تكون معرفة ونكرة وهي عاملة ، ونقص" أفضل" عنها ، فلم تكن إلا نكرة ، نقص ما عمل فيه فلم يكن إلا نكرة.

ووجه ثان وهو أنا رأينا" أفضل" وبابه يعمل في واحد يكون معنى الجنس ، فصار نسبته من الصفة المشبهة كنسبة" لا" من" إنّ" في أنها لا تعمل إلا في نكرة ، وذلك أنّ" إنّ" تعمل في المعارف والنكرات ، ولا تجعل الواحد بمعنى جنس ، وقد ينصب ب" لا" كما ينصب بإنّ إلا أن" لا" تجعل الواحد في معنى الجنس ، فلم تعمل إلا في نكرة ، وكذلك" أفضل" وبابه ، لما صار الواحد بعده في معنى الجنس لم يعمل إلا في نكرة ، وخالف الصفة المشبهة كما خالفت" لا"" إنّ" وبابها فيما ذكرنا. فإن قال قائل : إذا جاز أن تقول : " مررت برجل قائم أبوه وحسن وجهه" فتجريه على رجل ، وترفع فاعله به ، فلم لا تقول : " مررت برجل خير منك أبوه وأفضل منك أخوه" ، ونحو ذلك ، فتجريه على الأول ، وترفع به فاعله كما تقول : " مررت برجل خير منك وأفضل منك" فتجريه على الأول ، وترفع ضميره به؟

قيل له : الفصل بينهما أن" حسن وجهه وقائم أبوه" ، وما جرى مجراهما من أسماء الفاعلين ، إذا نقلنا الضمير إلى الأول فجعلناه فاعلا في اللفظ ، ثنّي وجمع وأنّث ، على مقدار ما فيه من الضمير ، وذلك قولك : " مررت برجل حسن الوجه ، وبرجلين حسني الوجه ، وبرجال حسني الوجوه ، وبامرأة حسنة الوجه" ، فلما جرت على ما قبلها فأشبهت اسم الفاعل الجاري على فعله ، في تثنيته وجمعه وتأنيثه وتذكيره ، وصار محله الفعل ، فكذلك اسم الفاعل لما ثنيناه وجمعناه وأنثناه وذكرناه في قولنا : " مررت برجل ضارب زيدا" ، وبرجلين ضاربين زيدا ، وبرجال ضاربين زيدا ، وامرأة ضاربة زيدا ، على قولك : " مررت برجل ضرب زيدا ، ورجلين ضربا زيدا ، ورجال ضربوا زيدا ، وامرأة ضربت زيدا".

فإذا كان اسم الفاعل لشيء هو من سبب الأول ، جاز أن تجريه على الأول ؛ لأنه يثنّى بتثنيته ويؤنث بتأنيثه ، ويجمع بجمعه ، فصار كأنه له فعل ، وأما" أفضل" وبابه فإنه لا


يثنى ولا يؤنث ولا يجمع ؛ لأنه ليس باسم الفاعل الجاري على فعله ، ولا هو على ذلك البناء كما كان" حسن الوجه ، وقائم الأب ، ونظيف الثوب" ؛ لأن" حسن الوجه وقائم الأب" هو اسم الفاعل بعينه ، غير أنّا نقلنا الفعل عن فاعله إلى غيره ، وبقي بناء لفظ الفاعل على حاله ، فبعد باب" أفضل" من شبه أسماء الفاعلين ، وصارت كالأسماء الجوامد التي لم تشتق من الأفعال ، كقولك : " مررت برجل قطن لباسه ، وبرجل كتّان رداؤه" ألا ترى أنه لا يثنّى القطن ولا الكتان ، ولا يجمع ولا يؤنث ؛ لأنك تقول : " مررت برجل قطن قميصاه وكتان قمصه" ، على معنى قميصاه قطن ، وقمصه كتّان فيكون الابتداء والخبر في موضع نعت الأول ، كما تقول : " مررت برجل أبوه قائم".

ويجوز أن يجري على من هو له إذا أفرد كقولك : " مررت برجل أفضل منك وبامرأة خير منك" ؛ لأن الأخير هو الأول ، فهو يجري عليه وإن كان جامدا ، ألا ترى أنك تقول : " مررت بجبل عشرين ذراعا" ، و" مررت بأخيك زيد" ، ونحو ذلك ، وليس في شيء من هذا معنى الفعل ، إلا أن الثاني هو الأول ، وقد يكون فيه نعتا أو عطف بيان ، فإن كان الجاري على الأول شيئا فيه معنى من معاني الفعل ـ وإن كان محله محل الأسماء الجامدة في أكثر أحوالها ـ فلا بد من ضمير يكون له فيه ؛ لأنه وإن كان كذلك ففيه معنى الفعل ، وهو قولك : " مررت برجل أفضل منك وخير منك" ؛ لأنه في معنى يفضلك ويعلو عليك.

وقد أجاز قوم من العرب : " مررت برجل أفضل منك أخوه ، وخير منك عمّه" ؛ لأنه مأخوذ من فعل وإن بعد شبهه بأسماء الفاعلين ، وهو قليل رديء ؛ لما ذكرناه قبل ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.

وقول سيبويه : " ولا يكون المعمول فيه إلا من سببه".

يعني أنك إذا قلت : " هو خير منك أبا وأحسن منك وجها" ، فأبوه هو الفاضل لا غير ، وكذلك وجهه هو الحسن لا غير ، إلا أنك نقلت فضل الأب وحسن الوجه إليه ، فجعلته الفاضل والحسن لفظا ، ثم فسرت ما به فضل وحسن ، كما ذكرنا ذلك في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل ، فهذا قوله : " لا يكون المعمول فيه إلا من سببه".

قال سيبويه : " وإن شئت قلت : هو خير عملا وأنت تنوي" منك".

يعني أن تقدير" منك" لا بد منه ، وإن كان محذوفا ؛ لأن التفضيل لا بد فيه من أن


تذكر الغاية التي منها بدأ المفضل راقيا في الفضل ، وذلك بمن فإن أظهرتها فهو حق الكلام ، وإن حذفتها فلعلم المخاطب أن التفضيل لا يقع إلا بها.

قال سيبويه : " وإن شئت أخرت الفصل في اللفظ وأصله التقديم".

يعني إن شئت قلت : " هو أفضل أبا منك" والفصل هو : " منك" لأنها فصلت ما قبلها من الإضافة إلى ما بعدها ، أعني أنك إذا قلت : " هو أفره منك عبدا" لو حذفت" منك" وجب إضافة أفضل إلى ما بعده كقولك : " هو أفضل عبد" على خلاف معنى" من" ، فإذا جئت بها فقد منعت الإضافة ، وفصلت الأول من الثاني.

وقوله : " وأصله التقديم" يعني أن أصل" منك" أن تكون مقدمة على التفسير ، وذلك أن التفسير إنما يجيء بعد تمام المفسّر ، وهي من تمامه ؛ لأنها الدالة على موضع التفضيل ، فهي من تمام أفضل ، والتفسير تبيين الأفضل ، فهذا معنى قوله : " وأصله التقديم" ؛ يعني أصل الفضل الذي بيناه.

قال سيبويه : " لأنه لا يمنعه تأخيره عن عمله مقدما".

يعني أنك إذا قدمت" منك" أو أخرته فهي فاصلة داخلة بمعنى التفضيل وقد عمل" أفضل" فيه وفي التفسير جميعا ، فلك أن تقدم أيهما شئت ، وإن كان أصل التقديم للفصل ، كما أنك إذا قلت : " ضرب زيدا عمرو" جاز وإن كان الأصل فيه تقديم عمرو ، وجاز تأخيره لأنه لا يحوّل المعنى عما كان عليه مقدما.

قال سيبويه : " كما قال ضرب زيدا عمرو ، فعمرو مؤخر في اللفظ مبدوء به في المعنى ، وهذا مبدوء به في أنه يثبت التنوين".

يعني أن" منك" مبدوء به قبل التفسير ، وهو الذي جلب التنوين ومن أجله دخل الكلام وإن كان مؤخرا في اللفظ ، لأن دخوله يوجب التنوين ، وموضعه التقديم فمن حيث جاز أن تقدم المفعول على الفاعل ، بنية التأخير ، جاز أيضا تقديم التفسير على" منك" بنية التأخير ، وإنما جاز ذلك فيهما ، لأن كل واحد منهما لا يخل به تأخيره عن موضعه في المعنى الذي له دخل في الكلام.

قال سيبويه : " وتعمل".

يعني أن" منك" تثبت التنوين ، ثم تعمل الاسم المنون في التفسير الذي بعده بالتنوين الذي فيه ، أو بتقدير التنوين ، لأن قولك : " أفضل منك أبا" ففي أفضل التنوين مقدر ، وهو


محذوف لأنه لا ينصرف.

قال سيبويه : " ولا يعمل إلا في نكرة كما أنه لا يكون إلا نكرة ولا يقوى قوة الصفة المشبهة فألزم فيه ، وفيما يعمل فيه وجها واحدا".

وقد مر تفسير هذا في أول الباب.

وقال سيبويه : " ويعمل في الجمع كقولهم : هو خير منك أعمالا".

فإن قال قائل : لم جاز التفسير في هذا بالواحد والجماعة ، ولا يجوز في" عشرين" وبابه أن تقول : " عشرون فلوسا وكلابا".

فالجواب في ذلك أن" عشرين" قد فهم مقداره ، وإنما الحاجة إلى معرفة الجنس الذي يجيء من بعده ، فلم يكن لجمع الجنس معنى ، إذ لا فائدة فيه أكثر من الدلالة على الجنس ، وأنت إذا قلت : " هو أفره منك عبدا وخير منك عملا" لم يكن في" أفره" دلالة على عدد ، فيجوز أن يكون له عبد واحد ، وعمل واحد ، ويجوز أن يكون له عبيد ، فإذا قلت : هو أفره منك عبيدا وخير منك أعمالا دللت بلفظ الجميع على فائدة النوع وأنهم جماعة ، وإذا قلت : " هو أفره منك عبدا" جاز أن يكون له عبد واحد ، وعبيد كثيرة ، فهذا فصل ما بينهما فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

قال سيبويه : " وإن أضفته فقلت : " أول رجل" اجتمع فيه لزوم النكرة وإن تلفظ بالواحد".

يعني أنك إذا أضفت" أفضل" وبابه فإنك تضيفه إلى جمع هو أحدهم ، ولا يكون إلا ذلك ، تقول : " زيد أفضل الناس" و" حمارك أفره الحمير" و" عبدك خير العبيد" فتضيفه إلى جماعة هو أحدهم ، كإضافة البعض إلى الكل ، والواحد إلى جنسه ، ولو قلت : " عبدك خير الأحرار" و" حمارك أفره البغال" لم يجز ؛ لأنك أردت تفضيل شيء على جنسه ، فلا بد من أن تضيفه إلى جنسه الذي تفضله عليه ، ليعلم أنه قد فضل أمثاله من جنسه ، ولو أردت تفضيله على غير ذلك ، دخل فيه الفصل والتنوين ، فقلت : " الفرس خير من الحمار" و" العلم خير من المال" ، ونحو ذلك ، فإذا قلت : " زيد أفضل الرجال" ، و" حمارك أفره الحمير" جاز أن تجيء بواحد من هذا الجنس ، فتضعه موضع جماعته ؛ لأنك أردت بالرجال والحمير جنس الرجال وجنس الحمير ، ولم ترد رجالا معهودين ولا حميرا معهودة.


ومثل ذلك : " أهلك الناس الدينار والدرهم" أردت جنس الدنانير والدراهم ، ولم ترد دينارا بعينه معهودا ، ولا درهما بعينه ، فكذلك إذا قلت : " زيد أفضل الرجال" و" حمارك أفره الحمير" فإنما أردت جنس الرجال وجنس الحمير ، ونوضح هذا بمسألة لو قلت : " زيد أفضل إخوته" لم يجز ، وإذا قلت : " زيد أفضل الإخوة" جاز ، والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد ، وزيد خارج عن جملتهم ، والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل ، فقال : من إخوة زيد؟ لم يجز أن تقول : زيد وبكر وعمرو وخالد ، وإنما تقول : عمرو وبكر وخالد ولا تدخل زيدا في جملتهم ، فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم ، فلم يجز أن تقول : " زيد أفضل إخوته" كما لم يجز أن تقول : " حمارك أفره البغال" ؛ لأن الحمار غير البغال كما أن زيدا غير إخوته ، وإذا قلت : " زيد خير الإخوة" جاز لأنه أحد الإخوة ، والاسم يقع عليه ، وعلى غيره ، فهو بعض الإخوة ، ألا ترى أنه لو قيل لك : من الإخوة؟ عددته فيهم ، فقلت : " زيد وعمرو وبكر وخالد" فيكون بمنزلة قولك : " حمارك أفره الحمير" ؛ لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير ، فلما كان ذلك على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس ، فيقول : " زيد أفضل رجل" و" حمارك أفره حمار" فيدل" رجل" على الجنس ، كما دل الرجال ، وكما في" عشرين درهما" و" مائة درهم" و" أفضل منك أبا" الواحد المنكور في هذا الباب يدل على الجنس ، وقد شرحنا ذلك قبل هذا الفصل ، ولا يجوز في المضاف من هذا الباب التثنية والجمع والتأنيث ، كما لم تجز في الذي قبل هذا التثنية والجمع والتأنيث ، تقول : " زيد أفضل الرجال" و" الزيدان أفضل الرجال" و" الزيدون أفضل الرجال" و" هند أفضل النساء" ، و" الهندات أفضل النساء" وإنما لم يثنّ ولم يجمع ولم يؤنث لمثل العلة التي لم يثنّ من أجلها" هذا أفضل منك" و" هذان أفضل منك" ، وكذلك جمعه وتأنيثه ؛ لأنهما جميعا للتفضيل إلا أن المضاف يفضّل على جنسه الذي هو بعضه ، ودال على تفضيل غيره.

فقوله : " اجتمع فيه لزوم النكرة وأن يلفظ بواحد".

يعني أنك إذا قلت : " أفضل رجل" فنكّرت لم يكن بدّ من التوحيد ، وإذا وحّدت لم يكن بدّ من التنكير فيجتمع فيه" لزوم النكرة وأن يلفظ بواحد".

قال أبو سعيد : يعني وأن توحد ، فيجتمع فيه التوحيد والتنكير معا.

قال سيبويه : (وذلك لأنه أراد أن يقول : " أول الرجال" فحذفه استخفافا


واختصارا ، كما قالوا : " كل رجل" يريدون كل الرجال).

قال : وهذا بيّن لأن رجلا شائع في الجنس ، والرجال للجنس ، فأقاموا" رجلا" مقام الرجال.

قال سيبويه : (كما استخفوا بحذف الألف واللام استخفوا بترك بناء الجمع ، واستغنوا عن الألف واللام اللتين في قولهم : خير الرجال وأول الرجال).

وقد تقدم هذا المعنى وشرحه ؛ لأنهم يقولون : " خير الرجال" فتكون الألف واللام مع الجمع ؛ لأن الذي يستوعب الجنس كله لفظ الجمع ، ودخلت الألف واللام لتعريف الجنس ، لأن الجمع بلا ألف ولام لا يدل على كل جنس ، وإنما يدل على كل جماعة من الجنس ، ألا ترى أنه يقال لكل ثلاثة من الرجال : " رجال" فإذا أدخلت الألف واللام تعرف على أحد معنيين : إما أن تدخلا على رجال معهودين ، فيتعرفوا بدخولهما ، وإما أن يكون دخولهما على حد تعريف الجنس ، فإذا قلت : " زيد خير الرجال" فهذا اللفظ على حقه وأصله في الكلام ، فإذا أرادوا التخفيف نزعوا الألف واللام ، وغيّروا بناء الجمع إلى الواحد ؛ لأن الواحد الشائع دال على النوع ، مغن عن لفظ جماعة تدل على ذلك ، فلم يؤثروا غيره في حال الاختصار والاستخفاف ؛ لأنه أخف ألفاظ الجنس ، وهو مغن عن غيره ، فأما أن تدخل الألف واللام وتجمع ، فتعطي الكلام حقه وأصله ، وإما أن تختصر وتوجز فتكتفي بالواحد المنكور ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

قال سيبويه : " ومثل ذلك في ترك الألف واللام وبناء الجمع قولهم : عشرون درهما ، وإنما أرادوا عشرين من الدراهم ، فاختصروا واستخفوا"

قال أبو سعيد : اعلم أن المقادير كلها محتاجة إلى إبانتها بالأنواع ؛ لأنها تقع على الأشياء كلها ، فإذا قلت : " عندي عشرون" احتمل أن يكون من الدراهم ومن الدنانير والثياب والعبيد ، وغير ذلك من الأنواع ، فإذا أردت إبانة ذلك لم يكن بدّ من ذكر النوع الدال على المقدار الذي ذكرته ، وقد تقدم القول أن النوع حكمه أن يعرّف مجموعا بالألف واللام ، فأما جمعه فلأنه واقع على كل واحد من ذلك الجنس ، فهو إذا واقع على جماعة ، وأما دخول الألف واللام فليتعرّف أنه أريد به الجنس ، فيكون معرّفا به ، فكان وجه ذلك أن تقول : " عشرون من الدراهم" ؛ لأن النون قد فصلت ، وليس" العشرون" عاملة في المعارف ، فلو قلت ذلك لكنت قد أتيت بالكلام على وجهه وحقيقته ، إلا أنه


يجوز فيه التخفيف كما ذكرنا فيما قبله ، فإذا خفّف نزعت منه الألف واللام ووحّد ، لأن الواحد المنكور شائع في الجنس ، وقد مر شرح هذا مستقصى ، فلما خففوه بنزع الألف واللام والتوحيد ، وكانت العشرون عاملة في النكرات نزعوا" من" أيضا تحقيقا وأعملوا العشرين في درهما.

فإن قال قائل : ولم جاز أن تعمل" العشرون" وما جرى مجراها ، وليست بفعل ولا جارية عليه ، وإنما هي اسم جامد؟

فالجواب في ذلك أن" العشرين" في الجمع بمنزلة" ضاربين" ، فلما كان" ضاربون زيدا" قد تدخل فيه النون فتنصب ما بعده كقولك : " ضاربون زيدا" وتنزع النون فتجر ما بعده كقولك" ضاربو زيد" ، وكانت العشرون فيها النون إذا كان ما بعدها جنسا كقولك : " عشرون درهما" ، وتنزع النون منها إذا كان ما بعدها مالكا ، وما جرى مجراه للإضافة ، كقولك : " عشرو زيد" ، وكان" ضاربون" مقتضيا للمضروب كما كان" عشرون" مقتضيا للنوع ، أشبه العشرون الضاربين ، فنصب ما بعده مع النون ، وخفض ما بعده مع نزعها.

وسنبين دخول النون على العشرين لم كانت عاملة في نكرة إن شاء الله تعالى.

قال سيبويه : " ولم يكن دخول الألف واللام يغير العشرين عن نكرته".

يعني : ولم يكن دخول الألف واللام في الدراهم ، إذا قلت : " عشرون من الدراهم" ، يغير العشرين عن نكرته ، لأنه مفصول منها ، فلما كان دخول الألف واللام في الدراهم ليس يؤثر في العشرين معنى يزول بتنكيرها وتوحيدها ، وكان نكرته الموحدة دالة على مثل ما دلت عليه الجماعة ، استجازوا تخفيفها حين استوى المعنى بالتخفيف في قولك : " عشرون درهما" ، والكلام على أصله في قولك : " عشرون من الدراهم" وذلك معنى قوله : " فاستخفوا بترك ما لم يحتج إليه".

قال سيبويه : " ولم تقو هذه الأحرف قوة الصفة المشبهة".

يعني أنها لم تقو أن تعمل إلا في نكرة ، والصفة المشبهة تعمل في المعرفة والنكرة ، ولأنك تقول : " زيد حسن الوجه" ، كما تقول" زيد حسن وجها" ولم تقو أن تجري على الأول ، فتقول : " مررت برجل أفضل منك أبوه" كما قويت الصفة المشبهة في قولك : " مررت برجل حسن الوجه أخوه".


قال سيبويه : " ألا ترى أنك تؤنثها وتذكرها وتجمعها كالفاعل".

وقد مر هذا الاعتلال مستقصى.

قال سيبويه : " وتقول : " مررت برجل حسن الوجه أخوه" كما تقول : " مررت برجل ضارب زيد أبوه".

فإن قال قائل : ما هذا التشبيه ، وكيف تقدير هذا الكلام؟ فالجواب في ذلك أنك إذا قلت : " مررت برجل حسن الوجه" ، ففي" حسن" ضمير من" رجل" قد نقل إليه من الوجه ، كما أنك إذا قلت : " مررت برجل ضارب زيد" ففي" ضارب" ضمير للرجل ، إلا أنه غير منقول عن غيره إليه فإذا قلت : " مررت برجل حسن الوجه أخوه" نقلت ذاك الضمير من الوجه إلى الأخ ، كما كنت تنقله إليه ؛ لأنه من سببه ، كما تقول : " مررت برجل ضارب زيد أبوه" فتجعل : " أبوه" مكان الضمير الذي كان في" ضارب" من رجل ؛ لأنا قد بيّنا أن الصفة المشبهة تجري مجرى اسم الفاعل.

قال سيبويه : فإن جئت ب" خير منك" أو" عشرين" رفعت ، لأنها ملحقة بالأسماء لا تعمل عمل الفعل فلم تقو قوة المشبهة ، كما لم تقو المشبهة قوة ما يجري مجرى الفعل.

يعني أنك إذا قلت : " مررت برجل خير منك أبوه" و" برجل عشرون درهما ماله" ، لم تجر" خيرا" و" عشرين" على الأول ، وترفع ما بعده كما تجري اسم الفاعل على ما قبله وترفع ما بعده به ، ولا تقول : " مررت برجل خير منك أبوه" كما تقول : " مررت برجل قائم إليك أبوه".

وقوله : ولم يقو : " خير منك" و" عشرون رجلا" قوة الصفة المشبهة يعني لم يقو أن تقول : " مررت برجل خير منك أبوه" و" عشرين درهما دراهمه" كما تقول : " مررت برجل حسن الوجه أبوه" كما لم تقو الصفة المشبهة قوة اسم الفاعل الجاري على فعله لا تقول : " زيد الوجه حسن" كما تقول : " زيد الرجل ضارب" ، وقد بيّنا هذا فيما تقدم.

قال سيبويه : (وتقول : " هو خير رجل في الناس" ، و" أفره عبد في الناس" ؛ لأن الفاره هو العبد).

يعني أنك إذا قلت : " هو خير رجل في الناس" و" أفره عبد" فأضفت ، فقد صار الأول الذي هو" خير" و" أفره" بعض المضاف إليه لأن معناه خير الرجال ، وأفره العبيد ،


فلا بد من أن يكون هو رجلا من الرجال الذين أضيف إليهم ، وهو عبد من العبيد ، لما بيّنا من أن الإضافة توجب هذا ، فإذا كان كذلك فقد صار هو العبد الفاره ، والرجل الفاضل الذي فضل على جنسه.

وحقيقة معنى قوله : " لأن الفاره هو العبد" :

أن في" أفره" ضميرا يرتفع بأفره ، وذلك الضمير هو الأول ، وقد ارتفع بالفراهة ، والفراهة له في الحقيقة ، ولم تنقل إليه عن غيره ، ولا يشبه هذا قولك : " هو أفره منك عبدا" لأن في" أفره" ضميرا من الرجل ، يرتفع بأفره كما يرتفع الفاعل بفعله ، وليست الفراهة له في الحقيقة وإنما الفراهة للعبد نقلت إليه.

قال سيبويه : " ولم تلق أفره ولا خيرا على غيره ثم تختصّ شيئا"

يعني أنك لم تلق أفره ولا خيرا على شيء نقل إليه عن غيره ، ثم بيّن من المنقول عنه ، كقولك : " زيد أفره منك عبدا" و" خير منك أبا" فالمعنى مختلف.

(وليس هاهنا فصل)

يعني : أنك إذا قلت : " هو أفره عبد" لم يكن ثم فصل وهو منك ، والفصل يوجب أن الثاني غير الأول كقولك : " زيد أنظف منك ثوبا" فثوبا غير زيد ، فمتى جعلت الثاني غير الأول احتجت إلى" من" وإذا جعلت الثاني هو الأول لم تحتج إليها على حد ما بينا.

قال سيبويه : " ولم يلزم إلا ترك التنوين كما أن" عشرين" و" خيرا منك" لم يلزم فيه إلا التنوين".

قال أبو سعيد : يعني أن باب" أفضل رجل وخير رجل" لزم فيه ترك التنوين كما أن" عشرين رجلا" و" خيرا منك أبا" لزم فيه التنوين ، وكل واحد منهما قد تقدمت علته.

وليس لزوم التنوين في" عشرين" و" خير منك" هو علة ترك التنوين في" أفضل رجل" و" خير رجل" ، ولكن كل واحد منهما يلزم فيه الذي ذكر.

قال سيبويه : " وإنما أثبتوا الألف واللام في قولهم : " أفضل الناس" لأن الأول قد يصير به معرفة".

يعني : أن باب المضاف في : " أفضل" يجوز تعريف الثاني فيه وتنكيره ، وإنما جاز ذلك لأنه يجوز تعريف الأول فيه ، ألا ترى أنك إذا قلت : " هذا أفضل رجل" فهو نكرة ، قد فضل على هذا الجنس وهو منهم ، تقول : " مررت برجل أفضل رجل" ، وقد يكون هذا


بعينه معرفة بتعريف ما أضيف إليه ، فتقول : " مررت بزيد أفضل الناس" ، وإنما جاز دخول الألف واللام من قبل أن المضاف يكتسي بالمضاف إليه تخصيصا ، فإذا كان كذلك جاز أن تعرّف المضاف إليه ، لتزيد المضاف تخصيصا بتعريف المضاف إليه ، وإذا كان غير مضاف لم يكن مختصا بمعنى يخصه ، فلم يجز دخول الألف واللام على التمييز ؛ لأنه لا يغير الأول عن حاله ، ولم يكن له معنى ، إذا كانت الحاجة إلى واحد منكور شائع في الجنس دال عليه على ما قدمناه.

قال سيبويه : " فأثبتوا الألف واللام وبناء الجميع ولم ينوّن".

يعني أنهم قالوا : " أفضل الرجال" فأثبتوا الألف واللام في الرجال ، وجمعوا الرجال ، ولم ينونوا" أفضل" ، أعني أنهم لم يجعلوه في تقدير التنوين حين أضافوا ، كما كان كذلك في حسن الوجه لأن النية فيه" حسن وجهه" فلذلك تعرف" أفضل الرجال" ولم يتعرف" حسن الوجه".

قال سيبويه : " وفرقوا بترك التنوين والنون بين معنيين".

أراد فرقوا بين معنى الإضافة والتمييز.

ونذكر من هذا الباب ما يكون عونا على معرفته وزائدا في إيضاحه ، وإن لم يكن تفسيرا لشيء من ألفاظ سيبويه ، ومن ذلك أنك إذا قلت : " زيد أفضل منك أبا" ، فقد جعلت" أفضل" بمنزلة الفعل ، كأنك قلت : " زيد يفضل أبوه على أبيك" ، فهذا تستوي تثنيته وجمعه ، ولا بد له من" من" ولا تدخله ألف ولام ، ولا يضاف ، لأنك عبرت به عن معنى الفعل ، فأعطيته ما للأفعال ، وأدخلت" من" للمعنى الذي ذكرناه من ابتداء التفضيل ، فإن أردت أن تنقل هذا التفضيل إلى الذات فتجعله بمنزلة الفاضل أدخلت الألف واللام وأضفت ، وثنيت وجمعت وأنثت ، وأزلت من وتقديرها ، فتقول : " زيد الأفضل أبا والأكرم خالا"" وهما الأفضلان" و" هم الأفضلون والأفاضل" ، وجعلت بناء المؤنث على غير بناء المذكر في تفضيل الذات ، فقلت : " هند الفضلى" و" الهندان الفضليان" و" الهندات الفضليات" والفضل ، كما تقول : " زيد الفاضل" و" هند الفاضلة" إلا أن في الأفضل مبالغة في المدح ليست في الفاضل ، قال الله تعالى : (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً)(١).

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ١٠٣.


ولا يصلح أن تقول : الأفضل منك أبا ، لأن منك إنما تدخل إذا كان" أفضل" في معنى الفعل : لابتداء الغاية التي منها ابتداء الفضل فإذا نقلت إلى الذات بطل ذلك المعنى ، وصار" الأفضل" بمعنى الفاضل ، فكما لا يجوز أن تقول : " الفاضل منك" لم يجز أن تقول : " الأفضل منك".

وقال الزجاج : فرقهم بالنون قولهم في التثنية" الأفضلان" والجمع" الأفضلون" مثل :

(بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) فهذه النون فاصلة لأنها جعلت الآخر غير الأول.

قال سيبويه : (وقد جاء من الفعل ما أنفذ إلى مفعول ، ولم يقو قوة غيره ، مما تعدى إلى مفعول ، وذلك قولك : امتلأت ماء ، وتفقأت شحما).

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا الباب مثل ما تقدم من نقل الفعل عن الثاني إلى الأول وذلك أن قولك : امتلأت ماء ، معناه امتلأ مائي ، وتفقأت شحما ، أي تفقأ شحمي ، ومثله : " تصببت عرقا" و (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) وإنما هو تصبب عرقي ، واشتعل شيب الرأس ، فنقل الفعل عن الثاني إلى الأول ، ونزع عن الثاني ، فارتفع الأول بالفعل المنقول إليه ، فصار فاعلا في اللفظ ، فمنع الفعل أن يعمل في فاعله على الحقيقة فيرفعه ؛ لأنه لا يرتفع به أكثر من واحد وتوابعه ، وانتصب المنقول عنه الفعل ؛ لأن الفعل لا تصح إضافته إليه فينخفض به ولا يرتفع به وقد ارتفع به غيره ، ولم يبق إلا النصب فنصب. فإن قال قائل : فلم نكّر ولم تدخل عليه الألف واللام كما فعل ذلك في الوجه من قولك : حسن الوجه؟ فإن الجواب في ذلك أن" تفقأت شحما" وبابه وإن كان قد شابه" حسن الوجه" من جهة ، فقد فارقه من غيرها ، وذلك أن" حسن الوجه" انتقل الفعل عنه إلى اسم الفاعل ، وصار المنقول عنه بمنزلة المفعول ، والمنقول إليه بمنزلة اسم الفاعل الذي يضاف مرة وينون أخرى فيعمل ، ولا يكتفي" الحسن" بنفسه ، إذا أردت به حسن الوجه.

و" تفقأت" قد يكتفي بنفسه ، فيقال : " تفقأت" ويسكت عليه ، غير أن التفقؤ يكون من أشياء ، فصار" تفقأت" بمنزلة" عشرين" لأنك تتفقأ من أشياء كثيرة ، كما أن" العشرين" تكون من أشياء كثيرة ، فلما كان إبانة" العشرين" بنكرة الجنس على طريق التمييز ، وجب أن تكون إبانة التفقؤ بنكرة على طريق التمييز ؛ ولا يجوز إدخال الألف

__________________

(١) سورة مريم ، آية : ٤.


واللام ، ولا التقديم ولا الإضمار في ذلك عند سيبويه ، لا يجوز أن تقول : " شحما تفقأت" ولا" عرقا تصببت" ، ولا" تصببت العرق" ولا" عرق تصببته" ، كما لم يجز في" العشرين" وما مر من أبواب التمييز شيء من ذلك.

وزعم المازني وأبو العباس المبرد أنه يجوز تقديم التمييز في هذا الباب ، فتقول : " عرقا تصببت" ، و" نفسا طبت" ، و" شحما تفقأت" ، واحتجوا لذلك بأن قالوا : العامل في التمييز شيئان : أحدهما اسم جامد ، والآخر فعل متصرف ، فالاسم الجامد نحو" العشرين درهما" و" أفضل منك أبا" وهذا الضرب لا يجوز تقديم التمييز فيه على الاسم المميز ، والضرب الثاني وهو ما كان العامل فيه متصرفا ، وذلك" تفقأت شحما".

قالوا : هذان الضربان في التمييز يشبهان الحال ، وذلك أن العامل في الحال على ضربين : فعل متصرف ، وشيء في معنى فعل غير متصرف ، فما كان فعلا متصرفا جاز التقديم فيه والتأخير ، كقولك : " قام زيد ضاحكا" ، و" ضاحكا قام زيد" ، وما كان العامل فيه معنى الفعل ، لم يجز تقديم الحال عليه ، وذلك قولك : " هذا زيد قائما" و" خلفك زيد قائما" ولا يجوز : " قائما هذا زيد" ، و" قائما خلفك زيد" ، واحتجوا في ذلك أيضا ببيت أنشدوه ، وهو قول الشاعر :

أتهجر سلمى للفراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق يطيب (١)

أراد : وما كان يطيب نفسا بالفراق.

وكأن الحجة لسيبويه في ذلك أن هذه الأشياء المنصوبة قد كانت فاعلة نقل عنها الفعل ، فجعل الأول في اللفظ ، ولو نصبناها وقدمناها لأوقعناها موقعا لا يقع فيه الفاعل ؛ لأن الفاعل متى تقدم الفعل لم يرتفع به ، وكذلك إذا قدمناه لم يصح أن يكون في تقدير فاعل نقل عنه الفعل ، إذ كان هذا موضعا لا يقع فيه الفاعل ، ووجه ثان وهو أن هذا الباب لا يعمل إلا في نكرة ، فهو أضعف من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل فلما كانت الصفة المشبهة باسم الفاعل لا يجوز تقديم ما عملت فيه عليها كان هذا أحرى بالامتناع من ذلك.

__________________

(١) قائله المخبل السعدي واسمه ربيع بن ربيعة بن مالك ويقال إنه لأعشى همدان واسمه عبد الرحمن بن عبد الله ونسب لقيس بن الملوح العامري العيني ٣ / ٢٣٥ ـ الخصائص ٢ / ٣٨٤ ـ ابن يعيش ٢ / ٧٣.


فإن قال قائل : فإن هذا الباب قد يعمل في المعارف كما يعمل في النكرات ، وذلك قولك : " سفه زيد نفسه" ، و" غبن رأيه" و" وجع ظهره" ، قال الله عزوجل : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)(١) ، وقال بعض الشعراء :

أيجع ظهري وألوي أبهري

وما الصحيح ظهره كالأدبر (٢)

قيل له هذه أحرف شاذة حملت على معانيها ، فإذا قال : " سفه نفسه" فكأنه قال : " سفّه نفسه" ، وتأويل آخر وهو أن تجعله سفه في نفسه ، فحذف الخافض وأوصل الفعل ، وكذلك" غبن رأيه" على معنى جهل رأيه ، وإن شئت على التأويل الآخر ، وهو" غبن في رأيه" ، و" وجع في ظهره" معناه وجع من ظهره فإن شئت وجع من ظهره وإن شئت على معنى وجع ظهرا على التأويلين اللذين مرّا وإذا شذ الشيء في باب لم يجعل أصلا يقاس عليه.

وأما البيت الذي أنشدوه :

أتهجر ليلى بالفراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق يطيب (٣)

فإن الرواية عند كثير من أصحابنا : " وما كان نفس بالفراق تطيب".

وإذا كان كذلك فلا حجة فيه وربما اضطر الشاعر فأدخل الألف واللام في هذا الباب ، وهو يريد طرحهما.

قال الشاعر :

رأيتك لمّا عرفت جلادنا رضيت

وطبت النفس يا بكر عن عمرو (٤)

أراد وطبت نفسا ، غير أنه أدخل عليها الألف واللام لمّا علم أنه يريد نفسا بعينها ، وهي نفس المخاطب ، ومثله :

" فأرسلها العراك" ونحوه (٥)

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٣٠.

(٢) اللسان (بهر) ٥ / ١٥٠ ، اللسان (دبر) ٥ / ٣٥٤.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) شرح ابن عقيل (حاشية الخضري) ١ / ٨٦ وشرح شواهد ابن عقيل ص ٣٨.

(٥) جزء من بيت قائله لبيد بن ربيعة الصحابي وصف به حمروحش تعدو إلى الماء.

فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نفص الدّخال

ديوان لبيد ٨٦ ، الخزانة ١ / ٥٢٤ ، ابن يعيش ٢ / ٦٢ ، ٤ / ٥٥.


وقوله : " وقد جاء من الفعل ما قد أنفذ إلى مفعول" أراد" تفقأت وامتلأت" ونحوهما لأنهما أفعال قد أنفذت إلى ما بعدها من التمييز ، وهو" شحما وماء وعرقا" ، وأشباه ذلك.

ومعنى" أنفذ" أي أعمل فيه.

" ولم يقو قوّة غيره مما تعدى إلى مفعول" يعني : ولم يقو قوة" ضربت زيدا" الذي قد تعدى إلى مفعول ؛ لأن" ضربت" ونحوه يتعدى إلى المعارف والنكرات ، وتقدّم مفعولاتها وتؤخر ، وليس ذلك في : " تفقأت شحما" وبابه.

قال سيبويه : " ولا تقول : امتلأته ولا تفقأته ، ولا يعمل في غيره من المعارف".

قال أبو سعيد : وإنما لم يجز أن تقول : تفقأته ؛ لأن الضمير معرفة ، وقد قدمنا أنه لا يعمل في الضمائر ولا في غيرها من المعارف ، وهي ما فيه الألف واللام ، أو كان مضافا إلى معرفة.

قال سيبويه : " ولا يقدّم المفعول فيه فتقول : ماء امتلأت"

وقد تقدم تفسير هذا ، وما فيه من الاختلاف ، ثم قال سيبويه مشيرا إلى : " تفقأت شحما" ، و" تصببت عرقا" :

" وذلك لأنه فعل لا يتعدى إلى مفعول وإنما هو بمنزلة الانفعال"

قال أبو سعيد : اعلم أن في أوزان الأفعال ما يكون متعديا وغير متعدّ ، ومنه ما لا يكون متعديا ألبتّة ، على معان مختلفة ، فمن ذلك أن" فعلت" يتعدى كل ما كان على وزنه ، وفعلت لا يتعدى ما كان على وزنه ، " وانفعلت" غير متعدّ أيضا نحو انطلق وانقطع وإنما لم يتعدّ لأنه وضع في أصله لقبول المفعول تأثير الفاعل ، كقولك : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، وجررته فانجر ونحو ذلك.

وربما استعمل للفاعل المبتدئ بالفعل الذي لا يتعداه ، كقولهم : " انطلق زيد" كما تقول : " ذهب وعدا" ، ولم يجئ متعدّيا في شيء من كلامهم ؛ إذ كان الأصل ما ذكرناه ، وقد يكون من الأمثلة ما يكون مجراه مجرى الانفعال في حال ، ومجرى غيره في أخرى ،


وذلك نحو : " تفعّل وافتعل" ، وتقول : كسّرته فتكسّر ، وقطّعته فتقطّع ، وفقّأته فتفقّأ ، وصبّبته فتصبب.

وقد يجيء على غير ذلك تقول : تجبر الرجل وتكبر وليس على قولك : جبرته فتجبر و" تجرّيت الشيء" ، و" تعلقت الرجل" على غير معنى الانفعال ؛ إذا كان متعديا ، وكذلك" افتعل" نحو شغلته فاشتغل ، وغررته فاغترّ ، فهذا مثل الانفعال ، وقد تقول : " ارتبطته واشتريته" ، كما تقول : ربطته وشربته على غير الانفعال ونحو ذلك.

فلما كان هذان المثالان قد يجريان مجرى الانفعال أو غيره ، وكان الانفعال لازما لموضعه ، غير متعدّ بحال كان قوله : " تفقأت" هو مطاوعة" فقأت" و" امتلأت" مطاوعة" ملأت" ، وقد بينّا أن المطاوعة إنما هي قبول فعل الفاعل كالانفعال الذي بينّاه.

اعلم أن" تفقأت" و" امتلأت" اللذين ذكرهما لا معنى لتعديهما ؛ إذ كانا بمنزلة الانفعال في هذا الموضع ، فلا يجوز أن يتعديا ، كما لا يتعدى" انفعل" الذي هو مثل" انكسر"" واندفع" من كسرته ودفعته.

فإن قال قائل : فلم زعمتم أنهما مثلان في هذا الباب؟ فالجواب في ذلك : أنك تقول : " ملأته فامتلأ" و" فقأته فتفقأ" ، كما تقول : " كسرته فانكسر ، ودفعته فاندفع" فهذا حجة فساد تعدّي هذه الأفعال ؛ إذ كانت على ما وصفنا مع ما تقدم من الاعتلال لذلك.

قال سيبويه : " ومثله : دحرجته فتدحرج".

يعني : مثله في فعل المطاوعة ، فيكون" دحرجته" مثل" ملأته" ، و" تدحرج" مثل" امتلأ" ، ولا يتعدى إذ كان معناه الانفعال.

قال سيبويه : " وإنما أصله امتلأت من الماء ، وتفقأت من الشحم ، فحذف هذا استخفافا".

يعني : أن قوله : امتلأت ماء ، وتفقأت شحما ، إنما هو امتلأت من الماء ، وتفقأت من الشحم ، والماء والشحم هاهنا جنسان بمنزلة عشرين من الدراهم ، فإذا حذفت" من" نقلت الجنس إلى واحد منكور شائع فيه ، فقلت : امتلأت ماء وتفقأت شحما كما قلت : " عشرون درهما" ، وتفسيره تفسير العشرين.

قال سيبويه : " وكان الفعل أجدر أن يتعدى ؛ إذا كان عشرون ونحوه يتعدى وهو في أنهم قد ضعفوه مثله".


قال أبو سعيد : يعني أن" امتلأت وتفقأت" وبابه أولى بالعمل في المنكور الذي بعده ؛ إذ كانوا قد عدوا العشرين إلى المنكور المميز له وهو جامد فإذا كانوا قد عدوه للعلة التي ذكرناها من شبهه باسم الفاعل ، كان ما هو فعل على الحقيقة أولى بالتعدي ، وأحق بالعمل والنفوذ ، غير أنهم قد ضعّفوا هذا الفعل للعلة التي ذكرناها آنفا ، حتى منعوه التعدي إلى غير المنكور ، فلما حل هذا المحل صار بمنزلة" العشرين".

قال سيبويه : " وتقول : هو أشجع الناس رجلا ، وهما خير الناس اثنين".

قال أبو سعيد : إذا قلت : " هو أشجع الناس رجلا وهما خير الناس اثنين" فمعناه هو أشجع الناس إذا صنفوا رجلا رجلا ، وهما خير الناس إذا صنفوا اثنين اثنين ، ولا يصح في هذا أن تقول : " هو أشجع الناس رجالا" ؛ لانقلاب المعنى ؛ لأنك إذا قلت : " هو أشجع الناس رجالا" كان بمنزلة قولك : " هو أفره الناس عبيدا ، ومعناه عبيده أفره من عبيد غيره ، وإنما أردت بقولك : " هو أشجع الناس رجلا" ما أردت بقولك : " حسبك به رجلا" ، على التمييز ، والشجاعة له غير منقولة إليه عن غيره.

وإن أردت بقولك : " هو أشجع الناس رجلا" ما أردته بقولك : " هو أشجع الناس رجالا" جاز ، كما يجوز : " هو أفره الناس عبيدا وعبدا ، وإنما تقول هذا إذا أردت أن قبيلته ورجاله أشجع من رجال غيره ، كما تقول : " هو أشجع الناس قبيلة".

وإن أدخلت" من" في الوجه الأول جاز أن تقول : " هو أشجع الناس من رجل" كما تقول : " حسبك بزيد من رجل" فإن أردت به : " هو أشجع الناس رجالا" كما تقول : " هو أفره الناس عبيدا" لم يصلح أن تقول : " هو أشجع الناس من رجل" كما لا تقول : " هو أفره الناس من عبد" ، وقد جعلت" هو" للمولى.

وإنما انتصب" رجلا" و" اثنين" في هذين الموضعين ، لأن المضاف إليه قد صار بمنزلة التنوين ، وهو المجرور الذي قاله سيبويه ، فانتصب ما بعده ؛ لأنه يصير بمنزلة اسم منون كقولك : " خير منك أبا" و" أحسن منك وجها".

قال سيبويه : " والمجرور هاهنا بمنزلة التنوين ، وانتصب الرجل والاثنان كما انتصب الوجه في قولك : هو أحسن منك وجها".

وإنما انتصب" وجها" ؛ لأن" منه" قد منعت" أحسن" من الإضافة إلى" الوجه" فامتنع الجر في" الوجه" وصارت منه بمنزلة النون في" عشرين" التي تمنع إضافة


" العشرين" ما كانت موجودة ، وكذلك" منه" إذا كانت موجودة أو مقدرة ، امتنع" أحسن" من الإضافة إلى" وجه" وانتصب" وجها" على ما ينتصب عليه" درهما" بعد" عشرين" وصار" الناس" في قولك : " أشجع الناس وخير الناس" بمنزلة" منه" في" أحسن منه وجها" وبمنزلة النون في عشرين ، فمنع إضافة : " أشجع" إلى" رجل" و" خير" إلى" اثنين" فانتصب" رجلا" و" اثنين" ، كما انتصب" وجها" و" درهما" في" أحسن منه وجها" ، و" عشرين درهما".

قال سيبويه : " ولا يكون إلا نكرة كما لم يكن ثم إلا نكرة".

يعني لا يكون" أشجع الناس رجلا" إلا نكرة ، ولا تقول : " هو أشجع الناس الرجل" كما لم تقل : " هو أحسن منه الوجه" ولا يكون" وجها" في" أحسن منه وجها" إلا نكرة ، وقد بينا تفسير ذلك فيما مضى.

قال سيبويه : " والرجل هو الاسم المبتدأ" يعني أن قولك : " هو أشجع الناس رجلا" على غير قولك هو أشجع الناس أبا ؛ لأن قولك : " هو أشجع الناس أبا" ليست الشجاعة في الحقيقة للأول ، وإنما هي لأبيه منقولة إليه لفظا ، وأبوه غيره ، وفي : " أشجع الناس رجلا" ليست الشجاعة منقولة إليه عن غيره ، بل هو الرجل الشجاع فهو كقولك : " حسبك بزيد رجلا" و" أكرم به فارسا".

قال : يعني في المسألة التي ذكرها" هو أشجع الناس" كما تقول : " حسبك بزيد رجلا" و" أكرم بزيد رجلا" وهو الممدوح بهذا والمتعجب منه ، ولم يرد" هو أشجع الناس رجلا" على حد قولك : " هو أفره الناس عبدا" إذا كان هو للمولى ، وقد ذكرنا سائر الوجوه فيه ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

وقال أبو الحسن : (١) هو جميع الرجال ؛ لأنك إنما أردت من الرجال ، فكان" رجل" إنما يدل على هذا المعنى ، وكذلك" اثنان" هما كل اثنين ؛ لأنك إنما أردت هما خير الناس إذا صنفوا اثنين اثنين.

والاثنان كذلك إنما معناه هو خير رجل في الناس ، وهما خير اثنين في الناس ، وإن شئت لم تجعله الأول ، فتقول : " هو أكثر الناس مالا".

__________________

(١) هو أبو الحسن سعيد بن سعدة الأخفش الأوسط.


قال أبو سعيد : والذي قاله أبو الحسن تفسير ، وقد دخل فيما قلناه.

أما قوله : " لأنك أردت من الرجال". فمعنى ذلك أنك إذا قلت : " هو أشجع الناس رجلا" فهو بمنزلة قولك : " هو أشجع الناس من الرجال" ، ثم تنزع" من" وتوحّد الرجال ، وتنكّر الواحد على ما ذكرناه ؛ ليدل على الجنس ، فتقول : " هو أشجع الناس رجلا" كما أنك إذا قلت : " عندي عشرون درهما" فمعناه من الدراهم وجئت بنكرة من جنس الدراهم ، وحذفت من لتدل على الجنس ، وقد مر نحو هذا فيما تقدم.

قال سيبويه : " ومما أجري هذا المجرى أسماء العدد ، تقول فيما كان لأدنى العدد بالإضافة إلى ما يبنى لجمع أدنى العدد إلى أدنى العقود".

قال أبو سعيد : اعلم أن أدنى العدد الذي يضاف إلى أدنى الجموع ، ما كان من ثلاثة إلى عشرة ، نحو ثلاثة وأربعة وخمسة وعشرة.

وأدنى الجموع على أربعة أمثلة ، وهو أفعل وأفعال وأفعلة وفعلة ، " فأفعل" نحو : " ثلاثة أكلب وأربعة أفلس" ، وأفعال نحو : " خمسة أجداع وسبعة أجمال" ، وأفعلة نحو : " ثلاثة أحمرة وتسعة أغربة ، وفعلة نحو : " عشرة غلمة وخمس نسوة".

وأدنى العدد يضاف إلى أدنى الجموع ، وإنما أضيف من قبل أن أدنى العدد بعض الجمع ، لأن الجمع أكثر منه فأضيف إليه ، كما يضاف البعض إلى الكل ، كقولك : " خاتم حديد" و" ثوب خزّ" لأن الحديد والخز جنسان ، والثوب والخاتم بعضهما.

فإن قال قائل : وكيف صارت إضافة أدنى العدد إلى أدنى الجمع أولى من إضافته إلى الجمع الكثير؟

قيل له : من قبل أن العدد عددان : عدد قليل وعدد كثير ، فالقليل ما ذكرناه من الثلاثة إلى العشرة ، والكثير ما جاوز ذلك ، والجمع جمعان : جمع قليل ، وهو ما ذكرنا من هذه الأبنية الأربعة التي قدمنا ، وجمع كثير ، وهو سائر أبنية الجمع ، فاختاروا لإضافة أدنى العدد إليه أدنى الجمع ؛ للمشاكلة والمطابقة ، وقد يضاف إلى الجمع الكثير ، كقولهم : " ثلاثة كلاب" ، و" ثلاثة قروء" لأن الجمع الكثير والقليل قد يضاف إلى جنسه ؛ فعلى هذا إضافتهم العدد القليل إلى الجمع الكثير ، ولهذا قال الخليل : إنهم إذا قالوا : " ثلاثة كلاب" فكأنهم قالوا : ثلاثة من الكلاب ، فحذفوا وأضافوا استخفافا.

وينزعون الهاء من الثلاثة إلى العشرة في المؤنث ، ويثبتونها في المذكر ، كقولهم :


" ثلاث نسوة" و" عشر نسوة" و" ثلاثة رجال" و" عشرة رجال" فإن قال قائل : لم أثبتوا الهاء في المذكر ونزعوها من المؤنث؟ ففي ذلك جوابان : أحدهما : أن الثلاث من المؤنث إلى العشر مؤنثات الصيغة ، فالثلاث مثل : " عناق" ، وأربع مثل : " عقرب" وكذلك إلى العشرة ، قد صيغت ألفاظا للتأنيث ، مثل عناق ، وأتان ، وعقرب ، وقدر ، وفهر ، ويد ، ورجل ، وأشباه لذلك كثيرة ، فصيغت هذه الألفاظ للتأنيث ، فصارت بمنزلة ما فيه علامة التأنيث ، وغير جائز أن تدخل هاء التأنيث على مؤنث تأنيثه بعلامة أو غيرها ، وهذا القول يوجب أنه متى سمي رجل بثلاث لم تصرفه في المعرفة ؛ لأنها قد صار محلها محل عناق ، إذا سمي بها رجل.

وأما الثلاثة إلى العشرة في المذكر ، فإنما دخلت الهاء فيها لتأنيث الجماعة ولو سمي رجل بثلاث من قولك : " ثلاثة" لانصرف في المعرفة والنكرة ؛ لأنه يصير محلها : محل" سحابة" و" سحاب" ، وإذا سمي رجل بسحاب انصرف في المعرفة والنكرة.

والقول الثاني : أنه فصل بين المذكر والمؤنث بالهاء ، ونزعها يدل على تأنيث الواحد وتذكيره.

فإن قال قائل : فهلا أدخلوا الهاء في المؤنث ، ونزعوها من المذكر؟

فالجواب أن المذكر أخف في واحده من المؤنث ، فثقل جمعه بالهاء وخفف جمع المؤنث ؛ ليعتدلا في الثقل.

وفي الفرق بينهما وجه آخر ، قاله بعض البصريين ، وهو أنه قد تلحق الهاء في جمع المذكر في الموضع الذي تسقط فيه من المؤنث ، كقولهم : " عناق" و" ثلاث أعنق" ، و" عقاب" و" ثلاث أعقب" ثم قالوا : غراب ، و" ثلاثة أغربة" ؛ لأن العقاب مؤنث ، والغراب مذكر.

وقد فرق بينهما بعض الناس بمثل هذا المعنى من غير هذا الطريق ، فقال : لما قالت العرب : قرد وقردة ، وقردة وقرد حملوا" الثلاث" إلى" العشر" على ذلك ، فأثبتوا فيما واحده مذكر الهاء ، كما أثبتوا الهاء في" قردة" حين كان واحدها مذكرا فاعرفه إن شاء الله تعالى.

واعلم أن" الثلاثة" إلى" العشرة" من حكمها أن تضاف إلا أن يضطر الشاعر ، فينون وينصب ما بعدها ، فيقول : " ثلاثة أثوابا" ونحو ذلك ، والوجه ما ذكرناه من


الإضافة.

وإنما كان ذلك الوجه ؛ لما قدمنا ذكره ؛ لأنه بمنزلة إضافة الشيء إلى النوع الذي هو منه ، كقولنا : " ثوب خزّ" و" خاتم حديد" وكذلك أضيف : " مائة ثوب" و" ألف ثوب" ومع ذلك فإن الإضافة في اللفظ أخف.

وتعرّف" ثلاثة" بإدخال الألف واللام على ما بعدها ، فتقول : " ثلاثة الأبواب" و" خمسة الأشبار" ، قال ذو الرمة :

وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

وقال آخر :

وما زال مذ عقدت يداه إزاره

فدنا فأدرك خمسة الأشبار (١)

فإن قال قائل : فلم قالوا : " ثلاثة أثواب" و" عشر نسوة" ، ولم يقولوا : " واحد أثواب ، واثنتا نسوة".

فالجواب في ذلك : أن الواحد والاثنين يكون لهما لفظ يدل على المقدار والنوع ، فيستغنى بذلك اللفظ عن ذكر المقدار الذي يضاف إلى النوع ، كقولك : " ثوب" و" امرأتان" فدل : " ثوب" على الواحد من هذا الجنس ، ودلت" امرأتان" على ثنتين من هذا الجنس ، فاستغنى بذلك عن قولك" واحد أثواب" و" اثنتا نسوة" وقد جاء في الشعر ، قال الراجز :

كأنّ خصييه من التّدلدل

ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (٢)

أراد حنظلتان ، فأضاف" ثنتا" إلى نوع الحنظل.

وأما ثلاثة إلى العشرة ، فليس فيه لفظ يدل على النوع والمقدار جميعا ، فأضيف المقدار الذي هو الثلاثة إلى النوع وهو ما بعدها.

فإن سأل سائل ، فقال : ما معنى قول سيبويه : " ومما أجري هذا المجرى" وإلى ما ذا أشار بهذا؟ وكيف جريه مجراه؟

فالجواب في ذلك : أن الفصل الذي قبل هذا ، وهو قولك : " زيد أشجع رجل"

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٣٧٨ ـ الخزانة ١ / ١٠٣ ـ شواهد المغني ٢٥٦.

(٢) الرجز لخطام المجاشعي في هجاء شيخ كبير الخزانة ٣ / ٣١٤ ـ الحماسة ٤ / ١٣٨.


و" أشجع الناس رجلا" قد يكون فيه منصوب ومخفوض على معنيين مختلفين ، ومعنيين متفقين ، فجرى باب العدد مجرى : " أشجع الناس رجلا" و" أشجع رجل في الناس" في معنى اجتماع الجر والنصب فيه ؛ لأنك تقول في باب العدد : " ثلاثة أثواب" ، و" عشرون درهما" و" مائة درهم" فيكون بعضه منصوبا ؛ وبعضه مخفوضا ؛ على ما توجبه العلل التي نفسرها ، إن شاء الله تعالى ، على ما كان في الفصل قبل هذا.

قال سيبويه : " وتدخل في المضاف إليه الألف واللام لأنه به يكون الأول معرفة ، وذلك قولك : " ثلاثة أثواب" و" أربعة أثواب" و" أربعة أنفس" ، وكذلك تقول فيما بينك وبين العشرة ، وإذا أدخلت الألف واللام قلت : " خمسة الأثواب وستة الأجمال" وقد مر تفسيره.

قال سيبويه : " فلا يكون هذا أبدا إلا غير منون يلزمه أمر واحد لما ذكرت لك".

يعني أنه لا بد في الثلاثة وما بعدها إلى العشرة من الإضافة ، وترك التنوين ، وقد أبنّا ذلك ، وأنه غير مستقيم في الكلام التنوين والتقدير : إلا أن يضطرّ شاعر إليه.

قال سيبويه : فإذا زدت على العشرة شيئا من أسماء أدنى العدد ، فإنه يجعل مع الأول اسما واحدا استخفافا ، ويكون في موضع اسم منون ، وذلك قولك : " أحد عشر درهما ، واثنا عشر درهما وإحدى عشرة جارية".

قال أبو سعيد : اعلم أنك إذا جاوزت العشرة بنيت النّيّف والعشرة إلى تسعة عشر فجعلتهما اسما واحدا ، كقولك : " أحد عشر" و" تسعة عشر" ، وفتحت الاسم الأول والأخير ، والذي أوجب بناءهما جميعا أن معناه" أحد وعشرة" و" تسعة وعشرة" ، فنزعت الواو وهي مقدرة ، والعدد متضمن لمعناها فبنيا ؛ لتضمنهما معنى الواو ، وجعلا كاسم واحد.

واختير الفتح لهما ؛ لأن الثاني حين ضم إلى الأول صار بمنزلة هاء التأنيث التي يفتح ما قبلها ، وفتح الثاني ؛ لأن الفتح أخفّ الحركات ، ولا يكون إلا مثل الأول ؛ لأنهما اسمان جعلا اسما واحدا ، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية ، فجريا مجرى واحدا في الفتح ، وقد قلنا : إن الذي أوجب فتح الأول هو ضم الثاني إليه ، وأجري الثاني مجراه ؛ لأنه ليس أحدهما أولى بشيء من الحركات من الآخر ، وانتصب ما بعدهما من قبل أن فيهما تقدير التنوين ، ولا يصح إلا كذلك.


والدليل على أنه لا يصح كذلك أن تقديره : " خمسة" و" عشرة" ، فالخمسة ليس بعدها شيء أضيفت إليه ، فوجب أن تكون منونة ، والعشرة محلها محل الخمسة ، فكانت منونة مثلها.

وأيضا فإنا لم نر شيئين جعلا اسما واحدا وهما مضافان ، أو أحدهما مضاف ، فوجب نصب ما بعدهما للتنوين المقدر فيهما ، وإنما جاز نزع الواو ، وجعل الاسمين اسما في العدد ؛ لأن حكم العدد أن يكون لكل شيء منه لفظ يدل عليه ؛ كقولك : ثلاثة وسبعة ، وألف ، ولو جعلت مكان سبعة" ثلاثة" و" أربعة" ، ومكان الألف" مائة" و" تسعمائة" لدل على الألف ، ولكن الوجه أن يدل اللفظ جملة على العدد المقصود ؛ ولذلك جعلا كاسم واحد ؛ لأن ذلك هو الباب وجعل ما بعدهما واحدا منكورا.

أما جعلنا له واحدا ؛ فلأنهما قد دلا على مقدار العدد ، وبقي الدلالة على النوع ، فكان الواحد منه كافيا ؛ إذ كان ما قبله قد دل على المقدار والعدد.

وأما جعلنا له منكورا فلأن النكرة شائعة في جنسها ، وليست ببعض الجنس أولى منه ببعض ، فكانت أشكل بالمعنى الذي أردت له من الدلالة على الجنس ، وأدخل فيه من غيرها ، فبيّن بها النوع الذي احتيج إلى تبيينه ، وذلك قولك : " أحد عشر رجلا" و" خمس عشرة امرأة".

أما المذكر فإنك تقول : " أحد عشر رجلا واثنا عشر رجلا وثلاثة عشر رجلا إلى" تسعة عشر رجلا" فأما" أحد" فالهمزة فيه منقلبة من الواو وإنما هو من" وحد" ، و" واحد" فاعل منه ، وتصرّفه فتقول : " توحّد" كما تقول : " توكّل" ، وقلما تبدل الهمزة من الواو المفتوحة ، وإنما سمع في هذا الحرف الواحد ، وفي قولهم : " امرأة أناة" في معنى : وناة ، إذا كانت ساكنة رزانا ، وقالوا" أخذ" فزعم بعضهم أن الأصل : " وخذ" ، ولذلك قالوا : " اتخذ" كما قالوا" اتعد" ولو كان الأصل من الهمزة لقالوا : " ايتخذ" كما قالوا : " ايتمن" و" ايتسى" من الأمانة والأسوة. وكان" اتخذ" من" وخذ" كما قيل في" وعد" : " اتعد". وقد ذكرنا الكلام على" اتخذ" في باب الإدغام مستقصى ، وسنقف عليه إن شاء الله تعالى.

فإن قال قائل : فإذا زعمتم أن النيّف مبنيّ مع العشرة ، فلم قلتم في حال الرفع : " اثنا عشر" ، وفي حال النصب والجر" اثني عشر" ، والمبني لا يتغير؟ فالجواب في ذلك : أن قولنا : " اثنان" إعرابه قبل آخره ؛ فإذا أضفناه جعلناه مع غيره اسما واحدا ، وحل ذلك


الاسم الذي تضيفه إليه ، أو تجعله معه اسما واحدا محلّ النون ، فجرى التغيير على الألف مع الاسم الذي بني معه ، كما جرى التغيير عليها مع النون ، ويكون ذلك الاسم على حاله ، كما كانت النون على حالها.

وعلة أخرى أنّ" الاثنين" لا يبنى في الموضع الذي يكون الواحد والجمع فيه مبنيّا ، وهو" الذي" و" الذين" مبنيان ، و" اللذان" معرب ، وكذلك الواحد والجماعة من النيف مبني ، والاثنان معرب ، وثبتت الهاء في : " ثلاثة" إلى : " تسعة" في المذكر إذا كان نيفا ، كما أثبتّها في : " ثلاثة" إلى" تسعة" في الآحاد ، ونزعتها من العشرة ؛ كراهية أن يجمعوا بين تأنيثين من جنس واحد ؛ ولأن كونها في أحدهما دلالة على الآخر ، إذا كانا بالجملة واحدة.

فإن قال قائل فقد قالوا : " إحدى عشرة" ، وهذه الألف للتأنيث والهاء للتأنيث. قيل له : إذا كان التأنيث بالألف لم يمتنع دخول التاء عليها ؛ لأن الألف للتأنيث بمنزلة شيء من نفس الحرف ، كقولهم : " حبلى" و" حبليات" ، فلا تسقط ألف التأنيث ، وإذا قالوا : " مسلمة" فجمعوا ، قالوا : " مسلمات" فأسقطوا التاء مع التاء ، ولم يسقطوها مع الألف ، وكذلك يسقطونها مع" ثلاثة" من العشرة ، ولا يسقطونها من عشرة مع إحدى.

وأما" ثنتا عشرة" ففيها لغتان : ثنتا عشرة واثنتا عشرة ، فالذي قال" اثنتا عشرة" بناه على المذكر فقال للمذكر : " اثنان" ، وللمؤنث" اثنتان" ، كما يقول : " ابنان" و" ابنتان" والذي يقول : ثنتان بنى" ثنت" على مثال : " جذع" ، كما قالوا : " بنت" فألحقها بجذع ، ثم قال : ثنتان ، كما تقول : " بنتان" ، ولم تدخل هذه التاء على تقدير أن يكون ما قبلها مذكرا ؛ لأنها لو دخلت على سبيل ذلك ، لأوجبت فتح ما قبلها.

والكلام في تغيير الألف في : " ثنتان واثنتان" إذا قلت : " ثنتا عشرة" و" ثنتي عشرة" مثل الكلام في : " اثني عشر" وأما" ثماني عشرة" فإن أكثر العرب يقولون : " ثماني عشرة" كما يقولون : " ثلاث عشرة" ، " وأربع عشرة" ، ومنهم من يسكّن الياء. فيقول : " ثماني عشرة". قال الشاعر :

صادف من بلائه وشقوته

بنت ثماني عشرة من حجته (١)

وإنما أسكن الياء كما أسكن في : " معديكرب" و" قالي قلا" و" أيادي سبا" ؛ لأن

__________________

(١) قائلة نفيع بن طارق الخزانة ٣ / ١٠٥ ـ العيني ٤ / ٤٨٨.


الياء أثقل من غيرها ، وغيرها من الصحيح إنما يفتح إذا جعل مع غيره اسما واحدا ، فسكنت الياء ؛ إذ لم يبق بعد الفتح إلا التسكين.

وسنذكر هذا في موضعه بأتم من هذا الكلام إن شاء الله تعالى.

وفي" عشرة" لغتان : إذا قلت : " ثلاث عشرة" فأما بنو تميم فيفتحون العين ويكسرون الشين ، ويجعلونها بمنزلة كلمة ، وأما أهل الحجاز فإنهم يفتحون العين ويسكّنون الشين فيجعلونها مثل" ضربة" وهذا عكس لغة أهل الحجاز وبني تميم ، لأن أهل الحجاز في غير هذا يشبعون عامّة الكلام ، وبنو تميم يخففون.

فإن قال قائل فلم قالوا : " عشرة" فكسروا الشّين؟ قيل له : من قبل أن عشر التي في قولك : " عشر نسوة" مؤنثة الصيغة ، فلم يصحّ دخول الهاء عليها ، فاختاروا لفظة أخرى يصح دخول الهاء عليها ، وخفف أهل الحجاز ذلك ، كما يقال : " فخذ وفخذ"" وعلم وعلم" ونحو ذلك.

قال سيبويه : " فعلى هذا يجرى من الواحد إلى التسعة".

قال : يعني من : " أحد عشر" إلى" تسعة عشر".

قال سيبويه : فإذا ضاعفت أدنى العقود كان له اسم من لفظه ، ولا يثنى العقد ، ويجري ذلك الاسم مجرى الواحد الذي لحقته الزوائد للتثنية ، ويكون حرف الإعراب الواو والياء ، وبعدهما النون.

قال أبو سعيد : اعلم أنهم إذا جاوزوا : " تسعة عشر" صاغوا لفظا للمؤنث والمذكر على صيغة واحدة ، وألحقوا آخرها واوا ونونا في الرفع ، وياء ونونا في الجر والنصب ، وفسروه بواحد منكور من الجنس منصوب ، وذلك قولهم : " عشرون درهما".

فإن قال قائل : ما هذه الكسرة التي لحقت أول : " العشرين" وهلا جرت على" عشرة" فيقال : " عشرون" أو على : " عشر" فيقال : عشرون؟

فإن الجواب في ذلك أن" عشرين" لما كانت واقعة على الذكر والأنثى كسروا أولها ؛ للدلالة على التأنيث ، وجمع بالواو والنون ؛ للدلالة على التذكير ، فتكون آخذة من كل منهما بتأثير.

فإن قال قائل : فقد كان ينبغي على هذا القياس أن يجعلوا هاتين العلامتين في الثلاثين إلى التسعين.


قيل له : قد يجوّز له أن تكون الثلاث التي في الثلاثين هي الثلاث التي للمؤنث ، وتكون الواو والنون لوقوعه على التذكير ، فيكون قد جمع للثلاثين لفظ التأنيث والتذكير ، فيكون على قياس العلة الأولى مطردا.

ويجوز أن يكون قد اكتفوا بالدلالة في : " العشرين" عن الدلالة في غيره من الثلاثين إلى التسعين ؛ لأن العشرين أول ، وهو يقع على المؤنث والمذكر ، والثلاثين إلى التسعين تجري على مثل ما جرى عليه" العشرون" ، فإذا وقع : " العشرون" على المذكر والمؤنث كان الثلاثون مثله ، واكتفوا بعلامة التأنيث في : " العشرين" عن علامته في : " الثلاثين".

ودليل آخر في كسر العين من عشرين ، وهو أنا رأيناهم قالوا في ثلاث عشرات : " ثلاثون". وفي أربع عشرات" أربعون" وكأنهم جعلوا ثلاثين عشر مرار ثلاثة ، وأربعين عشر مرار أربعة ، إلى التسعين ، فاشتقوا من لفظ الآحاد ما يكون لعشر مرار ذلك العدد ، فكان قياس العشرين من الثلاثين أن يقال : " اثنين" و" اثنون" بعشر مرار اثنين ، إلا أنهم تجنبوا ذلك ؛ لأن الاثنين لا يكون إلا مثنى ، فلو قلنا : اثنون ، كنا قد نزعنا" اثن" من الاثنين ، فأدخلنا عليه الواو والنون ، و" اثن" لا يستعمل إلا مع حروف التثنية ، فبطل استعماله في موضع العشرين ، فلما اضطروا لهذه العلة إلى استعمال العشرين كسروا أوله ؛ لأن اثنين وثنتين مكسورا الأول ، فكسروا أول العشرين لذلك ، وأدخل الواو والنون ، لأنه يقع على المذكر والمؤنث ، وإذا اختلط المؤنث والمذكر في لفظ غلّب التذكير ، وانفرد اللفظ به.

ودليل آخر ؛ وهو أنهم يقولون في المؤنث : " إحدى عشرة ، وتسع عشرة" فلما جاوزوها إلى العشرين ، نقلوا كسرة الشين التي كانت للمؤنث إلى العين ، كما يقولون في : " كذب"" كذب" وفي : " كبد كبد" وجمعوا بالواو والنون ، كما يفعلون في الأشياء المؤنثة المحذوفة منها الهاءات عوضا من المحذوف ، كقولهم في" سنة" : سنين وسنون ، وفي" أرض" أرضون وأرضين وفي : " ثبة" ثبون وثبين ، وهذا كثير جدّا ، والجمع بالواو والنون له مزية على غيره من الجموع ، فجعل عوضا من المحذوف.

واعلم أن" عشرين" ونحوها ربما جعل إعرابها في النون ، وأكثر ما يجيء ذلك في الشعر ، فإذا جعلوا إعرابها كذلك ألزمت الياء ؛ لأنها أخف من الواو ، كما فعلوا ذلك في" سنين" إذا جعلوا إعرابها في النون ، قالوا : " أتت عليه سنين".


قال الشاعر :

وأنّ لنا أبا حسن عليا

أب برّ ونحن له بنين (١)

وأنشد بعضهم :

أرى مرّ السّنين أخذن مني

كما أخذ السّرار من الهلال (٢)

وقال سحيم بن وثيل الرّياحي (٣)

وما ذا يدّري الشعراء مني

وقد جاوزت حد الأربعين

أخو خمسين مجتمع أشدّي

ونجّدني مداورة الشؤون (٤)

وهذا قول عامة أصحابنا أنه متى لزم النون الإعراب لزم الياء ، وصار بمنزلة قنّسرين وغسلين ، وأكثر ما يجيء هذا في الشعر.

وقد زعم بعضهم أنه قد يجوز أن تلزم الواو ، وإن كان الإعراب في النون ، وزعم أن" زيتون" يجوز أن يكون" فيعول" ، ويجوز أن يكون" فعلون" ، وهو إلى" فعلون" أقرب ؛ لأنه من الزيت ، وقد لزم الواو.

قال سيبويه : " لو سمي رجل بمسلمون كان فيه وجهان : إن جعلت الإعراب في الواو فتحت النون على كل حال ، وجعلت في حال الرفع واوا ، وفي حال النصب والجر ياء ، كقولك : " جاءني مسلمون" ، و" رأيت مسلمين" و" مررت بمسلمين" ، وإن جعلت الإعراب في النون ألزمته الياء على كل حال" ، فتقول : " جاءني مسلمين" ، و" رأيت مسلمينا" ، و" مررت بمسلمين" ، فهذا ما ذكره ، ولم يزد عليه شيئا.

وقد رأينا في كلام العرب وأشعارها بالرواية الصحيحة وجها آخر ، وهو أنهم إذا سموا بجمع فيه واو ونون ، فقد يلزمون الواو على كل حال ، ويفتحون النون ، ولا يحذفونها في الإضافة ، وكأنهم حكوا لفظ الجمع المرفوع في حال التسمية وألزموه طريقة واحدة ، قال الشاعر :

__________________

(١) الخزانة ٣ / ٤١٨ وفيها أن البيت لسعيد بن قيس الهمداني.

(٢) قائلة جرير يهجو الفرزدق ديوان جرير ٤٢٥.

(٣) سحيم شاعر معروف في الجاهلية والإسلام عده ابن سلام في الطبقة الثالثة عن الشعراء المسلمين الخزانة ١ / ١٢٦ ، طبقات ابن سلام ٥٩ ، ٤٨٥.

(٤) الخزانة ١ / ١٢٦ ـ ٣ / ٤١٤ ، حماسة البحتري ٧.


ولها بالماطرون إذا

أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتبعت

ذكت من جلّق بيعا

وقفت للبدر ترقبه

فإذا بالبدر قد طلعا (١)

ففتح نون الماطرون ، وأثبت الواو ، وهو في موضع جر.

والعرب تقول : " الياسمون" في حال الرفع والنصب والجر ، ويقولون : " ياسمون البرّ" ، فيثبتون النون مع الإضافة ويفتحونها ، ومنهم من يرويه : بالماطرون ، ويعرب نون" الياسمون" ، ويجري ذلك مجرى" الزيتون" وهو الأجود ، والدليل على ذلك قول الشاعر في أبيات تروى لأبي دهبل ، ولعبد الرحمن بن حسان أولها :

طال ليلي وبتّ كالمحزون

واعترتني الهموم بالماطرون (٢)

وفي القصيدة :

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّا

ص ميزت من جوهر مكنون

فإذا زدت على" العشرين" نيّفا أعربته ، وعطفت" العشرين" عليه كقولك : " أخذت خمسة وعشرين" وهذه" ثلاثة وعشرون" ، لأنه لا يصح أن يبنى النيّف مع العشرين ؛ لأنه معرب ، ولا يصح أن يبنى اسم مع اسم وأحدهما معرب ، ولم يقع الآخر موضع شيء منه ، كوقوع : " عشر" في موضع النون من" اثني عشر".

وينصب النوع الذي بعد : " العشرين" إلى : " التسعين" ويوحّد وينكّر ، والذي أوجب نصبه أن" عشرين" جمع فيه نون بمنزلة : " ضاربين" ويجوز إسقاط نونه إذا أضيف إلى مالك كقولك : هذه عشرو زيد وعشرون يطلب ما بعده ويقتضيه.

كما أن : " ضاربين" يطلب ما بعده ويقتضيه ، فتنصب ما بعد" العشرين" كما تنصب ما بعد" الضاربين" من المفعول للتشبيه الذي ذكرناه ، إلا أن" عشرين" لا يعمل إلا في منكور ولا يعمل فيما قبله ؛ لأنه لم يقو قوة" ضاربين" في كل شيء ؛ لأنه اسم جامد غير مشتق من فعل ، فلم يتقدم عليه ما عمل فيه ؛ لأنه غير متصرف في نفسه ، ولم يعمل

__________________

(١) قال المبرد قال أبو عبيدة : هذا الشعر يختلف فيه فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسب إلى يزيد بن معاوية. اللسان (مطر) ٧ / ٢٩ ، العيني ١ / ١٤٩ ، الخزانة ٣ / ٢٧٨.

(٢) قائلة أبو دهبل الجمحي وقيل الأحوص انظر الخزانة ٣ / ٢٨٠ ، الخصائص ٣ / ٢١٦.


إلا في نكرة ؛ من قبل أنّ المعنى في : " عشرين درهما" عشرون من الدراهم ، فاستخفوا وأرادوا الاختصار فحذفوا من وجاءوا بواحد منكور شائع في الجنس ، فدلوا به على النوع ، وقد مر هذا مستقصى فيما مرّ.

ولا يجوز أن يكون التفسير إلا بواحد ؛ إذ كان الواحد دالّا على نوعه مستغنى به ، فإذا أردت أن تجمع جماعات مختلفة ، جاز أن تفسر" العشرين" ونحوها بجماعة ، فيكون" عشرون" كل واحد منها جماعة ، ومثل ذلك قولك : " قد التقى الخيلان" وكل واحد منهما جماعة خيل ، فعلى هذا تقول : " التقى عشرون خيلا" على أن كل واحد من العشرين خيل.

وقال الشاعر :

تبقّلت من أول التبقّل

بين رماحي مالك ونهشل (١)

لأن مالكا ونهشلا قبيلتان ، وكل واحدة منهما لها رماح ، فلو جمعت على هذا لقلت : " عشرون رماحا قد التقت" ، يريدون عشرون قبيلة لكل واحدة منها رماح ، ولو قلت عشرون رمحا ، كان لكل واحد منها رمح ، وقال الشاعر في مثل ذلك.

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

لأصبح القوم أوبادا ولم يجدوا

عند التفرق في الهيجا جمالين (٢)

أراد جمالا لهذه الفرقة ، وجمالا لهذه الفرقة ، فإذا بلغت المائة جئت بلفظ يكون للمذكر والأنثى ، وهو" مائة" كما قال : " عشرون" وما بعدها من العقود ، وبينت المائة بإضافتها إلى واحد منكور.

فإن قال قائل : ما العلة التي لها أضيفت إلى واحد منكور؟ فالجواب في ذلك : أنها شابهت" العشرة" التي حكمها أن تضاف إلى جماعة ، و" العشرين" التي حكمها أن تميز بواحد منكور ، فأخذت من كل واحد منهما شبها فأضيفت لشبه العشرة ، وجعل ما تضاف إليه واحدا لشبه العشرين ؛ لأن ما تضاف إليه نوع يبينها كما بيّن النوع المميز العشرين.

فإن قيل وما شبهها من العشرة والعشرين؟ قيل أما شبهها من العشرة ، فلأنها عقد

__________________

(١) البيت لأبي النجم العجلي من لاميته : شواهد الكشاف ٩٤.

(٢) البيتان لعمرو بن العداء الكلبي انظر الخزانة ٣ / ٣٨٧ ، اللسان (عقل) ١٣ / ٤٨٤ الأغاني ١٨ / ٤٩ ، مجالس ثعلب ١ / ١٤٢.


العشرة كما أن العشرة عقد الواحد ؛ لأن مائة عشر مرات عشرة ، كما أن العشرة عشر مرات واحد.

وأما شبهها من" العشرين" فلأنها تلي التسعين ، وحكم عشرة الشيء كحكم تسعته ، ألا ترى أنك تقول : " تسعة أثواب ، وعشرة أثواب" ، فتكون العشرة كالتسعة والمائة من التسعين كالعشرة من التسعة ، والتسعون كالعشرين ، فإذا ثنيت" مائة" أضفت كإضافة المائة ، وذلك قولك : " مائتا درهم" و" مائتا ثوب" ونحو ذلك. ويجوز في الشعر إدخال النون على المائتين ، ونصب ما بعدها ، قال الشاعر :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والفتاء (١)

وقال آخر :

أنعت عيرا من حمير خنزره

في كل عير مائتان كمره (٢)

فإذا أردت تعريف المائة والمائتين أدخلت الألف واللام في النوع وأضفتهما إليه كقولك : " مائة الدرهم ومائتا الثوب".

فإذا جمعت المائة أضفت الثلاث فقلت : ثلاثمائة إلى تسعمائة.

فإن قال قائل : هلّا قلتم : ثلاث مائتين أو مئات ، كما قلتم : ثلاث مسلمات وتسع تمرات؟

فالجواب في ذلك أنا رأينا" الثلاث" المضاف إلى المائة قد أشبهت" العشرين" من وجه ، وأشبهت الثلاث التي في الآحاد من وجه ، فأما شبهها بالعشرين فلأن عقدها على خلاف قياس الثلاث إلى التسع ، لأنك تقول ثلاثمائة وتسعمائة ، ثم تقول : " ألف" ولا تقول : " عشر مائة" ، فصار بمنزلة قولك : عشرون وتسعون ، ثم تقول : مائة على غير قياس التسعين ، وتقول في الآحاد : " ثلاث نسوة" و" عشر نسوة" فتكون العشر بمنزلة الثلاث فأشبهت ثلاث المائة العشرين ، فبيّنت بواحد ، وأشبهت الثلاث في الآحاد فجعل بيانها بالإضافة.

والدليل على صحة هذا أنهم قالوا : " ثلاثة آلاف" فأضافوا الثلاثة إلى جماعة ؛ لأنهم

__________________

(١) قائله الربيع بن ضبع الفزاري الخزانة ٣ / ٣٠٦ ـ ابن يعيش ٦ / ٢١ ، الهمع ١ / ٢٥٣.

(٢) قائله الأعور بن براء الكلبي معجم البلدان ٣ / ٤٧١ ، اللسان (خنزر) ٥ / ٣٤٤.


يقولون : عشرة آلاف ، فلما كانت عشرته على قياس ثلاثته أجروه مجرى : " ثلاثة أثواب" ؛ لأنهم قالوا : عشرة أثواب ، فإذا قلت : ثلاثمائة ، فحكم المائة بعد إضافة الثلاثة إليها أن تضاف إلى واحد منكور ، كحكمها حين كانت منفردة ويجوز أن تنوّن وتميّز بواحد كما قيل : " مائتان عاما".

وأما قوله تعالى : (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(١) فإن أبا إسحاق الزجاج (٢) زعم أن سنين منتصبة على البدل من ثلاثمائة ، ولا يصح أن تنتصب على التمييز ؛ لأنها لو انتصبت على التمييز فيما قالوا ، لوجب أن يكونوا قد لبثوا تسعمائة سنة ، كما أنك إذا قلت : " عشرون رماحا" فكل واحد منها رماح ، فيكون" عشرون رماحا" ستين رمحا أو أكثر ، وليس ذلك معنى الآية ، وقبيح أن تجعل" سنين" نعتا لها ؛ لأنها جامدة ليس فيها معنى فعل.

وقال الفراء : يجوز أن تكون سنين منصوبة على التمييز ، كما قال عنترة :

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم (٣)

ويروى : سود.

قال : فقد جاء التمييز" سودا" وهي جماعة ، قال أبو سعيد ولأبي إسحاق أن يفصل بين هذا وبين سنين ؛ لأن سودا إنما جاء بعد المميز ، فيجوز أن يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة ، كما تقول : " كلّ رجل ظريف عندي" ، وإن شئت قلت : " ظريف" فتحمله مرة على اللفظ ومرة على المعنى ، وليس قبل" سنين" شيء وقع به التمييز ، فتكون" سنين" مثل" سودا".

واعلم أن" مائة" ناقصة بمنزلة" رئة" و" إرة" فلك أن تجمعها فتقول : " مئون" في حال الرفع ، ومئين في حال النصب والجر ، وإن شئت قلت : مئين ، فجعلت الإعراب في النون وألزمته الياء ، وإن شئت قلت : مئات ، كما تقول : " ديات".

وأما قول الشاعر :

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ٢٥.

(٢) أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج كانت صناعته خرط الزجاج فلزم أبا العباس المبرد حتى صار من كبار النحاة وتوفي عام ٣١١ ه‍ نزهة الألباء ٢٤٤.

(٣) البيت من معلقة عنترة ديوانه ١٣ (ط بيروت) ابن يعيش ٣ / ٥٥.


وحاتم الطائي وهّاب المئي (١)

فقد اختلف النحويون في ذلك ، فقال بعضهم : أراد جمع المائة على الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء ، كقولك : " تمرة وتمر" ، فكأنه قال : " مائة" و" مئ" مثل : " مع" ثم أطلق القافية للجر.

وقال بعضهم : " أراد المئيّ" وكان أصله المئيّ على مثال" فعيل" ؛ لأن الذاهب من المائة إما ياء وإما واو ، فإن كانت ياء فهي : " مئيّ" وإن كانت واوا انقلبت أيضا ياء ، وصار لفظها واحدا ثم تكسر الميم ، وذلك أن بني تميم يكسرون الفاء من فعيل إذا كانت العين أحد الحروف الستة ، وهي حروف الحلق ، كقولك : " شعير" و" رحيم" فيقولون في ذلك : " مئيّ" وأصله : مئيّ.

ومما جاء على هذا المثال من الجمع" معيز" جمع معز ، و" كليب وعبيد" ، وغير ذلك مما جاء على فعيل ، فعلى هذا القول مئيّ مشددة ، ويجوز تخفيفها في القافية المقيدة ، كما ينشد بعضهم قول طرفة :

أصحوت اليوم أم شاقتك هر

ومن الحبّ جنون مستعر (٢)

وقال بعض النحويين : إنما هو" مئين" فاضطر إلى حذف النون كما قال :

قواطنا مكة من ورق الحمى (٣)

ويجوز أن يكون" المئي" على فعول مثل عصي وقسيّ ثم خفف ، كما قال :

تعال نصنع رجلا مثل عدىّ

نصنعه من الرّقاع والعصىّ

أما قول حسان :

وذلك أن ألفكم قليل

بواحدنا أجل أيضا ومين (٤)

أراد : ومئين ، فحذف الهمزة ألبتة كما قالت :

ها من أحسّ لي أخوين

كالبدرين أم من راهما

أرادت رآهما ، فحذفت الهمزة ألبتة ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) هذا البيت من رجز أورده أبو زيد في نوادره. الخزانة ٣ / ٣٠٤ ـ ابن الشجري ١ / ٣٨٣.

(٢) انظر الخصائص ٢ / ٢٨ ، ٣٢٠ ـ ديوان طرفة (بتحقيق الجندي) ٦٧٢ ، وهر اسم امرأة.

(٣) قائله العجاج ديوان ٥٩ ، الخصائص ٣ / ١٣٥ ـ الدرر ١ / ١٥٧ ـ اللسان (هم) ١٥ / ٤٨.

(٤) ديوان حسان ٣٤٦.


فإذا بلغت إلى الألف أضفت إلى واحد ، فقلت : ألف درهم ، كما أضفت" المائة" إلى الواحد حين قلت : مائة درهم ، والعلة فيه كالعلة فيها ؛ من قبل أن الألف على غير قياس ما قبله ؛ لأنك لم تقل : عشر مائة ، كما قلت : تسعمائة ، وصغت لفظا يدل على العقد الذي بعد تسعمائة ، غير جار على شيء قبله ، كما فعلت ذلك بالمائة ، حين لم تجرها على قياس التسعين ، فإذا جمعت الألف جمعته على حد ما يجمع عليه الواحد. وتضيف ثلاثته وأربعته إلى جماعة نوعه ، فتقول : ثلاثة ألف وعشرة ألف ، كما قلت : ثلاثة أثواب وعشرة أثواب.

وإنما خالف جمع الألف في الإضافة جمع المائة ؛ لأن الألف عشرته كثلاثته ، فصار بمنزلة الآحاد التي عشرتها كثلاثتها ، وليس عشرة المائة كثلاثتها ، وقد بينا هذا فيما تقدم ، وليس بعد الألف شيء من العدد على خلاف لفظ الآحاد إلى الألف ، فإذا تضاعف أعيد عليه اللفظ بالتكرير كقولك : عشرة آلاف ألف ومائة ألف ألف ونحو ذلك ، وإنما قلت : عشرة آلاف درهم ، لأن الألف قد لزم إضافته إلى واحد يبيّنه ، وكذلك جماعته كواحده في تبيينه بالواحد من النوع ، واعلم أن" الألف" مذكر ، تقول : أخذت منه ألفا واحدا ، وقال الله عزوجل : (بِثَلاثَةِ آلافٍ)(١) فأدخل الهاء على الثلاثة فدل على تذكير الألف ، وربما قيل : هذه ألف درهم ، يريدون : " هذه الدراهم" فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى :

قال سيبويه : " فعلى هذا يجرى الواحد إلى التسعة".

يعني يجرى النّيّف من" أحد عشر" إلى" تسعة عشر" مجرى واحدا في بناء أحدهما مع الآخر ، وقد بيناه بما فيه.

قال سيبويه : " فإذا ضاعفت أدنى العقود كان له اسم من لفظه ولا يثنى ذلك العقد" يعني" عشرين" واسمها من لفظها ؛ لأنها ليست بتثنية شيء ينطق به ولا بجمعه ؛ لأنك لا تجد شيئا من العدد تقع عليه عشر ، فقد صح أنه ليس بتثنية عشرة ، ولا بجمع شيء ينطق به.

قال سيبويه : " ويجرى ذلك الاسم مجرى الواحد الذي لحقته الزيادة للجمع ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٢٤.


كما لحقته الزيادة للتثنية ، ويكون حرف الإعراب الواو والياء ، وبعدهما النون ، وذلك قولك : عشرون درهما".

قال أبو سعيد : يعني يجرى" العشرون" بما لحقه من الواو والنون بمنزلة اسم كان على عشر ، فجمع جمع السلامة ، الذي هو بمنزلة التثنية في سلامة الواحد ، ولحاق الزيادة ، ويدخل التغيير على زيادته من واو إلى ياء ، كما قد عرفت في الجموع السالمة.

قال سيبويه : " فإن أردت أن تثلث أدنى العقود كان له اسم من لفظ الثلاثة يجرى مجرى الاسم الذي كان للتثنية ، وذلك قولك : " ثلاثون عبدا" ، وكذلك إلى أن تتسّعه".

قال أبو سعيد : يعني أن الثلاثين قد فعل بها ما فعل بالعشرين من إجرائها على حد جمع السلامة ، إلا أن لفظها مأخوذ من الثلاثة ، بإسقاط الهاء غير مغيّر منه شيء ، إلا إسقاط الهاء ، وكذلك إلى التسعين مأخوذ من الثلاثة إلى التسعة على حد ما ذكرناه من أخذ" الثلاثين" من" الثلاثة".

قال سيبويه : " وتكون النون لازمة له كما كان ترك التنوين لازما للثلاثة إلى العشرة".

قال أبو سعيد : يعني أن النون والتمييز لازم للعشرين إلى التسعين ، كما كان ترك التنوين والإضافة لازما للثلاثة إلى العشرة ، وقد ذكرنا هذا مشروحا فيما مضى.

قال سيبويه : " وإنما فعلوا هذا بهذه الأسماء ؛ وألزموها وجها واحدا ؛ لأنها ليست كالصفة التي في معنى الفعل ، ولا التي شبّهت به".

قال أبو سعيد : يعني إنما ألزموها النون ولم يجيزوا إضافتها إلى الجنس ، فيقولوا : " عشرو درهم" ، كما قالوا في الصفة التي في معنى الفعل ، يريد اسم الفاعل : " ضاربون زيدا" و" ضاربو زيد" ، وفي الصفة المشبّهة : حسنون وجوها ؛ وحسنو وجوه ؛ لأنها ـ أعني عشرين ـ لم تقو قوة اسم الفاعل والصفة المشبهة فلم تصرّف تصرفهما ، وألزمت طريقا واحدا ، وقد مرّ في هذا ما يغني عن إعادته.

قال سيبويه : " ولم يجز حين جاوزت أدنى العقود فيما تبيّن به من أيّ صنف العدد ، إلا أن يكون لفظه واحدا ، ولا يكون فيه الألف واللام لما ذكرت لك ، وكذلك هو إلى التسعين فيما يعمل فيه ، ويبيّن به من أيّ صنف العدد".


قال أبو سعيد : يعني أنه لا يجوز أن يجعل المميز من" أحد عشر" الذي يلي أدنى العقود إلى" تسعة وتسعين" إلا واحدا منكورا لا ألف فيه ولا لام.

قال سيبويه : (فإذا بلغت العقد الذي يليه تركت التنوين والنون وجعلت الذي يعمل فيه ويبيّن به العدد من أيّ صنف هو واحدا).

قال يعني : إذا بلغت عقد العشرة وهو" مائة" أضفت إلى واحد منكور.

قال سيبويه : (كما فعلت ذلك فيما نوّنت فيه ، إلّا أنك تدخل فيه الألف واللام ، لأن الأول يكون به معرفة ولا يكون المنّون به معرفة ، وذلك قولك : " مائة درهم" و" مائة الدرهم").

قال أبو سعيد : يعني بينت" مائة" بواحد أضفتها إليه ، كما بيّنت ما فيه النون ، وما كان في تقدير التنوين نحو : " خمسة عشر" بواحد ميّزه ؛ لأن الواحد الذي أضيفت إليه المائة قد يكون معرفة بدخول الألف واللام عليه ، وقد تكون" المائة" معرفة بإضافتك إياها إليه ، والواحد الذي يميز" العشرين" ونحوها لا تدخله الألف واللام ، ولا يتعرف الأول به ، وقد مر تفسير هذا.

قال سيبويه : (وكذلك إن ضاعفته فقلت : مائتا الدرهم ومائتا الدينار).

يعني أنك تضيف" المائتين" إلى واحد بينهما ، كما أضفت المائة ، وتعرّف ذلك الواحد بإدخال الألف واللام ، كما فعلت ذلك بالمائة.

قال سيبويه : " وكذلك العقد الذي بعده واحدا كان أو مثنى ، وذلك قولك : ألف درهم وألفا درهم".

قال أبو سعيد : يعني أن ألف درهم وألفي درهم ، كمائة درهم ومائتي درهم.

قال سيبويه (وقد جاء في الشعر بعض هذا منونا ، قال الرّبيع بن ضبع الفزاري):

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والفتاء (١)

وقال آخر :

أنعت عيرا من حمير خنزره

في كل عير مائتان كمره (٢)

__________________

(١) سبق الحديث عنه الخزانة ٣ / ٣٠٨.

(٢) سبق الحديث عنه.


قال أبو سعيد : قد ذكرنا هذين البيتين بما يستحقانه من التفسير.

قال سيبويه : " وأما تسعمائة فكان ينبغي أن تكون في القياس" مئين" أو" مئات" ، ولكنهم شبّهوه بعشرين وأحد عشر ، حيث جعلوا ما يبيّن به العدد واحدا ؛ لأنه اسم لعدد".

قال أبو سعيد : يعني أن القياس في" تسعمائة" كان بجمع المائة ، فكان ينبغي أن تقول : " ثلاث مئات" أو" ثلاث مئين" ، وذلك أن" ثلاثا" و" تسعا" تضاف إلى جماعة في الآحاد فانبغى أن تكون هاهنا أيضا مضافة إلى جماعة غير أنهم أضافوها إلى واحد ، وبينوها كما بيّنوا" أحد عشر" و" عشرين" بواحد ، وقد بينا وجه الشبه فيه.

قال سيبويه : " وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدا ، والمعنى جمع حتى قال بعضهم في الشعر من ذلك ما لا يستعمل في الكلام ، قال علقمة بن عبدة" :

بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأما جلدها فصليب (١)

وقال آخر :

لا تنكروا القتل وقد سبينا

في حلقكم عظم وقد شجينا (٢)

قال أبو سعيد : يعني ليس بمستنكر في كلام العرب أن يكون اللفظ واحدا ، ويكون عبارة عن جميع ، ولا سيما في باب العدد ، كما قلنا في : " عشرين درهما" ، و" مائة درهم" ، وقد استعملت العرب لفظ الواحد بمعنى الجميع في الشعر ، لمّا لم يستعمل في الكلام ؛ لأن من كلامهم في مواضع كثيرة العبارة عن الجميع بواحد ، فحمل الشاعر هذا المعنى بأن استعمل لفظ الواحد بمعنى الجمع في غير تلك المواضع ، وهو البيت الذي أنشده لعلقمة.

وإنما يريد وأما : " جلودها" فاكتفى بقوله : " جلدها" عن جلودها ، وإنما يصف فلاة قطعها ، ويذكر بعدها فيقول : " بها جيف الحسرى" أي بها جيف الإبل المعيبة التي قد تركت في هذه الفلاة لبعدها ، " فأما عظامها فبيض" أي قد تفصّلت وظهرت من اللحم ، وأكلت الطيور والسباع ما عليها من اللحم ، وأما جلودها فقد سال ودكها عليها ، بوقوع

__________________

(١) قائله علقمة بن عبده بن ناشرة بن قيس شاعر جاهلي عاصر امرأ القيس الخزانة ١ / ٥٦٥ / ديوان علقمة ٣ ـ الخزانة ٣ / ٣٧٩.

(٢) قائله المسيب بن زيد مناة الغنوي الخزانة ٣ / ٣٧٩ ـ المقتضب ٢ / ١٧٢ ابن يعيش ٦ / ٢٢ ـ المخصص ١ / ٣١ ـ ١٠ / ٣٠.


الشمس وإحمائها لها ، وكان ينبغي أن يقول : " جلودها" كما قال : " عظامها".

وأما البيت الثاني فالشاهد منه : " في حلقكم عظم" وإنما أراد في حلوقكم ، لأنهم جماعة ، وكأنّ هؤلاء قوم سبوا من عشيرة هذا الشاعر ، وباعوا ما سبوا منهم ، ثم ثاب لعشيرة هذا الشاعر ظفر لمن سبي منهم ، فقتلوا منهم ، فقال شاعرهم وهو : " المسيّب بن زيد مناة الغنوي" من القبيلة التي عاقبت وقتلت ، ويخاطب الآخرين ، الذين سبوا منهم :

لا تنكروا القتل وقد سبينا

والأبيات في غير كتاب سيبويه ، يقولها المسيب بن زيد مناة الغنوي ، يخاطب حنظلة بن الأعرف الضبابيّ :

إن تك مقتولا فقد سبينا

أو تك مجذوعا فقد شرينا

أو تك مفجوعا فقد وهينا

في حلقكم عظم وقد شجينا (١)

" شرينا" أي باعونا ، وقوله : " شجينا" أي شجينا نحن ، و" في حلقكم عظم" هذا مثل ، كأنّه يقول : قد غصصتم ؛ لشدة ما نزل بهم كأنّ في حلوقكم عظاما لا تنزل ولا تخرج ، ومعنى" شجينا" أي شجينا نحن أيضا كما أصابكم ، ولا تنزل الغصّة ولا تخرج ، ومن ذلك شجيت الساق بالخلخال ، إذا لم يكن الخلخال قلقا فيها ، ويقال : " فلان شجى" في حلق فلان" إذا كان يثقل عليه أمره فلا يستسيغه ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.

قال سيبويه : " واختص بهذا الباب إلى تسعمائة".

يعني أضيف : " الثلاث" و" التسع" وما بينهما إلى" مائة" وهي واحدة ، وليس ذلك بالقياس في إضافة : " الثلاث" ؛ لأن الثلاث حكمها أن تضاف إلى جماعة ، غير أن الثلاث خصت بالإضافة إلى مائة.

وقد تقدم المعنى الذي له خصّت بذلك.

قال سيبويه : (كما أن" لدن" لها مع غدوة حال ليست لها في غيرها تنصب بها).

يعني : أن" لدن" ينخفض ما بعدها ؛ لأنها بمنزلة" عند" فتقول : " من لدن زيد" و" لدن عشية" و" لدن عتمة" وما أشبه ذلك ، وهو القياس فيها ، غير أنهم قد قالوا : " لدن غدوة" فنصبوا بها" غدوة" خاصة ، وإنما نصب بها" غدوة" ؛ لأن فيها لغات : منهم من

__________________

(١) سبق تخريجه.


يقول : " لدا ولد" وغير ذلك ، فالذي نصب بها شبه النون الداخلة على" لد" بعد فقدها منه ، بمنزلة النون الداخلة في" عشرين" ، بعد نزعها منه في قولك : " عشرو زيد" و" عشرون درهما" ؛ إذ كانت تسقط في حال ، وتثبت في حال ، وقال بعضهم : " لدن غدوة" فنصب بها" غدوة" خاصة ، كأنه أدخل النون على" لد" في لغة من يسكّنها ثم فتح الدال ؛ لالتقاء الساكنين كما قالوا : " اضربن زيدا" ، ففتحوا الباء لالتقاء الساكنين.

قال سيبويه : (كأنه ألحق التنوين في لغة من قال" لد" ، وذلك قولك : " من لدن غدوة" وقال بعضهم من لدن غدوة كأنه أسكن الدال ثم فتحها ، كما قال : " اضربن زيدا" ، ففتح الباء لما جاء بالنون الخفيفة ، والجر في" غدوة" هو الوجه والقياس وتكون النون من نفس الكلمة بمنزلة من وعن).

قال أبو سعيد : يعني أن النون في" لدن" بمثلة النون في" من" والدليل على ذلك أنه يخفض بها مع ما بعدها ، مع ثبات النون ، فعلمنا أن النون من صيغتها ، وقد مرّ الكلام في هذا الفصل.

قال سيبويه : " وقد يشذّ الشيء من كلامهم عن نظائره ويستخفون الشيء في موضع لا يستخفونه في غيره".

يعني في شذوذ" غدوة" مع" لدن".

ومن ذلك قولهم : ما شعرت به شعرة وليت شعري.

قال أبو سعيد رحمه‌الله : يعني أن مصدر" شعرت" إنما هو" شعرة" في أكثر المواضع بإثبات الهاء ، وهي مع" ليت" بحذفها ؛ إذ قالوا : " ليت شعري" لما كثر استعمالها طرحوا الهاء منها.

ومثل ذلك تقول : امرأة عذراء بيّنة العذرة ، كما تقول : حمراء بينة الحمرة ، ويقولون لمن افتضها : هو أبو عذرها ، يريدون أبو عذرتها ، أي صاحب عذرتها ، وجرى ذلك مثلا لكل من يستخرج شيئا أن يقال له : أبو عذرها ، والأصل فيه : " عذرة المرأة" واستخفوا بطرح الهاء حين جرى في كلامهم مثلا ، وكثر استعمالهم له.

قال سيبويه : (وتقول العمر والعمر ، ولا يقولون في اليمين إلا بالفتح ، يقولون كلّهم : " لعمرك" وسترى أشباه هذا في كلامهم إن شاء الله تعالى).

قال أبو سعيد : وإنما قالوا في اليمين بالفتح حين كثر الحلف ، فاختاروا أخفّ


اللفظين ، وتركوا الآخر الذي في معناه ، وإنما يستدل" سيبويه" بما ذكر من ذلك ، أنّ اللفظ قد تكون له حال ، لا تكون لنظيره لضرب من العلل.

قال سيبويه : (ومما جاء في الشعر على لفظ الواحد يراد به الجمع :

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإن زمانكم زمن خميص) (١)

قال : وهو مثل البيتين الأولين أراد في بعض بطونكم ، ومعنى هذا البيت أنهم في زمن من مجاعة فيأمرهم أن يأكلوا بعض الشبع ، فإن الزمان فيه جدوبة.

قال سيبويه : (ومثل ذلك في الكلام قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً)(٢) ، و" قررنا به عينا" وإن شئت قلت : أعينا وأنفسا ، كما قلت : ثلثمائة وثلاث مئين ومئات".

وقد مر تفسير ذلك.

قال سيبويه : " ولم يدخلوا الألف واللام كما لم يدخلوا في امتلأت ماء".

قال أبو سعيد رحمه‌الله : يعني لم يدخلوا الألف واللام في" طبت به نفسا" ونحوه.

هذا باب استعمال الفعل في اللفظ

لا في المعنى ؛ لاتساعهم في الكلام ، وللإيجاز والاختصار. فمن ذلك أن تقول على قول السائل : " كم صيد عليه" وكم غير ظرف ؛ لما ذكرت لك من الاتساع والإيجاز فتقول : " صيد عليه يومان" ، وإنما المعنى صيد عليه الوحش في يومين ، ولكنه اتسع واختصر ؛ ولذلك وضع السائل" كم" غير ظرف.

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا الفصل قد اشتمل على معان يكشفها التفسير ، منها أن تعلم أن في الظروف ما يجوز أن يستعمل اسما كزيد وعمرو ، كقولك : " صمت اليوم" على مثل : " ضربت زيدا" ، وتجعل" اليوم" مفعولا كزيد.

ومنها أن تعلم أن المبتدأ إذا كان بعده فعل فيه ضميره ، جاز أن يجري على المبتدأ من الاسم ما لزم ضميره من اللفظ ، كقولك : " زيد ضربته" يجوز أن يقال : " زيد" مفعول ، ونحن نعلم أن" زيدا" مبتدأ ، وإنما يراد ضميره مفعول.

__________________

(١) الخزانة ٣ / ٣٧٩ ـ ابن يعيش ٦ / ٢١ ، المخصص ١ / ٣١.

(٢) سورة النساء ، آية : ٤.


ومنها أن تعلم أن الاسم الذي يستفهم به ، إذا كان له موضع من رفع أو نصب أو جر ، فجوابه يكون على لفظ ما يستحقّ الاستفهام ، وعلى تقدير عامله الذي عمل فيه كقولك : " كم رجلا جاءك" فتقول : " عشرون" ، وذلك أن" كم" في موضع مبتدأ ، وهو حرف الاستفهام و" جاءك" خبره ، ورجلا على التمييز ، والجواب : " عشرون" على لفظ كم مرفوع بالابتداء وتقديره" عشرون رجلا جاءني".

وإذا قال : " كم رجلا رأيت" فالجواب : " عشرين" ؛ لأن" كم" في موضع نصب برأيت.

وإذا قال : " بكم رجلا مررت" قلت : " ثلاثة رجال" فخفض ؛ لأن" كم" في موضع خفض.

ومنها أن الظرف الذي يجوز إجراؤه مجرى الأسماء يجوز أن يقام مقام الفاعل مجازا ؛ لأنا قد جعلناه بمنزلة" زيد" كقولك : " سير بزيد يوم طويل" ، كما تقول : " ضرب بزيد الحائط" ، فقد أقمت" اليوم" مقام الفاعل وجعلته كالأسماء الصحيحة. ومنها أن تعلم أن المقادير المضافة إلى الأنواع المميزة بها ، حكمها حكم ما أضيفت إليه ، وميزت به كقولنا : " سرت عشرة أيام" ، فعشرة هي الظرف ؛ لأنها مقدار أضيف إلى الأيام و" أيام" ظرف ، و" سرت عشرين يوما" ، " العشرون" ظرف ؛ لأنها مقدار مميّز بظرف.

فتقول الآن : إن قول السائل : " كم صيد عليه" أرادكم يوما صيد عليه ، فكم مبتدأ ، وهو مقدار مميّز بظرف فهو إذن ظرف و" صيد عليه" خبره ، وفي" صيد" ضمير يعود إلى" كم" قد أقيم مقام الفاعل ، فصار ذلك الضمير بمنزلة سير عليه يوم طويل.

وقوله : ولم يجعل" كم" ظرفا. أراد لم يجعل ضمير" كم" الذي في" صيد" فعبّر بلفظ" كم" عن ضميره ولم يجعله ظرفا ؛ لأنه قد أقامه مقام الفاعل ، ثم أتى المجيب بنحو ما بنى السائل عليه كلامه ، فجعل اليومين مرفوعين بصيد ، ولم يجعلهما ظرفا ، كما لم يجعل الضمير الذي في" صيد" ظرفا حين سأل ، وهو مجاز واتساع ؛ لأن" اليوم" لا يصاد ، وإنما يصاد فيه كما قال :

أما النهار ففي قيد وسلسلة

والليل في جوف منحوت من الساج (١)

__________________

(١) البيت من الأبيات التي لم يعرف قائلها ونسبه المبرد في الكامل إلى رجل من أهل البحرين من ـ ـ اللصوص. المقتضى ٤ / ٣٣ ـ رغبة الآمل ٨ / ١٢٢.


وإنما أراد أن الرجل في قيد وسلسلة في النهار ، فكذلك المعنى صيد عليه الوحش في يومين.

قال : (ومن ذلك أيضا أن تقول : " كم ولد له؟ " فيقول : " ستون عاما" ، والمعنى ولد له الأولاد ، وولد له الولد ستين عاما).

فحذف الأول وأقام الستين مقام الأولاد اتساعا.

ومن ذلك أن يقول : " كم ضرب به"؟ فتقول : " ضرب به ضربتان" و" ضرب به ضرب كثير".

فمعنى" كم" هاهنا معنى المصدر ، كأنه قال : " كم ضربة ضرب به" يريدكم ضرب بزيد ، وفي" ضرب" ضمير يعود إلى" كم" قد أقيم مقام الفاعل وهو مصدر : فلذلك كان جوابه : " ضرب به ضربتان" ، فسبيل المصدر في الاتساع كسبيل الظرف ؛ لأنك إذا قلت : " ضرب بزيد ضرب شديد" فالضرب ليس بمضروب في الحقيقة ، وإنما المضروب الذي وقع به الضرب ، وجعلت الضرب مفعول : " ضرب" مجازا.

قال : (ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها)(١) وإنما يريد أهل القرية فاختصر ، وعمل الفعل في" القرية" كما كان عاملا في" الأهل" لو كان هاهنا).

وقد بينا حذف المضاف والاكتفاء بالمضاف إليه فيما مضى ، وإنما ذكره سيبويه حجة في الاتساع والاختصار ؛ لأن المسألة في اللفظ للقرية والمعنى للأهل ، فكذلك قولهم : " ولد له ستون عاما" لفظ" الأولاد" للأعوام ، والمعنى للأولاد في الأعوام ، على أن بعض الناس يزعم أن ذلك على الحقيقة ، وأن مسألة القرية من" يعقوب" عليه‌السلام صحيحة ؛ لأن القرية يجوز أن تخاطبه ؛ إذ كان نبيّا ، وتكون مخاطبتها معجزة له.

ولا معنى للتشاغل بنقض هذا الكلام ؛ إذ كان جوازه في كلام العرب وغيرهم أشهر من أن تحتاج معه إلى إقامة دليل.

__________________

(١) سورة يوسف ، آية : ٨٢.


قال : " ومثله (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(١) والمعنى بل مكرهم في الليل والنهار ، ومثله (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ)(٢) وإنما هو ولكن البرّ برّ من آمن بالله".

وفي هذا وجه آخر ، وهو أن يجعل البر في معنى البارّ ، فكأنه قال تعالى : ولكن البارّ من آمن بالله.

قال : (ومثله في الاتساع قوله عزوجل : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما)(٣) المعنى : مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل ... الناعق والمنعوق به).

فالناعق الراعي والمنعوق به الغنم ، فجعل المؤمنين كالراعي والكفار كالمنعوق به ، والتمثيل في ذلك كلّه أن الكفار لم يعتقدوا ما خوطبوا به ، ولم يحصلوا به أكثر من سماعه ، ويدلك على صحة هذا أن الكفار لم يشبّهوا بما ينعق ؛ لأن الذي ينعق هو الراعي ، وهم لم يشبهوا به ، وإنما شبّهوا بالمنعوق به.

وقال بعضهم : أراد بقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) الذي ينعق به ، كما قال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ)(٤) أي ينطق به ، وكما قال تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٥) أي يبصر فيه ، والمعنى في هذا التأويل أنه جعل الذين كفروا في دعاء بعضهم لبعض كمثل صياح الغنم بعضها ببعض ، واللفظ مقلوب على ما خبّرتك.

قال : ومثل ذلك" بنو فلان يطؤهم الطريق" يريد يطؤهم أهل الطريق".

وهذا مدح ، والمعنى فيه أن بيوتهم على الجادة فالمارّة تنزل عليهم ويضيفونهم ، فجعل مرور أهل الطريق بهم وطأهم إياهم.

وقالوا : " صدنا قنوين" وإنما يريد صدنا بقنوين أو صدنا وحسن قنوين وإنما قنوان اسم أرض.

قال : وفي السعة مثله" أنت أكرم عليّ من أن أضربك" ، و" أنت أنكد من أن تتركه" إنما يريد أنت أكرم عليّ من صاحب الضرب.

__________________

(١) سورة سبأ ، آية : ٣٣.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٧٧.

(٣) سورة البقرة ، آية : ١٧١.

(٤) سورة الجاثية ، آية : ٢٩.

(٥) سورة يونس ، آية : ٦٧.


والقول في ذلك ما قاله" أبو إسحاق الزجاج" رحمه‌الله ، قال : إن قدّرته : أنت أكرم عليّ من ضربك ، لم يجز لأنك لست تريد أن تخبر أنه أكرم عليك من ضربه ، وهذا هو ظاهر الكلام ، وإن حمل المعنى عليه بطل ، قال أبو إسحاق : وتهذيب هذا الكلام هو : كأن قائلا قال : " أنت تضربني" فنسب الضرب إلى نفسه ، فقال الآخر : أنت أكرم عليّ من صاحب الضرب الذي نسبته إلى نفسك ، وليس ذلك.

ومثل هذا (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(١) وليس لله تعالى شريك ، وإنما جاز هذا ؛ لأنهم جعلوا لله تعالى شركاء في زعمهم ، فكأنه قال : أنت أكرم عليّ ممن يستحق ما زعمت أنه لك ، ونسبته إلى نفسك ، وأنشد سيبويه قول" النابغة الجعدي" مستشهدا لجواز الحذف :

كأنّ عذيرهم بجنوب سلّى

نعام قاق في بلد قفار (٢)

أراد عذير نعام ، والعذير الحال ، وقال" أبو العباس" وحده : العذير الصوت ، وما فسر أحد سواه ذلك ، و" قاق" : صوت.

ومن ذلك قول عامر بن الطفيل :

فلأبغينّكم قنا وعوارضا

ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد (٣)

أراد بقنا وعوارض ، وحذف الباء فأوصل الفعل ومعناه : ولأطلبنكم بهذين المكانين.

قال : ومن ذلك قولهم : " أكلت أرض كذا وكذا ، أراد أكلت خير بلد كذا ، ومنه قولهم : هذه الظهر ، أو العصر ، أو المغرب".

تريد هذه صلاة الظهر وصلاة العصر ، وصلاة المغرب ؛ لأن الظهر اسم للوقت ، وكذلك العصر ، كأنه أراد هذه صلاة هذا الوقت ، ومنه قولهم : " اجتمع القيظ" ، وإنما يريدون : اجتمع الناس في القيظ ، وتقديره : اجتمع ناس القيظ ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

__________________

(١) سورة القصص ، آية : ٦٢.

(٢) نسبه ابن بري إلى شقيق بن جزء بن رباح الباهلي اللسان (فوق) ١٢ / ٢٠١ الإنصاف ٤٧ ـ رغبة الآمل ٨ / ٢٤.

(٣) سبق الحديث عنه.


وقال الحطيئة :

وشرّ المنايا ميّت بين أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره (١)

يريد : وشر المنايا منية ميّت بين أهله ، كموت الفتى ، وقد أسلم الحيّ حاضره ، والحيّ هو الفتى ، قد أسلمه الحاضرون له من أهله ؛ لأنهم لا حيلة لهم في دفع المرض والموت عنه.

وقال النابغة الجعدي :

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (٢)

يريد كخلالة أبي مرحب ، وهي صداقته.

هذا باب وقوع الأسماء ظروفا

(وتسمى هذه الأسماء الظروف العليا وتصحيح اللفظ على المعنى ، فمن ذلك قولك : " متى يسار عليه"؟ وهو يجعله ظرفا ، فيقول : اليوم ، أو غدا ، أو بعد غد ، أو يوم الجمعة).

يعني إذا جعل السائل" متى" ظرفا ، وقدّره نصبا ، وجعل الذي يقوم مقام الفاعل حرف الجر ، أو مصدرا مضمرا في" يسار" وجب أن تنصب الجواب إذا اخترت أن تكون على حد السؤال ، وقد مضى هذا.

قال : (وتقول : متى سير عليه؟ فيقول : " أمس" ، أو" أول من أمس" ، فيكون ظرفا ، على أنه كان السير في ساعة دون ساعات ، أو حين دون سائر أحيان اليوم ، ويكون أيضا على أنه يكون السير في اليوم كله).

اعلم أن الظروف تنقسم قسمين : أحدهما يتضمن أجزاءه كلها الفعل ، والآخر يتضمن جزءا منه الفعل ، واللفظ يجري على كلّ.

فالذي يتضمن أجزاءه كلها الفعل قولك : " صمت اليوم" فلا يجوز أن يكون جزء من اليوم ، لم يكن فيه صوم ، وكذلك قولك : " لم أكلّم فلانا اليوم" لا يجوز أن تكون كلمته في جزء منه ، وقد جعلت" اليوم" ظرفا لترك كلامه ، ألا ترى أن رجلا لو قال :

__________________

(١) ديوان الحطيئة (الحلبي) ٤٥ ـ طبقات فحول الشعراء لابن سلام ٩٤.

(٢) حماسة البحتري ٢٤١ ـ ديوان النابغة الجعدي ٢٠ ، أمالي القالي ١ / ١٩٥.


" والله لا كلّمتك اليوم" ثم كلمه في جزء منه حنث.

وأما ما يكون العمل في بعضه فقولك : " صحت اليوم وتحكّمت يوم الجمعة" وقد أحاط العلم بأنه لا يكون صياحه متصلا بلا فتور ولا مراوحة ، وإنما ذلك على ما يعتاد من عادة الناس في الأفعال التي تتصل والتي تنقطع ، فإذا كان الفعل قد يكون متصلا في حال ، ومتقطعا في حال كالسير وما أشبه ذلك ، وجاز أن تنوي الاتصال ، فتجعله في الظرف كله ، وجاز أن تنوي الانقطاع فتجعله في بعض الظرف ، وسواء في ذلك أن تنصب الظرف أو ترفعه ، فتقيمه مقام الفاعل.

قال : " ومن ذلك الليلة الهلال ، وإنما الهلال في بعض الليلة ، وتقديره : الليلة ليلة الهلال" فجعل هذا شاهدا لقولك : " سير عليه اليوم" والسير في بعضه.

قال (ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلا في الظرف كله قولك : " سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد" وهذا جواب لقوله كم سير عليه؟ إذا جعله ظرفا).

قال أبو سعيد : اعلم أن" كم" استفهام عن كل مقدار من عدد وغيره ، في الأنواع كلها ، زمانا كان أو مكانا أو غيرهما ، وليس يختص بنوع دون نوع ، و" متى" استفهام عن الزمان فقط ، فإذا أوقعت" كم" استفهاما عن الزمان ، كان القصد فيها المسألة عن مقداره أو عدده ، و" متى" استفهام عن الزمان فقط من غير اقتضاء مقدار أو عدد ، فإذا أجبت عن" متى" فحكم الجواب أن يكون واقعا على زمان بعينه ، غير متضمن لعدد ، كقول القائل : " متى سير بزيد" فيقال : " يوم الجمعة" ؛ لأن مسألته وقعت لتعرف الزمان بعينه ، لا لتعرف كميته.

ولا يجوز أن تقول : " يومان" ؛ لأن قوله : " يومان" إجابة عن كمية ، ولا يعرف السائل الوقت الذي سار فيه بعينه ، ولو قرّبه من المعرفة فقال : " يوم سار فلانّ" أو" يوم كان المطر" لجاز وحسن ، ولو قال : متى سير عليه؟ فقال : " أيام الصّرام" لجاز ، وإن كانت أيام الصّرام فيها عدد ؛ لأن القصد منها إلى تعيين وقت لا إلى عدد الأيام ؛ لأن أيام الصّرام قد جعلت لوقت واحد يعرف بهذا اللفظ ، كما يعرف يوم الجمعة بهذا اللفظ.

وأما" كم" فقد يكون جوابها معرفة ونكرة ، وأيتهما كانت جوابا لها ، فالفعل واقع


فيها كلّها ، كقولك : " كم سير عليه؟ " فيقول : يوم الجمعة ، فالسير واقع في يوم الجمعة كلّه ، وكذلك إذا قيل : " كم سير عليه"؟ فيقال : " يومان" ، فالسير واقع فيهما ، وقد تقول : " كم سير عليه" فيقال : " يوم الجمعة" ، والسير واقع في بعضه ، إذ كان المجيب مستكثرا للسير في الساعات التي وقع فيها من الجمعة ، فيجري اللفظ على الكل وهو يريد البعض ، كما تقول : " يوم الرحيل جاءني الخلق" يريد الكثير منهم ، وفلان يتكلم دهره ، إذا كان كثير الكلام ، وإن كان السكوت الذي يكون منه أكثر من الكلام ، فاللفظ على الكل والمعنى فيه البعض.

وقوله : " سير عليه الليل والنهار ، والدهر ، والأبد".

لا يكون إلا جواب" كم" ، لأنه وضع هذه الألفاظ على الأوقات فهي متضمنة للكمية ولم يجعل اسما لوقت بعينه ، غير أنه إذا قيل : " سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد" ، في جواب : كم سير عليه؟ فإنما يريد التكثير والمبالغة ، وقد علم أن الدهر لا يتصل فيه السير ، ولكنه على ما عرّفتك من قول القائل : " جاءني الخلق" وأنت تريد البعض.

قال : " ومما يدلك على أنه لا يكون أن تجعل العمل فيه في يوم دون الأيام ، وفي ساعة دون الساعات ؛ أنك لا تقول : " لقيته الدهر والأبد" ، وأنت تريد يوما منه ، ولا" لقيته الليل" ، وأنت تريد لقاءه في ساعة دون ساعات إلا أن تريد : سير عليه الليل أجمع ، والدهر كلّه".

يعني أن الأبد والدهر ، والليل والنهار ، إذا كانا على طريق الأبد ، والدهر أسماء ، جعلت لترادف الأزمنة ، وللدلالة على تكثيرها ، لا يجوز أن تقول : " لقيته الدهر" وأنت تريد مرة ، وإنما يستعمل مثل هذا في الأوقات المحصلة ، والتي تميّز عن غيرها. وبيّن أن الفعل وقع فيها دون ما سواها ، كقولك" لقيته يوم الجمعة" و" لقيته العام الماضي" وإن كنت لقيته مرة واحدة في يوم الجمعة ، وفي العام الماضي ؛ لأنك أردت أن تعرف وقت اللقاء ، لا مقداره.

قال : " وإن لم تجعله ظرفا فهو عربي كثير في كلامهم".

يعني إن قلت : " سير عليه الليل والنهار" ، فتجعله مفعولا على السعة ثم تقيمه مقام الفاعل.


قال سيبويه : " وإنما جاء هذا على جواب كم ؛ لأنه حمله على عدة الأيام والليالي ، فجرى على جواب ما هو للعدد ، كأنه قال : سير عليه يومين أو ثلاثة أيام".

يعني أن الدهر والأبد جرى على جواب" كم" ؛ لأنه موضوع على عدة الأيام وترادفها ، كما كان سير عليه يومان أو ثلاثة" أيام" على ذلك ، ولا يجوز أن يكون السير في أحد اليومين إذا قلت : " سير عليه يومين".

قال : وأما" متى" ، فإنما تريد أن توقت لك بها وقتا ، ولا تريد بها عددا فإنما الجواب اليوم أو يوم كذا أو شهر كذا".

وقد بينا هذا ، وذكرنا أن" متى" جعلت للدلالة على وقت بعينه ، لينماز من سائر الأوقات قال : (ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار المحرّم وصفر وسائر أسماء الشهور إلى ذي الحجة ؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعدة الأيام ، كأنهم قالوا : سير عليه الثلاثون يوما ، ولو قلت : شهر رمضان أو شهر ذي القعدة ، لكان بمنزلة يوم الجمعة والليلة والبارحة ، ولصار جواب" متى").

قال أبو سعيد : ظاهر كلام سيبويه الفصل بين أن تقول شهر كذا ، وبين ألا تذكر الشهر ، فإذا قلت : " سير عليه المحرم" فالسير في كل يوم من أيام المحرم ، وإذا قلت : " سير شهر المحرم" أو" شهر ذي القعدة" جاز أن يكون السير في بعضه.

وهذه رواية رواها ، كأنهم جعلوا قولهم المحرم نائبا مناب قولهم : الثلاثين يوما ، وهم لو قالوا : " سير عليه الثلاثون يوما" لكان السير في كل يوم منهن ، وإذا أدخلوا" شهرا" جعلوه اسما للوقت بعينه ، فصار بمنزلة يوم الجمعة.

فإن قال قائل : فكيف اختلفا وهما لمعنى واحد؟ قيل له : قد يجوز ـ وإن كانا لمعنى واحد ـ أن يكون أحدهما يدل عليه من طريق الكمية ، والآخر من طريق التوقيت ، ألا ترى أنّا إذا قلنا : " سير عليه يوم الجمعة" يجوز أن يكون السير في بعضه ، وإذا قلنا : " سير عليه ساعات يوم الجمعة" ، لم يجز أن يكون السير في ساعة منها ، وساعات يوم الجمعة في معنى" يوم الجمعة".

وقال أبو إسحاق الزجاج في قول سيبويه : " ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار المحرم وصفر" قولا يخالف ما ذكرناه ، وليس ببعيد ، قال : يعني إذا عطفت على المحرم صفرا ، فقلت : " سير عليه المحرم وصفر" فلا بد أن يكون السير في كل واحد من


الشهرين ، ولو قلت : " سير عليه المحرم" لجاز أن يكون السير في بعضه ، قال : والدليل على ذلك قول سيبويه : " لو قلت : سير عليه شهر رمضان أو شهر ذي القعدة ، كان بمنزلة يوم الجمعة ، فأبو إسحاق عنده أن قولك : المحرم وشهر المحرم بمنزلة واحدة ، وأن" سيبويه" لم يفرق بينهما ، ولقائل أن يقول : إن سيبويه فرق بينهما ؛ لأنه ذكر المحرم وصفر وسائر أسماء الشهور.

ثم قال : كأنهم قالوا : " سير عليه الثلاثون يوما" ، فجعل كل شهر من الشهور بمنزلة الثلاثين يوما.

قال سيبويه : " وجميع ما ذكرت لك مما يكون على" متى" يكون مجرى على" كم" ظرفا وغير ظرف".

يعني أن" يوم الجمعة" ، و" شهر رمضان" ، وما أشبه ذلك من جوابات" متى" قد يجوز أن يكون جوابا لكم ، يعني يجوز أن تقول : كم سير عليه ، فيقال : يوم الجمعة ، فيكون السير فيه كله ، وقوله : " ظرفا وغير ظرف" أي ظرفا ومفعولا ، لا جوابا" لمتى".

قال : " وبعض ما يكون في" كم" لا يكون في" متى" نحو الدهر والليل ؛ لأن" كم" هو الأول ، فجعل الآخر تبعا له ، ولا يكون الدهر والليل والنهار إلا على العدّة جوابا لكم".

يعني : أن الدهر والليل والنهار ، قد يكون جوابا لكم لما فيه من التكثير ، ولا يكون جوابا لمتى ؛ لأنه لا دلالة فيه على وقت بعينه.

وقوله : " لأن كم الأول".

يعني لأنه دلالة على المقدار في الزمان وغيره ، ويقع تحتها المنكور والمعروف ؛ لوقوع التقدير عليهما ، فجعل الآخر وهو" متى" تبعا له.

قال : (وقد تقول : سير عليه الليل. تعني ليل ليلتك ، وتجري على الأصل ، كما تقول في الدهر : سير عليه الدهر).

يعني أنك إذا قلت : " سير عليه الليل" جاز أن تعني ليلة واحدة ، وهي الليلة التي يليها يومك ؛ فيجوز فيه الرفع والنصب أيضا ، كما جاز فيه حين كان في معنى الدهر ، وتقول : " سير عليه الدهر" وأنت تريد بعضه على جهة التكثير ، فتجعل ما كثّرت من ذلك بمنزلة الدهر كلّه كما تقول : " أتاني أهل الدنيا" و" عسى ألا يكون أتاك منهم إلا خمسة


فاستكثرتهم".

قال : (وكذلك شهرا ربيع ، حين ثنّيت جاء على العدد عندهم).

يعني لا يجوز أن تقول : " ضرب زيد شهري ربيع" وأنت تعني في أحدهما.

قال : (وتقول : ذهبت الشتاء ويضرب الشتاء. وسمعنا الفصحاء يقولون : انطلقنا الصيف ، على جواب متى). يعني أن الذهاب والانطلاق ، كان في وقت من الشتاء والصيف ؛ لأن الشتاء معروف من أوله إلى آخره ، وكذلك الصيف ، لو أراد أن يكون الفعل في الشتاء كله جاز ، قال" ابن الرقاع" ، والأعرف أنه لأبي دواد الإيادي :

فقصرن الشتاء بعد عليه

وهو للذود أن يقسّمن جار (١)

يصف نوقا قصرت ألبانها على فرس ، وذلك الفرس جار للنوق أن يغار عليهن ، فيجوز أن يكون الشتاء هاهنا على جواب" كم" ، فيكون قصر ألبانهن على الفرس في أيام الشتاء كلّها ، ويجوز أن يكون في بعض الأيام على جواب" متى".

قال : " واعلم أن الظروف من الأماكن كالظروف من الأيام والليالي في الاختصار ، وسعة الكلام".

يعني أن الظروف من المكان قد يجوز أن تقيمها مقام الفاعل ، بأن تجعلها مفعولا على سعة الكلام ، ويجوز أن تنصبها ، ويكون الرفع والنصب فيها في جواب" كم" و" متى" ، كما كان ذلك في" الأيام" ، فتقول : " سير عليه فرسخان وميلان أو بريدان" في جواب : كم سير عليه؟ وإن شئت قلت : فرسخين وميلين ، كما قلت : سير عليه يومان ويومين ، في جواب" كم".

قال : " ونظير" متى" من الأماكن" أين" ، فإذا قلت : أين سير عليه؟ قيل : مكان كذا وكذا وخلف دارك".

يعني أن" أين" يسأل بها عن مكان بعينه محصور ، كما تسأل" بمتى" عن زمان بعينه محصور ، فإذا قلت : أين سير عليه؟ لم يجز أن تقول : فرسخان ، كما لا يجوز أن تقول : " سير عليه يومان" في جواب : " متى سير عليه" وإنما تقول : " سير عليه يومان وفرسخان" في جواب" كم" في الزمان والمكان.

__________________

(١) نسبه سيبويه لابن الرقاع ١ / ١١١ بولاق ونسبه ابن جني في الخصائص لأبي دواد / ٢٦٥.


قال : " وتقول : سير عليه ليل طويل ، وسير عليه نهار طويل ، وإن لم تذكر الصفة ، وأردت هذا المعنى رفعت إلا أن الصفة تبيّن بها معنى الرفع وتوضّحه".

يعني أنك إذا قلت : " سير عليه ليل طويل" فهو إلى الرفع وإقامته مقام الفاعل أقرب ؛ لأنه كلما نعت قرب من الأسماء ، وبعد من الظروف ، وإذا قلت : " سير عليه ليل" وأنت تريد هذا المعنى رفعت أيضا ، إلا أنّ ذكر النعت أجود ، لأنه يبيّن بها قربه من الاسم ، وإن نصبت جاز أيضا ، فقلت : " سير عليه ليلا طويلا" ، كما تقول : " سير عليه الدهر".

قال : (وتقول : " سير عليه يوم" على حد قولك : يومان).

يعني على أن تجعله جوابا لكم ؛ لأن اليوم مبهم.

قال : وإن شئت قلت : " سير عليه يوما أتانا فيه فلان".

فيكون جوابا لمتى ؛ لأنه حصر اليوم بإتيان فلان فيه.

قال : (وتقول : سير عليه غدوة وبكرة) ، فترفع على مثل ما رفعت ما ذكرنا ، والنصب فيه على ذلك يعني أن" غدوة وبكرة" وإن كانا لا ينصرفان ، فسبيلهما سبيل ما ينصرف في هذا الباب مما يرفع على أنه مفعول في سعة الكلام ؛ وينصب على الظرف كيوم الجمعة وما أشبه ذلك.

والذي منع" غدوة وبكرة" من الصرف ، أنه كان الأصل في" غدوة" غداة منكورة ، ثم غيروا لفظ النكرة ليجعلوها علما ، فصارت غدوة معرفة وفيها هاء التأنيث ، فاجتمع فيها التعريف والتأنيث و" بكرة" محمولة على غدوة ؛ لأنها على لفظها ومعناها ، غير أنها لم تغيّر عن نكرة كانت لها لتعرّف ، ومثل ذلك في جواز النصب والرفع" صباح يوم الجمعة" و" عشية يوم الجمعة" و" مساء ليلة الجمعة".

قال : (وتقول : " سير عليه يومئذ وحينئذ والنصب على ما ذكرنا")

يعني أن" حينئذ" وإن كان الحين مضافا إلى" إذ" فلا يمتنع من الرفع والنصب كيوم الجمعة ، ويجوز أيضا فيه وجه آخر ، وهو أن تفتحه فتحة بناء في حال الرفع والجر : كقوله تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)(١) ، وذلك أنه مضاف إلى" إذ" ، و" إذ" بمنزلة الحروف فبني

__________________

(١) سورة هود ، آية : ٦٦.


لذلك حين خالف منهاج الأسماء.

ومما يجوز فيه الرفع والنصب" نصف النهار" و" سواء النهار" ومعناه نصف النهار ؛ لأنك تقول" بعد نصف النهار" و" هو عندك نصف النهار" ، ولأنك تقول : هذا سواء النهار ، وهذا حجة لتمكنهما ، وجواز الرفع فيهما.

و" سراة اليوم" ومعناها أول اليوم و" ضحوة من الضحوات" إذا لم تعن ضحوة يومك ، كقولك : " ساعة من الساعات" ، وكذلك" عتمة من الليل" إذا أردت عتمة من العتمات.

قال : " وتقول في الأماكن : سير عليه ذات اليمين وذات الشمال ، وإن شئت نصبت ، وكذلك الرفع في قولك : سير عليه أيمن وأشمل ، وكذلك دارك اليمين ودارك الشمال ، وقال أبو النجم :

يأتي لها من أيمن وأشمل" (١)

فجعل : " أيمنا وأشملا" متمكّنين حين أدخل عليهما حرف الجر ونكرهما ، فاستدلّ بالجر على جواز الرفع ؛ لأن كلّ ما جاز أن يدخل عليه حرف الجر من الظروف كان متمكنا ، وجاز أن يرفع ، وقال عمرو بن كلثوم :

صددت الكأس عنا أمّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا (٢)

فيجوز أن يكون : " اليمين" ظرفا ، ويجوز أن يكون اسما ، فإذا جعلت الكأس اسم كان ، وجعلت : " مجراها" مبتدأ كان اليمين ظرفا للمجرى ، والجملة في موضع خبر الكأس ، وإذا جعلت : " مجراها" بدلا من الكأس ، جاز أن يكون اسما.

قال : " ومن ذلك شرقيّ الدار وغربيّ الدار".

ويجوز فيه الرفع والنصب ، والعرب تقول : البقول يمينها وشمالها ، فيجعلونه ظرفا ، ويجوز : " البقول يمينها وشمالها" على ما ذكرناه.

__________________

(١) الخصائص ٢ / ١٣٠ ـ ٣ / ٦٨ ، شواهد المغني ١٥٤.

(٢) شرح القصائد العشر للتبريزي ٢١٩ / الهمع ١ / ٢٠١ / سيبويه ١ / ١١٣ بولاق ١ / ٢٢٢ هارون.


هذا باب ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار

وذلك قولك : متى" سير عليه" فيقول : " مقدم الحاجّ" ، و" خفوق النّجم" ، و" خلافة فلان" ، و" صلاة العصر" فإنما هو زمن مقدم الحاجّ وحين خفوق النّجم ، ولكنه على سعة الكلام والاختصار).

يعني حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك إن قال : " كم سير عليه؟ " جاز أن يكون جوابه : مقدم الحاج ، وخفوق النجم ، وخلافة فلان ، فيكون المعنى : سير عليه مدة خلافة فلان.

قال : " وإن رفعته أجمع كان عربيّا كثيرا".

يعني إن قلت : " سير عليه مقدم الحاجّ" و" خلافة فلان" جاز ، وقد بيّنا وجه الرفع والنصب فيه ،

قال:(وليس هذا سعة الكلام بأبعد من : " صيد عليه يومان" و" ولد له ستون عاما").

يعني ليس حذف" زمن" من" مقدم الحاج" و" خفوق النجم" وإقامة المضاف إليه مقامه بأبعد من حذف الأولاد ، في قولك : " ولد له ستون عاما" : لأن التقدير فيهما واحد ، بل قوله : " ولد له ستون عاما" أبعد ؛ وذلك لأن التقدير فيه : ولد له الأولاد في ستين عاما فحذف منه شيئان" الأولاد" و" في" ، إلا أنه قدر بعد حذف" في" : ولد له أولاد ستين عاما ، فحذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه.

قال : (وتقول : سير عليه فرسخان يومين ، لأنك شغلت الفعل بالفرسخين ، فصار كقولك : " سير عليه بعيرك يومين" وإن شئت قلت : سير عليه فرسخين يومان).

يعني أنك تقيم أيّهما شئت مقام الفاعل ، وأيّهما أقمته مقام الفاعل فقد جعلته كالمفعول ؛ فلذلك شبّهته بقولك : " سير عليه بعيرك يومين" ، والذي تنصبه فيهما يجوز أن تنصبه على الظرف ، وأنه مفعول على سعة الكلام.

وتقول : (صيد عليه يوم الجمعة غدوة" ، فتقيم" غدوة" ، مقام الفاعل وتنصب" اليوم" على الظرف ، أو مفعول على سعة الكلام).

وإن شئت رفعت : " اليوم" ، ونصبت : " غدوة" على مثل ذلك التفسير.

وإن شئت نصبتهما جميعا على الظرف ، ألا ترى أنك تقول : " سير عليه في يوم


الجمعة في هذه الساعة" ، فتأتي بهما جميعا ، وكذلك تحذفها عنهما ، فيصيران ظرفين.

وإن شئت رفعتهما جميعا ، فتبدل : " غدوة" من يوم الجمعة.

وإن قدمت" غدوة" جازت فيهما هذه الوجوه إلا رفعها ، فإنه غير جائز أن تقول : " سير عليه غدوة يوم الجمعة" ؛ لأنه لا يجوز أن تبدل" اليوم" من غدوة ؛ لأن الكل لا يبدل من البعض ، وإنما يبدل البعض من الكلّ.

قال : وتقول : " إذا كان غد فأتني ، وإذا كان يوم الجمعة فالقني".

فالفعل لغد ويوم الجمعة ، و" كان" في معنى وقع وحدث ، وكأنه قال : إذا جاء غد فالقني.

قال : " ومن العرب من يقول : إذا كان غدا فالقني ، وهم بنو تميم".

وإنما نصبوا بإضمار فعل كأنهم قالوا : إذا كان ما نحن عليه من السلامة أو من الحال التي هم عليها ، والمعنى فيه إذا لم يحدث لك مانع أو حال تعذر في التخلف لحدوثها فالقني ، فهذا جائز ، والمعنى فيه مفهوم ؛ وذلك أن مواعيد الناس إنما تقع على بقاء الأحوال التي هم عليها ، ألا ترى أن رجلا لو قال لآخر : إني آتيك في غد مسلّما أو زائرا ، ومنزله عنه شاسع ، ثم مطروا في غد مطرا عظيما ، يشق فيه تجشم الزيارة ، كان معذورا في ترك الزيارة ، ولم ينسب إلى جملة المتخلفين الكذابين ؛ لأن وعده كان معلّقا بسلامة الأحوال ، وإن لم يكن ملفوظا به.

قال سيبويه : " وحذفوا كما قالوا : حينئذ الآن"

يريد حذفوا المرفوع ب" كان" في قولهم : " إذا كان غدا فأتني" ، والمرفوع به" ما نحن عليه من السلامة" أو غيرها ، كما حذفوا" في حينئذ الآن" والذي حذفوه : كان هذا حينئذ وأسمع إليّ الآن ، كما قال : " تالله ما رأيت كاليوم رجلا" ، أراد : " ما رأيت رجلا كرجل أراه اليوم" ، ثم أضاف الرجل المرئيّ في اليوم إلى اليوم ، فصار التقدير : " ما رأيت رجلا كرجل اليوم" ثم حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، فصار التقدير ما رأيت رجلا كاليوم ، ثم أخّره في اللفظ.

ومما حذف قولهم : " لا عليك" ، وقد علم المخاطب أنه يعني لا بأس عليك. قال : " وتقول : " إذا كان غدا فأتني" ، كأنه ذكر أمرا إما خصومة وإما صلحا ، فقال : " إذا كان غدا فأتني" فهذا جائز في كل فعل.


يريد أن القائل قد يقول : " فلان يصالح فلانا غدا" أو" يخاصمه غدا ، أو يزوره غدا" ، أو غير ذلك من الأفعال فيقول : " إذا كان غدا فأتني" ، أي إذا كان ما ذكرت في غد فأتني ، فهذا على غير الوجه الأول ؛ لأن الوجه الأول إنما يقوله القائل من غير أن يجرى ذكر شيء اعتمادا على الحال التي هم فيها ، واكتفاء بها ، وهذا على إضمار شيء يجري ذكره.

قال : " فإن قلت : إذا كان الليل فأتني" لم يجز ذلك ؛ لأن الليل لا يكون ظرفا إلا أن تعني الليل كلّه". يعني أن الليل اسم لليالي التي تكون أبدا ، فلا يجوز أن تعلق الوقت بها ؛ لأنها غير متقضية ولا موجودة في وقت واحد ، وسبيلها سبيل الدهر ، وأنت لا تقول : " إذا كان الدهر فأتني"

قال : " فإن وجّهته على إضمار شيء قد ذكر على ذلك الحد جاز ، وكذلك : أخوات الليل".

يعني إن وجّهته على كلام يعلم السامع أنه يريد ليل ليلته جاز ، وذلك نحو : أن تكون مع رجل في شيء ، فقال : " إذا كان الليل فأتنا" ، فعلمت أنت بالحال التي أنتما فيها أنه يعني ليل ليلته التي تجيء ، فيجوز فيه النصب والرفع.

قال : (ومما لا يحسن فيه إلا النصب قوله : سير عليه سحر ، لا يكون فيه إلا أن يكون ظرفا ؛ لأنهم إنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر ، بالألف واللام ، يقولون : هذا السحر ، وبأعلى السحر ، وإنّ السحر خير لك من أول الليل).

قال أبو سعيد : اعلم أن : " سحر" إذا أردت به سحر يومك فإنه معرفة بغير ألف ولام ، غير منصرف ولا متصرف ، فأما قولنا : غير منصرف ، فالذي منعه من الصرف أنه معدول عن الألف واللام ، كأن الألف واللام تراد فيه ، وغيّر عن لفظ ما فيه الألف واللام ، مع الإرادة ، كما عدل" جمع" في قولك : " جاءت النسوة جمع" وهو معرفة ، فاجتمع فيه التعريف والعدل ، فلم ينصرف.

وأما قولنا : إنه لا يتصرف ، فمعناه أنه لا يدخله الرفع والجر ، وربما دخله الجر ، ولا يكون إلا منصوبا على الظرف ، وكذا : كل ظرف غير متصرف ، فمعناه أنه لا يدخله الرفع والجر ، وربما دخله الجر" بمن" فقط من بين حروف الجر.

والذي منع" سحر" من التصرف أنه عرّف من غير وجه التعريف!! ؛ لأن وجوه


التعريف إنما هي بخمسة أشياء : بالإضمار ، والإشارة ، والعلم ، والألف واللام ، والإضافة إلى هذه الأربعة ، وإنما صار : " سحر" معرفة ؛ بوضعك إياه هذا الموضع ، كما صار : " أجمع ، وأجمعون ، وجمع" بوضعك إياهن هذا الموضع ، وهو أنك لا تصف به إلا معرفة.

فإذا صغّرت" سحر" من يومك انصرف فدخله التنوين ، " ولا يتصرف" لا يدخله الرفع والجر ، أما التنوين فإنما دخل عليه ، كما دخل على : " ضحوة" وذلك أنهم لم يضعوا المصغّر مكان ما فيه الألف واللام ، فيكون معرفة أو معدولا.

وإنما نكروه كما نكّروا" ضحوة" و" عتمة" و" عشاء" ، لأنه فهم به ما يفهم بالمعارف ، فلم يتمكّن ، وكذلك : كل شيء من أسماء ساعات يومك ، نحو : " ضحى ، وضحوة ، وعشاء ، وعشيّا ومساء" إذا أردت ذلك من يومك لم يكن إلا ظروفا ، وذلك أنك إذا قلت لرجل" أنا آتيك عشاء" لم يذهب وهمه إلا إلى عشاء يومك وكذلك : " عتمة" ، فلما كان يفهم ما كان يفهم بالمعارف من حصر وقت بعينه لم يتمكن عندهم تمكّنا يتّسع فيه فيجعل اسما غير ظرف ، فيرفع ويجر ، لا تقول : " آتيك عند ضحى ، ولا موعدك مساء" و" لا أتانا عند عشاء" فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

قال : ومثل ذلك : " سير عليه ذات مرة" نصب لا يجوز إلا هذا ، ألا ترى أنك لا تقول : إن" ذات مرة" كان موعدهم ، ولا تقول : " إنما لك ذات مرة" ، كما تقول : " إنما لك يوم".

وكذلك : " إنما يسار عليه بعيدات بين" ؛ لأنه بمنزلة" ذات مرة".

ومثله" سير عليه بكرا" ، ألا ترى أنه لا يجوز : موعدك بكر ، ولا مذ بكر ، فالبكر لا يتمكن في يومك ، كما لم يتمكن : " ذات مرة" و" بعيدات بين" وكذلك : " ضحوة في يومك الذي أنت فيه".

أما : " ذات مرة" و" بعيدات بين" فلا يستعمل عنده إلا ظرفا ، والذي منعها من التصرف ، ومن كونها غير ظرف أنها قد استعملت في ظروف الزمان ، وليست من أسماء الدهر ، ولا من أسماء ساعاته ، ألا ترى أنك تقول : " ضربتك مرة ومرتين" وأنت تعني : ضربة وضربتين ، فلما استعمل في الدهر ما ليس من أسمائه ضعف ولم يتمكن.

فإن قال قائل : فأنتم تقولون : " سير عليه مقدم الحاجّ" ، و" خفوق النّجم" ، وما أشبه ذلك ، من أسماء المصادر ، وليست المصادر من أسماء الزمان.


قيل له : إنما يجوز ذلك في المصادر التي يحسن معها إظهار الأوقات كقولنا : " سير عليه وقت مقدم الحاج" ، ولما كانت" المرة" لا يحسن إظهار الوقت معها ، فيقال : " سير عليه وقت ذات مرة" ، ولا" وقت مرة" ، لم تجر مجرى مقدم الحاج.

وأما" بعيدات بين" فهي جمع" بعد" مصغّرا و" بعد" و" قبل" لا يتمكنان ، ولا يجوز أن يقال : " سير عليه قبلك" ولا بعدك ولا يرفعان ، والذي منعهما من التصرف والرفع أنهما ليستا باسمين لشيء من الأوقات ، كالليل والنهار ، والساعة ، والظهر ، والعصر ؛ وقد استعملا في الوقت للدّلالة على التقديم والتأخير ، وأما" بكر" و" عتمة" و" ضحوة" وما أشبه ذلك ، فقد ذكرنا الوجه في خروجها عن التمكن إذا كنّ من يومك ، وكذلك قولك : " سير عليه ذات يوم وذات ليلة" ؛ لأن نفس" ذات" ليست من أسماء الزمان فأجري" ذات يوم" و" ذات ليلة" مجرى" ذات مرة".

قال : (وكذلك سير عليه ليلا ونهارا ، إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك ، لأنه إنما يجري على قولك : " سير عليه" بصرا وسير عليه ظلاما).

يعني إذا أردت الليل من ليلتك التي تلي يومك ، والنهار الذي أنت فيه ، فهو يجري مجرى : " ضحوة" و" بكرا" من يومك ، وهو غير متمكن ؛ لأنه نكرة قد عرف بها ما يعرف بالمعارف فإن قلت : " سير عليه ليل طويل ، ونهار طويل ، جاز ، وتمكن لأنك لم ترد ذلك من يومك ، وإن قلت : سير عليه ليل ونهار ، على هذا المعنى جاز.

قال : (فهو متمكن في هذا الحال ، وغير متمكن على الحد الأول ، كما أن السحر بالألف واللام متمكن في المواضع التي ذكرت ، وبغير الألف واللام غير متمكّن فيها).

يعني أنك إذا أردت ليل ليلتك ، في قولك : " سير عليه ليلا ونهارا ، كان غير متمكن ، كما أنك إذا قلت : " سحر" بغير ألف ولام ، وأردت سحر يومك ، فهو غير متمكن ، وإذا قلت : " سير عليه ليل طويل" ، فهو متمكّن ، كما أن السحر بالألف واللام متمكن.

قال : " وذو صباح بمنزلة" ذات مرة" ، تقول : " سير عليه ذا صباح" ، أخبرنا بذلك يونس إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم : " ذات مرة" و" ذات ليلة" ، وأما الجيّدة العربية فأن تكون بمنزلتها ظرفا ، قال رجل من خثعم :


عزمت على إقامة ذو صباح

لشيء ما يسوّد من يسود (١)

فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفع.

قال بعض أصحابنا : أحسب أنه قد وقع في كلام سيبويه غلط ، وذلك أن في نسخة المبرد قد جاء : في لغة لخثعم" ذات مرة وذات ليلة" ، وهذا ينقضه قوله : " وأما الجيدة فأن تكون بمنزلتها" ، وأحسب أن يونس حكى : " ذات يوم وذات ليلة" ، ويكون قوله : " وأما الجيدة فأن تكون بمنزلتها".

وقوله : " فهو على هذه اللغة"

يعني من قال : " ذات يوم وذات ليلة" وفي بعض النسخ" مفارقا ذات مرة وذات ليلة" وهذا أيضا خطأ ؛ لأنه مثل : " ذات ليلة" ، وإنما هو اضطراب وقع عند القارئ ، فزاد" مفارقا" ، وهو لا شيء ، وقال بعض أصحابنا : لا يصح الكلام إلا بقوله : " مفارقا" ، وذلك أنه قال : " وذو صباح بمنزلة ذات مرة" ، يعني أنهما غير متمكنين ، ثم قال : " إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم مفارقا ذات مرة" يعني أنه جاء متمكنا مثل البيت الذي أنشده.

قال : " الجيدة أن تكون بمنزلتها فتكون متمكنة".

وقوله : " فهو على هذه اللغة يجوز فيها الرفع"

يعني على ما جاء في البيت متمكنا يجوز : " سير عليه ذو صباح" قال أبو سعيد : هذا الفصل فيه اضطراب ، وأنا ألخصه وأبين كلام سيبويه ومذهبه من كلام المفسّرين ومذاهبهم ، إن شاء الله تعالى :

اعلم أن" سيبويه" قد سوّى بين : " ذات يوم" و" ذات ليلة" و" ذات مرة" وخبرنا أنه غير متمكن فيما مضى من الباب ، وجعل" ذا صباح" بمنزلة" ذلك".

ثم قال : " إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم" ذات مرة وذات ليلة" ، وفي بعض النسخ : " في لغة لخثعم مفارقا ذات مرة وذات ليلة" فإن كانت الرواية : " مفارقا ذات مرة" فإنه يريد أن" ذا صباح" في لغة خثعم قد جاء مفارقا : " ذات مرة" ، وتمكن في لغتهم فجاز فيه الرفع والجر ، وأنشد البيت في الجر.

ويكون قوله : " وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها"

__________________

(١) البيت لأنس بن مدركة الخثعمي الخزانة ١ / ٤٧٦ ـ ابن يعيش ٣ / ١٢ الدرر ١ / ١٦٨.


يعني أن تكون : " ذو" بمنزلة : " ذات مرة" في ألّا يتمكن.

وإن كانت الرواية بغير : " مفارق" ، فإنه يعني في لغة خثعم : " ذات مرة وذات ليلة" متمكنان ، وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها التي قد ذكرنا في غير المتمكن.

ثم أنشد بيتا في تمكن : " ذي صباح" ؛ لأنه قد علم أن : " ذا صباح وذات مرة وذات ليلة" بمنزلة واحدة ، ولا معنى لقول من قال من أصحاب سيبويه : إن ذات يوم وذات ليلة بخلاف ذات مرة ، لأن : " ذات" غير متمكنة ، وإن كانت مضافة إلى متمكن ؛ إذ لم تكن من أسماء الزمان.

قال : " وجميع ما ذكرنا من غير المتمكن إذا ابتدأت اسما ، لم يجز أن تبنيه عليه وترفع ، إلا أن تجعله ظرفا ، وذلك قولك : موعدك سحيرا ، وموعدك صباحا"

ولا يجوز أن تقول : " موعدك سحير" ، ولا أن تقول : " موعدك ذات مرة"

قال : " ومثل ذلك إنه يسار عليه صباح مساء إنما معناه صباحا ومساء ، وليس يريد بقوله : صباحا ومساء ، صباحا واحدا ، ولا مساء واحدا ولكنه يريد صباح أيامه ومساءها".

يقال : " سير عليه صباح مساء" و" صباحا ومساء وصباح مساء" ومعناهن واحد ، وإنما بنيت ؛ لأن فيها معنى الواو ، وجعلتهما اسما واحدا ؛ لأنهما وقعا لأوقات مجتمعة ، كما وقعت : " خمسة عشرة" لعدد مجتمع ، فجعلت اسما واحدا ، وبنيت ؛ لأنها تضمنت معنى الواو.

وأما : " حضر موت" اسم رجل أو اسم موضع ، فلا تبنه ؛ لأنه ليس فيه معنى الواو ، وليس : " سير عليه صباح مساء" مثل : " ضربت غلام زيد" في أن : " سير" لا يكون إلا في الصباح ، كما أن الضرب لا يقع إلا في الأول ـ وهو الغلام ـ دون الثاني ؛ لأنك إذا قلت : ضربت غلام زيد ، أفدت بزيد معنى ، وإن لم ترد في قولك : " سير عليه صباح مساء" أن السير وقع فيهما ، لم يكن في إتيانك بالمساء فائدة.

قال : " فليس يجوز في هذه الأسماء التي لم تمكن من المصادر ، التي وضعت للحين ، وغيرها من الأسماء ، أن تجرى مجرى يوم الجمعة وخفوق النجم"

إن قال قائل : هل ذكر" سيبويه" مصدرا غير متمكن فيما تقدم من الكلام ففي ذلك جوابان :


أحدهما : ما قاله : " أبو العباس" أنه لم يذكر مصدرا غير متمكن ، ولكنه قدم هذا لك ليعلمك أن كل مصدر غير متمكّن لا يتّسع فيه نحو : " سبحان" ، لا يجوز أن تقول : " جئتك زمن سبحانه" ، كما تقول : جئتك زمن تسبيحه.

والجواب الثاني : أن يكون عنى صباح مساء ؛ لأنه من لفظ المصادر ، ألا ترى أنك تقول : " أصبحنا صباحا" كما تقول : تكلّمنا كلاما ، فتضع الصباح موضع الإصباح ، كما وضعت الكلام موضع التكليم. فيجوز على هذا أن يكون عنى صباحا.

قال سيبويه : " ومما يختار أن يكون ظرفا ، ويقبح أن يكون غير ظرف صفة الأحيان ، كقولك : سير عليه طويلا ، وسير عليه حديثا ، وسير عليه كثيرا ، وسير عليه قليلا ، وسير عليه قديما".

يريد أنك إذا جئت بالنعت ، ولم تجئ بالمنعوت ضعف ، وكان الاختيار ألا يستعمل إلا ظرفا ؛ لأنك إذا قلت : " سير عليه طويلا" ، والطويل يقع على كل شيء طال ، من زمان وغيره ، فإذا أردت به الزمان فكأنك استعملت غير لفظ الزمان ، فصار بمنزلة قولك :

" ذات مرة" و" بعيدات بين".

قال : وإنما نصبت صفة الأحيان على الظرف ، ولم يجز الرفع ؛ لأن الصفة لا تقع مواقع الأسماء ، كما أنه لا يكون إلا حالا في قوله : " ألا ماء ولو باردا" ؛ لأنه لو قال : " أتاني بارد" لكان قبيحا ، ولو قال : آتيك بجيد ، لكان قبيحا ، حتى تقول : بدرهم جيد ، وتقول : أتيتك به جيدا.

يعني لما لم تقو الصفة إلا بتقدّم الموصوف جعلوه حالا في قولك : " ولو باردا" أو" أتيتك به جيدا" ، وكذلك الصفة لا تجوز إلا ظرفا ، وفي قولك : " سير عليه طويلا" ، أو تجري على اسم ، فتقول : " سير عليه دهر طويل".

قال : وقد يحسن أن تقول : " سير عليه قريب" لأنك تقول : أتيته مذ قريب ، والنصب عربي جيد.

وإنما جاز : " مني قريب" لأنه قد تمكن حتى صار يعنى به الرجل ، فتقول : " زيد مني قريب" فتجعله هو القريب ، وتقول : " زيد منّي قريبا" ، أي في موضع قريب.

وربما جرت الصفة في كلامهم مجرى الاسم".

حتى تغني عن الموصوف ، كقولهم : " الأبرق والأبطح" وإنما يراد به : المكان


الأبرق ، وهو الذي تربته ألوان ، و" الأبطح" : وهو المكان السهل.

قال : " وتقول : سير عليه مليّ من النهار".

ليس" مليّ" بمنزلة" طويل" : لأن الطويل يقع لكل شيء ، ومليّ لا يكاد يستعمل إلا في الزمان.

قال : " ومما يبين لك أن الصفة لا يقوى فيها إلا هذا أن سائلا لو سألك : هل سير عليه؟ لقلت : نعم ، " سير عليه شديدا" و" سير عليه حسنا" فالنصب في هذا على أنه حال ، وهو وجه الكلام ؛ لأنه وصف السّير ، ولا يكون فيه الرفع ، لأنه لا يقع موقع ما كان اسما ، ولم يكن ظرفا ؛ لأنه ليس بحين يقع فيه الأمر ، إلا أن تقول : سير عليه سير حسن ، أو : سير عليه سير شديد.

يعني أنك إذا قلت : " سير عليه شديدا" ، فالوجه أن تنصب شديدا على الحال.

ولا يحسن أن تقول : " شديد" على معنى شدّ شديد ؛ لأنك لم تأت بالموصوف فضعف ، و" شديدا وحسنا" حال من السير ، وهو مضمر ، قد أقيم مقام الفاعل فكأنك قلت : سير عليه السير شديدا.

وقوله : " ليس بحين يقع فيه الأمر"

يعني : " شديدا وحسنا" ليس بمنزلة مليّ وقريب.

قال : فإن قلت : سير عليه طويل من الدهر ، وشديد من السير ، فأطلت الكلام ووصفته كان أحسن وأقوى ، وجاز ، ولا يبلغ في الحسن الأسماء ، وإنما جاز حين وصف ؛ لأنه ضارع الأسماء ؛ لأن الموصوفة في الأصل هي الأسماء.

يعني أنك لمّا قلت : " سير عليه طويل من الدّهر" ، قرب من قولك : " سير عليه دهر طويل" فجاز فيه الرفع.

هذا باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما

ينتصب إذا شغلت الفعل به

وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره

يعني بالمصدر قولك : " سير عليه سير شديد" ترفع السير إذا شغلت الفعل به ، وشغلك الفعل به أن تقيمه مقام الفاعل.


" وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره" ، وشغلك الفعل بغيره ، أن تقيم غيره مقام الفاعل ، كقولك : " سيّر زيد تسييرا" ، و" ضرب زيد ضربا" ، وترتيب الكلام : فيرتفع إذا شغلت الفعل به كما ينتصب.

يعني أنه مصدر مفعول في حال الرفع ، كما أنه مفعول في حال النصب.

قال : وإنما يجيء ذلك على أن تبين أيّ فعل فعلت أو تأكيدا.

يعني إنما يجيء المصدر منصوبا أو مرفوعا على أحد وجهين : إمّا لبيان صفة المصدر الذي دل الفعل عليه ، وإما للتأكيد.

فأما الذي لبيان صفة المصدر ، فقولك : " ضربت زيدا ضربا شديدا" و" سرت سير الإبل".

وأما الذي يجيء تأكيدا فقولك : " ضربت زيدا ضربا" و" حرّكته تحريكا" وإنما صار تأكيدا ؛ لأنه ليس فيه من الفائدة إلا ما في قولك" ضربت" و" حركت".

قال : " فمن ذلك قولك على قول السائل : " أيّ سير سير عليه" فتقول : " سير عليه سير شديد" و" ضرب به ضرب ضعيف" ، فأجريته مفعولا والفعل له".

أما قوله : " فمن ذلك"

يعني من المصدر الذي يرتفع" ضرب به ضرب ضعيف".

وقوله : " فأجريته مفعولا والفعل له"

يعني" ضرب ضعيف" مفعول في الحقيقة.

وقوله : و" الفعل له"

يعني أنه قد صيغ الفعل له ، ورفع به ، وصيّر حديثا عنه.

قال : (وإن قلت : " ضرب به ضربا ضعيفا" ، فقد شغلت الفعل به).

هذا الذي في الكتاب وينبغي أن يكون : " فقد شغلت الفعل بغيره" ، كأنك شغلت الفعل بالباء ، وجعلت موضعها رفعا.

ويجوز أن يكون اللفظ الواقع على ما يشاكل لفظ الكتاب ، أضمر في ضرب الضرب ، وشغل الفعل به ، فيكون قوله : به الهاء تعود إلى المصدر ، والمضمر في : " ضرب" مصدر ، فلا يستكره أن يكون إياه عنى.

وقد يجوز أن يقال : شغلت الفعل به ، ويكون" به" في موضع الفاعل لشغلت ، وهو


وجه لطيف.

قال : " وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تذكر الصفة ، تقول : " سير عليه سير" و" ضرب به ضرب" كأنك قلت : " سير عليه ضرب من السير" ، أو سير عليه شيء من السير ، وكذلك جميع المصادر ترتفع على أفعالها إذا لم يشغل الفعل بغيرها".

يعني يجوز أن ترفع المصدر وإن لم تصفه ، فتقول : " ضرب به ضرب".

وقوله : " إن أردت هذا المعنى"

يجوز أن يعني إن أردت معنى الصفة ، وإن لم يذكرها ، ويجوز أن يعني : إن أردت هذا المعنى من إقامته مقام الفاعل ، وصياغة الفعل له.

قال : وتقول : " سير عليه أيّما سير سيرا شديدا" ، كأنك قلت : سير عليه بعيرك سيرا شديدا ، وسير عليه سيرتان أيّما سير".

يعني أنك إذا ذكرت مصدرين للفعل جاز أن تقيم أحدهما مقام الفاعل ، وتنصب الآخر ، وإنما يذكر المصدران والأكثر في الفعل ، إذا كانت في كل واحد منهما فائدة ، لأن قولك : " سير عليه سيرتان أيّما سير" ، في" سيرتين" فائدة العدد ، وفي : " أيّما سير" فائدة المبالغة ، وما يحمد من السير.

ويجوز أن تقول : " سير عليه سيرتان أيّما سير سيرا شديدا" إذا رفعت واحدا ونصبت الثاني.

قال : " وتقول على قول السائل : " كم ضربة ضرب به" وليس في هذا إضمار شيء سوى" كم" ، والمفعول : " كم" ، فتقول : ضرب به ضربتان".

تقدير هذا الكلام كم ضربة ضرب بالسوط؟ والهاء كناية عنه ، أو عن غيره ممّا يضرب به.

والكلام مجاز لا حقيقة ، وذلك أنه جعل : " كم" لمقدار الضرب ، وجعل ضميره في" ضرب" مرفوعا بضرب ، مقاما مقام الفاعل ، فكأنه قال : " أعشرون ضربة ضرب بالسوط؟ " فجعل الضرب مضروبا ، والضرب لا يضرب ، وإنما يضرب المضروب ، كما قال : " نهارك صائم" والنهار لا يصوم.

ولا يجوز البتة : " متى سير به؟ " و" أين جلس به؟ " على أن يكون في : " سير" لم يسمّ فاعله راجع إلى : " متى" و" أين" ، وإنما يجوز هذا في : " كم" ؛ لأنه يخبر عنه ، ويكون في


موضع رفع ، ولا يجوز ذلك فيهما ، ولم أجد" سيبويه" ذكر هذا ، وأشار إليه على المعنى.

ثم قال بعد فصل معناه كمعنى ما ذكرنا من المجاز : وليس ذلك بأبعد من" ولد له ستون عاما".

وقد فسرنا ذلك.

قال : (وسمعت من أثق به من العرب يقول : " بسط عليه مرتان" يريد : بسط عليه العذاب مرتين).

يحتمل أن تكون : " مرتين" يعني : " وقتين" ، ويحتمل أن يعني : " بسطتين" على المصدر.

قال : " وتقول : سير عليه طوران ، طور كذا وطور كذا".

ذكر بعض أصحابنا أن الرفع في هذا أقوى ، والنصب يضعف ؛ لأنك لما ثنيت فقد قربت من الأسماء وقوي الرفع ، والنصب جائز إذا أضمرت ما تقيمه مقام الفاعل ، فتقول : " سير عليه مرّتين وطورين" كأنك قلت : سير عليه السير مرتين ، ويجوز أن تقيم حرف الجرّ مقام الفاعل.

قال : (وتقول : ضرب به ضربتين ، أي قدر ضربتين من الساعات ، كما تقول : سير عليه ترويحتين ، فهذا على الأحيان ، ومثل ذلك : انتظر به نحر جزورين).

وقد بينا المصادر التي تجعل ظروفا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فإذا قلنا : " ضرب به ضربتين" ، فكأنا قلنا : وقت ضربتين.

قال : (ومما يجيء توكيدا وينصب قوله : سير عليه سيرا ، وانطلق به انطلاقا ، وضرب به ضربا ، فينصب على وجهين ، على أنه حال على حد قولك : ذهب به مشيا ، وقتل به صبرا).

تريد به الحال ، كأنه قال : ذهب به ماشيا ، وقتل به مصبورا ، وإن وصفت المصدر على هذا الحد كان نصبا كقولك : " ذهب به مشيا عنيفا" كأنه قال : ماشيا معنفا.

والوجه الآخر ما قاله سيبويه :

" وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر".

فيكون قولك : " سير عليه سيرا" كقولك : " سير عليه مسيرا" ، و" ضرب به ضربا" ، أي ضرب به مضروبا ، وعلى هذا يجوز أن تقول : " قام زيد قائما" على الحال.


وربما استوحش من هذا بعض النحويين البصريين ممن لا يفهم ، فيقول : إذا قلنا : " قام زيد قائما" ، وأنت تعني في حال قيامه ، قيل له : إنما يذكر هذا تأكيدا ، وإن كان الأول قد دل عليه ، كما يذكر المصدر بعد الفعل تأكيدا ، كما تقول : " ضربت زيدا ضربا" وإن كان الأول يدل عليه ، وقد قال الله عزوجل : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(١) ، فقد يجوز أن يكون على الحال ، ويجوز أن يكون على المصدر ، بمعنى رسالة ، وإن الأول قد دل عليه.

وقوله : " ذهب به مشيا" في معنى" ماشيا" على الحال ، كما تقول : " جاء زيد عدلا" ، أي : " عادلا" فإن وصفت المصدر لم يتغير النصب ، وجاز أن يكون على المصدر ، وعلى الحال ، كقولك : " سير به سيرا عنيفا".

قال : " وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر" ويكون بدلا من اللفظ بالفعل ، تقول : سير عليه سيرا ، وضرب به ضربا ، كأنك قلت بعد ما قلت : سير عليه يسيرون سيرا ، ويضربون ضربا.

ودل المصدر على الفعل لأن المصدر يكون بدلا من اللفظ بالفعل.

وجرى على قوله : " إنما أنت سيرا" ، سيرا.

يريد : تسير سيرا.

وعلى قوله : " الحذر الحذر".

يريد : احذر الحذر.

قال : (وإن قلت على هذا الحد : " سير عليه السير" جاز أن تدخل الألف واللام ؛ لأن المصدر لا يمتنع من ذلك وإن وصفت أو أضفت لم يتغير نصبه على المصدر ، كقولك : سير عليه سير البريد ، ولا يجوز أن تدخل الألف واللام في السير ، إذا كان حالا ، كما لم يجز أن تقول : ذهب به المشي العنيف).

يعني أن المصدر إذا كان في معنى الحال ، فالقياس يمنع من دخول الألف واللام عليه ، كما لا تدخل الألف واللام على الحال ، لا تقول : " مررت بزيد القائم" على الحال.

ثم أنشد سيبويه :

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٧٩.


نظّارة حين تعلو الشمس راكبها

طرحا بعيني لياح فيه تحديد (١)

يقال : " لياج" و" لياح" ، وهو الثور الوحشي ، ويروى : " تجديد" فمن قال : " تحديد" أراد في بصره وناظره. ومن قال : " تجديد" أراد في لونه ، والجدّة : الطريقة في الشيء ، تخالف سائر لونه ، من قوله وعزوجل : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ)(٢).

والشاهد في البيت قوله : " طرحا" وهو مصدر فعل لم يذكره ، ولكن" نظارة" قد دلت عليه ؛ لأنه إذا قال : " نظارة" فقد علم أنها تقلّب طرفها وناظرها في جهات ؛ لأن النظر إنما هو تقليب الناظر ، فإذا قلّبت الناظر في الجهات فقد طرحته فيها ، فكأنه قال : تطرح نظرها طرحا.

وإنما جعل هذا شاهدا للكلام الذي قبله ؛ لأنه ذكر أن قوله : " سير به سيرا" أنه يجوز أن يكون نصب : " سيرا" بإضمار فعل آخر.

قال : " وإن شئت قلت : سير عليه السير".

فتقيمه مقام الفاعل ، وإن قلت : " سير عليه السير الشديد" فالرفع فيه أقوى ؛ لأنه من الاسم أقرب ؛ بالوصف الذي وصف به.

قال : (وجميع ما يكون بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون إلا على فعل قد عمل في الاسم".

يعني أنك إذا نصبت المصدر بإضمار فعل ، فذلك الفعل الذي أضمرته معه فاعله ؛ لأن الفعل لا يكون إلا بفاعل ، وكذلك إذا قلت : " الحذر الحذر" فإنما تريد : احذر الحذر ، فالفعل والفاعل محذوفان.

ومعنى قوله : " وقد عمل في الاسم" :

أي عمل في الفاعل وحذف معه.

قال : " ومما يسبق فيه الرفع من المصادر ؛ لأنه يراد به أن يكون في موضع غير المصدر قوله : " قد خيف منه خوف" و" قد قيل في ذلك قول".

يعني أنه قد يجيء به على لفظ المصدر المفعول والفاعل ، وإذا كان كذلك ، عاملناه

__________________

(١) سيبويه ١ / ١١٨ بولاق ونسبه سيبويه للراعي وهو يصف ناقته.

(٢) سورة فاطر ، آية : ٢٧.


معاملة المفعول لا المصدر ، فقوله : " خيف منه خوف" يراد أمر مخوف ، ولم ترد الخوف الذي في القلب.

والمصدر الذي بمعنى الفاعل قوله : " كان منه كون" أي أمر من الأمور ، كأنه قال : كان منه أمر كائن.

قال : وإن جعلته ـ على ما حملت عليه السير والضرب في التوكيد ـ حالا ، وقع به الفعل ، أو بدلا من اللفظ بالفعل ، نصبت.

يعني إن جعلت : " خيف منه خوف" هو الخوف الذي في القلب ، فسبيله سبيل قولك : " سير به سيرا".

قال : (فإذا كان المفعل مصدرا جرى مجرى ما ذكرنا من الضرب وذلك قولك : إن في ألف درهم لمضربا ، يعني أن فيها لضربا).

قال أبو سعيد : اعلم أن المصادر هي مفعولة ، والميم تدخل ؛ لعلامة المفعول. فإذا كان الفعل ثلاثيّا ، فإن الميم تدخل في مصدره ، فيكون على" مفعل" كقولك : " ضربته مضربا" و" قتلته مقتلا". كما تقول : " ضربته ضربا" و" قتلته قتلا"

ويكون على مفعل كقولك : " وعدته موعدا" ، و" وقفته موقفا".

وهو في الفعل الثلاثي دخلته الميم ؛ لأنه مفعول ، إلا أنه مفعول يخالف لفظ المفعول به ؛ لأنك تقول : " قتلته فهو مقتول" ، و" ضربته فهو مضروب" ، وإذا جاوز الفعل الثلاثة استوى لفظ المفعول والمصدر ، فقلت : " أخرجت زيدا إخراجا" و" مخرجا" والمفعول به مخرج وأنزلته منزلا ، والمفعول به منزل ، قال الله عزوجل : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً)(١) يجوز أن يكون : " إنزالا مباركا".

فإذا كان الأمر على ما وصفنا جرى المصدر الذي فيه ميم ، مجرى ما ليس فيه ميم ، فيقال : " سير بزيد مسير شديد" ، و" مسيرا شديدا" ، وضرب به مضرب شديد ، ومضربا شديدا ، كما تقول : " سير به سير شديد ، وسيرا شديدا" ، وقال جرير :

ألم تعلم مسرّحي القوافي

فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (٢)

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية : ٢٩.

(٢) ديوان جرير ٦٢ ، ابن الشجري ١ / ٤٢ ، رغبة الآمل ٢ / ٢٥٩.


أراد : تسريحي ، و" القوافي" في موضع نصب ، وأسكنه ضرورة ، كما قال :

كأنّ أيديهن بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق (١)

قال : (وكذلك تجري المعصية بمنزلة العصيان والموجدة بمنزلة المصدر لو كان الوجد يتكلم به).

يعني الموجدة في الغضب سبيلها سبيل الوجد ، الذي ليس فيه ميم ، ولا يتكلم بالوجد في معنى الموجدة ، يقال : " وجدت عليه موجدة" إذا غضبت عليه ، و" وجدت به وجدا" إذا أحببته ، و" وجد وجدا" إذا استغنى ، و" وجدت الضالّة وجدانا" إذا أصبتها ، و" وجدت زيدا عالما وجدا" إذا علمته.

" فالموجدة" في الغضب تجري مجرى" الوجد" في الحب ، تقول : " وجدت عليه موجدة" ، ولا يقال : " وجدت عليه وجدا" ، كما تقول : " وجدت به وجدا" ، ولا يقال : " وجدت به موجدة" ، وقال الشاعر :

تداركن حيا من نمير بن عامر

أسارى تسام الذّل قتلا ومحربا (٢)

يريد حربا أي سلبا ، ويجوز أن يكون حربا في معنى غيظا.

قال : (فإن قلت : ذهب به مذهب ، أو سلك به مسلك ، رفعت ؛ لأن" المفعل" هاهنا ليس بمنزلة الذهاب والسلوك).

يعني أن" المذهب" و" المسلك" تريد به المكان الذي يذهب فيه ويسلك ، والأمكنة أقرب إلى الرفع من المصادر ؛ لأن الأماكن جثث ، وهي شبيهة بالأناسيّ.

قال سيبويه : " وهو بمنزلة قولك : ذهب به السوق"

فقال : إن قال قائل : لم أسقط حرف الجر من السوق ، وليس بظرف ، وقد زعم سيبويه أن قولهم : " ذهبت الشام" شاذ ؛ لأنه يتعدّى إليه بحرف الجر ، والشام ليس بظرف ؛ لأنه مكان مخصوص.

فالجواب أن هذا : وإن لم يكن ظرفا فإن العرب تتسع فيه ؛ لعلم المخاطب فيضمر ،

__________________

(١) البيت لرؤبة ديوانه ١٧٩ والخزانة ٣ / ٥٢٩ والخصائص ١ / ٣٠٦.

(٢) نسبه سيبويه إلى ابن أحمد ١ / ١١٩ بولاق. ولم ينسبه ابن الأنباري في شرح القصائد السبع ٤٢٩.


فيكون التقدير : " ذهب به مكان السوق". ، ويحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه.

قال : وكذلك المفعل إذا كان حينا ، نحو قولهم : " أتت الناقة على مضربها" أي على زمان ضرابها ، وكذلك : " مبعث الجيوش" ، تقول : " سير عليه مبعث الجيوش ، ومضرب الشّول".

يريد أنهم قد أجروا ما في أوله الميم في الزمان ، كما أجروه في المكان. فالمكان قولك : ذهب به مذهب ، وسلك به مسلك.

والزمان قولهم : أتت الناقة على مضربها ، وسير عليه مبعث الجيوش ، وأنشد قول حميد بن ثور :

وما هي إلا في إزار وعلقة

مغار ابن همام على حيّ خثعما (١)

والشاهد فيه : مغار ابن همام ، وزعم" الزجاج" أن" سيبويه" أخطأ في ذكره هذا البيت في هذا الموضع ، وذلك أنه قدر" مغارا" زمانا ، والزمان لا يتعدى ، وإنما" مغار" مصدر ، قال : والدليل على ذلك أنه قد عدّاه ، فإنما تقديره زمن إغارة ابن همام على حي خثعم ، مثل مقدم الحاج ، وهكذا قال" أبو العباس".

وقد غلطا في الرد عليه ؛ لأن المصادر التي جعلها" سيبويه" ظروفا إنما هي مضاف إليها الزمان ، فتكون هي نائبة عنه ، فمغار الذي في البيت وإن كان مصدرا لم يخرج عما قاله" سيبويه".

وتأويل البيت : أنه وصف امرأة ، فذكر أنها في إزار وعلقة ، وهي البقيرة ، وهي قميص بلا كمين ، يريد أنها ـ في وقت إغارة" ابن همام" ـ في هذا الزي ، فإما أن تكون صغيرة ، أو بمعنى آخر ، ويقال إن ابن همام كان لا يغير إلا وهو عريان ، وهذا الذي ينساق على تأويل الزجاج كأنه شبه عريها بعري ابن همام.

__________________

(١) سيبويه ١ / ١٢٠ بولاق وحميد بن ثور بن حزن الهلالي العامري شاعر مخضرم وفد على النبي وأسلم ومات في خلافة عثمان وله ديوان شعر الأغاني ٤ / ٣٥٦ ـ شواهد المغني ٧٣ ـ الخصائص ٢ / ٢٠٨.


هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي

يتعدى إلى المفعول ولا غيره

لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض ، فلا يكون إلا مبتدأ لا يعمل فيه شيء قبله ؛ لأن ألف الاستفهام تمنعه من ذلك ، وهو قولك : " قد علمت أعبد الله ثمّ أم زيد" ، و" قد عرفت أبو من زيد" ، و" قد عرفت أيّهم أبوك" ، و" أما ترى أيّ برق هاهنا" ، فهذا في موضع مفعول ، كما أنك قلت : عبد الله هل رأيته ، فهذا الكلام في موضع المبني على المبتدأ.

قال أبو سعيد قوله : " هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره" يريد الاستفهام ، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وقد بينا هذا في أول الكتاب.

والفعل الذي يتعدى قولك : " قد علمت أزيد عندنا أم عمرو" ، و" قد عرفت أبو من زيد" ، والفعل الذي لا يتعدى قولك : " قد فكرت أزيد أفضل أم عمرو فإذا قلت : أزيد عندنا أم عمرو ، " فزيد" مرفوع بالابتداء و" عندنا" خبره ، ودخلت ألف الاستفهام على الجملة ، ثم دخل الفعل على ألف الاستفهام ، فلم يغيّر شيئا مما بعدها ؛ لأن بعدها جملة ، وقد حالت هي بين ما بعدها وما قبلها.

فإذا كان الفعل متعديا إلى مفعولين سد الاستفهام وما بعده مسدّ المفعولين ، كقولك : " خلت أزيد في الدار أم عمرو" ، كما تسد" أنّ" المشددة مسد المفعولين في قولك : " خلت أنّ زيدا قائم".

وإذا كان الفعل يتعدى إلى مفعول ، سد الاستفهام وما بعده مسد ذلك المفعول فقلت : " عرفت أبو من زيد" ، كما قلت : " عرفت أن زيدا قائم".

وإذا كان الفعل لا يتعدى قام الاستفهام وما بعده مقام اسم فيه حرف من حروف الجر ، كما أن" أنّ" المشددة إذا وقعت بعد فعل لا يتعدى ، كان فيها تقدير حرف الجر ، كقولك : " فكرت هل زيد قائم" ؛ كما تقول : " فكرت أن زيدا قائم" والتقدير : فكرت في أن زيدا قائم ، أي في قيامه.

وبعض أصحاب" سيبويه" يروي : " إلى المفعول ولا غيره" بالجر ، وبعضهم يقول : " ولا غيره" بالرفع.

فمن رواه بالجر عطفه على الفعل ، كأنه قال : من الفعل الذي يتعدى ولا من غيره ،


وهو الفعل الذي لا يتعدى.

ومن رفعه عطفه على" ما" الثانية ، كأنه قال : لا يعمل فيه شيء قبله من الفعل المتعدي إلى مفعول ، ولا شيء غير الفعل المتعدي.

واعلم أن هذه الأفعال التي يقع الاستفهام بعدها إنما هي : " أفعال القلوب" من علم ، وظنّ ، وفكر ، وخاطر ، ولا يجوز أن يقع في موقع ذلك فعل مؤثر ، لا يجوز : " ضربت أيهم في الدار" ولا" ضربت أزيد في الدار أم عمرو".

قال أبو عثمان المازني : قولهم : " أما ترى أيّ برق هاهنا" يريد به رؤية العين ، ولم يرد به رؤية القلب ؛ لأنه إذا كان يقول : " انظر إليه ببصرك" ، وجاز هذا في هذا خاصة ؛ لأنها محكية ، ولا يقاس.

وذلك أن الحروف التي تقع على الاستفهام ، إنما تقع عليها الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين ، ورؤية العين لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد.

والقول الصحيح أنه يريد الرؤية التي في معنى العلم ، وإليها يرجع الكلام ؛ لأن الإنسان إذا قال لمن يخاطبه : " أما ترى أي شيء في الدنيا؟ " فليس يريد به رؤية العين وإنما يريد به رؤية العلم ، وقد يقول القائل : " اذهب فانظر زيد أبو من هو" ، وليس يريد اذهب فأبصره بعينك ، وإنما يريد اعلم ذاك.

قال : " ومثل ذلك : " ليت شعري أعبد الله ثمّ أم زيد" و" ليت شعري زيد هل رأيته" ، فهذا في موضع خبر ليت".

يعني أن" شعري" اسم ليت ، و" هل رأيته" جملة في موضع الخبر ، وكذلك" عبد الله هل رأيته" ، " عبد الله" مبتدأ ، و" هل رأيته" في موضع الخبر.

و" شعري" يريد علمي ، يقال : شعر به يشعر شعرة وشعرا ولا يستعمل بعد ليت إلا بطرح الهاء ، كما تقول : امرأة عذراء بينة العذرة ، ثم تقول : " هو أبو عذرها" بطرح الهاء ؛ لأن الأمثال تؤدّى ولا تخالف.

ويجوز أن يكون الاستفهام في موضع مفعول" شعري" ، على تقدير حرف الجر ، ويكون الخبر محذوفا ، كأنك قلت : ليت شعري أزيد ثمّ أم عمرو واقع ، تقديره : ليت علمي بهذا واقع.

قال : (فإنما أدخلت هذه الأشياء على قولك : " أزيد ثمّ أم عمرو" ، و" أيهم


أبوك" ، لما احتجت إليه من المعاني ، وسنذكر ذلك في باب التسوية).

يعني دخلت" علمت" على" أزيد ثمّ أم عمرو" لما احتجت إليه من تبيين علمك بذلك ، وكذلك" ظننت أزيد في الدار أم عمرو" وأدخلت الظن لتبين أنك لست تقبله علما ، وسنذكر معنى التسوية إذا انتهينا إلى بابها إن شاء الله.

قال : " ومن ذلك : " قد علمت لعبد الله خير منك" ، فهذه اللام تمنع العمل. كما تمنع ألف الاستفهام".

يعني تمنع" علمت" من العمل فيما بعدها ، كما منعته ألف الاستفهام ؛ لأنهما يقعان صدرا.

قال : " وإنما دخلت" علمت" لتؤكد بها".

يعني أن الأصل : لعبد الله خير منك ، غير أنك لو تكلمت بهذا جاز أن يكون على سبيل التظنّي منك ، أو خبّرك به مخبر ، فأردت أن تنفي ذلك ، ولا تحيل على علم غيرك.

كما أنك إذا قلت : " قد علمت أزيد ثمّ أم عمرو" وأردت أن تخبر أنك قد علمت أيهما ثمّ ، والأصل فيه" أزيد ثمّ أم عمرو" على طريق الاستفهام ، ثم دخلت" علمت" للتبيين أنه قد استقر في علمك الكائن منهما.

قال سيبويه في عقب هذا : " وإن أردت تسوّي علم المخاطب فيهما كما استوى علمك في المسألة حين قلت : أزيد ثم أم عمرو".

يعني أنك إذا قلت مستفهما : " أزيد ثمّ أم عمرو" فأنت لا تدري واحدا منهما بعينه ، فعلمك بزيد كعلمك بعمرو.

فإذا قلت : قد علمت أزيد ثمّ أم عمرو" فقد دريت واحدا منهما بعينه ، ولم تخبر المخاطب به فعلم المخاطب به كعلمه بعمرو ، وقد أحللت المخاطب محلّك حين كنت مستفهما.

قال : ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت" علمت" كما تعمل : " عرفت" ، وذلك قولك : " قد عرفت زيدا خيرا منك" ، كما قال الله عزوجل : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)(١) ، وكما قال تعالى : (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٦٥.


يَعْلَمُهُمْ)(١).

قال أبو العباس : ذكر" علمت" التي في معنى عرفت ؛ ليتبين لك وجوه : " علمت"

وقال غيره : إنما استشهد بعلمت التي في معنى عرفت ؛ لأنه قال قبل هذا.

ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت" علمت" كما تعمل" عرفت".

أراد لو لم تدخلهما لجاز أن تعمل : " علمت" عمل : " عرفت" فتعديه إلى مفعول واحد وأما إذا أدخلتهما ، فلا يجوز أن تعديه إلى مفعولين.

ثم استدل على جواز إعمال : " علمت" عمل" عرفت" بما ذكر من الآيات ، وهذا قول قريب.

قال أبو سعيد : والأجود عندي أن" سيبويه" إنما استشهد بدخول" علمت" على ما ليس فيه ألف الاستفهام ولا لام الابتداء ، وأعمله فيه سواء كان في معنى" عرفت" أو في غير معناها ، واتفق له الاستشهاد بهاتين الآيتين ، والعلم فيهما على طريق المعرفة ، ولو استشهد بغيرهما لجاز ، ألا ترى إلى قوله : " قد علمت زيدا خيرا منك" ، فعداه إلى مفعولين ، وهذا هو الأشبه ..

ويجوز أن يكون" خيرا منك" في موضع الحال ، و" علمت" بمعنى" عرفت".

قال : " وتقول : قد عرفت زيدا أبو من هو".

" فزيد" منصوب" بعرفت" ، و" أبو من هو" ذكر أبو العباس أنه حال ، وقد غلط عندي ؛ لأن الجملة إذا كانت في موضع الحال جاز أن تدخل عليها الواو ، ألا ترى أنك تقول : " مررت بزيد أبوه قائم" وإن شئت قلت مررت بزيد وأبوه قائم وأنت لا تقول : " عرفت زيدا وأبو من هو" ، كما يجوز أن تقول : " عرفت زيدا وأبوه قائم" ، فقد بطل الذي قاله من الحال.

والصواب عندي أن تكون الجملة بدلا من" زيد" وموضعها نصب بوقوع" عرفت" عليه ، كأنك قلت : عرفت أبو من هو.

قال : " وتقول : قد علمت عمرا أبوك هو أم أبو عمرو".

" فعمرا" هو المفعول الأول ، وما بعده جملة في موضع المفعول الثاني.

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية : ٦٠.


وإن جعلت" علمت" في مذهب" عرفت" فقد مضى الكلام فيه.

وإنما نصبت المفعول الأول ؛ لأنك جئت بألف الاستفهام بعد أن وقع الفعل عليه ، وعمل فيه.

قال : (ويقوّي النصب قولهم : قد علمته أبو من هو وقد عرفتك أيّ رجل أنت) ؛ لأن الهاء في : " علمته" والكاف في" عرفتك" لا يكونان إلا في موضع نصب.

وتقول : " قد دريت عبد الله أبو من هو".

" فدريت" بمعنى" عرفت" في تعدّيه إلى واحد ، وأكثر العرب لا يجعلون : " دريت" متعديا إلى بحرف جر ، فيقولون : " ما دريت به" ، كما يقال : " ما شعرت به".

قال : " وإن شئت قلت : " قد علمت زيد أبو من هو" ، كما تقول ذلك فيما لا يتعدى إلى مفعول ، كقولك : " اذهب فانظر زيد أبو من هو".

يعني أنه يجوز لك ألّا تعمل : " علمت" في" زيد" ، للاستفهام الذي بعده ؛ إذ كان هذا الاستفهام يجوز أن يقع على" زيد" ، فتقول : " قد علمت أبو من زيد". فلما جاز أن يتقدم زيدا الاستفهام ، ولا يتغير المعنى ، صار بمنزلة ما قد وقع الاستفهام عليه ، ومنع من أن يعمل فيه.

ثم شبه : " علمت زيد أبو من هو" بما لا يتعدى من الفعل ، لما أبطل عملها ، وهو قولك : " انظر زيد أبو من هو" وأنت لا تقول : " نظرت زيدا ، إلا في معنى انتظرته.

وكذلك" اسأل : زيد أبو من هو" فالسؤال لم يقع بزيد فينصبه ، وإنما المعنى اسأل الناس : زيد أبو من هو.

وحكم" انظر" و" اسأل" أن يتعدى بحرف جر في المعنى المقصود بهذا الكلام ، كأنك قلت : انظر في كنية زيد ، واسأل عن كنية زيد.

قال : " ومثل ذلك : " ليت شعري زيد أعندك هو أم عند عمرو".

وفي بعض النسخ : " ليت شعري أزيد عندك" ، فشعري منصوب بليت ، وهو مصدر شعرت.

وقوله : " زيد عندك هو أم عند عمرو" جملة في موضع خبر : " شعري".

فإن قال قائل : أين العائد من الخبر على الاسم ، وهو جملة في موضع خبر : " شعري" فالجواب أن يقال : إن هذه الجملة محمولة على معناها ، لا على لفظها ؛ وذلك أن فعل الظّن


والعلم ، وغيرهما من أفعال القلب ، قد يجوز أن تكون مفعولاتها جملا ، فيكون عمل هذه المفعولات في مواضعها ، لا في ألفاظها ، إذا دخل في الكلام ما يمنع من ذلك كقولك : " عرفت أزيد في الدار أم عمرو" ، فمفعول" عرفت" الاسم الذي وقعت الجملة موقعه ، كأنك قلت : " عرفت ذاك" وكذلك : " ليت شعري زيد أعندك هو أم عند عمرو" ، كأنه قال : ليت شعري ذاك ، وتقديره : ليت الذي أشعر به ذاك.

وفيه وجه آخر وهو أن يكون : " زيد أعندك هو أم عند عمرو" في صلة : " شعري" وقد ناب عن الخبر ، كما تقول : " حسبت أن زيدا منطلق"" فأنّ" وما بعدها من الاسم والخبر في تقدير اسم واحد ، و" حسبت" تحتاج إلى مفعولين ، و" أنّ" وما بعدها من الاسم والخبر ، تسدّ مسد المفعولين ، وإن كانت في تقدير اسم واحد.

ولا يمتنع دخول : " شعري" على : " زيد" وإن كان حرف الاستفهام بعده ؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه ، فكأنك قلت : " ليت شعري أزيد عندك أم عند عمرو" ، ومثل ذلك :

" إن زيدا فيها وعمرو". تردّ عمرا على موضع" زيد" ؛ لأنه في المعنى مبتدأ.

قال : " ولكنه أكد كما أكد فأظهر زيدا وأضمر".

يريد أكد بإنّ كما أكد في قوله : " علمت زيد أبو من هو" بإظهار : " زيد" وإضماره ، فلم يخرج" زيد" من معنى الاستفهام ، كما لم يخرج اسم" إن" من معنى الابتداء.

قال : فإن قلت : " عرفت أبو من زيد" لم يجز إلا الرفع لأن المضاف إلى الاستفهام بمنزلة الاستفهام.

فإن قلت : قد عرفت أبا من زيد مكنيّ".

انتصب" الأب" بمكني ، وزيد مبتدأ ، ومكنيّ خبره ، وفيه ضمير مرفوع من : " زيد" ، يقوم مقام الفاعل و" أبا من" مفعول ما لم يسم فاعله ، ألا ترى أنك تقول : " زيد مكنيّ أبا عمرو" ، فإذا جعلته استفهاما وجب أن تقدمه فتقول : " أبا من زيد مكنّي" فإذا دخلت عليه : " عرفت" لم يتغير.

ومثله : " أأبا زيد تكنى أم أبا عمرو" ، ثم تدخل عليه : " علمت" فلا يتغير ، فتقول : " قد علمت أأبا زيد تكنى أم أبا عمرو" فلا تغيّر المنصوب المستفهم عنه ، كما لم تغير المرفوع ؛ في قولك : " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو".

وتقول : " قد عرفت زيدا أبا من هو مكني" ، وإن شئت قلت : " قد عرفت زيد"


بالرفع ؛ فمن نصبه أوقع" عرفت" على" زيد" ؛ لأن الاستفهام لم يقع عليه في اللفظ ، وجعل ما بعده جملة في موضع الحال ، ومن رفع ـ وهو أضعف الوجهين ـ يعمل فيه" عرفت" ؛ لأن الاستفهام في المعنى واقع على" زيد".

قال : " وتقول : قد عرفت زيدا أبو أيهم يكنى به".

وإنما رفع : " أبو أيهم" لأنه شغل" يكنى" بضميره المتصل بالياء.

قال : ومثله : " الدرهم أعطيت" بنصب الدرهم ، فإذا قلت : " الدرهم أعطيته" رفعت.

قال : وتقول : " أرأيتك زيدا أبو من هو" و" أرأيتك عمرا أعندك هو أم عند فلان".

يعني أنه لا بد بعد قولك : " أرأيتك" من منصوب ثم تأتي بالاستفهام بعد ذلك المنصوب ، فإن قال قائل : فهلا أجزتم رفعه ؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه كما أجزتم" علمت زيدا أبو من هو" ؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه؟ فأجاب سيبويه عن هذا ، بأن قال : إنّ" أرأيتك" لا تشبه" علمت" ؛ لأن فيه معنى" أخبرني" ، وأخبرني فعل لا يلغى ، فلم يلغ" أرأيتك" ، غير أنه وإن كان في معنى" أخبرني" فهو فعل يتعدى إلى مفعولين ، لا يجوز الاكتفاء بأحدهما ، فالمفعول الأول هو" زيد" ، والمفعول الثاني : الجملة التي بعده ، فقد جمع" أرأيتك" معنى" أخبرني" في ترك الإلغاء ، ومعنى الرؤية رؤية القلب في التعدي إلى مفعولين ، ثم عقب" سيبويه" بما يسدّ هذا المعنى. فقال : هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة" أخبرني".

يعني : دخول معنى : " أخبرني" في : " أرأيتك" لم يمنعه من أن يكون له مفعولان ، كما كان له قبل أن يدخل فيه معنى : " أخبرني" ومنعه هذا المعنى من أن يلغى ، وقد قيل : أراد فدخول : " أخبرني" في" أرأيت" لم يجعله مقتصرا به على مفعوله الأول ، كما يجوز أن يقتصر على النون والياء في قولك : " أخبرني".

وقال بعضهم : في النّسخ غلط ، وإنما أراد أن يقول : بمنزلة" رأيت" في الاستغناء وذلك. أنك قد تقول : " علمت أبو من زيد" و" رأيت أبو من زيد" في معنى : " علمت" ، فرأيت قد تستغني وتلغى ، حتى لا تكون واقعة على مفعول ، فإذا قلت : " أرأيت" وجب أن تقع على مفعول ، ولم يله حرف الاستفهام.


قال : وتقول : " قد عرفت أيّ يوم الجمعة".

ويجوز" أيّ يوم الجمعة" فمن نصب جعله ظرفا للجمعة ، ولم ينصبه بعرفت ، كما تقول : " اليوم الجمعة" و" السبت" مثل الجمعة وإنما جاز النصب في ذلك ؛ لأن الجمعة فيها معنى الاجتماع ، والأصل في السبت الراحة ، وهو فعل واقع في اليوم ، ولو قلت : " اليوم الأحد والاثنان" إلى" الخميس" لم يجز إلا بالرفع ؛ لأن" اليوم" هو الأحد وليس الأحد بمعنى يقع في اليوم.

وإذا قلت : قد علمت أيّ حين عقبتي (١).

فعقبتي مصدر ومعناها المعاقبة. يريد. أي وقت يصيبني حظي من الركوب ، وإن رفعت فتقديره : أيّ حين حين عقبتي ، و" علمت" لم يعمل فيه رفعا كان أو نصبا ، وقول الشاعر :

حتى كأن لم يكن إلا تذكره

والدهر أيّتما حال دهارير (٢)

فالدهر مبتدأ ، و" دهارير" خبره ، وهي : الدواهي ، وأيّتما حال ظرف ، كأنه قال : والدهر دهارير في كل حال.

هذا باب من الفعل

سمي الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من أمثلة

الفعل الحادث

(وموضعها من الكلام الأمر والنهي ، ومنها ما يتعدّى المأمور إلى مأمور به ، ومنها ما لا يتعدّى المأمور ، ومنها ما يتعدّى المنهيّ إلى منهيّ عنه ، ومنها ما لا يتعدى المنهيّ.

أمّا ما تعدّى فقولك : رويد زيدا" فإنما هو اسم قولك أرود زيدا).

__________________

(١) سيبويه ١ / ١٢٢ بولاق ١ / ٢٤٠ هارون.

(٢) اختلف في قائل هذا البيت فقيل : عنبر بن لبيد العذري وقيل عثمان بن لبيد العذري وقيل حريث بن جبلة انظر سيبويه ١ / ١٢٢ بولاق. شواهد المغني ٨٦. مجالس ثعلب ٢٦٥. اللسان (دهر) ٥ / ٣٨٠.


واعلم أن هذا الباب مشتمل على أسماء وضعت موضع فعل الأمر ، ولا يجوز أن يذكر الفعل معها وهي مشتقة من لفظه وليست بالمصادر المعروفة للفعل كقولك : " ضربا زيدا" في معنى" اضرب ضربا". فمن ذلك" رويد زيدا" وهو مبنيّ ، وكان الأصل فيه أن يبنى على السكون لأنه واقع موقع الأمر ، والأمر مبنيّ على السكون فاجتمع في آخره ساكنان الياء والدال فحرّكت الدال لاجتماع الساكنين ، وكان الفتح أولى بها استثقالا للكثرة من أجل الياء التي قبلها كما قالوا : أين وكيف ففتحوا ، ورويد تصغير إرواد ، وإرواد مصدر أرود ، ومعنى أرود : أمهل ، وصغّروه تصغير الترخيم لحذف الزوائد وهي الهمزة التي في أولها ، والألف التي هي رابعها.

وقال الفرّاء : (١) " إن رويد تصغير رود" ، والذي قاله ، البصريون أولى لأن أرود يقع موقع" رويد" ، و" رود" لا يقع في موقعه فلأن يكون مأخوذا ممّا يقع موقعه ويطابقه في المعنى أولى.

ومنها هلمّ زيدا إنما يريد : هات زيدا والأصل فيه : ها لمّ زيدا ولكنهم جعلوهما كشيء واحد وأسقطوا الألف منها ، وجعلوه بمنزلة الأسماء التي سمّى الفعل بها مثل : " رويد" ، و" حذار" ، و" دراك" ولم يثن ولم يجمع ولم يؤنث كما لم يثن" رويد" و" دراك" ، وهذه لغة أهل الحجاز؟

قال الله عزوجل : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا)(٢). فوحّدوا ، وبنو تميم يثنون ويجمعون ويؤنثون ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

قال : (ومنها قول العرب : " حيّ هل الثريد").

جعلوا حيّ وهل بمنزلة شيء واحد ، وفتحوها وأقاموها مقام اسم الفعل فلم تثن ولم تجمع ، وجعلوا" حيّ هل الثريد" بمنزلة ائتوا الثريد ؛ وربما اكتفت العرب ب" حيّ" فعدّوه بحرف الجر قالوا : " حيّ على الصلاة" وربما اكتفوا بهل ، قال النابغة الجعدي :

__________________

(١) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور ، أبو زكريا الديلمي أخذ عنه الكسائي وهو من أبرع الكوفيين له مصنفات في النحو واللغة. الفهرست ٧٣ ، ٧٤. بغية الوعاة ٢ : ٣٣٣.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ١٨.


ألا حيّيا ليلى وقولا لها هلا (١)

قال : (ومنها قوله :

تراكها من إبل تراكها (٢)

فهذا اسم لقوله اتركها ، وكذلك :

مناعها من إبل مناعها (٣)

وهو اسم لقوله : امنعها.

والواحد والاثنان والجميع والمؤنث في ذلك سواء ؛ وكان حكم" تراك" أن يكون ساكنا لوقوعه موقع الأمر فاجتمع في آخره ساكنان فكسر على ما يوجبه اجتماع الساكنين وهذا مطّرد في جميع الأفعال الثلاثية كقولك : " حذار من زيد" ، و" نعاء زيدا" بمعنى انع زيدا ، وقد استقصيناه فيما مضى ؛ فهذا الذي ذكره : هو ما يتعدى المأمور إلى مأمور به والمنهيّ إلى منهيّ عنه.

وأما ما لا يتعدى المأمور ولا المنهي إلى مأمور به ولا إلى منهي عنه فنحو قولك : مه مه ، وصه صه ، وإيه وما أشبه ذلك).

فهذه أصوات وضعت مواضع أسماء الفعل ولا تثنى ولا تجمع ، فمعنى مه : كفّ ، ومعنى صه : اسكت ، وإيه : استزادة.

فإن قال قائل : لم فصل سيبويه بين الأمر والنهي في أول هذا الباب وليس في شيء من هذه الأفعال نهيّ بل لا يجوز أن يكون فيها نهي لأنه ليس شيء من هذه المصادر التي هي اسم الفعل يقدر فيها" لا" التي هي للنهي وإنما تقع موقع الأمر المحض ، قيل له : إنما سماه نهيا بالمعنى لا بدخول حرف نهي ، لأنه إذا قال : اتركها ، وامنعها ، فالمعتاد في الكلام أن يقال نهى عنها ، وإذا قال : صه صه ، فأمره بالسكوت والكفّ ، فقد نهاه عن الكلام

__________________

(١) قائله النابغة الجعدي والبيت موجود في الأغاني ٥ : ١٦ وخزانة الأدب ٦ : ٢٣٨ ، ٢٦٤.

(٢) البيت لطفيل بن زيد الحارثي.

تراكها من إبل تراكها

أما ترى الموت لدى أوراكها

خزانة الأدب ٥ : ١٦ ، ١٦٢.

(٣) سبق تخريجه.


والإقدام ، والأكثر المألوف أنه إذا قال له : اسكت ، أنه قد نهاه عن الكلام.

قال سيبويه : (واعلم أن هذه الحروف التي هي أسماء للفعل لا تظهر فيها علامة المضمر وذلك أنها أسماء وليست على الأمثلة التي أخذت من الفعل الحادث فيما مضى وفيما يستقبل وفي يومك ولكن المأمور والمنهيّ مضمران في النّية).

يعني أن هذه الأسماء التي هي أسماء الفعل لا يظهر فيها ضمير الفاعل والواحد والتثنية والجمع.

تقول : " يا عمرو حذار زيدا" ، و" يا عمران حذار زيدا" ، و" يا عمرون حذار زيدا" ، و" يا هندات حذار زيدا".

وفي حذار ضمير الفاعل يجوز أن يؤكد فنقول : حذار زيدا أنت نفسك ، وحذار زيدا أجمعون إذا أمرت جماعة ، وإنما تظهر العلامة في الفعل لأنه هو العامل في الأصل ، وتتغير أمثلته ويخالطه اسم الفاعل واللفظ حتى يصير معه كشيء واحد نحو قولك : جلست ، وقمت ، فالتاء اسم الفاعل ، وقد خالط الفعل وظهر فيه ، فلو جعلت مكان حذار احذر لثنيت وجمعت فقلت : احذرا واحذروا.

قال : (وإنما كان أصل هذا في الأمر والنهي وكان أولى به لأنهما لا يكونان إلّا بفعل).

يعني أن هذه الأسماء التي ذكرها في هذا الباب لا تقع إلّا في الأمر والنهي ، لا يجوز أن يقول : أعجبني مناع زيدا ، ولا هذا رويد زيدا ، كما تقول أعجبني منعك زيدا ، وقد بيّنا لم لا يقع إلّا في الأمر.

قال : (وأجريت مجرى ما فيه الألف واللام لئلا يخالف ما بعدها لفظ ما قبلها بعد الأمر والنهي).

يعني أنها جعلت مفردة غير مضافة كما أن النجاء مفرد غير مضاف ، حتى لا ينخفض ما بعدها وينتصب ما بعد الأمر والنهي ولا ينخفض.

قال : (ولم تصرّف تصرّف المصادر لأنها ليست بمصادر).

يعني أنها لا تكون إلا مفردة على لفظ واحد ، والمصادر المشتقة من الأفعال قد


تكون مفردة ومضافة ويكون فيها الألف واللام ، وقد لا يكون فيها كقولك : ضربا زيدا ، والضرب زيدا ، وضرب زيد ، قال الله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١).

هذا باب متصرّف رويد

(تقول : رويد زيدا وإنما تريد أرود زيدا.

قال الهذليّ :

رويد عليّا جدّ ما ثدي أمّهم

إلينا ولكن بغضهم متماين) (٢)

قد ذكرنا نصب رويد لما بعده فأمّا معنى البيت فإنّ عليّا قبيلة ، وجدّ : قطع ، وهذا مثل ، يريد قطع نسبهم إلينا بالعقوق ، وبغضهم متماين يعني متكاذب وإنما أراد أنهم أبغضونا على غير ذنب ، والمين : الكذب ، وكأن بغضهم كذب إذ كان على غير أصل.

ويروى : " ولكن ودّهم متماين" وهو ظاهر المعنى وهمز بعض أهل اللغة متمأين وهو ظاهر المعنى ، وهمز بعض أهل اللغة متمأين وزعم أن معناه متقادم.

قال : (وسمعنا من العرب من يقول : " والله لو أردت الدراهم لأعطيتك رويد ما الشعر" يريد أرود الشعر كقول القائل : لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر).

قال أبو العباس : " هذا رجل مدح رجلا فقال الممدوح للمادح هذا القول ؛ أي لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر لا حاجة بك إليه".

قال أبو سعيد : وقد يقال إن سائلا سأل آخر أن ينشد شعرا وكان إنشاده عليه سهلا فقال : لو أردت الدراهم التي إعطاؤها صعب لأعطيتك فدع الشعر الذي هو سهل تقرّبا إليه في مبادرته إلى قضاء حاجته.

قال : (ويكون رويد أيضا صفة يقولون : ساروا سيرا رويدا ، ويقولون أيضا :

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٤.

(٢) البيت ل (مالك بن خالد الهذلي) وقيل : ل (المعطل) :

التهذيب ٥ : ٥٢٩ ؛ شرح المفصل ٤ : ٤٠ ؛ أشعار الهذليين ١ : ٤٤ ، ق ٣ : ٤٦ ؛ تاج العروس (مين).


ساروا رويدا فيحذفون السير ويجعلونه حالا وصف به المصدر اجتزاء بما في صدر حديثه من ذكر ساروا عن ذكر السير).

قال أبو سعيد : اعلم أن رويد قد تكون لها حالان سوى حالها التي ذكرنا تكون فيها معربة وهي النعت والحال ، ويجوز أن تكون في هاتين الحالتين تصغيرا لإرواد الذي هو المصدر ، ويجوز أن تكون تصغير مرود أو مرود بحذف الزوائد على ما ذكرنا من تصغير الترخيم ، فإذا جئت بالموصوف فأظهرته كان وصفا كقولك : ضعه وضعا رويدا ، وإذا لم تجئ بالموصوف كان الاختيار أن يكون حالا لضعف الصفة من غير أن تقدّم الموصوف ، ويجوز أن يكون صفة قامت مقام الموصوف تقول : رويدا ، تريد وضعا رويدا.

قال : (واعلم أن رويدا تلحقه الكاف وهي في موضع الفعل كقولك : رويدك زيدا افعل ، ورويدكم زيدا ، ودخلت الكاف علامة للمخاطب إذا خفت أن يلتبس من تعني بمن لا تعني وتجد فيها استغناء بعلم المخاطب أنه لا يعني غيره).

ولا موضع للكاف عند سيبويه ومن ذهب مذهبه من نصب ولا رفع ولا جرّ ، وهي عندهم بمنزلة الكاف في ذلك وذلكما لا موضع لها من الإعراب.

وبعض النحويين يزعم أن موضعها رفع ، وبعضهم يقول : موضعها نصب ، فأما الذي يزعم أن موضعها رفع فالحجة عليه أن يقال : إنّا لم نر شيئا يعمل عمل الفعل وليس بفعل يتصل به ضمير الفاعل ظاهرا وإنما يكون الضمير في النية كقولك : حذار زيدا.

ومن الحجة عليه ـ أيضا ـ أنا قد نقول : رويد زيدا فنحذف الكاف ونقدّر في رويد ضميرا مرفوعا في النية ؛ فلو كانت الكاف هي الفاعلة ما جاز حذفها.

والحجة على من قال : إنها في موضع نصب أن رويد إنما هو اسم أرود ، وأرود لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، فكلما كان اسما لأرود لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، ولو كانت الكاف منصوبة كنت قد عديت رويدا إلى مفعولين ، ولو جاز هذا لجاز : رويد زيدا عمرا.

ثم استدل على بطلان قول من يقول : إن الكاف اسم لها موضع بما تقدّم ، ثم احتجّ


سيبويه على أن الكاف لا موضع لها بقول العرب : هاء وهاءك في معنى : تناول ؛ فزاد الكاف على هاء للخطاب ، وفيه لغات قد ذكرناها في أول الكتاب.

واحتجّ في ذلك على من انتحل والتزم أن كاف ذلك لها موضع بأن قال : إن كان لها موضع فلا بدّ من أن تكون مجرورة أو منصوبة ، فإن كانت منصوبة وجب أن تقول : ذاك نفسك زيدا إذا أراد تأكيد الكاف ، وينبغي له أن يقول : إذا كانت مجرورة ذاك نفسك زيد وهو أن لا يقولهما أحد.

ومما دخل للكاف أيضا التاء في أنت وهي ملازمة ، تختلف في المذكر والمؤنث ولا موضع لها ، ولو كان لها موضع من رفع أو نصب لوجب أن يؤتى بعامل يعمل ذلك العمل ولا عامل موجود في لفظ ولا تقدير.

ثم احتج سيبويه ـ أيضا ـ في ذلك بقولهم : أرأيتك زيدا ما فعل؟ فذكر أن الكاف لا موضع لها وأن التاء علامة المضمر المرفوع المخاطب ، ولو لم تلحق الكاف كنت مستغنيا كاستغنائك حين كان المخاطب مقبلا عليك ، فهذا الذي ذكر سيبويه صحيح ، وسقوط الكاف مع صحة المعنى الذي يكون بوجودها دلالة على أن لا موضع لها ، ولو كانت الكاف في موضع رفع كما قالوا لوجب ألا تسقط لأن ضمير الفاعل لا يسقط من الفعل أبدا.

وزعم الفراء أن العرب تجعل" أرأيتك" على مذهبين مختلفين : فإذا قلت رأيتك منطلقا كما تقول حسبتك ذاهبا فعدّيتك فعل المخاطب إلى نفسه كان موضع التاء رفعا ، وموضع الكاف نصبا ، وثنيت وجمعت فقلت : رأيتماكما منطلقين ، ورأيتموكم منطلقين ورأيتنّكنّ منطلقات لجماعة المؤنث ، فإن أدخلت ألف الاستفهام على هذا أقررته على حاله فقلت : أرأيتماكما منطلقين فهذا أحد المذهبين ، والمذهب الآخر : أن تقول : أرأيتكم زيدا ما فعل؟ على معنى أخبرنّي عن زيد؟ وإذا ثنى وجمع لحقت التثنية والجمع الكاف وكانت التاء مفردة على كل حال فقلت : أرأيتكما زيدا ما فعل؟ قال الله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)(١) فاستدل بتوحيد التاء في هذا على أنه لا

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٤٧.


موضع لها وأن الموضع للكاف ، وقد بيّنا ما تقدّم من الاحتجاج أن لا موضع للكاف.

ويجوز أن يكون إفرادهم التاء استغناء بتثنية الكاف وجمعها لأنها للخطاب وإن كان لا موضع لها كما أن التاء للخطاب ، وإنما استغنوا بتثنية الكاف وجمعها عن تثنية التاء وجمعها للفرق بين أرأيت إذا كان في معنى أخبرني ، وبينها إذا أردت به معنى علمت ، فاعرفه إن شاء الله.

قال : (ونظير الكاف في رويد في المعنى لا في اللفظ" لك" التي تجيء بعد هلمّ في قوله : هلمّ لك فالكاف ههنا اسم مجرور باللام والمعنى في التوكيد والاختصاص بمنزلة الكاف التي في رويد وما أشبهها كأنه قال : هلمّ ثم قال : إرادتي بهذا لك فهو بمنزلة قولك : سقيا لك).

أما قوله : نظير الكاف في رويدك لك التي تجيء بعد هلمّ فإنما يعني أنك إذا قلت : رويد فالمعنى تامّ ، فإذا زدت الكاف زدتها بعد تمام المعنى لتبيين المخاطب وإن كانت رويد قد أغنتك عن ذلك ، كما أنك إذا قلت : هلمّ للمخاطب استغنى الكلام به وتمّ فإذا قلت : هلمّ لك فجئت ب" لك" فإنما تجيء بها بعد استغناء الكلام عنها وتمامه دونها حرصا على تبيين المخاطب ، وكذلك إذا قلت : سقيا لك ، فسقيا غير محتاج إلى لك لأن معناه : سقاك الله سقيا ، ولكنك لما قلت : سقيا جئت ب" لك" تأكيدا وتبيينا كأنك قلت : دعائي بهذا لك أو إرادتي لك ، غير أن الكاف في هلمّ لك ، وسقيا لك مجرورة باللام وفي رويدك لا موضع لها من الإعراب ، وإنما جمع بينهما سيبويه في التأكيد بهما بعد تمام الكلام دونهما لا في موضع الإعراب ، وفي رويد ضمير فاعل في النيّة يجوز أن يؤكّد وأن يعطف عليه بحسب ما يجوز في ضمير الفاعلين.

تقول : رويدكم أنتم وعبد الله ، ورويدكم أجمعون ، كما تقول : قم أنت وعبد الله ، وقوموا أجمعون ، وكذلك إن لم يكن فيه الكاف ، فإذا خاطبت الواحد قلت : رويد أنت زيدا ، وإذا خاطبت اثنين قلت : رويد كلاكما زيدا ، وللجميع : رويد أجمعون.

وأمّا هلمّ لك ففيه ضميران مرفوع ومجرور :

فالمرفوع هو ضمير الفاعل الذي في هلم ، والمجرور هو الكاف في لك فيجوز أن تقول : هلم لكم أجمعون وأجمعين ، فأجمعون على تأكيد الضمير الذي في هلم ، وأجمعين


على تأكيد الكاف والميم في لكم وموضعه جرّ.

(وهذا ضرب من الفعل سمّي الفعل فيه بأسماء مضافة ليست من أمثلة الفعل الحادث ولكنها بمنزلة الأسماء المفردة التي كانت للفعل نحو : رويد وحيهل ومجراهنّ واحد).

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا يخالف ما قبله لأنه قد اشتمل على ظروف وحروف جرّ تجري مجرى الظروف ومصادر مضافات كلّهنّ ، والفرق بين هذا الفصل والذي قبله أن هذا مضاف والذي قبله مفرد وينقسم هذا قسمين :

قسم يتعدّى ، وقسم لا يتعدّى.

فأما ما يتعدى فقولك : عليك زيدا ودونك زيدا وعندك زيدا تأمره به ؛ فأمّا عليك فحرف من حروف الجرّ ، وأما دونك وعندك فظرفان ، وقد جعلن بمنزلة قولك : خذ زيدا ، والكاف منهن في موضع جرّ.

وذكر عن المازنيّ أنه كان الأصل في عليك زيدا أي : خذه من فوقك.

وفي عندك زيدا أي : خذه من عندك.

وفي دونك زيدا أي : خذه من أسفل من موضعك.

وتحصيل هذا خذ من دونك زيدا ، وخذ من عندك زيدا ، وخذ من عليك زيدا.

كما تقول : خذه من فوقك ، كما قال الشاعر :

غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها

تصلّ وعن قيض بزيزاء مجهل (١)

ثم حذف حرف الجر وهو" من" فوصل الفعل إلى هذه الأسماء وحذف فعل الأمر وهو : " خذ" اكتفاء واستخفافا.

قال : وما تعدّى المنهيّ إلى منهيّ عنه قولك :

حذرك زيدا وحذارك زيدا فردّ عليه أبو العباس المبرّد هذا اللفظ من وجهين :

__________________

(١) البيت ل (مزاحم بن الحارث العقيلي) :

شرح المفصل ٨ : ٣٨ ؛ أدب الكاتب : ٥٠٤ ؛ تاج العروس (صلل).


أحدهما : أن قولك : حذرك إنّما هو : احذر وقد جعله سيبويه نهيا.

قال أبو العباس : " فإن قال قائل فمعنى احذر : لا تدن منه" قيل : وكذلك عليك معناه : لا يفوتنك ، وكلّ أمر أمرت به فأنت ناه عن خلافه ، وإذا نهيت عن شيء فقد أمرت بخلافه ، فقد يجوز في الأمر أن يقال نهي وفي النهي أن يقال أمر على المعنى ، فإذا كان كذلك فلا وجه للتفصيل الذي فصل به سيبويه بين الأمر والنهي.

والوجه الآخر : أنه وضع في هذا الباب ما لم يؤخذ من أمثلة الفعل ، وحذرك مأخوذ من الحذر فهو خارج من هذا الباب ؛ لأن هذا الباب عليك ودونك.

وليس الأمر على ما ردّه أبو العباس في الوجهين جميعا.

أما الوجه الأول فقد ذكرنا أن ألفاظا من ألفاظ الأمر الأكثر في عادة كلام الجمهور أن يقال : نهى وإن كان بلفظ الأمر كقولك : تجنب فلانا ، واحذر فلانا ، وابعد عن فلان فإنما يقال : نهاه عنه ؛ فجرى سيبويه على اللفظ المعتاد.

وأما الوجه الآخر فإنما غرّ سيبويه في هذا الباب تفصيل المضاف من المفرد الذي قبله لأنه قد ذكر ظروفا وأسماء كلها مضافات ، وقد ترجم الباب بقوله : بأسماء مضافة.

(وأما ما لا يتعدّى فقولك : مكانك ، وبعدك إذا قلت : تأخّر ، وكذلك عندك إذا كنت تحذّره شيئا من بين يديه أو تبصّره شيئا ، وإليك إذا أردت تنحّ ، ووراءك إذا قلت : افطن لما خلفك).

وقد ذكر سيبويه عندك فيما يتعدى ، وقد ذكره فيما لا يتعدى وهذا غير مستنكر وذلك أنه قد يكون فعل واحد متعديا وغير متعدّ ؛ كقولك : علقتك وعلقت بك وجئت زيدا وجئت إلى زيد.

قال : (وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من يقال له : إليك فيقول إليّ كأنه قيل له : تنحّ فقال : أتنحّى ، ولا يقال : دوني ولا عليّ هذا ، إنما سمعناه في هذا الحرف وحده وليس لها قوة الفعل فتقاس).

اعلم أن هذه الأسماء والحروف التي تضمّنها هذا الفصل وما قبله من المفرد والمضاف لا يجوز أن تقع إلا في أمر المخاطب هذا حكمه وبابه ، وذلك من قبل أنّ أمر المخاطب يقع بالفعل المحض من غير حرف يدخل عليه ، وأمر الغائب لا يقع إلا بحرف ألا ترى أنك تقول : قم يا زيد ولا يجوز أن تقول : قم يا عمرو إذا كان غائبا وإنما تقول :


ليقم عمرو ، ومع هذا فإنما الأمر إنما يكون بمواجهة المخاطب وتنبيهه وندائه ، فقد يوضع كثير من الأصوات في موضع الأمر للإنسان وللبهائم ، كقولك للإنسان : مه وصه ، وللناقة : حل ، وللجمل : حوت ، وللحمار : تشوه.

وهذه الأشياء لا تقع إلّا في أمر فجعلوا ـ إليك ، وعليك ، ووراءك ، ودونك ـ بمنزلة هذه الأصوات التي يؤمر بها ، فالقياس ألّا يقع هذا في غير الأمر ، فإذا قلت : إليك فقال : إليّ فقد جعل إليّ بمعنى أتنحّى وهو خبر ليس بأمر ، وهذا شاذّ مخالف لقياس الباب.

فإذا قلت : عليك زيدا ودونك زيدا على معنى خذ زيدا فلا يجوز أن تقول : عليّ زيدا ودوني زيدا على معنى آخذ زيدا ؛ لأن ذلك لا يجوز في غير الأمر ، وقد يجوز أن تقول : عليّ زيدا على غير هذا المعنى إذا أردت ائتني بزيد فيكون في باب الأمر ، ولا يجوز أن تقول : دوني زيدا إذا أردت ائتني بزيد وذلك إذا قلت : عليّ زيدا فقد عدّيته إلى زيد وإليك بحرف الجرّ ، وإذا قلت : عليك زيدا فإنما عديته إلى زيد وإلى المخاطب بحرف الجر ، فقد توسّعت العرب في هذا الفعل فعدّته مرّة إلى المتكلم بحرف الجرّ ومرّة إلى المخاطب ولم تتوسّع في دونك وعندك لأنهم لم يقولوا : دوني وعندي ، ولا يجب أن نقيس ذلك لأنّه قد يجوز أن يكون فعل منه متعدّ ولا يتعدى نظيره. ألا ترى أنك تقول : علقتك وعلقت بك ، ولا يجوز في مررت بك مررتك.

قال : وحدّثني من سمعه أنّ بعضهم قال : عليه رجلا ليسنى ، وهذا قليل شبّهوه بالفعل.

يعني أنه قال : عليه فأمر غائبا ، وقد روي مثل هذا عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله أنّه قال : " من استطاع منكم الباءة فليتزوّج وإلّا فعليه الصوم ، فإنّه له وجاء" (١).

وإنما أمر الغائب ، فهذا الحرف على شذوذه ، لأنه قد جرى للمأمور ذكر فصار بالذّكر الذي جرى له كالحاضر فأشبه أمره أمر الحاضر ، ولو كان المأمور اسما ظاهرا لم يجز ؛ لأنه لا يجوز أن تقول : على زيد عمرا ، وإذا قلت عليك زيدا فللمخاطب ضميران :

__________________

(١) صحيح البخاري ٢٠ : ٦٦ كتاب النكاح. صحيح مسلم ٢ : ١٠١٨ ، ١٠١٩ كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه.


أحدهما : مجرور ، وهو الكاف ، ومعناه معنى المفعول ، والآخر : مرفوع في النية فاعل ، ويجوز أن تؤكدهما أو ما شئت منهما تقول : عليك نفسك زيدا ، ويجوز أن تقول : عليك نفسك أنت نفسك ، على أن تجعل المجرور تأكيدا للكاف ، والمرفوع تأكيدا لضمير الفاعل ، ولا يجوز أن تقول : عليك وأخيك فتعطف أخيك على الكاف ؛ لأن المجرور الظاهر لا يعطف على المجرور المضمر ، والاحتجاج لهذا في غير هذا الموضع.

قال : (ومن جعل رويدك مصدرا قال : رويدك نفسك).

يعني من قال : رويدا يا زيد كما تقول : ضربا يا زيد جاز أن تضيفه إلى الكاف كما قال عزوجل : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١). فأضاف ضرب الرقاب ، وكذلك أضاف رويد إلى الكاف وجاز أن يؤكد الكاف لمجرور ويصير للمخاطب ضميران.

أحدهما : مجرور وهو الكاف.

والآخر : ضمير الفاعل في النية.

(وأما قول العرب : رويدك نفسك ، فإنهم يجعلون النفس بمنزلة عبد الله ، ويجعلون الكاف للخطاب لا موضع لها ، وكأنهم قالوا : رويد نفسك على ما فسّرنا في رويد زيدا).

قال : (وأما حيّهلك ، وهاءك وأخواتها فليس فيها إلا ما ذكرنا لأنّهنّ لم يجعلن مصادر).

يعني أن الكاف في هذه الأشياء لا موضع لها وإنما هي للخطاب.

أراد الفرق بين رويدك وبين حيّهلك ؛ لأن رويدك قد تكون الكاف فيه مرّة للخطاب ومرّة في موضع جرّ ، فإذا كان للخطاب فهو بمنزلة حيّهلك ، وإذا كان في موضع جرّ فهو بمنزلة عليك وحذرك.

(واعلم أنك لا تقول : دوني ، كما قلت : عليّ لأنه ليس كل فعل بمنزلة أولني قد تعدى إلى مفعولين ، فإنما عليّ بمنزلة أولني ودونك بمنزلة خذ لا تقول : آخذني درهما ولا خذني درهما).

__________________

(١) سورة محمد ، الآية ٤.


يعني أنك تقول : عليك زيدا فيكون بمنزلة خذ زيدا ثم تقول : عليّ زيدا فيكون بمنزلة : أولني زيدا كما تقول : أعطني زيدا ودونك زيدا ولا تقول : دوني زيدا ، كما لا تقول : خذني زيدا ، فإنما ننتهي في ذلك حيث انتهت العرب.

قال : (واعلم أنه يقبح أن تقول : زيدا عليك ، وزيدا حذرك ، وإنّما قبح لأن هذه الحروف ليست بأفعال وإنما وضعت موضع الأفعال ولا تصرّف لها ؛ فلم تعمل عمل الفعل في جميع الأحوال ، ولم تقو قوّته).

فإذا رأيت في شعر" زيدا عليك" فإنما تنصب" زيدا" بفعل وتكون" عليك" مفسّرة له كما قال :

يا أيّها المائح دلوي دونكا

إنّي رأيت الناس يحمدونكا (١)

فدلوي في موضع نصب بإضمار فعل ؛ كأنه قال : خذ دلوي دونك ، وكذلك قوله عزوجل : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)(٢).

ينتصب كتاب بما قبله لا بعليكم ؛ كأنه لما قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(٣).

فقد دلّ أنّه كتب التحريم عليكم كتابا فنصب الكتاب بالمصدر ، لا بعليكم ، وكان الكسائي ينصب كتاب الله بعليكم ، ويحتج بالبيتين اللذين أنشدنا ، والفراء يخالفه ويقول نحو ما ذكرناه في البيتين.

هذا باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار

الفعل المستعمل إظهاره إذا علمت أن الرجل مستغن

عن لفظك بالفعل

(وذلك قولك : زيدا وعمرا ورأسه ، وذاك أنّك رأيت رجلا يضرب أن يشتم أو

__________________

(١) ينسبان لراجز جاهليّ من أسيد بن عمرو بن تميم ، وقيل لجارية من بني مازن ، وزعم ابن الشجريّ أنهما لرؤبة : شرح المفصل ١ : ١١٧ ؛ مغني اللبيب ٦ : ٣٤٣ ، ٣٨٠ ؛ اللسان وتاج العروس (ميح).

(٢) سورة النساء ، الآية ٢٤.

(٣) سورة النساء ، الآية ٢٢.


يقتل فاكتفيت بما هو فيه من عمله).

اعلم أنّ الإضمار على ثلاثة أوجه :

ـ وجه يجب فيه الإضمار ولا يحسن فيه الإظهار.

ـ ووجه لا يجوز أن تضمر العامل فيه.

ـ ووجه أنت مخيّر بين إضماره وإظهاره.

فأما ما لا يجوز فيه الإضمار لعامل فأن تقول مبتدئا : زيدا ، من غير سبب نحويّ ولا حال حاضرة دالة على معنى ، وأنت تريد : اضرب زيدا ، وغيره من الأفعال لأنك إذا أضمرته لم يعلم أنّه" أكرم زيدا" أو اشتم زيدا أو غير ذلك.

وأما ما يجوز إظهاره وإضماره فأن ترى رجلا يضرب أو يشتم فتقول : زيدا ، تريد اضرب زيدا ، ويجوز إظهاره فتقول : اضرب زيدا ، ومثل ذلك أيضا في الخبر أن تلقى رجلا قادما من سفر فتقول : خير مقدم أي : قدمت خير مقدم ، ولو أظهرته لم يكن بأس ، وكذلك إذا قلت لرجل في طريق : الطريق يا هذا ، معناه : خلّ الطريق وعن الطريق ، ويجوز إظهاره ، قال جرير :

خلّ الطريق لمن يبني المنار به

وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر (١)

ولا يجوز أن تضمر في شيء من هذا الباب الجارّ ؛ فإذا قلت : الطريق لم يجز أن يكون الضمير تنحّ عن الطريق ؛ لأن الجارّ لا يضمر ، وذلك أن المجرور داخل في الجار غير منفصل.

والوجه الثالث :

قوله : إياك وأن تقرب الأسد ، معناه : إيّاك اتق ، وإياك احذر ، ولا يحسن إظهار ما نصب إياك ، ثم استشهد سيبويه على جواز الحذف الذي عقد به الباب : (تقول العرب في مثل من أمثالهم : " اللهمّ ضبعا وذئبا" إذا كان يدعو بذلك على غنم رجل ، فإذا سألهم ما يعنون قالوا : اللهم اجمع فيها ضبعا وذئبا ، كلّهم يفسر ما ينوي).

قال أبو العباس : سمعت أن هذا دعاء له لا دعاء عليه ؛ لأن الضبع والذئب إذا اجتمعا تقاتلا فأفلتت الغنم.

__________________

(١) ديوان جرير ٢١١ ؛ شرح المفصل ٢ : ٣٠ ؛ تاج العروس (برز).


وقال : أمّا ما وضعه عليه سيبويه فإنه يريد ذئبا من ههنا وضبعا من ههنا.

قال : (وحدثنا من يوثق به أن بعض العرب قيل له : أما بمكان كذا وكذا وجد وهو موضع يمسك الماء) نحو النقرة في الصخرة ، (فقال : بلى وجادا ، ومنه قول الشاعر :

أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كماش إلى الهيجا بغير سلاح (١)

كأنه يريد : الزم أخاك).

غير أنّ هذا مما لا يحسن فيه إظهار الفعل إذا كررت ، ويحسن إذا لم تكرّر ، إذا قلت : أخاك ، حسن أن تقول : الزم أخاك ، وإذا قلت : أخاك أخاك ، لم يحسن أن تقول : الزم أخاك أخاك لأنهم إذا كرروا جعلوا أحد الاسمين كالفعل ، والاسم الآخر كالمفعول.

وكأنهم جعلوا أخاك الأول بمنزلة" الزم" ، فلم يحسن أن تدخل" الزم" على ما قد جعل بمنزلة" الزم".

ومنه قول العرب :

" أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك"

فمعناه : عليك بأمر مبكياتك ، واتّبع أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.

فمعناه : اتبع أمر من ينصح لك فيرشدك وإن كان مرّا عليك صعب الاستعمال ، ولا تتبع أمر من يشير عليك بهواك ؛ لأن ذلك ربما أدى إلى العطب.

ومنه : " الظّباء على البقر". والمعنى في المثل :

أنك تنهاه عن الدخول بين قوم يتشابهون ويتكافؤون في سوء أو غيره ، وتقديره : خلّ الظباء على البقر.

هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي

(وذلك إذا رأيت رجلا متوجّها وجه الحاجّ ، قاصدا في هيئة الحاجّ قلت : مكّة

__________________

(١) البيت ل (مسكين الدارمي) :

الديوان ٢٩ ، ط : بغداد ، ورواية الديوان :

 ...

كساع إلى الهيجا ...

الأغاني ٢٠ : ٢٠٨ ، ٢١٠ ؛ شرح قطر الندى ١٣٤ ؛ شرح شذور الذهب ٢٧٩ ؛ الخصائص ٢ : ٤٨٢.


وربّ الكعبة ، حيث زكنت أنه يريد مكة ، كأنك قلت : تريد مكة والله).

فهذا من الباب الذي يجوز إظهار الفعل فيه وإضماره لحال حاضرة ودلالة بينة ، فهذا وغيره في ذلك سواء.

وهذا الباب يشتمل على هذا النحو ولا يجوز أن تقول : زيد ، وأنت تريد : ليضرب زيد ، وليضرب زيد عمرا إذا كان فاعلا ، ولا يجوز أن تجعل الفعل المضمر لغائب في الأمر لأنك إذا فعلت ذلك فلا بد من أن تقدّر للمخاطب فعلا يبلّغ به الغائب ، فكأنك قلت : قل له : ليضرب زيدا ، أو قل له ليضرب زيد عمرا ، فضعف هذا عندهم لإضمار فعلين لشيئين مع ما يدخل فيه من اللّبس ، واللّبس الذي يدخل فيه أنه ليس للمخاطب فعل ظاهر ولا مضمر عليه دلالة فلا يعلم أنك أردت : قل : ليضرب زيدا ، أو أردت : لا تقل له ليضرب زيدا ، ونحو ذلك من الأفعال المتضادّة.

هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف

(وذلك قولك : الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، والمرء مقتول بما قتل به إن خنجرا فخنجر ، وإن سيفا فسيف).

قال أبو سعيد :

اعلم أن هذا الباب تجوز فيه أربعة أوجه :

ـ الرفع في الشرط والجواب ، كقولك : إن خير فخير.

ـ والنصب فيهما ، كقولك : إن خيرا فخيرا.

ـ والنصب في الأول والرفع في الثاني ، كقولك : إن خيرا فخير.

ـ والرفع في الأول والنصب في الثاني ، كقولك : إن خير فخيرا.

أما الأول فالعامل فيه" كان" رفعت أو نصبت ، فإذا قلت : الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا ، تقديره : إن كان عملهم خيرا ، وإذا قلت : إن خير ، تقديره : إن كان في عملهم خير.

وأما الجواب فإنه إن كان نصبا ، فإضمار كان ، وإن كان رفعا ، جاز أن يكون بإضمار مبتدإ.

وجاز أن يكون بإضمار فعل.

وأجود هذه الوجوه ، نصب الأول ورفع الثاني ، وإنما صار كذلك من قبل أنّ" إن"


تقتضي الفعل فلا بدّ من إضمار" كان" أو نحوها ، فإذا أضمرنا كان ونصبنا ، فقد جعلنا اسم كان مع" كان" مضمرا محذوفا ، والفعل متى أضمر أضمر معه الفاعل ، لأن الفعل والفاعل كشيء واحد ، وإذا أضمرنا كان وجعلنا الاسم الذي بعد" إن" مرفوعا فالذي أضمر مع" كان" الخبر الذي هو بمنزلة المفعول ، فكأنك أضمرت الفعل مع المفعول ، ولا يدل على المفعول كدلالته على الفاعل لأنه لا يستغني عن الفاعل.

وأما رفع الجواب بعد الفاء فإنما صار الاختيار الرفع ؛ لأن الفاء جواب الشرط ، وإنما أتي بها ليكون ما بعدها مبتدأ وخبرا ، وذلك أنّ جواب الشرط إذا كان فعلا لم تحتج إلى فاء ، كقولك : إن أكرمني زيد أكرمته ، وإن يكرمني أكرمه ، ولا يجوز أن تقول : إن تأتني زيد مقيم عندي ، حتى تقول : إن تأتني فزيد مقيم عندي ، فقد تبين لك أن الفاء إنما أتي بها للاسم ، فالاختيار أن يكون المضمر بعدها مبتدأ ، فإذا قلت : إن خير فخير ، فتقديره : إن كان في عمله خير فالذي يجزى به خير.

وإن قلت : إن خيرا فخيرا ، فتقديره : إن كان عمله خيرا فيكون الذي يجزى به خيرا ، وإن قلت : إن خيرا فخير فتقديره : إن كان عمله خيرا فالذي يجزى به خير ، وإن قلت : إن خير فخيرا ، فتقديره : إن كان في عمله خير فيكون الذي يجزى به خيرا.

وقد فسر سيبويه قوله : إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قال : كأنه قال : إن كان خيرا جزي خيرا ، فجاء بفعل ماض ليس فيه فاء على تقدير المعنى لا على تقدير اللفظ ، وذلك أنه لا يجوز أن يكون الفعل الماضي في جواب الشرط تدخل عليه الفاء ، لا تقول إن تأتني فأكرمتك ، إنما تقول كما قال الله عزوجل : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ)(١) إلّا أن يكون دعاء كقولك : إن يأتني زيد فأحسن الله جزاءه ، فلما كانت الفاء إنما تدخل على المستقبل وجب أن تقدّر ما بعد الفاء مستقبلا ، فقدّره سيبويه على ما يجوز في المعنى لا على حقيقة اللفظ.

وقال : (فإذا أضمرت فأن تضمر الناصب أحسن ؛ لأنّك إذا أضمرت الرافع أضمرت أيضا خبرا أو شيئا يكون في موضع خبر ، فكلما كثر الإضمار كان أضعف ، فإن أضمرت الرافع كما أضمرت الناصب فهو عربي حسن).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٩٥.


وقد بيّنا اختيار إضمار الناصب في الشرط.

وقوله فكلما كثر الإضمار كان أضعف يريد أنك إذا أضمرت الرافع أضمرت خبرا وهو منفصل من الرافع كأنك قلت : إن كان في عمله خير ، وإن كان معه خنجر ، وإن أضمرت الناصب جعلت اسم كان مستكنّا في كان وهو ضمير متصل. ألا ترى أنك تقول : من كذب كان شرا له ، فتجعل في كان ضمير الكذب مستكنّا غير منفصل منه ، فلذلك صار الضمير المرفوع أكثر ، وكان أضعف من المنصوب ، وهو مع ضعفه جائز قال هدبة بن خشرم :

فإن تك في أموالنا لا نضق بها

ذرعا وإن صبر فنصبر للصّبر (١)

أي وإن وقع فينا صبر ، أي وإن وقع صبر ، والصبر في هذا الموضع : الأمر الذي يجب الصبر عليه ، ويكون كرما وهو فعله ، قال وأمّا قوله :

قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا

فما اعتذارك من شيء إذا قيلا (٢)

فالنصب على التفسير الأول ، ويجوز إن حقّ وإن كذب على معنى : إن وقع حق وإن وقع كذب ، أو على : إن كان فيه حقّ وإن كان فيه كذب.

(ومثل ذلك قول العرب في مثل من أمثالها :

" إن لا حظيّة فلا أليّة" أي إن لا تكن لك في الناس حظيّة فإنّي غير أليّة ، كأنها قالت في المعنى : إن كنت ممّن لا يحظى عنده فإنّي غير أليّة ، ولو عنت بالحظّية نفسها لم يكن إلّا نصبا إذا جعلت الحظية على التفسير الأول).

أصل هذا أنّ رجلا تزوج امرأة فلم تحظ عنده ، ولم تكن بالمقصّرة في الأشياء التي تحظي النّساء عند أزواجهن فقالت : " إن لا حظية فلا ألية" أي : إن لم تكن حظية النساء لأن طبعك لا يلائم طباعهن فإنّي غير مقصّرة فيما يلزمني للزوج. يقال من ذلك : ما

__________________

(١) خزانة الأدب ٩ : ٣٣٧ ؛ تفسير الطبري ١٤ : ٨٢ ؛ مغني اللبيب ٤ : ٣٨ ؛ معاني القرآن ٢ : ١٠٥ (بدون نسبة) وروايته :

إن العقل في أموالنا لا نضق به

ذراعا وإن صبرا فنعرف للصبر

(٢) البيت منسوب إلى (النعمان بن المنذر) :

خزانة الأدب ٤ : ١٠ ؛ الأغاني ١٥ : ٣٦٦ ؛ شرح المفصل ٢ : ٩٧ (وما) بدلا من (فما) ؛ شرح ابن عقيل ١ : ٢٠٦ (من قول) بدلا من (من شيء).


ألوت في كذا أي : قصرت ، وما ألو جهدا : أي ما أقصّر ، وهو آل وأليّ أي : مقصّر ، ولألوت موضع آخر ، يقال : ألوت الشيء إذا استطعته ، وهي لغة هذيل ، قال :

جهراء لا تألو إذا هي أظهرت

بصرا ولا من عيلة تغنيني (١)

وقوله : لو عنت بالحظية نفسها لم يكن إلا نصبا. يعني : إن كان التقدير في قوله" إن لا حظيّة" إن لا أكن حظية فالنصب لا غير.

قال : (ومثل ذلك قد مررت برجل إن طويلا وإن قصيرا).

لا يكون في هذا إلا النصب ، لأنه لا يجوز أن يحمل الطويل والقصير على غير الأول.

يعني أنك تقدّر إن كان طويلا ، وتجعل في كان ضمير الرجل وهو اسم كان فلا بد من أن ينتصب الطويل على الخبر ، لا يمكن فيه غير ذلك كما أمكن في : إن حقّ وإن كذب أن تقدّر : إن كان فيه حقّ وإن وقع فيه حقّ ، ولا يكون فيه ضمير الأوّل ، ولا يحسن في : إن طويل وإن قصير ، إن كان فيه طويل أو كان فيه قصير ، لأنك لا تقول إن كان في زيد طويل ؛ لأن زيدا هو الطويل وإنما تقول : إن كان زيد طويلا.

وقال :

(لا تقربنّ الدّهر آل مطرّف

إن ظالما أبدا وإن مظلوما) (٢)

فهذا لا يجوز فيه إلا النصب ، لأنك إنما تريد إن كنت ظالما وإن كنت مظلوما. قال :

(فأحضرت عذري عليه الشّهو

د إن عاذرا لي وإن تاركا) (٣)

هذا رجل يخاطب أميرا في شيء قذف به عنده وعذره حجّته ، وأراد : إن كنت عاذرا لي أيها الأمير وإن كنت تاركا ؛ فنصبه لأنه عنى الأمير المخاطب ، ولو قال : إن

__________________

(١) ديوان الهذليين ق ٢ : ٢٦٣ ؛ وشرح أشعار الهذليين : ٤١٥ ؛ تاج العروس (ألو).

(٢) قطر الندى : ١٤١ ، مغني اللبيب ١ : ٣٩١ ؛ ونسبه بعضهم إلى حميد بن ثور الهلالي ، ورواية البيت في ديوان حميد ١٣٠ هكذا :

لا تغزون الدهر آل مطرف

لا ظالما أبدا ولا مظلوما

(٣) البيت لعبد الله بن همام السلولي :

شرح أبيات سيبويه ١ : ١٩٨ ؛ اللسان (شهد).


عاذر لي وإن تارك ، على معنى : إن كان لي في الناس عاذر أو تارك ، ومعنى تارك : غير عاذر جاز.

(قال النابغة :

حدبت عليّ بطون ضنّة كلّها

إن ظالما فيهم وإن مظلوما (١))

فلا يكون هذا إلّا نصبا ، لأنه أراد إن كنت فيهم ظالما وإن كنت مظلوما.

قال سيبويه : (ومن ذلك مررت برجل صالح وإن لا صالحا فطالح).

فهذا يشبه إن خيرا فخير على الوجه المختار.

ومن العرب من يقول : إن لا صالحا فطالحا بإضمار فعلين على من قال : إن خيرا فخيرا ، كأنه يقول : إن لا يكن صالحا فقد لقيته طالحا.

وزعم يونس أنّ من العرب من يقول : إن لا صالح فطالح ، كأنه قال : إن لا أكن مررت بصالح فبطالح.

قال سيبويه : (وهذا ضعيف قبيح لأنك تضمر بعد" إن لا" فعلا آخر غير الذي يضمر بعد" إن لا" في قولك إن لا يكن صالحا فطالح ولا يجوز أن يضمر الجارّ).

فقبّح سيبويه قول يونس من جهتين :

إحداهما : أنك تحتاج إلى إضمار أشياء ، وحكم الإضمار أن يكون شيئا واحدا وذلك أنك إذا قلت : مررت برجل إن لا صالح فطالح تقديره : إن لا أكن مررت بصالح ، فتضمر" أكن" ومررت والباء ، ولا يشبه هذا إن لا صالحا لأنك إذا قلت إن لا صالحا تقديره : إن لا يكن صالحا فتضمر شيئا واحدا.

والجهة الأخرى : أنّ حرف الجر يقبح إضماره إلّا في مواضع قد جعل منه عوض كقولهم :

وبلد عامية أعماؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه (٢)

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني :

ديوانه : ١٠٣.

(٢) ديوان رؤبة ٣ ؛ الإنصاف ١ : ٣٧٧ ١ : ٣٧٧ ؛ شرح المفصل ٢ : ١١٨ ؛ شذور الذهب ٣٨٨

برواية :

(وبلد مغبرة أعماؤه) ؛ الصاحبي في فقه اللغة ٢٠٨.


في معنى ورب بلد.

ثم قال سيبويه محتجّا لإجازة ما أجازه يونس على قبحه : (ولكنهم لما ذكروه في أول كلامهم شبّهوه بغيره من الفعل وكان هذا عندهم أقوى إذا أضمر رب ونحوها في قوله :

وبلدة ليس بها أنيس

) يعني أنّ الباء الجارّة لمّا ذكروها في أول كلامهم حين قال القائل : " مررت برجل" كان إضمارها بعد ذكرها أقوى من إضمار ربّ ولم يجز لها ذكر.

قال : (ومن ثمّ قال يونس : " امرر على أيّهم أفضل إن زيد وإن عمرو").

يعني إن مررت على زيد أو على عمرو على الوجه الأوّل الذي احتجّ له سيبويه بما ذكرنا. قوله على أيّهم أفضل تقديره على الذي هو أفضل.

قال سيبويه : (وأعلم أنه لا ينتصب شيء بعد" إن" ولا يرتفع إلّا بفعل لأنّ" إن" من الحروف التي يبنى عليها الفعل).

يعني أنّ" إن" التي للمجازاة إنما تدخل على الأفعال ؛ لأن الأفعال التي بعدها هي شروط والشروط لا تكون بالأسماء ، وذلك أنها بحدوثها توجب المعاني التي ضمّنها الشرط كقولك : " إن تأتني أكرمك" فالإكرام معنى قد ضمّنه الشارط بحدوث الإتيان ، فإذا رأيت الاسم بعد" إن" مرفوعا أو منصوبا قضيت على إضمار فعل رافع أو ناصب كما ذكرناه في قوله : " إن خيرا فخير" على تقدير إن يكن فعله خيرا أو إن يكن في فعله خير ، وكذلك قال البصريون في قوله عزوجل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ)(١). تقديره : وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ، فأحد مرفوع باستجارك المضمر ، والثاني تفسير له.

وزعم الفرّاء أنّ" أحد" مرفوع بالعائد الذي عاد إليه وهو ضمير الفاعل الذي في استجارك ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنّا إذا رفعناه بما ذكر فقد جعلنا استجارك خبرا لأحد وصار الكلام كالمبتدأ والخبر ، ولا يجوز أن يكون بعد" إن" مبتدأ وخبر. ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال : " إن زيد قائم أكرمك" ، ولا" إن زيد عندك آتك".

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٦.


فإن قال قائل : فقد رأيناكم تزعمون أنّ" لو" التي لها جواب لا يليها إلا الفعل لأن فيها معنى الشرط ، ثم يقولون" لو أن زيدا أتاني لأكرمته" ولا يقولون" أنّ زيدا قائم لأكرمته" ففصلهم بين الخبر إذا كان اسما ، وإذا كان فعلا فجعلهم الخبر إذا كان فعلا بمنزلة فعل الشرط فكذلك تقول : إن زيد قام أكرمناه" ويكون زيد مبتدأ وقام خبره ، وناب قام عن فعل الشرط فكأنا قلنا" إن قام زيد أكرمناه" في المعنى.

قيل له إنما جاز" لو أنّ زيدا قام" لأنّ" أنّ" قد وقع عليها فعل مضمر بعد" لو" على الأصل الذي قدّمناه والفعل الذي هو خبر" أنّ" تفسير له ، كأنا قلنا لو صح أنّ زيدا قام أو لو عرف.

فإن قال قائل : فكيف يكون قام دلالة على صحّ وعرف وليس هو منه.

قيل له : لا فرق بين قام زيد ، وبين صحّ قيام زيد ، ووقع قيام زيد ، فغير مستنكر أن يدل قام على صحّ لأنّ الصحة للقيام ، وقد يجوز أيضا أن يكون دلالة عليه من حيث كانا فعلين ماضيين أحدهما ملابس للآخر ؛ وأنّ وما اتصل بها بمنزلة المصدر.

فإن قال قائل : فقد رأينا الجواب بالمبتدإ والخبر ، فكيف لا يكون الشرط كذلك والجواب مضمون وقوعه لوقوع الشرط؟

قيل له وقوع المبتدإ والخبر في الجواب من أدلّ الأشياء على ما قلنا ، وذلك أنك ترى الجواب إذا كان بالفعل مجزوما لم تدخل عليه الفاء كقولك : " إن تأتني أكرمك" فإذا أدخلت الفاء قلت : إن تأتني فأنت مكرم محبوب ؛ فصار الموضع الذي ينجزم فيه الفعل لا يقع فيه الاسم ، فلمّا كانت" إن" جازمة بطل أن يقع بعدها الاسم البتّة.

ووجه آخر : لو كان الاسم يقع بعد" إن" بلا ضمير فعل لكان متى وقع هذا الموقع يكون مرفوعا ، لأن الفعل يرتفع بحلوله محل الاسم ، كقولك : " كان زيد يقوم" ، و" مررت برجل يقوم".

وأمّا قوله : فإن تأتني فأنت مكرم محبّ فهو محمول على المعنى كأنه قال تصادف كرامة وحبّا ، ومثله قوله عزوجل : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

وليس ذلك معنى يحدث عند عزمهم الطلاق ؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يزل سميعا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٧.


عليما وإنما معناه تجدوا الله سميعا عليما ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)(١).

وإن كان غفورا رحيما قبل استغفار هذا المستغفر له.

قال سيبويه : (ولو قلت : عندنا أيّهم أفضل ، أو عندنا رجل ، ثم قلت : إن زيدا وإن عمرا ، كان نصبه على كان ، وإن رفعته كان رفعه على كان ، ولا يكون رفعه على عندنا).

يعني أنك إذا قلت : إن زيد وإن عمرو فتقديره : إن كان عندنا زيد ؛ فيرتفع زيد بكان المضمرة ، ولا يجوز أن يكون تقديره : إن عندنا زيد ، لأنك إذا قلت : عندنا زيد أو في الدار زيد فإنما يرتفع زيد عند سيبويه بالابتداء ، وعندنا خبر مقدّم ، و" إن" لا بدّ لها من فعل يليها على ما بيّناه فأضمرت" كان" لذلك.

قال : (فلا يجوز بعد" إن" أن تبنى عندنا على الأسماء ولا الأسماء تبنى على عند كما لم يجز أن تبنى بعد" إن" الأسماء على الأسماء).

يعني لا تجعل عندنا خبرا للاسم إذا جئت" بإن" لأنّ" إن" لا يليها إلّا الفعل ، ولا يجعل الاسم مرفوعا بعند لأنه ليس بفعل.

قال : (ولا يجوز أن تقول" عبد الله المقتول" وأنت تريد كن عبد الله المقتول).

لأنه ليس قبله ، ولا في الحال دلالة عليه إذ كان يجوز أن يكون على معنى : " تولّ عبد الله المقتول وأجبه" وما أشبه ذلك وإنما يضمرون ما عليه الدلالة من الكلام أو شاهد من الحال.

قال : (ومن ذلك قوله :

من لد شولا فإلى إتلائها (٢)

نصب لأنّه أراد زمانا ، والشول لا يكون زمانا ولا مكانا).

والمعنى : أنّ لد إنما يضاف إلى ما بعده من زمان تتصل به أو مكان إذا اقترنت بها إلى ؛ كقولك : جلست من لد صلاة العصر إلى وقت المغرب ، وزرعت من لد الحائط إلى

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١١٠.

(٢) رواه أحمد والحاكم عن خالد بن عرفطة في مسلم عن حذيفة : الرافعي ٤ : ٨٤.


الأسطوانة ، فلمّا كان الشول جمعا للناقة الشائل لم تصلح أن تكون زمانا ولا مكانا.

والإتلاء : أن تلد فيتبعها ولدها ويتلوها ، ولم يجز أن تقول من لد زيد إلى دخول الدار لأنه ليس بزمان ولا مكان ؛ فأضمر ما يصلح أن يقدّر زمانا ، فكأنه من لد أن كانت شولا ومن لد كونها شولا إلى إتلائها ، وإن كانت بمعنى كونها وهو مصدر والمصادر تستعمل في معنى الأزمنة ، كقولك : جئتك مقدم الحاجّ ، وخلافة المقتدر ، وصلاة العصر ، على معنى أوقات هذه الأشياء.

قال : (وقد جرّه قوم على سعة الكلام ، وجعلوه بمنزلة المصدر).

يعني من لد شول إلى إتلائها.

قال أبو سعيد : والجر يحتمل وجهين :

أحدهما : أن تجعل شولا مصدرا صحيحا ، كقولك : شالت الناقة شولا إذا ارتفع لبنها ، فإذا جعلته مصدرا صحيحا جاز أن يجعل وقتا ، ويجوز أن يكون قد حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فيكون التقدير : من لد كون شول ، ثمّ يحذف كون ، كما قال عزوجل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) ، أراد أهل القرية.

قال : (واعلم أنه ليس كل حرف يظهر بعده الفعل يحذف منه الفعل ، ولكنك تضمر فيما أضمروا وتظهر فيما أظهروا ، كما تحذف ما حذفوا وتبقي ما أبقوا ، نحو : لم يكن ويك ، ولم أتل وأتال).

ولا يجوز أن تقول : لم أصن في معنى : لم أصن ، وقالوا : خذ وكل فاستعملوا بالحذف ، ولا يجوز في الكلام أوكل وأوخذ ، وإن كانا هما الأصل ، ولا يقولون : جد ومر ، وقالوا في الأمر : أومر ومر ، فاستعملوا فيه الوجهين جميعا ، وليس ذلك في غيره ، وقد بيّنا ما يقتضيه هذا الفصل من الشرح التامّ فيما مضى.

قال : (وأما قول الشاعر :

لقد كذبتك نفسك فاكذبنها

فإن جزعا وإن إجمال صبر (٢)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٢) البيت لدريد بن الصمة :

خزانة الأدب ٤ : ٤٤٢ ؛ المقتضب ٣ : ٢٨ ؛ شرح المفصل ٨ : ١٠١ ، ١٠٤.


فهذا على معنى" إمّا" ولا يكون على إن الجزاء) كما مرّ في الباب.

قال أبو سعيد : وذلك من قبل أنّا لو جعلنا" إن" ههنا للجزاء لاحتجنا إلى جواب ، وذلك أنّ جواب" إن" في ما بعدها ، وقد يكون ما قبلها مغنيا عن الجواب إذا لم يدخل عليها شيء من حروف العطف ، كقولك : " أكرمك إن جئتني" فإن أدخلت عليها فاء أو ثمّ بطل أن يكون ما قبلها مغنيا عن الجواب ، لا يجوز أن تقول : " أكرمك فإن جئتني" ولا" أكرمك ثم إن جئتني" حتى تأتي بالجواب فتقول : " أكرمك فإن جئتني زدت في الإكرام" فلذلك بطل أن يكون" فإن جزعا" على معنى المجازاة وصارت بمعنى" ألّا" لأنّها تحسن في هذا الموضع ، وحذف" ما" للضرورة قال الله عزوجل : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)(١). فلم يأت بجواب بعد" إما".

(ولو قال : " فإن جزع وإن إجمال صبر" كان جائزا كأنك قلت : أمري جزع وإما إجمال صبر ولا يجوز طرح" ما" من" إمّا" إلّا في الشعر قال النمر بن تولب : (٢)

سقته الرّواعد من صيّف

وإن من خريف فلن يعدما (٣)

فإنما يريد : وإمّا من خريف).

وقد أنكر الأصمعيّ (٤) هذا ، وزعم أنّ" إن" في بيت النمر بن تولب هي للجزاء ، وإنما أراد وإن سقته من خريف فلن يعدم الرّيّ ، ولم يحتج إلى ذكر سقته لذكره في أول البيت وإنّما يصف وعلا ، وابتداؤه :

فلو كان من حتفه ناجيا

لكان هو الصدع الأعصما (٥)

يصف أنه وإن كان في الجبل لا يعدم معاشا به.

والوجه قول سيبويه في بيت النمر ، وذلك أنه لا ذكر للرّيّ ، وإنما المعنى : سقته

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٤.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) شرح المفصل ٨ : ١٠٢ ؛ خزانة الأدب ٩ : ٢٥ ؛ الخصائص ٢ : ٤٤٣ ؛ المنصف ٣ : ١١٥ ؛ منتهى الطلب ١ : ١٤٦.

(٤) هو عبد الملك بن قريب بن أصمع بن مظهر أبو سعيد الباهلي الأصمعي إمام في النحو واللغة ولد ١٢٥ ه‍. توفي ٢١٠ ه‍ ، الفهرست : ٥٥ ، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ٢ : ١٤٧.

(٥) خزانة الأدب ٤ : ٤٣٤ ؛ الخصائص ٢ : ٤٤٣ (هامش ٤) ؛ منتهى الطلب ١ : ١٤٥.


الرواعد في الصيف وأمّا في الخريف فلن يعدم السّقي ـ أيضا ـ أي : هو يسقى من الصيف ومن الخريف ، والبيت الأول قد دلّ دلالة واضحة على أن معنى" إن" معنى" أمّا" وأنه لا يجوز أن تكون معنى التي للجزاء ، ومع ذلك فلا تحذف" ما" من إمّا إلّا في الشعر.

قال سيبويه : (ومما ينتصب على إضمار الفعل المستعمل إظهاره قولك : هلّا خيرا من ذلك ، وإلّا خيرا من ذلك ، أو غير ذلك ، كأنك قلت : " ألّا تفعل خيرا من ذلك" ، أو" ألّا تفعل غير ذلك" و" هلّا تأتي خيرا من ذلك").

قال : (وربما عرضت هذا على نفسك وكنت فيه كالمخاطب).

قال أبو سعيد اعلم أنّ هلّا ، وألّا ، ولو لا ، ولو ما ، يجرين مجرى واحدا ، ويقعن على الفعل الماضي والمستقبل ، فإذا وقعن للماضي فهو لتنديم المخاطب على ما فاته ، أو لومه على ما فرّط فيه.

وإن كان للمستقبل فهو للحضّ على إتيانه.

وأهل البصرة يسمونها حروف التحضيض ، ومن الناس من يقول إنها استفهام فإذا قلت هلّا فعلت كذا وكذا فكأنك قلت : لم لم تفعل؟ وإذا قلت : هلّا تفعل كذا فمعناه : لم لا تفعل كذا ، وهذا الذي ذكروا غير خارج عمّا ذكرنا ، لأنّا متى جعلنا هذه الحروف استفهاما على ما ذكره هذا القائل فإن جعلناها بمعنى لم فهي خارجة عن معنى الاستفهام ، وذلك أنّ" لم" وقعت هنا لمّا كان معناها الاستفهام على الحقيقة ؛ ولأن القائل لم يرد أن يستفهم ، إنما استبطأ المخاطب الفاعل على فعل فرّط فيه فحثه عليه في المستقبل ، أو فعل كان ينبغي أن يفعله فقصر فيه حتى فاته.

فإن قال قائل : قد نرى" هل" دخلت على" لا" وهي من حروف الاستفهام فصار قولك هلّا بمنزلة قولك لم لا.

قيل له : هذا الذي ذكرته لا يدلّ على ما أردته ؛ وذلك أن الحروف قد تركّب فيزول معناها الأول ، نحو قولنا : لو جئتني أكرمتك ، ومعناه : أنّ الإكرام لم يقع لعدم المجيء ، فإذا قلت : لو لا عبد الله لأكرمتك لزال ذلك المعنى بضمّ" لا" إلى" لو" ، وكذلك يزول معنى هل لضمّ لا إليها.

ومن الدليل على ما قلناه أن" لوما" و" لو لا" و" إلّا" ليست من حروف الاستفهام ،


وقد جعلن في معنى" هلّا" فصحّ ما ذكرناه من موضوع هذه الحروف.

فإن قال قائل : هذه حروف وضعن للأفعال لما فيها من معنى التحضيض فكيف حسن أن تخزل أفعالها ويليها الاسم ، ولا يجوز ذلك في قد وسوف وسائر الحروف الموضوعة للفعل ، لأنك لا تقول قد زيدا ، ولا سوف زيدا بمعنى : قد ضربت زيدا وسوف أضرب زيدا.

قيل له : هذه الحروف الأربعة لما كانت في معنى التحضيض نابت عمّا بعدها من الفعل واستغني عنه ، وأمّا قد وسوف فإنهما يغيّر ان معنى الفعل المطلق ويقصرانه على معنى بعينه ، لأنّ سوف تقصر الفعل على المستقبل وتخرجه عن الحال ، و" قد" لما يتوقع من الفعل فصار بمنزلة الألف واللام للتعريف ، فكما أنّ الألف واللام لا يفارقان ما دخلتا عليه ولا يحذف ما بعدهما ، كذلك قد وسوف وسائر الحروف الداخلة على الفعل من عوامله فهي تضعف عن حذف ما بعدها ، لأن الحذف دلالة على قوة العامل ، وقد مضى نحوه.

قال سيبويه : (وإن شئت رفعت فقد سمعنا رفع بعضه).

يعني أنه" يجوز هلّا خير من ذلك" على إضمار شيء يرفع ، كأنك قلت : " هلا كان منك خير من ذلك" أو" هلّا فعل خير من ذلك".

قال : ومن ذلك قولك : (" أو فرقا خيرا من حبّ" وإنما حمله على الفعل لأنه سئل عن فعله فأجابه على الفعل الذي هو عليه ، ولو رفع جاز كأنه قال : أو أمري فرق خير من حب ، وإنما انتصب نحو هذا على أنه يكون الرجل في فعل فيريد أن ينقله أو ينتقل إلى فعل آخر ، فمن ثمّ نصب" أو فرقا" لأنه أجاب على أفرق وترك الحبّ).

وإنما هذا كلام تكلم به رجل عند الحجّاج ، وذلك أنه كان قد فعل له فعلا فاستجاده فقال الحجاج : " أكلّ هذا حبا" أي فعلت كلّ هذا حبّا لي؟ فقال الرجل مجيبا له : " أو فرقا خيرا من حبّ" أي : أو فعلت هذا فرقا ؛ فهو أنبل لك وأجلّ.

ثم ذكر أشياء منصوبة بأفعال مضمرة ، وقد يجوز رفعها بإضمار ما يرفع ، وبعضه مجرور بإضمار ما يجرّ على ما تقدّم تفسيره من هذا الباب ، فمن ذلك : أن يقدم رجل من سفر فتقول : خير مقدم ؛ على معنى : قدمت خير مقدم ، ويجوز أن تقول : خير مقدم ؛ على معنى : قدومك خير مقدم.


وإذا خرج قلت : مصاحب معان ، ومثله : مبرور مأجور ، فإذا رفعت هذه الأشياء فالذي في نفسك ما أظهرت ، وإذا نصبتها فالذي في نفسك غير ما أظهرت.

يعني : أنك إذا رفعت فالذي أضمرت مبتدأ ، والذي ظهر هو خبره ، والمبتدأ هو الخبر.

وإذا نصبت فالذي أضمرت فعلا ، والفعل غير الاسم ؛ لأنك إذا قلت : مصاحبا معانا فتقديره : اذهب مصاحبا معانا.

قال : (ومن ذلك أن ترى رجلا قد أوقع أمرا أو تعرّض له فتقول : " متعرضا لعنن لم يعنه") كأنه قال : فعل هذا متعرضا ، والعنن : ما عنّ لك ، أي عرض لك ، أي دخل في شيء لا يعنيه ولا ينبغي له التشاغل به.

(ومثله : " مواعيد عرقوب أخاه بيثرب" (١) كأنه قال وعدتني مواعيد عرقوب) وهو رجل وعد وعدا فأخلف وله قصة طويلة.

وقال أبو عبيدة : (٢) " مواعيد عرقوب أخاه بيثرب" لأنّ عرقوبا رجل من العماليق ، وكانوا بالبعد من يثرب ، ويثرب بالثاء وفتح الراء : موضع عندهم.

قال : (ومن العرب من يقول : " متعرّض" على معنى : هو متعرض ، ومثله" غضب الخيل على اللّجم" ، وذلك إذا رأيت رجلا غضب غضبا لا يضير ، أي غضبت كغضب الخيل على اللّجم).

قال : (ومن العرب من يرفع فيقول غضب الخيل على اللّجم كما رفع بعضهم" الظباء على البقر") إذا قال غضب الخيل على اللّجم.

فإذا قال الظباء على البقر فتقديره : الظباء متروكة على البقر ، وإذا نصب فقال : " الظباء على البقر" فكأنّه قال : اترك الظباء على البقر ، وإنما يعني بقر الوحش لأنها ترعى مع الظباء في موضع ، وبعضها أولى ببعض قال :

__________________

(١) هو عجز بيت لجبيهاء الأشجعي صدره :

وعدت وكان الخلف منك سجية

جمهرة الأمثال ١ : ٤٣٣.

(٢) هو معمر بن المثنى ، أبو عبيدة التميمي البصري النحوي اللغوي توفي ٢٠٨ ه‍ وفيات الأعيان ٢ : ١٠٥ ، الفهرست : ٥٣ ، المعارف : ٢٣٦.


ولقد ذعرت بنات عم

م المرشقات لها بصابص (١)

أراد البقر وجعلها بنات عمّ الظباء وهي المرشقات ، وإنما يقول القائل هذا إذا نهى صاحبه عن الدخول بين أقوام بعضهم أولى ببعض.

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره استغناء عنه

(سأمثله لك مظهرا لتعلم ما أرادوا إن شاء الله تعالى).

قال أبو سعيد رحمه‌الله : قد تقدم من كلام سيبويه أن ما ينتصب بالفعل على ثلاثة أضرب :

ضرب منها : لا يجوز إضمار الفعل الناصب له.

وضرب منها : يجوز إضماره ويحسن إظهاره.

وضرب : يضمر ويترك إظهاره.

وهذا الباب ترجمته لأبواب تأتي بعده مفصلة إن شاء الله تعالى.

هذا باب ما جرى على الأمر والتحذير

(وذلك قولك : إذا كنت تحذّر : إيّاك ، كأنك قلت : إياك نحّ وإياك باعد ، ومثله أن تقول : نفسك يا فلان ، أي اتق نفسك).

هذا الذي ذكره سيبويه من إضمار الفعل صحيح ، وبعض النحويين يأباه ، ويزعم أنه لا مضمر ينصبه ، وكذلك يزعم في قولنا : خلفك زيد ، أنّ خلفك ينتصب لا بإضمار فعل ولكن بمخالفته ما بعده.

وهذا كلام فاسد ، لأنّ المنصوب لا بد له من ناصب مضمرا كان أو مظهرا ، وليست مخالفة أحدهما للآخر بموجبة نصبا من قبل أن كلّ واحد منهما قد خالف صاحبه ؛ فلو كانت المخالفة توجب النصب انتصبا جميعا ؛ لأن كلّ واحد منهما قد خالف الآخر ، ففي كل واحد منهما مخالفة توجب له النصب ، فعلم أن المخالفة لا تنصب.

وهذا الفعل الناصب لإيّاك لا يحسن إظهاره ، وذلك أن العرب اكتفت بإياك وكان موضعها غير مشكل.

__________________

(١) قائله : أبو دؤاد ، ديوانه : ٣٢٢ ، وهو ضمن كتاب (دراسات في الأدب العربي) للمستشرق (جوستاف جرونباوم) ترجمة : إحسان عباس ، بيروت ١٩٥٩ ؛ تاج العروس (رشق).


قال : (ومن ذلك قولك : إيّاك والأسد ، وإياك والشرّ).

وأما قوله : إيّاك والأسد فإنه يضمر فعلا ينصب به إياك ، كما قدّمنا ، ويعطف الأسد على إياك كأنه قال : زيدا فاضرب وعمرا.

فإن قال قائل : إذا جعلت الأسد عطفا على إياك بالواو فقد شاركه في معناه. لأن المعطوف بالواو يشارك المعطوف عليه. ألا ترى أنّك تقول : ضربت زيدا وعمرا ؛ فالضرب واقع عليهما جميعا ، فينبغي أن يكون الأسد مشاركا لإياك ؛ فيكون الأسد مشاركا مخوفا كما كان المخاطب ، أو يكون المخاطب محذورا مخوفا كما أن الأسد محذور مخوف.

قيل له : لا يستنكر أن يكون التخويف واقعا بهما وإن كان طريق التخويف مختلفا ؛ ألا ترى أنك تقول : خوّفت زيدا الأسد ؛ فزيد مخوّف والأسد مخوّف وليس معناهما واحدا إلّا أن الأسد مخوّف منه وزيد مخوّف ، على معنى أنه يجب أن يحذر منه ، ولفظ خوّفت قد تناولهما جميعا ، وكذلك إياك والأسد المعنى الناصب لهما معنى واحد وإن كان طريق التخويف مختلفا فيهما.

وأمّا إياك والشر فليس يخاطب نفسه ولا يأمرها ، وإنما يخاطب رجلا يقول له :

إيّاك باعد عن الشرّ فينتصب إيّاك بباعد وما أشبهه ، وتحذف حرف الجر من الشرّ وتوقع الفعل المقدّر عليه فيعطفه على الأوّل لأنّ الفعل قد وقع على الأول.

ومثله : إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب ، يعني : يرميه بسيف أو ما أشبهه ، وأن في موضع نصب كأنّه قال : إيّاي وحذف أحدكم.

وزعم الزجّاج (١) أنّ معناه : " إيّاي وإيّاكم وأن يحذف أحدكم الأرنب" والذي قاله لا يحتاج إليه ؛ لأن قوله وأن يحذف أحدكم قد دلّ على أنهم حذّروا من فعلهم أن يأتوه إلى المتكلم.

(وزعم أن بعضهم يقال له : إياك ، فيقول : إيّاي) كأنّه أعاد لفظ المتكلم لما قيل له منه واستجاب له ، كأنّه قال : إياي احذر احفظ ، وحذفهم الفعل الناصب لإيّاك لما كثر

__________________

(١) هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج له معاني القرآن توفي ٣١١ ه‍ معجم الأدباء ١ : ١٣٠ ، الفهرست ٦٠ ، مراتب النحويين ١٣٦.


استعمالهم له وصيروا لفظه نائبا عن المضمر كحذفهم" حينئذ الآن".

قولهم : حينئذ الآن كلام جرى للعرب محذوفا من حينئذ ومن الآن ، ومعنى ذلك : أن ذاكرا ذكر شيئا فيما مضى يستدعي مثله في الحال فقال له المخاطب : حينئذ الآن معناه : كان هذا الذي ذكرت حينئذ في الوقت الذي ذكرت واسمع الآن غير ذلك أو نحوه من التقدير ، ولا يستعملون الفعل الذي حذف ، وكذلك لا يستعملون الفعل الناصب لإيّاك.

قال : وإذا قلت : إياك والأسد فلا بدّ من الواو لأنه اسم مضموم إلى آخر. يعني معطوف عليه.

فإن قال قائل : فقد تقول : إياك من الأسد وإيّاك من الشرّ فلم لا يجوز حذف حرف الجر وإيصال الفعل إلى الأسد وإلى الشرّ؟ فيقال : إيّاك الأسد وإياك الشرّ.

قيل له : لأن حروف الجر لا تحذف إلّا في المواضع التي حذفتها العرب فيها ، ألا ترى أنك تقول : أخذت من زيد درهما ، ولا يجوز أخذت زيدا درهما ، وتقول : اخترت من الرجال زيدا وتحذف" من" فتقول اخترت الرجال زيدا ، لأن العرب قد استعملت ذلك ، قال الله عزوجل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(١).

وكان ابن أبي إسحاق يجيز حذف من فيقول : إياك الشرّ في الشعر وأنشد :

فإيّاك إياك المراء فإنّه

إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (٢)

قال سيبويه : (المراء منصوب بفعل غير الفعل الذي نصب إياك ، كأنه لما قال : إياك اكتفى ثم أضمر فعلا آخر نصب به المراء كأنه قال : اتق المراء ، وإذا قال : إياك وأن تكلم زيدا جاز أن تقول : إياك أن تكلم زيدا بغير واو ولا حرف جر ، وإنّما جاز هذا في" أنّ" لأنّ" أن" الخفيفة والمشددة إذا اتصلت بهما حروف الجر جاز حذفها كقولك : أنا راغب في أن ألقاك وحريص على أن أحسن إليك ، ولو قلت : أنا راغب أن ألقاك وحريص أن أحسن إليك جاز ، ولو جعلت مكان أن المصدر فقلت أنا راغب في لقائك حريص على الإحسان إليك لم يجز حذف حرف الجر ، لا يجوز : أنا راغب

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٥.

(٢) ينسب للفضل بن عبد الرحمن بن عباس القرشي : الخصائص ٣ : ١٠٤ ؛ شرح المفصل ٢ : ٢٥ ؛ إنباه الرواة ٤ : ٧٠ ؛ ومعجم الشعراء ١٦٠.


لقاءك وحريص الإحسان إليك ، وإنما لم يجز في المصدر المحض ما جاز في" أن" لأن" أن" ؛ وما بعدها من الفعل وما يتعلق بالفعل من فاعل أو مفعول بمعنى المصدر وطال فجوزوا حذف حرف الجر منها لطول الكلام.

ومن ذلك قولهم : رأسه والحائط ، كأنه قال : خلّ رأسه مع الحائط ، وقولهم : شأنك والحجّ ، كأنه قال : شأنك مع الحج ، ومن ذلك امرأ ونفسه ، كأنك قلت : دع امرءا مع نفسه ، فصارت الواو في معنى مع كما صارت في معنى مع : في قوله ما صنعت وأخاك).

لأنه إذا حذف" مع" وهي منصوبة قام ما بعد الواو مقامها في النصب.

وقد ذكرنا نحو هذا في غير هذا الموضع.

قال سيبويه : (وإن شئت لم يكن فيه ذلك المعنى وهو عربيّ جيد).

يريد إن شئت لا تقدر" مع" وجعلت كل واحد منهما منصوبا بالفعل ، وعطفت أحدهما على الآخر أدّى معنى" مع" وإن لم يكن مقدرا بلفظه ، كأنه قال : عليك رأسك وعليك الحائط ، وكأنه قال : دع امرأ ودع نفسه ، وليس ينقض هذا ما أردت في معنى" مع" من الحديث ، ومثل ذلك" أهلك والليل" كأنه قال بادر أهلك قبل الليل". وتحقيق المعنى في ذلك أنه عطف الليل على الأهل وجعلهما مبادرين ، ومعنى المبادرة : مسابقتك الشيء إلى الشيء كقولك : بادرت زيدا المنزل ، كأني سابقته إليه ، فكأن الليل والرجل المخاطب يتسابقان إلى أهل الرجل ، فأمره الآمر أن يسابق الليل إليهم ليكون عندهم قبل الليل.

وقال : (قال بعض العرب : " ماز رأسك والسيف" كما تقول : رأسك والحائط وهو يحذّره كأنه قال : اتق رأسك والحائط).

وقولهم : " ماز رأسك والسيف" كثير من النحويين يقولون : إنه أراد ترخيم مازن فلم يكن اسم الرجل الذي خوطب بهذا مازنا ، ولكنه كان من بني مازن بن العنبر بن عمرو بن تميم وكان اسمه كدلما أسر بجيرا القشيريّ ، فجاءه قعنب اليربوعيّ ليقتله ، فمنع المازني منه ، فقال للمازنيّ : ماز رأسك والسيف ، وترخيمه على أحد وجهين : إمّا أن يكون سمّاه بمازن ؛ إذ كان من مازن ، وقد تفعل العرب مثل هذا في بعض المواضع ، كقولهم : " الأشعرون" يريدون الأشعريون ، جعلوا كل واحد منهما مسمّى بالأشعر الذي هو اسم جد ، ثم ترخّمه على ذلك.


وإمّا أن يكون ترخيما بعد ترخيم ؛ كأنه رخم مازنيا فصار مازنا ، ثم رخّم مازنا فصار ماز ، ونحوه مذكور في الترخيم. وتقديرهم : اتق رأسك والحائط على تقديرين في الانتصاب ، ومعناه : اتق رأسك أن يدقه الحائط أو يكسره أو نحو ذلك ، واتق الحائط أن يصيب رأسك بسوء ، وإذا ثنّيت هذه الأشياء لم تذكر الفعل معها ، ولو قلت : الليل الليل لم يحسن أن تقول بادر الليل الليل ، وإذا قلت الليل منفردا حسن أن تقول : بادر الليل ، وكذلك لو قال قائل : الله الله في أمري لم يحسن أن تقول : اتق الله الله في أمري.

وإذا قال : الطريق الطريق ، لم يحسن أن تقول : خلّ الطريق الطريق ، وإذا قال : الطريق حسن أن تقول : خلّ الطريق ؛ كما قال جرير :

خلّ الطريق لمن يبني المنار به

وابرز ببرزة حيث اضطرّك القدر (١)

والاسمان المعطوف أحدهما على الآخر لا يذكر الفعل فيهما ـ أيضا ـ كقولك : رأسك والحائط و" امرأ ونفسه" ولو أفردت أحدهما حسن لو قلت : اتق رأسك ، أو احفظ نفسك ، واتق الجدار ، كان جائزا حسنا وقبح في التكرير ؛ لأنك لما كررت شبّه الأول من اللفظين بالفعل فأغنى عنه وصار بمنزلة" إياك" النائب عن الفعل ، كما كانت المصادر كذلك ، كقولهم : الحذر الحذر ، والنجاء النجاء ، وضربا ضربا ، كأنهم جعلوا الأول بمنزلة الزم وعليك ونحوه من تقدير الفعل ، ودخول فعل على فعل محال.

قال سيبويه : (ومن ثم قال عمرو بن معدي كرب :

أريد حباءه ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد (٢)

وقال الكميت :

نعاء جذاما غير موت ولا قتل

ولكن فراقا للدّعائم والأصل (٣)

__________________

(١) البيت لجرير :

ديوانه ١ : ٢١١ ؛ المقاصد النحوية ٤ : ٣٠٧ ؛ شرح الأشموني ٢ : ٤٨١ ؛ شرح المفصل ٢ : ٣٠ ؛ لسان العرب (برز).

(٢) البيت لعمرو بن معدي كرب :

شرح المفصل ٢ : ٢٦ ؛ الأغاني ١٠ : ٢٧ ؛ خزانة الأدب ٦ : ٣٦١ ، ١٠ : ٢١٠ ؛ تاج العروس (عذر) ، الشطرة الأولى من البيت مثل تمثل به أمير المؤمنين علي ـ كرّم الله وجهه ـ حين ضربه ابن ملجم لعنه الله ، الميداني ٢ : ٥٧.

(٣) ينسب للكميت البيت غير موجود في ديوانه :


وكقول ذي الإصبع :

عذير الحيّ من عدوا

ن كانوا حيّة الأرض (١)

ولا يظهر الفعل الذي نصب عذير ، ولا الفعل الواقع على نعاء ، لأن ذلك أقيم مقام الفعل ، ودخول فعل على فعل محال).

قال أبو سعيد : أنا أذكر أصل عذيرك وما يراد به لينكشف معناه والفعل الناصب له :

تقول العرب : من يعذرني من فلان ، ويفسّر على وجهين :

أحدهما : من يعذرني في احتمالي إياه.

والآخر : من يذكر لي عذرا فيما يأتيه وقوله : عذيرك من خليلك يخرّج على وجهين :

أحدهما : من يعذرني في احتمالي إياه وإن لم يذكر لي عذره فيما يأتيه.

والآخر : من يذكر عذره فيما أتاه أو نحوه من الألفاظ ، واختلفوا في عذير ؛ فقال بعضهم : هو بمنزلة عاذر يقال : عاذر وعذير كشاهد وشهيد ، وقادر وقدير ، وعالم وعليم.

وضعّف المفضّل بن سلمة اللغوي (٢) هذا أن يكون بمعنى العذر مصدرا قال :

" لأن المصادر على فعيل لا تأتي إلّا في الأصوات ، نحو : الصرير والصهيل والصليل والزئير ، وأجاز أن يكون مصدرا بمعنى العذر غير أنه اختار الأول ، وسيبويه يقدر عذير تقدير عاذر ، وقد أفصح به في غير هذا الموضع".

فإذا قال : عذيرك على معنى عاذرك كأنه قال : هات عاذرك أو أحضر عاذرك ،

__________________

الإنصاف ٢ : ٥٣٩ ؛ سيبويه ١ : ١٣٩ ؛ شرح المفصل ٤ : ٥١ ؛ تاج العروس (جذم) ؛ اللسان (نعا).

(١) ديوانه : ٤٦ ، الأغاني ٣ : ٨٩ ؛ الشعر والشعراء ٢ : ٧٠٨ ؛ خزانة الأدب ٢ : ٤٠٨.

(٢) هو المفضل بن سلمة بن عاصم أبو طالب اللغوي أخذ عن ابن السكيت وثعلب له تصانيف كثيرة : البارع ، معاني القرآن ، المقصور والممدود.

تاريخ بغداد ١٣ : ١٢٤ ، معجم الأدباء ١٩ : ١٦٢ مراتب النحويين ١٥٧.


وكذلك أحضر عاذر الحيّ من عدوان ، ونعاء في معنى أنع من النعي وهو اسم واقع موقع فعل مثل نزال وحذار ، ولا يحسن ذكر الفعل معه.

هذا باب ما يكون معطوفا في هذا الباب على

الفاعل المضمر في النية

(ويكون معطوفا على المفعول وما يكون صفة المرفوع المضمر في النية ويكون معطوفا على المفعول.

وذلك قولك :

إياك أنت نفسك أن تفعل ، وإياك نفسك أن تفعل ، فإن عنيت الفاعل المضمر في النية قلت : إياك أنت نفسك ، كأنك قلت : إياك نحّ أنت نفسك ، وحملته على الاسم المضمر في نحّ ، فإن قلت : إياك نفسك تريد الاسم المضمر الفاعل فهو قبيح ، وهو على قبحه رفع ، ويدلك على قبحه أنك لو قلت : اذهب نفسك كان قبيحا حتى تقول أنت نفسك فمن ثمّ كان نصبا لأنك إذا وصفت بنفسك المضمر المنصوب بغير أنت كان حسنا تقول : رأيتك نفسك ولا تقول : انطلقت نفسك).

قال أبو سعيد : قد تقدم في الباب الذي قبله أن قولنا : إياك وما جرى مجراه منصوب بفعل مضمر ، وذلك الفعل فعل المخاطب ، وله فيه ضمير مرفوع وهو فاعل ذلك الفعل وإياك ضميره ـ أيضا ـ وهو منصوب فصار بمنزلة قولك للمخاطب : إياك ضربت ، وإياك نفعت ، فما صلح أن يكون توكيدا للتاء الفاعلة صلح أن يكون توكيدا للضمير في الفعل المحذوف ، وما صلح أن يكون عطفا على التاء صلح أن يكون عطفا على ذلك الضمير المقدر ، وكذلك التوكيد المنصوب ، فلما لم يحسن أن تقول : قمت نفسك ، حتى تقول : قمت أنت نفسك ، لم يصلح أن تقول : إياك نفسك فتجعل نفسك توكيدا حتى تقدم قبله أنت.

ولو قلت : رأيتك نفسك ، لحسن من غير توكيد ، وكذلك لو قلت : إياك نفسك لحسن.

وإنما لم يحسن في المرفوع ألا يتقدمه توكيد قبل النفس ؛ لأن المرفوع يكون في النية بغير علامة ، والمنصوب لا يكون إلا بعلامة ، وقد يقع في المرفوع اللبس في بعض


الأحوال ، وذلك أنك لو قلت : هند خرجت نفسها ، فجعلت في خرجت ضميرها ، ثم جعلت النفس توكيدا لضميرها في خرجت لجاز أن يتوهّم أن الفعل للنفس فيصير كقولك : هند خرجت جاريتها ، فإذا قلت : خرجت هي نفسها ، علم أنها توكيد ، والعطف بهذه بمنزلة إذا قلت : إياك وزيدا والأسد ، فهو مستحسن لأنك عطفت زيدا على المنصوب وهو : إياك ولو قلت : إياك وزيد لم يحسن حتى تقول : أنت وزيد ، كما لم يحسن : اذهب وزيد ، حتى تقول : اذهب أنت وزيد ، وإن قلت : رأيتك ، قلت : ذاك وزيدا بالنصب أحسن في زيد لأنك تعطفه على الكاف في : رأيتك ، ولو رفعته لكنت عاطفا على تاء قلت ، وهو ضمير مرفوع فلا يحسن ، وأنشد سيبويه لجرير :

وإيّاك أنت وعبد المسي

ح أن تقربا قبلة المسجد (١)

فنصب عبد المسيح بالعطف على إياك ، وأنشده يونس منصوبا ، ولو رفع كان حسنا أيضا ؛ لأن أنت تجعل توكيدا للضمير المرفوع المقدر ، فيحسن حينئذ العطف عليه ، ولا يجوز أن تقول : إياك زيدا ، لأن زيدا لا يخلو من أن تجعله عطفا على إياك ، فلا يجوز حذف حرف العطف منه ، كما لا يجوز أن تقول : رأيت زيدا عمرا ، على معنى رأيت زيدا وعمرا ، أو على معنى إياك من زيد ، أي اتق نفسك من زيد ، واحذر نفسك من زيد ، فلا يجوز حذف حرف الجر في هذا الموضع ، وكذلك لا تقول : رأسك الجدار ، حتى تقول : من الجدار ولو جئت بأن ، فقلت : إياك من أن تكلم زيدا ، لجاز أن تقول : إياك أن تكلم زيدا ، وذلك أن" أن" الخفيفة والمشددة يجوز طرح حروف الجر منها إذا كانت في صلة فعل ؛ لأنها وما بعدها بمنزلة المصدر فطالت فحسن حذف حروف الجر لطولها تخفيفا ، كما حسن في الذي حذف العائد مع الفعل ، ولو جئت بالمصدر لم يحسن حذف حرف الجر ، لا تقول : إياك ضرب زيد كما تقول : إياك أن تضرب زيدا ، لأنه لم يطل كطول" أن" وأما قوله :

إيّاك إيّاك المراء فإنّه

إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (٢)

فإن سيبويه ذهب إلى أن المراء منصوب بفعل غير الفعل المقدر لإياك ، كأنه أضمر

__________________

(١) البيت لجرير ديوانه ٢ : ١٠٢٧.

(٢) البيت سبق تخريجه.


بعد إياك : اتق المراء ، وقد يجوز أن يكون حمل المراء على أنه تمادى في إسقاط حروف الجر.

وقال الخليل (١) رحمه‌الله : لو أن رجلا قال : إياك نفسك لم أعنّفه لأن هذه الكاف مجرورة.

قال سيبويه : (وحدّثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول : " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيّا الشوابّ").

قال أبو سعيد : اختلف الناس في إياك وإياه وإياي وتثنية ذلك وجمعه في تأنيثه وتذكيره ، فقال الخليل رحمه‌الله : ولم يذكر سيبويه خلافا له أن إيا : اسم مضاف إلى ما بعده ، وأن ما بعده في موضع خفض.

وجماعة من النحويين يخالفون هذا ، وقالوا : لا يجوز أن يكون إيا مضافا لأنه ضمير ، والضمير لا يضاف ، وما حكاه الخليل شاذ لا يعمل عليه ولا يعرف ، وجعلوا الكاف في إياك وسائر ما يقع بعدها من الضمائر لا موضع لها مثل الكاف في ذاك وذاكما ، والصحيح عندي ما قاله الخليل رحمه‌الله ، وذلك إني رأيت ما يقع بعد أي من الضمير هو الضمير الذي كان يقع للمنصوب لو كان متصلا بالفعل ؛ لأنك تقول : ضربتك ، ثم تقول : إياك ضربت ، وضربتكما ، وإياكما ضربت وضربتكم ، وإياكم ضربت ، وضربتكن وإياكن ضربت ، وضربته وإياه ضربت ، وضربتهما وإياهما ضربت ، وكان حق هذا الضمير أن يكون متصلا بفعل ، فلما قدموه لما يستحقه المفعول به من التقديم والتأخير ، أتوا ب" إيا" فتوصلوا بها إلى الضمير المتصل ، وإيا : هو اسم ظاهر واتصال الأسماء بالأسماء يوجب للثاني منهما الخفض ، وجعلوا إيا هو الذي يقع عليه الفعل ، وقد رأيناهم فعلوا شبيها بهذا حيث قالوا : يا أيها الرجل ، لأنهم أرادوا نداء الرجل ، فلم يمكن نداؤه من أجل الألف واللام ، فأتوا بأي فجعلوه وصلة إلى الألف واللام ، وأوقفوا حرف النداء عليه وأعطوه حقه من لفظ المنادى ، وجعلوا المقصود بالنداء نعتا له ، كما قالوا : يا زيد العاقل ، ولا أبعد أن يكون لفظ" إيا" هو فعلى من أي ، وأخذ أحدهما من الآخر

__________________

(١) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري أبو عبد الرحمن صاحب العربية والعروض وحصر أشعار العرب بها عمل كتاب العين توفي ١٥٧ ه‍.

الفهرست ٤٢ ـ معجم الأدباء ١ : ٣٤١ وفيات الأعيان ١ : ١٧٢.


لاشتراكهما في الوصلة.

وما حكاه الخليل شاذ في الظاهر ، لأن الظاهر في التقديم والتأخير على حال واحدة.

فإن قال قائل فأنت تقول : إياي ضربت ، ولا يجوز أن تقول : ضربتني ، والفعل لا يقع على المتكلم من نفسه ، ولو وقع عليه لكان : بنون وياء كقولك : ظننتني فلم يغير حكمه في إيا ، وأنت تزعم أنها وصلة إلى اللفظ كما كان يتصل بالفعل.

قيل له : لما توصلوا بإيا وصار في حكم الظاهر المضاف ، وجعلوا ما بعد" إيا" في موضع خفض بطلت النون التي قبل الياء كما بطلت من عصاي وهداي ، وصار تعدي الفعل إليه من نفسه كتعديه إلى النفس في قولك : نفس ضربت ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.

ثم ذكر سيبويه أشياء من كلام العرب وأشعارها حذفوا فيها الفعل ، فمن ذلك قول : العرب : " هذا ولا زعماتك" معناه : أن المخاطب كان يزعم زعمات ، فلما ظهر خلاف قوله ، قال : هذا الحق ولا زعماتك ، ولا أتوهم ما زعمته ، ومنه قول ذي الرمة :

ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا

ولا يرى مثلها عجم ولا عرب (١)

كأنه قال : اذكر ديار مية ، ولكنه لا يذكر" اذكر" لكثرته في كلامهم ، ولم يذكر : ولا أتوهم زعماتك لكثرة استعمالهم إياه ، ولاستدلاله بما ينبئ من حاله ومن أنه ينهاه عن زعمه ، وقد يدخل هذا المثل في أن يقال للإنسان إذا زعم شيئا في رأي يراه ومشورة يشير بها أن يقول هذا لرأي آخر أصح من ذاك" هذا ولا زعماتك" ، أي : هذا حق صحيح دون ما زعمته.

(ومن ذلك قول العرب : " كليهما وتمرا" (٢) وكثر هذا في كلامهم).

وجرى مثلا ، والتقدير : اعطني" كليهما وتمرا ، كأن إنسانا خيّر آخر بين شيئين فطلبهما جميعا المخيّر وزيادة عليهما ، فقال : أعطنيهما وتمرا ، ومنهم من يرفع كليهما وينصب التمر فيقول : كلاهما وتمرا ، كأنه قال : كلاهما لي ثابتان وزدني تمرا.

ويقول بعضهم : " كل شيء ولا هذا ، وكل شيء ولا شتيمة حر" أي : ائت كل

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) مجمع الأمثال ٣ : ٣٨ ، جمهرة الأمثال ٢ : ١٣٧ ، خزانة الأدب ٢ : ٣٦٥ ديوان عمرو بن حمران الجعدي.


هذا ، ومنهم من يقول : كل شيء ولا شتيمة حر ؛ فيرفع الأول وينصب الثاني ، كأنه قال : كل شيء أمم ولا تشتمنّ حرّا ، أي : كل شيء قصد يحتمل : ولا تشتمنّ حرّا.

وقد ذكر في هذا الباب أشياء فيها حذف لأنها أمثال ، واعتمد على أنّ ترك الفعل فيها لأنها أمثال.

فإن قال قائل : ما السبب الذي سوغ الحذف في الأمثال؟

قيل له : أصل الأمثال أن يتكلم الإنسان بحضرة قوم ، وفي كلامه من الألفاظ ما يستطرفه بعضهم من الألفاظ فيعيد اللفظ المستطرف ، فربما أعاد جملة الكلام ، وربما كان على سبب لا يعيده ولا يذكره ولا يتم إلا بذلك السبب ، ويقع فيه ضمير ليس في الكلام ما يعود إليه ، لأنه المتمثّل استطرفه وتمثّله فلا حاجة به إلى ذكر ما حذف من الكلام لأن المتبقي هو المثل ، فمن ذلك قول العرب : " كلاهما وتمرا" ، أو" كليهما وتمرا" ، وذلك في كلامهم أكثر من أن يحصى ، ومما لم يذكره قولهم : " أسعد أم سعيد" (١) ، وهو مبتدأ لم يذكر خبره ، والمتمثل يذكره في غير سعد وسعيد في الشيء الذي يبدو ولا يدرى ما هو ، فيقال : أسعد أم سعيد معناه : أخير أم شر ، وكذلك قولهم : " لكن الأثلاث لحم لا يظلّل" (٢) ، وقد علمنا أن لكن لا يبتدأ به ولكن ابتدأه قائل هذا على كلام يجري فترك ذكر الكلام ، وكذلك" ثكل أرأمها ولدا" في المثل ضمير ليس فيه ما يعود إليه ، ومن العرب من يقول : ديار مية وسائر ما يجيء من ذكر الديار في هذا الموضع ، كأنه يقول :

تلك ديار مية ، وقال الشاعر :

اعتاد قلبك من سلمى عوائده

وهاج أهواءك المكنونة الطّلل

ربع قواء أذاع المعصرات به

وكلّ حيران سار ماؤه خضل (٣)

كأنه أراد : ذاك ربع.

قال أبو سعيد : ويجوز أن يكون جعل" ربع قواء" بدلا من الطلل ، كأنه قال : أهواك ربع قواء ، قال ومثله :

__________________

(١) يقرب في العناية بذي الرحمة جمهرة الأمثال ١ : ١٥٥.

(٢) قاله بيهس في قصة إخوته المقتولين الميداني ١ : ٢٦٨ ، ٣ : ١٤٦.

(٣) شرح شواهد المغني ٢ : ٣٨٥ ، نسبهما ل (عمر بن أبي ربيعة) ؛ الخصائص ١ : ٢٩٧ ، ٣ : ٢٢٩.


هل تعرف اليوم رسم الدار والطّللا

كما عرفت بجفن الصّيقل الخللا

دار لمروة إذ أهلي وأهلهم

بالكانسيّة نرعى اللهو والغزلا (١)

ويروى بالكامسية ، كأنه قال : " تلك دار لمروة" وهو يقوّي التفسير في" ربع قواء" لأنه يحتمل البدل.

(قال : فإذا رفعت فالذي في نفسك ما أظهرت ، وإذا نصبت فالذي في نفسك غير ما أظهرت ، يعني : أنك إذا رفعت فالذي حذفت هو الذي ظهر ، لأن المحذوف مبتدأ وهذا خبره ، والمبتدأ هو الخبر ، وإذا نصبت فالذي أضمرت هو الفعل ، وهو غير الاسم الظاهر).

قال : (ومما ينتصب في هذا الباب على إضمار الفعل المتروك إظهاره : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ)(٢) و" وراءك أوسع لك" ، و" حسبك خيرا لك" ، إذا كنت تأمره).

قال أبو سعيد"(انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ)(٣). وما جرى مجراه فيه ثلاثة أقاويل للنحويين ، ونظيره في القرآن : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ)(٤).

قال سيبويه : (إنما نصبت خيرا وأوسع لك ، لأنك إذا قلت : انته ، فأنت تريد أن تخرجه من أمر وتدخله في آخر).

وقال الخليل : كأنك تحمله على ذلك المعنى ، كأنك حين قلت : انته وادخل فيما هو خير لك فنصبته لأنك قد عرفت أنك إذا قلت : " انته" أنك تحمله على أمر آخر ، فلذلك انتصب ، وحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه في الكلام ، ولعلم المخاطب أنه محمول على أمر حين قال : انته ، فصار بدلا من قوله : ائت خيرا.

ويقوي قوله الخليل وسيبويه أنك إذا أمرته بالانتهاء ، فإنما تأمره بترك شيء ، وتارك الشيء آت ضده ، فكأنه أمره أن يكفّ عن الشر والباطل ويأتي الخير.

__________________

(١) البيتان لعمر بن أبي ربيعة ، الديوان : ٣٢٠.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٧١.

(٣) سورة النساء ، الآية : ١٧١.

(٤) وليست بنصها في الكتاب الكريم ، وتوجد لفظه : (خيرا) في آيتين من سورة آل عمران وهما (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.)(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ.) (الآيتان ١١٠ ، ١٨٠ من سورة آل عمران).


وقال الكسائي : معناه انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم ، فأنكره الفراء وقال قولا قريبا فيه وفي أمثاله ، فقال في قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.) أنّ خيرا متصلا بالأمر ، واستدل على ذلك أنّا نقول : اتق الله هو خير لك ، تريد : الاتقاء خير لك ، فإذا حذفنا" هو" الذي يرتفع به خير وصل الفعل إليه فنصبه.

ويكشف قول الفراء أنا نقدر" خير" تقدير مصدر فعل الأمر الذي هو في الكلام ، كأنه قال : انتهوا انتهاء خيرا لكم ، وآمنوا إيمانا خيرا لكم ، واتق الله اتقاء خيرا لك.

قال : ولا يجوز أن تقول : " اتق الله محسنا" ونحن نريد أن : " اتق الله تكن محسنا" ، ولا تقول : " انصرنا أخانا" ، ونحن نريد : تكن أخانا ، وهذا رد صحيح ، وذكر أن هذا الحرف لم يأت إلا فيما كان على باب أفعل ، نحو : خير لك.

وأفعل وما أشبهه ، وقول الخليل أقوى لأنه قد جاء هذا فيما ليس بمصدر ، وهو قولهم :

وراءك أوسع لك ، وأوسع مكان.

وأنشد سيبويه في نحو ذلك قول عمر بن أبي ربيعة :

فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبا بينهما أسهلا (١)

قدّر أنه : أراد : ائت أسهل ، لأنه لما قال : واعديه ، دلّ على أنها تقول : ائت مكان كذا وكذا.

وأسهل على وجهين :

أحدهما : مكانا سهلا ليس فيه رمل ليس بخشن ، ونحو ذلك.

والآخر : أن يكون أسهل مكانا يعنيه بين سرحتي مالك والربا.

قال سيبويه : (فإنما ذكرت لك ذلك لأمثّل الأول به ، لأنه قد كثر في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل ، فحذف كحذفهم : " ما رأيت كاليوم رجلا").

__________________

(١) بيت لعمر بن أبي ربيعة : ديوانه : ٤٧٤ ، وروايته :

وواعديه ...

أو الربى دونهما منزلا

وفي رواية الأغاني :

سلمي عديه ...

 ... دونهما منزلا

خزانة الأدب ١ : ٢٨٠ ، ٢ : ١٢٠.


قال أبو سعيد : يريد : أي ذكرت هذا المحذوف منه الفعل المذكور خيرا وهو من قولك :

" هذا ولا زعماتك" ، إلى الموضع الذي انتهينا إليه ليمثل باب إياك وما اتصل به ، وقولهم : ما رأيت كاليوم رجلا ، تقديره : ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلا.

قال : ومثل ذلك قول القطامي :

فكرّت تبتغيه فصادفته

على دمه ومصرعه السّباعا (١)

ومثله أيضا :

لن تراها ولو تأمّلت إلّا

ولها في مفارق الرّأس طيبا (٢)

وإنما نصب هذا لأنه حين قال :

فصادفته ، وقال : لن تراها فقد علم أنّ السباع والطّيب قد دخلا في الرؤية والمصادفة ، وأنهما قد اشتملا على ما بعدهما في المعنى ، ومثل ذلك قول عمرو بن قميئة :

تذكّرت أرضا بها أهلها

أخوالها فيها وأعمامها

لمّا رأت ساتيدما استعبرت

لله درّ ـ اليوم ـ من لامها (٣)

وقال : إن الأخوال والأعمام قد دخلوا في التذكر ، قال : ومثل ذلك فيما زعم الخليل :

إذا تغنّى الحمام الورق هيّجني

ولو تغرّبت عنها أمّ عمّار (٤)

قال الخليل : لما قال : هيجني ، عرف أنه قد كان تذكر لتذكره الحمام وتهيجه إياه ،

__________________

(١) البيت للقطامي :

ديوانه ٨١ ، وروايته :

فكرت بعد فيقتها إليه

فألقت عند مربضه السباعا

الخصائص ٢ : ٤٢٨ (بلا نسبة).

(٢) البيت ينسب لعبيد الله بن قيس الرقيات ملحق ديوانه ١٧٦ ؛ الخصائص ٢ : ٤٣١ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٥ ؛ مغني اللبيب ١ : ٣٦٤ ؛ المقتضب ٣ : ٢٨٤.

(٣) البيتان لعمرو بن قميئة : خزانة الأدب ٢ : ١٤٧ ، ٤ : ٤٠٦ ؛ الخصائص ٢ : ٤٢٩ (بلا نسبة) ؛ معجم البلدان ٣ : ٦ (ترجمة : ساتيدما).

(٤) البيت للنابغة الذبياني :

ديوانه : ٢٠٣ ؛ جمهرة أشعار العرب ١٨٩.


فألقى ذلك الذي عرف منه على أم عمار ، كأنه قال : هيجني فذكرني أم عمار).

قال أبو سعيد رحمه‌الله :

وقد ردّ بعض هذه الأبيات أبو العباس المبرد ، وذكر في قوله : في مفارق الرأس طيبا ، وإضمار رأيت إنما هو محمول على تراها.

قال : فلما لم يتم الكلام لم يحمل على معناه ، وكذلك قوله :

فكرّت تبتغيه فصادفته

لم يتم ما قصده لأنه أراد : فصادفته على حال ما.

فتمام الكلام المقصود ذكر الحال ، فلم يجز أن يحمل النصب على إضمار معنى اللفظ الأول.

وقد ردّ هذا الزجاج وذكر أن القصد في قوله : فصادفته ، إنما هو إلى الولد ؛ لأن الوحشية طلبت ولدها ، فصادفته وصادفت على دمه السباع ، فلما كان المعنى يدل على هذا واحتاج الشاعر إلى إيقاع المصادفة على الولد المطلوب ، أضمر للسباع الفعل الذي دل عليه أول الكلام ، كأنه قال : فصادفته ، صادفت السّباع على دمه ومصرعه ، وقوله : " لن تراها ولو تأملت" ، إنما يصفها بأن الطيب لا يفارقها ، وقد علم ذلك من مقصده فجاز استغناؤه باللفظ الأول عن إعادة الفعل ، فأضمر : إلا رأيت لها ، وأنشد البيت الأول على ما يقع فيه خلاف ، وهو :

فكرّت تبتغيه فوافقته

على دمه ومصرعه السّباعا

وأما ما ذكره أبو العباس من عطف الشيء على المعنى بعد تمام الأول ، فله مواضع تختلف. ألا ترى أن قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(١).

جمع على معنى (من) ، ولم يتم الكلام ، وكذلك : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً)(٢).

أتت على المعنى ، وللكلام في هذا مواضع أخر.

(ومن الباب قول الخليل ، وهو قول أبي عمرو (٣) :

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٤٢.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٣١.

(٣) زبان بن العلاء بن عمار أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة خزاعي من مازن ولد بالحجاز سكن البصرة توفي ١٥٤ ه‍. الفهرست ٢٨ ، طبقات القراء ١ : ٢٨٨.


ألا رجل إمّا زيدا وإمّا عمرا.

لأنه حين قال : ألا رجل فهو متمن شيئا ليسأله ويريده ، فكأنه قال :

اللهم اجعله زيدا أو عمرا ، وإن شاء أظهره فيه ، ومثله :

قد سالم الحيات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما

وذات قرنين ضموزا ضرزما) (١)

قال أبو سعيد : ضموز : ساكنة ، الضّرزم : المسنّة ، وذلك أخبث الحيات ، والأفعوان وما بعده حيات.

والحيات الأولى مرفوعة ، وإنما حمل الأفعوان على المعنى ، وذلك أنه يصف رجلا بخشونة قدميه وصلابتهما ، وأن الحيات لا يعملن فيهما وأنها قد سالمتها ، وإذا سالمت الحيات القدم ، فالقدم ـ أيضا ـ قد سالمت الحيات ، فكأنه قال : سالمت القدم الأفعوان.

وحكي عن الفراء أنه قال : القدما : بمعنى القدمان ، وهي رفع وروى : " قد سالم الحيات ـ بكسر التاء ـ منه القدما".

(وحذف النون من القدمان ، كما قال :

هما خطتا إما إسار ومنّة)

قال المفسر : ويروى :

هما خطتا إما إسار ومنة

وإذا روى كذلك فليس للفراء فيه حجة ، لأنه قد أضاف خطتا إلى إسار ومنة ، كأنه قال :

هما خطّتا إسار ومنّة

وإما دم والقتل بالحرّ أجدر (٢)

__________________

(١) البيت للعجاج ديوانه : ٨٩ ، خزانة الأدب ١٠ : ٢٤٠ ، ١١ : ٤١١.

(٢) البيت لتأبط شرا :

ديوانه ٨٩ ؛ الخصائص ٢ : ٤٠٧ ؛ خزانة الأدب ٧ : ٤٩٩ ؛ مغني اللبيب ٦ : ٥٠١ ، ٧٢٧.


وأنشد سيبويه لأوس :

تواهق رجلاها يداها ورأسه

لها قتب خلف الحقيبة رادف (١)

وكان وجه الكلام : تواهق رجلاها يديها.

فحمله على المعنى لأنه إذا واهقت الرجلان اليدين ، فقد واهقت اليدان الرجلين على مثل ما مر البيت الأول ، وأنشد :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطوائح (٢)

رفع يزيد بما لم يسمّ فاعله ، ثم جاء بالفاعل وهو ضارع ، فرفعه ؛ لأن الفعل الذي لم يسم فاعله يدل على أنّ له فاعلا ، قال : ليبكه ضارع.

ومن الناس من يروي : ليبك يزيد ضارع ، فيجعل يزيد منصوبا ، وضارع فاعل يبك على ما سمي فاعله ، وذكر بعض أصحابنا أن الرواية هي الأولى وأن هذا تغيير النحويين.

وقال : ومثل ليبك يزيد قراءة بعضهم (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٣).

قال سيبويه : (رفع شركاؤهم على ما رفع عليه ضارع ، كأنه قال : زينه شركاؤهم ، وهي الشياطين الدعاة لهم إلى ذلك ، وأنشد :

وجدنا الصّالحين لهم جزاء

وجنّات وعينا سلسبيلا (٤)

لأن الوجدان مشتمل في المعنى على الجزاء.

فحمل الآخر على المعنى ، ولو نصب الجزاء كما نصب السباع لجاز).

وإذا رفع الجزاء فهو مرفوع بالابتداء ، ولهم : خبره ، والجملة في موضع الحال من وجدنا.

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر :

الديوان : ٧٣ ، وروايته : تواهق رجلاها يديه ؛ الخصائص ٢ : ٤٢٧ (بلا نسبة) ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٨٢.

(٢) سبق تخريجه ، وهو منسوب ل (نهشل بن حري بن حمزة النهشلي).

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٣٧.

(٤) ينسب إلى : عبد العزيز بن زرارة الكلابي :

المقتضب ٣ : ٢٨٤ ؛ شواهد القرطبي ٣ : ٩٢.


ويحتمل أن يكون في موضع المفعول الثاني ، ولكن كلام سيبويه وقوله : (ولأن الوجدان ...) دليل على أن وجدنا بمعنى أصبنا ، وهو يتعدى إلى مفعول واحد ، وقد دخل الجزاء وإن كان مبتدأ في معنى الوجدان ، فأضمر وجدنا بعد ذلك ، ونصب جنات لأنه في المعنى عطف على جزاء ، كأنه قال : وجدنا لهم جنات ، وإن نصبت جزاء فتقديره : وجدنا لهم جزاء وجنات ، وقال الشاعر :

أسقى الإله عدوات الوادي

وجوفه كلّ ملث غادي

كلّ أجشّ حالك السّواد (١)

رفع كلّ الأخير ، ونصب الذي قبله لأنه حمله على سقاها كل أجش ، لأن في قوله : أسقى الإله كل ملث غاد دليلا على سقاها كل أجش ، لأنه إذا أسقاها الله السحاب ، سقاها السحاب ، وكل أجش من صفة السحاب ، وهو شبيه ب" ليبك يزيد ضارع".

قال : (ولا يجوز أن تقول : ينتهي خيرا له ، ولا انتهى خيرا له).

وإنما يجوز هذا في الأمر ، لأن الآمر إنما يسوق المأمور إلى أمر يحدثه ، فله قوة في الإضمار وحكم ليس لغيره (وقد يجوز أن تقول : ألا رجل إما زيد وإما عمرو ، كأنه قيل له : من هذا المتمنّى؟ فقال : زيد أو عمرو).

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في

غير الأمر والنهي

(وذلك قولك : أخذته بدرهم فصاعدا ، وأخذته بدرهم فزائدا ، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه ، ولأنهم أمنوا أن يكون على الباء لو قلت :

أخذته بصاعد ، كان قبيحا ، لأنه صفة ولا يكون في موضع اسم ، كأنه قال : أخذته بدرهم ، فزاد الثمن صاعدا ، ولا يجوز أن تقول : وصاعد لأنّك لا تريد أن تخبّر أنّ الدرهم مع صاعد ثمن لشيء كقولك : بدرهم وزيادة ، ولكنّك أخبرت بأدنى الثمن فجعلته أولا ثم قروت شيئا بعد شيء لأثمان شتّى ، فالواو لم ترد فيها هذا المعنى ، ولم

__________________

(١) الأبيات لرؤبة بن العجاج : ملحق ديوانه ١٧٣ ، الخصائص ٢ : ٤٢٧.


تلزم الواو الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر.

ألا ترى أنّك إذا قلت : مررت بزيد وعمرو ، لم يكن في هذا دليل أنّك مررت بعمرو بعد زيد.

وصاعد بدل من زاد ويزيد.

وثم بمنزلة الفاء ، تقول : ثم صاعدا إلّا أنّ الفاء أكثر في كلامهم).

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : أمّا قوله : أخذته بدرهم فصاعدا ، كأنه متاع قد اشتري بأثمان مختلفة أدناها : درهم. فإذا قال : أخذت كلّ ثوب منها بدرهم فصاعدا ، كان أدنى الثمن درهما ، ثم يزيد عليه ، فالتقدير : أخذت كلّ ثوب منها بدرهم ، فزاد الثمن صاعدا ، فصار بعضها بدرهم وقيراط ، وبعضها بدرهم ودانق ، وهذا معنى قوله : ثم قروت شيئا بعد شيء لأنه مأخوذ من : قروت الأرض ، إذا أنبتّ قطعة منها بعد قطعة على جهة التتبّع لشيء فيها ، ومنه قولهم : الاستقراء للكتب وللمعاني ، واستقرأت الكتب والمعاني على جهة التتبع لها ، والفكر فيها ، ولا يحسن أن تقول :

أخذته بدرهم فصاعد ، من جهتين :

إحداهما : أنّ صاعدا نعت ، ولا يحسن أن تعطف على الدرهم إلّا المنعوت.

والجهة الأخرى : أنّ الثمن لا يعطف بعضه على بعض بالفاء ، لا تقول : أخذت الثوب بدرهم فدانق ، ولا اشتريت الدار بمائة درهم فخمسة دراهم ، لأن الثمن تقع جملته عوضا عن المبيع ، فليس يتقدم بعضه على بعض ، وإنما يعطف بالواو لأنها للجمع ، تقول : اشتريته بمائة وخمسة ، ونحو ذلك ، وإنما هو على ما فسّرته لك ، أنّك أخذت بعضه ، ثم زاد الثمن في بعض ، وتقديره : فزاد الثمن صاعدا ، ينتصب على الحال ، وبدرهم فزائدا ، على تقدير : فصعد الثمن زائدا.

وفرّع أصحابنا على هذا فقالوا : يجوز أن تقول : مررت بزيد وخالد ، وبزيد وخالدا ، عطفا على موضع الباء ، فإن قلت : مررت بزيد وخالدا ، وأنت تريد : وأكرمت خالدا ، لم يجز لأنّ إخراجه عن الباء ، ومعناها لا يجوز إلّا بدليل عليه أو ضرورة تقود إليه ، ولا يحسن الواو في هذا لأنّ الأثمان المذكورة إنّما يتلو بعضها بعضا ، والواو لا تدل على ترتيب الفعل ، فلم تجز فيه إلّا الفاء وثمّ ، وهما الدليلان على الترتيب ، والفاء أكثر في كلام العرب لاتصالها بما قبلها ، وثمّ فيها مهلة.


قال سيبويه : (ومما ينتصب في غير الأمر والنهي على الفعل المتروك إظهاره ، قولك : يا عبد الله ، والنداء كله.

فأمّا : يا زيد ، فله علّة ستراها في باب النداء إن شاء الله تعالى).

قال أبو سعيد رحمه‌الله : المنصوب من المنادى ، يقدّر نصبه بفعل ينوب عنه حرف النداء ، وهو : يا ، كأنه قال : أدعو عبد الله ، وأنادي عبد الله ، وأريد عبد الله ، والمفرد هو المضموم مبني لعلة قد ذكرت ، تعاد في باب النداء إن شاء الله تعالى.

واستدلّ سيبويه على أنّ النداء على الفعل قولهم : يا إيّاك ، إنما قلت : يا إياك ، أعني.

وهذا الذي ذكره سيبويه يقوّي ما ذكرناه ؛ أنّ" إياك" مضاف لأنّا رأينا العرب إذا كنّوا عن المنادي قالوا :

يا أنت ، ويا إياك ، فأنت : مفرد لم ينصب كما لم ينصب : يا زيد ، وإيّاك : مضاف نصب كما نصب : يا عبد الله ، أنشد أبو زيد :

يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا

أنت الذي طلّقت عام جعتا

حتّى إذا اصطبحت واغتبقتا

أقبلت معتادا لما تركتا

قد أحسن الله وقد أسأتا (١)

قال سيبويه : (ومن ذلك قول العرب : من أنت زيدا ، وزعم يونس أنه على قوله : من أنت تذكر زيدا ، ولكنّه كثر في كلامهم واستغنوا عن إظهاره بأنه قد علم أنّ زيدا ليس خبرا ولا مبنيا على مبتدإ ، ولا بدّ من أن يكون على الفعل كأنه قال : من أنت معرّفا ذا الاسم ، ولم يحمل زيدا على من ولا أنت ، ولا يكون من أنت زيدا إلّا جوابا ، كأنه قال : أنا زيد ، قال : فمن أنت ذاكرا زيدا ، وبعضهم يرفع ، وذلك قليل ، كأنه قال : من أنت كلامك أو ذكرك زيد. وإنّما قلّ لأنّ إعمالهم الفعل أحسن من أن يكون خبرا لمصدر ليس به ، ولكنّه يجوز على سعة الكلام وصار كالمثل الجاري حتى إنهم يسألون الرجل عن غيره فيقول القائل منهم : من أنت زيدا ، كأنه يكلم الذي يقول : أنا زيد ،

__________________

(١) الأبيات سبق تخريجها وهي منسوبة إلى الأحوص ، وسالم بن دارة.


أي : أنت عندي بمنزلة زيد الذي قال : أنا زيد ، فقيل له : من أنت زيدا كما تقول للرجل : " أطرّي فإنك ناعلة" و" أحمقي" أي أنت عندي بمنزلة التي يقال لها ذلك. سمعنا رجلا منهم يذكر رجلا فقال لرجل ساكت لم يذكر ذلك الرجل من أنت فلانا).

قال أبو سعيد رحمه‌الله : أصل هذا أنّ رجلا غير معروف بفضل كأنه يسمّى بزيد ، وكان زيد مشهورا بشجاعة وضرب من ضروب الفضل التي يذكر بها الرجل ، فلما تسمّى الرجل المجهول بزيد الذي هو معروف بالفضل دفع عن ذلك وأنكر عليه ، فقيل له : من أنت زيدا على جهة الإنكار ، أي من أنت ذاكرا زيدا ومعرّفا هذا الاسم.

وقد يجوز الرفع ، والنصب أقوى ، لأنك إذا رفعته تقديره : كلامك زيد ، وذكرك زيد ، على معنى : كلامك ذكر زيد ، وكلامك اسم زيد ؛ فيكون على سعة الكلام كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١).

فكان النصب أحسن من أن تجعله خبرا لمصدر. وقد يجوز لمن ليس اسمه بزيد" من أنت زيدا" على المثل الجاري كما قالوا : " أطرّي فإنك ناعلة" ، و" الصيف ضيّعت اللبن" (٢) ، و" أحمقي" فتخاطب الرجل بهذا وإن كان اللفظ للمؤنث ؛ لأن أصل ما جرى به المثل التأنيث ، وإنما يقال للذكر ذلك على معنى : أنت عندي بمنزلة التي يقال لها.

أما وقد ذكرنا تفسير هذه الأمثال في موضع آخر ، وقد يجوز أن تذكر غير زيد باسمه ، كأنّ رجلا ذكر عمرا وذكر ملابسة بينه وبينه ، أو سؤالا عنه ، وكأنّ منزلة عمرو ترتفع عند بكر أن يسأل عنه مثل هذا الرجل السائل فقال له : من أنت عمرا ، كأنّ في سؤاله عن عمرو ما يتشرّف به أو يكسب به حالا فيها فخر.

يقال : من أنت سائلا عن ذلك أو مفتخرا به.

وأمّا ما حكاه من قول القائل لرجل سأله لم يذكر ذلك الرجل : من أنت فلانا ، فيجوز أن يكون على معنى التعريض بالرجل الذي ذكره أنه ليس بموضع أن يذكره.

(ومن ذلك قول العرب : إمّا أنت منطلقا انطلقت معك ، وإمّا زيد ذاهبا ذهبت معه ، قال الشاعر :

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٢) يضرب مثلا للرجل يضيع الأمر ثم يريد استدراكه جمهرة الأمثال ١ : ٥٧٥ ، ٣٢٤.


أبا خراشة إمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع (١)

فإنما هي (أن) ضمّت إليها (ما) للتوكيد ، ولزمت كراهية أن يجحفوا بها لتكون عوضا من ذهاب الفعل كما كانت الهاء والألف في : الزنادقة واليماني ، ومثل : إن في لزوم ما قولهم : إمّا لا ، فألزموها ما عوضا.

وهذا أحرى أن يلزموا فيه إذ كانوا يقولون : آثرا ما ، فيلزمون" ما" شبّهوها بما يلزم من النونات في : لأفعلنّ ، واللام في : إن كان ليفعل.

فإن كان ليس مثل وإنما هو شاذّ كنحو ما شبّه بما ليس مثله ، فلما كان قبيحا عندهم أن يذكروا الاسم بعد أن ، ويبتدئونه بعدها ، كقبح : " كي عبد الله يقول ذلك" حملوه على الفعل حتى صار كأنّهم قالوا : " إذ صرت منطلقا فأنا أنطلق معك" ، لأنها في معنى : إذ ، وإذ في معناها ـ أيضا ـ في هذا الموضع ، إلا أنّ إذ لا يحذف معها الفعل ، وإمّا لا يذكر بعدها الفعل لأنه من المضمر المتروك إظهاره حتى صار ساقطا بمنزلة تركهم ذلك في النداء ، وفي" من أنت زيدا" ، فإن أظهرت الفعل قلت : " إمّا كنت منطلقا انطلقت" ، إنما تريد إن كنت منطلقا انطلقت.

فحذف الفعل لا يجوز ههنا ، كما لم يجز إظهاره ؛ لأنّ" أمّا" كثرت في كلامهم واستعملت حتى صار كالمثل المستعمل ، وليس كلّ حرف هكذا).

قال أبو سعيد رحمه‌الله : أمّا أنت منطلقا ، اختلف فيه الكوفيون والبصريون مع إجماعهم على حذف الفعل.

فقال الكوفيون : هو بمعنى إن ، وعندهم أنّ" أن" المفتوحة فيها معنى" إن" التي للمجازاة ، وعلى ذلك يحملون : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)(٢). ويحتجون بأنها تقرأ : " إن تضلّ". بكسر" إن" والمعنى عندهم سواء.

وأما البصريّون : فالتقدير عندهم : " لأن كنت أنت منطلقا أنطلق معك" ، أي : لهذا المعنى الذي كان منك في الماضي : أنطلق معك ، ولذلك شبهها سيبويه ب" بإذ" وجعلهما

__________________

(١) الخصائص ٢ : ٣٨٣ ؛ خزانة الأدب ٤ : ١٣ ، ١٤ ، ١٧ ؛ ٥ : ٤٤٥ ؛ ٦ : ٥٣٢ ؛ ١١ : ٦٢ ؛ مغني اللبيب ١ : ٢٢١ ، ٣٧٥ ؛ ٥ : ٢٩٥ ؛ شرح شذور الذهب ٢٣٧ ؛ الإنصاف ٧١.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٨٢.


كشيء واحد لاشتراكهما في المضيّ ، وإذا ولى" أن" الفعل الماضي فهو ماض لا غير ، كما إذا وليها المستقبل ، فهو للاستقبال لا غير ، لأجل أنّ الثاني استحقّ بالأول جاز دخول الفاء في الجواب في قوله :

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

وجعلوا لزوم" ما" عوضا من حذف الفعل ، فلا يحسن ذكر الفعل بعدها لحصول الغرض.

وكان المبرّد يجيز ذكر الفعل بعدها ويجعلها زائدة كزيادتها في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(١).

وليس على ما قال دليل لأنّها زائدة في هذا الموضع ، ثم لزمت عوضا ولم تستعمل إلا على ذلك ، وحسن حذف الفعل لإحاطة العلم بأنّ" أن" هذه الخفيفة لا يقع بعدها الاسم مبتدأ ، فكان ذلك بمنزلة فعل محذوف لحضور الدلالة عليه.

وأمّا قوله كالعوض في : الزنادقة واليماني. فأصل الزنادقة : الزناديق ، واليماني : يمنيّ ، والألف في الزنادقة عوض من الياء ، والألف في اليماني عوض من إحدى (ياءي) النسب ، ونستقصي ذلك في غير هذا الموضع.

ومثل" أن" في لزوم" ما" قولهم : " إمّا لي".

والأصل فيه : أن الرجل قد يمتنع من أشياء يلزمه أن يفعلها ويسومه إياها سائم فيمتنع منها ، فيقنع منه بالبعض فيقال : " إمّا لي فافعل هذا" على معنى إن كنت لا تفعل غيره فافعل هذا ، ثم زيدت" ما" كما تزاد في حروف الجر ، ثم حذف الفعل لكثرة هذا في كلامهم ، وصار" إمّا" مع" لا" كالشيء الواحد عندهم ، فأجازوا فيها الإمالة ، ولو انفردت" لا" لم تجز فيها الإمالة.

وقولهم : " أثرا ما" ، يلزمونه" ما" فلا يكادون يحذفونها منه ، ومعناها في قولك : آثرا أن تفعل كذا في معنى : أثر ، وهو يريد : أفعل هذا أول شيء ، ويقولون : آثر ذي أثير ، ومنه قوله :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٥٥. سورة المائدة ، الآية : ١٣.


فقالت ما تشاء ، فقلت ألهو

إلى الإصباح آثر ذي أثير (١)

أي أوّل ما يؤثر ويقدّم في الفعل.

وقد ذكرنا لزوم النون في لأفعلنّ ، واللام في إن كان ليفعل في موضعه ، وسائر ما ذكر من المحذوفات.

قال : وإن جئت بالفعل كسرت" إن" لأنك تريد إن كنت منطلقا انطلقت ، ولا يمتنع عند المبرد وغيره إذا حذفت (ما) وأتيت بالفعل أن تفتح وتكسر فتقول :

إن كنت منطلقا وأن كنت منطلقا انطلقت ، وقال :

إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا

فالله يكلأ ما تأتي وما تذر (٢)

كسرت هذا لحضور الفعل ، وهو الأجود ، ولا يمتنع عند أبي العباس وغيره إذا حذفت" ما" وأتيت بالفعل أن تفتح وتكسر ، فتقول :

إن كنت منطلقا ، وأن كنت منطلقا ، فإن كسرت فهو المعنى الظاهر في الشرط ، وإن فتحت فالمعنى :

لأن كنت منطلقا ، أي : لانطلاقك ، وقد ذكرنا" أن" و" إن" في موضعهما.

قال : ومن ذلك قولهم : مرحبا وأهلا وسهلا ، وإن تأتني فأهل الليل وأهل النهار.

وتقدير الناصب فيه : أتيت مرحبا وأهلا ، وإن تأتني فتأتي أهل الليل وأهل النهار على معنى :

أنّك تأتي من يكون لك كالأهل بالليل والنهار ، وقد قدره سيبويه ، كأنه صار بدلا من قولك : رحبت بلادك ، وأهلت.

وهذا التقدير إنما قدّر بالفعل لأن الدعاء إنما يكون بفعل ، فردّه إلى فعل من لفظ الشيء المدعوّ به ، كما يقدّرون : تربا وجندلا بتربت وجندلت.

وإنما الناصب له :

أصبت تربا وجندلا ، وألزمت تربا وجندلا على معنى ما تحسن به العبارة عن

__________________

(١) البيت لعروة بن الورد :

ديوانه ١١ ؛ الأغاني ٣ : ٧٧ ؛ الخصائص ٢ : ٤٣٥.

(٢) بدون نسبة ، خزانة الأدب ٤ : ١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ؛ مغني اللبيب ١ : ٢٢١ ؛ اللسان (أما) وروايته :

إما أقمت وأما أنت ذا سفر

فالله يحفظ مما تأتي وما تذر


المعنى المقصود ، وهذا إنما يستعمل فيما لا يستعمل الفعل فيه ، ولا يحسن إلا في موضع الدعاء به.

ألا ترى أن الإنسان الزائر إذا قال له المزور : مرحبا وأهلا ، فليس يريد رحبت بلادك وأهلت.

إنما يريد : أصبت رحبا وسعة وأنسا. لأنّ الإنسان إنما يأنس بأهله ، ومن يألفه.

(وقد مثله الخليل أنه بمنزلة رجل رأيته قد سدّد سهما فقلت القرطاس ، أي : أصاب القرطاس ، أي : أنت عندي ممّن سيصيبه ، وإن أثبت سهمه قلت : القرطاس أي : قد استحق وقوعه بالقرطاس. قال :

وإذا رأيت رجلا قاصدا إلى مكان أو طالبا أمرا فقلت : مرحبا وأهلا وسهلا ، أي : أدركت ذلك وأصبت ، فحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه).

قال : ويقول الرّادّ : وبك أهلا وسهلا ، وبك وأهلا ، فإذا قال : وبك وأهلا فكأنه قد لفظ بمرحبا بك وأهلا وسهلا.

(وإذا قال : وبك أهلا فهو يقول : لك الأهل ، أي : عندك الرّحب والسّعة ، فإذا رددت فإنّما تقول : أنت عندي بمنزلة من يقال له : هذا لو جئتني وإنما جئت ب" بك" لتبيّن من تعني بعد ما قلت : مرحبا كما قلت : لك بعد سقيا).

قال أبو سعيد : هذا الكلام تقديره أن يقوله الرجل الذي يدخل إذا قال له المدخول عليه : مرحبا وأهلا ، فيردّ فيقول : وبك وأهلا كأنه قال : وبك مرحبا وأهلا ، وإنما هذه تحية المزور ومن يدخل عليه ، يحيي بها الزائر المزور على معنى أنك أصبت عندي سعة وأنسا.

وإذا قال الزائر : وبك أهلا ، والحال لا تقتضي من الزائر أن يصادف المزور عنده ذلك فيحمل على معنى : أنك لو جئتني لكنت بهذه المنزلة ، وإذا قال : وبك أهلا ، فإنما اقتصر في الدعاء له على معنى الأهل فقط من غير أن يعطفه على شيء قبله ، كأنّ الرّحب والسّعة قد استقرا استقرارا يغنيه عن الدّعاء ، وأمّا مجيئه ب" بك" ، فللبيان أنه المعنيّ به لا لأنّه المتصل بالفعل المقدّر كما كان قولك : " سقيا لك" ، تقديره : سقاك الله سقيا ولك ، كأنّه قال : هذا الدعاء لك على تقدير آخر غير تقدير سقاك الله.

قال : (ومنهم من يرفع فيجعل ما يضمر هو ما يظهر).


يعني منهم من يقول : مرحب وأهل ، أي : هذا مرحب أو لك مرحب وأهل ، قال الشاعر :

وبالسّهب ميمون النقيبة قوله

لملتمس المعروف أهل ومرحب (١)

أي : هذا أهل ومرحب ، وقال آخر :

إذا جئت بوّابا له قال مرحبا

ألا مرحب واديك غير مضيّق (٢)

ثم ذكر الإضمار والإظهار على ثلاثة مجار منها :

فعل مظهر لا يحسن إضماره ، وهو أن تقول : اضرب زيدا أو أكرم زيدا ، لا يحسن إضمار هذا الفعل إذ لم تجد ما يدلّ عليه ، لأنك إذا قلت : زيدا ولم تقدّم قبله فعلا لم تدر أيريد أكرم زيدا أم أهن زيدا أم غير ذلك.

وفعل يجوز إضماره وإظهاره كقولك : زيدا لرجل كان في ذكر ضرب ، تريد : اضرب زيدا ، يجوز أن تحذف اضرب اكتفاء بما جرى من ذكر الضرب ، ويجوز أن تذكره.

ومنها فعل يضمر وقد ترك إظهاره وهو من الباب الذي ذكر فيه إياك إلى الباب الذي آخره ذكر مرحبا ، وهو الباب الذي نحن فيه ، وقد تقدم الكلام على ذلك.

هذا باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم

لأنه مفعول معه ومفعول به كما انتصب نفسه

في قولك : " امرأ ونفسه"

(وذلك قولك : ما صنعت وأباك ، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها ، إنما أردت ما صنعت مع أبيك ، ولو تركت الناقة مع فصيلها ، فالفصيل مفعول معه ، والأب كذلك ، والواو لم تغيّر معنى ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها ، ومثل ذلك :

ما زلت وزيدا ، أي : ما زلت بزيد حتى فعل ، فهو مفعول به.

وما زلت أسير والنيل ، أي : مع النيل.

__________________

(١) البيت لطفيل الغنوي : شرح المفصل ٢ : ٢٩ ؛ المقتضب ٣ : ٢١٩.

(٢) البيت ينسب لأبي الأسود الدؤلي : ديوانه : ٦٥ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٧٢ ؛ المقتضب ٣ : ٢١٩.


واستوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطيالسة ، أي : مع الطيالسة ، قال الشاعر :

كونوا أنتم وبني أبيكم

مكان الكليتين من الطّحال (١)

وقال آخر :

وكان وإيّاها كحرّان لم يفق

عن الماء إذا لاقاه حتّى تقدّدا (٢)

ويدلك على أن الاسم ليس على الفعل في صنعت أنك لو قلت : اقعد وأخوك. كان قبيحا حتى تقول : اقعد أنت وأخوك ؛ لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر ، فإذا قلت : ما صنعت أنت ، ولو تركت هي فأنت بالخيار ، إن شئت حملت الآخر على ما حملت عليه الأول ، وإن شئت حملته على المعنى الأول).

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : هذا آخر الباب وهو كلام سيبويه ـ رحمه‌الله ـ ، ومذهبه أنك إذا قلت : ما صنعت وأباك ، أن الأب منصوب بصنعت ، وكذلك فصيلها منصوب بتركت ، وكان الأصل فيها ما صنعت مع أبيك ، ولو تركت الناقة مع فصيلها ، ومعنى مع الواو يتقاربان لأنّ معنى" مع" : الاجتماع والانضمام ، والواو تجمع ما قبلها مع ما بعدها وتضمه إليه ، فأقاموا الواو مقام" مع" لأنها أخفّ في اللفظ ، والواو حرف لا يقع عليه الفعل ولا يعمل في موضعه ، فجعلوا الإعراب الذي كان في" مع" من النصب في الاسم الذي بعد الواو لمّا لم تكن الواو معربة ولا في موضع معرب ، كما قالوا : ما قام أحد إلّا زيد ، وقام القوم إلّا زيدا ، فإذا جئت ب" غير" أعربتها بإعراب الاسم الذي يقع بعد" إلّا" ، فقلت :

ما قام أحد غير زيد ، وجاءني القوم غير زيد ، فإذا جعلوا" إلّا" مكان" غير" تجاوز الإعراب الذي كان في" غير" إلى ما بعد" إلّا" ، لأنّها حرف غير عامل ، وكذلك الكلام في ما زلت وزيدا إذا كان الحرف الذي يتصل بالفعل عاملا في الاسم الذي بعده منع من تجاوز الفعل إلى غيره كقولك :

ما زلت بزيد ، فتعمل الباء في زيد ، والباء في موضع نصب ، فإذا قلت : ما زلت

__________________

(١) البيت في نوادر أبي زيد ينسب ل : شعبة بني قمير : ١٤١ ؛ شرح المفصل ٢ : ٤٨ ؛ وروايته :

(وكونوا) ؛ شرح قطر الندى ٢٣٣ ؛ شرح أبيات سيبويه ٢٨٥.

(٢) البيت ينسب لكعب بن جعيل بن قمير التغلبي ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٨٦ ؛ الجمل للزجاجي ٣١٧.


وزيدا ، تجاوز النصب الذي كان يقدّر في الباء إلى ما بعد الواو.

وكان الزجّاج يقول :

إنّا إذا قلنا : ما صنعت وأباك ؛

أنّا ننصب بإضمار ، كأنه قال : ما صنعت ولا بست أباك.

وزعم أنّ ذلك من أجل أنه لا يعمل الفعل في المفعول وبينهما الواو.

وهذا قول فاسد ، لأنّ الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتصل به المفعول ، فإن كان لا يحتاج في عمله فيه إلى وسيط فلا معنى لدخول حرف بينهما ، وإن كان يحتاج إلى وسيط في عمله فيه ، عمل مع توسّط الوسيط ووجوده ، ألا ترى أنّا نقول :

ضربت زيدا وعمرا ، فتنصب عمرا بضربت ، كما تنصب زيدا بضربت ، لأن المعنى الذي يوجب الشركة بين عمرو وزيد في ضربت ، هو : الواو فجئت بها ولم تمنع من وقوع ضربت على ما بعدها.

ومنه أيضا : أنك تقول : ما ضربت إلّا زيدا ، فتنصب زيدا بضربت ، وإن كان بينهما" إلّا" للمعنى الذي يوجب ذلك في اتصال هذا المفعول به ، وإنما يذهب بالواو إلى معنى" مع" إذا كان فيه معنى غير العطف المحض ، والعطف المحض أن يوجب لكل واحد من الاسمين الفعل الذي ذكر له من غير أن يتعلق فعل أحدهما بالآخر ، كقولك : قام زيد وعمرو إذا أردت أن كل واحد منهما قام قياما لا يتعلق بالآخر.

وكذلك : ما صنع زيد وعمرو إذا أردت هذا المعنى ؛ كان صنع كلّ واحد لا يتعلق بالآخر ، وما صنع زيد وعمرو إذا أردت هذا المعنى ، فإن أردت ما صنع زيد مع عمرو على معنى : إلى أي شيء انتهيا فيما بينهما من خصومة أو مواصلة أو غير ذلك ، جاز أن تنصب ، وقد اجتمع في قولك : " ما صنعت وأباك" قبح الرفع في الأب لأنك تعطفه على التاء من غير توكيد ، وحمل ما بعد الواو على معنى" مع" لما يقتضيه المعنى إذا أكدت التاء كنت مخيرا في رفع الأب وفي نصبه ، فقلت : ما صنعت أنت وأبوك ، وإن شئت" وأباك".

فمن رفع فلزوال قبح اللفظ لأن كلّ واحد منهما صانع بالآخر شيئا وملابس له على ضرب من الملابسة ، وإن نصبت فعلى إبانة معنى" مع" وأنّ صنيع الأول ملتبس بالآخر.


هذا باب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول

إلّا أنها تعطف الاسم ههنا على ما لا يكون ما بعده إلا رفعا على كلّ حال.

(وذلك قولك : أنت وشأنك ، وكلّ رجل وضيعته ، وما أنت وعبد الله ، وكيف أنت وقصعة من ثريد ، وما شأنك وشأن زيد ، وقال الشاعر :

يا زبرقان أخا بني خلف

ما أنت ويل أبيك والفخر (١)

وقال الآخر :

وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلنا

تهام وما النجديّ والمتغوّر (٢)

وقال آخر :

وكنت هناك أنت كريم قيس

فما القيسيّ بعدك والفخار (٣)

قال أبو سعيد : هذا الباب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول ؛ لأنهما بمعنى" مع" إلّا أنّ الباب الأول في أوله فعل يعمل فيما بعد الواو على الترتيب الذي ذكرته ، وهذا الباب فيه اسم معطوف على اسم بالواو التي معناها : " مع" ، فيعطف ما بعد الواو على ما قبلها لفظا ، والمعنى فيه الملابسة.

فإن قال قائل : نحن متى عطفنا شيئا على شيء بالواو ، ودخل الثاني فيما دخل فيه الأول اشتركا في المعنى ، وكانت الواو بمعنى مع لاشتراك المعطوف والمعطوف عليه كقولنا :

قام زيد وعمرو ، فكيف اختصصتم هذا الباب وما قبله بمعنى" مع"؟

قيل له : نحن متى عطفنا شيئا على شيء بالواو دخل في معناه ، ولم يكن بين المعطوف والمعطوف عليه فرق في وقوع ذلك المعنى لكل واحد منهما ، وليس أحدهما ملابسا للآخر ، وإذا قلنا : ما صنعت؟ أو قلنا في الباب الثاني : ما أنت والفخر؟!

فإنما يراد : ما صنعت مع أبيك ، وأين بلغت فيما فعلته به ، أو فعله بك.

__________________

(١) البيت للمخبل ، وهو : ربيع بن ربيعة بن عوف بن قتال بن أنف الناقة ، يهجو ابن عمه : خزانة الأدب ٦ : ٩١ ، ٩٢ ، ٩٥ ؛ المؤتلف والمختلف : ١٧٩ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٣٩

(٢) البيت لجميل بثينة : ديوانه : ٩١ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٤٤.

(٣) لم يعرف له قائل : شرح المفصل ٢ : ٥٢ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٨٦.


وما أنت مع الفخر في افتخارك وتحقّقك به ؛ فالمعنيان مختلفان غير أن اللفظ في قولك : ما أنت والفخر ، كقولك : أنت وزيد قائمان ، أو أنت وزيد في الدار ، والمعنى ما ذكرت لك.

وبهذا فرّق سيبويه بين هذا الباب والذي قبله ، ويدلك على صحة المعنى الذي ذكرته أن قائلا لو قال :

زيد وعمرو وهو يريد : زيد وعمرو قائمان أو خارجان أو ما أشبهه ، لم يجز حذف الخبر لأنه بمنزلة قولك : زيد معرّى من الخير ، ويجوز أن تقول :

أنت وشأنك ، وكلّ رجل وضيعته ، وكل امرئ وصنعته. فيكتفون بذلك ، لأن معنى الواو معنى" مع" ، كأنهم قالوا :

كل رجل مع ضيعته ، وأنت مع شأنك ، وهذا كلام مكتف. فإذا قالوا :

أنت وشأنك ، اكتفوا بهذا اللفظ وأضمروا الخبر ، وتقديره :

أنت وشأنك مقرونان ، لأن معنى" الواو" إذا ذهب بها مذهب" مع" قد دلّت على مقرونين ، ومما يذهب به مذهب الملابسة :

أنت أعلم وعبد الله ، وأنت أعلم ومالك ، معناه :

أنت أعلم مع مالك فيما تدبره به ، وأنت أعلم" مع" عبد الله فيما تعامله به ، وإن شئت أن لا تذهب به هذا المذهب فيما يصح منه العلم جاز أن تقول :

أنت وعبد الله أعلم ، أي : أنتما أعلم من غيركما ، كما تقول : أنت وعبد الله أفضل ، وأحدهما غير ملابس للآخر ، ولا يجوز أن تقول : كلّ امرئ وضيعته ، ولا أنت وشأنك ، فتنصب الثاني كما كنت تنصب" مع" لو حضرت" مع" ، لأنّ" مع" إذا حضرت فمذهبها مذهب الظرف ، تقول :

زيد مع عمرو ، كما تقول : زيد خلف عمرو ، والناصب استقر وإضماره جائز مع الظروف ، فإذا جعلت الواو مكان" مع" والذي بعدها اسم ، لم يتخطّ الاستقرار إليه ولا يعمل فيه كما عمل الفعل فيه في قولك : ما صنعت وزيدا.

وقد حكى سيبويه النصب في حرفين ، قالوا : ما أنت وعبد الله ، وما أنت وعبد الله ، وكيف أنت وعبد الله وعبد الله.

فإذا رفع فبالعطف على أنت ، وإذا نصب بإضمار كنت أو تكون ، فيكون تقديره :


كيف كنت أنت وعبد الله ، وكيف تكون أنت وعبد الله ، وما كنت أنت وعبد الله وما تكون أنت وعبد الله ، على ما ذكر في جواز النصب في الباب قبله.

وقد ردّ عليه المبرد لفظه في تقدير الناصب في كيف ، وما ، وذلك أن سيبويه قدر فقال : كيف تكون أنت وقصعة من ثريد ، وما كنت أنت وزيدا.

فقال المبرد : ولم جعل" كيف" مختصة بتكون و" ما" مختصة بكنت؟

قال أبو سعيد رحمه‌الله : لم يذهب سيبويه إلى اختصاص" كيف" بالمستقبل ، و" ما" بالماضي وإنما أراد التمثيل على الوجه الذي يمكن أن يمثّل به ، وبيّن هذا بقوله :

كأنه قال : والتمثيل ليس بحدّ لا يتجاوز ، وإنما جاز عنده في" كيف" و" ما" في لغة من حكى عنه ذلك ، وهم ناس من العرب ، لأنّ كنت وتكون يقعان ههنا كثيرا ، وما كثر في الكلام حذف تخفيفا ، كأنه قد نطق به.

واستدلّ سيبويه في أنّ قولهم : ما أنت والفخر ونحوه ، بمنزلة العطف الصحيح فيما يعطف أحد الاسمين فيه على الآخر ، بأنّ العرب قد تقول :

ما أنت ، وما زيد ، وهم يريدون معنى : " مع" ، قال :

تكلّفني سويق الكرم جرم

وما جرم وما ذاك السّويق (١)

يهجو جرما بذلك ويستكثر لها شرب الخمر.

يقول بعد هذا البيت :

وما عرفته جرم وهو حلّ

وما غالى بها إذ قام سوق

فلمّا أنزل التّحريم فيها

إذا الجرميّ منها ما يفيق (٢)

يريد : أنه لم يكن محل جرم أن تعرف الخمر في الجاهلية ولا تشربها ، وإنما ذكر عرفته لأنه رده إلى لفظ السّويق في" سويق الكرم" هو : الخمر.

سماها : سويق الكرم لانسياقها في الحلق ، وكذا أصل السّويق سمّي سويقا لذلك ، لأنه يشرب ولا يؤكل ، ومثله في إعادة" ما" في الثاني : قول علقمة بن عبدة :

__________________

(١) لسان العرب وتاج العروس (سوق).

(٢) البيت لزياد الأعجم : ديوانه : ٨٦ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٣٠٧ ؛ الشعر والشعراء ١ : ٤٤٠.


وما القلب أم ما ذكره ربعيّة

يخطّ لها من ثرمداء قليب (١)

إلا أنّ العطف في هذا البيت ب" أم" ، وأدغمت ميم" أم" في" ما" ، وأنشد قول شدّاد أبي عنترة العبسي :

فمن يك سائلا عنّي فإنّي

وجروة لا ترود ولا تعار (٢)

أراد" مع" جروة ، وإنما هذا كقولك :

كلّ رجل وضيعته ، إذا أدخلت عليه" إنّ" نصبتهما جميعا ، وكان الثاني لتضمنه معنى مع يغني عن ذكر الخبر. كقول العرب :

" إنك ما وخيرا".

تريد : إنك" مع" خير ، و" ما" : زائدة ، والخبر : محذوف.

وقد مرّ هذا فيما تقدم وأنشد سيبويه لبعض الهذليين عن إنشاد بعض العرب في إضماره الفعل بعد" ما" :

فما أنا والسّير في متلف

يبرّح بالذكر الضّابط (٣)

كأنه قال : ما كنت.

ومثله في إضمار الفعل قول الراعي :

أزمان قومي والجماعة كالذي

لزم الرحالة أن تميل مميلا (٤)

أراد : أزمان كان قومي مع الجماعة ، وحذف : كان ، لأنهم يستعملونها كثيرا في مثل هذا الموضع ولا لبس فيه ، ولا يغير معنى.

وإذا قلت : أنت وشأنك ، فلا يجوز في الثاني غير الرفع ؛ لأن العرب لا تضمر في مثل هذا ، ولا يجوز الإضمار فيه.

__________________

(١) تاج العروس (ثرمد) وفيه منسوب إلى : (علقمة الفحل) ؛ معجم البلدان ١ : ٩٣٣.

(٢) البيت لشداد بن معاوية (والد عنترة) كما ورد في الأغاني ١٧ : ٢٠٧ ؛ الصاحبي في فقه اللغة : ٢٢٠.

(٣) البيت لأسامة بن حبيب الهذلي : شرح أشعار الهذليين ٣ : ١٢٨٩ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٢ ؛ المقاصد النحوية ٣ : ٩٣ ؛ شرح الأشموني ٢ : ٢٢٤ ؛ همع الهوامع ٣ : ٩٣ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٢٨.

(٤) البيت للراعي النميري ، خزانة الأدب ٣ : ١٤٥ ، ١٤٨.


وقوله : أنت وشأنك.

إنما يريد به الحال ، فإن حملته على فعل فإنما تحمله على شيء ماض أو مستقبل لم يدلّ عليه دليل.

ومما أنشده عن أبي الخطاب عن بعض العرب من النصب في" ما" :

أتوعدني بقومك يا بن حجل

أشابات يخالون العبادا

بما جمّعت من حضن وعمرو

وما حضن وعمرو والجيادا (١)

على معنى : وما كان حضن.

وأنشد سيبويه ما قوّى به ما ذكره من أنّه يعطف على شيء يقدر وإن لم يلفظ به ، وشيء يعطف على ما كان يجوز استعماله في موضع المعطوف عليه ، قول صرمة الأنصاري :

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٢)

وقال الأخوص اليربوعيّ :

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها (٣)

وإنما خفض سابق وناعب وليس قبلهما مخفوض ، لأنه يجوز أن تقول : لست بمدرك ما مضى ، وليسوا بمصلحين ، فتقع الباء فيهما ويكثر في موضعهما من خبر ليس الباء ، فحملها في الخفض على ما كان يستعمل ، ومثل ذلك قول عامر الطائيّ :

فلم أر مثلها خباسة واحد

ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله (٤)

أراد : كدت أن أفعله ، فحذف أن ضرورة ، وغير سيبويه يقول :

__________________

(١) البيت لشقيق بن جزء : هارون ١ : ٣٠٤ ؛ تاج العروس (حضن).

(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى ، ديوانه : ٢٨٧ ؛ خزانة الأدب ٨ : ٤٩٢ ، ٤٩٦ ، ٥٥٢ ؛ ٩ : ١٠٠ ، ١٠٢ ، ١٠٤ ؛ شرح شواهد المغني ١ : ٢٨٢ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٢ ، ٧ : ٥٦ ؛ الخصائص ٢ : ٣٥٣ ، ٤٢٤ ؛ الأشباه والنظائر ٢ : ٣٤٧.

(٣) شرح المفصل ٢ : ٥٢ ، ٥ : ٦٨ ، ٧ : ٥٧ ؛ مغني اللبيب ٢ : ١٧٤ ، ٥ : ٤٨٧ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٤٠ ، ٤ : ١٥٨ ، ١٦٠ ، ١٦٤ ؛ الخصائص ٢ : ٣٥٦.

(٤) ينسب إلى : عامر بن جوين الطائي ، ملحق ديوان امرئ القيس ٤٧١ ؛ الأغاني ٩ : ٩٥.


إنهم أرادوا بعد ما كدت أفعلها ، والعرب قد تحذف في الوقف الألف التي بعد الهاء في المؤنث وتلقي فتحة الهاء على ما قبلها.

ويروى في مثل هذا : أن بعض العرب قتل رجلا يقال له : مرقمة ، وقد سامه وآخر ، أن يبتلعا جردان الحمار في خبر طويل ، فامتنعا فقتل مرقمة ، فقال الآخر : " طاح مرقمة" :

فقال القائل : وأنت إن لم تلقمه ، يريد تلقمها ، فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الميم ، وهذا يخرّج في مذهب البصريين على طرح النون الخفيفة ، كأنه قال :

تلقمنه ، فحذف النون وبقيت الميم مفتوحة كما قال :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّوط قونس الفرس (١)

أراد : اضربن عنك الهموم ، وحذف النون.

هذا باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل

آخره على أوله

(وذلك قولك : مالك وزيدا وما شأنك وعمرا).

وإنّما نصبوا عمرا لأن عمرا هو شريك الكاف في المعنى ولم يصح العطف عليه ، لأن الكاف ضمير مخفوض ، ولا يجوز عطف الظّاهر المخفوض على المكنيّ ، ولم يصلح أيضا رفعه ؛ لأنك لو رفعته كنت عاطفا له على الشأن ، وليس عمرو بشريك للشأن ولا أردت أن تجمع بينهما فحمل الكلام على المعنى ، فجعل ما شأنك ومالك بمنزلة ما تصنع فصار كأنك قلت ما صنعت وزيدا ، (قال الشاعر :

فما لك والتلدّد حول نجد

وقد غصّت تهامة بالرّجال (٢)

وقال الآخر :

فما لكم والفرط لا تقربونه

وقد خلته أدنى مردّ لعاقل (٣)

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت لمسكين الدارمي : ديوانه ٦٦ ورواية الديوان :

أتوعدني وأنت بذات عرق

وقد غصت تهامة بالرجال

خزانة الأدب ٣ : ١٤٢.

(٣) البيت ينسب إلى : عبد مناف بن ربع الجربيّ الهذلي.

شرح أشعار الهذليين ٢ : ٦٨٦.


واستدل سيبويه (على أنه لا يحسن عطف عمرو على الشأن بأنك لو قلت : ما شأنك وما عبد الله ، لم يكن كحسن" ما جرم وما ذاك السويق" لأنّك توهم أنّ الشأن هو الذي يلتبس بزيد ، ومن أراد ذلك فهو ملغز تارك لكلام الناس الذي يسبق إلى أفئدتهم).

وإذا أضفت الشأن إلى ظاهر حسن الكلام كقولك ما شأن عبد الله وأخيه ، وما شأن زيد وأمة الله يشتمها ، ويكون يشتمها في موضع نصب على الحال ، فإن شئت جعلته حالا من الأوّل وإن شئت جعلته حالا من الثاني.

وقد سمع من العرب : " ما شأن قيس والبرّ تسرقه" أراد بقيس القبيلة.

وقد مثّل سيبويه ما شأنك وملابسة زيدا وملابستك زيدا ، ولا يخرج ذلك عن معنى ما صنعت وزيدا ، وما تصنع وزيدا ؛ لأنّ ذلك ملابسة ، وكيف ما عبّر عنه إذا أدّى المعنى جاز ، ولو نصب مع الظاهر جاز ، فقال : ما شأن عبد الله وزيدا ، لأنّ الملابسة مع الظاهر كالملابسة مع المكنيّ في المعنى ، ومن نصب قال : ما لزيد وأخاه ، كأنه قال : ما كان شأن زيد وأخاه ، ومن ثمّ قالوا : حسبك وزيدا ، لأنّ معناه : كفاك ، كأنّه قال : كفاك وزيدا وكأنّه قال : حسبك وبحسب زيدا درهم ، وكذلك : كفيك وقطك في معنى حسبك ، تقول : قطك وزيدا درهم ، وكفيك وزيدا درهم ، قال الشّاعر :

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد (١)

كأنه قال : يكفيك ويكفي الضّحّاك.

قال : وأما ويلا له وزيدا ، وويله وأباه فالنّصب على معنى الفعل الذي نصبه ، وعنده أنّ الفعل الذي نصبه كأنّه قال : ألزمه الله ويلا ، فعطف زيدا والأب على ذلك المعنى ، كأنه قال : وألزم زيدا وألزم أباه ، وكذلك لو رفع ويلا فقال : ويل له وأباه ، لأنّ معناه وإن كان رفعا معنى الفعل ، كما أن حسبك وزيدا معناه معنى يكفيك ، ومعنى ويل له كمعنى ويله إذا نصبت فتقديره الزم موجود.

__________________

(*) البيت في ذيل الأمالي : لجرير ١٤٠ ، وليس في ديوانه.

خزانة الأدب ٧ : ٥٨١ (بلا نسبة) ؛ شرح شواهد الإيضاح ٣٧٤ ؛ شرح شواهد المغني ٢ : ٩٠٠.


قال : ولا يجوز أن تقول : هذا لك وأباك ، لأنه لم يتقدم استفهام ولا فعل ولا حرف فيه معنى فعل ، وإنّما يجرّ هذا في ضرورة الشّعر ، لأن الذي يقول : مررت بك وزيدا لا يقول : هذا لك وزيدا ؛ لأن الفعل عامل قويّ ظهر وموضع حرف الجرّ نصب فيحمل الثّاني في النّصب على معنى الفعل كأنّه قال : لقيتك وأباك ، ولا يقال : هذا لك وأباك ، لأنّه لا فعل ههنا.

هذا باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل

غير المستعمل إظهاره

(وذلك قولك : سقيا لك ، ورعيا وخيبة لك ، ودفرا ، وجدعا ، وعقرا ، وبؤسا ، وأفّة ، وتفّة ، وبعدا ، وسحقا ، ومن ذلك أيضا قولك : تعسا ، وتبّا ، وجوعا ، ونوعا) ، وذكر سيبويه جودا وجوسا في معنى : جوعا ومعنى نوعا : عطشا ، وفي الناس من يقول : هو إتباع ، قال الشاعر :

" والأسل النّياعا" ، (١) أي : العطاشا ، ونحو قول ابن ميادة :

تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي

بجارية بهرا لهم بعدها بهرا (٢)

ومعنى بهرا : قهرا ، أي : قهروا قهرا ، وغلبوا غلبا ، كقولك : بهرني الشيء ، ومنه القمر الباهر إذا تم ضوءه وغلب ، كأنك قلت : سقاك الله سقيا ، ورعاك رعيا ، وخيبك الله خيبة ، فهذا وما أشبهه ينتصب على الفعل المضمر ، وجعلوا المصدر بدلا من اللفظ بذلك الفعل ، ومعنى قولنا : بدل من ذلك الفعل أنهم استغنوا بذكره عن إظهاره كما قالوا : الحذر الحذر أي : احذر الحذر ، ولم يذكروا احذر ، وبعض هذه المصادر لا يستعمل الفعل المأخوذ منه ، وبعض يستعمل ، فمما لم يستعمل قولهم : بهرا كأنك قلت : بهرك الله إذا دعا عليه ، وهذا

__________________

(١) قائله القطامي :

لعمر بن شهاب ما أقاموا

صدور الخيل والأسل النياعا

ملحق ديوان القطامي ٢١٤ ، أدب مكاتب ٤٧.

(٢) البيت لابن ميادة : ديوانه : ١٣٥ ؛ أساس البلاغة (بهر) ؛ الأغاني ٢ : ٢٣٧ ، الإنصاف ١ : ٢٤١ واللسان (فقد) ؛ المقاصد النحوية ١ : ٥٢٤ ؛ وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٦٧ ؛ وليزيد بن مفرغ في ملحق ديوانه ٢٤٣.


تمثيل ولا يتكلم به ، وكذلك لا يتكلم بالفعل من جوسا وجودا في معنى : جوعا.

قال سيبويه : (ومما يدلّك أيضا أنه على الفعل نصب أنك لم تذكر شيئا من هذه المصادر لتبني عليه كلامك ، كما تبني على عبد الله إذا ابتدأته ، وأنك لم تجعله مبنيا على اسم مضمر في نيتك ، ولكنه في دعائك له أو عليه).

يعني : أن هذه المصادر لم يذكرها الذاكر ليخبر عنها بشيء كما يخبر عن زيد إذا قال : زيد قائم ، أو عبد الله قائم ، وهذا معنى قوله : لتبني عليه كلامك كما تبني على عبد الله ، يعني : تبني عليه خبرا ، ولم تجعل هذه المصادر أيضا خبرا لابتداء محذوف فترفعها ، وهذا معنى قوله : إنك لم تجعله مبنيا على اسم مضمر يعني : خبرا لاسم مضمر وإنما هو دعاء منك لإنسان كقولك : سقيا ورعيا ، أو دعاء عليه كقولك : تعسا وتبّا وجدعا ، وتركوا الفعل استغناء بعلم المخاطب ، وربما جاءوا به توكيدا فقالوا : سقاك الله سقيا كما أكدوا قولك : مرحبا بقولهم : بك ، ولو قالوا : مرحبا لكان المعنى مفهوما ، وربما رفعوا ذلك والمعنى واحد ، كما يقول : سلام عليكم وإنما تريد معنى سلّم الله عليك ، ولكنه يخرجه فخرج ما قد ثبت.

وقال أبو زبيد يصف أسدا :

أقام وأقوى ذات يوم وخيبة

لأوّل من يلقى وشرّ ميسّر (١)

أراد : أقام الأسد وأقوى : لم يأكل شيئا ، الإقواء : فناء الزاد وعدم الأكل ، وخيبة لأول من يلقاه الأسد الذي قد أقوى وجاع ، وهذا ليس بدعاء ، ولكن أجراه سيبويه مجرى الدعاء عليه ؛ لأنه لم يكن بعد وإنما يتوقع ، كما أنّ المدعوّ به لم يوجد في حال الدعاء.

(ومثله في الرفع بيت سمعناه ممن يوثق بعربيته يرويه لقومه :

عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم

يقول الخنا أو تعتريك زنابره (٢)

فرفع عذيرك والأكثر نصبه وقد ذكرناه ، والذي يرفعه يجعله مبتدأ ويضمر خبرا ، كأنه قال : إنما عذرك إياي من مولى هذا أمره).

وزنابره يعني : ذكره إياه بالسوء وغيبته.

__________________

(١) البيت لأبي زبيد الطائي : البيت سبق تخريجه.

(٢) بلا نسبة في هارون ١ : ٣١٣.


قال : (ومثله قول الشاعر ، وهو حسان :

أهاجيتم حسّان عند ذكائه

فغيّ لأولاد الحماس طويل (١)

 فهذا دعاء من حسان لأنه هجا رهط النجاشي ، ورفع كما يرفع ـ رحمة الله عليه ـ وفيه معنى الدعاء.

هذا باب ما أجري من الأسماء مجرى المصادر

التي يدعى بها

(وذلك قولك : تربا ، وجندلا ، وما أشبه هذا. فإن أدخلت" لك" فقلت : تربا لك ، فإن تفسيرها هاهنا كتفسيرها في الباب الأول).

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا الباب يدعى فيه بجواهر لا أفعال منها نحو التراب والترب والجندل ، وهو : الصخر ، وقوله فاها لفيك ، وفاها إنما هو اسم للفم وليس لشيء من ذلك فعل يصير مصدرا له ، ولكنهم أجروه في الدعاء مجرى المصادر التي قبل هذا الباب وقدّروا الفعل الناصب لها ما قاله سيبويه.

قال : (كأنهم قالوا : ألزمك الله ، وأطعمك الله تربا وجندلا ، وما أشبه هذا من الفعل ، واختزل الفعل هاهنا ، يعني : حذف ، لأنهم جعلوه بدلا من قولهم تربت يداك).

فعبّر عنه سيبويه بفعل قد صرف من التراب ، وقد رفعه بعض العرب ، والرفع فيه أقوى من الرفع في المصادر في الباب الذي قبله ، قال الشاعر :

فترب لأفواه الوشاة وجندل (٢)

فترب مبتدأ والخبر لأفواه الوشاة ، وفيه معنى المنصوب في الدعاء كما كان في قولك" سلام عليكم" معنى الدعاء.

قال : (فمثله قول العرب" فاها لفيك". وإنما يريد" فا" الداهية ، فجعل" فاها" منصوبا بمنزلة تربا لفيك ، وإنما يخصّون في مثل هذا الفم لأن أكثر المتآلف فيما يأكله

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت : ورواية الديوان :

هيجتم ...

غيّ لمن ولد الحماس طويل

ديوانه : ١٨٧ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٠٥.

(٢) عجز بيت وصدره (لقد ألب الواشون ألبا لبيتهم) شروح سقط الزند : ق ٣.


الإنسان أو يشربه من السم وغيره.

قال : وصار" فاها" بدلا من اللفظ بقولك : دهاك الله وإنما جعله بدلا من هذا تقريبا ؛ لأنه فم الداهية في التقدير ، فذكر الفعل المتصرف من الداهية والفعل المقدر في هذا ونحوه ليس بشيء معين لا يتجاوز ، قال أبو سدرة الأسدي :

تحسّب هوّاس وأيقن أنني

بها مفتد من واحد لا أغامره

فقلت لها فاها لفيك فإنّها

قلوص امرئ قاريك ما أنت حاذره (١)

يصف الأسد ، والهوّاس من أسماء الأسد ، وتحسّب : تحسّس ، يقال : فلان يتحسّب الأخبار ، أي : يتحسّس ، ويجوز أن يكون تحسّب في معنى : حسبته فتحسّب ، مثل : كفيته فاكتفى).

قال أبو سعيد : والذي أحفظ في هذا" وأيقن أنني" معناه : أنه عرض لناقة له فحكى عن الأسد أنه توهم أنني أدع الناقة وأفتدي بها من لقاء الأسد ، وواجه هو الأسد و" لا أغامره" : ولا أقاتله ، لا أرد معه غمرات الحرب ، وتكون تحسّب من المحسبة ، وأنني : مفعول المحسبة ، وتكون الرواية : " وأقبل معطوفا على تحسّب" يكون التقدير : تحسب هوّاس أنني مفتد بها من واحد لا أغامره وأقبل ، كما تقول : حسب زيد أنني قائم وأقبل ، ولو قلت : حسب زيد وأقبل بأنني قائم لجاز ، كما تقول : ضربت وضربني زيدا على معنى : ضربت زيدا وضربني ، " فقلت له" : يعني الأسد" فاها لفيك : دعاء عليه بإصابة الداهية له وهو على وجه التهدد ، " فإنها قلوص امرئ" يعني الناقة التي أراد أخذها الأسد ، قال : والدليل على أنه يريد بها الداهية ما أنشده سيبويه :

وداهية من دواهي المنو

ن تحسّبها الناس لا فا لها (٢)

" لا فا لها" في موضع خبر المحسبة ، كما تقول : حسبت زيدا لا غلام له ، وإنما ذكر هذا تعظيما لأمرها ، أي : لا يدري الناس كيف يأتونها ويتوصلون إلى دفعها.

__________________

(١) خزانة الأدب ٢ : ١١٦ ، ١١٨ ، ورواية البيت الثاني في الخزانة : (له) بدلا من (لها) ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٢.

(٢) خزانة الأدب ٢ : ١١٧ ؛ تاج العروس (فوه).


هذا باب ما أجري مجرى المصادر المدعوّ بها من الصفات

(وذلك قولك : هنيئا مريئا ، وليس في الباب غير هذين الحرفين صفة دعائها ، وذلك أنّ هنيئا مريئا صفتان ، لأنك تقول : هذا شيء هنيء مريء كما تقول : هذا جميل صحيح ، وما أشبه ذلك من الصفات على فعيل فدعي بهما للإنسان وليستا بمصدرين ، ولا هما من أسماء الجواهر كالتراب والجندل).

فأفرد لهما بابا آخر ، ويكون التقدير في نصبهما كأنه قال : ثبت لك ذلك هنيئا مريئا ، وذلك لشيء تراه عنده مما يأكله وممّا يستمتع به أو يناله من الخير ، فاختزل الفعل وجعل بدلا من اللفظ بقولهم هنأك ، ويدل على ذلك أنّه قد يظهر" هنأك" في الدّعاء.

قال الأخطل :

إلى إمام تغادينا فواضله

أظفره الله فليهنئ له الظّفر (١)

فدعا له بيهنئ ، والظفر فاعله ، وصار" يهنئ له الظفر" كقوله : هنيئا له الظّفر ، وصار اختزال الفعل وحذفه في هنيئا كحذفه في قولهم : الحذر ، والتقدير : احذر الحذر ، فإذا قلت : هنيئا له الظّفر ، فالتقدير : ثبت هنيئا له الظفر ، فيكون الظفر مرفوعا بالفعل المقدّر ، ومثله :

هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللعزب المسكين ما يتلمّس (٢)

كأنّه قال : ثبت هنيئا ، إذا ظهر الفعل ارتفع به الاسم ، كقولك هنأه الظّفر وليهنئ له الظّفر وما أشبه ذلك.

هذا باب ما أجري من المصادر المضافة مجرى

المصادر المفردة المدعوّ بها

(وإنّما أضيف ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام إذا قلت : سقيا لك ؛ لتبيّن من تعني ، وذلك قولك : ويحك ، وويلك ، وويسك ، وويبك ، ولا يجوز سقيك).

ذكر سيبويه هذه الأشياء على نحو استعمال العرب لها ، ولم يجز سقيك لأنّ العرب لم تدع به ، وإنّما وجب لزوم استعمال العرب إيّاها لأنّها أشياء قد حذف منها

__________________

(١) ديوان الأخطل ١٦٧ : شرح أبيات سيبويه ١ : ١٧٢ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٣.

(٢) بلا نسبة في : شرح أبيات سيبويه ١ : ١٣٣.


الفعل وجعلت بدلا من اللفظ بالفعل على مذهب أرادوه من الدّعاء ، فلا يجوز تجاوزه ؛ لأنّ الإضمار والحذف اللازم وإقامة المصادر مقام الأفعال حتّى لا تظهر الأفعال معها ليس بقياس مستمرّ فيتجاوز فيه الموضع الّذي لزموه.

قال : (ومثله عددتك ، وكلتك ، ووزنتك ، ولا تقول : وهبتك ، لأنّهم لم يعدّوه ، ولكن وهبت لك).

وكان المبرد يقول : إنّما قالوا : عددتك ، ووزنتك ، وكلتك في معنى : عددت لك ، وكلت لك ، ووزنت لك ، لأنّه لا يشكل ، ولم يقولوا : وهبتك في معنى : وهبت لك ، لأنّه يجوز أن يهبه ، فإذا زال الإشكال زال ، وهو أن يقول : وهبتك الغلام ، أي : وهبت لك ، وإنّما ذكر سيبويه كلام العرب أنّهم يحذفون حرف الخفض في عددتك ووزنتك وكلتك وإن لم يذكر المعدود والمكيل والموزون ، كما قال عزوجل (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(١).

ولا يجوز مثل ذلك في وهبتك ، لأنّ ما كان أصله متعدّيا بحرف لم يجز حذفه ، وإن لم يكن ليس إلا فيما حذفته العرب ، ألا ترى أنه لا يجوز مررتك ولا رغبتك على معنى : رغبت فيك ، وحكى أبو عمرو الشّيباني (٢) عن بعض العرب : انطلق معي أهبك نبلا ، يريد أهب لك نبلا وهذا يؤيد قول أبي العبّاس.

قال سيبويه : (وهذا حرف لا يتكلّم به مفردا إلا أن يكون معطوفا على ويلك ، وهو قولك : ويلك وعولك).

وهذا كالإتباع الذي لا يؤتى به إلا بعد شيء يتقدمه ، نحو : أجمعين وأكتعين ، فإن قال قائل : عولك لا يجري مجرى الإتباع لأمرين :

أحدهما : أن فيه الواو ، والإتباع المعروف لا يكون بعد واو.

والآخر : أن عولك معنى معروف ، لأنّه من عال يعول ، كما تقول جاز يجوز ، والعول هو : البكاء ، والحزن معروف.

__________________

(١) سورة المطففين ، الآية : ٣.

(٢) إسحاق بن مراد أبو عمرو الشيباني الكوفي يعرف بأبي عمرو والأحمر وليس من شيبان بل أدب أولادا منهم فنسب إليهم كان راوية أهل بغداد واسع العلم باللغة والشعر له النوادر ـ النوادر الكبير أشعار القبائل. الفهرست : ٦٨ ، معجم الأدباء ٦ : ٧٧ ، تهذيب اللغة ١ : ٦.


قيل له : إنّما أراد سيبويه أنّه لا يستعمل في الدّعاء وإن كان معقول المعنى إلا عطفا ولم يرد باب الإتباع الّذي هو بمنزلة أجمعين وأكتعين.

قال أبو سعيد : وقد اعترض في مواضع من كلام سيبويه في هذا الباب منها : أنّه قال : وإنّما أضيفت يعني أضيفت ويلك ، وويسك ، وويبك ، ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللّام إذا قلت : سقيا لك ومن قوله إنّ لك منصوبة بأعني ، وإنّما جاز بعد سقيا لتبين الدّعاء لمن هو ، وإذا أضاف كان من كلام واحد.

وقد يردّ عليه فيقال : اللام بمعنى أعني وليست الإضافة كذلك فلم جعله بمنزلته؟ فيقال : ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام ولم يرد سيبويه أنه مثله في العامل وإنما أراد أنه مثله في بيان من عني به.

وقد ردّ على سيبويه بعض الكوفيين فرقه بين الإضافة واللام.

وزعم الكوفي أن الإضافة واللام جميعا من كلام واحد كقولك : غلام زيد ، وغلام لزيد.

والوجه ما قاله سيبويه ، لأنا إذا رددناه إلى الذي هو" سقاك الله سقيا" لم يقل فيه لك ، ومذهب البصريين وسيبويه أنّ ويلك وويسك اتّصل بهن كلّهنّ كاف المخاطب ، وأصل الكلمات ويح وويل وويس.

وقال الفرّاء : أصلها كلها وي ، فأما ويلك فهي : وي زيدت عليها لام الجرّ ، فإذا كان بعدها مكنيّ كانت اللام مفتوحة ، كقولك : ويلك ، وويله ، وإن كان بعدها ظاهر جاز فتح اللام وكسرها ، وذكر أنّه ينشد :

يا زبرقان أخا بني خلف

ما أنت ويل أبيك والفخر (١)

بكسر اللّام وفتحها ، فالّذين كسروا اللّام تركوها على أصلها ، والّذين فتحوا اللّام جعلوها مخلوطة بوي كما قالت العرب : يا آل تيم ثمّ أفردت هذه اللّام فخلطت بيا كأنّها منها ، قال الفرّاء : أنشدت :

فخير نحن عند النّاس منهم

إذا الدّاعي المثوّب قال يالا (٢)

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت لزهير بن مسعود الضبي : الخصائص ١ : ٢٧٧ ؛ خزانة الأدب ٢ : ٦.


ثم كثر الكلام فأدخلوا لها لاما أخرى ، يعني ويل لك ، وويح لك ، وذكر أن ويسا ، وويحا هما كنايتان عن الويل والويح ، لأنّ الويل كلمة شتم معروفة مصرّحة ، وقد استعملتها العرب حتّى صارت تعجّبا ، يقولها أحدهم لمن يحبّ ولمن يبغض ، وكنّوا بالويس عنها ، ولذلك قال بعض العلماء : الويس : رحمة ، كما كنّوا عن غيرها فقالوا : قاتله الله ، ثم استعظموا ذلك فقالوا : قاتعه الله ، وكاتعه الله ، كما قالوا : جوعا ثم كنوا عنها فقالوا : جوسا له ، وجودا وترابا له ومعناه : الجوع.

قال أبو سعيد : لو كان القول على ما قال الفرّاء لما قيل : ويل لزيد فتضمّ اللام وتنوّن وتدخل لاما أخرى.

فإن قال قائل : لمّا كثر الكلام توهّموا أنّها من الأصل.

قيل له : قد أقررت أنّ الذي أدخل اللّام الثانية أدخلها على أنّ اللام من الأصل توهّما وغلطا ، وبعيد أن نتوهّم كلّ هذا الغلط ونستعمله ، وإنّما الغلط يجوز على بعض ويجيء شاذا.

وأيضا لو كان الأمر على إدخال لام أخرى لكان ينبغي أن تترك هذه على كسرتها أو فتحتها فيقال : ويللزيد أو يللزيد وويللك وهذا بيّن واضح.

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في

غير الدّعاء

(من ذلك قولك حمدا وشكرا لا كفرا وعجبا ، وأفعل ذاك وكرامة ومسرّة ونعمة عين ، وحبّا ونعام عين ، ونعمى عين ، ولا أفعل ذاك ولا كيدا ولا همّا ، ولأفعلنّ ذاك رغما وهوانا).

وهذا الباب الفعل المضمر فيه العامل في هذه المصادر إخبار يخبر المتكلم فيه عن نفسه وليس بدعاء على أحد ، ولكنّه قد ضارع الدعاء ؛ لأن المضمر فعل مستقبل فأشبه الدّعاء لاستقباله ، كأنّه قال : أحمد الله حمدا ، وأشكر الله شكرا ، وأعجب عجبا ، وأكرمك كرامة ، وأسرّك مسرّة ، وإذا قال : ولا كيدا ولا هما ، فمعناه : ولا أكاد كيدا ، ولا أهمّ هما به تبعيدا لما نفى أن يفعل.

وقوله : لأفعلنّ ذلك رغما وهوانا أي : أرغمك بفعله رغما ، وأهينك هوانا به ، والرّغم : لصوق الأنف بالتّراب ، وإنما يراد به الذّلّ ، وحذف الفعل المقدّر في هذا كحذفه


في الدّعاء.

قال : (وقد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ ثمّ يبنى عليه.

وزعم يونس أنّ رؤبة بن العجّاج كان ينشد هذا البيت رفعا ، وهو لبعض مذحج :

عجب لتلك قضيّة وإقامتي

فيكم على تلك القضيّة أعجب (١)

إذا رفع عجب كأنّه قال : أمري عجب ، وإنما هذا البيت يتلو قضيّة غير مرضيّة يتعجّب فيها ، والذي قبله :

أمن السّوية أن إذا أخصبتم

وأمنتم فأنا البعيد الأجنب

وإذا تكون شديدة أدعى لها

وإذا يحاس الحيس أدعى جندب

هذا لعمركم الصغار بعينه

لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب (٢)

ثم قال : " عجبا لتلك قضيّة" ... البيت.

قال : (وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له : كيف أصبحت؟ فيقول : حمدا لله وثناء عليه ، كأنه قال : أمري وشأني ، ولو نصب فقال : حمدا لله وثناء عليه كان على الفعل ، ومن المرفوع قوله :

فقالت حنان ما أتى بك ههنا

أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف (٣)

كأنها قالت : أمرنا حنان ولم ترد تحنن ، ولو أرادته لقالت : حنانا كما قال الشاعر :

تحنّن عليّ هداك المليك

فإنّ لكلّ مقام مقالا (٤)

 (ومثل الرفع قول الله عزوجل : (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ)(٥).

لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه ، ولكنهم قيل لهم : لم

__________________

(١) شرح المفصل ١ : ١١٤ ، وفيه منسوب ل (رؤبة بن العجاج) ؛ قطر الندى ٣٢١.

(٢) الأبيات لابن أحمر الكناني ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٢ : ١١٠ ؛ كتاب اللامات : ١٠٦ ؛ اللسان (حيس).

(٣) ينسب لمنذر بن درهم الكلبي : الخزانة ٢ : ١١٢ ؛ شرح المفصل ١ : ١١٨ ؛ الصاحبي ٢٥٠.

(٤) البيت للحطيئة : ديوانه : ٧٢ ؛ تلخيص الشواهد ٢٠٦ ؛ همع الهوامع ١ : ١٨٩ ، الدرر ٣ : ٦٤.

(٥) سورة الأعراف ، الآية : ١٦٤.


تعظون؟

فقالوا : معذرتنا إياهم معذرة إلى ربّكم.

ولو قال رجل لرجل : معذرة إلى الله وإليكم من كذا وكذا ، يريد اعتذارا ، لنصب ومثله قول الشّاعر :

يشكو إليّ جملي طول السّرى

صبر جميل فكلانا مبتلى (١)

والنصب أجود وأكثر لأنه يأمره بالصّبر.

ومثل الرّفع قول الله عزوجل (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٢).

فنصب صبر في البيت أجود ؛ لأن الجمل كان شاكيا لطول السّرى فأمره صاحبه بالصّبر ، والذي في الآية إخبار يعقوب عليه‌السلام بصبر حاصل فيه ، أو تخبرنا بأنه سيكون فيه عند فقدان يوسف عليه‌السلام لأنه قال (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٣). أي فأمري صبر جميل ، والمضمر الذي يكون بعده مرفوع كالمضمر الذي بعده منصوب في ترك إظهاره لأنّ المعنيين متقاربان.

هذا باب ـ أيضا ـ من المصادر ينتصب على إضمار الفعل

المتروك إظهاره

(ولكنها مصادر وضعت موضعا واحدا لا يتصرف في كلام تصرّف ما ذكرنا من المصادر ، وتصرّفها أنها تقع في موضع الجر والرفع وتدخلها الألف واللام.

وذلك قولك : سبحان الله ، ومعاذ الله وريحانه ، وعمرك الله إلّا فعلت ، وقعدك الله إلّا فعلت ، كأنّه حيث قال : سبحان الله قال تسبيحا ، وحيث قال : وريحانه قال واسترزاقا ، لأنّ معنى الرّيحان : الرزق ، فنصب هذا على معنى أسّبح الله تسبيحا ، وأسترزق الله استرزاقا ، فهذا بمنزلة سبحان الله وريحانه.

وخزل الفعل هنا لأنّه بدل من اللّفظ بقوله أسبّحك وأسترزقك ، وكأنه حيث

__________________

(١) رجز منسوب ل (ملبد بن حرملة) : تهذيب إصلاح المنطق ٣٦١ ، ٥٣٩ ؛ تاج العروس (شكى).

(٢) سورة يوسف ، الآية : ١٨.

(٣) سورة يوسف ، الآية : ١٨.


قال معاذ الله قال عياذا بالله فانتصب على أعوذ بالله عياذا ، ولكنّهم لم يظهروا الفعل ههنا كما لم يظهروا في الذي قبله.

وكأنه حين قال : عمرك الله وقعدك الله قال : عمّرتك الله ، بمنزلة نشدتك الله ، فصار عمرك منصوبة بعمّرتك كأنك قلت : عمّرتك عمرا ونشدتك نشدا ، ولكنهم خزلوا الفعل لأنهم جعلوه بدلا من اللّفظ به ، قال الشاعر :

عمّرتك الله إلّا ما ذكرت لنا

هل كنت جارتنا أيّام ذي سلم (١)

وقعدك يجري هذا المجرى وإن لم يكن له فعل ، كأن قولك عمرك الله ، وقعدك الله بمنزلة نشدك الله ولكن زعم الخليل أن هذا تمثيل يمثّل به ، قال الشاعر :

عمّرتك الله الجليل فإنّني

ألوي عليك لو أنّ لبّك يهتدي (٢)

والمصدر النّشدان والنّشدة).

قال أبو سعيد : أمّا سبحان فهو مصدر فعل لا يستعمل كأنه قال : سبّح سبحانا ، كما تقول : كفر كفرانا ، وشكر شكرانا ، ومعناه معنى التبرئة والبراءة ، ولم يتمكن في مواضع المصادر ؛ لأنه لا يأتي إلا مصدرا منصوبا مضافا وغير مضاف ، وإذا لم يضف ترك صرفه ، فقيل : سبحان من زيد ، أي : براءة من زيد ، كما قال :

أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر (٣)

وإنّما منع الصّرف لأنه معرفة وفي آخره ألف ونون زائدتان مثل : عثمان ونحوه.

فأما قولهم : سبّح يسبّح فهو فعل ورد على سبحان بعد أن ذكر وعرف ، ومعنى سبّح زيد ، أي : قال : سبحان الله ، كما تقول : بسمل إذا قال : بسم الله ، وقد يجيء في الشعر سبحان منونا كقول أمية :

سبحانه ثم سبحانا نعوذ به

وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (٤)

__________________

(١) البيت للأحوص : ديوانه : ١٩٩ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٣ ، ١٤.

(٢) المقتضب ٢ : ٣٢٩ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٥ ، ٣ : ١٣٢.

(٣) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس : ديوانه : ١٤٣ ؛ أساس البلاغة ١ : ٤١٨ ؛ الخصائص ٢ : ٤٣٧ ؛ خزانة الأدب ١ : ١٨٥ ، ٧ : ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٨.

(٤) البيت لأمية بن أبي الصلت : ديوانه : ٣٠ ، خزانة الأدب ٣ : ٣٨٨ ، ٧ : ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨ ، ٢٤٣.


وفيه وجهان : يجوز أن يكون نكرة فيصرفه ، ويجوز أن يكون صرفه للضرورة.

وروى الرّياشيّ : " ثم سبحانا يعود له" بالدال غير معجمة ، أي : يعاود مرّة بعد مرّة.

وأمّا معاذ الله فإنه يستعمل منصوبا كما ذكر سيبويه مضافا ، والعياذ الذي هو في معناه يستعمل منصوبا ومرفوعا ومجرورا بالألف واللام ، فيقال : العياذ بالله وألجأ إلى العياذ بالله.

وأما ريحانه : ففيه معنى الاسترزاق ، فإذا دعوت به كان مضافا ، وقد أدخله سيبويه في جملة ما لا يتمكن من المصادر ، ولا ينصرف ، ولا يدخله الرّفع والجر والألف واللام ، وقد ذكر في معنى قوله تعالى : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ)(١) ، أنه الرزق وهو مخفوض بالألف واللام ، قال النّمر بن تولب :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر (٢)

فرفع ، ولعل سيبويه أراد إذا ذكر ريحانه مع سبحانه كان غير متمكّن كسبحان.

وأما عمرك الله فهو مصدر ونصبه على تقدير فعل ، وقد يقدر ذلك الفعل على غير وجه.

منهم من يقدر أسألك بعمرك الله وبتعميرك الله ، أي : وصفك الله بالبقاء ، وهو مأخوذ من العمر ، والعمر في معنى البقاء ، العرب تقول : لعمرك الله فيحلف ببقاء الله ، وقال :

إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها (٣)

ومنهم من يقدر أنشدك بعمر الله فيجعل المضمر أنشدك ، وهم يستعملون أنشدك في هذا المعنى ، فيقولون : أنشدك بالله ، وإذا حذف الباء وصل الفعل ، ويصرفون منه الفعل فيقولون عمّرتك الله على معنى ذكّرتك الله وسألتك به ، قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ١٢.

(٢) ينسب إلى النمر بن تولب : شواهد تفسير الطبري ١ : ٥٢٣ ، ٢ : ١٩٤ ؛ اللسان وتاج العروس (روح).

(٣) ينسب ل : القحيف العقيلي : خزانة الأدب ١٠ : ١٣٢ ؛ الخصائص ٢ : ٣١٣ ، ٣٩١ ؛ أدب الكاتب : ٥٠٧ ؛ الإنصاف ٢ : ٦٣٠.


عمّرتك الله إلا ما ذكرت لنا

هل كنت جارتنا أيّام ذي سلم (١)

وقال آخر :

عمّرتك الله الجليل فإنّني

ألوي عليك لو أنّ لبّك يهتدي (٢)

وأمّا نصب اسم الله تعالى فلأنه منصوب مفعول المصدر. فكأنّه قال : أسألك بتذكيرك الله أو بوصفك الله تعالى بالبقاء.

وأجاز الأخفش (٣) رفعه على أن الفاعل للتذكير هو الله تعالى ، كأنه قال : أسألك بما ذكّرك الله تعالى به ، وقعدك بمعنى : عمرك ، وفيه لغتان :

قعدك الله ، وقعيدك الله ، قال الشاعر :

فقعدك ألّا تسمعيني ملامة

ولا تنكئي قرح الفؤاد فتيجعا (٤)

وتقديره : أسألك بقعدك وبقعيدك الله ، ومعناه بوصف الله تعالى بالثبات والدوام ، مأخوذ من القواعد التي هي الأصول لما يثبت ويبقى ، ولم يتصرف منه فعل فيقال : قعّدتك الله كما قيل : عمّرتك الله ، لأن العمر معروف في كلام العرب ، وهي كثيرة الاستعمال له في اليمين ، فلذلك تصرّف وكثرت مواضعه.

وأما جواب عمرك الله ، وقعدك الله ، ونشدتك الله ؛ فإنها تكون بخمسة أشياء : بالاستفهام ، والأمر ، والنهي ، وأن ، وإلّا ، ولمّا.

والأصل في ذلك : نشدتك الله ومعناه : سألتك به ، وطلبت منك به ؛ لأنه يقال : نشد الرجل الضالة إذا طلبها ، كما قال :

" أنشد والباغي يحبّ الوجدان"

أي : أطلب الضّالة والطّالب يحبّ الإصابة ، وجعل عمرك الله وقعدك الله في معنى الطلب والسؤال كنشدتك الله ، فكان جوابها كلّها ما ذكرت لك ، لأن الأمر والنهي

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) سعيد بن مسعدة المجاشعي المعروف بالأخفش الأوسط سكن البصرة قرأ النحو على سيبويه وكان معتزليا توفي ٢١٥ ه‍ ، الفهرست : ٥٢ ، معجم الأدباء ١١ ، ٣٣٤.

(٤) خزانة الأدب ٢ : ٢٠ ، ١٠ : ٥٤ ، ٥٦ ؛ تاج العروس (قعد) ؛ جمهرة أشعار العرب ١٤٢ ، وجميعهم يرويه ب (قعيدك).


والاستفهام كلّها بمعنى السؤال والاستدعاء ، وكذلك" أن" لأنه في صلة الطلب بقولك : نشدتك الله أن تقوم ، وكذلك نشدتك الله لا تقم ، قال الشاعر في الأمر :

عمرك الله ساعة حدّثينا

ودعينا من ذكر ما يؤذينا (١)

وقال الآخر في الاستفهام :

عمرك الله أما تعرفني

أنا حرّاث المنايا في الفزع (٢)

لأنّه في معنى الطلب والمسألة ، وعمّرتك الله إلّا فعلت كذا وكذا ، كما تقول : بالله إلّا فعلت كذا وكذا.

ومثل ما ينصب ذلك قولك للرجل : سلاما أي : سلاما منك.

وعلى هذا قوله عزوجل : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(٣). معناه : براءة منكم ، لأنّ هذه الآية في سورة الفرقان ، وهي مكية ، والسّلام في سورة النّساء وهي مدنيّة ولم يؤمر المسلمون بمكّة أن يسلموا على المشركين ، وإنما هذا على معنى : براءة منكم وتسلّما ، لا خير بيننا وبينكم ولا شرّ ، ومنه قول أمّية :

سلامك ربّنا في كلّ فجر

بريئا ما تغنّثك الذّموم (٤)

أي : تنزيها من السّوء ، ومعنى ما تغنّثك أي : تلزّق بك صفة الذم.

وكان أبو ربيعة يقول : إذا لقيت فلانا فقل سلاما ، ومعناه : براءة منك.

قال : (فكل هذا ينتصب انتصاب حمدا وشكرا ، إلا أن هذا يتصرّف وذاك لا يتصرّف).

قال : (ونظير سبحان الله من المصادر في البناء والمجرى لا في المعنى" غفران" لأن بعض العرب يقول : غفرانك لا كفرانك ، يريد : استغفارا لا كفرا).

وجعل فيما لا يتمكن لأنه لا يستعمل على هذا إلّا منصوبا مضافا ، وكذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)(٥). أي : حرما محرّما ، ومعناه : وتقول الملائكة :

__________________

(١) البيت لعمرو بن أحمد الباهلي ، المحتسب ١ : ١٠٠.

(٢) همع الهوامع ٢ : ٤٥ ؛ الدرر ٤ : ٢٥٢.

(٣) سورة الفرقان ، الآية : ٦٣.

(٤) البيت لأمية بن أبي الصلت : ديوانه : ٥٤ ، تاج العروس (غنث).

(٥) سورة الفرقان ، الآية : ٢٢.


حجرا محجورا ، أي : حراما عليهم الغفران والجنّة ونحوه من التقدير على معنى : حرّم الله ذلك تحريما ، أو جعل الله ذلك محرّما عليهم.

(ويقول الرجل للرّجل : أتفعل كذا وكذا ، فيقول : حجرا وبراءة).

وكل ذلك يؤول إلى معنى المنع ؛ لأن الحجر مأخوذ من البناء الذي يحجّر به ليمنع من وصول ما يصل إلى ما وراءه.

(ومن العرب من يرفع" سلام" إذا أراد معنى المبارأة كما رفعوا" حنان" ، سمعنا بعض العرب يقول لرجل : لا تكونن منّي في شيء إلا سلام بسلام ، أي : أمري وأمرك المبارأة المتاركة ، وتركوا لفظ ما يرفع كما تركوا فيه لفظ ما ينصب).

وقد مضى نحوه.

قال : (وأما سبّوحا قدّوسا ربّ الملائكة والرّوح فعلى شيء يخطر على باله أو يذكره ذاكر فقال : سبّوحا أي ذكرت سبّوحا ، كما تقول : أهل ذلك ، إذا سمعت رجلا يذكر رجلا بثناء أو ذمّ كأنك قلت : ذكرت أهل ذاك ، واذكر أهل ذاك ونحوه مما يليق به ، وخذلوا الفعل النّاصب لسبحان لأن المصدر صار بدلا منه).

(ومن العرب من يرفع فيقول : سبّوح قدّوس على إضمار" هو" سبوح) ونحوه مما مضى.

قال : (وممّا ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره ولكنه في معنى التعجّب قولك : كرما ، وصلفا ، كأنه يقول : أكرمك الله كرما ، وأدام الله لك كرما ، وألزمك صلفا ، وفيه معنى التعجّب فيصير بدلا من قولك : أكرم به وأصلف ، وقال أبو مرهب : " كرما وطول أنف" أي أكرم بك وأطول بأنفك).

لأنّه أراد به التعجّب ، وأضمرت الفعل النّاصب كما انتصب مرحبا بما ذكر قبل.

هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدآت

مبنيّا عليها ما بعدها

وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات

(وذلك قولك : الحمد لله والعجب لك ، والويل لك ، والتّراب لك ، والخيبة له ، وإنّما استحبّوا الرّفع فيه لأنّه صار معرفة فقوي في الابتداء بمنزلة عبد الله والرجل


والذي تعلم ، لأنّ الابتداء إنّما هو خبر).

قال أبو سعيد : يعني هذه المصادر التي ذكرها اختارت العرب فيها الرّفع ؛ لأنّهم جعلوها كالشيء اللّازم الواجب فأخبروا عنها ، وجعلوها مبتدأة وجعلوا ما بعدها خبرها وصار بمنزلة قولك : الغلام لزيد ، ثم وصل ذلك من جهة الابتداء فقال : وإذا اجتمع معرفة ونكرة فأحسنه أن يبتدأ بالأعرف وهو وجه الكلام ، ومعنى يبتدأ بالأعرف أن تجعله هو المبتدأ المخبر عنه وإن أخّر في اللفظ ، وكذلك لو وقع بعد كان وإنّ فالوجه : أن تجعل الأعرف هو الاسم كقولك : كان زيد منطلقا ، وكان منطلقا زيد ، ولم يحسن أن تقول : كان منطلق زيدا ؛ لأنّك إنما تخبر عمّن يعرفه المخاطب بما لا يعرفه من شأنه حتّى يعرفه فيساويك فيه وفي خبره.

وفائدة الإفادة من المتكلم للمخاطب في الخبر ، ولو جعل الاسم نكرة والخبر معرفة والاسم لا يستفيده المخاطب لم يصر المخاطب بمنزلة المتكلم في معرفة ما أفاده إياه.

قال : (ولو قلت : رجل ذاهب ، لم يحسن ، لأنه لا فائدة فيه ، فإن قرنته بشيء يقرّبه من المعرفة وتقع به فائدة جاز ؛ فتقول : راكب من بني فلان سائر ، وتبيع الدّار فتقول : حدّ منها كذا وحدّ منها كذا ، فأصل الابتداء للمعرفة فإذا أدخل فيه الألف واللام حسن الابتداء).

يعني أنّ الذي حسّن الابتداء في : " الحمد لله ، والعجب والويل لزيد" دخول الألف واللام فيه ، وإذا نكّر ضعف الابتداء بالنكرة إلا أن يكون في المنكور المبتدأ به معنى المنصوب كنحو ما ذكرنا ، وقولهم : سلام عليكم ، وويل لزيد ، وخيبة لزيد ؛ لأن هذه أشياء يدعى بها ويجوز فيها النّصب ، فإذا رفع وذهب به مذهب الدعاء جرى مجرى المنصوب في حسنه وإن كان الابتداء بنكرة ، وقد مضى نحو هذا.

قال سيبويه : (وليس كلّ حرف يصنع به كذلك ، كما أنه ليس كلّ حرف تدخل فيه الألف واللّام من هذا الباب ، لو قلت : السقي لك والرعي لك لم يجز).

قال أبو سعيد : اعتماد سيبويه في هذا ونحوه على استعمال العرب فيما استعملته على وجه لم يجاوزه ولم يجز غيره قياسا ، وما استعملته على وجهين أو أكثر جاز من ذلك ما استعملوه ، ولم تستعمل العرب السقي لك ، والرعي لك ، فلم يجزه ، وأجازه الجرميّ والمبرّد ، وقد ذكرنا الاحتجاج لذلك فيما مضي.


(والحمد وإن ابتدأته فمعناه معنى المنصوب).

وهو إخبار فإذا نصب فمعناه أحمد الله حمدا يخبر عن نفسه بما يفعله من ذلك ، وإذا رفع فكأنه قال : أمري وشأني ومقصودي فيما أفعله الحمد لله.

ثم ذكر سيبويه أشياء قد ابتدأت العرب بالنكرة فيها وجّه لها وجها ، وذلك قولك : شيء ما جاء بك ، " وشرّ أهرّ ذا ناب" ، فذكر أنه حسن ذلك لأن معناه : ما جاء بك إلّا شيء ، وما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ ، فالابتداء في هذا محمول على معنى الفاعل وجرى مثلا فاحتمل.

ومعنى شرّ أهرّ ذا ناب معناه : كأنهم سمعوا هرير كلب في وقت لا يهرّ في مثله إلا بسوء ، ولم يكن غرضهم الإخبار عن شرّ ، وإنما يريدون أن الكلب أهره شرّ ، وكذلك قولهم : شيء ما جاء بك ، يقوله الرجل لرجل جاءه ومجيئه غير معهود في ذلك الوقت ، ما جاء بك إلا شيء حادث لا يعهد مثله.

ومما يجري مجرى هذا ولم يذكره سيبويه : " شرّ ما جاءك إلى مخة عرقوب" ، وشرّ ما أشاءك إلى مخة عرقوب ، أي : ألجأك إلى أكل مخة عرقوب ، وهو لا خير فيه ، شرّ يعني : جوعا وضرورة شديدة.

ثم قال : (وقد ابتدئ المنكور في الكلام على غير الوجه الذي ذكروا على غير ما فيه معنى المنصوب وهو قولهم : " أمت في حجر لا فيك").

ومعناه : اعوجاج في حجر لا فيك فحمله سيبويه على أنّه إخبار محض وأن ذلك جاز لأنه مثله.

وقال المبّرد : أرادوا به معنى الدعاء فهو في مذهب المنصوب كأنهم قالوا : جعل الله في حجر أمتا لا فيك.

ومما جاء من نحو هذا ولم يذكره سيبويه قول العرب : " عبد صريخه أمة" ، و" ذليل عاذ بقرملة" ، ويقال هذا إذا استعان الرجل بضعيف لا نصرة له ، ومعنى : صريخه : مغيثه ، والقرملة : شجرة على ساق لا تكنّ ولا تظلّ ، ولو تأوّل متأوّل هذا أن ذلك إنما جاز لأن في تعجّبا ، وقد يجوز أن يقال : عجب لذلك ، وقد مضى ذكر جوازه ، وعبد صريخه أمة وذليل استعان بقرملة من العجب يحسن ذلك حملا على العجب.

وقد رأيت بعض النحويين يذكر أنّ كلّ نكرة مبتدإ بها من هذا النحو ، ففيه معنى


عجب أو دعاء.

قال سيبويه : (ومن العرب من ينصب بالألف واللّام ، ومن ذلك : الحمد لله ، ينصبها عامّة من بني تميم وكثير من العرب ، وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون : التّراب لك ؛ فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة ، كأنك قلت : حمدا وعجبا ثم جئت ب" لك" لتبين من تعني ولم تجعله مبنيا عليه فتبتدئه).

وقد مضى تفسير هذا.

هذا باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من

المصادر والأسماء

وما في هذا الباب من كلام سيبويه قد مضى شرحه في تضاعيف الأبواب المتقدّمة له ، وأنا أسوق كلام سيبويه إلى آخر الباب إلّا الشيء اليسير الذي يحتاج إلى تفسير.

قال : (وذلك قولك : سلام عليك ، ولبّيك وخير بين يديك ، والمراد في قوله : خير بين يديك ، وويل لك ، وويح لك ، وويس له ، وويلة لك ، وعولة وخير لك ، وشرّ لك ، و (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(١) ؛ فهذه الحروف كلّها مبتدأة مبنيّ عليها ما بعدها ، والمعنى فيهنّ : ابتدأت شيئا قد ثبت عندك ولست تعمل في حال حديثك في إثباتها وتزجيتها وفيها ذلك المعنى ، كما أن" حسبك" فيه معنى النهي ، وكما أن قولك : " رحمة الله عليه" في معنى : رحمه‌الله ، فهذا المعنى فيها ، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذ ذكرتها كنت في حال ذكرك إياها تعمل في إثباتها وتزجيتها ، كما أنهم لم يجعلوا" سقيا ورعيا" بمنزلة هذه الحروف ؛ فإنما نجريها كما أجرتها العرب ونضعها في المواضع التي وضعن فيها ، ولا تدخلنّ ما لم يدخلوا من الحروف. ألا ترى أنك لو قلت : طعاما لك أو شرابا لك أو مالا لك تريد معنى سقيا لك أو معنى المرفوع الذي فيه معنى الدعاء لم يجز ، لأنه لم يستعمل هذا الكلام كما استعمل ما قبله ، فهذا يدلّك ويبصّرك أنّه ينبغي لك أن تجرى هذه الحروف كما أجرتها العرب ، وأن تعني ما عنوا بها ؛ فكما لم يجز أن يكون كلّ حرف بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٨٩.


إيّاه تعمل في إثباته ، ولا بمنزلة المرفوع المبتدإ الذي فيه معنى الفعل ، كذلك لم يجز أن تجعل المرفوع الذي فيه معنى الفعل بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك إياه تعمل في إثباته وتزجيته ، ولم يجز لك أن تجعل المنصوب بمنزلة المرفوع لأن العرب إنما أجرت الحروف على وجهين.

ومثل المرفوع : (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(١). يعني أنّ طوبي وإن لم يتبين فيها الإعراب فهي في موضع رفع ؛ لأن المعطوف عليها وهو حسن مآب رفع ، وأما قوله عزوجل : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢). و (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(٣). فإنّه لا ينبغي أن تقول إنه دعاء عليهم ؛ لأن الكلام واللفظ بذلك قبيح ، ولكن العرب إنما كلّموا بكلامهم ، وجاء القرآن على لغتهم وما يعنون ؛ فكأنه ـ والله أعلم ـ قيل لهم ويل للمطففين ، وويل يومئذ للمكذبين ، أي : هؤلاء ممن وجب لهم هذا القول ، لأنّ هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشّرّ والهلكة ، فقيل : هؤلاء ممن دخل في الهلكة ووجب لهم هذا.

ومثل ذلك : قوله عزوجل : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٤). فالعلم قد أتى من وراء ما يكون ولكن اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلماه.

ومثله : (قاتَلَهُمُ اللهُ)(٥). وإنما أجري هذا على كلام العرب وبه نزل القرآن).

قال أبو سعيد : قد يعبّر عن بعض أفعال الله عزوجل ممّا جاء في القرآن وغيره بما لو حمل على حقيقة اللغة لم يجز أن يوصف بذلك ، من ذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى)(٦). وقوله جلّ وعزّ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة المرسلات ، الآية : ١٥.

(٣) سورة المطففين ، الآية : ١.

(٤) سورة طه ، الآية : ٤٤.

(٥) سورة التوبة ، الآية : ٣٠ ـ سورة المنافقون ، الآية : ٤.

(٦) سورة الحجرات ، الآية : ٣.


مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)(١). والامتحان والبلوى فيما يتعارفه النّاس إنما هو في معنى : التجربة ، وهو من الله عزوجل على وجه الأمر لهم أو إيراد بعض أفعاله عليهم مما يظهر للناس ثبات المفعول به والصبر على طاعة الله تعالى أو خلاف ذلك.

وكذلك ما جاء في القرآن من" لعلّ" قد جعل بمعنى" كي" ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢).

ونظائر ذلك مما أتى فيه لعلّ بعد أمر أمر به إنما هو على معنى" كي يكون ذلك" ؛ أي : أمرناكم بهذا الأمر ليكون ذلك ؛ فالشيء الذي جعل الأمر سببا له يجوز ألّا يكون ، ولا يخرج الأمر أن يكون وقع مقصودا به لذلك المعنى ؛ ألا ترى أنّ القائل قد يقول : مدحت الأمير ليعطيني ، وكي يعطيني ولعله يعطيني ، وإن لم يعطه فالقصد لم يتغيّر أن يكون واقعا لذلك المعنى.

وكذلك ما في القرآن مما يتعارفه الناس في كلامهم دعاء إذا وقع من الله عزوجل فهو من طريق اللفظ على ما قد تعارفه الناس ، وهو من الله عزوجل واجب ، لأن القائل إذا قال : قاتلك الله ، ولعنك الله ، فإنما يريد أن يوقع الله ذلك بالذي دعا عليه ، فإذا قاله الله عزوجل فهو على طريق أنه يوقعه ، وكذلك القول في قوله عزوجل : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٣). و (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(٤). لأن القائل من الناس يذكره على جهة الدعاء عليهم ، والله عزوجل يذكره على طريق وجوب ذلك لهم ، لأنه هو المدعوّ المستدعى منه ذلك.

قال : (وتقول : ويل لك ويل طويل ، وإن شئت جعلته بدلا من المبتدإ الأوّل ، وإن شئت جعلته صفة له ، وإن شئت قلت : ويل لك ويلا طويلا تجعل الأخير غير مبدل ولا موصوف به ولكن تجعله دائما).

يعني : تجعل ويلا طويلا في معنى الحال ؛ كأنّه قال : ويل لك دائما.

قال : (ومن هذا الباب : فداء لك أبي وأمي ، وحمي لك أبي ، ووقاء لك أميّ ، ولا

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٣١.

(٢) سورة الحج ، الآية : ٧٧.

(٣) سورة المرسلات ، الآية : ١٥.

(٤) سورة المطففين ، الآية : ١.


يقال : عولة لك ، إلّا أن يكون قبلها ويلة لك ، ولا تقول : عول لك حتى تقول : عول ، لأنّ ذا يتبع ذا ، كما أنّ ينوءك يتبع يسوءك ولا يكون ينوءك مبتدأ.

واعلم أنّ بعض العرب تقول : ويلا لك ، وويلة لك ، وعولة تجريه مجرى خيبة ، من ذلك قول جرير :

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها

فويلا لتيم من سرابيلها الخضر (١)

ويقول الرجل : يا ويلاه ؛ فيقول الآخر : نعم ويلا كيلا ، كأنه يقول : لك الذي دعوت به ويلا كيلا ، وهذا شبيه بقولهم : ويل له ويلا كيلا ، وربّما قالوا : ويل كيل).

يعني أن الذي قال : نعم ويلا كيلا يضمر مبتدأ وخبرا ، ويجعل ويلا كيلا في موضع الحال ؛ لأنه لو أظهر وقال : لك الويل ويلا كيلا كان" الويل" مبتدأ و" لك" خبر ، وويلا كيلا في معنى كثيرا ، ثم جعل نعم دليلا على الإضمار ، لأن نعم تحقيق لكلام يتكلم به ، وذلك الكلام الذي تحقيقه نعم هو قولهم : لك الويل وما أشبهه.

وقوله : (وإن شاء جعله على قوله : جدعا وعقرا).

أي : إن شاء نصب ويلا كيلا بإضمار فعل فجعله كأنه مصدر له ، لأن" جدعا وعقرا" على معنى : جدعك الله جدعا ، وعقرك عقرا ، فهو بإضمار فعل ، وتجعل ويلا كذلك بإضمار فعل.

هذا باب منه استكرهه النحويون ، وهو قبيح

فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعته العرب

(وذلك قولك : ويح لك وتبّ ، وتبّا وويحا).

أما قوله : استكرهه النحويون يعني أنهم جمعوا في الدّعاء بين شيئين لا تجمع العرب بينهما ، وقاسوا كلام العرب ، والشيئان :

أحدهما : ويل وويح لك وما جرى مجراه مما ترفعه العرب في الأكثر من كلامهم.

والآخر : تبّا لك وويل ، إذا أفردوه رفعوه وأتوا له بخبر وهو اللام ، فإذا جمعوا بينهما فقدّموا الذي يستحقّ الرفع وثنّوا بالذي يستحقّ النّصب حملا على المرفوع فيقولون : ويل لك وتبّ.

__________________

(١) البيت لجرير : ديوانه : ١٥٩ ؛ شواهد القرطبي ٣ : ٤٨ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢١.


وسيبويه يختار أن يقول : " ويل لك وتبّا" وكذلك" ويل لك وتبّا لك" لأن تبّا إن أفردته عن ذلك أو ذكرت بعده لك فإنه ينتصب مصدرا لفعل مضمر ، ولك تبيين ، كما يقول لك بعد سقيا لك ، فهي مستغنية عن لك فتجريه على ما أجرته عليه العرب.

وإذا قدمت المنصوب ثم جئت بما يرفعونه فقلت تبّا له وويحا ، فإنهم ينصبونه على الفعل حملا على تبّا.

وسيبويه لا يخالفهم في ذلك إلا أنه استقبحه ؛ لأنه مستقبح استكراه النحويين لذلك ، غير أنه رأى متى ما قرن بينهما أن ينصب ويحا فقال : ولا بد ل" ويح" مع قبحها من أن تحمل على" تبّ" لأنها إن ابتدئت لم تحسن حتّى يبنى عليها الكلام ، يعني : حتى يؤتى له بالخبر ؛ لأنّ العرب لا تقول : " ويح" ولا" ويل" إلا مع خبرهما وإن نصبت فقد بنيتها على شيء ينصبها مع قبحها كما جاء" تبّا" وما أشبه ذلك ، فإذا قلت : " تبّا" له ، و" ويح" له ؛ فجئت ل" ويح" بخبر وهو اللام حسن الرّفع في" ويح" ، وإن نصبت تبّا وليس بينهما خلاف ، ولا يختلف النحويون في نصب" التبّ" إذا كان معه" له".

وقد قدمت المرفوع إذا قلت ويح ويح له وتبّا له.

قال سيبويه : (فهذا يدلّك على النصب في" تبّا").

يعني إذا لما تكن معه" له" أحسن ، لأن" له" لا تعمل في" التبّ" ما عملت في" ويح" لأنه خبر ل" ويح" وليس بخبر في" تبّ" وإنما هو تبيين.

هذا باب ما ينتصب فيه المصدر كان فيه الألف واللام

أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك إظهاره ؛

لأنه يصير في الإخبار والاستفهام بدلا من اللفظ

بالفعل ، كما كان" الحذر" بدلا من احذر في الأمر

(وذلك قولك ما أنت إلا سيرا ، وإنّما أنت سيرا سيرا ، وما أنت إلا الضّرب الضّرب ، وما أنت إلا قتلا قتلا ، فكأنه قال في هذا كلّه ما أنت إلا تفعل فعلا).

قال أبو سعيد : إنما يقال هذا ونحوه لمن يكثر منه ذلك الفعل ويواصله ، واستغنى عن إظهار الفعل بدلالة المصدر عليه ، وكذلك في الإخبار عن الغائب إذا قلت : زيد سيرا سيرا ، وليتك سيرا سيرا ، إذا أخبرت عنه بمثل ذلك المعنى ، وكذلك إذا قلت : أنت الدهر


سيرا ، وكان عبد الله الدّهر سيرا سيرا ، وأنت مذ اليوم سيرا سيرا ، وذلك كله إذا أخبرت بشيء متّصل بعضه ببعض في أي الأحوال كان ، وإن رفعت قلت : إنّما أنت سير ، على معنى : إنما أنت صاحب سير ؛ وحذفت الصّاحب وأقمت السّير مقامه.

فإن قلت : ما أنت إلا شرب الإبل ، وما أنت إلا ضرب النّاس ، جاز في ضرب الناس التنوين ؛ فتقول : ما أنت إلا ضربا الناس ، ولا تقول : ما أنت إلا شربا الإبل ، لأن شرب الإبل ليس من فعلك ، ولم ترد : ما أنت إلا شرب الإبل وإنما هو تشبيه ، والفعل الذي يشبّه به محذوف ، تقديره : ما أنت إلا تشرب شربا مثل شرب الإبل ، والمثل في موضوع النعت لشربا فحذفت الشرب وأقمت المثل مقامه (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١). وهذا الحذف وإن كثر فهو مطرد في القياس في كلام العرب مفهوم.

وإذا قلت : ما أنت إلا ضربا النّاس فنوّنته ؛ فالمعنى : ما أنت إلا تضرب الناس ؛ لأنّ فعلك واقع بهم ، ونظير ذلك من المصادر المنصوبة : قوله عزوجل (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)(٢). على معنى : إما تمنّون منّا وإما تفادون فداء.

وقال جرير :

ألم تعلم مسرّحي القوافي

فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (٣)

تقديره : فلا أعيى بهن عيّا ولا أجتلبهنّ ، أي : لا أسرق من غيري ، كأنّ قائلا قال : هو عيّا بهن ، واجتلابا لهن على معنى : يعيى بهن عيا ، ويجتلبهنّ اجتلابا ، فنفى على ذلك التقدير بإدخال لا.

(ومثله قولك : ألم تعلم يا فلان مسيري فإتعابا وطردا).

والمسرّح بمنزلة مشترى ، والفاء في قوله ، فإتعابا وطردا بمنزلة الفاء في قوله : " فلا عيّا بهن ولا اجتلابا".

وإنما أراد أني إذا سرحت القوافي اتّصل بتسريحي لها إلا عيّا ولا أجتلب ؛ فلذلك أدخل الفاء.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٢) سورة محمد ، الآية : ٤.

(٣) البيت لجرير : ديوانه : ٥٦ ؛ الخصائص ١ : ٣٦٨ ، ٣ : ٢٩٧.


وكذلك يتّصل الإتعاب بالمسير ، فلذلك أدخل الفاء.

قال سيبويه : (وإن شئت رفعت هذا كلّه فجعلت الآخر هو الأوّل ، فجاز على سعة الكلام. كقول الخنساء :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار (١)

على معنى : فإنما هي صاحب إقبال وإدبار ؛ فجعل إقبال وإدبار في موضع مقبلة ومدبرة على سعة الكلام ، كقولك : نهارك صائم وليلك قائم).

قال أبو سعيد : فجعل النّهار صائما ، والنحويّون يقدّرون مثل هذا على تقديرين : أحدهما : أن يقدّروا مضافا إلى المصدر وهو الاسم الأوّل ، ويحذفون كما يحذفون في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢). كأنه قال : صاحب إقبال وصاحب إدبار ، وصاحب نهارك صائم ، وصاحب ليلك قائم فيحذفون المضاف.

والوجه الثاني : أن يكون المصدر في موضع اسم الفاعل من غير إضافة فيكون إقبال في موضع مقبلة ، والنهار صائم مجازا كما قال عزوجل (وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٣). وكما قال :

" أمّا النّهار ففي قيد وسلسلة" (٤)

وكما قال تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(٥).

ومثله قولهم : رجل عدل ، وماء غور ، ودرهم ضرب ، على معنى : رجل عادل ، ودرهم مضروب ، وماء غائر.

وكان الزجّاج يأبى إلا الوجه الأول.

ومما يقوّي الوجه الثاني أن نقول : رجل ضخم وعبل ، وليسا بمصدرين لضخم وعبل ، وقد جعلا في موضع اسم الفاعل ، ومصدرهما : عبل عبالة ، وضخم ضخما.

__________________

(١) البيت للخنساء : ديوانها : ٧٢ ؛ الخصائص ٢ : ٢٠٥ ؛ شواهد القرطبي ٢ : ٩٨.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة يونس ، الآية : ٦٧.

(٤) هذا صدر بيت منسوب للجرنفش بن زيد الطائي في شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٣٧. وعجزه :

والليل في قعر منحوت من الساج

(٥) سورة النبأ ، الآية : ٣٣.


ومما يشبه هذا قول متمّم :

لعمري وما دهري بتأبين هالك

ولا جزع ممّا أصاب فأوجعا (١)

أي : فدهر تأبين هالك ، وجعل الدّهر هو التأبين مجازا.

(ومما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب قولهم : أقياما يا فلان والناس قعود ، وأجلوسا والناس يعدون فلا يريد أن يخبر أنّه يجلس ولا أنّه قد جلس ، وانقضى جلوسه ، ولكنّه يخبر أنّه في تلك الحال في حال جلوس).

وهذا الكلام يقوله الإنسان عند فعل يشاهده ممّا ينكر عليه من أجل شيء آخر ، كأنّه إذا قال : أقياما والناس قعود فقد أنكر عليه القيام من أجل قعود النّاس ، وأنكر الجلوس من أجل فرارهم توبيخا له على ذلك.

ومثله : أصبى وأنت شيخ ، ومثله : " ... أطربا وأنت قنّسريّ ...".

وهو : المسنّ في هذا الموضع ، إنكارا للطرب مع هذه الحال ، (ومثله : قول بعض العرب وهو يعزى إلى عامر بن الطفيل :

" أغدّة كغدّة البعير

وموتا في بيت سلولية" (٢)

واجتماعهما يزيد في المكروه فهو يجري مجرى التوبيخ ، وإن لم يكن توبيخا وإنما قاله عامر ، لمّا أصابته الغدّة ، وهي داء إذا أصاب البعير لم يلبّثه حتّى يموت ، وكان قد أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأربد بن ربيعة العامريّ أخو لبيد ليغتالاه ، فأطلعه الله عزوجل عليهما ؛ فقال : " اللهمّ أكفني عامرا وأربد" فأصابت أربد صاعقة ، وأصابت عامرا الغدّة ، ومثله :

أعبدا حلّ في شعبي غريبا

ألؤما لا أبا لك واغترابا (٣)

الشاهد في قوله : ألؤما لا أبا لك ، وبّخه على ما يأتيه من اللؤم مع غربته على نحو ما تقدّم ، كأنّه قال : أتلؤم لؤما وتغرب اغترابا (إن لم تستفهم وأخبرت جاز كقولك : سيرا سيرا ، عنيت نفسك أو غيرك ؛ كأنك رأيت رجلا في حال سير أو كنت في حال سير ، أو ذكر رجل بسير أو ذكرت أنت بسير ، وجرى كلام يحسن بناء هذا عليه كما

__________________

(١) خزانة الأدب ٢ : ٢٧.

(٢) يضرب كمثل لاجتماع نوعين من الشر ، اللسان (غدد).

(٣) البيت لجرير : ديوانه ٥٦ ، الأغاني ٨ : ٢١ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٨٣.


حسن في الاستفهام. لأنّك إنما تقول : أطربا وأسيرا ، إذا رأيت ذلك من الحال أو ظننته في ، وعلى هذا يجري هذا الباب إذا كان خبرا أو استفهاما ، وإذا رأيت رجلا في حال سير أو ظننته فيه فأثبتّ ذلك له.

وكذلك أنت في الاستفهام إذا قلت : أأنت سيرا. ومعنى هذا الباب أنّه فعل متّصل في حال ذكرك إيّاه استفهمت أو أخبرت ، وأنّك في حال ذكرك شيئا من هذا الباب تعمل وفي تثبيته لك أو لغيرك.

ومثل ما تنصبه في هذا الباب وأنت تعني نفسك قول الشّاعر :

سماع الله والعلماء أنّي

أعوذ بحقو خالك يا ابن عمرو (١))

كأنه قال : أسمع الله هذا ، كما تقول : أشهد الله بهذا على نفسي ، وسماع الله بمنزلة إسماع الله كأنه قال : أسمع الله إسماعا ، كما تقول : ما أنت إلا ضربا النّاس إذا نوّنت ، وإن لم تنوّن قلت : إلا ضرب الناس ، ولو نوّن في سماع الله لقال : سماعا الله والعلماء ، بمعنى : إسماعا الله ، كما تقول أعطيته عطاء على معنى : أعطيته إعطاء.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء الّتي أخذت من الأفعال

انتصاب الفعل ، استفهم أو لم يستفهم

(وذلك قولك : أقائما وقد قعد الناس ، وأقاعدا وقد سار الركب ، وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تستفهم تقول : قاعدا قد علم الله وقد سار الركب ، وقائما قد علم الله وقد قعد الناس).

قال أبو سعيد : هذا الباب مثل ما مضى في الباب الذي قبله من قولك : أقياما والناس قعود ، وأطربا وأنت قنّسريّ ، غير أنّ الباب الأوّل بمصدر وهذا باسم الفاعل ، وقدّره سيبويه أن العامل فيه مثل الفعل الذي يعمل في المصدر ، فقال : وكأنّه يقوله أتقوم قائما ، وأتقعد قاعدا ، ولكنّه حذفه استغناء ، وهذا ينكره بعض الناس لأنّ لفظ الفعل لا يكاد يعمل في اسم الفاعل الذي من لفظه ، وإذا جاء ذلك صرف إلى أنّه مصدر لاسم الفاعل كقولهم : قائما تريد قياما ، هكذا قال أبو العبّاس المبرّد ، ويلزمه على قوله إذا كان

__________________

(١) شرح أبيات سيبويه للنحاس ١٧٥ ؛ وهو بلا نسبة في اللسان (سمع ـ حقا).


العامل في قائما أيقوم ، وفي قاعدا أيقعد أن يكون قائما في معنى قياما ، وقاعدا في معنى قعودا.

والقول عندي ما قاله سيبويه ؛ لأنّه قد تكون الحال توكيدا كما يكون المصدر توكيدا ، وإن كان الفعل قد دلّ عليه قول الله عزوجل (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(١).

ولا يجوز إضمار الفعل الدالّ على الحال إلّا أن تكون الحال المشاهدة تدل عليه ، ولا يجوز أن يقول إنسان ـ مبتدئا من غير حال تدل ـ : " قائما يا زيد" كما تقول : يجوز" قياما يا زيد" لأنّ المصدر مأخوذ من لفظ الفعل فهو دال على فعل معيّن دون غيره.

وإذا قال قائما يا زيد ، لم يدلّ على فعل محصور لأنّه يجوز أن يقول : اثبت قائما ، وتكلم قائما ، واضحك قائما ، وما أشبه ذلك مما لا يحصر ، وإنّما جاز أن يقول : أقائما وقد قعد النّاس ، لما شوهد منه من القيام والتعمّل له.

قال سيبويه : " (ومثل ذلك قوله : عائذا بالله من شرّها ؛ كأنه رأى شيئا يتّقى فصار عند نفسه في حال استعاذة حتّى صار بمنزلة الذي رآه في حال قيام وقعود .... فقال : عائذا بالله ؛ كأنه قال : أعوذ بالله عائذا).

وإذا ذكرت شيئا من هذا الباب فالفعل متّصل في حال ذكرك إيّاه وأنت تعمل في تثبيته كما كان ذلك في الباب الذي قبله.

(وقال الشاعر ، وهو عبد الله بن الحارث السهمي ، من الصحابة :

ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا

وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني (٢)

كما قال في المصدر عياذا بك ، ومثله :

أراك جمعت مسألة وحرصا

وعند الحقّ زحّارا أنانا (٣))

قال أبو سعيد : زحّارا فعّال من زحر يزحر زحرا ، وأنان في معنى : أنين ، كما يقال : نهيق ونهاق في باب الأصوات ، لأن الزحير صوت.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٧٩.

(٢) البيت ينسب إلى : عبد الله بن الحارث السهمي : شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٤٧٥ ؛ شرح المفصل ١ : ١٢٣ ؛ تاج العروس واللسان (عوذ).

(٣) البيت ينسب إلى : المغيرة بن حبناء : تهذيب إصلاح المنطق ٢٨٠ ؛ تاج العروس واللسان (زحر).


قال سيبويه : (كأنه قال : زحيرا ، وأنينا ، والأولى عندي أن نجعل أنانا مصدرا للفعل الذي يعمل في زحّار ، أو لزحّار نفسه فيكون التقدير : تزحر أنينا ، لأنّ يزحر ويئنّ يتقاربان ؛ فهو مثل قولك : تبسّمت وميض البرق ، وإنما اخترت هذا لأنّه لا واو في قولك زحّارا أنانا).

هذا باب ما أجرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل

مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل

(وذلك قولك : أتميميّا مرّة وقيسيّا أخرى ، وإنّما هذا أنّك رأيت رجلا في حال تلوّن وتنقّل ، فقلت : أتميميّا مرّة وقيسيا أخرى ؛ كأنك تقول : أتتحوّل تميميّا مرّة وقيسيّا أخرى.

فأنت في هذه الحال تعمل في تثبيت هذا له ، وهو عندك في تلك الحال في تلوّن وتنقّل ، وليس تسأله مسترشدا عن أمر هو جاهل به لتفهّمه إيّاه وتخبره عنه ولكنّك وبخته بذلك).

قال أبو سعيد : وهذا الباب مثل الذي قبله إلّا أنّ الاسم الذي نصبه ليس بمأخوذ من فعل فأحوج إلى تقدير فعل ليس من لفظه مما شاهده من حاله.

قال سيبويه : (وحدّثنا بعض العرب : أنّ رجلا من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطيّر ـ فقال : يا بني أسد ، أعور وذا ناب!

فلم يرد أن يسترشدهم ليخبروه عن عوره وصحّته ، ولكنّه نبّههم كأنّه قال : أتستقبلون أعور وذا ناب!

فالاستقبال في حال تنبيهه إيّاهم كان واقعا ، كما كان التلوّن والتنقّل عندك ثابتين في الحال الأولى ، وأراد أن يثّبّت لهم الأعور ليحذروه).

قال أبو سعيد : يوم جبلة : يوم لبني عامر على بني أسد وذبيان ، وتطيّر هذا الأسديّ على قومه من استقبالهم هذا البعير الأعور فحقّق محذوره وهزموا وقتل منهم.

والفعل الناصب الأعور وذا ناب أتستقبلون ، وكأنّ ذلك في الحال المشاهدة.

قال سيبويه : (ومثل ذلك : قول الشاعر :


أفي السّلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أشباه النّساء العوارك) (١)

هجاهم بما شاهدهم عليه من التنقّل والتلون بكونهم في حال السّلم مثل الحمير من جفوتهم وغلظتهم على الأهل ، وفي الحرب مثل النساء الحيّض من اللّين والانقباض توبيخا لهم ، لأنهم في الحالين على طريق الذم.

(وقال آخر :

أفي الولائم أولادا لواحدة

وفي العيادة أولادا لعلّات) (٢)

وهذا أيضا ذمّ لهم مشبّه بالأول ، لأنه وصفهم بالنّهم والتواصل من أجل الطعام ، فإذا كانوا في الولائم كانوا متآلفين كأنهم إخوة بنو أمّ واحدة ، وفي قضاء حقوق بعضهم لبعض متقاطعين متهاجرين ، كأنهم أولاد علات.

(وأمّا قول جرير :

أعبدا حلّ في شعبي غريبا

ألؤما لا أبا لك واغترابا (٣)

فيكون نصب عبدا على وجهين : على النداء ، وعلى أنّه في حال افتخار واجتراء قد شاهده عليه ، فقال : أعبدا ، أي : اتفتخر عبدا ، كما قال : أتميميا.

فإن أخبرت في هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضا كما نصبت في حال الخبر في الاسم الذي أخذ من الفعل ، وذلك قولك : أتميميّا قد علم الله مرّة وقيسيّا أخرى ؛ فلم يرد أن يخبر القوم بأمر قد جهلوه ؛ ولكنه أراد أن يشتمه بذلك ، وصار بدلا من اللفظ بقولهم : اتتتمّم مرّة وتتقيّس أخرى!.

وأتمضون وقد استقبلكم هذا ، أتنقلون وتلوّنون ، فصار هذا هكذا ؛ كما كان تربا وجندلا بدلا من الفعل ، وقد مثّل هذا الفعل الذي جعل هذا بدلا منه).

وكان في نسخة أبي بكر محمّد بن عليّ مبرمان (٤) بدلا من تربت وجندلت وفي

__________________

(١) البيت منسوب لهند بنت عتبة في السيرة النبوية لابن هشام ـ ج ٢ ق ١ ص ٦٥٦ ؛ خزانة الأدب ٣ : ٢٦٣ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٥٢.

(٢) بدون نسبة في : شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٥٣ ؛ المقتضب ٣ : ٢٦٥.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) هو محمد بن علي بن إسماعيل النحوي العسكري البصري أخذ من السيرافي ، له مؤلفات منها : كتاب علل النحو ، وكتاب شكر النعم ، الفهرست ٦٠ ، معجم الأدباء ١٨ : ٢٥٤.


غيرها : تربت وجندلت على ما لم يسمّ فاعله.

قال سيبويه : " (ولو مثّلت ما نصبت عليه الأعيار).

يعني في البيت الذي مضى : أفي السّلم أعيارا ، وأعور في قوله يعني : أعور وذا ناب لتدلّ على النصب في البدل (لقلت : أتعيّرون وأتعوّرون إذا أوضحت معناها لأنك إنما تجريه مجرى ماله فعل من لفظه ، وقد يجرى مجرى الفعل ويعمل عمله).

قال أبو سعيد : يعني أنّهم لمّا جعلوا في السّلم أعيارا ، وأعور وذا ناب مجرى قولهم : أقائما وقد قعد النّاس ، والأعيار والأعور ليس بمأخوذ من فعل يجري عليه ، وقائما مأخوذ من فعل ، وقد أضمر ناصبه على لفظ الفعل الذي أخذ منه ، كان الأحسن في الأعيار والأعور أن يقدر فعل من لفظه ، وإن كان لا يستعمل ؛ إذ قد يجري مثله في الكلام على طريق التشبيه. ألا ترى أنّا نقول : قد ترجّلت المرأة ، إذا تشبّهت بالرجال ؛ فهذا التقدير أحسن في مثل هذا.

قال : (وأما قوله عزوجل (بَلى قادِرِينَ)(١). كأنه قال : بلى نجمعها قادرين).

وإنّما قدّرها سيبويه بنجمعها لقوله تعالى قبله (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)(٢). وتسوية بنانه أن يضمّ بعضها إلى بعض ولا تكون متفرقة ، والبنان : الأصابع.

وذكر الفرّاء هذا المعنى ، وقدّم قبله معنى آخر فيه وفي نظائره ، وهو أن ينصبه بإضمار الفعل المذكور قبله وهو يحسب ؛ كأنه قال : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى فليحسبنا قادرين.

ومثله من الكلام : أتحسب أن لن أزورك ، بلى سريعا إن شاء الله ، كأنّه قال : بلى فاحسبني زائرك ، وقال قوم من النحويين : إنّ" قادرين" ينتصب لوقوعه موقع نقدر لأنّ معناه بلى نقدر على أن نسوي بنانه ، وهذا باطل ، لأنّه ليس من نواصب الاسم وقوعه مواقع الفعل. ألا ترى أنّك تقول : أتقوم يا زيد ، فإذا رددته إلى الاسم قلت : أقائم أنت يا زيد.

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية : ٤.

(٢) سورة القيامة ، الآيتان : ٣ ، ٤.


قال : (وأما قوله ، وهو الفرزدق :

ألم ترني عاهدت ربّي وأنّني

لبين رتاج قائما ومقام

على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما

ولا خارجا من فيّ زور كلام (١)

قال سيبويه : (أراد ولا تخرج فيّ ما استقبل كأنّه قال : ولا تخرج خروجا. ألا تراه ذكر عاهدت في البيت الذي قبله).

قال : (ولو حملته على أنّه نفى شيئا هو فيه ولم يرد أن يحمل على عاهدت لجاز ، وإلى هذا الوجه كان يذهب عيسى بن عمر فيما نرى ؛ لأنه لم يكن يحمله على عاهدت).

قال أبو سعيد : فسّر أبو العباس وأبو إسحاق الزجاج في هذين البيتين قول سيبويه وقول عيسى بن عمر :

فإما قول سيبويه فإنه جعل لا أشتم جواب يمين إمّا أن يكون جواب حلفة كأنه قال : عاهدت ربي على أن أقسمت ، وعلى أن حلفت لا أشتم الدّهر مسلما ، أو يكون عاهدت بمعنى : أقسمت ، كأنّه قال : ألم ترني أقسمت.

ويكون خارجا في معنى ويكون التقدير : ولا يخرج خروجا عطفا على أشتم ، وجعل خارجا في معنى خروجا.

قال أبو العبّاس : ومثله : قم قائما ، أي : قم قياما ، ومثله من المصادر : العاقبة والعافية ، فهو على لفظ فاعل.

وفسّرا قول عيسى إنّ خارجا حال ، وإذا كان حالا فهو عطف على ما قبله ، وإذا كان كذلك وجب أن يجعل الفعل في موضع الحال ؛ فكأنه قال : لا شاتما مسلما ولا خارجا من فيّ زور كلام ، والفعل المستقبل يكون في موضع الحال كقولك : جاءني زيد يضحك ، أي : ضاحكا.

وجعلا العامل في الحال على مذهب عيسى بن عمر عاهدت ؛ كأنه قال : عاهدت ربي لا شاتما الدهر مسلما ، فالمعنى : موجبا على نفسي ذلك ومقدّرا ألا أفعله ، فهذا معنى

__________________

(١) البيتان للفرزدق :

ديوانه ٢ : ٢١٢ ، شرح المفصل ٢ : ٥٩ ؛ ٦ : ٥٠ ؛ مغني اللبيب ٥ : ١٣٤.


تفسير أبي العباس وأبي إسحاق الزجاج.

وكلام سيبويه الذي حكاه عن عيسى يخالفه لأنّه قال ـ يعني عيسى بن عمر ـ : لم يكن يحمله على عاهدت.

ومعنى قول سيبويه لو حملته على أنّه نفى شيئا هو فيه ، أي : نفي الحال وهو قوله : لا أشتم ، ولا خارجا ، فإذا لم يكن العامل في الحال" عاهدت" على ما حكاه سيبويه عن عيسى كان نصبه على أحد وجهين :

إما أن يكون المفعول الثاني من ترني كأنه قال : ألم ترني لا شاتما مسلما ولا خارجا من فيّ زور كلام ، فهذا وجه ذكره أبو بكر مبرمان.

قال أبو سعيد : ما يعجبني هذا ؛ لأنّ" عاهدت" في موضع المفعول الثاني فقد تمّ المفعولان بعاهدت.

وأجود منه أن يكون على حلفة ؛ كأنّه قال : على أن حلفت لا شاتما ولا خارجا ، والمصدر وهو" حلفة" يعمل عمل الفعل.

وكان الفرّاء يذهب مذهب عيسى بن عمر وينصب خارجا على الحال ، ويجعل لا أشتم في موضع نصب ؛ كأنه قال : لا شاتما مسلما و" لا خارجا" عطف عليه.

وبعض النحويين ينصب خارجا لوقوعه موقع يخرج على ما تقدّم ، وقد ذكرنا الحجّة.

وإذا قلت ما أنت قائم ولا قاعد ، وأنت تميميّ مرة وقيسيّ أخرى ، وإني عائذ بالله ارتفع.

قال أبو سعيد : مذهب سيبويه ـ ولا أعلم له مخالفا ـ أنك إذا قلت : ما زيد إلا سائر أو قائم أو قاعد لم يجز فيه غير الرّفع ، ولو كان بدل سائر وقائم مصدر لجاز النصب ، كقولك : ما أنت إلا سيرا ، وما أنت إلا قياما ؛ لأنّ السير والقيام يدلان على يسير ويقوم.

ولقد تأوّل بعض المتقدمين في النحو على مذهب الكوفيين ممن أدركته رواية رويت عن عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ فيما رواه هو في قوله تعالى (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)(١).

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨


بنصب عصبة ، وزعم أنّ عصبة تنتصب كما تقول العرب : إنّما العامريّ عمته ؛ فجعل عصبة بمنزلة المصدر.

ورددت أنا ذلك فقلت : إنما يجوز هذا في المصادر دون الأسماء لأنك تقول : أنت سيرا ، ولا تقول : أنت سائرا ، ولا خلاف في ذلك ، وعصبة هي اسم لا مصدر ، والتأوّل على الرواية غير صحيح ؛ لأنّ الذي في أصل النسخة ، ونحن عصبة ، ولم يقل نصب أيش ، وقد تكلمت على هذا في غير هذا الموضع.

قال سيبويه : " (ولو قال : هو أعور وذو ناب لرفع ...).

وكذلك إذا قلت : أنت تميميّ مرّة وقيسيّ أخرى ، وإني عائذ بالله ، ليس في ذلك غير الرّفع ؛ لأنه قدّم الاسم ، وجاء بعده بخبر هو هو ، فلم يجز غير الابتداء والخبر ، وإنما يجوز النصب إذا قال : أتميميّا بغير أنت ، وقال عائذا بغير إني ، أو قال : أعور وذا ناب بغير هو فتفهّم ذلك إن شاء الله ، وكذلك لو أضمرت أنت والاسم الذي يكون المذكور هو هو لرفع وكان بمنزلة المظهر.

هذا باب ما يجري من المصادر مثّنى منتصبا على إضمار الفعل

المتروك إظهاره

(وذلك قولك : حنانيك ؛ كأنه قال : تحنّنا بعد تحنّن ، ولكنّهم حذفوا الفعل ؛ لأنه صار بدلا منه. ولا يكون هذا مثنّى إلا في حال إضافة ، كما لم يكن سبحان الله ، ومعاذ الله إلا مضافا ؛ فحنانيك لا يتصرّف كما لم يتصرف سبحان وما أشبهه ، قال الشاعر ، وهو طرفة :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض (١)

وزعم الخليل أنّ معنى التثنية أنّه أراد تحنّنا بعد تحنّن ؛ كأنّه قال : كلما كنت في رحمة وخير منك فلا ينقطعنّ ذلك وليكن موصولا بآخر من رحمتك.

ومثل ذلك : قولك : لبيك وسعديك ، وسمعنا من العرب من يقول :

سبحان الله وحنانيه ، كأنّه قال : سبحان الله واسترحاما كما قال : سبحان الله

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد :

ديوانه ٤ ، شرح المفصل ١ : ١١٨ ، المقتضب ٣ : ٢٢٤.


وريحانه ، يريد : واسترزاقه.

وأمّا لبيك وسعديك فانتصب كانتصاب سبحان الله ، وهو أيضا بمنزلة قولك : أمرت سمعا وطاعة ، إلا أنّ لبيّك لا يتصرّف كما أنّ سبحان الله ، وعمرك الله ، وقعدك الله لا يتصرف).

قال أبو سعيد : اعلم أنّ التثنية في هذا الباب الغرض فيها التكثير ، وأنّه شيء يعود مرة بعد أخرى ولا يراد بها اثنان فقط من المعنى الذي يذكر.

فالدليل على التكثير بلفظ التثنية أنك تقول : ادخلوا الأوّل فالأول ؛ فإنما غرضك أن يدخل كلّ وجئت بالأوّل فالأوّل حتّى تعلم أنه شيء بعد شيء.

وتقول : جاءني رجلا رجلا على هذا المعنى ولا تحتاج إلى تكريره أكثر من مرّة واحدة فتعلم به أنه شيء لا يقتصر به على الأول ، وأنّ ذلك المعنى يعود بعد الأوّل ويكثر فتكتفي بذلك اللّفظ ، وهذا المثنى كله غير متصرّف ، ومعنى قولنا غير متصرّف أن لا يكون إلا مصدرا منصوبا أو اسما في موضع الحال كما يكون المصدر في موضع الحال ، وإنّما لم يتمكّن إذا ثنّيت لأنه دخله بالتثنية لفظا معنى التكثير لا معنى التثنية ، ودخل هذا اللفظ لهذا المعنى في موضع المصدر فقط ، قال : فلم يتصرّفوا فيه ، وبعضه يوحّد فيتصرّف كما قال الله تعالى في توحيده (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا)(١) وقال الشاعر :

فقالت حنان ما أتى بك ههنا

أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف (٢)

فرفع لمّا أفرد لأنّه لم يدخله معنى غير الذي يوجبه اللّفظ وهو أصل الاسم الموضوع.

ولبيك وسعديك تثنية ولا يفرد واحد منهما لما ذكرته لك من معنى التكثير ، ولبيك مأخوذ من قولنا ألبّ بالمكان إذا أقام به ، وألبّ على كذا وكذا إذا أقام عليه ولم يفارقه.

قال سيبويه : (حدّثنا أبو الخطّاب أنّه يقال للرجل المداوم على الشيء لا يقلع عنه ولا يفارقه قد ألبّ على كذا وكذا).

__________________

(١) سورة مريم ، الآية : ١٣.

(٢) سبق تخريجه.


وسعديك مأخوذ من المساعدة والمتابعة ، فإذا قال الإنسان لبّيك وسعديك فكأنه قال : دواما على طاعتك وإقامة عليها مرّة بعد مرة وكذلك سعديك ، أي : مساعدة لك بعد مساعدة ، ومتابعة بعد متابعة ، وإنما يعبّر عن هذه الأشياء باللفظ الذي يقرب معناه منه فيمثّل به ويطلب له الاشتقاق وما يقدّر فيه من الفعل لو أتى به آت لم يحسن ولم يك واقعا ذلك الموقع كما وقع سقيا مكان سقاك الله ، ورعيا مكان رعاك الله ؛ فهذا الذي أحوج سيبويه وغيره إلى تطلّب التّقديرات المقرّبة للمعنى وليوقف على وجه النصب ؛ فقال سيبويه مرّة : (كأنه إذا قال الرجل للرّجل : يا فلان ، فقال : لبيك وسعديك ، فقد قال : قربا منك ومتابعة لك ، فهذا تمثيل ، وإن كان لا يستعمل في الكلام كما كان براءة الله تمثيل سبحان الله وإن لم يستعمل ذلك استعمال سبحان الله).

وقال مرّة : (وكذلك إذا قال : لبّيك وسعديك يعني بذلك الله تعالى ، فكأنه قال : لا أنأى عنك يا ربّ في شيء تأمرني به ، فإذا فعل ذلك فقد تقرّب إلى الله عزوجل بهواه).

يعني بإرادته وقصده.

(وأما قوله وسعديك فكأنّه يقول : أنا متابع أمرك وأولياءك غير مخالف ، فإذا فعل ذلك فقد تابع وطاوع ، وإنّما حملنا على تفسير معنى لبيك وسعديك لنوضح به وجه نصبهما لأنّهما ليسا بمنزلة سقيا وحمدا وما أشبه ذلك.

ألا ترى أنّك تقول للسائل في تفسير سقيا وحمدا إنما هو سقاك الله سقيا وأحمد الله حمدا ، فحمدا بدل من أحمد ، وسقيا بدل من سقاه الله ، ولا تستطيع أن تقول : ألبّك لبّا ، ولا أسعدك سعدا.

ولا تقول : سعد بدل من أسعد ، ولا لبّ من ألبّ ، فلمّا لم يكن ذلك التمييز له شيء من غير لفظه معناه كبراءة حين ذكرتها لتبيّن معنى سبحان الله ، والتمست للبّيك وسعديك غير اللّفظ الذي اشتقّا منه إذ لم يكونا فيه بمنزلة الحمد والسقي في فعليهما ، ولا يتصرفان تصرّفهما ، ومعناهما : القرب والمتابعة فمثّلت بهما النصب في سعديك ولبيك كما مثّلت النصب في سبحان الله ببراءة الله).

وممّا يقوّي إفراد حنان أنّ الفعل في حنان قد يستعمل فيقال : تحنّن أي : ارحم ، قال الشاعر :


تحنّن عليّ هداك المليك

فإنّ لكلّ مقام مقالا (١)

فهذا مما تلحقه بباب (الحمد لله) وجواز التّصرّف فيه والرفع.

ومما يجري مصدرا مثنّى : حذاريك كأنه قال : حذرا بعد حذر ولا يستعمل حذرا مفردا ، ولا يرفع حذاريك ؛ لأنّه صيغت هذه البنية لتوضع غير متمكّنة كحنانيك ولبيك وسعديك فلم تستعمل إلا مصدرا منصوبا ، ومن ذلك دواليك ، وقال عبد بني الحسحاس :

إذا شقّ برد شقّ بالبرد مثله

دواليك حتّى ليس للبرد لابس (٢)

وهذا من فعل العرب في الجاهلية إذا أراد رجل أن يعقد مودّة مع امرأة شق كلّ واحد منهما ثوب الآخر ليؤكد المودّة.

ودواليك : مأخوذ من المداولة من شقّ كلّ واحد منهما ثوب الآخر وهو في موضع الحال ، كأنّه قال متداولين متعاقبين للفعل الذي فعلاه.

ومن التثنية : هذاذيك ، مأخوذ من هذّه يهذّه هذّا ، ومعناه : السّرعة في القراءة ، وفي الضرب ، قال الراجز :

ضربا هذاذيك وطعنا وخضا (٣)

كأنه يقول : هذّا عد هذّ من كلّ وجه ، ومثل ذلك قولهم : حواليك بمعنى : حولك ، يقال : حولك وحوالك ، وقد يقال : حواليك وحوليك إنما يريدون الإحاطة من كل وجه.

ويقسّمون الجهات التي تحيط به إلى جهتين كما يقال : أحاطوا به من جانبيه ، ولا يراد أنّ جانبا من جوانبه قد خلا ، وأنشد سيبويه قول الراجز :

أهدموا بيتك لا أبا لكا

وزعموا أنّك لا أخا لكا

وأنا أمشي الدّألى حوالكا (٤)

فوحّد حوالك :

__________________

(١) البيت للحطيئة : ديوانه : ٧٢ ؛ المقتضب ٣ : ٢٢٤ ؛ تلخيص الشواهد ٢٠٦.

(٢) ديوانه : ١٦ ، الخصائص ٣ : ٤٧ ؛ شرح المفصل ١ : ١١٩.

(٣) الراجز : العجاج : ديوانه : ٢٦ ؛ خزانة الأدب ٢ : ١٠٦.

(٤) المعاني الكبير : ٦٥٠ ؛ الحيوان ٦ : ١٢٨ (وقد نسبه إلى أبي زياد الكلابي الأعرابي).


وزعم الجرميّ (١) عن أبي عبيدة أنّ هذا قول العرب ، يعني هذه الأبيات تحكيها العرب عن الضّبّ أنه قال للحسل وهو ولده حيث كانت الأشياء تتكلم ، وهذا من قول الحشو منهم أو على وجه التمثيل أو ضرب المثل ، كما يحكى عن الفرس وغيرهم أشياء عن ألسنة الطير والسباع والوحش ، وقد أحاط علم الحاكي أن ذلك على وجه الأمثال والتحرّز من مثل ذلك المعنى على نحو ما أراده المتمثّل.

وأنشد غير سيبويه في تثنية حوال قول كعب بن زهير :

يسعى الوشاة حواليها وقولهم

إنّك يا ابن أبي سلمى لمقتول (٢)

وفي تثنية حول قول آخر :

يا إبلي ما ذامه فتأبيه

ماء رواء ونصيّ حوليه (٣)

وقال امرؤ القيس في جمع حول :

فقالت سباك الله إنّك فاضحي

ألست ترى السّمّار والناس أحوالي (٤)

وزعم يونس أنّ لبيك اسم واحد غير مثنى ، وأنّ الياء التي فيه كالياء التي في عليك ولديك ، وكان الخليل وسيبويه يخالفانه.

وأنشد سيبويه :

دعوت لما نابني مسورا

فلبّى فلبّى يدي مسور (٥)

فجعل لبّى يدي بالياء في لبّى كالياء في يدي مسور وهى تثنية يد والياء في قولك رأيت ثوبي زيد وهذا روايته ، وإنشاده عن العرب بهذا اللفظ فلو كان بمنزلة قولك : عليك ولديك ثم أضيف إلى ظاهر لكان بالألف. ألا ترى أنّك تقول : على زيد مال ، ولدى زيد خير ، فلا يكون إلا بالألف في اللفظ.

__________________

(١) هو صالح أبو عمر بن إسحاق الجرمي إمام في النحو ناظر الفراء ببغداد أخذ عن الأخفش والأصمعي توفي ٢٢٥ ه‍ الفهرست ٥٦ ، معجم الأدباء ١٢ : ٥.

(٢) البيت لكعب بن زهير : ديوانه ٢١.

(٣) الراجز : الزفيان السعدى : ديوانه ١٠٠ ؛ الخصائص ١ : ٣٣٣ ، نوادر أبي زيد : ٩٧.

(٤) البيت لامرئ القيس : ديوانه : ٣١.

(٥) ينسب لرجل من بنى أسد : شرح ابن عقيل ٣ : ٥٣ ؛ خزانة الأدب ٢ : ٩٣ ، شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٥١.


وكأن يونس قدّر أنه لو أضيف إلى اسم ظاهر لكان يقال : لبّى زيد كما تقول لدى زيد ، وما حكاه سيبويه عن العرب أولى.

قال : وبعض العرب يقول : لبّ لبّ ، وفي نسخة أبي بكر مبرمان تقول : لبّ مرّة واحدة فيجره يعني فيكسره ، يجريه مجرى أمس وغاق يعني أنّه تثنية ، ويجعله صوتا معرفة مثل غاق وما أشبه ذلك ؛ كأنّه يحكي أصوات الملبّين.

وقد ذكرت أنّ سيبويه فصل بين الناصب لهذه الأشياء التي ذكرها مما لا يتمكّن ولا يستعمل فيها الفعل وليست بمصادر معروفة وبين سقيا ورعيا وما جرى مجراه ومثلت ذلك.

ومما يجري مجراه قوله : أفّة وتفّة ، إذا سئلت عنهما مثّلتهما بقولك أنتنا لقرب معناها منه وليس من (أفّة وتفّة) فعل ، وإنما تردّه إلى انتنا لأنه مصدر معروف.

وكذلك تمثيلك بهرا بنتنا ، ودفرا بنتنا ، لأنّه لا يستعمل من" دفرا" فعل ، فجئت بمصدر فعل مستعمل وهو قولك : نتن نتنا ، هذا قول سيبويه في بهرا ولم يزد على أن مثّله ب" نتنا".

ويقال في الكلام : بهرني الشيء إذا غلبني ، كما تقول : بهر القمر الكواكب أي : غطّاها وأذهب ضوءها ، وأنشدوا :

حتّى بهرت فما تخفى على أحد

إلا على أحد لا يعرف القمر (١)

يقال : بهرا في معنى عجبا ، وفسّر بيت عمر بن أبي ربيعة على ذلك ، وهو :

ثم قالوا تحبّها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتّراب (٢)

ويقال : بهر فلان فلانا إذا دعا عليه بسوء ، ولم أر أحدا فسّر ذلك المدعوّ به إلا سيبويه في قوله : نتنا ، وقال ابن ميّادة :

تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي

بجارية بهرا لها بعدها بهرا (٣)

فإن قال قائل : ذكرتم أنّ : سبحان ، وأفّة ، وتفّة ، ولبّيك ، ليس لها أفعال مستعملة

__________________

(١) البيت لذي الرمة : ديوانه : ٣٢.

(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة : ديوانه : ٢٠ ، ٦٠ ، الخصائص ٢ : ٢٨٣ ، شرح المفصل ١ : ١٢١ ؛ مغني اللبيب ١ : ٧٧.

(٣) ينسب إلى : ابن ميادة : الأغاني ٢ : ٢٧ ؛ الإنصاف ١ : ٢٤١ ؛ تهذيب إصلاح المنطق : ٣٢٧.


تنصبها ، والعرب تقول : سبّح ، ولبّى ، وأفّف.

قيل له : أمّا قولهم : سبّح ، ولبّى ، وأفّف ، معناه : قال : سبحان الله ، ولبّيك ، وأفّة فبنيت هذه الأفعال من هذه الألفاظ بعد استعمالها ، كما يقال : دعدع الرجل بغنمه إذا قال لها : داع داع ، وهو تصويت بها كما قال :

فانعق ودعدعا بالبهائم (١)

كقوله : بأبأ الرجل بفلان ، إذا قال له : بأبي أنت ، قال الراجز :

وأن تبأبآن وأن تفدّين (٢)

وقولهم : هلّل الرجل إذا قال : لا إله إلا الله ، وحوقل إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وبسمل إذا قال : بسم الله ، وقد علمنا أنّ لا إله إلا الله ليس بفعل ولا بمصدر لفعل ، وإن كنا نأخذ منه فعلا ، وكذلك سائر ما ذكرناه فاعرفه إن شاء الله.

هذا باب ما ينتصب فيه المصدر المشبّه به على إضمار

الفعل المتروك إظهاره

(وذلك قولك : مررت به فإذا له صوت صوت حمار ، ومررت به فإذا له صراخ صراخ الثكلى ، قال النابغة الذبيانّي :

مقذوفة بدخيس النّحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد (٣)

وقال آخر :

لها بعد إسناد الكليم وهدئه

ورنّة من يبكي إذا كان باكيا

هدير هدير الثور ينفض رأسه

يذبّ بروقيه الكلاب الضّواريا (٤)

يصف طعنة لها خرير مما يجري من دمها ؛ فقال : لها بعد إسناد الكليم ، وهدئه هدو فيه أو هو المطعون ، وإسناده أن يسند ، وهدؤه وهديه : هدوءه وبكاء من يبكي عليه هدير

__________________

(١) كتاب سيبويه ١ : ٢٨٨ ، وهو من الخمسين التي لا يعرف قائلهم.

(٢) الإنصاف ١ : ٢٨٢ (بلا نسبة) ؛ اللسان (بأبأ).

(٣) البيت للنابغة الذبيايى : ديوانه ١٦ ؛ شواهد القرطبي ١ : ٦٥٩ ؛ تهذيب إصلاح المنطق : ٥١٠.

(٤) البيت للنابغة الجعدي : ديوانه ١٧ ، ١٨ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٠٥.


مثل هدير الثور وهو خواره إذا قاتل الكلاب ، وانتصاب هذا على ما أذكره ، ثم أسوق كلام سيبويه.

قال أبو سعيد : يجوز أن يكون انتصابه بفعل يدلّ عليه له صوت ؛ لأن له صوت يدلّ على أنّه يصوّت وينوب عنه ؛ فكأنه قال : مررت برجل فإذا هو يصوت صوت حمار ، ويكون" صوت حمار" على هذا التقدير منصوبا بالمصدر إن شئت ، وإن شئت على أنه حال ، وفي كلا الأمرين في صوت حمار معنى التشبيه ، فإن كان على المصدر فتقديره : مررت به فإذا هو يصوّت تصويتا مثل صوت الحمار ، ويحذف كما قد ذكر حذف ذلك في غير موضع.

وإن كان حالا فتقديره : فإذا هو يصوّت مشبها صوت حمار ومخرجا مثل صوت حمار ، أو ممثّلا صوت حمار.

ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل ، ويكون ذلك الفعل على وجهين :

يجوز أن يكون من لفظ الصّوت.

ويجوز أن يكون من غير لفظه.

فإن كان من لفظه فتقديره : فإذا له صوت يصوّت صوت حمار ، فيكون نصب" صوت حمار" على هذا التقدير بالمصدر إن شئت ، وإن شئت بالحال جميعا.

وإن كان الفعل الذي تقدّره من غير لفظه نصبت صوت حمار على الحال لا على المصدر ، فيكون تقديره : مررت به فإذا له صوت يخرجه مشبها صوت حمار ويمثّله مشبّها صوت حمار أو ما جرى هذا المجرى.

قال سيبويه : (وإنما انتصب هذا لأنك مررت به في حال تصويت ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول ولا بدلا منه).

يعني أنك لم ترد أن تجعله نعتا ولا بدلا منه فترفع ، وستقف عليه وعلى رفعه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال : (ولكنك لما قلت : له صوت علم أنّه قد كان ثمّ عمل فصار قولك : له صوت بمنزلة قولك : فإذا هو يصوّت ؛ فحملت الثاني على المعنى ، وهذا يشبّه في


النّصب لا في المعنى ، يقول الله عزوجل : (جاعل اللّيل (١) سكنا والشّمس والقمر حسبانا (٢)) يعني أن جاعل اللّيل سكنا في معنى : جعل الليل سكنا ، فعطف الشمس والقمر على معنى جعل.

قال : (وإذا أردت الحال فكأنّه توهّم بعد قوله : له صوت يصوّته صوت حمار ، أو يبديه أو يخرجه صوت حمار ، ولكنّه حذف هذا لأنّه صار له صوت بدلا منه ، فإذا قال : مررت به فإذا هو يصوّت صوت حمار فعلى الفعل غير الحال وعلى الحال ، وقد مضى ذكر الوجهين ، وإذا قال : يصوّت صوت حمار فعلى إضمارك فعلا بعد الفعل المظهر).

وقد كشفت هذا وبيّنته.

قال : (ومثل هذا : مررت به فإذا له ... دقّ" دقّك بالمنحاز حبّ الفلفل")

والمنحاز : الهاون ، يريد أنّك كما قلت : له صوت صوت حمار انتصب على أنّه مثال أو حال يخرج عليه الفعل ، وأنّك إذا أظهرت الفعل الذي لا يكون المصدر بدلا منه احتجت إلى فعل آخر فتضمره ؛ فمن ذلك قول الشاعر :

إذا رأتني سقطت أبصارها

دأب بكار شايحت بكارها (٣)

قال أبو سعيد : اعلم أن مذهب سيبويه أنه إذا جاء بالمصدر بفعل ليس من حروفه كان بإضمار فعل من لفظ ذلك المصدر ، فمن أجل هذا استدلّ على إضمار فعل بعد قوله : له صوت بهذا الشعر لأن قوله : دأب بكار منصوب وليس قبله فعل من لفظه فأضمر دأبت دأب بكار ، وتدأب دأب بكار ، والذي قبله : سقطت أبصارها ، كأنّه قال : أداموا النظر إليّ ، والدأب : الدوام ، فكان في" سقطت أبصارها" بالنظر إليه ما دلّ على أنّها دأبت فأدامت ويكون" دأب بكار" على الحال وعلى المصدر.

__________________

(١) وهي قراءة لغير عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، والأعمش (الميسر في القراءات الأربعة عشر) ص ١٤٠.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٩٦.

(٣) البيت لغيلان بن حريث : شرح أبيات سيبويه للنحاس : (إذا رأوني) ١٨١ ؛ المقتضب ٣ : ٢٠٤.


وكان أبو العباس يردّ هذا من قول سيبويه ويقول : إنّه يجوز أن يجيء المصدر من فعل ليس من حروفه إذا كان في معناه.

وقد ذكر المازني في قولهم : تبسّمت وميض البرق" قولين للنحويين في نصب وميض البرق :

أحدهما : مثل قول سيبويه ؛ أنهم يضمرون فعلا ، كأنهم قالوا : أومضت" وميض البرق".

والثاني : أنّ" تبسّمت" قد ناب عن أو مضت وميض البرق ؛ فكأنه قال : تبسمت تبسّما مثل وميض البرق.

قال أبو سعيد : والذي عندي أنّه يجوز أن ينتصب المصدر بالفعل الذي هو من غير لفظه كقولنا : قعد زيد جلوسا حسنا ، وقعد زيد جلوس عمرو ، تريد قعودا مثل جلوس عمرو ، وفى ذلك دليلان :

أحدهما : ما لا يختلف فيه أهل اللغة أنه قد يجيء المصدر من لفظ الفعل المتروك وليس بمبنيّ من بنية الفعل ، فلا يكون بينه وبين الذي هو من بنيته فرق كقول الله تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)(١) ومصدر تبتّل من بنية بتل ، إنما تبتيل مصدر تبتّل تبتيلا ، ومثل هذا في الكلام : تحاور القوم احتوارا ، واحتوروا تحاورا ، ولا فرق بينهما ، ويقال : افتقر فقرا ، ولا يستعمل من فقر فعل غير افتقر وإن كان ينبغي أن يكون فقر مصدر فقر فاستغني عنه بافتقر ، وقال الشاعر :

وقد تطوّيت انطواء الحضب (٢)

يريد : تطوّي الحضب لأنّ المعنى في تطوّى وانطوى واحد ؛ فأغنى بنية مصدر أحدهما عن الآخر إذ لا فرق بين المصدرين ، كما لا فرق بين الفعلين.

والدليل الآخر : أنا إذا قلنا قعد زيد جلوس عمرو ، فالتقدير : قعد زيد جلوسا مثل جلوس عمرو ثم حذف المنعوت والمضاف.

وقولنا : مثل جلوس عمرو معنى صحيح معقول صحّته فإذا حذف مثل وصل الفعل

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٨.

(٢) البيت لرؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٦ ، شرح المفصل ١ : ١١٢ ؛ تاج العروس (طوى).


إلى المصدر الذي هو الجلوس فصار منصوبا بقعد وعلى هذا قوله : سقطت أبصارها دأب بكار ، أي : سقطت سقوطا مثل دأب بكار ، قولهم : تبسّمت وميض البرق تبسّما مثل وميض البرق ، ثم وقع الحذف الذي أدّى إلى انتصاب وميض.

قال سيبويه : (فمما لا يكون حالا ويكون على الفعل المضمر قول رؤبة :

لوّحها من بعد بدن وسنق

تضميرك السّابق يطوى للسّبق (١)

أراد أنّك نصبت تضميرك بإضمار ضمّرها تضميرك السّابق ، وقد دلّ على ذلك لوّحها ، لأنّ معنى لوّحها : غيّرها ، وضمرها في معناه ، ونصبه على أنّه مصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا عنده على الحال ؛ لأنّه مضاف إلى الكاف متعرّف به ، ولا تكون الحال معرفة ، وكذا الباب في كل مصدر مضاف إلى معرفة ألا يكون حالا ، فلو كان مكانه تضمير فرس سابق أو تضمير رجل فرسا سابقا جاز أن يكون حالا ، وأنشد سيبويه في نحو هذا المعنى قول العجّاج :

ناج طواه الأين ممّا وجفا

طيّ الليالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا (٢)

فسماوة عند سيبويه مصدر ولا فعل من لفظه فصار بمنزلة لوّحها تضميرك ، وسقطت دأب بكار.

وكان المازني يردّ هذا ويقول : إن طيّ الليالي منصوب بطواه ، كأنّه قال : طواه طيا مثل طيّ الليالي ، ويجعل سماوة الهلال مفعول طيّ ، كأنّه قال : كما طوى الليالي سماوة الهلال ، وسماوة الشيء : شخصه ، والليالي تطوي القمر وتضمّره حتّى يصير هلالا ويصير بمنزلة قول جرير :

وطوى القياد مع الطّراد بطونها

طيّ التّجار بحضر موت برودا (٣)

فجعل" سماوة" مثل : " برودا" ، واحقوقف على هذا التفسير للهلال ، ومعناه :

__________________

(١) البيت لرؤبة بن العجاج : ديوانه ١٠٤ ؛ خزانة الأدب ١ : ٨٧.

(٢) البيت للعجاج : ديوانه : ٨٤ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ٢٠٩.

(٣) البيت لجرير : ديوانه : ١٣١ ، ط : بيروت (شرح مهدي ناصر).


تقوّس.

وأما ما يوجبه كلام سيبويه فتكون سماوة منصوبة بإضمار فعل ؛ كأنه قال : سما سماوة الهلال إذا أضمر من لفظه ، وإن أضمر من غير لفظه ، فكأنه قال : صيّره سماوة الهلال.

وكان أبو إسحاق الزجّاج يردّ على المازنيّ ما ذكرنا من قوله إنه لو كان سماوة يعمل فيه طيّ الليالي لكان حقّ الكلام أن يقول : سماوة القمر ، لأنّ الليالي تنقص القمر حتى يصير هلالا ، ولا يقال : إنّ الليالي تنقص الهلال.

وللمحتجّ عن أبي عثمان أن يقول : قد ينسب الفعل إلى الاسم في منتهاه وإن كان الفعل قد وقع قبل ذلك.

من ذلك قول القائل : نسجت الثوب ، والثوب لا ينسج إنّما ينسج الغزل فإذا انتهى صار ثوبا ، وعلى ذلك يتأوّل قول العجاج :

والشوق شاج للعيون الجذّل (١)

وإنما جذلت العيون واسترخت أجفانها من البكاء الذي أوجبه الشوق ، ومثله لرؤبة :

والسبّ تخريق الأديم الألحن (٢)

وإنما صار أديما ألحن بالنسب فسماه بما يوجبه الفعل بعد تقضّيه ، ومثله قول جرير في تأويل بعضهم :

لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع (٣)

وكان حقه أن يقول : والجبال الشواهق ، لأن الجبال الخشّع التي قد تضاءلت وتطأطأت فسمّاها بالاسم الذي توجبه المصيبة.

واحقوقف يجوز أن يكون للجمل الناجي الذي طواه الأين ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) ديوان العجاج ٤٥ ، وروايته :

ما بال جاري دمعك المهلل

والشوق شاج للعيون الجذل

(٢) البيت لرؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٦٠ ؛ تاج العروس (لحن).

(٣) البيت لجرير : ديوانه : ٩١٣ ؛ خزانة الأدب ٤ : ٢١٨ ؛ الخصائص ٢ : ٤٢٠.


للهلال.

قال سيبويه : (وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعد" له صوت" يدلّك على ذلك أنّك إذا أظهرت فعلا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولا عليه صار بمنزلة له صوت ، وذلك قوله وهو لأبي كبير :

ما إن يمسّ الأرض إلا منكب

منه وحرف الساق طيّ المحمل (١)

يريد أنّ طيّ المحمل قد نصب وليس قبله فعل من لفظه ولا معناه ، لأنّ ما إن يمسّ الأرض إذا ركّبت" ما" مع" إن يمسّ" لم يكن فعلا ولكن معناه معنى طوي فقادت الضرورة إلى أن يضمر فعل ليس من اللفظ.

وجعل سيبويه هذا دليلا على ما ذكره من إضمار فعل غير المذكور ، وقد يدخل في : (صوت حمار) ، " : إنّما أنت شرب الإبل" ، و" إنما أنت سيرا سيرا" ؛ لأنّه لا بدّ له من إضمار فعل فيكون المصدر محمولا على ذلك.

قال أبو سعيد : ذكر سيبويه لمثل هذا تقوية لإضمار فعل فيما خالف مصدره لفظ الفعل المذكور ، وإن قدّرنا المصدر منصوبا على أنّه مصدر فكأنه جواب لمن قال : أيّ فعل فعل إذا كان على الحال فكأنه جواب لمن قال على أيّ حال وقع ، وإذا كان معرفة لم يكن حالا ، وقد تقدم الكلام في هذا ، وقد يجوز الرفع في ذلك بقوله : له صوت صوت حمار ، وله خوار خوار ثور ، إذا جعلته صفة للأوّل ولم ترد فعلا ولا إضماره.

وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة للنكرة كما لم يكن حالا ، لا تقول : له صوت صوت الحمار ، وخوار خوار الثور إذا أردت الصفة ، وإنما يجوز ذلك في البدل.

قال سيبويه : (وزعم الخليل أنّه يجوز أن تقول : له صوت صوت الحمار على الصفة ؛ لأنّه تشبيه فمن ثم جاز وحسن أن تصف به النكرة).

وتفسير مذهب الخليل أنّ معناه : له صوت مثل صوت الحمار ، ومثل وإن كان مضافا إلى معرفة فهو نكرة فلذلك جاز عنده الصفة.

(وزعم الخليل أنّه يجوز أن يقول الرجل : هذا رجل أخو زيد على الصفة إذا

__________________

(١) ينسب لأبي كبير الهذلي (عامر بن الحليس) : ديوان الهذليين ق ٢ : ٩٣ ؛ الإنصاف ١ : ٢٣٠ ؛ الخصائص ٢ : ٣١١.


أردت مثل أخي زيد).

واستضعفه سيبويه فقال : (ولو جاز هذا لقلت : هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل).

ولجاز أن تقول : جاءني زيد أخاك ، تريد مثل أخيك ، ومثل البزاز ، وهذا يقبح جدّا ، كما قبح أن يكون حالا إلا في شعر أو ضرورة.

قال : (وهو في الصفة أقبح لأنّك تنقض ما تكلّمت به).

يريد أنّ الصفة والموصوف كشيء واحد ، فلا يجوز أن يكون أحدهما معرفة والآخر نكرة ، والحال مع الذي منه الحال ليسا كشيء واحد فصار في الصفة أقبح.

هذا باب ما يختار فيه الرفع

(وذلك قولك : له علم علم الفقهاء ، وله رأي رأي الأصلاء.

وإنّما كان الرفع في هذا الوجه لأن هذه خصال يذكرها في الرجل كالحلم والعقل والفضل ، ولم ترد أنك مررت برجل في حال تعلّم ولا تفهّم ، ولكنك أردت أن تذكر الرجل بفضل فيه ، وأن تجعل ذلك خصلة قد استكملها ، كقولك : له حسب حسب الصالحين).

قال أبو سعيد : إنّما يرفع الثاني على أحد وجهين :

إما أن يكون بدلا من الأول ؛ كأنه قال : له علم الفقهاء ، وله حسب الصالحين ، أو على إضمار هو وما أشبهه ، كأنه قال : علم هو علم الفقهاء ، وكان الاختيار فيه للرّفع ؛ لأنه شيء قد ثبت فيه فصار بمنزلة اليد والرّجل. ألا ترى أنّك لو قلت : له رأس رأس البقر ، وله رجل رجل الفيل ويد يد الحمار وما أشبهه لم يكن فيه إلا الرّفع.

وإنما فرّق بين هذا الباب والباب الأول لأن الباب الأول شيء لم يثبت وإنما يعالج عمله لأنه إذا قال : له صوت صوت حمار ؛ فهو شيء يعالجه في الوقت.

وإذا قلت : مررت به فإذا له صوت صوت حمار ، فتصويته إنما كان في وقت مرورك به ؛ فوجب من أجل ذلك إضمار فعل ينصب.

(ويدلّك على ذلك ويكشفه قولهم : له شرف وله دين وله فهم).

ولا يراد بذلك أنه يتشرّف ويتديّن ويتفهّم من غير أن يكون استقرت هذه الأشياء.

(ولو أرادوا أن يخبروا أنه يدخل نفسه في الدين ولم يستكمل أن يقال له : ديّن


لقالوا : يتديّن وليس له دين ، وكذلك يتشرّف وليس له شرف ، ويتفهّم وليس له فهم ، قال : فلما كان هذا اللفظ الذي استكمل ما كان غير علاج بعد النصب).

قال أبو سعيد : يعني أن قولهم : له علم علم الفقهاء ، وحسب حسب الصالحين ، وفهم فهم الأدباء ، يقال ذلك لمن فيه فهم مستقر فبعد النصب فيه في قولنا : أمرّ به فإذا له صوت صوت حمار ؛ إنما هو معالجة للصوت وإخراجه.

ولو أراد بقوله علم تعلّم وتفهّم وتعاط له لجاز النصب ، وصار بمنزلة له صوت صوت حمار ، إلا أن المفهوم من كلام الناس وما جرت به عادتهم أنّ ذلك مدح للمذكور ، حصل له بما استقرّ فيه من العلم والفهم وغير ذلك.

هذا باب ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر الذي

يكون علاجا

وذلك إذا كان الآخر هو الأول

وذلك نحو قولك : (له صوت صوت حسن ؛ لأنك إنما أردت الوصف ، فكأنك قلت : له صوت حسن ، وإنما كرّرت الصوت توكيدا ، ولم ترد أن تحمله على الفعل)

ومثل هذا : مررت برجل رجل صالح ، وعنده ثوب ثوب حسن ، فيعيدون الاسم فينعتونه بالنّعت الذي يكون للأول.

(ومثل ذلك : له صوت أيّما صوت ، وله صوت مثل صوت الحمار ، لأن أيّ والمثل صفة أبدا ، فإذا قلت : أيّما صوت ، فكأنك قلت : له صوت حسن جدّا ، وهذا صوت شبيه بذلك ، فأيّ ومثل فيهما الأول ، الرفع فيهما أحسن ؛ لأنّك ذكرت اسما يحسن أن يكون هذا الكلام منه ؛ فلمّا كان منه حمل عليه ، كقولك : هذا رجل مثلك ، وهذا رجل حسن ، وهذا رجل أيّما رجل).

قال أبو سعيد : معنى قول سيبويه : يعني هو هو ، وهو يستعمله في بعض كلامه ، يريد أن قولك : له صوت إنّما هو الأوّل ، وصوت مثل صوت الحمار ، مثل : هو الأوّل.

وأراد أن يفرّق بين هذا وبين قوله : له صوت صوت حمار ؛ لأنّ صوت حمار ليس بالصوت الأوّل ، ولم يظهر لفظ مثل فيختار فيه الرفع.

وإذا قلت : له صوت صوت حمار فيقول سيبويه : (إنّما جاز رفعه على سعة الكلام


كما جاز لك أن تقول : ما أنت إلا سير).

قال أبو سعيد : يريد أن جوازه على إضمار" مثل" كإضمارك في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) على معنى أهل القرية ، وكإضمارك وما أنت إلا سير ، أي إلا صاحب سير.

فمن اختار : ما أنت إلا سيرا ، اختار له صوت صوت حمار ، ومن اختار الرفع في ذلك اختار الرفع في هذا.

(ولو قلت : له صوت أيّما صوت ، وله صوت مثل صوت الحمار ، أو له صوت صوتا حسنا جاز ، وإنما جاز هذا على الحال ، أو على المصدر بإضمار فعل ؛ لأنّ في قوله : له صوت دلالة على التصويت ، فأجاز الخليل النصب لهذا المعنى ، ويقوّي ذلك أنّ يونس وعيسى جميعا زعما أن رؤبة بن العجاج كان ينشد هذا البيت :

فيها ازدهاف أيّما ازدهاف

وفي كتاب أبي بكر مبرمان مفسّر في الحاشية ؛ الازدهاف : العجلة ، وليس كذلك ، قال رؤبة يخاطب أباه ويعاتبه في قصيدة فيها :

أقحمتني في النفنف النّفناف

في هول مهوى هوّة الرصّاف (٢)

قولك أقوالا مع التّحلاف

فيها ازدهاف أيّما ازدهاف

وفسّر الازدهاف : الشّدّة والأذى ، وحقيقته : استطارة القلب أو العقل من شدة الجزع أو الحزن.

قال الشاعر :

ترتاع من نفرتي حتّى تخيّلها

جون السّراة تولّى وهو مزدهف (٣)

وقالت امرأة من العرب :

بل من أحسّ بنيّ اللذين هما

قلبي وعقلي فعقلي اليوم مزدهف (٤)

__________________

(١) الآية سبق تخريجها.

(٢) البيتان لرؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٠٠ ؛ خزانة الأدب ٢ : ٤٣ ؛ شرح المفصل ١٠ : ٤٩.

(٣) غير منسوب ، تاج العروس (زهف).

(٤) البيت ينسب لأم حكيم بنت قارظ بن خالد الكنانية ، وقيل : هي عائشة بنت عبد المدان :


ونصب أيّما على تقدير تزدهف أيّما ازدهاف ، لأنّ له ازدهاف قد دلّ على ذلك وصار بدلا من اللفظ بالفعل.

هذا باب ما الرفع فيه الوجه

(وذلك قولك : هذا صوت صوت حمار لأنك لم تذكر فاعلا لأنّ الآخر هو الأول حيث قلت : " هذا" ، فالصوت هو" هذا" ثم قلت : صوت حمار ؛ لأنك لم تشبّه وجعلته هو صوت الحمار لمّا سمعت نهاقا ، فلا شك في رفعه وإن شبّهت أيضا فهو رفع ؛ لأنك لم تذكر فاعلا يفعله وإنما ذكرت ابتداءه كما تبتدئ الأسماء فقلت" هذا" ثمّ بنيت عليه شيئا هو هو فصار كقولك هذا رجل رجل حرب).

وليس هذا كقولك : له صوت ؛ لأنّ اللام دخلت على فاعل الصوت ، كأنك قلت : لزيد صوت ، ودل ذلك على أنه يصوّت أو قد صوّت ، وقولك : هذا صوت صوت حمار ، كقولك : هذا رأس رأس حمار ، وهذا رجل أخو حرب إذا أردت الشبه ؛ لأنه قام مقام مثل وهو مرفوع.

(ومن ذلك : عليه نوح نوح الحمام والاختيار فيه الرفع ؛ لأنك لم تذكر الفاعل للنوع فتدل بذكره على الفعل فتنصب).

قال أبو سعيد : الفرق بين" هذا" وبين" له صوت" أن الذي له الصوت فاعل الصوت ، والذي عليه النّوح ليس بفاعل للنّوح.

وقولك : نوح الحمام ليس بصفة لنوح ، لأنه معرفة ونوح نكرة ، وإنما هو بدل ، أو على إضمار هو ، وقد مضى نحو هذا.

وإذا قلت لهنّ نوح نوح الحمام وأنت تعني النوائح كان الوجه النصب ؛ لأنّهنّ الفاعلات ، كما كان في قولك له صوت صوت الحمار ، وإنما قولك عليه نوح أنه موضع للنّوح الذي ناحه غيره.

قال سيبويه : (ولو نصبت لكان وجها ؛ لأنّه إذا قال : هذا صوت وهذا نوح فقد أحاط العلم أن مع الصوت والنّوح فاعلين فتجعله على المعنى) كما قال :

__________________

الأغاني ١٦ : ٢٧١ ؛ تاج العروس (زهف).


قد سالم الحيات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما (١)

قال أبو سعيد : الشاهد : أنّه رفع الحيّات بسالم ، ونصب القدم لأنّه مفعول سالم ، والأفعوان وما بعده هنّ الحيات فنصبها وحقّها الرفع بالبدل من الحيات فحمل نصبهنّ على المعنى ، وذلك أن سالم وباب فاعل حقّه أن يكون من اثنين كلّ واحد منهما يفعل بصاحبه مثل الذي يفعله صاحبه به ، فلما قال : سالم الحيات القدم دلّ على أن القدم مسالمتها فأضمر مسالمة القدم للأفعوان ؛ فكأنه قال : سالمت القدم الأفعوان.

وكان الفرّاء ينشد" الحيّات" منصوبا بكسر التاء ويجعل القدم تثنية ، أراد : القدمان وحذف النون للضرورة كما قال :

أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا

قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا (٢)

وقال تأبّط شرّا :

هما خطّتا إمّا إسار ومنّة

وإمّا دم والقتل بالحرّ أجدر (٣)

أراد" خطّتان" ، ورأيت من روى : " هما خطتا إما إسار ومنّة" بخفض إسار ويجعل خطتا مضافا إلى إسار.

ومما حمل على المعنى قوله :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح (٤)

رفع يزيد بما لم يسمّ فاعله ، ثم رفع ضارعا على المعنى ؛ لأنه لما قال : ليبك علم أنّ باكيا يبكيه فأضمر ليبكه ضارع ، ومثله في بعض القراءات :

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٥) كأنه قال : زيّنه

__________________

(١) البيت للعجاج : ديوانه ٨٩ ؛ خزانة الأدب ١٠ : ٢٤٠ ، ١١ : ٤١١.

(٢) البيت للأخطل : ديوانه : ٣٨٧ ؛ المقتضب ٤ : ١٤٦ ؛ شرح المفصل ٣ : ١٥٤ ، ١٥٥ ؛ المنصف ١ : ٦٧.

(٣) البيت سبق تخريجه.

(٤) البيت للأخطل : ديوانه : ٤٤ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٨٥ ، ٨ : ٢١٠ ، شرح المفصل ٣ : ١٥٤ ، ١٥٥.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١٣٧. وهي قراءة ابن عامر ، انظر : الميسر في القراءات الأربعة عشر ، ص : ١٤٥.


شركاؤهم ، وبعض يروي ليبك يزيد ضارع ، فينصب" يزيد" ولا شاهد في هذا.

هذا باب ما لا يكون فيه الرفع

(وذلك قولك : له يد يد الثور ، وله رأس رأس الحمار ؛ لأنّ هذا الاسم فلا يتوهّم أن الرجل يصنع يدا أو رجلا وليس بفعل وقد مضى هذا في خلال ما أمليناه).

هذا باب آخر لا يكون فيه إلّا الرفع

(وذلك قولك : صوته صوت حمار ، وتلويحه تضميرك السابق ، ووجدي به وجد ثكلى).

وإنما وجب الرفع لأن قولك صوته مبتدأ لا بدّ له من خبر ، وصوت حمار خبره على معنى : مثل صوت حمار فوجب رفعه ، قال الشاعر :

وجدي بها وجد المضلّ بعيره

بنخلة لم تعطف عليه العواطف (١)

وكذلك لو قلت : مررت به فصوته صوت حمار.

قال سيبويه : (فإن قال : فإذا صوته يريد الوجه الذي يسكت عليه دخله النصب ، لأنه يضمر بعده ما يستغنى به).

قال أبو سعيد : يريد أنّ" إذا" هذه وهي التي تكون للمفاجأة إذا كان بعدها مبتدأ جاز أن يسكت عليها ولا يؤتى لها بخبر كقولك : خرجت فإذا زيد ، ويجوز أن يؤتى بخبرها فيقال : خرجت فإذا زيد قائم.

فإذا قال : صوته صوت حمار وهو يريد الوجه الذي تأتي فيه بالخبر فقد وجب رفع الثاني كما يرفع في قولك : صوته صوت حمار.

وإن قدّر الاستغناء عنه كان منصوبا على الحال أو بإضمار فعل على نحو ما مضى.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر

(فانتصب لأنه موقوع له ، ولأنه تفسير لما قبله ؛ وليس بصفة لما قبله ولا منه فانتصب كما انتصب" الدّرهم" في قولك : عشرون درهما.

وذلك قولك : فعلت ذلك حذار الشرّ ، وفعلت ذاك مخافة فلان ، وادخار فلان ،

__________________

(١) البيت لمزاحم العقيلي : شرح أبيات سيبويه ١ : ٣٢ ؛ تاج العروس (عطف).


قال الشاعر وهو حاتم :

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما (١)

وقال النابغة :

وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع

يخال به راعي الحمولة طائرا

حذارا على أن لا تصاب مقادتي

ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا (٢)

وقال الحارث بن هشام :

فصفحت عنهم والأحبة فيهم

طمعا لهم بعقاب يوم مفسد (٣)

وقال العجّاج :

يركب كلّ عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

والهول من تهوّل الهبور (٤)

وفعلت ذاك أجل كذا وكذا ، فهذا كله ينتصب ؛ لأنه مفعول له كأنه قيل له : لم فعلت كذا وكذا فقال : لكذا وكذا لمّا طرح اللام عمل فيه كما عمل في" دأب بكار" ما قبله حين طرحت مثل وكان حالا تعني دأب بكار).

قال أبو سعيد : اعلم أنّ المصدر المفعول له إنّما هو السبب الذي له يقع ما قبله وهو جواب لقائل قال له : لم فعلت كذا؟ فيقول : لكذا وكذا ، كرجل قال لرجل : لم خرجت من منزلك؟ فقال : لابتغاء رزق الله ، أو قال له : لم تركت السوق؟ فقال للخوف من زيد ولحذار الشرّ.

__________________

(١) البيت لحاتم الطائي : ديوانه ٢٥ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٥ ، ١٢٢ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٤.

(٢) البيتان للنابغة الذبياني : الديوان ٦٩ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٤ ؛ شرح قطر الندى : ١٧٢.

(٣) البيت للحارث بن هشام : شرح أبيات سيبويه ١ : ٣٦ ؛ شرح المفصل ٢ : ٥٤.

(٤) البيت للعجاج : ديوانه : ٢٨ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١١٤ ، ١١٦.

والهبور : جمع هبر ، بالفتح ، وهو ما اطمأن من الأرض وحوله مرتفع ، وفي رواية أخرى : القبور.


وبعض النحويين يقدّره ب" لو لا" ومعناه : لو لا حذار الشرّ ما تركت السوق ، ولو لا ابتغاء رزق الله ما خرجت من البيت ، وذلك على ضربين :

أحدهما : أن تفعل الفعل تجذب به فعلا آخر ، كقولك : احتملتك لاجتذاب مودّتك ، ولاستدامة مسالمتك ، فهو معنى تجذبه باحتماله.

والوجه الآخر : أن تدفع بالفعل الأول معنى حاصلا ، وتجذب به معنى آخر كقولك : فعلت ذاك حذار شرّ زيد ؛ كأنّ الحذار معنى حاصل تزيله بفعل ذلك الشيء ، وتجذب ضده من الأمر.

ويجوز أن يكون هذا المصدر معرفة ونكرة ؛ لأنه ليس بحال فيحتاج فيه إلى لزوم النكرة.

فأما المعرفة : فقولك ذلك لابتغاء الخير وللخوف من زيد.

وأمّا النكرة : فقولك لابتغاء الخير ، ولخوف من زيد ، ويجوز حذف اللام ونصب الذي بعدها كقولك : قلته ابتغاء الخير ، وحذارا من شرّ ، والناصب للمصدر الفعل المذكور لا غير ، والدليل على ذلك : أن قائلا لو قال : فعلت هذا الفعل لزيد لكانت اللام في صلة الفعل المذكور لا غير ، ولم تكن بنا حاجة إلى طلب فعل آخر ، فإذا ألقيت اللام وهي في موضع نصب بالفعل وصل الفعل إليه فنصبه ، وتدخل" من" في معنى اللام لأنه يجوز أن تقول : خرجت من أجل ابتغاء الخير ، واحتملت من أجل خوف الشّر ، ومعناهما واحد ، وعلى ذلك قوله عزوجل : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)(١) أي لحذر الموت ، أو من أجل حذر الموت.

ولو قال قائل : فعلت هذا لزيد ، أو من أجل زيد لم يجز حذف اللام ، ونصب زيد ؛ لأنه يقع في ذلك لبس ، وإنما جاز في المصادر لزوال اللبس ، ولأنه جواب لم ، ولا يحسن أن تقول : لم خرجت؟ فيقول : لزيد ؛ لأن موضعه على شيء يطلب حدوثه وليس زيد من ذلك.

وقد أنكر النحويون أن يقام" حذار الشرّ" و" ابتغاء الخير" مقام الفاعل فلم يجيزوا أن يقال : سير بزيد حذار الشّرّ ، ولا سير به ابتغاء الرّزق.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩.


وقد أجازوا : سير بزيد يوم الجمعة ، وسير به فرسخان ، والفصل بينهما أن الظروف قد توسعت فيها العرب ، فأقاموها مقام الفاعلين والمفعولين فقالوا : ليلك نائم ونهارك بطّال ، قال الله عزوجل : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(١) فلمّا كان ذلك في الظروف أقاموها مقام الفاعل على السعة ولم يتّسع في المفعول له هذا الاتساع فيخرج عن بابه بإقامته مقام الفاعل.

قال سيبويه : (وحسن في هذا الألف واللام ؛ يعني المفعول له ؛ لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل ، ولا يشبّه بما مضى من المصادر في الأمر والنهي وغيرهما ؛ لأنه ليس موضع ابتداء ولا موضعا يبنى على مبتدإ ، فمن ثمّ خالف باب" رحمة الله عليه"). يعني خالف باب" رحمة الله عليه" وسائر المصادر التي يجوز فيها الرفع والنصب مما تقدّم ذكره فلم يجز في المفعول له غير النصب.

يعني أن المصادر التي تنصب في أوّل الكلام قد ترفع ـ أيضا ـ بالابتداء وبخبر الابتداء ، نحو : صبر جميل ، وطاعة ، وقول معروف.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب لأنّه

موقع فيه الأمر

(وذلك قولك : قتلته صبرا ، ولقيته كفاحا ، ولقيته فجاءة ، ومفاجأة ولقيته عيانا ، وكلمته مشافهة ، وأتيته ركضا وعدوا ومشيا ، وأخذت ذلك عنه سماعا وسمعا ، وليس كلّ مصدر ـ وإن كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب ـ يوضع هذا الموضع ؛ لأن المصدر هنا في موضع فاعل إذا كان حالا. ألا ترى أنه لا يحسن أتانا سرعة ، ولا أتانا رجلة ، كما أنه ليس كلّ مصدر يستعمل في باب سقيا وحمدا).

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أنّ مذهب سيبويه في : أتيت زيدا مشيا وركضا وعدوا ، وما ذكره معه أن المصدر في موضع الحال كأنّه قال : أتيته ماشيا وراكضا وعاديا ، وكذلك : قتلته صبرا أي : قتلته مصبورا ، ولقيته مفاجئا ومكافحا ومعاتبا ، وكلمته مشافها ، وأخذت ذلك عنه سماعا إذا كان الحال من الفاء ، وإن كان من الهاء فصابرا ، وليس ذلك بقياس مطّرد وإنما يستعمل فيما استعملته العرب ، لأنه شيء وضع في موضع غيره كما أن

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ٣٣.


باب سقيا لا يطّرد فيه القياس ، فيقال طعاما وشرابا ، وقد ذكر هذا فيما تقدم.

وكان أبو العباس يجيز هذا في كلّ شيء دلّ عليه الفعل فأجاز أن تقول : أتانا سرعة ، وأتانا رجلة ، ولا تقول : أتانا ضربا ولا أتانا ضحكا ، لأن الضرب والضحك ليس من ضروب الإتيان والسرعة ، والرّجلة من ضروب الإتيان ، لأنّ الآتي ينقسم إتيانه إلى سرعة أو إبطاء أو توسّط ، وتنقسم إلى رجلة وركوب ، ولا ينقسم إلى الضرب والضحك.

وكان يقول : إنّ نصبك مشيا إنما هو بالفعل المقدّر كأنه قال : أتانا يمشي مشيا ، وكان يدّعي أنّ هذا القياس قول النحويين.

وكان الزجاج يذهب إلى تصحيح مذهب سيبويه وهو الصواب ؛ لأن قول القائل : أتانا زيد مشيا يصح أن يكون جوابا لقائل قال : كيف أتاكم زيد؟ وكذلك : كيف لقيت زيدا؟ فتقول : فجاءة ، إنما تقع للحال ؛ فكأنه قال مفاجئا ، ولو كان على ما قال المبرّد : إنّ الناصب للمصدر الفعل المضمر وأن ذلك الفعل المضمر في موضع الحال لجاز أن تقول : أتانا زيد المشي ، وهو لا يجيز هذا ، وعلى قياسه يلزمه ذلك ؛ لأنه يكون تقديره : أتانا زيد يمشي المشي ، والفعل يتعدّى إلى المصدر المحض الذي ليس فيه معنى الحال معرّفا ومنكّرا.

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : والذي عندي أنه يجوز أن تنصب مشيا وفجاءة على المصدر من غير الوجه الذي ذكره أبو العباس ، وهو أن تجعل" أتى" في معنى : مضى إليّ ، ويكون" مشيا" مصدرا له ، وكذلك لقيته فجاءة ، كأنه قال فاجأته مفاجأة على نحو ما تقدّم من المصدر الذي من غير لفظ الفعل المذكور ، كقولهم : تبسّمت وميض البرق ، وما أشبه ذلك.

فإن قال قائل : فهل تجيز أن تقول جاءني زيد المشي ، ولقيته الفجاءة إذا كان المصدر لا يمنع عمل الفعل فيه ، وإن كان معرفة؟

قيل له : لا يجوز هذا لأنّ هذا المصدر لا يجوز استعماله في كل مكان على ما حكاه سيبويه من أنّه لا يقال : أتانا سرعة ، وإنما هو شيء استعمل في غير موضعه فلم يتجاوز فيه ما استعملوه ، ومثل ذلك قول الشاعر ، وهو زهير :


فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا

على ظهر محبوك ظماء مفاصله (١)

فالتقدير فيه : فلأيا بلأى حملنا ، وما زائدة ، ولأيا : بطاء وجهدا ، فكأنه قال : مجهودين حملنا وليدنا ، ومبطئين حملنا وليدنا ، ويقال : التأت عليه الحاجة إذا أبطأت ، قال الراجز :

ومنهل وردته التقاطا (٢)

أي : فجاءة ، وهو من الأول.

وهذا باب ما جاء منه في الألف واللام

(وذلك قولك : أرسلها العراك ، وقال لبيد :

فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدّخال (٣)

ويروى : نغص الدّخال ، فنصب العراك وهو مصدر عارك يعارك معاركة وعراكا إذا زاحم ، وجعل العراك في موضع الحال وهو معرفة ، وذلك شاذّ ، وإنما يجوز مثل هذا لأنه مصدر ولو كان اسم فاعل ما جاز ، لم تقل العرب أرسلها المعارك ، ولا مثل جاء زيد القائم ، وإنما وضعوا بعض المصادر للمعارف في موضع الحال فمنها مصادر بالألف واللام ، ومنها مصادر مضافة إلى معارف.

فأما ما كان بالألف واللام فالعراك ، ومثله قول أوس بن حجر :

فأوردها التقريب والشدّ منهلا

قطاه معيد كرّة الورد عاطف (٤)

أراد : فأوردها تقريبا وشدّا في معنى مقرّبا وشادّا ، ومثله :

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى : ديوانه ١٣٣ ؛ شواهد القرطبي ٣ : ١٠٢.

(٢) ينسب إلى نقادة الأسدي ، ويروى لرجل من بني مازن : شواهد القرطبي ١ : ٣٩١ ؛ تهذيب إصلاح المنطق ١٨٣ ، ٢٤٧ ؛ تاج العروس (لقط).

(٣) البيت للبيد بن ربيعة : ديوانه : ٨٦ ؛ خزانة الأدب ٣ : ١٩٣ ؛ مغني اللبيب ٢ : ٣١٤ ؛ شرح ابن عقيل ١ : ٤٤٧.

(٤) البيت لأوس بن حجر : ديوانه : ٦٩.


مدّت عليه الملك أطنابها

كأس رنوناة وطرف طمر (١)

ومعنى البيت : أنه وصف ملكا دائم الشرب فقال : مدّت عليه ، يعني : على الملك كأس ، رنوناة أطنابها في معنى : الملك مملّكا الملك ؛ فجعل الملك في معنى الحال ، وتقديره : مملّكا.

وأما ما جاء منه مضافا معرفة فقولك : طلبته جهدك وطاقتك ، وفعلته جهدي وطاقتي ، وهو في موضع الحال ؛ لأن معناه : مجتهدا ، ولا يستعمل هذا إلا مضافا ، لا تقول ، فعلته طاقة ولا جهدا وقد مضى من المصادر أن منها ما لا يستعمل إلا مضافا ، نحو : معاذ الله ، وعمرك الله.

قال : (ومثله : فعله رأي عيني وسمع أذني ، قال ذاك وإن قلت : سمعا جاز) لأنّه قد استعمل مضافا وغير مضاف.

هذا باب ما جعل من الأسماء مصدرا كالمضاف في

الباب الذي يليه

(وذلك قولك : مررت به وحده ، ومررت بهم وحدهم ، ومررت برجل وحده ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز : مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم ، وكذلك إلى العشرة.

وزعم الخليل أنهّ إذا نصب ثلاثتهم فكأنّه يقول : مررت بهؤلاء فقط لم أجاوزهم. كما أنه إذا قال : وحده فإنما يريد : مررت به فقط لم أجاوزه.

وأمّا بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول إن كان جرّا فجرّ ، وإن كان نصبا فنصب وإن كان رفعا فرفع.

وزعم الخليل أن الذين يجرّونه كأنّهم يريدون أن يعمّوا كقولك : مررت بهم كلّهم أي لم أدع منهم أحدا.

وزعم الخليل حين مثّل نصب وحدهم وخمستهم أنه كقولك : مررت بهم أفرادهم ، أي إفرادا لهم ، فهذا تمثيل وإن لم يستعمل في الكلام)

قال أبو سعيد ـ رحمه‌الله ـ : ليونس قول في" وحده" يأتي في الباب الثالث من هذا

__________________

(١) بدون نسبة : الخصائص ٢ : ٢٤ ؛ المقاييس ٢ : ٤٤٣ (وقد نسبه إلى عمرو بن أحمر).


الباب ، وأنا أفسر جملة هذا الباب مع ذكر قول يونس.

قال سيبويه : (ومثل" خمستهم" في الكلام قول الشاعر ، وهو الشّمّاخ :

أتتني سليم قضّها بقضيضها

تمسّح حولي بالبقيع سبالها (١)

قال أبو سعيد : هذا البيت في النّسخ منسوب إلى الشماخ ، وهو لأخيه مزرّد والنحويّون يروونه في الاستشهاد منصوب اللام من سبالها ، وهي مرفوعة أولها في شعره :

أتتني خفاف قضّها بقضيضها

تمسّح حولي بالبقيع سبالها

يقولون لي احلف قلت لست بحالف

أخادعهم عنها لعلّي أنالها

ففرّجت غمّ الموت عني بحلفة

كظهر الجواد يردّ عنها جلالها (٢)

وقد استعمل" قضّها بقضيضها" على وجهين :

منهم من ينصبه على كلّ حال ؛ فيكون بمنزلة المصدر المضاف المجعول في موضع الحال كقولك : مررت به وحده وفعلته جهدك وطاقتك.

ومنهم من يجعله تابعا لما قبله في الإعراب فيجريه مجرى كلّهم ، فيقول : أتتني سليم قضّها بقضيضها ، ورأيت سليما قضّها بقضيضها ، ومعناها : أجمعين ، أو كلهم ، وهو مأخوذ من القضّ وهو الكسر ، وقد يستعمل الكسر في معنى الوقوع على الشيء بسرعة ، كما يقال : عقاب كاسر ، وكأن معنى قضّهم : انقضّ بعضهم على بعض وتجمعوا.

هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدرا كالمصدر الذي فيه الألف

واللام نحو : العراك

(وهو قولك : مررت بهم الجمّاء الغفير ، والناس فيها الجمّاء الغفير ، فهذا ينتصب كانتصاب العراك.

__________________

(١) البيت للشماخ بن ضرار ، وقيل : لأخيه مزرد : ديوانه ٢٩٠ وروايته :

وجاءت سليم قضها بقضيضها

تمسح حولي بالبقيع سبالها

يقولون لي : احلف قلت لست بحالف

أخادعهم عنها لكيما أنالها

ففرجت كرب النفس عني بحلفة

كما شقت الشقراء عنها جلالها

شرح المفصل ٢ : ٦٣ ؛ التكملة ٥ : ٣٨٧ ؛ تاج العروس (قضض).

(٢) المصدر السابق.


وزعم الخليل أنهم أدخلوا الألف واللام في هذا الحرف وتكلموا به على نيّة ما يدخله الألف واللام ، وهذا يجعل مثل قولهم : مررت بهم قاطبة ، ومررت بهم طرّا ، أي جميعا ، إلا أنّ هذا نكرة لا تدخله الألف واللام كما أنه ليس كل مصدر بمنزلة العراك ، كأنه قال : مررت بهم جمعا لهم ، فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به ، فصار طرّا وقاطبة بمنزلة سبحان في بابه لا يتصرّف كما كان طرّا وقاطبة لا يتصرفان ، ولا يكونان معرفة ، وهما في موضع المصدر ، ولو كانا في موضع الصفة لجريا على الاسم ولبنيا على الابتداء ولم يوجد هذا في الصفة ، وقد رأينا المصادر قد صنع بها هذا).

قال أبو سعيد : اعلم أنّ الجمّاء : هو اسم ، والغفير : نعت لها ، وهو بمنزلة قولك ـ في المعنى ـ : الجمّ الكثير ، لأنّه يراد به : الكثرة ، والغفير يراد به : أنّهم قد غطّوا الأرض من كثرتهم ، من قولنا : غفرت الشيء ، أي : غطيته ، ومنه : المغفر ؛ الذي يوضع على الرأس لأنه يغطيه ، ونصبه في قولك : مررت بهم الجمّاء الغفير على الحال ، وقد تقدّم القول أن الحال إذا كانت اسما غير مصدر لم يكن بالألف واللام ، فأحوج ذلك سيبويه والخليل أن جعلا" الجمّاء الغفير" في موضع المصدر كالعراك ، كأنّك قلت : مررت بهم الجموم الغفر ، على معنى : مررت بهم جامين غافرين للأرض ، ولم يذكر أصحابنا أنهما يستعملان في غير الحال ، وذكر غيرهم شعرا فيه الجمّاء الغفير مرفوع ، وهو قول الأعشى :

صغيرهم وشيخهم سواء

هم الجمّاء في اللّؤم الغفير (١)

وأما قولهم : مررت بهم قاطبة ، ومررت بهم طرّا ؛ فعلى مذهب الخليل وسيبويه جميعا هما في موضع مصدرين ، وإن كانا اسمين ، وذلك أن قاطبة وإن كان لفظها لفظ الصفات كقولنا : ذاهبة ، وقائمة ، وطرّا وإن كان لفظها لفظ صغرا وشهيا وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز حملها إلا على المصدر ، وذلك أنّا رأينا المصادر قد يخرجن عن التمكن ؛ فلذلك حمل سيبويه" قاطبة" و" طرّا" على المصدر ، وصار بمنزلة مصدر استعمل في

__________________

(١) ورد البيت في الأصل هكذا :

صغيرهم وكبيرهم وشيخهم سواء

هم الجمّاء وفي اللوم الغفير

والذي أثبتناه هو الصواب ، كي يستقيم الوزن. ولم نعثر عليه في ديوان الأعشى ، والبيت منسوب للراعي النميري ، عبيد الله بن حصين بن معاوية.


موضع الحال ، ولم يتجاوز ذلك الموضع ، كما لم يتجاوز ما ذكرناه من المصادر في موضعه ، وفيما ذكرنا خلاف من يونس يذكره سيبويه في الباب الذي يليه ونشرحه إن شاء الله.

هذا باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الأمر وهو اسم

(وذلك قولك : مررت بهم جميعا وعامّة وجماعة ، كأنك قلت مررت بهم قياما).

قال سيبويه : (وإنما فرقنا بين هذا الباب والباب الأول لأنّ الجميع والعامة اسمان متصرفان ، تقول : كيف عامتكم؟ ، وهؤلاء قوم جميع ، فإذا كان الاسم حالا يكون فيه الأمر لم تدخله الألف واللام ولم يضف).

قال أبو سعيد : ـ رحمه‌الله ـ اعلم أنك إذا قلت : مررت بهم جميعا فله وجهان :

أحدهما : أن تريد مررت بهم وهم مجتمعون ؛ كما قال الله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ)(١).

والآخر أن تريد مررت بهم فجمعتهم بمروري ، وإن كانوا متفرقين في مواضع ، فإن أردت الوجه الأول فهو حال لا وجه له غيره.

وإن أردت الوجه الثاني جاز أن يكون في موضع مصدر بإضمار فعل آخر كأنه قال : جمعتهم جمعا في مروري.

وإن صيرناه حالا فعلى نحو قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(٢) وقولهم :

قم قائما ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

وعامة وجماعة بمنزلة جميع ، ولا يجوز أن تقول : مررت بهم الجميع والعامة والجماعة ، ولا مررت بهم جميعهم وجماعتهم ، كما لا يجوز ضربته القائم تريد قائما ، ولا ضربتهم قائمهم تريد قائمين ، وإنما جاز مررت بهم خمستهم ؛ لأنه على مذهب الخليل وسيبويه يجعل خمستهم بمنزلة المصدر كقولهم طاقته وجهده ، والجمّاء الغفير بمنزلة العراك وطرّا وقاطبة حين لم يكونا موصوفين بمنزلة الجمع ؛ لأنّ القطب في الأصل هو : ضمّ الشيء ، تقول : قطبت الشيء أي : ضممته وجمعته ، والطّرّ : مأخوذ من أطرار الطريق

__________________

(١) سورة القمر ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٧٩.


وهي : جوانبه ، وصار طرّا وقاطبة في معنى جمعا ، وصار نصبها كنصب مررت بهم جمعا ، ورأيته مكافحة وفجاءة.

قال سيبويه : (فجعلت هذه يعني الجمّاء الغفير بمنزلة المصادر المعروفة البيّنة ، يعني : العراك وما جرى مجراه ، كما جعلوا عليك ورويدك كالفعل المستعمل ، وكما جعلوا لبّيك ، وسبحان بمنزلة سقيا وحمدا ، وهذا تفسير الخليل.

ومعنى قولهم : جعلهم عليك ، ورويدك كالفعل المستعمل فإنّ عليك زيدا بمنزلة خذ زيدا ، ورويدك كقولك : أمهل زيدا ، وكجعلهم لبيك وسبحان وإن كانا غير متصرفين بمنزلة حمدا وسقيا في النصب ، وتقدير ناصب ينصبها).

وقد حكي عن المازنيّ أنه قال : يقال طررت القوم إذا مررت بهم جميعا ، وإذا صح هذا لم يوجب تمكّن" طرّا" لا يكون مأخوذا من لفظ" طرّ" كما أخذ" سبّح" من لفظ" سبحان" ، وهلل من قولك : لا إله إلا الله.

قال : (وزعم يونس أنّ" وحده" بمنزلة عنده وأن" خمستهم" و" الجمّاء الغفير" و" قضّهم" بمنزلة قولك : جميعا وعامّة ، وكذلك طرّا وقاطبة عنده بمنزلة وحده ، وجعل المضافة منه بمنزلة" كلّمته فاه إلى فيّ" ، وليس مثله لأن الآخر هو الأول عند يونس ، وفاه إلى فيّ ههنا غير الأول ، وأما طرّا وقاطبة فأشبه ذلك لأنّه جيّد أن يكون حالا غير أن المصدر نكرة ، والذي نأخذ به الأول).

قال أبو سعيد : مذهب يونس أن الجمّاء الغفير اسم ؛ لأنّه موضع المصدر وأن الألف واللام في نية الطرح ، وقد ردّ هذا سيبويه بأنّ" فاه إلى في" غير الأول ، و" وحده" عند يونس هو الأوّل ، ومعنى ذلك أن يونس يجعل" وحده" إذا قلت : " مررت به وحده" بمنزلة متوحّدا ومنفردا ، ويجعل المرور به ، وكذلك إذا قلت : لقيته وحده جعلت" وحده" بمعنى منفردا وجعلته الملقيّ ، وتقول : " كلّمته فاه إلى فيّ" معناه معنى المشافهة ، وذلك وجه آخر.

قال يونس : " مررت به وحده" ، معناه على حياله في موضع الظّرف ، وإذا كان الظرف صفة أو حالا قدّر فيه مستقرّ ناصب للظرف ، ومستقر هو الأول.

وأما مذهب سيبويه في" وحده" فالذي قال المبرّد : إنه يحتمل أن يكون الفاعل والمفعول به ، أما كونه للمفعول به فهو أن تقول : مررت به وحده أي : منفردا في مكانه


لم يكن معه غيره.

والآخر : أن تجعل قصدك إليه دون غيره ؛ فتقول : مررت به وحده أي : لم أعتمد غيره في مروري.

وكان الزجّاج يذهب إلى أنّ وحده مصدر هو للفاعل دون المفعول فإذا قلت : مررت به وحده ، كأنك قلت : أفردته إفرادا ، ثم إنّ سيبويه جعل يونس في جعله طرّا وقاطبة اسمين لا مصدرين أعذر منه في الجمّاء الغفير لأنّهما نكرات وهما اسمان ، غير أنه لا يقول بقوله من أجل أنه لو كانا اسمين لجاز أن يستعملا متمكنين ؛ لأن هذا مثل التي تستعمل أحوالا.

(وأما كلّهم وجميعهم وأجمعون وعامّتهم وأنفسهم فلا تكون أبدا إلا صفة).

قال أبو سعيد : يعني توكيدا لما قبله وجاريا عليه.

وتقول : " هو نسيج وحده" فهو مدح ، وأصله أنّ الثوب إذا كان مرتفعا لا ينسج على منواله معه غيره ، فكأنه قال نسيج إفراده ، ويقال : هذا للرجل إذا أفرد بالفضل.

وأما" عيير وحده" و" جحيش وحده" فهو تصغير عير وهو : الحمار وجحش وهو : ولد الحمار ، ويذمّ بهذا الرّجل ، وهو الذي ينفرد فيما يخصّه بفعله ولا يخالط أحدا في رأي ولا معونة ولا يدخل في معونة أحد ، ومعناه : أنه ينفرد بخدمة نفسه ، وقد يقال : جحيش نفسه وعيير نفسه على ذلك المعنى.

هذا باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله

(وذلك قولك : هذا عبد الله حقّا ، وهذا عبد الله الحقّ لا الباطل ، وهذا زيد غير ما تقول.

وزعم الخليل أنّ قوله : " هذا القول لا قولك" ، إنّما نصبه كنصب" غير ما تقول" ؛ لأنّ" لا قولك" في ذلك المعنّى. ألا ترى أنّك تقول : هذا القول لا ما تقول ، فهذا في موضع نصب ، فإذا قلت لا قولك فهو في موضع لا ما تقول).

قال أبو سعيد : حقّا وما بعده مصادر ، والناصب لها فعل قبلها يؤكد الجملة ، وذلك الفعل أحقّ أو ما جرى مجراه ، وذلك أنك إذا قلت هذا عبد الله جاز أن يكون كلامك قد جرى على يقين منك وتحقيق ، وجاز أن يكون على شكّ ، ويجوز أن يكون حقّا معرفة ونكرة لأنه ليس بحال ، وإذا قلت : الحقّ لا الباطل ؛ فالباطل عطف على الحق بلا كما


تقول : رأيت زيدا لا عمرا ، وإذا قلت : هذا زيد حقّا لا باطلا ، وإن شئت : هذا زيد أقول غير ما تقول ، إذ قد عرف أن قول المخاطب باطل فكأنه قال : أقول الحقّ ، وإذا قال : هذا القول لا قولك فكأنه قال : هذا القول لا أقول قولك إذ كان باطلا.

(ومثله في الاستفهام : أجدّك لا تفعل كذا وكذا؟ وأصله من الجدّ ، كأنه قال : أجدّا ، غير أنه لا يستعمل إلا مضافا).

حتى يعلم من صاحب الجد ، ولا يجوز أن تترك الإضافة في قولك : هذا القول لا قولك ، أو غير قولك لم يكن ما نفيته بلفظ على البطلان ، ولو نعتّه بشيء يدلّ على أنه باطل لجاز لو قلت : هذا القول غير قولك باطلا ، أو قيل : كذب ضعيف أو نحو ذلك ممّا يدلّ على قوّة ضده وصحته لجاز وكان فيه توكيد ، والمبتغى من ذلك أن تحصل الفائدة للتوكيد.

(ومن ذلك أيضا : قولك : قد قعد البتّة ، ولا يستعمل إلا معرفة بالألف واللام ، كما أن جهدك وأجدّك لا يستعملان إلا معرفة بالإضافة) كما لزم بعض ما مضى من المصادر التعريف ، كقولك : سبحان الله ، ولبيك وسعديك ، وعمرك الله وقعدك.

(وأمّا الحقّ والباطل فيكونان معرفة بالألف واللام ونكرة ؛ لأنهما لم ينزلا منزلة ما لم يتمكّن من المصادر).

وفي نسخة الزجّاج : منزلة ما لم يتمكن من المضاف كسبحان وسعديك.

فقال الزجاج : إذا قلت : " هذا زيد حقّا" ، " وهذا زيد غير" قيل : باطل ، لم يجز تقديم حقّا ، لا تقول حقّا هذا زيد ؛ فإن ذكرت بعض هذا الكلام فوسّطته وقلت : زيد حقّا أخوك ، وزيد قائما أخوك ، وطولت بالفرق بين" زيد حقا أخوك وزيد قائما أخوك" على الحال ، فقيل له أنت لا تجيز : زيد قائما أخوك إذا أردت به الصّداقة لا غير ؛ لأنه غير متمكّن فلم أجزت : زيد حقا أخوك؟ فقال : إنما امتنعت تقديم الحال لأنّ العامل فيه أخوك وليس بعامل قويّ ، فإذا قلت : " حقّا" فالعامل فيه أحقّ وهو فعل مضمر ، فإذا ذكرت بعض الكلام فعلم أنّي فيه : إما متيقّن وإما شاك جاز أن أضمر اللّفظ الذي يدلّ على أحد المتوهمين منّي.

قال أبو سعيد : لم يذكر سيبويه بطلان تقديم حقّا ، بل قد قال في الاستفهام : أجدّك لا تفعل كذا وكذا؟ كأنه قال : أحقّا لا تفعل كذا ، فقد تقدّم" أحقّا" و" أجدّك" على الجملة


التي بعدها ، ولم يورد الزجّاج هذا على نفسه ، ولعل المجيب عنه يقول : إن ألف الاستفهام لمّا كانت طالبة للفعل وفي الجملة تقدير فعل قدّم ، وفي ذلك نظر والله الموفق.

هذا باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا

(وذلك قولك : له عليّ ألف درهم عرفا ، ومثل ذلك قول الشاعر وهو الأحوص :

أصبحت أمنحك الصدود وإنّني

قسما إليك مع الصدود لأميل (١)

وإنما صار توكيدا لنفسه ؛ لأنه حين قال : له عليّ فقد أقرّ واعترف ، وحين قال : لأميل ، علم أنه قد حلف ولكنّه قال عرفا وقسما توكيدا ، كما أنه إذا قال : سير عليه ؛ فقد علم أنه كان" سير : ثم قال : سيرا توكيدا).

قال أبو سعيد : الفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله في جعله الباب الأول توكيدا لما قبله ، وجعله هذا الباب توكيدا لنفسه أن الباب الأول إذا قال : هذا عبد الله حقّا ، أنّ قوله : هذا عبد الله من قبل أن تذكر حقّا يجوز أن يظنّ أن ما قاله حقّ وأن يظن أن ما قاله باطل فتأتي ب (حقّا) لتجعل الجملة مقصورة على أحد الوجهين المحتملين عند السامعين ، وقوله : له عليّ ألف درهم اعتراف حقا كان أو باطلا فصار هذا تأكيدا لنفسه ، لأنه توكيد اعترف الذي هو معنى الكلام الظاهر هو لفظ اختصاص جعل الآخر عامّا ، وإنما قال قسما ؛ لأن التقدير : وإنني إليك مع الصدود لأميل ، ظاهر هذا قسم كما أن ظاهر" له عليّ ألف درهم" اعتراف ، فتدخل الألف واللام في هذا التوكيد كدخولهما في هذه المصادر المتمكنة التي تكون بدلا من اللفظ بالفعل كدخولهما في الأمر نحو : الضّرب زيدا ، والنهي نحو" الحذر" كقولك : إنما أنت السير السير ، والاستفهام كقولك : القيام وقد قعد الناس؟ (وتجوز إضافة المصدر المؤكد فى هذا الباب ، والإضافة فيه بمنزلة الألف واللام ؛ كقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ)(٢)) الشاهد فيه : صنع الله ، لأن ما قبله صنع لله في الحقيقة ، وكذلك قوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ

__________________

(١) ديوانه : ١٦٦ ؛ الأغاني ٢١ : ١٠٨ ؛ خزانة الأدب ٨ : ١٧٧ ، ٩ : ١٦٢.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٨٨.


وَعْدَهُ)(١) ؛ لأن ما قبله وعد من الله.

(وقال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)(٢) ، لأن أحسن كلّ شيء في معنى : خلقه حسنا ، فأكّد بخلقه ، وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)(٣) وقوله (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ؛) بمنزلة فرض الله عليكم ، وتحريم الله عليكم ؛ لأن الابتداء تحريم المذكورات من النساء في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ)(٤) إلى قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) بينها وبين زوجها ، فهذه شريعة شرعها الله تعالى لهم ، وكتاب كتبه عليهم ، على معنى : فرض ألزمهم إيّاه.

وقال الكسائي : " كتاب الله" منصوب بعليكم ، كأنه قال : " عليكم كتاب الله ، وأكثر النحويين يدفعون هذا ، لأن الإغراء بهذه الحروف ليس لها قوّة الفعل ، ولا يحسن أن تقول : زيدا دونك ، وزيدا عليك ، كما تقول : زيدا خذ ، وإنما تعلّق في جواز هذا بقول الشاعر :

يا أيّها المائح دلوي دونكا

إنّي رأيت النّاس يحمدونكا (٥)

وليس في هذا حجّة ، لأنه يجوز أن يكون دلوي في موضع رفع كأنه قال : دلوي عندك ، كما تقول : دلو زيد بقربك استدعاء لملئها ، وإن لم يكن ذلك في لفظ الفعل ، وهو حمله على أنه في موضع نصب ، وأن العامل فيها دونكا ، وقد يجوز عند بعض النحويين أن يكون العامل فيها مضمرا كأنه قال : املأ دلوي ، والدليل على أن هذا يجوز أنه لو قال : يا أيها المائح دلوي ، ولم يزد على ذلك لجاز ؛ لأنّ الحال التي هم فيها تدل عليه.

ومن ذلك قولهم : الله أكبر دعوة الحقّ ؛ لأن قولك : الله أكبر ، إنما هو دعاء إلى الحقّ وإلى أن يكون السامع ينثني إلى جملة القائلين بالتوحيد ، وإلى القوم الذين شعارهم" الله أكبر" فيكون هذا دعوة الحقّ يتداعون بها ، كأنه قال : دعوا دعاء الحق ، وادعوا دعاء الحقّ ، وقال رؤبة :

__________________

(١) سورة الروم ، الآيات ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦.

(٢) سورة السجدة ، الآية : ٧.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٢٤.

(٤) سورة النساء ، الآية : ٢٣.

(٥) سبق تخريجه.


إنّ نزارا أصبحت نزارا

دعوة أبرار دعوا أبرارا (١)

ومعناه : أنّ نزارا وهو أبو ربيعة ومضر لمّا وقع بين ربيعة ومضر تباين وحرب بالبصرة ، وعادت ربيعة صالحت مضر كأنّ نزارا تفرّقت ثم اجتمعت فقال : أصبحت نزارا ، أي : مجتمعة الأولاد إذا دعا بعضهم بعضا إلى النّصرة قال : يال نزار ، وفي حال التباين والعداوة والحرب ، كان المضريّ يقول منهم : يال مضر ، ويقول الربعيّ : يال ربيعة ؛ لأن أحد الفريقين ما كان ينصر الآخر ، فصار قوله : " أصبحت نزارا" بمنزلة قوله : دعا بعضهم بعضا بهذا اللفظ ، ثم جاء بالمصدر وهو" دعوة أبرار" على ذلك ، وإنّما أضاف المصدر لأن إضافته تبين الفاعل من المفعول به ، فلو قال : وهي تمرّ مرّ السّحاب صنعا ، أو أحسن كلّ شيء خلقا ، أو وعدا ، وكتابا ، لم يكن فيه البيان التامّ.

وقال بعضهم : (صِبْغَةَ اللهِ)(٢) منصوبة على الأمر ، وقال بعضهم : بل توكيد والصبغة : الدين ، والذي يقول توكيد حمله على ما يوجبه هذا الباب ؛ لأنّ قبله أشياء من أمر الدين وشريعة الإسلام.

(وقد يجوز الرفع في ذلك كلّه على أن تضمر شيئا هو المظهر ، كأنه قال : ذاك وعد الله ، وصبغة الله ، وهو دعوة الحقّ على هذا ونحوه رفعه).

ومن ذلك : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ)(٣) أي ذلك بلاغ.

قال سيبويه : (ومثل ذلك قول الراعي :

دابت إلى أن ينبت الظلّ بعد ما

تقاصر حتى كاد في الآل يمصح

وجيف المطايا ثم قلت لصحبتي

ولم ينزلوا أبردتم فتروّحوا (٤)

فنصب وجيف المطايا نحو ما مضى في الباب ؛ لأن دأبت قد دلّ على أنّه معنى

__________________

(١) قائله : رؤبة بن العجاج : شرح المفصل ١ : ١١٧ (بلا نسبة) ؛ هارون ١ : ٣٨٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٣٨.

(٣) سورة الأحقاف ، الآية : ٣٥ والآية مكتوبة في الأصل هكذا" كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، بلاغ" وهو خطأ ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤) البيتان ينسبان إلى الراعي النميري : الإنصاف ١ : ٢٣١.


سرت ، وأكثر ما يستعمل ذلك في السير الشديد الدائم فصار بمنزلة قوله أو جفت ، وجعل قوله : وجيف المطايا توكيدا لأوجفت الذي هو في ضميره.

قال : (واعلم أنّ نصب هذا الباب المؤكّد به العامّ منه ، يعني هذا زيد حقّا ، وما أكّد به نفسه يعني : له علي ألف درهم عرفا ينتصب على إضمار فعل غير كلامك الأول ؛ لأنّه ليس في معنى كيف ولا لم).

يعني ليس بحال ولا" لم" يعني ليس بمفعول له ؛ لأن الحال جواب كيف ، والمفعول له جواب لم كأنه قال : أحقّ حقّا وأتجدّ جدّك ، ولا أقول قولك ، وكتب الله كتابا ، ولا يظهر الفعل كما لم يظهر في باب سقيا لك وحمدا.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال

صار فيه المذكور

(وذلك قولك : أمّا سمنا فسمين ، وأمّا علما فعالم ، وأمّا نبلا فنبيل.

وزعم الخليل أنه بمنزلة قولك : أنت الرجل علما ودينا ، وأنت الرجل فقها وأدبا ، أي : أنت الرجل الكامل في هذه الحال ، وعمل فيه ما قبله وما بعده ، ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام ، كما لم يحسن فيما كان حالا ، وكان في موضع فاعل حالا).

قال أبو سعيد : يعني المصدر ، وكذلك هذا ، فانتصب المصدر ؛ لأنه حال مصير فيها.

(ومن ذلك قولك : أمّا علما فلا علم عنده ، وأما علما فلا علم ، وتضمر له لأنك إنما تعني رجلا.

وقد يرفع هذا في لغة بني تميم ، والنصب في لغتها أحسن ، فإذا دخلت الألف واللام رفعت ؛ لأنه يمتنع من أن يكون حالا).

قال أبو سعيد : هذا الباب فيه صعوبة ، ونقل كلام النحويين من البصريين والكوفيين ؛ ولذلك قال الزجّاج : هذا الباب لم يفهمه أحد إلا الخليل وسيبويه ، ومعناه : أن رجلا يدّعي أو يدّعى له أشياء فيعترف له ببعضها فيدخل" أمّا" على ذلك ، كأنّ قائلا قال : أنا عالم ، وأنا ديّن ، وأنا شريف ، فأنكر السامع بعض ما قال ، وعرف بعضا فقال :


مهما تذكر فأنت الرجل لعلم ، وحذف ونصب ، وكذا إذا قال : هذا الفرس سمين جواد ، قيل له مهما تذكر فهو سمين من أجل سمن أو لسمن فيه.

ورأيت ثعلبا ذكر هذا الباب من كلام سيبويه ، فساق كلامه ثم اعترض بسؤالات من غير إنكار فقال : من أين قال ما قاله؟ ولم يرد عليّ ذا شيئا يحصّل ، وحكى الفراء أشياء لم ينصرها.

وأنا أسوق ما قاله ، وما قاله الكسائي والأحمر وذلك شيء يسير نزر ، ثم اختار أبو العباس ثعلب بعد ذلك نحو مذهب البصريين الذي يرتّبونه ويتكلّمون عليه فقال : القياس وكلام العرب أن تكون أمّا جزاء حذفت الأفعال معها وبقيت الأسماء فعرّبت بما يكون بعد الفاء ؛ لأن العرب تكتفي بما ظهر ممّا ترك فإذا جاءوا بما يدلّ على أنه جزاء أعملوا الأوائل بحقّ الجزاء فقالوا : أما العقل فعاقل ؛ كقولك : إن ذكرت العقل فهو عاقل ، فجاز حذف ما بعد فاء الخبر ونصبت الأوّل بتعليقه بلفظ الجرّ الأول ، فإذا ظهر له ما يعمل فيه اكتفوا باللفظ الظاهر من هذا المعنى ، وإدخالهم اليمين وإنّ وأخواتها دليل على استئناف الفاء بالجزاء ، فإذا كان الجزاءان قد تباينا في الإعراب علمت أن الأوّل قد أعمل وأن الثاني قد أهمل وجاء الجزاء على بابه ، فهذا القياس في ذلك ، هذا كلام ثعلب.

قال أبو سعيد : وأنا أسوق من ذلك ما ينساق عليه كلام سيبويه وأذكر ما فيه خلاف بين النحويين البصريين منه ومذهب الكوفيين.

وأمّا الأصل الذي يسوق عليه سيبويه كلامه في ذلك : أنّ" أمّا" في الأصل قد نابت عن شرط الجزاء والفاء وما بعدها جواب ، والشّرط الذي نابت عنه" أمّا" يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن تحذف جميعه وتقدّم اسم ما بعد الفاء من اسم أو ظرف أو شرط فيكون تقديم ذلك على الفاء ، والمراد أن يكون بعدها عوض من المحذوف ، وأما الاسم فقولك : أمّا زيد فضربت ، وأما زيدا فلا تضرب ، وأما زيد فخارج ، والتقدير : مهما يكن من شيء فزيد خارج ، فلمّا حذفت الشرط وما يتصل به قدّمت اسما من الجواب فكان عوضا منه ، ولو كان بعد الفاء اسمان لم يجز إلا تقديم واحد منهما كقولك : أمّا زيد طعامه فلا تأكل ، لا يجوز تقديم الطعام مع تقديم زيد ، لأنّ الأصل أن لا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها ، وإنّما يقدّم اسم واحد ليكون عوضا مما حذف ، وإذا استغنت" أمّا" بذلك الاسم


عادت الفاء إلى حكمها ، فلم يجز تقديم ما بعدها عليها ، ولو قلت : أمّا طعام زيد فلا تأكل ولم تقدّم زيدا جاز ، وحقّه أن تقدم ما تقديره أنّه يلي الفاء.

وأما تقديم الظرف الذي حقّه أن يكون بعد الفاء ؛ فقولك : أمّا يوم الجمعة فلا تخرج فيه ، وتقديره : مهما يكن من شيء فيوم الجمعة لا تخرج فيه.

وأما الشرط فقولك : أمّا إن جاءك زيد فأكرمه ؛ لأنّ التقدير : مهما يكن من شيء فإن جاءك زيد فأكرمه ، قال الله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)(١) والتقدير : مهما يكن من شيء فإن كان من المقربين فروح وريحان أي : فله روح وريحان ، فهذا تمثيل ما تقدم مما بعد الفاء.

وأمّا ما يكون قبل الفاء جزاء من الشّرط المحذوف بعضه المبقيّ بعضه فقولك : أمّا علما فلا علم عند زيد ؛ فالعلم منصوب بما دلّ عليه" أمّا" وتقديره : مهما يذكر زيد علما ، أي : من أجل علم وبعلم فلا علم عنده.

ولا يجوز أن يكون العامل في" علما" ما بعد الفاء ؛ لأنه لا يعمل فيها قبله. ألا ترى أنك لو قلت : " لا علم عند زيد ، لم يحسن أن تقول : عند زيد لا علم ، وأصحابنا في ذلك مختلفون على مذهبين :

فالمازني يجيز : أمّا زيدا فأنا ضارب ، ولا يجيز : أمّا زيدا فأنا رجل ضارب ، وذلك أنك لو نزعت أمّا والفاء فقلت : أنا ضارب زيدا لجاز تقديم زيد على أنا ؛ ولقلت : زيدا أنا ضارب ، ولا يجوز : زيدا أنا رجل ضارب ؛ لأن ضاربا نعت لرجل ، وضارب في موضعه فلا يجوز تقديمه على ما قبل المنعوت ، كما لا يجوز أن تقدّم ما عمل فيه النعت على المنعوت ، وهذا أصل البصريين ، وسيمر بك في موضعه.

وكان المازنيّ يقول : إن الذي يجوز فيه تقديمه على الفاء هو الذي يجوز أن يلي الفاء ويقدّم عليها ، وما لم يجز أن يلي الفاء لم يجز تقديمه على الفاء ، فلا يجوز أن يقال : مهما يكن من شيء فزيدا أنا رجل ، وعلى هذا القياس أيضا لا يجوز : أمّا زيدا فإنّي ضارب ؛ لأنّك لا تقول : زيدا إنّي ضارب ؛ لأن خبر إنّ لا يعمل فيما قبله ، وأجاز أن

__________________

(١) الآيتان ٨٨ ، ٨٩ من سورة الواقعة ، وبداية الآية ٨٨ جاءت مكتوبة في الأصل هكذا : " وأمّ" وهو خطأ ، والصحيح ما أثبتناه.


تقول : أمّا اليوم فإنك راجل على أن تنصب اليوم بما في أمّا من معنى مهما ، كأنه قال : مهما يكن من شيء فإنك راجل.

وكان أبو العبّاس المبرّد يجيز تقديم ذلك ، وذكر أنّ" أمّا" موضوعة على التقديم إليها ما بعد الفاء ، وردّ على المازنيّ ما قاله.

وذكر أن جواز ذلك مذهب سيبويه ؛ لأن سيبويه قال : أجهد رأيك أنّك ذاهب ، فنصب جهدا على الظرف ، كأنّه قال : في جهد رأيك ذهابك والناصب لجهد استقرّ ، وقال : لا يكون إلا ظرفا ، وقال : أمّا جهد رأي فإنّك ذاهب فكسر إنّ لما أدخل أمّا وقال : لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول.

قال أبو سعيد : وتفسير ذلك أن قولك : أجهد رأيك أنك ذاهب ، لا يجوز أن تنصب" جهد رأيك" بما بعد أنّ ، وهو ذاهب ؛ لأن خبر أنّ لا يعمل فيما قبل أنّ ، فاضطرّ إلى أن يجعل أنّ وما بعدها مصدرا في موضع ابتداء ، ويجعل أجهد رأيك ظرفا له ، كما تقول : خلفك زيد على تقدير استقرار ، وأمّا جهد رأيك فإنك ذاهب فقال : فيه نصبت جهد بالفعل لا بالظرف ، فقوله بالفعل يعني : بذاهب في مفهوم اللفظ.

والظاهر من هذا الكلام أن سيبويه نصب ما قبل الفاء بخبر" إنّ" الذي لا يجوز تقديمه على" أنّ" في غير" أمّا".

قال أبو سعيد : يحتمل عندي أن يكون سيبويه ما أراد بهذا الذي قاله أبو العباس ، وإنما أراد أن يفصل بين قولك : جهد رأيي أنك ذاهب وبين أمّا جهد رأيي فإنك ذاهب ، بأن جهد رأى في الأول هو ظرف ب" أنّ" ؛ وما بعدها خبر لها لأنّها في معنى المصدر ، ولا طريق إلى نصبه غير الظرف وإذا أدخل" أمّا" فإنه يجوز أن ينصب بما في" أمّا" من معنى فعل الشرط المحذوف ، ولا يكون على ما قال أبو العباس.

وأما الفرّاء فأجاز نصب بعض ذلك بما بعد الفاء ولم يجز تقديم بعض فيما أجاز تقديمه ، أمّا عبد الله فإني ضاربه ، فقال بالرفع والنصب ، وقال : إنما جاز النّصب لأن الفاء كأنها لحدوثها أحدثت" أنّ" لأنها من حروف الاستئناف وما بعد الفاء مستأنف ، ولو ألغيت" أمّا" و" الفاء" لم يجز ذلك ، فقولك : " عبد الله إنّي ضارب" خطأ ، ومثل ذلك" ليت" و" لعل" و" كأنّ".

ويشبه أن يكون مذهب الفراء في ذلك أن هذه الحروف كأنها جلبت من أجل الفاء


لأنّ الفاء تدخل على كلام مستأنف ، وهذه الحروف تدخل على مبتدإ وخبر فلم يجعله مما قال الفراء ؛ فكذلك قولك : أمّا عبد الله فلأضربنّه ، وجه الكلام الرفع لمكان اللام لأنّه لا ينصب ما بعدها ما قبلها ، فهذا احتجاج لاختياره الرفع فمفهوم كلامه أنّ النصب يجوز ، وليس بالوجه.

ومما أجاز : أمّا عبد الله فما أعرفني به ، أو ما أزورني له ، رفعت ونصبت وخلقة التعجّب أن لا يقع ما بعده على ما قبله ، لو حذفت" أمّا" و" الفاء" لا تقول : " عبد الله ما أضربني له" إلا أنّ النصب جاز حين دخلت" أمّا" و" الفاء" كما جاز في" أنّ" و" ليت" و" لعلّ".

قال أبو سعيد" : لأن التعجّب في الأصل خبر عن فعل إذا قلت : ما أظرف زيدا وما أضربه ، فمعناه : زيد ظريف جدّا وضارب جدّا ضربا كثيرا ، ولو جئت بهذا اللفظ نصبت به ما قبله.

وقال الفرّاء إنه سمع الكسائي أنشد من هذا البيت :

" أما قريشا فأنا أفضلها"

أي : أنا منها ، وأنا أفضلها ، والرفع في هذا أقوى ، وكذلك : أمّا عبد الله فإنّي أفضل منه.

قال أبو سعيد : وكأنّ هذا محمول على معناه ، لأنّ قوله : إنّي أفضلها : أنا أفضلها.

من فضلت أفضل ، وكذا معنى : فإني أفضل منه ، أي : أنا أفضله.

قال الفرّاء : ومما لا يجوز فيه إلا الرفع : أمّا القميص فأن تلبس خير لك ، قال : وذلك أنّ" أن" التي مع تلبس لم تكتسبهما الفاء إنما هي بمعنى اسم ، كأنّك قلت : أن تلبس القميص خير لك.

قال أبو سعيد : يعني أنه لا سبيل إلى إسقاط" أن" في التقدير ، فلم يصلح أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، لأنها وما بعدها بمنزلة اسم.

ومما لا يجوز عنده إلا رفعه : أمّا عبده فما أعطيته قليلا ولا كثيرا ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، أما عبد الله فما أظرفه لا يجوز إلا بالرفع ، والفصل بين هذا وبين أما عبد الله فما أعرفني به بالرفع والنصب أنّ العائد إلى عبد الله وهو الهاء في به وموضعه نصب بوقوع المعرفة عليه لا بالتعجّب ، والمعنى : فأنا أعرفه ، والهاء في ما أظرفه ، وإن كانت في


اللفظ منصوبة فهي مرفوعة في المعنى ؛ لأنّ معنى ما أظرف زيدا : زيد ظريف جدّا ؛ فهو مرفوع بالمعنى.

وفصل الفراء بين : أمّا زيدا فقد ضربت زيدا ، وأمّا زيدا فقد ضربته ، فقوّى النصب في إعادته زيدا مظهرا على إعادته مكنيّا ؛ لأنك إذا أعدته ظاهرا فكأنك لم تقصد قصد الكلام الأوّل ، وإذا أعدته مكنيّا فقد قصدت الأوّل فصار بمنزلة : زيد ضربته.

وأجاز : أما زيدا فقد قام زيد ، ولم يجز : أمّا زيدا فقد قام ، لأنّه إذا قال : فقد قام زيد فقد اعتمد في الأوّل أن تعمل فيه الجملة الأولى المقدّرة ، وتقديره : مهما تذكر زيدا فقد قام زيد ، وإذا قال : فقد قام فهو محتاج إلى الأول فصار بمنزلة قولك : زيد قد قام.

وكان هشام بن معاوية (١) يجيز : فيك لأرغبنّ ، وعليك لأنزلنّ ، أو منك لآخذنّ ؛ فهذه الحروف في صلة ما بعد اللام.

ولا يجوز بإجماع الكوفيين : زيدا لأضربنّ ، ولا طعامك لآكلنّ.

وفصل هشام بين هذا وبين ما أجازه في الحروف أنّ الحروف لا يبين الإعراب فيها ؛ ولأنّ الظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في غيرها.

وينبغي على مذهب الفرّاء أن يجوز : أمّا زيدا فلأضربنّ ، وقد أجازه في أمّا.

قال أبو سعيد : وعندي أنه حمله على مذهب" أنّ" في اختصاص أمّا بتقديمها ما بعد الفاء عليها.

عدنا إلى كلام سيبويه في ترجمة للباب.

فقوله : باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور ظاهرا يوجب أن قوله : أمّا سمنا فسمين وكذلك علما ونبلا أنّ سمنا وعلما ونبلا تنتصب على الحال ، وكذلك أنت الرجل علما ودينا وفقها وأدبا.

وقال في هذا الباب : إنّ هذا مذهب بني تميم دون أهل الحجاز ، وذلك أنّ بني تميم إذا أدخلوا الألف واللام على المصدر ، يعني : سمنا وعلما لم يجروه مجرى الأوّل ؛ فدلّ هذا عنده على أن الحجازيين يذهبون في نصبه أنه مفعول له ، والمفعول له يكون نكرة

__________________

(١) هو هشام بن معاوية الضرير النحوي صاحب الكسائي له مؤلفات كثيرة منها الحدود ، القياس توفي ٢٠٩ ه‍ معجم الأدباء ١٩ : ٢٩٢ بغية الوعاة ٢ : ٣٢٨.


ومعرفة ، تقول : فعلته مخافة الشّرّ ، ومخافة ، وأن بني تميم يذهبون به مذهب الحال لأن الحال لا تكون إلا نكرة ، فإذا قالوا : أما العلم فإنك عالم به ، رفعوا العلم بالابتداء وكان التقدير : مهما يكن من شيء فالعلم أنا عالم ، ويقدّرون أمّا النبل فهو نبيل ، أي نبيل به حتّى يكون فيه ، أي : في الجملة ما يعود إلى الأوّل.

وأما إذا قالوا : أمّا العلم فأنا عالم به ، فإن جعلت الأوّل غير الثاني نصبت الأوّل ، فالتقدير : أما العلم فأنا عالم بزيد ، ونصبته على المصدر كأنّك قلت : مهما يكن من شيء فأنا عالم بزيد العلم ، ثمّ قدمت العلم منصوبا على المصدر.

وقوله : إن العلم الأوّل غير العلم الثاني ، فإنه يريد أنّ الإنسان قد يقول : فلان عالم بالفقه أو بالنّحو ، فتكون منزلة الفقه من العلوم وإن كان عالما بمنزلة زيد في قولك : هو عالم بزيد علما ، والعلم غير زيد ، جاز أن يقول : هو عالم بالفقه علما ، والعلم غير الفقه ، ويكون المعنى فيه بعلمه وعلاجه فيصير قوله : أمّا العلم فأنا عالم بالفقه ، أي : أعلمه علما ، كما تقول : أعلم زيدا علما ، وقوله بعد ذكره : أمّا سمنا فسمين ، وعمل ما قبله فيما بعده فإنه يعني بما قبله : ما تتضمنه الجملة التي تدلّ عليها أمّا ، كأنه قال : مهما يذكر زيد سمنا فهو سمين ، لأنه قد عمل في سمين فنصبه.

وقوله : وعلى هذا الباب فأجر جميع ما أجريته نكرة حالا إذا أدخلت فيه الألف واللام فإنه يريد أن يكون مفعولا له إذا أدخلت الألف واللام فيه على مذهب أهل الحجاز ، وإذا رفعته على مذهب بني تميم بالابتداء أو نصبته على مذهب الحجازيين.

فأمّا إنشاده :

ألا ليت شعري هل إلى أمّ معقل

سبيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا (١)

فإنّ الصبر منصوب بما قبله من التقدير كأنّه قال : مهما ترم الصبر أو تذكر الصبر فلا صبر ، وليس بعده ما يعمل فيه.

وبنو تميم يقولون : أمّا الصبر عنها فلا صبر ؛ كما قالوا : أمّا العلم فعالم على إضمار الهاء كأنه قال : فهو عالم به.

__________________

(١) ينسب إلى ابن ميادة : خزانة الأدب ١ : ٤٥٢ ؛ مغني اللبيب ٥ : ٥٩٢ ؛ الأغاني ٢ : ٢١٨ ، ٢٨٤ ؛ شرح أبيات سيبويه ١ : ١٨٠.


وعلى مذهب الحجازيين يكون الصبر مفعولا ، كأنّه قال : مهما تذكر الشيء للصبر عنها فلا صبرا وحذفت اللام ونصبت.

وأمّا احتجاج سيبويه لمذهب بني تميم في إضمار العائد وحذفه في قولك : أما العلم فعالم على تقدير : " عالم به" ، وقوله تعالى : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(١) في موضع النعت ليوم ، فلا بدّ في هذه الجملة من عائد إلى اليوم.

فمذهب سيبويه والفراء أن العائد هو فيه.

وكان الكسائي يجعل العائد هاء ، كأنه قال : لا تجزيه ، وقال الهاء تحذف من صلة الذي ، فإذا اتصلت بحرف جرّ لم تحذف من الصلة ، تقول : زيدا الذي ضربت ، تريد :

الذي ضربته ، ولا تقول : زيدا الذي تكلمت اليوم ، ولا تقول : الذي نزلت ، تريد عليه ، وتكلّمت فيه ، والفصل بين الظرف وغيره أنهم قد أجازوا : تكلمت اليوم ، تريد : تكلمت فيه.

ولم يجيزوا : تكلمت زيدا ، تريد في زيد ، فعلمنا أنّ حذف حرف الجرّ مع ظروف الزمان والمكان جائز وإن لم يجز في غيرها.

وأنشد سيبويه قول عبد الرحمن بن حسان :

ألا ياليل ويحك نبّئينا

فأمّا الجود منك فليس جود (٢)

فهذا تقوية للغة بني تميم ، أي : ليس لنا منك جود ؛ فالجود : مبتدأ ولا بدّ من عائد إليه مما بعده ، وتقديره : فأما الجود فليس لنا جود به ، أو من أجله أو غيره من التقدير.

وقوله : (وممّا ينتصب من الصفات حالا كما انتصب المصدر الذي يوضع موضعه ، ولا يكون إلا حالا).

وقوله : (أمّا صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف ، وأمّا ظاهرا فليس بظاهر ، وأمّا عالما فليس بعالم فهذا نصب ؛ لأنه جعله كائنا في حال علم وخارجا من حال الظهور ومصاف ، والرفع لا يجوز هاهنا ؛ لأنك قد أضمرت صاحب الصفة).

فإنه يريد أنّ صديقا مصافيا حال وقد أضمرت الذي منه الحال ، وكأن التقدير : أمّا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٤٨.

(٢) البيت لعبد الرحمن بن حسان : ديوانه : ٢١ ؛ وبلا نسبة في الدرر ٢ : ٦٤ ؛ همع الهوامع ١ : ١١٦.


صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف.

وقال المبرّد : العامل في" صديق مصاف" التقدير الذي دلّت عليه" أمّا" كأنه قال : مهما يذكر زيد صديقا مصافيا فليس بصديق ، وليس يعمل فيه قولك : بصديق ، لأنّ ما بعد الباء عنده لا يعمل فيما قبلها.

وغيره من أصحابنا أجاز فأعمل ما بعد الباء فيما قبلها ؛ لأن الباء ههنا زائدة ودخولها كخروجها.

واعلم أنّ قولك : " بزيد" أن الباء حرف فلا يتقدّم معمولها إذ ليست للحروف قوّة الفعل كما لا تقول : راكبا مررت بزيد ؛ لأنّ ما في صلة الباء لا يتقدّم عليها.

ومن أجاز إعمال ما بعد الباء في" أمّا" فرّق بين الباء التي تدخل للجحد التي تعدّي الفعل بالزيادة التي ذكر.

واعلم أنّ قولك : أمّا صديقا مصافيا ، مفارق لقولك : أمّا العلم فعالم ؛ لأنه لمّا لم يضمر شيئا هو العلم رفعت بالابتداء ، وأنت قد أضمرت زيدا في قولك : أمّا صديقا مصافيا ، وإنما طرحت زيدا بعد أن عرف وجرى ذكره ؛ فلذلك أضمرته ، وإذا قلت : أمّا الصديق المصافي فليس بصديق مصاف ، فليس إلا الرفع ، لأنه لما كان بالألف واللام لم يكن حالا فرفعته بالابتداء.

ومعنى قول سيبويه : لأنك قد أضمرت صاحب الصفة ، أي : أضمرت زيدا الذي هو صديق ، ويعني بالصفة الحال ، والصفة ههنا هي الموصوف الذي هو زيد ، وليست بمنزلة المصدر الذي هو غيره نحو العلم.

والحجازيون لا يقولون : أمّا الصديق المصافي فليس بصديق بنصب الصديق ، كما قالوا : أمّا النبل فنبيل ؛ لأن الصديق ليس بمصدر فيكون مفعولا له كالنّبل الذي هو مصدر نصب لأنه مفعول له ، ويكون جوابا لمن قال : لمه؟ ألا تراك تقول : صاحبك صاحب النبل والشّرف وصاحبك الصديق المصافي ، يعني للصديق.

وقول سيبويه : (وإذا قلت : وأمّا الضرب فضارب فهذا ينتصب على وجهين : على أن يكون الضرب مفعولا كقولك : أمّا عبد الله فأنا ضارب فيكون مصدرا مؤكّدا ، وقد يجوز نصب الضرب من وجه ثالث وهو المفعول له في لغة أهل الحجاز).

قال أبو سعيد : والصواب عندي في هذا الباب وما ذكرنا من خلاف النحويين ألّا


تقدّم ما بعد الفاء على الفاء إلى جانب" أمّا" إلا ما يجوز تقديمه حتى تلي الفاء.

ومن أجاز تقديم بعضه من أجل ما قد منعوا بعضا فأجاز الكسائي والفراء : أما زيدا فإنّي ضارب ، وزيد منصوب بضارب ، ولم يجيزوا : أما القميص فأن تلبس خير لك ، والقميص منصوب بليس ؛ لأنّ ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها.

ولم يجز المبرّد : أمّا درهما فعندى عشرون ؛ لأن درهما منصوب بعشرين ، ولا يعمل عشرون فيما قبلها ، وإذا لم يكن حضور" أمّا" يجوز تقديم ما لا يجوز تقديمه من هذه الأشياء التي يجيزونها وجب أن يمنعوا : أمّا زيدا فإنّي ضارب ، على أن تنصب زيدا بضارب ؛ لأنّه لا يجوز : زيدا إنّي ضارب ، فينبغي أن لا يجوّز" أمّا" فإن جاز من أجل" أمّا" وجب جواز الباقي لحضورها ، ويجوز عندي : أمّا اليوم فإنّي قائم ، وأمّا خلفك فإني جالس ، تنصب اليوم وخلفك بمعنى : " أمّا" ؛ لأنّ معناهما : مهما يكن من شيء.

والظروف تعمل المعاني فيها. ألا ترى أنك تقول : زيد غلامك اليوم ، وزيد أخو عمرو في السفر ، بمعنى : زيد يملكه اليوم ، ويؤاخيه في السفر ، وتقديمه أيضا جائز على هذا المعنى ، تقول : زيد اليوم غلامك ، وزيد في السفر أخو عمرو ، ولو قلت زيد أخ عمرا تريد : يؤاخي عمرا لم يجز ؛ لأنّ عمرا ونحوه لا يعمل فيه إلا الفعل ، أو ما جرى مجراه من الأسماء.

هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه

في جميع اللّغات

(وزعم يونس أنه قول أبي عمرو ، وذلك قولك : أمّا العبيد فذو عبيد ، وأمّا العبد فذو عبد وأما عبدان فذو عبدين ، وإنما اختير فيه الرفع لأن ما ذكرت في هذا الباب أسماء ، والأسماء لا تجري جري المصادر ، ألا ترى أنك تقول : هو الرّجل علما وعقلا ، أي : يعلم ويعقل ، ولا تقول : هو الرجل خيلا وإبلا).

قال أبو سعيد : قوله : أمّا العبيد فذو عبيد ؛ فرفع العبيد هو الوجه ، لأن العبد ليس بمصدر فيقدّر له فعل من لفظه ينصبه على ما تقدّم في المصادر فوجب رفعه بالابتداء ، وما بعده يكون خبرا له ، والعائد إليه محذوف تقديره : أمّا العبيد فأنت منهم ، أو فيهم ، أو نحو هذا ذو عبيد.

وذكر سيبويه في الباب عن بعض العرب : (أنهم ينصبون هذا فيقولون : أمّا العبيد


فذو عبيد ، وأمّا العبد فذو عبد ، يجرونه مجرى المصدر سواء ، وهو قليل خبيث ، وذلك أنهم شبهوه بالمصدر ، كما شبّهوا الجمّاء الغفير وخمستهم بالمصدر ، وكأنّ هؤلاء أجازوا : هو الرجل عبيدا ودراهم ، أي : للعبيد والدراهم ، وهذا لا يتكلّم به ، وإنما وجهه وصوابه الرفع ، وهو قول العرب وأبي عمرو ويونس ، ولا أعلم الخليل خالفهما).

وكان المبرّد لا يجيز النصب ولا يرى له وجها ، وكان سيبويه يجيز النصب على ضعفه إلا أن يكون العبيد بغير أعيانهم ليلحق بالمصادر المبهمة ، فلو قال : أمّا العبيد الذين عندك أو الذين في دارك ، أو هؤلاء العبيد ، لم يجز النّصب.

وكان الزجّاج يتأوّل في نصب العبيد تقدير الملك ، والملك مصدر ، كأنه قال : أمّا ملك العبيد ، كما تقول : أمّا ضرب زيد فأنا ضاربه.

قال أبو سعيد : والذي عندي : أن جعل العبيد ، وهو اسم ، مكان التعبيد وهو مصدر ، والعرب قد استعملت العبيد في تصريف الفعل من العبد ، قال رؤبة :

والناس عندي كثمام التّمّي

يرضون بالتّعبيد والتأمّي (١)

فعلى هذا يجعل العبيد مكان التعبيد ، كما جعل الشراب وهو اسم للمشروب في موضع المصدر ؛ فقالوا : شربت شرابا ، بمعنى شربت شربا ، وقالوا : أعطيته عطاء ؛ بمعنى : إعطاء ، والعطاء : اسم للشيء الذي يعطى ؛ فعلى هذا يكون النصب ، ولا يجوز : هو الرجل خيلا وإبلا ، كما جاز هو الرجل علما وعقلا ؛ لأن علما وعقلا في موضع الحال ، أو المفعول له على أحد التقديرات.

وعلى كلا الوجهين لا يجوز : هو الرجل خيلا وإبلا ؛ لأن خيلا وإبلا ليسا بمصدرين فيكونا في موضع الحال كما تكون المصادر أحوالا ، ولا مفعولا له ؛ لأنّ المفعول له أيضا مصدر ، والعامل في الحال أو المفعول له إذا قلت : أنت الرجل علما ، فكأنه قال : أنت العالم علما ، ثم تقيم الرجل مقام العالم ، ولا يجوز : أنت الرجل خيلا ؛ إذ لا يمكن أن يشتقّ من لفظ الخيل اسم فاعل يكون الرجل في موضعه فينصب الخيل.

فإذا قلت : أمّا النّصرة فلا نصرة لك ، وأما الحارث فلا حارث لك ، وأمّا أبوك فلا

__________________

(١) قائله : رؤبة بن العجاج : ديوانه : ١٤٣.


أبا لك ، فليس في هذا كلّه إلا الرفع ، ولا يجوز نصبه على مذهب من نصب العبيد ؛ لأن هذه أشياء معلومة فلا يجوز حملها على المصدر المبهم ، ويحتمل قولك : أما أبوك فلا أبا لك معنيين :

أحدها : أن تجعل أباه غير فاعل به ما يفعله الآباء من النصرة له والبرّ به.

وإمّا أن تكون حال عرضت لأبيه أعجزته عن ذلك ، وهكذا قولهم : أمّا النصرة فلا نصرة لك ، إمّا أن يكون منع منها ومن منافعها ، أو تغيرت هي في نفسها فبطل منافعها.

وقوله : (وسمعنا من العرب من يقول : أمّا ابن مزنيّة ؛ فأنا ابن مزنيّة ؛ كأنه قال : أما ابن مزنيّة فأنا ذاك ، فجعل الآخر الأول كما كان قائلا ذلك في الألف واللام : أما ابن المزنيّة فأنا ابن المزنيّة ، وإن شئت نصبته على الحال كما قلت : أمّا صديقا فأنت صديق ، فإنه يريد : أنك إن شئت جعلته مبتدأ وخبرا ، كأنه قال : أما ابن مزنيّة فأنا هو ، وأنا ذاك ، وإن شئت نصبته حالا على التفسير المتقدم).

وقوله : (وأمّا قول الناس للرجل : أمّا أن يكون عالما فهو عالم وأما أن يعلم شيئا فهو عالم ، فقد يجوز أن تقول : أمّا أن لا يكون يعلم فهو يعلم وأنت تريد أن يكون ، كما جاءت : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(١) في معنى لأن يعلم أهل الكتاب. فهذا يشبه أن يكون بمنزلة المصدر ، لأنّ أن مع الفعل الذي يكون صلة بمنزلة المصدر ، كأنّك قلت : أمّا علما وأمّا كينونة علم فأنت عالم. ألا ترى أنّك تقول : أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم ، كأنّك قلت نزالا وخصومة ، وأنت تريد المصدر الذي في قوله فعل ذاك مخافة ذاك. ألا ترى أنك تقول : سكتّ عنه أن أجترّ مودّته ، كما تقول : اجترار مودّته. ولا تقع أن وصلتها حالا يكون الأوّل في حال وقوعه ، لأنّها إنما تذكر لما لم يقع بعد. فمن ثم أجريت مجرى المصدر الأوّل الذي هو جواب لمه؟).

فإنه يريد : أنك إذا أدخلت أن بعد أمّا فهي وما بعدها مصدر لا تكون في معنى الحال ، ولا مصدرا يعمل فيه الفعل الذي هو من لفظه ، كعمل ضربت في ضربا إذا قلت ضربت ضربا ؛ لأن أن لا تدخل على هذين لأنهما للمستقبل ؛ لكون الفعل الذي بعدها مستقبلا بل يكون مفعولا له ، كقولك : كلمت زيدا لأن أجترّ مودته ، وفعلت ذلك مخافة

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية : ٢٩.


الشّرّ ، ويحسن في هذا دخول لا زائدة ، فيقول : أمّا أن لا يكون وأنت تريد ما يكون ؛ لأن الفعل إذا قصد به كون شيء ، فقد قصد به نفي ضده. ألا تراك لو قلت : فعلت هذا الأمر لغضبك ، تريد : فعلته من أجل ما أخشاه من غضبك ، أو لأن يقع غضبك ، كان كلاما صحيحا.

فإذا قلت فعلت هذا لأن لا تغضب ، لم يخرج عن هذا المعنى ، وفي القرآن : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(١) ، لأن التقدير : يبين الله لكم الضلال المتوهّم منكم لو لم يبيّن ، وهذا الوجه أحبّ إليّ من قول من قال : كراهة أن تضلّوا ، وكذلك قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٢) إن لم تجعل (لا) زائدة لم تكن الضرورة داعية إلى زيادتها ، لأنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٣) ، أي : يفعل بكم هذه الأشياء ليبين جهل أهل الكتاب ، وأنهم لا يعلمون أنّ ما يؤتيكم الله من فضله في ذلك لا يقدرون على تغييره وإزالته عنكم ؛ فعلى هذا لا يحتاج إلى زيادة (لا).

هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفة

ولا مصادر لأنه حال

يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه

(وذلك قولك : كلمته فاه إلى فيّ ، وبايعته يدا بيد ، كأنه قال : بايعته نقدا ، وكلمته مشافهة ، أي في هذه الحال).

قال أبو سعيد : اختلف الناس في ما نصب فاه ، فأصحابنا يقولون : إن الناصب :

كلمته ، وإنه لا إضمار فيه ، وجعلوه نائبا عن : مشافهة التي معناها : مشافها ، وجعلوه من الشاذ المحمول على غيره ، لأنه معرفة ، وأنه اسم غير صفة ، فصار بمنزلة قولك : الجمّاء الغفير ، ورجع عوده على بدئه. وقد ذكرنا شرح ذلك.

والكوفيون ينصبون : فاه بإضمار : جاعلا.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٧٦.

(٢) سورة الحديد ، الآية : ٢٩.

(٣) سورة الحديد ، الآيتان : ٢٨ ، ٢٩.


كأنه قال : كلمته جاعلا فاه إلى في ، ولو كان على ما قالوا من إضمار : جاعل ما كان فيه شذوذ ، ولجاز أن يقال : كلمته وجهه إلى وجهي ، وعينه إلى عيني ، ولم يقل هذا أحد فدلّ على أنه شاذ ، كما قال أصحابنا فلذلك لم يقس عليه ، وأكثر أصحابنا أجاز تقديم فاه منصوبا لما كان العامل فيه : كلمته ، وهو فعل ومعمول ، كقولك : قائما ضحك زيد ، وضحك زيد قائما.

ولهذا أجاز المازني والمبرد : شحما تفقأت ، ولم يجيزا : زيد ثوبا أنظف منك ، تريد : زيد أنظف منك ثوبا ، لاختلاف العاملين. ومن أصحابنا من زعم أن مذهب سيبويه يمنع أن يقال : فاه إلى فيّ كلمته ، لأن هذا كلام في غير موضعه ، وقد منع سيبويه : جاء زيد سرعة قياسا على جاءني زيد مشيا ، لأن مشيا بمعنى : ماشيا ، ليس بقياس يطرد في نظائره ، فإذا منع القياس في هذا كان في تقديم فاه أولى.

والكوفيون يمنعون تقديمه ـ أيضا ـ مع قولهم : إن العامل فيه : جاعل ، ويلزمهم جوازه لأن جاعلا لا يمنع من العمل فيما قبله.

قال سيبويه : (وبعض العرب يقول : كلمته فوه إلى في ، كأنه قال : كلمته وفوه إلى في ، أي كلمته ، وهذه حاله).

قال أبو سعيد : من رفع فالتقدير : كلمته أي : كلمته وهذه حاله ، ومن نصب فليس على تقدير الواو ألا تراك تقول : كلمت زيدا قائما ، وكلمت زيدا وهو قائم إذا أتيت بالواو في موضع الحال لم يكن ما بعدها إلا مبتدأ وخبر ، فأما بايعته يدا بيد فلا يجوز بايعته يد بيد ولا بايعته ويد بيد ، وليس إلا النصب لأنك لو رفعت كان التقدير : بايعته ويده في يدي ، وليس هذا هو الغرض بل معنى قولهم : بايعته يدا بيد ، أي : بايعته بالنقد والتعجيل سواء كان منه قريبا أو بعيدا ، وإذا قال كلمته فوه إلى في فإنما تريد أن تخبر عن قربه منه وأنه مشافهة وليس بينهما أحد ، ومثله من المصادر مما تلزمه الإضافة ويجوز فيما بعده الابتداء وأن يكون حالا قولهم : رجع فلان عوده على بدئه ، كأنه قال :

أتاني فلان عودا على بدء ، غير أنه لا يستعمل مفردا في الكلام وإنما قدرناه مفردا ليبين ، ومن قال كلمته فوه إلى في ، أجاز الرفع في قوله قال : رجع فلان عوده على بدئه ، كأنه قال : أتاني فلان عودا على بدء ، غير أنه لا يستعمل مفردا وإنما قدرناه مفردا ، والمعنى : رجع فلان وعوده على بدئه ، والمعنى لم يتغير.


قال سيبويه : (ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه الفعل بعت الشاء شاة ودرهما ، وقامرته درهما في درهم ، وبعت داري ذراعا بدرهم ، وبعت البرّ قفيزين بدرهم ، وأخذت منه زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما ، وبينت له حسابه بابا بابا ، وتصدقت بمالي درهما).

قال أبو سعيد : هذه هي الأسماء المنصوبة هي حالات جعلت في موضع مسعرا ، فإذا قال : بعت الشاء شاة بدرهمين ، فالمعنى : بعت الشاء مسعرا على شاة بدرهم ، وجعلت الواو في معنى الباء فبطل خفض الدرهم وعطف على شاة ، فاقترن الدرهم والشاة فعطفت أحدهما على الآخر ، وإن كانت الشاة مثمنا والدرهم ثمنا ، وأما قامرته درهما في درهم فالمعنى : قامرته هذا الضرب من القمار ، والتقدير : قامرته بادلا درهما في درهم ، ثم جعل درهما في موضع الحال ، وهكذا بعته داري ذراعا بدرهم ، وبعت البر قفيزين بدرهم ، على معنى مسعرا بهذا السعر ، وأخذت منه زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما ، فإنه قال : أخذت زكاة ماله فارضا أو مقدرا هذا الفرض ، والتقدير : وبينت له حسابه بابا بابا أي : مصنفا ومبوبا وتصدقت بمالي درهما درهما ، أي مفرقا هذا التفريق فأما صاحب الحال في هذا فإن الذي منه الحال في : بعت الشاء شاة ، ودرهما هو الشاء ، وأما في قامرته فيجوز أن يكون من الهاء ، ويجوز أن يكون منهما لأنهما بمعنى واحد ، ألا تراك تقول : تقامرنا درهما في درهم فتكون الحال من الاثنين ، أي : تقامرنا متقامرين هذا الضرب من القمار ، وقد يقول القائل : ضربت زيدا قائمين والمعنى : أنهما جميعا قائمان ومن بعت داري من الدار ومن بعت البر من البر ، وأما أخذت زكاة ماله فيجوز أن يكون من التاء ويجوز التقدير : فارضا هذا الفرض ويجوز أن يكون من الزكاة فتكون مفروضة هذا الفرض ، وأما بينت حسابه بابا بابا فيجوز أن يكون من التاء على معنى : مصنفا ومبوبا ، ومن تصدقت بمالي ، يجوز أن يكون من المال فيكون مفرقا ومن التاء فيكون مفرقا هذا الضرب من التصريف وقوله (فأما قول الناس :

كان البرقفيزين وكان السمن منوين ، فإنما استغنوا هاهنا عن ذكر الدرهم لما في صدورهم من علمه ، ولأن الدرهم هو الذي يسعر عليه) قال المفسر : فإنه يريد أنهم قد حذفوا الثمن في هذا لما عرف بعادة الناس في ذلك ؛ لأنهم قد اعتادوا الابتياع بثمن بعينه ، دراهم أو دنانير فتركوا ذكره اكتفاء بمعرفته ، كما يقال لنا : الخبز عشرة ، أي : عشرة


أرطال بدرهم ، والكرّ بثلاثين ، يراد : الكرّ من الحنطة ، وبينت حسابه بابا بابا لأن الحذف هناك يغير المعنى ، وهذا غير مغيّر لما عرف مكانه.

وقوله : (وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول بعت الشاء شاة ودرهم ، وإنما تريد : شاة بدرهم) ، فإنه يريد أن شاة بدرهم ابتداء وخبر ، والجملة في موضع الحال ، والتقدير : شاة منه ودرهم مقرونان ، كما يقال : كل رجل وضيعته بمعنى : مع ضيعته وكذلك شاة منه مع درهم ، لأن الواو في معنى مع ، فصح معنى الكلام بذلك ، فلما رفع الدرهم وعطف على الشاة قدّر خبرا.

لا يخرج عن معنى (مع) ، وهو ومقرونان ونحوه ، وعلى هذا يجوز في قول الخليل : بعت الدار ذراع ودرهم ، وتكون الجملة في موضع الحال ، كأنه قال : بعت الدار مسعّرة هذا السعر.

قال : (وزعم الخليل أنه يجوز بعت داري الذراعان بدرهم ، وبعت البر القفيزان بدرهم) ، ولا يجوز بعت داري الذراعين بدرهم ، ولا بعت البرّ القفيزين بدرهم ، لأنه في موضع الحال ، ولا يجوز أن تكون بالألف واللام.

وقوله : (كلمته فاه إلى فيّ) شاذ لا يقاس عليه ، وإنما جعل بمنزلة المصدر الذي يكون حالا وهو معرفة نحو : أرسلها العراك ، وفعلت ذاك طاقتي. (وليس كل مصدر في هذا الباب تدخله الألف واللام ويكون معرفة بالإضافة) ، فيصير حالا ، فالأسماء المعارف أبعد أن تكون حالا من المصادر ، ألا ترى أنك تقول : لقيته قائما وقاعدا ، ولا تقول : لقيته القائم والقاعد ، فلذلك لم يجز أن تقول : بعت البر القفيزين بدرهم ولا بعت الدار الذراعين بدرهم لأنك تجعله في موضع مسعر وفيه الألف واللام ، وإنما جاز : الذراعان بدرهم ، والقفيزان بدرهم لأنه مبتدأ وخبر في موضع الحال ، والعائد إلى الأول ضمير محذوف كأنه قال : الذراعان منها والقفيزان منه بدرهم ، كما تقول : لقيت زيدا أبوه قائم ، فتكون الجملة في موضع الحال ل (زيد). ومثله : بعت الثوب ربح الدرهم درهم ، فربح : مبتدأ ، ودرهم : خبره ، والجملة في موضع الحال ، كأنه قال : ربح الدرهم فيه درهم.

وقوله : (قال الخليل : لا يجوز : ربحت الدرهم درهما حتى تقول : ربحت في الدرهم درهما أو الدرهم وكذلك وجدنا العرب تقول قال : (ولا يجوز حذف الجار إلا فيما استعملت العرب حذفه ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت أخاك ، تريد : بأخيك) ولا


رغبت زيدا وأنت تعني : رغبت في زيد ، ولا تكلمت زيدا ، وأنت تعني : تكلمت في زيد ، ولا نزل زيدا ، وأنت تعني : نزل علي زيد لأن هذا ليس من صفة الكلام فإنه يريد أنه ليس بمنزلة بايعته يدا بيد ، الذي هو من صفة البيع ، لأنه يعطي بيد ويأخذ بيد ، ولا تقول : كلمته يدا بيد لأنه لا علقة للكلام في ذلك.

وقوله : (قال الخليل : إن شئت جعلت رجعت عودك على بدئك مفعولا ، ولا بمنزلة قولك : رجعت المال على زيد ، ورددت المال عليك ، كأنه قال : ثنيت عودي على بدئي) ، فإنه يريد أن قوله رجع زيد عوده على بدئه ، يكون عوده بدأ نصبا يرجع على أنه مفعول به ، كما تقول : رجعت زيدا ، أي : رددته ، كما قال تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ)(١) ، أي : ردك الله ، وكذلك إن قدرته على : ثنيت عودي على بدئي فهو مفعول به لأن معناه : عطفت ، ولا يكون حينئذ في موضع الحال.

هذا باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال

(يقع فيه السعر وإن لم يلفظ بالفعل ، وذكر الباب). قال أبو سعيد : إذا قلت لك : الشاء شاة بدرهم ، فالشاء : مبتدأ ، ولك : خبر مقدم ، وشاة بدرهم : حال.

كأنك قلت : وجب لك الشاء مسعرا بهذا السعر ، ولو اكتفيت بقولك : لك الشاء ، وسكت ، جاز لتمام الاسم والخبر.

وقوله : (إن شئت ألغيت لك). يعني : لم يجعلها خبرا ، فتقول على هذا : لك الشاء شاة بدرهم ، فتكون الشاء : مبتدأ ، وشاة : مبتدأ ثانيا ، وبدرهم : خبرها ، والتقدير : شاة منها بدرهم ، كأنك قلت : الشاء شاة منها لك بدرهم.

هذا باب ما يختار فيه الرفع والنصب

لقبحه أن يكون صفة

(وذلك قولك : مررت ببرّ قبل قفيز بدرهم ، وسمعنا العرب الموثوق بهم ينصبونه ، وسمعناهم يقولون : العجب من برّ مررنا به قبل قفيزا بدرهم) ، وذكر الباب.

قال أبو سعيد : يريد أن يقبّح أن يجعل قفيزا نعتا للبرّ ، فتقول : مررت ببرّ قفيز منه

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٨٣.


بدرهم ؛ لأن القفيز ليس بحلية ولا وصفا ، وإنما هو مكيال ، فإما أن تجعله مبتدأ وما بعده خبر ، وتكون هذه الجملة في موضع خبر أو حال أو نعت.

فالخبر قولك : البر قفيز منه بدرهم ، والحال : مررت ببرّك قفيز منه بدرهم ، فجملة المبتدأ والخبر في موضع الحال من برّك ، والنعت : مررت ببر قفيز منه بدرهم : مبتدأ وخبر في موضع النعت ، كقولك : مررت برجل أبوه قائم ، وتنصب قفيزا على الحال ولا تكون جملة ، والاختيار إذا كان الذي قبله نكرة أن لا تنصب ، ولكن تجعل جملة في موضع الحال.

ولهذا قالوا : (العجب من برّ مررنا به قبل قفيزا بدرهم) حملوه على الهاء في به ، وهي معرفة ، وحسن أن يكون حالا ، ولم يحسن أن يكون صفة لأنهم قد يجعلون الجواهر أحوالا.

يقولون : هذا مالك درهما ، وهذا خاتمك حديدا ، ولا يحسن أن تجعله صفة ، فتقول : مررت بخاتم حديد ، ولا مررت بمال درهم ، لأن الحال خبر ، والخبر يكون بالاسم وغيره ، والصفة لا تكون إلا لتحلية.

هذا باب ما تنتصب فيه الصفة لأنه حال

(وقع فيه الأمر وفيه الألف واللام شبهوه بما يشبّه من الأسماء بالمصادر نحو قولك : فاه إلى فيّ ، وليس بالفاعل ولا المفعول) وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : حق الصفة أن تكون تحلية في الموصوف في حال الإخبار عنه إذا كان معرفة كقولك : العاقل والأحمق ، والبصري واليمني ، والقائم والقاعد ، لأن هذه أشياء حاصلة في المحلّى لها ، فإذا قيل : ليدخل العاقل ، فالعاقل معروف في وقت الأمر ، ولا يجوز أن تقول : ليدخل الأول إلا أن يكون اسما لواحد قد استحقه ، هذا هو القياس.

وقد اتسعوا في مثل هذا فأمروا بالفعل الذي يستحق فاعله به صفة ما ، وأوقعوا تلك الصفة عليه قبل وقوعه منه على معنى ما تكون فيه فيقولون : ليدخل الأول ، ومعناه : ليدخل رجل من القوم إذا دخل صار الأول فهذا المفروض فيه ، فسموه بالأول قبل استحقاقه على هذا المعنى ، ومن أجل هذا المعنى جاز أن تجعل الأول فالأول حالا ، لأنه ليس بصفة مستقرة كالعامل وأنها نصبت أولا في ترتيب الفعل إذا سبق فيه فأشبه النكرات.


وقال المبرد : إنما أدخلوا الألف واللام في قولهم : ادخلوا الأول فالأول ، كأن القائل قال : أعرفكم إذا دخلتم ، وإذا قالوا : ادخلوا أولا فأولا ، وليس يعرف ترتيبهم إذا دخلوا على ذلك فصار منكورا.

وحكى سيبويه : (أن عيسى بن عمر كان يقول : ادخلوا الأول فالأول) على البدل من الواو (لأن معناه : ليدخل) الأول فالأول ، ولم يجز ذلك سيبويه لأن لفظ الأمر للمواجه ، لا يجوز أن يعرّى من ضمير ، وإذا أبدل الظاهر منه فكأنه لا ضمير فيه ، ألا ترى أنه لا يجوز : ادخلا الزيدان ، ولا ادخلوا غلمان زيد ، فتبدل من ضمير الاثنين والجماعة المخاطبين لأنا لا نقول : ادخل غلمان زيد ، فإذا أبدلنا فقد أبطلت الواو.

ولم يفسر سيبويه علته بل جوزه على وجه من وجوه ما يحمل على المعنى ، وهو قولهم :

ليبك يزيد ضارع لخصومة (١)

ومثال هذا من الكلام أن تقول ومختبط مما تطيح الطوائح : ضرب زيد عمرو ، ومعناه : أن عمرا ضرب زيدا ، خبرت عن زيد بالضرب الواقع به ، ولم تسم الفاعل ؛ أردت أن تبتدئ الفاعل ، فقلت : عمرو على معنى : ضربه عمرو فهو على كلام ثان ، فعلى هذا ، قال الشاعر :

ليبك يزيد ...

كأنه حث على البكاء عليه حين مات لما فات من منافعه ، ولم يذكر الباكي ، ثم قال : ضارع لخصومة ، أي : ليبكه من كان يعينه ويأخذ بيده فحمل ضارعا على معنى : ليبك إذا كان يبكي يدل على باك ، فكذلك ادخلوا فيه معنى : ليدخل القوم ، ولو قال : ليدخل القوم الأول فالأول لجاز بلا خوف لأنه أمر للغائب يجوز أن يليه الظاهر ، ويكون بدلا من المضمر الذي فيه :

قال سيبويه : (فإذا قلت : ادخلوا الأول والآخر والصغير والكبير رفعت ، فليس معنى رفع هذا على البدل ، وإنما هو على التوكيد كقوله : ادخلوا كلكم لأن معناه

__________________

(١) البيت لنهشل بن حرى في الخزانة ١ / ١٤٧ ، والشعر والشعراء ولابن نهيك النهشلي في ابن يعيش ١ / ٨٠.


معنى : كلهم). وذكر الباب.

قال أبو سعيد : إذا قلت : ادخلوا الأول والآخر ، والصغير والكبير فرفعت ، ليس رفع هذا على البدل ، إنما هو على التوكيد كقولك : ادخلوا كلكم ، ولا يقع مثل هذا في الفاء لأنه لا يجوز أن تقول : مررت بزيد أخيك صاحبك ، وصاحبك نعت لزيد ، إنما تقول : مررت بزيد أخيك وصاحبك كقول الشاعر :

ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعث مراضيع مثل السّعالى (١)

فعطف شعثا على عطل ، وهما جميعا نعتان لنسوة ، وكذلك تقول : مررت بزيد الفقيه والبزاز ، ولا يحسن أن تقول : فالبزاز ، ولو قلت : عطّل فشعث ـ أيضا ـ لم يحسن.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع

فيها الأمور

(وذلك قولك : هذا بسرا أطيب منه تمرا ، فإن شئت جعلته : حينا قد مضى ، وإن شئت جعلته : حينا مستقبلا غير أنه لا بد على دليل على المضي منه والاستقبال).

قال أبو سعيد : الباب إنما يأتي لتفضيل شيء في زمن من أزمانه على نفسه في سائر الأزمان ، فيجوز أن يكون الزمان الذي فضل فيه ماضيا ، وأن يكون مستقبلا غير أنه لا بد من دليل على المعنى منه ، والاستقبال بحسب ما يفضل من ذلك ، فإن كان زمانا ماضيا أضمرت أن ، وإن كان مستقبلا أضمرت إذ ، فإذا قلت : هذا بسرا أطيب منه تمرا ، وكانت الإشارة إليه في حال ما هو تمر أو رطب ، فالتفضيل لما مضى والتقدير لهذا : إن كان بسرا أطيب منه إذ كان تمرا فهذا مبتدأ ، وخبره أطيب منه ، وبسرا وتمرا جميعا حالان من المشار إليه في زمانين ، والعامل في الحال (كان) ، وفي كان ضمير من المبتدإ.

وقوله : (مررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون).

فأخبث الأول حال من الرجل ، وأخبث الثاني نعت له في موضع خفض ، إلا أنه لا ينصرف ، وأخبث الثالث في موضع الحال من كان منك ، والتقدير : مررت برجل إذا كان أخبث ما يكون ، أو إذا كان أخبث ما يكون إذا كنت أخبث ما تكون ، ولو رددت هذا

__________________

(١) البيت منسوب لأمية بن أبي عائذ ، خزانة الأدب ١ / ١٤٧ ٢ / ٣٠١ ، ديوان الهذليين ٢ / ١٨٤.


إلى ما يبين فيه الإعراب لقلت : مررت برجل شر ما يكون شر منك شر ما تكون ، وكذلك : مررت برجل خير ما يكون خير منك خير ما تكون ، وهو أخبث منك إذا كنت أخبث منك إذا كنت أخبث ما تكون.

وهذا كله على التقدير الذي ذكرته لك ، ونصبه على الحال ، والعامل كان ، وإن شئت فقلت مررت برجل خير ما يكون أي : خير أحواله ، وخير منك خير ، والتقدير : خير أحواله خير من أحوالك وهذا كلام على المجاز والمستعمل أن تقول : زيد خير منك ، أو حال زيد خير من أحوالك فتخبر عن الأول بما يشاكله ، وإنما جاز أن تقول : خير أحواله خير منك على نحو مجاز قولهم : نهارك صائم وليلك قائم ، وإنما معناه : صاحب نهارك ، وصاحب ليلك ، والمخاطب هو صاحب الليل والنهار ، ثم قال سيبويه :

(وتقول : البرّ أرخص ما يكون قفيزان ، أي البرّ : أرخص أحواله التي يكون عليها قفيزان) ، وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : البرّ : مبتدأ ، وأرخص ما يكون : مبتدأ ثان ، وقفيزان : خبر المبتدأ الثاني ، والجملة : خبر للبرّ ، والعائد إليه محذوف ، تقديره : أرخص ما يكون منه ومعناه : أرخصه قفيزان ، والحذف في هذه الأشياء مطرد ، وقد مضى نحوه ، فأما البيت الذي أنشده سيبويه وهو :

الحرب أوّل ما تكون فتيّة

تسعى ببزّتها لكلّ جهول (١)

ففيه ثلاثة أوجه : وجه يرفع فيه : أول ، وفتية.

والثاني : نصب أول ورفع فتية.

والثالث : رفع أول ونصب فتية.

فمن رفع أول وفتية وأنت تكون ، فإنه جعل الحرب مبتدأ وأول مبتدأ ثان ، وفتية خبر أول وكان حقه أن يكون أول فتى ، لأنه خبر أول ، وأول مذكر ، ولكنه حمله على المعنى ، وأنث لأن المعنى أول أحوالها ، نحو قولك : بعض أحوالها ، فأنث المضاف لتأنيث المضاف إليه ، كقولهم :

__________________

(١) البيت لعمرو بن معديكرب شرح ديوان الحماسة للمرزوقي / ٢٥٢ ، ٣٦٨ ، وشروح سقط الزند / ١٦٧٨.


ذهبت بعض أصابعه

إذا بعض السنين تعرفتنا

ومن نصب أول ورفع فتية ، جعل فتية خبر الحرب ، وجعل أول : ظرفا له ، كأنه قال : الحرب فتية في أول ما تكون ، وحذف في ، وأما من رفع أول ونصب فتية على الحال ، فكأنه قال : الحرب أول ما تكون إذا كانت فتية.

ويجوز فيه وجه رابع ، وهو نصب أول وفتية ويجعل الحرب مبتدأ ، ويجعل خبرها : تسعى ، ويجعل أول ظرفا ، ينصبه ب (تسعى) ، وتكون فتية خبر تكون. قال سيبويه : (وأما عبد الله أحسن ما يكون قائما ، فلا يكون فيه إلا النصب لأنه لا يجوز لك أن يجعل أحسن أحواله قائما على وجه من الوجوه).

قال أبو سعيد : كان الأخفش يجيز رفع قائم ، وأجازه المبرد كان التقدير إذا قلت : أحسن ما يكون ، فقد قلت : أحسن أحواله ، وأحسن أحواله هو عبد الله ويكون قائما خبرا له ، وعلى مذهب سيبويه إذا قلت : أحسن ما يكون ، فمعناه : أحسن أحواله ، وأحواله ليست إياه ، وقائم هو عبد الله ، ولا يجوز أن يكون خبرا لأحسن ، وهذا اختيار الزجاج ، وهو عندي الصحيح ولأنا إذا قلنا : زيد أحسن أحواله قائم لم يجز لأن قائما ليس من أفعاله ، فإن قيل : فقد قال : عبد الله أحسن صفاته قائم فما تنكر أن يكون مصدر الفعل ، وإذا كان كذلك صار بمنزلة : أحسن أفعاله وصفاته : قائم ، وقاعد ، ونائم ، ونحو ذلك ، وقائم بعض صفاته وكان المبرد لا يجيز : عبد الله أحسن ما يكون القيام. ونصب قائما عند سيبويه على معنى : عبد الله أحسن ما يكون إذا كان قائما على ما ذكرنا في أول الباب ، والعامل في إذا ، وإذ فيما تقدم من قوله :

هذا بسرا أطيب منه تمرا أطيب.

وإنما جاز أن يعمل فيها أطيب وإن كان أطيب لا يتصرف ولا يعمل فيما قبله من الحال والمصدر ، لأن ما يعمل في الظروف قد يكون ضعيفا متأخرا. يعمل بمعناه.

ألا ترى أنك تقول : زيد الساعة في الدار ، ولا تقول : زيد قائما في الدار ، وتقول : زيد الساعة أخوك تريد به الصداقة ، ولا تقول : زيد قائما أخوك ، وإن أردنا به الصداقة.

وتقول : زيدا أخوك أخوّة مؤكدة ، ولا تقول : زيد أخوة مؤكدة أخوك ، فأطيب في قلة تمكنه وعمله ، بمنزلة أخوك في قلة تمكنه وعمله في التأويل بلفظ الفعل وبالجري مجراه وحملنا قولنا : بسرا في النصب على إضمار ظرف من الزمان وكان أولى الظروف


بذلك إذ وإذا اللذين يتضمنان ما مضى وما يستقبل من الزمان إذ كان التفضيل الواقع في ذلك يكون للماضي والمستقبل ، ووصلا بكان لأنها موضوعة للعبارة عن الزمان والذي بعده من الحال منصوب بكان والذي عمل فيه أطيب هو الظرفان" إذ" ، و" إذا" على ما ذكرنا من عمل ما يعمل من غير المتمكن في الظرف المتقدم وكان بمعنى وقع.

قال سيبويه : (وتقول : عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة والبداوة أطيب ما يكون شهري ربيع). وذكر الباب.

قال أبو سعيد : نصب يوم الجمعة وشهري ربيع على الظرف ومن رفع يوم الجمعة وشهري ربيع ، فلأن أخطب ما يكون بمنزلة المصدر ، وقد يخبر عن المصادر بالظرف من الزمان ، ثم يجوز في ظروف الزمان إذا كان معرفة أو ما جرى مجراه نصب الظروف ورفعه ، فمن نصب قال : القتال يوم الجمعة ، كما تقول : زيد خلفك ، والناصب تقديره : القتال كائن يوم الجمعة ، ومن رفع فالتقدير : وقت القتال يوم الجمعة ، وذلك مطرد.

وأما إذا كان ظرف الزمان نكرة مؤقتا ، فإن أكثر كلام العرب الرفع كقولك : سيرنا يومان ، ومقامنا شهران ، قال الله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)(١) ، وقال عزوجل : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها)(٢) فهذا أكثر كلام العرب ، وجاز : أخطب أيامه يوم الجمعة ، على سعة الكلام ، وكأنه قال : أطيب الأزمنة البداوة شهرا ربيع وأخطب الأيام التي يكون عبد الله فيها خطيبا يوم الجمعة ، ومثله في السعة قول الله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(٣) وهما لا يمكران وإنما يمكر فيهما ، وقوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٤) ، والنهار لا يبصر وإنما يبصر فيه.

وقوله : آتيك يوم الجمعة أبطؤه فترفع أبطؤه على معنى : ذلك أبطؤه ، وتضمر الخبر أي : ذلك أبطؤه ، على ذلك التفسير ، ويوم السبت أبطؤه ، فتجعل أبطؤه خبر يوم السبت ، وأعطيته درهما أو درهمين أكثر ما أعطيته وأكثر ، فإنه يريد أنك إذا نصبت أكثر ، فإن شئت جعلته مفعولا به بدلا من الدرهمين ، وإن شئت نصبته على الحال ، كأنه قال : أو

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧.

(٢) سورة سبأ ، الآية : ٣٣.

(٣) سورة سبأ ، الآية : ٣٣.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٦٧ ـ والنمل ، الآية : ٨٦ ـ وغافر ، الآية : ٦١.


درهمين في حال كثرته ، لأنه أكثر ما دونه ففيه لهذا تأويل كثير.

ولك أن تقول : أعطيته درهما أو درهمان أكثر ما أعطيته ، قلت : آتيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطؤه. يكون درهمان : مبتدأ ، وأكثر : خبرا ، وإنما جاز أن يكون أكثر ما أعطيته : نصبا على الحال ، وهو مضاف إلى (ما) لأن ما يجوز أن يكون نكرة فلا يتعرّف أكثر بالإضافة إليها ، كما قال :

ربّما تكره النفوس من الأمر

له فرجة كحلّ العقال (١)

فأدخل عليه ربّ.

هذا باب ما ينتصب من الأماكن والوقت

(وذلك لأنها ظروف توقع فيها الأشياء وتكون فيها فانتصبت لأنه موقوع فيها ، ويكون فيها ، وعمل فيها ما قبلها.

كما أن العلم إذا قلت : أنت الرجل علما ، عمل فيه ما قبله).

قال أبو سعيد : ولا أعلم خلافا بين البصريين ، أنك إذا قلت : زيد خلفك وكذلك سائر ما يجعل الظروف خبرا له أنه منصوب بتقدير فعل هو استقر أو وقع أو حدث أو كان أو نحو ذلك ، وقال الكوفيون : إذا قلت : زيد خلفك ، فلم ينتصب" خلفك" بإضمار فعل ، ولا بتقديره وإنما ينتصب بالخلاف الأول ، ولأنّا نقول : زيد أخوك ، فيكون الأخ هو زيد ، وكل واحد منهما يرفع الآخر ، وإذا قلت : زيد خلفك ، كان خلفك مخالفا ، لزيد لأنه ليس هو فنصبناه بالخلاف ، وهذا فاسد من وجوه :

أحدها : أنه لو كان الخلاف يوجب النصب لوجب أن ينتصب الأول لأنه مخالف للثاني كما خالفه الثاني ، وعلى أنهم يزعمون أن الأول رفع بعائد يعود إليه من خلفك ، وذلك العائد في موضع رفع ، فإذا ارتفع العائد فلا بد من رافع ، فإذا كان في خلفك ما يرفع العائد وجب أن يكون ذلك الرافع هو الذي نصب خلفك ، ومذهب البصريين : أنا إذا قلنا : زيد استقر خلفك أن في استقر ضميرا مرفوعا باستقر هو فاعله ، وخلفك منصوب به.

__________________

(١) البيت ينسب إلى : أمية بن أبي الصلت خزانة الأدب ٢ / ٥٤١ ، ٤ / ١٩٤ ، ديوان أمية : ٥٠ مغني اللبيب : ٢٩٧.


وفي كلام سيبويه : ما ظاهره ملبس لأنه جعل ما قبل الظروف هو العامل ، فيجيء على هذا إذا قلت : هو خلفك أن يكون الناصب لخلفك هو أم زيد إذا قلت : زيدا خلفك.

ومراد سيبويه على ما ينتظم من مذهبه أن الذي ظهر دلّ على المحذوف ، فناب عنه إذ كان المحذوف لا يسمع ولا يظهر فجعل ما ناب منه عاملا لبيانه ، وإنما مثله بقوله : أنت الرجل علما ، وعشرون درهما لأن الرجل إنما ينصب علما إذ كان بتقدير كامل ونحوه مما هو بمعنى الفعل ، وكذلك عشرون درهما يقدر نصبه على مذهب ضاربين زيدا ونحوه من التقدير ، وكذلك زيد خلفك بمعنى استقر فكان اشتراكها في نصب ما بعدها لاشتراك جميعها في تقدير ناصب لما بعدها من طريق المعنى والتشبيه.

قال سيبويه : (ومن ذلك : هو ناحية من الدار). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : إن المكان ينقسم قسمين ، أحدهما : يكون ظرفا ، والآخر لا يكون ظرفا.

ومعنى الظرف أن يكون الفعل لا يتعدى إلى المفعول به ويتعدى إليه بتقدير في فهذا لا يسوغ في كل مكان ، ألا تراك تقول : قمت قدّامك وجلست مكانا عاليا ، ولا تقول : قعدت السوق ، ولا قمت السطح ، حتى تقول : في السطح ، وفي السوق من حيث يكون المكان ظرفا اطرد فيه حذف في.

فما يكون ظرفا من هذه الأماكن ، فإن كان هذا الاسم يقع على مكان ولا يختص مكانا دون مكان ، وما لا يكون ظرفا فإنه يختص مكانا دون مكان ، فيما لا يختص خلف وقدّام ويسرة ويمنة ، وميل وفرسخ.

وما كان من أسماء الأماكن مطلقا ومشتقا من فعل لا يخلو من مكان ، فالمطلق هو المكان لأنه واقع على الأمكنة كلها ، والمشتق هو المذهب والمتطرق والمجلس ، وما كان منسوبا إلى وجهة معروفة نحو الشرقي والشمالي ، والجنوبي ، ويجري مجرى المكان في عموم الموضع لأنك تقول : قمت موضعا أو ذهبت موضعا ، فلا يختص موضعا دون موضع ، ويجري أيضا في باب العموم مصادر أفعال جعلت بمنزلة أسماء الأماكن المأخوذة من الفعل كقولك : هو قصدك ، ومشيت قصدك فيجري مجرى المذهب والمنزل والمجلس ، وكذلك حلّة الغور بمنزلة المذهب ، ألا تراك تقول : قمت محل فلان ، وحللت محل فلان ، وغير هذا مما سيمرّ بك أو يمر بك نظيره.


وأما ما لا يكون ظرفا إلا أن يجيء منه شيء شاذ ، فما كان من الأماكن مخصوصا لا يقع اسمه على مكان ، وذلك نحو الدار والمسجد والسوق والسطح والحمام والبيت ونحو ذلك لو قلت : زيد البيت ، أو أنت الحمام لم يجز ، ولو قلت : أنت يمنة أو قدّام زيد ، أو أنت مكانا طيبا كان جائزا مستمرا.

واعلم أن الظروف تنقسم قسمين :

أحدهما متمكن ، والآخر غير متمكن.

فالتمكن هو الذي يستعمل ظرفا وغير ظرف.

ومعنى غير ظرف : أنه تدخل عليه العوامل الخافضة والرافعة كسائر الأسماء ، وذلك نحو الموضع والمكان ، وإذا استعملت المكان ظرفا قلت : زيد مكانا طيبا وزيد مكانك ، وإذا استعملت غير ظرف قلت : هذا مكانك ، وأقمت مكانك ، ونظرت إلى مكانك.

وأما الظرف غير المتمكن فهو الذي لا يدخله الرفع ولا حروف الجر ، إلا من في بعضها ، وذلك نحو : عند وقبل وبعد ، فتقول : زيد عندك وزيد قبلك وعمر بعدك.

ولا يجوز أن تقول : طاب عندك ، ولا قيم عندك ، ولا قمت في عندك ولا قبلك ، ولا سير بعدك.

والظروف المتمكنة بعضها أمكن من بعض لأن فيها ما لا يحسن أن تجعله متمكنا ويرفع إلا في ضرورة شعر أو مستنكرة من الكلام ونقل ذلك فيه قبل الرفع في خلف وقدّام ووراء وأمام وفوق وتحت ، فإن هذه الجهات المحيطة بالأشياء كثر استعمالهم لها ظروفا وهي مبهمة ، فربما استعملوها أسماء وترى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأما قول سيبويه بعد أن ذكر المبتدأ الذي بعده الظروف خبرا له :

(فهذا كله انتصب على ما هو فيه وفي غيره ، وصار بمنزلة النون التي تعمل فيما بعدها نحو : العشرين ، ونحو قولك : خير منك عملا ، فصار هو خلفك وزيد خلفك بمنزلة ذلك ، والعامل في خلف الذي هو موضع له ، والذي هو في موضع خبره) ، قال المفسر فإن بعض هذه العبارة إيهام لمذهب الكوفيين ، وفي بعضها ما يوهم أن المبتدأ هو الذي ينصب الظرف ، وحقيقة نصبه ما قدمناه من تقدير استقر ونحوه فأما إيهام مذهب الكوفيين فقوله إنا ننصب الظرف بالخلاف للأول ، وقوله : على ما فيه.

فما للظرف وهو المبتدأ والهاء المتصلة ب (في) عائدة إلى ما وهي للظرف ، وهو


الثاني عبارة عن الظرف والهاء في غيره عبارة عن المبتدإ.

فأما قوله : (وصار بمنزلة النون) ، يعني صار المبتدأ بمنزلة النون ، وهو عشرون ، وخير منك في عملها فيما بعدها ، لأن عشرين تنصب درهما إذا جاء بعدها ، وخير منك ينصب عملا.

فظاهر هذا أن المبتدأ نصب الظرف الذي بعده ، ثم حقق هذا بقوله : فصار هو خلفك ، وزيد خلفك بمنزلة ذلك ، يعني بمنزلة العشرين ، وخير منك في نصبهما ما بعدهما.

وقوله : (والعامل في خلف الذي هو موضع له) ف (هو) الذي يرجع إلى خلف ، والهاء في (له) ترجع إلى الذي ، فكأنه قال : والعامل في خلف الاسم الذي الخلف موضع له ، وذلك الاسم هو المبتدأ الذي هو في موضع خبره ، وظاهر هذا كله : أن المبتدأ ينصب الظرف ، فكما يرفع الخبر إذا كان هو هو نحو قولك :

زيد أخوك ، والأخ قد عمل فيه الأول فارتفع به ، يعني أخوك قد عمل فيه زيد ، فارتفع ، وقوله : (وبه استغنى الكلام وهو ينفصل منه) ، أي : ليس بنعت له ، فهذا ما يقتضيه اللفظ ظاهرا ، ويجوز أن يكون سيبويه جعل المبتدأ لمّا كان الفعل لا يظهر وكان ذكره نائبا عن ذكر الفعل ، أقامه مقام الفعل في العمل لمّا ناب عن ذكره وأغنى عنه فنسب العمل إليه. ويجوز أن يكون نسب العمل في الظرف إلى المبتدإ لأن فاعل استقر هو المبتدأ ، فالمضمر هو المظهر وملابسته للفعل المضمر جاز أن يعبّر عنه أنه العامل فيه.

ومما يقوي أن الناصب للظرف الفعل المقدر الذي فيه ضمير المبتدإ ، لأن الاسم لا يرتبط باسم هو غيره إلا بضمير يعود إليه ، ألا ترى أنه لا يجوز : زيد عمرو قائم ، حتى تقول : إليه ونحو هذا ، فلما كان الظرف غيره احتاج إلى شيء تربطه به ، فكان الفعل المقدر الذي ينصب الظرف ، وفيه ضمير الاسم.

وأما الكوفيون فإنهم يجعلون في الظرف عائدا ، والظرف اسم لا يحتمل الضمير إلا بتقدير الفعل ، أو تأويله.

قال سيبويه : (ومن ذلك قول العرب : هو موضعه وهو مكانه) ، والموضع والمكان ظرفان متمكنان ، وكذلك (هذا مكان هذا ، وهذا رجل مكانك).

قال أبو سعيد : هذا يكون على معنيين كلاهما ظرف ، أحدهما : أن يراد المكان


الذي يكون فيه ، والآخر : أن يراد البدل منه في صنعة أو ولاية.

فتقول : زيد مكان عمرو ، بمعنى أنه في الموضع الذي فيه عمرو ، والآخر أن تريد : أنه بدل عمرو في عمله أو ولايته ، ويجوز أن يدخل عليه حرف الجر ، فيقول : هذا في مكانك ، ومعي رجل مكان فلان ، أي : معي رجل يكون بدلا منه يعني غناءه ، (ومثله هو صددك وسقبك) ، فمعنى : صددك ، قصدك ، ومعنى سقبك : قربك. ثم قال سيبويه : (واعلم أن هذه الأشياء كلها قد تكون أسماء غير ظروف بمنزلة : زيد وعمرو وسمعنا من العرب من يقول : دارك ذات اليمين) ، وذكر الفصل.

فإنه يريد : أن الظروف نحو : خلف وأمام ، وذات اليمين ، وإن كانت ظروفا ، فإنها قد تكون أسماء ، وقد تتفاضل في التمكن ، وسأذكر في آخر الباب جملة من ذلك ، فأما قول الشاعر :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (١)

فإن في غدت ضمير الوحشية ، وهي بقرة جرى ذكرها وكلا الفرجين موضعه رفع بالابتداء ، وكلا وما بعده إلى آخر البيت : جملة في موضع الحال ، والأصل أن تقول : فغدت تحسب أن كلا الفرجين مولى المخافة ، فقدم كلا قبل أنّ ، وأضمر في أن ، فالهاء تعود إلى كلا ، ومولى المخالفة هو خبر أن ، ومعناه : صاحب المخافة وخلفها وأمامها بدل من كلا.

ومعنى البيت :

أن هذه الوحشة غدت تحسب أن كلا طريقيها في العدو وفيها ما يريبها وتخاف منه ، والطريقان هما : خلف وأمام ، ثم قال سيبويه :

(ومن ذلك أيضا هو سواك ، وهذا رجل سواك ، فهذا بمنزلة مكانك إذا جعلته بدلا ، ولا يكون اسما إلا في شعر فإن بعض العرب لما اضطر في الشعر جعله بمنزلة غير ، قال الشاعر وهو رجل من الأنصار :

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم

إذا جلبوا منّا ولا من سوائنا (٢)

وقال الأعشى :

__________________

(١) البيت للبيد : ديوانه : ٣١١ ، ابن يعيش ٢ / ٤٤ ، ١٢٩.

(٢) البيت ل (المرار بن سلامة العجلي) خزانة الأدب ٢ / ٦٠ شرح الأشموني ٢ / ١٥٨.


تجانف عن جلّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن قبلها لسوائكا (١)

وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : (ومثل ذلك أنت كعبد الله ، كأنه يقول أنت في حال كعبد الله ، فأجري مجرى بعبد الله ، إلا أن ناسا إذا اضطرّوا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل ، قال الراجز :

فصيّروا مثل كعصف مأكول (٢).

وقال :

وصاليات ككما يؤثفين (٣)

وذكر الفصل.

مثّل سيبويه ، سواء غير متمكن لما استعمله الشاعر متمكنا في ضرورة الشعر بالكاف التي هي حرف قد وضعها الشاعر في موضع مثل اسما لأنها للتشبيه ، كما أن مثلا للتشبيه قد دخل عليها ما يدخل على مثل من العوامل ، وأضاف مثل إلى الكاف في : كعصف ، لأنه قدر مثل عصف ، وأدخل عليها الكاف ، وقوله : ككما يؤثفين الكاف الأولى حرف ، والثانية اسم بمعنى مثل ، فصارت الكاف في الضرورة في حكم مثل ، كما صار سوى في حكم غير في التمكن ، ثم بيّن سيبويه أن سوى والكاف جميعا بمنزلة الظروف ، لأنك تقول : مررت بمن سواك ، ونزلت على من سواك ، ومررت بالذي كزيد ، فصار كقولك : بمن عندك ، وبالذي عندك ، وهو غير متمكن ، ولو قلت : بمن فاضل أو بالذي صالح ، كان قبيحا ، لأن فاضلا وصالحا ، اسمان متمكنان فلا يحسن حتى تقول : بمن هو فاضل ، وبالذي هو صالح ، ولا يحسن أيضا أن تقول : مررت بمن مثل زيد ، وبمن غير زيد ، ولا بالذي مثل زيد : ولا بالذي غير زيد ، لأنها أسماء متمكنة غير ظرف فلا بد من ذكر العائد الذي يعود إلى الذي ، ومن.

وقد أجاز الكوفيون : زيد مثل عمرو ، ويجعلون مثل ظرفا ، كما تقول : زيد دون

__________________

(١) ديوانه : ٩٥ / خزانة الأدب ٢ / ٥٩.

(٢) الخزانة ٤ / ٢٧٠ وينسب إلى رؤبة.

(٣) الخزانة ١ / ٣٦٧ ، ٢ / ٣٥٣ ، ٤ / ٥٧٣ ، شرح شواهد المغني : ١٧٢ وهو ينسب لخطام المجاشعي.


عمرو وفوق عمرو.

قال : (وتقول : كيف أنت إذا أقبل قبلك ، ونحي نحوك ، كأنه قال : أنت إذا أريدت ناحيتك) ، فإنه جعل قبلا ونحوا وناحية أسماء ، وأقامها مقام الفاعل ، وكذلك قوله : (كيف أنت إذا أقبل النقب الرّكاب) ، لأن الركاب : اسم للإبل ، وقد أقامه مقام الفاعل في أقبل ، ونصب النقب وهو طريق في الجبل ، فشبه قبلك ونحوك وناحيتك بالركاب في إقامته مقام الفاعل ، فإن كانت هذه الأسماء تكون ظرفا في حال ، والركاب لا تكون ظرفا.

وقوله : (وزعم الخليل أن النصب جيد إذا جعله ظرفا ، وهو بمنزلة قول العرب : هو قريب منك ، وقريبا منك ، أي : مكانا قريبا منك ، وحدثنا يونس : أن العرب تقول : هل قريبا منك أحد ، كقولك : هل قربك أحد؟) فإن سأل سائل كيف حسن رفع هذه الظروف ، ولم يحسن رفع خلف وقدام ونحوها إلّا في شعر؟

قيل له : لأن هذه الجهات المحيطة قد كثر استعمالها ظرفا ، فقويت في الظرفية أكثر من قوة غيرها من أسماء الجهات ، فكذلك بعد الرفع منها ، وقوله :

(وأما دونك فإنه لا يرفع أبدا) ، وذكر الفصل.

قال أبو سعيد وذكر سيبويه" دون" في معنيين ، أحدهما : أن تكون ظرفا ولا يجوز فيه غير النصب ، وإنما يستعمل في معنى المكان تشبيها ، فيقال : زيد دون عمرو في العلم والشرف ونحوه ، كأن هذه المناقب منازل يعلو بعضها بعضا ، كالأماكن التي بعضها أعلى من بعض ، ثم جعل بعض الناس في موضع من الشرف أو من العلم ، وجعل غيره أسفل من موضعه.

وقد أنشد في كتاب سيبويه بيتان ليسا من الكتاب في رفع دون ، أحدهما :

أراها يحسن الآل مرة

فتبدو وأخرى يكتسي الآل دونها (١)

أنشده ناقصا.

والآخر :

وعيرا تحمي دونها ما وراءها

ولا يحيطها الدهر إلا المخاطر (٢)

__________________

(١) البيت لذي الرمة في ديوانه ص ١٧٨٦.

(٢) البيت ينسب لموسى بن جابر ، الدرر اللوامع ١ / ١٨٢ ، همع الهوامع ١ / ٢١٣.


وليس البيتان بمعروفين وأمّا الموضع الآخر ل (دون) فأن تكون بمعنى : حقير أو مسترذل ، فقال : هذا دونك ، أي : هذا حقيرك ومسترذل. كما تقول : ثوب دون ، إذا كان رديئا ، وجائز أن يكون دون الذي في المرتبة والمنزلة المستعمل ظرفا محمولا على هذا الرفع ، لأنك إذا جعلته في مكان أسفل من مكانه على التمثيل صار بمنزلة أسفل وتحت ، وهما يجوز رفعهما على التنكير على أن أسفل اسم متمكن إذا كان نقيض أعلى ، تقول : هذا أسفل الحائط وهذا أعلاه ، كما تقول : هذا رأسه وهذا آخره.

قال سيبويه : (وليس كل موضع يحسن أن يكون ظرفا). وذكر الفصل.

فإنه يريد أنهم لا يقولون : هو جوف الدار وخارجها كما تقول : هو خلفك لأن خلف للأماكن التي تلي الأسماء من أقطارها إلى غير نهاية ، لأن خلفك وقدامك وأقطارك كلها لا غاية لها ، وجوف الدار وخارجها بمنزلة البطن والظهر ، لأنه جزء من الدار وجزء من حدودها ، وكما لا تكون الدار ظرفا ، فكذلك أجزاؤها ، فإن لم ترد هذا وأردت الجهة كان ظرفا ، فقلت : زيد ناحية الدار ، أي جهة الدار وقصد الدار ، وكذلك هو ناحية من الدار ، لأن هذا ليس بجزء من الدار ، بل هو جهة غير الدار.

ثم بيّن سيبويه أن ما كان من المجرور ، فهو خارج عن الظرف كما يخرج المرفوع عن الظرف أنك تقول : زيد وسط الدار بتسكين السين ، فيكون ظرفا ، ثم تقول : هو في وسط بتحريك السين ، فيصير اسما كقولك : ضربت وسطه ، وقطعت وسطه ، فهذا بيّن من فصلهم بينهما في بنية اللفظ ، وقوله : (واعلم أن الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في الأسماء نحو : القبل والقصد والناحية) ، وذكر الفصل.

قال المفسر : فإنه يعني أن القبل والقصد والناحية استعملت في الأسماء أكثر من استعمال الخلف والأمام والتحت ، فلذلك كثر الرفع وقوي وتمكن في الخلف استعماله ظرفا ، وقل في الاسم ، وقد جاء من ذلك ما تقدم ذكره في الكلام والشعر ، فالكلام قولك : خلفك أوسع من قدّامك وأمامك أضيق ونحوه ، وأنشدوا لحسان :

 نصرنا فما تلقى لنا من كتيبة

يد الدهر إلا جبرئيل أمامها (١)

ومما يقوي النحو والقبل في الاسمية إذا قلت : نحي نحوك ، وأقبل قبلك أنها لا تتسع

__________________

(١) البيت منسوب لكعب بن مالك في معجم هارون ديوانه : ٢٧١ ، الخزانة ١ / ١٩٩.


كاتساع خلف وقدام لأنها لم تقع على موضع يتسع ، وإنما وقعت على موضع يقرب ، وعرفت بما أضيفت إليه ، وقد ذكر أصحابنا في الظروف بدل ولم يذكروا مثل ، وذكره الكوفيون وأجازوا : زيد مثلك نحو زيد دونك أي : في المنزلة ، وكذا هو مثلك في المنزلة واحتج لهم بقوله :

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر (١)

على أن مثلهم ظرف ، كقولك : فوقهم ودونهم.

قال سيبويه : (وهذه حروف تجري مجرى خلفك ، ولكنا عزلناها لتفسير معانيها ، لأنها غرائب فمن ذلك حرفان ذكرناهما في الباب الأول لم نفسر معناهما ، وهما صددك ومعناه : القصد ، وسقبك ومعناه : القرب ، ومنه قول العرب : هو وزن الجبل ، أي ناحية منه ، وهم زنة الجبل أي : حذاءه. ومن ذلك قول العرب : قرابتك أي : قربك ، يعني المكان ، وهم قرابتك في العلم أي : قريبا منك في العلم ، فصار هذا بمنزلة قول العرب : هو حذاءه وإزاءه وحواليه بنو فلان ، وقومك أقطار البلاد).

قال أبو سعيد : هذه التي ذكرناها من الظروف جهات أجريت مجرى خلف وقدام ، واستعملوا حول على التوحيد وعلى التثنية والجمع ، فقالوا : حوله وحوليه وأحواله وحواله وحواليه ، وهي جانبيه وجنباته ، وهم قطريه وأقطاره ، وذلك كله يصح ، ومنه البيت الذي أنشده لأبي حيّة :

إذا ما تغشاه على الرحل ينثني

مساليه عنه من وراء ومقدم (٢)

ومسالاه عطفاه ، فصار بمنزلة : جنبي فطيمة ، ويقال : زيد جنب الدار وجانب الدار ، أي : ما قرب منها.

قال أبو سعيد : وأنا أذكر جملة من الظروف في بعضها خلاف بين الكوفيين والبصريين وفي بعضها وفاق لينكشف مذهب الظروف عند النحويين اتفق الكوفيون والبصريون أن خلفك وقدام عمرو ونحو هذا من أسماء الأماكن العامة هي ظروف ، واختلفوا فيها إذا أفردت ، فرأى البصريون أنها ظروف ومنع من ذلك الكوفيون ، فقالوا :

__________________

(١) البيت للفرزدق : ديوانه : ٢٢٣ ، خزانة الأدب : ٢ / ١٣٠.

(٢) البيت لأبي حية النمري : سيبويه ١ / ٢٠٥ ، معجم هارون ١ / ٣٥٩.


إذا أفردت صارت اسما ، فأجاز البصريون : زيد خلفا وقداما على الظرف ، وقال الكوفيون : زيد خلف بمعنى متأخر وقدام بمعنى متقدم ، وما ذا قلت : قام زيد خلفا ، وذهب قداما فنصبه عند البصريين على الظرف كما ينتصب لو قلت : ذهب قدامك وقام خلفك ، وعند الكوفيين أن تقديره تقدير الاسم الذي هو حال ، كأنه قال : قام متأخرا ، وذهب متقدما ، فإذا قلت : قام مكانا طيبا ، فالبصريون يجعلون مكانا ظرفا ، والكوفيون يقولون : إنه ناب عن قولك : فرحا ومغتبطا ، وزعم الكوفيون أن الظرف ، ويسمونه المحل ، يحتاج إلى الإضافة لأنه يكون خبرا عن الاسم كما يكون الفعل خبرا عن الاسم لو قلت : ذهب زيد ، فلما كان الفعل يحتاج إلى فاعل ويتصل به أشياء يطلبها الفعل من المصدر والمكان والزمان والمفعول ألزموا المحل الإضافة ليسد المضاف إليه مسد ما يطلبه الفعل ويدل عليه ، وقال البصريون : إنما الإضافة لتعيين الجهة والتعريف ، والأصل هو التنكير وإنما التعريف داخل عليه ، وأجمع البصريون والكوفيون : أن الوقت يرفع وينصب إذا كان خبرا لمرفوع ابتدأ في حال تعريف الوقت وتنكيره ، فالتعريف نحو قولك : القتال يوم الجمعة واليوم ، وإن شئت قلت : اليوم يوم الجمعة ، وأمّا التنكير فقولك : رحيلنا غدا وغد ، كما قال النابغة :

زعم البوارح أن رحلتنا غدا

وبذاك خبّرنا الغراب الأسود (١)

ويروى غد ، فإذا رفعت الخبر صار التقدير في الأول أن يكون الوقت مضافا إليه ومحذوفا منه ، كأنك قلت : وقت القتال اليوم ، وإذا نصبت فبإضمار فعل ، كأنك قلت : القتال يقع اليوم أو وقع ، وعلى هذا : زيارتنا عشيّ وعشيا ورواح ورواحا ، فإذا كان الفعل مستغرقا للوقت كله ، فإن البصريين يجيزون نصبه على الظرف ، كما يجيزونه في غير المستغرق لجميع الوقت ويدخلون عليه في.

والكوفيون لا يجيزون فيه النصب ويجعلونه خبرا هو الأول ، ولا يدخلون في.

فقول البصريين : صيامك يوم الخميس ، ويوم نصب ورفع ، والصوم يستوعب اليوم ، وجوز في قوله : (صمت في يوم الخميس) ، ومذهب الكوفيين رفع اليوم ، ولا يجيزون نصبه ، ولا يدخلون في لأنها عندهم توجب التبعيض ، والصوم يستوعب اليوم ، والصحيح

__________________

(١) ديوانه : ٢٧ ، الخصائص لابن جني ١ / ٢٤٠.


قول البصريين لأن في لا يمتنع دخولها على زمان الفعل وإن قلّ ، ألا ترى أنك تقول : قد سار في بعض النهار ، ولم يسر فيه كله فالجزاء الذي وقع فيه السير واستوعبه قد دخلت عليه في ، وتقول : تكلمت في القوم أجمعين فتدخل في على القوم وقد استوعبهم الكلام ، فكذلك لم تدخل في على اليوم ، وإن استوعبه الكلام ، وقد منع الكوفيون أن يقال : زيد خلفك أشد المنع ، واحتالوا لما جاء في الشعر ما فيه تعسف حين قال بعضهم في قوله :

إلا جبرئيل أمامها (١)

إنّ ذلك إنما جاز ، لأن جبريل لعظم خلقه يملك الأمام كله ، وهذا خطأ ، لأن الأمام لا نهاية له ، فلا يجوز أن يملأه شيء ، وهكذا سائر الجهات ، وأجازوا ذلك في أخبار الأماكن ، فقالوا : داري خلفك ، ومنزلي أمامك ، وعلى هذا [التأويل] حمل ثعلب قول لبيد :

خلفها وأمامها (٢)

هذا باب ما شبّه من الأماكن المختصة

(بالمكان غير المختص شبّهت به إذا كانت تقع على الأماكن).

قال أبو سعيد : هذا الباب ينقسم قسمين :

أحدهما : يراد به تعيين المنزلة بعد أو قرب.

والآخر : يراد به تقدير البعد والقرب.

فما أريد به تعيين الموضع وذكر المحل من قرب أو بعد ، وإن النصب يجوز فيه على الظرف ، والرفع على خبر الأول تشبيها ، والأكثر فيه النصب.

ويدلّك على ذلك أنك تدخل الباء عليه فتقول :

هو مني بمنزلة ، كأنه قال : هو مني استقر بمنزلة ، والباء وفي بمعنى واحد ، كما تقول : هو بالبصرة ، وفي البصرة. فأما قولهم : هو مني مزجر الكلب ، فلمن كان مباعدا مهانا.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.


وأما قول الشاعر :

فوردن والعيّوق مقعد رابئ وال

ضّرباء خلف النّجم لا يتتلّع (١)

فإنه يصف حمرا وردت الماء ليلا وقد ارتفع العيّوق والثّريا في وسط السماء ، سحرا في آخر الليل وذلك أثناء شدة الحر ، ومثل موقع الثريا من العيوق ، والعيوق إذا ارتفع وتوسط السماء صار مع الثريا كالمشرف عليها ، فشبّه ذلك المقعد بمقعد رابي الضّربا ، وهو الأمين المشرف على الذين يضربون بالقداح كيلا يخونوا وهو علامتهم ، وأراد بالنجم الثريا ، فإذا نصب فالناصب : استقر كما ذكرنا في الظروف ، وإذا رفعت فقلت : هو مقعد القابلة ، جعلته بمنزلة قولك : هو قريب كمقعد القابلة ، وكذلك إن قلت : هو مناط الثريا ، كأنك قلت : هو بعيد كمناط الثريا ، وجاز أن تكون هذه الأشياء ظروفا ، لأنهم قد اتسعوا فيما هو من الأماكن أخص من هذه ، فجعلوه ظروفا ونصبوه.

فقالوا : ذهبت الشام،ودخلت البيت ، تشبيها بالأماكن المحيطة مثل : خلف وقدام.

ثم قال سيبويه : (وليس يجوز هذا في كل شيء ، لو قلت : هو مني مجلسك أو متكأ زيد أو مربط الفرس لم يجز). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : فإن سيبويه منع أن يقاس على مناط الثريا ونحوه مما استعملوه ظرفا غيره من الأماكن نحو : مربط الفرس إلا أن تظهر المكان ، فتقول : هو مني مكان مربط الفرس ، فيجوز ، وأنشد سيبويه بيت ابن هرمة :

 .............

 ..... أم هم درج السّيول (٢)

فألحقوا درج السيول بمناط الثريا ، واستعملوه ظرفا ، ورفعه جائز كما ذكرنا في مناط الثريا ونحوه.

وقد ذكر يونس : أن من العرب من يقول : زيد خلفك يجعله هو الخلف ، وقد ظهر أن سيبويه يجيز : زيد خلفك ، إذا جعلته هو الخلف ، ولم يشرط ضرورة شاعر ، وهو قول المازني ، فكان الجرمي لا يجيزه إلا في ضرورة الشعر. والكوفيون يمنعونه أشد المنع ، وقد

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. ديوان الهذليين ١ / ٦ ، ابن يعيش ١ / ٤١.

(٢) البيت لابن هرمة في ديوانه ص ١٨١ ، الخزانة ١ / ٤٢٤ ، سيبويه ١ / ٢٨٤.

وهو جزء من البيت

أنصب للمنية تعتريهم

رجالي أم هم درج السيول


تقدم قولنا فيه.

وأما ما يقصد فيه تقدير القرب والبعد على وجه المساحة ، فقولك : هو مني فرسخان ، وهو مني عدوة الفرس ، ودعوة الرجل ، وهو مني يومان ، وهو مني فوت اليد.

فإن هذا لا يستعمل فيه إلا الرفع ، ويفارق الباب الأول لأن معنى هذا أنه يخبرك أن بينه وبينه فرسخين ، ويومين ، ومعنى فوت اليد : أن يمدّ يده إليه فلا يناله ، ويريد به تقريب ما بينهما ، فجرى على الكلام الأول كأنه هو توسّعا كما قالوا : أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة ، وإلا فتقديره إذا قلت : هو مني فرسخان ، أي بعده مني مسيرة فرسخين فيجوز وكما يجوز وفي يوم الجمعة حين قالوا : أخطب أيامه يوم الجمعة ، واليوم لا يخطب ، فجعلوه خطيبا ، وكما قالوا : أمّا النهار ففي قيد وسلسلة. وإنما يريد : المقيد في النهار ، فأجرى اللفظ على النهار ، فأما قوله :

(وقول العرب أنت مني براء ومسمع). وذكر الفصل.

فإنه يريد أنهم رفعوه ، جعلوه الأول كما قالوا : زيد مني قريب ، ومن العرب من ينصب فيقول مرأى ومسمعا فجعله ظرفا لأنهم قالوا : بمرأى ومسمع ، فدخلت عليه الباء ، صار غير الاسم الأول فإذا صار غيره ولا يأتيه نصب ، نصب على الظرف كما تقول : أنت مني مكان زيد أو أنت مكان زيد.

قال سيبويه : (واعلم أن هذه الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في أن تكون أسماء كالقصد والنّحو والقبل والناحية).

وإنّا قد ذكرنا تمكن هذه الأسماء وأنها أقرب إلى الأسماء المتمكنة من الخلف والأمام.

قال سيبويه : (وأمّا الخلف والأمام والتحت والفوق ، فتكون أسماء ، وكينونة تلك أكثر وأجرى في كلامهم).

فإنه يعني : أن القصد والنحو والقبل والناحية ، أكثر في الأسماء من الخلف والأمام ، وقد ذكر سيبويه في الباب قبل هذا : (أن دونك لا يرتفع أبدا) ، وقد ذكره هاهنا فيما أجاز رفعه بما يكون أسماء غير ظروف ، والأقيس أن يكون بمنزلة الخلف والأمام ، وهو قول النحويين إلّا من احتج لسيبويه أنه فوق بين دونك ظرفا ، وبينه إذا كان بمعنى : وضيعك ، وكذا مرأى ومسمعا كونهما أسماء أكثر ، ومع ذلك فإنهم جعلوه اسما خاصا


بمنزلة : المتكأ والمجلس ، وهما لا يجعلان ظرفا ، وإنما نصب بعضهم : مرأى ومسمعا لأنهم لما أدخلوا على بمرأى علم أنهم جعلوه غير زيد ، فإذا نزعوا الباء فهي أيضا غيره فنصبوه كما نصبوا الظرف الذي هو للاسم الأول ، ومن رفعه فإنما يجعله الاسم الأول ، فيجازى به.

وأما قوله : (وزعم يونس أن من العرب من يقول : هو مني مزجر الكلب). وذكر الفصل ، وأنشد :

وأنت مكانك من وائل

مكان القراد من است الجمل (١)

وقوله : (وتقول : داري خلف داره فرسخا) ، فإنه يريد أنك تنصب فرسخا على التمييز لأنه أريد به التقدير ، فصار كقولك : ما في السماء قدر راحة سحابا لأنه لما قال : داري خلف دارك أبهم فلم يدر ما قدر ، فقال : فرسخا وذراعا وميلا.

وقوله : (كان هذا الكلام شيء منون) ، يعني : خلف دارك ، وهو بمنزلة عشرين ، كأنه قال : داري عشرون ذراعا ، وقوله : (كأنه منون يعمل فيما ليس من اسمه ، ولا هو هو).

فإنه يعني بالمنوّن : عشرين عمل في الدرهم ، وليس الدرهم هو العشرين ولا هو من اسم العشرين ، لأن العشرين ليست مضافة إليه ، وما هو من اسمه فهو مضاف إليه وذلك قولك : زيد أفضلهم رجلا.

وقوله : (وإن شئت قلت : داري خلف دارك فرسخان). وذكر الفصل.

فإنه يريد أنك تجعل فرسخين خبرا وتلغي الظرف ، كما تخبر عن زيد ب (قائم) وتلغي فيها فتقول : زيد قائم فيها ، وإن دخلت (من) فأبو عمرو يرفع ، ويجعل من خلف دارك كقولك : من إذا قلت : يقدمني ، وغيره يجعل من مع خلف بمنزلة خلف فينصب ويرفع كما تقول : داري خلف دارك فرسخان وفرسخين لأنك تقول : أنت من خلفي ، ومعناه : أنت خلفي لا فرق بينهما.

وقوله : (وتقول : أنت مني فرسخين) ، أي أنت مني ما دمنا سائرين فرسخين ، يجعل أنت مبتدأ ، ومني خبره ، وفرسخين ظرف ، ومعنى مني أي من أصحابي وأشياعي

__________________

(١) البيت للأخطل : ديوانه / ٣٣٥ ، الخزانة ١ / ٢٢٠.


كما قال الله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)(١) أي : من أصحابه وجيرانه ، ولا ينتظم معنى ذلك إلا بما قدّره سيبويه لأن ضميره من أصحابه في صحبته إياه في مقدار هذه المسافة ، واعلم أن ظروف الزمان تكون أخبارا للمصادر ، ولا تكون أخبارا للجثث ، وأما ظروف المكان فتكون أخبارا للمصادر والجثث ، وإنما كانت ظروف المكان كذلك لأن الجثة الموجودة قد تكون في بعض الأمكنة دون بعض مع وجودها ، أعني الأماكن.

ألا ترى أنك إذا قلت : زيد خلفك علم أنه ليس قدّامه ولا تحته ولا فوقه ويمنته ويسرته مع وجود هذه الأماكن ، ففي إفراد الجثة بمكان فائدة. وأما ظروف الزمان فإنما يوجد منها شيء بعد شيء ووقت بعد وقت ، وما وجد منها فليس شيء من الموجودات أولى به من شيء فلو قلت : زيد الساعة أو يوم الأحد لجعلت ل (زيد) في هذا اليوم حالا ليست لعمرو ، وليس كذلك لأن زيدا وعمرا وغيرهما من الموجودات تتساوى في الوصف بالوجود في هذا اليوم ، وأما المصادر فهي أشياء حادثة معروفة بالأفعال في المضي والاستقبال.

فإذا قلنا : القتال يوم الجمعة ، وإنّا نريد الدلالة على حدوثه في هذا اليوم ، كأنّا قلنا : القتال يحدث يوم الجمعة.

قال سيبويه : (وتقول الهلال الليلة).

كأنه يجعل الليلة ظرفا للهلال والهلال جثة لأنه جزء من القمر. فهو جثة كأنه في استهلاله أو تصوره لهذه الصورة الليلة ، فإن رفعت فقلت : القتال يوم الجمعة ، والهلال الليلة جاز على معنى : قتال يوم الجمعة ، والهلال الليلة ثم تحذف ، وقد أجاز سيبويه اليوم الجمعة ، واليوم السبت بنصب اليوم ، ولم يجز في الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس إلا الرفع ، وإنما ذاك لأن الجمعة بمعنى الاجتماع ، والسبت بمعنى الراحة ، فهما مصدران يقعان في اليوم بمنزلة قولك : اليوم القتال ، فأما اليوم الأحد فبمنزلة اليوم الأول ، والاثنين بمنزلة الثاني ، والثلاثاء والأربعاء والخميس بمنزلة الثالث والرابع والخميس ، وليس ذلك بمعنى : يقع في اليوم ، كالاجتماع والراحة ، وأجاز الفراء وهشام النصب في جميع ذلك ، فإذا رفع جعل الثاني هو الأول ، وإذا نصب فعلى معنى الآن الأحد

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٦.


والاثنين ، لأن : الآن أعم من الأحد ، فيجعل الأحد واقعا عليه كما تقول : في هذا الوقت : هذا اليوم.

وقد كان سيبويه يقول : (إن قوله : اليوم يومك) ، المعنى : اليوم شأنك الذي ينسب إليك ، وتذكر به ونحوه من المعاني فأما اليوم الأحد فبمنزلة : اليوم عشرون في الشهر وخمسة ونحوه ، لأنه ليس بشيء في الشهر ، ومما يجوز فيه الرفع والنصب : النيروز ، واليوم المهرجان ، واليوم الفطر ، واليوم الأضحى ، ورفعه على ما ذكرنا.

قال سيبويه : (وتقول : عهدي به حديثا وقريبا). وذكر الفصل.

فإنه يريد : أنك إذا جعلت قريبا وحديثا للزمان فكأنك قلت : عهدي يزيد في زمان قريب ، وزمان حديث ، ويجوز : عهدي به قريب وحديث ، يجعل قريبا وحديثا هو العهد ويرتفع لأنه خبر مبتدأ.

قال سيبويه : (وتقول عهدي به قائما ، وعلمي به ذا مال تنصب على أنه حال). وذكر الفصل.

قال : قد ذكرنا فيما تقدم الحال التي هي في موضع خبر المصدر بإضمار : إذ كان ، وإذا كان.

وأجاز الزجاج : قائما ضربي زيدا ، على تقديم الحال ، كما يجوز : اليوم القتال ، فكأنك قلت : إذ كان قائما ضربي زيدا يقع ، كما أنّا إذا قلنا : اليوم القتال ، فتقدير اليوم : القتال يقع.

قال سيبويه : (واعلم أن ظروف الدهر أشدّ تمكنا في الأسماء ، لأنها تكون فاعلة ومفعولة ، تقول : أهلكت الليل والنهار ، واستوفيت أيامك ، فأجري الدهر هذا المجرى ، فأجر الأشياء كما أجروها).

قال أبو سعيد : كان المبرد يخطّئ سيبويه في هذا ، لأنه ذكر في أول الكتاب : أن ظروف المكان أقرب إلى الأناسيّ ، لأن لها جثثا وأسماء تعرف بها كما تعرف الأناسيّ.

تقول : خلفك واسع ، ومكانك أحبّ إليّ من مكان زيد. فصوّب الزجاج من أجل أن ظروف الزمان يقلّ فيها ما لا يتمكن ؛ ألا ترى أن (سحر) إذا نكّر تمكن.

قال أبو سعيد : وهذا ضعيف لأن في ظروف الزمان ما لا يتمكن أكثر مما في ظروف المكان ، لأن فيها : قبل ، وبعد ، وبعيدات بين ، وذات مرة وذا صباح ، ونحو هذا.


ورد أبي العباس على سيبويه ضعيف ، لأن ظروف الزمان أقوى في الاسمية ، وذاك أن الفعل لفظ مبني على الزمان الماضي وغيره ، كما أنه مبني من لفظ حروف المصادر وليس كذلك المكان.

فأسماء الزمان بمنزلة المصادر ، والمصادر متمكنة كسائر الأسماء في وقوع الفعل منها وبها ، والزمان تشبيها. ويدل على هذا أنه يكثر في كلام العرب العبارة عن الزمان بألفاظ المصادر ، والخبر عن المصادر بألفاظ الزمان حتى كأنها شيء واحد.

تقول : آتيك صلاة العصر ، ومقدم الحاج ، فتعبر عن الزمان بلفظ المصدر ، وتقول : قيامك يوم الخميس ، ورحيلنا يوم الجمعة ، فتخبر عن المصادر بألفاظ الزمان ، قال الله تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ)(١) وهذا كثير مطرد ، وليس للمكان هذا.

وعلى أن اللفظ العام لظروف الزمان هو الوقت والزمان والدهر ، وكل واحد متمكن ، ثم ينقسم هذا إلى : الليل والنهار ، وهما متمكنان قويان في التمكن ، ثم ينقسمان إلى الساعات ، وهي قوية التمكن ، وليس كذلك المكان ، لأن الاسم العام له هو المكان ، ثم ينقسم إلى الجهات الست. نحو : خلف وقدام ، ونحوهما وهي ضعيفة التمكن. فأما ما حكاه المبرد من كلام سيبويه ، أن ظروف المكان أقرب إلى الأناسيّ لا تكون ظروفا ، وجميع ألفاظ الزمان تكون ظرفا ، وجملة الزمان أنه إذا استعمل ظرفا ، قوي في الظرفية ، فإذا استعمل اسما قوي في الاسمية.

هذا باب الجر

(والجر إنما يكون في كل اسم مضاف إليه).

قال أبو سعيد : جعل سيبويه المجرور بحرف أو بإضافة اسم إليه كله مضافا ثم قسم ذلك فقال :

(إن المضاف إليه ينجر بثلاثة أشياء :

بشيء ليس باسم ولا ظرف). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن الجر يكون بشيئين :

أحدهما : دخول حرف ليس باسم ولا ظرف.

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ١٢.


والآخر : بإضافة اسم إلى اسم.

فأما الحروف الجارة التي لا مذهب لها غير الحروف :

فالباء ، واللام ، ومن ، وفي ، ورب ، وإلى ، وواو القسم ، وتاؤه ، وحتى.

وقد تخرج إلى تأويل آخر في بعض المواضع ولها باب مفرد ، فإن للجر حروفا سوى هذه تكون حروفا في حال وأسماء في حال ، وهي :

على ، ومن ، وكاف التشبيه ، ومنذ ، ومذ.

وإنما كانت كذلك لأنها تدخل عليها حروف الجر ، كما قال :

غدت من عليه .......

 ......... (١)

بتأويل من فوقه ، ومن عن يمينه ، بتأويل من ناحية يمينه ، وتجعل الكاف بمعنى : مثل ، كما قال : علي كالخنيف السحق ، يعني : علي مثل الخنيف (٢).

ومنذ ، ومذ يخفض بهما ، فيكونان حرفي خفض ، وقد يرفع ما بعدهما فيجعلان اسمين بمعنى : وقت وأمد. وللجر حرفان سوى ذلك تكون حرفين وفعلين وهما :

خلا ، وحاشا في الاستثناء ، لأنهما يخفض بهما فيكونان حرفي خفض ، وينصب ما بعدهما فيكونان فعلين.

وقد ذكر الأخفش : أن عدا يخفض بها ، وينصب بها ، فإن صح ذلك فهو حرف ثالث.

وأما إضافة الاسم إلى الاسم فعلى ثلاثة أقسام :

أحدهما : أسماء هي ظروف مضافة إلى ما بعدها من مصادر وغيرها ، ذكرها النحويون فيما يجر لغلبة الجر عليها. وأسماء أخر تضاف في حال ، وليست الإضافة بغالبة عليها ، وهي أكثر الأسماء.

فأما الظروف فهي :

__________________

(١) البيت لمزاحم العقيلي في نوادر أبي زيد ص ١٦٣ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٢٥ الخزانة ١٠ / ١٤٧ ، ١٥٠. وهو :

غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها

تصل وعن قيض بزيزاء مجهل

(٢) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص ٢٨٣.

على كالخنيف السحق يدعو به الصدى

له صدد ورد التراب دفين


بين ، وسواء ، ولدن ، ولدى ، وعند ، وعلى ، وأسفل ، وخلف ، وقدّام ، ووراء ، وأمام ، وتجاه ، وقباله ، وحذاء ، وحذه ، وإزاء ، وتلقاء ، وتحت ، وفوق ، ووسط ، وقبل ، وبعد ، ومع ، وعلى ، وعن فيمن جعلهما اسمين ، وغير ذلك من الظروف التي تقدم ذكرها قبل هذا الباب.

وأما الأسماء التي تغلب الإضافة عليها ، فهي :

مثل ، ومثل في معنى : بدل وبدل ، في معنى : وسط ونحوه سنيّ ، وقرن فالقرن في القتال ، والقرن في السن ، ولدن ، وخدن ، وشبه ، وشبه ، ومرة وحين ، وبيد في معنى : غير وبيد ، ومساوه بمعنى : قدره ، وكذلك قيد ، وقيدي.

وباب وسبحان ومعاذ وعياذ وأنّى وبعض وكل ، وذو داره ، وذوا ، وذواتا ، وذووا ، وذوات ، وأولو ، وأولات ، وقد ، وقط بمعنى : حسب. وفيها أسماء تغلب عليها الإضافة وقد ينصب ما بعدها وهي مصادر غير متمكنة ، وهي :

بله ، وبيد ، ورويد ، ومعانيها متقاربة فإذا خفضت بها قدرت إضافتها ، وإذا نصبت قدرت التنوين فيها ، ولم يقدر الإضافة.

وقد نصب ب (لدن) ولد ، والوجه الإضافة ، وقد ذكره سيبويه في مواضع من الكتاب.

وأما الأسماء التي تضاف في حال وليست الإضافة بالغالبة عليها ، فنحو :

غلام زيد ، وجار عمرو ، وخاتم حديد ، وثوب خزّ ، وهي أكثر من أن تحصى.

والإضافة تكون على معنى أحد الحرفين من حروف الجر ، وهما :

من ، واللام.

فمن إذا كانت الإضافة على معناها تبعيض كقولك : هذا ثوب خز ، وخاتم حديد ، أي : ثوب من خز ، وخاتم من حديد ، وما كان على معنى اللام فإضافته على وجه الاستحقاق ، كقولك : هذه دار زيد ، ودار لزيد ، ورب السموات والأرض ، ورب العالمين ، وخلق الله ، وأرض الله وسماؤه وعرشه ، فهم عباد له ، وخلق له ، وأرض له ، فالعباد مستحقون أن يكونوا عبادا ، وهو مستحق لعبوديتهم.

وربما أوهمتك الإضافة الخروج عن هذين الوجهين ، فإذا رددتها إلى أصول ما وضعت له رأيتها لازمة لأحد الحرفين كقولك : أفضلهم زيد أي : الفاضل منهم زيد ،


وبعض القوم أي شيء منهم ، ويكون تماما لهم ومكملا ، فأما قوله :

(وأما الباء وما أشبهها فليست بظروف). وذكر الفصل.

فإنه سيبويه بيّن معاني حروف الجر ، فقال :

(إن الباء ونحوها ليست ظروفا ولا أسماء ولكنها يضاف بها إلى الاسم ما قبله أو بعده ، فإذا قلت : يا بكر فإنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى إلى بكر باللام).

ومعنى هذا : أن حروف الجر تصرف الفعل التي هي صلته إلى الاسم المجرور بها.

ومعنى إضافتها إلى الفعل : ضمها إياه واتصاله إلى الاسم كقولك : رغبت في زيد ، وقمت إلى عمرو.

ففي أوصلت إلى زيد الرغبة ، وإلى أوصلت القيام إلى عمرو ، وما كان بتأويل الفعل فهو بمنزلة قولك : يا لبكر ، بمنزلة أدعو أو أريد ، ولهذا نصبت المنادى ، فاللام أوصلت هذا المعنى إلى بكر وأضافته إليه ، وهكذا : مررت بزيد ، الباء أوصلت المرور إلى زيد ، وكذلك : أنت كعبد الله ، أضفت الشبه بالكاف إلى عبد الله ، وكذلك : أخذت من عبد الله ، أضفت الأخذ بمن إلى عبد الله ، وإذا قلت : منذ زمان ، أضفت الأمد إلى وقت من الزمان.

وأنت في الدار ، أضفت كينونته في الدار إلى الدار ب (في) ، وتقديره : الاستقرار الذي يقدر ، وما جرى مجراه وبمنزلته وإذا قلت : فيك خصلة جميلة ، أضفت إليه الجمال ب (في) ، وإذا قلت : رب رجل يقول ذاك ، أضفت القول إلى الرجل ب (رب) ، وإذا قلت : بالله وتالله وو الله ، أضفت الحلف إلى الله تعالى بهذه الحروف ، كما أضفت النداء بالله لأن التقدير : أحلف بالله ، والواو والتاء بدلان ، وهكذا رويته عن فلان ، أضفت إليه الرواية بعن.

هذا باب يجري النعت على المنعوت

(والشريك على الشريك والبدل على المبدل منه ، وما أشبه ذلك : فأما النعت الذي جرى على المنعوت فقولك : مررت برجل ظريف ، فقد صار النعت مجرورا مثل المنعوت). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : معنى النعت : أنه اختصاص نفس المنعوت وإخراج له من إبهام ، وعموم إلى ما هو أخص منه ، فالنكرات المنعوتة يخرجها النعت من نوع إلى نوع أخص


منه ، وأما المعارف فيخرجها النعت من شخص مشترك الاسم عند وقوع اللبس فيه إلى أن يزول اللبس عنه ، أما النكرة فقولك :

مررت برجل ظريف ، لو اقتصرت على رجل وحده لكان الرجل وحده من جملة الرجال كلهم ، ونوعه الذي هو منهم الرجال على العموم ، فلما نعته بظريف صار من جملة الرجال الظراف ، وهو أقل من الرجال بإطلاق ، وكلما زدت في النعت كان النوع أخص لو قلت : مررت برجل ظريف صيرفيّ ، صار من جملة الرجال الظراف الصيارفة ، وهم أقل من الرجال الظراف فقط ، ولم يطلب في غير الصيارفة.

وهكذا لو قلت : مررت برجل ظريف صيرفي أعور ، كان أخص مما قبله ، ولم تطلب في غير العور من الصيارفة ، وعلى هذا الوجه يكون خروجه من الأعم إلى الأخص. فأما المعرفة فقد أفرده سيبويه بباب.

وأنا أذكر هناك وهذا الباب مفرد بنعت النكرات ، وإنما صار النعت تابعا للمنعوت في إعرابه لأنهما كشيء واحد ، فصار ما يلحق الاسم يلحق بنعته ، وإنما صارا كشيء واحد من قبل أنك إذا قلت : مررت برجل ظريف فهو من الرجال الظرفاء الذين كل واحد منهم ظريف ، فالرجال الظرفاء جملة لرجل ظريف ، كما أن الرجال جملة لرجل وصار رجل ظريف جزءا للرجال الظرفاء ، كما أن رجلا جزء للرجال ، ولما كان النعت اختصاصا للمنعوت وجب أن يكون ذلك الاختصاص ، بأن يجعل له حالا يعري منها بعض ما يشاركه في الاسم ويكون ذلك على وجوه منها :

أن ينعت بخلقة لا تكون لبعض من يشاركه ، كالطويل والقصير ، وحسن وقبيح ، وأسود وأبيض.

ومنها أن ينعته بما يشهر به من فعل لازم حسن أو قبيح ، كعاقل وظريف ، وشريف وعالم وفقيه.

وربما كان حرفة مكسبا كبزّاز ، وعطار ، وتمّار ، وكاتب. وربما كان نسبا إلى أب أو حي أو بلد ، أو غيره نحو :

قرشي ، وعربي ، وعجمي ، وكوفي ، وبصري.

وما يخصّ به لا يوجد في بعض ما يشاركه.

وقد ينعت الاسم النكرة بمصادر وضعت موضع أسماء الفاعلين ، وبأسماء مضافة لا


اشتقاق لها ، يراد بها المبالغة.

فأما الاسم المضاف :

فقولك : مررت برجل أيّما رجل ، وبرجلين أيّما رجلين ، وبرجال أيّما رجال ، ورأيت رجلا أيّما رجل ، وجاءني رجل أيّما رجل.

فأيّ : غير مشتق من معنى ، وإنما يضاف إلى الاسم الأول المبالغة في مدحه بما يوجبه ذلك الاسم.

وأما المصادر التي ينعت بها ، فقولك :

مررت برجل حسبك من رجل ، وبرجل هدّك من رجل ، وبرجل ما شئت من رجل ، وبرجل شرعك من رجل ، وبامرأة هدك من امرأة.

وهذا كله بمعنى واحد.

أما حسبك فهو مصدر في موضع يحسب. تقول :

أحسبني الشيء ، أي كفاني.

وهمك وشرعك وهدّك ، في معنى : هذا ، وإن لم يستعمل منه فعل ، وهي في معنى أسماء الفاعلين مضافة للحال لا للماضي ، فلذلك نعتّ بها النكرة فصار قولك : مررت برجل هدّك وشرعك ، بمنزلة : ضاربك.

ومثل ذلك : مررت برجل كفئك من رجل.

فهذا وما ذكرناه قبل مصادر نعت بها ، ولذلك لم تثن ولم تجمع ، كما تقول : مررت برجل عدل ، وبرجلين عدل ، وبرجال عدل ، وامرأة عدل.

وقد يستعمل بعض هذا على لفظ الفعل ، فيقال :

مررت برجل هدك ، وبرجلين هداك ، وبرجال هدوك ، وبامرأة هدتك ، وبامرأتين هدتاك ، وبنسوة هددنك ، وكذلك :

مررت برجل كفاك من رجل ، ورجلين كفياك من رجلين ، وبرجال كفوك ، وبامرأة كفتك ، وبامرأتين كفتاك ، وبنسوة كفينك.

فأما قول سيبويه : (وما كان منه يجري فيه الإعراب فصار نعتا لأوله جرى على أوله بأمر).

يعني : أن ما كان مصدرا يلحقه الإعراب إلا الأسماء مع المنعوت في إعرابه ، وما


كان فعلا ماضيا ، فهو على لفظ الفعل الماضي ، وأما قوله :

(مررت برجل غيرك) فغيرك نعت يفصل بين من نعتّه بغير ، وبين من أضفته إليه حتى لا يكون مثله أو لا يكون مر باثنين) ، وذكر الفصل.

فإنه يعني : أن القائل إذا قال : مررت برجل ، جاز أن يكون المخاطب ذلك الرجل ، فإذا قال غيرك ، صار غيره فغيره : نعت لمن مررت ، وهو مضاف إلى الكاف ، فقد فصلت بين الممرور به وبين المخاطب ، ومعنى قوله :

(أو يكون مرّ باثنين) ، لأنه لو قال : مررت بغيرك ، جاز أن يكون مرّ باثنين ، فقال : برجل غيرك لئلا يتوهم بإسقاط المنعوت ، أنه مرّ باثنين أو جماعة ، ثم ذكر سيبويه : (مررت حسن الوجه) ، وقد مرّ ذلك في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل.

قال : (ومما يكون نعتا للنكرة وهو مضاف إلى معرفة قول امرئ القيس :

بمنجرد قيد الأوابد لاحه

طراد الهوادي كلّ شأو مغرّب (١)

ومنه أيضا :

(مررت على ناقة عبر الهواجر)

قال أبو سعيد : معنى قيد الأوابد ، أي : مقيد الوحش. والأوابد : الوحش الذي يصاد ، وهذا الوحش إذا صادها لم تنج منه ، فكأنه قيدها ، ومعنى عبر الهواجر ، أي : عابرة للهواجر يعبّرها السير إلى حيث يكون قصدها حينا.

والهواجر : جمع الهاجرة ، وهي نصف النهار ، والسير يصعب فيها ، وأراد بذلك قوتها على السير في هذا الوقت ، ثم قال سيبويه :

(ومما يكون مضافا إلى معرفة ، ويكون نعتا للنكرة :

الأسماء التي أخذت من الفعل وأريد بها معنى التنوين). فإنه يريد به : أن الأسماء المأخوذة من الفعل وإن أضيفت بمعنى : سيفعل أو يفعل ، فإضافتها تخفيف ، وهي بمعناها نكرة غير مضافة ، والنكرات ينعت بها نحو :

مررت برجل ضاربه رجل.

فهو بمعنى : يضربه في الحال ، ويعني : سيضرب ، وقوله : (ومثله : هذا عارض

__________________

(١) ديوانه : ٤٦.


ممطرنا ، فالرفع هاهنا كالجر ، وكل مضاف إلى نكرة إذا كان واصفا لنكرة ، فهو إن كان وصفا أو موصوفا أو خبرا أو مبتدأ ، فهو بمنزلة النكرة المفردة ، وأما بيت جرير :

 ... كأنها

لدى فرس مستقبل الريح صائم (١).

كأنه قال : لذي فرس مستقبل صائم ، فإنه جعل صائما نعتا لمستقبل الريح.

قال أبو سعيد : يجوز أن يكون صائم نعت للفرس ، كأنه قال : فرس صائم مستقبل الريح ، وأنشد بيت المرّار :

(سلّ الهموم لكلّ معطي رأسه

ناج مخالط صهبة متعيّس

مغتال أحبله مبين عنقه

في منكب زين المطيّ عرندس (٢)

فالشاهد : أنه نعت معطي رأسه بما تنعت به النكرة المفردة. فأما قول ذي الرّمة :

(سرت تخبط الظلماء من جانبي قسا

وحب بها من خابط الليل زائر (٣))

فالشاهد : أنه نعت خابط الليل بزائر.

وأما قول جرير :

(يا ربّ غابطنا (٤))

وقول أبي محجن :

(يا ربّ مثلك في النساء (٥))

والشاهد : أن مثلك في البيتين يكونان نكرتين لدخول رب عليهما ، ورب لا تدخل إلا على نكرة.

وقوله : (ومن ذلك قول العرب : لي عشرون مثلك ، ومائة مثله ، فأجروه مجرى

__________________

(١) ديوانه : ٥٥٤ ، مجالس ثعلب : ٧١.

(٢) سيبويه ١ / ٨٥ ، ٦٠ ، المحتسب لابن جني ١ / ١٨٤.

(٣) ديوانه : ٢٤١.

(٤) البيت :

يا رب غابطنا لو كان يعرفكم

لاقى مباعدة منكم وحرمانا

ديوانه : ٥٩٥ ـ الدرر اللوامع ٢ / ٥٦.

(٥) البيت :

يا رب مثلك في النساء غريرة

بيضاء قد متعتها بطلاق

وهو غير موجود في ديوانه ـ سيبويه ١ / ٢١٢ ، ٣٥٠ ـ ابن يعيش ٢ / ١٢٦.


عشرون درهما ، ومائة درهم) ، وذكر الفصل.

فإن سيبويه قد أجاز في : عشرون مثله ، وهو لا يجيز عشرون أيّما رجل ، والفراء لا يجيز عشرون أيّما رجل ، ولا عشرون مثله ، ولا عشرون غيرك.

والصحيح قول سيبويه.

وفي جواز عشرون مثله وجهان :

أحدهما : أن يكون مثل بمعنى : مماثل ، ومعناه : معقول ، فإذا كان كذلك لم تعرفه الإضافة لما تقدر فيه من معنى التنوين ، ولهذا قال سيبويه :

(كأنه حذف منه التنوين في قولك : مثل زيد ، أو قيد الأوابد) ، وجائز أن يكون التنوين في قولك :

مثل زيد ، وقيد الأوابد ، وجائز أن يكون التنكير من أجل أن إضافته لم تحضره لكثرة وجوه المماثلة ، كما أن غيرك لم تحضره الإضافة لأن من لم يكن هو إياك ، فهو غيرك ، فيكون منكورا.

هذا وإن لم تقدر فيه التنوين ، فيصير بمنزلة :

ضارب رجل ، وقد دخل عليه رب ، وهي لا تعمل إلا في نكرة ، كما لا تعمل عشرون إلا في نكرة ، فنصبه على التمييز.

والوجه الثاني : أن سيبويه حكى أن من (قول العرب : لي عشرون مثلك) ، فقوله دليل على بطلان قياس ما خالفه.

فأما : أيّما رجل ، وأيّ رجل ، فليس لفظه بمأخوذ من معنى معقول ، وإنما يصح إلى شيء يصح معناه به ، كما يضاف ذو إلى شيء يصح معناه به ، تقول :

مررت برجل أي رجل ، وبرجل أيّما رجل.

كما تقول :

مررت برجل ذي مال ، ويتأوّل ذو بمعنى صاحب ، وصاحب : معنى معقول مأخوذ من فعل ثم يتمكن ، صاحب مال بإضافته إلى كناية المال ، ولا يتمكن ذو.

تقول : المال زيد صاحبه ، ولا تقول : المال زيد ذوه.

وكذلك تقول : مررت برجل أي رجل ، كما تقول : مررت برجل كامل ، ولا تقول : مررت بأي رجل ، ولا عندي عشرون أي رجل ، وأنت تقول : مررت بكامل من


الرجال ، وعندي عشرون كاملا من الرجال.

وقاس (يونس) : عشرون غيره على عشرون مثله ، والمسموع هو : عشرون مثله ، ولم يخالف أحد من البصريين في ذلك يونس ، واستدل يونس والخليل على تنكر مائة درهم بقوله : مائة ألف درهم ، وفصل بين صفتيها بقوله : نظرت إلى مائة درهم ، وإلى مائة الدرهم الرديئة.

وقوله : (وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافات إلى المعرفة التي صارت للنكرة يجوز فيهن كلهن أن يكنّ معرفة) ، وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن المعرفة تشارك النكرة في موضعين ، يصير لفظ المعرفة كلفظ النكرة في موضعين وأصلهما التعريف ، وإنما دخلهما التنكير على تأويل أذكره.

وإنما يكون التنكير والتعريف فيهما على قصد المتكلم ، وذلك في الأسماء الأعلام التي لا ألف ولا لاما فيها ، وفي الأسماء المضافة التي يمكن فيها التنوين أو تقديره ، تقول في الأعلام : جاءني زيد ، وزيد آخر ، ومررت بعثمان وعثمان آخر ، وما كل إبراهيم أبا إسحاق.

وإنما صار الاسم العلم أصله التعريف لأنه الاسم الذي يقصد به المسمى شخصا لتبينه بذلك الاسم من سائر الشخوص ، كالرجل سمى ابنه : زيدا أو غيره لتعرف باسمه من غيره ، وهذا أصله.

ثم سمى غيره بمثل اسمه فترادف ذلك الاسم على شخوص كثيرة ، وكل شخص منها سمي به لاختصاصه ، ثم صار بالمشاركة عاما ، فأشبه أسماء الأنواع :

كرجل وفرس ونحوه مما هو لجماعة كل واحد منهم له ذلك الاسم ، فإن أورده المتكلم قاصدا إلى واحد بعينه عنده أن المخاطب يعرفه ، فهو معرفة.

وإن أفرده على أنه واحد من جماعة لا يعرفه المخاطب ، فهو نكرة ، ولذلك جاز دخول الألف واللام عليه في الشعر تشبيها بالرجل والفرس.

قال أبو النجم :

باعد أم العمر من أسيرها

حرّاس أبواب على قصورها (١)

__________________

(١) مغني اللبيب وشرح شواهده / ٥٢ (٦٠) ، الإنصاف : ٣١٧.


وقال آخر :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

سديدا بأحناء الخلافة كاهله (١)

كأنه نكّر (يزيد) ثم أدخل عليه الألف واللام كإدخالها على الفرس والرجل.

وزعم الفراء وغيره من الكوفيين : أن دخول الألف واللام على اليزيد ونحوه للمدح والتعظيم ، وليس في أصل العربية دخول الألف واللام للمدح والتعظيم ، وإن كان يراد بذلك المدح والتعظيم فلا بد من تنكير الاسم في تقدير اللفظ ليكون دخولهما للتعريف.

فأما ما أضيف إلى معرفة ، فإنه إن كانت النية فيه التنوين وأضيف طلبا للتخفيف ، فهو على تنكيره وإن كانت النية غير التنوين وإضافة تحضره ، فهو معرفة والأصل في إضافة الاسم إلى معرفة أن يتعرف لأن اللفظ يوجب له ذلك باختصاصه إلى ما أضيف إليه ، فمن ذلك ما ذكره سيبويه من قوله :

(مررت برجل حسبك به من رجل) إلى آخر الفصل الذي نحن فيه في تفسيره ، وهو صفات من مضافات إلى معارف وهن نكرات قد بيّن أمرها ، وقد حكى عن يونس والخليل أن تلك الصفات المضافة يكون فيهن كلهن التعريف ، وطريق تعريفهن أن لا تكون النية فيهن التنوين ، ومثّل ذلك بقوله : (مررت بعبد الله ضاربك).

يجعل ضاربك بمنزلة : صاحبك ، لأن صاحبك كغلامك لا يذهب به مذهب الفعل وإن كان مأخوذا من : صحب يصحب ، لأنه قد صير بمنزلة المعروف بصحبتك.

وكذلك القول في : مثلك المعروف يشبهك ، ولذا قالوا : مررت بعبد الله شبهك ، وكان الفرق بينهما أن القائل إذا قال : مررت برجل مثلك أو شبهك ، فمعناه : رجل شابهك وماثلك في ضرب من ضروب المشابهة ، وهي كثيرة غير محصورة ، ولذا ذهب بها مذهب التنوين كأنه قال :

مررت برجل مماثل لك ، وإذا قال : شبهك أو قدم في مثلك المعروف بشبهك ، فكأنه قال : الغالب عليه شبهك حتى لا يعرف به ولا يذهب به مذهب الفعل ، كما لم

__________________

(١) منسوب لابن ميادة في معجم هارون ١ / ٢٨٧.

الخزانة ١ / ٣٢٧ ، ٣ / ٢٥٢ ـ شرح شواهد الألفية للعيني ١ / ٢٢٨ ، ٥٠٩.


يذهب بصاحب مذهب الفعل ، واستثني من جملة ذلك باب : حسن الوجه لأنه لا يتعرف كتعريف مثلك أو شبهك وضاربك ، وذلك أن الوجه هو ما على الحسن ، وقد نقل الفعل عنه إلى الأول ، وهذا المعنى لا يزول عنه ، فتقدير التنوين فيه قائم حتى حقّق الفعل للوجه تحقيق فعل الوجه لا يزول ، والتقدير :

مررت برجل حسن وجهه وذكر أبو العباس :

أن غير وإن أضيف إلى معرفة لا يتعرف ، لأنك إذا قلت : مررت بغيرك وكل ما ليس بالمخاطب فهو غيره ، فإضافته إلى المعرفة لم توجب تغيير شيء بعينه.

قال أبو سعيد : وأقول أنا : إن ل" غير" وجها يتعرف فيه ، وذلك أنها قد تستعمل في معنى المخالف كقولهم : الطالح غير الصالح ، والجواد غير البخيل. أي : المخالف له ، وقد يحصر أشياء متشابهة ، وأشياء أخر مخالفة لها ، فيقال للمشابهة : إنها واحدة ، ويقال للمخالفة لها : إنها غيرها.

وقد يتكلم المتكلم بشيء ثم يعيد مثله ، فيقال : هذا هو الأول ، وإن أعاد ما يخالفه.

قال : هذا غير الأول ، وقد يجوز عندي (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(١) معرفة ، يذهب مذهب المخالف (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(٢) لأنهم المؤمنون ، والمغضوب عليهم : الكافرون.

والفريقان مختلفان في الدين والصفة ومنه قول أبي طالب :

يا رب إمّا تخرجن طالبي

في مقنب من تلكم المقانب

فليكن المغلوب غير الغالب

فليكن المسلوب غير السالب (٣)

ثم قال سيبويه : (ومن النعت : مررت برجل إمّا قائم ، وإمّا قاعد).

قال أبو سعيد : إمّا معناها : معنى الشك وتخالف أو لأن أو حرف عطف ، وإمّا ليست بحرف عطف ، وإنما تقدم لتؤذن بالشك والتخيير ، وما جرى مجراهما ، ثم يعطف عليها بالواو وبمثلها ، فيقال : إمّا زيد وإمّا عمرو.

__________________

(١) سورة الفاتحة ، الآية : ٧.

(٢) سورة الفاتحة ، الآية : ٧.

(٣) البيتان غير موجودين في ديوانه.


قال سيبويه : (ومن النعت : مررت برجل لا قائم ولا قاعد).

قال أبو سعيد : أصل هذا : مررت برجل قائم أو قاعد ، فإذا أردت نفي الصفة ، قلت : مررت برجل لا قائم ولا قاعد ، فلم تخل بين الصفة والموصوف ، ووقع الجحة بها ، وعطفت الثانية على الأول بالواو ، وكان الأصل : مررت برجل غير قائم ، وغير قاعد.

وأعربت غير إعراب رجل لأنها نعت ، وغير اسم معرب ، وجعل مكانها لا ، وهي حرف لا يعرب ، فجعل إعراب غير فيما بعد لا.

قال سيبويه : (ومنه مررت برجل راكع لا ساجد ، لإخراج الشك ، أو أراد أن يؤكد العلم فيهما).

قال أبو سعيد : لا ها هنا للعطف ، كقولك :

قام زيد لا عمرو ، وهو لإخراج الثاني مما دخل الأول فيه ، ومعنى قوله : (لإخراج الشك) ، يعني :

الشك في أنه ساجد أو تأكيد العلم بركوعه وعدم سجوده ، ثم قال سيبويه : (ومنه : مررت برجل رجل صدق). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : أمّا قوله : (وكذلك السوء ليس بمعنى سؤته).

فأراد أن يعلمك أنه ليس بفعل فعله الرجل ، فيكون نعتا له ، والسوء هاهنا بمعنى الفساد والرداءة ، وليس من ساءني يسؤني ، والصدق بمعنى الجودة والصلاح ، فإذا قال : مررت بحمار سوء ، فقد قال : بحمار ذي رداءة ، وإذا قال : بحمار صدق ، فقد قال : بحمار ذي جودة ، ثم قال سيبويه : (ومنه مررت برجلين مسلم وكافر). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أنك إذا ذكرت اسمين مثنيين ، أو أسماء مجموعة منصوبة أو مخفوضة ، ثم جئت بعدها بنعتها معرفا ، فإنه على وجهين ، أحدهما :

أن يكون عدة النعت المفرق ، كعدة المنعوت.

والضرب الآخر : أن تكون عدة النعت المفرق أقل من عدة المنعوت ، فإذا كانت العدة في المنعوت والنعت المفرق واحدة ، وهو ما ذكره سيبويه في هذا الموضع فإن لك أن تجري النعت على لفظ المنعوت من وجهين ، ولك أن ترفع النعت ، وذكر في رفعه وجها ، وذلك قولهم : مررت برجلين مسلم وكافر ، بخفض مسلم وكافر من وجهين ، أحدهما :


أن يجعل النعت وتعريفه كجمعه ، فيصير مسلم وكافر كقولك : مسلمين أو كافرين ، ومن حيث جاز أن يفرق الاسم. ويجمع النعت في قولك : مررت برجل وامرأة وحمار قيام ، جاز أن تجمع الاسم ، ويفرق نعته ، فتقول : مررت برجل قائم وقاعد ونائم.

والوجه الثاني : أن يجريه على الأول مبدلا منه ، كأنه قال : مررت بمسلم وكافر ولم تذكر رجلين. وفسّر سيبويه خفضه على البدل بقوله : (كأنه أجاب من قال : بأي ضرب مررت) ، وإنما قدّر هذا ، لأن البدل في التقدير كأنه هو الملفوظ المتصل بالفعل ، وقد رفع مسلم وكافر على جواب من قال : ما هما؟

فكان التقدير : هما مسلم وكافر ، فيكون مسلم وكافر خبرهما ، وقد قدّر سيبويه في غير هذا الموضع الرفع على التبعيض ، ومعناه :

أحدهما مسلم والآخر كافر ، وهذا الوجه من الرفع هو الذي يستعمله النحويون في ألفاظهم كثيرا.

وأمّا إذا كان النعت المفرق أقل في اللفظ من المنعوت ، فالرفع لا غير ، وذلك قولك : بثلاثة نفر مسلم وكافر.

وإنما وجب الرفع في هذا لأنه لما نقص وجب تقدير التبعيض ضرورة ، كأنه قال :

مررت بثلاثة نفر بعضهم مسلم ، وبعضهم كافر ، لأن بعض الثلاثة جائز أن يكون اثنين ، ولا يجوز في هذا الوجه الذي قدره سيبويه غير الرفع ، لأن ذاك مبتدأ وخبر يؤتى به على تمام العدة ، وقد يعيدون الاسم توكيدا ، ويقولون : مررت برجلين رجل مسلم ورجل كافر.

وتقدير الإعراب فيه واحد ، وإعادة الاسم فيه توكيد.

قال سيبويه : (ومما جاء في الشعر قد جمع فيه الاسم وفرق النعت ، وصار مجرورا. قول الباهلي :

بكيت وما بكا رجل كبير

على ربعين مسلوب وبال (١)

كذا سمعنا العرب تنشده ، والقوافي مجرورة).

قال أبو سعيد : قد اعترض في قوله : والقوافي مجرورة فقيل : بال مرفوع مجرور بلفظ

__________________

(١) في معجم هارون ١ / ٣١٥ : الباهلي أو ابن ميادة مغني اللبيب ٣٥٦ (٢٦٢).


واحد لأنه كقاض ورام في بنات الياء ، فكيف احتج بخفض القوافي؟ وهذا لا يلزمه ، وإنما اعتمد على ما سمعه من العرب في خفض مسلوب.

وقوى ذلك أن مبنى القافية على الجر ، والشاعر المقتدر يبني القافية على موجب الإعراب رفعا أو نصبا أو جرا ، ثم يجري باقي القصيدة على تقدير ذلك الإعراب ، وإن لم يظهر ذلك الإعراب ولم يلفظ به حتى لو أطلقت كانت بحسب موجب الإعراب كما قال الحطيئة :

شاقتك أظعان للبلى يوم ناظرة بواكر

في الآل ترفعهاالحدأة فكأنها سحق مواقر(١)

جمع موقرة وهي الحاملة.

وهذه القصيدة موقوفة ، ولو أطلقت أبياتها لكانت مرفوعة كلها.

وقال الكميت :

قف بالديار وقوف زائر

تأنىّ إنك غير صاغر

ما ذا عليك من الوقوف

بهامد الطللين داثر (٢)

وهذه القصيدة موقوفة ، ولو أطلقت أبياتها كلها كانت مخفوضة. وللكميت قصيدة أخرى أولها :

يا دار هل بحولك أهل ممن يرج إليه سائل

يادار كنت محلة فيك التآلف والتواصل(٣)

وهذه القصيدة موقوفة ، ولو أطلقت كانت الأبيات كلها مرفوعة.

قال : (ومنه أيضا : مررت بثلاثة نفر : رجلين مسلمين ، ورجل كافر ، جمعت الاسم وفصلت العدة ، ثم نعتّه وفسّرته ، وإن شئت أجريته مجرى الأول في البدل والابتداء ، قال العجاج :

خوّى على مستويات خمس

كركرة وثفنات ملس (٤)

__________________

(١) ديوان الحطيئة : ١٦٥ قصيدة رقم ٤٠.

(٢) ديوانه ١ / ٢٢٣ ـ العيني ٨ / ٤٠١.

(٣) غير موجود في ديوانه.

(٤) ديوانه : ٣٥٨.


فهذا يكون على وجهين :

على البدل وعلى الصفة).

ومثل ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة ، قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ)(١).

ومن الناس من يجر ، والجر على وجهين :

الصفة والبدل ، ومثله قول كثير عزة :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزمان فشلّت (٢)

قال سيبويه : (فأما مررت برجل صالح فليس فيه إلا الصفة).

قال أبو سعيد : إنما قال : (ليس فيه إلا الصفة) لأن الرفع والصفة الجائزان في قولك :

مررت برجل راكع وساجد على الصفة ، ومسلم وكافر على خبر مبتدإ ، لا يكون مثله في قولك : مررت برجل راكع وساجد ، كأنه أجاب من قال : ما هو؟ وقد ذكر سيبويه قبل هذا.

قال سيبويه : (وإذا جئت بالنعت بلفظ واحد فإن الرفع الذي يوجبه النعت يبطل ، ويجري النعت على الاسم ، تقول : مررت بثلاثة رجال مسلمين ، لا يحسن فيه إلا الجر ، لأنك جعلت الكلام اسما واحدا حتى صار كأنك قلت : مررت بقائم ، ومررت برجال مسلمين ، وهذا قول يونس). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : فإنه يريد أن الاسم الواحد وإن كان له خبر معطوف عليه خبره ، فإنه لا يجوز فيه التبعيض ، كما أن صفات الواحد لا يجوز فيها التبعيض ، وإنما يجوز التبعيض في الخبر إذا كان الاسم مثنى أو مجموعا كقولك : كان أخواك راكع وساجد ، على معنى أحدهما راكع ، والآخر ساجد ، وكان أخوتك راكع وساجد على معنى بعضهم راكع ، وبعضهم ساجد ، وكذلك إن فرقت الأسماء وجمعت النعت لم يكن فيه تبعيض ، تقول :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣.

(٢) ديوانه : ١ / ٤٦ ـ الخزانة : ٢ / ٣٧٦.


مررت برجل وامرأة وحمار قيام ، وكذلك لو كانت الأسماء معرفة ، وجاء حال منهم مجموع بلفظ واحد ، لم يكن فيه تبعيض وكان نصبا كقولك : مررت بأخيك ، وعبد الله ، وزيد قياما ، ولا تقل : قيام ، ولو قلت : مررت بأخويك قائما وقاعدا ، جاز فيه النصب والرفع على التبعيض.

قال سيبويه : (وتقول : مررت برجل أسد شدة وجرأة). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : قولهم : مررت برجل أسد ضعيف لأن أسد اسم نوع ، ولا يوصف بالأنواع ولا بالجواهر ، وإنما الوصف بالتحلية فاحتجن لذلك إلى تقدير مثل في الوصف ، فقدرت مثل الأسد ، لأن مثل بمعنى مماثل وهو مأخوذ من فعل.

والأسماء الجارية على الفعل هي للصفات في الأصل ، فإذا قلت : مررت بزيد أسد شدة لم يقبح.

قال سيبويه محتجا لهذا : (وقد يكون خبرا ما لا يكون صفة) ، وقد ذكرنا من قول سيبويه : (هذا مالك درهما ، وهذا خاتمك حديدا) على الحال ، ولا يحسن : مررت بحديد خاتم وفضة درهم على الصفة.

قال أبو سعيد : والذي عندي : أن جواز أسد في الصفة والحال واحد ، وذلك أنك لست تريد في الحال إذا قلت : مررت بزيد أسدا شخص الأسد الذي هو السبع ، وإنما تريد شديدا.

وإذا كان أسد في الحال بمعنى شديد ، كان في الصفة مثله لأن مرجعه إلى معنى شديد ، وشديد صفة ، فإذا قلت : هذا خاتمك حديدا وهذا مالك درهما ، فإنما تريد نفس الحديد والدرهم.

قال سيبويه : (ومنه أيضا : ما مررت برجل صالح بل طالح ، أبدلت الصفة الأخيرة من الصفة الأولى). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : قد استعمله سيبويه في هذا الموضع وقبله بأسطر ، لفظ البدل على غير ما اعتاده النحويون ، لأن البدل في كلامهم هو : أن يقدر سقوط ما قبله ، ويقام الثاني مقامه ، ولو قدرنا هذا في هذا الموضع لما صح الكلام ، لأنه قال في الأول : ما مررت برجل كريم بل لئيم ، ولو أطرحنا كريما ، وجعلنا مكانه لئيم ، صار تقديره : ما مررت برجل لئيم ، وليس هذا بمراد ، فيكون معنى الكلام أنك أبدلت الإيجاب من النفي على ما


يصح من اللفظ والمعنى ، فيصير التقدير : ما مررت برجل كريم بل مررت برجل لئيم ، وكذلك : ما مررت برجل صالح ولكن مررت برجل صالح ، فالأول من الكلامين غير معمول به ، والثاني هو المعتمد عليه.

فأبدل كلاما معتمدا عليه من كلام مطرح ، وهو معنى البدل.

وقال سيبويه : (إن بل ، ولا ، ولكن تشرك بين النعتين فيجريان على المنعوت كما أشركت بينهما الواو والفاء وثم وأو ، وما أشبه ذلك). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن بل ، ولا ، ولكن حروف العطف تشرك بين الأول والثاني في الإعراب على اختلاف معانيهما ، وأما (بل) فإنها إذا أتت بعد كلام موجب فالأغلب عليها تحقيق الثاني ، والإضراب عن الأول ، ويكون الكلام غلطا من المتكلم به سبق إليه لسانه ، أو رأى ذكره ، ثم رأى ذكر غيره كما يذكر الذاكر الشيء على غير وجه الإبطال له ، ولكن يرى أنه مضى وتقضّى وقته والحاجة إلى ذكره ، وأن ما بعده أولى بالتذكر فيقول : كان كذا وكذا بل كذا ، تقول :

كان كذا ثم تقول : دع ذا أو خذ ذا الشيء الآخر.

قال زهير :

دع وعد القول في هرم

خير الكهول وسيد الحضر (١)

ولم يرد زهير إبطال ما قبله من الكلام ، وقال العجاج بعد أشياء ذكرها لم يرد إبطالها :

دع ذا وبهج حسبا مبهجا

فخما وسير مطلقا مروجا (٢)

فأما (لا بل) فإن (لا) تأتي لتوكيد إبطال ما قبلها ، وفصل سيبويه بين (بل) و (لكن) فقال في (بل) : (مررت برجل صالح بل طالح) ، على أنه نسى أو غلط فتدارك كلامه ، ولم يجز : مررت برجل صالح ولكن طالح ، على تدارك النسيان ، إنما جئت بها بعد النفي ، كقولك : ما مررت برجل صالح لكن طالح ، وأمّا لكن فإنها إذا أتت بعد منفى جاز أن يكون ما بعدها عطفا كقولك : ما زرت زيدا ولكن عمرا ، وما مررت بزيد لكن

__________________

(١) ديوانه : ٢٧.

(٢) ديوانه : ٢٩٥.


عمرو ، وما خرج زيد لكن عمرو.

وليس يكون بها عطف إلا على هذا فوجب لما بعدها ما نفي عما قبلها ، كما أن لا تنفى عما بعدها ما وجب لما قبلها ، فهي نقيضها.

قال أبو العباس : الفرق بين (لكن) و (بل) أن (بل) لا يتكلم بها إلا غالط إذا قلت : رأيت زيدا بل عمرا ، كأنك قلت :

ما رأيت زيدا بل ما رأيت عمرا ، أضربت عن الأول واعتمدت في الجحد على الثاني. قال أبو العباس : وقد تكون بمعنى لكن في قولك :

ما رأيت زيدا بل عمرا ، أي :

بل رأيت عمرا ، فمعناه : لكن عمرا.

ويجوز أن تعني : بل ما رأيت عمرا إذا أردت إبطال الأول.

والجيد أن تحمله على : رأيت ، لأنها أقرب إليه فيكون المعنى : بل رأيت عمرا.

ويجوز الرفع بعد هذه الحروف.

وتكون عاطفة جملة على جملة ، ويكون الرفع على إضمار (مبتدأ) يكون الذي ظهر خبره.

ثم قال سيبويه : (تقول : ما مررت برجل مسلم ، فكيف رجل راغب في الصدق بمنزلة :

فأين راغب؟ وزعم يونس أن الجر خطأ ، لأن (أين) ونحوها يبتدأ بهن ، ولا يضمر بعدهن شيء).

قال أبو سعيد : يريد : أنهن لا يجرين مجرى حروف العطف التي يعمل فيما بعدهن عامل الاسم الذي قبلهن ، وهذا لا يجوز في حروف الاستفهام لأنهن لا يعمل ما قبلهن فيما بعدهن.

لا تقول : رأيت زيدا فأين عمر أو فهل بشرا.

فإذا قلت : كيف رجل راغب في الصدقة؟ فرجل : مبتدأ ، وراغب : نعته ، وكيف : خبره.

وأين راغب في الصدقة؟ فراغب : مبتدأ ، وأين : خبره.

و (لكن) و (بل) لا يكونان مبتدأين فيشبّهن بحروف العطف إذ كنّ لا يبتدأ بهن.


وذكر أبو بكر مبرمان غير ذكر قوله : ولا يضمر بعدهن شيء ، أن التي يضمر بعدهما ما كان فيه معنى التخصيص ، كقولك : جئتك بدرهم ، فتقول : هلّا دينارا.

قال سيبويه :

(ومما جرى نعتا على غير وجه الكلام : هذا جحر ضبّ خرب). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : كلام سيبويه في هذا الفصل بيّن ، واحتجاجه فيه قوي ، وخلافه للخليل فيه مفهوم أيضا وأصل (لكن) العطف لأنها تدخل لإيجاب نفي عما قبلها لما بعدها لتصير حال ما بعدها مخالفة لما قبلها.

وقد استعملت للعطف في الحال التي ذكرنا.

وتدخل الواو عليها في تلك الحال ، فيصير العطف للواو ، ويكون دخول (لكن) بمعنى : التدارك للمعنى ، كقولهم : ما رأيت زيدا ولكن عمرا ، وما مررت بزيد ولكن عمرو.

ورأيت بعض النحويين من البصريين قال في :

هذا جحر ضب خرب ، قولا شرحته وقويته بما يحتمله. زعم هذا النحوي : أن المعنى هذا جحر ضب خرب : الجحر ، والذي يقوي هذا أنّا إذا قلنا : خرب الجحر ، صار من باب : حسن الوجه.

وفي خرب ضمير الجحر مرفوع لأن التقدير :

كان خرب جحره ، ومثله ما قاله النحويون :

مررت برجل حسن الأبوين لا قبيحين ، والتقدير :

لا قبيح الأبوين ، وأصله : لا قبيح أبواه ، ثم جعل في : قبيح ضميرا لأبوين ، فثني لذلك وأجري على الأول فخفض واكتفي بضمير الأبوين ، ولم يعد ظاهرهما لما تقدم لهما من الذكر ولا يشبهه عندي قوله :

 ... وجيد بطن واد

هموز الناب ... (١)

على هذه العلة لأنّا إذا خفضنا (هموز) فهو محمول على (بطن واد) ، وليس هموز

__________________

(١) البيت للحطيئة في ديوانه ص ١٣٨ والخصائص ٢ / ٣٧٢ ، وهو

فإذا إياكم وحية بطن واد

هموز الناب ليس لكم بسيّ


بمضاف إلى شيء يصححه إضافته في التقدير ، فما كان تقديره إضافة (خرب الجحر) يوجب تصحيح الخفض.

ومثله : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين ، فعطف قاعدين على قائم ، لأن معناه : قائم أبواه لا قاعدا أبواه ، ثم أضمر الأبوين فثنّي الضمير.

هذا باب ما أشرك بين الاسمين فجريا عليه

كما أشرك بينهما في النعت فجريا على المنعوت

(وذلك قولك : مررت برجل وحمار قبل.

قالوا وأشركت بينهما في الباء ، فجريا عليهما ، ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه يكون أولى بها من الحمار.

كأنك قلت : مررت بهما). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : هذا باب ساق سيبويه فيه حروف العطف ، فبدأ بالواو لأنها أقوى حروف العطف ، لأنها تعطف بها في الإيجاب والجحد ، وفي كل ضرب من الفعل ، تقول في الجحد : ما قام زيد وعمرو.

وفي الإيجاب : قام زيد وعمرو.

وتقول فيما تنفرد به الواو من ضروب الفعل ، وهو ما كان يقتضي من الفعل اثنين فصاعدا ، تقول :

اختصم زيد وعمرو ، تشاتم بكر وخالد.

ولو قلت : اختصم زيد وعمرو ، أو ثم عمرو.

واختصم زيد أو عمرو ، أو اختصم زيد لا عمرو ، ولم يجز هذا كله ، لأن هذه الحروف إنما تعطف بها على فاعل واحد في الفعل الذي يكتفي بفاعل واحد ، كقولك : قام زيد ، فإذا كان الفعل لا يكتفي ، لم يكن بد من واو وذلك في : اختصم وبابه لأنك لا تقول : اختصم زيد ، إذا كان الاختصام لا يكون من واحد.

ولو قلت : اختصم الزيدان أو العمران ، جاز لأنك قد جئت للفعل بما اكتفى به ، ثم عطفت بالفاء وغيرها على ما هو مكتف ، ولو قلت : اختصم الزيدان فعمرو ، لم يجز حتى تضم إلى عمرو اسما آخر بالواو ، فتقول :

اختصم الزيدان فعمرو وخالد ، لأن الفاء ليس لها الجمع ، إنما لها التوالي ، وهي


بمنزلة عامل آخر.

فإذا كان الفعل المعطوف عليه يقتضي فاعلين مثل : اختصم ونحوه ، لم يجز أن يعطف عليه بالفاء اسما مفردا ، لأنه لا يكون من واحد ، ويجوز بالواو لأنها تشرك الواحد مع من تقدمه.

واعلم أن حروف العطف عملها الاشتراك بين الثاني والأول في الإعراب.

وتختلف معانيها ، فأمّا الواو : فإنها مع إشراكها بينهما في الإعراب تشرك بينهما في المعنى حتى يكون الثاني داخلا فيما دخل الأول فيه من المعنى المذكور للأول في الجمع والتفريق.

فالجمع : مررت بزيد وعمرو ، وقد مررت بأحدهما في وقت ، وانقطع مرورك ثم مررت بالآخر بعد حين.

وهذا الذي يسميه سيبويه : (مرورين).

وأجمع النحويون واللغويون من البصريين والكوفيين أن الواو لا توجب تقدم ، وما تقدم لفظه.

قال الله تعالى في قصة واحدة في البقرة :

(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ)(١).

وقال في الأعراف :

(وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)(٢) فأما الفاء فإنها وضعت للاتصال ، ودخول الثاني فيما دخل فيه الأول متصلة به ، كقولك : ضربت زيدا فبكى ، وأعطيته فاستغنى وضربت زيدا فعمرا ، ودخلت الكوفة فالبصرة.

فالثاني بعد الأول وهو متصل به ، وداخل في معناه ، فزيد داخل في الضرب ، والبصرة داخلة في الدخول مثل الكوفة ، ومعنى ذلك : أنه لم يقطع سيره الذي دخل به الكوفة حتى وصله بالسير الذي دخل به البصرة ، لم تحدث بينهما مهلة ولا فتور.

وأمّا (ثم) فسبيلها سبيل الفاء في أن الثاني داخل في معنى الأول ، وأنه بعده إلا أن

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٨.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٦١.


بين الثاني والأول مهلة.

ولذلك قال سيبويه :

(مررت برجل أو امرأة أشركت بينهما أو في الإعراب ، وأثبت المرور لأحدهما دون الآخر).

وأما (لا) فهي تنفي عن الثاني ما وجب للأول ، كقولك : مررت برجل لا امرأة أوجبت المرور للأول ، ونفيته عن الثاني ، وفصلت بينهما عند من التبسا عليه ، فلم يدر بأيهما مررت.

وهذه الحروف لازمة للعطف ، وقد استعمل غيرها في العطف مما ليس بلازم كلزومها ، وقد ذكر في موضعه.

وقد جاء بعض هذه الحروف على غير الوضع الذي ذكرناه في الظاهر وفيه تأويل يرده إلى أصله ، وخلاف بين الناس.

قال الله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا)(١) ، فقال قائل :

كيف يحيى الناس بعد الهلاك على موضع الفاء من اتصال الثاني بالأول ومجيئه بعده؟

فالجواب : أن دخول الفاء في هذا الموضع ونحوه ، يجري مجرى الفاء في جواب الشرط ، وجواب الشرط قد يكون متأخرا في الكلام ومتقدما في العامل ، كقول القائل :

من يظهر منه الفعل المحكم فهو عالم به ، ومن يقتصد في نفقته فهو عاقل.

ومعلوم أن العلم بالفعل المحكم قبل ظهوره ، وعقل المقتصد قبل الاقتصاد ، وإنما تقدير ذلك من يظهر منه الفعل المحكم فيحكم له أنه عالم به.

وكذلك لو جعلناه خبرا فقلنا : زيد فقد ظهر منه الفعل المحكم ، فهو عالم به أو فهو محكوم له بالعلم بعد ظهور ذلك ، فكذلك قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً)(٢) ، أي لما أهلكها الله تعالى ، حكم بأن البأس جاءها بياتا أو بالنهار ونحو هذا في القرآن والكلام.

قال الله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ)(٣) والخطاب لليهود بعد قتل أسلافهم

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٩١.


للأنبياء على معنى :

لم ترضون بذلك وقد قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)(١) إلى قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ)(٢) الآية؟

ومعلوم أنه لا يشترط في الآخرة شروط الثواب والعقاب. وعن هذا جوابان :

أحدهما : أن معنى : فمن يعمل ، أي : من يظهر ذلك اليوم في صحيفته خير أو شر ير مكافأته.

والآخر : أن معنى فمن يعمل في الدنيا ويكون كون الفاء بعد ذكر ما ذكره في الآخرة على معنى أن ما يكونه الله تعالى في الآخرة من الشدائد التي ذكرها توجب أنه من عمل في الدنيا خيرا أو شرا يراه كما يقول القائل :

الآخرة دار المجازاة ، فمن يعمل خيرا يره ، ولم يرد خيرا مستأنفا دون ما عمله العاملون ، قال الشاعر في نحو ما ذكرنا :

إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن

عارا عليك وبعض قتل عار (٣)

وقال آخر :

إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب (٤)

والخطاب لمقتولين بعد قتلهما على معنى :

أن يفجروا بقتلك ، وقد يكون ذلك ـ أيضا ـ على مذهب الإرادة ، فيكون التقدير : وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كما قال تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(٥) والقيام بعد غسل الوجه ، والمعنى : إذا أردتم القيام للصلاة. وقال الفراء : وربما أتى في الكلام سابقا إذا كان في الكلام دليل السبق ، فإذا عدم الدليل لم يجز ، وذكر قول الله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا)(٦) ، فذكر

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية : ١.

(٢) سورة الزلزلة ، الآية : ٦.

(٣) البيت لثابت قطنة كما في البيان والتبيين ١ / ٢٩٣ ، المغني ١ / ٣٥ ، ١٥٤ ، والخزانة ٩ / ٧٦.

(٤) البيت لربيعة بن أبي ذؤاب. دلائل الإعجاز / ١٦٦.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٦.

(٦) سورة الأعراف ، الآية : ٤.


عن قرية جاءها البأس قبل الهلاك ، كما قالوا في قوله :

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(١) ، ثم خلقكم منها.

وقد قيل : خلقكم من نفس وحدها ، ثم جعل الزوج منها بعد التوحيد ، فأفادت (واحدة) هذا المعنى.

قال : والأجود في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ)(٢) أن يريد أصلكم الذي هو آدم.

كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً)(٣) معناه : خلق أصلكم الذي هو آدم من طين.

وقال الفراء في قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا)(٤) : إذا كان الشيئان يقعان في حال واحدة ، نسقت بأيهما شئت على الآخر بالفاء ، كقولك : أعطيتني فأحسنت ، وأحسنت فأعطيتني لا فرق بين الكلامين ، لأن الإحسان والإعطاء فيهما واحد.

قال أبو سعيد : وهذا شبه الذي بدأت به في تفسير الآية ، لأنا متى جعلنا أحدهما شرطا،جاز أن يجعل الآخر جوابا ، فدخل الفاء من حيث جاز أن يكون جوابا،كقولك :

إن أعطيت أحسنت ، وإن أحسنت أعطيت ، وإن تعط فأنت محسن ، وإن تحسن فأنت معط.

وقال غير الفراء في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)(٥) :

معناه : ثم كان قد استوى على العرش قبل أن يخلق السموات والأرض ، وهذا يشبه الجواب الذي حكاه الفراء في قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا)(٦) وقالوا فيها جواب آخر على جعل (ثم) للتقديم ، تقديره : هو الذي استوى على العرش ثم خلق السموات والأرض ، كما قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٧) ومن هذا ـ أيضا ـ ما ادعاه

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١١.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٢.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٥) سورة الحديد ، الآية : ٤.

(٦) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

(٧) سورة النمل ، الآية : ٢٨.


ناس يزعمون أن الله تعالى خلق السموات قبل الأرض ، وأن قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)(١) لم يجب ب (ثم) تأخير خلق السماء منه ومنهم مقاتل بن سليمان ، ومنه دعوى من يدعي أن (ثم) لا توجب تأخير ما بعدها من قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٢) وقد علم أن الاهتداء يتأخر عن التوبة والإيمان والعمل الصالح ، وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)(٣) وليست التوبة متأخرة عن الاستغفار.

قال أبو سعيد : هذا كله يخرج على الموضع الصحيح في (ثم) من تأخيرها ما بعدها عما قبلها بتأويل يشهد به كلام العرب ، أما قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)(٤) ، فإن الاستواء بمعنى الاستيلاء كان ، أو بمعنى غيره لا يصح إلا على الموجودات بعد خلقه إياها ، والعرش داخل في خلق السموات والأرض ، ثم صرفها ودبرها كيف شاء قاهرا لها. وقال الفراء : (ثم) تدل على تأخير الخبر في كلام المخبر على أنه متأخر في أصل البنية فتقديره في التلخيص : هو الذي خلق السموات والأرض ، ثم اسمعوا إذا الخبر الأخير الذي ذكر لكم بعد الخبر الأول ، وهو أنه استوى على العرش ، ف (ثم) أوجبت تأخير كلام بعد كلام ، وإفادة بعد إفادة. ومثله من كلام العرب أن الإنسان يعدّد إحسانه فيقول : فعلت بك اليوم وأعطيتك ، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر ، وأما قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٥) فليس التولي : الانصراف عنهم ، وإنما معناه : تنحّ عنهم بعد إلقاء الكتاب إليه ، بحيث يكون عنك بمرأى ومسمع ، فانظر ما ذا يرجعون من جواب الكتاب.

وأما خلق الله الأرض قبل السماء على ظاهر قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)(٦) ، فهو الصحيح الذي أقول به ، وهو المأثور عن ابن عباس ، ومجاهد ،

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١١.

(٢) سورة طه ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة هود ، الآية : ٩٠.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ٥٤ ـ ويونس : ٣ ـ والرعد : ٢ ـ والفرقان : ٥٩ ـ والسجدة : ٤ ـ والحديد : ٤.

(٥) سورة النمل ، الآية : ٢٨.

(٦) سورة فصلت ، الآية : ١١.


وغيرهما من أئمة التفسير.

فأما قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(١) ففيه قولان : أحدهما ، أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوّة ، ثم دحيت بعد ما ذكره الله تعالى من أمر السماء.

والقول الآخر ، أن تكون (بعد) بمعنى (مع) ، ومع تكون بمعنى بعد ، فأما (بعد) بمعنى (مع) فقوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)(٢) أي : مع ذلك.

وقال الشاعر :

فقلت لها فيئي إليك فإنني

حرام وإني بعد ذاك لبيب (٣)

فمعنى بعد ذاك ، أي : مع ذاك ، واللبيب هاهنا : الملبي ، والتلبية مع الإحرام فأما (مع) بمعنى (بعد) فقوله تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(٤) ، معناه : أن بعد العسر يسرا ، وقوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٥) فمعنى ذلك : ثم داموا على التوبة ، ومعنى ثم اهتدى : ثم دام وثبت على ذلك.

وقد ظهر من كلام سيبويه العامل في الاسم الأول والثاني واحد ، وهو الجار الذي جر الأول بقوله : (في كل واحد من الواو ، والفاء ، وثم ، وأو ، فلا أشركت بين الاسم الأول والثاني في الباء ، والباء عاملة في الاسمين) ، والدليل على ذلك أن الاسمين إذا أمكن تثنيتهما ، والأسماء إذا أمكن جمعها لم يحتج إلى الواو ، وفي قولك : مررت برجلين ، ومررت برجال ، وقام الزيدان والزيدون ، وإنما يحتاج إلى حرف العطف لمعارض يحوج إلى تفريق الاسمين أو الأسماء لاختلافهما أو لاختلاف أحوالهما ، وذكر سيبويه في هذا الباب كيف نفي الموجب ، ومما ذكر أنك إذا قلت : مررت بزيد وعمرو وجاز أن يكون مرور واحد وقع عليهما في حال واحدة ، ويجوز أن يكون مرّ بهما مرورين في حالين.

وإذا كان المرور بهما واحدا ، فنفيه أن يقول : ما مررت بهما ، وإذا كان في مرورين قلت : ما مررت بزيد ، وما مررت بعمرو.

__________________

(١) سورة النازعات ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة القلم ، الآية : ١٣.

(٣) البيت في الخزانة ١ / ٢٧٠ ، شروح سقط الزند / ١١٤٣.

(٤) سورة الشرح ، الآية : ٦.

(٥) سورة طه ، الآية : ٨٢.


قال المازني ردا على سيبويه :

(نفي هذا وإن أراد مرورين ما مررت بزيد وعمرو).

قال : والذي قال سيبويه خطأ ، قال : ولو قال مررت بزيد ومررت بعمرو كان نفيه : ما مررت بزيد ، وما مررت بعمرو.

قال أبو سعيد : وما قال سيبويه أصح وأجود ، وذلك أن الثاني مكذّب للمثبت فيما ثبّته وخبّر به.

فإذا كان الذي خبّر به مرورين كل واحد منهما وقع بأحد الرجلين ، وقال : ما مررت بهما.

احتمل أن تريد : وما مررت بهما بمرور واحد ، فلا يكون مكذّبا ، وإذا قال : ما مررت بزيد ، وما مررت بعمرو ، فقد كشف التكذيب له وأبطل التأويل.

قال سيبويه : (وجواب" أو" أن نفيت الاسمين).

يعني : إذا قلت : مررت بزيد أو عمرو ، وما مررت بواحد منهما.

(وإن أثبت أحدهما ، فقلت : ما مررت بفلان).

وقال المازني : إذا قلت : ما مررت بواحد منهما ، فهو جواب" أو" في المعنى ، وجوابها في اللفظ : ما مررت بزيد أو عمرو والحدّ ما قاله سيبويه لأن النافي إذا قال : ما مررت بزيد أو عمرو ، فالظاهر أنه نفى مروره بأحدهما ، والمثبت إنما أثبت مروره بأحدهما فلم يثبت مروره بالآخر.

فيجوز أن يكون الذي نفاه النافي هو الذي لم يثبته المثبت فلا يكون تكذيبا.

هذا باب البدل والمبدل منه

(والبدل يشرك المبدل منه في الجر وذلك قولك : مررت برجل حمار ، فهو على وجه محال ، وعلى وجه حسن). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : قد مضى هذا الضرب من البدل مشروحا في باب البدل ، وقد ذكر أشياء فيها حروف العطف فسماها بدلا ، وتلك الحروف : بل ، ولا بل ، ولكن ، وأو.

ولو قال عقيب الأول ، ومثل ذلك قولك :

لا بل حمار ، تريد : مررت برجل لا بل حمار.

قال : (ومن ذلك : مررت برجل بل حمار وهو على تفسير : مررت برجل حمار.


ومن ذلك : ما مررت برجل ، ولكن حمار ، وأبدلت الآخر من الأول وجعلته مكانه).

وقال في الباب : (ومن المبدل ـ أيضا ـ قولك : قد مررت برجل أو امرأة ، إنما ابتدأ بيقين ، ثم جعل مكانه شكا أبدله منه ، فصار الادعاء فيهما سواء) ، واعتمد على أن ابتداء الكلام إذا كان يوجب أمرا ثم جاء بما يبطله ، ويوجب الثاني نحو : بل ، ولا بل ، فهو بدل شبيه بدل الغلط الذي بدأ به ، وهو في معناه ، وجعل لكن كذلك لأنه أوجب وحقق إبطال الأول.

و (بل) و (لكن) إذا كان قبلهما جحد فهما في المعنى سواء كقولك : ما مررت برجل بل عمرو ، وما مررت بزيد لكن عمرو ، وجعل أو من الباب ، لأنك بدأت بالأول على لفظ اليقين ثم شككت فيه ، والتشكيك فيه كالإبطال له ، ولهذا شبه (أو) ب (لكن) حين قال في (أو) (ابتداء بيقين ثم جعل مكانه شكا) ، فهو شبيه بقوله : ما مررت بزيد ولكن عمرو ، ابتدأ بنفي ثم جعل مكانه يقينا.

فإن قال قائل : فهلا جعل قولك : مررت بزيد لا عمرو من هذا ؛ لأنه نفي بعد الإيجاب بمنزلة التوكيد للإيجاب المتقدم ، كما أن قولك : هذا زيد لا شك فيه ، كقولك : هذا زيد حقا ، فقولك : مررت بزيد لا عمرو ، كقولك : مررت بزيد حقا.

فأما قول سيبويه : (وقد يكون فيه الرفع على أن يذكر الرجل) ، وذكر الفصل.

قال المفسر : وجعل سيبويه رفعه بإضمار اسم مكنيّ يكون الظاهر خبره ، ويكون ذلك المكني على ضربين :

أحدهما : أن يكون قد جرى ذكره فيضمر الاسم الذي ذكره.

والآخر : أن تعرف المعنى فيضمر ذلك المعنى وإن لم يجر ذكره.

فأما ما جرى ذكره فأضمر : فهو الكلام المعروف وهو تمثيله برجل يذكر فيقول : أنت قد مررت به ، وقد مررت برجل بل هو حمار ، ويكون هو الرجل المذكور.

وأما الذي أضمر ولم يذكر ، فقولك : ما مررت ببغل ولكن حمار ، تريد : ولكن هو حمار ، معناه : لكن الذي مررت به حمار لأن قولك : ما مررت ببغل قد دلّ عليه فكني لدلالة الكلام عليه ، وجعل الأقوى في الكناية ما جرى ذكره لقرب المكني بالذكر وإضمار الذي لم يجز ذكره عربي جلي. لأن معناه ما مررت بشيء هو بغل فجاز هذا ، وإن لم يجز ذكره كما جاز في المنعوت الذي جرى ذكره نحو : ما مررت برجل صالح بل طالح ،


أي : بل هو طالح ، والضمير لرجل ، وقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(١) رفع عباد على الوجهين المتقدمين ، أحدهما : أنهم كانوا ذكروا الملائكة ، واتخاذ الله ـ تعالى ـ إياهم أولادا ، فنزه نفسه عن ذلك فقال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(٢) ، أي : بل هم عباد ، و (هم) إضمار شيء جرى ذكره في كلام القوم فلذلك أضمر.

الوجه الآخر : بتقدير : بل الذين قالوا اتخذهم الله ولدا عباد مكرمون من غير ذكر جرى لهم.

قال سيبويه : (وأما قولهم : أمررت برجل أم امرأة؟ إذا أردت معنى أيهما مررت به ، فإن (أم) تشرك بينهما كما أشركت (أو)).

فإنه يعني أن (أم) للعطف وللإشراك بين الأول والثاني في الإعراب ، وليست من حروف البدل التي تقدم ذكرها.

ثم قال سيبويه : (وأما مررت برجل فكيف امرأة ، فزعم يونس أن الجر خطأ ، وقال : هو بمنزلة أين). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : مذهب البصريين أن العطف لا يجوز بشيء من حروف الاستفهام ، فأمّا الكوفيون فقد أجازوا النسق وهو العطف ب (أين وكيف وألا وهلّا).

وألزم سيبويه من أجاز النسق بأين وكيف بلم وبكم ، فقال : (ينبغي أن يجيز ما مررت بعبد الله فلم أخيه؟ وما لقيت زيدا فلم أبا عمرو ، تريد : مررت بأخيه ، وبكم لقيت أبا عمرو). وهم لا يلتزمون ذلك.

والمنصوب والمرفوع في البدل والشركة كالمجرور.

هذا باب مجرى نعت النكرة عليها

(والمعرفة خمسة أشياء). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن التعريف معلق بمعرفة المخاطب دون المتكلم. وقد يذكر المتكلم ما يعرفه هو ولا يعرفه هو ، فيكون منكورا ، كقول الرجل لمخاطبه : في دار الرجل بستان ، وعندي صديق لي ، وهو لا يعرف الرجل بعينه والبستان ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٦.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٦.


المتكلم أيضا لا يعرف ، كقول الرجل لمخاطبه : أنا في طلب غلام أشتريه ، ومنزل أكتريه ، ولا يكون قصده شيئا بعينه ، فإذا نادى المتكلم شيئا تعرّف بقصده إياه ووقع اليد عليه بعينه ، كقولك : يا رجل ، ويا غلام وسنقف على ذلك في باب البدل إن شاء الله ، وهذه المعارف كلها قد توصف كلها إلّا الإضمار وحده ، ولا يوصف إلّا بمعارف ، كما أن النكرات لا توصف إلّا بالنكرات ، وقد جرت مجرى النعت على المنعوت في بابه إلا نعت المبهم ، فإن نعته يخالف نعت غيره ، وذلك أنه ينعت بأسماء الأجناس ، كقولك : مررت بهذا الرجل ، ودخلت هذا البستان ، وجاءني ذلك الرجل ، وأولئك القوم ، ونحو ذلك ، وإنما نعت المبهم بأسماء الأجناس لأن طريق نعته على غير طريق نعت غيره ، وذلك أن غير المبهم يحتاج إلى النعت إذا شاركه غيره في لفظه فبان من غيره بذكر شيء يكون فيه تحلّى به دون غيره مما يحلى به ، والمبهم إنما دخل وصلة لخروج ما فيه الألف واللام عن العهد إلى الحضور ، وذلك أن الألف واللام يدخلان للعهد ، كرجل وغلام عهده أو لابساه في بعض الأمر ، فقال أحدهما : ما فعل الرجل أو الثوب أو الفرس.

وقد يكون الشيء بحضرة اثنين لم يكن بينهما فيه عهد ، فيريد أحدهما الإخبار عنه معرفا له ، فلا يمكنه الإخبار عنه لعدم العهد بينه وبين مخاطبه فيه ، فيأتي بأسماء الإشارة فيتوصل بها وينتقل من تعريف العهد إلى تعريف الإشارة مثال هذا ، فإن قيل له : أما تقول ابتداء من غير تقدم : البس هذا الثوب ، واشتر هذا الغلام ، فلا يحتاج المخاطب إلى عهد يعرف به الرجل كاحتياجه إليه في قوله : ما فعل الرجل؟ واشتر الغلام والبس الثوب وقد تكون الإشارة غير متوصل بها إلى ما فيه الألف واللام ، كقولك : جاءني هذا ، ورأيت هذا ، ونظير ذلك قولهم : يا أيها الرجل.

جعلوا (أيها) وصلة إلى نداء الرجل لأنه لو لم يتوصل بها لم يكن نداء ما فيه الألف واللام ، ويجوز أن ينادي هذا كما ينادى (زيد) ، فإذا جعلته وصلة لما فيه الألف واللام قلت : يا هذا الرجل ، وإن لم يجعل وصلة قلت : يا هذا كما تقول : يا زيد ، وكما تستغني به إذا قلت : مررت بهذا ، والأصل في نعت هذا أن ينعت بالأسماء لما ذكرناه أنه وصلة إلى ذكر الاسم الذي فيه الألف واللام.

وقد يجوز أن ينعت بالصفة التي فيها الألف واللام من حيث جاز أن تنقل الصفة التي فيها الألف واللام من تعريف العهد إلى تعريف الحضرة والإشارة ، وذلك أنك تقول :


مررت بالظريف ، فتكون الألف واللام في الظريف للعهد.

تقول : مررت بهذا الظريف ، فيصير للإشارة ، ولو لا ما ذكرنا من التوصل بهذا إلى ما فيه الألف واللام لما احتاجت إلى صفة لأنها ليست باسم ثابت لما وقع عليه ثم شركه غيره ، فيحتاج إلى فصل بينهما بالنعت ، ولما كان طريق نعت هذا والأصل فيه ما ذكرنا ، خالف حكمه حكم نعت غير المبهم في أن المبهم لا يوصف بالمضاف ولا يفصل بينه وبين نعته ، تقول في غير المبهم : مررت بزيد غلام عمرو وبزيد ذي المال ، وتقول : مررت بزيد اليوم الظريف ، ولا تقول : مررت بهذا اليوم الرجل.

فأمّا منع النعت المبهم بالمضاف ، فلأن المبهم دخل لينقل ما فيه الألف واللام من تعريف العهد إلى تعريف الإشارة والمضاف تعريفه بالمضاف إليه ولا يتغير.

وأمّا منع الفصل بينه وبين النعت ، فلأن المبهم لما أحدث تعريفا لنعته صار كجزء في التعريف للألف واللام ، ولا يفصل بين الألف واللام وبين ما اتصلا به وأشبه ـ أيضا ـ ب (أيها الرجل) ، فلا يفصل بينهما وقد قال سيبويه : (أنت لا تقول : مررت بهذين الطويل والقصير ، نعتا لهذين) ، وهو معنى قوله : تجعله من الاسم الأول ، وإنما لم يجز ذلك لما ذكرنا من فساد الفصل بين المبهم ونعته ، لأن القصير لم يل الإشارة لفصل الطويل بينه وبين الإشارة.

وحكى أبو بكر مبرمان عن بعض أهل النظر ، قال : إنما لم أقل : مررت بهذين : الطويل والقصير ، لأن الإشارة تذهب ، وذلك أنك إذا قلت : بهذين الطويلين ، فالإشارة واحدة ، وإذا عطفت فالمعطوف يذهب بالإشارة ، وهذا تعرفه بالقلب إذا قدرت.

قال سيبويه : (اعلم أن العلم الخاص من الأسماء يوصف بثلاثة أشياء).

وذكر الفصل.

قال الشيخ رحمه‌الله : قوله : (يوصف بالمضاف إلى مثله) يريد إلى مثله في أنه معرفة ، لا في أنه علم ، لأن العلم يوصف بالمضاف إلى الضمير وإلى سائر المعارف ، كقولك :

مررت بزيد غلامك ، وغلام عمرو ، وغلام الرجل ، وغلام هذا ، ونحو ذلك.

ثم قال سيبويه : (والمضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء). وذكره.

قال أبو سعيد : مذهب سيبويه أن نعت المعرفة إذا كان أخص من المنعوت لم يجز ،


وإن حق الكلام أن يجعل الأخص هو الذي يبدأ به ، فإن اكتفى به المخاطب لم يحتج إلى أن يأتي بنعت وإلّا زدت من المعرفة ما يزداد به المخاطب معرفة ، ومن مذهبه : أنهما إذا كانا مستويين في الاختصاص وطريق التعريف ، جاز أن يكون أحدهما نعتا للآخر كنعت ما فيه الألف واللام ، مثله ما فيه الألف واللام ولم يجز سيبويه نعته بما فيه الألف واللام ، لأنه يراه أخص منه ، فيرى أن أخاك أخص من الرجل ، ومن الطويل والنبيل ونحوه ، والحجة له أن ما فيه الألف واللام أبهم المعارف وأقربها من النكرات ، لأن منها ما ينعت بالنكرات كقولك : إني لأمر بالرجل عندك فيكرمني ، ويقوم لي.

وإني لأمر بالرجل مثلك فيعينني ، إذا لم تقصد قصد الرجل بعينه ، وعلى هذا حمل قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(١) جعل (غير) نعت الذين ، وهي في مذهب الألف واللام الذي لم يقصد به قصد شيء بعينه ، ويدل على ذلك أن من المعرفة بالألف واللام ما يستوي في معناه الألف واللام وتركها ، وذلك نحو قولك : شربت ماء ، وشربت الماء ، وأكلت خبزا وأكلت الخبز ، وامتنع أن ينعت ما فيه الألف واللام بالمبهم من أجل أن المبهم لما جعل وصلة مقدمة إلى ذكر ما فيه الألف واللام علم أنه لو كان يقع بعد الألف واللام ما يريدونه من البيان ما احتاجوا إلى التوصل إلى الألف واللام بهما ، وقد بيّن سيبويه بأن المبهم أخص بمعرفة العين ، يعني : المشاهدة ومعرفة القلب له ، وما اجتمع له.

هذان أخص والأخص لا يكون نعتا للأعم ، فإن قال قائل : فقد جعل سيبويه المبهم نعتا للعلم وللمضاف ، كقولك : مررت بزيد هذا ، وبعمرو ذاك ، ومررت بصاحبك هذا ، وقد اجتمع فيه معرفة العين ومعرفة القلب ، ولم تجتمع هاتان المعرفتان في : زيد وصاحبك.

فالجواب إن ذكر هذا وذلك بعد زيد وبعد صاحبك ، يذهب به مذهب الحاضر أو المشاهد أو القريب ، وبذاك مذهب البعيد أو المنتحي ، ولهذا قال سيبويه :

(وإنما صار المبهم بمنزلة المضاف ، لأنك تقرب به شيئا أو تباعده وتشير إليه).

__________________

(١) سورة الفاتحة ، الآية : ٧.


فإذا قيل : مررت بزيد هذا ، وبصاحبك هذا.

فكأنه قال : مررت بزيد الحاضر ، ولم يغير هذا تعريف زيد ولا تعريف صاحبك باقترانه معهما.

لأنه لا يتغير زيد عن تعريف العلم ، ولا صاحبك عن تعريف الإضافة باقترانهما بهذا.

ووجه آخر في نعت زيد والاسم العلم بهذا على ترتيب سيبويه ، أنّا نقول : إن وضع الاسم العلم في أحواله لشيء بيّن به من سائر الأشخاص كوضع هذا في الإشارة لشيء بعينه ، فاجتمعا في معنى ما وصفنا والمعرفة في أول أحوالهما ، وصار كالمشار إليه في وضع الاسم عليه وحده كوضع الإشارة على المشار إليه ، وفصله العلم مكان الاسم له بذكر حال ورودك الاسم على المشار إليه في الغيبة.

وذكر المبرد فيما رد على سيبويه أن ما ذكره سيبويه في الصفات : أن الأخص يوصف بالأعم ، وما كان معرفة بالألف واللام ، فهو أخص مما أضيف إليه الألف واللام ، فلا ينبغي على هذا القياس : رأيت غلام الرجل الظريف ، ذلك على البدل. وما ذكره المبرد لا يلزم ، لأن سيبويه يقول : إن غلام الرجل أعمّ من الرجل ، بل عنده أنّ المضاف إلى ما فيه الألف واللام مثل ما فيه الألف واللام ، ولما نعتت العرب بذلك وكثر في كلامهم ، علمنا أنه لا فرق بينهما عنده.

قال سيبويه : (وتقول : مررت بأخويك مسلما وكافرا ، هذا على من جر وجعلهما صفة).

قال أبو سعيد : في هذه المسألة ثلاثة أوجه : أحدهما : مررت بأخويك مسلما وكافرا.

والثاني : مررت بأخويك مسلم وكافر.

والثالث : مررت بأخويك مسلم وكافر.

أما من نصب فهو الذي كان يقول : مررت برجلين مسلم وكافر ، على الصفة. فصارت الصفة حالا لتعريف الموصفين ، وأمّا من جر فهو الذي كان يقول : مررت برجلين مسلم وكافر على البدل. فلما عرف الأول لم يتغير البدل لأن النكرة تبدل من


المعرفة ، كما قال تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ)(١) وكما قال الشاعر :

فإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي

عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه

عرفوا موارد مزبد لا تنزف (٢)

أبدل ملكا وهو نكرة من عمرو وهو معرفة.

وأمّا الذي يرفع فهو الذي يقول :

مررت برجلين مسلم وكافر ، على ما فسرنا قبل.

وكما قال الفرزدق :

فأصبح في حيث التقينا شريدهم

طليق ومكتوف اليدين ومزعف (٣)

فشريدهم جماعة منهزمون وطليق ، وما بعده على الابتداء المعنى منهم طليق ، وما بعده على الابتداء ، وبمعنى منهم طليق ، ومنهم مكتوف اليدين ، ومنهم مزعف بكسر العين على ما رواه حملة الكتاب.

وغيرهم يقول : مزعف بفتح العين ، يقال : أزعفه الموت ، إذا قاربه ، وهو مأخوذ من قولهم : موت زعاف وذعاف ، أي : معجل ، وكما قال الآخر :

فلا تجعلي ضيفيّ ضيف مقرّب

وآخر معزول عن البيت جانب (٤)

على تقدير : منهما ضيف مقرب ، ومنهما آخر معدول ، ولو لم يرد ذلك لنصب فقال : ضيفا مقربا ، كما قال :

وكانت قشير شامتا بصديقها

وآخر مزريا عليه وزاريا (٥)

وكما قال :

ترى خلقها نصف قناة قويمة

ونصف نقا يرتج أو يتمرمر (٦)

وبعضهم ينصبه على البدل ، وإن شئت كان بمنزلة : رأيته قائما ، كأنه صار خبرا ،

__________________

(١) سورة العلق ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

(٢) البيتان ل (معقر بن حمار) : الخزانة ١ / ٧٢ ، الدرر اللوامع ٢ / ١٦٥.

(٣) ديوان الفرزدق / ٥٦٢ ، الخزانة ٢ / ٢٩٩.

(٤) قائل البيت العجير السلولي الخزانة ٢ / ٢٩٨.

(٥) قائل البيت النابغة الجعدي ديوانه ١٧٨ ، الخزانة ٢ / ٢٩٨.

(٦) قائل البيت ذو الرمة ديوانه ٢٢٦ ، الخصائص لابن جني ١ / ٣٠١.


يعني حالا على حد من جعله صفة للنكرة.

ورد أبو العباس نصب نصفا على الحال فقال :

هو خطأ ، وذلك أن نصفا ينبغي أن يكون معرفة.

والعلة التي ادعى بها التعريف في بعض ، وكلّ من الإضافة وهي في (نصف) لأن معنى قوله في نصف نصفه كما أنه إذا قال : مررت ببعض قائما أو بكل جالسا قائما ، فإنما يريد : بعضهم وكلهم.

والذي قاله خطأ. والقول ما قال سيبويه لأن النصف بمنزلة الثلث وسائر الأجزاء إلى العشرة ، ويثنى ويجمع كما يفعل بالثلث وما بعده ، تقول : المال نصفان ، وهذه القوارير إلى أنصافها ، وليس هذا في كل ولا في بعض. ومن أوضح ما يبطل قوله ، قوله تعالى : (فَلَهَا النِّصْفُ)(١) ثم قال سيبويه : (واعلم أن المضمر لا يكون موصوفا). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : إنما لم يوصف المضمر لأنك إنما تضمر ما ترى أن المخاطب يعرفه ، وإنما الصفة تحلية يفرق بها بين أسماء لوازم مشتركة اللفظ.

وقوله : (ولكن لها أسماء تعطف عليها تعمّ وتؤكّد) فإن معنى قوله : تعطف عليها ، أي : يبين بها عمومها وتؤكد ، وليس بعطف النسق الذي هو بحروف العطف ، ولكن هو على مذهب عطف البيان جاريا مجرى النعت لما قبله ، لأن النعت تبيين كما أن العموم تبيين ، ولأجل هذا سمى النحويون العموم والتوكيد صفة للمضمر.

وقوله : (وذلك مررت بهم كلهم ، أي : لم أدع منهم أحدا ، ويجيء توكيدا كقولك : لم يبق منهم مخبّر ، وقد بقي منهم).

فإنه يريد أنك إذا قلت : مررت بهم كلهم وأردت : لم أدع منهم أحدا فهو عموم وإن كان قد بقي منهم من لم تمر به ويكون قوله : (كلهم على جهة التنكير لما مرّ به) ، فهو توكيد جعل من مرّ به منهم كأنهم الجماعة ، (ومنه ـ أيضا ـ مررت بهم أجمعين أكتعين ، ومررت بهنّ جمع كتع ، ومررت به أجمع أكتع ، ومررت بهم جميعهم ، فهكذا هذا وما أشبهه ، ومنه : مررت به نفسه ، ومعناه : مررت به بعينه) ، فهذه أشياء ذكرها

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١١.


سيبويه مما تجرى على المضمر من العموم والتوكيد. وقد ذكر.

قال سيبويه : (واعلم أن العلم الخاص من الأسماء لا يكون صفة لأنه ليس بتحلية ولكنه يكون معطوفا على الاسم كعطف أجمعين ، وهذا قول الخليل ، وزعم أنه لذلك ، قال : يا أيها الرجل زيد أقبل ، قال : لو لم يكن على الرجل كان غير منون ، فإنه يعني : أن الاسم العلم لم يسم بمعنى في المسمى استحق له أن يسمى بذلك الاسم دون غيره ، كزيد وعمرو ونحوه لأن زيدا لم يسم به لمعنى فيه مخالف به من سمي ب (عمرو) ، وللمبهم مفارق للعلم لأن في المبهم لفظا يوجب التقريب كهذا وهذه وهذان وهاتان ، ولفظا يوجب التبعيد كذلك وتلك وأولئك ونحوه).

قال سيبويه : (ومن الصفة أنت الرجل كالرجل). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : يريد أن الصفة قد تأتي على غير وجه البيان لما قبلها ، ولكن على المدح وتعريف المخاطب من أمر الموصوف ما لم يعرفه ، ويأتي ذلك في صفة الله تعالى على وجه التقرب إليه والثناء عليه ، وذكر صفاته كقول القائل :

قد أحسن الله الكريم الرحيم المنعم إليّ ، ويأتي في صلاة الآدميين على المدح لهم لمن لعله لا يعرفه بذلك ، ولمن يعرفهم به على وجه الإخبار عن نفسه بمعرفة ذلك والتقرب إلى الممدوح كما يقول القائل لأهل بلد :

قد رأيت قاضيكم الفقيه المنصف العفيف ، وكنت عند أميركم الشجاع الذاب عن الحريم.

وقد يستعمل في صفات المدح والذم ألفاظ يراد بها المبالغة فيما تضمنه لفظ الموصوف كقولك : أنت الرجل كل الرجل ، ومررت بالعالم حق العالم ، وبالشجاع جدّ الشجاع ، يراد به المبالغة في معنى المنعوت ، فإذا قال : يا رجل كل الرجل ، فمعناه : الكامل في الرجال ، فإذا قال : حق العالم ، فمعناه : الكامل في العلم ، فكذلك جد الشجاع ، وهكذا لو قال : يا للئيم كل اللئيم ، أو حق اللئيم ، كان مبالغة في صفة اللؤم ، قال الشاعر :

هو الفتى كلّ الفتى فاعلموا

لا يفسد اللحم لديه الصلول (١)

فأمّا إن قلت : هذا عبد الله كل الرجل ، فإنه لا يحسن كحسن ما فيه الألف واللام ،

__________________

(١) قائل البيت الحطيئة ديوانه / ٨٤.


إذ ليس في لفظ عبد الله معنى يكون الرجل مبالغا فيه ، وكما هو جائز مع هذا لأنه لو قال : هذا كل الرجل ، لجاز ودل على معنى المبالغة والكمال ، والنكرة في المدح كالمعرفة يدل على ذلك أنك تقول :

مررت برجل كل رجل ، وجدّ رجل ، وهذا عالم حق عالم ، فلما فرق بينهما في المدح واللفظ الذي يوجب المدح ، كما لا فرق بين قولك : مررت بالعالم الكامل في علمه ، وبين قولك :

مررت برجل كامل في علمه.

قال سيبويه : (ومن الصفة قولك : ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك).

وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : يعني أن الرجل معرفة ، ومثلك وخير منك نكرة ، وقد وصف بهما المعرفة لتقارب معناهما ، وذلك أن الرجل في قولك : ما يحسن بالرجل مثلك ، وبالرجل خير منك ، غير مقصود به إلى رجل بعينه ، وإن كان لفظه لفظ المعرفة لأنه أريد به الجنس ، ومثلك وخير منك نكرتان غير مقصود بهما إلى شيئين بأعيانهما فاجتمعا في أنهما غير مقصود إليهما بأعيانهما ، فحسن نعت أحدهما بالآخر ، وكان من حق اللفظ والمساواة أن يكون لفظ النعت معرفة كلفظ المنعوت فامتنع دخول الألف واللام في التعيين ، فاحتمل ذلك للضرورة ، ولو قال : إني لأمرّ بالرجل نائم فأنبهه ، وبالرجل صادق فأسمع منه ، على النعت لم يجز لأنه يمكن أن يقول : بالرجل النائم ، وبالرجل الصادق.

وما ذكر سيبويه عن الخليل أنه جر على نية الألف واللام في : مثلك وخير منك ، إن كان يوجب التعريف لهما ويصير حكمهما حكم ما فيه الألف واللام ، فينبغي أن تصف بهما الأسماء الأعلام كما تصف الأعلام بما فيه الألف واللام. وقد منع سيبويه من هذا وقال :

(لا يحسن بعبد الله مثلك ، على هذا الحد) ، وإن كان نية الألف واللام لا توجب التعريف فلا فائدة في ذكره.

والذي عندي في معنى قول الخليل من نية الألف واللام ، أن هذين الاسمين في موضع ما فيه الألف واللام ، كأنّا قلنا في موضع مثلك : المماثل لك ، وفي موضع خير منك : الفاضل لك ، والراجح عليك ، ولم يجز أن يوصف العلم بمثلك وخير منك


لاختلاف الأول والثاني ، لأن الأول مقصود إليه ، والثاني غير مقصود إليه.

قال : (وزعم الخليل أنه إنما جر على نية الألف واللام) ، يعني : مثلك ، وخير منك ، (ولكنه موضع لا تدخله الألف واللام ، كما أن (الجماء الغفير) منصوب على نية إلغاء الألف واللام نحو طرا وقاطبة).

فإن نية إلغاء الألف واللام في (الجماء الغفير) أنها في موضع الحال والاسم الذي هي في موضعه لا ألف ولا لام فيه كنحو : طرا وقاطبة.

ومن النحويين من قال : إن الألف واللام فيها وفي (الأوبر) في قول الشاعر :

 ...

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (١)

زائدة ، وهذا غلط لأنهما لو كانتا لا تأثير لدخولهما وكانتا في نية الطرح لكان الاسم الذي يدخلان عليه باقيا على لفظه من التنوين ومع الصرف.

فيقال : القوم فيهما الجماء الغفير ، كما تنون لو لم يكن فيه ألف ولام ، ولجاز أن تقول : ولقد نهيتك عن بنات الأوبر ، لأن (أوبر) بغير ألف ولام لا ينصرف ، وإنما دخول الألف واللام على أوبر وسائر المعارف التي ليس فيها ألف ولام عند الضرورة ، لأنها تنكّر ثم تعرّف بالألف واللام ، وقد مضى الكلام في مثل هذا ، وقد تقدم شرح ما بقي من الباب وفيه قوله :

(ولم يرد في قوله : ما يحسن بالرجل خير منك أن يثبت له شيئا بعينه ثم يعرفه به إذا خاف التباسا).

وقوله : يثبت له يعني المخاطب.

وقوله : تعرّفه الهاء للشيء.

وقوله : به الهاء لخير منك.

__________________

(١) الخصائص لابن جني / ٣ / ٨٥ ، مجالس ثعلب / ٦٢٤.

وهو عجز بيت صدره :

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

 ...


هذا باب بدل المعرفة من النكرة والمعرفة من المعرفة

(وقطع المعرفة مبتدأة)

وذكر الفصل إلى قول الفرزدق :

 ...

 ... كومها وشبوبها (١)

قال أبو سعيد : هذا البيت لم يذكر قائله في كتاب سيبويه وفي أكثر النسخ شنونها بنونين وشين ، وفي كتاب مبرمان وشيويها بيائين وشين وتحته السيوف السراع منها.

والذي رأيته في شعره في قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك أولها :

رأيت بني مروان يرفع ملكهم

ملوك شباب كالأسود وشيبها (٢)

وفيها يخاطب هشاما بعد ما ذكّره بآبائه :

ورثت أبي أخلاقه عاجل القرى

وضرب عراقيب المباني شبوبها (٣)

والشبوب : السيف ، يشب فيها ضوءه إذا التهب.

وما ذكره سيبويه في أول هذا الباب مفهوم المعنى ، يشتمل عليه شرح ما مضى.

قال سيبويه : (وتقول : مررت برجل الأسد شدة) ، فالأسد على ما يوجبه كلامه في معنى : وليس في تقدير مثل الأسد ولو كان مثل الأسد كان نكرة ، وكان نعتا وقد تقول : زيد رجل من الرجال ، تريد نفاذة ومضاء في الأمور ولا تقدر مثل رجل لأنه في خلقته رجل وشدة ينتصب على المصدر أو على الحال ، كأنه قال :

الشديد شدة ، والماضي أسدا ، وقوله :

(ولا يجوز أيضا أن يكون نعتا) لأنه ليس باسم جار على الفعل والأقوى في مثل هذا الرفع ، إمّا على التبعيض فيما أمكن التبعيض فيه وما لا تبعيض له فالابتداء ، وجميعا فالرفع فيه على الابتداء ، ولكن عبّر عما لا تبعيض فيه بالابتداء كقوله :

ولقد خبطن بيوت يشكر خبطة

أخوالنا وهم بنو الأعمام (٤)

__________________

(١) البيت :

ورثت أبي أخلاقه عاجل القرى

وعبط المهاري كومها وشبوبها

ديوانه / ٦٦.

(٢) ديوان الفرزدق / ٦٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) البيت لمهلهل بن ربيعة ، سيبويه ١ / ٢٢٥ ، ٢٤٨.


فأخوالنا لا تبعيض فيه ، وقد رفعه ، وكذلك لو قال :

مررت برجل الأسد شدة ، أو بأسد شدة ، وذلك كله على إضمار هو من غير تبعيض ، ولو قال :

مررت برجلين أسد وحمار ، كان تبعيضا ، وقوله :

(وهذا عربيّ جيد). إشارة إلى الابتداء الذي لا تبعيض فيه ، وقوله : (وقد جاء في النكرة في صفتها) ، يعني : وقد جاء الابتداء.

وقوله : (فهو) يعني الابتداء في المعرفة أقوى ، ومعنى سقبان : طويلان ، ممشوقان : ملتفان (١).

هذا باب ما يجري عليه وصفة ما كان من سببه

(وصفة ما التبس به أو بشيء من سببه كمجرى صفته التي خلصت له).

قال أبو سعيد : (صفة ما كان من سببه) ، يعني : ما كان الفعل من فاعله اسما مضافا إلى ضميره أو يكون ضميره متصلا بجملة الكلام ، وهو هاهنا اسم الفاعل ، فإذا كان منها من فعل الموصوف به فقد جرى على من هو له كقوله : (مررت برجل ضارب زيدا ، وملازم عمرا).

فضارب وملازم صفة لرجل وفعل له ، فهي صفة قد خلصت له لأنه موصوف بها ، وهي مشتقة من فعل له ، وأمّا صفة ما كان من سببه فقولك :

مررت برجل ضارب أبوه رجلا ، وملازم أبوه رجلا ، فضارب صفة ، وهي اسم فاعل ، وفعله الضرب ، وفاعله أبوه ، وهو سبب الأول ، وهكذا قولك :

مررت برجل ملازم أبوه رجلا.

وأما صفة ما التبس به فقولك :

مررت برجل مخالطه داء.

فالصفة مخالطه ، وهو فعل لداء ، وقد وقع بضمير الرجل ، فقد التبس به ، وأمّا الذي التبس بشيء من سببه ، فقولك : مررت برجل ملازم أباه رجل ، ومررت برجل مخالط

__________________

(١) هذه الكلمات من بيت شعر أورده سيبويه ٢ / ١٧ وهو :

وساقيين مثل زيد وجعل

سقبان ممشوقان مكنوزا العضل


أباه داء.

فالصفة ملازم ومخالط ، وفاعله رجل وداء قد التبس بالأب ووقع على ضميره ، فهذا ما التبس بشيء من سببه.

قال أبو سعيد : في هذا الباب أشياء أجمع النحويون عليها واختلفوا في غيرها فجعل سيبويه ما أجمعوا عليه أصلا قدره ورد إليه ما اختلف فيه بشبه صحيح لا يقع على من تأمله لبس.

والذي أجمعوا عليه أن الصفة إذا كانت فعلا للأول أو لسببه أو لها التباس به وكانت منونة ، فإنها تجري على الأول وتنجر بجره ، ويوصف الأول بها كقولك : مررت بزيد ضارب زيد ، وضارب أبوه زيدا ، وملازم أباه زيد.

ثم اختلفوا إذا كانت الصفة مضافة.

فأمّا سيبويه فأجرى جميعها على الأول ك (هي) لو كانت منونة ، وأجرى غيره بعضها على الأول ومنع إجراء بعض فألزمه سيبويه إجراء الجميع على الأول أو المناقضة ، فقال : وإن زعم زاعم أنه يقول : مررت برجل مخالط بدنه داء ففرق بينه وبين المنون ، قيل له :

أليس قد علمت أن الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواء متى أردت بترك التنوين؟

ومعنى التنوين نحو : مررت برجل ملازم أبيك ، وملازمك ، فإنه لا يجد بدّا من أن يقول : نعم ، وإلا خالف جميع العرب ، فإذا قال : نعم ، قيل له :

أفلست تجعل هذا العمل إذا كان منونا ، وكان لشيء من سبب الأول أو التبس به ، بمنزلة إذا كان للأول؟ كأنك قلت : مررت برجل ملازم ، فإنه قائل : نعم ، فيقال له : فما بال التنوين وغيره استويا حيث كان للأول.

وهذا من أثبت الحجاج لأنه قدر الخصم بأن غير المنون حكمه كحكم المنون فيما كان فعلا للأول ، وقدره بأن فعل الأول ، وفعل سببه ، وما التبس به إذا كان منونا يجري مجرى واحدا وألزمه بعد ذلك أن غير المنون من فعل الأول وفعل سببه ، وفعل ما التبس به يجري مجرى واحدا ، ثم لزمه أن ينصب المعرفة المضافة فيقول :

مررت بعبد الله الملازمه أبوه ، لأنه حين قال :


مررت برجل مخالط بدنه إذا لم يكن سبب نصبه وترك إجرائه على الأول إلا الإضافة.

وفي بعض نسخ كتاب سيبويه : وذلك أن قوما ينصبون كل ما كان من ذا مضافا على كل حال ، فإن كان هذا من كلام سيبويه فهو أقوى في إلزامهم من القياس بكلام العرب ثم احتج لما ذهب إليه بعد تقويته بالقياس الذي ذكرناه بكلام العرب ، فقال :

(ولو أن هذا القياس لم تكن العرب الموثوق بعربيتها ، تقوله لم يلتفت إليه ولكنّا سمعناها تنشد هذا البيت جرا :

وارتشن حين أردن أن يرميننا

نبلا مقذذة بغير قداح

ونظرن من خلل الستور بأعين

مرضى مخالطها السقام صحاح (١)

وأنشد غير من العرب بيتا فأجروه هذا المجرى :

حمين العراقيب العصا وتركنه

به نفس عال مخالطه بهر) (٢)

فالشاهد من البيت الأول : خفض مخالطها ، ومن الثاني : رفع مخالطه أجروه على نفس عال ، وهذا من حجة من ينصب إذا كان مضافا.

ولمن خالف سيبويه في الصفة المضافة التي ليست للأول ، ولما التبس به في هذا الباب مذهبان :

أحدهما : مذهب عيسى بن عمر ، وهو أنه جعل ما في هذا الباب عملين.

أحدهما ـ عمل ثابت ليس فيه علاج يرونه نحو الآخذ واللازم والمخالط وما أشبهه.

والآخر ـ عمل فيه علاج نحو الضارب والكاسر ، وفتح اللفظ به فيه على ثلاثة أقسام ، فجعل ما كان من باب الصفات من باب الضارب والكاسر إذا لم يكن الاسم الأول الموصوف رفعا على كل حال ، كقولك : مررت برجل ضاربه عمرو ، ورأيت رجلا ضارب أبيه عمرو.

__________________

(١) البيتان لابن ميادة المري في ديوانه ص ١٠٠ ، الخزانة ٥ / ٢٤ ، الأغاني ٢ / ٢٨٤.

(٢) البيت للأخطل ديوانه / ١٩٨ ، الخزانة ٢ / ٢٩٤.


والثاني ، أنه جعل اللازم نصبا إذا كان واقعا كقولك :

مررت برجل ملازمه زيد ، وبماء مخالطه عسل ، وأتيت بلبن ممازجه ماء إذا كانت الملازمة والمخالطة والممازجة قد وقعت ووجدت ، كأنه قال :

ملازمه الساعة ، ومخالطه الساعة ، وممازجه الساعة.

والثالث ، أنه جعل الفعل والملازم إذا كان غير واقع جاريا على الأول ، وذلك قولك :

مررت برجل مفارقه الروح ، وبرجل متلفه السير ، إذا لم يقع المتلف ومفارقه الروح.

كأنه قال : متلفه غدا السير.

والمذهب الآخر مذهب يونس ، وهو :

أنه يجعل ما كان واقعا من ذلك نصبا كمذهب عيسى في الفعل اللازم الذي لا علاج فيه ، ويجعل ما كان غير واقع رفعا على كل حال ، بمعنى في الفعل اللازم وفيما كان علاجا نحو الضرب والكسر.

قال سيبويه : (فإذا جعلته اسما لم يكن فيه إلا الرفع على كل حال ، تقول : مررت برجل ملازمه رجل ، أي : مررت برجل صاحب ملازمته رجل ، وهو كقولك : مررت برجل أخوه رجل) ، يعني أن ملازمه يجعل بمنزلة ما لم يؤخذ من الفعل ، لأن حقيقته اسم كقولك : غلامه وأخوه ، وإن جمع على هذا الحد ، قلت :

مررت برجل ملازموه بنو فلان ، لأنه لم يذهب به مذهب الفعل ، فيوحد لتقدمه ، فصار كقولك :

مررت برجل غلمانه بنو فلان ، وإخوته وأصحابه ، فإن جعلته عملا جاريا مجرى الفعل ، قلت :

مررت برجل ملازمه قومه ، كأنك قلت : ملازم أباه قومه أي قد لزم أباه قومه فوحدته لما أجريته مجرى الفعل لتقدمه ، وأما قول سيبويه :

(فإن زعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا فهم ينصبون : به داء مخالطه ، وهو صفة للأول. وتقول : هذا غلام لك ذاهبا. ولو قال : مررت برجل قائما. لجاز ، فالنصب على هذا). وذكر الفصل.


قال المفسر فإنه ذكر حجاج من نصب :

مررت برجل مخالطه دم ، وأنّ من العرب من ينصبه على الحال ، فنصب مخالطه على الحال ، وإن كان يرفع على أنه صفة لداء ، وهذا غلام لك ذاهبا على الحال.

وإن قيل:ذاهب على الصفة ،ومررت برجل قائما وإن كان يقال:قائم على الصفة.

هذا باب ما جرى من الصفات غير العمل على

الاسم الأول

(إذا كان الشيء من سببه). وذكره.

قال أبو سعيد : ما احتج به بيّن ، وهذه الصفات هي الأسماء المتقدمة في التحصيل ، لأن قائلا لو قال :

ضربت قائما أبوه لكان الضرب واصلا إلى غير الأب فصار قائما الذي نصبه الضرب غير الأب ، ولو قيل : لعن الله قائما أبوه لوقع اللعن على قائم والأب لم يدخل في اللعن ، فجعل قائما على الموصوف الذي قام مقامه ، كأنه قال :

ضربت رجلا قائما هو الرجل المحذوف.

وكذلك كان زيد قائما أخوه ، فقائما أخوه هو زيد لأن الخبر هو المخبر عنه.

هذا باب الرفع فيه وجه الكلام وهو قول العامة

(وذلك : مررت بسرج خزّ صفّته). وذكر الباب.

قال أبو سعيد : أما قولك : مررت بسرج خز صفته ، وبصحيفة طين خاتمها ، وبرجل فضة حلية سيفه ، وبدار ساج بابها فإنك إذا أردت حقيقة هذه الأشياء ، لم يجز غير الرفع ، ويصير بمنزلة : مررت بدابة أسد أبوه ، وأنت تريد بالأسد السّبع ، لأن هذه جواهر ، ولا يجوز النعت بها ، وإن أردت المماثلة والحمل على المعنى أخبر فيها ما حكي عن العرب ، فقد سمع منهم :

هذا خاتم طين ، تحمل طين على طين ، كما قال الشاعر :

 ...

كدكّان الدّرابنة المطين (١)

__________________

(١) البيت :

فأبقى باطلي والجد منها

كدكّان الدّرابنة المطين


وإذا سمع منهم : صفّته خزّ ، تحمل على : ليّنة.

وقد يقال للشيء اللين : أنه خز ، يريد : لينة ، كأنهم قالوا : هو ليّن ، أي : مثل خزّ.

وقد سمع منهم : مررت بقاع عرفج كله ، ومررت بعرب أجمعون ، ومعناه : مررت بقاع ثابت كله أو مسد كله ، لأن العرفج : شوك ، وبقوم منعوتين أو مفسرين أجمعون.

وجملة الأمر أنه إذا جعل شيء من هذا صفة ورفع بها ما بعدها ، فمن النحويين من يذهب إلى أنه بتقدير مثل وحذفه ، فإذا قال : مررت بدار ساج بابها ، وسرج خز صفته ، وهذا مذهب المبرد في مثل هذا ، ومنهم من يجعل اسم الجوهر في مثل هذا فاعلا ، ويرفع به ، فإذا قيل : مررت بدار ساج بابها ، وجعل الساج في تقدير : وثيق وصلب ، ونحوه ، فكأنه قال : مررت بدار وثيق بابها أو صلب ، ويتأوّل في خزّ : لين صفته ، وفي كل شيء منه ما يليق بمعناه.

أنشد بعض النحويين في جواز نحو هذا :

وليل يقول الناس من ظلماته

سواء صحيحات العيون وعورها (١)

كأن لنا منه بيوتا حصينة

مسوحا أعاليها وساجا ستورها (٢)

وذهب بالمسوح إلى سود.

وساج إلى كثيف.

والأجود رفع مسوح وساج.

هذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء

التي لا تكون صفة

(وذلك أفعل منه) ، وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : اعلم أن ما يقع بعد الاسم من الأسماء المفردة والمضافة أو الموصولة على ضربين :

أحدهما : يكون صفة للأول.

__________________

ـ قائله المثقب العبدي.

(١) البيت لمضرس بن ربعي الخزانة ٢ / ٢٩١.

(٢) البيت للأعشى ديوانه / ٤٢٣ ، خزانة الأدب ٥ / ١٨.


والآخر : لا يكون صفة له.

فأما الذي يكون صفة فما كان تحلية أو جرى مجرى التحلية وذلك قولك : مررت برجل قائم ، وكاتب وضاحك ونحوه ، ومنه : مررت برجل خير منك ، ومثلك وحسبك من رجل ، وبدرهم سواء ، وبرجل أبي عشرة.

وما لا يكون صفة ، فنحو : بستان ودار وحصير ودفتر ونحوه ، لا تقول : مررت بملكك البستان ، ولا بملكك ثوب ، إلا على البدل ، ولا بملكك بستانك ، ولا بمالك دفترك إلا على البدل أيضا ، فإن اتصل بشيء مما لا يكون صفة : له إنما يكون معه جملة مبتدأ وخبر ، نحو : مررت برجل دفتر له عندك ، وبرجل ثوبه فاخر ، ونحو ذلك جاز وتكون الجملة نعت الأول ، وأما الصفة إذا اتصل بها اسم فعلى ضربين :

أحدهما : يختار أن يجرى مجرى الاسم الذي يكون صفة ، فيرفع بالابتداء والخبر ، وهو قولك : مررت برجل خير منه أبوه ، وبرجل سواء عليه الخير والشر ، وبرجل أب للصاحبة ، وبرجل حسبك به من رجل ، فهذا الضرب من الصفة يرفع كما يرفع ما لا يكون صفة ، ويكون ما بعده خبرا له ، وهذا يعني ترجمة الباب ، لأن" خير منه" وسواء ، وحسبك ، وأيما رجل ، وأبو عشرة ، إذا انفردت كانت صفة ، وإذا كانت بعدها أسماء لم تكن صفة بمنزلة أسماء الجواهر وتحقيق لفظ الباب أن يقال : هذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة إذا انفردت مجرى ما لا يكون صفة إذا لم ينفرد.

والضرب الآخر من الصفة ما يجرى على ما قبله في إعرابه ويرتفع به ما بعده كارتفاع الفاعل بفعله ، وهو قولك : مررت برجل شديد عليه الحر والبرد ، من قبل أن شديدا اسم فاعل منه ، والحر والبرد مرفوعات به ، وهكذا مررت برجل مستو عليه الخير والشر ، جررت لأنه صار عملا بمنزلة قولك : مررت برجل مفضض سيفه ، ومررت برجل مسموم شرابه ، وجملة ما يكون صفة جاريا على الأول ، ويرتفع به ما بعده ما كان من أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة بأسماء الفاعلين ، وقد مضى شرحها.

وأما ما يكون صفة في الانفراد ولا يكون صفة في غير الانفراد ، فما ذكره في هذا الباب من قوله : (خير منه أبوه ، والأسماء التي ذكرت ومعه).

وذكر سيبويه فصولا بين البابين يبعد بها من مذهب الفعل خير منه أبوه فيه ، فيرتفع ما بعده ويفصل ما بينها وبين أسماء الفاعلين بالصفات المشبهة منها ، لأن أسماء الفاعلين


تفرد وتؤنث بالهاء ، وقد ذكرناه ، وتثنى وتجمع وتدخل عليها الألف واللام وتضاف إلى ما فيه الألف واللام ، وهذا كله يجري على الصفة المشبهة نحو حسن وكريم وطويل ، فتقول : الحسن الوجه ، كما تقول : الملازم الرجل ، وليس ذلك في باب (خير منه) لأنه لا تدخل فيه الألف واللام ، ولا يفرد وما يفرد أقرب إلى الفعل ، لأن الفعل ينفرد ، تقول : مررت برجل يضحك ويتكلم ، ويدخله التأنيث فتقول : مررت بامرأة تضحك وضحكت ، ويتصل به تثنية الضمير وجمعه ، تقول : مررت برجلين يضحكان ، وبرجال يضحكون.

والألف واللام تدخل على اسم الفاعل الذي منزلته وحكمه حكم الفعل ، وقدمنا من الاحتجاج الفصل بينهما في باب الصفة ما يوجب ألّا يرفع ما بعد (خير منه) بما يغني عن إعادته.

فإذا قلت : مررت برجل سواء في الخير والشر جررت ، لأن سواء صفة للأول وليس بعده ما يرتفع به فإن قلت : برجل سواء أبوه وأمه ، رفعت سواء على أبوه وأمه ، سواء بالابتداء ، فإن قلت : برجل سواء درهمه ، كما تقول : مررت برجل تمام درهمه ، ولو خفضت سواء لرفعت ما بعده بالفاعل ، وقد ذكرنا أن ذلك لا يحسن ، وتقول : مررت برجل سم شرابه ، وفضة سيفه على الابتداء والخبر ، وليس ذلك ك (مسموم ومفضض) لأنه مسموم ومفضض اسم مفعول جار على الفعل ، قال سيبويه :

(وزعم يونس : أن ناسا يجرون هذا كما يجرون مررت برجل خز صفته).

قال أبو سعيد : كأنهم يتأولون في ذلك تأويل اسم الفاعل فيتأوّل (خير منه أبوه) تأويل (فاضل عليه أبوه) ، و (راجح عليه أبوه) ، ونحو هذا.

ويتأولون في : سواء أبوه وأمه ، مستو أبوه وأمه ، كما يتأولون في خزّ صفّته ، ليّن صفّته.

ثم ذكر سيبويه تقويه الرفع بأنك لا تقول : مررت بخير منه أبوه ، ولا سواء عليه الخير والشرّ ، كما تقول : بحسن أبوه ، ثم قال سيبويه :

(وتقول : مررت برجل كل ماله درهمان ، لا يكون فيه إلا الرفع ، لأن" كل" مبتدأ ، والدرهمان مبنيان عليه فإن أردت به ما أردت بقولك : ما مررت برجل أبي عشرة أبوه ، جاز لأنه قد يوصف به).

قال أبو سعيد : يريد أن الاختيار رفع" كل" و" أبو عشرة" ، ويجوز : مررت برجل


أبي عشرة أبوه ، وليس بالاختيار ، فإذا أجريته على الأول ورفعت أبوه صار التأويل : مررت برجل والد عشرة أبوه ، وإذا أضفته قلت : مررت برجل أبي عشرة أبوه كما تقول : بضارب زيد أبوه ، وعلى هذا تقول : مررت برجل كل ماله درهمان ، كأنه قال : مجتمع له درهمان ، أو جامع مع ملكه درهمان ، وليس ذلك بأبعد من : مررت برجل خزّ صفّته ، لأنك قد تصف ب (أبي عشرة) ، وكل مال مفردين ، فتقول : مررت برجل أبي عشرة ، ومررت بمال كل مال ، ولا تقول : مررت بثوب خز على النعت.

قال سيبويه : (ومن جواز الرفع في هذا الباب أني سمعت رجلين من العرب يقولان : كان عبد الله حسبك به رجلا) ، وذكر الباب.

قال أبو سعيد : عبد الله : اسم كان ، وحسبك : مبتدأ ، وبه خبره ، وهو في موضع رفع ، ورجلا : نصب على التمييز ، ولو أجراه على الأول ، لقال : كان عبد الله حسبك به ، تنصب حسبك بخبر كان ، وبه في موضع الفاعل ، تقول : كفى بالله ، والمعنى : كفى الله ، وإجراء حسبك على الأول أقوى من إجرائه على الثاني ونحوه إذ كان حسبك مفردا يوصف به لأنه مأخوذ من أحسبني الشيء ، أي : كفاني.

هذا باب ما يكون من الأسماء صفة لمفرد وليس بفاعل ولا صفة

تشبه الفاعل

(كالحسن وأشباهه ، وذلك قولك : مررت بجبة ذراع طولها). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : ما كان من المقادير نعتا لما قبله إذا انفرد بما يتضمن لفظه من الطول والقصر والقلة والكثرة ، ناب عن طويل وقصير وقليل وكثير.

فإذا قال : مررت بحبل ذراع ، فكأنه قال : قصير ، فإذا قال : بحبل سبع أذرع ، فكأنه قال : بحبل طويل ، وإذا قال : بإبل مائة ، فكأنه قال : بإبل كثيرة ، وإذا قال : بإبل خمسين ، فكأنه قال : بإبل قليلة.

فإن قال قائل : فهلا نعتّم ب (قفيز) ونحوه ، وأجريتموه مجرى قليل وكثير كما فعلتم بذراع ، تقول : مررت بحنطة قفيز على الصفة بتأويل حنطة قليلة كما قلت : بحبل ذراع ، بتأويل قصير ، قيل كذلك تفعل وهذا واجب في جميع الأعداد من أي صنف كان ، ألا ترى أنك تقول : مررت بنسوة أربع ، ورجال خمسة ، وسائر الأعداد ، وجاز الوصف بذراع ، وشبر ، وباع ، ونحوه من سائر المقادير ، كما جاز في الأعداد.


وإنما منع سيبويه من الصفة ب (قفيز) في قوله : (مررت ببر قفيز بدرهم) على الصفة ، لأنك لم ترد أنّ فعل البرّ الذي مررت به كله قفيزا واحدا ، كما أردت بقولك :

مررت ببرّ بدرهم ، وإن كان قفزانا كثيرة ، وإذا جئت بعد المقدار باسم ، جعلت المقدار له ، رفعت على الابتداء والخبر ، تقول : مررت بجبة ذراع طولها ، وبثوب سبع طوله ، وبرجل مائة إبله ، وببر قفيز كله ، وبنسوة أربع عددهن ، وناس خمسة أولهم.

وإنما اختير فيه الرفع لأن ما هو أقرب إلى الفعل منه يختار فيه الرفع ، كقولك : مررت برجل خير منه أبوه ، وأفضل منه زيد ، ولم يكن مثل باب حسن الوجه ، لأنك تقول : مررت بجبة ذراع الطول ، إذا نونت ولا ذراع الطول إذا لم تنون ، كما تقول : حسن الوجه إذا نونت ، وحسن الوجه إذا لم تنون ، وبعض العرب يجر ، كما يخبر الجر حين يقول : مررت بسرج خز صفته فتقول : مررت بجبة ذراع طولها ، كأنك قلت : قصير طولها ، ومررت برجل مائة إبله ، كأنك قلت : كثيرا إبله ، وفي سياق كلام سيبويه ، (ومنهم من يجره) بعد قوله ، (وبعض العرب يجره) لأنه :

أراد : تشبيهه برجل أسد أبوه ، وما بعد هذا من كلامه ، فقد مضى تفسيره.

قال سيبويه : (وزعم يونس أنه لم يسمع من أحد) ، يعني : مررت برجل مائة إبله ، (ولكنهم يقولون : هو نار جمرة ، لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدإ). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : من قال : هو نار جمرة ، جعل النار في تأويل فعل ، كأنه قال : مجمر جمرة ، فجعل في : أسد أبوه من تأويل شديد ، وفي مائة إبله من تأويل كثير ، مثل : ما في نار من تأويل : مجمر ، وأحوج إلى هذا ، أن جمرة لا بد من نصبها في شيء يجري مجرى الفعل.

وقال الزجاج : باب الأخبار أن تكون أفعالا ، لأنك تخبر بحدث ، وقولك : هو نار جمرة ، ليس الضمير لنار ، إنما هو لرجل ، أو جوهر ، وإنما المعنى هو مثل : نار جمرة ، وقال أخبر : مررت برجل نار جمرة ، أريد مثل نار ، كما أردت حيث كان خبر ابتداء كأنك قلت : مررت برجل مثل نار ، أو شبه نار جمرة.

قال : وكلام سيبويه يدل على أن نارا تقع خبرا ولا تقع صفة.

فقال أبو سعيد : أظنه تأول من كلام سيبويه قوله : ولكنهم يقولون : هو نار جمرة ، لأنهم قد بنوا الأسماء على المبتدإ ولا يصفون بها ، وليس الأمر كذلك عندي ، ومما يجري مجرى ما تقدم من اختيار الرفع فيه وجواز الجر قولك في الرفع : مررت برجل رجل أبوه ،


إذا أردت معنى : أنه كامل ، والجر والإجراء على الأول فيما كان صفة محضة أحسن من الابتداء والخبر ، كقولك : مررت برجل حسن أبوه ، وفي هذا بعد لأنّ (حسن) يجري مجرى الفعل ، والأولى أن يرفع به الأب إن كان من سبب الأول كما يرفع ضميره في قولك : مررت برجل حسن ظريف أبوه ، فالرفع فيه الوجه ، والجر فيه قبيح. وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : إذا قلت : مررت برجل حسن ظريف ، لم يحسن جر (حسن) ، و (ظريف) إذا أردت أن ترفع الأب ب (حسن) وظريف : نعت لحسن ، لأن باب الإجراء والصفة والعمل فيه بعد ، إنما هو للأسماء الجارية على الأفعال التي تؤنث وتذكّر ، فإذا أضفت اسم الفاعل خرج من الأفعال وقوى في الاسمية ، فصار الباب الرفع فيه ، فيكون أبوه مبتدأ ، وحسن ظريف خبره مقدم ، ويجوز أن يكون (حسن ظريف) خبر مقدم ، ويجوز أن يكون حسن ظريف هو المبتدأ على ضعف ، ولو قلت : مررت برجل حسن ظريف أبوه ، فرفعت الأب ب (ظريف) كان جائزا حسنا ، ولو قلت : مررت بضارب ظريف زيدا ، وهذا ضارب عاقلا أباه ، كان قبيحا لأنه وصفه فجعله كالاسم الذي يبتدأ به ثم يوصف.

قال سيبويه : (فإن قلت : مررت برجل شديد رجل أبوه ، فهو رفع لأن هذا وإن كان صفة فقد جعلته في هذا الموضع اسما بمنزلة : أبي عشرة ، يفتح فيه ما يفتح فيه ، ومن قال :

(مررت برجل أبي عشرة أبوه) ، قال : مررت برجل شديد رجل أبوه).

قال أبو سعيد : إذا قلت : مررت برجل شديد رجل أبوه ، ف (رجل) الذي بعد شديد بدل من شديد ، فبطل أن يعمل شديد في (أبوه) وقد أبدل منه رجل لأن الفعل لا يبدل منه الاسم ، فإن وجدناه ورفعنا أبوه برجل ، جرى مجرى : أبي عشرة لأن حكمهما واحد في اختيار الرفع فيهما ، وليس قولك : مررت برجل أبي عشرة أبوه ، كقولك : مررت برجل حسن الوجه أبوه ، لأن حسن الوجه أبوه ، كقولك : حسن الوجه ، فصار بدخول التنوين يشبه ضاربا ، إذا قلت : مررت برجل ضاربا وأبو عشرة ، لا يدخله التنوين ، فلا تقول : مررت برجل أب عشرة ، كما تقول : حسن الوجه ، وقد مضى الفصل بينهما ، وقد


أعاد سيبويه ما يؤكد به الفصل بينهما ، وقد شرحناه. قيل : قال سيبويه : (وأما قوله : مررت برجل سواء والعدم) فلا بد من أن تجعل سواء نعتا لرجل لأنه ليس مع سواء اسم ، فيكون معه مبتدأ وخبرا ، فصار بمنزلة قولك : مررت بقوم سواء ، وإذا أجريت سواء على الرجل ففيه ضمير لأنه في معنى مستو ، فإذا عطفت على ذلك الضمير أكدت ، كما يجب في ضمير المرفوع إذا عطفت عليه ، والضمير الذي في سواء مثل الضمير الذي في : عرب أجمعون ، لأن عربا محمول على متعربين ، كما أن سواء في معنى مستو ، وأجمعون توكيد للضمير في عرب.

فأما قول سيبويه : (وهي معطوفة) فإنه يعني : أجمعين ، ويعني بالعطف : عطف البيان.

وقوله : (على المضمر). يعني : المضمر في عرب كما تقدم ، وقوله : (وليست كأبي عشرة) ، يعني : وليست أجمعون في ارتفاعه بمنزلة ارتفاع أبي عشرة أبوه.

وقوله : (فإن تكلمت به على قبحه رفعت) ، يعني : إن قلت : سواء والعدم من غير توكيد رفعت سواء ، يعني : إن جئت ب (هو) في : سواء هو والعدم ، ولم يجعل هو توكيدا للمضمر وجعلته مبتدأ وعطفت عليه العدم رفعت ، سواء خبر المبتدأ كأنك قلت : مررت برجل هو والعدم سواء ، فيصير كقولك : مررت برجل سواء درهمه.

قال سيبويه : (وتقول : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إليه). وذكر الفصل.

قال أبو سعيد : إذا قلت : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إليه ، فأبغض نعت لرجل وإليه : في صلته ، والهاء في إليه : ضمير لرجل. كأنه قال : منه إلى زيد ، وكذلك وأحسن في عينيه الكحل منه أحسن نعت رجلا والهاء في عينيه تعود إلى الكحل ، وفي عينه الآخر العود إلى شيء قد ذكر كأنه قال : في عين زيد ، فإن قيل : فقد مرّ من احتجاج سيبويه في (مررت برجل خير منه أبوه) ما يوجب أن يكون هذا مثله لأنه احتج في رفعه بأنك لا تستطيع أن تفرد شيئا من هذه الأشياء لو قلت : هذا رجل خير ، وهذا رجل أفضل. لم يستقم وكذلك لا تفرد أبغض وأحسن في قولك : ما رأيت رجلا أبغض وأحسن في قولك : ما رأيت رجلا أبغض أو أحسن ، وذكر أيضا أن الذي يجرى على الأول اسم الفاعل والصفة المشبهة ، وقوله : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل ليس باسم فاعل ولا صفة مشبهة ، وقد اجتمعا في علة منع الإجراء على الأول فلم أجريت


أحدهما عليه ، ومنعت إجراء الآخر؟

الجواب : أن بينهما فرقا في المعنى يوجب أن ما أجراه على الأول قرب شبه من اسم الفاعل ، وفرقا في اللفظ دعت الضرورة فيه إلى إجرائه على الأول ، فأما فرق المعنى فإنك إذا قلت : مررت برجل خير منه أبوه أو أفضل منه زيد ، فمن يقع على المفضول والذي بعده هو الفاضل ، وأحدهما غير الآخر ، يعني رجل وليس للأول في الفضل صنع ، وإذا قلت : ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل ، والكحل هو الفاضل ، فصار الفاضل واحدا ، وصار ما اكتسب من الفضل بسبب الأول ، وذلك أنك تفضل الكحل إذا كان في عين زيد على نفسه إذا كان في عين غيره فيكون به في غير المذكور فضل ونقص ، وكذلك لو قلت : مررت برجل أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فضل الكحل لكونه في عين الرجل على نفسه في عين زيد ، وأما الفرق في اللفظ فإنك إذا قلت : مررت برجل خير منه أبوه وأفضل منه زيد ، ف (منه) في صلة خبر ، وأفضل وأبوه وزيد : مبتدآت أو خبر مبتدأين ، ولم تفصل بين شيئين أحدهما في صلة الآخر ، ولو رفعت ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ، فرفعت أحسن ، لكان إما مبتدأ خبره الكحل أو الكحل مبتدأ وخبره أحسن.

وقوله : (في عينه منه في عين زيد كله في صلة أحسن) ، فتفصل بين أحسن وبين ما في صلته بالكحل الذي حقه أن يكون مؤخرا عن الجميع أو مقدما على الجميع ، فإن آخرته قلت : ما رأيت رجلا أحسن في عينيه منه في عين زيد الكحل.

ففي هذا ـ أيضا ـ قبح لأنه إضمار قبل الذكر وتجعل أحسن مبتدأ ، فهو فاسد لأن هاء منه ضمير الكحل فهو مؤخر ، وإن جعلت أحسن خبرا مقدما ، جاز إن قدمت الكحل قلت : ما رأيت رجلا الكحل في عينيه أحسن منه في عينه منه في عين زيد ، جاز بلا خلاف فأدى ذلك إلى أن يقال : (ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إلى زيد) ، في تأويل : ما رأيت رجلا مبغضا إليه الشر ، كما بغض إلى زيد ، وما رأيت رجلا عاملا في عينه الكحل كعمله في عين زيد ، وقد خففوا وحذفوا ما ليس فيه لعلم المخاطب ، وأوقعوا من على غير ما كانت تقع عليه ، فقالوا : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه ، والضمير في منه المذكور جرى ذكره ، والأصل : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ، فحذفوا الضمير العائد إلى الكحل في منه واكتفوا بذكر الكحل ، وحذفوا


في عين الأخيرة اكتفاء بما تقدم من ذكر عينه ، وفصلوا بين الاسم المحتاج إلى ذكره ، ومثله : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه ، وما من أيام أحب إلى الله تعالى فيها الصوم في عشر ذي الحجة ، والأصل : أحبّ إلى الله تعالى فيها الصوم منه إليه في عشر ذي الحجة ، وأوقعوا على عشر ذي الحجة ، وهي في الأصل : واقعة على ضمير الصوم ، فالمعنى هو المعنى الأول ، وإن وقع هذا الحذف ، وقوله :

(والهاء في منه : هو الاسم الأول) الذي كني بذكره قبل الحذف على ما قد بيناه.

وقوله :

(ولا تخبر أنك فضلت بعض الأيام على بعض).

(والهاء في الأول هي للكحل) ، يعني في منه قبل الحذف (وإنما فضلت في هذا الموضع على نفسه في غير هذا الموضع ولم يرد أن يجعله أحسن من نفسه البتة ، قال الشاعر وهو : سحيم بن وثيل :

مررت على وادي السباع ولا أرى

كوادي السباع حين يظلم واديا

أقل به ركب أتوه تئية

وأخوف إلا ما وقى الله ساريا (١)

والمعنى : أقل به الركب تئية منهم به).

والهاء به الأولى ضمير واديا ، والهاء في به التي بعد ضمير وادي السباع ، وأتوه : نعت لركب ، وتئية في معنى لبث وتمكث ، كأنه قال : ولا أرى واديا أقل به مكثا وتلبّثا به الركب إذا أتوه منهم بوادي السباع ، فحذف منهم وبه كما تقول : أنت أفضل ، ولا تقول من أحد ، وتقول : الله أكبر ، ومعناه أكبر من كل شيء ، كما تقول : لا مال ولا تذكر لك ، ولا بد من تقديره وما يشبهه ، لأن مال يحتاج إلى خبر ومثل هذا كثير.

وما جعل في النكرة المجرورة في موضع نعته رفعا بالابتداء ، فهو في المعرفة رفع في موضع الحال منه قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ)(٢) إلى قوله : (وَمَماتُهُمْ)(٣) ، وقوله : (وتقول : مررت بعبد الله خير منه أبوه ، ومن أجراه على

__________________

(١) الخزانة ٣ / ٥٢١ ، سيبويه ١ / ٢٣٣.

(٢) سورة الجاثية ، الآية : ٢١.

(٣) سورة الجاثية ، الآية : ٢١.


الأول) ، يعني في النكرة فإنه ينبغي أن ينصب في المعرفة ، يعني على الحال لأن الحال كالنعت : تقول : مررت بعبد خيرا منه أبوه.

وقوله : وهي لغة رديئة وليست بمنزلة العمل نحو : ضارب وملازم ، وما ضارعه نحو حسن ، لو قلت : مررت بخير منه أبوه ، كان قبيحا ، وكذلك بأبي عشرة أبوه ، ولكن خير خلص للأول جرى عليه كأنك قلت : مررت برجل بخير منك ، حين قلت : برجل خير منك فإنه يعني : ولكنه لما انفرد به الأول جرى عليه ولم يقبح كما قبح في قوله : برجل خير منه أبوه ، ومن قال : مررت برجل أبي عشرة أبوه فشبهه بقوله : مررت برجل حسن أبوه ، فهو ينبغي له أن يقول : مررت بعبد الله أبي العشرة أبوه ، كما قال : مررت بزيد الحسن أبوه.

قال : (ومن قال : مررت بزيد أخوه عمرو لم يكن فيه إلا الرفع لأنّ هذا اسم معروف بعينه فصار بمنزلة قولك : مررت بزيد عمرو أبوه ، قال : ولو أن العشرة كانوا قوما بأعيانهم قد عرفهم المخاطب لم يكن فيه إلا الرفع لأنك لو قلت : مررت بأخيه أبوك كان محالا).

قال أبو سعيد : لأن مذهب الفعل الذي يعمل ما يجرى مجراه وهو شائع غير معين ، فإذا تعين الاسم لم يجر مجراه ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت بأخيه أبوك ، ويجوز أن تقول : بمؤاخيه أبوك ، لأن مؤاخيه في مذهب يؤاخيه ، والعشرة إذا كانوا بأعينهم فهو بمنزلة هؤلاء إخوتك ، فإذا لم يكونوا بأعينهم فكأنّا قلنا : مررت بعبد الله المكثر الأولاد أبوه ، على أن جوازه في النكرة إذا قلنا : مررت بأبي عشرة أبوه في المعرفة إذا لم يكن شيئا بعينه يجوز على استكراه. فكيف إذا صار شيئا بعينه؟

قال : (فإن جعلت الأخ صفة للأول جرى عليه ، كأنك قلت : مررت بأخيك ، فصار الشيء بعينه نحو : زيد وعمرو وضاع أبو عشرة حسن حين لم يكن شيئا بعينه قد عرفه كمعرفتك على ضعفه واستكراهه ، واعلم أن كل شيء من العمل وما أشبهه نحو : حسن وكريم إذا دخلت على ما فيه الألف واللام جرى على المعرفة كمجراه على النكرة حين كان نكرة كقولك : مررت بزيد الحسن وجهه ، ومررت بأخيك الضاربه عمرو).

قال أبو سعيد : يصير تأويله وأخوك حسن وجهه ، وبأخيك الذي ضربه عمرو ،


قال : (واعلم أن العرب يقولون : معلوجاء وقوم مشيخة ، وقوم مشيوخاء ، يجعلونه صفة بمنزلة : شيوخ ، وعلوج).

وهذا مفهوم ، وقد تركنا من كلامه شيئا دلّ عليه ما ذكرناه وأغنى عنه.

هذا باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات

التي ليست تعمل

(نحو : الحسن والكريم ، وما أشبهه ذلك مجرى الفعل إذا أظهرت بعده الأسماء وأضمرتها ، وذلك قولك : مررت برجل حسن أبواه) ، إلى آخر الفصل.

قال أبو سعيد : مبنى هذا الباب على ما تقدم من توحيد الفعل ، وحقيقة الفعل أنه لا يثنى ولا يجمع ، ولو كان الفعل يثنى ويجمع لكان إذا فعله فاعله مرتين ثني وفاعله واحد ، فيقال : زيد قاما ، وزيد يقومان ، وإذا فعله مرارا قيل : زيد قاموا ، وزيد يقومون ، وهذا باطل لا يعقل ، فهو موحد على كل حال ، وإذا تقدم على الفاعل ظهر توحيده في اللفظ ، وأتى بعده منفصلا منه فاعله موحدا كان أو مثنى أو مجموعا ، كقولك : قام زيد ، وقام أخواك وقام أصحابك ، وإذا تقدمت الأسماء فعمل فيها الابتداء وغيره ، ثم أتي بعد هذا الفعل ، ثم لا بد للفعل من فاعل صار ضمير تلك الأسماء هو فاعل الفعل ، واتصل بالفعل كقولك : زيد قام ، والزيدان قاما ، والزيدون قاموا ، ففي قام ضمير من زيد في النية لا علامة له ، والألف في قاما ضمير الزيدين ، والواو في قاموا ضمير الزيدين.

وإنما أضمرت الأسماء في الفعل ولم تعد ظاهرة لعلتين :

إحداهما : أن الضمير أخف لفظا من الظاهر.

والأخرى : أنه قد علم أن الضمير لا يأتي مبتدأ من تقديم اسم ظاهر ، فعلم أن الضمير يعود على ما جرى ذكره من الأسماء.

وإذا ذكر بعده ظاهر جاز أن يتوهم الضمير الأول إذ الأسماء قد تشترك ألفاظها وهي شتى.

فإن قال قائل : لم لم يجعل للضمير الواحد علامة وجعل الاثنين والجماعة؟

قيل : لأنه معلوم أن الفعل لا بد له من فاعل لا يخلو من الاثنين والجماعة ، فخلوه من الاثنين والجماعة جعل لهما علامة لئلا يقع لبس ، واكتفى بما تقدم في الفعل من حاجة الفعل إلى فاعل من علامة ظاهرة.


وإذا قيل : زيد قام هو ، فالضمير الذي قام في النية وهو توكيد له ، ومما يحتج لتوحيد الفعل من واحد كان أو من أكثر.

إنك تقول : أعجبني قيام القوم ، فيوحّد القيام ، وإن كان لجماعة إذ كان معناه معنى شيء واحد من الجماعة ، وكذلك : أعجبني قيام الرجلين ، وإذا كنّا نوحده للاثنين والجماعة ، وهو اسم تمكن تثنيته وجمعه فكيف إذا ثنيته على شيئين مختلفي المعنى؟

لأنك إذا قلت : قام دلت على قيام وزمان ماض غير محدد تعيينه ، فكيف يجوز أن تثنيه وأنت في الذي هو اسم يختار أن يبنى بلفظ الواحد عن جماعة؟

وقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)(١) فوحد البغي وهو مضاف إلى جماعة ، وقال عزوجل : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(٢) ، فأضاف القول موحد إلى جماعة ، وإذا كان الفعل لمؤنث وهو مقدم ، فالتأنيث على ضربين :

أحدهما : تأنيث حقيقي.

والآخر : غير حقيقي.

فأمّا الحقيقي فهو أنثى كل نوع من الحيوان الذي فيه ذكر وأنثى ، كالمرأة في الناس ، والناقة في الإبل ، والأتان في الحمير ، فهذه الأشياء تأنيثها حقيقي لأنه لخلق فيها تبين بها من المذكر.

فهذا الضرب إذا تقدم فعله فكان ماضيا ، وردت في آخره تاء ساكنة لعلامة التأنيث ، وإذا كان مستقبلا جعلت حرف المضارعة تاء مكان الياء بغيرها ، فقلت : قامت هند ، وخرجت المرأة ، وماتت الناقة ، وولدت الأتان.

وفي المستقبل : تقوم هند ، وتخرج المرأة ، وتلد الأتان والشاه ، وما أشبهها.

ولا يحسن إسقاط علامة التأنيث ، وأقواها في ذلك مؤنث ما يعقل.

وأما التأنيث غير الحقيقي ، فهو ما كان تأنيثه وتذكيره واقعين على ما لا خلقة فيه فاصلة بين الذكر والأنثى ، كنحو : دار ، وقدر ، وعين ، وأذن ، وفخذ ، وما أشبه ذلك فإذا تقدم الفعل في هذا الضرب فالأصل الذي رتب اللفظ له إثبات علامة التأنيث كقولنا :

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٧.


بنيت دارك ، وكحلت عينك ، وأشباه ذلك ، ويجوز إسقاط علامة التأنيث كقولك : بنى دارك وكحل عينك ، وما أشبهه ذلك ، وكل تأنيث حصل في مؤنث بعلامة أو بغير علامة في جمع أو واحد من غير خلقة التأنيث التي تكون لإناث الحيوان بفرج يكون لهن ، فهو تأنيث غير حقيقي ، وإذا تقدم المؤنث الذي تأنيثه غير حقيقي ثم أتي بفعله وأضمر لم يحسن إسقاط علامة التأنيث كحسن إسقاطها إذا تقدم الفعل ، وذلك قولك : دار بنيت ، وعينك كحلت ، ولو قلت : دارك بني ، وعينك كحلت ، لم يحسن كحسن بني دارك ، وكحل عينك لأنك إذا قدمت الفعل فصلت الفاعل من الفعل وظهر لفظه الموضوع للتأنيث ، فاكتفي به وأغنى عن العلامة ، وإذا تقدم الاسم صار الفعل لضميره ، وهو مختلط بالفعل وليس في لفظه دلالة على التأنيث ، لأن ضمير الواحد والاثنين الفاعلين في الفعل الماضي في المذكر والمؤنث سواء ، فكرهوا إسقاط العلامة مع ذهاب اللفظ الموضوع للتأنيث ، وقد يجيء في الضرورة إسقاط علامة التأنيث في فعل الحيوان.

وحكى بعض الرواة عن بعض العرب : حضر القاضي اليوم امرأة ، ولم يكن قصدنا في هذا الموضع ذكر أحكام التأنيث والتذكير فنستقصيه بأكثر من هذا ، وإذا عرض منه بعد هذا شيء ذكرته في موضعه إن شاء الله تعالى ، واعلم أن بعض العرب يجعل في الفعل المقدم علامة التثنية والجمع كما جعل فيه علامة التأنيث ، فتقول : ضربوني قومك ، وضرباني أخواك ، وضربتني أخواتك ، كما قالوا : قالت فلانة ، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجميع علامة ، كما جعلوا للمؤنث وهي قليلة ، قال الفرزدق :

ولكن ديافيّ أبوه وأمّه

بحوران يعصرن السليط قرائبه (١)

وقال آخر :

يلومونني في اشتراء النخيل

أهلي فكلهم يعذل

وأهل الذي باع يلحونه

كما ألحى البائع الأوّل (٢)

وأنشد الفراء البيت الأول من هذين بالميم ، فقال :

يلوم ، وهي أبيات لأمية ، لو لا كراهة الإطالة لأنشدتها كلها.

__________________

(١) ديوان الفرزدق / ٥٠ ، الخزانة ٢ / ٣٨٦ ، ٣ / ٢٩٣ ، ٤ / ٥٥٤.

(٢) البيتان لأمية بن أبي الصلت ديوانه ٤٨ ، الدرر اللوامع ١ / ٢.


وقال آخر في التثنية :

ألفينا عيناك عند القفا

أولى فأولى لك ذا واقيه (١)

وهذا قليل في الكلام غير مختار.

فإن قال قائل : لم صار إثبات علامة المؤنث لازما في بعض المؤنث ، وفي بعض إثباتها أكثر من تركها ، وإن لم يكن لازما ، وإثبات علامة التثنية والجمع قليل غير مختار ، وما الفصل بين ذلك؟

ففي ذلك غير جواب ، فأحد الأجوبة : أن التأنيث لازم للاسم لا يفارقه ، والتثنية والجمع قد تفارق ، لأن المثنى والمجموع إذا أفرد كل واحد منهما زالت التثنية والجمع.

والجواب الثاني : أن المذكر والمؤنث هما جنسان متباينان ، ليس أحدهما بعضا للآخر والواحد والتثنية والجمع بمنزلة شيء واحد إذ كان ترك التثنية والجمع من الواحد ، فلم يجعل بين فعلهم إذا قدّم فصل ، كما لا فصل بين الثلاثة والأربعة.

ومنزلة الواحد من الاثنين في الزيادة ، كمنزلة الثلاثة من الأربعة.

والجواب الثالث : أن علامة التثنية والجمع كضمير التثنية والجمع ، فلو قدمناه لم يعلم أهو علامة أم ضمير شيء تقدم ذكره؟ فتجنبوا أن يقولوا : قاما أخواك ، وقاموا أخوتك ، فتكون الألف في قاما أخواك ، وقاموا أخوتك ، فتكون الألف في قاما أخواك كالألف في أخواك ، فأما الواو في قاموا أخوتك ، كالواو في أخوتك قاموا.

واعلم أن الاسم الجاري على الفعل يعمل في الاسم كعمل الفعل ، ويجري على ما قبله صفة أو حالا أو خبرا ، فإذا تقدم على ما يرفعه ، كان الاختيار التوحيد كالفعل ومن يثني الفعل إذا تقدم على ما يرفعه ويجمع ، ثنى اسم الفاعل وجمع ، وما كان علامة التأنيث فيه لازمة من فعل المؤنث إذا تقدم ، فعلامة التأنيث لازمة لاسم الفاعل منه ، والأصل في اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل أن يكون مما يجمع جمع السلامة ، وذلك أن الفعل هو العامل في الأصل ، واسم الفاعل محمول عليه.

وقد ذكرنا أن الفعل موحّد ويتصل به ضمير الفاعلين ، فيصير في لفظ شيء مجموع جمع السلامة ، كقولك : زيد قام ، والزيدون قاموا ، فلفظ قام لم يتغير واتصل به علامة

__________________

(١) البيت لعمرو بن ملفظ. الخزانة ٣ / ٦٣٣ ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٣٢.


الجمع ، وكذلك الزيدون قائمون ، وأخوتك خارجون ، دخلت الواو على لفظ قائم وخارج ، وقد تحمل على اسم الفاعل ما لا يجمع جمع السلامة ، وما ليس بجار على الفعل على ما ستقف عليه مما يذكر في هذا الباب لموافقة بينهما تجيز حمله عليه.

وعلى هذه الجملة التي قدمتها أو بعضها مبني على كلام سيبويه في هذا الباب ، والله يحسن توفيقنا وإرشادنا بمنّه.

قال : (فإن بدأت بالاسم قبل الصفة قلت : قومك منطلقون ، وقومك حسنون) ، جمعت منطلقون لوقوعه موقع فعل يتصل به ضمير مجموع ، (وأذاهبة جاريتان؟ وأكريمة نساؤك؟). وحدت اسم الفاعل لوقوعه موقع الفعل الموحد لتقدمه ، وإنما وحدت كريمة ، وجمعت نساؤكم لأن كريمة تجري على الفعل فتوحد في التقدم ، وتجمع في التأخير ، إذا قلت : نساؤكم كريمات ، والألف والنون للاثنين ، والواو والنون لجمع مذكر ما يعقل ، والألف والتاء لجمع المؤنث وجمع ما لا يعقل ، وقال : (أقرشيّ قومك) ، فأجراه مجرى اسم الفاعل ، وإن لم يكن اسم فاعل كأنه قال : أمتقرّش قومك ، في معنى : أيتقرّش قومك ، كما قالت العرب : تنزر الرجل ، وتقيّس ، وتمضّر ، في معنى انتسب إلى نزار ، وقيس ، ومضر ، فلهذا وحد أقرشي وقومك جمع ، فاستشهد سيبويه في توحيد الفعل المقدّم بقوله :

(أليس أكرم خلق الله قد علموا

عند الحفاظ بنو عمرو بن حنجوت) (١)

بنو عمرو ، اسم ليس ، وأكرم خلق الله : الخبر ، ولم يقل : أليسوا. وهذا طريف من الاستشهاد ، لأن توحد الفعل المتقدم في عامة كتاب الله تعالى وسائر كلام الناس ، أكثر من أن يحتاج إلى شاهد ، وبعده من كلام سيبويه ما أتى التفسير عليه إلى أن قال :

(وقال بعض العرب : قال فلانة ، وكلما طال الكلام فهو أحسن نحو قولك : حضر القاضي امرأة ، لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل ، وكأنه شيء يصير بدلا من شيء كالمعاقبة ، نحو قولك : زنادقة ، فحذف الياء لمكان الهاء ، وكما قالوا في مغتلم ، مغيلم ومغاليم ، لأن الياء صارت بدلا لمّا حذفوا التاء ، لأنه صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء كما كفاهم الجميع والاثنان حين أظهروهم عن الواو والألف ، وحذف التاء في الواحد من الحيوان قليل ، وهو في الموات كثير).

__________________

(١) البيت لمسلم بن الوليد ، سيبويه ١ / ٢٣٥.


قال أبو سعيد : قد ذكر سيبويه عن العرب حذف علامة التأنيث من الحيوان مع قلته ، وكان أبو العباس محمد بن يزيد ينكر ذلك أشد الإنكار ، ويقول :

لم يوجد ذلك في قرآن ، ولا في كلام فصيح وشعر ، والذي قاله سيبويه أصحّ لأنه حكاه عن العرب ، وهو غير متهم في حكايته ، واحتج له بما لا مدفع له وقد قال جرير فيه في قوله ما يوافق حكاية سيبويه ، وهو :

لقد ولد الأخيطل أمّ سوء

على باب استها صلب وشام (١)

وليس كل لغة توجد في كتاب الله عزوجل ولا كل ما يجوز في العربية يأتي به القرآن أو الشعر ، ولأبي العباس مذاهب يجوزها لم توجد في قرآن ولا غيره ، من ذلك إجازته :

إن زيد قائما ، قياسا على : ما زيد قائما ، ولا أظن الاستشهاد عليه ممكنا في شيء من الكلام.

قال : (وهو في الموات كثير) ، يعني : حذف التاء من فعل الموات الماضي ، (ففرقوا بين الموات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم) في الجمع ، (تقول : هم ذاهبون ، وهم في الدار ، ولا تقول : جمالك ذاهبون ، ولا تقول : هم في الدار ، وأنت تعني الجمال ، ولكنك تقول : هنّ ، وهي ذاهبة ، وذاهبات).

قال أبو سعيد : جعلت العرب لما يعقل في مواضع اختصاصا في اللفظ ، وفصلت بينه وبين ما لا يعقل فيه لما اختص به ما يعقل بأنه يخاطب ويخاطب ، ويأمر ، ويؤمر ، وتخبر وتخبر عنه. وما لا يعقل ليس له من ذلك إلا أنه يخبر عنه ، فجعل لما يعقل تفضيل واختصاص ، وجعل ذلك التفضيل في اللفظ للمذكر مما يعقل دون المؤنث لفصل المذكر على المؤنث ، وذلك جمعه السالم بالواو والنون ، الياء والنون ، وذلك قولك : الرجال ذاهبون ومنطلقون ، ورأيتهم ذاهبين ومنطلقين ، وجمع ضميره بالهاء والميم ، كقولك : الرجال هم في الدار ، وأخوتك هم عندنا ، وتقول للنساء في الجمع السالم : الهندات ذاهبات ومنطلقات ، وضميرهن بالهاء والنون تقول : النساء رأيتهنّ ، والنوق رأيتها ، ثم ألحق ما لا يعقل بلفظ المؤنث لنقص رتبته عن ما يعقل ، كنقص رتبة المؤنث

__________________

(١) البيت لجرير ديوانه / ٥١٥ ، ابن يعيش ٥ / ٩٢.


عن المذكر.

وسمى سيبويه في هذا الفصل ما لم يكن من الحيوان مواتا وإن كان في الحقيقة ليس من الحيوان ولا من الموات لمساواته الموات في اللفظ ، فقال :

(ومما جاء في القرآن من مساواته الموات في اللفظ فقال ومما جاء في القرآن من الموات قد حذفت فيه التاء نحو قوله جلّ وعز : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)(١)) ، والموعظة ليست من الموات في الحقيقة ، قال : (وهو في الآدميين أقل منه في سائر الحيوان).

يعني : حذف التاء من مؤنث ما يعقل من الآدميين أقل من حذفها من سائر الحيوان ، لما ذكرنا من فضلهم في الخطاب وغيره. والجن في قياس الإنس : مؤنثهم ومذكرهم.

وقال آخر في جمع التذكير ، قال : (ألا ترى أن لهم في الجميع حالا ليست لغيرهم لأنهم الأولون ، وأنهم قد فضلوا بما لم يفضل به غيرهم من العلم والعقل) وخلق الله ما يعقل لعبادته المؤدية لهم إلى منافعهم ، وخلق ما لا يعقل لمصالح ما يعقل ، فهم الأصل في الخلق والأولون.

واعلم أن الجموع المكسرة مؤنثة كلها يستوي في حكم اللفظ جميع المؤنث والمذكر وما يعقل وما لا يعقل.

وحكم اللفظ في تأنيثها حكم تأنيث الموات ، تقول :

رجل وهي الرجال ، وجمل وهي الجمال ، وعير وهي الأعيار ، فجرت هذه كلها مجرى هذه الجذوع لأنه قد خرج عن الواحد الأول الأمكن الذي يقع بالخلقة فيه الفرق بين المؤنث والمذكر ، وأجري كله مجرى الموات.

قالوا : جاء جواريك وجاء نساؤك وجاء بناتك.

فلم تلزمه التاء كما لزمت : جاءت جاريتك ، وجاءت امرأتك ، وجاءت بنتك ، لأن هذا التأنيث الحادث لجمع التكسير غير التأنيث الحقيقي الذي كان في الواحد.

قال : (وقالوا فيما لم يكسر عليه الواحد لأنه في معنى الجمع) يعني : نسوة في

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥.


قوله : (وَقالَ نِسْوَةٌ)(١) وإن لم يكن لها واحد من لفظها ، والنسوة جمع ليس لها واحد من لفظها ، وهما مشتركان في جواز إسقاط تاء التأنيث منهما لما ذكرت لك.

فنسوة حكمها حكم الجمع ، كما أن لمّا كان معناها معنى الجمع جاز أن يرد لفظها على المعنى ، فيقال :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(٢) ، وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ)(٣) يجوز أن يكون (الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٤) بدلا من الواو في : أسروا ، وأسروا : عطف على (اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(٥) ، ويكون من لغة من قال :

قاموا إخوتك ، وأكلوني البراغيث.

(وقال الخليل : فعلى هذا المثال تجري هذه الصفات ، وكذلك شاب ، وشيخ ، وكهل ، إذا أردت : شابين وشيخين وكهلين).

(تقول : مررت برجل كهل أصحابه ، ومررت برجل شاب أبواه).

قال أبو سعيد : قد تقدم أن الصفة الجارية مجرى الفعل هي التي تجمع جمع السلامة ، كما أن الفعل يتصل به تثنية الضمير وجمعه ، فلذلك صار شاب أبواه على مذهب شابين وشيخين وكهلين ، أي مذهب : شبوا وشاخوا واكتهلوا ، وإذا تقدم الفعل وحّد ، واسم الفعل الموحد المقدم بمنزلة الفعل المقدم الموحد ، فإذا ثنيت شيئا من هذا أو جمعته فالوجه فيه أن ترفعه بالابتداء والخبر لأنك أخرجته عن مذهب بترك التوحيد ، فقلت : مررت برجل شبان أبواه كاهلون أصحابه ، تجعله بمنزلة قولك :

مررت برجل خزّ صفّته.

قال الخليل : ومن قال : أكلوني البراغيث ، أجرى هذا على أوله ، فقال : مررت برجل حسنين أبواه ، ومررت بقوم قرشيين آباؤهم.

قال أبو سعيد : لأن هذا مذهب الفعل عند أهل هذه اللغة.

قال سيبويه : (وكذلك نحو : أعور وأحمر ، تقول : مررت برجل أعور أبواه ،

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة يونس ، الآية : ٤٢.

(٣) سورة الأنبياء ، الآية : ٣.

(٤) سورة الأنبياء ، الآية : ٣.

(٥) سورة الأنبياء ، الآية : ٢.


وأحمر أبواه ، فإن ثنيت قلت : مررت برجل أحمران أبواه ، وتجعله اسما. ومن قال : أكلوني البراغيث ، قلت : على حد قوله : مررت برجل أعورين أبواه ، وتقول : مررت برجل أعور آباؤه ، كأنك تكلمت به على حد : أعورين وإن لم يتكلم به كما توهموا في : هلكى ومرضى وموتى ، إنه فعل بهم فجاؤوا به على مثال : جرحى وقتلى ، ولا يقال : هلك ولا مرض ولا موت.

وقال الشاعر : وهو النابغة الجعدي :

ولا يشعر الرّمح الأصمّ كعوبه

بثروة رهط الأبلج المتظلّم (١)

 وقال الكوفيون : مررت برجل أعور أبوه ، ومررت برجل زرقاء عينه فتجرى أعور وزرقاء على إعراب ما قبله ، ويرفع ما بعده. وتأولوا : مررت برجل زرقاء عينه مزرقة عينه ، وزرقة عينه ، ولا يجوز عندهم أن يرفع بلفظ الواحد من ذلك اثنان ، لا يقول : مررت برجل أعور أبواه ، ولا مررت برجل زرقاء أمتاه.

فإن ثنيت أعور ، وزرقاء ، جاز فيه الاستئناف وإجراؤه على الأول ، وترفع ما بعده به ، يقولون : مررت برجل أعوران أبواه ، ومررت برجل زرقاوان عيناه ، وإن ثنيت : أعورين أبواه ، وزرقاوين عيناه.

ولهم في نحو هذا مسائل كثيرة : كرهنا إطالة الكتاب بذكرها إلا أن إجازتهم : مررت برجل زرقاء عينه ، على مزرقة عينه ، ومررت برجل أعور أبواه ، فوجب عليهم توحيد الأول مع تثنية الثاني على ما قال سيبويه ، لأنهم إذا جعلوا زرقاء في معنى مزرقة ونائبة عنها ، ورفعوا العين بها فلا بد من أن يكون أعور أبواه بمعنى : معور أبوه وترفع الأب به ، ولا ضمير فيه ، فإذا ثنيت ما بعده وقد جعلته نائبا عن اسم الفاعل جاز أن تثني وتوحد وتثني ما بعده إذا جاز أن يكون ذلك في اسم الفاعل كقولك : مررت برجل معور أبواه ، ومزرقة عيناه.

وإنما رفع سيبويه ب (أعور) على معنى معور ، وجرى في التثنية والجمع على ذلك المذهب موحدا.

ومن قال : مررت برجل أعور آباؤه على معنى معور آباؤه ، غير أن معورا يجمع

__________________

(١) ديوان النابغة الجعدي / ١٤٤ ، السبع الطوال / ٣٤٧.


جمع السلامة ، فيقال : معور ومعورون. وأعور ، لا يجمع جمع السلامة ، وناب ما يجري على الأول أن يجمع جمع السلامة.

فقال سيبويه : (إن أعور إن كان لا يجمع جمع السلامة ، فقد أجروا واحده على الأول على تأويل المعور إذا رفع به واحد ، وكذلك إذا رفع به اثنان أو جماعة).

ومعنى قول سيبويه : وتقول : مررت برجل أعور آباؤه كأنك تكلمت به على حد أعورين ، ولم يتكلم به كما توهموا في هلكى ومرضى وموتى أنه فعل بهم أن ما كان من الجمع على (فعيل) إنما يكون لما كان مبنيا على فعل ما لم يسمّ فاعله ، والاسم منه (فعيل) كقولهم : جريح وقد جرح ، وصريع وقد صرع ، وقتيل وقد قتل ، والجمع : جرحى ، وصرعى ، وقتلى.

ثم قالوا : في جمع أشياء ليس اسمها على فعيل ولا الفعل منه على فعل منها : هالك وهلكى ، ففعله : هلك ، ومرضى الفعل منه : مرض على لفظ ما سمي فاعله.

وكذلك موتى ومات يموت ، وليس مما لم يسم فاعله واسمه : ميّت على فعيل ، فتقدير : أعورين وإن لم يتكلم به كتقدير : هلك فهو هليك ، ومرض فهو مريض حتى يصح أن يكون جمعه : هلكى ومرضى وإن لم يتكلم به.

وقال الكوفيون في قوله : الأصم كعوبه ، فوحد الأصم به وجمع الكعوب لأن الكعوب جرى مجرى الواحد ، لأن مثاله مثال الواحد ، كما أن الصعود والنزول وما أشبه ذلك ، وهذا لا يبطل به ما احتج لأنّا لو أجرينا كعوبا مجرى الواحد لأن له مثالا في الواحد ، لجاز أن تقول : كعوبها أصم ، وهذا لا يقوله أحد ، فلا بدّ من حمل الأصم على معنى اسم الفاعل ، كأنّا قلنا : الصلب كعوبه ، أو الشديد وإذا ثنينا أعور ونحوه ، فالاختيار عند سيبويه الرفع على الابتداء والخبر ، فيقال : مررت برجل أحمران أبواه ، إلا في قول من قال : أكلوني البراغيث ، وضرباني أخواك ، فإنه يقول : أحمرين أبواه ، ويجري أحمرين مجرى محمّرين ، ويجري محمرين مجرى محمّران وأحسن من قولك : مررت برجل أعورين أبواه ، ومررت برجل أعور آباؤه ، أن تقول : مررت برجل صمّ قومه ، ومررت برجل حسان قومه ، وعور قومه وذلك أن هذا جمع مكسّر لا يجري مجرى الفعل المجموع اللفظ فيكون بمنزلة : حسنين قومه على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، فإذا لم يجر مجرى الفعل المجموع صار حكمه حكم الواحد فاجتمع فيه لفظ الجمع وحكم الواحد ، فكأنه نقل من


لفظ واحد إلى لفظ آخر يكون الواحد يحرسه أن تلحقه زيادة التثنية أو الجمع كالزيادة التي لحقت في : قرشيّ في الاثنين والجميع ، فلهذا صار : مررت برجل حسان قومه أحسن من : مررت برجل قرشيين قومه ، فصار الوجه : قرشيون قومه ، والذي يجري مجرى الفعل ما دخله الألف واللام والنون في التثنية ، والواو والنون في الجمع ولم تغيره نحو قولك : حسن وحسنان ، فالتثنية لم تغير بناءه ، وتقول : حسنون ، فالواو والنون لم تغير الواحد فصار هذا بمنزلة : قالا وقالوا ، لأن الألف والواو لم تغير الفعل ، وأمّا : حسان وعور فإنه اسم كسّر عليه الواحد فجاء مبنيا على مثال بناء الواحد ، وخرج من بناء إلى بناء آخر لا تلحقه في آخره زيادة كالزيادة التي لحقت في قول في الاثنين والجميع ، فهذا والجميع له بناء بني عليه كما بني الواحد على مثاله فأجرى مجرى الواحد.

ومما يدل على أن هذا الجمع ليس كالفعل أنه ليس شيء من الفعل إذا كان للجمع على غير بنائه إذا كان للواحد ، فمن ثم صار : حسان وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد نحو : مررت برجل جنب أصحابه ، ومررت برجل صرورة قومه ، واللفظ واحد ، والمعنى أنه جمع ، يعني أن حسان وإن كان جمع حسن فمذهبه في الباب مذهب جنب وصرورة اللذين يقعان للواحد والجميع وليستا مكسرتين لأن حسان على غير لفظ الواحد المزيد عليه علم الجميع. وفي بعض النسخ في الكتاب فصل أذكر أنه ليس من كلام سيبويه وأنه شرح ، وقد أتى على معناه تفسيرنا وهو :

واعلم أن ما كان يجمع بغير الواو والنون نحو : حسن وحسان فإن الأجود فيه أن تقول : مررت بزيد حسان قومه ، وما كان يجمع بالواو والنون نحو : منطلق ومنطلقين ، فإن الأجود فيه أن يجعل بمنزلة الفعل المقدم فتقول : مررت برجل منطلق قومه.

إلى هنا قال أبو العباس محمد بن يزيد : أختار في كل ما جمع بالواو والنون ، الإجراء على الأول.

وأمّا ما كسّر فإني أختار فيه أن أجريه مجرى باب خير منه فأقول : مررت برجل عور قومه ، بالابتداء والخبر ، وكذلك حسان وكرام.

وقال أبو إسحق الزجاج : الجيد قول سيبويه في قولك :

مررت برجل عور قومه بالجر لأنه قد كان يجوز : برجل منطلقين آباؤه ، فإذا جاز في الذي فيه علامة الجمع كان الاختيار في الجمع الذي ليس يلحقه ما يلحق الفعل ، وهذا


قياس يستمر في العربية وقد مضى فيه قبل هذا الفصل من الشرح ما فيه مقنع إن شاء الله.

قال : (واعلم أنه من قال : ذهب نساؤك ، قال : إنه لذاهب نساؤك ، ومن قال : جاءه موعظة ، قال : أجائيّ موعظة ، يعني يذهب الهاء من اسم الفاعل كما أذهب التاء من الفعل ، وقرأ أبو عمرو : " خاشعا أبصارهم" ، وقال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي :

بعيد الغزاة فما إن يزا

ل مضطمرا طرتاه طليخا (١)

وقال الفرزدق :

وكنّا ورثناه على عهد تبّع

طويلا سواريه شديدا دعائمه (٢)

وقال الفرزدق أيضا :

قرنبي يحكّ قفا مقرف

لئيم مآثره قعدد (٣)

وقال الآخر وهو أبو زبيد الطائي :

مستجن بها الرّياح فما يج

تابها في الظّلام كل هجود (٤)

وقال رجل من بني أسد :

فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى

من القوم مسقى السّمام حدائده (٥)

وقال آخر وهو الكميت بن معروف :

وما زلت محمولا عليّ ضغينة

ومضطلع الأظغان مذ أنا يافع (٦)

وهذه كلها شاهد في تذكير اسم الفاعل ، وفاعله مؤنث.

قال : وهذا في الشعر أكثر من أن أحصيه لك.

ومن قال : أذاهب فلانة ، قال : أذاهب فلانة وأحاضر القاضي امرأة ، وقد يجوز في الشعر : موعظة جاءنا كأنه اكتفى بذكر الموعظة عن التاء).

قال أبو سعيد : قد ذكرت أن علامة التأنيث المضمر وإن لم تكن حقيقي التأنيث

__________________

(١) ديوان الهذليين ١ / ١٣٥ ، الخصائص ٢ / ٤١٣.

(٢) ديوان الفرزدق / ٧٦٥.

(٣) ديوان الفرزدق / ٢٠٥.

(٤) ديوان أبو زبيد الطائي / ٥٤ ، المقتضب ٤ / ٢٥٠.

(٥) البيت لأشعث بن معروف سيبويه ١ / ٣٢٩.

(٦) سيبويه ١ / ٢٣٩ ، العيني ٣ / ٣٢٤.


لازمة ، لأن الذي يذكر فعل المؤنث يكتفي بما يظهر من تأنيث الاسم الظاهر ، فإذا كني عنه فقد بطل لفظ ظاهره الدالّ على التأنيث فلا بد من تأنيث الضمير للدلالة على حكم الاسم المضمر من تأنيث أو تذكير ، فإذا ذكّره الشاعر ، فإنما هو ضرورة فيحمل الاسم المؤنث على اسم آخر له مذكر ينوب منابه كما قال الأعشى :

فإمّا ترى لمتى بدّلت

فإنّ الحوادث أودى بها (١)

فيجعل الحوادث بمعنى الحدثان.

فإن قال قائل : فلو قال : أودت بها لا تزن ، فما أحوجه إلى تأويل الحدثان؟

قيل له : أحوجه إلى ذلك أن القصيدة مردفة بألف ، ولو أتى بتاء التأنيث لم يستقم أن يكون البيت من القصيدة ، وأول القصيدة :

ألم تنه نفسك عمّا بها

بلى عادها بعض أطرابها (٢)

وقد روي : فإن الحوادث تعني بها ، وعلى هذه الراوية ما فيه ضرورة ، وقال عامر بن جوين الطائي :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

على تأويل ولا مكان ، وقد روي : ولا أرض أبقلت ابقالها بتخفيف همزة (ابقالها) ولا حجة فيه على هذا الإنشاد ، وقال آخر ، وهو الطفيل الغنوي : (٤)

إذ هي أحوى من الربعيّ حاجبه

والعين بالأثمد الحاري مكحول

فذهب بالعين مذهب الطرف ، كأنه قال : والطرف بالاثمد مكحول.

(وزعم الخليل : " أن السماء منفطر به" ، كقولك : معضّل للقطاة ، ومرضع للتي بها رضاع).

وهذا من باب امرأة حامل وحائض ، لأنه يختص به الأنثى ، وقد شرح في غير هذا الموضع ، فذهب منفطر ذات انفطار ومنفطرة على الفعل والعمل كقولك :

انفطرت فهي منفطرة ، وانشقت فهي منشقة وإذا قلت : مرضعة فهي على

__________________

(١) ديوان الأعشى / ١٢٠ ، الخزانة ٤ / ٥٧٨.

(٢) الخزانة ١ / ٢١ ، ٣ / ٣٣٠ ، شواهد المغني ٣١٩.

(٣) يروى : الحيري.

(٤) ديوان الطفيل الغنوي / ٢٩ ، ابن يعيش ١٠ / ١٨.


أرضعت ، وعلى ترضع. وأمّا قوله : ((وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(١) ، و (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(٢) ، و (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ)(٣) فزعم أنه بمنزلة ما يعقل ويسمع لما ذكرهم بالسجود ، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدثت عنه كما تحدّث عن الأناسى ، وكذلك في فلك يسبحون ، لأنها جعلت في طاعتها ، وفي أنه لا ينبغي لأحد أن يقول :

مطرنا بنوء كذا ، ولا ينبغي لأحد أن يعيد شيئا منها بمنزلة ما يعقل من المخلوقين ، ويبصر الأمور.

قال النابغة الجعديّ :

شربت بها والديك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا (٤)

وكان القياس بنات نعش واحدها ابن ، لأن ما لا يعقل من المذكر يجمع في جمع السلامة والتكسير ، كالمؤنث ألا ترى أنك تقول : حمّام وحمّامات ، وسرادق وسرادقات ، وتقول : جمل بارك ، وجمال بوارك ، ولا تقل رجل بارك ، ورجال بوارك ، وحمل بنو نعش على ما يعقل لما كان دورها على مقدار لا يتغير ، فكأنها تقدر ذاك الدور وتعقله.

قال : (فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمن وتطيع وتفهم الكلام وتعيد بمنزلة الآدميين.

قال : وسألت الخليل عن ما أحسن وجوههما ، فقال : لأن الاثنين جمع ، وهذا بمنزلة قول الاثنين ، نحو : دخلنا ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفردا وبين ما يكون شيئا من شيء).

المنفرد نحو : ثوب ودار وفرس إذا ثنّي هذا الضرب ، فالوجه لفظ التثنية كقولك : ثوبان وداران وفرسان.

والذي هو شيء من شيء نحو : وجه ورأس وبطن وظهر وقلب ، وهو من حيوان

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٤.

(٣) سورة النمل ، الآية : ١٨.

(٤) ديوان النابغة الجعدي / ٤ ، الخزانة ٣ / ٤٢١.


له هذه الأعضاء ، فإذا ثنوها فالاختيار لفظ الجمع في تثنيتها ، كقولك في تثنية وجه أوجه ووجوه.

قال الله عزوجل : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(١) ، وإنما صار هكذا لأن في البدن أعضاء كثيرة مثناة وهي أكثر البدن ، وإذا ضمّ ما في بدن واحد من المثنى إلى مثله صار جمعا لأنه يصير أربعة ، والواحد المضموم إلى مثله من آخر محمول على الاثنين ، فلذلك اختير الجمع.

ووجه آخر فرقوا بين ما في البدن منه واحد وما في البدن منه اثنان إذا ضموا أحد الاثنين إلى مثله من آخر يكون مثنى وإذا ضموا الواحد إلى مثله يكون جمعا للفرق ، وهذا هو الاختيار ، وقد يجمع الذي يختار تثنيته ويثنى الذي يختار جمعه. قال الراجز وهو خطام المجاشعيّ :

ظهراهما مثل ظهور الترسين (٢)

فثنى وجمع.

(وذكر يونس أن رؤبة كان يقول :

ما أحسن رأسيهما

وقالوا : وضعا رحالهما ، يريد : رحلي الراحلتين).

وحدّ الكلام وضعا : رحلي الراحلتين ، وربّما وجدوا ما يصفونه إلى الاثنين والجمع ، وأمنوا اللبس بدلالة المضاف إليه ، قال الشاعر :

كأنه وجه تركيين قد غضبا

مستهدف لطعان غير تذبيب (٣)

واحتج في لفظ الجمع الذي يراد به التثنية بقوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ)(٤) ، فذكر خصمين وهما اثنان ، وقبلها قالوا.

قال أبو سعيد : وليس في هذا حجة لأن الخصم يقع على جماعة ، والخصمين تقع

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية : ٤.

(٢) الخزانة ٣ / ٣٧٤ ، المخصص ٩ / ٧.

(٣) البيت للفرزدق الخزانة ٣ / ٣٦٩ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٢١.

(٤) سورة ص ، الآيتان : ٢١ ، ٢٢.


على جماعتين ، قال الله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ)(١) ، والحجة في قوله : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ)(٢) ، ولعل سيبويه أراد ذلك ، والله أعلم.

هذا باب إجراء الصفة على الاسم فيه

بعض المواضع أحسن

(وقد يستوي فيه إجراء الصفة على الاسم وأن تجعله خبرا فتنصبه.

فأمّا ما استويا فيه فقوله : مررت برجل معه صقر صائد به ، إن جعلته وصفا وإن لم تحمله على الرجل وحملته على الاسم المضمر المعروف ، نصبته.

فقلت : مررت برجل معه صقر صائدا به.

كأنه قال : معه ، ناب (صائدا به) حين لم يود أن يحمله على الأول ، كما تقول : أتيت على رجل مررت به قائم. إن حملته على الرجل وإن حملته على مررت به ، نصبته. كأنك قلت : مررت به قائما).

قال أبو سعيد : إذا قلت : مررت برجل معه صقر صائد به ، فقولنا : معه صقر : جملة في موضع الصفة ل (رجل) صقر مبتدأ ، ومعه خبر مقدم ، كما تقول : في الدار زيد.

وصائد به : صفة أخرى ، كما تقول : مررت برجل ضاحك.

وأصله : مررت برجل معه صقر صائد بصقر.

ولكن لما تقدم ذكر الصقر أوجب أن يكنى عنه إذا عاد ذكره.

فهاتان صفتان لرجل ، فإن لم تحمل صائدا على رجل ، وحملته على الهاء التي في معه ، وهو الاسم المضمر المعروف الذي عناه سيبويه ، نصبته ، وصار بمنزلة قولك : مررت برجل مع أبيه صقر صائدا به ، ومررت برجل مع جاريته صقر صائدة به ، ومررت برجل مع غلاميه صقر صائدين به.

إذا جعلت الصيد للاسم المتصل ب (مع) ، لم يكن سبيل إلى النعت ، لأنه لا تنعت معرفة بنكرة ، فنصب على الحال ، هذا في معنى قوله : تجعله خبرا.

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ١٩.

(٢) سورة ص ، الآية : ٢٣.


يعني : حالا فنصبته ، ومعنى قول سيبويه : (كأنه قال معه ناب صائدا) ، يعني : لو ابتدأ فقال : مع زيد أو معك أو معه لشيء قد جرى ذكره ، صقر صائدا به ، لم يكن بدّ من نصب (صائدا) لأنه لا يمكن صفة الأول المعرفة به.

وإذا نصبت صائدا على الحال ، فهو من الجملة التي هي صفة ، فيصير للأول صفة واحد ، ثم ذكر نظائر لم تقدم مما تجوز فيه الحال وغيره.

فقال : (ومثله : نحن قوم ننطلق عامدون إلى بلد كذا وكذا ، إن جعلته وصفا.

وإن لم تجعله وصفا نصبت ، كأنه قال : نحن ننطلق عامدين ، ومنه : مررت برجل معه باز قابض على آخر ، ومررت برجل معه جبة لابس غيرها.

وإن جعلته على الإضمار الذي في معه ، نصبت ، وكذلك : مررت برجل عنده صقر صائد بباز) ، وإن جعلته على الوصف ، فهو هكذا.

وإن حملته على ما في عنده من الإضمار ، نصبت ، كأنك قلت : عنده صقر صائدا بباز ، يعني كأنك بدأت فقلت : عنده صقر صائدا بباز لرجل جرى ذكره ، كما تقول :

عنده صقر صائدا بباز ، وكذلك : مررت برجل معه الفرس راكبا برذونا ، يعني قلت : مبتدئا معه ، على ما مضى من شرح مثله فهذا لا يكون فيه وصف ولا يكون إلا خبرا يريد حالا.

قال : (ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون ، لفسد كلام كثير ولكان الوجه : مررت برجل حسن الوجه جميله ، لأنك لا تقول : مررت بجميله حسن الوجه ، ولقال : مررت بعبد الله معه بازك الصائد به ، فنصب ، فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا يجوز أن تجعل المعرفة حالا يقع فيه شيء ، ولم تقل : جميله لأنك لم ترد أن تقول : إنه حسن الوجه في هذه الحال ، ولا أنه حسن وجهه جميلا وجهه ، في هذه الحال : حسن وجهه ، فلم يرد هذا المعنى ، ولكنه أراد أن يقول : هذا رجل جميل الوجه ، كما يقال : هذا رجل حسن الوجه ، فهذا الغالب في كلام الناس.

وإن أردت الوجه الآخر فنصبت ، فهو جائز لا بأس به ، وإن كان ليست له قوة الوصف في هذا ، فهذا الذي الوصف فيه أحسن وأقوى).

قال أبو سعيد : هذا الذي ذكره سيبويه عن النحويين من نصب ما لا يحسن فيه القلب ، أصله صفة مضافة إلى ضمير شيء جرى ذكره أو صفة متعلقة ، فضمير شيء


جرى ذكره ، ولو أظهر ذلك الضمير لم يقع فيه خلاف ، وجواز الصفة وحسن القلب فيه كقولنا :

مررت برجل معه صقر صائد بصقر ، ومررت برجل معه جبّة لابس غير جبّة ، وكذلك : مررت برجل حسن الوجه جميل الوجه.

فإذا أظهر الكناية جاز قلبه ولم يقع بينهم خلاف في جوازه ، ولا فرق في التحصيل من أن يكون مضافا إلى ظاهر أو مكنىّ في صحة معنى الصفة ، ألا ترى أنك تقول :

مررت برجل ملازمك ومكرمك ، وما أشبه ذلك ، كما تقول : مررت برجل ملازم زيد ومكرم عمرو ، وما أشبه ذلك ، ثم ألزمهم في نصبهم لقبح القلب أن ينصبوا المعرفة في قولهم : مررت بعبد الله معه بازك الصائد به ، ولا وجه لنصب الصائد إلا على هذه الحال ، ولا تجوز الحال فيما فيه الألف واللام من نحو الصائد وما أشبهه.

وقال في بعض ما نصبوه مما لا يحسن فيه القلب أن نصبه على الحال تجوز إذا حمل على الضمير الذي ذكرناه وفسرناه ، وبعضه يجوز وليس بوجه الكلام لأن المتكلم لا يريد الوجه الذي تصبح به الحال كقوله : مررت برجل حسن الوجه جميله ، إذا نصبنا جميله على الحال أنه حسن وجهه في حال جماله ، وليس ذلك بالمقصود من كلام الناس وإن أراده مريد فهذا إعرابه.

(ونحو ذلك ممّا الوصف فيه أحسن : هذا رجل عاقل لبيب ، لم تجعل الآخر حالا وقع فيه الأول ولكنه أثنى عليه) بعاقل ولبيب (وجعلهما شرعا سواء فيه وسوى بينهما في الإجراء على الاسم ، والنصب فيه جائز على ما ذكر فيه) ، فيقول : هذا رجل عاقل لبيبا ، وتقديره :

يعقل في حال لبّه (وإنما ضعف لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال ، ولكنه أراد أنهما ثابتان ولم يكن واحد منهما قبل صاحبه كما تقول : هذا رجل سائر راكبا دابة) ، وحسن سائر راكبا ، لأن تقديره : يسير راكبا ، وهو كلام حسن جيد مفيد.

(وقد يجوز في سعة الكلام) : هذا رجل عاقل لبيبا ، وحسن الوجه جميله على التقدير الذي ذكرناه.

قال : (ولا ينقض المعنى في أنهما شرع سواء فيه ، وسترى هذا النحو في كلامهم) ونحو هذا في كلامهم قول قائلهم : قم قائما ، وقد علم أن وقوع القيام في حال ما هو


قائم ، وقال الله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(١) وقد علم أنه رسول في حال الإرسال.

قال : (فأما القلب فباطل لو كان ذلك لكان الحدّ والوجه في قولهم : مررت بامرأة آخذة عبدها فضاربته ، النصب ، لأن القلب لا يصلح ، ولقلت : مررت برجل عاقلة أمّة لبيبة ، لأنه لا يصلح أن تقدم لبيبة فتضمر فيها الأم ، ثم تقول : عاقلة أمه ، وسمعناهم يقولون : هذه شاة ذات حمل مثقلة به ، قال الشاعر وهو حسان بن ثابت :

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه (٢)

ومما يبطل القلب قولهم : زيد أخو عبد الله مجنون به ، إذا جعلت الأخ صفة ، والجنون من زيد بأخيه لأنه لا يستقيم : زيد مجنون به أخو عبد الله ، وتقول : مررت برجل معه كيس مختوم عليه ، الرفع الوجه لأنه صفة الكيس ، والنصب جائز على قوله : فيها رجل قائما ، وهذا رجل ذاهبا).

قال أبو سعيد : ألزمهم بقبح القلب نصب خبر المبتدإ في : زيد أخو عبد الله مجنون به ، وذلك أن زيدا مبتدأ ، وأخو عبد الله صفته ، ومجنون به خبره ، والهاء تعود إلى عبد الله ، ولو قيل : زيد مجنون به أخو عبد الله ، لم يجز.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا من الاحتجاج لبطلان اعتبار القلب ما فيه مقنع وكثّر سيبويه المسائل في ذلك تشنيعا على قائله وتقبيحا له ، وقد طعن في استشهاده بالبيت ، والذي قاله صحيح على ما أذكره.

جعل سيبويه الهاء في واضعه ضمير الوحي ، وفي واضعه ضمير فاعل للرسول ، وقوله : عنده الوحي صفة لرسول ، وواضعه صفة أخرى ، ومعناه : مفشيه وذاكره ، لأنهم ظنوا أنه يخفي ما دبروه فيبلغوا إرادتهم ، فأفشاه الوحي فبطل ، ولا يحسن القلب فيه لأن الهاء في واضعه ضمير الوحي ، فإن قلب فقيل :

وفينا رسول واضعه عنده الوحي ، فقد قدّم ضمير الوحي وهو الهاء في واضعه ، ومعنى الوحي في البيت هو ما بيّنه الله بالوحي من صنيع القوم ، والذي كشفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٧٩.

(٢) ديوان حسان بن ثابت / ٢٧١ ، سيبويه ١ / ٢٤٢.


بالوحي ، وكشفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه ، وليس بحقيقة الإيحاء ، فهذا طريق واضح واحتجاج صحيح من سيبويه والذي ردّ على سيبويه ذهب إلى الظاهر من الوحي الذي هو نزول الملك عليه ، وليس ذلك ممّا يضعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل هذا القائل الهاء في واضعه للذي صنعتم كأنه قال : وفينا رسول الله عنده الوحي مبين ما صنعتم ، ولو قدم واضعه على هذا التأويل ، فقال : وفينا رسول واضعه ، لجاز لأن الهاء ترجع إلى الصنيع ، وقد تقدم ذكره في واضعه معنى آخر ، وهو أن يكون من قولنا :

وضعت الشيء ، أي : وضعت منه وأسقطته ، فيكون وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصنعهم إسقاطه وإبطاله. وفيه وجه آخر :

أن يكون الوحي مبتدأ ، وواضعه : خبره ، وعنده : ظرف لواضعه ، أو تقدير الكلام. وفينا رسول الوحي واضع ما صنعتم عنده.

قال : (فاعلم أنك إذا نصبت في هذا الباب ، فقلت : مررت برجل معه صقر صائدا غدا ، فالنصب على حاله ، لأنّ هذا ليس بابتداء ولا يشبه فيها (عبد الله قائم غدا) لأن الظروف تلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع ، فإذا صار مجرورا أو عاملا فيه فعل أو مبتدأ لم يلغه لأنه ليس يرفعه الابتداء.

وفي الظروف إذا قلت فيها : أخواك قائمان. ترفعه بالابتداء).

قال أبو سعيد : في هذا الفصل من كلام سيبويه ما يختلف في معناه ، والذي أقوله :

إن سيبويه أراد أن إلغاء الظرف ورفع ما بعده على الابتداء والخبر لا يجوز في هذا الموضع ، كما يجوز في المبتدإ الذي ليس قبله شيء كقولك مبتدئا : معك زيد قائما وقائم بالرفع والنصب ، فإن نصبته جعلت معك خبر زيد ، وجعلت زيدا مبتدأ ، ونصبت قائما على الحال ، وإن رفعت قائما ألغيت معك وقدّرت زيد قائم ، وقائم رفع لأنه خبر ، وكذلك فيها عبد الله قائم ، يجوز إلغاء فيها ورفع قائم فيكون التقدير : عبد الله قائم ، ولا يجوز الإلغاء إذا اتصل الظرف بما يكون نعتا له أو خبرا أو حالا إذا كان مع الظرف الضمير العائد إلى الأول ، وذلك قولك في نعت المجرور : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، وفي المنصوب الذي يعمل فيه : رأيت رجلا معه صقر صائدا به غدا ، وفي المبتدإ : زيد معه صقر صائدا به غدا.

وهذا معنى قوله : (فإذا صار مجرورا أو عاملا فيه فعل أو مبتدأ لم تلغه) ، وإلغاؤه


أنك لو حذفت معه لم يعد إلى المنصوب شيء من نعته ، ولا إلى المبتدإ شيء من خبره ، لأن قولك : معه صقر : جملة ، فإذا كانت في موضع نعت أو خبر أو حال لم يكن بدّ من عائد يعود إليه ، والعائد هو : الهاء في (معه) ، وإذا كان الكلام مبتدأ ليس قبله شيء فليس يمتنع من إسقاط الظرف مانع ، كقولك : فيها عبد الله قائم غدا ، وفيها أخواك قائمان لا يخل بالكلام إسقاط الظرف وإلغاؤه.

وقد ظن من فسّر الكتاب : أن سيبويه يرفع الاسم بالظرف لا بالابتداء ، فيكون (صقر) مرفوعا معه ، ويتأول قوله : (لأنه ليس يرفعه الابتداء) ، والذي عندنا من مذهب سيبويه في هذا الموضع وفي غيره أن الاسم تقدم أو تأخر يرتفع بالابتداء ، كقولك : خلفك زيد ، وعندك مال ، لأنك إذا قلت : إن عندك مالا ، نصبته ب (إنّ) والذي تنصبه إنّ هو الذي يرفعه الابتداء.

وأما قول سيبويه : (لأنه ليس يرفعه الابتداء) ، ترجع الهاء في (لأنه) إلى أول الكلام ، وإنما يريد ، لأن الهاء المجرورة في (معه) فاعرف ذلك إن شاء الله.

قال أبو سعيد : وفيما يرد من كلام سيبويه ما يحتاج إلى تبيين أصول تسهله ، فمن ذلك : أن اسم الفاعل إذا جرى على من هو له صفة أو حالا أو خبرا أو صلة ، لم يحتج إلى إظهار فاعله ، وكان الفاعل مضمرا فيه منونا وإن جرى على غير من هو له احتجت إلى إظهار فاعله كقولك في الصفة : مررت برجل معه امرأة ضاربها.

فضاربها : مخفوضا ، صفة لرجل ولا تحتاج إلى شيء بعده فإن قلت : ضاربها بالرفع احتجت أن تقول : ضاربها هو ، لأنك إذا رفعت فهو صفة للمرأة وفعل للرجل ، فجعلت ، ضاربه صفة لغير من هو فاعله فاحتجت إلى إظهار الفاعل ، وإن قلت : مررت برجل معه امرأة ضاربته لم يحتج إلى إظهار شيء بعده ، لأن ضاربته صفة لها وفعل لها ، وإن قلت : ضاربته بالخفض فجعلتها نعتا للرجل احتجت إلى أن تقول : ضاربته هي ، فتظهر اسم الفاعل فتقول : ضاربته هي ، ولو جعلت مكان اسم الفاعل فعلا ، لم تحتج إلى إظهار شيء وتكتفي بالضمير الذي فيه ، ويكون صفة لغير من هو له ، تقول : مررت برجل معه امرأة تضربه ، ومررت برجل معه امرأة يضربها.

فتجعل تضربه ويضربها صفة لمن شئت منهما ولا تحتاج إلى إظهار اسم الفاعل المستكن في الفعل ألا ترى أنك تقول : مررت برجل تضربه ، فيكون تضربه في موضع


الصفة له ، والفاعل المخاطب.

ولو قلت : مررت برجل ضاربه ، لم يجز حتى تقول :

أنت ، ولو قلت : مررت برجل يضربك ، ورددته إلى اسم الفاعل لقلت : مررت برجل ضاربك ، ولم تحتج إلى إظهار الفاعل.

قال سيبويه : (وتقول : مررت برجل معه امرأة ضاربته) ، فهذا بمنزلة : مررت برجل معه كيس مختوم عليه ، فهذا جرى على من هو له ، فإن قلت : ضاربها ، جررت صفة لرجل ونصبت حالا من الهاء ، وإن شئت قلت : ضاربها هو ، فيكون (هو) توكيدا للضمير الذي في ضاربها ، ويجوز أن يكون منفصلا فاعلا للضرب ، كقولك : مررت بامرأة ضاربها زيد ، وإن شئت جررت وجئت ب (هو) توكيدا ، فقلت : برجل معه امرأة ضاربها هو.

قال : (ومثل قولك : ضاربها هو قولك : مررت برجل معه امرأة ضاربها ، هو قولك : مررت برجل معه امرأة ضاربها أبوه ، إذا جعلت الأب مثل زيد) ، يعني يكون ضاربها هو متبدأ وخبرا في موضع نعت المرأة ، وكذلك إذا قلت : ضاربها أبوه ، ولو جعلت مكان أبوه زيدا جاز أيضا ، فقلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها زيد مبتدأ وخبر في موضع نعت المرأة ، والعائد من المرأة إلى الجملة (الهاء) في ضاربها ، وذكر أبوه فهو كذكر الأجنبي الذي هو زيد ، فإن جعلت الجملة صفة لرجل لم يكن بد من عائد إليه ، فقلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها هو أو ضاربها أبوه ، ولم يجز : ضاربها زيد ، لأنه لا شيء فيه يرجع إلى رجل ، ويجوز أن تجعل الاسم جاريا على ما هو صفته وترفع ما بعده به ، كقولك : مررت برجل معه امرأة ضاربها أبوه أو هو ، ولا يجوز أن نصف ما ليس فيه ما يعود إلى الموصوف ، ولا حالا مما ليس فيه ما يعود إليه لو قلت : مررت برجل ضاربها زيد ، أو مررت بعبد الله ضاربها خالد ، لم يجز لأنه ليس فيه ما يعود إلى الأول ، وإذا قلت : يا ذا الجارية الواطئها زيد ، تنصب الواطئها ، لم يجز لأنه صفة للجارية ، والضمير يعود إليها.

فإن قلت : يا ذا الجارية الواطئها أبوه ، جاز للضمير العائد في أبوه إلى المنادى ، وإذا قلت : يا ذا الجارية الواطئها ، نصبت صفة للمنادى ، والتقدير : يا ذا الجارية الذي وطئها فإن جعلت : الواطئها بمعنى التي جعلتها صفة للجارية وخفضتهما ، وجئت باسم الفاعل فقلت : الواطئها هو ، لأنّ واطئ ليس من فعل التي ، وقد وصلتها به فأظهرت اسم الفاعل ،


ولا يجوز حذف هو ، كما لا يجوز حذف أبوه وزيد ، إذا قلت : يا ذا الجارية الواطئها أبوه ، ويا ذا الجارية الواطئها زيد ، ولو جئت بالذي ووصلتها بفعل استغنيت عن إظهار الضمير فقلت : يا ذا الجارية التي وطئها إذا كان الوطء لزيد ، وقد جرى ذكره ، ويا ذا الجارية التي وطئها ، وإنما جاز ذلك في الفعل ولم يجز في اسم الفاعل لأنّ صيغة الفعل تدل على فاعله ، ويقع فيه الضمير الدالّ عليه لفظا ، واسم الفاعل ضميره في النية وليست له علامة ، ألا ترى أنّا نقول : زيد تضربه ، فنعلم أن الفاعل هو المخاطب ، وكذلك : زيد أضربه ، الضارب هو المتكلم للصيغة الدالة عليه ، ولو قيل : زيد ضاربه ، يريد ذلك المعنى ، لم يستقم ولم يدلك على المراد.

قال : (ولو جاز هذا) يعني : (يا ذا الجارية الواطئها ، وأنت تريد هو وتحذفها وما أشبهه مما ذكرناه لجاز : مررت بالرجل الآخذه ، تريد : أنت ، ولجاز : مررت بجاريتك راضيا عنها ، تريد : أنت ، ولو قلت : مررت بجارية رضيت عنها ، أو مررت بجاريتك قد رضيت عنها ، كان جيدا لأنك تضمر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار) ، وقد مضى الفصل بين الاسم والفعل.

وأهل الكوفة يجيزون حذف الفاعل من اسم الفاعل في مثل ما ذكرنا إذا كان له ذكر في أول الكلام كقولك : يدك باسطها ، يريد : باسطها أنت ، ولذكر الكاف في أوله جاز حذفها ، وقد أنشدوا :

وإن امرؤ أسرى إليك ودونه

من الأرض موماة وبيداء سملق

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أن المعار موفّق (١)

قالوا : أراد لمحقوقة أنت ، وحذف أنت لذكرها في إليك.

قال المفسر : والذي عندنا لمحقوقة استجابتك لصوته مبتدأ وخبر ، وهي في موضع خبر (أن) في العائد إلى اسم أنّ من الجملة الهاء ، في لصوته ، ولا يجوز حذف الفاعل بوجه ، وقد مضى الاحتجاج لذلك.

(وأمّا ربّ رجل وأخيه منطلقين ، ففيهما قبح حتى تقول : وأخ له ، فالمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله : وأخيه في موضع نكرة ، لأن المعنى إنما هو وأخ له.

__________________

(١) البيتان للأعشى ديوانه / ١٤٩ ، الخزانة ١ / ٥٥١ ، ٢ / ٤١٠.


فإن قلت : أمضافة إلى معرفة أم إلى نكرة؟

فإنك قائل : إلى معرفة ولكنّها أجريت مجرى النكرة ، كما أنّ مثلك مضافة إلى معرفة وهي توصف بها النكرة وتقع مواقعها ، ألا ترى أنك تقول : ربّ مثلك ، ويدلك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول : ربّ رجل وزيد ، ولا يجوز لك أن تقول : ربّ أخيه ، حتى يكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة.

ومثل ذلك قول بعض العرب : كلّ شاة وسخلتها ، أي : وسخلة لها ، ولا يجوز حتى تذكر قبلها نكرة فيعلم أنّك لا تريد شيئا بعينه ، وأنك تريد شيئا من أمة كل واحد منهم رجل وضممت إليه شيئا من أمة كلهم ، يقال له :

أخ ، ولو قلت : وأخيه تريد به شيئا بعينه كان محالا ، وقال الشاعر :

أي فتى هيجاء أنت وجارها

إذا ما رجال بالرجال استقلّت) (١)

 وجارها جر عطف على فتى ، ومعناه : أيّ فتى هيجاء أنت ، وأي جار هيجاء أنت ، وجارها : نكرة لأنّ أيّ إذا أضيفت إلى واحد لم يكن إلا نكرة لأنه في معنى الجنس ، كقولك : أيّ رجل زيد ، ولا تقل : أيّ غلامك زيد ، فجارها وإن كان مضافا إلى ضمير هيجاء نكرة مجرورة بإضافة أيّ إليه في التقدير ، ولا يجوز أن يكون رفعا لأنه إذا رفع فهو على أحد وجهين :

إمّا أن يكون عطفا على أنت ، أو عطفا على أيّ.

فإن كان عطفا على أنت صار غير أنت ، وصار شريك أنت في المدح ، وكأنه قال :أيّ فتى هيجاء أنت وزيد ، وتكون الهاء في جارها ضمير مؤنث غير هيجاء ، كأنه قال : أنت وجار هند وما أشبهها ، وإن قدّر أنت وجار الهيجاء ، فجار الهيجاء ليس برجل يعرف ، وليس قصد الشاعر إلى هذا وإن كان عطف ، وجارها على أيّ كان الكلام بإعادة حرف الاستفهام واحتاج أن تقول : أيّ رجل عندك ، وأزيد عندك؟ ومتى قال : وجارها لم يكن فيه أي : جارها الذي هو التعجب ، قال الأعشى :

وكم دون بينك من صفصف

ودكداك رمل وأعقادها

__________________

(١) البيت منسوب لكثير عزة ، سيبويه ١ / ٢٤٤.


ووضع سقاء وإحقابه

وحلّ حلوس وإغمادها (١)

وفيها حجة لربّ رجل وأخيه ، لأن قولك : من صفصف لا يليه إلا نكرة ، كما أنّ ربّ لا يليه إلا نكرة ، وأعقادها : معطوف على صفصف كعطف أخيه على رجل ، وكذلك أغمادها : معطوف على ما قبلها ، ولا تكون إلا نكرة ، والذي ذكره من ذلك كلام العرب ، وهذه الأبيات شواهده ولم تصر نكرة إلا على الوجه الذي ذكره من تقدّمه ، تكون في موضع لا تقع فيه إلا نكرة ، وعطف شيء مضاف إلى ضميرها عليها ولا تتجاوز ذلك.

(كما أن أجمعين لا يجوز في الكلام إلا وصفا ، وكما أنّ أيّا تكون في النداء كقوله : يا هذا ، ولا يجوز إلا موصوفا وليس هذا حال الوصف والموصوف في الكلام ، كما أنه ليس حال النكرة كحال الذي ذكرت لك).

وهذه أشياء شاذة ذكرها سيبويه ليؤنس بشذوذ ربّ رجل وأخيه ، وما جرى مجراه ثم استضعف ذلك لخروجه على القياس وقلته.

فقال : (وهذا على جوازه ، وكلام العرب به ضعيف).

هذا باب ينصب فيه الاسم لأنه لا سبيل له إلى أن يكون صفة

(وذلك قولك : هذا رجل معه رجل قائمين ، فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معه معرفة ، فأشرك بينهما وكأنه قال : معه امرأة قائمين ، ومثله : مررت برجل مع امرأة ملتزمين ، فله ضمير إضمار في (مع) كما كان له إضمار في معه ، إلا أن المضمر في معه علم ، وليس له في مع امرأة علم إلا بالنية ، ويدلك على أنه مضمر والنية قولك : مررت بقوم مع فلان أجمعون).

قال أبو سعيد : جملة هذا الباب أن يتقدّم اسمان أو أسماء قد أعربت بإعراب مختلف أو إعراب واحد من جهتين مختلفتين ، فلا يمكن جمع صفاتها أو تثنيتها بلفظ واحد محمول على الإعراب الأول ، فحمل على شيء يجتمعان فيه ممّا يصحّ اجتماعهما على ما أسوقه وأبيّنه إن شاء الله.

__________________

(١) ديوان الأعشى / ٥٤.


وأما قوله : (هذا رجل) ، فرجل مرفوع لأنه خبر مبتدإ ، وخبره معه ، فرفعاها من جهتين مختلفتين فلا يصحّ أن يكون : قائمان نعتا لهما ، لأن قائمان لفظ واحد لا يصلح أن يكون رفعا بنعت الابتداء وخبر المبتدإ ، فحمل على : معه رجل ، ونصب على الحال ، والاسمان اللذان منهما الحال :

أحدهما : الهاء في معه ، والآخر : رجل.

وقد تكون الحال من اسمين مختلفي الإعراب ، كقولك :

ضرب زيد عمرا قائمين ، قال الشاعر عنترة :

متى ما تلقني فردين ترجف

روانف إليتيك وتستطارا (١)

وفردين : حال من اسم الفاعل والمفعول في (تلقني)

ومثله :

تعلقت ليلى وهي ذات مؤصد

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم (٢)

فصغيرين : حال من التاء في تعلقت ، وهي في موضع رفع ، ومن ليلى وهي في موضع نصب ، والهاء في معه ورجل تأويلهما تأويل فاعلين أو فاعل ومفعول ، لأنك إذا قلت : مع عمرو زيد ، فتأويله : اجتمعا أو جامع زيد عمرا ، ثم تكون الحال منهما على هذا التأويل أو يحمله على هذا ، فيكون على التنبيه فتقدير أتيت لهما قائمين أو الإشارة بمعنى : أسير إليهما قائمين.

وكذلك : مررت برجل مع امرأة في قولنا : مع امرأة ، ضمير مرفوع لرجل في النية لا علم له في اللفظ ، كما أنّ في قولنا : معه امرأة فيه ضمير مجرور وهو الهاء ، والمعنى : في الاجتماع واحد ، ومثل هذا الضمير قولك : مررت بقوم مع فلان أجمعون ، في مع فلان : ضمير مرفوع من قوم ، أجمعون توكيد له ، والنصب في قائمين كالنصب فيهما لو ابتدأت فقلت : معه امرأة قائمين أو معك أو مع زيد.

(ومما لا تجوز فيه الصفة : فوق الدار رجل ، وقد جئتكم برجل آخر) ، لأن

__________________

(١) ديوان عنترة / ١٠٨ ، الخزانة ٢ / ٢٠٠.

(٢) البيتان للمجنون ديوانه / ١٨٦ ، خزانة الأدب ٤ / ٢٣٠.


إعرابهما مختلف ولا يحسن أن تنصب هذا على الحال كما نصبت قائمين ، وإن كان ليس فيه الألف واللام ، لأن المنصوب بالحال لا بد له من عامل واحد مقدّر في نصبه ، وليس في قولك : في الدار رجل وقد جئتك برجل آخر ، شيء يقع عليهما من تنبيه أو إشارة أو اجتماع.

ويقول : (فيما اختلف إعرابه ، فلم يمكن اجتماع صفة الاسمين : اصنع ما سرّ أخاك ، وأحبّ أبوك الرجلان الصالحان على الابتداء ، وتنصبه على المدح والتعظيم كقول الخرنق في قصيدة" :

لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكل معترك

والطّيبون معاقد الأزر (١))

 وقال بعض أصحابنا : الرفع أحسن وأكثر في كل شيء كان تعظيما لأنك إذا أثنيت على قوم فإنما تقول : هم كذا.

(وأما الألف واللام فلا تكونان حالا البتة ، لو قلت : مررت بزيد القائم ، كان قبيحا لا يجوز إذا أردت قائما ، وإن شئت نصبته على المدح ، وذلك قولك : اصنع ما ساء أباك وكره أخوك الفاسقين الخبيثين ، وإن شاء ابتدأ ، ولا سبيل إلى الصفة في هذا ولا في قولك : عندي غلام وقد أتيت بجارية فارهين ، لأنك لا تستطيع أن تجعل فارهين صفة للأول ولا للآخر ولا سبيل إلى أن يكون بعض الاسم جرا وبعضه رفعا ، فلما كان كذلك صار بمنزلة : ما كان معه معرفة من النكرات لأنه لا سبيل إلى وصف هذا ، كما أنه لا سبيل إلى وصف ذلك ، فجعل نصبا كأنه قال : عندي عبد الله ، وقد أتيت بزيد فارهين ، جعل الفارهين ينتصبان على : النازلين بكل معترك.

وفرّوا من الإحالة في : عندي غلام ، وقد أتيت بجارية إلى النصب ، كما فروا إليه في قولهم : فيها قائما رجل).

يريد لما لم يكن صفة غلام وجارية بفارهين لاختلاف إعرابهما ، فروا إلى نصب فارهين على المدح ، كما هربوا إلى نصب قائما على الحال من قولهم : فيها قائما رجل ، لما لم يمكن أن يجعل قائم صفة لرجل لتقدمه عليه.

__________________

(١) البيتان للخرنق بنت هفان ، الخزانة ٢ / ٣٠١ ، الدرر اللوامع ٢ / ١٥٠.


قال : (واعلم أنه لا يجوز أن تصف المعرفة والنكرة ، كما لا يجوز وصف المختلفين ، وذلك قولك : هذه ناقة وفصيلها الراتعان ، فهذا محال لأن الراتعين لا يكونان صفة للفصيل ولا للناقة ، ولا تستطيع أن تجعل بعضها معرفة وبعضها نكرة ، وهذا قول الخليل.

وزعم الخليل أن الجرين والرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع وذلك قولك : هذا رجل ، وفي الدار آخر كريمين ، لأنهما لم يرتفعا من وجه آخر وقبّحه بقوله : هذا لابن إنسانين عندنا كراما ، فقال الجر هاهنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جرّ الأول ، ومثل ذلك : هذه جارية أخوي ابنين لفلان كراما ، لأن أخوي ابنين اسم واحد ، والمضاف إليه الآخر منتهاه ، ولم يشرك الآخر بشيء من حروف الإشراك فيما جر الاسم الأول ، ومثل ذلك : هذا فرس أخو ابنيك العقلاء الحكماء ، لأن هذا في المعرفة مثل ذاك النكرة ، فلا يكون الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين ، ولا يجوز أن يجرى وصفا لما انجرّ من وجهين ، كما لم يجز فيما اختلف إعرابه.

ومما لا تجري الصفة عليه : هذان أخواك ، وقد تولى أبواك الرجال الصالحون ، إلا أن ترفعه على الابتداء وتنصبه على المدح والتعظيم).

قال أبو سعيد : اختلاف الرفعين والجرين منع من جمع الصفتين ، لأن الصفة تتبع الموصوف في الإعراب ، فيكون الإعراب الحاصل في الموصوف وفي الصفة متعلقا بالعامل الذي عمل في الموصوف ، فلو جمع الصفتان بلفظ واحد فجعلتا للمرفوعين المتقدمين أو المجرورين ، صار لفظ الصفتين وهو واحد معلقا برافعين أو جارّين ، فلذلك لم يصلح : هذا رجل في الدار آخر كريمان ، لأن الرجل رفع بخبر الابتداء ، وآخر مرفوع بالابتداء ، وهما عاملان مختلفان لا يحمل كريمان عليهما ، ورفع كريمين على الابتداء فهما عاملان مختلفان لا يحمل كريمان عليهما ، وكذلك تقول : هذا لابن إنسانين عندنا كراما ، على المدح ولم تقل : كرام على الصفة ، لأن ابن مجرور باللام ، وإنسانين مجروران بإضافة ابن إليهما ، فهذان عاملان مختلفان ، لا يصلح حمل كرام عليهما ، وهو لفظ واحد ، وكذلك : هذا فرس أخوي ابنيك العقلاء ، لو خفضنا العقلاء وجعلناها صفة للأخوين والابنين كان فاسدا ، لأن ابنيك من تمام الأخوين ، وليس أخواك من تمام أنفسهما ، والصفة داخلة فيما دخل فيه الموصوف ، فيكون العقلاء من تمام الأخوين من حيث كان صفة للابنين وغير تمام


لهما من حيث كان صفة للأخوين فيتناقض.

قال : (وسألت الخليل عن : مررت بزيد وأتاني أخواه أنفسهما ، فقال : الرفع على هما صاحباي أنفسهما ، والنصب على أعينهما ولا مدح فيه لأنه ليس مما يمدح به.

قال : وتقول : هذا رجل وتلك امرأة منطلقان ، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان ، لأنهما ارتفعا من وجه واحد ، وهما اسمان بنيا على مبتدأين.

وانطلق عبد الله ، ومضى أخوك الصالحان ، لأنهما ارتفعا بفعلين ، وذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحكيمان).

قال أبو سعيد : لا خلاف بين أصحابنا أنّ الفعلين إذا اتفق معناهما جاز أن يوصف فاعلاهما بلفظ واحد ، كقولك : مضى زيد وانطلق عمرو الصالحان ، وجلس أخوك وقعد أبوك الكريمان ، وإذا اختلف معناهما فمذهب الخليل وسيبويه في الفعلين المختلفين والمتفقين واحد ، فأجازا : ذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحكيمان ، وكان المبرد والزجاج وكثير من المتأخرين يأبون جواز ذلك إلا في المتفقين.

والحجّة للخليل وسيبويه : أن مذهب عمل الفعل والفاعل مذهب واحد وإن اختلف معنى اللفظين ، وممّا يدل على ذلك ، أنك تقول : اختلف زيد وعمرو الصالحان ، ومعنى اختلف واحد منهما فعل فعلا مخالفا لفعل الآخر ، وتقول : فعل زيد وعمرو فعليهما وعملا عمليهما وإن كانا مختلفين لأن اللفظ الواحد من الفعل يجوز أن يقع على مختلفين ، وتردّ الفعلان إلى فعل واحد يكون الاسمان فاعليه ، فإذا قلت : أذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الصالحان الحكيمان؟ فكأنّا قلنا : فعل أخوك وعمرو هذين الفعلين الصالحان ، والذي لا يجيز هذا ويجيز : ذهب زيد وانطلق عمرو الصالحان ، يلزمه نحو ما قدرناه ، لأن ذهب ارتفع به زيد وحده ، وانطلق ارتفع به عمرو وحده ، ولا يجوز أن يكون الصالحان يرتفع بالفعلين أو يتعلق بهما ، وهو لفظ واحد.

فإن قال قائل : نسقط الفعل الثاني في التقدير ونجعله مؤكدا للأول وكانّا قلنا : ذهب زيد وعمرو الصالحان ، قيل له : فإذا رفعتهما بالأول بقي انطلق بلا فاعل ، وهذا فاسد في مذهب البصريين ، وكان أقيس ممّا قالوه : أن لا يجاز ذلك وتجتمع الصفتان وأحد عاملي الاسم غير الآخر ، لأن الصفة إذا حملناها على أحد العاملين لم يجز ، لأن الموصوف واحد ، وإذا حملناها عليهما لم يجز لأنها ترتفع بشيئين ، وإنما جاز : هذا رجل ، وتلك


امرأة منطلقان ، فتجعل منطلقين نعتا للرجل والمرأة لأنهما خبر مبتدأين مشار إليهما وإن كانت إحدى الإشارتين أقرب من الأخرى كفاعلي الفعلين المختلفين.

قال : (واعلم أنه لا يجوز من عبد الله ، وهذا زيد الرجلين الصالحين ، رفعت أو نصبت لأنك لا تثني إلا على من أثبته وعلمته ، ولا يجوز أن تخلط من تعلم بمن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة ، وإنما الصفة علم فيمن قد علمته).

لأن عبد الله لست تعرفه ، وإنما تسأل عنه لتعرفه ، فإذا نعتّه فسؤالك عنه عن نعته ، وزيد تعرفه وتعرف نعته ، فإذا ثنيت الصفتين بلفظ واحد ، فأنت لا تعرفه من حيث كان نعتا لعبد الله ، وتعرفه من حيث كان نعتا لزيد ، فيصير لفظ واحد معروفا مجهولا. والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب لأنه حال صار فيها المسئول والمسئول عنه

(وذلك قولك : ما شأنك قائما ، وما شأن زيد قائما ، وما لأخيك قائما. فهذا حال قد صار فيه وانتصب بقولك : ما شأنك قائما ، كما ينتصب قائما في قولك : هذا عبد الله قائما بما قبله ، وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى ، وفيه معنى : لم قمت؟ يعني : ما شأنك ومالك ، قال الله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(١) ومثل ذلك : من ذا قائما بالباب؟ أي : من ذا الذي هو قائم بالباب. هذا المعنى تريد.

وامّا العامل فيه فبمنزلة : هذا عبد الله ، لأنّ من مبتدأ قد بني عليه اسم ، وكذلك : لمن الدار مفتوحا بابها؟ وأما قولهم : من ذا خير منك؟ فهو على قوله : من ذا الذي هو خير منك؟ لأنك لم ترد أن تشير أو تومئ إلى إنسان قد استبان لك فعله على المسئول فيعلمكه ، ولكنك أردت : من ذا الذي هو أفضل منك ، فإن أومأت إلى إنسان قد استبان لك فضله عليه فأردت أن يعلمكه نصبت ، كما قلت : من ذا قائما؟ كأنك قلت : إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حال قد فضلك بها ، ونصبه كنصب : ما شأنك قائما).

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : ٤٩.


قال أبو سعيد : قوله : (قائما) شيء قد عرفه المتكلّم من المسئول ، وهو الكاف في شأنك ، والمسئول عنه وهو زيد ، فسأل عن شأنه في هذه الحال.

وقوله : (ما شأنك؟) ما : مبتدأ ، وشأنك : خبر في هذه الحال ، وإن شئت : شأنك المبتدأ وما خبر مقدم ، والناصب ل (قائما) شأنك ، ومعناه : ما تصنع وما تلابس في هذه الحال ، وقد يكون فيه إنكار لقيامه ، والمسألة عن السبب الذي أداه إليه ، فكأنه قال : لم قمت؟ ، وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون قوله عزوجل : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(١) كأنه أنكر إعراضهم فوبخهم على السبب الذي أدّاه إلى الإعراض ، فأخرجه مخرج الاستفهام في اللفظ ، وتأويل ما لهم تأويل ما شأنك ، كأنه قال : ما تصنعون؟ ومن ذا قائما بالباب؟ أي : من ذا الذي هو قائم بالباب ، هذا المعنى يريد : من مبتدأة ، وذا خبره ، أو يكون ذا : مبتدأ ، ومن : خبر مقدم ، وقائما : منصوب على الحال ، والعامل فيه (ذا) بمعنى الإشارة ، كأنه سأل عمّن عرف قيامه ولم يعرفه.

ولمن الدار مفتوحا بابها؟ الدار : مبتدأ ، ولمن : الخبر ، وفي اللام معنى الملك ، كأنه قال : من يملك الدار مفتوحا بابها؟

وأما قولهم : من ذا خير منك؟ فيجوز أن تكون ، من : مبتدأ ، وذا : خبره ، وخير منك : بدل منه ، فكأنه قال : من خير منك ، ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي ، ويكون تقديره : من ذا الذي هو خير منك.

وأكثر ما يستعمل هذا على إنكار أن يكون أحد خيرا منه ، كقولك : من ذا أرفع من الخليفة؟ والغرض : ما أجد أرفع منه ، ولم يرد أن يشير أو يومئ إلى إنسان قد استبان لك فضله ، فتسأل عنه في حال استبانة فضله لك ، ولو أردت ذلك نصبته كما نصبت : من ذا قائما بعد أن عرفت قيامه ، ولم تعرفه : والله أعلم بالصواب.

هذا باب ما ينتصب على التعظيم والمدح

(وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول وإن شئت قطعته وابتدأته

وذلك قولك : الحمد لله الحميد ، والملك لله أهل الملك. ولو ابتدأته فرفعت كان حسنا ، كما قال الأخطل :

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : ٤٩.


نفسي فداء أمير المؤمنين إذا

أبدى النّواجذ يوم باسل ذكر

الخائض الغمر والميمون طائره

خليفة الله يستسقى به المطر (١))

قال أبو سعيد : هذا الباب في التعظيم والمدح ، والباب الذي في الشتم والتقبيح يجريان مجرى واحدا ، والإعراب فيهما على طريق واحد ، وفي كل واحد منهما ثلاثة أوجه :

إمّا الصفة واتباع الثاني الأول ، وإن كان قصدك فيه المدح والثناء كنحو ما يذكر من تكبير صفات الله تعالى على جهة المدح له والثناء عليه.

وإمّا أن تنصبه بإضمار أذكر.

وإمّا أن تستأنفه فترفعه بإضمار الابتداء.

والذي يصيره مدحا وثناء أو شتما وتقبيحا ، قصد المتكلم به إلى ذلك ، وربما قصد الإنسان بقوله : فلان فاضل شجاع إلى الهزء به ، ويتبين ذلك في لفظه من محاوره ، وهذا معروف في عادات كلام الناس ، وقد ذكرناه مفصلا قبل هذا الباب ، وأنا أسوق كلامه في البابين ، وما احتمل زيادة زدت ، والله المعين ، وأنشد في الاستئناف قول مهلهل :

ولقد خبطن بيوت يشكر خبطة

أخوالنا وهم بنو الأعمام (٢)

فاستأنف أخوالنا على معنى : هم أخوالنا ، ولو خفضه على النعت ليشكر لجاز.

وقوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ)(٣).

في المقيمين وجهان :

أحدهما : أن يكون منصوبا على المدح والثناء.

والآخر : أن يكون مجرورا بالعطف على ما ، فيكون معناه :

ويصدّقون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة أي : بمذاهبهم وبدينهم ، والمؤتون الزكاة مبتدأ مستأنف أو عطف على الراسخين.

__________________

(١) ديوان الأخطل / ١٠٣.

(٢) سيبويه ١ / ٢٢٥ ، ٢٤٨.

(٣) سورة النساء ، الآية : ١٦٢.


وأمّا قوله عزوجل : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(١) إلى قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)(٢) ، " فالموفون بعهدهم" يحتمل وجهين :

يحتمل أن يكون مدحا ، ويكون التقدير : وهم الموفون بعهدهم فإذا كان كذلك ، كان نصب الصابرين على وجهين :

أحدهما : العطف على ذوي القربى.

والآخر : أن يكون على المدح بإضمار (أذكر).

والوجه الآخر من رفع الموفون : أن يكون عطفا على من آمن بالله ، فإذا ارتفع بذلك كان نصب الصابرين على المدح لا غير ، ولا يجوز أن ينصب بالعطف على ذوي القربى ، لأن ذوي القربى في صلة من آمن بالله ، لأنّ (آتى) معطوف على آمن ، ولا يجوز أن يعطف الموفون على (من) إلا بعد تمام صلته فيصير (والصابرين) منقطعا عن الصلة ، وأنشد قول الخرنق في رفع المدح ونصبه ، وهو :

لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر (٣)

ومثله في الرفع والنصب قول أبي خياط العكلي :

وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم

إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا

والقائلون لمن دار نخلّيها (٤)

 (وزعم يونس : أن العرب من يقول : النازلون بكل معترك والطيبين ، فهذا مثل : والصابرين ، ومن العرب من يقول : الطاعنون في القائلين ، فنصبه كنصب الطيبين إلا أنّ هذا شتم لهم وذم ، كما أن الطيبين مدح لهم وتعظيم ، وإن شئت أجريت هذا كله على الاسم الأول ، وإن شئت ابتدأته جميعا فكان مرفوعا على الابتداء.

كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما ، كل ذلك واسع.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٧٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٧٧.

(٣) البيتان سبق تخريجهما.

(٤) الخزانة ٢ / ٣٠١.


وزعم يونس أنه سمع ذا الرّمة ينشد هذا البيت نصبا وهو للأخطل :

لقد حملت قيس بن عيلان حربها

على مستقلّ للنوائب والحرب)

أخاها إذا كانت عضوضا سما لها

على كل حال من ذلول ومن صعب (١)

الشاهد : نصب أخاها ، وهو المستقلّ المجرور.

(وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا من تخاطبه بأمر جهلوه ، ولكنهم عملوا من ذلك ما قد علمت ، فجعلته تعظيما وثناء ، ونصبه على الفعل كأنه قال : اذكر أهل ذاك ، واذكر المقيمين ، ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره. وهذا شبيه بقوله : إنّا بني فلان نفعل كذا ، لأنه لا يريد أن يخبر من لا يدري أنه من بني فلان ، ولكنه ذكر مراتبها افتخارا وابتهاء ، إلا أن هذا يجري على حرف النداء ، وستراه في باب النداء إن شاء الله).

نصب بني فلان كنصب ما يمدح على المدح ، وسأشرحه في بابه بما أتم من هذا إن شاء الله.

وترك إظهار الناصب له كترك إظهار الناصب في باب النداء ، ومن هذا الباب في النكرة قول أمية بن أبي عائذ :

ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعثا مراضيع مثل السّعالي (٢)

الشاهد في نصب شعثا.

كأنه حيث قال : إلى نسوة عطل ، صرن عنده ممن علم أنّهنّ شعث ، ولكنه ذكر ذلك تشنيعا لهنّ وتشويها.

(قال الخليل : كأنه قال : اذكرهنّ شعثا ، إلا أن هذا فعل لا يستعمل إظهاره ، وإن شئت جررت على الصفة. وزعم يونس : أن ذلك أكثر ، كقولك : مررت بزيد أخيك وصاحبك ، وكقول الراجز :

بأعين منها مليحات النّقب

شكل التّجار وحلال المكتسب (٣)

__________________

(١) ملحقات ديوان الأخطل / ٦٢٢.

(٢) الخزانة ١ / ٧١٤ ، ٢ / ٣٠١ ـ معاني الفراء ١ / ٣٢٥.

(٣) البيت لابن المعتز سيبويه ١ / ٢٥٠.


قال : كذلك سمعناه من العرب.

الشاهد : في شكل التجار ، وهو صفة لنكرة ، وهو في مذهب : قيد الأوابد ، ومعناه : موافقة التجار في الزي ومشاكلتهم فيه ، فكأنه قال : مشاكلة التجار ، وقوله : وحلال المكتسب ، أي : ليس فيهن تبرّج وتكشّف يحرم ، ولكن خفر وحياء وتستر ، وذلك : حلال المكتسب.

وقال مالك بن خويلد الخناعيّ :

يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيد

في حومة الموت رزّام وفرّاس

يحمي الصّريمة أحذان الرّجال له

صيد ومجترئ بالليل همّاس (١))

قال أبو سعيد : وروى هذا الشعر أيضا لأبي ذؤيب ووقع في البيت الأول من هذين البيتين غلط في كتاب سيبويه ، لأن قوله : ذو حيد ، وعل ، ورزّام ، وفرّاس : أسد ، والصواب الذي حملته الرواة :

يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ بهذا الظيّان والآس

ذو حيد ، وعل ، ومشمخرّ : جبل ، والظيّا : ياسمين البرّ.

وروى أبو العباس المبرد : ذو حيد بفتح الحاء والياء ، وجعله مصدرا بمنزلة العوج والأود. والذي رواه أبو العباس : ثعلب حيد بكسر الحاء ، وكذلك رواه أبو سعيد السكري في شعر الهذليين ، وفسره جمع حيدة بعد هذا البيت بأبيات في القصيدة :

يا ميّ لا يعجز الأيّام مبترك

في حومة الموت رزّام وفرّاس

يحمي الصّريمة أحدان الرجال له

صيد ومجرئ بالليل همّاس

ومما حمل على الابتداء قوله :

(فتى الناس لا يخفى عليهم مكانه

وضرغامة إن همّ بالحرب أوقعا (٢)

وقال الآخر :

إذا لقي الأعداء كان خلاتهم

وكلب على الأذنين والجار نابح (٣)

__________________

(١) البيتان لمالك بن خويلد الهذليين ٣ / ٣ ، ابن يعيش ٦ / ٣٢.

(٢) سيبويه ١ / ٢٥١.

(٣) في الكتاب ٢ / ٦٨ بلا نسبة.


قال : كذا سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما.

قال : واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم ، ولا كل صفة يحسن أن يعظّم بها ، لو قلت : مررت بعبد الله أخيك صاحب الثياب أو البّزاز ، لم يكن هذا مما يعظم به الرجل عند الناس ، ولا يفخم له ، ولها الموضع الذي لا يجوز فيه العظيم ، فإن تذكر رجلا ليس بنبيه عند الناس ولا معروف بالتعظيم ، ثم تعظمه كما تعظم النبيه ، وذلك قولك : مررت بعبد الله الصالح ، فإن قلت : مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت : المطعمين في المحل ، جاز لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عرف منهم ذلك ، وجاز له أن يجعلهم كأنهم قد علموا فاستحسن من ذا ما استحسنت العرب ، وأجزه كما أجازته ، وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيما لله عزوجل يكون لغيره من المخلوقين لو قلت : الحمد لزيد ، تريد العظمة لم يجز وقد يجوز أن تقول : مررت بقومك الكرام ، إذا جعلت المخاطب كأنه قد عرفهم ، كما قال : مررت برجل زيد ، فتنزله منزلة من قال له : من هو وإن لم يتكلم به.

فكذلك هذا تنزله هذه المنزلة وإن كان لم تعرفهم).

قال أبو سعيد : يحتاج التعظيم إلى اجتماع معنيين في المعظّم :

أحدهما : أن يكون المعنى الذي عظّم به فيه مدح وثناء ورفعة.

والآخر : أن يكون المعظّم قد عرفه المخاطب وشهر عنده ما عظّم به أو يتقدم من كلام المتكلم ما يتقرر به عند المخاطب حال مدح وثناء وتشريف في المذكور يصح أن يورد بعدها التعظيم ، وهذا معنى ما ذكره سيبويه : (مررت بقومك الكرام ، ثم قلت : المطعمين في المحل) ، وتقول : مررت بعبد الله الكريم الفاضل ، على التعظيم لمّا قدمت ذكر الكريم صار كأنه قد عرف وشهر ، فتدبر ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب ما يجري من الشتم مجرى

التعظيم وما أشبهه

(وذلك : أتاني زيد الفاسق الخبيث ، لم يرد أن يكرره ، ولا يعرفك شيئا تنكره ، ولكنه شتمه بذلك.


وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا : في (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(١) ، لم يجعل الحمالة خبرا للمرأة ، ولكنه كأنه قال : اذكر حمالة الحطب شتما لها ، وإن كان فعلا لا يستعمل إظهاره وقال عروة الصعاليك.

سقوني الخمر ثم تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور (٢)

إنما شتمهم بشيء قد ثبت عند المخاطبين ، قال النابغة :

لعمري وما عمري عليّ بهيّن

لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع

أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تجادع (٣)

وزعم يونس أنك إن شئت رفعت البيتين جميعا على الابتداء ، تضمر في نفسك شيئا لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعا ومثل ذلك قال الشاعر :

متى تر عيني مالك وجرانه

وجنبيه تعلم أنّه غير ثائر

حضجر كأمّ التوأمين توكأت

على مرفقيها مستهلة عاشر (٤))

والذي يضمر في الرفع هو وهم أو ما أشبه ذلك مما يوجب رفع الظاهر وقد مضى نحو هذا في المدح والتعظيم.

قال : (وزعموا ، أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصبا ، والشعر لرجل معروف من أزاد السراة :

قبّح من يزني بعو

ف من ذوات الخمر

الآكل الأشلاء لا

يحفل ضوء القمر (٥))

الآكل نصب على الذم والشتم ، بمعنى أذكر يعني به عوفا المخفوض في البيت الأول ، والأشلاء جمع شلاء وهي المشيمة ، وهي مستقذرة ، وذلك مثل يريد : أن الرجل يأتي الأمور القبيحة لا يحفل ولا يبالي ظهورها عليه ، وإن شاء جعله صفة فجرّه على الاسم ، فقال : الآكل لأنه نعت عوف.

__________________

(١) سورة المسد ، الآية : ٤.

(٢) ديوان عروة / ٨٩ ، الخصائص لابن جني ٢ / ٤٣٣.

(٣) ديوان النابغة / ٥٣ ، الخزانة ١ / ٤٢٦.

(٤) سيبويه ١ / ٢٥٣ ، ابن يعيش ١ / ٣٦.

(٥) سيبويه ١ / ٢٥٣.


(وزعم يونس ـ وفي بعض النسخ عيسى ـ أنه سمع الفرزدق ينشد :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشابي

شغارة تقذ الفصيل برجلها

فطّارة لقوادم الأبكار (١)

جعله شتما كأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطب عنده عالما بذلك ، ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان جائزا عربيا).

وترتيب الأبيات في شعره بين البيت الأول والثاني :

كنّا نحاذر أن تضيع لقاحنا

ولها إذا سمعت دعاء يسار (٢)

شغارة : تبول كما يشغر الكلب ببوله ، تقذ الفصيل برجلها إذا دنا من أمه وهي تحلب تضربه برجلها من خلف مثل الرمح فتدقّ عنقه ، والفطر : الحلب بالسبابة والوسطى وتستعين بطرف الإبهام ، والخلفان : المقدمان من الضرع ، هما القادمان ، والجمع : قوادم ، والأبكار تحلب قطرا لأنه لا يمكن حلبها صبا لأن أخلافهن صغار قصار والأبكار جمع بكر ، أوّل ما تلد ، ويسار : اسم راع إذا سمعت دعاءه ولهت إليه صبابة به ، رماها بالربية.

وقال :

(طليق الله لم يمنن عليه

أبو داود وابن أبي كثير

ولا الحجاج عيني بنت ماء

تقلّب طرفها حذر الصقور) (٣)

الشاهد : في نصب عيني بنت ماء ، على الشتم ، وبنت ماء : طائر.

أما قول حسان بن ثابت :

حار بن كعب ألا أحلام تزجركم

عنّي وأنتم من الجوف الجماخير

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير (٤)

فلم يرد أن يجعله شتما ، ولكنه أراد أن يعدّد صفاتهم ويفسرها ، فكأنه قال : أمّا أجسامهم فكذا ، وأمّا أحلامهم فكذا.

__________________

(١) البيتان للفرزدق ديوانه / ٤٥ ، شرح شواهد المغني / ١٧٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) نسبهما الجاحظ في البيان والتبيين ١ / ٣٨٦ إلى إمام بن أقرم النميري سيبويه ١ / ٢٥٤.

(٤) ديوان حسان بن ثابت ٢١٣ / ٢١٤ ، المقتضب ٤ / ٢٣٣.


قال الخليل : لو جعله شتما فنصبه على الفعل كان جائزا).

قال أبو سعيد : لم يجعل جسم البغال شتما ، لأن عظم الأجسام ليس بشتم ولا ذمّ ، وإنما ذمهم بأنهم ليس لهم من الأحلام ما يشاكل عظم أجسامهم ، وإنما قال الخليل : لو جعله شتما فنصبه جاز ، لأن عظم الأجسام مع قلة العقول ذم أبلغ من ذمّ صغر العقل مع صغر الجسم.

(وقد يجوز أن تنصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا تريد مدحا ولا ذما ولا شتما مما ذكرت لك.

قال الشاعر :

وما غرّني حوز الرّزاميّ محصنا

عواشيها بالجو وهو خصيب (١)

ومحصن : اسم الرّزامي محصنا ، فنصبه على (أعني) ، وهو فعل يظهر لأنه لم يرد أكثر من أن يعرفه بعينه ، ولم يرد افتخارا ولا ذما ولا مدحا ، وكذلك سمع هذا البيت من أفواه العرب وزعموا أنّ اسمه محصن.

قال : ومن هذا الترحّم ، والترحّم أن يكون بالمسكين والبائس ونحوه ، ولا يكون بكل صفة ، ولا كل اسم ، ولكن يترحم بما ترحمت به العرب).

قال أبو سعيد : مذهب الترحم على غيره منهاج التعظيم والشتم ، وذلك أن الاسم الذي يعظم به ، والاسم الذي يشتم به شيء قد وجب للمعظم والمشتوم ، وشهرا وعرفا به قبل التعظيم والشتم ، فيذكره المعظم أو الشاتم على جهة الرفع منه والثناء ، أو على جهة الوضع منه والذم ، والترحم إنما هو رقة وتحنّن يلحق الذاكر على المذكور في حال ذكره إياه ، رقة عليه وتحننا.

وإعرابه على ما أسوقه من كلامه.

قال : (وزعم الخليل أنه يقول : مررت به على المسكين ، على البدل ، وفيه معنى الترحم ، وبدله كبدل : مررت به أخيك).

وقال :

 (فأصبحت بقرقرى كوانسا

فلا تلمه أن ينام البائسا (٢)

__________________

(١) سيبويه ١ / ٢٥٤.

(٢) سيبويه ١ / ٢٥٥ ، ينسب إلى العجاج في الرجز.


وكان الخليل يقول : إن شئت رفعته من وجهين ، فقلت : مررت به البائس ، كأنه لمّا قال : مررت به ، قال المسكين : هو كما يقال مبتدئا : المسكين هو والبائس أنت).

فهذا أحد وجهي الرفع جعل المسكين مبتدأ وخبره هو المضمرة ، وجعلهما على كلامين ، كأنّ قائلا قال :

من هو؟ فقال : المسكين هو الوجه الآخر من وجهي الرفع أن تجعل المسكين ابتداء وخبره : مررت به ، وقد أتى به فيما بعد.

قال : (وإن شاء ، مررت به المسكين فنصب كما قال :

بنا تميما يكشف الضّباب (١)

وفيه معنى الترحم كما كان في قوله رحمة الله عليه ، معنى رحمه‌الله) يريد أنّ نصب المسكين بإضمار شيء من ألفاظ الرحمة له ، كأنه قال : ارحم المسكين أو ما أشبهه ، كما أنّ قوله : (بنا تميما تنصب تميما بإضمار شيء يوجب الاختصاص والفخر).

وقوله : (رحمه‌الله) ، يريد قول القائل : رحمة الله على زيد ، وهو مبتدأ وخبر فيه معنى رحمه‌الله الذي يراد به الدعاء ، وكذلك إذا نصبت المسكين ففيه معنى المبتدإ والخبر إذا رفعت المسكين ، والنصب والرفع واحد.

وذكر عن يونس : مررت به المسكين ، على : مررت به مسكينا ، ورد عليه : بأنّ الحال لا تدخلها الألف واللام ، ولو جاز هذا لجاز : مررت بعبد الله الظريف ، تريد :

ظريفا. وقد ذكرنا من مذهب يونس وغيره قبل هذا ، أنّه قد تذكر الألف واللام ويراد طرحهما. وربما أرادوا الألف واللام فيما ليستا فيه. وبينا فساد ذلك.

ويجوز نصب المسكين على أحسن من الحال ، كأنه قال :

لقيت المسكين ، لأنه إذا قال : مررت بعبد الله ، فهو عمل كأنه أظهر عملا ، وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه فرارا من أن يصفوا المضمر ، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن.

(وزعم الخليل أنه يقول : إنه المسكين أحمق على الإضمار الذي جاز في :

__________________

(١) رجز لرؤبة بن العجاج ديوانه / ١٦٩ ، الخزانة ١ : ٤١٢ ، ابن يعيش ٢ : ١٨.


مررت ، كأنه قال : إنه هو المسكين أحمق ، وهو ضعيف ، وجاز هذا أن يكون فصلا بين الاسم والخبر ، لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى : إنّا تميما ذاهبون).

قال أبو سعيد : الهاء في (إنه) اسم إنّ ، وأحمق : خبره ، وهو المقدرة مع المسكين : ابتداء وخبر ، وهي جملة قد فصلت بين الاسم والخبر.

ويسمي النحويون هذا وما جرى مجراه : الاعتراض ، وجوزوا ذلك لأن فيه اختصاصا للأول وشبهه الخليل ب (إنّا تميما) للاختصاص فيه ، وهو مع ذلك ضعيف.

ولو قال : إنه المسكين أحمق على الاختصاص والإيضاح ، كان جائزا على معنى : أعني المسكين.

(وإذا قلت : بي المسكين ، كان الأمر ، أو بك المسكين مررت ، فلا يحسن فيه البدل لأنك إذا عنيت المخاطب أو نفسك فلا يجوز أن تكون لا تدري من تعني ، لأنك لست تحدّث عن غائب ، ولكنك تنصبه على قولك :

بنا تميما ، وإن شئت رفعته على ما رفعت عليه ما قبله ، فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين والمعنى واحد ، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد).

قال أبو سعيد : لم يجز البدل في المتكلم والمخاطب ، لأنّ الأسماء الظاهرة لا تقع مواقع أسمائها ، لا تقول : قمت زيد ، ولا ذهبت عمرو ، على البدل ، لأنك لا تقول : قام زيد ، وذهب عمرو ، وأنت تريد المتكلم والمخاطب ، ولذلك لا تقول : بالمسكين كان الأمر ، وأنت تريد المخاطب أو المتكلم.

قال : (وأمّا يونس فزعم أنه ليس ترفع شيئا من الترحم على إضمار شيء يرفع ، ولكنه إن قال : ضربته ، لم يقل أبدا إلا المسكين ، يحمله على الفعل ، وإن قال : ضرباني ، قال : المسكينان ، يحمله أيضا على الفعل ، وكذلك : مررت به المسكين ، يحمل الرفع على الرفع ، والجر على الجر ، والنصب على النصب).

وزعم أن الرفع الذي ذكرناه خطأ وهو قول الخليل وابن أبي إسحق.

وإنما رأى يونس ذلك خطأ لأنه يحتاج إلى إضمار وحذف ، فإذا كان إيضاحه وبيانه يستغني عن إضمار وحذف ، كان حمله على ما حضر من الكلام أولى.

وقد ذكرنا ما نصبه يونس مما فيه الألف واللام على الحال. والخليل وابن أبي إسحق ذهبا إلى أن الرفع في باب التعظيم وباب الشتم قد جاء وهو كثير ، وحملا


هذا عليه.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد : أختار قول الخليل وابن أبي إسحق ، وأجيز قول يونس في الموضع الذي نحتاج فيه إلى الإيضاح نحو إضمار الغائب ، والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبنيّ على ما هو قبله من

الأسماء المبهمة

(والأسماء المبهمة : هذا ، وهذان ، وهذه ، وهاتان ، وهؤلاء ، وذلك ، وذانك ، وتلك ، وتانك ، وتيك ، وأولئك ، وهو ، وهي ، وهما ، وهن ، وما أشبه ذلك من هذه الأسماء ، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على الأسماء غير المبهمة.

فأمّا المبني على الأسماء المبهمة ، فقولك : هذا عبد الله منطلقا ، وهؤلاء قومك منطلقين ، وهذا عبد الله ذاهبا ، وهذا عبد الله معروفا.

ف (هذا) : اسم مبتدأ ليبنى عليه ما بعده ، وهو : عبد الله ، ولم يكن ليكون هذا كلاما حتى يبنى عليه أو يبنى هو على ما قبله ، فالمبتدأ مسند ، والمبني عليه مسند إليه ، فقد عمل هذا فيما بعده مما يعمل الجارّ والفعل فيما بعده ، والمعنى أنك تريد أن تنبهه له منطلقا ، لا تريد أن تعرّفه عبد الله ، لأنك ظننت أنه يجهله ، فكأنك قلت : انظر إليه منطلقا ، ف (منطلق) : حال صار فيها عبد الله ، وحال بين منطلق وهذا ، كما حال بين راكب والفعل حين قلت : جاء عبد الله راكبا ، صار جاء ل (عبد الله) وصار الراكب حالا ، فكذلك هذا ، وذاك بمنزلة هذا ، إلا أنك إذا قلت : هذا فأنت تنبّه لشيء بحضرتك ، وإذا قلت : ذاك فأنت تنبّه لشيء متراخ ، وهؤلاء بمنزلة هذا ، وأولئك بمنزلة ذاك ، وتلك بمنزلة ذاك ، وكذلك هذه الأسماء المبهمة التي توصف بالأسماء التي فيها الألف واللام).

قال أبو سعيد : ترجم الباب بما ضمنه من الأسماء المبهمة ، وفصّلها ، ومثّلها ، ووصل بها ما ليس مبهم من الأسماء المضمرة وهو ، وهي ، وهما ، وهم ، وهن ، وإنما خلطها بالمبهمة لقرب الشبه بينهما ، ولأنه بني عليها مسائل في الباب ، وعلى أنّ أبا العباس المبرد قال :

علامات الإضمار كلها مبهمة ، والمبهم على ضربين :


فمنه ما يقع مضمرا ، ومنه ما يقع غير مضمر.

وإنما صارت كلها مبهمة من قبل أنّ هو وأخواتها ، وهذا وأخواتها تقع على كل شيء ولا تفصل شيئا من شيء من الموات والحيوان وغيره.

وأمّا النصب في : هذا عبد الله منطلقا ، وما ذكره معه فعلى الحال ، والعامل فيه أحذ شيئين :

إمّا التنبيه وإمّا الإشارة.

فأمّا التنبيه فهو ب (هاء) ، وأمّا الإشارة فهي ب (ذا) ، فإذا أعملت التنبيه فالتقدير : انظر إليه منطلقا ، وأمّا إذا أعلمت الإشارة فالتقدير : أشير إليه منطلقا ، والمقصد أنك أردت أن تنبه المخاطب ل (عبد الله) في حال انطلاقه ، ولا بد من ذكر منطلقا ، لأن الفائدة به تنعقد ، ولم ترد أن تعرّفه إياه وأنت تقدر أنه يجهله ، كما تقول : هذا عبد الله ، إذا أردت هذا المعنى.

فإن قال قائل : إذا استغنى الابتداء بخبره في قولك : هذا ، فما الذي يضطر إلى ذكر ما ليس بابتداء ولا خبر ، وإنما هو حال والحال مستغنى عنها؟

قيل له : قد يتصل بالاسم والخبر ما ليس باسم ولا خبر ، ولا يتم الكلام إلا به كقوله عزوجل : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(١) ، لو حذفنا (له) وليس هو باسم ولا خبر ، لبطل الكلام ، ولو قلنا : ما في الدنيا رجل يبغضك ، لكان يبغضك في موضع الصفة لرجل ، ورجل مبتدأ ، وفي الدنيا خبره ، وإنما الاعتماد على نفي البغض ، وإنما ذكرت رجلا ليعتمد يبغضك عليه في تصحيح اللفظ ، لأنه لو قال : ما في الدنيا يبغضك ، لم يجز ، ولو قال : ما في الدنيا مبغض لك ، لقبح حيث حذفت الموصوف في موضع يحتاج فيه إلى اسم ، والأصل في ذلك : عبد الله منطلق ، عبد الله : مبتدأ ، ومنطلق : خبره ، ثم اتفق لك قرب عبد الله منك وأردت أن تنبه المخاطب عليه ، فأدخلت هذا للتقريب والتنبيه ، وهو اسم فلا بد له من موقع في الكلام ولإصلاح اللفظ ، وهو أول الكلام ، فرفع هذا بالابتداء وجعل عبد الله خبره ، فاكتفي به ونصب منطلقا على الحال على ما شرحناه.

ولا يستغنى عن منطلق لأنه خبر في المعنى ، كما لا يستغنى عن الرجل في قولك : يا

__________________

(١) سورة الإخلاص ، الآية : ٤.


أيها الرجل ، وإن كان صفة لأيّها ، لأن الرجل هو المقصود بالنداء في الأصل.

والكوفيون يسمون هذا (التقريب) وفيه وفي أمثاله كلام يطول.

والإشارة بذاك إلى الشيء المتراخي كالإشارة بهذا إلى ما قرب.

وأما قوله : (المبتدأ مسند والمبني عليه مسند إليه) ، فقد ذكرنا فيه في أول الكتاب وجوها ، هذا واحد منها.

قال : (وأمّا هو فعلامة مضمر وهو مبتدأ ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا ، وذلك قولك : هو زيد معروفا ، فصار المعروف حالا ، وذلك أنك ذكرت للمخاطب إنسانا كان يجهله أو ظننت أنه يجهله ، وكأنك قلت : انتبه أو الزمه معروفا ، فصار حالا ، كما كان المنطلق حالا حين قلت : هذا زيد منطلقا ، والمعنى أنك أردت أن توضح أن المذكور زيد حين قلت : معروفا ، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما أشبه المعروف ، لأنه يعرّف ويؤكّد ، فلو ذكر هاهنا الانطلاق كان غير جائز ، لأن الانطلاق لا يوضح أنه زيد ولا يؤكده.

ومعنى قوله : معروفا لا شكّ فيه وليس ذا في منطلق.

وكذلك : هو الحقّ بيّنا ومعلوما ، لأنّ ذا مما يوضح ويؤكّد به الحق ، وكذلك : هي ، وهما ، وهم ، وهنّ ، وأنا ، وأنت ، وأنت.

قال ابن دارة :

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار (١)

قال أبو سعيد : اعلم أن النصب في : هذا زيد منطلقا ، على غير وجه النصب في قولنا : هو زيد معروفا.

ويبين ذلك لك أنك لا تقول : هو زيد منطلقا ، فعلمت أن النصب فيهما مختلف.

أمّا النصب في : هذا عبد الله منطلقا ، فقد ذكرناه.

أمّا نصب : هو زيد معروفا ، فعلى جهة التوكيد لما ذكرته ، وخبّرت به ، وذلك أنك إذا قلت : هو زيد ، فقد خبّرت بخبر يجوز أن يكون حقا ، ويجوز أن يكون باطلا ، وظاهر الإخبار يوجب أن المخبر يحقق ما خبّر به ، فإذا قال : هو زيد معروفا ، فكأنه قال : لا

__________________

(١) الخزانة ١ / ٥٥٣ ، سيبويه ١ / ٢٥٧.


شكّ فيه ، وكأنه قال : أحقّ ذلك ، والعامل فيه أحقّ وما أشبهه ، وليس في هو ولا في زيد معنى فعل يعمل في (معروفا) ، ولكن الجملة دلّت على أحقّ وأعرف أو نحو ذلك.

ومن أجل ذلك لم يجز أن تقول : هو زيد منطلقا ، لأنه لو صحّ له انطلاقه لم يكن فيه دلالة على صدقه فيما قاله ، كما أوجب قوله : معروفا له نسبي ، أنه أنبّه.

وكل ما أوردت من الحال مما فيه توكيد للإخبار جاز ، (كقولك : هو عبد الله ، وأنا عبد الله فاخرا أو موعدا ، أي أعرفني كما كنت تعرفني ، وبما كان يبلغك عني ، ثم تفسر الحال التي تعلمه عليها أو تبلغه ، فيقول : أنا عبد الله كريما جوادا ، وهو عبد الله شجاعا بطلا) ، وهذه الصفات وما جانسها مما يكون مدحا في الإنسان يعرف بها ، جوز أن تأتي مؤكدة للخبر ، لأنها أشياء يعرف بها فذكرها مؤكد لذاته.

فأمّا منطلقا وقاعدا وما أشبه ذلك مما لا يعتد به الإنسان في مدح ولاذم ، فلا يكون تحقيقا للإخبار.

ومن ذلك قولك : (إني عبد الله ، إذا صغرت نفسك لربك ، ثم تفسر حال العبد فتقول : أكلا كما يأكل العبد) ، فأكلك كما يأكل العبد قد حقق أنك عبد الله ، فعلى هذا المعنى ونحوه يصح ذلك ويفسد.

قال : (وإذا ذكرت شيئا من هذه الأشياء التي هي علامة للمضمر ، فإنه محال أن يظهر بعدها الأسماء وإذا كنت تخبر عن عمل أو صفة غير عمل ولا تريد أن تعرّفه بأنّه زيد أو عمرو) ، يعني : أنك إذا أردت أن تخبر عن الضمير بعمل أو صفة غير عمل ، قلت : أنا منطلق ، وهو ذاهب ، وأنا معروف ، وهو شجاع ، وأنا كريم ، وما أشبه ذلك ، ولم يجز أن تقول : أنا زيد كريم ، ولا هو عمرو شجاع ، فتجعل زيدا بيانا ل (أنا) ، وعمرا بيانا ل (هو) ، لأنهما مستغنيان عن إنسان ، وإنما تقول : أنا زيد ، وهو عمرو ، إذا كنت تعرّف من يجهل أنّك زيد وأنه عمرو ، ثم تأتي بعده الحال التي هي حقيق له على نحو ما ذكرناه.

قال سيبويه : (ولو أن رجلا من إخوانك ومعرفتك أراد أن يخبرك عن نفسه ، أو عن غيره بأمر فقال : أنا عبد الله منطلقا ، وهو زيد منطلقا ، كان محالا لأنه إنما يريد أن يخبرك بالانطلاق ، ولم تقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية ، لأنّ هو وأنا علامتان للمضمر وإنما يضمر إذا علم أنّك قد عرفت من يعني) وقد بيّنا هذا.

ثم قال : (إلا أن رجلا لو كان خلف حائط أو في موضع تجهله فيه فقلت : من


أنت؟ فقال : أنا زيد منطلقا في حاجتك ، كان حسنا).

وإنما استحسنه سيبويه في هذا الموضع لأنه كان عهده منطلقا في حاجته من قبل أن يقول له : من أنت؟ ، فصار ما عهده به بمنزلة شيء ثبت له في نفسه كشجاع وبطل وكريم ، فنصبه كنصب : أنا عبد الله كريما ، وهو عبد الله شجاعا بطلا.

قال : (وأمّا ما ينتصب لأنه خبر لمبنيّ على اسم غير مبهم ، فقولك : أخوك عبد الله معروفا ، هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها ، ويحال فيه ما يحال في الأسماء المضمرة).

قال أبو سعيد : أخوك عبد الله معروفا ، جائز كما يجوز : أنا عبد الله معروفا ، وأخوك عبد الله منطلقا ، لا يجوز ، أنا عبد الله منطلقا ، لأن أخوك إذا كان للنسب فليس هو فيه معنى فعل ينتقل فيكون أخاه في حال دون حال ، فلو قلت : أخوك عبد الله منطلقا ، فكأنه أخوه في حال انطلاقه دون غيرها وقد علم أن (أخوة) النسب لا تنتقل ، ولو قلت : أخوك عبد الله منطلقا ، وأنت تريد به المؤاخاة والمصادقة قد جاز لأنها تنتقل ، وإنما جاز : أخوك عبد الله معروفا وما جرى مجراه مما يحقق به الإخبار ، كما جاز لأنها تنتقل ، وإنما جاز : أخوك عبد الله معروفا وما جرى مجراه مما يحقق به الإخبار ، كما جاز : أنا عبد الله معروفا ، لأنه توكيد للخبر والعامل فيه أحقّ ذلك وما أشبهه.

وتوكيد الجملة ب (أحقّ) ونظائره كتوكيدها باليمين إذا قلت : أخوك عبد الله وأنا عبد الله والله ، وإنما هي جملة يؤكّد بها جملة.

وكان أبو إسحاق الزجاج يقول في قوله : أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ، يجعل الخبر نائبا عن مسمى ويجعل فيه ذكرا من الأول ، ويجعل العامل في (معروفا) هو خبر الاسم الموضع موضع الاسم.

والقول عندي هو الأول ، والله أعلم.

هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة

(وذلك قولك : هذان رجلان وعبد الله منطلقين) ، نصبت منطلقين على الحال ، والعامل فيه التثنية ، لأنك لمّا عطفت عبد الله عليهما وقد وقع عليهما التثنية لحقه التثنية وصار كأنك قلت : هذا عبد الله منطلقا ، ولا يجوز أن تكون النكرة صفة لعبد الله ، (وإن شئت قلت : هذان رجلان وعبد الله منطلقان) ، فجعلت منطلقان نعتا لرجلان ، (وتقول :


هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين ، إذا خلطتهم).

وإذا كان للأول قلت : هؤلاء ناس وعبد الله منطلقون ، وتقول : (هذه ناقة وفصيلها راتعين) ، على قول من جعل فصيلها معرفة ، وهو أفصح اللغتين ، ومن جعلها نكرة وهي أردأهما ، قال : (راتعان ، وهذا على قول من قال : كل شاة وسخلتها ، تريد : كل شاة وسخلة لها بدرهم.

(ومن قال : كل شاة وسخلتها ، فجعلها بمنزلة : كل رجل وعبد الله منطلقا ، لم يقل في الراتعين إلا بالنصب ، لأنه إنما يريد حينئذ المعرفة ، ولا يريد أن يدخل السخلة في كل) وجميع الباب مفهوم وأكثره قد مضى تفسيره فيما قبل. والله أعلم بالصواب.

هذا باب ما يجوز فيه الرفع ممّا ينتصب في المعرفة

قال أبو سعيد : هذا الباب إلى آخره في رفع منطلق من (قولك : هذا عبد الله منطلق).

وقد ذكرناه منصوبا في باب قبل هذا وقد شرحناه.

وذكر رفعه في هذا الباب ، وحكاه عن يونس وأبي الخطاب ، عمن يوثق به من العرب وأفرد الباب به ورفعه من أربعة أوجه ، أظنني ذكرتها فيما مضى وأعيدها هاهنا للاحتياط.

ذكر عن الخليل وجهين ، منها :

أحدهما : (أنك حين قلت : هذا عبد الله ، أضمرت هذا أو هو ، كأنك قلت : هذا منطلق أو هو منطلق.

والوجه الآخر : أن تجعلهما جميعا خبرا ل (هذا) كقولك : هذا حلو حامض ، لا تريد أن تنقض الحلاوة ، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين ، قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى)(١) ، وزعموا أنها في قراءة ابن مسعود : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)(٢) ، وقال الراجز :

__________________

(١) سورة المعارج ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة هود ، الآية : ٧٢.


من يك ذا بتّ فهذا بتّي

مقيّظ مصيف مشتىّ (١)

سمعناه ممن يروي هذا الشعر من العرب يرفعه

والوجهان الآخران من الرفع :

أحدهما : أن يجعل عبد الله معطوفا على هذا كالوصف ، وهو عطف البيان فيصير كأنه قال : عبد الله منطلق ، فيكون ـ أيضا ـ بدلا من هذا في هذا الوجه.

والوجه الثاني : أن يكون منطلق بدلا من زيد فيكون التقدير : هذا منطلق ، وتقديره : هذا زيد رجل منطلق ، فيبدل رجل من زيد ثم تحذف الموصوف وتقيم الصفة مقامه ، فيصير : هذا منطلق ، وهو بدل نكرة من معرفة ، كما قال تعالى : (بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ.)(٢)

فهذه أربعة أوجه في الرفع.

قال : (وأمّا قول الأخطل :

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم (٣)

فزعم الخليل : أن هذا ليس على إضمار (أنا) ولو جاز على إضمار (أنا) لجاز : كان عبد الله لا مسلم ولا صالح ، على إضمار (هو).

ولكنه فيما زعم الخليل على قوله : (فأبيت) بمنزلة الذي يقال له : لا حرج ولا محروم ، ويقويه في ذلك قوله :

على حين أن كانت عقيل وشائظ

وكانت كلاب خامري أمّ عامر (٤)

هجا هذا الشاعر عقيلا وكلابا ، فأمّا عقيل فجعلهم وشائظ واحدهم : وشظ ، والوشظ : الخسيس ، والوشيظ : الزائد في القوم الملزّق بهم.

قال جرير يهجو التّيم :

يخزى الوشيظ إذا قال الصّميم لهم

عدّوا الحصى ثم قيسوا بالمقاييس (٥)

__________________

(١) البيت ينسب لرؤبة بن العجاج ملحقات ديوانه / ١٨٩ ابن يعيش ١ / ٢٥٨.

(٢) سورة العلق ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

(٣) ديوان الأخطل / ٨٤ ، سيبويه ١ / ٢٥٩.

(٤) في سيبويه ٢ / ٨٥ ونسبه للربيع الأسدي.

(٥) ديوان جرير / ٢٥٠.


والصميم : الصحيح النسب.

وأمّا كلاب فجعلهم حمقى ، وذلك أنّ أمّ عامر هي الضّبع ، والعرب تستحمقها وتذكر من حمقاتها أنها يقال لها : خامري أم عامر ، أي : ادخلي الخمر فتدخل جحرها فيصطادونها ، ويكون التقدير في البيت : وكانت كلاب يقال لها : خامري أمّ عامر ، كأنه قال : وكانت كلاب من حماقتها كضبع يقال لها : خامري أم عامر ، فهذا كله تأييد لقول الخليل ، ويؤيّد أيضا ـ قوله :

(كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصرّ وتحلب (١)

أي بني من يقال له ذلك). لأنه يجعله كأنه حكاية لما كان يتكلم به قبل ذلك ، فكأنه حكى اللفظ كما كان.

قال سيبويه : (وقد زعم بعضهم أنّ رفعه على النفي كأنه قال : فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به).

قال : (وهذا التفسير كأنه أسهل).

وإنما صار عنده أسهل لأنّ المحذوف خبر حرج وهو ظرف ، وحذف الخبر في النفي كثير كقولنا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، أي : لا حول لنا ولا قوة لنا.

وقد قال بعض النحويين : لا أنا حرج ، ولا أنا محروم ، فيحذف المبتدأ ، وقد ذكر حذفه في مواضع.

هذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنّه مبنيّ على مبتدإ

(وتنصب فيه الخبر لأنه حال لمعروف مبنيّ على مبتدإ. فأما الرفع فقولك : هذا الرجل منطلق).

هذا : مبتدأ ، والرجل : صفته وليس على معهود ، ومنطلق : خبره.

وهذا مع الاسم بمنزلة اسم واحد (كأنك قلت :

هذا منطلق.

قال النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع (٢)

__________________

(١) المقتضب ٤ / ٩ ، سيبويه ١ / ٢٥٩.

(٢) ديوان النابغة / ٥٠.


كأنه قال : وذا سابع.

وأمّا النصب فقولك : هذا الرجل منطلقا.

جعلت الرجل مبنيا على هذا ، وجعلت الخبر حالا له قد صار فيها فصار كقولك : هذا عبد الله منطلقا ، والرجل هاهنا معهود ، وإنما يريد في هذا الموضع أن تذكر المخاطب برجل قد عرفه قبل ذلك ، وهو في الرفع لا يريد أن يذكّره بأحد ، إنما أشار فقال : هذا منطلق) ، وقد ذكرنا في صفات المبهمة أنها توصف بما فيه الألف واللام على غير عهد.

قال : (فكأنّ ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على أنه حال مفعول فيها ، لأن المبتدأ يعمل فيما يكون بعده ويكون فيه معنى التنبيه والتعريف ، ويحول بين الخبر وبين الاسم المبتدإ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر).

يريد أن الحال في قولك : هذا الرجل منطلقا ، وهذا عبد الله منطلقا ، مفعول فيها لأن المعنى : انتبه له في هذه الحال.

وقوله : (لأن المبتدأ يعمل فيما بعده) ، معناه : يرفع ما بعده من الخبر وقد ذكرنا فيه قولين :

أحدهما : أنه يرفع الخبر.

والآخر : أن الابتداء يرفع المبتدأ.

والمبتدأ والابتداء يرفعان الخبر ، والظاهر من كلامه في هذا الموضع أن المبتدأ هو العامل ، وقد يجوز أن يريد بالمبتدإ إذا كان إشارة عمل فيما بعده ، نحو : هذا وما جرى مجراه ، وقد ذكرنا عمل هذا فيما بعده ، وعمل المبتدإ فيما بعده كعمل الفعل فيما بعده من حيث كانا عاملين ، وإنما أراد أن يريك حالين في منطلق من المبتدإ ومن الفعل ، تقول : هذا منطلق ، فيرتفع منطلق بأنه خبر هذا ويعمل فيه هذا ، ثم يدخل الرجل أو عبد الله بعد هذا خبرا لهذا فيحول بين منطلق وبين هذا ، أن يكون منطلق خبرا له ، فيصير حالا كما تقول في الفعل : ذهب منطلق ، فيرتفع منطلق ، وبين منطلق أن يرتفع بالفعل ، ثم تقول : ذهب زيد منطلقا ، فيحول زيد بين ذهب وبين منطلقا أن يرتفع به ليصير حالا قد ثبت فيها وصار فيها كما أن الظرف موضع قد صيّر فيه بالنية ، وإن لم تذكر فعلا وذلك أنك إذا قلت : فيها زيد ، فكأنك قلت : استقر فيها زيد ، وإن لم تذكر فعلا وهنا أفصح سيبويه


بنصب الظرف ب (استقر) ثم شبّه نصب الظروف بنصب عشرين بما بعده من اسم النوع المميّز.

وإنما نصب عشرون اسم النوع لأنه ليس من صفته ، فيكون بمنزلة : هذه عشرون جياد ، ورأيت عشرين جيادا ، ومررت بعشرين جياد ، ولا هو عطف عليه ، فيكون بمنزلة : هذه عشرون ورجل ، ورأيت عشرين ورجلا ، ومررت بعشرين ورجل ، فشبّه عشرون رجلا بضارب زيدا قال : (وأمّا : (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)(١) ، فإن الحق لا يكون صفة ل (هو) من قبل أن هو لا يوصف لأنه مضمر ولا يوصف المضمر بالمظهر أبدا ، فمن ثمّ لم يكن في هو الرفع) ، يعني : لم يكن في هو الحق مصدق ، على أن يجعل هو مبتدأ ، والحق نعت له ، ومصدقا خبرا ، كما تقول : هذا الرجل منطلق ، بأن تجعل الرجل نعت هذا ، ومنطلق خبره ، فلمّا لم يجز أن يوصف هو فيجعل الحق صفة ، وجب رفع الحق بخبر هو ، ونصب مصدقا على الحال. والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب فيه الخبر لأنه خبر لمعروف يرتفع

على الابتداء

(قدمته أو أخرته.

وذلك قولك : فيها عبد الله قائما ، وعبد الله فيها قائما. ف (عبد الله) ارتفع بالابتداء ، لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به ، وإنما هو موضع له ، ولكنه يجري مجرى الاسم المبني على ما قبله.

ألا ترى أنك لو قلت : فيها عبد الله ، حسن السكوت وكان كلاما مستقيما ، كما حسن واستغنى في قوله : هذا عبد الله ، وتقول : عبد الله فيها ، فيصير كقولك : عبد الله أخوك ، إلا أن عبد الله يرتفع مقدما كان أو مؤخرا بالابتداء ، ويدلك على ذلك أنك تقول : إن فيها زيدا).

قال أبو سعيد : مذهب سيبويه أن الاسم يرتفع بالابتداء أخرت الظرف أو قدمته.

وقال الكوفيون : إذا تقدم الظرف ارتفع الاسم بضمير له مرفوع في الظرف

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٣١.


المتأخر ، فكان من حجة سيبويه في ذلك أنا إذا أدخلنا إنّ ، نصبنا الاسم وإن كان قبله ظرف كقولنا : في الدار زيدا.

فلو كان في الدار يرفع زيدا قبل دخول إنّ لما غيرتها إنّ عن العمل. كما أنّا لو قلنا : إن يقوم زيدا ، لم يجز أن تبطل عمل (يقوم) ، بل يقال : إن يقوم زيد ، على معنى إنه يقوم زيد ، كذلك : إن في الدار زيد ، على معنى : أنه في الدار زيد.

فلّما كانت العرب تنصب ذلك مع تقديم الظروف ، علمنا أن ارتفاعه بالابتداء ، وهذا في القرآن وسائر الكلام أكثر من أن يحصى ، قال الله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً)(١) ، و (إِنَّ لَنا لَأَجْراً)(٢) ، وما أشبهه.

ومما يدل على بطلان ما قالوه ، إجماعهم على جواز : في داره زيد ، فإن كان زيد مرفوعا بالظرف فلا يجوز إضماره قبل الذكر ، وليس النية التأخير وإنما يجوّز سيبويه وأصحابه : في داره زيد ، لأن النية :

زيد في داره ، فإن قلت : في الدار زيد قائم ، وعندك عمرو مقيم ، فلك في الظرف وجهان :

أحدهما : أن تجعله خبرا للاسم وتنصب الصفة على الحال ، فتقول : في الدار زيد قائما ، وعندك عمرو مقيما ، ويكون العامل الناصب لعند استقر المقدّر وناب عند : عن استقر ، والعامل في الحال هو الظرف النائب عن استقر.

والوجه الآخر : أن تجعل خبر الاسم الصفة وترفعها ، وتجعل العامل في الظرف الصفة ، كقولك : عندك عمرو مقيم ، الناصب ل (عند) هو مقيم ، وإنما تضمر استقر إذا كان الظرف في موضع الخبر أو الصفة أو الحال ، فأمّا الخبر فقولك : زيد خلفك ، وخلفك زيد ، وكان زيد خلفك ، وأنّ زيدا خلفك.

والصفة : مررت برجل عندك ، والحال : مررت بزيد عندك.

وسيبويه يسمي الظرف إذا لم يكن خبرا ملغى لأنّه يتم الكلام بإلغائه وإسقاطه ، وذلك قوله :

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ١٢.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١١٣.


(وإن شئت ألغيت فيها ، فقلت : فيها عبد الله قائم) ، جعل قائم هو الخبر ، وجعل فيها لغوا.

(قال النابغة :

فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة

من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع (١)

ف (ناقع) خبر السم ، و (في) لغو.

(وقال الهذلي :

لا درّ درّي إن أطعمت نازلهم

قرف الحتىّ وعندي البرّ مكنوز (٢)

كأنك قلت : البرّ مكنوز عندي ، وعبد الله قائم فيها. فإذا نصبت القائم ، ف (فيها) قد حالت بين المبتدإ والقائم ، واستغنى به وحمل المبتدأ حين لم يكن القائم مبنيا عليه عمل هذا زيد قائما ، وإنما يجعل فيها إذا رفعت القائم مستقرا للقيام وموضعا له).

ومن كلام سيبويه : حتى كان للفظ موضع من كلام ثم دخل شيء صيّر له موقع الأول ، وصار للأول موقع غير موقعه الأول أن هذا الداخل قد حال بين الذي تغير موقعه وبين اللفظ الذي وقع الداخل منه موقع الأول ، فمنه ما قد مضى ومنه هذا ، وتمثيله أنك إذا قلت : عبد الله قائم ، فقائم خبر عبد الله ، فإن أدخلت فيها وبقّيت قائم على رفعه فإن فيها ما حالت بين شيئين وهي : مستقر للقيام ، وموضع له قدمتها على عبد الله أو وسطتها بين عبد الله وبين قائم أو أخرتها إلى آخر الكلام ، وإن جعلت فيها خبرا ل (عبد الله) فقد أوقعتها موقع قائم ، وقد بطل أن يكون (قائم) خبرا ل (عبد الله) لأنّ فيها قد حالت بينه وبين عبد الله أن يكون خبرا له ، وصار ل (قائم) موقع آخر من الكلام فاعتبر ذلك في جميع ما يقول سيبويه فيه أنه قد حال بينه وبين كذا إن شاء الله تعالى.

ولو قال قائل : في الدار زيد قائم ، لم يجز له أن يسكت على قوله : في الدار زيد ، كما لو قال : عبد الله زيد ضارب ، لم يجز له أن يسكت على : عبد الله زيد.

واستدل سيبويه ـ أيضا ـ على أن عبد الله لا يرتفع بالظرف إذا تقدم ؛ أنّا نقول : في

__________________

(١) ديوان النابغة / ٥١ ، شرح شواهد المغني / ٣٠٥.

(٢) البيت للمتنخل الهذلي ديوان الهذليين ٢ / ١٥ ، البيان والتبيين ١ / ١٧.


الدار زيد قائم ، فيرتفع بغير الظرف بإجماع النحويين.

البصريون يقولون :

يرتفع بالابتداء.

والكوفيون يقولون : يرتفع ب (قائم) ، وقائم ب (زيد) ، فلو كان فيها يحدث الرفع فيما بعدها لأحدثتها متى تقدمت ، ولم يلغ كما لا يلغى الفعل إذا تقدم الفاعل.

ثم احتج بحجة أخرى فقال : (ولو كان عبد الله يرتفع ب (فيها) لارتفع بقولك : بك عبد الله مأخوذ) ، ولا خلاف بينهم أن عبد الله لا يرتفع ب (بك) ، وكأن قائلا قال لسيبويه : إن بك لا تشبه فيها ، لأن عبد الله لا يتم الكلام به ، وفيها عبد الله يتم الكلام به ، فأجاب عن هذا بأن العامل الذي يتم به الكلام والعامل الذي لا يتم به الكلام سواء لا يتغير ، ألا ترى أنّ كان عبد الله لا يكون كلاما ، وضرب عبد الله كلام ، وعملهما واحد.

(ومما جاء في الشعر مرفوعا ، قوله :

لا سافر النّيّ مدخول ولا هبح

عاري العظام عليه الودع منظوم (١)

فجميع ما يكون ظرفا تلغيه إن شئت).

أي : جميع ما يكون خبرا للاسم ، وظرفا تلغيه إذا جئت بخبر سواه على ما مضى من الكلام.

قال : (ومثل قولك : فيها عبد الله قائما ، هو لك خالصا ، وهو لك خالص) ، بمنزلة : عبد الله فيها قائم ، فإذا نصبت ف (لك) خبر ، وهو في التقديم بمنزلة : أهبه لك خالصا على نحو ما تقرر استقر وشبيهه ، وإن قلت : خالص جعلته خبر هو ، وجعلت لك من صلة خالص كأنك قلت : خلص لك.

قال : (وقد قرئ هذا الحرف على وجهين :

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٢) ، بالرفع والنصب).

قال أبو سعيد : هي عند سيبويه مبتدأ وللذين آمنوا : خبر ، وخالصة : منصوب على

__________________

(١) البيت لتميم بن مقبل ديوانه / ٢٦٩.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٣٢.


الحال ، والعامل فيها اللام على تقدير : استقر وما أشبه ذلك كقولنا : عبد الله في الدار قائما.

فإن قال قائل : الحال مستصحبة فكيف تكون خالصة في يوم القيامة والتي هي لهم في الحياة الدنيا؟

قيل له : الحال على كل حال مستصحبة ، وقد يكون الملفوظ به من الحال متأخرا بتقدير شيء مستصحب ، كقوله تعالى : (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ)(١) ، وقد علم أن الخلود إنما هو إقامتهم فيها الدائمة ، وليس ذلك في حال دخولهم ، وتقديره : ادخلوها مقدرين الخلود أو مستوحين الخلود ، وقيل في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ)(٢) وليس في حال الدخول حلق ولا تقصير ، وإنما هو شيء يقع بعد الدخول ، وإنما يقع مثل هذا فيما علم ووثق به.

ولو قيل للإنسان : ادخل الدار ، فقال : وما أصنع فيها؟ لجاز أن يقال : ادخلها آكلا فيها شاربا على معنى مقدّرا ذلك ومستوحيا.

قال : (وبعض العرب يقول : هو لك الجماء الغفير ، فيرفع كما يرفع الخالص) وينصب.

فيقال : هو لك الجماء الغفير ، ف (هو) مبتدأ ، ولك : خبره ، والجماء الغفير : حال ، وقد مضى شرحها. (والنصب أكثر لأن الجماء الغفير بمنزلة المصدر ، فكأنه قال : هو لك خلوصا) ، وخلوصا في معنى خالصا ، لأن المصدر يكون في موضع الحال ، (فهذا تمثيل ولا يتكلم به ، ومما جاء في الشعر قد انتصب خبره وهو مقدم قبل الظرف ، قوله :

إنّ لكم أصل البلاد وفرعها

فالخير فيكم ثابتا مبذولا (٣)

وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقول : أتكلم بهذا وأنت هاهنا قاعدا.

قال : ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر ، قول العرب : هو رجل صدق معلوما

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٧٣.

(٢) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.

(٣) سيبويه ١ / ٢٦٢.


ذاك ، وهو رجل صدق معروفا ذاك ، وهو رجل صدق بيّنا ذاك ، كأنه قال : هذا رجل صدق معروفا صلاحه ، فصار حالا وقع فيه أمر لأنك إذا قلت : هو رجل صدق ، فقد خبرت بأمر ثم جعلت ذلك المرفوع على هذه الحال ، ولو رفعت كان جائزا على أن تجعله صفة ، كأنك قلت : هو رجل معروف صلاحه.

ومثل ذلك : مررت برجل حسنة أمّه كريما أبوها). ولا يجوز أن تقول : كريم أبوها بالجر ، لأنك إذا جررت فهو نعت لرجل ، وليس فيه ما يعود إلى الرجل ، وإذا نصبت فهو حال كرم أبيها.

(زعم الخليل : أنه أخبر عن الحسن أنه وجب لها في هذه الحال ، وهو كقولك : مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها.

والأول كقولك : هو رجل صدق معروفا صدقه ، وإن شئت قلت : معروف ذاك ، ومعلوم ذاك ، على قولك : ذاك معروف ، وذاك معلوم. سمعته من الخليل) ، وقد أتى التفسير على ذلك كلّه.

هذا باب من المعرفة يكون فيه الاسم الخاص

شائعا في الأمة

ليس واحد منها أولى به من الآخر ، ولا يتوهّم به واحد دون آخر له اسم غيره ؛ نحو قولك للأسد : أبو الحارث ، وأسامة ، وللثعلب : ثعالة ، وأبو الحصين ، وسمسم ، وللذئب : دألان ، وأبو جعدة ، وللضبع : أمّ عامر (١) وحضاجر (٢) ، وجعار (٣) ، وجيأل ، وأم عنثل ، وقتام (٤).

وقد ذكر سيبويه : أم رعم ، وأم خثّور ، وأم خنّوز ، وأم رمال ، وأم رشم (٥) ، وأم جعور ، وأم الهنبر (٦) ،وأم نوفل (٧) ،ويقال للضّبان:قثم. ومن ذلك للغراب :ابن بريح.

قال أبو سعيد : قد تكلمت العرب بأسماء كثيرة معارف مفردة ، ومن الكنى بالآباء

__________________

(١) أم عامر : الضبع.

(٢) الحضجر : العظيم البطن ، ثم سمي به الضبع.

(٣) لكثرة جعارها.

(٤) غبار.

(٥) الرشم : سواد في وجه الضبع.

(٦) الهنبر : هي الحمارة الأهلية.

(٧) ذكر الضباع.


والأمهات والبنين والبنات لا يتسع كتابنا هذا لاستقصاء ذكرها.

فنذكر شيئا من كلّ باب لنعلم اتساع العرب في هذا النحو.

فمن الكنى بالآباء ، قال الأصمعيّ (١) : يقال للذئب : أبو جعادة.

وقال أبو عبيدة (٢) : يقال للذئب : أبو غسلة ، وأبو مزقة (٣). وقال أبو زياد (٤) : يقال للذئب : أبو ثمامة. ويقال للأبيض : أبو الجون ، وللأسود : أبو البيضاء ، ويدعى الأعمى : أبا البصير. وقال الأصمعيّ : يدعى القرد : أبا قيس.

قال : ويقال لطائر فيه ألوان من سواد وبياض يتغيّر في النّهار ألوانا : أبو براقش ، وأنشد :

يغدو عليك مرجّلين

كأنهم لم يفعلوا

كأبي براقش كلّ لون

لونهذا يتخيّل (٥)

ومن الكنى بالأمّهات ، يقال للداهية : أم حبوكر ، وأم ناز ، وأم حشاف ، وأم الرّبيق ، وأمّ اللهيم.

ويقال للأمر الذي لا منفذ له : أمّ صبّور ، وأنشدوا :

أوقعه الله لسوء سعيه

في أم صبّور فأودى ونشب (٦)

ومن كنى الخمر : أمّ ليلى (٧) ، وأم حنين ، وأمّ زنبق ، وأمّ الخلّ. قال مرداس بن خذام الكاهليّ :

رميت بأم الخلّ حبة قلبه

فلم ينتعش منها ثلاث ليال

__________________

(١) هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي أحد أئمة العلم باللغة والشعر ولد وتوفي بالبصرة (١٢٢ ـ ٢١٦ ه‍). نزهة الألباء ١٥ ، جمهرة أنساب العرب ٢٣٤.

(٢) معمر بن المثنى التيمي ولد وتوفي بالبصرة (١١٠ ـ ٢٠٩ ه‍) وقال عنه الجاحظ : لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. طبقات النحويين واللغويين ١٩٢ ، بغية الوعاة ٣٩٥.

(٣) لأن لونه يشبه لون المزقة ، والمزقة : الطائفة من اللبن.

(٤) يزيد بن عبد الله كان من سكان بادية العراق ودخل بغداد في أيام المهدي العباسي ، خزانة الأدب ٣ / ١١٨.

(٥) البيتان لعقيبة بن هبرة الأسدي وهو شاعر مخضرم توفي سنة ٥٧ ه‍ ، الخزانة ١ / ٣٤٣.

(٦) البيت منسوب لأبي الغريب النصري. اللسان (صبر).

(٧) كنية للخمر السوداء ، وليلى : نشوة الخمر.


وأمّ عجلان : طائر أسود أبيض ، أصل الذنب من تحته ، وربّما كان أحمر ، واسمه : الفتاح.

ومن أسماء البنين : ابن دأية للغراب ، وابن جلا : الرجل المنكشف الأمر ، ومثله : ابن أجلى ، كما قال العجاج :

به ابن أجلى وافق الإصحارا (١).

ويقال : ابن مقرض لدويبّة أكحل اللون له خطيم طويل ، وهو أصغر من الفأرة.

ويقال للحمار الأهليّ ابن سنّه ، وابن طاب عذق المدينة ، ويقال أيضا : عذق ابن حبيق ، وابن حمير ، الليلة التي لا قمر فيها ، وابن سمير الليلة ذات القمر.

ومن أسماء البنات : ابنة الجبل (٢) الصدى ، ونبت الأرض الحصاة ، ويقال أيضا لنبت يشبه القلّاع : بنت الأرض ، ويقال ما كلمته ببنت شفة ، أي : بكلمة ، وبنات أسفع (٣) المعزى ، وكذلك بنات بعرة ، ويقال للضأن : بنات خورة (٤) يا هذا.

قال أبو سعيد : الأسماء التي ذكرها سيبويه معارف أعلام للأجناس التي ذكرها ، كزيد ، وعمرو ، وهند ، ودعد.

إلّا أن اسم زيد ، وهند يختصّ شخصا بعينه دون غيره من الأشخاص ، وأسماء الأجناس يختصّ كل اسم منها جنسا ، كل شخص من الجنس يقع عليه الاسم الواقع على الجنس.

مثال ذلك : أنّ زيدا أو طلحة في أسماء الناس لا توقعه على كلّ واحد من الناس ، وإنّما توقعه على الشخص الذي يسمى بعينه لا يتجاوزه ؛ وأسامة يقع على كلّ ما خبّرت عنه من الأسد ، وكذلك ثعالة ، وسمسم ، وأبو الحصين ، يقع على كلّ ما خبرت عنه من الثعالب. والفرق بينهما أن الناس تقع أسماؤهم على الشخوص ، لكل واحد منهم اسم يختصّ به شخصه دون سائر الأشخاص ؛ لأنّ لكل واحد منهم حالا مع الناس ينفرد بها في

__________________

(١) في ديوان العجاج :

لاقوا به الحجاج والإصحارا

به ابن أجلى وافقا الإسفارا

(٢) الحية لملازمتها له وتقال للداهية أيضا.

(٣) الأسفع اسم الغنم.

(٤) الخورة من الإبل خيرتها.


معاملته وأسبابه وما له وعليه ، وليست لغيره ، فاحتاج إلى اسم يختص شخصه. وكذلك ما يتخذه الناس ويستعملونه فيألفونه من الخيل والكلاب والغنم ، وربّما خصّوها بأسماء تعرف بكل اسم منها شخص بعينه لما يخصّونه به من الاستعمال والاستحسان ، نحو أسماء خيل العرب : كأعوج ، والوجيه ، ولاحق ، وقيد ، وجلّاب ، والكلاب نحو : ضمران ، وكسّاب ، وغير ذلك مما يخصّونه بالألقاب.

وما لا يألفه الناس لا يخصّون كلّ واحد منها بشيء دون غيره يحتاجون من أجله إلى تسميته ، فصارت التسمية للجنس بأسره ، فيصير الجنس في حكم اللفظ كالشخص ، فيجري أسامة وسائر ما ذكره من الأسماء المفردة مجرى زيد ، وعمرو وطلحة ، ويجري ما كان مضافا نحو ، أبي الحصين ، وأبي الحارث ، وابن عرس ، وابن بريح ، كعبد الله ، وأبي جعفر ، وما أشبه ذلك ، وما كان منه له اسم وكنية نحو : أسامة ، وأبي الحارث ، وثعلة ، وأبى الحصين ، ودألان ، وأبي جعدة ، كرجل له اسم وكنية وهو إنسان اسمه طلحة وكنيته أبو محمد ، واسمه زيد وكنيته أبو سعيد. وإن كانت مؤنثة لها اسم وكنية ، فهي كامرأة لها اسم وكنية ، وذلك نحو الضبع اسمها حضاجر ، وجعار ، وجيأل ، وقتام وكنيتها : أمّ عامر ، وأم خنّور ، وأم زعم ، وأم رمال ، وهي كامرأة اسمها هند وكنيتها أم أحمد ، وقد يكون في هذه الأجناس ما يعرف له اسم مفرد ولا يعرف له كنية ، ومنه ما تعرف كنيته ، ولا يعرف له اسم علم. ومنه ما يكون اسمه علما مضافا ، ولا يعرف له غير ذلك. فأمّا ما يعرف له اسم مفرد علم ولا تعرف له كنية فنحو : قثم : ذكر الضبع ، ولا كنية له.

وأما ما له كنية ، ولا اسم له علم ، فنحو : أبي براقش ، وأما المضاف فنحو : ابن عرس ، وابن مقرض. وفي هذه الأشياء ما له اسم جنس واسم علم ، كأسد ، وليث ، وثعلب ، وذئب.

هذه أسماء أجناسها ؛ كرجل ، وفرس ، ولها أعلام نحو : أسامة ، وثعالة ، وسمسم ، ودألان ، وهي كزيد وعمرو وطلحة في أسماء الناس ، ومنها ما لا يعرف له اسم غير العلم نحو : ابن مقرض ، وحمار قبّان ، وأبي براقش ، وإن كان لشيء منها اسم فليس بالمعروف الكثير ، وإنما ذكرت هذه الأشياء ليعلم اتساع العرب في تسمية ذلك ، وعلى مقدار ملابستهم لجنس من هذه الأجناس ، وكثرة إخبارهم عنه ، يكثر تصرفهم في تسميته وافتنانهم فيها ، كالأسد ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، فإن لها عندهم آثارا يكثر بها


إخبارهم عنها ، فيتفننون في أسمائها وكناها وأسماء أجناسها ، ولأن إقامتهم في البوادي وكونهم في البراري ، قد تقع أعينهم على طائر غريب ووحشي ظريف ، يرون من دوابّ الأرض وهوامها وأجناسها ما لا اسم له عندهم ، فيكنونه بأسماء يشتقونها من خلقته ، أو من فعله ، أو من بعض ما يشبهه أو غير ذلك ؛ ويضيفونه إلى شيء على ذلك المنهاج ، أو يلقبونه ، كفعلهم بمن يلقب من الناس. فيجري ذلك مجرى الأسماء الأعلام والألقاب في الإخبار عنه ، ويكون ذلك لجنسه لا لواحد بعينه ، ولو لا أن ذلك من غير ما قصدنا إليه لمثلت منه ما يكون كالعيان. وفى الفراش وغيره من الحيوان مما لم يسمعوه كثير ، وفى هذه الخلق من العجائب ما لا يحاط به. ولقد حدثنا أبو محمد السكري عن خفيف السمرقندي حاجب المعتضد بالله ، أنه كثر الفراش على الشمع المسرج بحضرة المعتضد في بعض الليالي ، فأمر بجمعه وتمييزه ، فجمع فكان مكّوكا (١) ؛ وميّز فكان اثنتين وسبعين لونا.

وكذلك صارما يكنى بالآباء والأمهات معارف ؛ لأنهم ذهبوا به مذهب كنى الرجال والنساء ، وكذلك ما يضاف إلى شيء غير معروف باستحباب تلك الإضافة واستحقاقها ، كنحو ابن عرس ، وابن أوبر ، وابن قترة (٢) ، وابن آوى ، وحمار قبّان ؛ لأن المضاف إليه من ذلك لا يعرف باستحقاق إضافة ما أضيف إليه ، فجرى مجرى ألقاب الناس المضافة ، نحو ثابت قطنة ، وقيس قفّة.

وأما ما نعرف باستحقاق إضافة ما أضيف إليه ، فنحو ابن لبون ، وابن مخاض ، وبنت لبون ، وبنت مخاض ، وابن ماء ، وذلك أن الناقة إذا ولدت ولدا ثم حمل عليها بعد ولادتها فليست تصير مخاضا إلّا بعد سنة أو نحو ذلك ، والمخاض الحامل المقرب ، فولدها الأول إن كان ذكرا هو ابن مخاض ، وإن كانت أنثى فهي بنت مخاض ، وإن ولدت وصار لها لبن صارت لبونا ، فأضيف الولد إليها بإضافة معروفة الاستحقاق والاستحباب ، وإن نكّرت مخاض ولبون ، فما أضيف إليها نكرة نحو : ابن مخاض ، وابن لبون ، وإن عرّفتهما بإدخال الألف واللام ، فما أضيف إليهما معرفة نحو : ابن اللبون ، وابن المخاض. وكذلك

__________________

(١) المكوك : كأس يشرب به وهو مكيال يساوي نصف رطل أو صاعا ونصف أو عشرين مدّا بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) حية خبيثة تميل إلى الصغر ، وابن قترة إبليس لعنه الله.


ابن ماء : طائر ، نسب إلى الماء بلزومه له. فإن نكّرت الماء تنكّر فقلت : ابن ماء ، وإن عرّفته تعرّف فقلت : ابن الماء. وأنا أسوق شواهد بعض ذلك في كلام سيبويه إن شاء الله.

وإنما علم أن العرب ذهبت في هذه الأسماء مذاهب الأعلام والألقاب المعارف ، أنّا رأينا ما كان منها فيها ما يمنع من صرف المعرفة لا يصرف ، كأسامة وثعالة ؛ لأن فيهما التأنيث والتعريف. وكذلك جعار وجيأل ، وكذلك دألان ، لأن فيه الألف والنون الزائدتين والتعريف. وكذلك قثم لا ينصرف لأنه معدول عن قاثم وهو معرفة مثل : عمر. وما لم يكن فيه ما يمنع الصرف ، فإنه لا تدخله الألف واللام ، كابن عرس وابن بريح ، لا يقال : ابن العرس ، ولا ابن البريح ، كما لا تدخل الألف واللام على زيد وعمرو ومكّة وبغداد.

قال : " وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسم معناه معنى زيد ، أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس ، فيحتاجوا إلى أسماء يعرفون بها بعضها مع بعض ، ولا تحفظ جلاها كحفظ ما يثبت مع الناس ويقتنونه ويتّخذونه. ألا تراهم قد اختصّوا الخيل والإبل والغنم والكلاب وما يثبت معهم واتخذوه بأسماء كزيد وعمرو".

قال : " ومنه ـ يعنى من المعارف ـ أبو جنادب (١) وهو شيء يشبه الجندب غير أنه أعظم منه ، وهو ضرب من الجنادب ، كما أنّ بنات أوبر ضرب من الكمأة ، وهو معرفة. ومن ذلك ابن قترة ، وهو ضرب من الحيّات ، فكأنهم إذا قالوا : هذا ابن قترة ، فقد قالوا : هذه الحيّة ، التي من أمرها كذا وكذا ، وإذا قالوا : بنات أوبر فكأنهم قالوا : هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة ، وإذا قالوا : هذا أبو جنادب فكأنهم قالوا : هذا الضرب الذي سمعت به أو رأيته".

قال أبو سعيد : كأنّ تلقيب هذه الأشياء وتسميتها بهذه الأسماء المعارف في مذهب سيبويه ، دلالة على الاسم وبعض صفاته وخواصه ، ألا تراه قال : فكأنهم إذا قالوا : هذا ابن قترة فقد قالوا : هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا ، وكذلك هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة ، وهذا مذهب حسن.

__________________

(١) الضخم الغليظ.


وكان أبو العباس محمد بن يزيد (١) يذهب إلى أن ابن أوبر نكرة ، ويستدل على ذلك بإدخال الألف واللام عليه في بيت قاله بعض الشعراء وهو :

ولقد جنيتكم أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (٢)

والقول عندي ما قاله سيبويه ، وهذا البيت اضطرّ شاعره إلى إدخال الألف واللام كما أدخل أبو النجم في قوله :

باعد أمّ العمر من أسيرها (٣)

وكقول الآخر :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله (٤)

وقد قال الأصمعي : أدخلوا الألف واللام مضطرين ؛ لأنه قد عرف من كلامهم أنّهم لا يدخلون عليه الألف واللام ، وقد قال الشاعر :

ومن جنى الأرض ما يأتي الرّعاء به

من ابن أوبر والمغرود والفقعة (٥)

فابن أوبر بمنزلة المغرود والفقعة في التعريف ، ولو كان نكرة لكان الأحسن أن يجعله عديل المغرود والفقعة ، ويقول من ابن الأوبر بتليين الهمزة. وقد تقدم من قولنا : إن الباب في مثل هذا يكون معرفة إلّا ما استثناه منه.

قال أبو سعيد : وقد تقدم في أقسام هذه الأسماء المعارف أن منها ما يختص باسم معرفة لا يتجاوز إلى غيره ، ولا يكون له نكرة تقع على كل واحد من نوعه ، وتعرّف بالألف واللام ، كرجل وفرس وأسد ، فذكر سيبويه من هذا النحو : ابن آوى ، وابن عرس ، وأم حبين ، وأمّ أبرص ، وبعض العرب يقول : أبو بريص وحمار قبّان. قال : كأنهم قالوا في

__________________

(١) هو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المعروف بالمبرد كان إمام العربية في بغداد ، كان يخالف سيبويه في بعض آرائه ، كان على رأس نحاة البصرة في زمانه ، قدم إلى بغداد في شيخوخته وتوفي بها سنة ٢٨٥ ه‍ ، تاريخ بغداد ٣ / ٣٨٠ ، أخبار النحويين البصريين ص ٩٦.

(٢) البيت بلا نسبة في سر صناعة الإعراب ٣٦٦ ، أوضح المسالك ٨١ ، اللسان (وبر).

(٣) البيت في اللسان (وبر).

(٤) البيت لابن ميادة في ديوانه ١٩٢ ، واللسان (وسع).

(٥) بدون نسبة في اللسان (فقع).


كل واحد من هذه الأشياء هذا الضرب الذي يعرف بصورة كذا ، فاختصت العرب لكل ضرب من هذه الضّروب اسما على معنى الذي تعرفها به لا تدخله النكرة ، وتركوا في هذه الأشياء الاسم الذي تدخله المعاني المعرّفة والمنكرة ، ويدخله التعجب ، وتوصف به الأسماء المبهمة ؛ يعني لم يجعلوا لهذه الأشياء اسما ينكّر ، كرجل وأسد ، وتدخله الألف واللام كالرجل ، والأسد ، ويدخله التعجب كقولك : هذا الرجل ، وهذا الأسد ، إذا كنت ترفع من شأنه ، ووصف الأسماء المبهمة نحو قولك : هذا الرجل قائم.

قال : (فكأنّ هذا اسم جامع لمعان) يعنى : رجل وأسد ؛ لأنه يتصرف في ضروب من المعاني ، وابن عرس يراد به معنى واحد ، كما أريد بأبي الحارث ويزيد معنى واحد واستغني به ، وفيما ذكر من هذه الأسماء المعارف ابن مطر ، وهو معرفة ، وهو دويبة حمراء تظهر غبّ (١) المطر ، وجمعه بنات مطر ، وأما ابن ماء : فطائر طويل العنق يتنكّر إذا نكّرت الماء ، ويتعرّف إذا عرّفته ، قال ذو الرمة في تنكيره :

وردت اعتسافا والثريّا كأنّها

على قمة الرأس ابن ماء محلّق

محلّق نكرة وهو نعت ابن ماء ، وقال أبو الهندي :

مقدّمة قزّا كأنّ رقابها

رقاب بنات الماء أفزعها الرّعد (٢)

يصف أباريق خمر يشبّه رقابها برقاب هذه الطير ، وعرّفها بإدخال الألف واللام على الماء ، وقد تقدم القول بأنّ ابن لبون وابن مخاض نكرتان ، وأنهما يتعرفان بإدخال الألف واللام. قال جرير :

وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس (٣)

وقال الفرزدق :

وجدنا نهشلا فضلت فقيما

كفضل ابن المخاض على الفصيل (٤)

قال : (وقد زعموا أن بعض العرب يقول : هذا ابن عرس مقبل ، فرفعه على وجهين ، فوجه مثل : هذا زيد مقبل ، ووجه على أنه جعل ما بعده نكرة فصار مضافا

__________________

(١) الغب بالكسر : عاقبة الشيء.

(٢) البيت في شرح ابن يعيش ١ / ٣٥.

(٣) البيت في شرح ابن يعيش ١ / ٣٥ ، وفي اللسان (لبن).

(٤) ديوانه : ٦٥٢ ، وشرح ابن يعيش ١ / ٣٥.


إلى نكرة ، بمنزلة قولك : هذا ابن رجل منطلق. ونظير ذلك هذا قيس قفّة آخر منطلق ، وقيس قفّة لقب ، والألقاب والكنى بمنزلة الأسماء ، نحو زيد وعمرو ، ولكنه أراد في قيس قفة ما أراد في قوله : هذا عنمان آخر ، فلم يكن له بد من أن يجعل ما بعده نكرة ؛ لأنه لا يكون الاسم نكرة وهو مضاف إلى معرفة ، وعلى هذا الحدّ تقول : هذا زيد منطلق ، كأنك قلت : هذا رجل منطلق ، فإنما أدلت النكرة على هذا العلم الذي إنما وضع للمعرفة ، ولها جيء به : فالمعرفة هنا الأولى)

يريد أنّ ابن عرس ـ وإن كان موضوعا للتعريف في الأصل ـ فقد يجوز أن ينكّر كما ينكّر زيد وعمرو ، وإن كان موضوعهما معرفة. فإذا قلنا : هذا ابن عرس مقبل ، فيكون على وجهين : أحدهما ، أن يكون ابن عرس على تعريفه ، وترفع مقبل على ما ترفعه عليه لو قلت : هذا عبد الله مقبل ، وقد مضت وجوه الرفع فيه. والوجه الآخر ، أن تجعل ابن عرس نكرة ، ومقبل نعت له.

قال سيبويه : بعد ذكره ابن لبون ، وابن مخاض ، وابن ماء ، وأنّهنّ نكرات قال : (وكذلك ابن أفعل إذا كان ليس باسم لشيء) يعنى أن ابن أفعل ـ وإن كان لا ينصرف ـ فهو نكرة إذا لم يجعل علما لشيء كابن أحقب ، وهو الحمار وهو نكرة. وتدخل عليه الألف واللام فيصير معرفة كقولك : مررت بابن الأحقب ، وحكى عن ناس قالوا : كل ابن أفعل معرفة لأنه لا ينصرف. فقال سيبويه : " هذا خطأ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة ، ألا ترى أنك تقول : هذا أحمر قمدّ (١) ، فترفعه إذا جعلته صفة للأحمر ، ولو كان معرفة كان نصبا ، فالمضاف إليه بمنزلته) يريد أن منع الصرف في أفعل لا يوجب له التعريف كما لم يوجب ذلك في أحمر وأنشد لذي الرمّة :

كأنّا على أولاد أحقب لاحها

ورمي السّفا أنفاسها بسهام

جنوب ذوت عنها التّناهي وأنزلت

بها يوم ذبّاب السّبيب صيام (٢)

الشاهد من البيتين : أن صيام الذي في آخر البيت الثاني صفة لأولاد ، فأولاد أحقب نكرة ، فعلم أن أحقب نكرة ؛ لأن المضاف إليه نكرة.

__________________

(١) القمد هو الشديد الغليظ.

(٢) البيت في ديوانه ٢ / ١٠٧٢ ، اللسان (سهم).


ومعنى البيت : كأنا على حمير قد لاحها أي : عطّشها. جنوب ذوت عنها التناهي : حفّت عن الجنوب ، والتناهي : غدران الماء والمستنقعات ، وأنزلت الجنوب بهذه الحمير يوم ذبّاب السبيب : يوم حرّ احتاجت فيه إلى تحريك أذنابها. والسبيب في هذا الموضع : أذنابها. وصيام : قيام. ورمي السفا عطف على جنوب ، كأنه قال : لاحها جنوب ورمي السفا ، كقولك : قام وزيد عمرو ، ومعنى أنفاسها : أنوفها لأنها مواضع الأنفاس. والسفي : شوك البهمي ، وصار ما يصيب أنوفها من ذلك بمنزلة السهام ، وإنما يريد أنّ هذه الحمير أسرع ما تكون في هذه الحال ، كأنا عليها من السّرعة والانزعاج.

هذا باب ما يكون فيه الشيء غالبا عليه اسم يكون لكلّ من كان من

أمّته أو كان في صفته

من الأسماء التي تدخلها الألف واللام ، وتكون نكرته الجامعة لما ذكرت من المعاني.

" وذلك قولك : فلان ابن الصّعق ، والصّعق صفة تقع على كلّ من أصابه الصّعق ، ولكنّه غلب عليه حتى صار علما بمنزلة زيد وعمرو ، وقولهم النجم ، صار علما للّثريّا ، وكابن الصعق قولهم : ابن ألان ، وابن كراع ، صار علما لإنسان واحد ، وليس كلّ من كان ابنا لألان وابنا لكراع غلب عليه هذا الاسم ، فإن أخرجت الألف واللام من النجم والصّعق لم يصر معرفة ، من قبل أنك إنما صيّرته معرفة بالألف واللام ، كما صار ابن ألان معرفة بألان ، وليس هذا بمنزلة عمرو وزيد وسالم ، لأنها أعلام جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا ، وزعم الخليل : إنه إنّما منعهم أن يدخلوا في هذه الأسماء الألف واللام ، أنّهم لم يجعلوا الرجل الذي سمّي بزيد من أمة كلّ واحد منهم يلزمه هذا الاسم ، ولكنّهم جعلوه سمّي به خاصّا ، وزعم الخليل أن الذين قالوا الحرث والحسن والعبّاس ، إنّما أرادوا أن يجعلوه سمّي به ، ولكنهم جعلوه كأنه وصف له غلب عليه ، ومن قال : حارث ، وعباس ، فهو يجريه مجرى زيد.

وأمّا ما ألزمته الألف واللام فلم تسقط فإنما جعلت الشيء الذي يلزمه ما لزم كلّ واحد من أمته ، وأمّا الدّبران والسّماك والعيّوق وهذا النحو ، فإنّما تلزمه الألف واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه".


قال أبو سعيد : اعلم أنّ الاسم العلم إنما وضع لإبانة شخص من سائر الأشخاص ، وليس فيه دلالة على وجود معنى ذلك الاسم في الشخص الذي سمي به ، كرجل يسمى بزيد ، أو عمرو ، أو جعفر ، أو طلحة ، أو حمزة ، أو ما أشبه ذلك ، ومعنى زيد : الزيادة ، ومعنى عمرو : العمر ، وجعفر : هو النهر ، وطلحة : اسم لشجرة ، وحمزة : اسم بقلة. وقد علم أن المسمى بشيء من هذا من الناس لا يراد به أنه نهر ولا أنه شجرة ، ولا أنه بقلة ، فإذا سموا بشيء من هذه الأسماء أو غيرها لإبانة الشخص ، فإنه يصير معرفة بالتسمية ، والذي يوجب التعريف اختصاص المسمى به شخصيا بعينه ليميزه من سائر الأشخاص ، وهذا تعريف الاسم العلم الذي لا يحتاج إلى الألف واللام والإضافة ، وهذه الأسماء إذا اشترك فيها المسمّون ، لم يكن بينهم اتفاق يجب به اشتراكهم في الاسم ؛ لأن جماعة أسماؤهم زيد لا يختصون بمعنى جمعهم على تسمية زيد يتباينون به ممن اسمه عمرو ، وقد ذكر في أقسام المعارف : (أن الاسم يكون معرفة بدخول الألف واللام عليه كالرجل والفرس وما أشبه ذلك ، وبالإضافة له إلى معرفة نحو ابن زيد وغلام زيد وما أشبهه) ، وهذه الأسماء تجب للمسمين بها لمعان فيهم يختصون بها ، وتوجب مثل تسميتهم لكل من شاركهم في المعنى ، كالرجل يسمى به خلقته كخلقته ، وكذلك الفرس ، والدار ، والبستان ، والبزار (١) ، والعطار ، والظريف ، والجميل ، والشجاع ؛ لأن كل من شارك البزار في صفته فهو بزار ، وكذلك العطار ، وكل من فيه ظرف أو جمال أو شجاعة قيل له : الظريف ، والجميل ، والشجاع ، لا يختص أحد منهم باسم دون سائر من فيه ذلك المعنى. ثم غلب على بعض المسمّين بذلك الاسم الذي يشارك فيه غيره حتى يصير له كالعلم الذي يعرف به إذا ذكر مطلقا ، ولا يعرف به غيره إلا بعهد يتقدّم ، فمن ذلك الصّعق : وهو رجل من بني كلاب وهو خويلد بن نقيل بن عمرو بن كلاب ، ذكروا أنه كان يطعم الناس بتهامة ، فهبت ريح فسفت في جفانه التراب ، فشتمها ، فرمي بصاعقة فقتلته ، فقال فيه بعض بنى كلاب :

إن خويلدا فابكي عليه

قتيل الريح في البلد التهامي

فعرف خويلد بالصّعق ، وغلب عليه ، وشهر به حتى إذا ذكر الصعق لم يذهب

__________________

(١) البزار : بياع بزر الكتان.


الوهم إلى غيره ، فمن أصابته صاعقة ، ثم عرف بعض أولاده بابن الصعق حتى إذا ذكر ابن الصعق لم يذهب الوهم إلى غيره إلّا ببيان. وكان أشهر ولده وأكثرهم علما ، وأغزرهم شعرا ، وأشجعهم للعدو ، وألزمهم للحروب ، وأسرعهم إلى الوقائع ، يزيد بن عمرو بن الصعق (١) ، وكان قد أسر وبرة بن رومانس الكلبي (٢) أخا النعمان بن المنذر لأمّه ، فأرسل إليه النعمان أن يطلقه فأبى حتى يحكّم ، فأرسل إليه النعمان فحكّمه ، فاحتكم مائة فرس ، ومائة بعير ، ومائة شاة ، ومائة سيف ، ومائة رمح ، وألف قوس ، وألف درع ، فأرسل إليه بذلك فخلّى سبيله. ومن شعره :

فما كان مالي من تراث ورثته

ولا صدقات من نساء ولا سرق

ولكن عناق الدارعين وطعنهم

وفودي بأرسان المسوّمة العتق

وصبري إذا نفس الجبان تطلعت

وأعصم من وقع الأسنة كالبرق (٣)

وليس كل من كان ابنا للصعق عرف بابن الصعق كمعرفة زيد. ومثله في الإسلام أنّه كان لكل واحد من عمر بن الخطاب ، والزبير بن العوام ، والعباس بن عبد المطلب ، رضوان الله عليهم ، أولاد جماعة ، فغلب على عبد الله بن عمر أن يعرف بابن عمر وإن لم يسمّ ، فيعلم أنه عبد الله دون غيره من ولد عمر ، وكذلك ابن الزبير عبد الله ، وكذلك عبد الله بن عباس ، فإذا ذكر ابن عمر وابن الزبير وابن عباس لا يذهب الوهم إلى غير هؤلاء من ولد هؤلاء الثلاثة ، وذلك إذا قيل : ابن رألان ، علم أنّه جابر بن رألان الطائي السنبسي ، ولا يذهب الوهم إلى ابن آخر لرألان ، وكذلك سويد بن كراع العكليّ ، ومن ذلك قولهم للثريا : النجم ، وذلك أنّ النجم واحد النجوم نكرة ، ثم تدخل عليه الألف واللام فيقال النجم ، لنجم عرفه المتكلم والمخاطب وعهداه ، أي نجم كان ، ثم غلب على الثريا اسم النجم حتى يقول القائل : طلع النجم ، فيعلم المخاطب أنه يعني به الثريا من غير عهد بينهما. قال أبو ذؤيب :

__________________

(١) هو يزيد بن عمرو ابن الصعق فارس جاهلي من الشعراء ، خزانة الأدب ١ / ٢٠٦.

(٢) ابن رومانس الكلبي هو المنذر بن وبرة الكلبي ، شاعر جاهلي أدرك الإسلام ، اشتهر بنسبته إلى أمه (رومانس) ، وهو أخو النعمان بن المنذر اللخمي. التاج ٤ / ١٦٤.

(٣) خزانة الأدب ١ / ٢٠٦.


فوردن والعيّوق مقعد رابئ

ضرباء خلف النجم لا يتتلّع (١)

يريد بالنجم : الثريا ، والثريا أيضا تجري هذا المجرى ؛ لأن الأصل فيها ثروى ، ومعناها كثير من الثروة ، وتروى كثيرة الكواكب ؛ لأن كواكبها سبعة أو نحوها ، فصغرت فصارت ثريّا ، ودخلت الألف واللام عليها وغلب اللفظ على هذه الكواكب بعينها دون سائر ما يوصف بالثروة والكثرة ، ولو أخرجت الألف واللام من الصعق أو النجم أو الثريا لم تصر معرفة ؛ لأن تعريفها بالألف واللام لا بالتسمية ، كما لو ألقيت رألان من ابن ، بطل التعريف ؛ لأن تعريف ذلك ليس كتعريف زيد وعمرو وسلام ؛ لأنها أعلام جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا.

يريد أن العلم جمع معرفة الرجل وأحواله فأغنى عن تطويل ذكره. وقد مضى الكلام في نحو هذا. وقد مضى الكلام في منع زيد ونظائره الألف واللام ، فأمّا الحارث والحسن والعباس فمذهب العرب في هذه الأسماء وما جرى مجراها ، أن يجعلوها لأولادهم وسائر من يسمون بها تفاؤلا وترجيا أن يصير فيهم تلك الأشياء ، فيعزونهم لما تراد له تلك الأسماء نحو الحارث ، ومعناه : الكاسب الذي يحرث لدنياه ويكسب ، والعباس : المجرّب الذي يعيش في الحرب ، فسموا بما أعدّوا له كما يقال : الأضحية والذبيحة لما أعدّ لذلك ، وربما اعتقدوا لهم معنى أو رأوه فيهم فوصفوهم به ، وغلب فشهروا به ، وأغنى عن اسم سواه من الأعلام ، كتسميتهم بالحسن الأغرّ وما أشبه ذلك ، وبعضهم ينزع الألف واللام ويجرى مجرى زيد ونظائره ، ويقول حارث وعباس وحسن ، وقد يشبهون الشيء بالشيء فيوقعون عليه اسمه ، يعرّفونه بالألف واللام فيغلب عليه اسمه كقولهم : النّسران للكوكبين تشبيها لهما بالطائرين ، والفرقدان تشبيها لهما بفرقدي بقرة وحشية ، وقد يشبهون بقر الوحش بالكواكب لبياضها ، وقد يشتقون لبعضها اسما من معان فيها غير مطردة أسماؤه فيما شاركه من المعاني ، وغير خارجة عن نظائرها في كلامهم لم تطّرد ، كالدبران والعيّوق والسّماك ، فأما الدبران فمشتق من دبر يدبر ، وهم يذكرون أنه يتبع الثريا ويطلبها خاطبا لها ، وليس كل شيء دبر شيئا ، فهو دبران ، إلّا أن في كلامهم فعلانا في موضع الفاعل ، كقولهم : العدوان للعادي من العدو ، والغدوان للغادي وهو السائل ، وكذلك

__________________

(١) شرح أشعار الهذليين ١ / ١٩ ، خزانة الأدب ١ / ٤١٨ ، اللسان (ضرب).


صلتان وهو النشيط الشديد ، مأخوذ من السيف الصّلت أو نحوه. قال امرؤ القيس :

وغيث من الوسمّي حوّ تلاعه

تبطّنته بشيظم صلتان

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كتيس ظباء الحلّب الغذوان (١)

ويروى : الغذوان من التغذية بالبول ، والعدوان من العدو.

وأما العيّوق فمشتق من عاق ، وكأنه عاق كواكب وراءه من المجاورة. وهذا على التمثيل والتخيّل بالنظر إليه وإلى ما وراءه ، ويجوز أن يكون سمّوه بذلك لأنهم يقولون إن الدبران يطلب الثريا ويخطبها ، وقد ساق مهرها كواكب صغارا معه ، والعيوق بينهما في العرض إلى ناحية الشمال ، وكأنه يعوقه عنها. والعيوق على وزن الفيعول ، ومثله ما اشتق للفاعل قيّوم ، وهو فيعول من قام يقوم ، وصخد صخود من صخد يصخد.

وأما السمّاك فهو الارتفاع. قال الفرزدق :

إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (٢)

أي رفع ، ويقال : سمك بمعنى ارتفع ، فالسماء مسموكة وسامكة ، ومن سامكة يقال النجوم السوامك ، ومثل سماك في معنى سامك ، رجل نقاب ينقب عن غوامض العلم ويفطن لها بمعنى ناقب. وقد قال أوس :

نجح مليح أخو مأقط

نقاب يحدّث بالغائب (٣)

قال : " فإن قال قائل : يقال لكل شيء صار خلف شيء دبران ، ولكل شيء عاق عن شيء عيوق ، ولكل شيء ارتفع سماك؟ فإنك قائل له : لا ولكن هذا بمنزلة العدل والعديل والعديل ما عادلك من الناس ، والعدل لا يكون إلّا للمتاع والمعنى واللفظ واحد ، ولكنّهم فرقوا بين البناءين ليفصلوا حصان ومثل ذلك بناء حصين ، وامرأة ، أن يخبروا أن البناء محرز لمن لجأ إليه ، والمرأة محرزة لفرجها ، ومثل ذلك الرّزين من الحجارة والحديد ، والمرأة رزان ، فرقوا بين ما يحمل وبين ما نقل في مجلسه فلم يخف.

__________________

(١) خزانة الأدب ١ / ١٦٠ ، الشعر والشعراء ٣١.

(٢) البيت في ديوانه ص ٧١٤.

(٣) البيت في اللسان (نجح).


وهذا أكثر من أن أصفه لك في كلام العرب".

قال أبو سعيد : وإنما أراد سيبويه أن يبين أن الدبران والعيوق والسماك من دبر وعاق وسمك ، ولا يلزم أن يستوي لفظ الفاعل وبناؤه في كل شيئين اشتقا من لفظ واحد في معنى واحد ؛ لأن البناء الحصين مشتق من لفظ الحاء والصاد والنون ، ومعنى الحرز ، وكذلك امرأة حصان ، وفصل بين بنائهما لاختلاف موضوعيهما ، فجعل أحدهما على فعيل ، والآخر على فعال ، وكذلك الرزين والرّزان ، والدابر ، وإن كانا مأخوذين من لفظ (دبر) ، ومعنى التأخر ، لفظ الكواكب خلاف غيره ، وعلى أنه قد قيل : دبران الحمى ، وحكم العيوق والعائق والسماك والسامك يجرى على ذلك.

قال سيبويه : " وكل شيء جاء قد لزمه الألف واللام فهو بهذه المنزلة ، فإن كان عربيّا نعرفه ولا نعرف الذي اشتق منه ، فإن ذلك لأنا جهلنا ما علم غيرنا ، أو يكون الآخر لم يصل إليه علم وصل إلى الأول المسمّي" يريد أن المعنى الذي اشتق منه إمّا أن يكون نحن لا نعرفه ويعرفه غيرنا من أهل عصرنا ، وإما أن يكون علم ذلك قد درس ، ولم يقع إلى أهل عصرنا. ومما يجري مجرى الأول الثلاثاء والأربعاء فهما مشتقان من الثالث والرابع ، واختص بهذا الاشتقاق اليومان فقط ، كما اختص بالعيوق الكوكب ، وهي كلها معارف.

قال : " فإن قلت : هذان زيدان منطلقان ، وهذان عمران منطلقان ، لم يكن الكلام إلا نكرة ، وإنما تنكّر التثنية ؛ لأن الاسم العلم زيد ، فلما تثنيه بطل لفظ العلم الذي وضع لتعريف أدخلت الألف واللام فقلت : الزيدان والعمران ، وقد يجوز أن تقع التسمية بلفظ التثنية والجمع فتكون معرفة بغير الألف واللام ، وذلك لا يكون إلّا في الأماكن التي لا يفارق بعضها بعضا نحو أبانين وعرفات ، وإنما فرقوا بين أبانين وعرفات وبين زيدين وزيدين ، من قبل أنهم لم يجعلوا التثنية والجمع علما لرجلين ولا لرجال بأعيانهم ، وجعلوا الاسم الواحد علما لشيء بعينه ، كأنهم قالوا : إذا قلنا ائت : تريد هات هذا الشخص الذي تشير إليه ، ولم يقولوا : إذا قلنا : جاء زيدان فإنما نعني شخصين بأعيانهما قد عرفا قبل ذلك وأثبتا ، ولكنهم قالوا إذا قلنا : جاء زيد ابن فلان ، وزيد ابن فلان فإنما يعني هذين الجبلين بأعيانهما ، فهكذا تقول إذا أردت أن تخبر عن معرفتين.


كأنهم قالوا إذا قلنا ائت أبانين ، فإنما يعني هذين الجبلين بأعيانهما اللذين نشير لك إليهما. ألا ترى أنهم لم يقولوا : أمرر بأبان كذا وأبان كذا ، ولم يفرقوا بينهما ؛ لأنهم جعلوا أبانين اسما لهما يعرفان به بأعيانهما.

وليس كذلك هذا في الأناسي ولا في الدواب ، إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك ، من قبل أن الأماكن لا تزول ، فيصير كل واحد من الجبلين داخلا عندهم في مثل ما دخل فيه صاحبه من الحال في الثّبات والخصب والقحط ، ولا يشار إلى واحد منهما بتعريف دون الآخر ، فصارا كالواحد الذي لا يزايله منه شيء حيث كان في الأناسي والدواب ، والإنسانان والدّابتان لا يثنيان أبدا يزولان ويتصرفان ، ويشار إلى أحدهما والآخر غائب ، ولا يقولون أبان الأيمن ولا أبان الأيسر ، ولا الشرقي ولا الغربي ، ويقولون : هذه عرفات ، وهؤلاء عرفات ، وهذه عرفة".

قال أبو الحسن : وقد يجوز في الشعر أن يتكلم بأبان واحد وبعينهما.

قال أبو سعيد : هذا يجوز في كل اثنين يصطحبان ولا يفارق أحدهما صاحبه ، وذلك في الشعر وغيره ، فأما أبان فقد قال لبيد :

درس المنا بمتالع فأبان

فتقادمت بالحبس فالسّوبان (١)

قال أبو ذؤيب :

والعين بعدهم كأنّ حداقها

سملت بشوك فهي عور تدمع (٢)

ويقول القائل في كلامه : لبس زيد خفّ ، ولبس زيد نعله يريد النعلين.

قال : " وأما قولهم : أعطيكم سنّة العمرين ، فإنما أدخلوا الألف واللام على عمرين ؛ لأن عمرين نكرة على ما تقدم من القول في زيدين ، وتعرّفهما بالألف واللام ، وأكثر الناس على أن سنّة العمرين ؛ سنّة : أبي بكر وعمر ، واختاروا التثنية على لفظ عمر لأنّه مفرد ، وهو أخف في اللفظ من المضاف ، ومنهم من يقول اختير لفظ عمر لطول أيامه وكثرة فتوحه وشهرة آثاره. ويروى أنه قيل لعثمان رضي‌الله‌عنه : نسألك سنّة العمرين.

__________________

(١) أشعار الهذليين ١ / ٩.

(٢) البيت في اللسان (عور).


وقال الفرّاء : وأخبرني معاذ الهراء : لقد قيل سنّة العمرين قبل عمر بن عبد العزيز وزعم الأصمعي عن أبي هلال الراسبي عن قتادة : أنه سئل عن عتق أمهات الأولاد فقال : أعتق العمران فيما بينهما من الخلفاء أمهات الأولاد ، ففي قول قتادة أنهما عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ؛ لأنه لم يكن بين أبي بكر وعمر خليفة".

قال أبو سعيد :

والذي عندي أنه ليس فيما روي عن قتادة مخالفة لقول من قال : إنه يراد بسنّة العمرين سنّة أبي بكر وعمر ؛ لأن قتادة إنما ذكر اتفاق عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز في عتق أمهات الأولاد ، كما يثنيان لو أخبر عن اتفاقهما في مسألة من الفقه والفرائض ، وإنما الكلام في سنة العمرين التي يطلبها طالب السيرة العادلة على معنى المثل السائر فيه ، وأما قول الفرزدق :

فحلّ بسيرة العمرين فينا

شفاء للقلوب من السقام (١)

فليس فيه بيان ؛ لأنّ الفرزدق يمدح بهذا هشام بن عبد الملك ، وهو بعد عمر بن عبد العزيز.

وهذان الاسمان وإن كان أحدهما قد اتّبع صاحبه في اللفظ وليس باسمه في الأصل ، فقد صار في حكم اسمين ؛ كلّ واحد منهما من أمة ، كل واحد منهما عمر ، وذلك على مذهب يستعمله العرب وطلبا للتخفيف كقوله :

لنا قمراها والنجوم الطوالع (٢)

فإنما أراد الشمس والقمر.

وقال قراد بن حنش الصادي :

إذا اجتمع العمران عمرو بن جبار

وبدر بن عمرو خلت ذبيان تبعا

والزّهدمان فيما ذكر أبو عبيدة ؛ زهدم وكردم ابنا قيس. وقال غيره : زهدم وقيس العبسيان من بني عوير بن رواحة ، والأبوان الأب والأم ، وفيما ذكر سيبويه من المثنى :

__________________

(١) ديوانه ٨٣٩. وفيه :

فجاء بسنة العمرين فينا

شفاء للصدور من السقام

(٢) ديوانه ٤١٩ وهو عجز بيت صدره :

أخذنا بأطراف السماء عليكم


الغريّان (١) المشهوران بالكوفة ؛ بمنزلة النسرين إذا كنت تريد النجمين ، وللغريّين حديث ليس القصد في هذا الموضع لذكر مثله والله أعلم.

هذا باب ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة

إذا بني على ما قبله ، وبمنزلته في الاحتياج إلى الحشو ، ويكون نكرة بمنزلة رجل.

قال أبو سعيد في هذا الباب إلى آخره : في (من) ، و (ما) ، في الخبر ، ويكونان معرفتين ونكرتين ، فإن كانا معرفتين ، فكل واحد منهما بمنزلة (الذي) يحتاج من الصلة إلى ما يحتاج إليه (الذي).

وسيبويه يسمي الصلة الحشو ، فأمّا المعرفة فنحو قولك : هذا من أعرف منطلقا ، وهذا من لا أعرف منطلقا ، أي هذا الذي قد علمت أني لا أعرفه منطلقا ، وهذا ما عندي مهينا ، وأعرف ولا أعرف عندي ؛ حشو لهما يتمّان به ، فيصيران اسما كما كان الذي لا يتمّ إلّا بحشوه ، وإن كانت نكرتين فهو ما قاله الخليل قال : (إن شئت جعلت من بمنزلة إنسان ، وجعلت ما بمنزلة شيء ، نكرتين وتلزمهما للصفة ، والفرق بين الصلة والصفة أن الصلة جملة لا تتعلق بإعراب الموصول أو في تقدير جملة ، والصفة اسم مفرد أو ما تقديره تقدير اسم متعلق إعرابه بالموصوف ، تقول في الموصول : مررت بمن أبوه قائم ، وبما طعمه طيب ، ورأيت بمن أبوه قائم ، وما لونه حسن.

وأما الصفة فنحو قولك : مررت بمن منطلق ، ورأيت من منطلقا ، ومررت بماء طيب ، وقال الأنصاري (٢) :

وكفى بنا فضلا على من غيرنا

حب النبيّ محمد إيّانا (٣)

فوصف من بغير ، وجرّه على موضع من ، وقال الفرزدق في مثله :

__________________

(١) أم عامر : الضبع.

(٢) كعب بن مالك بن عمرو الخزرجي الأنصاري ، صحابي من أكابر الشعراء من أهل المدينة ، اشتهر في الجاهلية ، وكان في الإسلام من شعراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهد أكثر الوقائع. الإصابة (ت ٧٤٣٣) ، خزانة الأدب ١ : ٢٠٠.

(٣) ديوان كعب بن مالك : ٨٩ ، شرح ابن يعيش ٤ : ١٢ ، خزانة الأدب ٦ : ١٢٠ ، ١٢٣ ، ١٢٨.


إنّى وإيّاك إذ حلّت بأرحلنا

كمن بواديه بعد المحل ممطور (١)

جرّ ممطور لأنه صفة من ، كأنه قال : كإنسان ممطور. قال : وأما (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ)(٢) فرفعه على وجهين : على شيء لديّ عتيد ، يجعل ما بمنزلة شيء ، كأنه قال : هذا شيء لديّ عتيد.

وقد أدخلوا في قول من قال نكرة فقالوا : هل رأيتم شيئا يكون موصوفا لا يسكت عليه؟ فقالوا : نعم يا أيها الرجل. الرجل وصف لقوله يا أيها ، ولا يجوز أن يسكت على يا أيّها ، فربّ اسم لا يحسن عليه عندهم السكوت حتى يصفوه وحتى يصير وصفه عندهم كأنه به يتم الاسم ؛ لأنهم إنما جاءوا بأيّها ليصلوا إلى نداء الذي فيه الألف واللام ، فلذلك جيء به. كذلك (من) و (ما) إنما يذكران لحشوهما ولوصفهما ، ولم يرد بهما خلوين شيء ، ولزمهما الوصف كما لزمهما الحشو ، وليس لهما بغير حشو ولا وصف معنى ، فمن ثم كان الوصف والحشو واحدا ، فالوصف قولك : مررت بمن صالح ، فصالح وصف. وإن أردت الحشو قلت : بمن صالح ، فيصير صالح خبرا لشيء مضمر ، كأنك قلت : مررت بمن هو صالح ، والحشو لا يكون أبدا ل (من) و (ما) إلّا وهما معرفة ؛ وذلك من قبل أن الحشو إذا صار فيهما أشبهتا الذي ، فكما أنّ الذي لا يكون إلا معرفة لا تكون من وما إذا كان الذي بعدهما حشوا وهو الصلة إلّا معرفة وتقول : هذا من أعرف منطلق ، فتجعل أعرف صفة. يصير كأنك قلت : هذا من معروف منطلق ، بمنزلة رجل معروف.

وتقول هذا من أعرف منطلقا ، تجعل أعرف صلة. وقد يجوز منطلق على قولك : هذا عبد الله منطلق ومثل ذلك : الجمّاء الغفير ، فالغفير وصف لازم ، وهو توكيد ؛ لأنّ الجمّاء الغفير مثل ، فلزم الغفير كما لزم ما في قولك : إنك ما وخبزا ، والخبز في هذا ونحوه عند أصحابنا محذوف ، وتقديره إنك وخبزا مقرونان ، وما زائدة ، وهي لازمة عوضا عن المحذوف ، ومثل هذا : كل رجل وقرينه ، وكل إنسان وصنعته ، عند أصحابنا البصريين الخبر محذوف ، وتقديره : كلّ رجل وقرينه مقرونان ، وكذلك كل إنسان وصنعته ، وعند الكوفيين

__________________

(١) ديوان الفرزدق ، ص : ٢٦٣ ، وروايته :

إني وإيّاك إن بلّغن أرحلنا

كمن بواديه بعد المحل ممطور.

(٢) سورة ق ، الآية : ٢٣.


الواو بمعنى مع وهي الخبر.

قال : " واعلم أنّ كفى بنا فضلا على من غيرنا أجود ، وفيه ضعف إلّا أن يكون مرفوعا بهو وهو نحو مررت بأيّهم أفضل ، وكما قرأ بعضهم هذه الآية (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)(١) ".

يريد أن قوله : على من غيرنا بالرفع أجود من الجر ؛ لأن الجر بالصفة ، والصلة في (من) و (ما) أجود من الصفة وأكثر في الكلام ، وإذا وصلت لم يحسن حذف العائد المقدر بعد من ، والتقدير : من هو غيرنا ، ولذلك قال : وفيه ضعف أي في حذف" هو" ضعيف ، وهو جائز مع ضعفه لما ذكره بعد.

قال : " اعلم أنه قبيح أن تقول : هذا من منطلق إن جعلت المنطلق حشوا أو وصفا ، فإن أطلت الكلام فقلت : من خير منك ، حسن في الوصف والحشو.

وزعم الخليل أنه سمع من العرب رجلا يقول : ما أنا بالذي قائل لك سوءا ، وما أنا بالذي قائل قبحا ، فالوصف بمنزلة الحشو ؛ لأنه إنما يحسن بما بعده ، كما أن الحشو إنما يتم بما بعده. ويقوّي أن (من) نكرة قول عمرو بن قميئة :

يا ربّ من يبغض أذوادنا

رحن على بغضائه واغتدين (٢)

وربّ لا يكون ما بعدها إلا نكرة.

قال أمية بن أبي الصلت

ربّ ما تكره النّفوس من الأمر

له فرجة كحلّ العقال (٣)

وما اسم وليست بكافة لربّ ؛ لأن الهاء في له تعود إليه.

وقال آخر :

ألا ربّ من تغتشّه لّك ناصح

ومؤتمن بالغيب غير أمين (٤)

قال أبو سعيد : هذا آخر كلام سيبويه ، وهو مفهوم.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١٥٤.

(٢) ديوان عمرو بن قميئة ١٩٢ ، ابن يعيش ٤ / ١١.

(٣) البيت في ابن يعيش ٤ / ٣٥٢ ، واللسان (فرج).

(٤) بدون نسبة في اللسان (خشش).


وأما قول أبي دؤاد

سالكات سبيل قفرة بدا

ربّما ظاعن بها ومقيم (١)

ف (ما) في ربّما نكرة ؛ لأن ربّ لا تدخل على المعارف ، ولا هي كافة ؛ لأنّ الوجه في الكافّة أن يليها الفعل ، فإذا كانت نكرة جاز أن تنعت بالجمل ، وتقدير (ما) هاهنا تقدير إنسان ، كما قد جاءت (ما) في موضع (من) في أماكن. منه ما حكى أبو زيد : سبحان ما سخركنّ لنا. وسبحان ما سبّح الرعد بحمده. وأشباه لذلك. وتقديره :

ربّ إنسان هو ظاعن بقلبه ـ إلى أحبّته الذين ظعنوا عن هذه البلدة ـ بها مقيم بجسمه فيها ، وأما قول أبي دؤاد أيضا :

ربما الجامل المؤيد فيهم

وعناجيح بينهن المهار (٢)

هذا باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة

" وذلك قولك : هذا أوّل فارس مقبل ، وهذا كلّ متاع عندي موضوع ، وهذا خير منك مقبل ، ومما يدلك على أنهنّ نكرة أنهن مضافات إلى نكرة وتوصف بهن النكرة ، وذلك أنك تقول فيما كان وصفا : هذا رجل منك ، وهذا فارس أوّل فارس ، وهذا مال كلّ مال عندك.

وتستدل على أنهن مضافات إلى نكرة أنك تصف ما بعدهن بما توصف به النكرة ولا تصفه بما توصف به المعرفة ، وذلك قولك : هذا أوّل فارس شجاع مقبل. وحدثنا الخليل أنه سمع من يوثق بعربيته ينشد هذا البيت ، وهو قول الشماخ :

وكلّ خليل غير هاضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز (٣)

فجعله صفة لكل.

وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت :

كأنّا يوم قرّى إن

نما نقتل إيّانا

__________________

(١) بدون نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٥٨٧.

(٢) البيت لأبي دؤاد ، ديوانه ٣١٦ ، ابن يعيش ٨ / ٢٩.

(٣) ديوان الشماخ ١٧٣.


قتلنا منهم كلّ

فتى بيض حسّانا (١)

فجعله وصفا لكل".

قال أبو سعيد : قصد سيبويه في هذا الباب إلى آخره ذكر أسماء لا تدخل عليها الألف واللام ، وأنها مع امتناع دخول الألف واللام عليها منكورة بدلائل النكرة عليها ، وجعل دلائل التنكر فيها أنها توصف بالأسماء النكرات ، وتوصف بها الأسماء النكرات.

فمن تلك الأسماء : خير منك ، وأول فارس ، وكلّ مال عندك ، وقد وصف بهنّ نكرات ووصفن بنكرات في قوله : أول فارس شجاع مقبل.

ويكشف ما قاله سيبويه بأن يراد فيه أنهن يوصفن بنكرات يمكن دخول الألف واللام عليها ، فلا تدخل نحو : أول فارس شجاع ، ولا يقال الشجاع ، وامتناع دخول الألف واللام عليها أن مواضعهن أوجبت لها التنكير ، فمنها أن أفعل إنما يضاف إلى جمع أو واحد منكور في معنى الجمع ؛ كقولنا : أفضل رجل ، وخير رجل ، بمعنى أفضل الرجال ، وخير الرجال على التخفيف ، والاقتصار على أخف لفظ ، ويدل على ذلك الواحد ، وهو الواحد المنكور من الجنس ، وكذلك : أفضل منك ، وخير منك ، وجميع باب أفعل منك لا يكون إلّا نكرة ، لما قد ذكرت في موضعه مما أوجبت التنكير.

فإن قال قائل : فأنتم قد تصفون المعارف بالنكرات في قولك : إنّي لأمرّ بالصادق غير الكاذب ، وإنّي لأمرّ بالرجل مثلك. قيل له : إنما جاز وصفه بذلك لأنه لا يمكن دخول الألف واللام على غيرك ومثلك ، ولو جئنا بشيء يمكن دخول الألف واللام عليه من المنكرات ما جاز الوصف به إلّا بدخول الألف واللام ، وعليه لو قلت : إني لأمرّ بالرجل الغريب أو بالصادق المحق ، ما جاز أن تقول إنّي لأمرّ بالرجل غريب ، ولا بالصادق محق ، ومن دلائله : عشرون درهما ، وثلاثون يوما ، وما أشبه ذلك ؛ لأن المميز واحد منكور ؛ لأنه أخفّ لفظ يدلّ على النوع ، ولا تدخل عليها الألف واللام ، ثم واصل الاحتجاج لذلك والاستشهاد بالنظائر بما يكشف لأفهام المتكلمين بكلام بيّن إلى آخر الباب.

قال : " ومثل ذلك : هذا أيّما رجل منطلق ، وهذا حسبك من رجل منطلق.

__________________

(١) البيتان لذي الإصبع العدواني في شرح ابن يعيش ٣ / ١٠١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٠٦.


ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة ، تقول ، هذا رجل حسبك من رجل ، فهو بمنزلة : مثلك وضاربك إذا أردت النكرة ، ومما يوصف به كلّ ، قول ابن أحمر :

ولهت عليه كلّ معصفة

هو جاء ليس للبها زبر (١)

سمعناه ممن يروونه من العرب.

ومن قال : هذا أول فارس مقبلا ، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول : هذا أوّل الفارس ، فيدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة ، فلا ينبغي أن يصفه بالنكرة ، وينبغي له أن يزعم أن درهما في قولك : عشرون درهما معرفة ، فليس هذا بشيء ، وإنما أرادوا من الفرسان ، فحذفوا الكلام استخفافا ، وجعلوا هذا يجزئهم من ذلك ، وقد يجوز نصبه على نصب : هذا رجل منطلقا ، وهو قول عيسى بن عمر وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة ، جعله حالا ولم يجعله وصفا.

ومثل ذلك : مررت برجل قائما ، إذا جعلت المرور به في حال قيامه. وقد يجوز على هذا : فيها رجل قائما ، وهو قول الخليل.

ومثل ذلك : عليه مائة بيضا ، والرفع الوجه ، وعليه مائة عينا ، والرفع الوجه.

وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون : مررت قائما بماء قعدّه رجل ، والجر الوجه. وإنما كان النصب هنا بعيدا من قبل أن هذا يكون من صفة الأول ، فكرهوا أن يجعلوه حالا كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالا حين قالوا :

هذا زيد الطويل ، وهذا عمرو أخوك.

فألزموا صفة النكرة النكرة ، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفة ، وأرادوا أن يجعلوا حال النكرة فيما يكون من اسمها ، معنى ما يكون صفة لها".

قال أبو سعيد :

الحال من المعرفة كالحال من النكرة فيما يوجبه العامل ، غير أن الحال من النكرة تنوب عن معناها الصفة ، والصفة مشاكلة للفظ الأول ، فيكون أولى من الحال المخالفة للفظ الأول ، وذلك قولك : جاءني رجل راكب. في حالة مجيئه ، ولست تريد بيان رجل في

__________________

(١) ديوانه ٨٧ ، واللسان (زبر) ، والزبر : الإحكام.


حال إخبارك ، وإذا قلت : جاءني رجل راكبا ، فذلك المعنى تريد ، فكرهوا العدول عن لفظ مشاكل للفظ الأول إلى لفظ يخالفه لغير خلاف في المعنى ، فلذلك آثروا الصفة في النكرة على الحال.

وأما المعرفة فإن فائدة الحال فيها غير فائدة الصفة ؛ لأنك إذا قلت : جاءني زيد أمس الراكب ، فالراكب صفة لزيد في حال إخبارك ؛ لأنّ زيدا معرفة تحتاج إلى أن يعرفه المخاطب في حال إخبارك ، فإذا قلت : جاءني أمس راكبا ، فالركوب في حال مجيئه لا في حال إخبارك.

وجعل سيبويه أول فارس مقبلا في باب الحال كقولك : هذا رجل منطلقا لتحقق تنكير أول فارس ؛ إذ محله في الإعراب والحال الذي بعده كمحل رجل من هذا رجل.

قال : " واعلم أن ما كان صفة للمعرفة لا يكون حالا ينتصب انتصاب النكرة ، وذلك أنه لا يحسن لك أن تقول : هذا زيد الطويل ، ولا هذا زيد أخاك ، من قبل أنه من قال هذا فينبغي أن يجعله صفة للنكرة ، فيقول هذا رجل أخوك.

ومثل هذا في القبح : هذا زيد أسود الناس ، وهذا زيد سيّد الناس.

حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو.

ولو حسن أن يكون هذا خبرا للمعرفة لجاز أن يكون خبرا للنكرة ، فتقول : هذا رجل سيّد الناس ، من قبل أنّ نصب هذا رجل منطلقا ، فينبغي لما كان حالا للمعرفة أن يكون حالا للنكرة. فليس هكذا ، ولكن ما كان صفة للنكرة جاز أن يكون حالا للنكرة ، ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالا كما تكون النكرة فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت : هذا أخوك عبد الله ، إذا كان عبد الله اسمه الذي يعرف به. وهذا كلام خبيث يوضع في غير موضعه".

قال أبو سعيد : ذكر الصفات للمعارف أنها لا تكون أحوالا للمعارف ، وهذا مسلّم إذ كنّا لا نقول : جاءني زيد الراكب على الحال ، ولا أعلم أحدا يخالفه في ذلك ، ولأن الحال ـ أيضا ـ مشبهة للتمييز ؛ لأنّا إذا قلنا : جاءني زيد ، احتمل أحوالا شتى جاء فيها ، كما أنّا إذا قلنا : عشرون ، احتمل أن يكون بعدها أنواع كثيرة ، فإذا جئت بنوع منها نكّرته ونصبته ، فقلت : درهما ، أو ثوبا ، وكذلك إذا جئت ببعض الأحوال المبهمة نصبته ونكّرته فقلت : جاءني زيد راكبا أو ماشيا أو مسرعا أو مبطئا أو ضاحكا أو باكيا ،


ثم ألزم من يلتزم أن تكون الحال معرفة أن يجعل حال النكرة معرفة ؛ لأنه لا فرق بين حال المعرفة والنكرة فتقول : هذا رجل سيد الناس ، وهذا كله من سيبويه تشنيع وتقبيح لهذا القول ، ثم ألزمه أن يقول : هذا أخوك عبد الله ؛ لأنه قد يكون الاسم للعلم عطف البيان ، ويجري ما قبله مجرى النعت ، فألزمه نصبه. ومن أصحابنا من قال : غلط في الكتاب وإن معناه إذا عبد الله ليس اسمه الذي يعرف به ، ثم ذكر مواضع المعرفة فقال : إنما تكون للمعرفة مبنيا عليها ، يعني مبتدأ أو مبنية على اسم يعني خبرا لمبتدإ ، أو لكان ونحوها ، أو غيره من الكلام الذي جرى بالاستئناف له ، أو بنصبه على إضمار ، وقد دخل هذا في أقسامه الأول. فهذا أمر النكرة وأمر المعرفة ، فأجره كما أجروه وضع كل شيء موضعه.

هذا باب ما ينتصب خبره لأنّه معرفة وهي معرفة لا توصف ولا

تكون وصفا

" وذلك قولك : مررت بكلّ قائما ، وببعض جالسا. وإنّما خروجهما من أن تكونا وصفين أو موصوفين ، أنه لا يحسن لك أن تقول : مررت بكلّ الصالحين ولا ببعض الصالحين ، قبح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه ؛ لأنّه مخالف لما يضاف ، شاذ منه ، فلم يجر في الوصف مجراه ، كما أنّهم حين قالوا : يا الله ، فأضافوا ما فيه الألف واللام ، لم يصلوا ألفها وأثبتوها وصار معرفة ؛ لأنّه مضاف إلى معرفة ، كأنك قلت : مررت بكلّهم ببعضهم ، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه ، فجاز ذلك كما جاز : لاه أبوك ، تريد لله أبوك ، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقة الكلام ، ولا سبيله ؛ لأنهم ليس من كلامهم أن يضمروا الجارّ".

قال أبو سعيد : مررت بكلّ قائما ، ومررت ببعض قائما وببعض جالسا ، لا يتكلم به مبتدأ ، وإنما يتكلم به إذا جرى ذكر قوم فتقول : مررت بكلّ أي : مررت بكلهم ، ومررت ببعض ، أي ببعضهم ، فيستغنى بما جرى من الكلام ومعرفة الخطاب بما يوصف به أيضا ؛ لأنهم لما أقاموه مقام الضمير ، والضمير لا يوصف إذا لم يكن تحلية ولا فيه معنى تحلية ، ولم يصفوا به. ولا يقال : مررت بالزيدين كلّ ، كما لا يقال : مررت بكل الصالحين ، وأما تشبيه سيبويه ذلك في الشذوذ بقولهم : يا الله ، حين نادوا ما فيه الألف واللام ، وقطعوا ألف الوصل منه ، فإن الذي دعاه إلى ذلك مع خروجه عن القياس المستمر


في كلامهم ، أن الألف واللام لا يفارقان اسم الله ، على ما فيه من الخلاف في أصل الاسم قبل دخول الألف واللام ، وبالخلق أجمعين الفاقة الشديدة إلى نداء الله عزوجل ودعائه بهذا الاسم ؛ لأنه أشهر أسمائه وأكثرها دورا على ألسنتهم ، فلما اضطرهم الأمر إلى ندائه ، خالفوا بلفظ لفظه لفظ ما ينادى مما فيه الألف واللام للتعريف ، فقطعوا الألف فصار في اللفظ كأن الألف واللام فيه أصليان.

ومن الحذف الشاذ ـ أيضا ـ قولهم : لاه أبوك ، يريد : لله أبوك ، فحذفوا منه لامين ، وقد كانوا حذفوا منه الألف الوصل.

واللامان المحذوفان عند سيبويه : لام الجر واللام التي بعدها.

وقال محمد بن يزيد : لام الجر هي هذه اللام المبقّاة ، وكانت أولى بالتبقية عنده لأنها دخلت لمعنى ، وفتحت لام الجر ؛ لأن لام الجر في الأصل مفتوحة ، والصواب عندنا ما قاله سيبويه ؛ لأنّا رأيناهم قد حذفوا حروف الجر إذا دخلت على (إن) و (أن) ، مخففة ومشددة نحو قولك :

رغبت أن أصحبك ، وأيقنت أن زيدا خارج ، وتقديره : في أن أصحبك ، وأيقنت بأن زيدا خارج ، ولا يجوز حذفها من المصدر إذا قلت : رغبت في صحبتك ، وأيقنت بخروجك ، والأجود أن (أن) في موضع جرّ ، وقد روي أن رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت؟

قال : خير ، يريد : بخير.

وروي من قول بعض العرب : مررت برجل صالح وأن طالح ، وفيه من الاحتجاجات والمناقضات ما لا يحتمل الكتاب ذكره.

وجملة الأمر أن قول سيبويه : إذا حذف من الكلمة ما قاله ، فالباقي منها هو اللفظ الموجود من غير تغيير.

وعلى قول المبرد : تبقى اللام المكسورة وتغيّر ، وليس على التغيير دليل يجب التسليم له.

ومن الحذف : لا عليك ، أي : لا بأس ، أو لا ضرر عليك ، أو نحو ذلك.

وقال : ما فيهم بفضلك في شيء ، يريد : أحد بفضلك. قد قال الله : (وَإِنْ مِنْ


أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ)(١) ومعناه : أحد.

قال الراجز :

لو قلت ما في قومها لم تيثم

يفضلها في حسب وميسم (٢)

والشواذ في كلامهم كثير.

قال : ولا يكونان وصفا ، كما لا يكونان موصوفين ، يعني : كل ، وبعض. قال : وإنما يوضعان في الابتداء ، أو يبنيان على اسم بالابتداء ، نحو قوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٣) ، فأمّا جميع فيجري مجرى رجل ونحوه في هذا الموضع.

قال الله عزوجل :

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٤)

وقال : ائتهم والقوم جميع ، أي : مجتمعون.

قال المفسر : لفظ جميع : لفظ واحد ، ومعناه : جمع ، مثل : قوم ، وجماعة.

قال : وزعم الخليل أنه يستضعف أن يكون كلّهم مبنيا على اسم أو غير اسم ، ولكن يكون مبتدأ ، أو يكون كلّهم صفة.

فقلت : لم استضعف أن يكون مبنيا؟

فقال : لأنّ موضعه في الكلام أن يعمّ به غيره من الأسماء بعد ما يذكر فيكون كلّهم صفة أو مبتدأ.

قال المفسر : الأغلب في كلهم أن يجري مجرى أجمعين ؛ لأنه يعم به بأجمعين ؛ لأن معناه معنى أجمعين ، اتسع في لفظه فأضيف إلى الكنى ، والظاهر ، والمعرفة ، والنكرة ، كقولنا : كل القوم ، وكل رجل ، وجعل نعتا على معنى المبالغة والكمال ، لا على معنى العموم ، كقولنا : رأيت الرجل كل الرجل ، ورأيت رجلا كل رجل ، وأكلت شاة كلّ شاة ، على معنى : رأيت الرجل الكامل ، واستحسنوا الابتداء به بهذا التصرف والإضافة ؛ لأن أول الكلام الابتداء ثم تدخل عليه العوامل.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٥٩.

(٢) الرجز لحكيم بن معية في خزانة الأدب ٥ / ٩٢ ، وبدون نسبة في تاج العروس (أثم).

(٣) سورة النمل ، الآية : ٨٧.

(٤) سورة يس ، الآية : ٣٢.


ولأن الابتداء ب (كلهم) بعد كلام يجري مجرى التوكيد ، كقولك ، إن قومك كلهم ذاهب ، ويجوز أن تدخل عليها العوامل كلها ، وإن كان فيها بعض الضعف من حيث دخل عليها الابتداء ، وكلاهما ، وكلتاهما ، وكلهن تجري مجرى كلهم.

وأما جميعهم فقد يجوز على وجهين : يوصف به المضمر كما يوصف ب (كلهم) ويجري في الوصف مجراه ، ويكون في سائر ذلك بمنزل : عامتهم ، وجماعتهم ، يبدأ ويبنى على غيره ؛ لأنه يكون نكرة وتدخله الألف واللام ، وأمّا كل شيء ، وكل رجل ، فإنما يبنيان على غيرهما ؛ لأنه لا يوصف بهما.

والذي ذكرت قول الخليل ، ورأينا العرب توافقه بعد ما سمعناه منه.

هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة

" وذلك قولك : هذا راقود خلا ، وعليه نحي سمنا ، وإن شئت قلت : راقود خلّ ، وراقود من خلّ ، وإنما قرئت إلى النصب في هذا الباب كما قرئت إلى الرفع في قولك : بصحيفة طين خاتمها ؛ لأنّ الطين اسم وليس صفة ممّا يوصف به ، ولكنه جوهر يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا ، وما أشبهه.

ومن قال : مررت بصحيفة طين خاتمها ، قال : هذا راقود خل ، وهذا صفة خز ، وهذا قبيح أجري على غير وجهه ، ولكنّه حسن أن يبنى على المبدأ ويكون حالا ، والحال قولك : هذه جبّتك خزّا ، والمبنيّ على المبتدأ قولك : جبّتك خزّ ، ولا يكون صفة فيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل وما أشبهها ، ولكنّهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجرّ ، فأجروه كما أجروه وإنما فعلوا به ما يفعل بالأسماء ، والحال مفعول فيها ، والمبنيّ على المبتدأ بمنزلة ما رفع بالفعل ، والجارّ بتلك المنزلة يجري في الاسم مجرى الناصب والرافع".

قال أبو سعيد : راقود ونحي مقدار ، ينتصب بعدهما إذا نوّنتهما ، كما ينتصب بعد أحد عشر وعشرين إذا قلت : أحد عشر درهما ، وعشرون ثوبا ، وإن أضفتهما فبمنزلة مائة درهم ، وألف ثوب ولم يذكر سيبويه نصبه من أي وجه ، إلا أن القياس يوجب ما ذكرته ، ومثله : لي ملؤه عسلا ، يعني : الإناء عسلا ، وعندي رطل زيتا ، وتقديره : لي ما يملأ الإناء من العسل ، ولي ما يملأ الرطل من الزيت ، وكذلك القول في عشرين درهما ، إلّا أنهم اقتصروا وردّوه من تعريف الجنس إلى واحد منه منكور ، للدلالة على الجنس. فسموه


تمييزا. وجعل سيبويه" هذه جبتك خزّا" حالا ؛ لأن الجبة ليست بمقدار يقدر به الخز ، فيجري مجرى راقود ونحي الإناء وعشرين. وقال أبو العباس محمد بن يزيد : خطأ أن يكون حالا ، إنما هو تمييز ، وقد مضى الكلام فيما يجعله سيبويه من الأجناس أحوالا ، ويفرّق بينه وبين الحال والصفة وسائر ما في الباب مفهوم.

هذا باب ما ينتصب لأنّه ليس من اسم ما قبله ولا هو هو

" وذلك قولك : هذا ابن عميّ دنيّا ، وهو جاري بيت بيت. فهذه أحوال قد وقع فيها في كل واحد شيء وانتصب ؛ لأنّ هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت : عشرون درهما ؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هو"

قال أبو سعيد : الذي يريده سيبويه الاسم الذي له اسمان أحدهما هو الآخر ولو غيرنا عن كلّ واحد منهما بالآخر كان له اسما ، والذي هو من اسمه أن يكون محمولا على إعرابه ، وذلك النعت وما كان من الحال من أسمائه الفاعلين كقولنا : هذا زيد ذاهبا ، فهو هو لأن زيدا هو ذاهب ، وذاهب هو زيد ، وما كان مصدرا لم تقل هو هو ؛ كقولك : هو ابن عمي دنيّا ، دنيّا مصدر في الأصل ، ولا تخبر عنه ولا يكون خبرا ، وأصل دنيّا دنوا ؛ لأنه من دنا يدنو ، فقلبوا الواو ياء ؛ لأن بينهما وبين الكسرة نونا ساكنة وهو خفيّة ، ودنيّا ليس بمتمكن ؛ لأنه لا يقال : هذا ابن عمى دنيّ ، ولا : مررت بابن عمّ دنيّ ، ودنيّا في معنى دانيا منصوبا على الحال ، والعامل فيه معنى ابن عمي ، كأنه قال : يناسبني دانيا.

وأما قوله : " هو جاري بيت بيت" فمعناه : هو جاري ملاصقا ، وبيت بيت جعلا اسما واحدا ، ووضعا في موضع مصدر ، وذلك المصدر في موضع الحال ، " وهذا درهم وزنا" يكون وزنا مصدرا بمعنى : وزن وزنا ، وحالا بمعنى موزونا ، والذي ساق عليه الكلام أن يكون في موضع الحال ، وكذلك : هذا حسيب جدا وهذا عربيّ حسبه ، وتقديره : اكتفاء بمعنى : كافيا.

حدّثني بذلك أبو الخطاب عن من يثق به من العرب. جعله بمنزلة الدّني والوزن ، كأنه قال : هو عربيّ اكتفاء. فهذا تمثيل ولا يتكلم به ، ولزمته الإضافة كما لزمته جهده وطاقته.

وما لم يضف من ذا ولم تدخله الألف واللام ، فهو بمنزلة ما تضيفه ولم تدخله الألف واللام فيما ذكرنا من المصادر ، نحو : لقيته كفاحا ، وأتيته جهارا.


ومثل ذلك : هذا عشرون مرارا. وكأنه قال تكريرا وتضعيفا في معي مضافة ومكررة ، فهذا غير مضاف. و" هذه عشرون أضعافها" وهي مضافة مثل : جهده وطاقته ومعناه : مضاعفة.

قال : " ومثل ذلك : هذا درهم سواء ، كأنه قال : هذا درهم استواء. فهذا تمثل وإن لم يتكلم به ، كما قال الله تعالى :

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ)(١)

وقد قرأها ناس" في أربعة أيام سواء" قال الخليل : جعلوه بمنزلة أيام مستويات.

وتقول : هذا درهم سواء ، كأنك قلت : هذا درهم تام. قال : (وهذا شيء ينتصب على أنّه ليس من اسم الأول ولا هو هو) وذلك قولك :

هذا عربيّ محضا ، وهذا عربيّ قلبا.

فمحضا وقلبا ليسا بالعربي لأنهما مصدران ، ولا جريا على عربيّ في نعته وإعرابه ، فصار بمنزلة دنيّا وما أشبهه من المصادر وغيرها ، والرفع فيه وجه الكلام. وزعم يونس ذلك وذلك قولك : هذا عربيّ محض وهذا عربيّ قلب".

قال أبو سعيد : وإنما صار الرفع الوجه ؛ لأنه كثر في كلامهم أن يجروا محض وقلب مجرى عدل ، وأنت تقول : هذا رجل عدل في معنى عادل ، وكذلك محض في معنى ماحض ؛ لأنه يقال : محض يمحض وامتحضت أنا ، ومعناه : خالص. ولم يستعمل الفعل من قلب ما استعمل من محض.

قال أبو العباس محمد بن يزيد : قلبا ، معناه : قد تقلّب في العرب أي : دائر في أنسابها وهما مصدران صادفا الحال.

قال أبو سعيد : ويجوز أن يكون أخذ من قلب قلبا ، كأنه فتّش ونقي من العيب.

وأما عربيّ قحّ فلم يستعمل إلا صفة ؛ لأنه اسم ليس مصدر ، وليس له فعل يتصرّف.

قال : " ومما ينتصب لأنه ليس من اسم الأول ولا هو هو ، قولك : هذه مائة

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١٠.


وزن سبعة ، ونقد الناس ، وهذه مائة ضرب الأمير ، وهذا ثوب نسج اليمن ، كأنه قال نسجا وضربا ووزنا. وإن شئت قلت : وزن سبعة.

قال الخليل : إذا جعلت وزن سبعة مصدرا نصبت ، وإن جعلته اسما وصفت به. يعني بقوله : اسما تجعله في معنى موزون فتجريه مجرى موزون ، ومنه الخلق يكون مصدرا ، ويكون المخلوق ، والحلب يكون مصدرا ويكون معنى المحلوب ، والضرب في الدرهم بمعنى المضروب كما تقول : رجل رضى بمعنى مرضيّ ، وامرأة عدل بمعنى عادلة ، ويوم غم. فيصير هذا الكلام صفة.

قال : استقبح أن أقول هذه ضرب الأمير ، فأجعل الضرب صفة فيكون نكرة وصفت بمعرفة ، ولكن أرفعه على الابتداء ، كأنّه قيل له : ما هي؟ فقال : ضرب الأمير. فإن قلت : ضرب أمير حسنت الصفة ؛ لأنّ النكرة توصف بالنكرة".

قال أبو سعيد : إذا قلت : هذه مائة نقد الناس ، وهذه مائة ضرب الأمير ، وهذا ثوب نسج اليمن ، فنصبها على المصدر لا على الحال ؛ لأنها معارف ، كأنه قال : نقدت نقد الناس ، وضربت ضرب الأمير ، ونسجت نسج اليمن.

قال : " واعلم أنّ جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على أنّه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسما لم تستطع أن تبني عليه شيئا ممّا انتصب في هذا الباب ؛ لأنه جرى في كلام العرب أنّه ليس منه ولا هو هو. لو قلت : هذا ابن عمي دني والعربيّ جدّ ، لم يجز ، نعلم أنه ليس هو هو ؛ لأن ما هو هو ، لا يمتنع أن يكون خبرا له. وإذا لم يكن خبرا له ، فهو من الصفة أبعد فصار ليس منه ؛ لأن ما كان صفة فهو اسمه ، وبيّن أنه كان خبرا لمبتدأ ما لا يكون صفة كقولك : خاتمك فضّة ولا يكون صفة".

قال أبو سعيد : الذي يعني به فيما يقول أنّه منه ما كان نعتا له جاريا عليه ، وما ليس منه ليس بنعت له جار عليه ، وقد عبر عنه بعض أصحابنا بأنه ما كان تماما له فيدخل فيه النعت والصلة ، وأما ما هو هو فما صيغ لذاته من أسماء الفاعلين نحو : زيد الطويل ، وزيد ذاهب.

وبيّن أنّ دنيّا وجدّا في قولك : هذا ابن عمى دنيّا ، وهذا حسيب جدّا ، دنيّ وجدّ ليسا بنعتين ، فيكون من اسم الأول ، ولا هما الأول لأنهما مصدران ، والأول ليس بمصدر


ولم يكونا نعتين للأول لأنّهما غير متمكنين ، ولا يخبر بهما عن الأول. لا يقال : هذا دنيّ جدّ ، وإذا لم يخبر بهما فهما من النعت بهما أبعد ؛ لأنه قد يخبر بما لا ينعت به ؛ لأنك تقول : خاتمك فضة ولا تقول : مررت بخاتم فضة.

قال : " اعلم أن الشيء قد يوصف بالشيء الذي هو هو. وهو من اسمه ، وذلك قولك : هذا زيد الطويل ، ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك : هذا زيد ذاهبا. ويوصف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه ، كقولك : هذا درهم وزنا ، لا يكون إلّا نصبا. قال أبو العباس : أزنه وزنا".

قال أبو سعيد : إن قال قائل : أليس قد تقدم في الباب بأن الوزن يكون اسما ومعناه : موزون ، فلم لا يكون هذا درهم وزن؟ قيل له : هذا جائز إذا أراد هذا المعنى ، وإنما ذكر سيبويه ما يوصف به وليس من اسمه ، أي ليس بنعت جار على المنعوت ، ولو رفع كان من اسمه ، وأدخل فيما يوصف به الحال والمصدر ، إنما ذهب في ذلك إلى ما يتعلق عليه ، ويبيّن به ، ولم يذهب إلى الصفة التي هي نعت ، والله أعلم.

هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده

أو يبنى عليه ما قبله

" وذلك قولك : هذا قائما رجل ، وفيها قائما رجل ، وهو قائما رجل ، ولما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقبح أن تقول : فيها قائم ، فتضع الصفة موضع الاسم ، كما قبح : مررت بقائم ، وأتاني قائم. جعلت قائما حالا ، وكان المبنيّ على الكلام الأوّل ما بعده. ولو حسن أن تقول : فيها قائم ، لجاز فيها قائم رجل ، لا على الصفة ، ولكنّه كأنه لمّا قال فيها قائم ، قيل له : من هو؟ وما هو؟ فقال : رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه.

وحمل هذا النصب على جواز فيها رجل قائما ، وصار حين أخّر وجه الكلام فرارا من القبح. قال ذو الرمّة :

وتحت العوالي والقنا مستظلة

ظباء أعارتها العيون الجآذر (١)

__________________

(١) ديوانه ٢ / ١٠٢٤.


وقال آخر :

وبالجسم منّي بيّنا لو علمته شحوب

وإن تستشهدي العين تشهد (١)

وقال كثير :

لعزّة موحشا طلل قديم (٢)

وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر ، وأقل ما يكون في الكلام".

قال أبو سعيد : جملة هذا الباب أن يكون اسم منكور له صفة تجري عليه ، ويجوز نصب صفته على الحال ، والعامل في الحال شيء متقدم لذلك المنكور ، ثم تتقدم صفة ذلك المنكور عليه لضرورة عرضت لشاعر إلى تقديم تلك الصفة ، فيكون لفظ الاختيار في لفظ تلك الصفة أن تحمل على الحال ، مثال ذلك : هذا رجل قائم ، وفى الدار رجل قائم ، هذا مبتدأ ، ورجل خبره ، وقائم نعت رجل. وفي الدار رجل قائم ، رجل مبتدأ ، وفى الدار خبر مقدم ، وقائم نعت رجل ، ويجوز نصب قائم في المسألتين جميعا ، وأمّا في هذا رجل قائما ، فالعامل فيه التنبيه أو الإشارة ، وأمّا في الدار رجل قائما ، فالعامل فيه الظرف ، والاختيار الصفة ، فلما احتاج إلى تقديم مستظلة على ظباء وقد كان قبل تقديمها تقديره : " وتحت العوالي في القنا ظباء مستظلة" على الاختيار ، ومستظلة على الجواز ، ثم احتاج إلى تقديمها على ظباء ، فلم يصلح أن ترتفع على الصفة لشيء بعدها ؛ لأن الصفة لا تكون إلا بعد الموصوف ، وكانت الحال تتقدم وتتأخر ، نصبت على الحال ، وعامل الحال قد تقدم ، وكذلك قوله :

" وبالجسم مني بيّنا لو علمته شحوب" أصله : وبالجسم منيّ شحوب بيّن على الصفة ، وبينا على الحال ، والعامل فيه الظرف الذي ناب عنه وبالجسم ، فلما تقدم بطلت الصفة وبقي النصب على الحال ، وكذلك ، لعزة موحشا على الصفة ، وكان يجوز موحشا طلل قديم ، أصله : لعزة طلل قديم موحش على الصفة ، وكان يجوز موحشا على الحال ، والعامل فيه لعزة ، فلمّا قدمت نصبته على الحال ، ولم يكن يحسن أن تقول : فيها قائم ؛

__________________

(١) البيت بلا نسبة في معجم الشواهد النحوية ٢٧٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٧٥.

(٢) هذا صدر بيت وعجزه :

عفاه كل أسحم مستديم

البيت في ملحق ديوانه ٥٣٦.


لأن قائما صفة لا يحسن وضعها في موضع الأسماء ، ولو حسن أن تقول فيها قائم لجعلت رجلا بدلا منه ، أو يكون رفعه على الاستئناف ، وكأنك قلت : هو رجل على سؤال من قال : من هو؟

قال : " وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام" يعني أن طلب وزن الشعر ربما يضطر الشاعر إلى التقديم ، فيخرج إلى تقديم الصفة التي ذكرنا على الموصوف ، وإذا قدّمت الصفة على الظرف بطل النصب. لا تقول : قائما فيها رجل ، وقد ذكرنا أن العامل في الحال إذا كان ظرفا أو إشارة أو تنبيها لم يتقدم الحال عليه ، لا تقول : زيد قائما في الدار ، ولا قائما زيد في الدار ، ولا قائما في الدار زيد ، ولا قائما هذا زيد ، وإنما يتقدم الحال على العامل إذا كان العامل فيها فعلا ، كقولك : راكبا مرّ زيد ، وراكبا مرّ الرجل ؛ لأن الظروف والإشارة لا تتصرف كتصرف الفعل ، فضعف عملها في ما قبلها ، وإن كانت قد أنزلت منزلة الفعل في كونها خبرا للاسم ، ووقع في النسخ وهو قائما رجل ، فهو عندي سهو تناسخه الناس ولم يعتقد ، ونصبه إن جاز بشيء متأول بعيد ، كأن قائلا قال : على أي حال زيد رجل؟ يريد من الرّجلة والشهامة ، فقال المجيب : هو قائما رجل ؛ أي إذا كان قائما ، كما يقال : هذا يسرا أطيب منه نحرا.

قال سيبويه : " ومن ثمّ صار مررت قائما برجل لا يجوز ؛ لأنّه صار قبل العامل في الاسم ، وليس بفعل والعامل الباء ولو حسن هذا لحسن قائما هذا رجل"

قال أبو سعيد : إذا عمل في الاسم الذي الحال منه عامل لا يجوز تقديمه عليه ، نحو حروف الجر ، لم يجز تقديم الحال على عامله. لا تقول : مرّ زيد قائمة بهند ؛ لأن هندا لا يجوز تقديمها على الباء ، والحال تابعة للاسم ، فلم يجز تقديمها عليه ، وإن كان العامل فيها الفعل ، ورأيت أبا الحسن بن كيسان يجيز في القياس مررت قائمة بهند.

قال سيبويه : " فإن قال قائل : أقول مررت ب (قائما) رجل ، فيكون الحال بعد حرف الجر ، فهذا أقبح وأخبث للفصل بين الجار والمجرور ، ومن ثمّ أسقط ربّ قائما رجل. فهذا كلام قبيح ضعيف ، فاعرف قبحه ، فإنّ إعرابه يسير. ولو استحسنّاه لقلنا : هو بمنزلة فيها قائما رجل ، ولكنّ معرفة قبحه أمثل من إعرابه.

وأمّا بك مأخوذ زيد ، فإنّه لا يكون إلّا رفعا ، من قبل أنّ بك لا يكون مستقرا للرجل ، وعلى ذلك أنه لا يستغنى عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم


منطلق زيد ، واليوم قائم زيد.

وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة بك مأخوذ زيد. وتأخير الخبر في الابتداء أقوى ؛ لأنه عامل فيه.

ومثل ذلك : عليك نازل زيد ؛ لأنك لو قلت : عليك زيد ، وأنت تريد النزول ، لم يكن كلاما.

وتقول : عليك أميرا زيد ؛ لأنك لو قلت : عليك زيد وأنت تريد الإمرة كان حسنا. وهذا قليل في الكلام ، كثير في الشعر ؛ لأنه ليس بفعل. وكلّما تقدّم كان أضعف له وأبعد ، فمن ثمّ لم يقولوا : قائما فيها رجل ، ولم يحسن حسن : فيها قائما رجل"

قال أبو سعيد : الظروف على ضربين أحدهما : أسماء الزمان والآخر أسماء المكان ، فأمّا أسماء الزمان فإنها تكون ظروفا للمصادر وأخبارا لها كقولنا : القتال يوم الجمعة ، ورحلنا يوم الخميس. ولا تكون ظروفا للجثث وأخبارا لها ، لا تقول : زيد يوم الجمعة ، وتسكت حتى تقوّيه بخبر لزيد كقولنا : اليوم منطلق زيد ، واليوم قائم زيد ، والفرق بين ظروف الزمان والمكان ، أن ظروف الزمان إنّما هي أشياء تحدث وتنقضي ، ولا يثبت شيء منها ، وما وجد من الزمان فهو مشتمل على كل موجود ، والجثث كلها موجودة. فإذا جعلنا ظرف الزمان ظرفا لبعض الجثث ، وقد علم أنه قد اشتمل على الجثث كلها ، فلا فائدة فيه ؛ لأنّا إذا قلنا : زيد اليوم ، وقد علم أنّ اليوم قد اشتمل عليه وعلى غيره ، فلا فائدة فيه ، وأمّا المصادر فإنها غير موجودة ، وتحدث في أوقات. فإذا جعل ظرف الزمان لشيء من المصادر ، فإنّما تدلّ على حدوث ذلك المصدر في ذلك الزمان ، وفيه فائدة يجوز أن لا يعلمها المخاطب.

وأمّا ظروف المكان فإنها تكون أخبارا ، فأي مكان جعلته مستقرا لشيء يكون فيه ، جاز أن يكون ظرفا له وخبرا. فما كان منها مخوضا أدخلت عليه (في) أو ما يقوم مقامها ، كقولنا : زيد في الدار ، وفي السوق ، وأخوك على الجبل ، وعلى السور. وما اتصل من حروف الجر بالأسماء غير الأماكن فهو صلة لفعل أو خبر اسم ، ولا يجوز حذف ما هو في صلته ، كقولك : زيد راغب في عمرو ، وأخوك نازل عليك ، وزيد يرغب فيك ، وينزل عليك ، وزيد يؤخذ بك ، وزيد مأخوذ بك ، ولا يجوز أن تقول : زيد فيك ، وأنت زيد راغب ، ولا زيد عليك ، وأنت زيد نازل ، ولا زيد بك وأنت زيد مأخوذ ؛ لأن هذه


الحروف قد يتعلق عليها أخبار كثيرة مختلفة المعاني ، فإذا حذفت لم يدر أيّها يراد. ألا ترى أنك إذا قلت : زيد بك ، احتمل وجوها كثيرة نحو : زيد بك يستعين ، وزيد بك يتحمّل ، وزيد بك مأخوذ ، وما أشبه ذلك ، وكذلك : زيد فيك ؛ جاز أن تعني : راغب وزاهد. وكذلك إذا قلت : زيد عليك ، جاز أن يكون عليك يعتمد وعليك ينزل ، وعليك يثني ، ونحو ذلك فإذا قلت : زيد بك وأنت تريد (مأخوذ) أو زيد عليك وأنت تريد (نازل) ، ثم حذفت مأخوذا ونازلا بطل الكلام ، لأنهما خبران لا بدّ منهما ، وإنما جاز أن تقول : زيد في الدار أو في السوق أو ما أشبه ذلك من الأماكن ؛ لأن هذه الأشياء محالّ لزيد ، وأن القصد فيها أنه قد استقرّ فيها أو حلّها ، ولا يذهب الوهم في قولك : زيد في الدار أو في السوق ، أنه يرغب في الدار أو يزهد فيها لما قد عرف بالعادة من أن القصد إلى حلوله فيها. فصار قولك : (في الدار) خبرا يتم الكلام به ، وإذا تم الكلام بظرف وصار خبرا ، جاز نصب ما بعده من الصفات على الحال ؛ ولهذا جاز نصب : عليك أميرا زيد ، ولا يجوز : عليك نازلا زيد. وقوله في آخر الباب : " وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر" يريد تقديم الحال على الاسم الذي منه الحال إذا كان العامل ظرفا ليس بكثير في الكلام ، والكثير أن يكون الحال بعد الظرف والاسم جميعا ، ألا ترى أنك لا تكاد تجد في كلام العرب : إنّ في الدار قائما زيدا ، وإن زيدا في الدار قائما. والذي وجد في القرآن قد تقدمت فيه الأسماء على الأحوال ، كقوله عزوجل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ)(١) و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ* فاكِهِينَ)(٢) والله أعلم.

هذا باب ما يثنّى فيه المستقر توكيدا وليست تثنيته بالتي

تمنع الرفع حاله قبل التثنية

ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنّى

" وذلك قولك : فيها زيد قائما فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد ب (فيها) الأول. وإن زعمت أنّه ينتصب بالآخر فكأنك قلت : زيد قائما فيها ، فإن هذا كقولك : قد ثبت زيد أميرا قد ثبت ، فأعدت قد ثبت توكيدا ، وقد عمل الأوّل في زيد وفي

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة الطور ، الآية : ١٧ ، ١٨.


الأمير.

ومثله في التوكيد والتثنية : لقيت عمرا عمرا

فإن أردت أن تلغي فيها قلت : زيد قائم فيها ، كأنه قال : زيد قائم فيها فيها ، فيصير بمنزلة قولك : فيك زيد راغب فيك.

وتقول في النكرة : في دارك رجل قائم فيها ، فيجري قائم على الصفة. وإن شئت قلت : فيها رجل قائما فيها ، على الجواز ، كما يجوز : فيها رجل قائما. وإن شئت قلت : أخوك في الدار ساكن فيها ، فتجعل فيها صفة للساكن. ولو كانت التثنية تنصب لنصبت في قولك : عليك زيد حريص عليك ، ونحو هذا مما لا يستغنى به. وإن قلت : قد جاء (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها)(١) فهو مثل (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ)(٢) وفى آية أخرى (فاكِهِينَ)".

قال أبو سعيد : جعل سيبويه تثنية الظروف وهى تكريرها بمنزلة ما لم يقع فيه تكرير في حكم اللفظ ، وجعل التكرير توكيدا للأول لا يغير شيئا من حكمه فيما يكون خبرا وما لا يكون خبرا ، أمّا ما يكون خبرا فقولك : في الدار زيد قائما فيها ، إن شئت رفعت قائم ، وإن شئت نصبت ، كما كان ذلك قبل التكرير والتثنية ، فأمّا ما لا يكون خبرا فقولك : عليك زيد حريص عليك ، لا يجوز إلّا الرفع في حريص كما كان ذلك قبل التكرير ؛ لأن عليك ليس بخبر ولا يستغني به الكلام. وقال الكوفيون : ما كان من الظروف يكون خبرا ويسمونه : الظرف التام ، فإنك إذا كررته وجب النصب في الصفة ، وإن لم تكرره فأنت مخير إن شئت نصبت ، وإن شئت رفعت ، واحتجوا في المكرر بقوله عزوجل : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) وقوله عزوجل : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها)(٣) وذكروا أنّه لم يجئ شيء مما فيه تكرير من نحو هذا مرفوعا ، وما ليس فيه تكرير قد جاء بالرفع والنصب. ومما يحتجّ به لهم ، أن الظرف التام إذا نصبنا الصفة فالأول من الظرفين خبر الاسم ، وهو الذي ترفعه والثاني

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١٠٨.

(٢) سورة الذاريات ، الآية : ١٥ ، ١٦.

(٣) سورة الحشر ، الآية : ١٧.


ظرف للحال إذا قلت : في الدار زيد قائما فيها ، ففيها في صلة قائم ، وفي الدار ليست في صلته ، وإذا رفعت فقلت : قائم فيها ، ففيها في صلته ، ولا فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها. فإذا كان الظرف ناقصا فالضرورة تعود إلى رفع الصفة ، وحمل الكلام على التكرير والتوكيد. ومن حجة سيبويه أن هذه التثنية والتكرير قد أتى في القرآن وسائر الكلام ، قال الله تعالى في الأعراف : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)(١) وفى هود : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٢) وهم الثانية تثنية وتوكيد ؛ لأنّ تقديره : وهم كافرون بالآخرة ، وإذا جاز قيل : زيد راغب فيك ، ودخول فيك الثانية وخروجها سواء في إعراب ما فيه ، فمثله قولك : في الدار زيد قائم فيها ، وأمّا قولهم إنه ما جاء في القرآن الرفع فيما كرر فيه المستقر ، فليس كل كلام جار صحيح جاء في القرآن ، ألا ترى أنه ما جاء في القرآن : ما زيد قائم ، ولا خلاف في أنه جيّد صحيح.

هذا باب الابتداء

" فالمبتدأ كلّ اسم ابتدئ ليبنى عليه كلام ، والمبتدأ والمبنيّ عليه رفع. فالابتداء لا يكون إلا بمبنيّ عليه. فالمبتدأ الأول والمبنيّ عليه ما بعده فهو مسند ومسند إليه.

واعلم أنّ المبتدأ لا بّد له من أن يكون المبنيّ عليه شيئا هو هو ، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يذكر كلّ واحد منها بعد ما يبتدأ.

فأمّا الذي يبنى عليه شيء هو هو فإنّ المبنيّ عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء ، وذلك قولك : عبد الله منطلق ؛ ارتفع عبد الله لأنه ذكر ليبنى عليه المنطلق ، وارتفع المنطلق لأنّ المبنيّ على المبتدأ بمنزلته".

قال أبو سعيد : قد ذكرنا الابتداء ما هو ، والمبتدأ والخبر وما يرتفع به كلّ واحد منهما ، وأنا أعيده هنا لأنّه أولى فأقول : إنّ الابتداء هو تعرية الاسم من العوامل اللفظية ، ليخبر عنه. وهذه التعرية عاملة فيه ؛ لأن العوامل في الإعراب بمنزلة العلامات الدّالة على ما يجب من الإعراب ، والتعرية قد تكون علامة في بعض الأماكن ، كثوبين أبيضين

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٥.

(٢) سورة هود ، الآية : ١٩ ، سورة يوسف ، الآية : ٣٧.


متشابهين لرجلين إذا يعلم أحدهما على ثوبه وترك الآخر العلامة ، كان تعريته من العلامة علامة له. فأمّا المبتدأ فالابتداء يرفعه ، وأمّا خبر المبتدأ فمن أصحابنا من يقول : إن الابتداء يرفع الاسم والخبر جميعا ، وقال أبو العباس محمد بن يزيد : إن الابتداء يرفع المبتدأ ، والمبتدأ والابتداء يرفعان الخبر.

ولسيبويه فيه عبارات مختلفة مشتبهة يوهم بعضها أن الخبر يرفعه المبتدأ ، وذلك قوله : " فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء ، يعني يرتفع بالمبتدأ" ويوهم بعضهم أن الابتداء يرفع المبتدأ والخبر لقوله : " وارتفع المنطلق" وهو يعني خبر الابتداء ؛ لأنّ المبنيّ على المبتدأ بمنزلته.

وفيه وجه حسن آخر ليس في شيء مما ذكرته في غير هذا الموضع ولا رأيته لأحد ، وهو أن التعرية الموجبة للرفع قد وقعت على المبتدأ والخبر ؛ لأنّ الخبر ـ أيضا ـ لم يدخل عليه عامل لفظيّ ؛ لأنّ الاسم المبتدأ ليس بعامل ، فكان في كل واحد منهما تعرية ، ويدلّك على ذلك أن أصحابنا لا خلاف بينهم أن خبر المبتدأ قد يتقدم عليه ويرتفع بما كان يرتفع به ، وقد علمنا أن العامل الضعيف لا يعمل فيما قبله ، والابتداء والمبتدأ ليس بأقوى من إنّ وأخواتها ، وأخبارها لا تتقدم عليها وإنما جاز تقديم خبر المبتدأ لأنّ فيه من التعرية مثل ما في المبتدأ ، ويقوّي هذا قول سيبويه : " لأن المبنيّ على المبتدأ بمنزلته" وعلى نحو هذا سوى الكوفيون بين الابتداء والخبر ، فجعلوا كل واحد منهما رافعا للآخر ، أيّهما تقدّم رفع الذي بعده ، وأيّهما تأخر رفع الذي قبله. قال : وزعم الخليل أنه يستقبح أن يقول : قائم زيد وذاكر ، إذا لم يجعل قائما مقدّما مبنيا على المبتدأ ، كما يؤخّر ويقدّم فيقول : ضرب زيدا عمرو ، وعمرو على ضرب مرتفع ، وكان الحدّ أن يكون الابتداء مقدما ، ويكون زيد مؤخّرا ، وكذلك هذا الحدّ فيه أن يكون الابتداء فيه مقدما. وهذا عربي جيّد ، وذلك قولك : تميمي أنا ، ومشنوء من يشنؤك ، وأرجل عبد الله ، وخذ صنعتك.

يريد أنّ قولك : قائم زيد قبيح إن أردت أن تجعل قائم هو المبتدأ ، وزيد خبره أو فاعله ، وليس بقبيح أن تجعل قائم خبرا مقدما ، والنية فيه التأخير كما تقول : ضرب زيدا عمرو ، والنية تأخير زيد الذي هو مفعول ، وتقديم عمرو الذي هو فاعل ، وذلك قولك : تميميّ أنا ، ومشنوء من يشنؤك أرجل عبد الله ، وخذ صنّعتك؟ ، وقال بعد تقديم


خبر المبتدأ عليه نحو قائم زيد ، وتميمي أنا ، ومشنوء من يشنؤك. فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقولك : يقوم زيد ، وقام زيد قبح ؛ لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه ؛ كما أنه لا يكون مفعولا في ضارب حتى يكون محمولا على غيره فتقول : هذا ضارب زيدا وأنا ضارب زيدا. ولا يكون : ضارب زيدا على قولك : ضربت زيدا ، وضربت عمرا. فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري مجرى الفعل المبتدأ ، وليكون بين الاسم والفعل فصل وإن كان موافقا له في مواضع كثيرة ؛ فقد يوافق الشيء ثم يخالفه ؛ لأنه ليس مثله. وقد كتبت ذلك فيما مضى ، وستراه فيما يستقبل ، إن شاء الله تعالى".

قال أبو سعيد : إذا نقلت الفعل إلى اسم الفاعل ورفعت الفاعل به ولم يكن قبله ما يعتمد عليه ، قبح ؛ وذلك أنه يلزمك أن تقول مكان قام زيد وقام الزيدان. قائم زيد ، وقائم الزيدان ، وقائم الزيدون ، والذى قبّحه فساد اللفظ لا فساد المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : قائم الزيدان ، وقائم الزيدون ، رفعت قائم بالابتداء ، والزيدان فاعل من تمام قائم ، فيكون مبتدأ بغير خبر. ولو جاز هذا لجاز أن تردّ : يضرب زيدا إلى ضارب زيدا ، وزيد في صلته ، ولا يكون له خبر. والذى يجيزه زعم أن الفاعل يسد مسد الخبر ، وقائل هذا يحتاج إلى برهان على ما ادعاه ، وإنما يرتفع الفاعل باسم الفاعل ، وينتصب به المفعول ، إذا كان معتمدا على شيء يكون خبرا له أو صفة أو حالا أو صلة ، كقولك : كان زيد قائما أبوه ، ومررت برجل ضارب أبوه زيدا ، وهذا زيد ضاربا أبوه أخاك ، ومررت بالضارب أخاك.

وقد نسب أبو العباس محمد بن يزيد سيبويه إلى الغلط في قسمته خبر المبتدأ في هذا الباب إلى شيء هو هو ، أو يكون في مكان أو زمان ، ولم يأت بالجمل التى تكون أخبارا كنحو : زيد ضربته ، وزيد أبوه قائم ، وزيد إن تأته يأتك.

قال أبو سعيد : أحسب سيبويه جعل ما فيه ذكره ممّا يتبين في التثنية والجمع من حيز ما هو هو ، واقتصر على ذلك لأنه مفهوم لا يشكل. والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب.


هذا باب ما يقع موقع الاسم المبتدأ ويسد مسده

" لأنّه مستقرّ لما بعده وموضوع ، والذي عمل فيما بعده حتّى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله ؛ ولكن كلّ واحد منهما لا يستغنى به عن صاحبه ، فلما جمعا استغناء عليهما السكوت ، حتّى صارا في الاستغناء كقولك : هذا عبد الله. وذلك قولك : فيها عبد الله. ومثله : ثمّ زيد ، وما هذا عمرو ، وأين زيد ، وكيف عمرو ، وما أشبه ذلك. بمعنى أين : في أي مكان ، وكيف : على أي حال. وهذا لا يكون إلّا مبدوءا به قبل الاسم ؛ لأنها من حروف الاستفهام ، فشبّهت بهل وألف الاستفهام ؛ لأنهن يستغنين عن ألف الاستفهام ، ولا يكون كذا إلّا استفهاما".

قال أبو سعيد : جملة هذا الباب أن المبتدأ الذي خبره ظرف من مكان أو زمان ، إذا تقدم الاسم الظرف فرفع الاسم على ما كان وهو متأخر ، كقولك : فيها زيد ؛ لأنك تقول : إنّ فيها زيدا ، كما تقول : إنّ زيدا فيها. وقد تكرر هذا في مواضع. ويقوّي ذلك أنّا نقول : أين زيد؟ وكيف عمرو؟ وأين وكيف لا يكونان اسمين ، وإنما هما خبران لا غير ، والدليل على ذلك أنك لو قلت : أين يجبني أو كيف يسرني؟ لم يجز كجواز من يجبني وما يسرني ؛ لأن من وما اسمان يخبر عنهما ، وليس أين وكيف كذلك ، وتقديم أين وكيف لم يجعلهما اسمين ، وكذلك تقديم فيها وما أشبهه ، غير أن أين وكيف يلزمهما التقديم بسبب الاستفهام. والله أعلم.

هذا باب من الابتداء يضمر فيه ما يبنى على الابتداء

وذلك قولك : لو لا عبد الله لكان كذا وكذا. أما لكان كذا أو كذا ، فحديث معلق بحديث لو لا ، وأما عبد الله فإنه من حديث (لو لا) وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام كقولك : أزيد أخوك؟ إنما رفعته على ما رفعت زيد أخوك ، غير أن ذلك استخبار وهذا خبر ، وكأن المبني عليه في الإضمار كان في مكان كذا وكذا ، وكأنه قال : لو لا عبد الله كان بذلك المكان ، ولو لا القتال كان في زمان كذا وكذا ، ولكن هذا حذف حين كثر استعمالهم إيّاه في الكلام".

قال أبو سعيد : لو لا وجوابها جملتان إحداهما جواب للأخرى ، والذي ربط إحداهما بالأخرى لو لا ، ومثلها (إن) و (لو) يدخلان على جملتين مباينة إحداهما للأخرى ، كقولنا : قدم زيد وخرج عمرو ، لا يتعلق قدوم زيد بخروج عمرو ، فإذا أدخلنا لو ربطت إحدى الجملتين بالأخرى ، وعلقتها بها على المعنى الذي توجبه (لو) والذي توجبه (إن) الجواب


يمتنع لامتناع الشرط ، فإذا قلت لو قدم زيد لخرج عمرو ، فخروج عمرو لم يقع من أجل أن قدوم زيد لم يقع ، ودخلت لو على جملتين مبنيتين على فعل واحد وفاعل ، وكذلك الباب فيه نحو : لو جئتني لأكرمتك ، وما أشبه ذلك ، وأما (لو لا) فتدخل على جملتين ؛ إحداهما مبتدأ وخبر ، والأخرى فعل وفاعل ، فتربط إحداهما بالأخرى ، ويكون الذي يليها مبتدأ وخبرا ، ويكون الجواب فعلا ، واحتاجت إلى اللام كاحتياج (لو) إلى اللام في جوابها ، والأصل زيد بالبصرة وخرج عمرو ، وزيد أمير وذهب عمرو ، فلا تتعلق إحدى الجملتين بالأخرى ، فإذا أدخلت (لو لا) علقت إحداهما بالأخرى ، فصارت الأولى شرطا والأخرى جوابا ، فقلت : لو لا زيد لذهب عمرو ولو لا زيد لخرج عمرو ، وحذفت الخبر حين كثر استعمالهم وفهم المعنى ، ومعنى لو لا أن الثاني يمتنع بامتناع الأول ، وربما جاء بعد (لو لا) مكان الابتداء والخبر الفعل لاستوائهما في المعنى ، ألا ترى أن قولك زيد قائم وقام زيد بمعنى واحد.

قال الشاعر وهو الجموح أخو بني ظافر بن سليم بن منصور :

قالت أمامة لما جئت زائرها

هلا رميت ببعض الأسهم السود

لا درّ درّك إني قد رميتهم

لو لا حددت ولا عذري لمحدود (١)

أي لو لا الحد والحرمان.

وقال الفراء والكوفيون : لو لا ترفع ما بعدها إذا قلت لو لا زيد لعاقبتك ، زيد ترفعه لو لا لانعقاد الفائدة به ومعه ، واللام جواب لو لا.

وحكى عن غيره أن لو لا ترفع لنيابتها عن الفعل ، لو لا زيد لعاقبتك ، أي لو لم يمنعني زيد من عقابك لعاقبتك. وقد رد الفراء هذا القول على قائله ، واحتج عليهم بحجتين ؛ إحداهما : أن أحدا لا يقع بعدها واحد يعريها بالجحود ، والأخرى : أنه لا يعطف على الاسم بعدها ، لا تقول : لو لا أخوك ولا أبوك لعاقبتك ، ففي امتناعهما من ذلك دليل على أن الجحد قد زايلها.

قال أبو سعيد : والصحيح ما قاله سيبويه ، والدليل على ذلك أنه قد وقع بعد (لو لا) الاسم والفعل ، نحو البيت الذي أنشدناه :

__________________

(١) البيتان في ابن يعيش ١ / ٩٥ ، ٨ / ١٤٦ ، الخزانة ١ / ٧٩ ، المخصص ١٥ / ١٩٠.


....... لو لا حددت

وما يليه الاسم والفعل من الحروف فما بعده رفع بالابتداء ؛ كقولنا : إنّما وكأنّما وهل وألف الاستفهام ، وشبه ما حذف من خبر المبتدأ بعد (لو لا) بأشياء من المحذوفات كقولهم : إما لا ، وأصله ما زعم الخليل أنهم أرادوا : إن كنت لا تفعل غيره فافعل كذا وكذا إما لا.

معنى هذا الكلام أن رجلا لزمته أشياء يفعلها فامتنع منها فرضي منه صاحبه ببعضها ، فقال افعل هذا إما لا ، أي افعل هذا إن لا تفعل جميع ما يلزمك ، وزاد (ما) على (إن) وحذف الفعل وما يتصل به ، وكثر ذلك في كلامهم حتى صارت مع ما قبلها كشيء واحد ؛ وكذلك أمالوا الألف من (لا) وهي لا تمال في غير هذا الكلام ، ومثله حينئذ الآن ، إنما تريد اسمع الآن ؛ أي كان الشيء الذي ذكر حينئذ واسمع الآن ، وقولهم : ما أغفلت عنك شيئا ؛ أي دع الشك عنك ، فحذف هذا لكثرة استعمالهم.

وقال أبو سعيد : هذا الحذف ما فسره من مضى إلى أن مات المبرّد ، وفسره أبو إسحاق الزجاج بعد ذلك ، فقال : معناه على كلام قد تقدّم ، كأن قائلا قال : زيد ليس بغافل عني ، فقال المجيب : بلى ما أغفله عنك. انظر شيئا ، أي تفقد أمرك ، فاحتج به على أن الحذف ـ يريد حذف انظر ـ الناصب شيئا ، كأنك لما قلت : ما أغفله عنك ، أردت أن تبعثه على أن يعرف صحة كلامك ، فقلت له : انظر شيئا فإنك تعرف ما أقوله لك ، كما تقول : انظر قليلا ؛ أي تفقد ، وذكر من المحذوفات : هل من طعام؟ أي : هل من طعام في مكان أو زمان؟ أي هل طعام؟

وهذا وما بعده غير محتاج إلى تفسير والله أعلم.

هذا باب يكون المبتدأ فيه مضمرا ويكون المبنيّ عليه مظهرا

وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص ، فقلت : عبد الله وربي ، كأنك قلت : ذاك عبد الله ، وهذا عبد الله ، أو سمعت صوتا فعرفت صاحب الصوت ، فصار آية لك على معرفته ، فقلت زيد وربي ، أو مسست جسدا ، أو شممت ريحا فقلت زيد أو المسك ، أو ذقت طعاما فقلت العسل ، ولو حدثت عن شمائل رجل فصار آية لك على معرفته لقلت عبد الله ، وكان رجلا قال : مررت برجل راحم للمساكين بار بوالديه ، فقلت : فلان والله.


وهذا كله مفهوم والله أعلم بالصواب.

هذا باب الحروف الخمسة التّي تعمل فيما بعدها

لعمل الفعل فيما بعده

وهي من الفعل بمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل ، ولا تتصرف تصرف الأفعال كما أن عشرين لا تتصرف تصرف الأسماء التي أخذت من الأفعال ، وشبهت بها في هذا الموضع ، فنصبت درهما ؛ لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه ، ولم يرد أن يحمل الدرهم على ما حمل العشرون عليه ، ولكنه واحد بين به العدد ، فعملت فيه كعمل الضارب في زيد ، إذا قلت : هذا الضارب زيدا ؛ لأن زيدا ليس من صفة الضارب ولا محمولا على ما حمل عليه الضارب ، وكذلك هذه الحروف منزلتها من الأفعال ، وهي (إن ولكنّ وليت ولعل وكأن) ، وذلك قولك : إن زيدا منطلق وإنّ عمرا مسافر ، وإنّ زيدا أخوك ، وكذلك أخواتها.

وزعم الخليل أنها عملت عملين : الرفع والنصب ، حين قلت : كأن أخاك زيد ، إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبد الله ، تريد كأن عبد الله أخوك ، لا تتصرف تصرف الأفعال ولا يضمر فيها المرفوع كما يضمر في كأن ، فمن ثمّ فرقوا بينهما كما فرقوا بين (ليس) و (ما) فلم يجروها مجراها ، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بالأفعال.

قال أبو سعيد : شبه سيبويه هذه الحروف في نصب ما بعدها بالأفعال في نصب مفعولاتها ، وجعل منزلتها من الفعل في الشبه منزلة عشرين في نصبها ما بعدها من ضاربين التي أخذت من الفعل وكأنها بمنزلته ؛ أعني بمنزلة الفعل. فإذا قلت : هذه عشرون درهما ، فليس درهما بنعت للعشرين فتتبعها في إعرابها ، ولا العشرون مضافة إليها فيبنون خفضا بالإضافة ، ولا هو معطوف على العشرين محمول عليها فيعمل فيها عامل العشرين ، ولكن درهما بين به العشرون فعملت فيه كعمل ضارب وضاربين ، إذا قلت هؤلاء ضاربون زيدا ، والشبه بينهما أن عشرين مقدار يقدر به ، فإذا قال : هذه عشرون درهما ، فتقديره : هذه الدراهم تقادر أو تساوي أو تماثل أو توازن عشرين ، وترد إلى اسم الفاعل وتضاف فتصير هذه الدراهم مقادرة عشرين ، وتحذف فتقام العشرون مقامها ، والعشرون تقتضي نوعا يقدر بها كما أن ضاربا يقتضي مفعولا وقع به فشبه به لذلك.


وقد ذكر هذا بأتم من هذا الشرح في غير موضع.

وأما الشبه بين هذه الحروف وبين الأفعال فمن وجهين ؛ أحدهما : من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى ، فأما الشبه من جهة اللفظ فلبناء أواخرها على الفتح ، كبناء الفعل الماضي ، وأما الشبه من جهة المعنى فلأن هذه الحروف تطلب الأسماء ولا تقع إلا عليها ، كما أن الأفعال تطلب الأسماء ولا تقع إلا عليها ، وتدخل هذه الحروف على المبتدإ والخبر فتنصب المبتدأ وترفع الخبر ، وشبهت في نصب المبتدأ ورفع الخبر بفعل قدّم مفعوله على فاعله ، والذي ترفعه هذه الحروف من أخبارها ما كان منها هو الاسم ؛ كقولك : إن زيدا أخوك ، ونحوه ، دون ما كان في موضع الخبر ، وإنما اختير أن يكون الاسم منصوبا ؛ لأنه لو جعل مرفوعا ثم أضمر المتكلم والمخاطب لتغيرت بنيته كما تتغير كان إذا قلت : كنت وكنت ، وكان يلزم فيها أن يقال إننت قائما وإننت منطلقا.

وهذه حروف ليس لها تصرف الأفعال فلم تحتمل التغيير ، ولهذه العلة لم يجز تقديم الخبر ؛ لأنه لو قدم ثم اتصلت به كتابة المتكلم والمخاطب ، للزمه التغيير الذي ذكرناه ، ومع هذا أنه يضعف تغيير ما تعمل فيه الحروف عن مواضعها المرتب فيها.

وأهل الكوفة يقولون في خبر إن وأخواتها إنه مرفوع ، كما كان يرتفع به قبل دخول (إن) و (أن) ؛ لأن (أن) دخلت وعملها ضعيف فعملت في الاسم ولم تجاوزه ، وبقي الخبر مرفوعا على ما كان قبل دخول (إن) وهذا غلط منهم ومناقضة ، فأما الغلط فلأن خبر المبتدإ كان يرتفع بالتعري من العوامل اللفظية ، وقد دخلت (إن) فزال ذلك التعري ، وأما المناقضة فإنهم يقولون زيد قائم ، كل واحد منهما يرفع الآخر ، وإذا دخلت (إنّ) بطلت المرافعة فكيف يبقى الخبر على حاله.

وقال سيبويه : " وتقول إن زيدا الظريف منطلق ، فإن لم تذكر المنطلق صار الظريف في موضع الخبر ، كما قلت : كان زيد الظريف ذاهبا ، فلما لم تجئ بالذاهب قلت كان زيد الظريف ، فنصب هذا في (كان زيد) بمنزلة رفع الأول في إن وأخواتها ، وتقول إن فيها زيدا قائما ، فإن شئت رفعت على إلغاء فيها ، وإن شئت قلت إن زيدا فيها قائما قائم ، وتفسير نصب القائم هاهنا ورفعه كتفسيره في الابتداء ، وعبد الله ينتصب بأن كما ارتفع بالابتداء ، إلا (أن) فيها هاهنا بمنزلة هذا في أنه يستغني على ما بعدها السكوت ويقع موقعه ، وليست بنفس عبد الله ، و (إن) هي ظرف لا


تعمل فيها بمنزلة خلفك ، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه ، وقد يقع الشيء موقع الشيء ، وليس إعرابه كإعرابه وذلك قولك : مررت برجل يقول ذاك ، فيقول في موضع قائل ، وليس إعرابه كإعرابه".

قال أبو سعيد : ذكر سيبويه في أن الظرف الذي يستغنى به الاسم فيحسن عليه السكوت ، والذي ينصب الظرف في خبر (إن) هو الذي كان ينصبه في خبر الابتداء ، وجواز الحال والخبر في إن كجوازهما في الابتداء ، والظرف موقعه اسم هو الأول مرفوع ؛ لأن قولنا زيد خلفك ، وإن زيدا خلفك ، موقعه موقع إن زيدا مستقر ، وإن زيدا أخوك ، وإن كان إعرابه يخالف إعرابه ، كما أن مررت برجل يقول ذاك في موضع قائل ذاك ، ويقول مرفوع وقائل مخفوض. وتقول إن بك زيدا مأخوذ ، وإن لك زيدا واقف ، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرين لزيد ولا موضعين ، ألا ترى أن السكوت لا يستغنى على زيد إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف ، ومثل ذلك أن فيك زيدا لراغب.

قال الشاعر :

فلا تلحني فيها فإني بحبها

أخال مصاب القلب جم بلابله (١)

وتقول : إن اليوم زيدا منطلق ، إذا أردت أن تجعل زيدا اسم إنّ ومنطلق الخبر واليوم ظرف المنطلق ، فإن نصبت اليوم ب (إن) قلت : إن اليوم زيد منطلق فيه ، وقد تكون الجملة خبر اليوم والعائد إليه الهاء في (فيه).

وقال أبو سعيد : وتجوز حذف (فيه) منه ، فتقول إن اليوم زيد منطلق ، وأنت تريد : فيه. كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٢) والمعنى لا تجزى فيه ، وحذف هذا جائز في الظروف ، وتقول إن زيدا لفيها قائما ، وإن شئت ألغيت (لفيها) كأنك قلت إن زيدا لقائم فيها.

وقال أبو سعيد : هذه اللام تدخل بعد تمام الاسم والخبر ، فإذا دخلت على الخبر جاز أن يكون الذي يلاصقها الخبر ، ويجوز ذلك أن يكون مثبتا في صلة الخبر مقدما عليه

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الكتاب ١ / ٢٨٠ ، والدرر ١ / ١١٣ ، شواهد المغني ٣٢٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٤٨.


والخبر بعده ، فأما ملاصقتها الخبر فقولك : إن زيدا لقائم في الدار ، وإن زيدا لضارب عمرا ، وإن زيدا لفي الدار قائما ، والخبر لفي الدار ، وأما ملاصقتها ما في صلة الخبر والخبر بعده ، فقولك : إن زيدا لفيها قائم ، وإنه إليك مأخوذ. قال أبو زبيد الطائي :

إنّ أمرا خصّني عمدا مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور (١)

(غير مكفور) هو الخبر ، و (عندي) من تمامه مقدم عليه ، فإن قلت إن زيدا فيها لقائم لم يجز غير الرفع في قائم ؛ لأنّا لو نصبناه صار الخبر (فيها) والاسم (زيد) وقد تم الاسم والخبر فلا تتأخر اللام عنهما.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن هذه اللام كان حقها أن تكون صدر الكلام ، فإذا اجتمعت هي وإن فهي أولى بالتقدمة ، وذلك أن (إن) عاملة واللام غير عاملة بل هي مانعة العمل ما قبلها فيما بعدها ، فلو رتبت (إن) على التقدم لمنعتها اللام من النصب ، وإذا رتبت اللام على التقدم لم يبطل عمل (إنّ) ، فإذا دخلت اللام على (إن) اجتمع حرفا توكيد وهما جميعا يكونان للتوكيد ، وجواب اليمين ، فأخروا اللام وهم ينوون تقديمها على (إن) وحقها أن تدخل على الاسم إذا صار بينه وبين (إن) فاصل ، كقولك إن في الدار لزيدا ، فإذا لصق الاسم بأنّ أدخلوها على الخبر ، ولا رتبة لشيء سوى الاسم والخبر ؛ لأن ما سواهما لغو لا يعتد به ؛ فلذلك لم يجز إنّ زيدا فيها لقائما ، ولو جاز هذا لجاز إن زيدا ضارب لعمرا. ولو جاز دخول اللام متأخرة عن رتبتها على غير الترتيب الذي ذكرناه لجاز زيد فيها لقائما في لام الابتداء ؛ لأنّا نقول : لزيد فيها قائما في لام الابتداء. ولفيها زيد قائما.

وكان أبو العباس محمد بن يزيد لا يرى أن يعيد اللام مرتين ؛ لأنهما لام واحدة ، ولا يجيز : إن زيدا لفي الدار قائم ، ولا يكرر اللام إذا كان المعنى واحدا. وأجاز أبو إسحاق الزجاج : إن زيدا لفي الدار لقائم ، واحتج بقوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ)(٢) قال : وهو عندي بمنزلة مررت بالقوم كلهم أجمعين ، وليس في الآية حجة لأبي إسحاق ؛ لأن اللام في لمّا لام (إن) واللام في ليوفينهم لام يمين ، وليست اللام في

__________________

(١) ديوانه ٧٨ ، الإنصاف ٤٠٤ ، ابن يعيش ٨ / ٦٥.

(٢) سورة هود ، الآية : ١١١.


ليوفينهم لام (إن) وإنما هي بمنزلة يمين مستأنفة. وقول أبي العباس في هذا أقوى.

وروى الخليل أن ناسا يقولون إن بك زيد مأخوذ على حذف الهاء من أنه بك زيد مأخوذ ، وشبهه بما يجوز في الشعر ؛ نحو قوله وهو ابن صريم اليشكري :

ويوما توافينا بوجه مقسم

كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم (١)

أي كأنها ظبية. وقال الآخر :

ووجه مشرق النحر

كأن ثدياه حقان (٢)

لأنه لا يحسن هاهنا إلا الإضمار. وزعم الخليل أن هذا يشبه قول من قال وهو الفرزدق :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكن زنجيّ عظيم المشافر (٣)

والنصب أكثر في كلام العرب ، كأنه قال ولكن زنجيّا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي.

قال أبو سعيد : من نصب حذف الخبر ، وهو لا يعرف قرابتي ، فإنما صار النصب أكثر وأولى ؛ لأن إظهار ما هو الأصل المبني أولى إذا فهم المحذوف ، ومن رفع حذف الاسم ويكون تقديره : ولكنك زنجي ، وجاز الوجهان كما يجوز في باب الابتداء حذف الاسم مرّة وحذف الخبر مرّة ، وقد مضى نحوه ومثله ب الحذف قوله :

فلو كنت ضفاطا ولكن طالبا

أناخ قليلا فوق ظهر سبيل (٤)

أي ولكن طالبا منيخا أنا ، فالنصب أجود ؛ لأنه لو أراد إضمارا لخفف ، ولجعل المضمر مبتدأ ؛ كقولك : ما أنت صالحا ولكن طالح ، ورفعه على قوله : ولكن زنجي ، والضفاط الذي يحمل طعامه إلى مكان فيبيعه ، وقال الراجز :

يا أيها المجحدل الضفاط

كيف تراهن بذي أراط (٥)

__________________

(١) البيت في الكتاب ١ / ٢٨١ ، ابن يعيش ٨ / ٨٣ ، المغني للبغدادي ١٥٨ ، الدرر ١ / ١٢١.

(٢) الكتاب ١ / ٢٨١ ، ابن يعيش ٨ / ٨٢.

(٣) في ديوانه ٤٨١ ، الكتاب ١ / ٢٨٢ ، ابن يعيش ٨ / ٨٢.

(٤) البيت في الكتاب ١ / ٢٨٢ ، اللسان (ضفط). ونسبه ابن السيرافي إلى الأخضر بن هبيرة الضبي ٢ / ١٦.

(٥) لم يستدل له على قائل ، وورد الشطر الثاني في اللسان (أرط).


والمجحدل الذي يكري إبله ، والمجحدل الذي قد ملأ قربته أيضا ، ويقال للذي يبل الجلد إذا كان يابسا قد ضفّطه يضفّطه ضفاطة.

وأخبرنا أبو بكر بن دريد (١) أن الضفاطة لعاب الدف. قال : وأما قول الأعشى :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (٢)

فإن هذا على إضمار الهاء ، لم يحذفوا لأن يكون الحذف يدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكنّ ، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار ، وجعلوا الحذف علما لحذف الإضمار في (إنّ) كما فعلوا ذلك في (كأنّ).

قال أبو سعيد : (أنّ) المفتوحة المشددة إذا خففت ووليها ما يقوم بنفسه من مبتدإ وخبر وفعل وفاعل ، أو نحو ذلك ، فإنّ اسمها محذوف ، وجعلوا الحذف علما لحذف الإضمار في (إن) كما فعلوا ذلك في (كأنّ) وليست بمنزلة (إن) المكسورة و (لكن) المشددة ؛ لأن (إن) المكسورة و (لكنّ) يدخلان على المبتدإ فينصبانه ، ولا يغيران معنى المبتدإ ، فإذا خفضت أو أبطل عملها صار الاسم بعدهما مرفوعا بالابتداء ولا يحتاج فيهما إلى تقدير اسم لهما محذوف ؛ كقول الله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣) وقوله عزوجل : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ)(٤) كأنه قال : وكل جميع لدينا محضرون ، والله يشهد بما أنزل إليك ، وليست أنّ المفتوحة كذلك ؛ لأنها في صلة شيء قبلها ، ولا يبتدأ بها ، وليس الاسم بعدها في موضع مبتدإ ، فتسقط هي في التقدير. ألا ترى أن قوله عزوجل : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى)(٥) لو أسقطت (أنّ) لم يصلح : علم سيكون منكم مرضى. وكذلك قوله :

 ... قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل

__________________

(١) أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي ، اكتسبت مدرسة البصرة شهرتها منه ، توفي بها عام ٣٢١ ه‍ ، الجمهرة ٣ / ٣٠.

(٢) رواية البيت في ديوانه : أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل.

والبيت في ابن يعيش ٨ / ٧٤ ، والكتاب ١ / ٢٨٢ ، والدرر ١ / ١١٩.

(٣) سورة يس ، الآية : ٣٢.

(٤) سورة النساء ، الآية : ١٦٦.

(٥) سورة المزمل ، الآية ٢٠.


لو أسقطت (أن) لم يرفع كل من يحفى وينتعل ، وكأن كذلك لما تضمنته من معنى التشبيه ، والكاف داخلة على (أن) وليس كذلك (إن) المكسورة ؛ ولكن لأنهما لا يقع عليهما شيء قبلهما ، وقال : وأما ليتما زيد منطلق ، فإن الإلغاء فيه حسن ، وقد كان رؤبة بن العجاج ينشد هذا البيت رفعا ، وهو قول النابغة الذبياني :

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد (١)

فرفعه على وجهين : على أن يكون بمنزلة قول من قال : ما بعوضة أو يكون بمنزلة قولك : إنما زيد منطلق.

قال أبو سعيد : أحد وجهي الرفع أن تجعل (ما) بمنزلة (الذي) كأنه قال فيا ليت الذي هو هذا الحمام لنا ، وكذلك مثلا الذي هو بعوضة ، والوجه الآخر أن تجعل (ما) كافة للعامل مثل : إنما زيد منطلق ، وليست باسم ، و (لعلّما) بمنزلة (كأنما). وقال ابن كراع العكليّ :

تحلل وعالج ذات نفسك وانظرن

أبا جعل لعلّما أنت حالم (٢)

وجعل (ما) كافة يغير معناها ؛ لأنك إذا قلت إنما زيد البزاز تقلل أمره وكأنك تسلبه ما يدعى له غير البز ، وليس الأمر في سائر الحروف كذلك ، ولم تعمل (إنما) فيما بعدها ؛ لأن ما أبطلت عملها ، ونظيرها من الفعل أرى إذا جعلت لغوا في المواضع التي يلغى فيها أظن وأحسب ونحوهما ونطير (إنما) في إبطال عمل (إن) قول المرار الفقعسي :

أعلاقة أمّ الوليد بعد ما

أفنان رأسك كالثغام المخلس (٣)

فأبطلت ما إضافة (بعد) إلى (أفنان) فصار بعد ما بمنزلة حيث وإذ ، فهما ظرفان تفسرهما الجمل بعدهما ، واعلم أنّ (إنّ) إذا خففت كان لها مذهبان ؛ أحدهما : أن يبطل عملها ويليها الاسم والفعل جميعا وتلزمهما اللام فرقا بين إن إذا كانت للجحد بمعنى ما وبين (إن) إذا كانت للإيجاب والتحقيق ، وذلك قولك في الإيجاب : إن زيد لذاهب وإن عمرو لخير منك ، ومثله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٤) إنما هي لعليها و (وَإِنْ كُلٌ

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٨ / ٥٨ ، الكتاب ، ١ / ٢٨٢.

(٢) البيت في الكتاب ١ / ٢٨٣ ، وابن يعيش ٨ / ٥٨.

(٣) البيت في الكتاب ١ / ٢٨٣ ، المقتضب ٢ / ٥٤ ، وشواهد المغني ٢٤٦ ، تاج العروس (فنن).

(٤) سورة الطارق ، الآية : ٤.


لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(١) إنما هي لجميع ، وما لغو في الآيتين. وقال في دخولها على الفعل : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(٢) و (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ)(٣) والمذهب الآخر في (إنّ) إذا خففت أن لا يبطل عملها وتكون بمنزلة فعل سقط بعض حروفه وبقي عمله ، كقولك : لم يك زيد منطلقا ، ولم أنل زيدا ، ومثله قراءة أهل المدينة (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١] كما قالوا : كأن ثدييه حقان.

قال : وحدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول إن عمرا لمنطلق ، وإذا عملت لم يلزمها دخول اللام ؛ لأنها كالمشددة وزال اللبس بينها وبين (إن) التي بمعنى (ما) ولم يلها الفعل ، ويجوز أن تقول إن زيدا منطلق وإن كلا قائم ، والأكثر في المخففة أن يبطل عملها ؛ لأنها كانت تعمل بلفظها ، وفتح آخرها ، وقد بطل اللفظ الذي كانت تعمل به ، والفعل يعمل بمعناه وإن نقص لفظه ، وقد جاء التخفيف والإعمال في المفتوحة وأنشدوا :

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني

فراقك لم أنجل وأنت صديق (٤)

وليس هذا بالجيد ولا بالكثير كالمكسورة.

هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة

لإضمارك ما يكون مستقرا لها ، وموضعها لو أظهرته وليس هذا المضمر بنفس المظهر ، وذلك إنّ مالا وإنّ ولدا وإنّ عددا ؛ أي أن لهم مالا ، فالذي أضمرت لهم. ويقول الرجل للرجل هل لكم أحد؟ إن الناس عليكم ، فيقول : إن زيدا وإنّ عمرا أي إن لنا.

وقال الأعشى :

أن محلا وإن مرتحلا

وإن في السفر إذ مضى مهلا (٥)

قال أبو سعيد : ويروى إنّ للسفر ما مضى ، ومعناه إن لنا محلا يعني في الدنيا إذا

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٣٢.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٠٢.

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ١٨٦.

(٤) البيت في ابن يعيش بلا نسبة ٨ / ٧٣ ، والهمع ١ / ١٤٣ ، شرح شواهد المغني للسيوطي ٣٩.

(٥) البيت في ابن يعيش ١ / ١٠٤ ، والكتاب ١ / ٢٨٣ ، والمقتضب ٤ / ١٣٠.


عشنا وإنّ لنا مرتحلا إلى الآخرة إذا فنينا. ويقال إنّ في الدنيا محلا ومرتحلا إلى الآخرة إذا فنينا ، والسفر : المسافرون يعني به من مات.

وقال أبو عمرو مهلا مهلة لمن بقي بعدهم ؛ أي يستعد ويصلح من شأنه. وقال أبو عبيدة : إنّ مقيما وإنّ مسافرا ، وإن في السفر إذ مضى مهلا. قال ذهابا لا يرجعون ، وقيل إن للسفر : يريد من قدم لآخرته فاز وظفر ، والمهل : السبق. والذي عند سيبويه أنّ الخبر محذوف ، وهو مستقر كنحو ما قدرناه وذكرناه.

وقال الفراء : إنما تحذف مثل هذا إذا كررت (إن) لتعرف أن أحدهما مخالف للآخر عند من يظنه غير مخالف. ويحكى أنّ أعرابيّا قيل له الذبابة الفارة ، فقال : إن الذبابة وإنّ الفارة. قال : وتقديره إن الذبابة ذبابة وإن الفارة فارة ، ومعناها إنّ هذه مخالفة لهذه. والخلاف الذي بين الاسمين يدل على الخبر. قال والفائدة أن المحل خلاف المرتحل ، وأنشد أصحابنا في الواحد الذي لا مخالف معه قول الأخطل :

خلا إنّ حيّا من قريش تفضلوا

على الناس أو أنّ الأكارم نهشلا (١)

وقد اطرد الحذف في (لا) كقولنا لا حول ولا قوة إلّا بالله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. والتقدير : لا حول لنا ولا قوة. والفراء قائل بهذا الحرف. فهذا شاهد لذلك.

وذكر سيبويه من المحذوف : إن غيرها إبلا وشاة ، اسم إنّ (غيرها) والخبر (لنا) وهو محذوف. وإبلا وشاة منصوب على التمييز أو الحال ؛ كقوله : ما في الناس مثله فارسا. ومثل ذلك قول الشاعر :

يا ليت أيام الصبى رواجعا (٢)

تقديره : يا ليت لنا أيام الصبى ، أو يا ليت أيام الصبى أقبلت رواجعا ، ورواجعا منصوب على الحال ، وهو كقوله : ألا ماء باردا ، ومعناه ألا ماء لنا باردا. وتقول إن قريبا منك زيدا إذا جعلت قريبا منك موضعا ، أي أن في مكان قريب منك زيدا ، وإذا جعلت الأول هو الآخر قلت إن قريبا منك زيدا. أردت من القرابة أو القرب كأنك قلت : إن رجلا قريبا منك زيد ، وهو مستعمل ؛ لأنه قد قربته من المعرفة بدخول منك ، ومثله : إنّ بعيدا منك زيد ، يريد أن رجلا بعيدا منك زيد. إما في بعد النسب أو بعد المذهب

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ١ / ١٠٤ ، والخصائص ٢ / ٣٧٤ ، المقتضب ٤ / ١٣١ ، وتاج العروس (نهشل).

(٢) الرجز لرؤبة في ابن يعيش ١ / ١٠٤ ، والكتاب ١ / ٢٨٤.


والأخلاق أو بعد المكان. والوجه إذا أردت هذا أن تقول إنّ زيدا قريب منك أو بعيد ؛ لأنه اجتمع معرفة ونكرة ، فالأولى أن يكون الاسم هو المعرفة. وقال امرؤ القيس :

وإنّ شفاء عبرة مهراقة

فهل عند رسم دارس من معول (١)

فهذا أحسن لأنهما نكرة.

قال : " وإن شئت قلت إنّ بعيدا منك زيدا ، وقلما يكون بعيدا منك ظرفا ، وإنما قلت لأنك لا تقول إنّ بعدك زيدا ، وتقول إن قربك زيدا ، فالدنو أشد تمكنا في الظروف من البعد".

قال أبو سعيد : إنما صار الدنو أشد تمكنا ؛ لأن الظروف موضوعة على القرب أو على أن تكون ابتداؤها من قرب ، فأما الموضوع على القرب ف (عند) و (لدن) وما كان في معناهما كقولك زيد عندك. وأما ما لا يكون ابتداءه من قرب فالجهات المحيطة بالأشياء كخلف وقدام ويمنة ويسرة وفوق وتحت ؛ لأنّا إذا قلنا زيد خلف عمرو فهو مطلوب خلفه من أقرب ما يليه إلى ما لا نهاية له ، والبعد لا نهاية له ، ولا حدّ لأوله معلوم ؛ كعلم حدود الجهات الست ، ويقوى ويكشفه أنّا إذا قلنا قربك زيد طلبه المخاطب فيما قرب منه ، وذلك ممكن مفهوم ، كما تقول عندك زيد ، وإذا قلنا خلفك زيد ابتداء بما يليه من خلفه واستقراه طلبا له. وإذا قلنا بعدك زيد لم يكن ذاك فيه.

قال : " وزعم يونس أن العرب تقول إنّ بدلك زيدا أي أنّ مكانك زيدا ، والدليل على هذا قول العرب هذا لك بدل هذا ؛ أي هذا لك مكان هذا ، وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إنّ بدلك زيد أي إنّ بديلك زيد".

لأنّ البدل يستعمل في موضع مكان والبديل هو الإنسان.

قال : " وتقول إنّ ألفا في دراهمك بيض ، وإن في دراهمك ألفا بيض ، فهذا يجري مجرى النكرة في (كان) و (ليس) ؛ لأن المخاطب يحتاج إلى أن تعلمه هذا ، كما يحتاج إلى أن تعلمه في قولك : ما كان أحد فيها خيرا منك ، وإن شئت جعلت فيها مستقرا وجعلت البيض صفة".

يعني أن النكرة قد تكون اسم إن إذا كانت فيها فائدة ، كما كانت اسم (كان) و (ليس) ويجوز : أن في دراهمك ألفا بيضا ، إذا جعلت في دراهمك هي الخبر.

__________________

(١) البيت في ديوانه ٩٠ ، والكتاب ١ / ٢٨٤.


قال : " واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هاهنا مثله في باب كان ، ومثل ذلك قولك : إنّ أسدا في الطريق رابضا ، وإنّ بالطريق أسد رابض ، وإن شئت جعلت بالطريق مستقرا ثم وصفته بالرابض ، فهذا يجري هاهنا مجرى ما ذكرت لك من النكرة في باب كان".

قال أبو سعيد وهذا كله مفهوم.

هذا باب ما يكون محمولا على إن

فيشاركه فيه الاسم الذي وليها ، ويكون محمولا على الابتداء ، فأما ما حمل على الابتداء فقولك : إن زيدا ظريف وعمرو ، وإن زيدا منطلق وسعيد ، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين ؛ فأحد الوجهين حسن والآخر ضعيف ، فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولا على الابتداء ؛ لأن معنى إن زيدا منطلق معنى زيد منطلق ، وإن دخلت توكيدا ، كأنه قال زيد منطلق وعمرو في الدار. وفي القرآن مثله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)(١) وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولا على الاسم المضمر في المنطلق والظريف ، فإن أردت ذلك فأحسنه أن تقول : منطلق هو وعمرو ، وإن زيدا ظريف هو وعمرو ، وإن شئت جعلت الكلام على الأول ، فقلت إن زيدا منطلق ، وعمرا ظريف ، فجعلته على قوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ)(٢) وقد رفعه قوم على قولك لو ضربت عبد الله وزيد قائم ؛ أي لو ضربت عبد الله وزيد في هذه الحال كأنه قال عزوجل : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر بعد أمده ما نفدت كلمات الله.

وإنما أحوج سيبويه إلى أن يفسر رفع البحر بالحال ؛ لأن حمل رفع البحر على موضع (أنّ) لا يحسن ؛ لأنّ (لو) لا يليها الابتداء ، وقال رؤبة :

إنّ الربيع الجود والخريفا

يدا أبي العباس والصيوفا (٣)

قال أبو سعيد : فأما حمل المعطوف على الابتداء فهو كلام جيد قويّ ، وذلك أنّا لو

__________________

(١) سورة التوبة ، من الآية : ٣.

(٢) سورة لقمان ، من الآية : ٢٧.

(٣) ديوانه ١٧٩ ، والمقتضب ٤ / ١١١ ، والتصريح ١ / ٢٢٦.


جئنا بمبتدإ وخبر بعد اسم إنّ وخبره وجعلنا جملة معطوفة على جملة لكان كلاما جيدا.

لا ضعف فيه كقولنا : إن زيدا مقيم ، وعمرو خارج ، كأننا قلنا زيد خارج وعمرو مقيم ، فإذا كان خبر أحدهما مثل خبر الآخر اكتفي بأحد الخبرين ، كقولنا زيد مقيم وعمرو ، وإن زيدا مقيم وعمرو ، فيعلم أن خبر الثاني مثل خبر الأول ويطرح اكتفاء بالأول ، وأما استشهاده بالقرآن : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) فهو في الظاهر وهم منه ومن كل من استشهد به من النحويين ؛ لأنهم يردون الاسم على موضع (إنّ) على أنها مكسورة ، والذي في القرآن (أن) مفتوحة لأنه قال تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)(١) ورفع رسوله على وجهين جيدين ؛ أحدهما : أنّ أذان إعلام. يقول : ولو قيل وأذان من الله ورسوله إلى الناس : الله بريء من المشركين ورسوله ، أو إن الله بريء من المشركين ورسوله لكان جيدا ؛ لأن معناه : وقول من الله ورسوله : الله بريء أو إن الله بريء من المشركين ، والوجه الآخر أن تعطف ورسوله على الضمير الذي في بريء ، ويكون ذلك حسنا لفصل (من المشركين) بينهما ، كما حسن العطف في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)(٢) للفصل ب (لا) وقد ذكر هذا في غير هذا الموضع.

قال : " و (لكنّ) المثقلة في جميع الكلام بمنزلة (إنّ) وإذا قلت إن فيها زيدا وعمرو ، جرى عمرو بعد (فيها) مجراه بعد الظرف ؛ لأن (فيها) في موضع الظرف ، وفيها إضمار ، ألا ترى أنك تقول إن قومك أجمعون وإن قومك فيها كلهم ، كما تقول إن قومك عرب أجمعون ، وفيها اسم مضمر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت : إن قومك ينطلقون أجمعون. قال جرير :

إنّ الخلافة والنبوة فيهم

والمكرمات وسادة أطهار (٣)

فإذا قلت إنّ زيدا فيها وإن زيدا يقول ذاك ، ثم قلت نفسه فالنصب أحسن ، وإن أردت حمله على المضمر فعلى هو نفسه ، وإذا قلت إنّ زيدا منطلق لا عمرو فتفسيره كتفسيره مع الواو ، وإذا نصبت فتفسيره كتفسيره مع الواو ؛ وذلك قولك : إنّ زيدا منطلق لا عمرا".

__________________

(١) سورة التوبة ، من الآية : ٣.

(٢) سورة الأنعام ، من الآية ١٤٨.

(٣) البيت غير موجود في ديوان جرير ، وهو من شواهد العيني ٢ / ٢٦٣ ، وابن يعيش ٨ / ٦٦.


قال أبو سعيد : اعترض أبو العباس على سيبويه في قوله ، و (لكنّ) المثقلة في جميع الكلام بمنزلة (إنّ) فقال نحن ندخل اللام في خبر (إنّ) ولا ندخلها في خبر (لكن) لا تقول لكن زيدا لقائم ، كما تقول إنّ زيدا لقائم ، والذي أراده سيبويه أن (لكن) بمنزلة (إن) في العطف الذي ساق الكلام عليه. وسياقه للكلام يدل على إرادته ، وإنما لم تدخل اللام على (لكن) ؛ لأنها لاستدراك شيء مما قبلها ، ولا تقع في أول الكلام و (إنّ) تدخل في أول الكلام ، واللام تقدر قبلها ، فخالفت (لكنّ) (إنّ) في دخول اللام لهذا المعنى ، ومما يتضمنه الظرف من الضمير الذي يؤكد ب (كلهم) و (أجمعين) شيء مفهوم وقد ذكرناه في مواضع ؛ لأن في الظرف معنى استقر الذي هو فعله ونفسه ، إذا كان توكيدا للاسم الظاهر المنصوب فهو جيد لا يحتاج إلى غيرها ، وإذا كان توكيدا للضمير المرفوع فهو يحتاج إلى تقدمة ضمير قبل النفس ، كقولك إنّ زيدا فيها نفسه ، وأما بيت جرير فالشاهد فيه رفع المكرمات وسادة أطهار ، على أن زيدا فيها وعمرو.

قال : " واعلم أنّ لعل وكأن وليت كلهن يجوز فيهن جميع ما جاء في (إنّ) إلا أنه لا يرفع بعدهن شيء على الابتداء ، ومن ثم اختار للناس : ليت زيدا منطلق وعمرا ، وضعف عندهم أن يحملوا عمرا على المضمر حتى يقولوا هو ، ولم تكن (ليت) واجبة ولا (لعل) ولا (كأن) فقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع التمني ، فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه و (لكنّ) بمنزلة (إنّ) وتقول إنّ زيدا فيها لا بل عمرو ، وإن شئت نصبت. و (لا بل) تجري مجرى (الواو) و (لا) ".

قال أبو سعيد : حمل المعطوف على هذه الحروف على الابتداء يغير المعنى الذي أحدثته هذه الحروف من التمني والتشبيه والترجي ؛ فلذلك لم يحملوه على الابتداء ، ألا ترى أنّا لو قلنا ليت زيدا منطلق وعمرو مقيم على عطف جملة على جملة كان عمرو مقيم خارجا عن التمني ، ولك أن تعطف الاسم على الضمير الذي في الخبر إذا أكّدته إذ كان ما بعده عوضا من التأكيد ، ولا نخرج عن معنى الأول ؛ كقولك ليت زيدا خارج هو وعمرو.

هذا باب تستوي فيه هذه الحروف الخمسة

وذلك قولك إنّ زيدا منطلق العاقل اللبيب ، فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين ؛ على الاسم المضمر في منطلق ، كأنه بدل منه ، فيصير كقولك مررت به زيد ، إذا أردت جواب بمن مررت ، فكأنه قيل له من ينطلق فقال زيد ، وإن شاء رفعه على


مررت به وزيد إذا كان جواب من هو؟ فقال : العاقل اللبيب ، وإن شاء نصبه على الاسم الأول المنصوب. وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(١) (علام الغيوب) ".

قال أبو سعيد : رفع العاقل اللبيب على البدل من الضمير في منطلق ، وعلى إضمار هو ، ويجوز ذلك في (ليت ولعل وكأن) على الوجهين ؛ كقولك : ليت زيدا منطلق العاقل اللبيب. وأما الآية فيجوز فيها الرفع من هذين الوجهين.

وقال بعض النحويين يجوز الرفع فيها بالنعت ل (ربي) على موضع (إنّ) من الابتداء ، كأنه قال : ربي علام الغيوب يقذف بالحق. والنصب على وجهين ؛ على النعت ل (ربي) وعلى المدح بإضمار اذكر ونحوه.

هذا باب ينتصب فيه الخبر بعد الحروف الخمسة

انتصابه إذا كان ما قبله مبنيّا على الابتداء ؛ لأن المعنى واحد في أنه حال وأن ما قبله قد عمل فيه ومنعه الاسم الذي قبله أن يكون محمولا على (إنّ) وذلك قولك إن هذا عبد الله منطلقا. وقال تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً)(٢) وقد قرأها بعض الناس : (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) حمل أمتكم على هذه ؛ كأنه قال إن هذه كلها أمة واحدة ، وتقول إنّ هذا الرجل منطلق ، ويجوز في المنطلق ما جاز فيه حين قلت هذا الرجل منطلق ، إلا أن الرجل هنا يكون خبرا للمنصوب وصفة له ، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدإ وخبرا له ، وكذلك إذا قلت ليت هذا زيد خارجا ، ولعل هذا زيد ذاهبا ، وكأن هذا بشر منطلقا ، إلّا أنّ معنى (إنّ ولكن) واجبتان كمعنى هذا عبد الله منطلقا ، وأنت في (ليت) تتمناه في الحال ، وفي (كأن) تشبهه إنسانا في حال ذهابه ، كما تمنيته إنسانا في حال قيامه ، فإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب ، فلعل وأخواتها قد عملن فيما بعدهن عملين : الرفع والنصب ، كما أنك حين قلت ليس هذا عمرا وكان هذا بشرا ، عملتا عملين ؛ رفعتا ونصبتا ، كما قلت ضرب هذا زيدا ، فزيد انتصب بضرب ، وهذا ارتفع بضرب ، ثم قلت : أليس هذا زيدا منطلقا فانتصب المنطلق ؛ لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب كما انتصب في (إنّ) وصار بمنزلة

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية ٤٨.

(٢) سورة الأنبياء ، من الآية ٩٢.


المفعول الذي تعدى إليه فعل الفاعل بعد ما تعدى إلى مفعول قبله ، وصار كقولك : ضرب عبد الله زيدا قائما في التقدير ، وليس مثله في المعنى".

قال أبو سعيد : دخول (إنّ ولكنّ) على هذا عبد الله منطلقا لم يغير النصب الذي تعمله هذا في (منطلقا) ؛ لأنهما ينصبان الاسم ويرفعان الخبر ، كما كان الابتداء يرفعهما ، وعمل هذا بتأويل الإشارة وللتنبيه غير مختلف.

وأما (ليت ولعل وكأن) فإنهن يجرين مجرى (إنّ ولكنّ) في نصب (منطلقا) على ما كان في الابتداء قبل دخولهن ، ويجوز أن يعملن النصب في (منطلقا ـ قائما) بما فيهن من معاني الأفعال ، فإذا قلت ليت هذا زيد قائما جاز أن يكون قائما منتصبا بهذا ، وجاز أن يكون منتصبا ب (ليت) كأنك قلت أتمناه في هذه الحال ، وإذا قلت لعل هذا زيد منطلقا ، كأنك قلت أترجاه منطلقا ، وإذا قلت كأن هذا زيد منطلقا ، كأنك شبهته في هذه الحال ، وقد جعلهن سيبويه يعملن بعملين : نصب الاسم ورفع الخبر ك (ليس وكان) في رفع الاسم ونصب الخبر ، فإذا نصبت (ليت ولعل وكأن) الحال بعد عملهن في الاسم كان بمنزلة ما يرفع الفاعل وينصب المفعول من الأفعال ، ثم تنصب الحال.

ولو قلت إنّ زيدا أخوك قائما في البيت ، أو أتى زيد قائما لم يجز ؛ وكذلك (لكنّ) كما لم يجز ذلك في الابتداء ، ولو قلت ليت زيدا أخوك قائما ، أو ليتني زيد قائما ، أو كأني زيد قائما ، أو لعلّي زيد قائما جاز لما فيهن من معنى الفعل.

قال : " وتقول إنّ الذي في الدار أخوك قائما ، كأنه قال من الذي في الدار فقال إنّ الذي في الدار أخوك قائما ، فهو يجري في (إن ولكن) في الحسن والقبح مجراه في الابتداء ، وإن قبح في الابتداء أن يذكر المنطلق قبح هاهنا ، وإن حسن أن يذكر المنطلق حسن هاهنا ، وإن قبح أن يذكر الأخ في الابتداء قبح هاهنا ؛ لأن المعنى واحد ، وهو من كلام واجب ، وأما في (ليت وكأن ولعل) فتجري مجرى الأول ، ومن قال إن هذا أخاك منطلق قال إنّ الذي رأيت أخاك ذاهب ، ولا يكون الأخ صفة للذي ؛ لأن أخاك أخص من الذي ، ولا يكون له صفة ، من قبل أن زيدا لا يكون صفة لشيء".

قال أبو سعيد : أما قوله إنّ الذي في الدار أخوك قائما ، فعلى هذا الظاهر لا يجوز إذا أردت به أخوة النسب ؛ لأنك إذا نصبت قائما ب (أخوك) لم يجز كما لا يجوز زيد أخوك قائما في النسب ، وإن نصبت قائما بالظرف على تقدير إن الذي في الدار قائما


أخوك صار قائما في صلة الذي ولم يجز أن تفصل بين الصلة والموصول ب (أخوك) وهو خبر ، وإن جعلت أخوك في معنى المؤاخاة والمصادقة وجعلته هو العامل في قائما جاز ، وإن حملته على مثل قولك أنا زيد منطلقا في حاجتك ، إذا كان قد عهده قائما قبل هذه الحال جاز كما يجوز مثله في الابتداء ، وربما جاء في الشعر بما يظهر في لفظه الفصل بين الصلة فيحمله النحويون على غير الفصل ، وقد يتخرج على غير الذي قالوه ، فمن ذلك قول الأخطل :

إنّ العرارة والنبوح لدارم

والمستخفّ أخوهم الأثقالا (١)

على نصب المستخف باسم إنّ وعلى رفعه بالابتداء والاستئناف ، فأسهل وجوهه في المعنى أن يكون المستخفّ بمعنى الذي استخف ، والأثقال مفعول المستخف ، وأخوهم خبره ، وفي المستخف ضمير فاعل يعود إلى الألف واللام فيه ، وهم في (أخوهم) تعود إلى دارم ؛ لأنهم قبيلة ، فجعلوا الأثقال خارجا عن الصلة ومنصوبا بفعل مضمر بعد (أخوهم) ، كأنه قال : والمستخف أخوهم ، ثم أضمر يستخف ، وقال بعض النحويين في المستخف ضمير يجعل أخوهم بدلا منه ، وكلّ قدر الألف واللام بتقدير الذي ، وأخوهم واحد ، وأسهل من ذلك عندي أن نجعل الألف واللام في المستخف بتقدير الذين ، وهم في أخوهم تعود إلى الألف واللّام ، وأخوهم فاعل المستخف والأثقال مفعول به ، والمعنى : وإنّ لدارم القوم الذين يستخف بعضهم الأثقال ؛ أي فيهم قبيلة بعضها الأثقال ، ومنه قول الكميت :

كذلك تلك وكالناظرات

صواحبها ما يرى المسحل (٢)

شبه ناقته بعير آتن ، وشبه صواحب ناقته من الإبل بآتن العير ، وتقديره كذلك العير ناقته ، وهي المشار إليها بتلك ، وصواحبها كالناظرات ما يرى المسحل ، وما يرى المسحل مفعول الناظرات ، وصواحبها مبتدأ ، وفصل بين الناظرات وما عملت فيه بصواحبها ، ومعنى الناظرات المنتظرات ما يعمل المسحل وهو العير ، فيعملن مثله بجعل الموصول قد تم بالناظرات وبجعل ما يرى المسحل خارجا من الصلة ، محمولا على فعل دل عليه ما تقدم ، و (ما يرى) ليس بمنصوب بالناظرات ، ولكنه كأنه قال : وصواحبها كالناظرات ، ثم أضمر ينظرن لدلالة الناظرات عليه.

__________________

(١) ديوانه ٥١ ، واللسان (عرر) ، وتاج العروس (نبح).

(٢) البيت في ديوانه ٢ / ٣٥ ، والخصائص ٢ / ٤٠٤.


قال : " وسألت الخليل عن قول الأسدي :

إنّ بها أكتل أو رزاما

خويربين ينقفان الهاما

فزعم أن خويربين نصب على الشتم كما انتصب (حمالة الحطب) على الشتم و (النازلين بكل معترك) على التعظيم".

قال أبو سعيد : وقد مضى الكلام في نصب الشتم والتعظيم في بابهما ، وقد أنشد سيبويه في هذا الموضع أبياتا فيها ما ينتصب على الشتم ، وفيها ما ينتصب على الشتم والتعظيم من النكرات ، وأنا أذكر الأبيات وتفسيرها قد انطوى فيما ذكرته في باب الشتم والتعظيم وقبل هذين البيتين :

ائت الطريق واجتنب أرماما

إن بها أكتل أو رزاما

خويربين ينقفان الهاما

لم يدعا لسارح مقاما (١)

أكتل ورزاما لصان كانا يقطعان الطريق ينقفان هام من يمر بهما. وقال الشاعر :

أمن عمل الجراف أمس وظلمه

وعدوانه أعتبتمونا براسم

أميري عداء إن حبسنا عليهما

بهائم مال أوديا بالبهائم (٢)

أميري عداء لا يصلح بدلهما من الجراف وراسم ، وهما الأميران الظالمان العاديان ؛ لأن الجراف مجرور بإضافة عمل إليه ، وراسم مجرور بالباء ، وهي في صلة أعتبتمونا ولا تعلق للجراف به ، فدعت الضرورة إلى نصب أميري عداء على الشتم ، ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق :

ولكنني استبقيت أعراض مازن

وأيامها من مستنير ومظلم

أناسا بثغر لا تزال رماحهم

شوارع من غير العشيرة في الدم (٣)

ومما ينتصب لأنه عظيم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدي :

__________________

(١) الرجز لرجل من بني أسد في الأشموني ٣ / ١٠٧ ، والمخصص ١٢ / ٢٩٤ ، والمقتضب ٤ / ٣١٥ ، واللسان (كتل). وأرمام : جبل في ديار باهلة. وخويربين تثنية خويرب تصغير خارب وهو اللص ، والنقف : كسر الهامة حتى تخرج دماغه.

(٢) البيتان في اللسان وتاج العروس (جرف) منسوبان لعبد الرحمن بن جهيم من بني أسد ، الكتاب ١ / ٢٣٨.

(٣) في ديوانه ص ٨٢١ ، والرواية فيه :

لأيامها ...

أناس بثغر ما تزال ...


ولم أر ليلى بعد يوم تعرضت

لنا بين أثواب الطراف من الأدم

كلابية وبرية حبترية

نأتك وخانت بالمواعيد والذمم

أناسا عدى علقت فيهم وليتني

طلبت الهوى في رأس ذي زلق أشم (١)

وقول الآخر :

ضننت بنفسي حقبة ثم أصبحت

لبنت عطاء بينها وجميعها

ضبابية مرية حابسية

منيخا بنعت الصيدلين وضيعها (٢)

قال : " وكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصبا ، ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح أنك لو حملت الكلام على أن تجعله حالا لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفا ، وليس هاهنا تعريف ولا تنبيه ، ولا أراد أن يوقع شيئا في حال لقبحه ولضعف المعنى".

لأنه لم يرد أن ليلي في حال ما هي كلابية وبرية حبترية ؛ لأنها أنساب لا تتغير ، وكذلك قوله ضبابية مرية حابسية ، فيحمل ذلك على تعظيم ، شأنها بهذه الأشياء الرفيعة الشريفة عندها.

قال : " وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول :

أنا ابن سعد أكرم السعدينا (٣)

بنصبه على الفخر. قال الخليل : إنّ من أفضلهم كان زيدا على إلغاء كان"

كأنه قال : إنّ من أفضلهم زيدا كان ؛ أي كان ذلك ، وإنما قيل زائدة أنها ليس لها اسم ولا خبر في الكلام المذكور على مثل قول الشاعر :

سراة بني أبي بكر تسامي

على كان المسومة العراب (٤)

وعلى مثل ما حكي من كلام بعض العرب ولدت فاطمة بنت الحرشب الكملة من بني عبس لم يوجد كان مثلهم ، ومعناه لم يوجد مثلهم وأدخل الخليل في ذلك قول الفرزدق :

__________________

(١) البيتان في الكتاب ١ / ٢٨٨.

(٢) البيتان في الكتاب ١ / ٢٨٩ ، والبيت الثاني في اللسان (صدل). ضبابية نسبها إلى الضباب وهم حي من بني عامر ، ومرة وحابس حيان منهم.

(٣) ديوانه ٩١ ، وابن يعيش ١ / ٤٧ ، والكتاب ١ / ٢٨٩.

(٤) البيت بلا نسبة في ابن يعيش ٧ / ٩٩ ، والهمع ١ / ١٢٠ ، والدرر ١ / ٨٩.


وكيف إذا رأيت ديار قوم

وجيران لنا كانوا كرام (١)

ورد بذلك أبو العباس محمد بن يزيد وزعم أن (كانوا) لها اسم وخبر واسمها الواو التي فيها وخبرها لنا التي قبلها ، كأنه قال : وجيران كانوا لنا ، والأظهر كلام الخليل ولنا من صلة جيران ، وكانوا دخولها غير مغير للكلام ، كأنه قال : وجيران لنا كرام ، وأدخل كانوا وجعل فيها ضمير الجيران ، كما يجعل في كان الموحدة ضمير ما جرى ذكره في معنى كان الأمر وخلق ، ولا تدخل شيئا من الكلام في اسم لها ولا خبر.

قال سيبويه : " إن من أفضلهم كان رجلا يقبح لأنك لو قلت : إن من خيارهم رجلا ثم سكتّ كان قبيحا حتى تعرفه بشيء أو تقول : رجلا من أمره كذا وكذا ، وقال إنّ فيها كان زيد على قولك إنه فيها كان زيد ، وإلا فإنه لا يجوز أن يحمل الكلام على إنّ".

لأنه لا بد لها من اسم ، فإذا لم يكن بعدها اسم فلا بد من إضمار الهاء ليكون اسما.

وقال : " إنّ أفضلهم كان زيد وإنّ زيدا ضربت على قوله إنه زيدا ضربت ، وأنه كان أفضلهم زيد ، وهذا قبيح وفيه ضعف وهو في الشعر جائز ، ويجوز أيضا على قوله إن زيدا ضربته وإنّ أفضلهم كأنه زيد فتنصبه على إنّ وفيه قبح ، كما كان في إنّ".

قال أبو سعيد : هذه المسائل كلها فيها حذف ما يقبح حذفه ؛ لأن قوله إن أفضلهم كان زيد ، إن نصبت أفضلهم بأن فخبر كان محذوف وتقديره إن أفضلهم كأنه زيد ، وإن نصبته بخبر كان فالهاء من إن محذوفة ، والجملة خبرها ، وتقديره أنه وهما جميعا قبيح يجوز في الشعر ، وإن زيدا ضربت ، إن نصبت زيدا بضربت فالهاء محذوفة من إن ، كأنه قال إنه زيدا ضربت ، وإن نصبت زيدا ب (إن) فالهاء محذوفة من ضربت ، كقولك زيدا ضربت في معنى ضربته ، وقد مضى الكلام في حذفها.

قال : " وسألت الخليل عن قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّ اللهَ)(٢) فزعم أنها وي مفصولة من كأن ، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم ، أو نبهوا فقيل لهم أما بشبه أن يكون ذا عندكم هكذا. والله أعلم. فأما المفسرون فقالوا : ألم تر أن الله. وقال زيد بن عمرو بن نفيل :

سألتاني الطلاق أن رأتاني

قل مالي قد جئتماني بنكر

__________________

(١) البيت في ديوانه ٨٣٥ ، والمقتضب ٤ / ١١٦ ، والكتاب ١ / ٢٨٩.

(٢) سورة القصص ، من الآية ٨٢.


وي كأن من لم يكن له نشب

يحبب ومن يفتقر يعش عيش صعر (١)

قال أبو سعيد : في (وَيْكَأَنَّ اللهَ) ثلاثة أقوال ؛ أحدها قول الخليل الذي ذكرناه تكون وي كلمة تندّم يقولها المتندم عند إظهار ندامته ، ويقولها المندم لغيره ، والمنبه له ، ومعنى «وكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده» (٢) وإن كان لفظه لفظ التشبيه فمعناه التحقيق. قال الشاعر :

وأصبح بطن مكة مقشعرّا

كأن الأرض ليس بها هشام (٣)

ومعناه : الأرض ليس بها هشام ؛ لأنه مات ، وهذا من مراثيه ، والقول الثاني قول الفراء : يكون (ويك) موصولة بالكاف ، وأن الله منفصلة من الكاف. وذكر الفراء أن معناها في كلام العرب تقرير ، كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله تعالى؟ واحتج الفراء على من قال هي (وي) ثم بعدها (كأن) ، بأنها كتبت موصولة غير مفصولة. والحجة للخليل في فصل كأن من وي وإن كانت موصولة في الخط أنه كتب في المصحف موصولا بعد ما حقه أن مفصولا كقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)(٤) ما بمعنى الذي وحقه أن يكتب مفصولا (أن ما غنمتم) وكتبت في المصحف موصولة (أنما) وكل واحد من مذهب الخليل ومذهب الفراء يتخرج على ما روي عن المفسرين ؛ لأن قوله : ألم تر تنبيه على ما قاله الخليل ، وأجاز الفراء وغيره أن يكون ويك بمعنى ويلك ، وحذفت العرب اللام لكثرتها في الكلام. وأنشد قول عنترة :

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم (٥)

قال أبو سعيد : وهذا عندي يبعد ؛ لأنه لا يقال ويلك أنّ زيدا قائم بفتح أنّ ، وإنما يقال ويلك إنّ زيدا قائم ؛ لأن ويلك منقطع مما بعده ، والقول الثالث : ما حكاه الفراء عن بعض النحويين أنه يذهب إلى أنها ويك بمعنى ويلك ، وجعل (أنّ) مفتوحة بفعل مضمر ، كأنه قال ويلك أعلم أن الله ، وأنكر الفرّاء هذا وقال ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء : يا

__________________

(١) البيتان نسبا في اللسان إلى زيد بن عمرو بن نفيل ، والدرر ٢ / ١٤٠ ، ونسب إلى أبي الأعور سعيد بن زيد في البيان والتبيين ١ / ١٦٦ ، وابن يعيش ٤ / ٧٦.

(٢) سورة القصص ، من الآية ٨٢.

(٣) البيت في الدرر ١ / ١١١ ، وشواهد المغني ١٧٤.

(٤) الأنفال ، من الآية ٤١.

(٥) البيت في ديوانه ١٢٨ ، وابن يعيش ٤ / ٧٧ ، وشواهد المغني ٢٦٩.


هذا إنّك قائم؟ وقد يحتمل أن يكون بيت عنترة أن تكون الكاف في (ويك) للخطاب ؛ مثل الكاف في رويدك.

قال : " واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون إنهم أجمعون ذاهبون ، وإنك وزيد ذاهبان ، وذلك أن معناه معنى الابتداء ، فيرى أنه قال هم كما قال :

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

وأما قوله والصابئون فعلى التقديم والتأخير ، كأنه ابتداء ، والصابئون بعد ما مضى من الخبر وقال الشاعر :

وإلّا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (١)

كأنه قال : بغاة ما بقينا وأنتم».

قال أبو سعيد : قد ذكر بعض النحويين أن الغلط إنما وقع في أنهم أجمعون ؛ لأن لفظ هم يكون للرفع في قولك هم قائمون ، وأشباه ذلك ، فتوهموا أنهم في تقدير هم أجمعون ، وجعل إنك وزيدا في معنى أنت وزيد ذاهبان ، والغلط فيه أن ذاهبان خبر الكاف في إنك ، وهو منصوب بإن وزيد وهو مرفوع بالابتداء ، وخبر إن يرتفع بغير الذي يرتفع به خبر الابتداء ، ولو قال إنك ذاهب وزيد ، كان من أجود كلام على ما بيناه ، وفي مذهب الكوفيين إنك وزيد ذاهبان جائز لا غلط فيه. أما الكسائي فإنه يجيز ذلك فيما ظهر فيه عمل (إنّ) وفيما لم يظهر فيه ؛ كقولك : إن زيدا وعمرو قائمان ، وإنك وعمرو قائمان ، وأما الفراء فإنه يجيز فيما لم يتبين فيه عمل إن كقولك إنيّ وزيد ذاهبان ، وإن الذي في الدار وزيد قائمان ، ولا يجيزه فيما يتبين فيه عمل إن ، لا يجيز إن عمرا وزيد قائمان ؛ لأنهم يزعمون أن عمل إن ضعيف ، وأنه يعمل في الاسم وحده ، وأنه لا يتخطى إلى الخبر ، وأن الخبر مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخول إنّ ، وقد بينا بطلانه.

ومن بطلان ما ادعوه في ضعف عملها أنها تعمل في الاسم ، وبينها وبين الظرف خبر أو غير خبر ؛ كقوله عزوجل : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ)(٢) فهذا يدل على قوة عمل إن والغلط في (ولا سابق شيئا) أن خبر ليس يستعمل كثيرا بالباء ، فيتوهم العاطف أنّ في الأول الباء أو يجريه على ما كان يستعمل ، كما يجري الاسم على موضع إنّه ، كأنها ليست في الكلام ، وكذلك تقول : بدا لي أني لست مدرك ما مضى ، ولا سابق على ما

__________________

(١) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه ١٦٥ ، وابن يعيش ٨ / ٧٠ ، والإنصاف ١٩٠.

(٢) سورة المائدة ، من الآية ٢٢.


كان يستعمل إذا قالوا لست بمدرك ما مضى ، وأما الصابئون ، فالذي قال سيبويه على أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصّابئون والنّصارى كذلك. وفيه وجه آخر نحو هذا غير خارج عن مذهبه ، وهو أنّ يجعل من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الآية للصابئين والنصارى خبرا وتضمر مثل الذي ظهر للذين آمنوا والذين هادوا ؛ لأنه يجوز أن تقول : زيد وعمرو قائم ، تجعل قائم خبرا لأيهما شئت.

وفي رفع الصابئون غير هذين الوجهين ، مما كرهنا الإطالة بذكره ، وفي قوله :

وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (١)

وجهان أحدهما التقديم والتأخير الذي ذكره سيبويه ، والثاني أنّا نضمر لأن خبرا محذوفا يدل عليه ما بعده ونجعل بغاة خبر أنتم ، كأنه قال : وإلا فاعلموا أنّا بغاة وأنتم بغاة ، وحذف خبر الأول اكتفاء بخبر الثاني. وقد حمله بعض أصحابنا على الغلط كأنه شبه (نا) في (أنّا) ب (نا) الذي هو ضمير الرفع في نحو قلنا : وذهبنا. فتوهم (نا) مرفوعا في أنّا لإشباهه (نا) في (قلنا) ولست أحب هذا الوجه.

هذا باب كم

" اعلم أن ل (كم) موضعين : أحدهما الاستفهام وهو الحرف المستفهم به بمنزلة كيف وأين.

والموضع الآخر : يكون فيه معناها معنى (ربّ).

وقد تكون في الموضعين اسما فاعلا ، ومفعولا ، وظرفا ، ويبنى عليها إلا أنّها لا تتصرف تصرفّ يوم وليلة ، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرف تحتك ، وخلفك ، وهما موضعان بمنزلتهما ، غير أنها حروف لم تتمكن في الكلام ، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام ، ومثل ذلك ـ في الكلام ـ كثير ، وقد ذكر فيما مضى وستراه فيما يستقبل إن شاء الله.

أما (كم) في الاستفهام إذا عملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم متصرف في الكلام منون ، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته ، ولا محمولا على ما حمل عليه ، وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين.

__________________

(١) البيت سبق تخريجه


وإذا قال لك رجل : كم لك؟ فقد سألك عن عدد ، لأن (كم) هو اسم لعدة.

فإذا قال : كم لك درهما؟ أو كم درهما لك؟ ففسرت ما يسأل عنه قلت :

عشرون درهما. فعملت في الدرهم عمل العشرين في الدرهم ولك مبنية على كم.

واعلم أن (كم) تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه ، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في (كم) لأن العشرين عدد منوّن ، وكذلك (كم) هو منون عندهم ، كما أن خمسة عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه ، لو لا ذلك لم يقولوا : خمسة عشر درهما ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا يتصرف ، وموضعه موضع اسم منون.

وكذلك (كم) موضعها موضع اسم منون ، وذهبت منها الحركة ، كما ذهبت من (إذ) لأنهما غير متمكنين في الكلام ، وذلك أنك لو قلت : كم لك الدرهم لم يجز ، كما لم يجز في قولك : عشرون الدرهم ، ولأنهم إنما أرادوا عشرون من الدراهم ، هذا معنى الكلام ، ولكنهم حذفوا الألف واللام وصيروه إلى الواحد ، وحذفوا (من) استخفافا كما قالوا : هذا أول فارس في الناس وإنما يريدون : هذا أول من الفرسان فحذف الكلام.

وكذلك (كم) إنما أرادوا كم لك من الدراهم؟

وزعم أن قولك العشرون لك درهما فيها قبح ، ولكنها جازت في (كم) جوازا حسنا ؛ كأنه صار عوضا من التمكن في الكلام ؛ لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخر فاعله ولا مفعوله ، ولا تقول : رأيت كم رجلا ، وإنما تقول : كم رجلا رأيت.

وتقول : كم رجل أتاني ، ولا تقول : أتاني كم رجل.

ولو قال : أتاك ثلاثون ـ اليوم ـ رجلا كان قبيحا ؛ لأنه لا يقوى قوة الفاعل وليس مثل (كم) لما ذكرت لك. وقال الشاعر :

على أنني ـ بعد ما قد مضى ـ

ثلاثون للهجر حولا كميلا

يذكر منك حنين العجول

ونوح الحمامة تدعو هديلا (١)

و (كم رجلا أتاك) أقوى من : (كم أتاك رجلا) ، وكم هاهنا فاعلة.

و (كم رجلا ضربت) أقوى من : (كم ضربت رجلا) ، وكم هاهنا معقولة.

__________________

(١) البيتان منسوبان لعباس بن مرداس في الخزانة الشاهد ٢١٦ ، ابن يعيش ٤ / ١٣٠ ، العيني ٤ / ٤٨١.


وتقول : كم مثله لك ، وكم خيرا منه لك ، وكم غيره لك ، كلّ هذا جائز حسن ؛ لأنه يجوز بعد عشرين ـ فيما زعم يونس.

وتقول : كم غيره مثله لك ، انتصب غيره (بكم) ، وانتصب مثله لأنه صفة له ولم يجز يونس والخليل : كم غلمانا لك ؛ لأنك لا تقول : عشرون ثيابا لك إلا على وجه : لك مائة بيضاء وعليك راقود خلا.

فإن أردت هذا المعنى قلت : كم لك غلمانا ، ويقبح أن تقول : كم غلمانا لك ؛ لأنه قبيح أن تقول : عبد الله قائما فيها ، كما قبح أن تقول : قائما فيها زيد ، وقد فسرنا ذلك في بابه.

وإذا قلت : كم عبد الله ماكث ، فكم أيام ، وعبد الله فاعل ، وإذا قلت : كم عبد الله عندك ، فكم ظرف من الأيام ، وليس يكون عبد الله تفسيرا للأيام لأنه ليس منها.

والتفسير : كم يوما عبد الله ماكث أو كم شهرا عبد الله عندك؟ فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت : كم رجلا ضرب عبد الله.

فإذا قلت : كم جريبا أرضك؟ فأرضك مرتفعة ب (كم) لأنها مبتدأة ، والأرض مبنية عليها وانتصب الجريب ؛ لأنه ليس بمبني على مبتدإ ، ولا وصف فكأنك قلت : عشرون درهما خير من عشرة.

وإن شئت قلت : كم غلمان لك؟ فتجعل (غلمان) في موضع خبر ، وتجعل (لك) صفة لهم.

وسألته : على كم جذع بيتك مبني؟ فقال : القياس النصب ، وهو قول عامة الناس

فأما الذين جرّوا فإنهم أرادوا معنى (من) ولكنهم حذفوها هاهنا.

تخفيفا على اللسان ، وصارت (على) عوضا منها.

ومثل ذلك : الله لا أفعل ، فإذا قلت : لاها الله لا أفعل لم يكن إلا الجر ، وذلك أنه يريد لاها والله ، ولكنه صار (ها) عوضا من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه.

ومثل ذلك : الله ليفعلنّ؟ إذا استفهمت أضمروا الحذف الذي يجرّ وحذفوا تخفيفا على اللسان ، وصارت ألف الاستفهام بدلا منه في اللفظ معاقبا.

واعلم أن (كم) ـ في الخبر ـ بمنزلة اسم يتصرف في الكلام غير منّون يجر ما بعده إذا سقط التنوين ، وذلك الاسم نحو : مائتي درهم ، فانجر الدرهم ؛ لأن التنوين


ذهب ودخل فيما قبله ، والمعنى معنى ربّ ، وذلك قولك :

كم غلام لك قد ذهب.

قال : فإن قال قائل : ما شأنها في الخبر صارت بمنزلة اسم غير منون؟

فالجواب فيه أن تقول : جعلوها في المسألة مثل (عشرين) وما أشبهها ، وجعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة إلى العشرة تجر ما بعدها ، كما جرت هذه الحروف ما بعدها فجاز (ذا) في (كم) حين اختلف الموضعان ، كما جاز في الأسماء المتصرفة التي هي للعدد.

واعلم أن (كم) في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه ربّ ؛ لأن المعنى واحد ، إلا أن كم اسم و (ربّ) غير اسم بمنزلة من ، الدليل عليه أن العرب تقول : كم رجل أفضل منك ، تجعله خبر (كم) أخبرنا بذلك يونس عن أبي عمرو.

واعلم أن ناسا من العرب يعملونها فيما بعدها في الخبر كما يعملونها في الاستفهام فينصبون بها كأنها اسم منون.

ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه (ربّ) إلا أنها تنصب لأنها منونة ، ومعناها منونة وغير منونة سواء ، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطر شاعر فقال : ثلاثة أثوابا كان معناه معنى ثلاثة أثواب.

وقال يزيد بن حنية ويروى للربيع :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب المسرة والفتاء (١)

وقال الآخر :

أنعت عيرا من حمير خنزره

في كل عير مائتان كمّره (٢)

وبعض العرب ينشد قول الفرزدق :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علي عشاري

وهو كثير ، منهم الفرزدق.

وقد قال بعضهم : كم على كل حال منونة ، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٦ / ٢٣ ، الخزانة الشاهد ٥٤٥ ، الجمهرة لابن دريد ٣ / ٢١٥.

(٢) الرجز للأعور بن براء الكلبي ، في ابن يعيش ٦ / ٢٤


(من) كما جاز لهم أن يضمروا (رب) وزعم الخليل أن قولهم : (لاه أبوك) ولقيته أمس إنما هو على : لله أبوك ، ولقيته بالأمس ، ولكنهم حذفوا الجار تخفيفا على اللسان ، وليس كل جار يضمر ؛ لأن المجرور داخل في الجار ، فصارا عندهم بمنزلة حرف واحد ، فمن ثمّ قبح ، ولكنهم يضمرونه ويحذفونه فيما كثر في كلامهم ؛ لأنهم إلى تخفيف ما أكثروا استعماله أحوج.

قال الشاعر العنبري :

وجدّاء ما يرجى بهاذ وقرابة

لعطف وما يخشى السماة ربيبها (١)

وقال امرؤ القيس :

ومثلك بكرا قد طرقت وثّيبا

وألهيتها عن ذي تمام مغيل (٢)

أي رب مثلك.

ومن العرب من ينصبه على الفعل :

ومثلك رهبي قد تركت رذية

تقلّب عينيها إذا مرّ طائر (٣)

سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب.

والتفسير الأول في (كم) أقوى لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذ ، وإذا كان له وجه جيد ولا يقوى قول الخليل في أمس لأنك تقول : ذهب أمس بما فيه.

فإذا فصلت بين (كم) وبين الاسم بشيء استغني عليه السكوت أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يستعملونها بمنزلة اسم منون ؛ لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور ، لأن المجرور داخل في الجار فصارا كأنهما كلمة واحدة ، والاسم المنون يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه ، تقول : هذا ضارب بك زيدا ، ولا تقول : هذا ضارب بك زيد. قال زهير :

تؤم سنانا وكم دونك

من الأرض محدودبا غارها (٤)

وقال القطامي :

__________________

(١) البيت في الكتاب ص ٢٤٤.

(٢) البيت في الديوان ٦٦.

(٣) نسبه بعضهم إلى أبي ربيس الثعلبي ، وهو من الخمسين.

(٤) البيت نسب إلى زهير وابنه كعب في ابن يعيش ٤ / ١٣١ ، الإنصاف ٣٠٦ ، الأشموني ٤ / ٨٣ ، وليس بديوانهما.


كم نالني منهم فضلا على عدم

إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل (١)

وإن شاء رفع فجعل كم المرار التي ناله فيها الفضل ، فارتفع الفضل ب (نالني) كقولك : كم قد أتاني زيد ، فزيد فاعل وكم مفعول فيها وهي المرار التي أتاه فيها.

وليس زيد من المرار ، وقد قال بعض العرب.

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علىّ عشار

وقال الآخر :

كم قد فاتني بطل كميّ

وياسر فتية سمح هضوم (٢)

فجعل (كم) مرارا كأنه قال : كم مرة قد حلبت علي عماتك.

وقال ذو الرمة ففصل بين الجار والمجرور :

(كأنّ أصوات من أيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (٣)

وقد يجوز في الشعر أن تجر وبينها وبين الاسم حاجر : فتقول : كم فيها رجل. كما قال الأعشى :

إلا علالة أو بداهة قارج بهذا الجزارة (٤)

فإن قال قائل : أضمر (من) بعد (فيها) قيل له ليس في كل موضع يضمر الجارّ ، ومع ذلك إن وقوعها بعد (كم) أكثر.

وقال : يجوز على قول الشاعر :

كم بجود مقرف نال العلا

وكريم نجله قد وضّعه (٥)

الجر والرفع والنصب على ما فسرنا. كما قال :

كم فيهم ملك أغر وسوقة

حكم بأردية المكارم مرتدي (٦)

وقال :

__________________

(١) البيت في ديوانه ٣٠ ، وابن يعيش ٤ / ١٣١ ، الدرر ١ / ٢١٢.

(٢) البيت منسوب إلى الأشهب بن رميلة في الكتاب ١ / ٢٩٥ ، المقتضب ٣ / ٦٢.

(٣) البيت في ديوانه ٧٦ ، ابن يعيش ٣ / ٧٧ ، ٤ / ١٣٢.

(٤) البيت في الخزانة الشاهد ٢٣ ، الخصائص ٢ / ٤٠٧.

(٥) البيت منسوب إلى أبي الأسود الدؤلي بالخزانة الشاهد ٤٨٩ / ابن يعيش ٤ / ١٣٢ ، الدرر ١ / ٢١٢.

(٦) البيت للفرزدق وليس في ديوانه ، ابن السيرافي ١ / ٣٤٨.


كم في بني بكر بن سعد سيد

ضخم الدسيفة ماجد نفاء (١)

وتقول : كم قد أتاني لا رجل ولا رجلان ، وكم عبد لك ولا عبد ولا عبدان ، فهذا محمول على ما حمل عليه (كم) لا على ما تعمل فيه كم ، فإنك قلت :

لا رجل أتاني ولا رجلان ، ولا عبد لك ولا عبدان ، وذلك لأن (كم) يفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المنكور ، كما قلت : عشرون درهما ، أو بجميع منكور نحو ثلاثة أثواب وهذا جائز في التي تقع في الخبر ، فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين.

ولو قلت : كم لا رجلا ولا رجلين في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز ؛ لأنه ليس هكذا تفسير العدد.

ولو جاز (ذا) لقلت : عشرون لا عبدا ولا عبدين.

ولا رجل ولا رجلان توكيد ل (كم) ، لا للذي عمل فيه ؛ لأنه لو كان عليه كان حالا وكان نقضا. ومثل ذلك قولك للرجل : كم لك عبدا؟ فيقول : عبدان ، أو ثلاثة أعبد ، حمل الكلام على ما حمل عليه (كم) ولم يرد من المسؤول أن يفسر له العدد الذي يسأل عنه ، إنما على السائل أن يفسر له العدد حتى يجيبه المسؤول على العدد ثم يفسره بعد ، إن شاء فيعمل في الذي يفسر به العدد ، كما أعمل السائل في (كم) في العدد. ولو أراد المسؤول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على (كم) كان قد أحال ، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله : كم عبدا فيصير سائلا ، ومع هذا أنه لا يجوز لك أن تعمل (كم) وهي مضمرة ، في واحد من الموضعين ؛ لأنه ليس بفعل ولا اسم أخذ من الفعل. ألا ترى إنه إذا قال المسؤول : عبدين أو ثلاثة أعبد فنصب على (كم) أنه قد أضمر (كم).

وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول : كم غلاما لك ذاهب ، تجعل لك صفة للغلام ، وذاهبا خبرا ل (كم) ، ومن ذلك أن تقول : كم منهم شاهد على فلان ، إذا جعلت شاهدا خبرا ل (كم) ، وكذلك هو في الخبر أيضا.

تقول : كم مأخوذ بك إذا أردت أن تجعل مأخوذا بك في موضع (لك) إذا قلت : كم لك ؛ لأن لك لا تعمل فيه كم ولكنه مبنيّ عليها ، كأنك قلت : كم رجل لك ،

__________________

(١) البيت للفرزدق وليس في ديوانه ، ابن يعيش ٤ / ١٣٢ ، العيني ٤ / ٣٩٢.


وإن كان المعنيان مختلفين ؛ لأن معنى كم مأخوذ بك غير معنى : كم رجل لك.

ولا يجوز في (ربّ) ذلك ؛ لأن كم اسم ، وربّ غير اسم ، ولا يجوز أن تقول : رب رجل لك.

قال أبو سعيد : هذا الباب أكثره مفهوم ، ومنه ما قد مضى تفسيره في غير هذا الباب ، وأنا أسوق هذا الباب إلى آخره جملة ، ليقع تفسير ما يفسر منه جملة غير مفرقة والله المعين بطوله.

فمن ذلك قوله : وهي : يعني (كم) في الاستفهام تكون اسما فاعلا ، وكم لا تكون فاعلة ؛ لأنها أول الكلام في اللفظ ، فإذا كان الفعل لها فإنما يرتفع ضميرها به. وهي مرفوعة بالابتداء ، وإنما سماها فاعلة لأن الفعل في المعنى لها. وقوله : لا تصرّف تصّرف يوم وليلة ؛ لأن يوما وليلة يتقدمان ويتوسطان ويتأخران ، و (كم) لها صدر الكلام.

وشبهت (بعشرين) لأنها تنصب ، ومنصوبها واحد من النوع ، فمذهبها مذهب ما ينصب واحدا منكورا ، وهي من أحد عشر إلى تسعة وتسعين ، وتقدر (كم) تقدير اسم كان منونا بنصب ما بعده بالتنوين ، ودخله البناء ، وحذف التنوين لوقوعه موقع حرف الاستفهام فصار ينصب ما بعده بتقدير التنوين ، ودخله البناء ، كما تنصب ما بعد خمسة عشر بتقدير التنوين.

ولا يستقبح الفصل بين عشرين وبين منصوبها من النوع ؛ لأن (كم) كانت مستحقة للتمكن بالاسمية ثم منعته بما أوجب لها البناء ، فصار الفصل واستحسان جوازه عوضا مما منعته من التمكن و (العشرون) وبابها باق على التمكن ، وإن كان ذلك يجوز في العشرين ونحوها في الشعر على ضعفه لضعف عمل (عشرين).

فمما لم ينشده سيبويه قول عبد بني الحسحاس من :

أشوقا ولما تمض لي غير ليلة

رويد الهوى حتى تغب لياليا

فأشهد عند الله أني رأيتها

وعشرون منها إصبعا من ورائيا (١)

وذكر أبو العباس محمد بن يزيد أنه قرأ على عمارة لجرير :

في خمس عشرة من جمادى ليلة

لا أستطيع على الفراش رقادي (٢)

__________________

(١) البيتان ليسا في ديوان سحيم ، ابن يعيش ٤ / ١٣٠.

(٢) البيت في الأغاني ٢٠ / ١٨٣ ، طبقات ابن المعتز ٣١٦. والبيت في ديوان جرير ٥٠٧ برواية :

لي خمس عشر من جمادى ليلة

ما أستطيع ...


فإن قال قائل : ذكر سيبويه أن الفصل بين (كم) وبين ما نصبته تلك يجوز في (كم) جوازا حسنا ؛ لأنه كأنه صار عوضا من التمكن ، فيلزم في خمس عشرة ونظائره من (أحد عشر) إلى (تسعة عشر) أن يجوز الفصل جوازا حسنا ، فللمحتج عن سيبويه أن يقول : قد كثر الكلام ب (كم) لأنه في كل مستفهم عنه من المقدار فاجتمع كثرة الاستعمال إلى منع التمكن ، ولم تكثر في باب (خمسة عشر).

والذي عندي أن جواز ذلك في (كم) لكثرة استعمالها وترددها في المواضع واعلم أنه يجوز أن تحذف من (كم) مفسره كما تحذف من عشرين ونظائره ، وتكتفي بالدلالة عليه مما يجري (ذكره) أو مما يقتضيه الكلام ولا يكون مميزه إلا واحدا منكورا من النوع ، كما لا يكون إلا ذلك في عشرين ونظائره.

فإذا لم يكن بعد (كم) ما يصح أن يكون مميزا له علمت أنه قد حذف مميّزه وذلك قولك كم عبد الله ماكث ، فعبد الله مبتدأ ، وماكث خبره ، وعريت (كم) من ذكر المميز ، وكانت مسألة السائل عن مقدار مكث عبد الله من الزمان ، فقدرت كم يوما أو كم شهرا ، أو ما أشبه ذلك ، وكم في موضع نصب ، ينصبه ماكث ، وهو ظرف من الزمان ، ولأن (كم) يسأل بها عن كل مقدار جاز أن يسأل بها عن الزمان وعن المكان وعن المصادر وعن الأسماء.

فعن أي شيء سئل بها صارت من ذلك الجنس ، فإذا قلت : كم سرت؟ وأنت تريده ما ساره من المسافة فهو ظريف من المكان ، كأنك قلت : كم فرسخا سرت ، أو كم ميلا ، ونحو ذلك.

وإذا أردت مساره من الأيام فهو ظرف من الزمان ، وتقديره : كم يوما سرت؟ أو كم ساعة ، أو نحو ذلك مما تقصد ويفهم عنك.

فإذا قلت : كم غلمانا لك لم يجز على وجه من الوجوه ؛ لأنك إن نصبت غلمانا على التمييز لم يجز ؛ لأن (كم) في الاستفهام لا يميز إلا بواحد ، كعشرين.

وإن أردت نصبها على الحال لم يجز ؛ لأن العامل (لك) وهي مؤخرة ، فلا يجوز ذلك. كما لا يجوز : زيد ـ قائما ـ فيها.

فإن قدمت فقلت : كم لك غلمانا جاز كما يجوزه عبد الله ـ فيها قائما ، وتقديره : كم مماليكك في حال ما هم غلمان ، أو كم ولدك غلمانا ، كما تقول : لك مائة بيضا ، أي في حال ما هي بيض.

وإذا قال : كم غلمان لك فتقديره : كم غلاما غلمان لك ، فيكون كم مبتدأ ،


وغلمان خبره ، ولك صفة ، وقد ذكرنا أن (كم) في الاستفهام تنصب لا غير.

وقد ذكر سيبويه عن الخليل : على كم جذع بيتك مبنيّ؟ وذكر أن القياس النصب ، وإنما خفض بإضمار (من) وصارت (على) في أول الكلام عوضا منها ، ولاها الله لا أفعل ، وآلله ليفعلن ، ألف الاستفهام في اسم الله تعالى ، و (ها) في (لاها) عوض من واو القسم ، وقد ذكر ذاك في موضعه.

و (كم) في الخبر تخالف (كم) في الاستفهام في المميز وفي إعراب المميز ، أما المميز في (كم) للاستفهام فهو واحد منكور ، وإعرابه النصب.

وأما (كم) في الخبر ، فمميز ويكون واحدا وجميعا ، ويكون مخفوضا ومنصوبا ، والأكثر فيه الخفض ، وذكر أصحابنا أنهم نصبوا بها في الاستفهام وخفضوا في الخبر للفرق بين المعنيين.

ولقائل أن يقول : فلم صارت التي للاستفهام أولى بالنصب والأخرى أولى بالخفض؟ فالجواب عن ذلك : أن التي في الخبر تضارع (ربّ) وهي حرف ، وكم للتكثير ورب للتقليل ، فلما وجب في التي تضارع (رب) في الخبر الخفض بمضارعة (رب) وجب للأخرى النصب ؛ لأن العدد إما عمل نصبا أو خفضا.

ومما تقوي ذلك أن الاستفهام مضارع للفعل ، والفعل له النصب ، فكذلك جعلت بمنزلة ما ينصب ، وإنما أضيف التي في الخبر إلى الجمع والواحد ؛ لأنه لما وجب لها الخفض وكان العدد الخافض بعضه يميّز بجمع كقولك : ثلاثة أثواب وخمسة أجمال وبعضه يميّز بواحد كقولك : مائة ثوب وألف درهم ، فيجوز في (كم) الوجهان ، كما جاء في العدد الذي تعمل عمله. والذين ينصبون بها في الخبر يحملونه على الاستفهام ، وهو الأصل لأن (كم) عدد منهم فأصلها الاستفهام ؛ لأن المستفهم يحتاج أن يبهم لشرح ما يسأل عنه ، وليس الأصل في الإخبار والإبهام ، فذلك صار الأصل الاستفهام ، فإذا نصب بما في الخبر جاز أن يكون المنصوب جماعة ؛ لأنه يزد به ما لباب فيه.

والأكثر الخفض ، فصار كقولك : مائتين عاما وثلاثة أثوابا إذا احتاج إلى نصبه الشاعر فإذا فصلت بين (كم) وهي خافضة ، وبين ما تخفضه فإن الأحسن حملها على لغة من ينصب بها لقبح الفصل بين الخافض والمخفوض ، وقد ذكرت ما أنشده في ذلك.

وبيت الفرزدق من ينشد على ثلاثة أوجه :

أجوده الخفض ؛ لأنه خبر ، كم عمة لك يا جرير ، هي في معنى (عمات) وبعدها النصب ، وهي ـ أيضا ـ في معنى عمات ، وإذا رفع فقيل :


كم عمة لك فهي عمة واحدة ، كأنه قال : كم عمتك؟ وكم واقعة على مرار الحلب ، وكأنه قال : كم مرة عمتك حلبت علىّ ، وعمة لك بتلك المنزلة.

وأهل الكوفة يخفضون ما بعد كم في كل حال بمن ، فإن أظهرتها فهي الخافضة وإن حذفت وخفضت فهي مقدرة ، فلذلك فصلوا بين (كم) وبين المخفوض.

وتقول : كم قد أتاني لا رجل ولا رجلين ، وكم عبد لك لا عبد ولا عبدان ، كم رفع بالابتداء ومميزه محذوف ، وتقديره : كم رجل ؛ لأنه في الخبر ، وخبر (كم) قد أتاني ، فصار التقدير : رجال أتوني ، ولا رجل ولا رجلان : عطف على (كم).

كما تقول : زيد أتاني لا عمرو ولا بكر.

ولا يجوز أن تعمل (كم) في لا رجل ولا رجلين ؛ لأن تفسير (كم) استفهاما كانت أو خبرا ـ لا تقع كذلك ، أما في الاستفهام فمنزلتها منزلة (عشرين) وأنت لا تقول في تمييز العشرين : عندي عشرون لا رجلا ولا رجلين ، وأما في الخبر فهي تجري مجرى (ربّ) وأنت لا تقول : ربّ لا رجل ولا رجلين ، ومعنى قوله : كان محالا وكان نقضا ؛ أي نصبت وجئت ب (كم) بعد (لا) فقلت :

لا كم رجلا ، أو أضمرت (كم) لم يجز وانتقض الكلام ؛ لأنه يصير في الخبر بمنزلة لا ربّ رجل ولا كم رجل ، والقائل إذا قال : كم أتاني الرجل والرجلان يريد تكثير من أتاه ، فإذا حمل لا رجل ولا رجلين على (كم) صار لا كم ، فإذا أظهرها وأضمرها استحال وذهب معنى الكلام.

وعلى ذلك جواب من يقال له : كم لك عبدا؟ فيقول : عبدان أو ثلاثة أعبد ، عبدان أو ثلاثة جواب (كم) وهو رفع بالابتداء وخبره (لي) محذوفة ، كما كان (لك) خبر (كم).

قوله : ولم يرد من المسؤول أن يفسر على السائل فيفسر فيقول : كم درهما أو دينارا لك فيقول المسؤول : عشرون أو ثلاثون ، وإن شاء ذكر المعدود فقال : ثلاثون درهما أو دينارا وما شاء ، وإن شاء لم يفسر النوع ؛ لأن السائل قد ذكره فلا اضطرار بالمجيب إلى ذكره لأنه إذا قال : كم عندك من الدراهم فقال : عشرون فقد عرف ما يعني ، فلو لم يبين السائل ويفسر العدد لم يدر المسؤول بأي شيء يجيبه؟

ومعنى قوله : ولو أراد المسؤول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على (كم) كان قد أحال يعني : أن المسؤول لو نصب خرج عن حد الجواب فصار سائلا ؛ لأنه إذا نصب فإنما ينصبه ب (كم) والذي يلفظ ب (كم) هو سائل.

وإن أظهرها فقال في جوابه : كم لا عبدا ولا عبدين فقد أحال ؛ لأنه سأل وحقه أن


يجيب وإن لم يظهر (كم) فلا بد من أن يقدرها مضمرة فيشارك من أظهرها ويزيد عليه في إعماله (كم) مضمرة ، وهي وأمثالها لا تضمر لضعفها.

وقد يجوز أن يسأل السائل فيقول : كم عندك؟ فيعدل المجيب عن جوابه إلى الإخبار بأن عنده عددا كبيرا فيقول : كم رجل عندي أو كم رجال عندي؟ على استئناف إخبار منه بكثرة ما عنده على غير ما يقتضيه الجواب من ذكر مبلغ ما عنده ، ومعناه : عندي رجال كثير ، وإن لم يخبره بعدتهم.

وذكر بعض أصحابنا أن رجلا لو قال لآخر كم لا رجلا عندك ولا امرأة ، وأراد كم عندك غير رجل كأنه قال : كم بعيرا عندك لا رجلا ولا امرأة ، أي إنما أسألك عن الإبل لا غير.

وبيّن بما ذكر من المسائل ـ في آخر الباب ـ أن (كم) اسم و (رب) حرف وذلك أنه جاء (كم) بخبر كخبر المبتدأ كقولك : كم غلاما لك ذاهب ، وكم منهم شاهد ، فذاهب وشاهد خبران لكم ، وكذلك : كم مأخوذ بك ، وتأويله : كم رجلا مأخوذ بك ، ومأخوذ خبر ، ولو نصب مأخوذا لم يتم الكلام واحتجت إلى خبر إذا قلت : كم مأخوذا بك ، لم يتم حتى تقول : في الحبس ، أو معاقب ، أو ما أشبه ذلك.

وكذلك : كم لك ، أو كم رجل لك ، هو الخبر ، ولا يجوز في (رب) ذلك. لا تقول : رب مأخوذ بك ، ولا رب رجل قائم.

هذا باب ما جرى مجرى كم في الاستفهام

وذلك قولك : له كذا وكذا درهما ، وهو مبهم في الأشياء ، بمنزلة (كم) وهو كناية للعدد ، بمنزلة فلان ، إذا كنيت به في الأسماء ، وكقولك : كان من الأمر ذية وذية ، وذيت وذيت وكيت وكيت ، صار (ذا) بمنزلة التنوين ؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.

وكذلك : كأيّ رجلا قد رأيت ، وزعم ذلك يونس. وكأين ـ قد أتاني ـ رجلا ، إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع من. قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)(١)

وقال عمرو بن شأس :

وكائنّ رددنا عنكم من مدجج

يجيء أمام الألف يردى مقنّعا (٢)

__________________

(١) سورة الطلاق ، من الآية ٨.

(٢) البيت في الكتاب ١ / ٢٩٧ ، الدرر ١ / ٢١٣ ، شواهد الكشاف ١٣٥.


فإنما ألزموها لأنها توكيد ، فجعلت كأنها شيء يتم به الكلام وصار كالمثل.

ومثل ذلك : ولا سيّما زيد ، ف (ربّ) توكيد لازم حتى يصبر كأنه من الكلمة. وفي نسخة مبرمان كأنه من الكلمة. وكأين معناها معنى ربّ.

وإن حذفت (من) و (ما) (١) فعربي. وقال : إن جرها أحد من العرب فحسن أن يجرها بإضمار (من) كما كان ذلك عند ذكرنا إياها في (كم).

وقال في كذا وكأين : عملتا فيما بعدها كعمل أفضلهم في رجل حين قلت : أفضلهم رجلا ، فصار أي وذا بمنزلة التنوين كما كان المجرور بمنزلة التنوين.

وقال الخليل : كأنهم قالوا : له كالعدد درهما ، كالعدد من قرية ، فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. فإنما تجيء الكاف للتشبيه فتصير ـ وما بعدها ـ بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولك : كأن ، أدخلت الكاف على أن للتشبيه".

قال أبو سعيد : قد مضى الكلام في (كذا وكذا درهما) وفي ذيّة وذيت وفي كية وكيت ، وفي كل واحد من ذيت وكيت إذا خفضت ثلاث لغات : الضم والفتح والكسر.

كقولنا : ذيت وذيت وذيت ، وكيت وكيت وكيت ، وإذا شددت فالفتح لا غير كقولنا : ذيّة وكيّة. قال أبو العباس محمد بن يزيد : لأن الهاء ـ وما قبلها ـ بمنزلة خمسة عشر وأما قوله : كأي رجلا ، وهي كاف التشبيه دخلت على أي وفيها خمس لغات : أصلها كلها : كأيّ (وهي كأي) ، وكأئن ، وكأيّن ، وكئن ، وكأن ، وهي تنصب ما بعدها بلزوم التنوين لها.

وقد كثر في كلام العرب وقوع (من) بعدها ، وإنما اختارت العرب أن يتكلموا بها مع (من) فيما ذكر أبو العباس محمد بن يزيد أنه إذا قال : كأين رجلا أهلكت ، جاز أن يكون رجلا نصبا بكأي ، فيكون واحد في معنى جميع ، ويجوز أن تجعل ، كأي ظرفا ، كأنه قال : كأي مرة ، وتنصب رجلا بأهلكت ، فيصير واحدا في معنى نفسه.

فإذا أدخلت (من) صار واحدا في معنى (جميع) ويخرج أن يكون واحدا في معنى نفسه. فأما اللغات فأصلها وأفصحها.

كأيّ مشددة والوقوف عليها بغير نون ، وبعدها في الفصاحة والكثرة :

كائن ، على مثال : كاعن ، وهي أكثر من الأولى في شعر العرب.

__________________

(١) يعني لو حذفت من مع (كأيّن) و (ما) مع (لا سيما) فهو عربي.


وقال الشاعر ـ غير ما أنشده سيبويه :

فكائنّ ترى من يلمعيّ مخطرب

وليس له عند العزائم جول (١)

وقال آخر :

وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا (٢)

والوقف على هذا ـ على ما قاله أبو علي محمد بن المستنير قطرب في القياس ـ وكائن. ذهب إلى أنها مقلوبة أخرت همزتها ، وينبغي ـ على قوله ـ أن تكون الألف بعد الكاف منقلبة من ياء.

قال أبو العباس محمد بن يزيد : لما أدخلت الكاف جعلت اسما واحدا ، وحذفت الياء الأولى من أي ، وجعل التنوين عوضا من الياء المحذوفة.

والذي يوجبه مذهبه أن يجعل على وزن فاعل ، (الكاف) منه كفاء الفعل ، وبعد الكاف ألف (فاعل) وبعدها الهمزة التي هي أول أي ، وقد حذفت إحدى الياءين ، فتكون الهمزة في موضع عين الفعل ، والياء الباقية في موضع لام الفعل ، ودخل عليه التنوين الذي كان في أي ، فسقطت الياء لاجتماع الساكنين فصار كائنّ ، ولزمت النون عوضا وينبغي أن تكون النون ثابتة في الوقف.

وحكى محمد بن المستنير أن يونس بن حبيب كان يزعم أن (كائن) فاعل من كان يكون ، فإذا وقفت على هذا القول قلت : كائن بإثبات النون.

وأما كأن على وزن كيعبن ، فقد حكاه أبو العباس.

وأما كأين بهمزة ساكنة بعدها ياء مكسورة فحكاها أبو الحسن بن كيسان.

وحكى أبو الحسن بن كيسان عن بندار ـ يعني أبا عمرو بندار بن كره الكرخي عن بعض البصريين ولم يسمه بندار : كين بتقدير كعن.

قال سيبويه : وكأي معناه معنى (رب).

وقال الفراء : معناها (كم).

وكثر استعمال النحويين ـ من البصريين والكوفيين تفسيرها بكم.

والذي قال سيبويه أصبح ؛ لأن الكاف حرف دخوله على ما بعده كدخول (رب) ، و (كم) في نفسها اسم ، وأنت تقول : كم لك؟ ولا تقول كأيّ لك. كما لا تقول : ربّ

__________________

(١) البيت في إصلاح المنطق ١٠٠.

(٢) البيت منسوب لجرير في ابن يعيش ٣ / ١١٠ ، والدرر ١ / ٤٦ ، وشواهد الكشاف ١٣٥.


لك.

وما بقي من الباب مفهوم والله أعلم بالصواب.

هذا باب ما ينصب نصب كم إذا كانت منونة في الخبر والاستفهام

" وذلك ما كان من المقادير نحو قولك : ما في السماء موضع راحة سحابا ، ولي مثله عبدا ، وما في الناس مثله فارسا ، وعليها مثلها زيدا ، وذلك إذا أردت أن تقول : لي مثله من العبيد ، ولي ملؤه من العسل ، وما في السماء موضع كفّ من السحاب ، فحذف ذلك تخفيفا كما حذفه في (عشرين) حين قال : عشرون درهما ، وصارت الأسماء المضاف إليها المجرورة بمنزلة التنوين ، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولا على ما حملت عليه فانتصب ب (ملء) كفّ ومثله ، كما انتصب الدرهم بالعشرين ؛ لأن (مثل) بمنزلة عشرين ، والمجرور بمنزلة التنوين ؛ لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين.

وزعم الخليل أن المجرور بدل من التنوين.

ومع ذلك أنك إذا قلت : لي مثله ، فقد أبهمت ، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع ، فإذا قلت درهما ، فقد اختصصت نوعا منه ، وبه يعرف من أي نوع ذلك العدد ، وكذلك مثل هو مبهم يقع على أنواع :

على الشجاعة والفروسية والعبيد ، فإذا قال : عبدا فقد بيّن من أي أنواع المثل ، والعبد ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل ، فاستخرج على المقدار نوعا ، والنوع هو المثل ، ولكنه ليس من اسمه ، والدرهم ليس بالعشرين ولا من اسمه ، ولكنه ينصب كما تنصب (العشرون) وتحذف من النوع كما يحذف من نوع العشرين ، والمعنى مختلف ، مثل ذلك : عليه شعر كلبين دينا ، الشعر : مقدار ، وكذلك : لي ملء الدار خيرا منك عبدا ، ولي ملء الدار أمثالك ؛ لأن خيرا منك نكرة ، وأمثالك نكرة ، وإن شئت قلت : لي ملء الدار رجلا وأنت تريد جميعا ، فيجوز ذلك كمنزلة في كم وعشرين ، وإن شئت قلت : رجالا كما جاز في (كم) حين دخل فيها معنى رب ؛ لأن المقدار معناه مخالف لمعنى كم في الاستفهام ، فجاز في تفسيره بالواحد.

والجميع ، كما جاز في (كم) إذ دخلها معنى (ربّ) كما تقول : ثلاثة أثوابا ، أي تجعله بمنزلة التنوين ومثل ذلك : لا كزيد فارسا ، إذا كان الفارس هو الذي سميت ، كأنك قلت : لا فارس كزيد فارسا ، قال كعب بن جعيل :


لنا مرفد سبعون ألف مدجّج

فهل في معد فوق ذلك مرفدا (١)

ومثل ذلك : تالله رجلا ، كأنه أضمر تالله ما رأيت كاليوم رجلا ، وما رأيت مثله رجلا".

قال أبو سعيد : المقادير في المكيل والموزون والعدد والمساحة وغير ذلك يجري مجرى واحد.

وقوله : ما في السماء موضع كفّ : مقدار من المساحة ، كما أن (عشرين) مقدار من العدد ، و (سحابا) هو النوع الذي يفسره ، كما أن درهما نوع يفسر العشرين.

ولي مثله : أي لي مقداره ، أي : ما يقادره ويماثله في عدد. و (عبدا) هو النوع.

وكذا : ما في الناس مثله فارسا ، وعليها مثلها زيدا ، وإنما يريد : ثمرة عليها مثل : ولي ملؤه عسلا.

ومذهب البصريين فيه كمذهب نصب (العشرين) لما بعده ، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا الموضع.

وقد جعل سيبويه بعض هذه المنصوبات من الأنواع هو الأول ، بعضه غير الأول.

فأما ما كان منه هو الأول : فهو ما كان الأول منه مثله وشبهه وملؤه ، وتعتبر ذلك بأنك لو جعلت المنصوب في موضع الأول وجعلت الأول تابعا له لم يتغير معناه مرفوعا ومنصوبا.

ألا ترى أنك تقول : لي ملؤه عسلا ، و (عسل) منصوب ، ولو قلت : لي عسل ملؤه لأدى ذلك المعنى ولم يكن بينهما فضل.

وكذلك : لي مثله عبدا. لو قلت : لي عبد مثله لأدى ذلك المعنى.

وهذا معنى قوله : فاستخرج على المقدار نوعا ، والنوع هو المثل ، ولكنه ليس من اسمه ، يعني ليس بنعت له ، وإن كان هو هو.

وعلى هذا المذهب قوله : فهل في معدّ فوق ذلك مرفدا؟

لأن المرفد مثل : المردّ للجيش ، فقال كعب : لنا مرفد هذا عددهم على التكثير ، فهل في معدّ فوق ذلك؟ أي : هل في معد عدد فوق ذلك مرفدا؟

فهو كقولك : لي مثله عبدا ، فمرفد هو العدد المقدّر.

وفضل سيبويه بين : لي مثله عبدا ، وبين : عشرين درهما ؛ لأن الدرهم ليس

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٢ / ١١٤ ، والكتاب ١ / ٢٩٩.


بالعشرين. كما كان مثله هو العبد ، ولأنك لا تجعل الدرهم مكان العشرين ، فتقول : لي درهم (عشرون) وإن كان (العشرون) و (لي مثله) يشتركان في نصب ما بعدهما.

ولو قلت : لي ملء الدار رجلا ، لم يكن (رجلا) هو الأول ؛ لأن ملء الدار لجماعة ورجلا هو واحد ، ولكن ملء الدار العشرين.

وقوله : وإن شئت قلت : رجالا ؛ لأنه خبر يجري مجرى (كم) التي في معنى (رب) في جواز الجمع ، ويصير : لي ملء الدار رجالا من باب : لي ملؤه عسلا ؛ لأن الثاني هو الأول ، ولا كزيد فارسا من باب لي مثله عبدا ؛ لأن معناه : لا مثل زيد. وقولهم تالله رجلا تقديره : تالله ما رأيت رجلا كرجل أراه اليوم ، وقد فسرته وذكرت ترتيب الحذف فيه في غير هذا الموضع بما يغني عن إعادته.


فهرس المحتويات

باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام وحروف الأمر والنهي..................... ٣

باب من الفعل يستعمل في الاسم.................................................. ٩

باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول ويجري على الاسم.......................... ٢٢

باب من اسم الفاعل............................................................ ٢٦

باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين في اللفظ لا في المعنى........... ٣١

باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع في عمله ومعناه.......................... ٤٥

باب الصفة المشبهة............................................................. ٥٠

باب استعمال الفعل في اللفظ.................................................. ١٠٤

باب وقوع الأسماء ظروفا....................................................... ١٠٩

باب ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار........................... ١١٧

باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما ينتصب إذا شغلت الفعل به وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره    ١٢٥

باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره.............. ١٣٤

باب من الفعل سمي الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من أمثلة الفعل الحادث................ ١٤١

باب متصرّف رويد............................................................ ١٤٥

باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره إذا علمت أن الرجل مستغن عن لفظك بالفعل     ١٥٣

باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي...................... ١٥٥

باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف.............................. ١٥٦

باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره استغناء عنه...................... ١٦٩

باب ما جرى على الأمر والتحذير.............................................. ١٦٩

باب ما يكون معطوفا في هذا الباب على الفاعل المضمر في النية.................... ١٧٥

باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي............... ١٨٦

باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم لأنه مفعول معه ومفعول به كما انتصب نفسه في قولك : " امرأ ونفسه"  ١٩٤


باب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول...................................... ١٩٧

باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل آخره على أوله................... ٢٠٢

باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره................ ٢٠٤

باب ما أجري من الأسماء مجرى المصادر التي يدعى بها............................. ٢٠٦

باب ما أجري مجرى المصادر المدعوّ بها من الصفات............................... ٢٠٨

باب ما أجري من المصادر المضافة مجرى المصادر المفردة المدعوّ بها................... ٢٠٨

باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدّعاء......... ٢١١

باب ـ أيضا ـ من المصادر ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره.................. ٢١٣

باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدآت مبنيّا عليها ما بعدها وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات         ٢١٨

باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء................. ٢٢١

باب منه استكرهه النحويون ، وهو قبيح فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعته العرب. ٢٢٤

باب ما ينتصب فيه المصدر كان فيه الألف واللام أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك إظهاره ؛ لأنه يصير في الإخبار والاستفهام بدلا من اللفظ بالفعل ، كما كان" الحذر" بدلا من احذر في الأمر.......................... ٢٢٥

باب ما ينتصب من الأسماء الّتي أخذت من الأفعال............................... ٢٢٩

انتصاب الفعل ، استفهم أو لم يستفهم.......................................... ٢٢٩

باب ما أجرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل... ٢٣١

باب ما يجري من المصادر مثّنى منتصبا على إضمار الفعل المتروك إظهاره.............. ٢٣٦

باب ما ينتصب فيه المصدر المشبّه به على إضمار الفعل المتروك إظهاره............... ٢٤٢

باب ما يختار فيه الرفع......................................................... ٢٤٩

باب ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر الذي يكون علاجا وذلك إذا كان الآخر هو الأول ٢٥٠

باب ما الرفع فيه الوجه........................................................ ٢٥٢


باب ما لا يكون فيه الرفع..................................................... ٢٥٤

باب آخر لا يكون فيه إلّا الرفع................................................ ٢٥٤

باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر................................ ٢٥٤

باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب لأنّه موقع فيه الأمر.... ٢٥٧

باب ما جاء منه في الألف واللام............................................... ٢٥٩

باب ما جعل من الأسماء مصدرا كالمضاف في الباب الذي يليه...................... ٢٦٠

باب ما يجعل من الأسماء مصدرا كالمصدر الذي فيه الألف واللام نحو : العراك........ ٢٦١

باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الأمر وهو اسم................................ ٢٦٣

باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله....................................... ٢٦٥

باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا..................................... ٢٦٧

باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور............................ ٢٧٠

باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللّغات........................... ٢٧٩

باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفة ولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه    ٢٨٢

باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال............................................ ٢٨٦

باب ما يختار فيه الرفع والنصب لقبحه أن يكون صفة............................. ٢٨٦

باب ما تنتصب فيه الصفة لأنه حال............................................ ٢٨٧

باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور................... ٢٨٩

باب ما ينتصب من الأماكن والوقت............................................ ٢٩٣

باب ما شبّه من الأماكن المختصة............................................... ٣٠٣

باب الجر.................................................................... ٣٠٩

باب يجري النعت على المنعوت................................................. ٣١٢

باب ما أشرك بين الاسمين فجريا عليه كما أشرك بينهما في النعت فجريا على المنعوت.. ٣٢٩

باب البدل والمبدل منه......................................................... ٣٣٦

باب مجرى نعت النكرة عليها................................................... ٣٣٨


باب بدل المعرفة من النكرة والمعرفة من المعرفة (وقطع المعرفة مبتدأة).................. ٣٤٨

باب ما يجري عليه وصفة ما كان من سببه....................................... ٣٤٩

باب ما جرى من الصفات غير العمل على الاسم الأول........................... ٣٥٣

باب الرفع فيه وجه الكلام وهو قول العامة....................................... ٣٥٣

باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء التي لا تكون صفة............ ٣٥٤

باب ما يكون من الأسماء صفة لمفرد وليس بفاعل ولا صفة تشبه الفاعل.............. ٣٥٧

باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست تعمل... ٣٦٤

باب إجراء الصفة على الاسم فيه بعض المواضع أحسن............................ ٣٧٩

باب ينصب فيه الاسم لأنه لا سبيل له إلى أن يكون صفة......................... ٣٨٨

باب ما ينتصب لأنه حال صار فيها المسئول والمسئول عنه.......................... ٣٩٣

باب ما ينتصب على التعظيم والمدح............................................. ٣٩٤

باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم وما أشبهه.................................. ٣٩٩

باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبنيّ على ما هو قبله من الأسماء المبهمة.......... ٤٠٥

باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة................................................. ٤٠٩

باب ما يجوز فيه الرفع ممّا ينتصب في المعرفة....................................... ٤١٠

باب ما يرتفع فيه الخبر لأنّه مبنيّ على مبتدإ...................................... ٤١٢

باب ما ينتصب فيه الخبر لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء...................... ٤١٤

باب من المعرفة يكون فيه الاسم الخاص شائعا في الأمة............................. ٤١٩

باب ما يكون فيه الشيء غالبا عليه اسم يكون لكلّ من كان من أمّته أو كان في صفته ٤٢٨

باب ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة.................................... ٤٣٦

باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة............................................ ٤٣٩

باب ما ينتصب خبره لأنّه معرفة وهي معرفة لا توصف ولا تكون وصفا.............. ٤٤٣

باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة........................................ ٤٤٦

باب ما ينتصب لأنّه ليس من اسم ما قبله ولا هو هو............................. ٤٤٧


باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده أو يبنى عليه ما قبله.................. ٤٥٠

باب ما يثنّى فيه المستقر توكيدا وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنّى      ٤٥٤

باب الابتداء................................................................. ٤٥٦

باب ما يقع موقع الاسم المبتدأ ويسد مسده...................................... ٤٥٩

باب من الابتداء يضمر فيه ما يبنى على الابتداء.................................. ٤٥٩

باب يكون المبتدأ فيه مضمرا ويكون المبنيّ عليه مظهرا.............................. ٤٦١

باب الحروف الخمسة التّي تعمل فيما بعدها لعمل الفعل فيما بعده.................. ٤٦٢

باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة............................ ٤٦٩

باب ما يكون محمولا على إن.................................................. ٤٧٢

باب تستوي فيه هذه الحروف الخمسة........................................... ٤٧٤

باب ينتصب فيه الخبر بعد الحروف الخمسة...................................... ٤٧٥

باب كم..................................................................... ٤٨٣

باب ما جرى مجرى كم في الاستفهام............................................ ٤٩٤

باب ما ينصب نصب كم إذا كانت منونة في الخبر والاستفهام...................... ٤٩٧

فهرس المحتويات............................................................... ٥٠٠

شرح كتاب سيبوية - ٢

المؤلف:
الصفحات: 504