بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الناشر
المقري
نسبه :
هو شهاب الدين أبو
العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي العيش بن محمد ، المقري
التّلمسانيّ المولد ، نزيل فاس ، ثم القاهرة.
مولده ونشأته :
ولد بمدينة تلمسان
الجزائرية ، وأصل أسرته من قرية مقّرة ـ بفتح الميم وتشديد القاف
وفتحها وفتح الراء ـ وإليها ينتسب بعض علماء المغرب.
وقد تحدث المقري
عن مولده بمدينة تلمسان ، وذكر لنا أنها من أحاسن بلاد المغرب ، وبين حال أسرته
بتفصيل حين تحدث عن جده الأعلى أحمد المقري في كتابه نفح الطيب الذي نقدم له.
ويظهر أن أسرته
انتقلت إلى تلمسان قبل ولادته بزمن بعيد ، فإنه يقول في النفح مشيرا إلى ذلك : «وبها
ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي».
وقد قرأ وحصّل
ببلده على عمه الشيخ الجليل العالم أبي عثمان سعيد بن أحمد المقري مفتي تلمسان ،
ومن جملة ما قرأ عليه القرآن الكريم ، وصحيح البخاري ، وروى عنه الكتب
__________________
الستة بسنده عن
أبي عبد الله التنسي ، عن والده محمد بن عبد الله التنسي ، عن عبد الله بن مرزوق ،
عن أبي حيان ، عن أبي جعفر بن الزبير ، عن أبي الربيع ، عن القاضي عياض بأسانيده
المذكورة في كتابه «الشفا في التعريف بحق المصطفى» ، ودرس أيضا الأدب والفقه
المالكي.
حياته ورحلاته.
ثم رحل إلى فاس
رحلتين ، كانت المرة الأولى سنة ١٠٠٩ ه ، وأمضى فيها بعض الوقت في التحصيل والدرس
، وكانت الثانية سنة ١٠١٣ ه ، وقد هيأت له الإقامة في فاس التبحّر بالعلم
والاستزادة من التحصيل.
ولم يذكر لنا
المقري السبب الذي دعاه إلى ترك بلده والانتقال إلى فاس حيث استقرّ به المقام ،
ومهما يكن من أمر فإنه مضى في فاس يطلب العلم على شيوخها ويزيد من تحصيله ويلتقي
أكبر العلماء فيها ، وأخذ يشتغل بالفتوى والخطابة ، وأصبح من صدور العلماء
المرموقين ، واتصل بالسلطان زيدان السعدي ، وتولى الإمامة والخطابة في جامع
القرويين. ثم تولى الإفتاء سنة ١٠٢٧ ه.
وبرغم هذه المكانة
العالية التي حصّلها فإنه قرّر أن يترك المغرب في أواخر سنة ١٠٢٧ ه ، وكعادته لم
يذكر السبب الذي جعله يزمع على الرحلة ، وكل ما قاله : «ثم ارتحلت بنيّة الحجاز ،
وجعلت إلى الحقيقة المجاز» فما السبب المباشر والرئيس الذي حدا به إلى هجر هذه
البلد التي وطأت له أسباب المجد ، ورفعته إلى سنام السؤدد؟.
يقول الأستاذ محمد
حجي متابعا السيد الجنحاني : «وكان خروج المقري من فاس بسبب اتهامه بالميل إلى
قبيلة شراكة (شراقة) في فسادها وبغيها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي ، فارتحل
إلى الشرق» ويمكن الاستنتاج ـ رغم أن المصادر لم تذكر شيئا مما أورده الأستاذ محمد
حجي ـ أن ذلك قد كان ، فقد كان المقري عالما طارئا على فاس ، وكانت قبيلة شراقة
تلمسانية الموطن ، وكانت تنصر عبد الله بن شيخ على أهل فاس ، فلعل الحسد للمكانة
التي بلغها المقري عند هذا السلطان جعلت الكثيرين يكيلون التهم له ويزعمون أنه
ضالع مع السلطان وقبيلة شراقة ضد الفاسيين ، وهذه التهمة قد جعلت المؤلف يقرّر ترك
فاس إلى المشرق.
ولقي المفري في
مراكش صاحبها فأنشده متمثلا بقول ابن عبد العزيز الحضرمي :
محبتي تقتضي
مقامي
|
|
وحالتي تقتضي
الرحيلا
|
هذان خصمان لست
أقضي
|
|
بينهما خوف أن
أميلا
|
فلا يزالان في
خصام
|
|
حتى أرى رأيك
الجميلا
|
فأجابه صاحب مراكش
بقوله :
لا أوحش الله
منك قوما
|
|
تعودوا صنعك
الجميلا
|
وذكر المقري أن
أبا الحسن عليا الخزرجي الفاسي الشهير بالشاحي لما سمع بعزمه على الارتحال عن
الوطن كتب إليه بما كتبه أبو جعفر أحمد بن خاتمة المغربي إلى بعض أشياخه وهو :
أشمس الغرب حقا
ما سمعنا
|
|
بأنك قد سئمت من
الإقامه
|
وأنك قد عزمت
على طلوع
|
|
إلى شرق سموت به
علامه
|
لقد زلزلت منا
كل قلب
|
|
بحق الله لا تقم
القيامه
|
ويشير المقري إلى
سبب ارتحاله إشارة خفيفة في مقدمة النفح قائلا : «إنه لما قضى الملك الذي ليس
لعبيده في أحكامه تعقب أو ردّ ، ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو ردّ ،
برحلتي من بلادي ، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى الذي تمت محاسنه
، لو لا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا ، وطما به بحر الأهوال .. وذلك
أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف ، تاركا المنصب والأهل والوطن والإلف».
وغادر مدينة فاس
متوجها إلى المشرق ، فوصل تطواف في ذي القعدة من ذلك العام ، ومن تطواف ركب سفينة
أوصلته إلى الاسكندرية ، ومنها إلى القاهرة فالحجاز بحرا ، فوصل مكة المكرمة في ذي
القعدة من العام التالي ، واعتمر ، وبقي بعد العمرة في مكة ينتظر الحج ، ومنها
توجه إلى المدينة الشريفة لزيارة قبر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ، ثم عاد
إلى مصر في محرم سنة ١٠٢٩ ه.
ويظهر أنه لم يلق
في مصر ما كان يؤمل من طيب الإقامة وحسن الحفاوة والتقدير ، وقد سئل عن مصر وحظه
فيها فأجاب : قد دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها قوله :
يا أهل مصر وجدت
أيديكم
|
|
في بذلها
بالسخاء منقبضه
|
لما عدمت القرى
بأرضكم
|
|
أكلت كتبي كأنني
أرضه
|
وأنشد لنفسه :
تركت رسوم عزّي
في بلادي
|
|
وصرت بمصر منسيّ
الرسوم
|
ونفسي عفتها
بالذل فيها
|
|
وقلت لها : عن
العلياء صومي
|
ولي عزم كحدّ
السيف ماض
|
|
ولكنّ الليالي
من خصومي
|
ثم رحل لزيارة بيت
المقدس في شهر ربيع الأول سنة ١٠٢٩ ه وأخذ يتردد إلى مكة والمدينة ، حتى كان في
عام ١٠٣٧ قد زار مكة خمس مرات والمدينة المنورة سبع مرات وأملى فيهما دروسا عديدة
، كما أملى الحديث النبوي بجوار مقام الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقد وفى هذا
الجانب تفصيلا في كتابه (نفح الطيب) فقال : «وحصلت لي المجاورة فيها (في مكة)
المسرات ، وأمليت فيها على قصد التبرك دروسا عديدة ، والله يحيل أيام العمر بالعود
إليها مديدة ، ووفدت على طيبة المعظمة ميمما مناهجها السديدة سبع مرار ، وأطفأت
بالعود إليها ما بالأكباد الحرار ، واستضأت بتلك الأنوار ، وألفت بحضرته صلّى الله
عليه وسلّم بعض ما منّ الله به عليّ في ذلك الجوار ، وأمليت الحديث النبوي بمرأى
منه عليه الصلاة والسلام ومسمع».
ورجع إلى مصر بعد
حجته الخامسة في سنة ١٠٣٧ ه ثم رحل إلى القدس في شهر رجب من ذلك العام ، وأقام
فيها خمسة وعشرين يوما ، وألقى عدة دروس بالمسجد الأقصى والصخرة ، وزار مقام
إبراهيم الخليل عليه السلام ومزارات أخرى.
وفي منتصف شعبان
عزم على التوجه إلى دمشق ، وهناك تلقاه المغاربة وأنزلوه في مكان لا يليق به ،
فأرسل إليه أحد أدباء دمشق البارزين أحمد بن شاهين مفتاح المدرسة الجقمقية ، وكتب
مع المفتاح هذه الأبيات :
كنف المقري شيخي
مقرّي
|
|
وإليه من الزمان
مفرّي
|
كنف مثل صدره في
اتساع
|
|
وعلوم كالبحر في
ضمن بحر
|
أي بدر قد أطلع
الدهر منه
|
|
ملأ الشرق نوره؟
أيّ بدر
|
أحمد سيدي وشيخي
وذخري
|
|
وسميّي وذاك
أشرف فخر
|
لو بغير الأقدام
يسعى مشوق
|
|
جئته زائرا على
وجه شكري
|
فأجابه المقري
بقوله :
أي نظم في حسنه
حار فكري
|
|
وتحلّى بدرّه
صدر ذكري
|
طائر الصيت لابن
شاهين ينمى
|
|
من بروض الندى
له خير ذكر
|
أحمد الممتطين
ذروة مجد
|
|
لعوان من
المعاني وبكر
|
حل مفتاح وصله
باب وصل
|
|
من معاني تعريفه
دون نكر
|
يا بديع الزمان
دم في ازدياد
|
|
بالعلا وازدياد
تجنيس شكري
|
وراقت المقري دمشق
، فبقي فيها عدة أسابيع وأملى بها صحيح البخاري في الجامع
الأموي ، ولم يتفق
لغيره من العلماء الذين أمّوا دمشق ما اتفق له من الحظوة والإقبال ، وجرت بينه
وبين علمائها وأدبائها مطارحات شتى ، وكان أكثر أدبائها إقبالا عليه وتعظيما له
وإعجابا به الأديب الكبير أحمد شاهين القبرصي الأصل.
ويصف لنا المحبّي
إقبال الدمشقيين على المقري بقوله :
«وأملى صحيح
البخاري بالجامع تحت قبة النسر بعد صلاة الصبح ، ولما كثر الناس بعد أيام خرج إلى
صحن الجامع تجاه القبة المعروفة بالباعونية وحضره غالب أعيان علماء دمشق ، وأما
الطلبة فلم يتخلف منهم أحد ، وكان يوم ختمه حافلا جدا ، اجتمع فيه الألوف من الناس
، وعلت الأصوات بالبكاء ، فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن إلى الباب الذي يوضع فيه
العلم النبوي في الجمعات من رجب وشعبان ورمضان ، وأتي له بكرسيّ الوعظ ، فصعد عليه
، وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره قطّ ، وتكلم على ترجمة البخاري ،
وأنشد له بيتين ، وأفاد أنه ليس للبخاري غيرهما ، وهما :
اغتنم في الفراغ
فضل ركوع
|
|
فعسى أن يكون
موتك بغته
|
كم صحيح قد مات
قبل سقيم
|
|
ذهبت نفسه
النفيسة فلته
|
ونزل عن الكرسيّ ،
فازدحم الناس على تقبيل يده ، وكان ذلك نهار الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة سبع
وثلاثين وألف» .
وقد تركت هذه
الزيارة لدمشق في نفس المقري أجمل الأثر وأبقاه فكان يكثر من مدحها ، ومن محاسن
شعره فيها قوله :
محاسن الشام
جلّت
|
|
عن أن تقاس بحدّ
|
لو لا حمى الشرع
قلنا
|
|
ولم نقف عند حدّ
|
كأنها معجزات
|
|
مقرونة بالتحدّي
|
وقوله :
قال لي : ما
تقول في الشام حبر
|
|
شام من بارق
العلا ما شامه
|
قلت : ما ذا
أقول في وصف أرض
|
|
هي في جنة
المحاسن شامه
|
__________________
وقوله :
قل لمن رام
النوى عن وطن
|
|
قولة ليس بها من
حرج
|
فرّج الهمّ
بسكنى جلّق
|
|
إن في جلّق باب
الفرج
|
وله غير هذه
الأبيات الكثير من المقطوعات الشعرية الدالّة على حبه لها وإعجابه بأهلها ، كما أن
له الكثير من النثر الدالّ على ذلك ومنه قوله :
«لو تعرضت
لأسمائهم ـ أسماء أهلها ـ وحلاهم أدام الله تعالى سؤددهم وعلاهم ، لضاق عن ذلك
النطاق ، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق ، فليت شعري بأي أسلوب أؤدي بعض حقهم
المطلوب ، أم بأي لسان أثني على مزاياهم الحسان ، وما عسى أن أقول في قوم نسقوا
الفضائل ولاء ، وتعاطوا أكواب المحامد ملاء ، وسحبوا من المجد مطارف وملاء ،
وحازوا المكارم ، وبذوا الموادد والمصارم ، سؤددا وعلاء ، فهم الذين نوّهوا بقدري
الخامل ، وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل حسبما اقتضاه طبعهم العالي».
ومما زاده تعلقا
بالشام أنها ذكرته ببلاده التي ارتحل عنها مرغما وهو يقول : «وقد تذكرت بلادي
النائية بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه ، فما شئت من أنهار ذات انسجام ،
وأزهار متوجة للأرواح ، مروحة للنفوس بعاطر الأرواح ، وحدائق تغشى أنوارها الأحداق
، وجنان أفنانها في الحسن ذوات أفنان .. وعند رؤيتي لتلك الأقطار الجليلة الأوصاف
، العظيمة الأخطار ، تفاءلت بالعودة إلى أوطان لي بها أوطار ، إذ التشابه بينهما
قريب في الأنهار والأزهار ذات العرف المعطار ، وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية
مولعا بالوطن لا سواه ، فصار القلب بعد ذلك مقسما بهواه ، ومحاسن الشام ، وأهله
طويلة عريضة ، وهو مقر الأولياء والأنبياء ، ولا يجهل فضله إلا الأغمار الأغبياء».
وعرج في عودته إلى
مصر من الشام على غزة ، فنزل فيها ضيفا على الشيخ غصين ، وتوسّط مع أمير غزة في بناء
مدرسة لابن الشيخ غصين ، فكان له ما أراد.
ثم مضى إلى مصر ،
وأكب على التأليف ، ولكن جو مصر لم يرقه ، ووجد الحسد والنفاق غالبين على أهلها ،
بينما الآداب تجارة ليس لها بسوقها نفاق ، فزار دمشق ثانية في سنة ١٠٤٠ ه كما
يروي صاحب خلاصة الأثر ، ولقي من الإكرام مثل ما لقيه في قدمته الأولى ، وعاد إلى
مصر ، واستقر بها مدة يسيرة ، ثم طلق زوجته الوفائية واعتزم العودة إلى دمشق
للاستقرار بها فعاجلته المنية في جمادى الآخرة عام ١٠٤١ ه ودفن رحمه الله بمقبرة
المجاورين.
أسلوب المقري
ومكانته :
المقري إضافة إلى
صبره وجلده على التأليف والتنسيق ، وعلاوة على حافظة قادرة لديه ، وذكاء فذّ ،
شاعر مجيد ، قد لا يرتفع شعره إلى مستوى شعر فحول الشعراء ، ولكنه لا ينزل إلى
الحضيض ، فهو إن لم يكن سمينا فليس بالغثّ الركيك.
أما نثره فيمتاز
بإشراق الديباجة ، ومتانة المبنى ، والقدرة على التصرف في استعمال اللفظ.
وقد عرف له قدره
ومكانته علماء عصره وما بعد عصره. فالمحبّي صاحب خلاصة الأثر يقول عنه : «حافظ
المغرب ، لم ير نظيره في جودة القريحة وصفاء الذهن وقوة البديهة ، وكان آية باهرة
في علم الكلام والتفسير والحديث ، ومعجزا باهرا في الأدب والمحاضرات ، وله
المؤلفات الشائعة». والشهاب الخفاجي في «ريحانة الألباء وزهرة الحياة الدنيا» يقول
عنه : «فاضل لغرّ المناقب مشرق ، وبدر لعلو همته سار من المغرب للمشرق ، وهو رفيق
السداد ، وبيت مجده منتظم الأسباب ثابت الأوتاد ... وهو لفقه مالك أكرم سيد مالك
.. أما الشعر فهو أصمعيّ باديته وحسّان فصاحته».
مؤلفات المقري :
لقد ترك المقري
لنا عددا كبيرا من المؤلفات تمتاز بصفاء العبارة ونقاء الديباجة ووضوح المعنى
وإشراقه ، وبالاستطراد الذي جعل النقاد يعدونه جاحظ المغرب ، وهذه بعض أسماء كتبه
مرتبة على أحرف الهجاء :
١ ـ إتحاف المغرم
المغرى في شرح السنوسية الصغرى ، وهو تكميل لشرح السنوسية في علم التوحيد.
٢ ـ أزهار الرياض
في أخبار عياض ، وهو أشبه كتبه بكتاب نفح الطيب الذي نقدم له ونحققه. وقد ألّفه
أثناء إقامته بفاس سنة ١٠١٣ ـ ١٠٢٧ ، وقد طبع منه ثلاثة أجزاء بتحقيق الأساتذة
مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي ، ولم يكمل العمل حتى الآن.
٣ ـ أزهار
الكمامة. ذكره صاحب خلاصة الأثر ، ولم نعثر عليه ، ولا نعلم عنه إلا ما ذكره صاحب
خلاصة الأثر فحسب.
٤ ـ إضاءة الدجنة
في عقائد أهل السنة ، وهو منظومة بدأ تأليفها أثناء زيارته للحجاز سنة ١٠٢٧ ودرسها
في الحرمين الشريفين ، وأتمها في القاهرة سنة ١٠٣٦.
٥ ـ حاشية على شرح
أم البراهين للسنوسي.
٦ ـ البدأة
والنشأة : ذكره في الخلاصة : وقال : «كله أدب ونظم».
٧ ـ الدر الثمين
في أسماء الهادي الأمين (ذكره في اليواقيت).
٨ ـ روض الآس ،
العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس. ألّفه حوالي ١٠١١ ـ ١٠١٢
ليقدمه إلى المنصور أحمد الذهبي. وقد طبع الكتاب بالمطبعة الملكية بالرباط عام
١٩٦٤ بتحقيق الأستاذ عبد الوهاب بن منصور.
٩ ـ عرف النشق في
أخبار دمشق : ذكره المحبي واليواقيت ، ولم نجده ، ولعله كان مشروعا لم يتم.
١٠ ـ الغث والسمين
، والرث والثمين : ذكره في اليواقيت.
١١ ـ فتح المتعال
في مدح النعال ، وهو كتاب صنفه في وصف نعال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم.
١٢ ـ قطف المهتصر
في شرح المختصر ، وهو شرح على حاشية مختصر خليل. ذكره المحبي.
١٣ ـ أراجيز منها
: «أزهار الكمامة في شرح العمامة» (مخطوط).
١٤ ـ رجز «نيل
المرام المغتبط لطالب المخمس الخالي الوسط» (مخطوط).
١٥ ـ حسن الثنا في
العفو عمن جنى (طبع بمصر).
١٦ ـ أنواء
النسيان في أبناء تلمسان (ذكره في كشف الظنون).
١٧ ـ الجمان في
أخبار الزمان (ذكره في كشف الظنون).
١٨ ـ وأخيرا كتاب
نفح الطيب.
كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ،
وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب
قدم المقري لكتابه
هذا بمقدمة وافية ذكر فيها أسباب تأليفه الكتاب ، فقال : «وكنا في خلال الإقامة
بدمشق المحوطة ، وأثناء التأمل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة ، كثيرا
ما ننظم في سلك المذاكرة درر الأخبار الملقوطة ، ونتفيأ من ظلال التبيان مع أولئك
الأعيان في مجالس مغبوطة ، نتجاذب فيها أهداب الآداب ، ونشرب من سلسال ونتهادى
لباب الألباب ، ونمد بساط الانبساط ، ونسدل أطناب الإطناب! ونقضي أوطار الأقطار ،
ونستدعي
أعلام الأعلام ،
فينجرّ بنا الكلام ، والحديث شجون ، وبالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون إلى ذكر
البلاد الأندلسية ، ووصف رياضها السندسية التي هي بالحسن منوطة .. فصرت أورد من
بدائع بلغائها ما يجري على لساني ، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب ما
تثيره المناسبة وتقتضيه من النظم الجزل ، والإنشاء الذي يدهش به ذاكرة الألباب ،
وتعرفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل ، إذ هو فارس النظم والنثر في ذلك
العصر ، فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماعهم لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة
إجماعهم ، وعلق بقلوبهم ، وأضحى منتهى مطلوبهم».
ثم ذكر في المقدمة
أسباب إقدامه على تأليف الكتاب ، ولعل أهمها إصرار المولى أحمد الشاهيني على تأليف
هذا الكتاب في بديع ما أنتجته قريحة لسان الدين بن الخطيب ، ولكن المؤلف اعتذر
وقدم بين يدي اعتذاره الأسباب ، غير أن الشاهيني أصر على طلبه ، ولم يقبل منه عذرا
حتى وعد بالعمل على التأليف.
وبعد أن وصل
المقري إلى القاهرة واستقر بمصر وضع تصميم الكتاب وكتب منه نبذة ، غير أن أحوال
الدهر وتقلباته جعلته يضرب عن إكمال ما بدأ ، لكن الشاهيني عاد يذكره من جديد بما
وعد ، ويستنجز وعده راجيا إكماله مما شجعه على العودة إلى إتمام الكتاب. وحدث له
حين الشروع بالتأليف عزم على زيادة ذكر الأندلس جملة قبل الحديث عن لسان الدين ،
وساعده على ذلك افتتانه بها حتى ليظن قارىء النفح أنه أندلسي الأصل والمولد
والنشأة ، إضافة إلى سبق اهتمامه بالأدب والتاريخ الأندلسيين ، واقتنائه في المغرب
كثيرا من هذه الكتب ، وقد ذكر ذلك فقال : «ولو حضرني ما خلفته مما جمعت في ذلك
الغرض وألفته لقرّت به عيون وسرّت به ألباب». ولعل هذه النقطة بالذات تجعلنا نرجح
أن زيارته دمشق وطلب الشاهيني منه تأليف كتاب عن لسان الدين بن الخطيب لم يكونا
إلا إزالة الستار عن أشياء في ذهن أديبنا ، وأنه كان في ذهنه ، ومنذ زمن بعيد ، أن
يكتب في هذا الموضوع ، ولكن كانت تؤخره ظروف وأحوال ، حتى كان القرار النهائي بعد
زيارة دمشق.
والجدير بالذكر
هنا أن المقري لم يكن يهدف من تأليف الكتاب ربحا ماديا ، أو مصلحة عاجلة «لم يكن جمعي
ـ علم الله ـ هذا التأليف لرفد استهديه ، أو عرض نائل أستجديه ، بل لحق ودّ أؤديه
، ودين وعد أقدمه وأبديه ، وتلبية داع أحييه وأفديه».
ويتحدث المقري عن
تنسيق الكتاب فيقول : «بعد أن ضمنت تمام هذا التصنيف ، وأمعنت النظر فيما حصل
التقريظ لسامعه والتشنيف قسمته قسمين : القسم الأول فيما يتعلق بالأندلس من
الأخبار. والقسم الثاني في التعريف بلسان الدين بن الخطيب».
والحقيقة أننا لا
بد من الاعتراف للمؤلف التواضع بقيمة هذا الكتاب ، فهو رغم استطراداته الكثيرة
وانتقاله من موضوع إلى آخر ، وعودته مرات إلى موضوع سبق له بحثه ، قادر على تصوير
الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية بالأندلس فجاء كتابه شافيا في موضوعه ،
منتشلا من براثن الضياع كثيرا من المادة التي لو لاه لضاعت ، ولقد ساعد على ذلك
هذا الطابع الموسوعي الذي اتخذه الكتاب ، فكان مغنيا عن عشرات الكتب.
تحقيق الكتاب
وشرحه :
يعتبر نفح الطيب
أقدم الكتب الأندلسية التي رأت النور وعرفتها المطبعة العربية ، ويعد مصدرا لأكثر
ما عرفه المشارقة عن الأندلس ، وهذا ما حدا بنا إلى إعادة تحقيقه رغم أن الكتاب قد
طبع طبعات متعددة لا تخلو من دقة وعناية إلا أننا حاولنا أن نستفيد من اجتهادات السابقين
، وضبط الكتاب ضبطا دقيقا بحيث تكون هذه الطبعة الجديدة قريبة من الكمال ، ترضي
المقري ، رحمه الله.
إضافة إلى أننا
وجدنا أن بعض الطبعات والتحقيقات قد أغفلت شرح كثير من الكلمات التي يجب شرحها
ليتسنى لمن يريد الإفادة من الكتاب أن يصل إلى بغيته دون كثير عناء ، كذلك فإن
وجود طبعات متعددة للكتاب الواحد لا ينقص من قيمته ، وإخراج طبعة جديدة يعتبر بعثا
جديدا للكتاب بحلة جديدة وإغناء للمكتبة العربية بهذا التراث الخالد.
ودار الفكر التي
حرصت منذ تأسيسها على تعميم هذا التراث وتوفيره للقارىء العربي بأبسط السبل تقدم
اليوم هذه الموسوعة ، نفح الطيب بطبعة جديدة وتحقيق جديد.
فقد أوكلنا
للأستاذ يوسف الشيخ محمد البقاعي النهوض بهذا العمل الشاقّ والدقيق فحمل الأمانة
وأداها بجلد وصبر ومسئولية وقام بتحقيق الكتاب ، وضبط ما يحتاج إلى الضبط منه ،
والتعريف بما رأى التعريف به من أعلام رجالاته وبلدانه ، وشرح غريب كلماته. وقد
اعتمد في تحقيقه وشرحه ، على جميع الطبعات التي ظهرت للكتاب حتى يومنا هذا. وبعد
أن تأكّد أن محققي الكتاب قد بذلوا كل جهد يشكرون عليه.
وصف النسخ التي
اعتمدنا عليها :
١ ـ طبعة بولاق في
عام ١٢٧٩ ه ، وهي طبعة جيدة إلا أنها لا تخلو من تصحيف وقد اعتمدت للمقارنة
ورمزنا إليها بحرف ج.
٢ ـ طبعة ليدن عام
١٨٥٥ م هي طبعة جيدة تولّاها بالعناية المستشرقون دوزي ودوجا وكريل ورايت. وقد
اعتمد هؤلاء على نسخ خطية توفرت لهم من لندن وباريس وأكسفورد وبرلين وبطرسبرج
وكوبنهاجن. ومع أن هذه الطبعة لم تشمل إلا القسم
الأول من النفح
إلا أنه يمكن الاعتماد عليها في المقارنة والتصويب ، وذلك لأن محققيها عملوا ما في
وسعهم في سبيل الوصول إلى الأصوب ، وقد اعتمدناها في المقارنة ورمزنا إليها بحرف
ه.
٣ ـ الطبعة التي
حققها المرحوم محيي الدين عبد الحميد ، وهي طبعة أنيقة خالية إلى حد كبير من
الأخطاء ، ومقارنة على النسخ المطبوعة السابقة. وقد رمزنا إليها بحرف «أ»
واعتمدناها أساسا ، إلا ما وجدنا أن الأستاذ محيي الدين رحمه الله قد أخفق فيه
فاعتمدنا بقية النسخ لتصحيح ما وقع في «أ» من خطأ.
٤ ـ طبعة صادرة
بتحقيق الدكتور إحسان عباس وهي طبعة حققت بشكل علمي ، واستفاد المحقق من طبعات
الكتاب السابقة ، ومن مخطوطات متعددة مما يجعلها أقرب الطبعات للصواب. إلا أن
المحقق استغنى عن شرح الكلمات ، وأشار في مقدمته إلى ذلك. وقد رمزنا لهذه الطبعة
بحرف «ب» ونظرا إلى أن هذه الطبعات رغم الميزات التي لكل واحدة منها ، ورغم أنه لا
بد أن نجزل الشكر لجميع من عمل بها ، وقدم لهذه الأمة جهوده وسهره وضناه ، رغم ذلك
فإن هذه الطبعات قد جاءت كل واحدة تخلو من شيء ينبغي أن يوجد فيها ليستفيد منها
القارئ كما الباحث والدارس.
خطة التحقيق والشرح
ـ شكلنا الكتاب
شكلا يكاد يكون كاملا ليتسنى للقارىء فهم النصوص فهما تاما.
ـ خلصنا الكتاب من
الأخطاء الناتجة عن التصحيف والتحريف.
ـ شرحنا المفردات
الواجبة الشرح ليستطيع أي قارىء الإفادة من الكتاب ولا سيما أن المقري رحمه الله
من الكلمات الغريبة في كثير من الأحيان مما يجعل قراءته دون شرح مفرداته صعبة وعلى
وجه الخصوص المفردات الواردة في الشعر.
ـ وضعنا ملخص
محتوى كل صفحة من الكتاب برأسها وبذلك نبهنا القارئ إلى استطرادات المؤلف
وانتقالاته من موضوع إلى آخر ، ويسّرنا عليه إيجاد الموضوع الذي يحتاجه من الكتاب.
وبهذا تكون هذه الملخصات ـ الترويسات ـ مساعدة للفهارس.
ـ أعددنا فهرسا
للأعلام والأنساب والأماكن الواردة في الكتاب ، وكذلك للقوافي والتنويهات والرسائل
وجعلنا كل ذلك في مجلد خاص.
ـ هذه الطبعة
الجديدة من الكتاب ـ نفح الطيب ـ نضعها بين أيدي القراء في تسعة مجلدات غير مدّعين
الكمال آملين أن يجدوا فيها ما يتوخون ويبتغون ، والحمد لله ونسأل الله التوفيق.
بيروت في يوم
الاثنين السابع من رجب ١٤١٧ ه الموافق الثامن عشر من شهر تشرين الثاني ١٩٩٦ م
الناشر
بسم الله الرّحمن الرّحيم
خطبة الكتاب
يقول العبد الفقير
، الذليل المضطرّ الحقير ، من هو من صالح الأعمال عريّ :
أحمد بن محمد
الشهير بالمقّريّ ، المغربيّ المالكيّ الأشعريّ ، أصلح الله تعالى حاله ، وجعل في
مرضاته حلّه وترحاله! ومحا بغيث الطّاعة والرّضوان أمحاله ! وأنجح ببلوغ آماله انتحاءه وانتحاله :
أحمد من عرّف من
حلى الأمصار وعلى الأعيان على تداول الأعصار وتطاول الأحيان ، ما فيه ذكرى لأولي
الأبصار وإرشاد إلى معرفة الدّيان ، واعتبار بأخبار راع وصفها أو راق ، وشرّف من صرف المطامح والمطامع ، إلى تفصيل ما أفاد لسان
الدين من كلم جوامع ، وتحصيل ما أجاد من حكم بوالغ سحب بلاغتها هوامع ، واقتناء ذخائر المهتدين التي تشنّفت بدررها اللوامع الآذان والمسامع ، من كل منحطّ عن رتبة
البراعة أو راق ، حتى توّج الخطيب المجيد رؤوس المنابر بفرائد الكلام ، وحلّى الكاتب الأديب
المجيد صدور المزابر من فوائد الأعلام ، وكحل الحكيم الطبيب الأريب المفيد من إثمد
المحابر بمراود الأقلام ، عيون أوراق .
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له الذي ابتدأ الخلق من غير مثال وبرا ، وقسّم العباد إلى
حاضر وباد وظاهر وخامل وقاصر وكامل تشير إليه بالأنامل أيدي الكبرا ، وأبدى في
اختلاف ذواتهم وأعراضهم وتباين أدواتهم وأغراضهم وتغاير ألسنتهم وأمكنتهم وأزمنتهم
وألوانهم وأكوانهم ومناصبهم ومناسبهم عبرا ، وجعل الدنيا لمن أتيح صغرا أو كبرا ،
ولبس منهم مسوحا أو حبرا ، وأخلد إلى الأرض أو صعد منبرا ، جسرا إلى الآخرة ومعبرا
،
__________________
وحكم ـ وهو الفاعل
المختار ـ على الجميع بالموت فكان لمبتدئهم خبرا ، فيا له من داء أعيا كلّ معالج
أو راق .
فسبحانه من إله
انفرد بوجوب القدم والبقا ، واختصّ بفضله من شاء فارتقى ، وعمّ تعالى ذوي السعادة
والشّقا ، بالحدوث والفنا ، وأذاق من فراق الدنيا كل من فيها بلا ثنيا فمن وفّق فنفى عن جفنه وسنا ، أو خذل فجرّ في ميدان
الاغترار رسنا ، وزين له عياذا بالله سوء عمله فرآه حسنا ، طعم شعوب المرّ الجنى ، فلم يغن منه عن ذوي الغنى والغنا ، وأهل
السناء والسّنا من استظهروا به من أرباب الصّوارم والقنا ، وأصحاب النظم
والنثر والجدال والفخر والمدح والثنا ، فأولئك ألقوا السّلاح مذعنين ، مستبصرين
موقنين ، إذ جاء الحق وزهق الباطل وولى الامترا وهؤلاء تركوا الاصطلاح معلنين ، عالمين أنهم لم يكونوا في
التمويه محسنين ، وكيف لا وقد اضمحلّ الغرور والاجترا ، وذهب والله الجور
والافتراء ، وبدّل مذق الإطراء بصدق الإطراق.
وأشكره جلّ وعلا
على أن علّم بالقلم ما لم نعلم ، ونبّه بآثاره الدالّة على اقتداره إلى سلوك
الطريق الأقوم ، الواضح المعلم ، وأرشد من أشرق فكره وأضا ، إلى التفويض لأحكام القضا ، ومن ذا يردّ ما أمضى أو ينقض
ما أبرم ، والتسليم على كل حال أسلم ، وأمر جلّ اسمه بالتّدبّر في أنباء من مضى ،
والنظر في عواقب أحوال الذين زال أمرهم وانقضى ، من صنوف الأمم ، ووبّخ من دجا
قلبه بالإعراض عن ذلك وأظلم ، وشتّان ما بين اللاهي والمتذكر ، والساهي والمتفكر ،
والناجي والهالك المتحيّر ، والداجي الحالك والمشرق النّيّر ، وما يستوي الظّلّ
والحرور ، والحزن والسّرور ، والظلمات والنور ، ذو البهجة والإشراق.
وأصلي أزكى الصلاة
والسلام ، هديّة لحضرة سيد الأنام ، ولبنة التمام ، من زويت له
__________________
من الأرض المغارب
والمشارق ، وتمّ به نظام أنبياء الله ورسله العظام ، وأزاح نوره الضلال والظلام ،
حتى أضاءت بوسمه المساجد وازدانت باسمه المهارق ، وألقى الموفق الموافق لدعوته بيد الاستسلام ، وذلك شأن
ذوي العقول الراجحة والأحلام ، غير خائف من عتب ولا مترقب لملام ، فأمن من
الطوارىء والطوارق ، وتمت كلمة الإسلام الذي اتّضح برهانه لذي بصر وبصيرة لا يحتاج
إلى زيادة الإعلام ، وعلت سيوف توحيد الملك العلّام ، من المعاند المفارق المفارق وخضبتها بحناء النجيع الرقراق : النبيّ الأمّيّ الأمين ، الداعي جميع العالمين ،
إلى سلوك منهاج ما له من هاج ذي أضواء شوارق ، سيد الرّسل الغرّ الميامين ، ملجأ الأمة
، جعلنا الله ممن نجا باللّجإ إليه آمين ، الذي أنزل عليه القرآن ، هدى للناس
وبينات من الهدى والفرقان ، وانشقّ له الزبرقان ونبع الماء من بين أصابعه زيادة في الإيقان ، وسلمت عليه
الأحجار ، وانقادت لأمره الأشجار ، متفيّئة ظلاله الشريفة وخطّت في الأرض أسطرا
مبدعة الإتقان ، إلى غير ذلك من معجزاته الخوارق ، فهو صاحب الدعوة الجامعة ،
والبراهين اللّامعة ، والأدلّة التي سقت الشجرة الطيبة غيوثها النافعة ، الصّيّبة
الهامية الهامعة ، الصادقة البوارق. فأثمرت النجاة والفوز والفلاح وأورقت
بالهدى أحسن إيراق ، أسنى رسول بعث إلى الأرض وأعظمهم جلالة ، وأكثرهم تابعا في الطول منها والعرض ، ولم لا وقد ظهر به
الحقّ لمن أمّه مسترشدا وجلا له ؟ وأسمى من جاء بتبيين السّنّة والفرض وأعمّهم دلالة ، منقذ
البرايا في الدّنيا ويوم العرض ، الآخذ بحجزهم عن النّار والضلالة ، الداعي إلى
تقديم الخير وحسن القرض ، الحريص على هداية الخلق ، المبلّغ لهم أحكام الحق من غير
ضجر ولا ملالة ، ذو الفضل العظيم الذي لم يختلف فيه من أهل العقول اثنان ، والمجد
الصّميم الثابت الأصول الباسق الأفنان ، المنتقى من محتد معدّ بن عدنان ، المنتخب من خير عنصر
وأطهر سلالة ، شفيعنا وملاذنا وعصمتنا ومعاذنا وثمالنا الذي نجحت به آمالنا ، وزكت
أقوالنا وأعمالنا ، ووسيلتنا الكبرى ، وعمدتنا العظمى في الأولى والأخرى ، وكنزنا
الذي أعددناه لإزاحة الغموم
__________________
ذخرا ، وغيثنا
وغوثنا وسيّدنا ونبيّنا ومولانا محمد الطيب المنابت والأعراق.
صلّى الله عليه وسلّم
، ووجّه وفود التعظيم إليه ، من مفرد في جماله صار لجمع الأنبياء تماما ، وفذّ في
كماله تقدّم في حضرة التقديس التي أسست على التشريف أعظم تأسيس فصلّى بالمرسلين إماما ، وصدر تحلّى بجميل الأوصاف ، كالوفاء
والعفاف ، والصدق والإنصاف ، فزكا في أعماله ، وبلّغ الراجي منتهى آماله ، ولم
يخلف وعدا ولم يخفر ذماما ، وسيّد كسي حلل العصمة ، من كلّ مخالفة وذنب ووصمة ،
فلم يصرف لغير طاعة مولاه ، الذي أولاه من التفضيل ما أولاه اهتبالا واهتماما.
وعلى آله وعترته ،
الفائزين بأثرته ، أنصار الدين ، والمهاجرين المهتدين ، وأشياعه وذريته ، الطالعين
نجوما في سماء شهرته ، وأتباعهم القائمين بحقوق نصرته ، أرباب العقل الرّصين ،
الفاتحين بسيوف دعوته أبواب المعقل الحصين ، حتى بلغت أحكام ملته ، وأعلام بعثته ،
من بالأندلس والصّين ، فضلا عن الشأم والعراق.
ورضي الله تعالى
عن علماء أمّته المصنّفين في جميع العلوم والفنون ، وعظماء سنته الموفين للطلاب
بالآراب ، المحققين لهم الظنون ، وحكماء شرعته المتبصرين بحدوث من مرّت عليه
الأيام والشّهور ، وكرّت عليه الآناء والدهور والأعوام والسنون ، المتدبرين في
عواقب من كان بهذه البسيطة من السكان المتذكرين على قدر الإمكان بمن طحنته رحى
المنون ، من أملاك العصور الخالية ، وملّاك القصور العالية ، وذوي
الأحوال التي هي بسلوك الاختلاف حالية ، من بصير وأعمى ، وفقير وذي نعمى ، ومختال
تردّى بكبريائه ، ومختال على ما بأيدي الناس بسمعته وريائه ، وعاقل أحسن العمل ،
وغافل افتتن بالأمل ، وكارع في حياض الشريعة ، وراتع برياض الآداب المريعة ، وذي
ورع سدّ عمّا رابه الذريعة ، وأخي طمع في أن يدرك آرابه من الدنيا الوشيكة الزوال
السريعة ، ومقتبس من نبراس الرواية ، وملتبس بأدناس الغواية ، وشاعر هام في كل واد ،
وقال ما لم يفعل ، فكان للغاوين من الروّاد ، وجاهل عمر الخراب ، وخدع بالسّراب ،
عن أعذب الشّراب ، ومحقق علم أنه إذا جاء القدر عمي البصر ممن كان أحذر من غراب ،
وموفق تيقن أن غير الله فإن ، وكل الذي فوق التراب تراب ،
__________________
ومن متخلّق متجرّد تصوّف ، ومتعلّق متفرّد تشوّق إلى ما فيه رضا الربّ وتشوّف
، وناه ذكّر بأيام الله ، ووعظ وخوّف ، ولاه اغترّ بالباطل ، فهو بالحق مماطل
، وطالما أخره وسوّف ، وأبعد الانتجاع ، ثم أوى من باطنه إلى بيت قعيدته لكاع نفس أمّارة بعدما طوّف ، ومن مادح نظم الآلاء نظم اللآل ،
وكادح طمس لألاء العز بظلمة ذلّ السؤال ، فجعل القصائد مصايد ، والرسائل وسائل ،
والمقطعات مرقعات ، فآل أمره إلى ما آل ، ومن مخبر بما سمع ورأى ، حين اغترب عن
مكانه ونأى ، أو أقام في أوطانه فبلغ ما قدّر ووأى ومن مجازف لا يفرق بين الغثّ والسمين والإمرار والإحلاء ،
وعارف ثقة أمين نظم درّ الصدف الثمين في أسلاك الكتابة والإملاء ، وعاشق خنساء
فكره ذات الصّدار من الشجون والشعار تبكي على صخر قلب المحبوب ، وتذكره كلما طلعت
شمس أو كان للصّبا هبوب ، فتأتي بما يطفي وقود الجوى المشبوب من بحار الأشعار ،
وليلى شوقه العفيفة عن العار ترفل في ثوب من التصبّر معار ، وقيس توقه من ثوب
السلوّ عار ، قد تولّه واشتاق خصوصا عند انتشاق البشام والعرار وقلق لما أرق فلم يقرّ به قرار ، فاعتراه ما براه وألف
البكاء بحكم الاضطرار ، ولبس ثياب النحول والاصفرار ، وأسر لما هزمت جيوش صبره
وأزمعت الفرار ، فتحير مما شجاه وسأل النجاة من أسر الفراق. [مجزوء الكامل]
سبحان من قسم
الحظو
|
|
ظ فلا عتاب ولا
ملامه
|
أعمى وأعشى ثمّ
ذو
|
|
بصر وزرقاء
اليمامه
|
ومسدّد أو جائر
|
|
أو حائر يشكو
ظلامه
|
__________________
لو لا استقامة
من هدا
|
|
ه لما تبيّنت
العلامه
|
ومجاور الغرر
المخيف
|
|
له البشارة
بالسلامه
|
وأخو الحجا في
سائر
|
|
الأنفاس مرتقب
حمامه
|
وكما مضى
المغترّ من
|
|
لم يجعل التقوى
اغتنامه
|
فليرفض العصيان
من
|
|
يخشى من الله
انتقامه
|
وليعتبر بسواه
من
|
|
لصلاحه صرف
اهتمامه
|
فالعيش في
الدنيا الدنيّة
|
|
غير مرجوّ
الإدامه
|
من أرضعته
ثديّها
|
|
في سرعة تبدا
فطامه
|
من عزّ جانبه
بها
|
|
تنوي على الفور
اهتضامه
|
وإذا نظرت فأين
من
|
|
منعته أو منحت
مرامه
|
ومن الذي وهبته
وصلا
|
|
ثمّ لم يخش
انصرامه
|
ومن الذي مدّت
له
|
|
حبلا فلم يخف
انفصامه
|
كم واحد غرّته
إذ
|
|
سرّته مخفية
الدّمامه
|
قعدت به من حيث
لم
|
|
يعلم فلم يملك
قيامه
|
أين الذين
قلوبهم
|
|
كانت بها ذات
استهامه
|
أين الذين
تفيّؤوا
|
|
ظلّ السّيادة
والزّعامه
|
أين الملوك ذوو
الريا
|
|
سة والسّياسة
والصّرامه
|
وبنو أميّة حين
جمّع
|
|
عصرهم لهم فئامه
|
وتمكنوا ممن يحا
|
|
ول نقض ما شاؤوا
انبرامه
|
وتعشّقوا لما
بدا
|
|
لهم محيّا الأرض
شامه
|
وتأمّلوا وجه
البسيطة
|
|
فانثنوا يهوون
شامه
|
حتى تقلّص ظلّهم
|
|
وأراهم الدّهر
اخترامه
|
__________________
أين الخلائف من
بني
|
|
العبّاس والبر
القسامه
|
أين الرشيد
وأهله
|
|
وبنوه أصحاب
الشّهامه
|
ووزيره يحيى
وجعفر
|
|
ابنه الراوي
احتشامه
|
والفضل مدني من
يقو
|
|
ل لمن يلوم على
الندى مه
|
أم أين عنترة
الشجا
|
|
ع وذو الجدا كعب
بن مامه
|
والزّاعمون
بجهلهم
|
|
أن القبور صدى
وهامه
|
والمكثرون من
المجو
|
|
ن إذا شكا الفكر
اغتمامه
|
أين الغريض
ومعبد
|
|
أو أشعب وأبو
دلامه
|
أين الألى هاموا
بسع
|
|
دى أو بثينة أو
أمامه
|
وبكوا لفرط
جواهم
|
|
والليل قد أرخى
ظلامه
|
وتتبّعوا آثار
من
|
|
عشقوا بنجد أو
تهامه
|
وتعلّلوا ،
والشّوق يغ
|
|
لب ، بالأراكة
والبشامه
|
أضنى النّوى
قيسا فقا
|
|
سى لاعجا أغرى
غرامه
|
وغوى هوى غيلان
مذ
|
|
أبدى بميّته
هيامه
|
أين الأكاسر
والقيا
|
|
صرة المجلّون
الغمامه
|
أين الّذي
الهرمان من
|
|
بنيانه الحاكي
اعتزامه
|
أم أين غمدان
وسي
|
|
ف والوفود به
أمامه
|
__________________
أين الخورنق
والسّدي
|
|
ر ومن شفى بهما
أوامه
|
ومدائن الإسكندر
ال
|
|
لاتي لها أعلى
دعامه
|
أين الحصون ومن
يصو
|
|
ن بها من الأعدا
حطامه
|
أين المراكب
والموا
|
|
كب والعصائب
والعمامه
|
أين العساكر
والدّسا
|
|
كر والنّدامى في
المدامه
|
وسقاتها
المتلاعبو
|
|
ن بلبّ من أعطوه
جامه
|
من كلّ أهيف
يزدري
|
|
بالغصن إن يهزز
قوامه
|
ذي غرّة لألاؤها
|
|
تمحو عن النادي
ظلامه
|
فالشمس في
أزراره
|
|
والبدر في يده
قلامه
|
يصمي القلوب إذا
رمى
|
|
عن قوس حاجبه
سهامه
|
ويروق حسنا إن
رنا
|
|
ويفوق آراما
برامه
|
أنّى لها ثغر
حلا
|
|
ذوقا لمن رام
التثامه
|
أنّى لها وجه
يشبّ
|
|
بقلب مبصره
ضرامه
|
أستغفر الله للغ
|
|
ولا يرى الشّرع
اعتيامه
|
بل أين أرباب
العلو
|
|
م أولو التّصدّر
والإمامه
|
وذوو الوزارة
والحجا
|
|
بة والكتابة
والعلامه
|
كأئمة سكنوا بأن
|
|
دلس فلم يشكوا
سآمه
|
هي جنّة الدنيا
التي
|
|
قد أذكرت دار المقامه
|
لا سيّما غرناطة
ال
|
|
غرّاء رائقة
الوسامه
|
وهي التي دعيت
دمش
|
|
ق وحسبها هذا
فخامه
|
__________________
لنزول أهليها
بها
|
|
إذ أظهر الكفر
انهزامه
|
وأتت جيوش الشأم
من
|
|
باب نفى الفتح
انبهامه
|
فسلوا بها عن
جلّق
|
|
إذ أشبهتها في
الضخامه
|
وبدا لهم وجه
المنى
|
|
وأراهم الثّغر
ابتسامه
|
وتبوءأوها حضرة
|
|
تبري من المضنى
سقامه
|
بروائها وبمائها
|
|
وهوائها النافي
الوخامه
|
ورياضها
المهتزّة ال
|
|
أعطاف من شدو
الحمامه
|
وبمرجها النّضر
الذي
|
|
قد زيّن الله
ارتسامه
|
وقصورها الزّهر
التي
|
|
يأبى بها الحسن
انقسامه
|
يا ليت شعري أين
من
|
|
أمضى بها الملك
احتكامه
|
وأتيح في
حمرائها
|
|
عزّا به زان
اتّسامه
|
أين الوزير ابن
الخطي
|
|
ب بها فما أحلى
كلامه
|
فلكم أبان العدل
في
|
|
أرجائها وبها
أقامه
|
ولكم أجار عدا
وكم
|
|
أجرى ندى والى
انسجامه
|
راعت صروف الدهر
دو
|
|
لته وما راعت
ذمامه
|
حتى ثوى إثر
التّوى
|
|
في حفرة نثرت
نظامه
|
من زارها في أرض
فا
|
|
س أذهبت شجوا
منامه
|
إذ نبّهته لكلّ
شم
|
|
ل شتّت الموت
التئامه
|
هذا لسان الدين
أس
|
|
كته وأسكنه
رجامه
|
ومحا عبارته فمن
|
|
حيّاه لم يردد
سلامه
|
__________________
فكأنّه ما أمسك
ال
|
|
قلم المطاع ولا
حسامه
|
وكأنه لم يعل مت
|
|
ن مطهّم بارى
النّعامه
|
وكأنه لم يرق غا
|
|
رب الاعتزاز ولا
سنامه
|
وكأنه لم يجل وج
|
|
ها حاز من بشر
تمامه
|
وكأنه ما جال في
|
|
أمر ولا نهي وسامه
|
وكأنه ما نال من
|
|
ملك حباه ولا احترامه
|
وكأنه لم يلق في
|
|
يده لتدبير
زمامه
|
مذ فارق الدّنيا
وقوّ
|
|
ض عن منازلها
خيامه
|
أمسى بقبر مفردا
|
|
والتّرب قد جمعت
عظامه
|
من بعد تثنية
الوزا
|
|
رة جاده صوب
الغمامه
|
لم يبق إلّا ذكره
|
|
كالزّهر مفترّ
الكمامه
|
والعمر مثل
الضّيف أو
|
|
كالطّيف ليس له
إقامه
|
والموت حتم ثم
بع
|
|
د الموت أهوال
القيامه
|
والناس مجزيّون
عن
|
|
أعمال ميل
واستقامه
|
فذوو السعادة
يضحكو
|
|
ن وغيرهم يبكي
ندامه
|
والله يفعل فيهم
|
|
ما شاء ذلّا أو
كرامه
|
ويشفّع المختار
في
|
|
هم حين يبعثه
مقامه
|
وعليه خير صلاته
|
|
مع صحبه تتلو
سلامه
|
والتابعين ومن
بدا
|
|
برق الرّشاد له
فشامه
|
ما فاز
بالرّضوان عب
|
|
د كانت الحسنى
ختامه
|
والله سبحانه
المسؤول في الفوز والنجاة كرما منه وحلما ، فبيده الخير لا إله إلّا هو العليّ
الكبير العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما ، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض
ولا في السماء من مخلوقاته على الشمول والاستغراق.
__________________
أما بعد حمد الله
مالك الملك ، والصلاة على رسوله المنجي من الهلك ، والرضا عن آله وصحبه الذين
تجلّت بأنوارهم الظلم الحلك ، وعن العلماء الأعلام ، الخائضين بحار الكلام ،
المستوين من البلاغة على الفلك ـ فيقول العبد الحقير المذنب ، الذي هو إلى رحمة
ربّه الغنيّ فقير ، المقصّر المتبرىء من الحول والقوة ، المتمسّك بأذيال الخدمة
للسّنّة والنبوّة ، وذلك بفضل الله أمان وبراءة ، الضعيف الفاني ، الخطّاء الجاني ، من هو من لباس التقوى عريّ ، أحمد بن محمد بن
أحمد ، الشهير بالمقّريّ ، المغربيّ المالكي الأشعري ، التّلمساني المولد والمنشإ
والقراءة ، نزيل فاس الباهرة ثم مصر القاهرة ، أصلح الله أحواله الباطنة والظاهرة
، وجعله من ذوي الأوصاف الزكيّة والخلال الطاهرة ، وسدّد في كل قصد أنحاءه وآراءه
ووفّقه بمنّه وكرمه للأعمال الصالحة ، والطاعات الناجحة والرّاجحة ، والمتاجر
المغبوطة الرابحة ، والمساعي الغادية بالخير الرائحة ، ووقاه ما بين يده ووراءه ،
وكفاه مكر الكائد وافتراءه ، وجدال الحاسد المستأسد ومراءه ، وجعل فيما يرضيه سومه
وشراءه! آمين : إنه لمّا قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقّب أو ردّ ،
ولا محيد عمّا شاءه سواء كره ذلك المرء أو ردّ ، برحلتي من بلادي ، ونقلتي عن محلّ
طارفي وتلادي ، بقطر المغرب الأقصى ، الذي تمّت محاسنه لو لا أنّ سماسرة
الفتن سامت بضائع أمنه نقصا ، وطما به بحر الأهوال فاستعملت شعراء العيث في كامل رونقه من الزحاف إضمارا وقطعا ووقصا : [مجزوء الكامل]
قطر كأنّ نسيمه
|
|
نفحات كافور
ومسك
|
وكأنّ زهر رياضه
|
|
درّ هوى من نظم
سلك
|
وذلك أواخر رمضان
من عام سبعة وعشرين بعد الألف ، تاركا المنصب والأهل والوطن والإلف : [الخفيف]
بلد طاب لي به
الأنس حينا
|
|
وصفا العود فيه
والإبداء
|
فسقت عهده
العهاد وروّت
|
|
منه تلك النوادي
الأنداء
|
__________________
وما عسى أن أذكر
في إقليم ، تعيّن لحجة فضله التسليم : [الكامل]
أضواؤه طبق
المنى ، وهواؤه
|
|
يشتاقه الولهان
في الأسحار
|
والطّبع معتدل
فقل ما شئته
|
|
في الظّلّ
والأزهار والأنهار
|
محلّ فتح الكمائم
، ومسقط الرأس وقطع التمائم : [الوافر]
به كان الشباب
اللّدن غضّا
|
|
ودهري كلّه زمن
الربيع
|
ففرّق بيننا زمن
خؤون
|
|
له شغف بتفريق
الجميع
|
لم أنس تلك
النّواسم ، التي أيامها للعمر مواسم ، وثغورها بالسرور بواسم ، فصرت أشير إليها
وقد زمّت للرحيل القلص الرواسم : [الكامل]
ولنا بهاتيك
الديار مواسم
|
|
كانت تقام
لطيبها الأسواق
|
فأباننا عنها
الزمان بسرعة
|
|
وغدت تعلّلنا
بها الأشواق
|
وأنشد قول غيلان : [الطويل]
أمنزلتي ميّ
سلام عليكما
|
|
هل الأزمن
اللّائي مضين رواجع
|
وأتمثّل في تلك
الحدائق التي حمائمها سواجع ، بقول من جفونه من الهوى غير هواجع: [الكامل]
تشدو بعيدان
الرياض حمائم
|
|
شدو القيان عزفن
بالأعواد
|
ماد النسيم
بقضبها فتمايلت
|
|
مهتزّة الأعطاف
والأجياد
|
هذي تودّع تلك
توديع التي
|
|
قد آذنت منها
بوشك بعاد
|
واستعبرت
لفراقها عين النّدى
|
|
فابتلّ مئزر
عطفها الميّاد
|
__________________
وأحدّق النظر إلى
روض ، لإنسان العين من فراقه في بحر الدموع سبح وخوض : [مجزوء الكامل]
روض به أشياء لي
|
|
ست في سواة
تؤلّف
|
فمن الهزار
ترنّم
|
|
ومن القضيب
تقطّف
|
ومن النّسيم
تلطّف
|
|
ومن الغدير
تعطّف
|
وألتفت كالمستريب ، والحيّ إذ ذاك قريب ، وحديث العهد ليس بمنكر ولا غريب: [الطويل]
أهذا ولمّا تمض
للبين ساعة
|
|
فكيف إذا مرّت
عليه شهور
|
والآثار لائحة ،
والشمال غادية ورائحة : [الوافر]
أرى آثارهم
فأذوب شوقا
|
|
وأسكب من
تذكّرهم دموعي
|
وأسأل من قضى
بفراق حبّي
|
|
يمنّ عليّ منهم
بالرجوع
|
والنفس متعلّلة
ببعض الأنس ، والمشاهد الحميدة لم تنس : [الكامل]
تلك العهود
بشدّها مختومة
|
|
عندي كما هي
عقدها لم يحلل
|
غير أنّ الرّحيل ،
عن الرّبع المحيل ، فصل به بين الشائق والمشوق وحيل : [الطويل]
وقفنا بربع
الحبّ والحبّ راحل
|
|
نحاول رجعاه لنا
ويحاول
|
وألقت دموع
العين فيه مسائلا
|
|
لها عن عبارات
الغرام دلائل
|
وبالسّفح منها
كم سقيت لبانها
|
|
فميّلته والسّفح
للبان مائل
|
إذا نسمة
الأحباب منها تنسّمت
|
|
تطيب بها
أسحارنا والأصائل
|
تثير شجوني
ساجعات غصونها
|
|
فمنها على
الحالين هاجت بلابل
|
مرابع ليلى في مراتع لذتي
|
|
مطالع أقماري
بها والمنازل
|
__________________
فحيّاها الله من
منازل ذات أقمار سائرة فيها ، ومنازه لا يحصي الواصف محاسنها وأمداح أهلها ولا
يستوفيها : [البسيط]
حلّوا عقود
اصطباري عندما رحلوا
|
|
وفي الخمائل
حلّوا مثل أمطار
|
إنّ المنازل قد
كانت منازه إذ
|
|
باتوا بها وهي
أوطاني وأوطاري
|
ورعى الله من بان ، وشاق حتى الرّند والبان : [البسيط]
بانوا لعيني
أقمارا تقلّهم
|
|
لدن الغصون
فلمّا آنسوا بانوا
|
عهودهم لست أنساها
، وكيف وقد
|
|
رثى لبيني عنها
الرّند والبان
|
وفي مثل هذا
الموطن تذوب القلوب الرّقاق ، كما قال حائز قصب السّبق بالاستحقاق ، الأديب
الأندلسي الشهير بابن الزّقاق : [الوافر]
وقفت على الربوع
ولي حنين
|
|
لساكنهنّ ليس
إلى الرّبوع
|
ولو أنّي حننت
إلى مغاني
|
|
أحبّائي حننت
على ضلوعي
|
وكما قال بعض من
له في هذه الفجاج مسير : [الطويل]
دخولك من باب
الهوى إن أردته
|
|
يسير ، ولكنّ
الخروج عسير
|
وأين من له صفاة لا يطمع الدهر القويّ في نحتها ، وجنّات دنيوية لا تجري
أنهار الفراق من تحتها : [الكامل]
فسقى رضيع
النّبت من ذاك الحمى
|
|
بحيا تدور على
الرّبا كاساته
|
سفح سفحت عليه
دمعي في ثرى
|
|
كالمسك ضاع من
الفتاة فتاته
|
ولم أزل بعد
انفصالي عن الغرب بقصد الشرق ، واتّصافي في أثر ذلك الجمع بالفرق : [الوافر]
__________________
أحنّ إذا خلوت
إلى زمان
|
|
تقضّى لي بأفنية
الرّبوع
|
وأذكر طيب أيام
تولّت
|
|
لنا فتفيض من
أسف دموعي
|
وأتوق وقد اتّسع
من البعد الخرق ، وخصوصا إذا شدا صادح أو أومض برق ، إلى ديار لا يعدوها اختيار : [الطويل]
وأربع أحباب إذا
ما ذكرتها
|
|
بكيت ، وقد
يبكيك ما أنت ذاكر
|
بطاح وأدواح
يروقك حسنها
|
|
بكلّ خليج
نمنمته الأزاهر
|
فما هو إلّا
فضّة في زبرجد
|
|
تساقط فيه
اللؤلؤ المتناثر
|
بحيث الصّبا
والتّرب والماء والهوى
|
|
عبير وكافور
وراح وعاطر
|
وما جنّة الدنيا
سوى ما وصفته
|
|
وما ضمّ منه
الحسن نجد وحاجر
|
بلادي التي أهلي
بها وأحبّتي
|
|
وروحي وقلبي
والمنى والخواطر
|
تذكّرني أنجادها
ووهادها
|
|
عهودا مضت لي
وهي خضر نواضر
|
إذ العيش صاف
والزمان مساعد
|
|
فلا العيش مملول
ولا الدهر جائر
|
بحيث ليالينا
كغضّ شبابنا
|
|
وأيامنا سلك
ونحن جواهر
|
ليالي كانت
للشبيبة دولة
|
|
بها ملك
اللّذّات ناه وآمر
|
سلام على تلك
العهود فإنها
|
|
موارد أفراح
تلتها مصادر
|
وأتذكّر تلك
الأيام ، التي مرّت كالأحلام ، فأتمثّل بقول بعض الأكابر الأعلام : [الخفيف]
يا ديار السّرور
، لا زال يبكي
|
|
فيك ، إذ تضحك
الرياض ، غمام
|
ربّ عيش صحبته
فيك غضّ
|
|
وعيون الفراق
عنّا نيام
|
في ليال كأنهنّ
أمان
|
|
في زمان كأنه
أحلام
|
وكأنّ الأوقات
فيك كؤوس
|
|
دائرات وأنسهنّ
مدام
|
__________________
زمن مسعد وإلف
وصول
|
|
ومنى تستلذّها
الأوهام
|
وبقول الحائك
الأميّ ، عندما يكثر شجوي وغمّي : [الكامل]
لم أنس أياما
مضت ولياليا
|
|
سلفت وعيشا
بالصّريم تصرّما
|
إذ نحن لا نخشى
الرقيب ولم نخف
|
|
صرف الزمان ولا
نطيع اللّوّما
|
والعيش غضّ
والحواسد نوّم
|
|
عنّا وعين البين
قد كحلت عمى
|
في روضة أبدت
ثغور زهورها
|
|
لمّا بكى فيها
الغمام تبسّما
|
مدّ الربيع على
الخمائل نوره
|
|
فيها فأصبح كالخيام
مخيّما
|
تبدو الأقاحي
مثل ثغر أشنب
|
|
أضحى المحبّ به
كئيبا مغرما
|
وعيون نرجسها
كأعين غادة
|
|
ترنو فترمي
باللّواحظ أسهما
|
وكذلك المنثور
منثور بها
|
|
لمّا رأى ورد
الخدود منظّما
|
والطير تصدح في
فروع فنونها
|
|
سحرا فتوقظ
بالهديل النّوّما
|
وأميل ، إلى بلاد
محيّاها جميل : [الطويل]
كساها الحيا برد
الشباب فإنها
|
|
بلاد بها عقّ
الشباب تمائمي
|
ذكرت بها عهد
الصّبا فكأنما
|
|
قدحت بنار الشوق
بين الحيازم
|
ليالي لا ألوي
على رشد ناصح
|
|
عناني ، ولا
أثنيه عن غيّ لائم
|
أنال سهادي من
عيون نواعس
|
|
وأجني مرادي من
غصون نواعم
|
وليل لنا
بالسّدّ بين معاطف
|
|
من النهر ينساب
انسياب الأراقم
|
تمرّ إلينا ثم
عنّا كأنّها
|
|
حواسد تمشي
بيننا بالنمائم
|
وبتنا ولا واش
نخاف كأنما
|
|
حللنا مكان
السّرّ من صدر كاتم
|
وأهفو إلى قصور
ذات بهجة ، وصروح توضح معالمها للرائد نهجه : [الخفيف]
__________________
ورياض تختال
منها غصون
|
|
في برود من
زهرها وعقود
|
فكأنّ الأدواح
فيها غوان
|
|
تتبارى زهوا
بحسن القدود
|
وكأنّ الأطيار
فيها قيان
|
|
تتغنّى في كلّ
عود بعود
|
وكأنّ الأزهار
في حومة الرّو
|
|
ض سيوف تسلّ تحت
بنود
|
وأصبو إلى بطاح
وأدواح ، تروّح النفوس والأرواح : [المنسرح]
سقيا لها من
بطاح خزّ
|
|
ودوح زهر بها
مطلّ
|
إذ لا ترى غير
وجه شمس
|
|
أطلّ فيه عذار
ظلّ
|
وأنهار جارية ،
وأزهار نواسمها سارية ، وأربع وملاعب ، تزيح عن مبصرها المتاعب :
[مجزوء الكامل]
تلك المنازل
والملا
|
|
عب لا أراها
الله محلا
|
أوطنتها زمن
الصّبا
|
|
وجعلت فيها لي
محلا
|
حيث التفتّ رأيت
ما
|
|
ء سائحا ورأيت
ظلا
|
والنهر يفصل بين
زه
|
|
ر الروض في
الشّطّين فصلا
|
كبساط وشي جرّدت
|
|
أيدي القيون
عليه نصلا
|
وإلى منازل ،
يستفزّ حسنها الرائق الجادّ والهازل ، ويشفي منظرها عليلا ، ويكفي مخبرها للمستفهم
دليلا : [الخفيف]
وجنن ألفتها حين
غنّت
|
|
حولها الورق
بكرة وأصيلا
|
نهرها مسرعا جرى
وتمشّت
|
|
في رباها الصّبا
قليلا قليلا
|
وأتمثّل إن ذكرت
حال وداعي ، بقول الشاعر الأديب الوداعي : [المنسرح]
الغرب خير وعند
ساكنه
|
|
أمانة أوجبت
تقدّمه
|
__________________
فالشرق من
نيّريه عندهم
|
|
يودع ديناره ودرهمه
|
وبقول غيره ،
إشارة لفضل الغرب وخيره : [السريع]
أشتاق للغرب
وأصبو إلى
|
|
معاهد فيه وعصر
الصّبا
|
يا صاحبي نجواي
واللّيل قد
|
|
أرخى جلابيب
الدّجى واختبا
|
لا تعجبا من
ناظر ساهر
|
|
بات يراعي أنجما
غيّبا
|
القلب في آثارها
طائر
|
|
لمّا رآها تقصد
المغربا
|
وأهيّم كلّما حللت
من غيران أرضي بمكان ، وقد صيّر السائق جدّ السّير معمولا ل «ما
انفك» كما جعله خبرا ل «كان» ، بقول قاضي القضاة العالم الكبير الشمس ابن خلّكان : [الخفيف]
أيّ ليل على
المحبّ أطاله
|
|
سائق الظّعن يوم
زمّ جماله
|
يزجر العيس
طاويا يقطع المه
|
|
مه عسفا سهوله
ورماله
|
أيها السائق
المجدّ ، ترفّق
|
|
بالمطايا فقد
سئمن الرّحاله
|
وأنخها هنيهة
وأرحها
|
|
إذ براها السّرى
وفرط الكلاله
|
لا تطل سيرها
العنيف فقد بر
|
|
رح بالصّبّ في
سراها الإطاله
|
وارث للنازح
الذي إن رأى رب
|
|
عا ثوى فيه
نادبا أطلاله
|
يسأل الرّبع عن
ظباء المصلّى
|
|
ما على الرّبع
لو أجاب سؤاله
|
ومحال من المحيل
جواب
|
|
غير أنّ الوقوف
فيه علاله
|
هذه سنّة
المحبّين يبكو
|
|
ن على كلّ منزل
لا محاله
|
يا ديار الأحباب
لا زالت الأع
|
|
ين في ترب ساحتيك
مذاله
|
وتمشّى النّسيم
وهو عليل
|
|
في مغانيك ساحبا
أذياله
|
أين عيش مضى لنا
فيك؟ ما أس
|
|
رع عنّا ذهابه
وزواله!
|
حيث وجه الزمان
طلق نضير
|
|
والتّداني غصونه
ميّاله
|
ولنا فيك طيب
أوقات أنس
|
|
ليتنا في المنام
نلقى مثاله
|
__________________
وأردّد قول الذي سحر الألباب ، مناديا من له من الأحباب : [البسيط]
أحبابنا ، لو
لقيتم في إقامتكم
|
|
من الصّبابة ما
لاقيت في الظّعن
|
لأصبح البحر من
أنفاسكم يبسا
|
|
كالبرّ من أدمعي
ينشقّ بالسّفن
|
وقوله : [البسيط]
وما تغيّرت عن
ذاك الوداد ، ولا
|
|
حالت بي الحال
في عهدي وميثاقي
|
درسي غرامي بكم
دهري أكرّره
|
|
وقد تفقّهت في
وجدي وأشواقي
|
وقول المجد بن شمس الخلافة ، معلما أنه لا يريد بدل معهده وخلافه : [الخفيف]
يا زمان الهوى ،
عليك السّلام
|
|
وعليّ السّلوّ
عنك حرام
|
أيّ عيش قطعته
فيك لو دا
|
|
م وهل يرتجى
لظلّ دوام
|
كنت حلما والعيش
فيك خيالا
|
|
وسريعا ما تنقضي
الأحلام
|
لهف نفسي على
ليال تقضّت
|
|
سلبتني برودها
الأيام
|
فطمتني الأقدار
عنها وليدا
|
|
وشديد على
الوليد الفطام
|
|
لا تلمني على
البكاء عليها
|
|
من بكى شجوه
فليس يلام
|
وقول أبي طاهر الخطيب الموصلي : [الخفيف]
حيّ نجدا عنّي
ومن حلّ نجدا
|
|
أربعا هجن لي
غراما ووجدا
|
واقر عنّي
السّلام آرام ذاك ال
|
|
شّعب والأجرع
الخصيب المفدّى
|
وابك عنّي حتى
ترنّح بالوج
|
|
د أراكا به
وبانا ورندا
|
فلكم وقفة أطلت
على الضّا
|
|
ل بدمع أذاع
سرّي وأبدى
|
وعلى البان كم
من البين أذري
|
|
ت لآلي للدّمع
مثنى ووحدا
|
آه وا لهفتي على
طيب عيش
|
|
كنت قطّعته
وصالا وودّا
|
حيث عود الشباب
غضّ نضير
|
|
ويد المكرمات
بالجود تندى
|
__________________
والخليل الودود
ينعم إسعا
|
|
فا وصرف الزمان
يزداد بعدا
|
والليالي
مساعدات على الوص
|
|
ل وعين الرقيب
إذ ذاك رمدا
|
كم بها من لبانة
لي وأوطا
|
|
ر تقضّت وجازت
الحدّ جدّا
|
فاستعاد الزمان
ما كان أعطى
|
|
خلسة لي ببخله
واستردّا
|
وقول بعضهم : [الطويل]
سلام على تلك
المعاهد ، إنّها
|
|
شريعة وردي أو
مهبّ شمالي
|
ليالي لم نحذر
حزون قطيعة
|
|
ولم نمش إلّا في
سهول وصال
|
فقد صرت أرضى من
نواحي جنابها
|
|
بخلّب برق أو
بطيف خيال
|
وقول الجرجاني : [الخفيف]
للمحبّين من
حذار الفراق
|
|
عبرات تجول بين
المآقي
|
فإذا ما استقلّت
العيس للبي
|
|
ن وسارت حداتها
بالرفاق
|
استهلّت على
الخدود انحدارا
|
|
كانحدار الجمان
في الاتّساق
|
كم محبّ يرى
التّجلّد دينا
|
|
فهو يخفي من
الهوى ما يلاقي
|
ازدهاه النّوى
فأعرب بالوج
|
|
د لسان عن دمعه
المهراق
|
وانحدار الدموع
في موقف البي
|
|
ن على الخدّ آية
العشّاق
|
هوّن الخطب لست
أوّل صبّ
|
|
فضحته الدموع
يوم الفراق
|
وقول الخطيب الحصكفي الشافعي : [البسيط]
ساروا وأكبادنا
جرحى وأعيننا
|
|
قرحى وأنفسنا
سكرى من القلق
|
تشكو بواطننا من
بعدهم حرقا
|
|
لكن ظواهرنا
تشكو من الغرق
|
كأنهم فوق أكوار
المطيّ وقد
|
|
سارت مقطّرة في
حالك الغسق
|
درارىء الزّهر
في الأبراج زاهرة
|
|
تسير في الفلك
الجاري على نسق
|
يا موحشي الدار
مذ بانوا كما أنست
|
|
بقربهم لا خلت
من صيّب غدق
|
__________________
إن غبتم لم
تغيبوا عن ضمائرنا
|
|
وإن حضرتم
حملناكم على الحدق
|
وما أحسن قول
بعضهم في هذا المعنى ، الذي كررنا ذكره وبه ألمعنا : [الطويل]
سلام على أهل
الوداد وعهدهم
|
|
إذ الأنس روض
والسّرور فنون
|
رحلنا فشرّقنا
وراحوا فغرّبوا
|
|
ففاضت لروعات
الفراق عيون
|
وكم أنشدت وليالي
النوى عاتمة ، قول الأندلسي ابن خاتمة : [من المخمسات]
أيامنا بالحمى
ما كان أحلاك
|
|
كم بتّ أرعاه
إجلالا وأرعاك
|
لا تنكري وقفتي
ذلّا بمغناك
|
|
يا دار لو لا
أحبّائي ولولاك
|
لما
وقفت وقوف الهائم الباكي
|
فهل لهم عطفة من
بعد دلّهم
|
|
تالله ما تسمح
الدنيا بمثلهم
|
آها لقلبي على
تبديد شملهم
|
|
ما كان أحلاك يا
أيام وصلهم
|
ويا
ليالي الرّضا ما كان أضواك
|
يا بدر تمّ
تناءت عنه أربعنا
|
|
ولم تزل تحتويه
الدّهر أضلعنا
|
ما للنّوى بضروب
البين يوجعنا
|
|
إذا تذكّرت دهرا
كان يجمعنا
|
تفطّرت
كبدي شوقا لمرآك
|
أحباب أنفسنا كم
ذا النوى وكم
|
|
ويا معاهد
نجوانا بذي سلم
|
تالله ما شبت
دمعا للأسى بدم
|
|
ولا لثمت تراب
الأرض من كرم
|
إلّا
مراعاة خلّ ظلّ يرعاك
|
علّ التعلّل
يدني منهم وعسى
|
|
فيعمر القرب ما
بالبين قد درسا
|
كم ذا أنادي
بربع بالنوى طمسا
|
|
يا قلب صبرا
فإنّ الصّبر عاد أسى
|
ويا
منازل سلمى أين سلماك
|
وقول بعض من اشتدّ
به الهيام ، فخاطب جيرته مادحا ليالي القرب وذامّا تقلّب الأيام : [البسيط]
أيام أنسي قد
كانت بقربكم
|
|
بيضا ، فحين
نأيتم أصبحت سودا
|
__________________
ذممت عيشي مذ
فارقت أرضكم
|
|
من بعد ما كان
مغبوطا ومحسودا
|
وقول صاحب مصارع
العشّاق ، وقد شاقه من الهوى ما شاق : [مجزوء الكامل]
بانوا فأدمع
مقلتي
|
|
وجدا عليهم
تستهلّ
|
وحدا بهم حادي
الفرا
|
|
ق عن المنازل
فاستقلّوا
|
قل للذين
ترحّلوا
|
|
عن ناظري والقلب
حلّوا
|
ما ضرّهم لو
أنهلوا
|
|
من ماء وصلهم
وعلّوا
|
وقوله حين زحزحته
يد الفراق ، عن أوطان العراق : [مجزوء الكامل]
قد قلت والعبرات
تس
|
|
فحها على الخدّ
المآقي
|
حين انحدرت إلى
الجزي
|
|
رة وانقطعت عن
العراق
|
وتخبّطت أيدي
الرفا
|
|
ق مهامه البيد
الرقاق
|
يا بؤس من سلّ
الزما
|
|
ن عليه سيفا
للفراق
|
وقوله أيضا : [السريع]
يا منزل الحيّ
بذات النّقا
|
|
سقاك دمع مذ
نأوا ما رقا
|
هل سلوة؟ هيهات!
لا سلوة
|
|
قد بلغ السيل
الزّبى وارتقى
|
وأنت يا يوم
النّوى عاجلا
|
|
أدال منك الله
يوم اللّقا
|
وقولي موطّئا
للثالث ، وقد تغيّر لي فيمن تغيّر حارث : [البسيط]
لم أنس معهدنا
والشّمل مجتمع
|
|
والعيش غضّ وروض
الأنس معطار
|
فها أنا بعد بعد
عنه في قلق
|
|
وقد نبت بي
أرجاء وأقطار
|
تمضي الليالي
وأشواقي مجدّدة
|
|
وما انقضت لي من
الأحباب أوطار
|
وكلما مررت بمرأى
يروق ، لمعت لي من ناحية المغنى بالمنى بروق ، فتذكرت قول بعض من له على غير من
يهوى طروق : [الرجز]
ما نظرت عيني
سواك منظرا
|
|
مستحسنا إلّا
عرضت دونه
|
__________________
وما تمنّيت لقاء
غائب
|
|
إلّا سألت الله
أن تكونه
|
وربما رمت انتحائي
مذهب السلوّ وانتحالي ، خلال أحوال إقامتي وارتحالي ، فلم ينتقل عن تلك الصفات
حالي ، وأنّى وجيدي بقلائد البتات حالي؟ : [الكامل]
والشوق أعظم أن
يحيط بوصفه
|
|
قلم وأن يطوى
عليه كتاب
|
والله ما أنا
منصف إن كان لي
|
|
عيش يطيب وجيرتي
غيّاب
|
وكيف ولآماقي صبّ ، ولأتواقي زيادة إذا سرى نسيم أو هبّ؟ : [الطويل]
شربت حميّا
البين صرفا ، وطالما
|
|
جلوت محيّا
الوصل وهو وسيم
|
فميعاد دمعي أن
تنوح حمامة
|
|
وميقات شوقي أن
يهبّ نسيم
|
فإن لاح سنا بارق
شاقني ، أو ترنّم شاد حدا بي إلى الهيام وساقني ، أو رنا ظبي فلاة راعني وراقني : [الطويل]
وإنّي ليصبيني
سنا كلّ بارق
|
|
وكلّ حمام في
الأراك ينوح
|
وأرتاع من ظبي
الفلاة إذا رنا
|
|
وأرتاح للتذكار
وهو سنوح
|
ولم يك ذاك
الأمر من حيث ذاته
|
|
ولكن لمعنى في
الحبيب يلوح
|
ولا أستطيع
الإعراب عن أمري العجيب ، لما بي من النوى المذهل والجوى المدهش والوجيب : [الطويل]
ولا تسألوا عمّا
أجنّ فليس لي
|
|
لسان يؤدّي ما
الغرام يقول
|
يطارحني البرق
الأحاديث كلّما
|
|
أضاء كأنّ البرق
منه رسول
|
وما بال خفّاق
النسيم يميلني
|
|
هل الريح راح
والشّمال شمول
|
إذ دموع شؤوني عند الذكرى لا ترقا ، وجفوني ليس لها عن الأرق مرقى ، وشجوني تنمو إذا صدحت
بفننها ورقا : [الخفيف]
__________________
ربّ ورقاء في
الدياجي تنادي
|
|
إلفها في غصونها
الميّاده
|
فتثير الهوى
بلحن عجيب
|
|
يشهد السّمع
أنها عوّاده
|
كلما رجّعت
توجّعت حزنا
|
|
فكأنّا في وجدنا
نتباده
|
فيا لها من ذات
طوق ، مثيرة لكامن شوق ، جالبة له من يمين وشمال وفوق : [الخفيف]
ذكّرتني الورقاء
أيام أنس
|
|
سالفات فبتّ
أذري الدموعا
|
ووصلت السّهاد
شوقا لحبّي
|
|
وغراما وقد هجرت
الهجوعا
|
كيف يخلو قلبي
من الذكر يوما
|
|
وعلى حبّهم حنيت
الضّلوعا
|
كلما أولع
العذول بعتبي
|
|
في هواهم يزداد
قلبي ولوعا
|
وربما أتخيّل قول
من قال إنها بالحزن بائحة ، وعلى فقد الإلف نائحة ، فأنشد قول خليل ، وهو بالحبّ
مدنف وعليل : [الوافر]
وربّ حمامة في
الدّوح باتت
|
|
تجيد النّوح
فنّا بعد فنّ
|
أقاسمها الهوى
مهما اجتمعنا
|
|
فمنها النّوح
والعبرات منّي
|
ولا غرو إن ظهر
سرّ بائح ، فباك مثلي من الشّجو نائح : [الكامل]
فرجعت بعد فراق
أيام الهوى
|
|
أصف الصّبابة
للمحبّ المولع
|
دامي الجفون إذا
الحمامة غرّدت
|
|
من فوق خوط
البانة المترعرع
|
أسقي الديار.
وقد تباعد أهلها
|
|
عنها. عزاليّ
الدّموع الهمّع
|
ونواعب الأطلال
ليس يجيبني
|
|
ما بينهنّ سوى
الصّدى بتوجّع
|
وهواتف فوق
الغصون يجيبني
|
|
منهنّ تغريد
الحمام السّجع
|
ناحت على عذب
الفروع وإلفها
|
|
منها بمرأى
فوقها وبمسمع
|
ما فارقت إلفا
كما فارقته
|
|
كلّا ولا أجرت
سواكب أدمعي
|
على أوان عيون
سعوده روان ، وزمان معمور بأمانيّ وأمان ، وآمال دوان ، وتهان ما بين بكر وعوان ،
وفي عذر من طال ليله فاضطرب فيه لولوعه ، وسكن جواه بجوانحه وضلوعه : [الكامل]
__________________
إن طال ليلي
بعدهم فلطوله
|
|
عذر ، وذاك لما
أقاسي منهم
|
لم تسر فيه
نجومه لكنّها
|
|
وقفت لتسمع ما
أحدّث عنهم
|
فأرقي ، الزائد في
حرقي ، أظهر المكنون وأبان ، ووجدي بمن نأى وبان ، لم يجد فيه تعلّل برند وبان : [الرجز]
تنبّهي ، يا
عذبات الرّند ،
|
|
كم ذا الكرى؟
هبّ نسيم نجد
|
فلست مثلي في
جوى أو أرق
|
|
وحرقة من
فرقة أو صدّ
|
عوفيت ممّا حلّ
بي من جيرة
|
|
في الغرب لم
يرثوا لفرط وجدي
|
أعلّل القلب
ببان عنهم
|
|
وهل ينوب غصن عن
قدّ
|
بانوا فلا مغنى
السرور بعدهم
|
|
مغنى ، ولا عهد
الرضا بعهد
|
آها من البعد
ومن لم يدره
|
|
لم يشجه تأوّهي
للبعد
|
وفي شغل من أبكته
الربوع والطلول ، وذهبت برهة من زمانه بين الترحّل والحلول ، فركب من الأخطار
الصّعب والذّلول ، وحافظ على العهود ولم يسلك سبيل الغادر الملول : [الطويل]
سقاها الحيا من
أربع وطلول
|
|
حكت دنفي من
بعدهم ونحولي
|
ضمنت لها أجفان
عين قريحة
|
|
من الدّمع مدرار
الشؤون همول
|
ومن الغريب ، الذي
ينكره غير الأريب ، أنّ الحادي إن سرّ القلب بكشف رين ، فقد تسبّب في اجتماع أمرين
متنافيين متنافرين : [الطويل]
ترنّم حاد
بالصّريم فشاقني
|
|
إلى ذكر من باتت
ضلوعي تضمّه
|
فسرّ وساء النفس
شجوا فربما
|
|
كلفت به من حيث
صرت أذمّه
|
وارتجلت حين مللت
من طول السّرى ، مضمّنا ذكر ما أروم له تيسّرا ، وقد أكثر الرفاق عند رؤية ما لم
يألفوه من الآفاق تلهّفا وتحسّرا : [الخفيف]
قلت لمّا طال
النّوى عن بلادي
|
|
ولأهل النوى جوى
وعويل
|
__________________
هل أرى للفراق
آخر عهد
|
|
إنّ عمر الفراق
عمر طويل
|
ثم قلت مضمّنا : [الرمل]
لائمي في ذكر
أحباب نأوا
|
|
لا تلم من أضعف
الشّوق قواه
|
إنّ يوما جامعا
شملي بهم
|
|
ذاك عيدي ، ليس
لي عيد سواه
|
ثم قلت مضمّنا
أيضا [الطويل]
لك الله من صبّ
أضرّ به النّوى
|
|
وليس له غير
اللقاء طبيب
|
وإنّ صباحا
نلتقي بمسائه
|
|
صباح إلى قلبي
المشوق حبيب
|
ثم عدت إلى
التّصبّر ، بعد إمعان النظر والتدبّر : [الطويل]
وإني لأدري أنّ
في الصّبر راحة
|
|
ولكنّ إنفاقي
على الصّبر من عمري
|
فلا تطف نار
الشوق بالشوق طالبا
|
|
سلوّا ، فإنّ
الجمر يسعر بالجمر
|
ثم سلكت منهج
التفويض والتسليم ، منشدا قول ابن قطرال المغربي في مقام النصح والتعليم ، ووجّهت
القصد إلى سكان الضمير بذلك التكليم : [الرمل]
إنّ أيام الرّضا
معدودة
|
|
والرضا أجمل شيء
بالعبيد
|
لا تظنّوا عنكم
لي سلوة
|
|
ما على شوقي
إليكم من مزيد
|
راجعوا أنفسكم
تستيقنوا
|
|
أنكم في الوقت
أقصى ما أريد
|
إنّ يوما يجمع
الله بكم
|
|
فيه شملي ذاك
عندي يوم عيد
|
وقول بعض من ندم
على البعد عن المعاهد ، وأمّل العود ـ والعود أحمد ـ إلى المشاهد ، وغفر للدهر
ذنبه إن عاد ، وتلهّف أن لم يعامله بغير الإبعاد : [الطويل]
لئن عاد جمع
الشّمل في ذلك الحمى
|
|
غفرت لدهري كلّ
ذنب تقدّما
|
وإن لم يعد منّيت
نفسي بعودة
|
|
وما ذا عسى تجدي
الأماني وقلّما
|
يحقّ لقلبي أن
يذوب صبابة
|
|
وللعين أن تجري
مدامعها دما
|
على زمن ماض بهم
قد قطعته
|
|
لبست به ثوب
المسرّة معلما
|
وقول آخر يخاطب
أحبابه ، ويذكر فواصل بحر النّوى الطويل وأسبابه : [الطويل]
__________________
أعيذكم من لوعتي
وشجوني
|
|
ونار جوى تذكى
بماء شؤوني
|
وبرح أسى لم يبق
فيّ بقيّة
|
|
سوى حركات تارة
وسكون
|
أرى القلب أضحى
بعد طارقة الأسى
|
|
أسير صبابات
رهين شجون
|
وكيف سبيل القرب
منكم ودونكم
|
|
رمال زرود
والأجارع دوني ؟
|
سلوا مضجعي هل
قرّ من بعد بعدكم
|
|
وهل عرفت طعم
الرّقاد جفوني
|
سهرنا بنعمان ،
ونمتم ببابل ،
|
|
فيا لعيون ما
وفت لعيون
|
وفي بعض الأحيان ،
أتسلّى بقول بعض الأندلسيين الأعيان : [الكامل]
لا تكترث بفراق
أوطان الصّبا
|
|
فعسى تنال
بغيرهنّ سعودا
|
فالدّرّ ينظم
عند فقد بحاره
|
|
بجميل أجياد
الحسان عقودا
|
وقول غيره : [الكامل]
فعسى الليالي أن
تمنّ بنظمنا
|
|
عقدا كما كنّا
عليه وأكملا
|
فلربّما نثر
الجمان تعمّدا
|
|
ليعاد أحسن في
النظام وأجملا
|
وأرغب لمن أطال
ذيول الغربة أن يقلّصها ، وأطلب ممّن أجال النفوس في سيول الكربة أن يخلّصها : [البسيط]
فنلتقي وعوادي
الدهر غافلة
|
|
عمّا نروم وعقد
البين محلول
|
والدار آنسة ،
والشّمل مجتمع ،
|
|
والطّير صادحة ،
والروض مطلول
|
وأضرع إليه ـ سبحانه!
ـ في تيسير العود إلى أوطاني ، ومعهدي الذي مطايا العزّ أوطاني ، وأن يلحقني بذلك الأفق الذي خيره موفور ، وحقّ من فيه
معروف لا منكر ولا مكفور : [البسيط]
إذا ظفرت من
الدنيا بقربهم
|
|
فكلّ ذنب جناه
الدّهر مغفور
|
وكأني بعاتب يقول
: ما هذا التطويل؟ فأقول له : جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل : [البسيط]
__________________
أكثرت عذلي
كأنّي كنت أول من
|
|
بكى على مسكن أو
حنّ للسّكن
|
لا تلح إنّ من
الإيمان عند ذوي ال
|
|
إيمان منّا حنين
النّفس للوطن
|
على أنني أقول :
اللهمّ يسّر لي ما فيه الخيرة لي بالمشارق أو بالمغارب ، وجد لي من فضلك حيث حللت
بجميع ما فيه رضاك من المآرب ، بجاه نبيّنا وشفيعنا المبعوث رحمة للأحمر والأسود
والأعاجم والأعارب ، عليه أفضل صلاة وأزكى سلام ، وعلى آله وأصحابه الأعلام ،
والتابعين لهم بإحسان ما ذرّ شارق ، وتعاقب طالع وغارب.
ثم جدّ بنا السّير
في البرّ أياما ، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبّا لها وهياما ،
وكنّا عن تفاعيل فضلها نياما ، إلى أن ركبنا البحر ، وحللنا منه بين السّحر
والنّحر ، وشاهدنا من أهواله ، وتنافي أحواله ، ما لا يعبّر عنه ،
ولا يبلغ له كنه : [مخلع البسيط]
البحر صعب
المرام جدّا
|
|
لا جعلت حاجتي
إليه
|
أليس ماء ونحن
طين
|
|
فما عسى صبرنا
عليه
|
فكم استقبلنا أمواجه بوجوه بواسر ، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر ، قد أزعجتها أكفّ
الرّيح من وكرها ، كما نبّهت اللجج من سكرها ، فلم تبق شيئا من قوّتها ومكرها ،
فسمعنا للجبال صفيرا ، وللرياح دويّا عظيما وزفيرا ، وتيقّنّا أنّا لا نجد من ذلك
إلّا فضل الله مجيرا وخفيرا ، (وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧].
وأيسنا من الحياه ، لصوت تلك العواصف والمياه ، فلا حيّا الله ذلك الهول المزعج
ولا بيّاه ، والموج يصفّق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب ، فكأنه من كأس
الجنون يشرب أو شرب ، فيبتعد ويقترب ، وفرقه تلتطم وتصطفق ، وتختلف ولا تكاد تتفق
، فتخال الجوّ يأخذ بنواصيها ، وتجذبها أيديه من قواصيها ، حتى كاد سطح الأرض يكشف من
خلالها ، وعنان السّحب يخطف في استقلالها ، وقد أشرفت النفوس على التّلف من خوفها
واعتلالها ، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها ، وساءت الظنون ، وتراءت في
صورها المنون ، والشّراع في قراع مع جيوش الأمواج ، التي أمدّت منها الأفواج
بالأفواج ، ونحن قعود ، كدود على عود ، ما بين فرادى وأزواج ، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا ، وخرست من الفرق ألسنتنا ، وتوهّمنا
__________________
أنه ليس في الوجود
، أغوار ولا نجود ، إلّا السماء والماء وذلك السّفين ، ومن في قبر جوفه دفين ، مع
ترقّب هجوم العدوّ ، في الرواح والغدوّ ، لاجتيازه على عدّة من بلاد الحرب ، دمّر
الله سبحانه من فيها وأذهب بفتحها عن المسلمين الكرب ، لا سيما مالطة الملعونة ،
التي يتحقّق من خلص من معرّتها أنه أمدّ بتأييد إلهيّ ومعونة ، فقد اعترضت في لهوات البحر
الشامي شجا ، وقلّ من ركبه فأفلت من كيدها ونجا ، فزادنا ذلك الحذر ، الذي لم يبق
ولم يذر ، على ما وصفناه من هول البحر قلقا ، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء
باليد إلى التهلكة طلقا ، وتشتّتت أفكارنا فرقا ، وذبنا أسى وندما وفرقا ، إذ
البحر وحده لا كميّ يقارعه ، ولا قويّ يصارعه ، ولا شكل يضارعه ، لا يؤمن على كل
حال ، يفرّق بين عاطل وحال ، ولا بين أعزل وشاك ، ومتباك وباك : [الرجز]
ثلاثة ليس لها
أمان
|
|
البحر والسّلطان
والزّمان
|
فكيف وقد انضمّ
إليه خوف العدوّ الغادر الخائن والكافر الحائن ، إلى أن قضى الله بالنجاة وكلّ ما أراد فهو الكائن ، وإن
نهى عنه وأخطأ المائن ، فرأينا البرّ وكأنّا قبل لم نره ، وشفيت به أعيننا من
المره ، وحصل بعد الشدّة الفرج ، وشممنا من السلامة أطيب الأرج ، فيا لها من نعمة كشفت عن وجهها النّقاب ، يقلّ شكرا لها
صوم الأحقاب وعتق الرقاب ، جعلنا الله بآياته معتبرين ، وعلى طاعته مصطبرين ، ولم
نخل في البرّ من معاناة خطوب ، ومداراة وجوه للمتاعب ذات تجهّم وقطوب ، فكم جبنا
منه مهامه فيحا ، ومسحنا بالخطا منها أثيرا وصفيحا ، وفلّينا الفجاج ،
وقرأنا من الطرق خطوطا ذات استقامة واعوجاج ، وقلوب الرفقة من الفرقة في اضطراب
وارتجاج ، وربما عميت على المجتهد الأدلّة التي يحصل بها على المذهب الاحتجاج ،
فترى الأنفاس تعثّر في زفرة الأشواق ، والأجسام قد زرّت عليها من التعب الأطواق ،
هذا واللّيل بصفحة البدر مرتاب ، وقد شدّت رحال وأقتاب ، وزمّت ركاب ورفعت أحداج ،
وفريت من الدّعة بمدية النّصب أوداج ، وتساوى في السير نهار مشرق وليل مقمر أو داج
، وأديم التأويب والإسآد ، وحمل الغربة قد أثقل وآد ، ثم وصلنا بعد خوض بحار ،
يدهش فيها الفكر ويحار ، وجوب فياف مجاهل ، يضلّ فيها القطا عن المناهل ، إلى مصر
المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع ، وشاهدنا كثيرا من محاسنها التي تعجز عن
وصفها القوافي
__________________
والأسجاع ،
وتمثّلنا في بدائعها التي لا نستوفيها ، بقول ابن ناهض فيها : [مجزوء الرجز]
شاطىء مصر جنّة
|
|
ما مثلها في بلد
|
لا سيّما مذ
زخرفت
|
|
بنيلها المطّرد
|
وللرياح فوفه
|
|
سوابغ من زرد
|
مسرودة ما مسّها
|
|
داودها بمبرد
|
سائلة وهو بها
|
|
يرعد عاري الجسد
|
والفلك كالأفلاك
بي
|
|
ن حادر ومصعد
|
وبقول آخر : [مجزوء
الكامل]
انظر إلى النّيل
الّذي
|
|
ظهرت به آيات
ربّي
|
فكأنه في فيضه
|
|
دمعي وفي
الخفقان قلبي
|
وبقول أبي المكارم
بن الخطير ، المعروف بابن ممّاتي ، في جزيرتها : [الطويل]
جزيرة مصر ، لا
عدتك مسرّة
|
|
ولا زالت
اللّذات فيك اتّصالها
|
فكم فيك من شمس
على غصن قامة
|
|
يميت ويحيي
هجرها ووصالها
|
مغانيك فوق
النيل أضحت هوادجا
|
|
ومختلفات الموج
فيك حبالها
|
ومن أعجب
الأشياء أنك جنّة
|
|
تمدّ على أهل
الضلال ظلالها
|
لعلّه أراد بأهل
الضلال اليهود والنصارى المستولين إذ ذاك على الدولة. وتذكّرت في مصر قول القاضي
الفاضل : [الكامل]
بالله قل للنّيل
عنّي إنّني
|
|
لم أشف من ماء
الفرات غليلا
|
وسل الفؤاد فإنه
لي شاهد
|
|
إن كان طرفي
بالبكاء بخيلا
|
يا قلب ، كم
خلّفت ثمّ بثينة
|
|
وأظنّ صبرك أن
يكون جميلا
|
__________________
وقول أحمد بن فضل
الله العمري : [مجزوء الرجز]
لمصر فضل باهر
|
|
بعيشها الرّغد
النّضر
|
في سفح روض
يلتقي
|
|
ماء الحياة
والخضر
|
وقول آخر : [الوافر]
كأنّ النّيل ذو
فهم ولبّ
|
|
لما يبدو لعين
الناس منه
|
فيأتي حين
حاجتهم إليه
|
|
ويمضي حين
يستغنون عنه
|
وقول آخر : [الطويل]
ولله مجرى
النّيل منه إذا الصّبا
|
|
أرتنا به من
مرّها عسكرا مجرا
|
بشطّ يهزّ
السّمهريّة ذبّلا
|
|
وموج يهزّ البيض
هنديّة بترا
|
إذا مدّ حاكى
الورد لونا ، وإن صفا
|
|
حكى ماءه لونا
ولم يحكه مرّا
|
وقول آخر : [الكامل]
واها لهذا
النّيل! أيّ عجيبة
|
|
بكر بمثل حديثها
لا يسمع
|
يلقى الثّرى في
الماء وهو مسلّم
|
|
حتى إذا ما مال
عاد يودّع
|
مستقبل مثل
الهلال فدهره
|
|
أبدا يزيد كما
يزيد ويرجع
|
وقول ابن النقيب :
[السريع]
الصّبّ من بعدهم
مفرد
|
|
ودمعه النّيل
وتعليقه
|
وخدّه لمّا
بكاهم دما
|
|
مقياسه ،
والدّمع تخليقه
|
وقول الصّفدي : [مجزوء الكامل]
سقيا لمصر وما
حوت
|
|
من أنسها
وأناسها
|
ومحاسن في مقسها
|
|
تبدو وفي
مقياسها
|
__________________
ومسرّة كاساتها
|
|
تجلى على
أكياسها
|
وسطور قرط خطّها
ال
|
|
باري على
قرطاسها
|
ودمى كنائسها ،
ولا
|
|
تنسى ظباء
كناسها
|
ولطافة بجلالة
|
|
تبدو على
جلّاسها
|
ونواسم كلّ
المنى
|
|
للنفس في
أنفاسها
|
ومراكب لعبت بها
ال
|
|
أمواج في
وسواسها
|
وقول ابن جابر
الأندلسي : [الكامل]
ما زلت أسند من
محاسن أرضها
|
|
خبرا صحيحا ليس
بالمقطوع
|
كم مرسل من
نيلها ومسلسل
|
|
ومدبّج من هضبها
المرفوع
|
وقول إبراهيم بن
عبدون : [الكامل]
والنّيل بين
الجانبين كأنّما
|
|
صدئت بصفحته
صفيحة صيقل
|
يأتيك من كدر
الزّواخر مدّه
|
|
بممسّك من مائه
ومصندل
|
فكأنّ ضوء البدر
في تمويجه
|
|
برق تموّج في
سحاب مسبل
|
وكأنّ نور
السّرج من جنباته
|
|
زهر الكواكب تحت
ليل أليل
|
مثل الرياض
مفتّقا أنواره
|
|
تبدو لعين مشبّه
وممثّل
|
وقول ابن الصاحب :
[مجزوء الكامل]
فرح الأنام
بنيلهم
|
|
إذ صار أحمر
كالشّقيق
|
وتبرّكوا بشروقه
|
|
فكأنه وادي
العقيق
|
وقول آخر : [المجتث]
__________________
احمرّ للنّيل
خدّ
|
|
حتى غدا كالشقيق
|
وقد ترنّمت فيه
|
|
إذ صار وادي
العقيق
|
ثم شمّرت عن ساعد
العزم بعد الإقامة بمصر مدّة قليلة ، إلى المهمّ الأعظم والمقصد الأكبر الذي هو
سرّ المطالب الجليلة ، وهو رؤية الحرمين الشريفين ، والعلمين المنيفين ، زادهما
الله تنويها ، وبلّغ النفوس ببركة من شرفا به مآرب لم تزل تنويها ، فسافرت في
البحر إلى الحجاز ، راجيا من الله سبحانه في الأجر الانتجاز ، إلى أن بلغت جدة ،
بعد مكابدة خطوب اتّخذت لها من الصبر عدّة ، فحين حصل القرب ، واكتحلت العين بإثمد
تلك التّرب ، ت رنّمت بقول من قال ، محرّضا على الوخد والإرقال : [البسيط]
بدا لك الحقّ
فاقطع ظهر بيداء
|
|
واهجر مقالة
أحباب وأعداء
|
واقصد على عزمة
أرض الحجاز تجد
|
|
بعدا عن السّخط
في نزل الأودّاء
|
وقل إذا نلت من
أمّ القرى أربا
|
|
وهو الوصول
بإسرار وإبداء
|
يا مكة الله ،
قد مكّنت لي حرما
|
|
مؤمّنا لست أشكو
فيه من داء
|
فمذ رأى النازح
المسكين مسكنه
|
|
في قطرك الرّحب
لم ينكب بأرزاء
|
شوق الفؤاد إلى
مغناك متّصل
|
|
شوق الرياض إلى
طلّ وأنداء
|
ثم أنشدت ، عندما
بدت أعلام البيت الحرام ، قول بعض من غلب عليه الشوق والغرام ، وقد بلغ من أمانيه
الموجبة بشائره وتهانيه المرام : [البسيط]
وافى الحجيج إلى
البيت العتيق وقد
|
|
سجا الدّجى
فرأوا نورا به بزغا
|
عجّوا عجيجا
وقالوا : الله أكبر ما
|
|
للجوّ مؤتلقا
بالنور قد صبغا
|
قال الدليل :
ألا هاتوا بشارتكم
|
|
فمن نوى كعبة
الرحمن قد بلغا
|
نادوا على العيس
بالأشواق وانتحبوا
|
|
وحنّ كلّ فؤاد
نحوها وصغا
|
وكلّ من ذمّ
فعلا نال محمدة
|
|
في مكة ومحا ما
قد جنى وبغى
|
ولما وقع بصري على
البيت الشريف كدت أغيب عن الوجود ، واستشعرت قول العارف
__________________
بالله الشبلي لما وفد إلى حضرة الجود : [الخفيف]
قلت للقلب إذ
تراءى لعيني
|
|
رسم دار لهم
فهاج اشتياقي
|
هذه دارهم وأنت
محبّ
|
|
ما احتباس
الدموع في الآماق
|
والمغاني للصّبّ
فيها معاني
|
|
فهي تدعى مصارع
العشّاق
|
حلّ عقد الدموع
واحلل رباها
|
|
واهجر الصّبر
وارع حقّ الفراق
|
ثم أكملت العمرة ،
ودعوت الله أن أكون ممّن عمر بطاعة ربّه عمره ، وذلك أوائل ذي القعدة من عام
ثمانية وعشرين وألف من الهجرة السنيّة ، وأقمت هنالك منتظرا وقت الحجّ الشريف ،
ومتفيّئا ذلك الظلّ الوريف ، ومقتطفا ثمار القرب الجنيّة ، إلى أن جاء الأوان ،
فأحرمت بالحجّ من غير توان ، وحين حللت مما به أحرمت ، نويت الإقامة هنالك وأبرمت
، فحال من دون ذلك حائل ، وكنت حريّا بأن أنشد قول القائل : [الكامل]
هذي أباطح مكة
حولي وما
|
|
جمعت مشاعرها من
الحرمات
|
أدعو بها لبّيك
تلبية امرئ
|
|
يرجو الخلاص بها
من الأزمات
|
نلت المنى بمنى
لأني لم أخف
|
|
بالخيف من ذنب
أحال سماتي
|
وعرفت في عرفات
أني ناشق
|
|
للعفو عرفا عاطر
النّسمات
|
وأن أتمثّل في
المطاف ، إذ حفّتني الألطاف ، بقول من ربعه بالتقوى مشيد ، البغدادي الشهير بابن
رشيد : [الطويل]
على ربعهم لله
بيت مبارك
|
|
إليه قلوب الناس
تهوي وتهواه
|
يطوف به الجاني
فيغفر ذنبه
|
|
ويسقط عنه جرمه
وخطاياه
|
وكم لذة أو فرحة
لطوافه
|
|
فلله ما أحلى
الطواف وأهناه
|
ثم قصدنا بعد قضاء
تلك الأوطار ، طيبة الشريفة التي لها الفضل على الأقطار ، واستشعرت قول من
أنشد وطير عزمه عن أوكاره قد طار : [الطويل]
__________________
حمدت مرادي إذ
بلغت مرادي
|
|
بأمّ القرى
مستمسكا بعمادي
|
ومذ رويت من ماء
زمزم غلّتي
|
|
فلست بمحتاج
لماء ثماد
|
فلله سبحانه الحمد
على نعمه التي جلّت ، ومننه التي نزلت بها النفوس مواطن التشريف وحلّت : [الكامل]
من يهده الرحمن
خير هداية
|
|
يحلل بمكة كي
يتاح المقصدا
|
وإذا قضى من
حجّه الفرض انثنى
|
|
يشفي برؤية طيبة
داء الصّدى
|
وكان حظّي في هذه
الحال تذكّر قول بعض الوشّاحين من الأندلسيين الذين كان لهم ارتحال إلى تلك المعاهد
الطاهرة ، والمشاهد الزاهرة ، التي تشدّ إليها الرحال :
يا من لعبد له
افتقار
|
|
إلى أياد له جسام
|
فضلك مدن لخير
مدن
|
|
حلّ بها سيّد
الأنام
|
لم يهف قلبي
لحبّ ليلى
|
|
ولا سعاد ولا
الرّباب
|
لاقى شجونا ونال
ويلا
|
|
من هام في ذلك
الجناب
|
بل مال مني
الفؤاد ميلا
|
|
لمن له الحبّ لا
يعاب
|
قلبي والله
مستطار
|
|
مذ حلّ في بيته
الحرام
|
ذي الحجر
والرّكن خير ركن
|
|
وزمزم الخير
والمقام
|
ذابت قلوب
المطيّ عشقا
|
|
وركبها واستوى
المراد
|
إلى حبيب القلوب
حقّا
|
|
الحيّ والميت
والجماد
|
إلى الذي ليس
فيه يشقى
|
|
من حبّه داخل
الفؤاد
|
شكوا ، وقد طالت
السّفار
|
|
هم ومطاياهم ،
السّقام
|
فهي قسيّ من
التثنّي
|
|
والقوم من فوقها
سهام
|
__________________
ولست من سكرتي
مفيقا
|
|
حتى أرى حجرة
الرسول
|
فإن يسهّل لي
الطريقا
|
|
فذاك أقصى منى
وسول
|
متى ترى عيني
العقيقا
|
|
ويفرح القلب
بالوصول
|
كم قلت والصّبر
مستعار
|
|
للرّكب إذ
غادروا المنام
|
ونسمة الشّوق
حرّكتني
|
|
وزاد بي الوجد
والغرام
|
قوموا فقد طال
ذا الجلوس
|
|
وبادروا زورة
الحبيب
|
تاقت إلى طيبة
النفوس
|
|
لا عيش من دونها
يطيب
|
لا حبّذا دونها
الغروس
|
|
والماء والشادن
الرّبيب
|
وحبذا الرّمل
والقفار
|
|
والعرب في تلكم
الخيام
|
وأمّ غيلان
ظلّلتني
|
|
والأيك والأثل
والثّمام
|
يا طيبة ، حزت
كلّ طيب
|
|
بسيّد فيك ذي
حلول
|
نداء مستضعف
غريب
|
|
في غرّ أمداحه
يقول
|
وهو من السامع
المجيب
|
|
لمدحه يسأل
القبول
|
أنت الغنى لي
فلا افتقار
|
|
وأنت عزّي فلا
أضام
|
مستمسك منك حسن
ظني
|
|
بعروة ما لها
انفصام
|
بسيّد العالمين
أجمع
|
|
بأحمد المجتبى
الرسول
|
ومن هو الشافع
المشفّع
|
|
في موقف المحشر
المهول
|
إذ لا كلام هناك
يسمع
|
|
للغير والناس في
ذهول
|
إذ السماء لها
انفطار
|
|
والشّهب منثورة
النظام
|
كذا الجبال
انثنت كعهن
|
|
سريعة المرّ
كالغمام
|
يا أوّل الرّسل
في الفضيله
|
|
وإن تأخّرت في
الزّمن
|
__________________
شفاعة نلت مع
وسيله
|
|
فمن يضاهي علاك
من
|
علت بك الرّتبة
الجليله
|
|
وطبت في السّرّ
والعلن
|
فأنت من خيرهم
خيار
|
|
فمن يضاهيك في
المقام
|
والرّسل نالت بك
التمنّي
|
|
وأنت بدر لهم
تمام
|
الوجد قد قرّ في
فؤادي
|
|
فما لصبر به
قرار
|
ولا عجي صاعد
اتّقاد
|
|
ودمع عيني له
انهمار
|
وها أنا جئت من
بلادي
|
|
لطيبة أبتغي
الجوار
|
فحبّذا تلكم
الديار
|
|
والمصطفى مسكة
الختام
|
عليه أزكى
الصلاة مني
|
|
وصحبه الغرّ
والسّلام
|
وقول أبي جعفر
الرّعيني الغرناطي . رحمه الله تعالى ـ وهو من التشريع ، أحد أنواع البديع : [الكامل]
يا راحلا يبغي
زيارة طيبة
|
|
نلت المنى :
بزيارة الأخيار
|
حيّ العقيق إذا
وصلت وصف لنا
|
|
وادي منّى : يا
طيّب الأخبار
|
وإذا وقفت لدى
المعرّف داعيا
|
|
زال العنا :
وظفرت بالأوطار
|
ولمّا منّ الله
تعالى علينا بالحلول في المشاهد التي قام الدين بها وظهر ، والمعاهد التي بان
الحقّ فيها واشتهر ، والمواطن التي هزم الله تعالى حزب الشيطان فيها وقهر ، ونصرت
النبوّة وعضدت ، وقطعت غصون الكفر وحصدت ، ورصّت قواعد التوحيد ونضدت ، وقرّت
العيون ، وقضيت الديون ، أنشد لسان الحال ، قول بعض من جيده بمحاسن طيبة حال :
[البسيط]
يا من له طيبة
طابت حلى وعلى
|
|
ومن بتشريفه قد
شرّف العرب
|
يا أحمد المصطفى
، قد جئت من بلد
|
|
قاص ولي خلد قاس
ولي أرب
|
وقد دهتني ذنوب
قلت إذ عظمت
|
|
لله منها وطه
المرتجى الهرب
|
ونسينا بمشاهدة
ذلك الجناب ما كنّا فيه ، وسبق الدمع الذي لا يعارض الفرح ولا ينافيه : [الخفيف]
__________________
أيها المغرم
المشوق ، هنيئا
|
|
ما أنالوك من
لذيذ التلاقي
|
قل لعينيك
تهملان سرورا
|
|
طالما أسعداك
يوم الفراق
|
واجمع الوجد
والسرور ابتهاجا
|
|
وجميع الأشجان
والأشواق
|
وأمر العين أن
تفيض انهمالا
|
|
وتوالي بدمعها
المهراق
|
هذه دارهم وأنت
محبّ
|
|
ما بقاء الدموع
في الآماق
|
وملنا عن الأكوار ، وثملنا من عرف تلك الأنجاد والأغوار ، وتملّينا من هاتيك
الأنوار ، وتخلّينا عن الأغيار ، وتحلّينا بحلى الأخيار ، وكيف لا وطيبة مركز
للزوّار : [الطويل]
إذا لم تطب في
طيبة عند طيّب
|
|
به طيبة طابت
فأين تطيب؟
|
وإن لم يجب في
أرضها ربّنا الدّعا
|
|
ففي أيّ أرض
للدعاء يجيب؟
|
أيا ساكني أكناف
طيبة ، كلّكم
|
|
إلى القلب من
أجل الحبيب حبيب
|
وما أحسن قول عالم
الأندلس المالكي اللبيب ، عبد الملك السّلمي المشهور بابن حبيب : [الكامل]
لله درّ عصابة
صاحبتها
|
|
نحو المدينة
تقطع الفلوات
|
ومهامه قد جبتها
ومفاوز
|
|
ما زلت أذكرها
بطول حياتي
|
حتى أتينا القبر
قبر محمد
|
|
خصّ الإله محمدا
بصلات
|
خير البريّة
والنبيّ المصطفى
|
|
هادي الورى
لطرائق لنجاة
|
لمّا وقفت بقربه
لسلامه
|
|
جادت دموعي واكف
العبرات
|
ورأيت حجرته
وموضعه الذي
|
|
قد كان يدعو فيه
في الخلوات
|
مع روضة قد قال
فيها : إنها
|
|
مشتقّة من روضة
الجنّات
|
وبمنزل الأنصار
وسط قبابهم
|
|
بيت الهداية
كاشف الغمرات
|
وبطيبة طابوا
ونالوا رحمة
|
|
مغنى الكتاب
ومحكم الآيات
|
__________________
وبقبر حمزة
والصحابة حوله
|
|
فاضت دموع العين
منهمرات
|
سقيا لتلك
معاهدا شاهدتها
|
|
وشهدتها بالخطو
واللحظات
|
لا زلت زوّارا
لقبر نبيّنا
|
|
ومدينة زهراء
بالبركات
|
صلّى الإله على
النبيّ المصطفى
|
|
هادي البريّة
كاشف الكربات
|
وعلى ضجيعيه
السلام مردّدا
|
|
ما لاح نور
الحقّ في الظّلمات
|
وقول كمال الدين
ناظر قوص : [الطويل]
أنخ ، هذه
والحمد لله يثرب
|
|
فبشراك قد نلت
الذي كنت تطلب
|
فعفّر بهذا
التّرب وجهك ، إنه
|
|
أحقّ به من كلّ
طيب وأطيب
|
وقبّل ربوعا
حولها قد تشرّفت
|
|
بمن جاورت ،
والشيء بالشيء يحبب
|
وسكّن فؤادا لم
يزل باشتياقه
|
|
إليها على جمر
الغضى يتقلّب
|
وكفكف دموعا
طالما قد سفحتها
|
|
وبرّد جوى
نيرانه تتلهّب
|
وقول الرّعيني
الغرناطي : [الخفيف]
هذه روضة الرسول
فدعني
|
|
أبذل الدمع في
الصعيد السعيد
|
لا تلمني على
انسكاب دموعي
|
|
إنّما صنتها
لهذا الصّعيد
|
ولما سلّمت على
سيّد الأنام ، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ، ذبت حياء وخجلا ، لما أنا
عليه من ارتكاب ما يقتضي وجلا ، غير أني توسّلت بجاهه صلّى الله عليه وسلّم في أن
أكون ممّن وضح له وجه الصفح وجلا : [مجزوء الوافر]
إليك أفرّ من
زللي
|
|
فرار الخائف
الوجل
|
وكان مزار قبرك
بال
|
|
مدينة منتهى
أملي
|
فوفّى الله ما
طمحت
|
|
له نفسي بلا خلل
|
فخذ بيدي غريق
في
|
|
بحار القول
والعمل
|
__________________
وهب لي منك
عارفة
|
|
تعرّف ما تنكّر
لي
|
وتهديني إلى
رشدي
|
|
وتمنعني من
الزّلل
|
وتحملني على سنن
|
|
يؤمّنني من
الوجل
|
فأنت دليل من
عميت
|
|
عليه مسالك
السّبل
|
وإنك شافع برّ
|
|
وموئلنا من
الوهل
|
وإنك خير مبتعث
|
|
وإنك خاتم
الرّسل
|
فيا أزكى الورى
شرفا
|
|
وشافيهم من
العلل
|
ويا أندى الأنام
يدا
|
|
وأكرم ناصر وولي
|
نداء مقصّر وجل
|
|
بثوب الفقر
مشتمل
|
على جدواك
معتمدي
|
|
فأنقذني من
الدّخل
|
وألحقني بجنّات
|
|
لدى درجاتها
الأول
|
بصدّيق وفاروق
|
|
وعثمان الرّضى
وعلي
|
فأنت ملاذ معتصم
|
|
وأنت عماد متّكل
|
عليك صلاة ربك ج
|
|
لّ في الغدوات
والأصل
|
ومذ شممنا من أرج
تلك الأرجاء الذاكية ، واستضأنا بسرج تلك الأضواء الزاكية ، ظهر من الشوق ما كان
بطن ، ولم يخطر ببالنا سكن ولا وطن ، ويا سعادة من أقام بتلك البقاع الشريفة وقطن
: [الكامل]
مرّ النسيم
بربعهم فتلذّذا
|
|
حتى كأنّ النّشر
صار له غذا
|
فصحا وصحّ وصاح
لا أشكو أذى
|
|
قل للصّبا ما ذا
حملت من الشّذا
|
أمسست
طيبا أم علاك عبير
|
يا أيها الحادي
الذي من وسمه
|
|
قصد الحبيب وأن
يلمّ برسمه
|
__________________
هذي منازله
فزمزم باسمه
|
|
بأبي الذي لم
تذو زهرة جسمه
|
لكنه
غضّ الجمال نضير
|
لله شوق قد
تجاوز حدّه
|
|
أوفى على الصّبر
المشيد فهدّه
|
يا ناشق الكافور
لا تتعدّه
|
|
طوبى لمشتاق
يعفّر خدّه
|
في
روضة الهادي إليه يشير.
|
فهناك يبذل في
التوسّل وسعه
|
|
ويصيخ نحو خطيب
طيبة سمعه
|
ويريق فوق حصى
المصلّى دمعه
|
|
ويرى معالم من
يحبّ وربعه
|
ومحمد
للعالمين بشير
|
صلّى عليه الله
خير صلاته
|
|
وحبا معاليه
جليل صلاته
|
ما حنّ ذو
الأشواق في حالاته
|
|
وأتى مغانيه على
علّاته
|
فأتيح
حسن الختم وهو قرير
|
ووقفنا بباب طلب
الآمال خاشعين ، وتوسّلنا إلى الله بذلك المقام العليّ خاضعين ، وغبطنا قوما سكنوا
هنالك فكانوا لخدودهم متى شاؤوا على تلك الأعتاب واضعين : [من المخمسات]
أكرم بعبد نحو
طيبة منتد
|
|
متوسّل مستشفع
مسترشد
|
يفلي الفلاة لها
بعزم أيّد
|
|
وافى إلى قبر
النبيّ محمد
|
ولربعه
الأسمى يروح ويغتدي
|
أزجاه صادق حبّه
المتمكّن
|
|
وحداه سائق عزمه
المتعيّن
|
فحكى لدى شجو
حمام الأغصن
|
|
هزجا يردّد فيه
صوت ملحّن
|
ويمدّ
للإطراب صوت المنشد
|
ويقول جئت بعزمة
نزّاعة
|
|
ونهضت والدنيا
تمرّ كساعة
|
لمحلّ أحمد
قائلا بإذاعة
|
|
هذا النبيّ
المرتجى لشفاعة
|
__________________
يوم القيامة بين ذاك المشهد
هذا الرؤوف
بجاره ونزيله
|
|
هذا سراج الله
في تنزيله
|
هذا الذي لا ريب
في تفضيله
|
|
هذا حبيب الله
وابن خليله
|
هذا
ابن باني البيت أوّل مسجد
|
هذا الذي اصطفت
النّبوّة خيمه
|
|
هذا الذي اعتام
الهدى تقديمه
|
هذا الذي نسقى
غدا تسنيمه
|
|
هذا الذي جبريل
كان خديمه
|
في
حضرة التشريف أزكى مصعد
|
هذا الذي شهد
الوجود بخصّه
|
|
بمزيّة التفضيل
من مختصّه
|
وأبانه من وحيه
في نصّه
|
|
هذا الذي ارتفع
البراق بشخصه
|
في
ليلة الإسراء أشرف مشهد
|
هذا الذي غدت
الطلول حديقة
|
|
بجواره وغدت
تروق أنيقة
|
هذا المكمّل
خلقة وخليقة
|
|
هذا الذي سمع
النداء حقيقة
|
ودنا
ولم يك قبل ذاك بمبعد
|
فهناك كم رسل به
تتوسّل
|
|
وعلى حماه لدى
المعاد يعوّل
|
يا أرحم
الرّحماء أنت الموئل
|
|
يا خاتم الإرسال
أنت الأول
|
فترقّ
في أعلى المكارم واصعد
|
الله رفّع في
سراه مناره
|
|
وأبان في السّبع
العلا أنواره
|
فقفت ملائكة
السما آثاره
|
|
وأراه جنّته
هناك وناره
|
فمؤبّد
ومخلّد لمخلّد
|
كم ذاد من وجل
وجلّى ظلمة
|
|
وامتنّ بالرّحمى
ومتّن حرمة
|
لمّا دجا أفق
الضّلالة دهمة
|
|
بعث الإله به
ليرحم أمّة
|
لولاه
كانت بالضلالة ترتدي
|
__________________
حاز الشّفوف
فكلّ خلق دونه
|
|
فالغيث يسأل إذ
يسيل يمينه
|
والشمس تستهدي
الشروق جبينه
|
|
والله فضّله
وأظهر دينه
|
ووفى
لنا فيه بصدق الموعد
|
نطقي يغادي ذكره
ويراوح
|
|
وبه ينافج مسكة
وينافح
|
تعيي اللسان
محامد وممادح
|
|
طوبى لمن قد عاش
وهو يكافح
|
عنه
يناضل باللسان وباليد
|
هو صفوة العرب
الألى أحسابهم
|
|
أسيافهم قرنت
بها أسبابهم
|
فهم لباب المجد
وهو لبابهم
|
|
من آل بيت لم
تزل أنسابهم
|
تنبي
لهم عن طيب عنصر مولد
|
شرف النّبوّة قد
رسا في أهلها
|
|
وسما على الزّهر
العلا بمحلّها
|
ساق السوابق
للفخار برسلها
|
|
نطق الكتاب كما
علمت بفضلها
|
وقضى
به نصّ الحديث المسند
|
فوق السّماك
توطّنت وتوطّدت
|
|
وتفرّدت
بالمصطفى وتوحّدت
|
فهي الخلاصة
صفّيت فتجرّدت
|
|
من معدن فيه
الرسالة قد بدت
|
من
عصر آدمنا لعصر محمد
|
طالوا فلم يبقوا
لمجد مصعدا
|
|
صالوا ففي
أيمانهم حتف العدا
|
سئلوا فهم
لعفاتهم غيث الجدا
|
|
أهل السقاية
والرفادة والنّدى
|
والكعبة
البيت الحرام المقصد
|
المطعمون وقد
طوى ألم الطّوى
|
|
الناهضون إذا
الصريخ لهم نوى
|
العاطفون إذا
الطريق بهم لوى
|
|
أهل السّدانة
والحجابة واللّوى
|
__________________
أهل المقام وزمزم والمسجد
المصلحون إذا
الجموع تخاذعت
|
|
المنجحون إذا
المساعي دافعت
|
الدافعون إذا
الأعادي قارعت
|
|
المؤثرون إذا
السّنون تتابعت
|
وفد
الحجيج بنيل كلّ تفقّد
|
لا يقرب الخطب
الملمّ منيعهم
|
|
لا يطرق الكرب
المخيف قريعهم
|
والله شرّف
بالنبيّ جميعهم
|
|
من نال رتبتهم
وحاز صنيعهم
|
نال
الشّفوف وحاز معنى السؤدد
|
حلّوا من الطّود
الأشمّ بمنعة
|
|
في خير معتصم
وأسمى رفعة
|
فهم بمنّة أمنه
في هجعة
|
|
الله خصّصهم
بأشرف بقعة
|
محجوجة
محفوفة بالأسعد
|
لمّا أتيت لرامة
أصل السّرى
|
|
من بعد قصدي مكة
أمّ القرى
|
أنشدت جهرا فيه
أنثر جوهرا
|
|
وإليكها يا خير
من وطئ الثّرى
|
عذراء
تزري بالعذارى الخرّد
|
كلّ الحسان
لحسنها قد أدهشا
|
|
ما مثلها في
تربها شاد نشا
|
سفرت بعزم ما
أجدّ وأطيشا
|
|
نشأت بطيّ القلب
وارتوت الحشا
|
زهراء
من يرها يهلّ ويسجد
|
أمّتك تشؤو في
مداها الألسنا
|
|
وتري إجادتها
المجيد المحسنا
|
تغدو ولا تثني
العنان عن الثّنا
|
|
وأتتك تمرح
كالقضيب إذا انثنى
|
مترنّحا
بين الغصون الميّد
|
قد أعملت في
المدح ثاقب ذهنها
|
|
ترجو الحلول لدى
قرارة أمنها
|
__________________
وعسى إذا غذيت
بتربة عدنها
|
|
يجلو لك الإحسان
بارع حسنها
|
والحسن
يجلوها وإن لم تنشد
|
مدحي لخير
العالمين عقيدتي
|
|
ومطيّتي بل
طيبتي ونشيدتي
|
ونتيجتي وهدى
اليقين مفيدتي
|
|
ولئن مدحت محمدا
بقصيدتي
|
فلقد
مدحت قصيدتي بمحمد
|
يا خير خلق الله
دعوة حائر
|
|
يشكو إليك صروف
دهر جائر
|
والله يعلم في
هواك سرائري
|
|
وهو الذي أرجو
لعفو جرائري
|
متوسّلا
بجنابك المتأطّد
|
لو لا حقوق
عيّنت بمغارب
|
|
لمكثت عندك كي
تتاح مآربي
|
ويكون في
الزرقاء عذب مشاربي
|
|
حتى أحلّي من
ثراك ترائبي
|
وأنال
دفنا في بقيع الغرقد
|
وعليك من ربّ
حباك صلاته
|
|
وسلامه وهباته
وصلاته
|
ما أمّ بابك من
هدته فلاته
|
|
لعلاك حتى زحزحت
علاته
|
فأتيح
حسن الختم دون تردّد
|
ثم ودّعته صلّى
الله عليه وسلّم والقلب من فراقه سقيم ، ووقعت من البعد عن تلك المعاهد في المقعد
المقيم ، وأنا أرجو أن يكون شكل منطقي غير عقيم ، وأن أحشر في زمرة من سلك الصراط
المستقيم : [الخفيف]
يا شفيع العصاة
أنت رجائي
|
|
كيف يخشى الرجاء
عندك خيبه
|
وإذا كنت حاضرا
بفؤادي
|
|
غيبة الجسم عنك
ليست بغيبه
|
ليس بالعيش في
البلاد انتفاع
|
|
أطيب العيش ما
يكون بطيبه
|
ثم عدت إلى مصر ،
وقد زال عنّي ببركته صلّى الله عليه وسلّم الإصر ، وذلك في محرم سنة ١٠٢٩ ، ثم قصدت زيارة بيت المقدس في
شهر ربيع من هذا العام ، وقد شملتني بفضل الله جوائز
__________________
الإنعام ، وتذكّرت
عند مشاهدة تلك المسالك الصعبة قول حافظ الحفّاظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله
تعالى ـ وهو ممّا زادني في هذه الزيارة رغبة : [الوافر]
إلى البيت
المقدّس جئت أرجو
|
|
جنان الخلد نزلا
من كريم
|
قطعنا في مسافته
عقابا
|
|
وما بعد العقاب
سوى النعيم
|
فلما دخلت المسجد
الأقصى ، وأبصرت بدائعه التي لا تستقصى ، بهرني جماله الذي تجلّى الله به عليه ،
وسألت عن محلّ المعراج الشريف فأرشدت إليه ، وشاهدت محلّا أمّ فيه صلّى الله عليه
وسلّم الرّسل الكرام الهداة ، وكان حقّي أن أنشد هنالك ما قاله بعض الموفقين وهو
مما ينبغي أن تزمزم به الحداة : [مجزوء الكامل]
إن كنت تسأل أين
قد
|
|
ر محمد بين
الأنام
|
فأصخ إلى آياته
|
|
تظفر بريّك في
الأوام
|
أكرم بعبد سلّمت
|
|
تقديمه الرّسل
الكرام
|
في حضرة للقدس وا
|
|
فاها بعزّ
واحترام
|
صفّوا وصلّوا
خلفه
|
|
إنّ الجماعة
بالإمام
|
للشّهب نور بيّن
|
|
والفضل للقمر
التّمام
|
سلك النّبوّة
باهر
|
|
وبأحمد ختم
النظام
|
هذا الكتاب
دلالة
|
|
تبقى إلى يوم
القيام
|
شهدت له من بعد
عج
|
|
ز ألسن اللّدّ
الخصام
|
خير الورى وأجلّ
آ
|
|
يات له خير
الكلام
|
فعليه من ربّ
الورى
|
|
أزكى صلاة مع
سلام
|
وربما يقول من يقف
على سرد هذه الأمداح النبوية : إلى متى وهذا الميدان تكلّ فيه فرسان البديهة
والرّويّة؟ فأنشده في الجواب ، قول بعض من أمّ نهج الصّواب : [الرمل]
لأديمنّ مديح
المصطفى
|
|
فعل من في الله
قوّى طمعه
|
__________________
فعسى أنعم في
الدنيا به
|
|
وعسى يحشرني
الله معه
|
وإذا كان القريض
في بعض الأحيان كذبا صراحا ، والموفّق من تركه والحالة هذه رغبة عنه وله اطّراحا ،
فخيره ما كان حقّا وهو مدح الله ورسوله ، وبذلك يحصل للعبد منتهى سوله: [الخفيف]
ليس كلّ القريض
يقبله السّم
|
|
ع وتصغي لذكره
الأفهام
|
إنّ بعض القريض
ما كان هزءا
|
|
ليس شيئا ،
وبعضه أحكام
|
وأجلّ الكلام ما
كان في مد
|
|
ح شفيع الورى
عليه السلام
|
طيّب العرف دائم
الذّكر لا تأ
|
|
تي الليالي عليه
والأيّام
|
مثل زهر قد شقّ
عنه كمام
|
|
أو كمسك قد فضّ
عنه ختام
|
ليس تحصى صفات
أحمد بالعدّ
|
|
كما لم تحط به
الأوهام
|
ولو انّ البحار
حبر وما في ال
|
|
أرض من كلّ نابت
أقلام
|
فطويل المديح
فيه قصير
|
|
وحسام ماض لديه
كهام
|
ولسان البليغ
للعيّ ينمى
|
|
وكذا صيّب
الفصيح جهام
|
كيف يحصى مديح
مولى عليه ال
|
|
لّه أثنى وذكره
مستدام
|
وله المعجزات
والآي تبدو
|
|
لا يغطّي
وجوههنّ لثام
|
فمن المعجزات أن
سار ليلا
|
|
وجميع الأنام
فيه نيام
|
راكبا للبراق
حتى أتى القد
|
|
س وفيه رسل
الإله الكرام
|
فاستووا خلفه
صفوفا وقالوا
|
|
صلّ يا أحمد
فأنت الإمام
|
فعليه من ربّه
صلوات
|
|
زاكيات مع صحبه
وسلام
|
ثم رجعت إلى
القاهرة ، وكرّرت منها الذهاب إلى البقاع الطاهرة ، فدخلت لهذا التاريخ
__________________
الذي هو عام تسعة
وثلاثين وألف مكة خمس مرات ، حصلت لي بالمجاورة فيها المسرّات ، وأمليت فيها على
قصد التبرّك دروسا عديدة ، والله يجعل أيام العمر بالعود إليها مديدة ، ووفدت على
طيبة المعظّمة ميمّما مناهجها السديدة ، سبع مرار ، وأطفأت بالعود إليها ما
بالأكباد الحرار ، واستضأت بتلك الأنوار ، وألّفت بحضرته صلّى الله عليه وسلّم بعض
ما منّ الله به عليّ في ذلك الجوار ، وأمليت الحديث النبويّ بمرأى منه عليه الصلاة
والسلام ومسمع ، ونلت بذلك وغيره ـ ولله المنّة ـ ما لم يكن لي فيه مطمح ولا مطمع
، ثم أبت إلى مصر مفوّضا لله جميع الأمور ، ملازما خدمة العلم الشريف بالأزهر
المعمور ، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة ، فتحرّكت
همّتي أوائل رجب هذه السنة للعود للبيت المقدّس ، وتجديد العهد بالمحلّ الذي هو
على التقوى مؤسّس ، فوصلت أواسط رجب ، وأقمت فيه نحو خمسة وعشرين يوما بدا لي فيها
بفضل الله وجه الرشد وما احتجب. وألقيت عدة دروس بالأقصى والصخرة المنيفة ، وزرت
مقام الخليل ومن معه من الأنبياء ذوي المقامات الشريفة ، وكنت حقيقا بأن أنشد قول
ابن مطروح ، في ذلك المقام الذي فضله معروف وأمره مشروح : [الوافر]
خليل الله ، قد
جئناك نرجو
|
|
شفاعتك التي
ليست تردّ
|
أنلنا دعوة
واشفع تشفّع
|
|
إلى من لا يخيب
لديه قصد
|
وقل يا ربّ
أضياف ووفد
|
|
لهم بمحمّد صلة
وعهد
|
أتوا يستغفرونك
من ذنوب
|
|
عظام لا تعدّ
ولا تحدّ
|
إذا وزنت بيذبل
أو شمام
|
|
رجحن ودونها
رضوى وأحد
|
ولكن لا يضيق
العفو عنهم
|
|
وكيف يضيق وهو
لهم معدّ
|
وقد سألوا رضاك
على لساني
|
|
إلهي ما أجيب
وما أردّ
|
فيا مولاهم عطفا
عليهم
|
|
فهم جمع أتوك
وأنت فرد
|
ثم استوعبت أكثر
تلك المزارات المباركة كمزار موسى الكليم ، على نبيّنا وعليهم وعلى سائر المرسلين
والأنبياء أجمعين أفضل الصلاة والتسليم ، ثم حدث لي منتصف شعبان ، عزم على الرحلة
إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان ، دمشق الشام ذات الحسن والبهاء والحياء
__________________
والاحتشام ،
والأدواح المتنوّعة ، والأرواح المتضوّعة ، حيث المشاهد المكرّمة ، والمعاهد المحترمة ،
والغوطة الغنّاء والحديقة ،
والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه ، والأظلال الوريفة والأفنان الوريقة
، والزّهر الذي تخاله مبسما والنّدى ريقه ، والقضبان الملد ، التي تشوّق رائيها
بجنة الخلد : [الوافر]
بحيث الروض
وضّاح الثنايا
|
|
أنيق الحسن
مصقول الأديم
|
وهي المدينة
المستولية على الطّباع ، المعمورة البقاع ، بالفضل والرباع : [الطويل]
تزيد على مرّ
الزمان طلاوة
|
|
دمشق التي راقت
بحلو المشارب
|
لها في أقاليم
البلاد مشارق
|
|
منزّهة أقمارها
عن مغارب
|
ودخلتها أواخر
شعبان المذكور ، وحمدت الرحلة إليها وجعلها الله من السعي المشكور : [الطويل]
وجدت بها ما
يملأ العين قرّة
|
|
ويسلي عن
الأوطان كلّ غريب
|
وشاهدت بعض
مغانيها الحسنة ، ومبانيها المستحسنة : [الطويل]
نزلنا بها ننوي
المقام ثلاثة
|
|
فطابت لنا حتى
أقمنا بها شهرا
|
ورأينا من محاسنها
ما لا يستوفيه من تأنّق في الخطاب ، وأطال في الوصف وأطاب ، وإن ملأ من البلاغة
الوطاب ، كما قلت : [المجتث]
محاسن الشام
أجلى
|
|
من أن تحاط بحدّ
|
لو لا حمى
الشّرع قلنا
|
|
ولم نقف عند حدّ :
|
كأنها معجزات
|
|
مقرونة بالتحدّي
|
فالجامع الجامع
للبدائع يبهر الفكر ، والغوطة المنوطة بالحسن تسحر الألباب لا سيما إذا حيّاها
النسيم وابتكر : [الطويل]
أحبّ الحمى من
أجل من سكن الحمى
|
|
حديث حديث في
الهوى وقديم
|
__________________
فلله مرآها الجميل
الجليل ، وبيوتها التي لم تخرج عن عروض الخليل ، ومخبرها الذي هو على فضلها وفضل أهلها أدلّ دليل ،
ومنظرها الذي ينقلب البصر عن بهجته وهو كليل : [الكامل]
والروض قد راق
العيون بحلّة
|
|
قد حاكها بسحابه
آذار
|
وعلى غصون
الدّوح خضر غلائل
|
|
والزّهر في
أكمامه أزرار
|
فكم لها من حسن
ظاهر وكامن ، كما قلت موطّئا للبيت الثامن : [مجزوء الكامل]
أمّا دمشق فجنّة
|
|
لعبت بألباب
الخلائق
|
هي بهجة الدّنيا
التي
|
|
منها بديع الحسن
فائق
|
لله منها
الصالحي
|
|
ية فاخرت بذوي
الحقائق
|
والغوطة الغنّاء
حيّ
|
|
ت بالورود
وبالشقائق
|
والنهر صاف
والنسي
|
|
م اللّدن
للأشواق سائق
|
والطير بالعيدان
أب
|
|
دت في الغنا
أحلى الطرائق
|
ولآلىء الأزهار
حلّ
|
|
ت جيد غصن فهو
رائق
|
ومراوذ الأمطار
قد
|
|
كحلت بها حدق
الحدائق
|
لا زال مغناها
مصو
|
|
نا آمنا كلّ
البوائق
|
وكما قلت مرتجلا
أيضا مضمّنا الرابع والخامس : [المجتث]
دمشق راقت رواء
|
|
وبهجة وغضاره
|
فيها نسيم عليل
|
|
صحّ فوافت بشاره
|
وغوطة كعروس
|
|
تزهى بأعجب شاره
|
يا حسنها من
رياض
|
|
مثل النّضار
نضاره
|
__________________
كالزهر زهرا
وعنها
|
|
عرف العبير
عباره
|
والجامع الفرد
منها
|
|
أعلى الإله
مناره
|
وحاصل القول
فيها
|
|
لمن أراد
اختصاره
|
تذكيرها من رآها
|
|
عدنا وحسبي
إشاره
|
دامت تفوق سواها
|
|
إنالة وإناره
|
وكما ارتجلت فيها
أيضا : [الخفيف]
قال لي ما تقول
في الشام حبر
|
|
كلّما لاح بارق
الحسن شامه
|
قلت ما ذا أقول
في وصف قطر
|
|
هو في وجنة
المحاسن شامه
|
وقلت أيضا : [الخفيف]
قال لي صف دمشق
مولى رئيس
|
|
جمّل الله خلقه
واحتشامه
|
قلت كلّ اللسان
في وصف قطر
|
|
هو في وجنة
البسيطة شامه
|
وقلت أيضا : [الكامل]
وإذا وصفت محاسن
الدنيا فلا
|
|
تبدأ بغير دمشق
فيها أوّلا
|
بلد إذا أرسلت
طرفك نحوه
|
|
لم تلق إلّا
جنّة أو جدولا
|
ذا وصف بعض
صفاتها وهي التي
|
|
تعيي البليغ وإن
أجاد وطوّلا
|
والغاية في هذا
الباب ، من الوصف لبعض محاسنها الفاتنة الألباب ، قول أبي الوحش سبع بن خلف الأسدي
يصف أرضها المشرقة ، ورياضها المورقة ، ونسيمها العليل ، وزهرها البليل : [الرجز]
سقى دمشق الشام
غيث ممرع
|
|
من مستهلّ ديمة
دفّاقها
|
مدينة ليس يضاهى
حسنها
|
|
في سائر الدنيا
ولا آفاقها
|
تودّ زوراء العراق أنها
|
|
تعزى إليها لا
إلى عراقها
|
__________________
فأرضها مثل
السماء بهجة
|
|
وزهرها كالزهر
في إشراقها
|
نسيم ريّا روضها
متى سرى
|
|
فكّ أخا الهموم
من وثاقها
|
قد ربع الربيع
في ربوعها
|
|
وسيقت الدنيا
إلى أسواقها
|
لا تسأم العيون
والأنوف من
|
|
رؤيتها يوما ولا
انتشاقها
|
وقول شمس الدين
الأسدي الطيبي : [الوافر]
إذا ذكرت بقاع
الأرض يوما
|
|
فقل سقيا لجلّق
ثم رعيا
|
وقل في وصفها لا
في سواها :
|
|
بها ما شئت من
دين ودنيا
|
وكأنّ لسان الدين
ذا الوزارتين ابن الخطيب ، عناها بقوله المصيب : [الكامل]
بلد تحفّ به
الرياض كأنّه
|
|
وجه جميل
والرياض عذاره
|
وكأنّما واديه
معصم غادة
|
|
ومن الجسور
المحكمات سواره
|
وكنت قبل رحلتي
إليها ، ووفادتي عليها ، كثيرا ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم ، ما
يشوّقني إلى رؤيتها ولقائهم ، وينشقني على البعد أريج الأدب الفائق من تلقائهم ،
حتى لقيت بمكة المعظمة ، أوحد كبرائها الذين فرائدهم بلبّة الدهر منظّمة ، عين الأعيان ، وصدر أرباب التفسير بها
والبيان ، صاحب القلم الذي طبّق الكلى والمفاصل ، والفتاوى التي حكمها بين الحق
والباطل فاصل ، والتآليف التي وصفها بالإجادة من باب تحصيل الحاصل ، وارث العلم عن
غير كلالة ، ذو الحسب المشرق بدره في سماء الجلالة ، صاحب المعارف التي زانت خلاله
، وساحب أذيال العوارف التي أبانت عن فضله دلالة ، مفتي السلطان في تلك الأوطان ، على مذهب
الإمام النّعمان ، مولانا الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام عماد الدين ، لا زال سالكا سبيل المهتدين
، فكان جمّل الله به عصرا وأوانا ، لقضية هذا القياس عنوانا ، فلما حللت بدارهم ،
ورأيت ما أذهلني من سبقهم للفضل وبدارهم ، صدق الخبر ،
__________________
وتمثّلت فيهم بقول
بعض من غبر : [الطويل]
ألمّت بنا
أوصافهم فامتلأ الفضا
|
|
عبيرا وأضحى
نوره متألّقا
|
وقد كان هذا من
سماع حديثهم
|
|
بلاغا فصحّ
النّقل إذ حصل اللّقا
|
وقابلوني ـ أسماهم
الله ـ بالاحتفال والاحتفاء ، وعرّفني بديع برّهم فنّ الاكتفاء : [الخفيف]
غمرتني المكارم
الغرّ منهم
|
|
وتوالت عليّ
منها فنون
|
شرط إحسانهم
تحقّق عندي
|
|
ليت شعري الجزاء
كيف يكون
|
وقابلوني بالقبول
مغضين عن جهلي : [الطويل]
وما زال بي
إحسانهم وجميلهم
|
|
وبرّهم حتى
حسبتهم أهلي
|
بل الأولى أن
أتمثّل فيهم بما هو أبلغ من هذا المقول في آل المهلّب ، وهو قول بعض من نزل بقوم
برق قصدهم غير خلّب ، في زمن به تقلّب : [الطويل]
ولمّا نزلنا في
ظلال بيوتهم
|
|
أمنّا ونلنا
الخصب في زمن المحل
|
ولو لم يزد
إحسانهم وجميلهم
|
|
على البرّ من
أهلي حسبتهم أهلي
|
لا سيما المولى
الذي أمداحه تحلّي أجياد الطّروس العاطلة ، وسماحه يخجل أنواء الغيوث الهاطلة ،
صدر الأكابر الأعاظم ، الحائز قصب السّبق في ميدان الإجادة بشهادة كلّ ناثر وناظم
، الصديق الذي بودّه أغتبط ، والصّدوق الذي بأسباب عهده أرتبط ، الأوحد الذي ضربت
البراعة رواقها بناديه ، والماجد الذي لم يزل بديع البلاغة من كثب يناديه ،
السّريّ الحائز من الخلال ما أبان تفضيله ، اللّوذعيّ الذي لم تزل أوصافه تحكم له بالسؤدد وتقضي له ، والحقّ
أبلج لا يحتاج إلى زيادة براهين ، الأجلّ المولى أحمد أفندي بن شاهين ، لا زالت العزة مقيمة بواديه ، ولا برحت حضرته جامعة
لبواطن الفخر وبواديه ، والسّعد يراوح مقامه ويغاديه ، والمجد يترنّم بذكره حاديه
، فكم له ـ أسماه الله ـ ولغيره من أعيان دمشق لديّ من أياد ، يعجز عن الإبانة
عنها لو أراد وصفها قسّ إياد ، ولو تعرّضت لأسمائهم وحلاهم ، أدام الله
__________________
تعالى سؤددهم وعلاهم ، لضاق عن ذلك هذا النّطاق ، وكان من شبه التكليف
بما لا يطاق ، فليت شعري بأيّ أسلوب ، أؤدّي بعض حقّهم المطلوب؟ أم بأي لسان ،
أثني على مزاياهم الحسان؟ وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء ، وتعاطوا
أكواب المحامد ملاء ؟ وسحبوا من المجد مطارف وملاء ، وحازوا المكارم ، وبذّوا الموادد والمصارم ، سؤددا وعلاء؟ : [الرجز]
فما رياض زهر
الرّبيع
|
|
إذا بدت في
وشيها البديع
|
ضاحكة عن شنب
الأقاح
|
|
عند سفور طلعة
الصّباح
|
غنّى بها مطوّق
الحمام
|
|
وصافحتها راحة
الغمام
|
وباكرتها نسمة
من الصّبا
|
|
فأصبحت كأنها
عهد الصّبا
|
نضارة ورونقا
وبهجه
|
|
تفدى بكلّ ناظر
ومهجه
|
أطيب من ثنائهم
عبيرا
|
|
بين الورى فاسأل
به خبيرا
|
دامت معاليهم
على طول الزمن
|
|
يروى حديث الفضل
عنها عن حسن
|
وثابت وقرّة
وسعد
|
|
وأسعفوا بنيل
كلّ وعد
|
فهم الذين نوّهوا
بقدري الخامل ، وظنّوا مع نقصي أنّ بحر معرفتي وافر كامل ، حسبما اقتضاه طبعهم
العالي :
فلو شريت بعمري
ساعة ذهبت
|
|
من عيشتي معهم
ما كان بالغالي
|
فمتعيّن حقّهم لا
يترك ، وحبّهم لا يخالط بغيره ولا يشرك ، وإن أطلت الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك :
[البسيط]
يزداد في مسمعي
ترداد ذكرهم
|
|
طيبا ويحسن في
عيني مكرّره
|
وإذا كان المديح
الصادق لا يزيدهم رفعة قدر ، فهم كما قال الأعرابي الذي ضلّت ناقته في مدح البدر ،
والبليغ وذو الحصر في ذلك سيّان ، والحقّ أبلج والباطل لجلج وليس الخبر كالعيان : [الطويل]
__________________
هب الرّوض لا
يثني على الغيث نشره
|
|
أتحسبه تخفى
مآثره الحسنى
|
وقد تذكرت بلادي
النائية ، بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه ، فلما شئت من أنهار ذات انسجام ،
أترع فيها من جريال الأنس جام ، وأزهار متوّجة للأدواح ، مروّحة للنفوس بعاطر
الأرواح ، وحدائق تعشي أنوارها الأحداق ، وعيانها للخبر عنها مصداق وأي مصداق : [الكامل]
فهي التي ضحك
النهار صباحها
|
|
وبكت عشيّتها
عيون النرجس
|
واخضرّ جانب
نهرها فكأنّه
|
|
سيف يسلّ وغمده
من سندس
|
وجنان ، أفنانها
في الحسن ذوات افتنان : [الخفيف]
صافحتها الرياح
فاعتنق السّر
|
|
وومالت طواله
للقصار
|
لائذ بعضه ببعض
كقوم
|
|
في عتاب مكرّر
واعتذار
|
وبطاح راق سناها ،
وكمل حسنها وتناهى ، كما قلت مضمّنا في ذلك المنحى ، لقول بعض من نال في البلاغة
منى ومنحا : [الوافر]
دمشق لا يقاس
بها سواها
|
|
ويمتنع القياس
مع النّصوص
|
حلاها راقت
الأبصار حسنا
|
|
على حكم العموم
أو الخصوص
|
بساط زمرّد نثرت
عليه
|
|
من الياقوت
ألوان الفصوص
|
ولله درّ القائل ،
في وصف تلك الفضائل : [الخفيف]
إن تكن جنّة
الخلود بأرض
|
|
فدمشق ، ولا
يكون سواها
|
أو تكن في
السماء فهي عليها
|
|
قد أمدّت هواءها
وهواها
|
بلد طيّب وربّ
غفور
|
|
فاغتنمها عشيّة
أو ضحاها
|
وعند رؤيتي لتلك
الأقطار ، الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار ، تفاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أوطار ، إذ التشابه
بينهما قريب في الأنهار والأزهار ، ذات العرف المعطار ، وزادت هذه بالتقديس الذي
همعت عليها منه الأمطار ، وتمثّلت بقول الأصفهاني ، وإن غيّرت يسيرا منه لما أسفرت
وجوه التهاني : [مجزوء الكامل]
__________________
لمّا وردت
الصالحي
|
|
ية حيث مجتمع
الرّفاق
|
وشممت من أرض
الشآ
|
|
م نسيم أنفاس
العراق
|
أيقنت لي ولمن
أحب
|
|
بجمع شمل واتّفاق
|
وضحكت من فرح
اللقا
|
|
ء كما بكيت من
الفراق
|
لم يبق لي إلّا
تجش
|
|
شم أزمن السّفر
البواقي
|
حتى يطول حديثنا
|
|
بصفات ما كنّا
نلاقي
|
وكنت قبل حلولي
بالبقاع الشامية مولعا بالوطن لا سواه ، فصار القلب بعد ذلك مقسّما بهواه : [الطويل]
ولي بالحمى أهل
وبالشّعب جيرة
|
|
وفي حاجر خلّ
وفي المنحنى صحب
|
تقسّم ذا القلب
المتيّم بينهم
|
|
سألتكم بالله هل
يقسم القلب؟
|
فيا لك من صبّ
مراع للذمام ، منقاد لشوقه بزمام ، يخيّل له أنه سمع صوت قيان ، بقول الأول : [الطويل]
إلى الله أشكو
بالمدينة حاجة
|
|
وبالشام أخرى
كيف يلتقيان
|
وفرد تعدّدت جموعه
، ووشت بما أكنّت ضلوعه دموعه ، فأنشد وقد تحيّر ، ما بدّل فيه من عظم ما به وغيّر
: [البسيط]
كتمت شأن الهوى
يوم النّوى فوشى
|
|
بسرّه من جفوني
أيّ نمّام
|
كانت لياليّ
بيضا في دنوّهم
|
|
فلا تسل بعدهم
عن حال أيامي
|
ضنيت وجدا بهم
والناس تحسب بي
|
|
سقما فأبهم حالي
عند لوّامي
|
وليس أصل ضنى
جسمي النحيل سوى
|
|
فرط اشتياقي
لأهل الغرب والشام
|
وحصل التحيّر ،
حيث لم يمكن الجمع ولا الخلوّ عند التخيّر ، كما قال ابن دقيق العيد ، في مثل هذا الغرض البعيد : [الطويل]
إذا كنت في نجد
وطيب نعيمه
|
|
تذكّرت أهلي
باللّوى فمحسّر
|
__________________
وإن كنت فيهم
زدت شوقا ولوعة
|
|
إلى ساكني نجد
وعيل تصبّري
|
فقد طال ما بين
الفريقين موقفي
|
|
فمن لي بنجد بين
أهلي ومعشري
|
وبالجملة
فالاعتراف بالحقّ فريضة ، ومحاسن الشام وأهله طويلة عريضة ، ورياضه بالمفاخر
والكمالات أريضة ، وهو مقرّ الأولياء والأنبياء ، ولا يجهل فضله إلّا
الأغمار الأغبياء ، الذين قلوبهم مريضة : [البسيط]
أنّى يرى الشّمس
خفّاش يلاحظها
|
|
والشمس تبهر
أبصار الخفافيش
|
ولله درّ من قال
في مثل هذا من الأرضياء : [الوافر]
وهبني قلت هذا الصّبح ليل
|
|
أيعمى العالمون
عن الضّياء
|
وقال آخر فيمن عن
الحق ينفر : [الطويل]
إذا لم يكن
للمرء عين بصيرة
|
|
فلا غرو أن
يرتاب والصّبح مسفر
|
وحسب الفاضل
اللبيب ، أن يروي قول البدر بن حبيب : [السريع]
عرّج إذا ما شمت
برق الشآم
|
|
وحيّ أهل الحيّ
واقر السلام
|
وانزل بإقليم
جزيل الحيا
|
|
بارك فيه الله
ربّ الأنام
|
العزّ والنّصر
لديه ، وما
|
|
لعروة الإسلام
عنه انفصام
|
من أولياء الله
كم قد حوى
|
|
ركنا بمرآه يطيب
المقام
|
وهو مقرّ
الأنبياء الألى
|
|
والأصفياء
الأتقياء الكرام
|
كم من شهيد في
حماه وكم
|
|
من عالم فرد وكم
من إمام
|
ولذلك اعتنت
الجهابذة بتخليد أخباره في الدواوين ، وابتنت الأساتذة بيوت افتخاره المنيفة
الأواوين ، وتناقلت أنباءه البديعة ألسن الراوين ، وهامت بأماكنه المريعة هداة
الشريعة فضلا عن الشعراء الغاوين ، ومع ذلك فهم في التعبير عن عجائبه غير متساوين
، أولا يرى أنهم يأتون من مقولهم ، على قدر رأيهم وعقولهم ، ولم يبلغ جمع منهم ما
كانوا له ناوين : [الطويل]
__________________
على قدرك
الصّهباء توليك نشوة
|
|
بها سيء أعداء
وسرّ صحاب
|
ولو أنها تعطيك
منها بقدرها
|
|
لضاقت بك
الأكوان وهي رحاب
|
وكنّا في خلال
الإقامة بدمشق المحوطة ، وأثناء التأمّل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة
، كثيرا ما ننظم في سلك المذاكرة درر الأخبار الملقوطة ، ونتفيّأ من ظلال التبيان
مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة ، نتجاذب فيها أهداب الآداب ، ونشرب من سلسال
الاسترسال ونتهادى لباب الألباب ، ونمدّ بساط الانبساط ونسدل أطناب الإطناب ،
ونقضي أوطار الأقطار ، ونستدعي أعلام الأعلام ، فينجرّ بنا الكلام والحديث شجون ،
وبالتفنّن يبلغ المستفيدون ما يرجون ، إلى ذكر البلاد الأندلسية ، ووصف رياضها
السندسية ، التي هي بالحسن منوطة ، وقضاياها الموجّهة التي لا يستوفيها المنطق مع
أنها ضرورية وممكنة ومشروطة ، والفطر السليمة ، والأفهام المستقيمة ، بتسليم براهينها
قاضية لا سيما إن كانت بالإنصاف مربوطة ، فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على
لساني ، من الفيض الرحماني ، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السّلماني
، صبّ الله عليه شآبيب رحماه وبلّغه من رضوانه الأماني! ما تثيره المناسبة وتقتضيه
، وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه ، من النظم الجزل ، في الجدّ والهزل ،
والإنشاء ، الذي يدهش به ذاكره الألباب إن شاء ، وتصرّفه في فنون البلاغة حالي
الولاية والعزل ، إذ هو ـ أعني لسان الدين ـ فارس النظم والنثر في ذلك العصر ،
والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر ، وكيف لا ونظمه لم تستول على مثله
أيدي الهصر ، ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر.
فلما تكرر ذلك غير
مرة على أسماعهم ، لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم ، وعلق بقلوبهم ،
وأضحى منتهى مطلوبهم ، ومنية آمالهم وأطماعهم ، وصاروا يقطفون بيد الرغبة فنونه ،
ويعترفون ببراعته ويستحسنونه ، ويستنشقون من أزهاره كلّ ذاك ، فطلب منّي المولى
أحمد الشاهيني إذ ذاك ، وهو الماجد المذكور ، ذو السعي المشكور ، أن أتصدّى
للتعريف بلسان الدين في مصنّف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه ، وبدائعه وصنائعه
ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه ، ومفاخره التي قلّد بها جيد الزمان ولبّته ، ومآثره التي أرج بها مسرى الشّمال وهبّته ، وبعض ما له
من النّثار والنظام ، والمؤلفات الكبار العظام ، الرائقة للأبصار ، الفائقة على
كلام كثير من أهل الأمصار ، السائرة مسير القمر والشمس ،
__________________
المعقودة عليها
بالخناصر بل الخمس ، كي ما يكون ذلك لهذه الأغراض مشيعا ، ويخلع على مطالعه بهذه
البلاد المشرقية من أغراضه البديعة ومنازعه وشيعا.
فأجبته أسمى الله
قدره الكبير ، وأدام عرف فضائله المزرى بالعنبر والعبير ، بأن هذا الغرض غير سهل ،
ولست علم الله له بأهل ، من جهات عديدة ، أوّلها قصوري عن تحمّل تلك الأعباء
الشديدة ، إذ لا يوفّي بهذا الغرض إلّا الماهر بطرق المعارف السديدة ، وثانيها عدم
تيسّر الكتب المستعان بها على هذا المرام لأني خلّفتها بالمغرب ، وأكثرها في
المشرق كعنقاء مغرب ، وثالثها شغل الخاطر بأشجان الغربة ، الجالبة للفكر غاية الكربة ، وتقسّم البال ، بين شغل عائق وبلبال ، وأنّى يطيق
، سلوك هذا المضيق ، من اكتحلت جفونه بالسهاد ، ونبت جنوبه عن المهاد ، وسدّد نحوه
الأسف سهمه ، وشغل باله ووهمه ، وبثّ في قلبه تريحا ، وعناء لم يجد منه إلّا أن
يلطف الله تسريحا ، فما شام بارقة أمل إلّا في النادر ، ولا ورد منهل صفاء إلّا
وكدّره مكر غادر ، وقد كثر الجفاء ، وبرح بلا شكّ الخفاء ، واستوخمت الموارد
والمصادر ، والقلب مكلوم ، وذو اللب غير ملوم ، إذا كان على تلفيق ما يليق غير قادر ، ولا مؤنس
إلا شاكي دهر بلسان صريح ، أو باكي قاصمة ظهر بجفن قريح ، أو مناضل في معترك العجز
طريح ، أو فاضل دفن من الخمول في ضريح ، إذ رمته سهام الأوهام الصوائب ، وعضّت منه
إبهام الإبهام بنابها النوى والنوائب ، فقلوبه من تقلّبات أحواله ذوائب ، وكم شابت
من أمثاله بصروف الدهر وأهواله ذوائب : [الطويل]
على أنها الأيام
قد صرن كلّها
|
|
عجائب حتى ليس
فيها عجائب
|
وأدمع أحجارها ،
تسلّط فجّارها ، فكم من عدوّ منهم في ثياب صديق ، وحسود لنظره إلى نعم الله على عباده
تحديق ، لا تخدعه المداراة ، ولا تردعه المماراة ، يتتبع العثرات ، ويقنع بألم البثرات ، ويتبسم ، وقلبه من
الغلّ يتقسّم ، ويتودّد ، ومكايده تتجدّد فتتعدّد : [الخفيف]
لا ترم من مماذق
الودّ
خيرا
|
|
فبعيد من
السّراب الشراب
|
__________________
رونق كالحباب
يعلو على الما
|
|
ء ولكن تحت
الحباب الحباب
|
عظمت في النّفاق
ألسنة القو
|
|
م وفي الألسن
العذاب العذاب
|
والصديق الصدوق في
هذا الزمن قليل ، وقد ألّف بعض العلماء «شفاء الغليل ، في ذمّ الصاحب والخليل» . وهو غير محمول على الإطلاق ، وإن قال به بعض من رهنه من
أبناء عصره ذو إغلاق : [مجزوء الكامل]
أبناء دهرك
فالقهم
|
|
مثل العدا
بسلاحكا
|
لا تغترر بتبسّم
|
|
فالسّيف يقتل
ضاحكا
|
وداء الحسد أعيا
الأوّل والآخر ، وقد عظم الأمر في هذا الأوان وكثر المزدري والساخر ، مع أن أسواق الدفاتر كاسدة ، وأمزجة المحابر
فاسدة : [مجزوء الكامل]
والدّهر دهر
الجاهلي
|
|
ن وأمر أهل
العلم فاتر
|
لا سوق أكسد فيه
من
|
|
سوق المحابر
والدفاتر
|
فالمنسوب للعلم في
هذا الزمن زمن ، وهو بأن ينشد قول الأول قمن : [الوافر]
لأيّ وميض بارقة
أشيم
|
|
ورعي الفضل عندهم هشيم
|
وليت شعري علام
يحسد من أبدل الاغتراب شارته ، وأضعف الاضطراب إشارته ، وأنهل بالدموع أنواءه ، وقلّل أضواءه ، وكثّر علله وأدواءه ،
وغيّر عند التأمّل رواءه ، وثنى عن المأمول عنانه ، وأرهف بالخمول سنانه ، حتى قدح
الذكر حنانه ، وملأ الفكر جأشه وجنانه ، فهو في ميدان النزوح مستبق ، ومن راحة
التعب مصطبح ومغتبق : [الطويل]
له أتّه المشتاق
في كلّ ساعة
|
|
تمرّ وما
للثاكلات من الحزن
|
ومن مرسلات
الدمع واقعة الأسى
|
|
ومن عاديات
البين قارعة السّنّ
|
تثير الذكرى منه
كوامن الشجون ، وتدير عليه جام الهيام ولو كان بين الصّفا والحجون : [الطويل]
__________________
وتحت ضلوع
المستهام كآبة
|
|
يخاف على
الأحشاء منها التّفطّرا
|
ولو أنّ أحشاء
تبوح بما حوت
|
|
لتمتلئنّ الأرض
كتبا وأسطرا
|
وشتّان ما بين
الاقتراب والاغتراب ، والسكون في الركون والنبوّ عنها والاضطراب ، فذاك تسهل غالبا
فيه الأغراض والمآرب ، وهذا تتعفّر فيه المقاصد وتتكدّر المشارب : [الطويل]
وما أنا عن
تحصيل دنيا بعاجز
|
|
ولكن أرى
تحصيلها بالدّنيّة
|
وإن طاوعتني
رقّة الحال مرّة
|
|
أبت فعلها أخلاق
نفس أبيّة
|
وكما قلت ، عندما
صرت إلى الاغتراب وألت : [الوافر]
تركت رسوم عزّي
في بلادي
|
|
وصرت بمصر منسيّ
الرسوم
|
ورضت النفس
بالتجريد زهدا
|
|
وقلت لها عن
العلياء صومي
|
مخافة أن أرى
بالحرص ممّن
|
|
يكون زمانه أحد
الخصوم
|
وكما قال بعض
الأكابر ، من أهل الزمان الغابر : [الكامل]
لا عار إن عطلت
يداي من الغنى
|
|
كم سابق في
الخيل غير محجّل
|
صان اللئيم ،
وصنت وجهي ، ماله
|
|
دوني ، فلم يبذل
ولم أتبذّل
|
أبكي لهمّ ضافني
متأوّبا
|
|
إنّ الدموع قرى
الهموم النّزّل
|
لا تنكروا شيبا
ألمّ بمفرقي
|
|
عجلا كأنّ سناه
سلّة منصل
|
فلقد دفعت إلى
الهموم تنوبني
|
|
منها ثلاث شدائد
جمّعن لي
|
أسف على ماضي
الزمان ، وحيرة
|
|
في الحال منه ،
ووحشة المستقبل
|
ما إن وصلت إلى
زمان آخر
|
|
إلا بكيت على
الزّمان الأوّل
|
لله عهد بالحمى
لم أنسه
|
|
أيام أعصي في
الصبابة عذّلي
|
ويرحم الله ابن
قلاقس الإسكندري ، إذ قال في معنى التمنّي المصدري : [الطويل]
لعلّ زماني
بالعذيب يعود
|
|
فيقرب قرب أو
يصدّ صدود
|
__________________
وأبصر كثبانا
وهزّ روادف
|
|
عليهنّ أغصان
وهنّ قدود
|
وأقطف ورد الخدّ
وهو مضرّج
|
|
وأجني أقاح
الثغر وهو برود
|
وأدني ذراعي
للعناق ذريعة
|
|
فتنهى عن
الإفراط فيه نهود
|
ويسري إليّ
البدر وهو ممنّع
|
|
ويغدو إليّ
الظّبي وهو شرود
|
ونكرع في شكوى
الفراق كأننا
|
|
فوارط هيم
راقهنّ ورود
|
وأكبر مقدار
الهوى عن كبيرة
|
|
وأحمي عفافي
دونه وأذود
|
وفرق ما بين
الجوهر والعرض ، والصّحّة البيّنة والمرض ، والدّرّ والحصا ، والحسام والعصا ،
والرجوع إلى التفويض للأقدار ، في أمور هذه الدار ، الكثيرة الأكدار ، هو المطلوب
، والمرجوّ من الله سبحانه جبر القلوب : [المجتث]
يا ربّ نفّس
همومي
|
|
واكشف كروبي
جميعا
|
فقد رجوت كريما
|
|
وقد دعوت سميعا
|
ولم يجعل لي
المذكور. حفظه الله!. فسحة ولا مندوحة ، بعد هذه الأعذار المحمودة في الصدق
الممدوحة ، ولسان حالي وقالي ، يثبتان عجزي عن أداء هذا الحقّ بشهادة من هو وادّ
وقالي ، إذ من كان بصفة ، غير متمكّنة مما تكون به متّصفة ، واتّسم بنعوت مختلفة ،
وارتسم في غير ذوي الأحوال المؤتلفة ، كيف يحير في التصنيف جوابا ، أو ينتحي من التأليف
صوابا؟ ومن جفنه هام هامل ، وقصوره عامّ شامل ، كيف يقبض بالأنامل ، على ماء البحر
الوافر الكامل؟ ومن لبس من العيّ ملاه ، لا يعبّر عمّن طبّق مفاصل الكلام وكلاه ، وقصّرت ألسن البلغاء عن علاه ، وزانت صدور
الدواوين حلاه ، وجمّع خلالا حسانا ، وكان للدّين لسانا ، وزاحمت مفاخره بالمناكب
الكواكب ، وازدانت بمرآه النوادي والمواكب ، ونفحات الأزهار من آدابه ، ونسمات
الأسحار عطر أذياله وأهدابه ، والسّحر من كتابته ، والسّحر من كنايته ، وروح
النسيم من تعريضه ، والنّثرة من نثره ، والشّعرى من شعره وقريضه ، وحلل المجد
لباسه ، وأنوار العلم اقتباسه : [الوافر]
له ذهن يغوص
ببحر علم
|
|
فيأتي منه
بالدّرّ النظيم
|
__________________
معانيه الرياض ،
لأجل هذا
|
|
سرت ألفاظه مثل
النسيم
|
ومباهيه النجوم ،
ومضاهيه الغيث السّجوم ، إلى آباء يحسدهم القمر والشمس ، وإباء لو كان للمشرفيّ لما تحيّفه لمس ، وشرف لا مدّعى ولا منتحل ، وهمّة لو نالها البدر لاستخذى
له زحل ، وبراعة أرهفت سنان قلمه ، ويراعة سارت أمراؤها تحت علمه ، فكم فتح بفكره
أقفالها ، ووسم بذهنه الثاقب أغفالها ، وسبك معانيها في قالب قلبه إبريزا ورقم
بيان لسانه برود إحسانه بلفظه البديع تطريزا ، فرفع في ميدان الإجادة لواؤه ،
وأتيح من أنهار البراعة العذبة إرواؤه ، ونال سبقا وتبريزا : [الوافر]
وما زمن الشّباب
وأنت تجري
|
|
مع الأحباب في
لهو وطيب
|
ووصل من حبيب
بعد هجر
|
|
بأحلى من كلام
ابن الخطيب
|
فقصائده أرخصت
جواهر البحور ، المنظومة في قلائد اللّبّات والنحور ، من حسان العقائل الحور : [الطويل]
معان وألفاظ
تنظّم منهما
|
|
عقود لآل في
نحور الشمائل
|
وزهر كلام
كالحدائق نسجه
|
|
غنينا به عن حسن
زهر الخمائل
|
وكلماته غدت
للإبداع إقليدا ، وجمعت طريفا من البلاغة وتليدا : [المتقارب]
كسون عبيدا ثياب
العبيد
|
|
وأضحى لبيد
لديها بليدا
|
ومقطّعاته ألذّ في
الأسماع ، من مطرب السماع ، وأبهى في الأحداق والنواظر ، من الحدائق ذوات الأغصان
الملد النّواضر ، يعترف بفضلها من انتحل الإنصاف دينا ، وانتخل الأوصاف فاختار
العدل منها خدينا : [الوافر]
رقيقات المقاطع
محكمات
|
|
لو ان الشّعر
يلبس لارتدينا
|
ورسائله كنقط
العروس اللائحة في البياض ، أو كوشي الربيع أو قطع الرياض ، برزت أغصانها الحالية وتبرّجت
، وتضوّعت أفنانها العالية وتأرّجت ، وقد ألبسها القطر زهرا ، وفجّر خلالها نهرا ،
فأخذت زخرفها وازّيّنت ، ولاحت محاسنها غير محتجبة وتبيّنت ، فبهرت من لها قابل ،
أستغفر الله لا بل : [البسيط]
__________________
هي الحديقة إلّا
أنّ صيّبها
|
|
صوب النّهى
وجناها زهرة الكلم
|
وقوافيه ، ريشت
بها قوادم الإتقان وخوافيه ، بنان مجاريها يستدثر الحصر ، وباع مباريها يستشعر القصر : [الخفيف]
خطّها روضة ،
وألفاظها الأز
|
|
هار يضحكن ،
والمعاني ثمار
|
تبدي لمبصرها وتري
، ما قاله أبو عبادة البحتري : [الخفيف]
وكلام كأنه
الزهر النا
|
|
ضر في رونق
الربيع الجديد
|
مشرق في جوانب
السّمع ما يخ
|
|
لقه عوده على
المستعيد
|
ومعان لو
فصّلتها القوافي
|
|
هجّنت ما لجرول
من نشيد
|
حزن مستعمل
الكلام اختيارا
|
|
وتجنّبن ظلمة
التعقيد
|
بل هي أجلّ مما
وصف عند التحقيق ، وإمعان النظر الصحيح والتدقيق : [الخفيف]
أين زهر الرياض
وهو إذا ما
|
|
طال عهدا بالغيث
عاد هشيما
|
من قواف كأنها
الأنجم الزّه
|
|
ر سناها زان
الظلام البهيما
|
وناهيك بمن أطلعته
العلوم على جلائلها ودقائقها ، وأرته الفنون ما شاء من يانعات حدائقها ، وحبته الحكم الرياضية بأزاهرها ، وشقائقها ، وأرضعته الوزارة من
ثديّها ، وحلّت به الإمارة صدر نديّها ، وجعلته المرجوع إليه في تمييز جيّد الأمور ورديّها ،
فغرس في أرض الرياسة من نخل السياسة ووديّها ، وأعلى علم العدل وأغمد سيف الانتقام ، ودفع تنّين الفتنة
الذي فغر فاه للالتقام ، والعهد إذ ذاك قريب ، في وطن الأندلس الغريب ، باختلال
الحال ، وتوالي الإمحال ، والتجرّي على قتل الملوك ، والتحرّي لقطع الطرق ومنع
السلوك ، حيث أهواء المارقين ذات افتراق ، وضلوع الصادقين في قلق واحتراق ، وأيدي
الإحن باطشة ، وسيوف المحن إلى الدماء عاطشة ، وعرش الحماية مثلول ، وصارم الكفاية
مفلول ، ونطاق
__________________
الرعاية مطلول ، وجيب النصيحة مملول ، والتّنّور السلطاني بنار اختلاف
الكلمة ملتهب ، والعدوّ ينتهز الفرصة ويستلب الأنفس الأموال وينتهب ، وليس له في
غير قطع شأفة المسلمين ابتغاء ، وإن عقد المهادنة في بعض الأحيان فهو يسرّ حسوا في
ارتغاء ، وكلاب الباطل في دماء أهل الحق والغة ولله سبحانه وتعالى في خلقه إرادة
نافذة وحكمة بالغة ، فرقع لسان الدين ثوب الأندلس ورفاه ، وأرغم ـ رحمه الله! ـ الكفر
الذي فغرفاه ، وشمّر عن ساعد اجتهاده ، وحضّ باللسان وباليد على دفاعه وجهاده ،
حتى لاحت للنصر بوارق ، وأمنت بالحزم الطوارىء والطوارق ، ثم ضرب الدهر ضربانه ،
وأحرق الحاسد بنار أحقاده أنضر بانه ، وأظهر ما في قلبه على لسان الدين وأبانه ،
وتقرّب الوشاة ، وهم ممّن كان يخدمه ويغشاه ، إلى سلطانه الذي كان عزّة أوطانه
الذي كان يأمنه ولا يخشاه ، حتى فسد عليه ضميره ، وتكدّر ومن يسمع يخل نميره ،
فأحسّ بظاهر التغيّر ، وصار في الباطن من أهل التحير ، وأجال قداح آرائه ، والتفت
إلى جهة العدوّ من ورائه ، ففرّ مشمّرا عن ذيله في لمّة من خيله ، إلى أسد العرين
، سلطان بني مرين ، وكان إذ ذاك بتلمسان ، وهو من أهل العلم والعدل والإحسان ،
فاهتزّ لمقدمه ، ولقيه بخاصّته وخدمه ، وأكرم مثواه ، وجعله صاحب نجواه ، ثم أدرك
السلطان الحمام ، وكسف بدره وقت التمام ، فرجع لسان الدين إلى فاس ،
واستنشق بها أطيب الأنفاس ، وكثرت بعد ذلك الأهوال ، وتغيّرت بسببه بين رؤساء
العدوة والأندلس الأحوال ، فما نجا من مكر العدا ولا سلم ، وآل أمره من الاغتيال
وما نفع الاحتيال إلى ما علم ، على يدي بعض أعدائه ، الذين كانوا يتربّصون الدوائر لإردائه ،
فأصبح كأمس الذاهب ، وصارت أمواله وضياعه عرضة للناهب ، وغصّ بذلك من كان من
أودّائه ، وأخذ الله ثاره ، من بعض من حرّك عليه المكر وأثاره ، وتسبب في هلاكه ،
حتى انتثرت جواهر أسلاكه ، ومات بدائه. فالعيون إلى هذا الوقت على لسان الدين
باكية ، ونفوس الأكابر وغيرهم مما فعل به شاكية ، والألسنة والأقلام لمقاماته في
الإسلام حاكية.
فمن كان بهذه
السّمات وأكثر منها موصوفا ، لا يقدر مثلي على تحبير التعبير عنه ويخشى أن تكون
فكرته كخرقاء نقضت قطنا أو صوفا.
ثم إني لمّا تكرّر
عليّ في هذا الغرض الإلحاح ، ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح ، عزمت على الإجابة لما للمذكور عليّ من الحقوق ، وكيف
أقابل برّه حفظه الله بالعقوق؟ وهو
__________________
الذي يروي من
أحاديث الفضل الحسان والصحاح ، فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة
المعزّيّة ، وأزمعت السّير عن دمشق المعروفة المزيّة ، وألبسني السفر منها من
الخلع زيّه ، ورحلنا عن تلك الأرجاء المتألّقة ، والقلوب بها وبمن فيها متعلّقة : [الطويل]
حللنا ديارا
للغرام سرت بها
|
|
إلينا صبا نجد
بطيب نسيم
|
وبان ردا
الأشجان لمّا تجاذبت
|
|
أكفّ المنى فيها
رداء نعيم
|
فما أنشبتنا
العيس أن قذفت بنا
|
|
إلى فرقة والعهد
غير قديم
|
فإن نك ودّعنا
الديار وأهلها
|
|
فما عهد نجد
عندنا بذميم
|
فخرج معنا. أسماه
الله. مع جملة من الأعيان إلى داريّا ، المضاهية لدارين في ريّاها وحبّذا ريّا ، فألفيناها : [مجزوء
الكامل]
ريّا من الأنداء
طي
|
|
يبة لها القدر
الجليل
|
تهدي لنا
أرجاؤها
|
|
أرجا من الزّهر
البليل
|
وبها الغصون
تمايلت
|
|
ميل الخليل على
الخليل
|
ووصلنا عند
الظّهيرة ، وسرّحنا العيون في محاسنها الشهيرة : [الخفيف]
منزل كالرّبيع
حلّت عليه
|
|
حاليات السّحاب
عقد النّطاق
|
يمتع العين من
طرائق حسن
|
|
تتجافى بها عن
الإطراق
|
وقلنا بها ، لمّا
نزلنا بجانبها : [الوافر]
وبتنا والسرور
لنا نديم
|
|
وماء عيونه
الصّافي مدام
|
يسايره النسيم
إذا تغنّت
|
|
حمائمه ويسقيه
الغمام
|
فيا لك من ليلة
أربت في طيب النفح ، على ليلة الشّريف الرضيّ بالسّفح : [المنسرح]
ونحن في روضة
مفوّفة
|
|
قد وشّيت
بالغمائم الوكف
|
__________________
نغفي على زهرها
فيوقظنا
|
|
وهنا هدير
الحمائم الهتف
|
ودوحها من نداه
في وشح
|
|
ومن لآلي
الأزهار في شنف
|
والغصن من فوقه
حمامته
|
|
كأنها همزة على
ألف
|
وما أقرب قول
الوزير ابن عمّار ، من وصف ذلك المضمار ، الجامع للأقمار : [مجزوء الكامل]
يا ليلة بتنا
بها
|
|
في ظلّ أكناف
النّعيم
|
من فوق أكمام
الرّيا
|
|
ض وتحت أذيال
النّسيم
|
وناهيك بمحلّ قرب
من دمشق الغرّاء ، فخلعت عليه حلل الحبور والسّراء ، وأمدّته بضيائها ، وأودعته
برق حياها وماء حيائها ، فصار ناضر الدّوحات ، عاطر الغدوات
والرّوحات ، مونق الأنفاس والنفحات ، مشرق الأسرّة والصفحات ، هذا والقلوب من
الفراق في قلق ، ولسان الحال ينشد : [البسيط]
وبي علاقة وجد
ليس يعلمها
|
|
إلّا الّذي خلق
الإنسان من علق
|
ويحثّ على انتهاز
فرصة اللقاء إذ هي غنيمة ، ويذكّر بقول من قال وأكفّ الدهر موقظة ومنيمة : [الوافر]
تمتّع بالرّقاد
على شمال
|
|
فسوف يطول نومك
باليمين
|
ومتّع من يحبّك
باجتماع
|
|
فأنت من الفراق
على يقين
|
ثم حضر بعد تلك
الليلة موقف الوداع ، والكلّ ما بين واجم وباك وداع ، فتمثّلت بقول من قلبه لفراق
الأحباب في انصداع : [المجتث]
ودّعتهم ودموعي
|
|
على الخدود غزار
|
فاستكثروا دمع
عيني
|
|
لمّا استقلّوا
وساروا
|
وقول آخر : [السريع]
يا وحشة من جيرة
قد نأوا
|
|
علوّ قدري في
الهوى انحطّا
|
حكت دموعي البحر
من بعدهم
|
|
لمّا رأت منزلهم
شطّا
|
__________________
وحقّ لي أن أتمثّل
في ذلك بقول العزازي : [الخفيف]
لا تسلني عمّا
جناه الفراق
|
|
حمّلتني يداه ما
لا يطاق
|
أين صبري أم كيف
أملك دمعي
|
|
والمطايا
بالظاعنين تساق
|
قف معي نندب
الطّلول فهذي
|
|
سنّة قبل سنّها
العشّاق
|
وأعد لي ذكر
الغوير فكم ما
|
|
ل بعطفي نسيمه
الخفّاق
|
في سبيل الغرام
ما فعلت بال
|
|
عاشقين القدود
والأحداق
|
يوم ولّت طلائع
الصّبر منّا
|
|
ثم شنّت غاراتها
الأشواق
|
وبقول غيره : [البسيط]
كنّا جميعا
والدار تجمعنا
|
|
مثل حروف للجمع
ملتصقه
|
واليوم صار
الوداع يجعلنا
|
|
مثل حروف الوداع
مفترقه
|
وقول آخر : [الخفيف]
حين همّ الحبيب
بالتّوديع
|
|
عيّروني أنّي
سفحت دموعي
|
لم يذوقوا طعم
الفراق ولا ما
|
|
أحرقت لوعة
الأسى من ضلوعي
|
كيف لا أسفح
الدموع على رب
|
|
ع حوى خير ساكن
وجموع
|
هبك أنّي كتمت
حالي أتخفى
|
|
زفرات المتيّم
المصدوع
|
إنّما يعرف
الغرام بمن لا
|
|
ح عليه الغرام
بين الربوع
|
وقول من قال : [المتقارب]
أقول له عند
توديعه
|
|
وكلّ بعبرته
مبلس
|
لئن قعدت عنك
أجسادنا
|
|
لقد سافرت معك
الأنفس
|
وقول الصابي : [المتقارب]
__________________
ولمّا حضرت
لتوديعه
|
|
وطرف النّوى
نحونا أشوس
|
عكست له بيت شعر
مضى
|
|
يليق به الحال
إذ يعكس
|
لئن سافرت عنك
أجسادنا
|
|
لقد قعدت معك
الأنفس
|
وقول المهذب بن
أسعد الموصلي : [الكامل]
دعني وما شاء
التفرّق والأسى
|
|
واقصد بلومك من
يطيعك أو يعي
|
لا قلب لي فأعي
الملام فإنني
|
|
أودعته بالأمس
عند مودّعي
|
هل يعلم
المتحمّلون لنجعة
|
|
أنّ المنازل
أخضبت من أدمعي
|
كم غادروا حرضا
وكم لوداعهم
|
|
بين الجوانح من
غرام مودع
|
والسقم آية ما أجنّ
من الجوى
|
|
والدّمع بيّنة
على ما أدّعي
|
وقول الكمال
التّنوخي : [الكامل]
كم ليلة قد
بتّها أرعى السّها
|
|
جزعا لفرقتهم
بمقلة أرمد
|
قضّيتها ما بين
نوم نافر
|
|
وزفير مهجور
وقلب مكمد
|
لم أنس أيام
السّرور وطيبها
|
|
بين السّدير
وبين برقة ثهمد
|
والروض قد أبدى
بدائع نوره
|
|
من أزرق ومفضّض
ومورّد
|
والماء يبدو
كالصّوارم ساريا
|
|
فيعيده مرّ
الصّبا كالمبرد
|
والطير بين
مسجّغ ومرجّع
|
|
ومغرّد ومعدّد
ومردّد
|
وقول القاضي بهاء
الدين السنجاري : [الكامل]
أحبابنا ما لي
على بعد المدى
|
|
جلد ومن بعد
النّوى يتجلّد
|
لله أوقات
الوصال ومنظر
|
|
نضر وغصن الوصل
غضّ أملد
|
أنّى يطيق أخو
الهوى كتمانه
|
|
والخدّ بالدمع
المصون مخدّد
|
__________________
ما بعد مفترق
الركاب تصبّر
|
|
عمّن أحبّ فهل
خليل يسعد
|
يا سعد ، ساعد
بالبكاء أخا هوى
|
|
يوم الوداع بكى
عليه الحسّد
|
وقول ابن الأثير :
[مجزوء الكامل]
لم أنس ليلة
ودّعوا
|
|
صبّا وساروا
بالحمول
|
والدّمع من فرط
الأسى
|
|
يجري فيعثر
بالذيول
|
وقول الأرّجاني : [الطويل]
ولمّا وقفنا
للوداع عشيّة
|
|
وطرفي وقلبي
هامع وخفوق
|
بكيت فأضحكت
الوشاة شماتة
|
|
كأني سحاب
والوشاة بروق
|
وقول ابن نباتة
السّعدي : [الطويل]
ولمّا وقفنا
للوداع عشية
|
|
ولم يبق إلّا
شامت وغيور
|
وقفنا فمن باك
يكفكف دمعه
|
|
وملتزم قلبا
يكاد يطير
|
وقول بعضهم : [السريع]
لمّا حدا الحادي
بترحالهم
|
|
هيّج أشواقي
وأشجاني
|
وراح يثني القلب
عن غيرهم
|
|
فهو لهم حاد ولي
ثاني
|
وقول الصّفدي : [السريع]
لمّا اعتنقنا
لوداع النّوى
|
|
وكدت من حرّ
الجوى أحرق
|
رأيت قلبي سار
قدّامهم
|
|
وأدمعي تجري ولا
تلحق
|
وقوله أيضا : [الطويل]
تذكّرت عيشا مرّ
حلوا بقربكم
|
|
فهل لليالينا
الذواهب واهب
|
وما انصرفت آمال
نفسي لغيركم
|
|
ولا أنا عن هذي
الرغائب غائب
|
__________________
سأصبر كرها في
الهوى غير طائع
|
|
لعلّ زماني
بالحبائب آئب
|
وقول ابن نباتة
المصري : [السريع]
في كنف الله وفي
حفظه
|
|
مسراك والعود
بعزم صريح
|
لو جاز أن تسلك
أجفاننا
|
|
كنّا فرشنا كلّ
جفن قريح
|
لكنها بالبعد
معتلّة
|
|
وأنت لا تسلك
إلّا الصحيح
|
وقول الحافظ أبي
الحسن علي بن الفضل : [الطويل]
عجبت لنفسي
بعدهم ما بقاؤها
|
|
ولم أحظ من
لقياهم بمرادي
|
لعمرك ما
فارقتهم منذ ودّعوا
|
|
ولكنّما فارقت
طيب رقادي
|
وقد منعوا مني
زيارة طيفهم
|
|
وكيف يزور
الطّيف حلف سهاد
|
وأعجب ما في
الأمر شوقي إليهم
|
|
وهم في سوادي
ناظري وفؤادي
|
وقوله رحمه الله
تعالى : [الطويل]
رعى الله أيام
المقام بروضة
|
|
تروح علينا
بالسرور وتغتدي
|
كأن الشّقيق
الغضّ بين بطاحها
|
|
نجوم عقيق في
سماء زبرجد
|
وقول القاضي
الرشيد الأسواني : [الكامل]
رحلوا فلا خلت
المنازل منهم
|
|
ونأوا فلا سلت
الجوانح عنهم
|
وسروا وقد كتموا
الغداة مسيرهم
|
|
وضياء نور الشمس
ما لا يكتم
|
وتبدّلوا أرض
العقيق عن الحمى
|
|
روّت جفوني أيّ
أرض يمّموا
|
نزلوا العذيب
وإنما هو مهجتي
|
|
رحلوا وفي قلب
المتيّم خيّموا
|
__________________
ما ضرّهم لو
ودّعوا من أودعوا
|
|
نار الغرام
وسلّموا من أسلموا
|
هم في الحشا إن
أعرقوا أو أيمنوا
|
|
أو أشأموا أو
أنجدوا أو أتهموا
|
وقول الشاعر أبي
طاهر الأصفهاني ، المعروف بالوثّابي : [الطويل]
أشاعوا فقالوا
وقفة ووداع
|
|
وزمّت مطايا للرحيل
سراع
|
فقلت وداع لا
أطيق عيانه
|
|
كفاني من البين
المشتّ سماع
|
ولم يملك
الكتمان قلب ملكته
|
|
وعند النّوى سرّ
الكتوم مذاع
|
وقول أبي المجد
قاضي ماردين : [الطويل]
رعى الله ربعا
أنتم فيه أهله
|
|
وجاد عليه هاطل
وهتون
|
ولا زال مخضرّ
الجوانب مترع ال
|
|
حياض وفيه
للنّعيم فنون
|
لئن قدّر الله
اللقاء وأينعت
|
|
غصون التداني
فالبعاد يهون
|
وإن حكمت أيدي
الفراق بعسرة
|
|
فكم قضيت
للمعسرين ديون
|
وقول آخر : [الكامل]
غبتم فما لي في
التّصبّر مطمع
|
|
عظم الجوى
واشتدّت الأشواق
|
لا الدار بعدكم
كما كانت ولا
|
|
ذاك البهاء بها
ولا الإشراق
|
أشتاقكم ، وكذا
المحبّ إذا نأى
|
|
عنه أحبّة قلبه
يشتاق
|
وقول أبي الحسن
الهمذاني : [الوافر]
ويوم تولّت
الأظعان عنّا
|
|
وقوّض حاضر
وأرنّ بادي
|
مددت إلى الوداع
يدا وأخرى
|
|
حبست بها الحياة
على فؤادي
|
وقول ابن الصائغ :
[البسيط]
قد أودعوا القلب
لمّا ودّعوا حرقا
|
|
فظلّ في الليل
مثل النّجم حيرانا
|
راودته يستعير
الصّبر بعدهم
|
|
فقال : إني
استعرت اليوم نيرانا
|
وقول الصدر بن
الأدمي مكتفيا : [الرمل]
__________________
يوم توديعي
لأحبابي غدا
|
|
ذكر ميّ شاغلي
عن كلّ شي
|
فرنت نحوي وقالت
: يا ترى
|
|
أنت حيّ في
هوانا؟ قلت : مي
|
وقول غيره : [السريع]
ولي فؤاد مذ نأى
شخصهم
|
|
ظلّ كئيبا مدنفا
موجعا
|
ومقلة مهما
تذكّرتهم
|
|
تذرف دمعا أربعا
أربعا
|
وليس لي من حيلة
كلما
|
|
لجّت بي الأشواق
إلّا الدّعا
|
أسأل من ألّف ما
بيننا
|
|
وقدّر الفرقة أن
يجمعا
|
وقول الرّعيني
الغرناطي : [الطويل]
محاسن ربع قد
محاهنّ ما جرى
|
|
من الدمع لمّا
قيل قد رحل الرّكب
|
تناقض حالي مذ
شجاني فراقهم
|
|
فمن أضلعي نار
ومن أدمعي سكب
|
وفي معناه قوله
أيضا : [الطويل]
وقائلة : ما هذه
الدّرر التي
|
|
تساقطها عيناك
سمطين سمطين
|
فقلت لها : هذا
الذي قد حشا به
|
|
أبو مضر أذني
تساقط من عيني
|
وقول الزمخشري : [الكامل]
لم يبكني إلّا
حديث فراقهم
|
|
لمّا أسرّ به
إليّ مودّعي
|
هو ذلك الدّرّ
الذي أودعتم
|
|
في مسعي أجريته
من مدمعي
|
وقول الزّغاري : [الرجز]
قد بعتهم قلبي
يوم بينهم
|
|
بنظرة التوديع
وهو يحترق
|
ولم أجد من
بعدها لردّه
|
|
وجها وكان
الرّدّ لو لم نفترق
|
وقول بعض
الأندلسيين : [البسيط]
ساروا فودّعهم
طرفي وأودعهم
|
|
قلبي فما بعدوا
عنّي ولا قربوا
|
__________________
هم الشموس ففي
عيني إذا طلعوا
|
|
في القادمين وفي
قلبي إذا غربوا
|
وقلت أنا مضمّنا
بديهة : [المجتث]
لا كان يوم فراق
|
|
ساق الشجون
إلينا
|
فكم أذلّ نفوسا
|
|
يا من يعزّ
علينا
|
وقلت أيضا مضمّنا
: [البسيط]
سلا أحبّته من
لم يذب كمدا
|
|
يوم الوداع وإن
أجرى الدموع دما
|
يا من يعزّ
علينا أن نفارقهم
|
|
من بعدكم هدّ
ركن الصّبر وانهدما
|
وإن نأى الجسم
كرها عن منازلكم
|
|
فالقلب ثاو بها
لم يصحب القدما
|
وما نسينا عهودا
للهوى كرمت
|
|
نعم قرعنا عليها
سنّنا ندما
|
وأظلمت بالنّوى
أرجاء مقصدنا
|
|
وصار وجدان إلف
غيركم عدما
|
وقلت أيضا مضمّنا
: [البسيط]
لم أنس بالشام
أنسا شمت بارقه
|
|
جادت معاهده
أنواء نيسان
|
لهفي لعيش قضينا
في مشاهدها
|
|
ما بين حسن من
الدنيا وإحسان
|
وقلت كذلك : [الكامل]
يا جيرة بانوا
وأبقوا حسرة
|
|
تجري دموعي
بعدهم وفق القضا
|
كم قلت إذ
ودّعتهم والأنس لا
|
|
ينسى وعهد
ودادهم لن يرفضا
|
يا موقف التوديع
إنّ مدامعي
|
|
فضّت وفاضت في
ثرى ذاك الفضا
|
وكما تفاءلت بقول
الأول ، مع علمي بأن على الله المعوّل : [البسيط المخلع]
إذا رأيت الوداع
فاصبر
|
|
ولا يهمّنّك
البعاد
|
وانتظر العود عن
قريب
|
|
فإنّ قلب الوداع
عادوا
|
وضاقت بي الرّحاب ،
عند مفارقة أعيان الأحباب والصّحاب ، وكاثرت دموعي من
__________________
بينهم السحاب ، وزند التذكّر يقدح الأسف فيهيج الانتحاب ، وقد تمثّلنا
إذ ذاك والجوانح من الجوى في التهاب ، وذخائر الصبر ذات انتهاب ، بقول بعض من مزّق
البعد منه الإهاب : [الطويل]
ولمّا نزلنا
منزلا طلّه النّدى
|
|
أنيقا وبستانا
من النّور حاليا
|
أجدّ لنا طيب
المكان وحسنه
|
|
منى فتمنّينا
فكنت الأمانيا
|
وقد طفت في شرق
البلاد وغربها
|
|
وسيّرت خيلي
بينها وركابيا
|
فلم أر منها مثل
بغداد منزلا
|
|
ولم أر فيها مثل
دجلة واديا
|
ولا مثل أهليها
أرقّ شمائلا
|
|
وأعذب ألفاظا
وأحلى معانيا
|
وبقول من تأسّف
على مغاني التداني ، وهو أبو الحجاج الأندلسي الداني : [الطويل]
أبى الله إلّا
أن أفارق منزلا
|
|
يطالعني وجه
المنى فيه سافرا
|
كأنّ على الأيام
حين غشيته
|
|
يمينا فلم أحلله
إلّا مسافرا
|
وتخيّلنا أنّ
إقامتنا بدمشق وقاها الله كل صرف ، ما كانت إلّا خطرة طيف ملمّ أو لمحة طرف : [الوافر]
وقفنا ساعة ثم
ارتحلنا
|
|
وما يغني المشوق
وقوف ساعه
|
كأنّ الشّمل لم
يك في اجتماع
|
|
إذا ما شتّت
البين اجتماعه
|
وطالما علّلت
النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي ، منشدا قول الأديب الشهير بابن الفقاعي : [الطويل]
متى عاينت عيناي
أعلام حاجر
|
|
جعلت مواطي
العيس فوق محاجري
|
وإن لاح من أرض
العواصم بارق
|
|
رجعت بأحشاء
صواد صوادر
|
سقى الله هاتيك
المواطن والرّبا
|
|
مواطر أجفان
هوام هوامر
|
__________________
وحيّا الحيا من
ساكني الحيّ أوجها
|
|
سفرن بأنوار
زواه زواهر
|
بحيث زمان الوصل
غضّ وروضه
|
|
أريض بأزهار
بواه بواهر
|
وحيث جفون
الحاسدين غضيضة
|
|
رمقن بآماق سواه
سواهر
|
ثم حاولت خاطري
الكليل ، فيما يشفي بعض الغليل ، فقال على طريق التضمين ، وقد غلب عليه الشوق
والتخمين : [الرمل]
بأبي من أودعوا
مذ ودّعوا
|
|
قلبي الشّوق
وللعيس ذميل
|
جيرة غرّ كرام
خيرة
|
|
كلّ شيء منهم
يبدو جميل
|
وعلى الجملة ما
لي غيرهم
|
|
لو أرادوا أن
يملّوا أو يميلوا
|
ثم قلت وقد سدّد
التنائي إليّ نبله ، موطّئا للبيت الثالث كما في الأبيات قبله : [الخفيف]
يا دمشقا حيّاك
غيث غزير
|
|
ووقاك الإله
ممّا يضير
|
حسنك الفرد
والبدائع جمع
|
|
متناه فيه فعزّ
النظير
|
أين أيامنا
بظلّك والشّم
|
|
ل جميع ، والعيش
غضّ نضير
|
ثم أكثرت الالتفات
عن اليمين وعن الشمال ، وقد شبّهت البيداء والشوق ببدل الكل والاشتمال ، وتنسّمت
من نواحي تلك الأرجاء أريج الشّمال ، وضمّنت في المعنى قول بعض من ثنى الحبّ عطفه وأمال : [الطويل]
تنسّمت أرواحا
سرت من ديار من
|
|
بهم كان جمع
الشّمل لمحة حالم
|
وجاوبت من يلحى
على ذاك جاهلا
|
|
بقول لبيب
بالعواقب عالم
|
وما أنشق
الأرواح إلّا لأنّها
|
|
تمرّ على تلك
الرّبا والمعالم
|
وما أحسن قول
الآخر : [الطويل]
سرت من نواحي
الشام لي نسمة الصّبا
|
|
وقد أصبحت حسرى
من السّير ظالعه
|
ومن عرق مبلولة
الجيب بالنّدى
|
|
ومن تعب أنفاسها
متتابعه
|
وقلت أنا : [الطويل]
حمدت وحقّ الله
للشام رحلة
|
|
أتاحت لعينيّ
اجتلاء محيّاه
|
__________________
وبعد التنائي
صرت أرتاح للصّبا
|
|
لأنّ الصّبا
تسري بعاطر ريّاه
|
فلله عهد قد
أتاح بجلّق
|
|
سرورا فحيّاه
الإله وحيّاه
|
واستحضرت عند جدّ
السّير ، قول صفوان بن إدريس المرسيّ ذكره الله تعالى بالخير : [الخفيف]
أين أيامنا
اللّواتي تقضّت
|
|
إذ زجرنا للوصل
أيمن طير
|
ثم قول غيره ممّن
حنّ وأنّ ، وقلق قلبه وما اطمأنّ : [الوافر]
أحنّ إلى مشاهد
أنس إلفي
|
|
وعهدي من زيارته
قريب
|
وكنت أظنّ قرب
العهد يطفي
|
|
لهيب الشوق
فازداد اللهيب
|
وربما تجلّدت
مغالطا ، متعلّلا بقول من كان لإلفه مخالطا : [الوافر]
حضرت فكنت في
بصري مقيما
|
|
وغبت فكنت في
وسط الفؤاد
|
وما شطّت بنا
دار ولكن
|
|
نقلت من السّواد
إلى السّواد
|
وقول غيره : [البسيط]
وكن كما شئت من
قرب ومن بعد
|
|
فالقلب يرعاك إن
لم يرعك البصر
|
وبقول الوداعي : [السريع]
يا عاذلي في
وحدتي بعدهم
|
|
وأنّ ربعي ما به
من جليس
|
وكيف يشكو وحدة
من له
|
|
دمع حميم وأنين
أنيس
|
ثم ردّدت هذه
الطريقة ، بقول بعض من لم يبلعه السلوّ ريقه : [الخفيف]
لا رعى الله
عزمة ضمنت لي
|
|
سلوة القلب
والتصبّر عنهم
|
ما وفت غير ساعة
ثم عادت
|
|
مثل قلبي تقول
لا بدّ منهم
|
ويقول ابن آجروم ، في مثل هذا الغرض المروم : [البسيط]
__________________
يا غائبا كان
أنسي رهن طلعته
|
|
كيف اصطباري وقد
كابدت بينهما
|
دعواي أنك في
قلبي يعارضها
|
|
شوقي إليك ،
فكيف الجمع بينهما
|
ثم جدّ بي السير
إلى مصر واستمرّ ، فتذكّرت قول الصفدي وقد اشتدّ بالرّمل الحرّ : [الطويل]
أقول وحرّ
الرّمل قد زاد وقده
|
|
وما لي إلى شمّ
النسيم سبيل
|
أظنّ نسيم الجوّ
قد مات وانقضى
|
|
فعهدي به في
الشام وهو عليل
|
وقول ابن الخياط : [السريع]
قصدت مصرا من
ربا جلّق
|
|
بهمّة تجري
بتجريبي
|
فلم أر الطّرّة
حتى جرت
|
|
دموع عيني
بالمريزيب
|
وحين وصلت مصر لم
أنس عهد الشام المرعيّ ، وأنشدت قول الشهاب الحنبلي الزرعيّ: [الطويل]
أحبّتنا ، والله
مذ غبت عنكم
|
|
سهادي سميري
والمدامع مدرار
|
ووالله ما اخترت
الفراق ، وإنه
|
|
برغمي ، ولي في
ذلك الأمر أعذار
|
|
إذا شام برق
الشام طرفي تتابعت
|
|
سحائب جفني
والفؤاد به نار
|
ألا ليت شعري هل
يعودنّ شملنا
|
|
جميعا وتحوينا
ربوع وأقطار
|
وقول ابن عنين : [الطويل]
دمشق ، بنا شوق
إليك مبرّح
|
|
وإن لجّ واش أو
ألحّ عذول
|
بلاد بها
الحصباء درّ ، وتربها
|
|
عبير ، وأنفاس
الرياح شمول
|
تسلسل منها
ماؤها وهو مطلق
|
|
وصحّ نسيم الروض
وهو عليل
|
وقول آخر : [البسيط]
نفسي الفداء
لأنس كنت أعهده
|
|
وطيب عيش تقضّى
كلّه كرم
|
__________________
وجيرة كان لي
إلف بوصلهم
|
|
والأنس أفضل ما
بالوصل يغتنم
|
بالشام خلّفتهم
ثم انصرفت إلى
|
|
سواهم فاعتراني
بعدهم ألم
|
كانوا نعيم
فؤادي والحياة له
|
|
والآن كلّ وجود
بعدهم عدم
|
فإن أنشد لسان
الحال فيما اقتضاه معنى البعد عنها والارتحال : [الكامل]
يا غائبا قد كنت
أحسب قلبه
|
|
بسوى دمشق
وأهلها لا يعلق
|
إن كان صدّك نيل
مصر عنهم
|
|
لا غرو فهو لنا
العدوّ الأزرق
|
أتيت في جوابه ،
بقول بعض من برّح الجوى به : [البسيط]
لله دهر جمعنا
شمل لذته
|
|
بالشام أعذب من
أمن على فرق
|
مرّت لياليه
والأيام في خلس
|
|
كأنّما سلبته
كفّ مسترق
|
ما كان أحسنها
لو لا تنقّلها
|
|
من النعيم إلى
ذاك من الحرق
|
رقّ العذول
لحالي بعدها ورثى
|
|
لي في الجوى
والنّوى والشجو والأرق
|
وبالجملة فتلك
الأيام من مواسم العمر محسوبة ، والسعود إلى طوالعها منسوبة : [الوافر]
وكانت في دمشق
لنا ليال
|
|
سرقناهنّ من ريب
الزمان
|
جعلناهنّ تاريخ
الليالي
|
|
وعنوان المسرّة
والأماني
|
وهي مغاني التهاني التي ما نسيناها ، وأماني زماني التي نعمت بطور
سيناها ، عليها وعلى وطني مقصورة ، والقلب في المعنى مقيم بهما وإن كان في غيرهما
بالصورة ، والأشواق إليهما قضاياها موجّهة وإن كانت غير محصورة : [الطويل]
ولله عهد قد
تقضّى وإن يعد
|
|
فإني عن الأيام
أعفو وأصفح
|
بقلبي من ذكراه
ما ليس ينقضي
|
|
ومن برحاء الشوق
ما ليس يبرح
|
إذا مسحت كفّي
الدموع تستّرا
|
|
بدت زفرة بين
الجوانح تقدح
|
__________________
فإن جمعت شملي
الليالي بقربهم
|
|
تجمّع غيلان
وميّ وصيدح
|
على أنها الأيام
جدّ مزاحها
|
|
وربّ مجدّ في
الأذى وهو يمزح
|
وكثيرا ما يلهج
اللسان بقول من قال : [الطويل]
وما تفضل
الأوقات أخرى لذاتها
|
|
ولكنّ أوقات
الحسان حسان
|
ويردّد قول من
شوقه متجدّد : [الطويل]
سقى معهد
الأحباب ناقع صيّب
|
|
من المزن عن
مغناه ليس يريم
|
وإن لم أكن من
ساكنيه فإنه
|
|
يحلّ به خلّ
عليّ كريم
|
وينشد من يلوم ،
قول من في حشاه وله وفي قلبه كلوم : [الدّوبيت]
قد أصبح آخر
الهوى أوّله
|
|
فالعاذل في هواك
ما لي وله
|
بالله عليك خلّ
ما أوّله
|
|
وارحم دنفا لدى
حشاه وله
|
وقد امتدّ بنا
الكلام ، وربّما يجعله اللاحي ذريعة لزيادة الملام ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ، من
إجابة المولى الشاهيني ، أمدّه الله سبحانه بمدده ، فأقول ، مستمدّا من واهب
العقول :
إني شرعت بعد
الاستقرار بمصر في المطلوب ، وكتبت منه نبذة تستحسنها من المحبين الأسماع والقلوب
، وسلكت في ترتيبه أحسن أسلوب ، وعرضت في سوقه كلّ نفيس غريب من الغرب إلى الشرق
مجلوب ، تستحسن الأبصار ما عليه احتوى ، وتعرف الأفكار أنه غير مجتوى ، ثم وقف بي مركب العزم عن التمام واستوى ، فأخّرته تأخير
الغريم لدين الكريم ، وصدّتني أعراض ، عن تكميل ما يشتمل عليه من أغراض ، وأضربت
برهة عمّا له من منحى ، لاختلاف أحوال الدهر نفعا ودفعا ومنعا ومنحا ، ومرقت عن
هدف الإصابة نبال ، وطرقت في سدف ليالي الكتابة أمور لم تكن تخطر ببال. فجاءتني من المولى
المذكور آنفا ، رسالة دلّت على أنه لم يكن عن انتجاز الوعد متجانفا ، فعدت لقضاء
الوطر مستقبلا وللجملة مستأنفا ،
__________________
وحدا بي خطابه الجسيم للإتمام وساقني ، وراقني كتابه الكريم
لتلك الأيام وشاقني ، وذكّرني تلك الليالي التي لم أنسها ، وحرّكني لتلك المعاهد التي لم أزل أذكر أنسها : [السريع]
الإلف لا يصبر
عن إلفه
|
|
إلّا كما يطرف
بالعين
|
وقد صبرنا عنهم
مدّة
|
|
ما هكذا شأن
المحبّين
|
فيا له من كتاب
كريم ، أعرب عن ودّ صميم ، وذكّر بعهد غير ذميم ، وودّ طيب العرف
والشّميم ، يخجل ابن المعتز لبلاغته وابن المعز تميم : [المتقارب]
ولم تر عيناي من
قبله
|
|
كتابا حوى بعض
ما قد حوى
|
كأنّ المباسم
ميماته
|
|
ولا ماته الصّدغ
لمّا التوى
|
وأعينه كعيون
الحسان
|
|
تغازلنا عند ذكر
الهوى
|
كتاب ذكرنا
بألفاظه
|
|
عهودا زكت
بالحمى واللّوى
|
فكأنه الرّوض
المطّرد الأنهار ، والدّوح المدبّج الأزهار : [الطويل]
رأينا به روضا
تدبّج وشيه
|
|
إذا جاد من تلك
الأيادي غمائم
|
به ألفات
كالغصون وقد علا
|
|
عليها من الهمز
المطلّ حمائم
|
وقد سقيت بأنهار
البراعة السّلسالة ، حدائق حلّت بها غانية تلك الرسالة ، لتشفي صبّها بالزيارة ،
وتشرّف بدنوّها دياره : [الخفيف]
زارت الصّبّ في
ليال من البع
|
|
د فلمّا دنت رأى
الصّبح يلمح
|
قلّدت بالعقيان
جيد بيان
|
|
ليس فيه للفتح
من بعد مطمح
|
فشفت النفس من
آلامها ، وأحيت ميت الهوى مذ حيّت بعذب كلامها : [الوافر]
كلام كالجواهر
حين يبدو
|
|
وكالنّدّ
المعنبر إذ يفوح
|
له في ظاهر
الألفاظ جسم
|
|
ولكنّ المعاني
فيه روح
|
__________________
فصيّرت لي ذلك
الكتاب سميرا ، ووردت من السرور مشرعا نميرا ، وتمثّلت بقول بعض من أخلص في الودّ
ضميرا : [الكامل]
يا مفردا أهدى
إليّ كتابه
|
|
جملا يحار
الذّهن في أثنائها
|
كالدّرّ أشرق في
سموط عقوده
|
|
والزّهر
والأنوار غبّ سمائها
|
فأفادني جذلا
وبالي كاسد
|
|
وأجار نفسي من
جوى برحائها
|
وحسبت أيام
الشّباب رجعن لي
|
|
فلبست حلي
جمالها وبهائها
|
لا يعدم الإخوان
منك محاسنا
|
|
كلّ المفاخر
قطرة من مائها
|
فأكرم به من كتاب
جاء من السّريّ العليّ ، والماجد الأخ الوليّ : [الوافر]
فضضت ختامه
فتبيّنت لي
|
|
معانيه عن الخبر
الجليّ
|
وكان ألذّ في
عيني وأندى
|
|
على كبدي من
الزّهر الجنيّ
|
وضمّن صدره ما
لم تضمّن
|
|
صدور الغانيات
من الحليّ
|
وأعرب عن اعتماد
متماد ، ووداد مزداد ، وأطاب حين أطال ، وأدّى دين الفصاحة دون مطال ، واشتمل من فصول العبارة على أحسن من الحدق المراض ، وأتى
من أصول البراعة ببراهين ابن شاهين التي لا خلف فيها ولا اعتراض ، وروينا من غيث أنامله الهتون ، وروينا عنه مسند أحمد حسن
الأسانيد والمتون ، وحثّنا على العود والرجوع ، وكان أجدى من الماء الزلال لذي ظمإ
والمشتهى من الطعام لذي سغب وجوع : [الوافر]
وأشهى في القلوب
من الأماني
|
|
وأحلى في العيون
من الهجوع
|
وجلا بنوره ظلام
استيحاشي ، وحشر إليّ أشتات المسرّات دون أن يحاشي ، ووجدني في مكابدة شغوب ، وأشغال أشربت الكسل واللّغوب ، وحيّرت الخواطر ، وصيّرت سحب الأقلام غير مواطر ، فزحزح
عنّي الغموم وسلّاني ، وأولاني. شكر الله صنيعه!. من المسرّات ما أولاني : [البسيط]
__________________
حديثه أو حديث
عنه يطربني
|
|
هذا إذا غاب أو
هذا إذا حضرا
|
كلاهما حسن عندي
أسرّ به
|
|
لكنّ أحلاهما ما
وافق النّظرا
|
وقال آخر : [الخفيف]
لست مستأنسا
بشيء إذا غب
|
|
ت سوى ذكرك الذي
لا يغيب
|
أنت دون الجلّاس
عندي وإن كن
|
|
ت بعيدا فالأنس
منك قريب
|
وضمّنت فيه لمّا
ورد مع جملة كتب من تلك الناحية ، وأنوار أهلها ذوي الفضائل الشهيرة أظهر من شمس
الظهيرة في السماء الصاحية : [الخفيف]
قلت لمّا أتت من
الشام كتب
|
|
من أجلّاء نورهم
يتألّق
|
مرحبا مرحبا
وأهلا وسهلا
|
|
بعيون رأت محاسن
جلّق
|
وقلت أيضا : [الخفيف]
قلت لمّا وافت
من الشام كتب
|
|
والليالي تتيح
قربا وبعدا
|
مرحبا مرحبا
وأهلا وسهلا
|
|
بعيون رأت محاسن
سعدى
|
وكان من فصول هذا الكتاب الوارد من المولى الشاهيني الذي اقتنص بفضله كلّ
شارد ما نصّه : «ومما استخلص قلبي من يدي ترحي ، وجدّد سروري ونبّه فرحي ، حديث
الكتاب وما حديث الكتاب ، حديث نسخ بحلاوته مرارة العتاب ، وأنساني حرارة المصاب ،
في الأنسال والأعقاب ، وقضى به من حق لسان الدين ، دينه الذي تبرّع به غريم مليء
من البلاغة وهو غير مدين ، حتى كأني يا سيدي بهذه البشرى ، أحرزت سواري كسرى ،
وكان في مسمعي كل حرف إليها منسوب ، قميص يوسف في أجفان يعقوب ، وحتى كدت أهجر
أهلي وبيتي ، وأسرج لاستقبال هذه البشرى أشهبي وكميتي ، وحتى أنني حاربت نومي
وقومي ، وعزمت على أن أرحل ناقتي في وقتي ويومي ، وإن ذلك التغليس والتهجير في جنب ما بشّرت به لحقير ، وإنّ موقعها لدى هذا العبد
الحقير لخطير. وقد كنت سألت شيخي حين ورد دمشق الشام ، واشتمّ منها العرار والبشام
، وشرّفني فعرفني ، وشاهدني فعاهدني ، على أن يجري ما دار بيننا
__________________
لدى المجاورة ، من
المسامرة والمحاورة ، في ديباجة ذلك الكتاب ، الذي فتن العقول خبره وسحر الألباب ،
وما قصدت إلّا أن يجري اسمي على قلمه ، ويرقم رسمي في مطاوي تحريره ورقمه ، ويكون
ذكري مختلطا بذكره ، كما أنّ سرّي مرتبط في المحبة بسرّه ، فرأيت شيخي لم يتصدّ في
أثناء هذه البشرى ، لما يفهمني بالذكرى ، لأنتظر النجاح في الأخرى ، ولم يساعدني
على ذلك الملتمس ، وحبس عنان القلم فاحتبس ، فانكسرت سورة سروري بفتوري ، وتبين
لنفسي عن بلوغ ذلك الأمل تخلّفي وقصوري» انتهى.
ثم قال بعد كلام
طويل لم نذكره لعدم تعلّقه بهذا الغرض ، ما صورته : «وحسبت أنّ سيدي وحاشاه ، نسي
من ليس ينساه ، وظننت به الظنون ، لأمور تكون أو لا تكون ، وهل يكره سيدي وشيخي أن يهدى الدنيا في طبق؟ ثم الأخرى على ذلك النسق ، ولا شكّ
أن خطّه هو الروضة الغنّا ، لا بل جنّة المأوى ، فطوبى لنفسي إن جنت ثمرته طوبى ، ولعمر شيخي إني بذلك لجدير ، وإني كنت أملك
به الخورنق والسّدير». انتهى ما يتعلّق بالغرض من ذلك الرقيم ، الذي شكل منطقه غير
عقيم ، سلك الله تعالى بي وبمن وجّهه الصراط المستقيم.
وأتى في المكتوب
بأنواع من البلاغة ، مما تركت ذكره هنا لعدم تعلّقه بهذا الأمر الخاص الذي ييسّر
لكارع الأدب مساغّه ، وختمه بقصيدة نفيسة من نظمه يستنجز فيها ذلك الوعد ، وأشهد
أنه قد حاز فيها قصب السّبق والمجد ، وما قلت إلّا بالذي علمت سعد ، وهذه صورتها :
[السريع]
يا سيّدا أفديه بالأكثر
|
|
من أصغر العالم
والأكبر
|
ويا وحيدا قلّ
قولي له
|
|
عطارد أنت مع
المشتري
|
ويا مجيدا ليس
عندي له
|
|
إلّا مقال
المادح المكثر
|
أقسمت بالبيت
العتيق الذي
|
|
حجّت إليه الناس
والمشعر
|
ما للعلا والعلم
إلّا أبو ال
|
|
عباس شيخي أحمد
المقرّي
|
ذاك الذي آثرني
منه بال
|
|
علم الذي للغير
لم يؤثر
|
وخصّني منه
بأشياء لم
|
|
يفز بها غيري
ولم يعثر
|
__________________
فرحت عبدا ذا
وفاء له
|
|
معترفا بالرقّ
لا أمتري
|
فيا أبا العباس
يا من غدا
|
|
أعظم في نفسي من
معشري
|
ومن إذا ما غاب
عن ناظري
|
|
كان سمير القلب
للمحضر
|
هات أفدني سيدي
عن علا ال
|
|
مولى لسان الدين
ذاك السّري
|
ذاك الوحيد
الفذّ في عصره
|
|
بل أوحد الأدهر
والأعصر
|
ذاك الذي أخبرني
سيدي
|
|
عنه مزايا بعد
لم تحصر
|
ذاك الذي
العيّوق لا يعتلي
|
|
إلى معاليه ولا
يجتري
|
ما قد وعدت
العبد في جمعه
|
|
من خبر عن فضله
مسفر
|
بخطّك الوضّاح
وهو الذي
|
|
مخبره يربي على
المنظر
|
والشيء لا يرجى
إذا ما غدا
|
|
منظره يربي على
المخبر
|
نقش على طرس
بياض كما
|
|
لاحت عيون الرشإ
الأحور
|
وأسطر قد سلسلت
مثل ما
|
|
لاح عذار الشادن
الأخفر
|
ونزهة الأنفس
معنى غدا
|
|
ما بينها ينساب
كالكوثر
|
عذب رقيق مثل
ظبي غدا
|
|
يلوح طاوي الكشح
أو جؤذر
|
آثار أقلامك وهي
التي
|
|
أغنت عن الأبيض
والأسمر
|
يراعك الجامع
راو ، غدا
|
|
يروي اللّغى عن
لفظك الجوهري
|
ينثر مسكا تارة
ناظما
|
|
وينظم الجوهر
بالعنبر
|
هذا ابن شاهين
الفتى أحمد
|
|
عن ذكرك المأنوس
لم يفتر
|
فاجعل له ذكرا
كريما به
|
|
يزدان مغبوطا
إلى المحشر
|
واذكر بيوتاتي وكلّ الذي
|
|
كتبته نحوك في
دفتري
|
أنت جدير بمديحي
فكن
|
|
ذاكر عبد بالوفا
أجدر
|
__________________
وهاكها سيّارة
أعنقت
|
|
على جواد كان
للبحتري
|
طرف كريم سابق
صافن
|
|
مطهّم ذي أدب
أوفر
|
ورثته منه
ولكنما
|
|
من شاعر وافى
إلى أشعر
|
ما للفتى
الطائيّ شوط امرئ
|
|
يصطاد نسر الجوّ
بالمنسر
|
واسلم لعبد لا
يرى سيّدا
|
|
سوى الذي في
ثوبك الأطهر
|
في كرم العنصر
فردا غدا
|
|
طبعك فاشكر كرم
العنصر
|
ما حنّ مشتاق
أخو صبوة
|
|
إلى خليل في
الهوى مفكر
|
انتهت.
فلما وصلني هذا
الخطاب ، الذي ملأ من الفصاحة الوطاب ، وحلي في عيني وقلبي وطاب ، تحرّكت دواعي الوجد ، لذلك المجد ،
الذي ولعت به ولوع ابن الدّمينة بصبا نجد ، وأثار من الهيام والأوار ، ما يزيد على
ما حصل للفرزدق لمّا فارق النوّار ، وتضاعف الشوق إلى تلك الأنجاد والأغوار ،
منشدا قول الأول «لعلّ أبي المغوار» وتذكرت والذكرى شجون وأطوار ، تلك الأضواء
والأنوار ، المشرقة بقطر أزهر بالمحاسن ، وجرى نهره غير آسن ، فلم يذم فيه الجوار
: [الطويل]
وإنّ اصطباري عن
معاهد جلّق
|
|
غريب فما أجفى
الفراق وأجفاني
|
سقى الله أرضا
لو ظفرت بتربها
|
|
كحلت بها من شدة
الشوق أجفاني
|
وحصل التصميم ،
على التكميل للتأليف والتتميم ، رعيا لهذا الوليّ الحميم ، أفاض الله تعالى عليه
غيث البرّ العميم ، وأبقى ظلّ عزه ممدودا ، وحليّ سؤدده مودودا ، وأناله من الخيرات ما ليس محصورا ولا
معدودا ، وجمعني وإياه ، وأطلع لي بشر محيّاه ، وأنشقني عرف اجتماعه وريّاه ، وكيف
لا أستديم أمد بقياه ، وأعتقد البشائر في لقياه ، وأسقي غروس الودّ
__________________
بسقياه ، وهو
الصدر الذي أصفى لي الوداد ، والركن الذي لي بثبوته اعتماد واعتداد : [الكامل]
فعليه من مصفى
هواه تحيّة
|
|
كالمسك لمّا فضّ
عنه ختام
|
تترى بساحته
السنيّة ما دعت
|
|
فوق الغصون
هديلهنّ حمام
|
ودامت فضائله
ظاهرة كالشمس ، محروسة بالسبع المثاني معوّذة بالخمس : [الطويل]
ولا انفكّ ما
يرجوه أقرب من غد
|
|
ولا زال ما
يخشاه أبعد من أمس
|
وبقي من العناية
في حرم أمين ، آمين.
ولما حصل لي كمال
الاغتباط ، بما دلّ على صحة حال الارتباط ، نشر بساط الانبساط ، وحدثت لي قوة النشاط ، وانقشعت عني سحائب
الكسل وانجابت ، وناديت فكرتي فلبّت مع ضعفها وأجابت ، فاقتدحت من القريحة زندا
كان شحاحا ، وجمعت من مقيّداتي حسانا وصحاحا ، وكنت كتبت شطره ، وملأت بما تيسّر
هامشه وسطره ، ورقمت من أنباء لسان الدين بن الخطيب حللا لا تخلق جدّتها الأعصر ، وسلكت من التعريف به ، رحمه الله ، مهامة
تكلّ فيها واسعات الخطا وتقصر ، فحدث لي بعد ذلك عزم على زيادة ذكر الأندلس جملة
ومن كان يعضّد به الإسلام وينصر ، وبعض مفاخرها الباسقة ، ومآثر أهلها المتناسقة ؛
لأنّ كل ذلك لا يستوفيه القلم ولا يحصر ، وجئت من النظم والنثر بنبذة توضح للطالب
سبله ، وتظهر علمه ونبله ، وتترع كأس محاسنه من راح المذاكرة وإناؤه ، حتى يرى حسن التأليف
أبناء هذا التصنيف وأدباؤه ، وكنت في المغرب وظلال الشباب ضافية ، وسماء الأفكار من
قزع الأكدار صافية ، معتنيا بالفحص عن أنباء أبناء الأندلس ، وأخبار أهلها التي تنشرح لها الصدور والأنفس ، وما لهم
من السبق في ميدان العلوم ، والتقدّم في جهاد العدوّ الظّلوم ، ومحاسن بلادهم ،
ومواطن جدالهم وجلادهم ، حتى اقتنيت منها ذخائر يرغب فيها الأفاضل الأخاير ،
وانتقيت جواهر فرائدها للعقول بواهر ، واقتطفت أزاهر أنجمها في أفق المحاضرة
__________________
زواهر ، وحصّلت
فوائد بواطن وظواهر ، طالما كانت أعين الألبّاء لنيلها سواهر ، وجمعت من ذلك كلما
عالية ، لو خاطب بها الداعي صمّ الجلامد لانبجس حجرها ، وحكما غالية ، لو عامل بها الأيام ربح
متجرها ، وأسجاعا تهتزّ لها الأعطاف ، ومواعظ يعمل بمقتضاها من حفّت به الألطاف ،
وقوافي موقورة القوادم والخوافي ، يثني عليها من سلم من الغباوة والصّمم ، ويعترف
ببراعتها من لا يعتريه اللّمم ، وطالما أعرض الجاهل الغمر بوجهه عن مثلها وأشاح ،
وأنصت لها الحبر إنصات السّوار لجرس الحلي ونغم الوشاح ، وفرح إن ظفر بشيء منها
فرح الصائد بالقنيص ، والساري العاري ذي البطن الخميص ، بالزاد والقميص وتركت
الجميع بالمغرب ، ولم أستصحب معي منه ما يبيّن عن المقصود ويعرب ، إلّا نزرا يسيرا
علق بحفظي ، وحلّيت بجواهره جيد لفظي ، وبعض أوراق سعد في جواب السؤال بها حظي
، ولو حضرني الآن ما خلّفته ، ممّا جمعت في ذلك الغرض وألّفته ، لقرّت به عيون
وسرّت ألباب ، إذ هو ، والله ، الغاية في هذا الباب ، ولكن المرء ابن وقته وساعته
، وكلّ ينفق على قدر وسعه واستطاعته ، وعذر مثلي باد ، للمنصفين من العباد ، إن
قصّرت فيما تبصّرت ، أو تخلّفت في الذي تكلّفت ، أو أضعت تحرير ما وضعت ، والتقمت
ثدي التقصير ورضعت ، أو أطعت داعي التّواني فتأخّرت عمّن سبق وانقطعت ، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] ، ومن
كانت بضاعته مزجاة ، فهو من الإنصاف بمنحاة ، إذا أتى بالمقدور ، وتبرّأ من
الدّعوى في الورود والصدور ، وعين الرّضا عن كل عيب كليلة ، والسلامة من الملامة
متعذّرة أو قليلة ، وقد قال إمامنا مالك صاحب المناقب الجليلة : «كلّ كلام يؤخذ منه ويردّ إلّا
كلام صاحب هذا القبر» صلّى الله عليه وسلّم أزكى صلاة وأتمّ سلام وشفى بجاهه من
الآلام قلوبنا العليلة ، وجعلنا ممّن كان اتّباع سنّته رائده ودليله! آمين.
والحمد لله الذي
يسّر لي هذا القدر ، مع ضيق الصدر ، وقلّة بضاعتي ، وكثرة إضاعتي ، فإنّ حمده جلّ
جلاله تتضوّع به المطالب طيبا ، وتقضى ببركته المآرب فيرقى صاحبها على منبر القبول
خطيبا ، وتعذب به المشارب فتنبت في أرض القرطاس ، من زاكي الغراس ، ما يروق منظرا
نضيرا ويورق غصنا رطيبا ، وقد أتيت من المقال ، بما يقرّ إن شاء الله تعالى عين
وامق ويرغم أنف قال ، وإن كنت ممّن هو في ثوب العيّ رافل ، وعن نسبته للقصور غير
غافل ، وممّن جعل النفس هدفا ، وصيّر مكان الدّرّ صدفا ، إذ لسان الدين بن الخطيب
إمام هذه الفنون ، المحقّق لذوي الآمال الظنون ، المستخرج من بحار البلاغة درّها
المكنون ، وله اليد
__________________
الطولى في العلوم
على اختلاف أجناسها ، والألفاظ الرائقة التي تزيح وحشة الأنفس بإيناسها : الكامل]
ناهيك من فرد
أغرّ ممدّح
|
|
رحب الذّرا حرّ
الكام محسّد
|
بهر الأنام
رياسة وسياسة
|
|
وجلالة في
المنتمى والمحتد
|
وأتى بكلّ بديعة
في نوعها
|
|
لم تخترع وغريبة
لم تعهد
|
ما شئت من شعر
أرقّ من الصّبا
|
|
وكتابة أزهى من
الزّهر النّدي
|
وبديع قرطاس
توشّح متنه
|
|
بمنمنم من رقمه
ومنجّد
|
بهج كأنّ الحسن
حلّ أديمه
|
|
فكساه ريعان
الشباب الأغيد
|
وكأنما سال
العذار عليه أو
|
|
خطّته أيدي الغانيات
بإثمد
|
يختال بين موصّل
ومفصّل
|
|
ومطرّز ومنظّم
ومنضّد
|
كالبرد في
توشيعه ، والسّلك في
|
|
ترصيعه ، والوشي
نمّق باليد
|
قد قيّد الأبصار
والأفكار من
|
|
ألفاظه بمثقّف
ومقيّد
|
ما فيه مغرز
إصبع إلّا وفي
|
|
ه نتيجة لمفرّع
ومولّد
|
ولكلّ جزء حكمة
أو ملحة
|
|
أو بدعة لمرسّل
ومقصّد
|
أو ليس مثلي
قاصرا عن وصفه
|
|
والحقّ نور واضح
للمهتدي
|
وكما قلت وقد عجزت
عن أداء الواجب وحاولت المسنون ، وفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده ليس
بممنوع ولا ممنون : [الخفيف]
ليت شعري أيّ
العبارات توفي
|
|
واجب ابن الخطيب
ممّا أروم
|
وأنا عاجز عن
البعض منها
|
|
لقصوري وما
العييّ ملوم
|
وهو يدعى لسان
دين وناهي
|
|
ك افتخارا به
تتمّ الرّسوم
|
فبأيّ الحلى
أحلّي علا من
|
|
نال فضلا روته
عرب وروم
|
وعلى الفرض ما
الّذي أنتحي من
|
|
ه لدى الوصف أن
يخصّ العموم
|
__________________
ألحفظ قد ارتوى
من معين
|
|
لصواب عليه كلّ
يحوم
|
أم لفهم يستخرج
الدّرّ غوصا
|
|
من بحار يخشى
بها من يعوم
|
أم لفكر مؤلّف
في فنون
|
|
عن دهاء به تداوى الكلوم
٢
|
أم لنظم كأنه
جوهر السّل
|
|
ك غلا قدره على
من يسوم
|
تتباهى به
الصّدور حليّا
|
|
وتروق العيون
منه نجوم
|
أم لنثر وافى
بسحر بيان
|
|
فهو كالرّوح
والمعاني جسوم
|
وأظلّته للبديع
سماء
|
|
تتلالا في
جانبيها العلوم
|
فاستزادت منه
النفوس رشادا
|
|
واستزانت منه
النّهى والحلوم
|
أم لحظّ منمنم
فاق حسنا
|
|
مثل وشي تلوح
منه الرّقوم
|
أو كزهر في بهجة
ورواء
|
|
وأريج به تزاح
الغموم
|
والغصون الأقلام
، والطّرس روض
|
|
ناضر ، والمداد
غيث سجوم
|
تلك ستّ أعجزن
وصفي فإني
|
|
بسواها مما يجلّ
أقوم
|
ولم يكن جمعي. علم
الله. هذا التأليف لرفد أستهديه ، أو عرض نائل أستجديه ، بل لحقّ ودّ أؤدّيه ،
ودين وعد أقدّمه وأبديه ، ووقوف عند حدّ لا يجوز تعدّيه ، وتلبية داع أحيّيه
وأفديه : [الرمل]
إنّ من يرجو
نوالا وندى
|
|
من بني الدنيا
لذو حظّ غبين
|
فلقد كان على
غير الهدى
|
|
من يسوّيهم بربّ
العالمين
|
ويرجّي منهم
الرزق فهل
|
|
خالق الكلّ فقير
أو ضنين
|
أنخلّي قصد ربّ
مالك
|
|
ونرى للخلق جهلا
قاصدين
|
ما لنا من مخلص
نأتي به
|
|
غير جاه المصطفى
الهادي الأمين
|
سيّد الخلق
العماد المرتجى
|
|
للملمّات شفيع
المذنبين
|
فعليه صلوات
تنتحي
|
|
حضرة حلّ بها في
كل حين
|
__________________
والرضا من بعد
عن أربعة
|
|
هم بحقّ أمراء
المؤمنين
|
فيمينا إنّ من
يهواهم
|
|
ليكوننّ من
اصحاب اليمين
|
وسط جنّات
تحيّيه بها
|
|
آنسات قاصرات
الطّرف عين
|
بقوارير لجين
شربه
|
|
وأباريق وكأس من
معين
|
والذي شرّفهم
يمنحنا
|
|
حبّهم والكون
معهم أجمعين
|
فدونك أيها الناظر
في هذا الكتاب ، المتجافي عن مذهب النقد والعتاب ، كلمات سوانح ، اختلست مع اشتعال
الجوانح ، وتضاد الأمور الموانع والموانح ، وألفاظا بوارح ، اقتنصت بين أشغال
الجوارح ، وطرفا أسمت الطّرف في مرعاها وكانت هملا غير سوارح ، وتحفا يحصل بها لناظره الإمتاع ، ولا يعدّها
من سقط المتاع المبتاع ، ويلهج بها المرتاح ، ويستأنس المستوحش المرتاع .
وبعد أن خمّنت
تمام هذا التصنيف ، وأمعنت النظر فيما يحصل به التّقريط لسامعه والتشنيف ، قسّمته قسمين ، وكلّ منهما مستقلّ بالمطلوب فيصحّ أن
يسمّيا باسمين :
القسم الأول :
فيما يتعلّق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب والأنباء المنتحية صوب الصواب ،
الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب ، وفيه بحسب القصد والاقتصار ، وتحرّي
التوسّط في بعض المواضع دون الاختصار ، ثمانية من الأبواب :
الباب الأول : في
وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها ، واعتدال مزاجها ووفور خيرها وكمالها واستوائها ،
واشتمالها على كثير من المنافع والمحاسن واحتوائها ، وكرم نباتها الذي سقته سماء
البركات من جنباتها بنافع أنوائها ، وذكر بعض مآثرها المجلوّة الصّور ، وتعداد
كثير مما لها من البلدان والكور ، المستمدّة من أضوائها.
الباب الثاني : في
إلقاء بلد الأندلس للمسلمين بالقياد ، وفتحها على يد موسى بن
__________________
نصير ومولاه طارق
بن زياد ، وصيرورتها ميدانا لسبق الجياد ، ومحطّ رحال الارتياء والارتياد ، وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه زياد ، ونبإ وصل إليه اعتيام وتقرر بمثله اعتياد.
الباب الثالث : في
سرد بعض ما كان للدّين بالأندلس من العزّ السامي العماد ، والقهر للعدوّ في الرواح
والغدوّ والتحرّك للهدوّ البالغ غاية الآماد ، وإعمال أهلها للجهاد ، بالجدّ
والاجتهاد ، في الجبال والوهاد ، بالأسنّة المشرعة والسيوف المستلّة من الأغماد.
الباب الرابع : في
ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة ، وجامعها الأمويّ ذي البدائع
الباهية الباهرة ، والإلماع بحضرتي الملك ؛ الزهراء الناصرية والعامرية الزاهرة ،
ووصف جملة من متنزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة ، وما
يجرّ إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقّادة والأفكار
الماهرة.
الباب الخامس : في
التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الذاكية العرار والبشام ، ومدح
جماعة من أولئك الأعلام ، ذوي الألباب الراجحة والأحلام ، لشامة وجنة الأرض دمشق الشام ، وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها
وأرباب بيانها ذوي السؤدد والاحتشام ، ومخاطباتهم للمؤلّف الفقير حين حلّها عام
سبعة وثلاثين وألف وشاهد برق فضلها المبين وشام .
الباب السادس : في
ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق ، المهتدين في قصدهم إليها بنور
الهداية المضيء المشرق ، والأكابر الذين حلّوا منها بحلولهم فيها الجيد والمفرق ،
وافتخروا برؤية قطرها المونق على المشئم والمعرق .
الباب السابع : في
نبذة مما منّ الله تعالى به على أهل الأندلس من توقّد الأذهان ، وبذلهم في اكتساب
المعارف والمعالي ما عزّ أو هان ، وحوزهم في ميدان البراعة من قصب السّبق خصل
الرهان ، وجملة من أجوبتهم الدالّة على لوذعيتهم ، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم ،
وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان.
الباب الثامن : في
ذكر تغلّب العدوّ الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها ، وتضريبه بين
ملوكها ورؤسائها بمكره واستعماله في أمرها حيل فكره حتى استولى ـ دمّره الله ـ
__________________
عليها ، ومحا منها
التوحيد واسمه ، وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه ، وقرّر مذهب التثليث والرأي الخبيث
لديها ، واستغاثة من بها بالنظم والنثر ، أهل ذلك العصر ، من سائر الأقطار ، حين
تعذّرت بحصارها ، مع قلّة حماتها وأنصارها ، المآرب والأوطار ، وجاءها الأعداء من
خلفها ومن بين يديها ، أعاد الله تعالى إليها كلمة الإسلام ، وأقام فيها شريعة
سيّد الأنام ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، ورفع يد الكفر عنها وعمّا حواليها ،
آمين.
ولم أخل بابا في
هذا القسم من كلام للسان الدين بن الخطيب وإن قلّ ، مع أن القسم الثاني بذلك
كما ستقف عليه قد استقلّ ، وهذا آخر ما تعلّق بالقسم الأول ، وعلى الله سبحانه
المتّكل والمعوّل.
القسم الثاني : في
التعريف بلسان الدين بن الخطيب ، وذكر أنبائه التي يروق سماعها ، ويتأرّج نفحها
ويطيب ، وما يناسبها من أحوال العلماء الأفراد ، والأعلام الذين اقتضى ذكرهم شجون
الكلام والاستطراد ، وفيه أيضا من الأبواب ثمانية ، موصلة إلى جنّات أدب قطوفها
دانية ، وكلّ غصن منها رطيب :
الباب الأول : في
ذكر أولية لسان الدين وذكر أسلافه ، الذين ورث عنهم المجد وارتضع درّ أخلافه ، وما يناسب ذلك مما لا يذهب المنصف إلى خلافه.
الباب الثاني : في
نشأته وترقّيه ووزارته وسعادته ، ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجنّ على عادته ، في مصافاته ، ومنافاته ، وارتباكه ، في شباكه
، وما لقي من إحن الحاسد ، ذي المذهب الفاسد ، ومحن الكائد المستأسد وآفاته ، وذكر قصوره وأمواله ، وغير ذلك من
أحواله ، في تقلّباته عندما قابله الزمان بأهواله ، في بدئه وإعادته إلى وفاته.
الباب الثالث : في
ذكر مشايخه الجلّة ، هداة الناس ونجوم الملّة ، وما يتّصل بذلك من الأخبار الشافية
للعلّة ، والمواعظ المنجية من الأهواء المضلّة ، والمناسبات الواضحة البراهين
والأدلّة.
__________________
الباب الرابع : في
مخاطبات الملوك والأكابر الموجّهة إلى حضرته العليّة ، وثناء غير واحد من أهل عصره
عليه ، وصرف القاصدين وجوه التأميل إليه ، واجتلائهم أنوار رياسته الجليّة.
الباب الخامس : في
إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته ، ونظمه الذي تألّق نور
البراعة من لمحاته وصفحاته ، وما يتّصل بذلك من بعض أزجاله وموشّحاته ، ومناسبات رائقة من فنون الأدب
ومصطلحاته.
الباب السادس : في
مصنّفاته في الفنون ، ومؤلّفاته المحقّقة للواقف عليها الآمال والظنون ، وما كمل
منها أو اخترمته دون إتمامه المنون .
الباب السابع : في
ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه ، المستدلّين به على المنهاج ، المتلقّين أنواع
العلوم منه ، والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهّاج.
الباب الثامن : في
ذكر أولاده الرافلين في حلل الجلالة ، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله ، الوارثين
العلم والحلم والرياسة والمجد عن غير كلالة ، ووصيّته لهم الجامعة لآداب الدين والدنيا ، المشتملة على
النصائح الكافية ، والحكم الشافية ، من كل مرض بلا ثنيا ، المنقذة من أنواع
الضلالة ، وما يتبع ذلك من المناسبات القوية ، والأمداح النبويّة ، التي لها على
حسن الختام أظهر دلالة.
وقد كنت أولا
سمّيته ب «عرف الطّيب ، في التعريف بالوزير ابن الخطيب» ثم وسمته حين ألحقت أخبار
الأندلس به ب «نفح الطّيب ، من غصن الأندلس الرطيب ، وذكر وزيرها لسان الدين بن
الخطيب».
وله بالشام تعلّق
من وجوه عديدة ، هادية لمتأمّله إلى الطرق السديدة :
أوّلها : أنّ
الداعي لتأليفه أهل الشام. أبقى الله مآثرهم وجعلها على مرّ الزمان مديدة.
ثانيها : أنّ
الفاتحين للأندلس هم أهل الشام ذوو النّجدة والشّوكة الحديدة.
ثالثها : أن غالب
أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتّخذوا بالأندلس وطنا مستأنفا وحضرة جديدة.
__________________
ورابعها : أن
غرناطة نزل بها أهل دمشق ، وسمّوها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر ، والدّوح
والزّهر ، والغوطة الفيحاء ، وهذه مناسبة قوية العرا شديدة.
هذا ، وإني أسأل
ممّن وقف عليه ، أن ينظر بعين الإغضاء إليه ، كما أطلب ممّن كان السبب في تصنيفه ،
والداعي إلى تأليفه وترصيفه ، استنادا لركن الثقة ، واعتمادا على الودّ والمقة ، أن يصفح عمّا فيه من قصور ويسمح ، ويلاحظه بعين الرضا
الكليلة ويلمح ، إذ ركّبت شكل منطقه والأشجان غالبة ، وقضية الغربة ، موجبة للكربة
، ولبعض الآمال سالبة ، وهو. وإن لم يوف بكل الغرض. فلا يخلو من فائدة ، وقد
يستدلّ على الجوهر بالعرض ، فإن أدّيت المفترض ، وذاك المرام الذي أرتضيه ، ويوجب
الودّ ويقتضيه : [الطويل]
وإلّا فحسبي أن
بذلت به جهدي
|
|
وأنفقت من وجدي
على قدر ما عندي
|
وقد توهّمت أني لم
أسبق إلى مثله في بابه ، إذ لم أقف له على نظير أتعلّق بأسبابه ، ورجوت أن يكون
هديّة مستملحة مستعذبة ، وطرفة مقبولة مستغربة : [السريع]
هديّتي تقصر عن
همّتي
|
|
وهمّتي أكثر من
مالي
|
وخالص الودّ
ومحض الإخا
|
|
أكثر ما يهديه
أمثالي
|
وأوردت فيه من نظم
وإنشاء ، ما يكفي المقتصر عليه إن شاء ، ومن أخبار ملوك ورؤساء ، وطبقات من أحسن
أو أساء ، ما فيه اعتبار للمتأمّل ، وادّكار للراحل المتحمّل ، وزينة للذاكر
المتجمّل ، وتنكيت على أهل البطر ، وتبكيت لمن خرج من دنياه ولم يقض من الطاعة الوطر
: [الوافر]
أرى أولاد آدم
أبطرتهم
|
|
حظوظهم من
الدنيا الدّنيّة
|
فلم بطروا
وأوّلهم منيّ
|
|
إذا نسبوا
وآخرهم منيّه
|
وفيه إيقاظ لمثلي
من سنة الغفلة ، وحثّ على عدم الاغترار بالمهلة ، وتنبيه للابس
برد الشباب القشيب ، أنّه لا بدّ من حادث الموت قبل أو بعد المشيب : [السريع]
لله درّ الشّيب
من واعظ
|
|
وناصح منهاجه
واضح
|
كلّ امرئ يعجبه
شأنه
|
|
وحادث الدهر له
فاضح
|
__________________
فكم باك على عصر
الشباب ، وشاك لفراق عهد الصّبا والأحباب ، أنساه طارق الزمان سليمى والرّباب : [الوافر]
مضى عصر الشباب
كلمح برق
|
|
وعصر الشّيب
بالأكدار شيبا
|
وما أعددت قبل
الموت زادا
|
|
ليوم يجعل
الولدان شيبا
|
وما أحسن قول بعض
الأعلام : [الطويل]
مضى ما مضى من
حلو عيش ومرّه
|
|
كأن لم يكن إلّا
كأضغاث أحلام
|
وقول من أرشد
سفيها : [الخفيف]
إنما هذه الحياة
متاع
|
|
فالجهول الجهول
من يصطفيها
|
ما مضى فات
والمؤمّل غيب
|
|
ولك الساعة التي
أنت فيها
|
وفي معناه لغيره :
[المجتث]
دنياك شيئان
فانظر
|
|
ما ذانك
الشّيئان
|
ما فات منها
فحلم
|
|
وما بقي فأماني
|
وما أحكم قول ابن
حطّان ، مع وقوعه من البدعة في أشطان : [الرمل]
يأسف المرء على
ما فاته
|
|
من لبانات إذا
لم يقضها
|
وتراه ضاحكا
مستبشرا
|
|
بالتي أمضى كأن
لم يمضها
|
إنها عندي
كأحلام الكرى
|
|
لقريب بعضها من
بعضها
|
ولغيره : [البسيط]
والله لو كانت
الدنيا بأجمعها
|
|
تبقى علينا
ويأتي رزقها رغدا
|
ما كان من حقّ
حرّ أن يذلّ لها
|
|
فكيف وهي متاع
يضمحلّ غدا
|
ولآخر : [السريع]
لا حظّ في
الدنيا لمستبصر
|
|
يلمحها بالفكرة
الباصره
|
__________________
إن كدّرت مشربه
ملّها
|
|
وإن صفت كدّرت
الآخره
|
ويعجبني قول
الوزير ابن المغربي : [مجزوء الكامل]
إني أبثّك من
حدي
|
|
ثي والحديث له
شجون
|
فارقت موضع
مرقدي
|
|
ليلا ففارقني
السكون
|
قل لي فأوّل
ليلة
|
|
للقبر كيف ترى
أكون
|
وقول ماميه : [الوافر]
تأمّل في الوجود
بعين فكر
|
|
تر الدنيا
الدّنيّة كالخيال
|
ومن فيها جميعا
سوف يفنى
|
|
ويبقى وجه ربك
ذو الجلال
|
وقول بعض العارفين
: [الخفيف]
استعدّي يا نفس
للموت واسعي
|
|
لنجاة فالحازم
المستعدّ
|
قد تبيّنت أنه
ليس للحيّ
|
|
خلود وما من
الموت بدّ
|
إنما أنت
مستعيرة ما سو
|
|
ف تردّين
والعواري تردّ
|
أنت تسهين
والحوادث لا تس
|
|
هو وتلهين
والمنايا تجدّ
|
أيّ ملك في
الأرض أو أيّ حظّ
|
|
لامرىء حظّه من
الأرض لحد
|
لا ترجّي البقاء
في معدن المو
|
|
ت ودار حتوفها
لك ورد
|
كيف يرجو امرؤ
لذاذة أيا
|
|
م عليه الأنفاس
فيها تعدّ
|
وأسأل من مبلغ
السائلين ما يرجون : أن يصفح عن زلاتي ويسامحني فيما أوردت في هذا الكتاب من الهزل
والمجون ، الذي جرّت المناسبة إليه والحديث شجون ، وما القصد منه إلّا ترويح قلوب
الذين يسوقون عيس الأسمار ويزجون ، وفيما أوردت من المواعظ والنصائح ،
__________________
وحكايات الأولياء
الذين طيب زهر مناقبهم فائح ، والتوسّل بمحاسن الأمداح النبوية أن يستر بفضله
سبحانه القبائح ، ويرينا وجه القبول بلا اكتتام ، ويمنحنا الزّلفى وحسن الختام :
[الطويل]
ومن يتوسّل
بالنبيّ محمّد
|
|
شفيع البرايا
السّيّد السّند الأسنى
|
فذاك جدير أن
يكفّر ذنبه
|
|
ويمنح نيل القصد
والختم بالحسنى
|
وهذا أوان الشروع
، في الأصول من هذا الكتاب والفروع ، وعلى الله سبحانه أعتمد ، ومن معونته أستمدّ.
القسم الأول
فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب ،
والأنباء المنتحية صوب الصواب ،
الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب ،
وفيه بحسب القصد والاختصار ، وتحرّي التوسّط في بعض
المواضع دون الاختصار ،
ثمانية من الأبواب هي :
الباب الأول : في
وصف جزيرة الأندلس.
الباب الثاني : في
فتح الأندلس.
الباب الثالث : في
سرد ما كان للدين الإسلامي بالأندلس من العزّة والمكانة.
الباب الرابع : في
ذكر قرطبة وجامعها الأمويّ ووصف الزهراء.
الباب الخامس : في
التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى المشرق.
الباب السادس : في
ذكر الوافدين من المشرق إلى الأندلس.
الباب السابع :
فيما امتاز به الأندلسيون من توقّد الأذهان.
الباب الثامن : في
تغلّب العدوّ على الأندلس ، واستغاثة الأندلسيين بالنظم والشعر.
الباب الأوّل
وصف الأندلس
في وصف جزيرة
الأندلس وحسن هوائها ، واعتدال مزاجها ووفور خيراتها واستوائها ، واشتمالها على
كثير من المحاسن واحتوائها ، وكرم بقعتها التي سقتها سماء البركات بنافع أنوائها ، وذكر بعض مآثرها المجلوّة الصّور ، وتعداد كثير مما لها
من البلدان والكور ، المستمدّة من أضوائها ، فأقول :
محاسن الأندلس لا
تستوفى بعبارة ، ومجاري فضلها لا يشقّ غباره ، وأنّى تجارى وهي الحائزة قصب السّبق
، في أقطار الغرب والشرق؟.
قال ابن سعيد :
إنما سمّيت بالأندلس بن طوبال بن يافث بن نوح ؛ لأنه نزلها ، كما أن أخاه سبت بن
يافث نزل العدوة المقابلة لها ، وإليه تنسب سبتة .
قال : وأهل
الأندلس يحافظون على قوام اللسان العربي ؛ لأنهم إمّا عرب أو متعرّبون ، انتهى.
وقال ابن غالب :
إنه أندلس بن يافث ، والله تعالى أعلم.
وقال الوزير لسان
الدين بن الخطيب ـ رحمه الله! ـ في بعض كلام له أجرى فيه ذكر البلاد الأندلسية ،
أعادها الله تعالى للإسلام! ببركة المصطفى عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام
، ما نصّه : خصّ الله تعالى بلاد الأندلس من الرّيع وغدق السّقيا ، ولذاذة الأقوات
، وفراهة الحيوان ، ودرور الفواكه ، وكثرة المياه ، وتبحّر العمران ، وجودة اللباس
، وشرف الآنية ، وكثرة السلاح ، وصحة الهواء ، وابيضاض ألوان الإنسان ، ونبل
الأذهان ، وفنون
__________________
الصنائع ، وشهامة
الطباع ، ونفوذ الإدراك ، وإحكام التمدّن والاعتمار ، بما حرمه الكثير من الأقطار
ممّا سواها ، انتهى.
قال أبو عامر
السالمي ، في كتابه المسمّى ب «درر القلائد وغرر الفوائد» :
الأندلس من الإقليم الشامي ، وهو خير الأقاليم ، وأعدلها هواء وترابا ، وأعذبها
ماء ، وأطيبها هواء وحيوانا ونباتا ، وهو أوسط الأقاليم ، وخير الأمور أوساطها ، انتهى.
قال أبو عبيد
البكري : الأندلس شامية في طيبها وهوائها ، يمانيّة في اعتدالها واستوائها ،
هنديّة في عطرها وذكائها ، أهوازية في عظم جبايتها ، صينية في جواهر معادنها ،
عدنيّة في منافع سواحلها ، فيها آثار عظيمة لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة
، وكان من ملوكهم الذين أثّروا الآثار بالأندلس هرقلس ، وله الأثر في الصنم بجزيرة
قادس وصنم جلّيقيّة ، والأثر في مدينة طرّكونة ، الذي لا نظير له.
قال المسعودي : بلاد الأندلس تكون مسيرة عمائرها ومدنها نحو شهرين ،
ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة ، انتهى باختصار.
ونحوه لابن اليسع ،
إذ قال : طولها من أربونة إلى أشبونة وهو قطع ستين يوما للفارس المجدّ ، وانتقد بأمرين : أحدهما
أنه يقتضي أنّ أربونة داخلة في جزيرة الأندلس ، والصحيح أنها خارجة عنها ، والثاني
أن قوله : «ستّين يوما للفارس المجدّ» إعياء وإفراط ، وقد قال جماعة : إنها شهر ونصف.
قال ابن سعيد :
وهذا يقرب إذا لم يكن للفارس المجدّ ، والصحيح ما نصّ عليه الشريف من أنها مسيرة شهر ، وكذا قال الحجاري ، وقد سألت
المسافرين المحقّقين عن ذلك فعملوا حسابا بالمراحل الجيدة أفضى إلى نحو شهر بنيّف
قليل.
__________________
قال الحجاري في
موضع من كتابه : إن طول الأندلس من الحاجز إلى أشبونة ألف ميل ونيف. انتهى.
وبالجملة ،
فالمراد التقريب من غير مشاححة ، كما قاله ابن سعيد ، وأطال في ذلك ، ثم قال بعد
كلام : ومسافة الحاجز الذي بين بحر الزّقاق والبحر المحيط أربعون ميلا ، وهذا عرض
الأندلس عند رأسها من جهة الشرق ، ولقلّته سمّيت جزيرة ، وإلّا فليست بجزيرة على
الحقيقة لاتصال هذا القدر بالأرض الكبيرة ، وعرض جزيرة الأندلس في موسّطها عند طليطلة ستة عشر يوما. واتفقوا على أن جزيرة الأندلس
مثلثة الشكل ، واختلفوا في الركن الذي في الشرق والجنوب في حيز أربونة ، فممّن قال
إنه في أربونة وإن هذه المدينة تقابلها مدينة برذيل التي في الركن الشرقي الشمالي
أحمد بن محمد الرازي وابن حيّان ، وفي كلام غيرهما أنه في جهة أربونة ، وحقّق
الأمر الشريف ، وهو أعرف بتلك الجهة لتردّده في الأسفار برّا وبحرا إليها وتفرّغه
لهذا الفن.
قال ابن سعيد :
وسألت جماعة من علماء هذا الشأن فأخبروني أنّ الصحيح ما ذهب إليه الشريف ، وأنّ
أربونة وبرشلونة غير داخلتين في أرض الأندلس ، وأن الركن الموفي على بحر الزقاق
بالمشرق بين برشلونة وطرّكونة في موضع يعرف بوادي زنلقطو ، وهنالك الحاجز الذي يفصل بين الأندلس والأرض الكبيرة ذات
الألسن الكثيرة ، وفي هذا المكان جبل ألبرت الفاصل في الحاجز المذكور وفيه الأبواب
التي فتحها ملك اليونانيين بالحديد والنار والخل ، ولم يكن للأندلس من الأرض
الكبيرة قبل ذلك طريق في البرّ. وذكر الشريف أن هذه الأبواب يقع في مقابلتها في
بحر الزقاق البحر الذي بين جزيرتي ميورقة ومنورقة ، وقد أخبر بذلك جمهور المسافرين لتلك الناحية ، ومسافة
هذا الجبل الحاجز بين الركن الجنوبي والركن الشمالي أربعون ميلا.
قال : وشمال الركن
المذكور عند مدينة برديل ، وهي من مدن الإفرنجة ، مطلّة على
__________________
البحر المحيط في
شمال الأندلس ، قال : ويتقهقر البرّ بعد تميز هذا الركن إلى الشمال في بلاد
الفرنجة ، ولهم به جزائر كثيرة. ودوكرا الركن الشمالي عند شنت ياقوه من ساحل الجلالقة في شمال
الأندلس ، حيث تبتدىء جزيرة برطانية الكبيرة فيتصوّر هنالك بحر داخل بين أرضين ،
من الناس من يجعله بحرا منفردا خارجا من البحر المحيط لطوله إلى الركن المتقدّم
الذكر عند مدينة برديل
وذكر الشريف أن
عند شنت ياقوه في هذا الركن المذكور على جبل بمجمع البحرين صنما مطلّا مشبها بصنم
قادس.
والركن الثالث
بمقربة من جبل الأغن حيث صنم قادس ، والجبل المذكور يدخل من غربه مع جنوبه بحر
الزّقاق من البحر المحيط مارّا مع ساحل الأندلس الجنوبي إلى جبل ألبرت المذكور ،
انتهى ، والكلام في مثل هذا طويل الذيل.
قال الشيخ أحمد بن
محمد بن موسى الرازي : بلد الأندلس هو آخر الإقليم الرابع إلى المغرب ، وهو عند
الحكماء بلد كريم البقعة ، طيب التربة ، خصب الجناب ، منبجس الأنهار الغزار والعيون العذاب ، قليل الهوامّ ذوات السموم ، معتدل
الهواء والجوّ والنسيم ، ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدر من الاعتدال ، وسطة
من الحال ، لا يتولّد في أحدها فصل يتولّد منه فيما يتلوه انتقاص ، تتّصل فواكهه أكثر الأزمنة
وتدوم متلاحقة غير مفقودة ، أمّا الساحل منه ونواحيه ، فيبادر بباكوره ، وأما
الثغر وجهاته والجبال المخصوصة ببرد الهواء ، فيتأخّر بالكثير من ثمره ، فمادة
الخيرات بالبلد متمادية في كل الأحيان ، وفواكهه على الجملة غير معدومة في كل
أوان. وله خواصّ في كرم النبات توافق في بعضها أرض الهند المخصوصة بكرم النبات
وجواهره : منها أن المحلب ـ وهو المقدّم في الأفاويه والمفضّل في
أنواع الأشنان ـ لا ينبت بشيء من الأرض إلّا بالهند والأندلس.
وللأندلس المدن
الحصينة ، والمعاقل المنيعة ، والقلاع الحريزة ، والمصانع الجليلة ،
__________________
ولها البرّ والبحر
، والسهل والوعر ، وشكلها مثلث ، وهي معتمدة على ثلاثة أركان ؛ الأول هو الموضع
الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس ، ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي الآخذ
بقبليّ الأندلس ، والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بين مدينة بربونة ومدينة برذيل مما بأيدي الفرنجة اليوم بإزاء جزيرتي ميورقة
ومنورقة بمجاورة من البحرين ؛ البحر المحيط والبحر المتوسط ، وبينهما البرّ الذي
يعرف بالأبواب ، وهو المدخل إلى بلاد الأندلس من الأرض الكبيرة على بلد إفرنجة ، ومسافته
بين البحرين مسيرة يومين ، ومدينة بربونة تقابل البحر المحيط ، والركن الثالث منها
هو ما بين الجوف والغرب من حيّز جلّيقية ، حيث الجبل الموفي على البحر ،
وفيها الصنم العالي المشبّه بصنم قادس ، وهو الطالع على بلد برطانية.
قال : الأندلس
أندلسان في اختلاف هبوب أرياحها ومواقع أمطارها وجريان أنهارها: أندلس غربي ، وأندلس شرقي
، فالغربي منهما ما جرت أوديته إلى البحر المحيط الغربي ، وتمطر بالرياح الغربية ، ومبتدأ هذا الحوز من ناحية المشرق مع
المفازة الخارجة مع الجوف إلى بلد شنتمريّة طالعا إلى حوز إغريطة المجاورة لطليطلة مائلا إلى الغرب
ومجاورا للبحر المتوسط الموازي لقرطاجنّة الخلفاء التي من بلد لورقة . والحوز الشرقي المعروف بالأندلس الأقصى ، وتجري أوديته
إلى الشرق ، وأمطاره بالريح الشرقية ، وهو من حدّ جبل البشكنش ، هابطا مع وادي إبرة إلى بلد شنت مرية ، ومن جوف هذا
البحر وغربه المحيط ، وفي القبلة منه البحر الغربي الذي منه يجري البحر المتوسط
الخارج إلى بلد الشام ، وهو البحر المسمّى ببحر تيران ، ومعناه الذي يشقّ دائرة
الأرض ، ويسمى البحر الكبير.
قال أبو بكر عبد
الله بن عبد الحكم المعروف بابن النظام : بلد الأندلس عند علماء أهله
__________________
أندلسان ،
فالأندلس الشرقي منه ما صبّت أوديته إلى البحر الرومي المتوسط المتصاعد من أسفل
أرض الأندلس إلى المشرق ، وذلك ما بين مدينة تدمير إلى سرقسطة ، والأندلس الغربي
ما صبّت أوديته إلى البحر الكبير المعروف بالمحيط أسفل ذلك الحدّ إلى ساحل المغرب
، فالشرقي منهما يمطر بالريح الشرقية ، ويصلح عليها ، والغربيّ يمطر بالريح
الغربية وبها صلاحه ، وجباله هابطة إلى الغرب جبلا بعد جبل. وإنما قسّمته الأوائل
جزأين ؛ لاختلافهما في حال أمطارهما ، وذلك أنه مهما استحكمت الريح الغربية كثر
مطر الأندلس الغربي وقحط الأندلس الشرقي ، ومتى استحكمت الريح الشرقية كثر مطر
الأندلس الشرقيّ وقحط الغربي ، وأودية هذا القسم تجري من الشرق إلى الغرب بين هذه
الجبال. وجبال الأندلس الغربي تمتدّ إلى الشرق جبلا بعد جبل. تقطع من الجوف إلى
القبلة ، والأودية التي تخرج من تلك الجبال يقطع بعضها إلى القبلة وبعضها إلى
الشرق ، وتنصبّ كلّها إلى البحر المحيط بالأندلس القاطع إلى الشام ، وهو البحر الرومي ، وما كان من بلاد
جوفي الأندلس من بلاد جلّيقيّة وما يليها فإنّ أوديته تنصبّ إلى البحر الكبير
المحيط بناحية الجوف.
وصفة الأندلس شكل
مركّن على مثال الشكل المثلث : ركنها الواحد فيما بين الجنوب والمغرب حيث اجتماع البحرين
عند صنم قادس ، وركنها الثاني في بلد جلّيقيّة حيث الصنم المشبه صنم قادس مقابل
جزيرة برطانية ، وركنها الثالث بين مدينة بربونة ومدينة برذيل من بلد الفرنجة بحيث
يقرب البحر المحيط من البحر الشامي المتوسط ، فيكادان يجتمعان في ذلك الموضع ،
فيصير بلد الأندلس جزيرة بينهما في الحقيقة ، لو لا أنه يبقى بينهما برزخ برية
صحراء وعمارة مسافة مسيرة يوم للراكب ، منه المدخل إلى الأرض الكبيرة التي يقال
لها الأبواب ، ومن قبله يتصل بلد الأندلس بتلك البلاد المعروفة بالأرض الكبيرة ذات
الألسن المختلفة.
قال : وأوّل من
سكن بالأندلس على قديم الأيام فيما نقله الأخباريون من بعد عهد الطوفان
على ما يذكره علماء عجمها قوم يعرفون ب «الأندلش» ـ معجمة الشين ـ بهم سمّي المكان
، فعرّب فيما بعد بالسين غير المعجمة ، كانوا الذين عمروها وتناسلوا فيها وتداولوا
ملكها دهرا ، على دين التمجّس والإهمال والإفساد في الأرض ، ثم أخذهم الله بذنوبهم
، فحبس المطر عنهم ، ووالى القحط عليهم ، وأعطش بلادهم حتى نضبت مياهها ، وغارت
__________________
عيونها ، ويبست
أنهارها ، وبادت أشجارها ، فهلك أكثرهم ، وفرّ من قدر على الفرار منهم ، فأقفرت
الأندلس منهم ، وبقيت خالية فيما يزعمون مائة سنة وبضع عشرة سنة ، وذلك من حدّ بلد
الفرنجة إلى حدّ بحر الغرب الأخضر ، وكان عدّة ما عمرتها هذه الأمة البائدة مائة
عام وبضع عشرة سنة. ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة ، فدخل إليها بعد إقفارها تلك
المدّة الطويلة قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخفّفا منهم لإمحال توالى على أهل
مملكته ، وتردّد عليهم حتى كاد يفنيهم ، فحمل منهم خلقا في السفن مع قائد من قبله
يدعى «أبطريقس» فأرسوا بريف الأندلس الغربي ، واحتلّوا «بجزيرة قادس» ، فأصابوا الأندلس
قد أمطرت وأخصبت ، فجرت أنهارها ، وانفجرت عيونها ، وحييت أشجارها ، فنزلوا
الأندلس مغتبطين ، وسكنوها معتمرين ، وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين
الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ، ونصّبوا من أنفسهم
ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم ، وهم ـ مع ذلك ـ على ديانة من
قبلهم من الجاهلية ، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية ،
اخترعها ملوكهم وسكنوها ، فاتّسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن
أهلكهم الله تعالى ، ونسخهم بعجم رومة ، بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدّتهم
تلك أحد عشر ملكا. ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم «إشبان بن طيطش»
، وباسمه سمّيت : الأندلس «إشبانية» ، وذكر بعضهم أنّ اسمه : «أصبهان» فأحيل بلسان
العجم ، وقيل : بل كان مولده «بأصبهان» فغلب اسمها عليه ، وهو الذي بنى إشبيلية ،
وكان «إشبانية» اسما خالصا لبلد «إشبيلية» الذي كان ينزله «إشبان» هذا ، ثم غلب
الاسم بعده على الأندلس كله ، فالعجم الآن يسمّونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه ،
وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدّنيا فيما زعموا ، وكان غزا الأفارقة عندما
سلّطه الله عليهم في جموعه ، ففضّ عساكرهم ، وأثخن فيهم ، ونزل عليهم بقاعدتهم «طالقة»
وقد تحصّنوا فيها منه ، فابتنى عليهم مدينة «إشبيلية» اليوم ، واتّصل حصره وقتاله
لهم حتى فتحها الله عليه ، وغلبهم ، واستوت له مملكة الأندلس بأسرها ، ودان له من
كان فيها ، فهدم مدينة طالقة ، ونقل رخامها وآلاتها إلى مدينة إشبيلية ، فاستتمّ
بناءها ، واتّخذها دار مملكته ، واستغلظ سلطانه في الأرض ، وكثرت جموعه ، فعلا
وعظم عتوّه ، ثم غزا «إيليا» ـ وهي «القدس الشريف» ـ من إشبيلية بعد سنتين من ملكه
، خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها ، وقتل فيها من اليهود مائة ألف ، واسترقّ
مائة ألف ، ونقل رخام «إيليا» وآلاتها إلى الأندلس ، وقهر الأعداء ، واشتدّ
سلطانه ، انتهى.
__________________
وذكر بعض
المؤرّخين أن الغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس أيام فتحها كمائدة سليمان عليه
الصلاة والسلام التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة وقليلة الدّرّ التي ألفاها
موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرهما من طرائف الذخائر ، إنما كانت ممّا صار لصاحب
الأندلس من غنيمة بيت المقدس ، إذ حضر فتحها مع «بخت نصّر» ، وكان اسم ذلك الملك «بريان»
، وفي سهمه وقع ذلك ومثله ممّا كانت الجنّ تأتي به نبيّ الله سليمان ، على نبيّنا
وعليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام! انتهى.
وقال غير واحد من
المؤرخين : كان أهل المغرب الأقصى يضرّون بأهل الأندلس ؛ لاتّصال الأرض ، ويلقون منهم الجهد الجهيد في كل وقت ،
إلى أن اجتاز بهم الإسكندر ، فشكوا حالهم إليه ، فأحضر المهندسين ، وحضر إلى
الزقاق ، فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي ، فوجدوا المحيط
يعلو البحر الشامي بشيء يسير ، فأمر برفع البلاد التي على ساحل البحر الشامي ،
ونقلها من الحضيض إلى الأعلى ، ثم أمر بحفر ما بين طنجة وبلاد الأندلس من الأرض ،
فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية ، وبنى عليها رصيفا بالحجر والجيّار بناء محكما
وجعل طوله اثني عشر ميلا ، وهي المسافة التي كانت بين البحرين ، وبنى رصيفا آخر
يقابله من ناحية طنجة ، وجعل بين الرصيفين سعة ستة أميال ، فلمّا كمل الرصيفان حفر
من جهة البحر الأعظم ، وأطلق فم الماء بين الرصيفين ، فدخل في البحر الشامي ، ثم
فاض ماؤه ، فأغرق مدنا كثيرة ، وأهلك أمما عظيمة كانت على الشطّين ، وطفا الماء
على الرصيفين إحدى عشرة قامة ، فأمّا الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس ، فإنّه يظهر
في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهورا بيّنا مستقيما على خطّ واحد ، وأهل الجزيرتين
يسمّونه القنطرة ، وأما الرصيف الذي من جهة العدوة ، فإن الماء حمله في صدره ،
واحتفر ما خلفه من الأرض اثني عشر ميلا ، وعلى طرفه من جهة المغرب قصر الجواز
وسبتة وطنجة ، وعلى طرفه من الناحية الأخرى جبل طارق بن زياد وجزيرة طريف وغيرهما
والجزيرة الخضراء ، وبين سبتة والجزيرة الخضراء عرض البحر. انتهى ملخصا ، وقد
تكرّر بعضه مع ما جلبناه ، والعذر بيّن لارتباط الكلام بعضه ببعض.
وقال ابن سعيد :
ذكر الشريف أن لا حظّ لأرض الأندلس في الإقليم الثالث ، قال : ويمرّ بجزيرة
الأندلس الإقليم الرابع على ساحلها الجنوبي وما قاربه من قرطبة وإشبيلية
ومرسية
__________________
وبلنسية ، ثم يمرّ
على جزيرة صقلية وعلى ما في سمتها من الجزائر ، والشمس مدبّرة له.
والإقليم الخامس
يمرّ على طليطلة وسرقسطة وما في سمتهما إلى بلاد أرغون التي في جنوبيها برشلونة ،
ثم يمرّ على رومية وبلادها ، ويشقّ بحر البنادقة ، ثم يمرّ على القسطنطينية ،
ومدبّرته الزّهرة.
والسادس يمرّ على
ساحل الأندلس الشمالي الذي على البحر المحيط وما قاربه وبعض البلاد الداخلة في
قشتالة وبرتقال وما في سمتها ، وعلى بلاد برجان والصقالبة والروس ، ومدبّره عطارد.
ويمرّ الإقليم
السابع في البحر المحيط الذي في شماليّ الأندلس إلى جزيرة أنقلطرة وغيرها من
الجزائر وما في سمتها من بلاد الصقالبة وبرجان.
قال البيهقي :
وفيه تقع جزيرة تولى وجزيرتا أجبال والنساء وبعض بلاد الروس الداخلة في الشمال
والبلغار ، ومدبّره القمر ، انتهى.
وقال بعض العلماء
: إنّ النصارى حرموا جنّة الآخرة فأعطاهم الله جنة الدنيا بستانا متّصلا من البحر
المحيط بالأندلس إلى خليج القسطنطينية ، وعندهم عموم شاه بلوط والبندق والجوز
والفستق وغير ذلك مما يكون أكثر وأمكن في الأقاليم الباردة ، والتمر عندهم معدوم ،
وكذا الموز وقصب السكر ، وربما يكون شيء من ذلك في الساحل ؛ لأن هواء البحر يدفئ ،
انتهى.
قال ابن حيّان في
المقتبس : ذكر رواة العجم أن الخضر ، عليه السلام ، وقف على إشبان المذكور وهو يحرث الأرض بفدن له أيام حراثته ، فقال
له : يا إشبان ، إنك لذو شأن ، وسوف يحظيك زمان ، ويعليك سلطان ، فإذا أنت غلبت
على إيليا فارفق بذرّيّة الأنبياء ، فقال له إشبان : أساخر بي رحمك الله؟! أنّى
يكون هذا منّي وأنا ضعيف ممتهن حقير فقير ليس مثلي ينال السلطان؟ فقال له : قد
قدّر ذلك فيك من قدّر في عصاك اليابسة ما تراه ، فنظر إشبان إلى عصاه ، فإذا بها
قد أورقت ، فريع لما رأى من الآية ، وذهب الخضر عنه ، وقد وقع الكلام بخلده ، ووفرت في نفسه الثقة بكونه ، فترك الامتهان من وقته ، وداخل
الناس ، وصحب أهل البأس منهم ، وسما به جدّه فارتقى في طلب السلطان حتى أدرك منه
عظيما ، وكان منه ما كان.
__________________
ثم أتى عليه ما
أتى على القرون قبله ، وكان ملكه كله عشرين سنة ، وتمادى ملك الإشبانيين بعده إلى
أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكا.
ثم دخل على هؤلاء
الإشبانيين من عجم رومة أمّة يدعون البشتولقات ، وملكهم طلويش بن بيطة ، وذلك زمن بعث المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام!
أتوا الأندلس من قبل رومة ، وكانوا يملكون إفرنجة معها ، ويبعثون عمالهم إليها ،
فاتخذوا دار مملكتهم بالأندلس مدينة ماردة ، واستولوا على مملكة الأندلس ، واتصل
ملكهم بها مدّة إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكا.
ثم دخل على هؤلاء
البشتولقات أمّة القوط مع ملك لهم ، فغلبوا على الأندلس ، واقتطعوها من يومئذ من
صاحب رومة ، وتفرّدوا بسلطانهم ، واتخذوا مدينة طليطلة دار مملكتهم ، وأقرّوا بها
سرير ملكهم ، فبقي بإشبيلية علم الإشبانيين ورياسة أوليتهم.
وقد كان عيسى المسيح
عليه السلام ، بعث الحواريين في الأرض يدعون الخلق إلى ديانته ، فاختلف الناس
عليهم ، وقتلوا بعضهم ، واستجاب لهم كثير منهم ، وكان من أسرعهم إجابة لمن جاءه من
هؤلاء الحواريين خشندش ملك القوط ، فتنصّر ، ودعا قومه إلى النصرانية ، وكان من
صميم أعاظمهم وخير من تنصّر من ملوكهم ، وأجمعوا على أنه لم يكن فيهم أعدل منه
حكما ، ولا أرشد رأيا ، ولا أحسن سيرة ، ولا أجود تدبيرا ، فكان الذي أصّل
النصرانية في مملكته ، ومضى أهلها على سنّته إلى اليوم ، وحكموا بها ، والإنجيلات
في المصاحف الأربعة التي يختلفون فيها من انتساخه وجمعه وتثقيفه ، فتناسقت ملوك
القوط بالأندلس بعده إلى أن غلبتهم العرب عليها ، وأظهر الله تعالى دين الإسلام
على جميع الأديان.
فوقع في تواريخ
العجم القديمة أنّ عدّة ملوك هؤلاء القوط بالأندلس من عهد أتاناوينوس الذي ملك في
السنة الخامسة من مملكة فلبش القيصري لمضيّ أربعمائة وسبع من تاريخ الصفر المشهور
عند العجم إلى عهد لذريق آخرهم الذي ملك في السنة التاسعة والأربعين وسبعمائة من
تاريخ الصفر ، وهو الذي دخلت عليه العرب فأزالت دولة القوط ، ستة وثلاثون ملكا ،
وأن مدّة أيام ملكهم بالأندلس ثلاثمائة واثنتان وأربعون سنة ، انتهى .
__________________
وقال جماعة : إن
القوط غير البشتولقات ، وإن البشتولقات من عجم رومة ، وإنهم جعلوا دار ملكهم ماردة
، واتّصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكا ، ثم دخل عليهم القوط ، واتّخذوا
طليطلة دار مملكة ، ثم ذكر تنصّر ملكهم خشندش مثل ما تقدّم ، ثم ذكر أن عدّة ملوك
القوط ستة وثلاثون ملكا.
وذكر الرازي أن
القوط من ولد يأجوج بن يافث بن نوح ، وقيل غير ذلك ، انتهى.
وذكر الرازي في موضع آخر نحو ما تقدّم وزيادة ، ونصّه : أن
الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة التي تقدّم ذكرها التي هي ربع معمور الدنيا فهي موسطة من البلدان ، كريمة
البقعة ، بطبع الخلقة ، طيبة التربة ، مخصبة القاعة ، منبجسة العيون الثّرار منفجرة الأنهار الغزار ، قليلة
الهوامّ ذوات السموم ، معتدلة الهواء أكثر الأزمان لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضرّ
بالأبدان وكذا سائر فصولها في أعمّ سنيها تأتي على قدر من الاعتدال ، وتوسّط من
الحال ، وفواكهها تتصل طول الزمان ، فلا تكاد تعدم لأن الساحل ونواحيه يبادر
بباكوره ، كما أن الثغر وجهاته والجبال التي يخصّها برد الهواء وكثافة الجوّ
تستأخر بما فيها من ذلك ، حتى يكاد طرفا فاكهتها يلتقيان ، فمادّة الخيرات فيها
متّصلة كلّ أوان. ومن بحرها بجهة الغرب يخرج العنبر الجيد المقدّم على أجناسه في
الطّيب والصبر على النار ، وبها شجر المحلب المعدود في الأفاويه المقدّم في أنواع
الأشنان كثير واسع ، وقد زعموا أنه لا يكون إلّا بالهند وبها فقط ، ولها خواصّ
نباتية يكثر تعدادها. انتهى.
وقد ذكر غيره
تفصيل بعض ذلك فقال : يوجد في ناحية دلاية من إقليم البشرّة عود الألنجوج ، لا يفوقه العود الهندي ذكاء وعطر رائحة ، وقد سيق منه
إلى خيران الصقلبي صاحب المرية ، وأنّ أصل منبته كان بين أحجار هنالك. وبأكشونبة جبل
كثيرا ما يتضوّع ، ريحه ريح العود الذكي إذا أرسلت فيه النار ، وببحر شذونة يوجد
العنبر الطيب الغربي ، وفي
__________________
جبل منت ليون
المحلب ، ويوجد بالأندلس القسط الطيب ، والسنبل الطيب ، والجنطيانة تحمل من
الأندلس إلى جميع الآفاق ، وهو عقار رفيع ، والمرّ الطيب بقلعة أيوب ، وأطيب
كهرباء الأرض بشذونة ، درهم منها يعدل دراهم من المجلوبة ، وأطيب القرمز قرمز
الأندلس ، وأكثر ما يكون بنواحي إشبيلية ولبلة وشذونة وبلنسية ، ومن الأندلس يحمل
إلى الآفاق. وبناحية لورقة من عمل تدمير يكون حجر اللازورد الجيد ، وقد يوجد في
غيرها. وعلى مقربة من حضرة لورقة من عمل قرطبة معدن البلور ، وقد يوجد بجبل شحيران
وهو شرقي ببرة. وحجر النجادي يوجد بناحية مدينة الأشبونة في جبل هنالك يتلألأ فيه ليلا
كالسراج. والياقوت الأحمر يوجد بناحية حصن منت ميور من كورة مالقة إلّا أنه دقيق
جدّا لا يصلح للاستعمال لصغره. ويوجد حجر يشبه الياقوت الأحمر بناحية بجّانة في
خندق يعرف بقرية ناشرة أشكالا مختلفة كأنه مصبوغ ، حسن اللون ، صبور على النار.
وحجر المغناطيس الجاذب للحديد يوجد في كورة تدمير. وحجر الشادنة بجبال قرطبة كثير ، ويستعمل ذلك في التذاهيب. وحجر اليهودي
في ناحية حصن البونت ، وهو أنفع شيء للحصاة. وحجر المرقيشينا الذهبية في جبال أبّدة لا نظير لها في الدنيا ، ومن الأندلس تحمل إلى جميع الآفاق
لفضلها. والمغنيسيا بالأندلس كثير ، وكذلك حجر الطّلق. ويوجد حجر اللؤلؤ بمدينة
برشلونة إلّا أنه جامد اللون. ويوجد المرجان بساحل بيرة من عمل المرية ، ما لقط
منه في أقل من شهر نحو ثمانين ربعا. ومعدن الذهب بنهر لاردة يجمع منه
كثير ، ويجمع أيضا في ساحل الأشبونة. ومعادن الفضة في الأندلس كثيرة في كورة تدمير
وجبال حمّة ببجّانة. وبإقليم كرتش من عمل قرطبة معدن فضة جليل. وبأكشونية
معدن القصدير الذي لا مثيل له يشبه الفضة ، وله معادن بناحية إفرنجة وليون. ومعدن
الزئبق في جبل البرانس ، ومن هنالك يتجهّز به إلى الآفاق. ومعادن الكبريت الأحمر
والأصفر بالأندلس كثيرة ، ومعدن التوتيا الطبية بساحل إلبيرة بقرية تسمى بطرنة ،
وهي
__________________
أزكى توتيا
وأقواها في صبغ النحاس ، وبجبال قرطبة توتيا ، وليست كالبطرنية. ومعدن الكحل
المشبّه بالأصفهاني بناحية مدينة طرطوشة يحمل منها إلى جميع البلاد. ومعادن الشبوب
والحديد والنحاس بالأندلس أكثر من أن تحصى. وما ذكرت هنا وإن تكرّر بعضه مع ما سبق
أو يأتي فهو لجمع النظائر ، وما لم نذكره أكثر ، والله تعالى أعلم.
ومن خواص طليطلة
أنّ حنطتها لا تتغيّر ولا تسوّس على طول السنين ، يتوارثها الخلف عن السلف ، وزعفران
طليطلة هو الذي يعمّ البلاد ويتجهّز به الرفاق إلى الآفاق ، وكذلك الصبغ السماوي ،
انتهى.
وقال المسعودي في «مروج
الذهب» بعد كلام ما نصّه : والعنبر كثير ببحر الأندلس ، يجهّز إلى مصر وغيرها ،
ويحمل إلى قرطبة من ساحل لها يقال له شنترين وشذونة ، تبلغ الأوقية منه بالأندلس
ثلاثة مثاقيل ذهبا ، والأوقية بالبغدادي ، وتباع بمصر أوقيته بعشرين دينارا ، وهو عنبر جيّد ، ويمكن أن يكون هذا العنبر الواقع إلى
بحر الروم ضربته الأمواج من بحر الأندلس إلى هذا البحر لاتصال الماء. وبالأندلس
معدن عظيم للفضة ، ومعدن للزئبق ليس بالجيد يجهّز إلى سائر بلاد الإسلام والكفر ،
وكذلك يحمل من بلاد الأندلس الزعفران وعروق الزنجبيل. وأصول الطّيب خمسة أصناف :
المسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ، والزعفران ، وكلها تحمل من أرض الهند وما
اتصل بها إلّا الزعفران والعنبر. انتهى. وهو وإن تكرّر مع ما ذكرته عن غيره فلا
يخلو من فائدة ، والله تعالى أعلم.
وذكر البعض أن في بلاد الأندلس جميع المعادن الكائنات عن النيرات السبعة وهي
: الرصاص من زحل ، والقصدير الأبيض من المشتري ، والحديد من قسم المريخ ، والذهب
من قسم الشمس ، والنحاس من الزهرة ، والزئبق من عطارد ، والفضّة من القمر.
وذكر الكاتب
إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بالرقيق بلد الأندلس ، فقال : أهله أصحاب جهاد
متّصل يحاربون من أهل الشّرك المحيطين بهم أمّة يدعون الجلالقة ، يتاخمون حوزهم ما
بين غرب إلى شرق ، قوم لهم شدّة ولهم جمال وحسن وجوه ، فأكثر رقيقهم الموصوفين
بالجمال والفراهة منهم ليس بينهم وبينهم درب ، فالحرب متّصلة بينهم ، ما لم تقع
هدنة ، ويحاربون بالأفق الشرقي أمّة يقال لهم الفرنجة هم أشدّ عليهم من جميع من
يحاربونه
__________________
من عدوّهم ، إذ
كانوا خلقا عظيما في بلاد كثيرة واسعة جليلة متّصلة العمارة آهلة تدعى الأرض
الكبيرة ، هم أكثر عددا من الجليقيين وأشدّ بأسا وأحد شوكة وأعظم أمدادا. وهذه
الأمة يحاربون أمّة الصقالبة المتّصلين بأرضهم لمخالفتهم إياهم في الديانة
فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس ، فلهم هنالك كثرة ، وتخصيهم للفرنجة يهود
ذمّتهم الذين بأرضهم ، وفي ثغر المسلمين المتصل بهم ، فيحمل خصيانهم من هنالك إلى
سائر البلاد ، وقد تعلم الخصاء قوم من المسلمين هناك ، فصاروا يخصون ويستحلّون
المثلة.
قال ابن سعيد :
ومخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشام هو بساحل الأندلس الغربي بمكان يقال له
الخضراء ما بين طنجة من أرض المغرب وبين الأندلس ، فيكون مقدار عرضه هناك كما
زعموا ثمانية عشر ميلا ، وهذا عرض جزيرة طريف إلى قصر مصمودة بالقرب من سبتة ،
وهناك كانت القنطرة التي يزعم الناس أن الإسكندر بناها ليعبر عليها من برّ الأندلس
إلى برّ العدوة ، ويعرف هذا الموضع بالزقاق ، وهو صعب المجاز ؛ لأنه مجمع البحرين
لا تزال الأمواج تتطاول فيه والماء يدور ، وطول هذا الزقاق الذي عرضه ثمانية عشر
ميلا مضاعف ذلك إلى ميناء سبتة ، ومن هناك يأخذ البحر في الاتّساع إلى ثمانمائة
ميل وأزيد ، ومنتهاه مدينة صور من الشام ، وفيه عدد عظيم من الجزائر.
قال بعضهم : إنها
ثمان وعشرون جزيرة منها صقلية ومالطة وغيرهما ، انتهى ، وبعضه بالمعنى.
وقال بعضهم : عند
وصفه ضيق بحر الزقاق قرب سبتة ، ما صورته : ثم يتّسع كلّما امتدّ حتى يسير إلى ما
لا ذرع له ولا نهاية.
وقال بعضهم : وكان
مبلغ خراج الأندلس الذي كان يؤدّى إلى ملوك بني أميّة قديما ثلاثمائة ألف دينار
دراهم أندلسية كل سنة قوانين ، وعلى كل مدينة من مدائنهم مال معلوم ، فكانوا يعطون
جندهم ورجالهم الثلث من ذلك مائة ألف دينار ، وينفقون في أمورهم ونوائبهم ومؤن
أهليهم مائة ألف دينار ، ويدّخرون لحادث أيامهم مائة ألف دينار ، انتهى.
وذكر غيره أن
الجباية كانت بالأندلس أيام عبد الرحمن الأوسط ألف ألف دينار في السنة ، وكانت قبل
ذلك لا تزيد على ستمائة ألف ، حكاه ابن سعيد ، وقال : إن الأندلس مسيرة شهر مدن
وعمائر.
وقال قاضي القضاة
ابن خلدون الحضرمي في تاريخه الكبير ، ما صورته : كان هذا القطر الأندلسي من
العدوة الشمالية من عدوتي البحر الرومي وبالجانب الغربي منها يسمّى عند العجم
الأندلوش ، وتسكنه
أمم من إفرنجة المغرب أشدّهم وأكثرهم الجلالقة. وكان القوط قد تملّكوه وغلبوا على
أهله لمئين من السنين قبل الإسلام ، بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها
رومة. ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس ، فصاروا إليها
وملكوها. ولما أخذ الروم واللطينيون بملّة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من
أمم الفرنجة والقوط عليها فدانوا بها ، وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة ، وكانت دار
ملكهم. وربما تنقّلوا ما بينها وبين قرطبة وإشبيلية وماردة ، وأقاموا كذلك نحوا من
أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح. وكان ملكهم لذلك العهد يسمّى لذريق
، وهو سمة لملوكهم ، كما أن جرجير سمة لملوك صقلية ، انتهى.
ومن أشهر بلاد
الأندلس غرناطة ، وقيل : إن الصواب إغرناطة ـ بالهمز ـ ومعناه بلغتهم الرّمّانة ،
وكفاها شرفا ولادة لسان الدين بها.
وقال الشقندي : أما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس ، ومسرح الأبصار ،
ومطمح الأنفس ، ولم تخل من أشراف أماثل ، وعلماء أكابر ، وشعراء أفاضل ، ولو لم يكن لها ما خصّها الله تعالى به من المرج الطويل
العريض ونهر شنيل لكفاها.
وفي بعض كلام لسان
الدين ما صورته : وما لمصر تفخر بنيلها وألف منه في شنيلها؟ يعني أن الشين عند أهل
المغرب عددها ألف ، فقولنا شنيل إذا اعتبرنا عدد شينه كان ألف نيل. وفيها قيل : [مخلع
البسيط]
غرناطة ما لها
نظير
|
|
ما مصر؟ ما
الشام؟ ما العراق؟
|
ما هي إلّا
العروس تجلى
|
|
وتلك من جملة
الصّداق
|
وتسمى كورة إلبيرة
التي منها غرناطة دمشق لأنّ جند دمشق نزلوها عند الفتح ، وقيل : إنما سمّيت بذلك
لشبهها بدمشق في غزارة الأنهار ، وكثرة الأشجار ، حكاه صاحب مناهج الفكر ، قال :
ولما استولى الفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقل أهلها إليها فصارت المصر المقصود
، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود. ويشقّها نهر عليه قناطر يجاز عليها ،
وفي قبليها جبل شلير ، وهو جبل لا يفارقه الثلج صيفا ولا شتاء ، وفيه سائر النبات
الهندي ، لكن ليس فيه خصائصه ، انتهى.
__________________
ومن أعمال غرناطة
قطر لوشة ، وبها معدن للفضّة جيّد ، ومنها أعني لوشة ، أصل لسان
الدين بن الخطيب. وهذا القطر ضخم ينضاف إليه من الحصون والقرى كثير ، وقاعدته لوشة
، بينها وبين غرناطة مرحلة ، وهي ذات أنهار وأشجار ، وهي على نهر غرناطة الشهير
بشنيل.
ومن أعمال غرناطة
الكبار عمل باغة ، والعامّة يقولون بيغه ، وإذا نسبوا إليه قالوا بيغي ،
وقاعدته باغية طيبة الزرع ، كثيرة الثمار ، غزيرة المياه ، ويجود فيها الزعفران.
ومن أعمال غرناطة
وادي آش ، ويقال : وادي الأشات. وهي مدينة جليلة قد أحدقت بها البساتين والأنهار ،
وقد خصّ الله أهلها بالأدب وحبّ الشعر ، وفيها يقول أبو الحسن بن نزار : [الكامل]
وادي الأشات
يهيج وجدي كلّما
|
|
أذكرت ما أفضت
بك النعماء
|
لله ظلّك
والهجير مسلّط
|
|
قد برّدت لفحاته
الأنداء
|
والشمس ترغب أن
تفوز بلحظة
|
|
منه فتطرف طرفها
الأفياء
|
والنهر يبسم
بالحباب كأنه
|
|
سلخ نضته حيّة
رقشاء
|
فلذاك تحذره
الغصون فميلها
|
|
أبدا على جنباته
إيماء
|
ومن أعمال وادي آش
حصن جليانة ، وهو كبير يضاهي المدن ، وبه التفاح الجلياني الذي خصّ الله به ذلك الموضع
، يجمع عظم الحجم وكرم الجوهر وحلاوة الطعم وذكاء الرائحة والنقاء ، وبين الحصن
المذكور ووادي آش اثنا عشر ميلا.
ومن غرائب الأندلس
أنّ به شجرتين من شجر القسطل ، وهما عظيمتان جدّا إحداهما بسند وادي آش والأخرى
ببشرّة غرناطة ، في جوف كل واحدة منهما حائك ينسج الثياب ، وهذا أمر مشهور قاله
أبو عبد الله بن جزيّ وغيره.
وكانت إلبيرة هي
المدينة قبل غرناطة ، فلما بنى الصّنهاجي مدينة غرناطة وقصبتها وأسوارها انتقل الناس إليها ، ثم زاد
في عمارتها ابنه باديس بعده.
__________________
وذكر غير واحد أن
في كورة سرقسطة الملح الأندراني الأبيض الصافي الأملس الخالص ، وليس في
الأندلس موضع فيه مثل هذا الملح.
قال : وسرقسطة
بناها قيصر ملك رومة الذي تؤرّخ من مدّته مدّة الصفر قبل مولد المسيح على نبيّنا
وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام ، وتفسير اسمها قصر السيد ، لأنه اختار
ذلك المكان بالأندلس.
وقيل : إن موسى بن
نصير شرب من ماء نهر جلّق بسرقسطة فاستعذبه ، وحكم أنه لم يشرب بالأندلس أعذب منه
، وسأل عن اسمه ، فقيل : جلّق ، ونظر إلى ما عليه من البساتين فشبّهها بغوطة جلّق
الشام ، وقيل : إنها من بناء الإسكندر ، والله أعلم.
وبمدينة برجة ـ وهي من أعمال المرية ـ معدن الرصاص ، وهي على واد مبهج
يعرف بوادي عذراء ، وهو محدق بالأزهار والأشجار. وتسمى برجة بهجة لبهجة منظرها ،
وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني رحمه الله تعالى : [المتقارب]
رياض تعشّقها
سندس
|
|
توشّت معاطفها
بالزّهر
|
مدامعها فوق
خدّي ربا
|
|
لها نظرة فتنت
من نظر
|
وكلّ مكان بها
جنّة
|
|
وكلّ طريق إليها
سقر
|
وفيها أيضا قوله :
[المجتث]
حطّ الرحال
ببرجه
|
|
وارتد لنفسك
بهجه
|
في قلعة كسلاح
|
|
ودوحة مثل لجّه
|
فحصنها لك أمن
|
|
وروضها لك فرجه
|
كلّ البلاد
سواها
|
|
كعمرة وهي حجّه
|
وبمالقة التين
الذي يضرب المثل بحسنه ، ويجلب حتى الهند والصين ، وقيل : إنه ليس في الدنيا مثله
، وفيه يقول أبو الحجّاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحد ،
منهم ابن سعيد : [السريع]
__________________
مالقة ، حيّيت
يا تينها
|
|
الفلك من أجلك
يا تينها
|
نهى طبيبي عنه
في علّتي
|
|
ما لطبيبي عن
حياتي نهى
|
وذيّل عليه الإمام
الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله : [السريع]
وحمص لا تنس لها
تينها
|
|
واذكر مع التين
زياتينها
|
وفي بعض النسخ : [السريع]
لا تنس
لإشبيليّة تينها
|
|
واذكر مع التين
زياتينها
|
وهو نحو الأول ؛
لأن حمص هي إشبيلية ، لنزول أهل حمص من المشرق بها ، حسبما سنذكره.
ونسب ابن جزي في
ترتيبه لرحلة ابن بطّوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبد الوهاب المالقي ،
والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد الملك ، فالله أعلم.
وقال ابن بطوطة :
وبمالقة يصنع الفخّار المذهّب العجيب ، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد ، ومسجدها
كبير الساحة ، كثير البركة شهيرها ، وصحنه لا نظير له في الحسن ، وفيه أشجار النارنج البديعة
، انتهى.
وقال قبله : إن
مالقة إحدى قواعد الأندلس ، وبلادها الحسان ، جامعة بين مرافق البرّ والبحر ، كثيرة
الخيرات والفواكه ، رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير ،
ورمّانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا ، وأمّا التين واللوز فيجلبان منها
ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب ، انتهى.
وبكورة أشبونة
المتصلة بشنترين معدن التّبر ، وفيها عسل يجعل في كيس كتّان فلا يكون له رطوبة كأنه
سكر ، ويوجد في ريفها العنبر الذي لا يشبهه إلّا الشّحري.
ومن أشهر مدن
الأندلس مدينة قرطبة ـ أعادها الله تعالى للإسلام! ـ وبها الجامع المشهور ،
والقنطرة المعروفة بالجسر.
__________________
وقد ذكر ابن حيان
أنه بني على أمر عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، ونصه : وقام فيها بأمره على
النهر الأعظم بدار مملكتها قرطبة الجسر الأكبر الذي ما يعرف في الدنيا مثله ،
انتهى.
وفيها يقول بعض
علماء الأندلس : [البسيط]
بأربع فاقت
الأمصار قرطبة
|
|
منهنّ قنطرة
الوادي ، وجامعها
|
هاتان ثنتان ،
والزهراء ثالثة ،
|
|
والعلم أعظم شيء
، وهو رابعها
|
وقال الحجاري في «المسهب»
: كانت قرطبة في الدولة المروانية قبّة الإسلام ، ومجتمع أعلام الأنام ، بها
استقرّ سرير الخلافة المروانية ، وفيها تمحّضت خلاصة القبائل المعدّية واليمانية ،
وإليها كانت الرّحلة في الرواية إذ كانت مركز الكرماء ، ومعدن العلماء ، وهي من
الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد ، ونهرها من أحسن الأنهار ، مكتنف بديباج المروج
مطرّز بالأزهار ، تصدح في جنباته الأطيار ، وتنعر النواعير ويبسم النّوّار ،
وقرطاها الزاهرة والزهراء ، حاضرتا الملك وأفقاه النعماء والسرّاء. وإن كان قد
أخنى عليها الزمان ، وغيّر بهجة أوجهها الحسان ، فتلك عادته وسل الخورنق والسدير
وغمدان ، وقد أعذر بإنذاره إذ لم يزل ينادي بصروفه لا أمان لا أمان ، وقد قال
الشاعر : [المتقارب]
وما زلت أسمع
أنّ الملو
|
|
ك تبني على قدر
أخطارها
|
وقال السلطان
يعقوب المنصور ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي لأحد رؤساء أجنادها
: ما تقول في قرطبة؟ فخاطبه على ما يقتضيه كلام عامّة الأندلس بقوله: جوفها شمام ،
وغربيها قمام ، وقبلتها مدام ، والجنة هي والسلام.
يعني بالشّمام
جبال الورد ، ويعني بالقمام ما يؤكل إشارة إلى محرث الكنبانيّة ، ويعني بالمدام النهر.
ولما قال والده
السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي : ما عندك في قرطبة؟
قال له : ما كان لي أن أتكلّم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها ، فقال السلطان :
إن ملوك بني أمية حين اتّخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرة ، الديار المنفسحة
__________________
الكبيرة ، والشوارع المتّسعة ، والمباني الضخمة المشيدة ، والنهر
الجاري ، والهواء المعتدل ، والخارج الناضر ، والمحرث العظيم ، والشّعراء الكافية
، والتوسّط بين شرق الأندلس وغربها ، قال : فقلت : ما أبقى لي أمير المؤمنين ما
أقول.
قال ابن سعيد :
ولأهلها رياسة ووقار ، لا تزال سمة العلم والملك متوارثة فيهم ، إلّا أنّ عامّتها
أكثر الناس فضولا ، وأشدّهم تشغيبا ، ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في
القيام على الملوك ، والتشنيع على الولاة ، وقلّة الرضا بأمورهم ، حتى إنّ السيد
أبا يحيى أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لمّا انفصل عن ولايتها : كيف وجدت أهل
قرطبة؟ فقال : مثل الجمل ، إن خفّفت عنه الحمل صاح ، وإن أثقلته صاح ، ما ندري أين
رضاهم فنقصده ، ولا أين سخطهم فنجتنبه ، وما سلّط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان
عامّتها شرّا من عامّة العراق ، وإن العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية ،
إني وإن كلّفت العود إليها لقائل : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، انتهى.
وقال أبو الفضل
التيفاشي : جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد بن
رشد والرئيس أبي بكر بن زهر ، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة : ما أدري ما
تقول ، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع
فيها ، وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية ، قال : وقرطبة أكثر
بلاد الله كتبا ، انتهى.
وحكى الإمام ابن
بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ
أبي بكر المخزومي ، قال : فسألنا : من أين؟ فقلنا : من قرطبة ، فقال : متى عهدكما
بها؟ فقلنا : الآن وصلنا منها ، فقال : اقربا إليّ أشمّ نسيم قرطبة ، فقربنا منه ،
فشمّ رأسي وقبّله ، وقال لي : اكتب : [الطويل]
أقرطبة الغرّاء
هل لي أوبة
|
|
إليك؟ وهل يدنو
لنا ذلك العهد
|
سقى الجانب
الغربيّ منك غمامة
|
|
وقعقع في ساحات
دوحاتك الرّعد
|
لياليك أسحار ،
وأرضك روضة ،
|
|
وتربك في
استنشاقها عنبر ورد
|
وكتب الرئيس
الكاتب أبو بكر بن القبطرنة للعالم أبي الحسين بن سراج بقوله : [الكامل]
__________________
يا سيّدي وأبي
هوى وجلالة
|
|
ورسول ودّي إن
طلبت رسولا
|
عرّج بقرطبة إذا
بلّغتها
|
|
بأبي الحسين
وناده تمويلا
|
وإذا سعدت بنظرة
من وجهه
|
|
أهد السلام
لكفّه تقبيلا
|
واذكر له شوقي
وشكري مجملا
|
|
ولو استطعت
شرحته تفصيلا
|
بتحية تهدى إليه
كأنما
|
|
جرّت على زهر
الرياض ذيولا
|
وفي باب اليهود
بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد : [المتقارب]
لقد أطلعوا عند
باب اليهود
|
|
بدرا أبى الحسن
أن يكسفا
|
تراه اليهود على
بابها
|
|
أميرا فتحسبه
يوسفا
|
واستقبحوا قولهم «باب
اليهود» فقالوا «باب الهدى» وسنذكر قرطبة والزهراء والزاهرة ومسجدها في الباب
المنفرد بها إن شاء الله تعالى ، وكذلك القنطرة.
ومن أعظم مدن
الأندلس إشبيلية ـ قال الشقندي : من محاسنها اعتدال الهواء ، وحسن المباني ،
ونهرها الأعظم الذي يصعد المدّ فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر ، وفيه يقول ابن سفر
: [الكامل]
شقّ النسيم عليه
جيب قميصه
|
|
فانساب من شطّيه
يطلب ثاره
|
فتضاحكت ورق
الحمام بدوحها
|
|
هزأ فضمّ من
الحياء إزاره
|
وقيل لأحد من رأى
مصر والشام : أيّهما رأيت أحسن؟ أهذان أم إشبيلية؟ فقال بعد تفضيل إشبيلية : شرفها
غابة بلا أسد ، ونهرها نيل بلا تمساح ، انتهى.
ويقال : إن الذي
بنى إشبيلية اسمه يوليس ، وإنه أول من سمّي قيصر ، وإنه لمّا دخل الأندلس أعجب
بساحاتها وطيب أرضها وجبلها المعروف بالشّرف ، فردم على النهر الأعظم مكانا ،
وأقام فيه المدينة ، وأحدق عليها بأسوار من صخر صلد ، وبنى في وسط المدينة قصبتين
بديعتي الشأن تعرفان بالأخوين ، وجعلها أمّ قواعد الأندلس ، واشتقّ لها اسما من
رومية ، ومن اسمه ، فسمّاها رومية يوليس ، انتهى.
__________________
وقد تقدّم شيء من
هذا.
وكان الأوّلون من
ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة بلاد من بلاد الأندلس : إشبيلية ، وقرطبة ، وقرمونة ، وطليطلة ،
ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها.
وأما شرف إشبيلية ، فهو شريف البقعة ، كريم التربة ، دائم الخضرة ،
فرسخ في فرسخ طولا وعرضا ، لا تكاد تشمس فيه بقعة لالتفاف زيتونه.
واعلم أن إشبيلية
لها كور جليلة ، ومدن كثيرة ، وحصون شريفة ، وهي من الكور المجندة ، نزلها جند حمص
ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق. وانتهت جباية إشبيلية أيام الحكم بن هشام
إلى خمسة وثلاثين ألف دينار ومائة دينار.
وفي إقليم طالقة
من أقاليم إشبيلية وجدت صورة جارية من مرمر معها صبي ، وكأن حيّة تريده ، لم يسمع
في الأخبار ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها ، جعلت في بعض الحمامات وتعشّقها
جماعة من العوامّ.
وفي كورة ماردة
حصن شنت أفرج في غاية الارتفاع ، لا يعلوه طائر البتّة لا نسر ولا غيره.
ومن عجائب الأندلس
البلاط الأوسط من مسجد جامع أقليش ، فإن طول كل جائزة منه مائة شبر وأحد عشر شبرا
، وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف.
وقال بعض من وصف
إشبيلية : إنها مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة ، وعليه جسر
مربوط بالسفن ، وبها أسواق قائمة ، وتجارات رابحة ، وأهلها ذوو أموال عظيمة ،
وأكثر متاجرهم الزيت ، وهو يشتمل على كثير من إقليم الشّرف ، وإقليم الشرف على تلّ
عال من تراب أحمر مسافته أربعون ميلا في مثلها ، يمشي به السائر في ظلّ الزيتون والتين ، ولها ـ فيما ذكر بعض الناس
ـ قرى كثيرة ، وكل قرية عامرة بالأسواق والديار الحسنة والحمامات وغيرها من
المرافق.
__________________
وقال صاحب مناهج الفكر ، عند ذكر إشبيلية : وهذه المدينة من أحسن مدن
الدنيا ، وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة ، وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة
، ويعينهم على ذلك واديها الفرج ، وناديها البهج ، وهذا الوادي يأتيها من قرطبة ،
ويجزر في كل يوم ، ولها جبل الشّرف ، وهو تراب أحمر طوله من الشمال إلى الجنوب
أربعون ميلا ، وعرضه من المشرق إلى المغرب اثنا عشر ميلا ، يشتمل على مائتين
وعشرين قرية ، قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت ، انتهى.
ولكورة باجة من الكور الغربية التي كانت من أعمال إشبيلية أيام بني
عبّاد خاصّيّة في دباغة الأديم وصناعة الكتّان ، وفيها معدن فضّة ، وبها ولد
المعتمد بن عبّاد ، وهي متصلة بكورة ماردة.
ولجبل طارق حوز
قصب السّبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير ، إذ كان أوّل ما حلّ به مع
المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح ، ولذا شهر بجبل الفتح وهو مقابل الجزيرة
الخضراء ، وقد تجوّن البحر هنالك مستديرا حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة
الخضراء ، وفيه يقول مطرّف شاعر غرناطة : [الطويل]
وأقود قد ألقى
على البحر متنه
|
|
فأصبح عن قود
الجبال بمعزل
|
يعرّض نحو الأفق
وجها كأنما
|
|
تراقب عيناه
كواكب منزل
|
وإذا أقبل عليه
المسافرون من جهة سبتة في البحر بان كأنه سرج ، قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد
: أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة ، فقال والدي : أجز : [المجتث]
انظر إلى جبل
الفت
|
|
ح راكبا متن لجّ
|
فقلت : [المجتث]
وقد
تفتّح مثل ال
|
|
أفنان في شكل
سرج
|
__________________
وأما جزيرة طريف
فليست بجزيرة ، وإنّما سمّيت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة
الخضراء ، وطريف المنسوبة إليه بربري من موالي موسى بن نصير ، ويقال : إن موسى
بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل ، فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين ،
وبعده دخل طارق ، والله أعلم.
ومن أعظم كور
الأندلس كورة طليطلة ، وهي من متوسط الأندلس ، وكانت دار مملكة بني ذي النّون من
ملوك الطوائف ، وكان ابتداء ملكهم صدر المائة الخامسة ، وسمّاها قيصر بلسانه
بزليطلة ، وتأويل ذلك : أنت فارح ، فعرّبتها العرب وقالت : طليطلة
، وكانوا يسمّونها وجهاتها في دولة بني أميّة بالثغر الأدنى ، ويسمّون سرقسطة
وجهاتها بالثغر الأعلى ، وتسمّى طليطلة مدينة الأملاك ؛ لأنها فيما يقال ملكها
اثنان وسبعون إنسانا ، ودخلها سليمان بن داود ، عليهما السلام ، وعيسى ابن مريم ،
وذو القرنين ، وفيها وجد طارق مائدة سليمان ، وكانت من ذخائر إشبان ملك الروم الذي
بنى إشبيلية ، أخذها من بيت المقدس كما مرّ ، وقوّمت هذه المائدة عند الوليد بن
عبد الملك بمائة ألف دينار ، وقيل : إنها كانت من زمرّد أخضر ، ويقال : إنها الآن
برومة ، والله أعلم بذلك.
ووجد طارق بطليطلة
ذخائر عظيمة ، منها مائة وسبعون تاجا من الدّرّ والياقوت والأحجار النفيسة ،
وإيوان ممتلئ من أواني الذهب والفضّة ، وهو كبير ، حتى قيل : إن الخيل تلعب فيه
فرسانها برماحهم لوسعه ، وقد قيل : إن أواني المائدة من الذهب وصحافها من اليشم
والجزع ، وذكروا فيها غير هذا ممّا لا يكاد يصدّقه الناظر فيه.
وبطليطلة بساتين محدقة
، وأنهار مخترقة ، ورياض وجنان ، وفواكه حسان ، مختلفة الطعوم والألوان ، ولها من
جميع جهاتها أقاليم رفيعة ، ورساتيق مريعة ، وضياع بديعة ، وقلاع منيعة ، وبالجملة
فمحاسنها كثيرة ، ولعلنا نلمّ ببعض منتزهاتها فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وطليطلة قاعدة ملك
القوطيين ، وهي مطلة على نهر تاجه ، وعليه كانت القنطرة التي
__________________
يعجز الواصفون عن
وصفها ، وكانت على قوس واحد تكنفه فرجتان من كل جانب ، وطول القنطرة ثلاثمائة باع ، وعرضها ثمانون
باعا ، وخربت أيام الأمير محمد لما عصى عليه أهلها فغزاهم ، واحتال في هدمها ، وفي
ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس : [الكامل]
أضحت طليطلة
معطّلة
|
|
من أهلها في
قبضة الصّقر
|
تركت بلا أهل
تؤهّلها
|
|
مهجورة الأكناف
كالقبر
|
ما كان يبقي
الله قنطرة
|
|
نصبت لحمل كتائب
الكفر
|
وسيأتي بعض أخبار
طليطلة.
ومن مشهور مدن
الأندلس المرية ، وهي على ساحل البحر ، ولها القلعة المنيعة المعروفة بقلعة خيران
، بناها عبد الرحمن الناصر ، وعظمت في دولة المنصور بن أبي عامر ، وولّى عليها
مولاه خيران ، فنسبت القلعة إليه ، وبها من صنعة الديباج ما تفوق به على سائر
البلاد ، وفيها دار الصناعة ، وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام ، ومن
أبوابها باب العقاب عليه صورة عقاب من حجر قديم عجيب المنظر.
وقال بعضهم : كان
بالمريّة لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول ، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول
، وللأسقلاطون كذلك ، وللثياب الجرجانية كذلك ، وللأصفهانية مثل ذلك ، وللعنابي
والمعاجر المدهشة والستور المكلّلة. ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس
والزجاج ما لا يوصف. وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسنا ، وساحلها أفضل السواحل ،
وبها قصور الملوك القديمة الغريبة العجيبة ، وقد ألّف فيها أبو جعفر بن حاتمة
تاريخا حافلا سمّاه ب «مزيّة المرية ، على غيرها من البلاد الأندلسية» في مجلد ضخم
تركته من جملة كتبي بالمغرب ، والله سبحانه المسؤول في جمع الشمل ، فله الأمر من
بعد ومن قبل.
ووادي المرية طوله
أربعون ميلا في مثلها كلها بساتين بهجة ، وجنات نضرة ، وأنهار مطّردة ، وطيور
مغرّدة.
قال بعضهم : ولم
يكن في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهل المرية ، ولا أعظم متاجر وذخائر ، وكان بها
من الحمامات والفنادق نحو الألف ، وهي بين الجبلين بينهما خندق معمور،
__________________
وعلى الجبل الواحد
قصبتها المشهورة بالحصانة ، وعلى الآخر ربضها ، والسور محيط بالمدينة والربض ،
وغربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات ، وقد استدار
بها من كل جهة حصون مرتفعة ، وأحجار أولية ، وكأنما غربلت أرضها من التراب ، ولها
مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار ، انتهى.
وقال ابن اليسع ،
عند ذكره مدينة شنترة : إنّ من خواصّها أنّ القمح والشعير يزرعان فيها ويحصدان عند
مضي أربعين يوما من زراعته ، وإن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر ، قال
لي أبو عبد الله الباكوري ، وكان ثقة : أبصرت عند المعتمد بن عباد رجلا من أهل
شنترة أهدى إليه أربعا من التفاح ما يقلّ الحامل على رأسه غيرها ، دور كل واحدة
خمسة أشبار ، وذكر الرجل بحضرة ابن عبّاد أن المعتاد عندهم أقلّ من هذا ، فإذا أرادوا أن يجيء بهذا
العظم وهذا القدر قطعوا أصلها وأبقوا منه عشرا أو أقلّ وجعلوا تحتها دعامات
من الخشب ، انتهى.
وبحصن شنش على
مرحلة من المرية التّوت الكثير ، وفيها الحرير والقرمز ، ويعرف واديها بوادي
طبرنش.
وبغربي مالقة عمل
سهيل ، وهو عمل عظيم كثير الضياع ، وفيه جبل سهيل لا يرى نجم سهيل بالأندلس إلّا
منه.
ومن كور الأندلس
الشرقية تدمير ، وتسمى مصر أيضا لكثرة شبهها بها ؛ لأنّ لها أرضا يسيح عليها نهر
في وقت مخصوص من السنة ، ثم ينضب عنها ، فتزرع كما تزرع أرض مصر ، وصارت القصبة
بعد تدمير مرسية ، وتسمى البستان ؛ لكثرة جنّاتها المحيطة بها ، ولها نهر يصبّ في
قبليّها.
واعلم أنّ جزيرة
الأندلس ـ أعادها الله للإسلام! ـ مشتملة على موسطة ، وشرق ، وغرب.
فالموسطة فيها من
القواعد الممصرة التي كل مدينة منها مملكة مستقلة لها أعمال ضخام وأقطار متّسعة :
قرطبة ، وطليطلة ، وجيّان ، وغرناطة ، والمرية ، ومالقة. فمن أعمال قرطبة إستجة
وبلكونة وقبرة ورندة وغافق والمدوّر وأسطبة وبيّانة واليسّانة والقصير وغيرها. ومن
__________________
أعمال طليطلة وادي
الحجارة وقلعة رباح وطلمنكة وغيرها. ومن أعمال جيّان أبّدة وبيّاسة وقسطلّة وغيرها. ومن أعمال غرناطة وادي آش والمنكب
ولوشة وغيرها. ومن أعمال المرية أندرش وغيرها. ومن أعمال مالقة بلّش والحامة
وغيرهما. وببلّش من الفواكه ما بمالقة ، وبالحامة العين الحارّة على ضفة واديها.
وأما شرق الأندلس
ففيه من القواعد : مرسية ، وبلنسية ، ودانية ، والسهلة ، والثغر الأعلى. فمن أعمال
مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك. ومن أعمال بلنسية شاطبة التي يضرب بحسنها المثل ويعمل بها الورق الذي لا نظير له وجزيرة شقر
وغير ذلك. وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال. وأما السهلة فإنها متوسطة بين بلنسية
وسرقسطة ولذا عدّها بعضهم من كور الثغر الأعلى ولها مدن وحصون. ومن أعمال الثغر
الأعلى : سرقسطة وهي أمّ ذلك الثغر ، وكورة لاردة ، وقلعة رباح ، وتسمى بالبيضاء ،
وكورة تطيلة ، ومدينتها طرسونة ، وكورة وشقة ، ومدينتها تمريط ، وكورة مدينة سالم
، وكورة قلعة أيوب ، ومدينتها بليانة ، وكورة برطانية ، وكورة باروشة.
وأما غرب الأندلس
ففيه : إشبيلية ، وماردة ، وأشبونة ، وشلب. فمن أعمال إشبيلية شريش والخضراء ولبله
وغيرها. ومن أعمال ماردة بطليوس وبابرة وغيرهما. ومن أعمال أشبونة شنترين وغيرها. ومن أعمال شلب
شنت رية وغيرها.
وأما الجزر
البحرية بالأندلس فمنها جزيرة قادس ، وهي من أعمال إشبيلية ، وقال ابن سعيد : إنها
من كورة شريش ، ولا منافاة لأن شريشا من أعمال إشبيلية كما مرّ ، قال : وبيد صنم
قادس مفتاح ، ولمّا ثار بقادس ابن أخت القائد أبي عبد الله بن ميمون ـ وهو علي بن
عيسى قائد البحر بها ـ ظنّ أنّ تحت الصنم مالا فهدمه فلم يجد شيئا ، انتهى. وهي ـ أعني
جزيرة قادس ـ في البحر المحيط ؛ وفي البحر المحيط الجزائر الخالدات السبع ، وهي غربي مدينة سلا تلوح
للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجوّ من الأبخرة الغليظة ، وفيها سبعة أصنام
__________________
على أمثال
الآدميين ، تشير أن لا عبور ولا مسلك وراءها. وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات ،
وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى ، ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين
النصارى : أولها جزيرة برطانية ، وهي بوسط البحر المحيط بأقصى شمال الأندلس ، ولا
جبال فيها ، ولا عيون ، وإنما يشربون من ماء المطر ، ويزرعون عليه.
قال ابن سعيد : وفيه
جزيرة شلطيش ، وهي آهلة وفيها مدينة ، وبحرها كثير السمك ، ومنها يحمل
مملّحا إلى إشبيلية ، وهي من كورة لبلة مضافة إلى عمل أونبة ، انتهى.
وقال بعضهم ، لما
أجرى ذكر قرطاجنة من بلاد الأندلس : إن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة ،
وبها أقواس من الحجارة المقربصة ، وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور
الحيوانات ما يحيّر البصر والبصيرة ، ومن أعجب بنائها الدواميس ، وهي أربعة وعشرون
على صفّ واحد من حجارة مقربصة ، طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ستّين خطوة
، وارتفاع كل واحد أكثر من مائتي ذراع ، بين كل داموسين أنقاب محكمة تتصل فيها
المياه من بعضها إلى بعض في العلوّ الشاهق بهندسة عجيبة وإحكام بديع ، انتهى.
قلت : أظن هذا
غلطا ؛ فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة إفريقية ، لا قرطاجنة الأندلس ، والله
أعلم.
وقال صاحب مناهج
الفكر ، عندما ذكر قرطاجنة : وهي على البحر الرومي مدينة قديمة بقي منها آثار ،
لها فحص طوله ستة أيام وعرضه يومان معمور بالقرى ، انتهى.
وذكر قبل ذلك في
لورقة أنّ بناحيتها يوجد حجر اللازورد. وفي البحر الشامي الخارج من المحيط جزيرتي
ميورقة ومنورقة ، وبينهما خمسون ميلا ، وجزيرة ميورقة مسافة يوم ، بها مدينة حسنة
، وتدخلها ساقية جارية على الدوام ، وفيها يقول ابن اللّبّانة : [الكامل]
__________________
بلد أعارته الحمامة
طوقها
|
|
وكساه حلّة ريشه
الطاووس
|
فكأنّما الأنهار
فيه مدامة
|
|
وكأنّ ساحات
الديار كؤوس
|
وقال يخاطب ملكها
ذلك الوقت : [الكامل]
وغمرت بالإحسان
أرض ميورقة
|
|
وبنيت ما لم
يبنه الإسكندر
|
وجزيرة يابسة.
واستقصاء ما
يتعلّق بهذا الفصل يطول ، ولو تتبّع لكان تأليفا مستقلّا ، وما أحسن قول ابن خفاجة
: [الكامل]
إنّ للجنّة
بالأندلس
|
|
مجتلى حسن وريّا
نفس
|
فسنا صبحتها من
شنب
|
|
ودجى ليلتها من
لعس
|
وإذا ما هبّت
الريح صبا
|
|
صحت وا شوقي إلى
الأندلس
|
وقال بعضهم في
طليطلة : [الكامل]
زادت طليطلة على
ما حدّثوا
|
|
بلد عليه نضرة
ونعيم
|
الله زيّنه
فوشّح خصره
|
|
نهر المجرّة
والغصون نجوم
|
ولا حرج إن أوردنا
هنا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن
السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، فإنه مناسب ، ونصّه : مولاي ، أمتع الله
ببقائك الزمان وأبناءه ، كما ضمّ على حبّك أحناءهم وأحناءه ، وأوصل لك ما شئت من
المنّ والأمان ، كما نظم قلائد فخرك على لبّة الدهر نظم الجمان ، فإنك الملك الهمام
، والقمر التمام ، أيامك غرر وحجول ، وفرند بهائها في صفحات الدهر يجول ، ألبست
الرعية برود التأمين ، فتنافست فيك من نفيس ثمين ، وتلقّت دعوات خلدك لها باليمين
، فكم للناس ، من أمن بك وإيناس ، وللأيام ، من لوعة فيك وهيام ، وللأقطار ، من
لبانات لديك وأوطار ، وللبلاد ، من قراع على تملّكك لها وجلاد ، يتمنّون شخصك
الكريم على الله ويقترحون ، ويغتبقون في رياض ذكرك العاطر بمدام حبك ويصطبحون ، (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٠] ،
محبة من الله ألقاها لك حتى على الجماد ، ونصرا مؤزّرا تنطق به ألسنة السيوف
__________________
على أفواه الأغماد
، ومن أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها ، ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل
إعادتها وإبداءها ، ومن قدّم صالحا فلا بدّ أن يوازيه ، ومن يفعل الخير لا يعدم
جوازيه. ولمّا تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار ، وطال بها الوقوف على حبك والاقتصار
، كلّها يفصح قولا ، ويقول : أنا أحقّ وأولى ، ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي ،
ويتلو إذا بشّر بك (ذلِكَ ما كُنَّا
نَبْغِ) [الكهف : ٦٤] ،
تنمّرت حمص غيظا ، وكادت تفيظ فيظا وقالت : ما لهم يزيدون وينقصون ، ويطمعون ويحرصون ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [يونس : ٦٦]. ألهم
السّهم الأسدّ ، والساعد الأشدّ ، والنهر ، الذي يتعاقب عليه الجزر والمدّ ،
أنا مصر الأندلس والنّيل نهري ، وسمائي التأنّس والنجوم زهري ، إن تجاريتم في ذلك الشرف ، فحسبي
أن أفيض في ذلك الشرف ، وإن تبجحتم بأشرف اللبوس ، فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس ،
لي ما شئت من أبنية رحاب ، وروض يستغني بنضرته عن السّحاب ، قد ملأت زهراتي وهادا
ونجادا ، وتوشّح سيد نهري بحدائقي نجادا ، فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحقّ ، (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) [يوسف : ٥١].
فنظرتها قرطبة
شزرا ، وقالت : لقد كثّرت نزرا. وبذرت في الصخر الأصمّ بزرا ، كلام العدى ضرب من
الهذيان ، وأنّى للإيضاح والبيان ، متى استحال المستقبح مستحسنا ، ومن أودع أجفان
المهجور وسنا ، (أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨]. يا
عجبا للمراكز يقدّم على الأسنّة ، وللأثفار تفضّل على الأعنّة ، إن ادّعيتم سبقا ،
فما عند الله خير وأبقى ، لي البيت المطهر الشريف ، والاسم الذي ضرب عليه رواقه
التعريف ، في بقيعي محل الرجال الأفاضل ، فليرغم أنف المناضل ، وفي جامعي مشاهد
ليلة القدر ، فحسبي من نباهة القدر ، فما لأحد أن يستأثر عليّ بهذا السيد الأعلى ،
ولا أرضى له أن يوطئ غير ترابي نعلا ، فأقرّوا لي بالأبوّة ،
وانقادوا لي على حكم النبوّة ، (وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) [النحل : ٩٢] ،
وكفّوا عن تباريكم ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤].
فقالت غرناطة : لي
المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم ، ولا تجري إلّا تحته جياد الغيث السّجوم ، فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف ، ولا يهتدي
إليّ خيال طارق ولا طيف ، فاستسلموا قولا وفعلا ، فقد أفلح اليوم من استعلى ، لي
بطاح تقلّدت من جداولها
__________________
أسلاكا ، وأطلعت
كواكب زهرها فعادت أفلاكا ، ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق ، وبرد نسيم يردّد
ماء المستجير بالانتشاق ، فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال ، فدعوني فكل ذات ذيل
تختال ، فأنا أولى بهذا السيّد الأعدل ، وما لي به من عوض ولا بدل ، ولم لا يعطف
عليّ عنان مجده ويثني ، وإن أنشد يوما فإياي يعني : [الطويل]
بلاد بها عقّ
الشباب تمائمي
|
|
وأول أرض مسّ
جلدي ترابها
|
فما لكم تعتزون
لفخري وتنتمون ، وتتأخرون في ميداني وتتقدمون ، تبرّءوا إليّ مما تزعمون ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) [التوبة : ٤١].
فقالت مالقة : أتتركوني
بينكم هملا ، ولم تعطوني في سيدنا أملا ، ولم ولي البحر العجاج ، والسبل الفجاج ،
والجنّات الأثيرة ، والفواكه الكثيرة ، لديّ من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل ،
ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل ، فما لي لا أعطى في
ناديكم كلاما ، ولا أنشر في جيش فخاركم أعلاما؟
فكأن الأمصار
نظرتها ازدراء ، فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراء ، لأنها موطن لا يحلى منه
بطائل ، ونظن البلاد تأوّلت فيها قول القائل : [الوافر]
إذا نطق السفيه
فلا تجبه
|
|
فخير من إجابته
السّكوت
|
فقالت مرسية :
أمامي تتعاطون الفخر ، وبحضرة الدّرّ تنفقون الصخر؟ إن عدّت المفاخر ، فلي منها
الأول والآخر ، أين أوشالكم من بحري ، وخرزكم من لؤلؤ نحري ، وجعجعتكم من نفثات سحري؟ فلي الروض النّضير ، والمرأى الذي ما له من
نظير ، ورتقاتي التي سار مثلها في الآفاق ، وتبرقع وجه جمالها بغرّة
الإصفاق ، فمن دوحات ، كم لها من بكور وروحات ، ومن أرجاء ، إليها تمدّ أيدي
الرجاء ، فأبنائي فيه في الجنة الدنيوية مودعون ، يتنعمون فيما يأخذون ويدعون ،
ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون. فانقادوا لأمري ، وحاذروا اصطلاء
جمري ، وخلّوا بيني وبين سيدنا أبي زيد ، وإلّا ضربتكم ضرب زيد ، فأنا أولاكم بهذا
الملك المستأثر بالتعظيم ، (وَما يُلَقَّاها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥) [فصلت : ٣٥].
__________________
فقالت بلنسية :
فيم الجدال والقراع؟ وعلام الاستهام والاقتراع؟ وإلام التعريض والتصريح؟ وتحت
الرّغوة اللبن الصريح ، أنا أحوزه من دونكم ، فأخمدوا ناري تحرككم وهدوئكم ، فلي
المحاسن الشامخة الأعلام ، والجنّات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام ،
وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام ، فأجمعوا على الانقياد لي والسلام ، وإلّا
فعضّوا بنانا ، واقرعوا أسنانا ، فأنا حيث لا تدركون وأنّى ، ومولانا لا يهلكنا
بما فعل السفهاء منّا.
فعند ذلك ارتمت
جمرة تدمير بالشّرار ، واشتدّت أسهمها لنحور الشّرار ، وقالت : عش رجبا ، ترعجبا ، أبعد
العصيان والعقوق ، تتهيّأن لرتب ذوي الحقوق؟ هذه سماء الفخر فمن ضمّنك أن تعرجي ، ليس بعشّك فادرجي ، لك الوصب والخبل ، (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) [يونس : ٩١]. أيتها
الصانعة الفاعلة ، من أدراك أن تضربي وما أنت فاعلة ؟ ما الذي يجديك الروض والزّهر؟ أم ما يفيدك الجدول والنهر؟
وهل يصلح العطّار ما أفسد الدّهر؟ هل أنت إلّا محطّ رحل النفاق ، ومنزل ما لسوق
الخصب فيه من نفاق؟ ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع ، وقراك لا يسمن ولا يغني من
جوع ، فإلام تبرز الإماء في منصّة العقائل؟ ولكن اذكري قول القائل : [الطويل]
بلنسية بيني عن
القلب سلوة
|
|
فإنّك روض لا
أحنّ لزهرك
|
وكيف يحبّ المرء
دارا تقسّمت
|
|
على صارمي جوع
وفتنة مشرك؟
|
بيد أني أسأل الله
تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد ، ويسيل من تسديدك ما جمد ، ولا يطيل عليك في
الجهالة الأمد ، وإيّاه سبحانه نسأل أن يردّ سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده ،
ويجعل مصائب أعدائه من فوائده ، ويمكّن حسامه من رقاب المشغّبين ، ويبقيه وجيها في
الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ، ويصل له تأييدا وتأبيدا ، ويمهّد له الأيام حتى
تكون الأحرار لعبيد عبيده عبيدا ، ويمدّ على الدنيا سعده ، ويهبه ملكا لا ينبغي
لأحد من بعده : [البسيط]
آمين آمين لا
أرضى بواحدة
|
|
حتّى أضيف إليها
ألف آمينا
|
ثم السلام الذي
يتأنّق عبقا ونشرا ، ويتألّق رونقا وبشرا ، على حضرتهم العليّة ، ومطالع أنوارهم
السنيّة الجليّة ، ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.
ولما ألمّ الرحّالة
ابن بطوطة في رحلته بدخوله بلاد الأندلس ـ أعادها الله تعالى للإسلام! ـ قال :
فوصلت إلى بلاد الأندلس ـ حرسها الله تعالى! ـ حيث الأجر موفور
__________________
للساكن ، والثواب
مذخور للمقيم والظاعن ، إلى أن قال عند ذكره غرناطة ما نصّه : قاعدة بلاد الأندلس
، وعروس مدنها ، وخارجها لا نظير له في الدنيا ، وهو مسيرة أربعين ميلا ، يخترقه
نهر شنيل المشهور ، وسواه من الأنهار الكثيرة ، والبساتين الجليلة ، والجنّات
والرياضات والقصور ، والكروم محدقة بها من كل جهة ، ومن عجيب مواضعها عين الدمع ،
وهو جبل فيه الرياضات والبساتين ، لا مثل له بسواها ، انتهى.
وقال الشقندي :
غرناطة دمشق بلاد الأندلس ، ومسرح الأبصار ، ومطمح الأنفس ، ولم تخل من أشراف
أماثل ، وعلماء أكابر ، وشعراء أفاضل ، ولو لم يكن بها إلّا ما خصّها الله تعالى
به من كونها قد نبع فيها النساء الشواعر كنزهون القلعية والرّكونية وغيرهما ، وناهيك بهما في الظّرف والأدب ،
انتهى.
ولبعضهم يتشوّق
إلى غرناطة فيما ذكره بعض المؤرخين ، والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مرّ ،
والله أعلم. [الطويل]
أغرناطة الغرّاء
هل لي أوبة
|
|
إليك؟ وهل يدنو
لنا ذلك العهد؟
|
سقى الجانب
الغربيّ منك غمامة
|
|
وقعقع في ساحات
روضتك الرّعد؟
|
لياليك أسحار ،
وأرضك جنّة ،
|
|
وتربك في
استنشاقها عنبر ورد
|
وقال ابن مالك
الرّعيني : [الطويل]
رعى الله
بالحمراء عيشا قطعته
|
|
ذهبت به للأنس ،
والليل قد ذهب
|
ترى الأرض منها
فضّة فإذا اكتست
|
|
بشمس الضّحى
عادت سبيكتها ذهب
|
وهو القائل : [الرمل]
لا تظنّوا أنّ
شوقي خمدا
|
|
بعدكم أو أنّ
دمعي جمدا
|
كيف أسلو عن
أناس مثلهم
|
|
قلّ أن تبصر
عيني أحدا
|
وغرناطة من أحسن
بلاد الأندلس ، وتسمّى بدمشق الأندلس ؛ لأنها أشبه شيء بها ، ويشقّها نهر حدرة ،
ويطلّ عليها الجبل المسمّى بشلير الذي لا يزول الثلج عنه شتاء وصيفا ،
__________________
ويجمد عليه حتى
يصير كالحجر الصّلد ، وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة ، وأجناس الأفاويه الرفيعة ، ونزل
بها أهل دمشق لمّا جاؤوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور ، وقرى غرناطة ـ فيما ذكر
بعض المتأخرين ـ مائتان وسبعون قرية.
وقال ابن جزيّ
مرتب رحلة ابن بطوطة ، بعد ذكر كلامه ، ما نصّه : قال ابن جزي: لو لا خشية أن أنسب إلى
العصبيّة لأطلت القول في وصف غرناطة ، فقد وجدت مكانه ، ولكنّ ما اشتهر كاشتهارها
لا معنى لإطالة القول فيه. والله درّ شيخنا أبي بكر بن محمد بن شيرين السبتي نزيل
غرناطة حيث يقول : [الطويل]
رعى الله من
غرناطة متبوّأ
|
|
يسرّ حزينا أو
يجير طريدا
|
تبرّم منها
صاحبي عندما رأى
|
|
مسارحها بالثلج
عدن جليدا
|
هي الثّغر صان
الله من أهلت به
|
|
وما خير ثغر لا
يكون برودا؟
|
وقال ابن سعيد
عندما أجرى ذكر قرية نارجة ـ وهي قرية كبيرة تضاهي المدن ، قد أحدقت بها البساتين
، ولها نهر يفتن الناظرين ، وهي من أعمال مالقة ـ : إنّه اجتاز مرة عليها مع والده
أبي عمران موسى ، وكان ذلك زمان صباغة الحرير عندهم ، وقد ضربوا في بطن الوادي بين
مقطّعاته خيما ، وبعضهم يغني ويطرب ، وسألوا : بم يعرف ذلك الموضع؟
فقالوا :
الطراز ، فقال
والدي : اسم طابق مسمّاه ، ولفظ وافق معناه : [البسيط]
وقد وجدت مكان
القول ذا سعة
|
|
فإن وجدت لسانا
قائلا فقل
|
ثم قال أجز : [الطويل]
بنارجة حيث الطراز المنمنم
فقلت :
أقم فوق نهر ثغره يتبسّم
فقال :
وسمعك نحو الهاتفات فإنها
__________________
فقلت :
لما أبصرت من بهجة تترنّم
فقال :
أيا جنّة الفردوس لست بآدم
فقلت :
فلا يك حظّي من جناك التندّم
فقال :
يعزّ علينا أن نزورك مثل ما
فقلت :
يزول خيال من سليمى مسلّم
فقال :
فلو أنني أعطى الخيار لما عدت
فقلت :
محلّك لي عين بمرآك تنعم
فقال :
بحيث الصّبا والطّلّ من نفثاتها
فقلت :
وقت لسع روض فيه للنهر أرقم
فقال :
فوا أسفي إن لم تكن لي عودة
فقلت :
فكن مالكا إني عليك متمّم
فقال :
__________________
فأحسب هذا آخر العهد بيننا
فقلت :
وقد يلحظ الرّحمن شوقي فيرحم
فقال :
سلام سلام لا يزال مردّدا
فقلت :
عليك ولا زالت بك السّحب تسجم
وقال ابن سعيد :
إن كورة بلنسية من شرق الأندلس ينبت بها الزعفران ، وتعرف بمدينة التراب ، وبها كمثرى تسمّى
الأرزة في قدر حبّة العنب ، قد جمع مع حلاوة الطعم ذكاء الرائحة ، إذا دخل دارا عرف بريحه ، ويقال : إن ضوء
بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد الأندلس ، وبها منارة ومسارح ، ومن أبدعها وأشهرها الرّصافة ومنية ابن أبي عامر.
وقال الشرف أبو
جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها : [الوافر]
هي الفردوس في
الدنيا جمالا
|
|
لساكنها وكارهها
البعوض
|
وقال بعضهم فيها :
[المجتث]
ضاقت بلنسية بي
|
|
وذاد عنّي غموضي
|
رقص البراغيث
فيها
|
|
على غناء البعوض
|
وفيها لابن
الزّقّاق البلنسي : [الوافر]
بلنسية ـ إذا
فكّرت فيها
|
|
وفي آياتها ـ أسنى
البلاد
|
وأعظم شاهدي
منها عليها
|
|
وأنّ جمالها
للعين بادي
|
كساها ربّها
ديباج حسن
|
|
لها علمان من
بحر ووادي
|
وقال ابن سعيد
أيضا : أنشدني والدي قال : أنشدني مروان بن عبد الله بن عبد العزيز ملك بلنسية
لنفسه بمراكش قوله : [المتقارب]
كأن بلنسية كاعب
|
|
وملبسها سندس
أخضر
|
__________________
إذا جئتها سترت
نفسها
|
|
بأكمامها فهي لا
تظهر
|
وأما قول أبي عبد
الله بن عياش «بلنسية بيني ـ البيتين» وقد سبقا ، فقال ابن سعيد : إن ذلك حيث صارت
ثغرا يصابحها العدوّ ويماسيها ، انتهى.
وقال أبو الحسن بن
حريق يجاوب ابن عياش : [الكامل]
بلنسية قرارة
كلّ حسن
|
|
حديث صحّ في شرق
وغرب
|
فإن قالوا :
محلّ غلاء سعر
|
|
ومسقط ديمتي طعن
وضرب
|
فقل هي جنّة
حفّت رباها
|
|
بمكروهين من جوع
وحرب
|
وقال الرّصافي في
رصافتها : [المتقارب]
ولا كالرّصافة
من منزل
|
|
سقته السحائب
صوب الوليّ
|
أحنّ إليها ومن
لي بها
|
|
وأين السّريّ من
الموصليّ
|
وقال ابن سعيد :
وبرصافة بلنسية مناظر وبساتين ومياه ، ولا نعلم في الأندلس ما يسمّى بهذا الاسم
إلّا هذه ورصافة قرطبة ، انتهى.
ومن أعمال بلنسية
قرية المنصف التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفيّ وقبره كان بسبتة يزار
، رحمه الله تعالى! ومن نظمه : [السريع]
قالت لي النفس
أتاك الردى
|
|
وأنت في بحر
الخطايا مقيم
|
فما ادّخرت
الزاد ، قلت : اقصري
|
|
هل يحمل الزاد
لدار الكريم
|
ومن عمل بلنسية
قرية بطرنة ، وهي التي كانت فيها الوقعة المشهورة للنصارى على المسلمين ، وفيها يقول
أبو إسحاق بن يعلى الطّرسوني : [الطويل]
لبسوا الحديد
إلى الوغى ولبستم
|
|
حلل الحرير
عليكم ألوانا
|
ما كان أقبحهم
وأحسنكم بها
|
|
لو لم يكن
ببطرنة ما كانا
|
__________________
ومن عمل بلنسية
متيطة التي نسب إليها جماعة من العلماء والأدباء.
ومن عمل بلنسية
مدينة أندة التي في جبلها معدن الحديد ، وأما رندة ـ بالراء ـ فهي في متوسط
الأندلس ، ولها حصن يعرف بأندة أيضا.
وفي إشبيلية ـ أعادها
الله! ـ من المتفرّجات والمتنزهات كثير ، ومن ذلك مدينة طريانة ، فإنها من مدن
إشبيلية ومتنزهاتها ، وكذلك تيطل ، فقد ذكر ابن سعيد جزيرة تيطل في المتفرجات.
وقال أبو عمران
موسى بن سعيد في جوابه لأبي يحيى صاحب سبتة لما استوزره مستنصر بني عبد المؤمن ،
وكتب إلى المذكور يرغّبه في النقلة عن الأندلس إلى مرّاكش ، ما نصّ محلّ الحاجة
منه : وأما ما ذكر سيدي من التخيير بين ترك الأندلس وبين الوصول إلى حضرة مراكش ،
فكفى الفهم العالي من الإشارة قول القائل : [الكامل]
والعزّ محمود
وملتمس
|
|
وألذّه ما كان في الوطن
|
فإذا نلت بك
السماء في تلك الحضرة ، فعلى من أسود فيها؟ ومن ذا أضاهي بها؟ : [الرمل]
لا رقت بي همّة
إن لم أكن
|
|
فيك قد أمّلت
كلّ الأمل
|
وبعد هذا ، فكيف
أفارق الأندلس وقد علم سيدي أنها جنّة الدنيا بما حباها الله به من اعتدال الهواء
، وعذوبة الماء ، وكثافة الأفياء ، وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرّة عين وقرار
نفس [الطويل]
هي الأرض لا ورد
لديها مكدّر
|
|
ولا طلّ مقصور ولا روض مجدب
|
أفق صقيل ، وبساط
مدبّج ، وماء سائح ، وطائر مترنّم بليل ، وكيف يعدل الأديب عن أرض على هذه الصفة؟
فيا سموأل الوفاء ، ويا حاتم السماح ، ويا جذيمة الصفاء ،
__________________
كمّل لمن أمّلك
النعمة بتركه في موطنه ، غير مكدّر لخاطره بالتحرّك من معدنه ، متلفّتا إلى قول
القائل : [البسيط]
وسوّلت لي نفسي
أن أفارقها
|
|
والماء في المزن
أصفى منه في الغدر
|
فإن أغناه اهتمام
مؤمّله عن ارتياد المراد ، وبلّغه دون أن يشدّ قتبا ولا أن ينضي عيسا غاية المراد
، أنشد ناجح المرغوب ، بالغ المطلوب : [الطويل]
وليس الذي
يتّبّع الوبل رائدا
|
|
كمن جاءه في
داره رائد الوبل
|
وربّ قائل إذا سمع
هذا التبسّط على الأماني : ما له تشطّط ، وعدل عن سبيل التأدّب وتبسّط؟ ولا جواب
عندي إلّا قول القائل : [البسيط]
فهذه خطّة ما
زلت أرقبها
|
|
فاليوم أبسط
آمالي وأحتكم
|
وما لي لا أنشد ما
قاله المتنبي في سيف الدولة : [المتقارب]
ومن كنت بحرا له
يا عليّ
|
|
لم يقبل الدّرّ
إلّا كبارا
|
انتهى المقصود
منه.
وقال الحجاري : إن
مدينة شريش بنت إشبيلية ، وواديها ابن واديها ، ما أشبه سعدى بسعيد ، وهي مدينة
جليلة ضخمة الأسواق ، لأهلها همم ، وظرف في اللباس ، وإظهار الرفاهية ، وتخلّق
بالآداب ، ولا تكاد ترى بها إلّا عاشقا أو معشوقا ، ولها من الفواكه ما يعمّ ويفضل ، وممّا اختصّت به
إحسان الصنعة في المجبنات ، وطيب جبنها يعين على ذلك ، ويقول أهل الأندلس : من دخل
شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم ، انتهى.
والمجبنات : نوع
من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها ، وتقلى بالزيت الطيب.
وفي شلب يقول
الفاضل الكاتب أبو عمرو بن مالك بن سبدمير : [الخفيف]
أشجاك النسيم
حين يهبّ
|
|
أم سنى البرق إذ
يخبّ ويخبو
|
أم هتوف على
الأراكة تشدو
|
|
أم هتون من
الغمامة سكب
|
كلّ هذاك
للصّبابة داع
|
|
أيّ صبّ دموعه
لا تصبّ
|
__________________
أنا لو لا
النسيم والبرق والور
|
|
ق وصوب الغمام
ما كنت أصبو
|
ذكّرتني شلبا ،
وهيهات منّي
|
|
بعدما استحكم
التّباعد ، شلب
|
وتسمى أعمال شلب
كورة أشكونبة ، وهي متصلة بكورة أشبونة ، وهي ـ أعني أشكبونة ـ قاعدة جليلة ، لها مدن ومعاقل ،
ودار ملكها قاعدة شلب ، وبينها وبين قرطبة سبعة أيام ، ولمّا صارت لبني عبد المؤمن
ملوك مراكش أضافوها إلى كورة إشبيلية ، وتفتخر شلب بكون ذي الوزارتين ابن عمّار
منها ، سامحه الله!.
ومنها القائد أبو
مروان عبد الملك بن بدران ، وربما قيل «ابن بدرون» الأديب المشهور ، شارح قصيدة ابن عبدون التي أولها : [البسيط]
الدّهر يفجع بعد
العين بالأثر
|
|
فما البكاء على
الأشباح والصّور
|
وهذا الشرح شهير
بهذه البلاد المشرقية ، ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله : [البسيط]
العشق لذّته
التّعنيق والقبل
|
|
كما منغّصه
التثريب والعذل
|
يا ليت شعري هل
يقضى وصالكم
|
|
لو لا المنى لم
يكن ذا العمر يتّصل
|
ومنها نحويّ زمانه
وعلّامته أبو محمد عبد الله بن السّيد البطليوسي ، فإنّ شلبا بيضته ، ومنها كانت حركته ونهضته ، كما في
الذخيرة ، وهو القائل : [المتقارب]
إذا سألوني عن
حالتي
|
|
وحاولت عذرا فلم
يمكن
|
أقول : بخير ،
ولكنّه
|
|
كلام يدور على
الألسن
|
وربّك يعلم ما
في الصّدور
|
|
ويعلم خائنة
الأعين
|
وقال الوزير أبو
عمرو بن الغلّاس يمدح بطليوس بقوله : [الطويل]
بطليوس لا أنساك
ما اتّصل البعد
|
|
فلله غور في
جنابك أو نجد
|
__________________
ولله دوحات
تحفّك ينّعا
|
|
تفجّر واديها
كما شقّق البرد
|
وبنو الغلاس من
أعيان حضرة بطليوس ، وأبو عمرو المذكور أشهرهم ، وهو من رجال الذخيرة والمسهب ،
رحمه الله تعالى!.
وفي شاطبة يقول
بعضهم : [المديد]
نعم ملقى الرّحل
شاطبة
|
|
لفتى طالت به
الرّحل
|
بلدة أوقاتها
سحر
|
|
وصبا في ذيله
بلل
|
ونسيم عرفه أرج
|
|
ورياض غصنها ثمل
|
ووجوه كلّها غرر
|
|
وكلام كلّه مثل
|
وفي برجة يقول
بعضهم : [المتقارب]
إذا جئت برجة
مستوفزا
|
|
فخذ في المقام
وخلّ السّفر
|
فكلّ مكان بها
جنّة
|
|
وكلّ طريق إليها
سقر
|
واعلم أنه لو لم
يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد لكان كافيا ، ويرحم الله لسان
الدين بن الخطيب حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارة
إلى بعض ذلك ، ما نصّه : من أمير المسلمين فلان ، إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا ، وصل
الله له سعادة تجذبه ، وعناية إليه تقرّبه ، وقبولا منه يدعوه إلى خير ما عند الله
ويندبه! سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته ، أمّا بعد حمد الله المرشد المثيب ،
السميع المجيب ، معوّد اللطف الخفي والصنع العجيب ، المتكفّل بإنجاز وعد النصر
العزيز والفتح القريب ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي القدر
الرفيع والعزّ المنيع والجناب الرحيب ، الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبدة
الصليب ، ونستظهر منه على العدوّ بالحبيب ، ونعدّه عدّتنا لليوم العصيب ، والرضا
عن آله وصحبه الذين فازوا من مشاهدته بأوفى النصيب ، ورموا إلى هدف مرضاته بالسّهم
المصيب ، فإنّا كتبناه إليكم ـ كتب الله تعالى لكم عملا صالحا يختم الجهاد صحائف
برّه ، وتتمخّض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره! وجعلكم ممّن تهنّى في
الأرض التي فيها أبواب الجنّة مدة عمره! ـ من حمراء غرناطة
__________________
ـ حرسها الله
تعالى! ـ ولطف الله هامي السحاب ، وصنعه رائق الجناب ، والله يصل لنا ولكم ما
عوّده من صلة لطفه عند انبتات الأسباب ، وإلى هذا أيّها المولى الذي هو بركة
المغرب المشار إليه بالبنان ، وواحده في رفعة الشأن ، المؤثر ما عند الله على
الزخرف الفتّان ، المتقلّل من المتاع الفان ، المستشرف إلى مقام العرفان ، من درج الإسلام والإيمان والإحسان ،
فإننا لما نؤثره من برّكم الذي نعدّه من الأمر الأكيد ، ونضمره من ودّكم الذي
نحلّه محلّ الكنز العتيد ، ونلتمسه من دعائكم التماس العدّة والعديد ، لا نزال
نسأل عن أحوالكم التي ترقّت في أطوار السعادة ، ووصلت جناب الحقّ بهجر العادة ،
وألقت إلى يد التسليم لله والتوكّل عليه بالمقادة ، فنسرّ بما هيّأ الله تعالى لكم
من القبول ، وبلّغكم من المأمول ، وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول ، والفوز
بما لديه والحصول. وعندما ردّ الله علينا ملكنا الردّ الجميل ، وأنالنا فضله
الجزيل ، وكان لعثارنا المقيل ، خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا ، ومحلّكم من حسن
اعتقادنا ، ووجّهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا ، والله ينفعنا بجميل الظنّ في
دينكم المتين ، وفضلكم المبين ، ويجمع الشّمل بكم في الجهاد عن الدين. وتعرّفنا
الآن بمن له بأنبائكم اعتناء ، وعلى جلالكم حمد وثناء ، ولجناب ودّكم اعتزاء
وانتماء ، بتجاول عزمكم بين حجّ مبرور ترغبون من أجره في ازدياد ، وتجددون العهد
منه بأليف اعتياد ، وبين رباط في سبيل الله وجهاد ، وتوثير مهاد بين ربا أثيرة عند
الله ووهاد ، يحشر يوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين
والصدّيقين ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ، والله أصدق القائلين الصادقين ، حيث
لا غارة لغير عدوّ الإسلام تتّقى ، إلّا لابتغاء ما لدى الله ترتقى ، حيث رحمة
الله قد فتحت أبوابها ، وحور الجنان قد زيّنت أترابها ، دار العرب الذين قرعوا باب
الفتح ، وفازوا بجزيل المنح ، وخلّدوا الآثار ، وأرغموا الكفّار ، وأقالوا العثار
، وأخذوا الثار ، وأمنوا من لفح جهنّم بما علا على وجوههم من ذلك الغبار ، فكتبنا
إليكم هذا نقوّي بصيرتكم على جهة الجهاد من العزمين ، ونهبّ بكم إلى إحدى الحسنيين ، والصبح غير خاف على ذي عينين ،
والفضل ظاهر لإحدى المنزلتين ، فإنكم إن حججتم أعدتم فرضا أدّيتموه ، وفضلا ارتديتموه ، فائدته
عليكم مقصورة ، وقضيّته فيكم محصورة ، وإذا أقمتم الجهاد جلبتم إلى حسناتكم عملا
غريبا ، واستأنفتم سعيا من الله قريبا ، وتعدّت المنفعة إلى ألوف من النفوس ،
المستشعرة لباس البوس ، ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا ، وأعنّة
الاستدلال أرسلنا ، هذا لو قدمتم على هذا الوطن وفضلكم غفل من الاشتهار ،
ومن به لا يوجب لكم
__________________
ترفيع المقدار ،
فكيف وفضلكم أشهر من محيّا النهار؟ ولقاؤكم أشهى الآمال وآثر الأوطار ، فإن قوي
عزمكم والله يقوّيه ، ويعيننا من برّكم على ما ننويه ، فالبلاد بلادكم ، وما فيها
طريفكم وتلادكم ، وكهولها إخوانكم ، وأحداثها أولادكم ، ونرجو أن تجدوا
لذكركم الله في رباها حلاوة زائدة ، ولا تعدموا من روح الله فيها فائدة ، وتتكيّف
نفسكم فيها تكيّفات تقصر عنها خلوات السلوك ، إلى ملك الملوك ، حتى تغتبطوا بفضل
الله الذي يوليكم ، وتروا أثر رحمته فيكم ، وتخلفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في
قبيلكم وبنيكم ، وتختموا العمر الطيب بالجهاد الذي يعليكم ، ومن الله تعالى يدنيكم
، فنبيّكم العربي صلوات الله عليه وسلامه نبيّ الرحمة والملاحم ، ومعمل الصوارم ،
وبجهاد الفرنج ختم عمل جهاده والأعمال بالخواتم ، هذا على بعد بلادهم من بلاده ،
وأنتم أحقّ الناس باقتفاء جهاده ، والاستباق إلى آماده ، هذا ما عندنا حثثناكم
عليه ، وندبناكم إليه ، وأنتم في إيثار هذا الجوار ، ومقارضة ما عندنا بقدومكم على
بلادنا من الاستبشار ، بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار ، وتصريف الليل
والنهار ، وتقليب القلوب وإجالة الأفكار ، وإذا تعارضت الحظوظ فما عند الله خير
للأبرار ، والدار الآخرة دار القرار ، وخير الأعمال عمل أوصل إلى الجنة وباعد من
النار ، ولتعلموا أنّ نفوس أهل الكشف والاطّلاع ، بهذه الأرجاء والأصقاع ، قد
اتّفقت أخبارها ، واتّحدت أسرارها ، على البشارة بفتح قرب أوانه ، وأظلّ زمانه ،
فنرجو الله أن تكونوا ممّن يحضر مدعاه ، ويكرم فيه مسعاه ، ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله
ويرعاه ، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته ، انتهى.
ولمّا دخل الأندلس
أمير المسلمين عليّ بن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني ملك المغرب والأندلس ، وأمعن النظر فيها ، وتأمّل وصفها
وحالها ، قال : إنها تشبه عقابا مخالبه طليطلة ، وصدره قلعة رباح ، ورأسه جيّان ،
ومنقاره غرناطة ، وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب ، وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق
، في خبر طويل لم يحضرني الآن ، إذ تركته مع كتبي بالمغرب ، جمعني الله بها على
أحسن الأحوال!.
ومع كون أهل
الأندلس سبّاق حلبة الجهاد ، مهطعين إلى داعيه من الجبال والوهاد ، فكان لهم في التّرف والنعيم
والمجون ومداراة الشعراء خوف الهجاء محلّ وثير المهاد ، وسيأتي
__________________
في الباب السابع
من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي ،
ولكن سنح لي أن
أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزومي الهجّاء المشهور الذي قال فيه لسان الدين بن
الخطيب في الإحاطة : إنه كان أعمى شديد الشرّ ، معروفا بالهجاء ، مسلّطا على
الأعراض ، سريع الجواب ، ذكيّ الذهن ، فطنا للمعاريض ، سابقا في ميدان الهجاء ، فإذا مدح ضعف شعره. والحكاية هي
ما حكاه أبو الحسن بن سعيد في الطالع السعيد ، إذ قال حكاية عن أبيه فيما أظن :
قدم المذكور ـ يعني المخزومي ـ على غرناطة أيام ولاية أبي بكر بن سعيد ، ونزل
قريبا مني ، وكنت أسمع به بنار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده ، ثم رأيت
أن أبدأه بالتأنيس والإحسان ، فاستدعيته بهذه الأبيات : [المجتثّ]
يا ثانيا
للمعرّي
|
|
في حسن نظم ونثر
|
وفرط ظرف ونبل
|
|
وغوص فهم وفكر
|
صل ثمّ واصل
حفيّا
|
|
بكلّ برّ وشكر
|
وليس إلّا حديث
|
|
كما زها عقد درّ
|
وشادن يتغنّى
|
|
على رباب وزمر
|
وما يسامح فيه
ال
|
|
غفور من كأس خمر
|
وبيننا عهد حلف
|
|
لياسر حلف كفر
|
نعم فجدّده عهدا
|
|
بطيب شكر ويسر
|
والكأس مثل رضاع
|
|
ومن كمثلك يدري
|
ووجّه له الوزير
أبو بكر بن سعيد عبدا صغيرا قاده ، فلما استقرّ به المجلس ، وأفعمته روائح النّدّ
والعود والأزهار ، وهزّت عطفه الأوتار ، قال : [البسيط]
دار السّعيديّ
ذي أم دار رضوان
|
|
ما تشتهي النّفس
فيها حاضر داني
|
سقت أباريقها
للنّدّ سحب ندى
|
|
تحدى برعد
لأوتار وعيدان
|
والبرق من كلّ
دنّ ساكب مطرا
|
|
يحيى به ميت
أفكار وأشجان
|
__________________
هذا النّعيم
الذي كنّا نحدّثه
|
|
ولا سبيل له
إلّا بآذان
|
فقال له أبو بكر
بن سعيد : وإلى الآن لا سبيل له إلّا بآذان ؟ فقال : حتى يبعث الله ولد زنى كلما أنشدت هذه الأبيات قال
: إنها لأعمى ، فقال : أمّا أنا ، فلا أنطق بحرف ، فقال : من صمت
نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرة فقالت : وتراك يا أستاذ ، قديم النعمة بمجمر
ندّ وغناء وشراب ، فتعجب من تأتّيه وتشبّهه بنعيم الجنة ، وتقول : ما كان يعلم
إلّا بالسماع ، ولا يبلغ إليه بالعيان؟ ولكن من يجيء من حصن المدوّر ، وينشأ بين
تيوس وبقر ، من أين له معرفة بمجالس النعيم؟ فلمّا استوفت كلامها تنحنح الأعمى ،
فقالت له : ذبحة ، فقال : من هذه الفاضلة؟ فقالت : عجوز مقام أمّك ، فقال : كذبت ،
ما هذا صوت عجوز ، إنّما هذه نغمة قحبة محترقة تشمّ روائح هنها على فراسخ ، فقال له أبو بكر : يا أستاذ ، هذه نزهون بنت القلاعي
الشاعرة الأديبة ، فقال : سمعت بها ، لا أسمعها الله خيرا! ولا أراها إلّا أيرا!
فقالت له : يا شيخ سوء تناقضت ، وأيّ خير للمرأة مثل ما ذكرت؟ ففكّر ساعة ثم قال :
[الطويل]
على وجه نزهون
من الحسن مسحة
|
|
وإن كان قد أمسى
من الضوء عاريا
|
قواصد نزهون
توارك غيرها
|
|
ومن قصد البحر
استقلّ السّواقيا
|
فأعملت فكرها ثم
قالت : [المجتث]
قل للوضيع مقالا
|
|
يتلى إلى حين
يحشر
|
من المدوّر أنشئ
|
|
ت والخرا منه
أعطر
|
حيث البداوة
أمست
|
|
في مشيها تتبختر
|
لذاك أمسيت صبّا
|
|
بكلّ شيء مدوّر
|
خلقت أعمى ولكن
|
|
تهيم في كل أعور
|
جازيت شعرا بشعر
|
|
فقل لعمري من
اشعر
|
__________________
إن كنت في الخلق
أنثى
|
|
فإنّ شعري مذكّر
|
فقال لها اسمعي : [المتقارب]
ألا قل لنزهونة
ما لها
|
|
تجرّ من التّيه
أذيالها
|
ولو أبصرت فيشة
شمّرت
|
|
ـ كما
عوّدتني ـ سربالها
|
فحلف أبو بكر بن
سعيد أن لا يزيد أحدهما على الآخر في هجو كلمة ، فقال المخزومي : أكون هجّاء الأندلس وأكفّ عنها دون
شيء؟ فقال : أنا أشتري منك عرضها فاطلب ، فقال : بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى
منزلك ، فإنه ليّن اليد رقيق المشي ، فقال أبو بكر : لو لا كونه صغيرا كنت أبلغك
به مرادك ، وأهبه لك ، ففهم قصده وقال : أصبر عليه حتى يكبر ، ولو كان كبيرا ما
آثرتني به على نفسك ، فضحك أبو بكر ، وقال : إن لم تهج نظما هجوت نثرا ، فقال :
أيها الوزير ، لا تبديل لخلق الله. وانفصل المخزومي بالعبد بعد ما أصلح الوزير
بينه وبين نزهون ، انتهى.
وفي كتاب «الدرّ
المنضد ، في وفيات أعيان أمة محمد» تأليف الإمام صارم الدين إبراهيم بن دقماق ، قال أبو القاسم بن خلف :
كان ـ يعني المخزومي المذكور ـ حيّا بعد الأربعين وخمسمائة ، انتهى.
ونقلت من كتاب «قطب
السرور» لابن الرقيق المغربي ، ما ملخّصه : وممّن أدركته وعاشرته عبد الوهاب بن
حسين بن جعفر الحاجب ، وذكرته هنا ؛ لأنه ملحق بالأمراء المتقدمين غير خارج منهم
ولا مقصّر عنهم ، بل كان واحد عصره في الغناء الرائق ، والأدب الرائع ، والشعر
الرقيق ، واللفظ الأنيق ، ورقّة الطبع ، وإصابة النادر ، والتشبيه المصيب ،
والبديهة التي لا يلحق فيها ، مع شرف النفس ، وعلوّ الهمّة ، وكان قد قطع عمره ،
وأفنى دهره ، في اللهو واللعب ، والفكاهة والطرب ، وكان أعلم الناس بضرب العود ،
واختلاف طرائقه ، وصنعة اللحون ، وكثيرا ما يقول المعاني اللطيفة في الأبيات
الحسنة ، ويصوغ عليها الألحان المطربة البديعة المعجبة ، اختراعا منه وحذقا ،
وكانت له في ذلك قريحة وطبع ، وكان إذا لم يزره أحد من إخوانه أحضر مائدته وشرابه
عشرة من أهل بيته ، منهم ولده وعبد الله ابن أخيه وبعض غلمانه ، وكلّهم يغنّي
فيجيد ، فلا يزالون يغنّون بين يديه حتى يطرب ، فيدعو بالعود ويغني لنفسه ولهم ،
وكان بشارة الزامر الذي يزمر عليه من حذّاق زمرة المشرق ، وكان بعيد
__________________
الهمّة سمحا بما
يجد ، تغلّ عليه ضياعه كلّ عام أموالا جليلة ، فلا تحول السنة حتى ينفد جميع ذلك
ويستسلف غيره ، فكان لا يطرأ من المشرق مغنّ إلّا سأل من يقصد بهذا الشأن ، فيدلّ
عليه ، فمن وصله منهم استقبله بصنوف البرّ والإكرام ، وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه
إلى أحد من الناس ، فلا يزال معه في صبوح وغبوق ، وهو مجدّد له كل يوم كرامة ، حتى يأخذ جميع ما معه من
صوت مطرب أو حكاية نادرة.
وجلس يوما وقد
زاره رجلان من إخوانه ، وحضر أقرباؤه ، فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء ، فارتجّ
المجلس ، إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال : بالباب رجل غريب عليه
ثياب السفر ، ذكر أنّه ضيف ، فأمر بإدخاله ، فإذا رجل أسمر سناط ، رثّ الهيئة ، فسلّم عليه ، قال : أين بلد الرجل؟ قال :
البصرة ، فرحّب به ، وأمره بالجلوس ، فجلس مع الغلمان في صفّة ، وأتي بطعام فأكل وسقي أقداحا ، ودار الغناء في المجلس ،
حتى انتهى إلى آخرهم ، فلمّا سكتوا اندفع يغني بصوت نديّ وطبع حسن : [الهزج]
ألا يا دار ما
الهجر
|
|
لسكّانك من شاني
|
سقيت الغيث من
دار
|
|
وإن هيّجت
أشجاني
|
ولو شئت لما
استسقي
|
|
ت غيثا غير
أجفاني
|
بنفسي حلّ أهلوك
|
|
وإن بانوا
بسلواني
|
وما الدّهر
بمأمون
|
|
على تشتيت
خلّاني
|
فطرب عبد الوهاب
وصاح ، وتبيّن الحذق في إشارته ، والطّيب في طبعه ، وقال : يا غلام ، خذ بيده إلى
الحمّام ، وعجّل عليّ به ، فأدخل الحمّام ، ونظف ، ثم دعا عبد الوهاب بخلعة من
ثيابه فألقيت عليه ، ورفعه فأجلسه عن يساره ، وأقبل عليه وبسطه ، فغنى له : [مخلع
البسيط]
قومي امزجي
التّبر باللّجين
|
|
واحتملي الرّطل
باليدين
|
__________________
واغتنمي غفلة
اللّيالي
|
|
فربّما أيقظت
لحين
|
فقد لعمري أقرّ
منّا
|
|
هلال شوّال كلّ
عين
|
ذات الخلاخيل
أبصرته
|
|
كنصف خلخالها اللّجين
|
فطرب وشرب ،
واستزاده ، فغنّاه : [الكامل]
من لي على رغم
الحسود بقهوة
|
|
بكر ربيبة حانة
عذراء
|
موج من الذهب
المذاب تضمّه
|
|
كأس كقشر
الدّرّة البيضاء
|
والنّجم في أفق
السماء كأنّه
|
|
عين تخالس غفلة
الرّقباء
|
فشرب عبد الوهاب
ثم قال : زدني ، فغنّاه : [الطويل]
وأنت الذي أشرقت
عيني بمائها
|
|
وعلّمتها بالهجر
أن تهجر الغمضا
|
وأغرقتها
بالدّمع حتى جفونها
|
|
لينكر من فقد
الكرى بعضها بعضا
|
فمرّ يوم من أحسن
الأيام وأطيبها ، ووصله وأحسن إليه ، ولم يزل عنده مقرّبا مكرّما ، وكان خليعا
ماجنا مشتهرا بالنبيذ ، فخلّاه وما أحبّ ، ثمّ وصف له الأندلس وطيبها ، وكثرة
خمورها ، فمضى إليها ومات بها ، وعلى نحو هذه الحال كان يفعل بكل طارىء يطرأ من
المشرق ، ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب ، انتهى.
وغرضي من إيراد
هذه الحكاية هنا كونه وصف للمشرقيّ الأندلس وطيبها ، وذلك أمر لا يشكّ فيه ولا
يرتاب ، والله المسؤول في حسن المتاب.
ورأيت في بعض كتب
تاريخ الأندلس في ترجمة السلطان باديس الصّنهاجيّ صاحب غرناطة ، ما نصّه : وهو
الذي أكمل ترتيب قصبة مالقة ، وكان أفرس الناس ، وأنبلهم ، ذا مروءة ونجدة ، وقصره
بغرناطة ليس ببلاد الإسلام والكفر مثله ، فيما قيل ، انتهى.
وهذا القصر هو
الذي عناه لسان الدين بن الخطيب في قصيدته السينية المذكورة في الباب الخامس من
القسم الثاني من هذا الكتاب فلتراجع ثمة .
وذكر غير واحد من
المحدّثين والمؤرّخين أن مدينة سرقسطة لا يدخلها الثعبان من قبل
__________________
نفسه ، وإذا أدخله
أحد لم يتحرّك ، ونظير هذا المعنى في بعض الحيوانات بالنسبة إلى بعض البلاد كثير ،
وذلك برصد أو طلّسم ، وقد استطرد بعض علماء أصول الدين ذلك عندما تكلّموا على
السحر حسبما قرّر في محله ، والله أعلم.
هكذا رأيت في كلام
بعض علماء المشارقة ، والذي رأيته لبعض مؤرّخي المغرب في سرقسطة أنها لا تدخلها
عقرب ولا حيّة إلّا ماتت من ساعتها ، ويؤتى بالحيّات والعقارب إليها حيّة فبنفس ما
تدخل إلى جوف البلد تموت ، قال : ولا يتسوّس فيها شيء من الطعام ، ولا يعفن ،
ويوجد فيها القمح من مائة سنة ، والعنب المعلّق من ستة أعوام ، والتين والخوخ وحب
الملوك والتفاح والإجّاص اليابسة من أربعة أعوام ، والفول والحمص من عشرين سنة ،
ولا يسوّس فيها خشب ولا ثوب كان صوفا أو حريرا أو كتّانا ، وليس في بلاد الأندلس
أكثر فاكهة منها ، ولا أطيب طعما ، ولا أكبر جرما ، والبساتين محدقة بها من كل
ناحية ثمانية أميال ، ولها أعمال كثيرة : مدن وحصون وقرى مسافة أربعين ميلا ، وهي
تضاهي مدن العراق في كثرة الأشجار والأنهار ، وبالجملة فأمرها عظيم ، وقد أسلفنا
ذكرها.
واعلم أنّ بأرض الأندلس
من الخصب والنّضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدّنيا ما لا يوجد مجموعة غالبا في
غيرها ، فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب : أنّ السّمّور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة يوجد في البحر المحيط
بالأندلس من جهة جزيرة برطانية ، ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها. ولمّا ذكر ابن غالب
وبر السّمّور الذي يصنع بقرطبة قال : هذا السمّور المذكور هنا لم أتحقّق ما هو ،
ولا ما عني به ، إن كان هو نباتا عندهم أو وبر الدابة المعروفة ، فإن كانت الدابة
المعروفة فهي دابّة تكون في البحر ، وتخرج إلى البرّ ، وعندها قوّة ميز. وقال حامد
بن سمحون الطبيب صاحب كتاب الأدوية المفردة : هو حيوان يكون في بحر
الروم ، ولا يحتاج منه إلّا إلى خصاه ، فيخرج الحيوان من البحر في البرّ ، فيؤخذ
وتقطع خصاه ، ويطلق ، فربّما عرض للقنّاصين مرة أخرى ، فإذا أحسّ بهم وخشي أن لا
يفوتهم استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه ليرى موضع خصييه خاليا ، فإذا رآه القناصون
كذلك تركوه. قال ابن غالب : ويسمّى هذا الحيوان أيضا الجندبادستر ، والدواء الذي
يصنع من خصييه من الأدوية الرفيعة ، ومنافعه كثيرة ، وخاصيته في العلل الباردة ،
وهو حارّ يابس في الدرجة الرابعة.
__________________
والقنلية حيوان
أدقّ من الأرنب وأطيب في الطعم وأحسن وبرا ، وكثيرا ما يلبس فراؤها ، ويستعملها
أهل الأندلس من المسلمين والنصارى ، ولا توجد في برّ البربر إلّا ما جلب منها إلى
سبتة فنشأ في جوانبها. قال ابن سعيد : وقد جلبت في هذه المدّة إلى تونس حضرة
إفريقية.
ويكون بالأندلس من
الغزال والأيّل وحمار الوحش وبقره وغير ذلك ممّا لا يوجد في غيرها كثيرا . وأما الأسد ، فلا يوجد فيها البتّة ، ولا الفيل والزرافة
وغير ذلك ممّا يكون في أقاليم الحرارة ، ولها سبع يعرف باللّب أكبر بقليل من الذئب
في نهاية من القحة ، وقد يفترس الرجل إذا كان جائعا.
وبغال الأندلس
فارهة ، وخيلها ضخمة الأجسام ، حصون للقتال لحملها الدروع وثقال السلاح والعدو في
خيل البرّ الجنوبيّ.
ولها من الطيور
الجوارح وغيرها ما يكثر ذكره ويطول ، وكذلك حيوان البحر ، ودوابّ بحرها المحيط في
نهاية من الطول والعرض.
قال ابن سعيد :
عاينت من ذلك العجب ، والمسافرون في البحر يخافون منها لئلّا تقلب المراكب ،
فيقطعون الكلام ، ولها نفخ بالماء من فيها يقوم في الجو ذا ارتفاع مفرط.
وقال ابن سعيد :
قال المسعودي في «مروج الذهب» : في الأندلس من أنواع الأفاويه خمسة وعشرون صنفا :
منها السنبل ، والقرنفل ، والصندل ، والقرفة ، وقصب الذريرة ، وغير ذلك.
وذكر ابن غالب أنّ
المسعودي قال : أصول الطّيب خمسة أصناف : المسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ،
والزعفران ، وكلها من أرض الهند ، إلّا الزعفران والعنبر ، فإنهما موجودان في أرض
الأندلس ، ويوجد العنبر في أرض الشّحر.
قال ابن سعيد :
وقد تكلّموا في أصل العنبر ، فذكر بعضهم أنه عيون تنبع في قعر البحر يصير منها ما
تبلعه الدواب وتقذفه. قال الحجاري : ومنهم من قال : إنه نبات في قعر البحر.
وقد تقدّم قول
الرازي أن المحلب ـ وهو المقدّم في الأفاويه ، والمفضّل في أنواع الأشنان ـ لا
يوجد في شيء من الأرض إلّا بالهند والأندلس.
__________________
قال ابن سعيد :
وفي الأندلس مواضع ذكروا أن النار إذا أطلقت فيها فاحت بروائح العود وما أشبهه ،
وفي جبل شلير أفاويه هندية.
قال : وأمّا
الثمار وأصناف الفواكه ، فالأندلس أسعد بلاد الله بكثرتها ، ويوجد في سواحلها قصب
السكر والموز ، ويوجدان في الأقاليم الباردة ، ولا يعدم منها إلّا التمر ، ولها من
أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقلّ ، كالتين القوطيّ والتين السفريّ بإشبيلية.
قال ابن سعيد :
وهذان صنفان لم تر عيني ولم أذق لهما منذ خرجت من الأندلس ما يفضلهما ، وكذلك
التين المالقيّ والزبيب المنكّبيّ والزبيب العسليّ والرمان السفري والخوخ والجوز
واللوز ، وغير ذلك مما يطول ذكره.
وقد ذكر ابن سعيد
أيضا أن الأرض الشمالية المغربية فيها المعادن السبعة ، وأنها في الأندلس التي هي
بعض تلك الأرض ، وأعظم معدن للذهب بالأندلس في جهة شنت ياقور قاعدة الجلالقة على البحر المحيط ، وفي جهة قرطبة الفضّة
والزئبق ، والنحاس في شمال الأندلس كثير ، والصّفر الذي يكاد يشبه الذهب ، وغير
ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها.
والعين التي يخرج
منها الزاج في لبلة مشهورة ، وهو كثير مفضل في البلاد منسوب لجبل طليطلة جبل الطّفل الذي يجهز إلى البلاد ويفضل على كل طفل
بالمشرق والمغرب.
وبالأندلس عدة
مقاطع للرخام ، وذكر الرازي أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع اللون والخمري ، وفي ناشرة مقطع عجيب للعمد ، وبباغه من مملكة
غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة موشّاة في حمرة وصفرة ، وغير ذلك من المقاطع التي
بالأندلس من الرخام الحالك والمجزّع.
وحصى المريّة يحمل
إلى البلاد فإنه كالدّرّ في رونقه ، وله ألوان عجيبة ، ومن عادتهم أن يضعوه في
كيزان الماء.
وفي الأندلس من
الأمنان التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجرة البلّوط
فيجمعه الناس زمن الشّعرى ويصبغون به ، فيخرج منه اللون الأحمر الذي لا تفوقه
حمرة.
قال ابن سعيد :
وإلى مصنوعات الأندلس ينتهي التفضيل ، وللمتعصّبين لها في ذلك كلام
__________________
كثير ، فقد اختصّت
المريّة ومالقة ومرسية بالموشّى المذهّب ، يتعجّب من حسن صنعته أهل المشرق إذا رأوا منه شيئا ، وفي
ننتالة من عمل مرسية تعمل البسط التي يغالى في ثمنها بالمشرق ، ويصنع في غرناطة
وبسطة من ثياب اللباس المحرّرة الصنف الذي يعرف بالملبد المختم ذو الألوان العجيبة
، ويصنع في مرسية من الأسرّة المرصّعة والحصر الفتّانة الصنعة وآلات الصّفر
والحديد من السكاكين والأمقاص المذهّبة وغير ذلك من آلات العروس والجنديّ ما يبهر العقل
، ومنها تجهّز هذه الأصناف إلى بلاد إفريقية وغيرها. ويصنع بها وبالمريّة ومالقة
الزجاج الغريب العجيب وفخار مزجّج مذهب ، ويصنع بالأندلس نوع من المفضض المعروف في
المشرق بالفسيفساء ونوع يبسط به قاعات ديارهم يعرف بالزّليجي يشبه المفضض ، وهو ذو ألوان عجيبة يقيمونه مقام الرخام الملوّن الذي
يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم كالشاذروان ، وما يجري مجراه.
وأما آلات الحرب
من التّراس والرّماح والسّروج والألجم والدروع والمغافر فأكثر همم أهل الأندلس ـ فيما
حكى ابن سعيد ـ كانت مصروفة إلى هذا الشأن ، ويصنع فيها في بلاد الكفر ما يبهر العقول ، قال : والسيوف البرذليات
مشهورة بالجودة ، وبرذيل : آخر بلاد الأندلس من جهة الشمال والمشرق ، والفولاذ الذي
بإشبيلية إليه النهاية ، وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره.
وقد أفرد ابن غالب
في «فرحة الأنفس» للآثار الأولية التي بالأندلس من كتابه مكانا ، فقال : منها ما
كان من جلبهم الماء من البحر الملح إلى الأرحيّ التي بطرّكونة على وزن لطيف وتدبير
محكم حتى طحنت به ، وذلك من أعجب ما صنع. ومن ذلك ما صنعه الأول أيضا من جلب الماء
من البحر المحيط إلى جزيرة قادس من العين التي في إقليم الأصنام ، جلبوه في جوف
البحر في الصخر المجوّف ذكرا في أنثى وشقّوا به الجبال ، فإذا وصلوا به إلى
المواضع المنخفضة بنوا له قناطر على حنايا ، فإذا جاوزها واتّصل بالأرض المعتدلة
رجعوا إلى البنيان
__________________
المذكور ، فإذا
صادف سبخة بني له رصيف وأجري عليه ، هكذا إلى أن انتهي به إلى البحر ، ثمّ دخل به
في البحر ، وأخرج في جزيرة قادس ، والبنيان الذي عليه الماء في البحر ظاهر بيّن ،
قال ابن سعيد : إلى وقتنا هذا.
ومنها الرصيف
المشهور بالأندلس ، قال في بعض أخبار رومية : إنه لمّا ولي بوليش المعروف بجاشر ، وابتدأ بتذريع الأرض وتكسيرها ، كان
ابتداؤه بذلك من مدينة رومية إلى المشرق منها وإلى المغرب وإلى الشمال وإلى الجنوب
، ثم بدأ بفرش المبلّطة ، وأقبل بها على وسط دائرة الأرض إلى أن بلغ بها أرض
الأندلس وركزها شرقي قرطبة ببابها المتطامن المعروف بباب عبد الجبار ، ثم ابتدأها
من باب القنطرة قبليّ قرطبة إلى شقندة إلى إستجة إلى قرمونة إلى البحر ، وأقام على
كل ميل سارية قد نقش عليها اسمه من مدينة رومية ، وذكر أنه أراد تسقيفها في بعض
الأماكن راحة للخاطرين من وهج الصيف وهول الشتاء ، ثم توقّع أن يكون ذلك فسادا في
الأرض وتغييرا للطرق عند انتشار اللصوص وأهل الشرّ فيها في المواضع المنقطعة
النائية عن العمران ، فتركها على ما هي عليه. وذكر في هذه الآثار صنم قادس الذي
ليس له نظير إلّا الصنم الذي بطرف جلّيقية ، وذكر قنطرة طليطلة ، وقنطرة السيف
وقنطرة ماردة ، وملعب مربيطر.
قال ابن سعيد :
وفي الأندلس عجائب ، منها الشجرة التي لو لا كثرة ذكر العامة لها بالأندلس ما
ذكرتها ، فإنّ خبرها عندهم شائع متواتر ، وقد رأيت من يشهد بخبرها ورؤيتها ، وهم
جمّ غفير ، وهي شجرة زيتون تصنع الورق والنّور والثمر من يوم واحد معلوم عندهم من
أيام السنة الشمسية.
ومن العجائب :
السارية التي بغرب الأندلس ، يزعم الجمهور أنّ أهل ذلك المكان إذا أحبّوا المطر
أقاموها فيمطر الله جهتهم.
ومنها صنم قادس ،
طول ما كان قائما كان يمنع الريح أن تهبّ في البحر المحيط فلا تستطيع المراكب
الكبار على الجري فيه ، فلمّا هدم في أول دولة بني عبد المؤمن صارت السفن تجري
فيه.
وبكورة قبرة مغارة ذكرها الرازي وحكى أنه يقال : إنها باب من أبواب
الريح لا يدرك لها قعر.
__________________
وذكر الرازي أن في
جهة قلعة ورد جبلا فيه شقّ في صخرة داخل كهف فيه فأس حديد متعلّق من الشق الذي في
الصخرة ، تراه العيون وتلمسه اليد ، ومن رام إخراجه لم يطق ذلك ، وإذا رفعته اليد
ارتفع وغاب في شق الصخرة ثم يعود إلى حالته.
وأمّا ما أورده
ابن بشكوال من الأحاديث والآثار في شأن فضل الأندلس والمغرب فقد ذكرها ابن سعيد في
كتابه المغرب ، ولم أذكرها أنا ، والله أعلم بحقيقة أمرها ، وكذلك ما ذكره ابن
بشكوال من أنّ فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس ، قال : وذكره سيف عن
عثمان بن عفّان ، رضي الله تعالى عنه ، ـ والله أعلم بصحة ذلك ـ ولعلّ المراد
بالقسطنطينية رومية ، والله أعلم.
قال سيف : وذلك أن
عثمان ندب جيشا من القيروان إلى الأندلس ، وكتب لهم : أمّا بعد ، فإنّ فتح
القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس ، فإنكم إن فتحتموها كنتم الشركاء في الأجر
، والسلام ، انتهى.
قلت : عهدة هذه
الأمور على ناقلها ، وأنا بريء من عهدتها ، وإن ذكرها ابن بشكوال وصاحب المغرب
وغير واحد فإنها عندي لا أصل لها ، وأيّ وقت بعث عثمان إلى الأندلس؟
مع أن فتحها
بالاتفاق إنما كان زمان الوليد ، وإنما ذكرت هذا للتنبيه عليه ، والله أعلم.
قال ابن سعيد :
وميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار ، فأكثرت فيها الخصب والعمارة
من كل جهة ، فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى
ومياه ومزارع ، والصحارى فيها معدومة. ومما اختصّت به أنّ قراها في نهاية من
الجمال لتصنّع أهلها في أوضاعها وتبييضها ، لئلا تنبو العيون عنها ، فهي كما قال
الوزير ابن الحمارة فيها : [الكامل]
لاحت قراها بين
خضرة أيكها
|
|
كالدّرّ بين
زبرجد مكنون
|
ولقد تعجّبت لمّا
دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدّر العين بسوادها ، ويضيق الصدر بضيق
أوضاعها. وفي الأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصّرة من مثلها ، والمثال
في ذلك أنك إذا توجّهت من إشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر مدينة شريش ، وهي في
نهاية من الحضارة والنّضارة ، ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك ، ثم مالقة ، وهذا
كثير في الأندلس ، ولهذا كثرت مدنها وأكثرها مسوّر من أجل الاستعداد للعدوّ ، فحصل
__________________
لها بذلك التشييد
والتزيين ، وفي حصونها ما يبقى في محاربة العدوّ ما ينيّف على عشرين سنة لامتناع
معاقلها ، ودربة أهلها على الحرب ، واعتيادهم لمجاورة العدوّ بالطّعن والضرب ،
وكثرة ما تنخزن الغلة في مطاميرها ، فمنها ما يطول صبره عليها نحوا من مائة سنة. قال ابن
سعيد : ولذلك أدامها الله تعالى من وقت الفتح إلى الآن ، وإن كان العدوّ قد نقصها
من أطرافها ، وشارك في أوساطها ففي البقية منعة عظيمة ، فأرض بقي فيها مثل إشبيلية
وغرناطة ومالقة والمريّة وما ينضاف إلى هذه الحواضر العظيمة الممصّرة ، الرجاء
فيها قويّ بحول الله وقوته ، انتهى.
قلت : قد خاب ذلك
الرجاء ، وصارت تلك الأرجاء للكفر معرجا ، ونسأل الله تعالى الذي جعل للهمّ فرجا ،
وللضيق مخرجا ، أن يعيد إليها كلمة الإسلام حتى يستنشق أهله منه فيها أرجا! آمين.
ومن غرائب الأندلس
: البيلتان اللتان بطليطلة ، صنعهما عبد الرحمن لمّا سمع بخبر
الطّلّسم الذي بمدينة أرين من أرض الهند ، وقد ذكره المسعودي ، وأنه يدور بإصبعه
من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، فصنع هو هاتين البيلتين خارج طليطلة في بيت مجوّف
في جوف النهر الأعظم في الموضع المعروف بباب الدباغين ، ومن عجبهما أنهما يمتلئان
وينحسران مع زيادة القمر ونقصانه ، وذلك أنّ أوّل انهلال الهلال
يخرج فيهما يسير ماء ، فإذا أصبح كان فيهما ربع سبعهما من الماء ، فإذا كان آخر
النهار كمل فيهما نصف سبع ، ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتى يكمل من
الشهر سبعة أيام وسبع ليال ، فيكون فيهما نصفهما ، ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع
في اليوم والليلة حتى يكمل امتلاؤهما بكمال القمر ، فإذا كان في ليلة خمسة عشر
وأخذ القمر في النقصان نقصتا بنقصان القمر كل يوم وليلة نصف سبع ، فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من
الماء ، وإذا تكلّف أحد حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعا ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلّا
__________________
ما كان فيهما في
تلك الساعة ، وكذا لو تكلّف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق منهما شيئا ثم رفع يده
عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين. وهما أعجب من طلّسم الهند ؛ لأن
ذلك في نقطة الاعتدال حيث لا يزيد الليل على النهار ، وأما هاتان فليستا في مكان
الاعتدال ، ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى ـ دمّرهم الله! ـ طليطلة ،
فأراد الفنش أن يعلم حركاتهما ، فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها
الماء ، وكيف الحركة فيهما ، فقلعت ، فبطلت حركتهما ، وذلك سنة ٥٢٨. وقيل : إن سبب
فسادهما حنين اليهودي الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليطلة في يوم واحد ، وذلك
سنة ٥٢٧ ، وهو الذي أعلم الفنش أنّ ولده سيدخل قرطبة ويملكها ، فأراد أن يكشف حركة
البيلتين فقال له : أيها الملك ، أنا أقلعهما وأردّهما أحسن ممّا كانتا ، وذلك أني
أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل ، فلما قلعت لم يقدر على ردّها ، وقيل :
إنه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت ، ولم تزل الأخرى تعطي حركتها ، والله أعلم
بحقيقة الحال.
وقال بعضهم في إشبيلية
: إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها ، ومدينة الأدب واللهو والطرب ، وهي على ضفة
النهر الكبير ، عظيمة الشأن ، طيبة المكان ، لها البرّ المديد ، والبحر الساكن ،
والوادي العظيم ، وهي قريبة من البحر المحيط ، إلى أن قال : ولو لم يكن لها من
الشّرف إلّا موضع الشّرف المقابل لها المطل عليها المشهور بالزيتون الكثير الممتدّ
فراسخ في فراسخ لكفى ، وبها منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور ، ليس في بلاد
الإسلام أعظم بناء منها. وعسل الشرف يبقى حينا لا يترمّل ولا يتبدّل ، وكذلك الزيت
والتين.
وقال ابن مفلح :
إن إشبيلية عروس بلاد الأندلس ؛ لأنّ تاجها الشرف ، وفي عنقها سمط النهر الأعظم ،
وليس في الأرض أتمّ حسنا من هذا النهر ، يضاهي دجلة والفرات والنّيل ، تسير
القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار ، وتغريد الأطيار ، أربعة
وعشرين ميلا ، ويتعاطى الناس السّرح من جانبيه عشرة فراسخ في عمارة متصلة ومنارات
مرتفعة وأبراج مشيدة ، وفيه من أنواع السمك ما لا يحصى. وبالجملة فهي قد حازت
البرّ والبحر ، والزّرع والضّرع ، وكثرة الثمار من كل جنس ، وقصب السكر ، ويجمع
منها القرمز الذي هو أجلّ من اللّكّ الهندي ، وزيتونها يخزّن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة ،
ثم يعتصر فيخرج منه أكثر ممّا يخرج منه وهو طري ، انتهى ملخصا.
__________________
ولما ذكر ابن
اليسع الأندلس قال : لا يتزوّد فيها أحد ماء حيث سلك ؛ لكثرة أنهارها وعيونها ،
وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد أربع مدائن ، ومن المعاقل والقرى ما لا
يحصى ، وهي بطاح خضر ، وقصور بيض. انتهى.
قال ابن سعيد :
وأنا أقول كلاما فيه كفاية : منذ خرجت من جزيرة الأندلس وطفت في برّ العدوة ،
ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبتة ، ثم طفت في إفريقية وما جاورها من
المغرب الأوسط فرأيت بجاية وتونس ، ثم دخلت الديار المصرية فرأيت الإسكندرية
والقاهرة والفسطاط ، ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلب وما بينهما ـ لم أر ما يشبه
رونق الأندلس في مياهها وأشجارها إلّا مدينة فاس بالمغرب الأقصى ، ومدينة دمشق
بالشام ، وفي حماة مسحة أندلسية ، ولم أر ما يشبهها في حسن المباني والتشييد
والتصنيع ، إلّا ما شيّد بمراكش في دولة بني عبد المؤمن ، وبعض أماكن في تونس ،
وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية ، ولكن الإسكندرية أفسح
شوارع وأبسط وأبدع ، ومباني حلب داخلة فيما يستحسن ؛ لأنها من حجارة صلبة ، وفي
وضعها وترتيبها إتقان ، انتهى.
ومن أحسن ما جاء
من النظم في الأندلس قول ابن سفر المريني ، والإحسان له عادة : [البسيط]
في أرض أندلس
تلتذّ نعماء
|
|
ولا يفارق فيها
القلب سرّاء
|
وليس في غيرها
بالعيش منتفع
|
|
ولا تقوم بحقّ
الأنس صهباء
|
وأين يعدل عن
أرض تحضّ بها
|
|
على المدامة
أمواه وأفياء
|
وكيف لا يبهج
الأبصار رؤيتها
|
|
وكلّ روض بها في
الوشي صنعاء
|
أنهارها فضّة ،
والمسك تربتها
|
|
والخزّ روضتها ،
والدّرّ حصباء
|
وللهواء بها لطف
يرقّ به
|
|
من لا يرقّ ،
وتبدو منه أهواء
|
ليس النسيم الذي
يهفو بها سحرا
|
|
ولا انتثار لآلي
الطّلّ أنداء
|
وإنما أرج
النّدّ استثار بها
|
|
في ماء ورد
فطابت منه أرجاء
|
وأين يبلغ منها
ما أصنّفه
|
|
وكيف يحوي الذي
حازته إحصاء
|
__________________
قد ميّزت من
جهات الأرض حين بدت
|
|
فريدة وتولّى
ميزها الماء
|
دارت عليها
نطاقا أبحر خفقت
|
|
وجدا بها إذ
تبدّت وهي حسناء
|
لذاك يبسم فيها
الزّهر من طرب
|
|
والطير يشدو
وللأغصان إصغاء
|
فيها خلعت عذاري
ما بها عوض
|
|
فهي الرّياض ،
وكلّ الأرض صحراء
|
ولله درّ ابن
خفاجة حيث يقول : [الرمل]
إنّ للجنة
بالأندلس
|
|
مجتلى مرأى
وريّا نفس
|
فسنى صبحتها من
شنب
|
|
ودجى ظلمتها من
لعس
|
فإذا ما هبّت
الرّيح صبا
|
|
صحت وا شوقي إلى
الأندلس
|
وقد تقدمت هذه
الأبيات.
قال ابن سعيد :
قال ابن خفاجة هذه الأبيات وهو بالمغرب الأقصى في برّ العدوة ، ومنزله في شرق
الأندلس بجزيرة شقر .
وقال ابن سعيد في
المغرب ما نصه : قواعد من كتاب «الشهب الثاقبة ، في الإنصاف بين المشارقة
والمغاربة» أول ما نقدّم الكلام على قاعدة السلطنة بالأندلس ، فنقول : إنها مع ما
بأيدي عبّاد الصّليب منها أعظم سلطنة كثرت ممالكها ، وتشعّبت في وجوه الاستظهار
للسلطان إعانتها. وندع كلامنا في هذا الشأن ، وننقل ما قاله ابن حوقل النصيبي في
كتابه لمّا دخلها في مدة خلافة بني مروان بها في المائة الرابعة ، وذلك أنه لمّا
وصفها قال : وأما جزيرة الأندلس ، فجزيرة كبيرة ، طولها دون الشهر في عرض نيّف
وعشرين مرحلة ، تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر ، والرخص والسعة في
الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر ، إلى أسباب التملّك الفاشية فيها ، ولما
هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته ، يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم
لقلّة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم. ثم أخذ في عظم سلطانها ووصف وفور جباياته وعظم
مرافقه ، وقال في أثناء ذلك : وممّا يدلّ بالقليل منه على كثيره أنّ سكة دار ضربه
على الدراهم والدنانير دخلها في كل سنة مائتا ألف دينار ، وصرف الدينار سبعة عشر
درهما ، هذا إلى صدقات البلد وجباياته وخراجاته وأعشاره وضماناته والأموال
المرسومة على المراكب الواردة والصادرة وغير ذلك.
__________________
وذكر ابن بشكوال
أن جباية الأندلس بلغت في مدّة عبد الرحمن الناصر خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة
ألف وثمانين ألفا ، من السوق ، والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار.
ثم قال ابن حوقل :
ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها ، وضعة
نفوسهم ، ونقص عقولهم ، وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ، ولقاء
الرجال ، ومراس الأنجاد والأبطال ، مع علم أمير المؤمنين بمحلّها في نفسها ومقدار
جباياتها ومواقع نعمها ولذّاتها.
قال علي بن سعيد
مكمل هذا الكتاب : لم أر بدّا من إثبات هذا الفصل وإن كان على أهل بلدي فيه من
الظلم والتعصّب ما لا يخفى ، ولسان الحال في الردّ أنطق من لسان البلاغة ، وليت
شعري إذا سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة فمن الذين دبّروها
بآرائهم وعقولهم مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيّف؟ ومن الذين
حموها ببسالتهم من الأمم المتّصلة بهم في داخلها وخارجها نحو ثلاثة أشهر على كلمة
واحدة في نصرة الصليب؟ وإني لأعجب منه إذ كان في زمان قد دلفت فيه عبّاد الصليب إلى الشام والجزيرة وعاثوا كل العيث في
بلاد الشام ، حيث الجمهور والقبة العظمى ، حتى أنهم دخلوا مدينة حلب ، وما أدراك؟
وفعلوا فيها ما فعلوا ، وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة ، إلى غير ذلك مما هو
مسطور في كتب التواريخ ، ومن أعظم ذلك وأشدّه أنهم كانوا يتغلّبون على الحصن من
حصون الإسلام التي يتمكّنون بها من بسائط بلادهم ، فيسبون ويأسرون ، فلا تجتمع همم
الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك ، وقد يستعين به بعضهم على بعض ، فيتمكّن من
ذلك الداء الذي لا يطبّ ، وقد كانت جزيرة الأندلس في ذلك الزمان بالضدّ من البلاد
التي ترك وراء ظهره ، وذلك موجود في تاريخ ابن حيّان وغيره ، وإنما كانت الفتنة
بعد ذلك ، الأعلام بيّنة ، والطريق واضح.
فلنرجع إلى ما نحن
بسبيله : كانت سلطنة الأندلس في صدر الفتح على ما تقدّم من اختلاف الولاة عليها من
سلاطين إفريقية ، واختلاف الولاة داع إلى الاضطراب ، وعدم تأثّل
__________________
الأحوال وتربية
الضخامة في الدولة ، ولمّا صارت الأندلس لبني أمية وتوارثوا ممالكها وانقاد إليهم
كلّ أبيّ فيها وأطاعهم كلّ عصيّ عظمت الدولة بالأندلس ، وكبرت الهمم وترتّبت
الأحوال ، وترتّبت القواعد ، وكانوا صدرا من دولتهم يخطبون لأنفسهم بأبناء الخلائف
، ثم خطبوا لأنفسهم بالخلافة ، وملكوا من برّ العدوة وما ضخمت به دولتهم ، وكانت
قواعدهم إظهار الهيبة ، وتمكّن الناموس من قلوب العالم ، ومراعاة أحوال الشرع في
كل الأمور ، وتعظيم العلماء ، والعمل بأقوالهم ، وإحضارهم في مجالسهم ، واستشارتهم
، ولهم حكايات في تاريخ ابن حيّان : منها ما هو مذكور من توجّه الحكم على خليفتهم
أو على ابنه أو أحد حاشيته المختصّين ، وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد إلى الحق
لهم أو عليهم ، وبذلك انضبط لهم أمر الجزيرة. ولما خرقوا هذا الناموس كان أول
ما تهتّك أمرهم ، ثم اضمحلّ ، وكانت ألقاب الأول منهم الأمراء أبناء الخلائف ، ثم
الخلفاء أمراء المؤمنين ، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض ، وابتغاء الخلافة
من غير وجهها الذي رتّبت عليه ، فاستبدّت ملوك الممالك الأندلسية ببلادها ، وسمّوا
بملوك الطوائف ، وكان فيهم من خطب للخلفاء المروانيين وإن لم يبق لهم
خلافة ، ومنهم من خطب للخلفاء العباسيين المجمع على إمامتهم ، وصار ملوك الطوائف
يتباهون في أحوال الملك ، حتى في الألقاب ، فآل أمرهم إلى أن تلقّبوا بنعوت
الخلفاء ، وترفّعوا إلى طبقات السلطنة العظمى ، وذلك بما في جزيرتهم من أسباب
الترفّه والضخامة التي تتوزّع على ملوك شتى ، فتكفيهم ، وتنهض بهم للمباهاة. ولأجل
توثّيهم على النعوت العباسية قال ابن رشيق القيرواني : [البسيط]
ممّا يزهّدني في
أرض أندلس
|
|
تلقيب معتضد
فيها ومعتمد
|
ألقاب مملكة في
غير موضعها
|
|
كالهرّ يحكي
انتفاخا صولة الأسد
|
وكان عبّاد بن
محمد بن عبّاد قد تلقّب بالمعتضد ، واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين ،
وتلقّب ابنه محمد بن عبّاد بالمعتمد ، وكانت لبني عبّاد مملكة إشبيلية ثم انضاف
إليها غيرها.
وكان خلفاء بني
أميّة يظهرون للناس في الأحيان على أبّهة الخلافة ، وقانون لهم في ذلك معروف ، إلى
أن كانت الفتنة ، فازدرت العيون ذلك الناموس ، واستخفّت به.
__________________
وقد كان بنو حمّود
من ولد إدريس العلوي الذين توثّبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية
بالأندلس يتعاظمون ، ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس ، وكانوا إذا
حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلّم من وراء حجاب ، والحاجب
واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة ، ولمّا حضر ابن مقانا الأشبونيّ أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي الذي خطب له بالخلافة في
مالقة ، وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله : [الرمل]
وكأنّ الشمس
لمّا أشرقت
|
|
فانثنت عنها
عيون الناظرين
|
وجه إدريس بن
يحيى بن عليّ
|
|
بن حمّود أمير
المؤمنين
|
وبلغ فيها إلى
قوله :
انظرونا نقتبس
من نوركم
|
|
إنه من نور ربّ
العالمين
|
رفع الخليفة الستر
بنفسه ، وقال : انظر كيف شئت ؛ وانبسط مع الشاعر ، وأحسن إليه.
ولما جاء ملوك
الطوائف صاروا يتبسّطون للخاصّة وكثير من العامّة ، ويظهرون مداراة الجند وعوام
البلاد ، وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء ، ويحبّ أن يشهر عنه ذلك عند مباديه في الرياسة.
ومذ وقعت الفتنة
بالأندلس اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد عن إمام الجماعة ، وصار في كل جهة
مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك ، ومرنوا على ذلك ، فصعب ضبطهم إلى نظام واحد ، وتمكّن العدوّ منهم بالتفرّق
وعداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة والطمع ، إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن وبنيه ،
وتلك القواعد في رؤوسهم كامنة ، والثوّار في المعاقل تثور ، وتروم الكرّة ، إلى أن
ثار ابن هود ، وتلقّب بالمتوكّل ، ووجد القلوب منحرفة عن دولة برّ العدوة ، مهيأة للاستبداد ، فملكها
بأيسر محاولة ، مع الجهل المفرط وضعف الرأي ، وكان مع العامّة كأنه صاحب شعوذة ،
يمشي في الأسواق ويضحك في وجوههم ويبادرهم بالسؤال. وجاء للناس منه ما لم يعتادوه
من سلطان ، فأعجب ذلك سفهاء الناس وعامّتهم العمياء ، وكان كما قيل : [الوافر]
__________________
أمور يضحك
السفهاء منها
|
|
ويبكي من
عواقبها الحليم
|
فآل ذلك إلى تلف
القواعد العظيمة ، وتملّك الأمصار الجليلة ، وخروجها من يد الإسلام والضابط فيما
يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارسا يبرع الفرسان أو جوادا يبرع الأجواد تهافتوا في نصرته ، ونصبوه ملكا من غير تدبير في عاقبة الأمر إلام
يؤول ، وبعد أن يكون الملك في مملكة قد توورثت وتدوولت ، ويكون في تلك المملكة
قائد من قوّادها قد شهرت عنه وقائع في العدوّ وظهر منه كرم نفس للأجناد ومراعاة ،
قدّموه ملكا في حصن من الحصون ، ورفضوا عيالهم وأولادهم ـ إن كان لهم ذلك ـ بكرسيّ
الملك ، ولم يزالوا في جهاد وإتلاف أنفس حتى يظفر صاحبهم بطلبته. وأهل المشرق أصوب
رأيا منهم في مراعاة نظام الملك ، والمحافظة على نصابه ، لئلّا يدخل الخلل الذي
يقضي باختلال القواعد وفساد التربية وحلّ الأوضاع.
ونحن نمثّل في ذلك
بما شاهدناه : لمّا كانت هذه الفتنة الأخيرة بالأندلس تمخّضت عن رجل من حصن يقال
له أرجونة ، ويعرف الرجل بابن الأحمر ، كان يكثر مغاورة العدوّ من
حصنه ، وظهرت له مخايل وشواهد على الشجاعة ، إلى أن طار اسمه في الأندلس ، وآل ذلك إلى أن قدّمه أهل حصنه على
أنفسهم ، ثم نهض فملك قرطبة العظمى ، وملك إشبيلية ، وقتل ملكها الباجيّ ، وملك
جيّان أحصن بلد بالأندلس وأجلّه قدرا في الامتناع ، وملك غرناطة ومالقة ، وسمّوه
بأمير المسلمين ، فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه.
وأمّا قاعدة
الوزارة بالأندلس ، فإنها كانت في مدة بني أمية مشتركة في جماعة يعيّنهم صاحب
الدولة للإعانة والمشاورة ، ويخصّهم بالمجالسة ، ويختار منهم شخصا لمكان النائب
المعروف بالوزير فيسمّيه بالحاجب ، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في
البيوت المعلومة لذلك ، إلى أن كانت ملوك الطوائف ، فكان الملك منهم ـ لعظم اسم
الحاجب في الدولة المروانية ، وأنه كان نائبا عن خليفتهم ـ يسمّى بالحاجب ، ويرى
أنّ هذه السمة أعظم ما تنوفس فيه وظفر به ، وهي موجودة في أمداح شعرائهم
وتواريخهم. وصار اسم الوزارة عامّا لكلّ من يجالس الملوك ويختصّ بهم ، وصار الوزير
الذي ينوب عن الملك يعرف بذي
__________________
الوزارتين ، وأكثر
ما يكون فاضلا في علم الأدب ، وقد لا يكون كذلك ، بل عالما بأمور الملك خاصّة.
وأما الكتابة فهي
على ضربين : أعلاهما : كاتب الرسائل ، وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس ،
وأشرف أسمائه الكاتب ، وبهذه السّمة يخصّه من يعظمه في رسالة. وأهل الأندلس كثير والانتقاد على صاحب
هذه السّمة ، لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة ، فإن كان ناقصا عن درجات الكمال لم
ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلّط الألسن في المحافل والطّعن عليه وعلى
صاحبه والكاتب الآخر كاتب الزمام ، هكذا يعرفون كاتب الجهبذة ، ولا يكون بالأندلس وبرّ العدوة لا نصرانيّا ولا يهوديّا
البتّة ، إذا هذا الشغل نبيه يحتاج إلى صاحبه عظماء الناس ووجوههم.
وصاحب الأشغال
الخراجية في الأندلس أعظم من الوزير ، وأكثر أتباعا وأصحابا وأجدى منفعة ، فإليه
تميل الأعناق ، ونحوه تمدّ الأكفّ ، والأعمال مضبوطة بالشهود والنظار ، ومع هذا إن
تأثّلت حالته واغترّ بكثرة البناء والاكتساب نكب وصودر ، وهذا راجع إلى تقلّب
الأحوال وكيفية السلطان.
وأما خطّة القضاء
بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصّة والعامّة ، لتعلّقها بأمور الدين ، وكون
السلطان لو توجّه عليه حكم حضر بين يدي القاضي ، هذا وصفها في زمان بني أمية ، ومن سلك مسلكهم ، ولا سبيل أن يتّسم بهذه السّمة إلّا من هو وال للحكم الشرعي في مدينة جليلة ،
وإن كانت صغيرة فلا يطلق على حاكمها إلّا مسدّد ، خاصة ، وقاضي القضاة يقال له :
قاضي القضاة ، وقاضي الجماعة.
وأمّا خطة الشّرطة
بالأندلس ، فإنها مضبوطة إلى الآن ، معروفة بهذه السّمة ، ويعرف صاحبها في ألسن
العامّة بصاحب المدينة وصاحب الليل ، وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له
القتل لمن وجب عليه دون استئذان السلطان ، وذلك قليل ، ولا يكون إلّا في
حضرة السلطان الأعظم ، وهو الذي يحدّ على الزنى وشرب الخمر ، وكثير من الأمور
الشرعية راجع إليه ، قد صارت تلك عادة تقرّر عليها رضا القاضي ، وكانت خطة القاضي
أوقر وأتقى عندهم من ذلك.
__________________
وأما خطة الاحتساب
، فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن ، وكأنّ صاحبها قاض ، والعادة فيه أن
يمشي بنفسه راكبا على الأسواق ، وأعوانه معه ، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد
أحد الأعوان ؛ لأنّ الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم
، وكذلك للثّمن ، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المبتاع الصبيّ الصغير أو الجارية
الرعناء فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان ، وكذلك
اللحم تكون عليه ورقة بسعره ، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حدّ له
المحتسب في الورقة ، ولا يكاد تخفى خيانته ، فإن المحتسب يدسّ عليه صبيّا أو جارية
يبتاع أحدهما منه ، ثم يختبر الوزن المحتسب ، فإن وجد نقصا قاس على ذلك حاله مع
الناس ، فلا تسأل عمّا يلقى ، وإن كثر ذلك منه ولم يتب بعد الضرب والتجريس في الأسواق نفي من البلد. ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين
يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه ؛ لأنها عندهم تدخل في جميع
المبتاعات وتتفرّع إلى ما يطول ذكره.
وأما خطة الطواف
بالليل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق ، فإنهم يعرفون في الأندلس
بالدرّابين ؛ لأنّ بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة ، ولكل زقاق بائت
فيه ، له سراج معلّق وكلب يسهر وسلاح معدّ ، وذلك لشطارة عامّتها وكثرة شرّهم ،
وإعيائهم في أمور التلصّص ، إلى أن يظهروا على المباني المشيدة ،
ويفتحوا الأغلاق الصعبة ، ويقتلوا صاحب الدار خوف أن يقرّ عليهم أو يطالبهم بعد
ذلك ، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع «دار فلان دخلت البارحة» و «فلان ذبحه
اللصوص على فراشه» وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدّة الوالي ولينه ، ومع
إفراطه في الشدّة وكون سيفه يقطر دما فإن ذلك لا يعدم ، وقد آل الحال عندهم إلى أن
قتلوا على عنقود سرقه شخص من كرم وما أشبه ذلك ، ولم ينته اللصوص.
وأمّا قواعد أهل
الأندلس في ديانتهم ، فإنّها تختلف بحسب الأوقات والنظر إلى السلاطين ، ولكن
الأغلب عندهم إقامة الحدود ، وإنكار التهاون بتعطيلها ، وقيام العامّة في ذلك
وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان ، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره ،
فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبؤون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم ، وهذا كثير
في
__________________
أخبارهم. وأمّا
الرّجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكلّ يوم.
وأما طريقة
الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدّورة التي تكسل عن الكدّ وتخرج الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى النهاية ، وإذا رأوا شخصا صحيحا قادرا على الخدمة يطلب سبّوه
وأهانوه ، فضلا عن أن يتصدّقوا عليه ، فلا تجد بالأندلس سائلا إلّا أن يكون صاحب
عذر.
وأما حال أهل
الأندلس في فنون العلوم ، فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس
على التميّز ، فالجاهل الذي لم يوفّقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة ، ويربأ
بنفسه أن يرى فارغا عالة على الناس ؛ لأنّ هذا عندهم في نهاية القبح ، والعالم
عندهم معظّم من الخاصّة والعامّة ، يشار إليه ، ويحال عليه ، وينبه قدره وذكره عند
الناس ، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة ، وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس
مدارس تعينهم على طلب العلم ، بل يقرءون جميع العلوم في المساجد بأجرة ، فهم
يقرءون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جاريا ، فالعالم منهم بارع ؛ لأنه يطلب ذلك العلم
بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه ، وينفق من عنده حتى يعلم
، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء ، إلّا الفلسفة والتنجيم ، فإنّ لهما حظّا
عظيما عند خواصّهم ، ولا يتظاهر بها خوف العامّة ، فإنه كلّما قيل «فلان يقرأ الفلسفة» أو «يشتغل
بالتنجيم» أطلقت عليه العامّة اسم زنديق ، وقيّدت عليه أنفاسه ، فإن زلّ في شبهة
رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان ، أو يقتله السلطان تقرّبا لقلوب
العامّة ، وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت ، وبذلك تقرّب
المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في
الباطن على ما ذكره الحجاري والله أعلم. وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم
رفيعة ، وللفقه رونق ووجاهة ، ولا مذهب لهم إلّا مذهب مالك ، وخواصّهم يحفظون من
سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم
جليلة ، حتى إن المسلمين كانوا يسمّون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه
بالفقيه ، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق ، وقد يقولون للكاتب والنحوي
واللغوي فقيه ؛ لأنها عندهم أرفع السّمات.
__________________
وعلم الأصول عندهم
متوسّط الحال ، والنّحو عندهم في نهاية من علوّ الطبقة ، حتى إنهم في هذا العصر
فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه ، لا يزداد مع هرم الزمان إلّا جدّة ، وهم كثيرو
البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه ، وكل عالم في أيّ علم لا يكون متمكّنا من علم
النحو ـ بحيث لا تخفى عليه الدقائق ـ فليس عندهم بمستحقّ للتمييز ، ولا سالم من
الازدراء ، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواصّ والعوامّ كثير الانحراف عمّا
تقتضيه أوضاع العربية ، حتى لو أنّ شخصا من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي عليّ المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غرّبت
تصانيفه وشرّقت وهو يقرئ درسه لضحك بملء فيه من شدّة التحريف الذي في لسانه ،
والخاصّ منهم إذا تكلّم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه ،
ولكن ذلك مراعى عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل. وعلم الأدب المنثور من حفظ
التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات أنبل علم عندهم ، وبه يتقرّب من مجالس
ملوكهم وأعلامهم ، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل.
والشعر عندهم له
حظّ عظيم ، وللشعراء من ملوكهم وجاهة ، ولهم عليهم حظ ووظائف ، والمجيدون منهم
ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة ، ويوقّع لهم بالصّلات على أقدارهم ، إلّا
أن يختلّ الوقت ويغلب الجهل في حين ما ، ولكن هذا الغالب. وإذا كان الشخص بالأندلس
نحويّا أو شاعرا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب ، عادة قد جبلوا
عليها.
وأما زيّ أهل
الأندلس ، فالغالب عليهم ترك العمائم ، لا سيما في شرق الأندلس ، فإنّ أهل غربها
لا تكاد ترى فيهم قاضيا ولا فقيها مشارا إليه إلّا وهو بعمامة ، وقد تسامحوا
بشرقها في ذلك ، ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان
، وإليه الإشارة ، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة ، وهو حاسر الرأس ، وشيبه قد
غلب على سواد شعره. وأما الأجناد وسائر الناس ، فقليل منهم من تراه بعمّة في شرق
منها أو في غرب ، وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد
الأندلس وهو دون عمامة ، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده ، وكثيرا
ما يتزيّا سلاطينهم وأجنادهم بزيّ النصارى المجاورين لهم ، فسلاحهم كسلاحهم ،
وأقبيتهم من الإشكرلاط وغيره كأقبيتهم ، وكذلك أعلامهم وسروجهم.
__________________
ومحاربتهم
بالتّراس والرّماح الطويلة للطعن ، ولا يعرفون الدبابيس ، ولا قسيّ العرب ، بل
يعدون قسيّ الإفرنج للمحاصرات في البلاد ، أو تكون للرجّالة عند المصاففة للحرب ،
وكثيرا ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يؤثروها ولا تجد في
خواصّ الأندلس وأكثر عوامّهم من يمشي دون طيلسان ، إلّا أنه لا يضعه على رأسه منهم
إلّا الأشياخ المعظّمون ، وغفائر الصوف كثيرا ما يلبسونها حمرا وخضرا ؛ والصّفر
مخصوصة باليهود ، ولا سبيل ليهودي أن يتعمّم البتّة ، والذؤابة لا يرخيها إلّا العالم ، ولا
يصرفونها بين الأكتاف ، وإنّما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى. وهذه الأوضاع التي
بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس ، وإن رأوا في رأس مشرقي داخل إلى
بلادهم شكلا منها أظهروا التعجّب والاستظراف ، ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها ؛ لأنهم
لم يعتادوا ولم يستحسنوا غير أوضاعهم ، وكذلك في تفصيل الثياب.
وأهل الأندلس أشدّ
خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون ، وغير ذلك مما يتعلّق بهم ، وفيهم
من لا يكون عنده إلّا ما يقوته يومه ، فيطويه صائما ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه ،
ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها.
وهم أهل احتياط
وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذلّ السؤال ، فلذلك قد ينسبون للبخل ،
ولهم مروءات على عادة بلادهم ، لو فطن لها حاتم لفضّل دقائقها على عظائمه ؛ ولقد
اجتزت مع والدي على قرية من قراها ، وقد نال منّا البرد والمطر أشدّ النّيل ،
فأوينا إليها ، وكنّا على حال ترقّب من السلطان وخلوّ من الرفاهية ، فنزلنا في بيت
شيخ من أهلها ، من غير معرفة متقدّمة ، فقال لنا : إن كان عندكم ما أشتري لكم فحما
تسخنون به فإني أمضي في حوائجكم ، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم ، فأعطيناه ما اشترى
به فحما ، فأضرم نارا ، فجاء ابن له صغير ليصطلي ، فضربه ، فقال له والدي : لم
ضربته؟ فقال : يتعلّم استغنام أموال الناس والضّجر للبرد من الصغر ، ثم لما جاء النوم قال
لابنه : أعط هذا الشابّ كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه ، فدفع كساءه إليّ ، ثم
لما قمنا عند الصباح وجدت الصبيّ منتبها ويده في الكساء ، فقلت ذلك لوالدي ، فقال
: هذه مروءات أهل الأندلس ، وهذا احتياطهم ، أعطاك الكساء وفضّلك على نفسه ، ثم
أفكر في أنك غريب لا يعرف هل أنت ثقة أو لصّ ، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه
خوفا من انفصالك بها وهو نائم ، وعلى هذا الشيء الحقير فقس الشيء الجليل ؛ انتهى
كلام ابن سعيد في «المغرب» باختصار يسير.
__________________
ولله درّه! فإنه
أبدع في هذا الكتاب ما شاء ، وقسمه إلى أقسام : منها كتاب «وشي الطّرس ، في حلى
جزيرة الأندلس» وهو ينقسم إلى أربعة كتب : الكتاب الأول كتاب «حلي العرس ، في حلى
غرب الأندلس». الكتاب الثاني «كتاب الشّفاه اللّعس ، في حلى موسطة الأندلس».
الكتاب الثالث كتاب «الأنس في حلى شرق الأندلس». الكتاب الرابع كتاب «لحظات المريب
، في ذكر ما حماه من الأندلس عبّاد الصليب». والقسم الثاني كتاب «الألحان المسلية
، في حلى جزيرة صقلية» وهو أيضا ذو أنواع. والقسم الثالث كتاب «الغاية الأخيرة ،
في حلى الأرض الكبيرة» وهو أيضا ذو أقسام. وصوّر ـ رحمه الله تعالى! ـ أجزاء
الأندلس في كتاب «وشي الطّرس». وقال أيضا ؛ إن كلّا من شرق الأندلس وغربها ووسطها
يقرب في قدر المساحة بعضه من بعض ، وليس فيها جزء يجاوز طوله عشرة أيام ، ليصدق
التثليث في القسمة ، وهذا دون ما بقي بأيدي النصارى. وقدّم ـ رحمه الله! ـ كتاب «حلي
العرس ، في حلى غرب الأندلس» ؛ لكون قرطبة قطب الخلافة المروانية وإشبيلية التي ما
في الأندلس أجمل منها فيه ، وقسّمه إلى سبعة كتب ، كل كتاب منها يحتوي على مملكة
منحازة عن الأخرى : الكتاب الأول كتاب «الحلّة المذهّبة ، في حلى مملكة قرطبة».
الكتاب الثاني كتاب «الذهبية الأصيلية ، في حلى المملكة الإشبيلية». الكتاب الثالث
كتاب «خدع الممالقة ، في حلى مملكة مالقة». الكتاب الرابع كتاب «الفردوس ، في حلى
مملكة بطليوس». الكتاب الخامس كتاب «الخلب ، في حلى مملكة شلب». الكتاب السادس
كتاب «الديباجة ، في حلى مملكة باجة». الكتاب السابع كتاب «الرياض المصونة ، في
حلى مملكة أشبونة». وقد ذكر ـ رحمه الله تعالى ـ! في كل قسم ما يليق به ، وصوّر
أجزاءه على ما ينبغي ، فالله يجازيه خيرا! والكلام في الأندلس طويل عريض.
وقال بعض المؤرخين
: طول الأندلس ثلاثون يوما ، وعرضها تسعة أيام ، ويشقّها أربعون نهرا كبارا ، وبها
من العيون والحمّامات والمعادن ما لا يحصى ، وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار
، وأزيد من ثلاثمائة من المتوسطة ، وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة
، حتى قيل : إنّ عدد القرى التي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألف قرية ، وليس في
معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعا من يومه إلّا بالأندلس ، ومن
بركتها أنّ المسافر لا يسافر فيها فرسخين دون ماء أصلا ، وحيثما سار من الأقطار يجد
الحوانيت في الفلوات والصحارى والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم
والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة.
__________________
وذكر صاحب
الجغرافيا أن جزيرة الأندلس مسيرة أربعين يوما طولا في ثمانية عشر يوما عرضا ، وهو
مخالف لما سبق.
وقال ابن سيده :
أخذت الأندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب إلى
البحر المحيط في الشمال ، وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلا ، انتهى.
ولبعضهم : [الكامل]
لله أندلس وما
جمعت بها
|
|
من كلّ ما ضمّت
لها الأهواء
|
فكأنما تلك
الديار كواكب
|
|
وكأنما تلك
البقاع سماء
|
وبكلّ قطر جدول
في جنّة
|
|
ولعت بها
الأفياء والأنداء
|
وقال غيره : [البسيط]
في أرض أندلس
تلتذّ نعماء
|
|
ولا يفارق فيها
القلب سرّاء
|
وليس في غيرها
بالعيش منتفع
|
|
ولا تقوم بحقّ
الأنس صهباء
|
وأين يعدل عن
أرض يحضّ بها
|
|
على الشهادة
أزواج وأبناء
|
وأين يعدل عن
أرض تحثّ بها
|
|
على المدامة
أمواه وأفياء
|
وكيف لا تبهج
الأبصار رؤيتها
|
|
وكلّ أرض بها في
الوشي صنعاء
|
أنهارها فضّة ،
والمسك تربتها
|
|
والخزّ روضتها ،
والدّرّ حصباء
|
وللهواء بها لطف
يرقّ به
|
|
من لا يرقّ ،
وتبدو منه أهواء
|
ليس النسيم الذي
يهفو بها سحرا
|
|
ولا انتشار لآلي
الطّلّ أنداء
|
وإنّما أرج
الندّ استثار بها
|
|
في ماء ورد
فطابت منه أرجاء
|
وأين يبلع منها
ما أصنّفه
|
|
وكيف يحوي الذي
حازته إحصاء
|
قد ميّزت من
جهات الأرض ثم بدت
|
|
فريدة ، وتولّى
ميزها الماء
|
دارت عليها
نطاقا أبحر خفقت
|
|
وجدا بها إذ
تبدّت وهي حسناء
|
__________________
لذاك يبسم فيها
الزّهر من طرب
|
|
والطّير يشدو ،
وللأغصان إصغاء
|
فيها خلعت عذاري
ما بها عوض
|
|
فهي الرياض ،
وكلّ الأرض صحراء
|
وقد تقدمت هذه
القصيدة.
وقال آخر : [الرمل]
حبّذا أندلس من
بلد
|
|
لم تزل تنتج لي
كلّ سرور
|
طائر شاد ، وظلّ
وارف
|
|
ومياه سائحات
وقصور
|
وقال آخر : [الكامل]
يا حسن أندلس
وما جمعت لنا
|
|
فيها من الأوطار
والأوطان
|
تلك الجزيرة لست
أنسى حسنها
|
|
بتعاقب الأحيان
والأزمان
|
نسج الربيع
نباتها من سندس
|
|
موشيّة ببدائع
الألوان
|
وغدا النسيم بها
عليلا هائما
|
|
بربوعها وتلاطم
البحران
|
يا حسنها والطلّ
ينثر فوقها
|
|
دررا خلال الورد
والرّيحان
|
وسواعد الأنهار
قد مدّت إلى
|
|
ندمائها بشقائق
النّعمان
|
وتجاوبت فيها
شوادي طيرها
|
|
والتفّت الأغصان
بالأغصان
|
ما زرتها إلّا
وحيّاني بها
|
|
حدق البهار
وأنمل السّوسان
|
من بعدها ما
أعجبتني بلدة
|
|
مع ما حللت به
من البلدان
|
وحكى بعضهم أنّ
بالجامع من مدينة أقليش بلاطا فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف ، طول
الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبرا.
وفي الأندلس جبل ،
من شرب من مائه كثر عليه الاحتلام ، من غير إرادة ولا تفكّر ، وفيها غير ذلك مما
يطول ذكره ، والله أعلم.
ولنمسك العنان في
هذا الباب ، فإنّ بحر الأندلس طويل مديد ، وربما كررنا الكلام لارتباط بعضه ببعض ،
أو لنقل صاحبه المروي عنه ، أو لاختلاف ما ، أو غير ذلك من غرض سديد.
__________________
الباب الثاني
فتح الأندلس
في إلقاء الأندلس
للمسلمين بالقياد ، وفتحها على يد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد ، وصيرورتها
ميدانا لسبق الجياد ، ومحطّ رحل الارتياء والارتياد ، وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه ازدياد ،
ونبإ وصل إليه اعتيام وتقرّر بمثله اعتياد.
اعلم أنه لما قضى
الله سبحانه بتحقيق قول رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : «زويت لي مشارق الأرض
ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» وقع الخلاف بين لذريق ملك القوط وبين
ملك سبتة الذي على مجاز الزّقاق ، فكان ما يذكر من فتح الأندلس على يد طارق وطريف
ومولاهما الأمير موسى بن نصير ، رحم الله الجميع!.
وذكر الحجاري وابن
حيّان وغيرهما أن أوّل من دخل جزيرة الأندلس من المسلمين برسم الجهاد طريف
البربريّ مولى موسى بن نصير الذي تنسب إليه جزيرة طريف التي على المجاز ، غزاها
بمعونة صاحب سبتة يليان النصراني ، لحقده على لذريق صاحب الأندلس ، وكان في مائة
فارس وأربعمائة راجل ، جاز البحر في أربعة مراكب ، في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ،
وانصرف بغنيمة جليلة ، فعقد موسى بن نصير صاحب المغرب لمولاه طارق بن زياد على
الأندلس ، ووجّهه مع يليان صاحب سبتة ، انتهى.
وسيأتي في أمر
طريف وغيره ما يخالف هذا السياق ، وهي أقوال.
وقال ابن حيّان :
إن أول أسباب فتح الأندلس كان أن ولّى الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير مولى عمّه
عبد العزيز على إفريقية وما خلفها سنة ثمان وثمانين فخرج في نفر قليل من المطّوّعة
، فلما ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا ، وفعل ذلك في إفريقية ،
__________________
وجعل على مقدّمته
مولاه طارقا ، فلم يزل يقاتل البربر ويفتح مدائنهم ، حتى بلغ مدينة طنجة ، وهي
قصبة بلادهم وأمّ مدائنهم ، فحصرها حتى فتحها ، وأسلم أهلها ، ولم تكن فتحت قبله ،
وقيل : بل فتحت ثم استغلقت.
وذكر ابن حيّان
أيضا استصعاب سبتة على موسى بتدبير صاحبها الداهية الشجاع يليان النصراني ، وأنه
في أثناء ذلك وقع بينه وبين لذريق صاحب الأندلس ، ثم سرد ما يأتي ذكره.
وقال لسان الدين
بن الخطيب رحمه الله : وحديث الفتح ، وما منّ الله به على الإسلام من المنح ،
وأخبار ما أفاء الله من الخير ، على موسى بن نصير ، وكتب من جهاد ، لطارق بن زياد
، مملول قصّاص وأوراق ، وحديث أفول وإشراق ، وإرعاد وإبراق ، وعظم امتشاش ، وآلة معلّقة في دكان قشّاش ، انتهى.
وقال في المغرب :
طارق بن زياد من إفريقية.
وقال ابن بشكوال :
إنه طارق بن عمرو ، فتح جزيرة الأندلس ودوّخها ، وإليه ينسب جبل طارق الذي يعرفه
العامّة بجبل الفتح ، في قبلة الجزيرة الخضراء ، ورحل مع سيّده بعد فتح الأندلس
إلى الشام وانقطع خبره ، انتهى.
وقال أيضا : إن
طارقا كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه ، وأما المعارف السلطانية فيكفيه ولاية
سلطنة الأندلس وما فتح فيها من البلاد إلى أن وصل سيده موسى بن نصير.
ومن تاريخ ابن
بشكوال : احتل طارق بالجبل المنسوب إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين
وتسعين في اثني عشر ألفا غير اثني عشر رجلا من البربر ، ولم يكن فيهم من العرب
إلّا شيء يسير ، وإنه لمّا ركب البحر رأى ، وهو نائم ، النبيّ ، صلّى الله عليه
وسلّم ، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسيّ ، فيقول له
رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : «يا طارق ، تقدّم لشأنك» ، ونظر إليه وإلى
أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه ، فهبّ من نومه مستبشرا ، وبشّر أصحابه ، وثابت
نفسه ببشراه ، ولم يشكّ في الظفر ، فخرج من الجبل ، واقتحم بسيط البلد شانّا
للغارة ، وأصاب عجوزا من أهل الجزيرة فقالت له في بعض قولها : إنه كان لها زوج
عالم بالحدثان ، فكان يحدّثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا فيغلب عليه ، ويصف من
نعته أنه ضخم الهامة ، فأنت كذلك ، ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر ، فإن كانت فيك
__________________
فأنت هو ، فكشف
ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت ، فاستبشر بذلك ومن معه.
ومن تاريخ ابن
حيّان : لما حرّض يليان النصراني صاحب سبتة للأمر الذي وقع بينه وبين صاحب الأندلس
موسى بن نصير على غزو الأندلس جهّز لها مولاه طارقا المذكور في سبعة آلاف من
المسلمين ، جلّهم البربر ، في أربع سفن ، وحطّ بجبل طارق المنسوب إليه يوم السبت
في شعبان سنة اثنتين وتسعين ، ولم تزل المراكب تعود حتى توافى جميع أصحابه عنده
بالجبل ، قال : ووقع على لذريق صاحب الأندلس الخبر ، وأنّ يليان السبب فيه ، وكان
يومئذ غازيا في جهة البشكنس ، فبادر في جموعه وهم نحو مائة ألف ذوي عدّة وعدد ، وكتب طارق إلى موسى بأنه قد زحف عليه لذريق بما لا طاقة
له به ، وكان عمل من السفن عدّة ، فجهّز له فيها خمسة آلاف من المسلمين ، فكملوا
بمن تقدّم اثني عشر ألفا ، ومعهم يليان صاحب سبتة في حشده يدلّهم على العورات ،
ويتجسّس لهم الأخبار ، وأقبل نحوهم لذريق ومعه خيار العجم وأملاكها وفرسانها ،
وقلوبهم عليه ، فتلاقوا فيما بينهم ، وقالوا ؛ إن هذا الخبيث غلب على سلطاننا ،
وليس من بيت الملك ، وإنّما كان من أتباعنا ، ولسنا نعدم من سيرته خبالا واضطرابا
، وهؤلاء القوم الذين طرقوا لا حاجة لهم في إيطان بلدنا ، وإنّما مرادهم أن يملئوا
أيديهم من الغنائم ويخرجوا عنّا ، فهلمّ فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم
، فلعلّهم يكفوننا أمره ، فإذا هم انصرفوا عنّا أقعدنا في ملكنا من يستحقه ،
فأجمعوا على ذلك ، انتهى.
وقال ابن خلدون :
بعد ذكره أن القوطيين كان لهم ملك الأندلس ، وأن ملكهم لعهد الفتح يسمّى لذريق. ما
نصّه : «وكانت لهم خطوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية خطوها من فرضة المجاز
بطنجة ، ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر ، واستعبدوهم. وكان ملك البربر بذلك القطر
الذي هو اليوم جبال غمارة يسمى يليان ، فكان يدين بطاعتهم وبملّتهم ، وموسى بن
نصير أمير المغرب إذ ذاك عامل على إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك ، ومنزله
بالقيروان. وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ، ودوّخ
أقطاره ، وأثخن في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزّقاق ، واستنزل يليان لطاعة
الإسلام ، وخلّف مولاه طارق بن زياد الليثي واليا بطنجة ، وكان يليان ينقم على
لذريق ملك القوط لعهده بالأندلس فعلة فعلها زعموا بابنته الناشئة في داره على
عادتهم في بنات بطارقتهم ، فغضب لذلك ، وأجاز إلى لذريق ، وأخذ ابنته منه. ثم لحق
بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلّهم على عورة فيهم
__________________
أمكنت طارقا فيها
الفرصة فانتهزها لوقته ، وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى
بن نصير في نحو ثلاثمائة من العرب ، واحتشد معهم من البربر زهاء عشرة آلاف ،
فصيّرهما عسكرين ؛ أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح ، فسمّي جبل
طارق به ، والآخر على طريف بن مالك النخعي ، ونزل بمكان مدينة طريف ، فسمّي به ،
وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصّن. وبلغ الخبر إلى لذريق فنهض إليهم يجرّ أمم
الأعاجم وأهل ملّة النصرانية في زهاء أربعين ألفا ، وزحفوا إليه ، فالتقوا بفحص
شريش ، فهزمه الله ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم. وكتب طارق إلى موسى بن نصير
بالفتح وبالغنائم ، فحرّكته الغيرة ، وكتب إلى طارق يتوعّده إن توغّل بغير إذنه ،
ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به ، واستخلف على القيروان ولده عبد الله ،
وخرج معه حبيب بن منده الفهري . ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم
من وجوه العرب الموالي وعرفاء البربر ، ووافى خليج الزّقاق ما بين طنجة والجزيرة
الخضراء ، فأجاز إلى الأندلس ، وتلقّاه طارق فانقاد واتبع ، وأتمّ موسى الفتح ،
وتوغّل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف ، وصنم قادس في
الغرب ، ودوّخ أقطارها ، وجمع غنائمها. وأجمع أن يأتي المشرق من ناحية القسطنطينية
، ويتجاوز إلى الشام دروبه ودروب الأندلس ، ويخوض بينهما من أمم الأعاجم النصرانية
، مجاهدا فيهم ، مستلحما لهم ، إلى أن يلحق بدار الخلافة. ونمى الخبر إلى الوليد
فاشتدّ قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ، ورأى أنّ ما همّ به موسى غرر بالمسلمين
، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف. وأسرّ إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع ،
وكتب له بذلك عهده ، ففتّ ذلك في عزم موسى ، وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة
والحامية بثغورها ، وأنزل ابنه عبد العزيز لسدّها وجهاد عدوّها ، وأنزله بقرطبة
فاتّخذها دار إمارة ، واحتلّ موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين ، وارتحل إلى المشرق
سنة ستّ بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظّهر. يقال
: إن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السّبي ، وولّى على إفريقية ابنه عبد الله ،
وقدم على سليمان بن عبد الملك فسخطه ونكبه . وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان
فقتلوه لسنتين من ولايته ، وكان خيّرا فاضلا ، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة. وولي
من بعده أيوب بن حبيب اللخمي ، وهو ابن أخت موسى بن نصير ، فولي عليها ستة أشهر.
ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس ؛ تارة من قبل
__________________
الخليفة ، وتارة
من قبل عامله بالقيروان ، وأثخنوا في أمم الكفر ، وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق
، وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف ، وانقرضت أمم القوط ، وأوى الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة
وأفواه الدّروب فتحصّنوا بها ، وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب
الجزيرة حتى احتلّوا البسائط وراءها ، وتوغّلوا في بلاد الفرنجة ، وعصفت ريح
الإسلام بأمم الكفر من كل جهة ، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع
أوجد للعدوّ بعض الكرّة ، فرجّع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة
لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها ، واستمرّ الأمر على ذلك».
وكان محمد بن يزيد
عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك ـ لمّا بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير ـ
بعث إلى الأندلس الحرّ بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، فقدم الأندلس ، وعزل أيوب
بن حبيب ، وولي سنتين وثمانية أشهر.
ثم بعث عمر بن عبد
العزيز على الأندلس السّمح بن مالك الخولاني على رأس المائة من الهجرة ، وأمره أن
يخمس أرض الأندلس ، فخمسها ، وبنى قنطرة قرطبة ، واستشهد غازيا بأرض الفرنجة
سنة اثنتين ومائة ، فقدّم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى
أن قدم عنبسة بن سحيم الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية ، فقدمها في
صفر سنة ثلاث ومائة ، فاستقام أمر الأندلس ، وغزا الفرنجة ، وتوغّل في بلادهم ،
واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر».
ثم تتابعت ولاة
الأندلس من قبل أمراء إفريقية ، فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي ، أنفذه بشر بن
صفوان الكلبي والي إفريقية ، لمّا استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة ،
فقدمها آخر سنة سبع ، وأقام في ولايتها سنتين ونصفا ، ولم يغز ، وقدم إليها عثمان
بن أبي نسعة اللخمي واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السّلمي صاحب إفريقية ،
وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسي فوافاها سنة عشر ، وعزل قريبا يقال :
لسنة من ولايته ، واختلف : هل تقدّمه عثمان أو هو تقدّم عثمان؟ ثم ولي بعده الهيثم
بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا ، قدم في المحرم سنة إحدى عشرة ،
وغزا أرض مقوشة فافتتحها. وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولايته ، وقدم بعده
محمد بن عبد الله الأشجعي ،
__________________
فولي شهرين ، ثم
قدم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية ،
فدخلها سنة ثلاث عشرة ، وغزا الإفرنجة ، وكانت له فيهم وقائع ، وأصيب عسكره في
رمضان سنة أربع عشرة ، في موضع يعرف ببلاط الشهداء ، وبه عرفت الغزوة ، وكانت
ولايته سنة وثمانية أشهر ، ثم ولي عبد الملك بن قطن الفهري ، وقدم في رمضان سنة
أربع عشرة فولي سنتين. ـ وقال الواقدي : أربع سنين ـ وكان ظلوما جائرا في حكومته ،
وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة ، فأوقع بهم وغنم ، ثم عزل في رمضان سنة ست
عشرة ، وولي عقبة بن الحجاج السّلولي من قبل عبيد الله بن الحبحاب ، فأقام خمس
سنين محمود السّيرة مجاهدا مظفّرا ، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة ، وصار رباطهم
على نهر ردونة . ثم وثب عليه عبد الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين ،
فخلعه وقتله. ويقال : أخرجه من الأندلس وولي مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل
الشام سنة أربع وعشرين ، فغلب عليه ، وولي الأندلس سنة أو نحوها» ..
وقال الرازي : ثار
أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك ،
وولّوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية ، فكانت ولاية عقبة ستة أعوام
وأربعة أشهر. وتوفي بقرمونة في صفر سنة ثلاث وعشرين ، واستقام الأمر لعبد الملك. ثم
دخل بلج بن بشر القشيري بجند الشام ناجيا من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية
، فثار على عبد الملك ، وقتله وهو ابن سبعين سنة ، واستوثق له الأمر بعد مقتل عبد
الملك ، وانحاز الفهريون إلى جانب ، فامتنعوا عليه ، وكاشفوه ، واجتمع إليهم من
أنكر فعلته بابن قطن ، وقام بأمرهم قطن وأميّة ابنا عبد الملك بن قطن ، والتقوا ،
فكانت الدائرة على الفهريين ، وهلك بلج من الجراح التي نالته في حربهم ، وذلك سنة
أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته ، ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي ، وغلب على
إمارة الأندلس بعد مهلك بلج ، وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه ، وولي سنتين أظهر
فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر ، إلى أن مالت به العصبية في يمانيته ،
ففسد أمره ، وهاجت الفتنة. وقدم أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن
صفوان عامل إفريقية ؛ ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين ، فدان له أهل
الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك ، فلقيهم وأحسن إليهم ،
واستقام أمره. وكان شجاعا كريما ذا رأي وحزم ، وكثر أهل الشام عنده ، ولم تحملهم
قرطبة ، ففرّقهم في البلاد ، وأنزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها ، وسمّاها دمشق ،
وأنزل أهل حمص إشبيلية ، وسمّاها حمص ، وأهل قنّسرين جيّان ، وسمّاها قنّسرين ،
وأهل الأردنّ ريّة
__________________
ومالقة ، وسمّاها الأردنّ ، وأهل فلسطين شذونة ـ وهي شريش ـ وسمّاها فلسطين
، وأهل مصر تدمير ، وسمّاها مصر. وقفل ثعلبة إلى المشرق ، ولحق بمروان بن محمد ،
وحضر حروبه ، وكان أبو الخطار أعرابيّا عصبيّا أفرط عند ولايته في التعصّب لقومه
من اليمانية ، وتحامل على المضرية ، وأسخط قيسا ، وأمر في بعض الأيام بالصّميل بن
حاتم كبير القيسية ـ وكان من طوالع بلج ، وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن
، ورأس على المضرية ـ فأقيم من مجلسه ، وتقنّع ، فقال له بعض الحجّاب وهو خارج من
القصر : أقم عمامتك يا أبا الجوشن ، فقال : إن كان لي قوم فسيقيمونها ، فسار
الصميل بن حاتم أميرهم يومئذ وزعيمهم ، وألّب عليه قومه ، واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية ، فخلع
أبو الخطار سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته ، وقدّم مكانه ثوابة
بن سلامة الجذامي ، وهاجت الحرب المشهورة. وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب
إفريقية ، فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس ، منسلخ رجب سنة تسع وعشرين ، فضبط
الأندلس ، وقام بأمره الصّميل ، واجتمع عليه الفريقان. وهلك لسنة من ولايته. ووقع
الخلاف بإفريقية ، والتاث أمر بني أمية بالمشرق ، وشغلوا عن قاصية الثغور بكثرة الخوارج ، وعظم أمر المسوّدة فبقي أهل الأندلس فوضى ، ونصبوا للأحكام خاصّة عبد الرحمن
بن كثير. ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضريّة واليمانيّة
وإدالتها بين الجندين سنة لكل دولة. وقدّم المضريّة على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن
الفهري سنة تسع وعشرين ، واستتمّ سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة. ثم وافته
اليمانية لميعاد إدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم ، فبيّتهم يوسف
بمكان نزولهم من شقندة في قرى قرطبة بممالأة من الصّميل بن حاتم والقيسية
وسائر المضرية ، فاستلحموهم ، وثار أبو الخطار فقاتله الصّميل وهزمه وقتله سنة تسع
وعشرين ، واستبدّ يوسف بما وراء البحر من عدوة الأندلس ، وغلب اليمنية على أمرهم ،
فاستكانوا لغلبه ، وتربّصوا الدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل. وكان يوسف ولّى
الصميل سرقسطة ، فلما ظهر أمر المسوّدة بالمشرق ثار الحباب الزهريّ بالأندلس داعيا
لهم ، وحاصر الصميل بسرقسطة ، واستمدّ يوسف ، فلم يمدّه رجاء هلاكه لما كان يغصّ
به. وأمدّته القيسية ،
__________________
فأفرج عنه الحباب
، وفارق الصميل سرقسطة فملكها الحباب ، وولّى يوسف الصميل على طليطلة إلى أن كان
من عبد الرحمن الداخل ما كان. انتهى كلام وليّ الدين بن خلدون ببعض اختصار وقال
بعض المؤرخين : إن عبد الله بن مروان أخا عبد الملك كان واليا على مصر وإفريقية ،
فبعث إليه ابن أخيه الوليد الخليفة يأمره بإرسال موسى بن نصير إلى إفريقية ، وذلك
سنة سبع وثمانين للهجرة ، فامتثل أمره في ذلك.
وقال الحميديّ في «جذوة
المقتبس» : إن موسى بن نصير ولّي إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين فقدمها ومعه
جماعة من الجند ، فبلغه أن بأطراف البلاد من هو خارج عن الطاعة ، فوجّه ولده عبد
الله ، فأتاه بمائة ألف رأس من السبايا ، ثم ولده مروان إلى جهة أخرى ، فأتاه بمائة
ألف رأس. وقال الليث بن سعد : بلغ الخمس ستين ألف رأس. وقال الصّدفي : لم يسمع في
الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير. ووجد أكثر مدن إفريقية خالية لاختلاف أيدي
البربر عليها ، وكانت البلاد في قحط شديد ، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات
البين ، وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات ، وفرّق بينها وبين أولادها ،
فوقع البكاء والصّراخ والضجيج ، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار ، ثم صلّى وخطب
الناس ولم يذكر الوليد بن عبد الملك ، فقيل له : ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال :
هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله تعالى ، فسقوا حتى رووا. ثم خرج موسى غازيا ،
وتتّبع البربر ، وقتل فيهم قتلا ذريعا ، وسبى سبيا عظيما ، وسار حتى انتهى إلى
السّوس الأدنى لا يدافعه أحد. فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا ، وبذلوا
له الطاعة ، فقبل منهم ، وولّى عليهم واليا ، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه
طارق بن زياد البربري ، ويقال : إنه من الصّدف ، وترك عنده تسعة عشر ألفا من
البربر بالأسلحة والعدّة الكاملة ، وكانوا قد أسلموا وحسن إسلامهم ، وترك موسى
عندهم خلقا يسيرا من العرب ليعلّموا البربر القرآن وفرائض الإسلام ، ورجع إلى
إفريقية ، ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم. ولما استقرّت له
القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس فغزاها في اثني عشر ألفا
من البربر خلا اثني عشر رجلا ، وصعد على الجبل المنسوب إليه يوم الاثنين خامس رجب
سنة اثنتين وتسعين ، وذكر عن طارق أنه كان نائما في المركب وقت التعدية ، فرأى
النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد ، هكذا
ذكر ابن بشكوال. وقيل : إن موسى ندم على تأخّره ، وعلم أنّ طارقا إن فتح شيئا نسب
الفتح إليه دونه ، فأخذ في جمع العساكر ، وولّى على القيروان ابنه عبد الله ، وتبع
طارقا فلم يدركه إلّا بعد الفتح ، وقال بعض العلماء : إن موسى بن نصير كان عاقلا
شجاعا كريما تقيّا لله تعالى ، ولم يهزم له قطّ جيش ، وكان والده نصير على جيوش
معاوية ، ومنزلته لديه مكينة ، ولمّا خرج معاوية لصفّين لم يخرج معه ، فقال له :
ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني
عليها؟ فقال : لم
يمكنّي أن أشكرك بكفري من هو أولى بشكري منك ، فقال : من هو؟ فقال : الله عزّ وجلّ
، فأطرق مليّا ثم قال : أستغفر الله ، ورضي عنه.
رجع إلى حديث طارق
ـ قال بعض المؤرّخين : كان لذريق ملك الأندلس استخلف عليها شخصا يقال له تدمير ،
وإليه تنسب تدمير بالأندلس ، فلما نزل طارق من الجبل كتب تدمير إلى لذريق : إنه قد
نزل بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء هم أم من الأرض ، فلما بلغ لذريق ذلك ـ وكان
قصد بعض الجهات البعيدة لغزو له في بعض أعدائه ـ رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس ،
ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع ، وهو على سريره بين دابّتين ، وعليه مظلّة
مكلّلة بالدّرّ والياقوت والزبرجد. فلما بلغ طارقا دنوّه قام في أصحابه ، فحمد
الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم حثّ المسلمين على الجهاد ، ورغّبهم ثم قال :
أيها الناس ، أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم ، وليس لكم والله إلّا
الصدق والصبر ، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام ، في مأدبة اللئام ،
وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته ، وأقواته موفورة ، وأنتم لا وزر لكم إلّا سيوفكم ، ولا أقوات لكم إلّا ما تستخلصونه من
أيدي عدوّكم ، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ، ولم تنجزوا لكم أمرا ، ذهبت
ريحكم ، وتعوّضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم ، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه
العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية ، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة ، وإنّ
انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذّركم أمرا أنا عنه
بنجوة ، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي ، واعلموا
أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا ، استمعتم بالأرفه الألذّ طويلا ، فلا ترغبوا
بأنفسكم عن نفسي ، فما حظّكم فيه بأوفى من حظّي ، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة
من الحور الحسان ، من بنات اليونان ، الرافلات في الدّرّ والمرجان ، والحلل
المنسوجة بالعقيان ، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان ، وقد انتخبكم
الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا ، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة
أصهارا وأختانا ، ثقة منه بارتياحكم للطّعان ، واستماحكم بمجالدة
الأبطال والفرسان ، ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته ، وإظهار دينه بهذه
الجزيرة ، وليكون مغنمها خالصة لكم
__________________
من دونه ومن دون
المؤمنين سواكم ، والله تعالى وليّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين ،
واعلموا أني أوّل مجيب إلى ما دعوتكم إليه ، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي
على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى ، فاحملوا معي ، فإن هلكت بعده
فقد كفيتكم أمره ، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه ، وإن هلكت قبل وصولي
إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه ، واحملوا بأنفسكم عليه ، واكتفوا الهمّ من فتح هذه
الجزيرة بقتله ، فإنهم بعده يخذلون».
«فلما فرغ من
تحريض أصحابه على الصبر في قتال لذريق وأصحابه وما وعدهم من الخير الجزيل انبسطت
نفوسهم ، وتحقّقت آمالهم ، وهبّت رياح النصر عليهم ، وقالوا له : قد قطعنا الآمال
مما يخالف ما عزمت عليه ، فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك. فركب وأصحابه فباتوا
ليلتهم في حرس إلى الصبح. فلما أصبح الفريقان تكتّبوا وعبّوا جيوشهم ، وحمل لذريق وهو على سريره ؛ وقد حمل على
رأسه رواق ديباج يظلّله ، وهو مقبل في غابة من البنود والأعلام ، وبين يديه
المقاتلة والسلاح ، وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزّرد ، من فوق رؤوسهم العمائم
البيض ، وبأيديهم القسيّ العربية ، وقد تقلّدوا السيوف ، واعتقلوا الرماح ، فلما
نظر إليهم لذريق حلف وقال : إن هذه الصور هي التي رأيناها ببيت الحكمة ببلدنا ،
فداخله منهم الرّعب. فلما رأى طارق لذريق قال : هذا طاغية القوم ، فحمل وحمل
أصحابه معه ، فتفرّقت المقاتلة من بيد يدي لذريق ، فخلص إليه طارق ، فضربه بالسيف
على رأسه ، فقتله على سريره ، فلمّا رأى أصحابه مصرع صاحبهم اقتحم الجيشان ، وكان
النصر للمسلمين ، ولم تقف هزيمة العدو على موضع ، بل كانوا يسلمون بلدا بلدا
ومعقلا معقلا».
«ولمّا سمع موسى
بن نصير بما حصل من النصرة لطارق عبر الجزيرة بمن معه ، ولحق بمولاه طارق ، فقال
له : يا طارق ، إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك
الأندلس ، فاستبحه هنيئا مريئا ، فقال له طارق : أيّها الأمير ، والله لا أرجع عن
قصدي هذا ، ما لم أنته إلى البحر المحيط أخوض فيه بفرسي ، يعني البحر الشماليّ
الذي تحت بنات نعش ، ولم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ إلى جلّيقيّة وهي
ساحل البحر المحيط» ، انتهى.
وقال الحافظ
الحميدي في كتابه «جذوة المقتبس» : «إن موسى بن نصير نقم على مولاه طارق إذ غزا
بغير إذنه ، وهمّ بقتله ، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه ، فأطلقه وخرج معه إلى
الشام» ، انتهى.
__________________
وقول لذريق : «إن
هذه الصور هي التي رأيناها في بيت الحكمة إلخ» أشار به إلى بيت حكمة اليونان ،
وكان من خبره ـ فيما حكى بعض علماء التاريخ ـ أن اليونان ، وهم الطائفة المشهورة
بالحكم ، كانوا يسكنون بلاد الشرق قبل عهد الإسكندر ، فلما ظهرت الفرس ، واستولت
على البلاد ، وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك ، انتقل اليونان إلى
جزيرة الأندلس ، لكونها طرفا في آخر العمارة ، ولم يكن لها ذكر إذ ذاك ، ولا ملكها
أحد من الملوك المعتبرة ولم تك عامرة ، وكان أوّل من عمّر فيها واختطّها أندلس بن
يافث بن نوح عليه السلام ، فسمّيت باسمه ، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كانت
الصورة المعمورة منها عندهم على شكر طائر رأسه المشرق ، والجنوب والشمال رجلاه ،
وما بينهما بطنه ، والمغرب ذنبه ، وكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخسّ أجزاء
الطير. وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم إلّا بالحروب لما فيها من الإضرار والاشتغال عن العلوم التي كان
الاشتغال بها عندهم من أهم الأمور ، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس.
فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها ، فشقّوا الأنهار ، وبنوا المعاقل ، وغرسوا
الجنات والكروم ، وشيّدوا الأمصار. وملؤوها حرثا ونسلا وبنيانا ، فعظمت وطابت ،
حتى قال قائلهم لمّا رأى بهجتها : إن الطائر الذي صوّرت هذه العمارة على شكله ،
وكان المغرب ذنبه ، كان طاووسا معظم جماله في ذنبه.
وحكي أن الرشيد
هارون ـ رحمه الله! ـ لمّا حضر بين يديه بعض أهل المغرب قال الرشيد : يقال : إن
الدنيا بمثابة طائر ذنبه المغرب ، فقال الرجل : صدقوا يا أمير المؤمنين ، وإنه
طاووس ، فضحك أمير المؤمنين الرشيد ، وتعجّب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لقطره.
رجع ـ قال :
فاغتبط اليونان بالأندلس أتمّ اغتباط ، واتّخذوا دار الحكمة والملك بها طليطلة ؛
لأنها أوسط البلاد ، وكان أهمّ الأمور عندهم تحصينها عمّن يتصل به خبرها من الأمم
، فنظروا فإذا هو أنه لا يحسدهم على رغد العيش إلّا أرباب الشّظف والشقاء والتعب ،
وهو يومئذ طائفتان : العرب ، والبربر ، فخافوهم على جزيرتهم العامرة ، فعزموا على
أن يتخذوا لهذين الجنسين من الناس طلّسما ، فرصدوا لذلك أرصادا. ولما كان البربر
بالقرب منهم ، وليس بينهم سوى تعدية البحر ، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع
، خارجة عن الأوضاع ، ازدادوا منهم نفورا ، وأكثر تحذرهم من نسب أو مجاورة ، حتى ثبت ذلك في طبائعهم ، وصار
بعضه مركّبا في غرائزهم ، فلمّا علم البربر عداوة أهل الأندلس وبعضهم لهم ،
أبغضوهم وحسدوهم ، فلم تجد أندلسيّا إلّا مبغضا بربريّا ، وبالعكس ، إلّا أن
البربر أحوج إلى أهل الأندلس ؛ لوجود بعض الأشياء عندهم وفقدها ببلاد البربر.
__________________
وكان بنواحي غرب
الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها «قادس» وكانت له ابنة في غاية الجمال ، فتسامع
بها ملوك الأندلس ، وكانت الأندلس ، كثيرة الملوك ، لكل بلدة أو بلدتين ملك ،
فخطبوها ، وخشي أبوها إن زوّجها من واحد أسخط الباقين ، فتحيّر ، وأحضر ابنته ،
وكانت الحكمة مركّبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم ، ولذا قيل ؛ إن الحكمة نزلت من
السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض : أدمغة اليونان ، وأيدي أهل الصين ، وألسنة
العرب ؛ فقال لها : يا بنيّة ، إني أصبحت على حيرة في أمرك ممّن يخطبك من الملوك ،
وما أرضيت واحدا إلّا أسخطت الباقين ، فقالت له : اجعل الأمر إليّ تخلص ، فقال :
وما تقترحين؟ فقالت : أن يكون ملكا حكيما ، فقال ؛ نعم ما اخترته لنفسك ، فكتب في
أجوبة الملوك الخطّاب ، أنها اختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على
الجواب سكن من لم يكن حكيما. وكان في الملوك الخاطبين حكيمان ، فكتب كل واحد منهما
: أنا الملك الحكيم. فلما وقف على كتابيهما قال لها : يا بنية ، بقي الأمر على
إشكال ، وهذان ملكان حكيمان ، أيّهما أرضيت أسخطت الآخر ، فقالت : سأقترح على كل
واحد منهما أمرا يأتي به ، بأيّهما سبق إلى الفراغ مما التمست كنت زوجته ، قال :
وما الذي تقترحين عليهما؟ قالت : إنّا ساكنون بهذه الجزيرة ، ومحتاجون إلى رحيّ تدور بها ، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب
الجاري إليها من ذلك البرّ ، ومقترحة على الآخر أن يتّخذ لي طلّسما نحصّن به جزيرة
الأندلس من البربر ، فاستظرف أبوها ذلك ، وكتب إلى الملكين بما قالت ابنته ،
فأجاباه إلى ذلك ، وتقاسماه على ما اختارا ، وشرع كل واحد منهما في عمل ما أسند
إليه من ذلك.
فأما صاحب الرّحيّ
، فإنه عمد إلى أشكال اتّخذها من الحجارة ، نضد بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس
والبرّ الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة ، وسدّد الفرج التي بين الحجارة بما اقتضت حكمته ، وأوصل تلك الحجارة من
البرّ إلى الجزيرة ، وآثاره باقية إلى اليوم في الزّقاق الذي بين سبتة والجزيرة
الخضراء ، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أنّ هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها
ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة ، والله أعلم أيّ القولين أصحّ. غير أن
الشائع إلى الآن عند الناس هو الثاني. فلمّا تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم ، جلب
الماء العذب من جبل عال في البر الكبير ، وسلّطه من ساقية محكمة ، وبنى بجزيرة الأندلس
رحى على هذه الساقية.
__________________
«وأما صاحب
الطّلّسم ، فإنه أبطأ عمله بسبب انتظار الرصد الموافق لعمله ، غير أنه عمل أمره ،
وأحكمه ، وابتنى بنيانا مربعا من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل عالج حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض
ليثبت ، فلما انتهى البناء المربّع إلى حيث صوّر من النحاس الأحمر والحديد المصفّى
المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري ، وله لحية ، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد
قائمة في رأسه لجعودتها ، وهو متأبّط بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى
بألطف تصوير وأحكمه ، في رجله نعل ، وهو قائم من رأس البناء على مستهدف بمقدار
رجليه فقط ، وهو شاهق في الهواء ، طوله نيّف عن ستّين أو سبعين ذراعا ، وهو محدودب
الأعلى ، إلى أن ينتهي ما سعته قدر ذراع ، وقد مدّ يده اليمنى بمفتاح قفل
قابضا عليه مشيرا إلى البحر كأنه يقول : لا عبور. وكان من تأثير هذا الطّلّسم في
البحر الذي تجاهه أنه لم ير قطّ ساكنا ولا كانت تجري فيه قطّ سفينة بربر حتى سقط
المفتاح من يده. وكان الملكان اللذان عملا الرّحيّ والطّلّسم يتسابقان إلى فراغ
العمل ، إذ بالسّبق يستحق زواج المرأة ، وكان صاحب الرّحيّ فرغ أولا لكنه أخفى
أمره من صاحب الطّلّسم لئلّا يترك عمله فيبطل الطّلّسم ، لتحظى المرأة بالرحيّ
والطّلّسم. فلما علم باليوم الذي يفرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء في الجزيرة
من أوله وأدار الرّحيّ ، واشتهر ذلك ، فاتصل الخبر بصاحب الطّلسم وهو في أعلى
القبة يصقل وجهه ، وكان الطّلسم مذهبا فلما تحقّق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من
أعلى البناء ميتا ، وحصل صاحب الرّحيّ على المرأة والرحي والطّلّسم. وكان من تقدّم
من ملوك اليونان يخشى على الأندلس من البربر للسبب الذي قدّمنا ذكره ، فاتفقوا
وجعلوا الطّلّسمات في أوقات اختاروا أرصادها ، وأودعوا تلك الطّلّسمات تابوتا من
الرخام ، وتركوه في بيت بطليطلة وركّبوا على ذلك الباب قفلا ، تأكيدا لحفظ ذلك البيت
، فاستمرّ أمرهم على ذلك.
ولما حان وقت
انقراض دولة من كان بالأندلس ودخول العرب والبربر إليها ، وذلك بعد مضيّ ستة
وعشرين ملكا من ملوكهم من تاريخ عمل الطلسمات بطليطلة ، وكان لذريق المذكور آنفا
هو تمام السابع والعشرين من ملوكهم ، فلما اقتعد أريكة الملك قال لوزرائه وخواصّ
دولته وأهل الرأي منهم : قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه ستة وعشرون
قفلا شيء ، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه ؛ لأنه لم يعمل عبثا ، فقالوا : أيها
الملك ، صدقت ، إنه لم يصنع
__________________
عبثا ، ولم يقفل
سدى ، والرأي والمصلحة أن تلقي أنت أيضا عليه قفلا أسوة بمن تقدّمك من الملوك ،
وكان آباؤك وأجدادك لم يهملوا هذا ، فلا تهمله ، وسر سيرهم ، فقال لهم : إن نفسي
تنازعني إلى فتحه ، ولا بدّ لي منه ، فقالوا له : إن كنت تظن أن فيه مالا فقدّره
ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره ، ولا تحدث علينا بفتحه حادثا لا نعرف عاقبته ،
فأصرّ على ذلك ، وكان رجلا مهيبا ، فلم يقدروا على مراجعته ، وأمر بفتح الأقفال ،
وكان على كل قفل مفتاحه معلقا. فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئا إلّا مائدة
عظيمة من ذهب وفضة مكلّلة بالجواهر ، وعليها مكتوب : هذه مائدة سليمان بن داود
عليهما الصلاة والسلام ، ورأى في البيت ذلك التابوت ، وعليه قفل ، ومفتاحه معلّق ،
ففتحه ، فلم يجد فيه سوى رقّ ، وفي جوانب التابوت صور فرسان مصوّرة بأصباع محكمة
التصوير على أشكال العرب ، وعليهم الفراء ، وهم معمّمون على ذوائب جعد ، ومن تحتهم
الخيل العربية ، وهم متقلّدون السيوف المحلّاة ، معتقلون الرماح ، فأمر بنشر ذلك
الرّقّ ، فإذا فيه : متى فتح هذا البيت وهذا التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم
الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس ، وذهب ملك من فيها من أيديهم ، وبطلت حكمتهم ؛ فلما سمع لذريق ما في الرّقّ ندم على ما فعل ،
وتحقّق انقراض دولتهم ، فلم يلبث إلّا قليلا حتى سمع أن جيشا وصل من المشرق جهّزه
ملك العرب ليفتح بلاد الأندلس ، انتهى.
فهذا هو بيت
الحكمة الذي أشار إليه لذريق ، والله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك كله.
على أن في هذا
السياق مخالفة لما سنذكره عن بعض ثقات مؤرّخي الأندلس وغيرهم في شأن المائدة
وغيرها ، وما ذكر في هذه القصة من جلب الماء من برّ العدوة إلخ فيه بعد عندي ؛ لأن
بلاد الأندلس أكثر بلاد الله مياها وأنهارا ، فأنّى تحتاج إلى جلب الماء إليها من
العدوة الأخرى؟ إلّا أن يقال : إن المرأة أرادت تعجيز الرجل بذلك ، أو اختبار
حكمته حتى يفعل هذا الأمر الغريب ، وعلم الله من وراء ذلك كله ، وفوق كل ذي علم
عليم ، ومنتهى العلم إلى الله الحكيم.
وقال ابن حيّان في
«المقتبس» : «ذكروا أن لذريق لم يكن من أبناء الملوك ، ولا بصحيح النسب في القوط ،
وأنه إنما نال الملك من طريق الغصب والتسوّر عندما مات غيطشة الملك الذي كان قبله ، وكان أثيرا لديه ، مكينا ، فاستصغر
أولاده لمكانه ، واستمال طائفة من الرجال
__________________
مالوا معه ،
فانتزع الملك من أولاد غيطشة واستبقاهم ، فكانوا هم الذين دبّروا عليه ـ فيما ذكر
ـ عندما لقي رجال العرب المقتحمين عليه بالأندلس من تلقاء بحر الزّقاق وعليهم طارق
بن زياد مولى موسى بن نصير طماعة منهم في أن يودي ويخلص إليهم ملك أبيهم ، فالتقوا
بموضع يدعى وادي لكّة من أرض الجزيرة الخضراء من ساحل الأندلس القبلي مكان
عبورهم ، وذلك لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين من الهجرة ، فانهزم
القوط أعظم هزيمة ، وقتل ملكهم لذريق ، وغلبت العرب على الأندلس ، فصارت أقصى
فتوحهم من أرض المغرب ، ومصداق موعد نبيّهم ، صلّى الله عليه وسلّم ، الكفيل بفتح
ما بين المشرق والمغرب عليهم بوحي الله تعالى إليه أنجزه لهم بفتح الأندلس ، ولله
القوّة».
قال : «وقام بأمر
العرب بالأندلس منذ فتحت الأمراء المرسلون منهم عليها من قبل أئمة المسلمين
بالمشرق طوال دولة بني أميّة ، رضي الله تعالى عنهم ، إلى أن طرأ إليها فلّهم عند
غلبة بني العبّاس عليهم ، ودخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن
مروان ، فملكها وأعاد إليها الدولة الأموية التي أورثها عقبه حقبة. فكانت عدّة
هؤلاء الأمراء من لدن أوّلهم طارق بن زياد إلى آخرهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري
عشرين عاملا ، وعدّة سنيهم بالشمسي خمس وأربعون سنة ، وبالقمري سبع وأربعون سنة
غير أشهر» ، انتهى.
وقال في موضع آخر
، نقلا عن الرازي : «وافتتحت الأندلس في أيام الوليد بن عبد الملك ، فكان فتحها من
أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملّة الحنيفية ، وكان عمر بن عبد العزيز ـ رضوان
الله عليه! ـ متهمّما بها ، معتنيا بشأنها ، وقد حوّلها عن نظر والي إفريقية وجرّد
إليها عاملا من قبله اختاره لها ، دلالة على معنيته بها ، ووقعت المقاسم فيها عن
أمره وبفضل رأيه» ، انتهى.
وفي الكتاب
الخزائني وغيره سياقة فتح الأندلس على أتمّ الوجوه ، فلنذكر ملخّصه ، قالوا :
استعمل أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ـ رحمه الله تعالى! ـ موسى بن نصير مولى
عمّه عبد العزيز بن مروان ، ويقال : بل هو بكري ، وذلك أنّ أباه نصيرا أصله من
علوج
__________________
أصابهم خالد بن
الوليد ـ رضي الله عنه! ـ في عين التّمر ، فادّعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل
، فصار نصير وصيفا لعبد العزيز بن مروان ، فأعتقه ، فمن هذا يختلف فيه ، وقيل :
إنه لخميّ ، وعقد له على إفريقية وما خلفها في سنة ثمان وثمانين ، فخرج إلى ذلك
الوجه في نفر قليل من المطّوعة ، فلمّا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا ، وأتى
إفريقية عمله ، فأخرج من أهلها معه ذوي القوّة والجلد ، وصيّر على مقدّمته طارق بن
زياد ، فلم يزل يقاتل البربر ويفضّ جموعهم ، ويفتح بلادهم ومدائنهم ، حتى بلغ طنجة
، وهي قصبة ملك البربر وأمّ مدائنهم ، فحصرها حتى افتتحها ، وقيل : إنها لم تكن
افتتحت قبله ، وقيل : افتتحت ثم ارتجعت ، فأسلم أهلها ، وخطّها قيروانا للمسلمين.
ثم ساروا إلى مدائن على شطّ البحر فيها عمّال لصاحب الأندلس قد غلبوا عليها وعلى
ما حولها ، ورأس تلك المدائن سبتة ، وعليها علج يسمى يليان ، قاتله موسى فألفاه في
نجدة وقوّة وعدة فلم يطقه ، فرجع إلى مدينة طنجة فأقام بمن معه ، وأخذ في الغارات
على ما حولهم والتضييق عليهم ، والسفن تختلف إليهم بالميرة والأمداد من الأندلس من
قبل ملكها غيطشة ، فهم يذبّون عن حريمهم ذبّا شديدا ، ويحمون بلادهم حماية تامّة ،
إلى أن هلك غيطشة ملك الأندلس ، وترك أولادا لم يرضهم أهلها للملك ، فاضطرب حبل
أهل الأندلس ، ثم تراضوا بعلج من كبارهم يقال له لذريق ، مجرّب شجاع بطل ، ليس من
بيت أهل الملك ، إلّا أنه من قوّادهم وفرسانهم ، فولّوه أمرهم ، وكانت طليطلة دار
الملك بالأندلس حينئذ ، وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام ، عليه عدّة من
الأقفال يلزمه قوم من ثقات القوط ، قد وكّلوا به لئلّا يفتح ، وقد عهد الأول في
ذلك إلى الآخر ، فكلّما قعد منهم ملك أتاه أولئك الموكّلون بالبيت فأخذوا منه قفلا
وصيّروه على ذلك الباب من غير أن يزيلوا قفل من تقدّمه ، فلما قعد لذريق هذا ،
وكان متهمّما يقظا ذا فكر ، أتاه الحرّاس يسألونه أن يقفل على الباب ، فقال لهم :
لا أفعل أو أعلم ما فيه ، ولا بدّ لي من فتحه ، فقالوا له : أيها الملك ، إنه لم
يفعل هذا أحد ممّن قبلك ، وتناهوا عن فتحه ، فلم يلتفت إليهم ، ومشى إلى البيت ،
فأعظمت ذلك العجم وضرع إليه أكابرهم في الكفّ ، فلم يفعل ، وظنّ أنه بيت مال ،
ففضّ الأقفال عنه ، ودخل ، فأصابه فارغا لا شيء فيه ، إلّا تابوتا عليه قفل ، فأمر
بفتحه يحسب أن مضمونه يقنعه نفاسة ، فألفاه أيضا فارغا ليس فيه إلّا شقّة مدرجة قد صوّرت فيها صور العرب عليهم العمائم وتحتهم
الخيول العراب متقلّدي السيوف متنكبي القسيّ رافعي الرايات على الرماح ،
وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية ، فقرئت فإذا فيها : إذا كسرت الأقفال عن هذا
__________________
البيت وفتح هذا
التابوت فظهر ما فيه من هذه الصور فإن هذه الأمة المصوّرة في هذه الشّقّة تدخل
الأندلس ، فتغلب عليها وتملكها ، فوجم لذريق وندم على ما فعل ، وعظم غمّه وغمّ العجم بذلك ، وأمر
بردّ الأقفال وإقرار الحرس على حالهم ، وأخذ في تدبير الملك ، وذهل عمّا أنذر به.
وكان من سير أكابر العجم بالأندلس وقوّادهم أن يبعثوا أولادهم
الذين يريدون منفعتهم والتنويه بهم إلى بلاد الملك الأكبر بطليطلة ليصيروا في
خدمته ، ويتأدّبوا بأدبه ، وينالوا من كرامته ، حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضا
استئلافا لآبائهم ، وحمل صدقاتهم ، وتولّى تجهيز إناثهم إلى أزواجهنّ. فاتفق أن فعل ذلك
يليان عامل لذريق على سبتة ، وكانت يومئذ في يد صاحب الأندلس ، وأهلها على النصرانية
، ركب الطريقة بابنة له بارعة في الجمال تكرم عليه ، فلمّا صارت عند لذريق وقعت
عينه عليها ، فأعجبته ، وأحبّها حبّا شديدا ، ولم يملك نفسه حتى استكرهها وافتضّها
، فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سرّا ، بمكاتبة خفيّة ، فأحفظه شأنها جدّا ، واشتدّت حميّته ، وقال : ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه ، ولأحفرنّ تحت قدميه ، فكان امتعاضه من فاحشة
ابنته هو السبب في فتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله تعالى.
ثم إن يليان ركب
بحر الزّقاق من سبتة في أصعب الأوقات في ينير قلب الشتاء ، فصار بالأندلس ، وأقبل
إلى طليطلة نحو الملك لذريق ، فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت ، وسأله عمّا
لديه ، وما جاء فيه ، ولم جاء في مثل وقته؟ فذكر خيرا ، واعتلّ بذكر زوجته ،
وشدّة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده ، وتمنّيها لقاءها قبل الموت ، وإلحاحها
عليه في إحضارها ، وأنه أحبّ إسعافها ، ورجا بلوغها أمنيتها منه ، وسأل الملك
إخراجها إليه ، وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها ، ففعل ، وأجاز الجارية ، وتوثّق منها
بالكتمان عليه ، وأفضل على أبيها ، فانقلب عنه ، وذكروا أنه لمّا ودّعه قال له
لذريق : إذا قدمت علينا فاستفره لنا من الشّذانقات التي لم تزل تطرفنا بها فإنها آثر جوارحنا لدينا ، فقال له
: أيها الملك ، وحقّ المسيح لئن بقيت
__________________
لأدخلنّ عليك
شذانقات ما دخل عليك مثلها قطّ ، عرّض له بالذي أضمره من السعي في إدخال رجال
العرب عليه ، وهو لا يفطن ، فلم يتنهنه يليان عندما استقرّ بسبتة عمله أن تهيّأ للمسير نحو موسى
بن نصير الأمير ، فمضى نحوه بإفريقية ، وكلّمه في غزو الأندلس ، ووصف له حسنها
وفضلها ، وما جمعت من أشتات المنافع ، وأنواع المرافق ، وطيب المزارع ، وكثرة الثمار ،
وثرارة المياه وعذوبتها ، وهوّن عليه مع ذلك حال رجالها ، ووصفهم بضعف البأس وقلّة
الغناء ، فشوّق موسى إلى ما هناك ، وأخذ بالحزم فيما دعاه إليه يليان ، فعاقده على
الانحراف إلى المسلمين ، واستظهر عليه بأن سامه مكاشفة أهل ملّته من الأندلس
المشركين والاستخراج إليهم بالدخول إليها وشنّ الغارة فيها ، ففعل يليان ذلك ،
وجمع جمعا من أهل عمله ، فدخل بهم في مركبين وحلّ بساحل الجزيرة الخضراء ، فأغار
وقتل وسبى وغنم ، وأقام بها أياما ، ثم رجع بمن معه سالمين ، وشاع الخبر عند
المسلمين ، فأنسوا بيليان واطمأنّوا إليه ، وكان ذلك عقب سنة تسعين ، فكتب موسى بن
نصير إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يخبره بالذي دعاه إليه يليان من أمر
الأندلس ، ويستأذنه في اقتحامها ، فكتب إليه الوليد : أن خضها بالسرايا حتى ترى
وتختبر شأنها ، ولا تغرّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال ، فراجعه أنه ليس ببحر
زخّار ، وإنما هو خليج منه يبيّن للناظر ما خلفه ، فكتب إليه : وإن كان فلا بدّ من
اختباره بالسرايا قبل اقتحامه. فبعث موسى عند ذلك رجلا من مواليه من البرابرة اسمه
طريف يكنى أبا زرعة في أربعمائة رجل معهم مائة فرس سار بهم في أربعة مراكب ، فنزل
بجزيرة تقابل جزيرة الأندلس المعروفة بالخضراء التي هي اليوم معبر سفائنهم ودار
صناعتهم ، ويقال لها اليوم «جزيرة طريف» لنزوله بها ، وأقام بها أياما حتى التأم إليه أصحابه ، ثم مضى حتى أغار على الجزيرة فأصاب سبيا لم
ير موسى ولا أصحابه مثله حسنا ، ومالا جسيما ، وأمتعة ، وذلك في شهر رمضان سنة
إحدى وتسعين. فلما رأى الناس ذلك تسرّعوا إلى الدخول ، وقيل : دخل طريف في ألف رجل
، فأصاب غنائم وسبيا ، ودخل بعده أبو زرعة من البرابرة ، وليس بطريف ، في ألف رجل
منهم أيضا فأصابوا أهل الجزيرة قد تفرّقوا عنها ، فضرّموا عامّتها بالنار ،
وحرّقوا كنيسة بها كانت عندهم معظّمة ، وأصابوا سبيا يسيرا ، وقتلوا وانصرفوا
سالمين.
وقال الرازي : هو
أبو زرعة طريف بن مالك المعافري ، الاسم طبق الكنية.
قالوا : ثم عاود
يليان القدوم على موسى بن نصير محرّكا في الاقتحام على أهل
__________________
الأندلس ، وخبّره
بما كان منه ومن طريف أبي زرعة ، وما نالوه من أهلها ، وباشروه من طيبها ، فحمد
الله على ذلك ، واستجدّ عزما في إقحام المسلمين فيها ، فدعا مولى له كان على
مقدّمته يسمّى طارق بن زياد بن عبد الله فارسيّا همذانيّا ، وقيل : إنه ليس بمولى
لموسى ، وإنما هو رجل من صدف ، وقيل : مولى لهم ، وقد كان بعض عقبه بالأندلس
ينكرون ولاء موسى إنكارا شديدا ، وقيل : إنه بربري من نفزة ، فعقد له موسى ، وبعثه
في سبعة آلاف من المسلمين جلّهم البربر والموالي ، وليس فيهم عرب إلّا قليل ،
ووجّه معه يليان ، فهيأ له يليان المراكب ، فركب في أربعة سفن لا صناعة له غيرها ،
وحطّ بجبل طارق المنسوب إليه يوم سبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين ، في شهر أغسطس ، ثم صرف المراكب إلى من خلفه من أصحابه ، فركب من بقي من
الناس ، ولم تزل السفائن تختلف إليهم حتى توافى جميعهم عنده بالجبل ، وقيل : حلّ
طارق بجبله يوم الاثنين لخمس خلون من رجب من السنة في اثني عشر ألفا غير ستة عشر
رجلا من البرابرة ، ولم يكن فيهم من العرب إلّا يسير ، أجازهم يليان إلى ساحل
الأندلس في مراكب التجار من حيث لم يعلم بهم ، أوّلا أوّلا ، وركب أميرهم طارق
آخرهم.
قيل : وأصاب طارق
عجوزا من أهل الجزيرة ، فقالت له في بعض قولها : إنه كان لها زوج عالم بالحدثان
فكان يحدّثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا ، ويغلب عليه ، ويصف من نعته أنه ضخم
الهامة ، فأنت كذلك ، ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر ، فإن كانت بك هذه
العلامة فأنت هو ، فكشف طارق ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرته العجوز ،
فاستبشر بذلك هو ومن معه.
وذكر عن طارق أنه
كان نائما في المركب فرأى في منامه النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، والخلفاء
الأربعة أصحابه عليهم الصلاة والسلام يمشون على الماء حتى مرّوا به ، فبشّره
النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، بالفتح ، وأمره بالرفق بالمسلمين ، والوفاء
بالعهد. وقيل : إنه لمّا ركب البحر غلبته عينه فكان يرى النبيّ ، صلّى الله عليه
وسلّم ، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسيّ ، فيقول له
رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : يا طارق ، تقدّم لشأنك ، ونظر إليه وإلى
أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه ، فهبّ من نومه مستبشرا ، وبشّر أصحابه ، وثابت
إليه نفسه ثقة ببشراه ، فقويت نفسه ، ولم يشكّ في الظفر ، فخرج من البلد ، واقتحم
بسيط البلاد شانّا للغارة.
__________________
قالوا : ووقع على
لذريق الملك خبر اقتحام العرب ساحل الأندلس ، وتوالي غاراتهم على بلد الجزيرة ،
وأنّ يليان السبب فيها ، وكان يومئذ غائبا بأرض بنبلونة في غزاة له إلى البشكنس لأمر كان استصعب عليه بناحيتهم ،
فعظم عليه ، وفهم الأمر الذي منه أتي ، وأقبل مبادرا الفتق في جموعه ، حتى احتلّ
بمدينة قرطبة من المتوسطة ونزل القصر المدعوّ بها ببلاط لذريق المنسوب إليه ، وليس
لأنه بناه أو اخترعه ـ وهو بناء من تقدّمه من الملوك اتّخذوه لمنزلهم في قرطبة إذا
أتوها ـ إلّا أن العرب لمّا غلبوا لذريق وهذا القصر من مواطنه نسبوه إليه ، إذ لم
يعرفوا من بناه ، ويزعم العجم أنّ الذي بناه ملك منهم كان ساكنا بحصن المدور أسفل
قرطبة ، وخرج يوما يتصيّد حتى انتهى إلى مكان قرطبة ، وهي يومئذ خراب ، وكان في
موضع قصرها غيضة علّيق ملتفة أشبة ، فأرسل الملك بازيا له يكرم عليه على حجلة عنّت له من ناحية
الكدية المنسوبة بعد إلى أبي عبيدة ، فتخبّت في ذلك العلّيق ، ولجّ البازي في الانقضاض عليها
، فركض الملك خلفه حتى وقف على مكانه ليخرجه ، فأمر بقطعها لاستنقاذ بازيه ضنّا منه به ، فقطعت ، وبدا
له تحتها أساس قصر عظيم راقه رصّه ، وقد كان ذا همّة ، فأمر بالكشف عنه ، وتقصّي
حدوده طولا وعرضا ، وتتبّع أسّه وأصله ، فوجده مبنيّا من وجه الماء بصمّ الحجارة
فوق زرجون وضع بينها وبين الماء بأحكم صناعة ، فقال : هذا أثر ملك كريم ، وأنا
أولى من جدّده ، فأمر بإعادته إلى هيئته ، واتّخاذه منزلا من منازل راحاته ، فكان
إذا طاف بعمله أو مضى في متصيّده نزل فيه ، وصار السبب في بناء قرطبة إلى جنبه ،
ونزل الناس فيها ، وتوارث الملوك قصرها من بعد ، ونزله لذريق في زحفه إلى العرب
أياما ، والحشود من أعماله تتوافى إليه ، ثم مضى نحو كورة شذونة يبغي لقاءهم في
حشوده الكثيرة.
__________________
وقيل : إن آخر
ملوك الأندلس الذين تلتهم العرب غيطشة ، وإنه هلك عن أولاد ثلاثة صغار لم يصلحوا
للملك ، فضبطت أمّهم عليهم ملك والدهم بطليطلة ، وانحرف لذريق قائد الخيل لوالدهم
فيمن تبعه عنهم ، فصار بقرطبة ، فلما اقتحم طارق الأندلس نفر إليه لذريق واستنفر
إليه أجناد أهل الأندلس ، وكتب إلى أولاد غيطشة ـ وقد ترعرعوا ، وركبوا الخيل ،
واتّخذوا الرجال ـ يدعوهم إلى الاجتماع معه على حرب العرب ، ويحذّرهم من القعود
عنه ، ويحضّهم على أن يكونوا على عدوّهم يدا واحدة ، فلم يجدوا بدّا ، وحشدوا ، وقدموا
عليه بقرطبة ، فنزلوا أكناف قرية شقندة بعدوة نهرها قبالة القصر ، ولم يطمئنّوا
إلى الدخول على لذريق أخذا بالحزم ، إلى أن استتبّ جهاز لذريق وخرج ، فانضمّوا
إليه ، ومضوا معه وهم مرصدون لمكروهه. والأصح ـ والله أعلم ـ ما سبق أن ملك القوط
اجتمع للذريق ، واختلف في اسمه : فقيل رذريق ـ بالراء أوله ـ وقيل باللام لذريق
وهو الأشهر ، وقيل : إن أصله من أصبهان ويسمّى الأشبان ، والله أعلم.
قالوا : وعسكر
لذريق في نحو مائة ألف ذوي عدد وعدّة ، فكتب طارق إلى موسى يستمدّه ويعرفه أنه فتح
الجزيرة الخضراء فرضة الأندلس ، وملك المجاز إليها ، واستولى على أعمالها إلى
البحيرة ، وأنّ لذريق زحف إليه بما لا قبل له به ، إلّا أن يشاء الله ، وكان موسى
منذ وجّه طارقا لوجهه ، قد أخذ في عمل السفن حتى صار عنده منها عدّة كثيرة ، فحمل
إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مددا كملت بهم عدّة من معه اثني عشر ألفا
أقوياء على المغانم ، حراصا على اللقاء ، ومعهم يليان المستأمن إليهم في رجاله
وأهل عمله يدلّهم على العورات ، ويتجسّس الأخبار ، وأقبل نحوهم لذريق في جموع العجم وملوكها
وفرسانها ، فتلاقوا فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : إن هذا ابن الخبيثة قد غلب على
سلطاننا ، وليس من أهله ، وإنما كان من أتباعنا ، فلسنا نعدم من سيرته خبالا في
أمرنا ، وهؤلاء القوم الطارقون لا حاجة لهم في استيطان بلدنا ، وإنما مرادهم أن
يملئوا أيديهم من الغنائم ، ثم يخرجوا عنّا ، فهلمّ فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن
لقينا القوم لعلّهم يكفوننا إيّاه ، فإذا انصرفوا عنّا أقعدنا في ملكنا من يستحقّه
، فأجمعوا على ذلك ، والقضاء يبرم ما ارتئوه.
وكان لذريق ولّى
ميمنته أحد ابني غبطشة ، وميسرته الآخر ، فكانا رأسي الذين أداروا عليه الهزيمة.
وأدّاهما إلى ذلك طمع رجوع ملك والدهما إليهما.
وقيل : لمّا تقابل
الجيشان أجمع أولاد غيطشة على الغدر بلذريق ، وأرسلوا إلى طارق
__________________
يعلمونه أنّ لذريق
كان تابعا وخادما لأبيهم فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه وأنهم غير تاركي حقّهم لديه
، ويسألونه الأمان على أن يميلوا إليه عند اللقاء فيمن يتبعهم ، وأن يسلّم إليهم
إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها ، وكانت ثلاثة آلاف ضيعة نفائس مختارة ، وهي
التي سمّيت بعد ذلك صفايا الملوك ، فأجابهم إلى ذلك ، وعاقدهم عليه ، فالتقى
الفريقان من الغد ، فانحاز الأولاد إلى طارق ، فكان ذلك أقوى أسباب الفتح. وكان
الالتقاء على وادي لكّة من كورة شذونة ، فهزم الله الطاغية لذريق وجموعه ، ونصر
المسلمين نصرا لا كفاء له ، ورمى لذريق نفسه في وادي لكّة وقد أثقلته الجراح ، فلم يعلم له خبر ولم يوجد.
وقيل : نزل طارق
بالمسلمين قريبا من عسكر لذريق منسلخ شهر رمضان سنة ٩٢ ، فوجد لذريق علجا من أصحابه قد عرف نجدته ووثق ببأسه ليشرف على
عسكر طارق فيحزر عددهم ويعاين هيئاتهم ومراكبهم ، فأقبل ذلك العلج حتى طلع على
العسكر ، ثم شدّ في وجوه من استشرفه من المسلمين ، فوثبوا إليه ، فولّى منصرفا راكضا ، وفاتهم
بسبق فرسه ، فقال العلج للذريق أتتك الصور التي كشف لك عنها التابوت ، فخذ على
نفسك ، فقد جاءك منهم من لا يريد إلّا الموت أو إصابة ما تحت قدميك ، قد حرقوا
مراكبهم إياسا لأنفسهم من التعلّق بها ، وصفوا في السهل موطّنين أنفسهم على الثبات
، إذ ليس لهم في أرضنا مكان مهرب ، فرعب وتضاعف جزعه ، والتقى العسكران بالبحيرة ،
واقتتلوا قتالا شديدا ، إلى أن انهزمت ميمنة لذريق وميسرته ، انهزم بهما أبناء
غيطشة ، وثبت القلب بعدهما قليلا وفيه لذريق ، فعذّر أهله بشيء من قتال ، ثم انهزموا ، ولذريق أمامهم ، فاستمرّت
هزيمتهم ، وأذرع المسلمون القتل فيهم ، وخفي أثر لذريق فلا يدرى أمره ، إلّا أن
المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقد وهو راكبه ، وعليه سرج له من ذهب مكلّل
بالياقوت والزّبرجد ، ووجدوا أحد خفّيه وكان من ذهب مكلّل بالدّرّ والياقوت
والزبرجد ، وقد ساخ الفرس في طين وحمأة ، وغرق العلج ، فثبت أحد خفّيه في الطين فأخذ ، وخفي الآخر
، وغاب شخص العلج ولم يوجد حيّا ولا ميتا ، والله أعلم بشأنه.
__________________
وقال الرازي :
كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان ، فاتصلت الحرب بينهم إلى يوم
الأحد خمس خلون من شوّال بعد تتمة ثمانية أيام ، ثم هزم الله المشركين ، فقتل منهم
خلق عظيم ، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبسة بتلك الأرض. قالوا : وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجلّ قدره ،
فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم ويعرفون من
دونهم بخواتم الفضّة ، ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس ، فجمع طارق الفيء وخمّسة ،
ثم اقتسمه أهله على تسعة آلاف من المسلمين سوى العبيد والأتباع ، وتسامع الناس من
أهل برّ العدوة بالفتح على طارق بالأندلس وسعة المغانم فيها ، فأقبلوا نحوه من كل
وجه ، وخرقوا البحر على كل ما قدروا عليه من وركب وقشر ، فلحقوا بطارق ، وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون
والقلاع ، وتهاربوا من السهل ، ولحقوا بالجبال ، ثم أقبل طارق حتى نزل بأهل مدينة
شذونة ، فامتنعوا عليه ، فشدّ الحصر عليهم حتى نهكهم وأضرّهم ، فتهيّأ له فتحها عنوة ، فحاز منها غنائم ، ثم
مضى منها إلى مدوّر ، ثم عطف على قرمونة فمرّ بعينه المنسوبة إليه ، ثم مال
على إشبيلية فصالحه أهلها على الجزية ، ثم نازل أهل إستجة وهم في قوّة ومعهم فلّ
عسكر لذريق ، فقاتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتل والجراح بالمسلمين ، ثم إن الله
تعالى أظهر المسلمين عليهم ، فانكسروا ، ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حربا مثلها
، وأقاموا على الامتناع إلى أن ظفر طارق بالعلج صاحبها ، وكان مغترّا سيىء التدبير
، فخرج إلى النهر لبعض حاجاته وحده ، فصادف طارقا هناك قد أتى لمثل ذلك ، وطارق لا
يعرفه ، فوثب عليه طارق في الماء ، فأخذه وجاء به إلى العسكر ، فلما كاشفه اعترف
له بأنه أمير المدينة ، فصالحه طارق على ما أحبّ ، وضرب عليه الجزية ، وخلّى سبيله
، فوفى بما عاهد عليه ، وقذف الله الرّعب في قلوب الكفرة لمّا رأوا طارقا يوغل في
البلاد. وكانوا يحسبونه راغبا في المغنم عاملا على القفول ، فسقط في أيديهم ، وتطايروا عن السهول إلى المعاقل ، وصعد ذوو القوّة منهم
إلى دار مملكتهم طليطلة ، قيل : وكان من إرهاب طارق لنصارى الأندلس وحيله أن تقدّم
إلى أصحابه في تفصيل لحوم القتلى بحضرة أسراهم وطبخها في القدور ، يرونهم أنهم
يأكلونها ، فجعل من انطلق من الأسرى يحدّثون من وراءهم بذلك فتمتلىء منه قلوبهم
رعبا ويجفلون فرارا ، قالوا : وقال يليان لطارق : قد فضضت جيوش القوم ،
__________________
ورعبوا ، فاصمد
لبيضتهم ، وهؤلاء أدلّاء من أصحابي مهرة ، ففرّق جيوشك معهم في
جهات البلاد ، واعمد أنت إلى طليطلة حيث معظمهم ، فاشغل القوم عن النظر في أمرهم
والاجتماع إلى أولي رأيهم ، ففرّق طارق جيوشه معهم من إستجة ، فبعث مغيثا الروميّ مولى الوليد بن عبد الملك
إلى قرطبة ، وكانت من أعظم مدائنهم ، في سبعمائة فارس ؛ لأنّ المسلمين ركبوا جميعا
خيل العجم ، ولم يبق فيهم راجل ، وفضلت عنهم الخيل ، وبعث جيشا آخر إلى مالقة ،
وآخر إلى غرناطة مدينة إلبيرة ، وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيّان يريد طليطلة
، وقد قيل : إن الذي سار لقرطبة طارق بنفسه ، لا مغيث ، قالوا : فكمنوا بعدوة نهر
شقندة في غيضة أرز شامخة ، وأرسلت الأدلاء فأمسكوا راعي غنم فسئل عن قرطبة فقال :
رحل عنها عظماء أهلها إلى طليطلة ، وبقي فيها أميرها في أربعمائة فارس من حماتهم
مع ضعفاء أهلها ، وسئل عن سورها فأخبر أنه حصين عال فوق أرضها إلّا أنه فيه ثغرة
ووصفها لهم ، فلما أجنّهم الليل أقبلوا نحو المدينة ووطّأ الله لهم أسباب الفتح بأن أرسل
السماء برذاذ أخفى دقدقة حوافر الخيل ، وأقبل المسلمون رويدا حتى عبروا نهر قرطبة
ليلا ، وقد أغفل حرس المدينة احتراس السور ، فلم يظهروا عليه ضيقا بالذي نالهم من
المطر والبرد ، فترجّل القوم حتى عبروا النهر ، وليس بين النهر والسور إلّا مقدار
ثلاثين ذراعا أو أقلّ ، وراموا التعلّق بالسور فلم يجدوا متعلّقا ، ورجعوا إلى
الراعي في دلالتهم على الثّغرة التي ذكرها ، فأراهم إياها. فإذا بها غير متسهلة
التسنّم ، إلّا أنه كانت في أسفلها شجرة تين مكّنت أفنانها من التعلّق ، بها. فصعد
رجل من أشدّاء المسلمين في أعلاها ، ونزع مغيث عمامته فناوله طرفها ، وأعان بعض
الناس بعضا حتى كثروا على السور ، وركب مغيث ووقف من خارج ، وأمر أصحابه المرتقين
للسور بالهجوم على الحرس ، ففعلوا ، وقتلوا نفرا منهم ، وكسروا أقفال الباب ،
وفتحوه ، فدخل مغيث ومن معه وملكوا المدينة عنوة ، فصعد إلى البلاط منزل الملك ومعه أدلّاؤه ، وقد بلغ الملك
دخولهم المدينة. فبادر بالفرار عن البلاد في أصحابه ، وهم زهاء أربعمائة ، وخرج إلى كنيسة بغربيّ
المدينة ، وتحصّن بها ، وكان الماء يأتيها تحت الأرض من عين في سفح جبل ، ودافعوا
عن أنفسهم. وملك مغيث المدينة وما حولها ، وقال من ذهب إلى أن طارقا لم يحضر فتح
قرطبة وأنّ فاتحها مغيث : إنه كتب إلى طارق بالفتح ، وأقام على محاصرة العلج
بالكنيسة ثلاثة أشهر ، حتى ضاق من ذلك وطال عليه ، فتقدّم إلى أسود من عبيده اسمه
رباح ،
__________________
وكان ذا بأس ونجدة
، بالكمون في جنان إلى جانب الكنيسة ملتفّة الأشجار ، لعلّه أن يظفر له بعلج يقف
به على خبر القوم ، ففعل ، ودعاه ضعف عقله إلى أن صعد في بعض تلك الأشجار ، وذلك
أيام الثمر ، ليجني ما يأكله ، فبصر به أهل الكنيسة ، وشدّوا عليه ، فأخذوه فملكوه
، وهم في ذلك هائبون له منكرون لخلقه ، إذ لم يكونوا عاينوا أسود قبله ، فاجتمعوا
عليه ، وكثر لغطهم وتعجّبهم من خلقه ، وحسبوا أنه مصبوغ أو مطليّ ببعض الأشياء
التي تسوّد ، فجرّدوه وسط جماعتهم ، وأدنوه إلى القناة التي منها كان يأتيهم الماء
، وأخذوا في غسله وتدليكه بالحبال الحرش ، حتى أدموه وأعنتوه ، فاستغاثهم ، وأشار إلى أن الذي به خلقة من بارئهم ، عزّ
وجلّ ، ففهموا إشارته ، وكفّوا عنه وعن غسله واشتدّ فزعهم منه ، ومكث في إسارهم سبعة أيام لا
يتركون التجمّع عليه والنظر إليه إلى أن يسّر الله الخلاص ليلا ، ففرّ وأتى الأمير
مغيثا فخبّره بشأنه وعرّفه بالذي اطّلع عليه من شأنهم ، وموضع الماء الذي ينتابونه ، ومن أيّ ناحية يأتيهم ،
فأمر أهل المعرفة بطلب تلك القناة في الجهة التي أشار إليها الأسود حتى أصابوها ،
فقطعوها عن جريتها إلى الكنيسة ، وسدّوا منافذها ، فأيقنوا بالهلاك حينئذ ، فدعاهم
مغيث إلى الإسلام أو الجزية ، فأبوا عليه ، فأوقد النار عليهم حتى أحرقهم فسمّيت
كنيسة الحرقى ، والنصارى تعظّمها لصبر من كان فيها على دينهم من شدّة البلاء ، غير
أنّ العلج أميرهم رغب بنفسه عن بليتهم عند إيقان الهلاك ، ففرّ عنهم وحده ، وقد
استغفلهم ورام اللحاق بطليطلة ، فبلغ خبره إلى مغيث ، فبادر الركض خلفه وحده ، فلحقه بقرب قرية
تطليرة هاربا وحده ، وتحته فرس أصفر ذريع الخطو ، وحرّك مغيث خلفه ، فالتفت العلج
ودهش لمّا رأى مغيثا قد رهقه ، وزاد في حثّ فرسه فقصر به ، فسقط عن الفرس واندقّ عنقه ، فقعد على ترسه مستأسرا قد هاضته السقطة ، فقبض عليه مغيث ، وسلبه سلاحه ، وحبسه عنده ليقدم به على
أمير المؤمنين الوليد ، ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره ؛ لأنّ بعضهم استأمن وبعضهم
هرب إلى جلّيقيّة ، وفي رواية أنّ مغيثا استنزل أهل الكنيسة بعد أسره لملكهم ،
فضرب أعناقهم جميعا ، فمن أجل ذلك عرفت بكنيسة الأسرى وأنّ مغيثا جمع يهود قرطبة
فضمهم إلى مدينتها استنامة إليهم ، دون النصارى ، للعداوة بينهم ، وأنه اختار
القصر لنفسه ، والمدينة لأصحابه.
وأما من وجّه إلى
مالقة ففتحوها ، ولجأ علوجها إلى جبال هنالك ممتنعة ، ثم لحق ذلك
__________________
الجيش بالجيش
المتوجّه إلى إلبيرة ، فحاصروا مدينتها غرناطة ، فافتتحوها عنوة ، وضمّوا اليهود
إلى قصبة غرناطة ، وصار ذلك لهم سنّة في كل بلد يفتحونه أن يضمّوا يهوده إلى القصبة مع قطعة من
المسلمين لحفظها ، ويمضي معظم الناس لغيرها ، وإذا لم يجدوا يهودا وفّروا عدد
المسلمين المخلّفين لحفظ ما فتح ، ثم صنعوا عند فتح كورة ريّة التي منها مالقة مثل
ذلك.
ومضى الجيش إلى
تدمير ، وتدمير : اسم العلج صاحبها ، سمّيت به ، واسم قصبتها أريولة ، ولها شأن في
المنعة ، وكان ملكها علجا داهية ، وقاتلهم مضحيا ، ثم استمرّت عليه الهزيمة في
فحصها ، فبلغ السيف في أهلها مبلغا عظيما أفنى أكثرهم ولجأ العلج إلى أريولة في
يسير من أصحابه لا يغنون شيئا ، فأمر النساء بنشر الشعور وحمل القصب والظهور على
السور في زيّ القتال متشبّهات بالرجال ، وتصدّر قدّامهنّ في بقية أصحابه يغالط
المسلمين في قوته على الدفاع عن نفسه ، فكره المسلمون مراسه لكثرة من عاينوه على السور ، وعرضوا عليه الصلح ، فأظهر
الميل إليه ، ونكّر زيّه ، فنزل إليهم بأمان على أنه رسول ، فصالحهم على أهل بلده
، ثم على نفسه ، وتوثق منهم ، فلما تمّ له من ذلك ما أراد عرّفهم بنفسه ، واعتذر
إليهم بالإبقاء على قومه ، وأخذهم بالوفاء بعهده ، وأدخلهم المدينة ، فلم يجدوا
فيها إلّا العيال والذّرّيّة ، فندموا على الذي أعطوه من الأمان ، واسترجحوه فيما احتال به ، ومضوا على الوفاء له ، وكان الوفاء عادتهم
، فسلمت كورة تدمير من معرّة المسلمين بتدبير تدمير ، وصارت كلّها صلحا ليس فيها
عنوة ، وكتبوا إلى أميرهم طارق بالفتح ، وخلّفوا بقصبة البلد رجالا منهم ، ومضى
معظمهم إلى أميرهم لفتح طليطلة.
قال ابن حيّان :
وانتهى طارق إلى طليطلة دار مملكة القوط ، فألفاها خالية قد فرّ عنها أهلها ولجؤوا إلى مدينة بها خلف الجبل ، فضمّ اليهود إلى طليطلة
، وخلّف بها رجالا من أصحابه ، ومضى خلف من فرّ من أهل طليطلة فسلك وادي الحجارة ،
ثم استقبل الجبل فقطعه من فجّ سمّي به بعد ، فبلغ مدينة المائدة خلف الجبل ، وهي
المنسوبة لسليمان بن داود ، عليهما الصلاة والسلام ، وهي خضراء من زبرجد ، حافاتها منها وأرجلها ، وكان لها ثلاثمائة وخمسة وستّون
رجلا ، فأحرزها عنده ، ثم مضى إلى المدينة التي تحصّنوا بها خلف الجبل ، فأصاب بها
حليا ومالا ، ورجع ولم يتجاوزها إلى طليطلة سنة ثلاث وتسعين. وقيل :
__________________
إنه لم يرجع ، بل
اقتحم أرض جلّيقية واخترقها حتى انتهى إلى مدينة أسترقة ، فدوّخ الجهة ، وانصرف
إلى طليطلة ، والله أعلم. وقيل : إن طارقا دخل الأندلس بغير أمر مولاه موسى بن
نصير ، فالله أعلم. قال بعضهم : وكانت إقامته في الفتوح وتدويخ البلاد إلى أن وصل
سيّده موسى بن نصير سنة ، وكان ما سيذكر.
وأنشد في المسهب
وابن اليسع في «المغرب» لطارق من قصيدة قالها في الفتح : الطويل]
ركبنا سفينا
بالمجاز مقيّرا
|
|
عسى أن يكون
الله منّا قد اشترى
|
نفوسا وأموالا
وأهلا بجنّة
|
|
إذا ما اشتهينا
الشيء فيها تيسّرا
|
ولسنا نبالي كيف
سالت نفوسنا
|
|
إذا نحن أدركنا
الذي كان أجدرا
|
قال ابن سعيد :
وهذه الأبيات ممّا يكتب لمراعاة قائلها ومكانته ، لا لعلوّ طبقتها ، انتهى.
وأما أولاد غيطشة
فإنهم لمّا صاروا إلى طارق بالأمان ، وكانوا سبب الفتح حسبما تقدّم ، قالوا لطارق
: أنت أمير نفسك أم فوقك أمير؟ فقال : بل على رأسي أمير ، وفوق ذلك الأمير أمير
عظيم ، فاستأذنوه في اللّحاق بموسى بن نصير بإفريقية ليؤكّد سببهم به ، وسألوه الكتاب
إليه بشأنهم معه ، وما أعطاهم من عهده ، ففعل. وساروا نحو موسى فتلقّوه في انحداره
إلى الأندلس بالقرب من بلاد البربر وعرّفوه بشأنهم ، ووقف على ما خاطبه به طارق في
ذمّتهم وسابقتهم ، فأنفذهم إلى أمير المؤمنين الوليد بالشام بدمشق ، وكتب إليه بما
عرّفه به طارق من جميل أثرهم ، فلمّا وصلوا إلى الوليد أكرمهم وأنفذ لهم عهد طارق
في ضياع والدهم ، وعقد لكلّ واحد منهم سجلّا ، وجعل لهم أن لا يقوموا لداخل عليهم.
فقدموا الأندلس ، وحازوا ضياع والدهم أجمع ، واقتسموها على موافقة منهم ، فصار
منها لكبيرهم ألمند ألف ضيعة في غرب الأندلس ، فسكن من أجلها إشبيلية مقتربا منها
، وصار لأرطباش ألف ضيعة ، وهو تلوه في السنّ ، وضياعه في موسّطة الأندلس ، فسكن
من أجلها قرطبة ، وصار لثالثهم وقلة ألف ضيعة في شرقيّ الأندلس وجهة الثغر ، فسكن
من أجلها مدينة طليطلة ، فكانوا على هذه الحال صدر الدولة العربية ، إلى أن هلك
ألمند كبيرهم ، وخلّف ابنته سارة المعروفة بالقوطية وابنين
__________________
صغيرين ، فبسط يده
أرطباش على ضياعهم ، وضمّها إلى ضياعه ، وذلك في خلافة أمير المؤمنين هشام بن عبد
الملك ، فأنشأت سارة بنت ألمند مركبا بإشبيلية حصينا كامل العدّة ، وركبت فيه مع
أخويها الصغيرين تريد الشام حتى نزلت بعسقلان من ساحلها ثم قصدت باب الخليفة هشام
بداره بدمشق ، فأنهت خبرها ، وشكت ظلامتها من عمّها وتعدّيه عليها ، واحتجّت بالعهد المنعقد لأبيها وأخويه على الخليفة الوليد
بن عبد الملك ، فأوصلها إلى هشام نفسه ، وأعجبه صورتها وحزمها. وكتب إلى حنظلة بن
صفوان عامله بإفريقية بإنصافها من عمّها أرطباش وإمضائها وأخويها على سنّة الميراث
فيما كان في يد والدها ممّا قاسم فيه أخويه ، فأنفذ لها الكتاب بذلك إلى عامله
بالأندلس أبي الخطار ابن عمّه ، فتمّ لها ذلك ، وأنكحها الخليفة هشام من عيسى بن
مزاحم ، فابتنى بها بالشام ، ثم قدم بها إلى الأندلس ، وقام لها في دفاع
عمّها أرطباش عن ضياعها ، فنال بها نعمة عظيمة ، وولد له منها ولداه إبراهيم
وإسحاق فأدركا الشرف المؤثّل والرياسة بإشبيلية ، وشهرا ونسلهما بالنسبة إلى أمهما سارة
القوطية. وكانت أيام وفادتها على الخليفة هشام رأت عنده حفيده عبد الرحمن بن
معاوية الداخل بعد إلى الأندلس ، وعرفها ، فتوصّلت إليه لمّا ملك الأندلس ووفدت إليه ، فاعترف بذمامها وأكرمها ،
وأذن لها في الدخول إلى قصره متى جاءت إلى قرطبة فيجدّد تكرمتها ولا يحجب عياله
منها. وتوفي زوجها عيسى في السنة التي ملك فيها عبد الرحمن الأندلس ، فزوّجها عبد
الرحمن من عمير بن سعيد.
وكان لها ولأبيها
ألمند وعمّها أرطباش في صدر الدولة العربية بالأندلس أخبار ملوكية : فمنها ما حكاه
الفقيه محمد بن عمر بن لبابة المالكي أنه قصد أرطباش يوما إلى منزله عشرة من رؤساء
رجال الشاميين فيهم الصّميل وابن الطّفيل وأبو عبدة وغيرهم ، فأجلسهم على الكراسي
، وبالغ في تكريمهم ، ودخل على أثرهم ميمون العابد جدّ بني حزم ، وكان في عداد
الشاميين ، إلّا أنه كان شديد الانقباض عنهم لزهده وورعه ، فلما بصر به أرطباش قام
إليه دونهم إعظاما ، ورقاه إلى كرسيه الذي كان يجلس عليه ، وكان ملبّسا صفائح
الذهب ، وجذبه ليجلسه مكانه ، فامتنع عليه ميمون ، وقعد على الأرض ، فقعد أرطباش
معه عليها ، وأقبل عليه قبلهم ، فقال له : يا سيدي ، ما الذي جاء بك إلى مثلي؟
فقال له : ما تسمعه ، إنّا قدمنا إلى هذا البلد غزاة نحسب أن مقامنا فيه لا يطول ،
فلم نستعدّ للمقام ولا كثّرنا من العدّة ثم حدثت بعدنا
__________________
على موالينا وفي
أجنادنا ما قد أيسنا معه من الرجوع إلى أوطاننا ، وقد وسّع الله عليك ، فأحبّ أن
تدفع إليّ ضياعا من ضياعك أعتمرها بيدي ، وأؤدي إليك الحقّ منها ، وآخذ الفضل لي
طيبا أتعيّش منه ، فقال : لا أرضى لك بالمساهمة ، بل أهب لك هبة مسوّغة ، ثم دعا
بوكيل له فقال له : سلّم إليه المجشر الذي لنا على وادي شوش بما لنا فيه من العبيد والدواب
والبقر وغير ذلك ، وادفع إليه الضيعة التي بجيّان ، فتسلّم ميمون الضيعتين وورثهما
ولده ، وإليهم نسبت قلعة حزم ، فشكره ميمون وأثنى عليه ، وقام عنه. وقد أنف الصميل
من قيامه إليه ، فأقبل على أرطباش وقال له : كنت أظنّك أرجح وزنا ، أدخل عليك وأنا
سيد العرب بالأندلس في أصحابي هؤلاء ، وهم سادة الموالي ، فلا تزيدنا من الكرامة
على الإقعاد على أعوادك هذه ، ويدخل هذا الصّعلوك فتصير من إكرامه إلى حيث صرت؟
فقال له : يا أبا جوشن ، إنّ أهل دينك يخبروننا أن أدبهم لم يرهفك ولو كان لم تنكر عليّ ما فعلته ، إنكم ، أكرمكم الله ،
إنما تكرمون لدنياكم وسلطانكم ، وهذا إنما أكرمته لله تعالى : فقد روينا عن المسيح
، عليه السلام ، أنه قال : من أكرمه الله تعالى من عباده بالطاعة له وجبت كرامته
على خلقه ، فكأنما ألقمه حجرا. وكان الصميل أمّيّا ، فلذلك عرّض به ، فقال له
القوم : دعنا من هذا ، وانظر فيما قصدنا له ، فحاجتنا حاجة الرجل الذي قصدك
فأكرمته ، فانظر في شأننا ، فقال له : أنتم ملوك الناس ، وليس يرضيكم إلّا الكثير
، وها أنا أهب لكم مائة ضيعة تقتسمونها عشرا عشرا ، وكتب لهم بها ، وأمر وكلاءه
بتسليمها إليهم ، فكان القوم يرونها من أطيب أملاكهم ، انتهى.
قال ابن حيّان
وغيره : ولمّا بلغ موسى بن نصير ما صنعه طارق بن زياد وما أتيح له من الفتوح حسده
، وتهيّأ للمسير إلى الأندلس فعسكر وأقبل نحوها ومعه جماعة الناس وأعلامهم ، وقيل
: إنهم كانوا ثمانية عشر ألفا ، وقيل : أكثر ، فكان دخوله إلى الأندلس في شهر
رمضان سنة ثلاث وتسعين ، وتنكّب الجبل الذي حلّه طارق ، ودخل على الموضع المنسوب إليه
المعروف الآن بجبل موسى ، فلما احتلّ الجزيرة الخضراء قال : ما كنت لأسلك طريق
طارق ، ولا أقفو أثره ، فقال له العلوج الأدلّاء أصحاب يليان : نحن نسلكك طريقا هو أشرف من طريقه ، وندلّك على مدائن هي أعظم خطرا
وأعظم خطبا وأوسع غنما من مدائنه ، لم تفتح
__________________
بعد ، يفتحها الله
عليك ، إن شاء الله تعالى ، فملىء سرورا. وكان شفوف طارق قد غمّه ، فساروا به في جانب ساحل شذونة ، فافتتحها
عنوة ، وألقوا بأيديهم إليه ، ثم سار إلى مدينة قرمونة ، وليس بالأندلس أحصن منها
، ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال ، فدخلها بحيلة توجّهت بأصحاب يليان ،
دخلوا إليهم كأنهم فلّال وطرقهم موسى بخيله ليلا ففتحوا لهم الباب ، وأوقعوا
بالأحراس ، فملكت المدينة. ومضى موسى إلى إشبيلية جارتها فحاصرها ، وهي أعظم مدائن
الأندلس شأنا ، وأعجبها بنيانا ، وأكثرها آثارا ، وكانت دار الملك قبل القوطيين ،
فلما غلب القوطيون على ملك الأندلس حوّلوا السلطان إلى طليطلة ، وبقي رؤساء الدين
فيها أعني إشبيلية ، فامتنعت أشهرا على موسى ، ثم فتحها الله عليه ، فهرب العلوج
عنها إلى مدينة باجة ، فضمّ موسى يهودها إلى القصبة ، وخلّف بها رجالا ، ومضى من
إشبيلية إلى لقنت إلى مدينة ماردة ، وكانت أيضا دار مملكة لبعض ملوك الأندلس
في سالف الدهر ، وهي ذات عزّ ومنعة ، وفيها آثار وقصور ومصانع وكنائس جليلة القدر
فائقة الوصف ، فحاصرها أيضا ، وكان في أهلها منعة شديدة وبأس عظيم ، فنالوا من
المسلمين دفعات ، وآذوهم ، وعمل موسى دبّابة دبّ المسلمون تحتها إلى برج من أبراج
سورها جعلوا ينقبونه ، فلمّا قلعوا الصخر أفضوا بعده إلى العمل المدعو بلسان العجم
ألاشه ماشه ، فنبت عنه معاولهم وعدّتهم ، وثار بهم العدوّ على غفلة ، فاستشهد بأيديهم قوم
من المسلمين تحت تلك الدبابة ، فسمّي ذلك الموضع برج الشهداء ، ثم دعا القوم إلى
السّلم ، فترسل إليه في تقريره قوم من أماثلهم أعطاهم الأمان واحتال في توهيمهم في
نفسه ، فدخلوا عليه أول يوم ، فإذا هو أبيض الرأس واللحية كما نصل خضابه ، فلم يتّفق لهم معه أمر ، وعاودوه قبل الفطر بيوم ،
فإذا هو قد قنأ لحيته بالحنّاء فجاءت كضرام عرفج ، فعجبوا من ذلك ، وعاودوه يوم الفطر
، فإذا هو قد سوّد لحيته ، فازداد تعجّبهم منه ، وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا
استعماله ، فقالوا لقومهم : إنّا نقاتل أنبياء يتخلّقون كيف شاؤوا ، ويتصوّرون في
كل صورة أحبّوا ؛ كان ملكهم شيخا فقد صار شابّا ، والرأي أن نقاربه ونعطيه ما
يسأله ، فما لنا به طاقة ، فأذعنوا عند ذلك ، وأكملوا صلحهم مع موسى على أنّ أموال
القتلى يوم الكمين ، وأموال الهاربين إلى جلّيقيّة ، وأموال الكنائس وحليّها
للمسلمين.
__________________
ثم فتحوا له
المدينة يوم الفطر سنة أربع وتسعين فملكها. ثم إن عجم إشبيلية انتقضوا على
المسلمين ، واجتمعوا من مدينتي باجة ولبلة إليهم ، فأوقعوا بالمسلمين ، وقتلوا
منهم نحو ثمانين رجلا ، وأتى فلّهم الأمير موسى وهو بماردة ، فلمّا أن فتحها وجّه
ابنه عبد العزيز بن موسى في جيش إليهم ففتح إشبيلية وقتل أهلها ، ونهض إلى لبلة
ففتحها ، واستقامت الأمور فيما هنالك ، وعلا الإسلام ، وأقام عبد العزيز بإشبيلية
، وتوجّه الأمير موسى من ماردة في عقب شوال من العام المؤرّخ يريد طليطلة ، وبلغ
طارقا خبره ، فاستقبله في وجوه الناس ، فلقيه في موضع من كورة طلبيرة ، وقيل : إن
موسى تقدّم من ماردة فدخل جلّيقية من فجّ نسب إليه ، فخرقها حتى وافى طارق بن زياد
صاحب مقدمته بمدينة أسترقة ، فغضّ منه علانية ، وأظهر ما بنفسه عليه من حقد ،
والله أعلم ؛ وقيل : لمّا وقعت عينه عليه نزل إليه إعظاما له ، فقنّعه موسى
بالسّوط ، ووبّخه على استبداده عليه ومخالفته لرأيه. وساروا إلى طليطلة ، فطالبه موسى
بأداء ما عنده من مال الفيء وذخائر الملوك ، واستعجله بالمائدة ، فأتاه بها وقد
خلع من أرجلها رجلا وخبّأه عنده ، فسأله موسى عنه ، فقال : لا علم لي به ، وهكذا
أصبتها ، فأمر موسى فجعل لها رجل من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها يظهر عليه
التعمّل ، ولم يقدر على أحسن منه ، فأخلّ بها.
وقال ابن الفرضي :
موسى بن نصير صاحب فتح الأندلس لخميّ يكنى أبا عبد الرحمن ، يروي عن تميم الداريّ
، وروى عنه يزيد بن مسروق اليحصبي.
وقيل : غزا موسى
بن نصير في المحرّم سنة ثلاث وتسعين ، فأتى طنجة ، ثم عبر على الأندلس ، فأداخها ، لا يأتي على مدينة إلّا فتحها ونزل
أهلها على حكمه ، وسار إلى قرطبة ، ثم قفل على الأندلس سنة أربع وتسعين ، فأتى إفريقية ، وسار عنها سنة
خمس وتسعين إلى الشام يؤمّ الوليد بن عبد الملك يجرّ الدنيا بما احتمله من غنائم
الأندلس من الأموال والأمتعة يحملها على العجل والظّهر ، ومعه ثلاثون ألف رأس من
السبي ، فلم يلبث أن هلك الوليد بن عبد الملك وولي سليمان ، فنكب موسى نكبا أدّاه
إلى المتربة ، فهلك في نكبته تلك بوادي القرى سنة سبع وتسعين.
قال ابن حيّان :
وهذه المائدة المنوّه باسمها المنسوبة إلى سليمان النبيّ ، عليه الصلاة والسلام ،
لم تكن له فيما يزعم رواة العجم ، وإنما أصلها أن العجم في أيام ملكهم كان أهل
__________________
الحسبة منهم إذا مات أحدهم أوصى بمال للكنائس ، فإذا اجتمع عندهم
ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضّة
، تحمل الشّمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيام المناسك ،
ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها ، فكانت تلك المائدة بطليطلة
مما صيغ في هذه السبيل ، وتأنّقت الأملاك في تفخيمها ، يزيد الآخر منهم على الأوّل
، حتى برزت على جميع ما اتّخذ من تلك الآلات ، وطار الذكر مطاره عنها ، وكانت
مصوغة من خالص الذهب ، مرصّعة بفاخر الدّرّ والياقوت والزّمرّد ، لم تر الأعين
مثلها ، وبولغ في تفخيمها من أجل دار المملكة ، وأنه لا ينبغي أن تكون بموضع آلة
جمال أو متاع مباهاة إلّا دون ما يكون فيها ، وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة ،
فأصابها المسلمون هنالك ، وطار النبأ الفخم عنها. وقد كان طارق ظنّ بموسى أميره
مثل الذي فعله من غيرته على ما تهيّأ له ومطالبته له بتسليم ما في يده إليه ، فاستظهر
بانتزاع رجل من أرجل هذه المائدة خبّأه عنده ، فكان من فلجه به على موسى عدوّه عند الخليفة إذ تنازعا عنده بعد الأثر
في جهادهما ما هو مشهور ، انتهى.
وقال بعض
المؤرّخين : إن المائدة كانت مصنوعة من الذهب والفضة ، وكان عليها طوق لؤلؤ وطوق
ياقوت وطوق زمرّد ، وكلّها مكلّلة بالجواهر ، انتهى.
وما ذكره ابن
حيّان من أن الذي نكب موسى بن نصير هو سليمان بن عبد الملك صواب ، وأمّا ما حكاه
ابن خلّكان من أن المنكب له الوليد فليس بصحيح ، والله أعلم.
رجع إلى كلام ابن
حيّان ـ قالوا : ثم إن موسى اصطلح مع طارق ، وأظهر الرضا عنه ، وأقرّه على مقدمته
على رسمه ، وأمره بالتقدّم أمامه في أصحابه ، وسار موسى خلفه في جيوشه ، فارتقى
إلى الثغر الأعلى ، وافتتح سرقسطة وأعمالها ، وأوغل في البلاد ، وطارق أمامه ، لا
يمرّان بموضع إلّا فتح عليهما ، وغنّمهما الله تعالى ما فيه. وقد ألقى الله الرعب
في قلوب الكفرة فلم يعارضهما أحد إلّا بطلب صلح ، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ، ويكمل ابتداءه ،
ويوثّق للناس ما عاهدوه عليه ، فلما صفا القطر كلّه وطامن نفوس من أقام
__________________
على سلمه ، ووطّأ
لأقدام المسلمين في الحلول به ، أقام لتمييز ذلك وقتا ، وأمضى المسلمين إلى إفرنجة
ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا ، حتى انتهوا إلى وادي رودنة ، فكان أقصى أثر
العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم. وقد دوّخت بعوث طارق وسراياه بلد إفرنجة فملكت
مدينتي برشلونة وأربونة وصخرة أبنيون وحصن لوذون على وادي ردونة ، فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدّا ، وذكر أن مسافة
ما بين قرطبة وأربونة من بلاد إفرنجة ثلاثمائة فرسخ وخمسة وثلاثون فرسخا ، وقيل :
ثلاثمائة فرسخ وخمسون فرسخا ، ولمّا أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم قارله ملك
الإفرنجة بالأرض الكبيرة ، وانزعج لانبساطهم ، فحشد لهم ، وخرج عليهم في جمع عظيم
، فلما انتهى إلى حصن لوذون وعلمت العرب بكثرة جموعه زالت عن وجهه ، وأقبل حتى
انتهى إلى صخرة أبنيون ، فلم يجد بها أحدا ، وقد عسكر المسلمون قدّامه فيما بين
الأجبل المجاورة لمدينة أربونة ، وهم بحال غرّة لا عيون لهم ولا طلائع ، فما شعروا
حتى أحاط بهم عدوّ الله قارله ، فاقتطعهم عن اللجإ إلى مدينة أربونة ، وواضعهم
الحرب ، فقاتلوا قتالا شديدا استشهد فيه جماعة منهم ، وحمل جمهورهم على صفوفه حتى
اخترقوها ، ودخلوا المدينة ، ولاذوا بحصانتها ، فنازلهم بها أياما أصيب له فيها
رجال ، وتعذّر عليه المقام ، وخامره ذعر وخوف مدد للمسلمين ، فزال عنهم راحلا إلى
بلده ، وقد نصب في وجوه المسلمين حصونا على وادي ردونة شكّها بالرجال فصيّرها ثغرا
بين بلده والمسلمين ، وذلك بالأرض الكبيرة خلف الأندلس.
وقال الحجاري في
المسهب : إنّ موسى بن نصير نصره الله نصرا ما عليه مزيد ، وأجفلت ملوك النصارى بين
يديه ، حتى خرج على باب الأندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض الكبيرة ،
فاجتمعت الإفرنج إلى ملكها الأعظم قارله ، وهذه سمة لملكهم ، فقالت له : ما هذا
الخزي الباقي في الأعقاب؟ كنّا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس ، حتى أتوا
من مغربها ، واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدّة والعدد بجمعهم
القليل ، وقلّة عدّتهم ، وكونهم لا دروع لهم ، فقال لهم ما معناه : الرأي عندي أن
لا تعترضوهم في خرجتهم هذه ، فإنهم كالسّيل يحمل من يصادره ، وهم في إقبال أمرهم ،
ولهم نيّات تغني عن كثرة العدد ، وقلوب تغني عن حصانة الدروع ، ولكن أمهلوهم حتى تمتلىء
أيديهم من الغنائم ، ويتخذوا المساكن ، ويتنافسوا في الرياسة ، ويستعين بعضهم ببعض
، فحينئذ تتمكّنون منهم بأيسر أمر ، قال : فكان والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين
الشاميين والبلديين والبربر والعرب
__________________
والمضرية
واليمانية ، وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء ، انتهى.
وقيل : إن موسى بن
نصير أخرج ابنه عبد الأعلى إلى تدمير ففتحها ، وإلى غرناطة ومالقة وكورة ريّة ففتح
الكلّ ، وقيل : إنه لما حاصر مالقة ـ وكان ملكها ضعيف الرأي قليل التحفّظ ـ كان
يخرج إلى جنان له بجانب المدينة طلبا للراحة من غمّة الحصار من غير نصب عين وتقديم
طليعة ، وعرف عبد الأعلى بأمره فأكمن له في جنبات الجنة التي كان ينتابها ، قوما من
وجوه فرسانه ذوي رأي وحزم ، أرصدوا له ليلا فظفروا به ، وملكوه ، فأخذ المسلمون
البلد عنوة ، وملؤوا أيديهم غنيمة.
وقيل : كانت نفس
موسى بن نصير في ذلك كله تنزعج إلى دخول دار الكفر جلّيقية ، فبينما هو يعمل في
ذلك ويعدّ له إذ أتاه مغيث الروميّ رسول الوليد بن عبد الملك ومولاه يأمره بالخروج
عن الأندلس والإضراب عن الوغول فيها ، ويأخذه بالقفول إليه ، فساءه ذلك ، وقطع به
عن إرادته ؛ إذ لم يكن في الأندلس بلد لم تدخله العرب إلى وقته ذلك غير جليقية ،
فكان شديد الحرص على اقتحامها ، فلاطف موسى مغيثا رسول الخليفة ، وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في الدخول إليها والمسير معه في البلاد
أياما ، ويكون شريكه في الأجر والغنيمة ، ففعل ، ومشى معه حتى بلغ المفازة فافتتح حصن بارو وحصن لكّ ، فأقام هناك ، وبثّ السرايا حتى
بلغوا صخرة بلاي على البحر الأخضر ، فلم تبق كنيسة إلّا هدمت ، ولا ناقوس إلّا كسر
، وطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية ، وسكنت العرب المفاوز
، وكان العرب والبربر كلّما مرّ قوم منهم بموضع استحسنوه حطّوا به ونزلوه قاطنين ،
فاتّسع نطاق الإسلام بأرض الأندلس ، وخذل الشّرك ، وبينما موسى كذلك في اشتداد
الظهور وقوّة الأمل إذ قدم عليه رسول آخر من الخليفة يكنى أبا نصر أردف به الوليد
مغيثا لمّا استبطأ موسى في القفول ، وكتب إليه يوبّخه ، ويأمره بالخروج ، وألزم
رسوله إزعاجه ، فانقلع حينئذ من مدينة لكّ بجليقية ، وخرج على الفج المعروف بفجّ
موسى ، ووافاه طارق في الطريق منصرفا من الثغر
__________________
الأعلى ، فأقفله
مع نفسه ومضيا جميعا ومعهما من الناس من اختار القفول. وأقام من آثر السّكنى في
مواضعهم التي كانوا قد اختطّوها واستوطنوها ، وقفل معهم الرسولان مغيث وأبو نصر
حتى احتلّوا بإشبيلية ، فاستخلف موسى ابنه عبد العزيز على إمارة الأندلس ، وأقرّه
بمدينة إشبيلية لاتّصالها بالبحر نظرا لقربه من مكاره المجاز ، وركب موسى البحر إلى المشرق بذي الحجة سنة خمس
وتسعين وطارق معه ، وكان مقام طارق بالأندلس قبل دخول موسى سنة وبعد دخوله سنتين
وأربعة أشهر ، وحمل موسى الغنائم والسّبي ، وهو ثلاثون ألف رأس والمائدة منوّها
بها ومعها من الذخائر والجواهر ونفيس الأمتعة ما لا يقدر قدره ، وهو مع ذلك متلهّف
على الجهاد الذي فاته ، أسف على ما لحقه من الإزعاج ، وكان يؤمل أن يخترق ما بقي عليه
من بلاد إفرنجة ، ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملا أن يتخذ
مخترقه بتلك الأرض طريقا مهيعا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على
البرّ لا يركبون بحرا ، وقيل : إنه أوغل في أرض الفرنجة حتى انتهى إلى مفازة كبيرة
وأرض سهلة ذات آثار ، فأصاب فيها صنما عظيما قائما كالسارية مكتوبا فيه بالنقر
كتابة عريبة قرئت ، فإذا هي : يا بني إسماعيل ، انتهيتم فارجعوا ، فهاله ذلك ،
وقال : ما كتب هذا إلّا لمعنى كبير ، فشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما
وراءه ، فاختلفوا عليه ، فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس ، وقد أشرفوا على قطع
البلاد وتقصّي الغاية.
وحكى الرازي : أن
موسى خرج من إفريقية إلى الأندلس في رجب سنة ثلاث وتسعين ، واستخلف على إفريقية
أسنّ ولده عبد الله بن موسى ، وكان موسى في عشرة آلاف ، قال : وكان عبد الملك بن
مروان هو الذي أغزى موسى المغرب في خلافته ، ففتح له في أهله البرابرة فتوح كبار ،
حتى لقد بعث إلى عبد الملك في الخمس بعشرين ألف سبيّة ، ثم أردفها بعشرين ألفا
أخرى ، كل ذلك من البربر ، فعجب عبد الملك يومئذ من كثرة ذلك.
وزعم ابن حبيب :
أنه دخل الأندلس رجل واحد من أصاغر الصحابة ، وهو المنيذر ، قال : ودخلها من
التابعين ثلاثة : موسى الأمير ، وعلي بن رباح اللخمي ، وحيوة بن رجاء التميمي ،
وقيل : إن ثالثهم إنما هو حنش بن عبد الله الصنعاني ، صنعاء الشام ، وإنهم قفلوا
عنها بقفول موسى ، وأهل سرقسطة يزعمون أنّ حنشا مات عندهم ولم يقفل للمشرق ، وقبره
لديهم مشهور يتبرّكون به ولا يختلفون فيه ، فالله أعلم.
__________________
وقيل : إن
التابعين أربعة بأبي عبد الرحمن الحبليّ الأنصاري ، واسمه عبد الله بن يزيد ، والله أعلم ، وخمّسهم
بعضهم بحبّان بن أبي جبلة مولى بني عبد الدار وكان في ديوان مصر ، فبعث به عمر بن
عبد العزيز إلى إفريقية في جماعة من الفقهاء ليفقّهوا أهلها ، وكان روى عن عمرو بن
العاص وابن عباس وابن عمر ، وحدّث عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وغيره ، وغزا مع
موسى حين افتتح الأندلس ، وانتهى معه إلى حصن من حصون العدو يقال له قرقشونة ،
وقيل : بل قفل إلى إفريقية فتوفي بها بعد العشرين ومائة.
وقال بعضهم : إن بين
قرقشونة هذه وبين برشلونة مسافة خمسة وعشرين يوما ، وفيها الكنيسة المعظّمة عند
الفرنج المسمّاة شنت مرية ، وقد حكى ابن حيّان أن فيها سبع سوار من فضّة خالصة لم
ير الراءون مثلها لا يحيط الإنسان بذراعيه على واحدة منها مع طول مفرط.
وحنش الصنعاني
المذكور تابعي جليل ، كان مع علي ، رضي الله عنه ، بالكوفة ، وقدم مصر بعد قتله ،
فصار عداده في المصريين ، وكان فيمن قام مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان
فعفا عنه ، وكفى الأندلس شرفا دخوله لها.
وعلي بن رباح بصري
تابعي ، يكنّى أبا عبد الله ، وهو لخمي ، ولد عام اليرموك سنة خمس عشرة ، قال ابن
معين : أهل مصر يقولونه بفتح العين ، وأهل العراق يقولونه بضمّها ، وروى الليث عن
ابنه موسى بن علي ، وكانت لعليّ بن رباح عند عبد العزيز بن مروان مكانة ، وهو الذي
زفّ ابنته أمّ البنين لزوجها الوليد ، ثم عتب عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية.
وأما المنيذر
الصحابي فلم ينسبه ابن حبيب ، وذكره ابن عبد البرّ في الصحابة وقال : إنه المنيذر
الإفريقي ، وروى عنه أبو عبد الرحمن الحبلي ، قال : حدّثنا المنيذر الإفريقي ،
وكان سكن إفريقية ، وكان صحب رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أنه سمعه ، صلّى
الله عليه وسلّم ، يقول : «من قال : رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد ،
صلّى الله عليه وسلّم ، نبيّا ، فأنا الزعيم له ، فلآخذنّ بيده ، فلأدخلنّه الجنة»
ورواه عنه ابن عبد البرّ بسنده إليه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في حق المنيذر
مزيد بيان.
ولما قفل موسى بن نصير
إلى المشرق وأصحابه سأل مغيثا أن يسلم إليه العلج صاحب قرطبة الذي كان في إساره ،
فامتنع عليه ، وقال : لا يؤدّيه للخليفة سواي ، وكان يدلّ بولائه من
__________________
الوليد ، فهجم
عليه موسى فانتزعه منه ، فقيل له : إن سرت به حيّا معك ادّعاه مغيث ، والعلج لا
ينكر قوله ، ولكن اضرب عنقه ، ففعل ، فاضطغنها عليه مغيث ، وصار ألبا مع طارق الساعي عليه ، واستخلف موسى على طنجة وما يليها من
المغرب ابنه الآخر عبد الملك ، وقد كان ـ كما مرّ ـ استخلف بإفريقية أكبر أولاده
عبد الله ، فصار جميع الأندلس والمغرب بيد أولاده ، وابنه عبد الله الذي خلفه
بإفريقية هو الفاتح لجزيرة ميورقة. وسار موسى فورد الشام ، واختلف الناس : هل كان
وروده قبل موت الوليد أو بعده؟ فمن يقول بالثاني قال : قدم على سليمان حين استخلف
، وكان منحرفا عليه ، فسبق إليه طارق ومغيث بالشكيّة منه ، ورمياه بالخيانة ،
وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج صاحب قرطبة ، وقالا له : إنه قد غلّ جوهرا عظيم القدر أصابه ولم تحو الملوك من بعد فتح فارس
مثله ، فلما وافى سليمان وجده ضغينا عليه ، فأغلظ له ، واستقبله بالتأنيب والتوبيخ
، فاعتذر له ببعض العذر ، وسأله عن المائدة ، فأحضرها ، فقال له : زعم طارق أنه
الذي أصابها دونك ، قال : لا ، وما رآها قطّ إلّا عندي ، فقال طارق : فليسأله أمير
المؤمنين عن الرّجل التي تنقصها ، فسأله ، فقال : هكذا أصبتها ، وعوّضتها رجلا
صنعتها لها ، فحوّل طارق يده إلى قبائه فأخرج الرّجل ، فعلم سليمان صدقه وكذب موسى
، فحقّق جميع ما رمي به عنده ، وعزله عن جميع أعماله ، وأقصاه ، وحبسه ، وأمر
بتقصّي حسابه ، فأغرمه غرما عظيما كشفه فيه ، حتى اضطر إلى أن سأل العرب معونته ، فيقال : إنّ لخما حملت عنه في
أعطيتها تسعين ألفا ذهبا ، وقيل : حمله سليمان غرم مائتي ألف ، فأدّى مائة ألف ،
وعجز ، فاستجار بيزيد بن المهلب أسير سليمان ، فاستوهبه من سليمان ، فوهبه إيّاه ، إلّا أنه عزل
ابنه عبد الله عن إفريقية.
وقال الرازي : إن
الذي أزعج موسى عن الأندلس أبو نصر رسول الوليد ، فقبض على عنانه وثناه قافلا ،
وقفل معه من أحبّ المشرق ، وكان أكثر الناس قطنوا ببلاد الأندلس لطيبها ، فأقاموا
فيها.
وذهب جماعة من أهل
التاريخ إلى أن موسى إنما قدم على الوليد ، وأن سليمان وليّ
__________________
العهد لمّا سمع
بقرب موسى بن نصير من دمشق ـ وكان الوليد مريضا ـ كتب ـ أي سليمان ـ إلى موسى
يأمره بالتربّص ، رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى على
سليمان في أول خلافته بتلك الغنائم الكثيرة التي ما رئي ولا سمع مثلها ، فيعظم
بذلك مقام سليمان عند الناس ، فأبى موسى من ذلك ، ومنعه دينه منه ، وجدّ في السير
حتى قدم والوليد حيّ ، فسلّم له الأخماس والمغانم والتحف والذخائر ، فلم يمكث
الوليد إلّا يسيرا بعد قدوم موسى ، وتوفي ، واستخلف سليمان ، فحقد عليه ، وأهانه ،
وأمر بإقامته في الشمس حتى كاد يهلك ، وأغرمه أموالا عظيمة ، ودسّ إلى أهل الأندلس
بقتل ابنه الذي استخلفه على الأندلس ، وهو عبد العزيز بن موسى ، وكان تولّى
الأندلس بعد قفول أبيه عنها باستخلافه إيّاه كما سبق ، فضبط سلطانها ، وضمّ نشرها ، وسدّ ثغورها ، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة ممّا كان قد
بقي على أبيه موسى منها ، وكان من خير الولاة ، إلّا أن مدته لم تطل لوثوب الجند
به وقتلهم إيّاه عقب سنة خمس وتسعين في خلافة سليمان الموقع بأبيه موسى لأشياء
نقموها عليه : منها زعموا تزوّجه لزوجة لذريق المكنّاة أمّ عاصم وكانت قد صالحت
على نفسها وأموالها وقت الفتح ، وباءت بالجزية ، وأقامت على دينها في ظل نعمتها
إلى أن نكحها الأمير عبد العزيز ، فحظيت عنده ، ويقال : إنه سكن بها في كنيسة
بإشبيلية ، وإنها قالت له : لم لا يسجد لك أهل مملكتك كما كان يسجد للذريق ـ زوجها
الأول ـ أهل مملكته؟ فقال لها : إن هذا حرام في ديننا ، فلم تقنع منه بذلك ، وفهم
لكثرة شغفه بها أن عدم ذلك مما يزري بقدره عندها ، فاتّخذ بابا صغيرا قبالة مجلسه
يدخل عليه الناس منه ، فينحنون ، وأفهمها أن ذلك الفعل منهم تحية له ، فرضيت بذلك
، فنمي الخبر إلى الجند ، مع ما انضمّ إلى ذلك من دسيسة سليمان لهم في قتله ،
فقتلوه ، سامحه الله تعالى!.
وذكر بعض
المؤرّخين أنهم وجدوا في الحجر بعد ما تقدّم من الكتابة التي هي «ارجعوا يا بني
إسماعيل إلخ» ما معناه : وإن سألتم لم ترجعون فاعلموا أنكم ترجعون ليضرب بعضكم
رقاب بعض ، انتهى.
قال ابن حيّان :
وليحيى بن حكم الشاعر المعروف بالغزال في فتح الأندلس ، أرجوزة
__________________
حسنة مطوّلة ذكر
فيها السبب في غزوها نظما ، وتفصيل الوقائع بين المسلمين وأهلها ، وعداد الأمراء
عليها وأسماءهم ، فأجاد وتقصّى ، وهي بأيدي الناس موجودة انتهى.
وقد عرفت بما سبق
تفصيل ما أجمله ابن خلدون ، والروايات في فتح الأندلس مختلفة ، وقد ذكرنا نحن بحسب
ما اقتضاه الوقت ما فيه كفاية ، وأشرنا إلى بعض الاختلاف في ذلك ، ولو بسطنا
العبارة في الفتح لكان وحده في مجلد أو أكثر.
وعلم مما ألمعنا
به من كلام ابن خلدون السابق ذكر الولاة للأندلس من لدن الفتح ، وهم من قبل بني
مروان بالمشرق المنفردين بإمامة المسلمين أجمعين قبل تفرّقهم ، إلى أن انقرضت
دولتهم العظيمة التي هي ألف شهر ، فاقتطع الأندلس عن بني العباس الدائلين على بني مروان الناسخين لهم فلّ المروانيين عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ،
واقتعدها دار مملكة مستقلّة لنفسه ولأعقابه ، وجمع بها شمل بني أميّة ومواليهم ، وأورثها بنيه حقبة من
الدهر ، بعد أن قاسى في ذلك خطوبا ، واجتمع عليه ثم على ذرّيّته من بعده أهل
الأندلس أجمعون رضا بهم دون بني العباس ، بعد أن حاول بنو العباس ملكها بأن ولّوا
بعض رؤساء العرب ، وأمروهم بالقيام على عبد الرحمن والدعاء للعباسيين القاطعين
جرثومة دولة بني مروان ، فلم يتيسّر ذلك ، وظفر عبد الرحمن بمن
نصب له الحرب في ذلك ، وقتل منهم آلافا ، وذلك في مدة المنصور كما سيأتي إن شاء
الله تعالى عند ذكر عبد الرحمن الداخل في موضع آخر ، وسنذكر قريبا ولاة الأندلس من
حين الفتح إلى إمارة الداخل ، وإن سبق في كلام ابن خلدون.
وقال بعضهم : كانت
ولادة موسى بن نصير في خلافة عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، سنة تسع عشرة من
الهجرة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلاة وأجلّ السلام ، وعلى آله وصحبه أجمعين!
انتهى.
وقال الحجاري في «المسهب»
: يحكى أنّ موسى بن نصير ألقى بنفسه على يزيد بن المهلب لمكانه من أمير المؤمنين
سليمان بن عبد الملك ، وطلب منه أن يكلّمه في أن يخفّف عنه ؛ فقال له يزيد : أريد
أن أسألك فأصغ إليّ ؛ قال : سل عمّا بدا لك ، فقال له : لم أزل أسمع عنك أنك من
أعقل الناس ، وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا ، فقل لي : كيف
__________________
حصلت في يد هذا
الرجل بعدما ملكت الأندلس ، وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزّخّار ، وتيقّنت بعد المرام واستصعابه ، واستخلصت بلادا أنت
افترعتها ، واستملكت رجالا لا يعرفون غير خيرك وشرّك ، وحصل في يدك
من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في
يد من لا يرحمك ، ثم إنك علمت أن سليمان وليّ عهد ، وأنه المولّى بعد أخيه ، وقد
أشرف على الهلاك لا محالة ، وبعد ذلك خالفته ، وألقيت بيدك إلى التهلكة ، وأحقدت
مالكك ومملوكك ، قال : يعني سليمان وطارقا ، وما رضا هذا الرجل عنك إلّا بعيد ،
ولكن لا آلو جهدا ، فقال موسى : يا ابن الكرام ، ليس هذا وقت تعديد ، أما سمعت «إذا
جاء الحين ، غطّى على العين» فقال : ما قصدت بما قلت لك تعديدا ولا تبكيتا ، وإنما
قصدت تلقيح العقل ، وتنبيه الرأي ، وأن أرى ما عندك؟ فقال موسى : أما رأيت الهدهد
يرى الماء تحت الأرض عن بعد ، ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه؟ ثم كلّم فيه سليمان ،
فكان من جوابه «إنه قد اشتمل رأسه بما تمكّن له من الظهور ، وانقياد الجمهور ،
والتحكّم في الأموال والأبشار ، على ما لا يمحوه إلّا السيف ، ولكن قد وهبت لك دمه
، وأنا بعد ذلك غير رافع عنه العذاب حتى يردّ ما غلّ من مال الله». قال : وآلت
حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتكّ به نفسه ، وفي تلك الحال
مات ، وهو من أفقر الناس وأذلّهم ، بوادي القرى ، سائلا من كان نازلا به.
وقال أحد غلمانه
ممّن وفى له في حال الفقر والخمول : لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على
أحياء العرب ، فواحد يجيبنا ، وآخر يحتجب عنّا ، ولربما دفع إلينا على جهة الرحمة
الدرهم والدرهمين ، فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به ، فيخفّفون عنه من
العذاب ، ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السّلوب من قصور النصارى ، فنفصل منها ما يكون من الذهب وغير ذلك
ونرمي به ، ولا نأخذ إلّا الدّرّ الفاخر ، فسبحان الذي بيده العزّ والذلّ والغنى
والفقر.
قال : وكان له
مولى قد وفى له وصبر عليه إلى أن ضاق ذرعه بامتداد الحال ، فعزم على أن يسلمه وهو بوادي القرى في أسوإ حال ، وشعر بذلك موسى ، فخضع
للمولى
__________________
المذكور ، وقال له
: يا فلان ، أتسلّمني في هذه الحالة؟ فقال له المولى ، من شدّة ما كان فيه من
الضجر : قد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين ، فدمعت عيناه ، وجعل
يرفعهما إلى السماء خاضعا مهينما بشفتيه ، فما سفرت تلك الليلة إلّا عن قبض روحه ، رحمة
الله عليه! فقد كان له من الأثر ما يوجب أن يترحّم عليه ، وإنّ فعل سليمان به
وبولده وكونه طرح رأس ابنه عبد العزيز الذي تركه نائبا عنه بالأندلس وقد جيء به من
أقصى المغرب بين يديه من وصماته التي تعدّ عليه طول الدهر ، لا جرم أنّ الله تعالى لم
يمتّعه بعده بملكه وشبابه.
وذكر ابن حيّان أن
موسى كان عربيّا فصيحا ، وقد سبق من مراجعة يزيد بن المهلّب ما يدلّ على بلاغته ،
ويكفي منها ما ذكره ابن حيّان أنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك فيما هاله من فتوح
الأندلس وغنائمها «إنها ليست الفتوح ، ولكنها الحشر».
وقال الحجاري : إن
منازعة جرت بينه وبين عبد الله بن يزيد بن أسيد بمحضر عبد الملك بن مروان ألجأته
إلى أن قال شعرا منه : [البسيط]
جاريت غير سؤوم
في مطاولة
|
|
لو نازع الحقل
لم ينزع إلى حصر
|
وتقدّم ما ذكره
غير واحد كابن حيّان أن موسى مولى عبد العزيز بن مروان ، وكذا ذكره الحجاري ، ثم تجهّز مع أمّ البنين بنت عبد العزيز حين ابتنى بها الوليد
بن عبد الملك ، فكانت تنمي مكانته عند الوليد إلى أن بلغ ما بلغ. وأشهر من كان في
صحبة موسى بن نصير من مواليه طارق المشهور بالفتوح العظيمة ، وطريف ، وقد جرى
ذكرهما في كتابنا هذا بما اقتضاه الاختصار.
وقال ابن سعيد ،
بعد ذكره الخلاف في أن موسى هل هو لخمي صريح أو بالولاء ، أو بربري ، أو مولى لعبد
العزيز بن مروان ، ما صورته : وكان في عقبه نباهة في السلطة ، ولّي ابنه عبد
العزيز سلطنة الأندلس ، وعبد الملك سلطنة المغرب الأقصى ، وعبد الله سلطنة
إفريقية. وذكر الحجاري أن أصله من وادي القرى بالحجاز ، وأنه خدم بني مروان بدمشق
، وتنبّه شأنه ، فصرّفوه في ممالكهم إلى أن ولي إفريقية وما وراءها من المغرب في
زمن الوليد بن عبد الملك ، فدوّخ أقاصي المغرب ، ودخل الأندلس من جبل موسى المنسوب
إليه المجاور لسبتة ، ودوّخ بلاد الأندلس ، ثم أوفده الوليد إلى الشام ، فوافق
مرضه ، ثم موته وخلافة أخيه
__________________
سليمان فعذّبه
واستصفى أمواله ، وآل أمره إلى أن وجّهه إلى قومه بوادي القرى لعلّهم
يعطفون عليه ويؤدّون عنه ، فمات بها ، وقد نصّ ابن بشكوال على أنه مات بوادي
القرى.
أما معارفه
السلطانية فيكفيه ولاية ما خلف مصر إلى البحر المحيط بين بريّ البربر والأندلس.
وأما الأدبية فقد
جاءت عنه بلاغة في النثر والنظم تدخله ـ مع نزارتها ـ في أصحاب درّ الكلام. وذكر
ابن بشكوال أنه من التابعين الذين رووا الحديث ، وأن روايته عن تميم الداريّ ،
وذكره في كتب الأئمة من المصنّفين أنبه وأوعب من أن يخصّص بذكره واحد منهم ، وهو
غرّة التواريخ الأندلسية ، وذكره إلى الآن جديد في ألسن الخاصّة والعامّة من
أهلها.
ومن مسهب الحجاري
: كان قد جمع ـ رحمه الله! ـ من خلال الخير ما أعانه الله سبحانه به على ما بنى له
من المجد المشيّد ، والذكر الشهير المخلّد ، الذي لا يبليه الليل والنهار ، ولا
يعفّي جديده بلى الأعصار ، إلّا أنه كان يغلب عليه ما لا يكاد رئيس يسلم منه ، وهو
الحقد والحسد ، والمنافسة لا تخلو من ذلك ، وأنشد بعض الرؤساء : [الطويل]
وليس رئيس القوم
من يحمل الحقدا
فقلبه الرئيس وقال
: «من يترك الحقدا» ، ثم قال : إن السيد إذا ترك إضمار الخير والشّرّ والمجازاة
عليهما اجترئ عليه ، ونسب للضعف والغفلة ، وهل رأيت صفقة أخسر من غفلة رئيس أحقده
غيره فنسي ذلك أو تناساه ، وعدوّه لا يغفل عنه ، وحاسده لا ينفعه عنده إلّا الراحة
منه ، وهو في واد آخر عنه ، ولله درّ القائل : [الطويل]
ووضع النّدى في
موضع السّيف بالعلا
|
|
مضرّ ، كوضع
السيف في موضع النّدى
|
ولكن الأصوب أن
يكون الرأي ميزانا : لا يزن الوافي لناقص ، ولا يزن الناقص لواف ، ويدبّر أمره على
ما يقتضيه الزمان ، ويقدر فيه حسن العاقبة.
ونصّ ابن بشكوال
على أن موسى بن نصير مات بوادي القرى سنة سبع وتسعين ، وغزا الأندلس سنة إحدى وتسعين ، ودخلها سنة ثلاث وتسعين ، وقفل
عنها إلى الوليد بن
__________________
عبد الملك
بالغنائم سنة أربع وتسعين ، وذكر أن ولايته على الأندلس بالمباشرة ـ مذ دخلها إلى
حين خروجه منها ـ سنة واحدة ، ومكث فيها مولاه طارق سنة ، انتهى.
وقد تقدّم شيء من
ذلك.
وذكر ابن بشكوال
أيضا أن ابن حبيب قال عن ربيعة : غلّ الناس كلّهم يوم فتح الأندلس ، إلّا أربعة
نفر فقط كانوا من التابعين : حنش الصنعاني ، وأبو عبد الرحمن الحبليّ ، وابن شماسة
، وعياض بن عقبة ، انتهى.
قال ابن سعيد :
وممّن دخل الأندلس من غير هؤلاء الأربعة من التابعين علي بن رباح اللخمي ، وموسى
بن نصير فاتح الأندلس ، وحبّان بن أبي جبلة القرشي مولاهم ، وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي صاحب الأندلس المذكور في سلاطينها ، ومحمد بن أوس بن ثابت
الأنصاري ، وزيد بن قاصد السكسكي ، والمغيرة بن أبي بردة الكناني ، وعبد الله بن
المغيرة الكناني ، وحيوة بن رجاء التّميمي ، وعبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد
الرحمن بن عوف ، ومنصور بن خزامة ، وعلي بن عثمان بن خطاب.
وذكر ابن حبيب أن
عدة من دخل الأندلس من التابعين سوى من لا يعرف نحو عشرين رجلا. وفي كتاب ابن بشكوال
أنه دخل الأندلس من التابعين ثمانية وعشرون رجلا ، وهم أسّسوا قبلة المسجد الجامع
بقرطبة ، وسمّى الحجاري في المسهب هؤلاء المتقدمين.
وذكر ابن سعيد أنه
لم يتحقّق المواضع التي تختصّ بهؤلاء التابعين من بلاد الأندلس ، مع جزمه بأنهم
دخلوا الأندلس وسكنوا بها ، وسيأتي ذكر التابعين الداخلين الأندلس بما هو أشمل
من هذا ، وقد تقدّم غلول من عدا التابعين من الغنائم.
وقال الليث بن سعد
، بعد ذكره أن طارقا أصاب بالأندلس مغانم كثيرة من الذهب والفضة : إن كانت
الطّنفسة لتوجد منسوجة بقضبان الذهب ، وتنظم السلسلة من الذهب باللؤلؤ والياقوت
والزّبرجد ، وكان البربر ربما وجدوها فلا يستطيعون حملها حتى يأتوا بالفأس فيضربون
به وسطها فيأخذ أحدهم نصفها والآخر النصف الآخر لنفسه ، ويسير معهم جماعة
والناس مشتغلون بغير ذلك.
__________________
وعن يحيى بن سعيد
: لمّا افتتحت الأندلس أصاب الناس فيها غنائم ، فغلّوا منها غلولا كثيرا حملوه في
المراكب وركبوا البحر ، فسمعوا مناديا يقول : الله مغرّق بهم ، وتقلّدوا المصاحف ،
فما نشبوا أن أصابتهم ريح عاصف ، وضربت المراكب بعضها بعضا حتى
تكسّرت ، وغرق بهم. وأهل مصر ينكرون ذلك ، ويقولون : أهل الأندلس ليس هم الذين
غرقوا ، وإنما هم أهل سردانية ، فالله أعلم بحقيقة الحال.
ورأيت في بعض كتب
التاريخ أنه وجد في طليطلة حين فتحت من الذخائر والأموال ما لا يحصى ، فمن ذلك
مائة وسبعون تاجا من الذهب الأحمر مرصّعة بالدّرّ وأصناف الحجارة الثمينة ، ووجد
فيها ألف سيف ملوكي ، ووجد فيها من الدّرّ والياقوت أكيال ، ومن أواني الذهب
والفضة ما لا يحيط به وصف ، ومائدة سليمان ، وكانت ـ فيما يذكر ـ من زمرّدة خضراء
، وزعم بعض العجم أنها لم تكن لسليمان ، وإنّما أصلها أن العجم أيام ملكهم كان أهل
الحسنة في دينهم إذا مات أحد منهم أوصى بمال للكنائس ، فإذا اجتمع عندهم مال له
قدر صاغوا منه الآلة من الموائد العجيبة ، والكراسيّ من الذهب والفضة ، تحمل
الشمامسة والقسوس فوقها الأناجيل في أيام المناسك ، ويضعونها في الأعياد للمباهاة
، فكانت تلك المائدة بطليطلة ممّا صنع في هذا السبيل ، وتأنّق الملوك في تحسينها ،
يزيد الآخر منهم فيها على الأول ، حتى برزت على جميع ما اتّخذ من تلك الآلات ،
وطار الذكر بها كلّ مطار ، وكانت مصوغة من الذهب الخالص مرصّعة بفاخر الدّرّ
والياقوت والزّبرجد ، وقيل : إنها من زبرجدة خضراء حافاتها وأرجلها منها ، وكان
لها ثلاثمائة وخمس وستّون رجلا ، وكانت توضع في كنيسة طليطلة ، فأصابها طارق ،
انتهى.
وقد ذكرنا فيما
مرّ عن ابن حيّان ما فيه نظير هذا ، وذكرنا فيما مضى من أمر المائدة وغيرها ما فيه
بعض تخالف ، وما ذلك إلّا لأنّا ننقل كلام المؤرّخين ، وإن خالف بعضهم بعضا ،
ومرادنا تكثير الفائدة ، وبالجملة فالمائدة جليلة المقدار ، وإن حصل الخلاف في
صفتها وجنسها وعدد أرجلها ، وهي من أجلّ ما غنم بالأندلس ، على كثرة ما حصل فيها
من الغنائم المتنوعة الأجناس التي ذكرها إلى الآن شائع بين الناس.
فاعلم أنه لمّا استقرّ قدم أهل الإسلام بالأندلس وتتامّ فتحها
صرف أهل الشام وغيرهم
__________________
من العرب هممهم
إلى الحلول بها ، فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم إلى أن
كان من أمرهم ما كان. فأما العدنانيون فمنهم خندف ، ومنهم قريش ، وأما بنو هاشم من قريش فقال ابن غالب في «فرحة
الأنفس» : بالأندلس منهم جماعة كلهم من ولد إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ومن هؤلاء بنو حمّود ملوك الأندلس بعد انتثار سلك بني أميّة ، وأما بنو أميّة
فمنهم خلفاء الأندلس ، قال ابن سعيد: ويعرفون هنالك إلى الآن بالقرشيين ، وإنما
عمّوا نسبهم إلى أميّة في الآخر لمّا انحرف الناس عنهم ، وذكروا أفعالهم في الحسين
رضي الله عنه ، وأما بنو زهرة فمنهم بإشبيلية أعيان متميزون ، وأما المخزوميون
فمنهم أبو بكر المخزومي الأعمى الشاعر المشهور من أهل حصن المدوّر ، ومنهم الوزير
الفاضل في النظم والنثر وأبو بكر بن زيدون ووالده الذي هو أعظم منه أبو الوليد بن
زيدون وزير معتضد بني عباد.
وقال ابن غالب :
وفي الأندلس من ينسب إلى جمح ، وإلى بني عبد الدار ، وكثير من قريش المعروفون
بالفهريين من بني محارب بن فهر ، وهم من قريش الظواهر ، ومنهم عبد الملك بن قطن
سلطان الأندلس ، ومن ولده بنو القاسم الأمراء الفضلاء ، وبنو الجدّ الأعيان
العلماء ، ومن بني الحارث بن فهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري سلطان الأندلس الذي
غلبه عليها عبد الرحمن الأموي الداخل ، وجدّ يوسف عقبة بن نافع الفهري صاحب الفتوح
بإفريقية ، قال ابن حزم : ولهم بالأندلس عدد وثروة. وأما المنتسبون إلى عموم كنانة
فكثير ، وجلّهم في طليطلة وأعمالها ، ولهم ينسب الوقّشيّون الكنانيون الأعيان الفضلاء الذين منهم القاضي أبو الوليد
والوزير أبو جعفر ، ومنهم أبو الحسين بن جبير العالم صاحب الرحلة ، وقد ذكرناه في
محله. وأما هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، فذكر ابن غالب أن منزلهم بجهة أريولة
من كورة تدمير. وأما تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر ، فذكر ابن
__________________
غالب أيضا أنهم
خلق كثير بالأندلس ، ومنهم أبو الطاهر صاحب المقامات اللزومية. وأما ضبّة بن أدّ
بن طابخة ، فذكر أنهم قليلون بالأندلس ، فهؤلاء خندف من العدنانية.
وأما قيس عيلان بن
إلياس بن مضر من العدنانية ، ففي الأندلس كثير منهم ينتسبون إلى العموم ، ومنهم من
ينتسب إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس ، كعبد الملك بن حبيب السّلمي
الفقيه صاحب الإمام مالك رضي الله عنه ، وكالقاضي أبي حفص بن عمر قاضي قرطبة. ومن
قيس من ينتسب إلى هوازن بن منصور بن عكرمة ، قال ابن غالب : وهم بإشبيلية خلق كثير
، ومنهم من ينتسب إلى بكر بن هوازن ، قال ابن غالب : ولهم منزل بجوفيّ بلنسية على
ثلاثة أميال منها ، وبإشبيلية وغيرها منهم خلق كثير ، ومنهم بنو حزم ، وهم بيت غير
البيت الذي منه أبو محمد بن حزم الحافظ الظاهري ، وهو فارسي الأصل. ومنهم من ينتسب
إلى سعد بن بكر بن هوازن ، وذكر ابن غالب أن منهم بغرناطة كثيرا ، كبني جوديّ ،
وقد رأس بعض بني جودي. ومنهم من ينتسب إلى سلول امرأة نسب إليها بنوها ، وأبوهم
مرّة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن. ومنهم من ينتسب إلى كلاب بن ربيعة بن
عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن. ومنهم من ينتسب إلى نمير بن عامر بن
صعصعة ، قال ابن غالب : وهم بغرناطة كثير. ومنهم من ينتسب إلى قشير بن كعب بن
ربيعة بن عامر بن صعصعة ، ومنهم بلج بن بشر صاحب الأندلس وآله ، وبنو رشيق. ومنهم
من ينتسب إلى فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان. ومنهم
من ينتسب إلى أشجع بن ريث بن غطفان ، ومن هؤلاء محمد بن عبد الله الأشجعي سلطان
الأندلس. وفي ثقيف اختلاف ؛ فمنهم من قال : إنها قيسية ، وإن ثقيفا هو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن ، ومنهم بالأندلس جماعة ، وإليهم
ينتسب الحرّ بن عبد الرحمن الثقفي صاحب الأندلس ، وقيل : إنها من بقايا ثمود ،
انتهى قيس بن عيلان وجميع مضر.
وأما ربيعة بن
نزار ، فمنهم من ينتسب إلى أسد بن ربيعة بن نزار ، قال في «فرحة الأنفس» : إن
إقليم هؤلاء مشهور باسمهم بجوفيّ مدينة وادي آش ، انتهى ، والأشهر بالنسبة إلى أسد
أبدا بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. ومنهم من ينتسب إلى محارب بن
عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ، قال ابن غالب في
«فرحة الأنفس» : ومنهم بنو عطية أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى النّمر بن قاسط
بن
__________________
هنب بن أقصى بن
دعمي بن جديلة بن أسد ، كبني عبد البر الذين منهم الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ.
ومنهم من ينتسب إلى تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب ، كبني حمديس أعيان قرطبة ، ومنهم من ينتسب إلى بكر بن وائل ، كالبكريين
أصحاب أونبة وشلطيش الذين منهم أبو عبيد البكري صاحب التصانيف ؛ انتهت ربيعة.
وأما إياد بن نزار
، وقد يقال : إنه ابن معدّ ، والصحيح الأول ، فينتسب إليهم بنو زهر المشهورون
بإشبيلية ؛ انتهت العدنانية ، وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام.
واختلف في
القحطانية : هل هم من ولد إسماعيل أو من ولد هود ، على ما هو معروف ، وظاهر صنيع
البخاري الأول ، والأكثر على خلافه ، والقحطانية هم المعروفون باليمانية ، وكثيرا
ما يقع بينهم وبين المضرية وسائر العدنانية الحروب بالأندلس ، كما كان يقع بالمشرق
، وهم بالأكثر بالأندلس ، والملك فيهم أرسخ ، إلّا ما كان من خلفاء بني أميّة ،
فإن القرشية قدّمتهم على الفرقتين ، واسم الخلافة لهم بالمشرق ، وكان عرب الأندلس
يتميّزون بالعمائر والقبائل والبطون والأفخاذ ، إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر
الداهية الذي ملك سلطنة الأندلس ، وقصد بذلك تشتيتهم وقطع التحامهم وتعصّبهم في الاعتزاء
، وقدّم القوّاد على الأجناد ، فيكون في جند القائد الواحد فرق من كل قبيل ،
فانحسمت مادة الفتن والاعتزاء بالأندلس ، إلّا ما جاءت على غير هذه الجهة.
قال ابن حزم :
جماع أنساب اليمن من جذمين : كهلان وحمير ابني سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وقيل : قحطان بن الهميسع بن
تيهان بن نابت بن إسماعيل ، وقيل : قحطان بن هود بن عبد الله بن رباح بن
حارف بن عاد بن عوص بن إرم بن سام ، والخلف في ذلك مشهور. فمنهم كهلان بن سبأ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومنهم الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ،
وإليهم ينتسب محمد بن هانىء الشاعر المشهور الإلبيري ، وهو من بني المهلّب ، ومن
الأزد من ينتسب إلى غسّان ، وهم بنو مازن بن الأزد ، وغسان : ماء شربوا منه ،
__________________
وذكر ابن غالب أن
منهم بني القليعي من أعيان غرناطة ، وكثير منهم بصالحة ، قرية على طريق
مالقة ، ومن الأزد من ينتسب إلى الأنصار على العموم ، وهم الجمّ الغفير بالأندلس.
قال ابن سعيد :
والعجب أنك تعدم هذا النسب بالمدينة وتجد منه بالأندلس في أكثر بلدانها ما يشذّ عن
العدد كثرة ، ولقد أخبرني من سأل عن هذا النسب بالمدينة فلم يجد إلّا شيخا من
الخزرج وعجوزا من الأوس.
قال ابن غالب :
وكان جزء الأنصار بناحية طليطلة ، وهم أكثر القبائل بالأندلس في شرقها ومغربها ،
انتهى.
ومن الخزرج
بالأندلس أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء من ولد سعد بن عبادة صاحب رسول
الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، وهو المشهور بالموشّحات ، وإلى قيس بن سعد بن عبادة
ينتسب بنو الأحمر سلاطين غرناطة الذين كان لسان الدين بن الخطيب أحد وزرائهم ،
وعليهم انقرض ملك الأندلس من المسلمين ، واستولى العدوّ على الجزيرة جميعا كما
يذكر.
ومن أهل الأندلس
من ينتسب إلى الأوس أخي الخزرج ، ومنهم من ينتسب إلى غافق بن عكّ بن عدثان بن أزان
بن الأزد ، وقد يقال عكّ بن عدنان ـ بالنون ـ فيكون أخا معدّ بن عدنان ، وليس
بصحيح ؛ قال ابن غالب : من غافق أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب ، وأكثر جهات
شقورة ينتسبون إلى غافق. ومن كهلان من ينتسب إلى همدان ، وهو أوسلة بن مالك بن زيد
بن أوسلة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ، ومنزل همدان مشهور على ستّة أميال
من غرناطة ، ومنهم أصحاب غرناطة بنو أضحى. ومن كهلان من ينتسب إلى مذحج ، ومذحج :
اسم أكمة حمراء باليمن ، وقيل : اسم أمّ مالك وطيئ بن أدد بن زيد بن كهلان ، قال ابن غالب : بنو سراج الأعيان من
أهل قرطبة ينتسبون إلى مذحج. ومنزل طيىء بقبلي مرسية. ومنهم من ينتسب إلى مراد بن
مالك بن أدد ، وحصن مراد بين إشبيلية وقرطبة مشهور ، قال ابن غالب : وأعرف بمراد
منهم خلقا كثيرا. ومنهم من ينتسب إلى عنس بن مالك بن أدد ، ومنهم بنو سعيد مصنفو
كتاب «المغرب» وقلعة بني سعيد مشهورة في مملكة غرناطة. ومن مذحج من ينتسب إلى زبيد
، قال ابن غالب : وهو منبّه بن سعد العشيرة بن
__________________
مالك بن أدد. ومن
كهلان من ينتسب إلى مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان ، قال ابن غالب : منهم بنو
المنتصر العلماء من أهل غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى عاملة ، وهي امرأة من قضاعة
ولدت للحارث بن عدي بن الحارث بن مرّة بن أدد ، فنسب ولدها منه إليها ، قال ابن
غالب: منهم بنو سماك القضاة من أهل غرناطة ، وقوم زعموا أن عاملة هو ابن سبأ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان ، وقيل : هم من قضاعة. ومن كهلان خولان بن عمرو بن الحارث
بن مرة ، وقلعة خولان مشهورة بين الجزيرة الخضراء وإشبيلية ، ومنهم بنو عبد السلام
أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى المعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرّة ،
ومنهم المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس. ومنهم من ينتسب إلى لخم بن عدي بن الحارث
بن مرّة ، و منهم بنو عبّاد أصحاب إشبيلية وغيرها ، وهم من ولد النعمان
بن المنذر صاحب الحيرة ، ومنهم بنو الباجي أعيان إشبيلية ، وبنو وافد الأعيان.
ومنهم من ينتسب إلى جذام مثل ثوابة بن سلامة صاحب الأندلس ، وبني هود ملوك شرقيّ
الأندلس ، ومنهم المتوكّل بن هود الذي صحّت له سلطنة الأندلس بعد الموحّدين ،
ومنهم بنو مردنيش أصحاب شرقي الأندلس ، قال ابن غالب : وكان لجذام جزء من قلعة
رباح ، واسم جذام عامر ، واسم لخم مالك ، وهما ابنا عديّ. ومن كهلان من ينتسب إلى
كندة ، وهو ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرّة بن أدد ، ومنهم يوسف بن هارون
الرمادي الشاعر. ومنهم من ينتسب إلى تجيب وهي امرأة أشرس بن السّكون بن أشرس بن
كندة. ومن كهلان من ينتسب إلى خثعم بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن
مالك بن زيد بن كهلان ، ومنهم عثمان بن أبي نسعة سلطان الأندلس ، وقد قيل : أنمار
بن نزار بن معدّ بن عدنان ، انتهت كهلان.
وأمّا حمير بن سبأ
بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمنهم من ينتسب إلى ذي رعين ، قال ابن غالب : وذو رعين
هم ولد عمرو بن حمير في بعض الأقوال ، وقيل : هو من ولد سهل بن عمرو بن قيس بن
معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن
الهميسع بن حمير ، قال : ومنهم أبو عبد الله الحنّاط الأعمى الشاعر ، قال الحازمي
في «كتاب النسب» : واسم ذي رعين عريم بن زيد بن سهل ، ووصل
__________________
النسب ، ومنهم من
ينتسب إلى ذي أصبح ، قال ابن حزم : هو ذو أصبح بن مالك بن زيد من ولد سبأ الأصغر
بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس ، ووصل النّسب. وذكر الحازمي أنّ ذا أصبح من كهلان ،
وأخبر أنّ منهم مالك بن أنس الإمام ، والمشهور أنهم من حمير ، والأصبحيون من أعيان
قرطبة ، ومنهم من ينتسب إلى يحصب. قال ابن حزم : إنه أخو ذي أصبح ، وهم كثير بقلعة
بني سعيد ، وقد تعرف من أجلهم في التواريخ الأندلسية بقلعة يحصب ، ومنهم من ينتسب
إلى هوازن بن عوف بن عبد شمس بن وائل بن الغوث ، قال ابن غالب :
ومنزلهم بشرقيّ إشبيلية ، والهوازنيون من أعيان إشبيلية. ومنهم من ينتسب إلى قضاعة بن مالك بن
حمير ، وقد قيل : إنه قضاعة بن معدّ بن عدنان ، وليس بمرضيّ ، ومن قضاعة من ينتسب
إلى مهرة كالوزير أبي بكر بن عمّار الذي وثب على ملك مرسية ، وهو مهرة بن حيدان بن
عمرو بن الحاف بن قضاعة ، ومنهم من ينتسب إلى خشين بن نمر بن وبرة بن تغلب بن
حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ، ومنهم من ينتسب إلى تنوخ ، قال ابن غالب : وهو
ابن مالك بن فهم بن نمر بن وبرة بن تغلب ، قال الحازمي : تنوخ هو مالك بن فهر بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة. ومنهم من ينتسب إلى
بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، ومنهم البلويّون بإشبيلية. ومنهم من ينتسب إلى
جهينة بن أسود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، قال ابن غالب : وبقرطبة منهم
جماعة. ومنهم من ينتسب إلى كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان كبني أبي عبدة الذين منهم
بنو جهور ملوك قرطبة ووزراؤها. ومنهم من ينتسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن
أسود بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، ومنهم أعيان الجزيرة الخضراء بنو عذرة.
ومن أهل الأندلس
من ينتسب إلى حضرموت ، منهم الحضرميون بمرسية وغرناطة وإشبيلية وبطليوس وقرطبة ؛
قال ابن غالب : وهم كثير بالأندلس ، وفيه خلاف ، قيل : إن حضرموت هو ابن قحطان ،
وقيل : هو حضرموت بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن جيدان ـ
بالجيم ـ بن قطن بن العريب بن الغرز بن نبت بن أيمن بن الهميسع بن حمير ، كذا نسق
النّسب الحازميّ.
ومن أهل الأندلس
من ينتسب إلى سلامان ، ومنهم الوزير لسان الدين بن الخطيب حسبما ذكر في محلّه.
__________________
وقد رأيت أن أسرد
هنا أسماء ملوك الأندلس من لدن الفتح إلى آخر ملوك بني أميّة ، وإن تقدّم ويأتي
ذكر جملة منهم بما هو أتمّ ممّا هنا : فنقول : طارق بن زياد مولى موسى بن نصير ،
ثم الأمير موسى بن نصير ، وكلاهما لم يتخذ سريرا للسلطنة. ثم عبد العزيز بن موسى
بن نصير ، وسريره إشبيلية. ثم أيوب بن حبيب اللخمي ، وسريره قرطبة ، وكلّ من يأتي
بعده فسريره قرطبة والزهراء والزاهرة بجانبيها إلى أن انقضت دولة بني مروان على ما
ينبّه عليه. ثم الحرّ بن عبد الرحمن الثقفي. ثم السّمح بن مالك الخولاني. ثم عبد
الرحمن بن عبد الله الغافقي. ثم عنبسة بن سحيم الكلبي. ثم عذرة بن عبد الله
الفهري. ثم يحيى بن سلمة الكلبي. ثم عثمان بن أبي نسعة الخثعمي. ثم حذيفة بن
الأحوص القيسي. ثم الهيثم بن عبيد الكلابي. ثم محمد بن عبد الله الأشجعي. ثم عبد الملك بن
قطن الفهري. ثم بلج بن بشر بن عياض القشيري . ثم ثعلبة بن سلامة العاملي. ثم أبو الخطار حسام بن ضرار
الكلبي. ثم ثوابة بن سلامة الجذامي. ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهري. وههنا انتهى
الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة ، أفرادا ، عددهم عشرون فيما ذكر ابن
سعيد ، ولم يتعدّوا في السّمة لفظ الأمير.
قال ابن حيّان :
مدّتهم منذ تاريخ الفتح من لذريق سلطان الأندلس النصراني ـ وهو يوم الأحد لخمس
خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين ـ إلى يوم الهزيمة على يوسف بن عبد الرحمن الفهري
، وتغلّب عبد الرحمن بن معاوية المرواني على سرير الملك قرطبة ـ وهو يوم الأضحى
لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة ـ ست وأربعون سنة وخمسة أيام ، انتهى.
ثم كانت دولة بني
أمية ، أولهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. ثم ابنه هشام الرضي. ثم
ابنه الحكم بن هشام. ثم ابنه عبد الرحمن الأوسط. ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن. ثم
ابنه المنذر بن محمد. ثم أخوه عبد الله بن محمد. ثم ابن ابنه عبد الرحمن الناصر بن
محمد بن عبد الله. ثم ابنه الحكم المستنصر ، وكرسيهما الزهراء. ثم هشام بن الحكم ،
وفي أيامه بنى حاجبه المنصور بن أبي عامر الزاهرة. ثم المهدي محمد بن هشام بن عبد
الجبار بن الناصر ، وهو أول خلفاء الفتنة ، وهدمت في أيامه الزهراء والزاهرة ،
وعاد
__________________
السرير إلى قرطبة.
ثم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر.
ثم تخلّلت دولة
بني حمّود العلويين ، وأولهم الناصر علي بن حمّود العلوي الإدريسي. ثم أخوه المأمون القاسم بن حمّود .
ثم كانت دولة بني
أمية الثانية ، وأولها المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر. ثم
المستكفي محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله . ثم المعتمد هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر ، وهو آخر خلفاء
الجماعة بالأندلس ، وحين خلع أسقط ملوك الأندلس الدعوة للخلافة المروانية.
واستبدّت ملوك
الطوائف كابن جهور في قرطبة ، وابن عباد بإشبيلية ، وغيرهما ، ولم يعد نظام
الأندلس إلى شخص واحد ، إلى أن ملكها يوسف بن تاشفين الملثّم من برّ العدوة ، وفتك
في ملوك الطوائف ، وبعد ذلك ما خلصت له ولا لولده علي بن يوسف ؛ لأن بني هود
نازعوه في شرقها بالثغر ، إلى أن جاءت دولة عبد المؤمن وبنيه ، فما صفت لعبد المؤمن
بمحمد بن مردنيش الذي كان ينازعه في شرق الأندلس ، ثم صفت ليوسف بن عبد المؤمن
بموت ابن مردنيش ، ثم لمن بعده من بنيه ، وحضرتهم مرّاكش ، وكانت ولايتهم تتردّد
على الأندلس وممالكها ، ولم يولّوا على جميعها شخصا واحدا لعظم ممالكها ، إلى أن
انقرضت منها دولتهم بالمتوكل محمد بن هود من بني هود ملوك سرقسطة وجهاتها ، فملك
معظم الأندلس بحيث يطلق عليه اسم السلطان ، ولم ينازعه فيها إلّا زيّاد بن مردنيش في بلنسية من شرق الأندلس ، وابن هلالة في طبيرة
من غرب الأندلس ، ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته ، ولمّا قتله وزيره ابن
الرّميمي بالمريّة زاد الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر. وكانت غرب أهل الأندلس في
المائة السابعة يخطبون لصاحب إفريقية السلطان أبي زكرياء يحيى بن أبي محمد
__________________
عبد الواحد بن أبي
حفص ، ثم تقلّصت تلك الظلال ، ودخل الجزيرة الانحلال ، إلى أن استولى عليها حزب
الضلال ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وقد ذكرت في هذا
الكتاب جملة من أخبار ملوك الأندلس ممّا يصلح للمذاكرة ، وربما سرّحت طرف القلم في
بعضهم.
وبنو جهور المشار
إليهم قريبا كانوا وزراء الأمويين ، ثم إنه لمّا انتثر سلك الخلافة استبدّ بقرطبة
الوزير أبو الحزم بن جهور من غير أن يتعدّى اسم الوزارة.
قال في «المطمح» :
الوزير الأجلّ جهور بن محمد بن جهور ، أهل بيت وزارة ، اشتهروا كاشتهار ابن هبيرة في فزارة ، وأبو الحزم أمجدهم في المكرمات ، وأنجدهم في
الملمّات ، ركب متون الفنون فراضها ، ووقع في بحور المحن فخاضها ، منبسط غير منكمش ،
لا طائش اللسان ولا رعش ، وقد كان وزر في الدولة العامرية فشرفت بجلاله ، واعترفت
باستقلاله ، فلمّا انقرضت وعافت الفتن واعترضت ، تحيّز عن التدبير مدّتها ، وخلّى لخلافه
أعباء الخلافة وشدّتها ، وجعل يقبل مع أولئك الوزراء ويدبر ، ويدير الأمر معهم ويدبّر ، غير مظهر للانفراد ، ولا متصرّف في
ميدان ذلك الطّراد ، إلى أن بلغت الفتنة مداها ، وسوّغت ما شاءت رداها ، ذهب من
كان يخد في الرياسة ويخبّ ، ويسعى في الفتنة ويدبّ ، ولمّا ارتفع الوبال ، وأدبر
ذلك الإقبال ، راسل أهل التقوى مستمدّا بهم ، ومعتمدا على بعضهم تخيّلا منه
وتمويها ، وتداهيا ، على أهل الخلافة وذويها ، وعرض عليهم تقديم المعتمد هشام ، وأومض منه لأهل قرطبة برق خلّب يشام ، بعد سرعة
التياثها ، وتعجيل انتكاثها ، فأنابوا إلى الإجابة ، وأجابوا إلى استرعائه الوزارة
والحجابة ، وتوجّهوا مع ذلك الإمام ، وألمّوا بقرطبة أحسن إلمام ، فدخلوها بعد فتن
كثيرة ، واضطرابات مستثيرة ، والبلد مقفر ، والجلد مسفر ، فلم يبق غير يسير حتى
جبذ واضطرب أمره فخلع ، واختطف من الملك وانتزع ، وانقرضت الدولة الأموية ، وارتفعت الدولة العلوية ، واستولى على
قرطبة عند ذلك أبو الحزم ، ودبّر
__________________
أمرها بالجدّ والعزم ، وضبطها ضبطا أمّن خائفها ، ورفع طارق تلك
الفتنة وطائفها ، وخلا له الجو فطار ، وقضى اللّبانات والأوطار ، فعادت له قرطبة
إلى أكمل حالتها ، وانجلى به نور جلالتها ، ولم تزل به مشرقة ، وغصون الآمال فيها
مورقة ، إلى أن توفي سنة ٤٣٥ فانتقل الأمر إلى ابنه أبي الوليد ، واشتمل منه على
طارف وتليد. وكان لأبي الحزم أدب ووقار وحلم سارت به الأمثال ، وعدم فيها المثال ،
وقد أثبتّ من شعره ما هو لائق ، وفي سماء الحسن رائق ، وذلك قوله في تفضيل الورد : [الكامل]
الورد أحسن ما
رأت عيني وأز
|
|
كى ما سقى ماء السّحاب
الجائد
|
خضعت نواوير
الرّياض لحسنه
|
|
فتذلّلت تنقاد
وهي شوارد
|
وإذا تبدّى
الورد في أغصانه
|
|
يزهو ، فذا ميت
وهذا حاسد
|
وإذا أتى وفد
الرّبيع مبشّرا
|
|
بطلوع وفدته
فنعم الوافد
|
ليس المبشّر
كالمبشّر باسمه
|
|
خبر عليه من
النّبوّة شاهد
|
وإذا تعرّى
الورد من أوراقه
|
|
بقيت عوارفه
فهنّ خوالد
|
انتهى المقصود
منه.
وكأنه عارض بهذه
الأبيات في تفضيل الورد قول ابن الرومي في تفضيل النرجس عليه من قصيدة : [الكامل]
للنرجس الفضل
المبين وإن أبى
|
|
آب وحاد عن
الحقيقة حائد
|
وهي مشهورة.
وردّ على ابن
الرومي بعضهم بقوله : [الكامل]
يا من يشبّه
نرجسا بنواظر
|
|
دعج تنبّه إنّ
فهمك فاسد
|
إلخ ، وهي أيضا
مشهورة.
رجع إلى ما كنّا
فيه : وكانت لأهل الأندلس بين زمان الفتح وما بعده وقائع في الكفّار
__________________
شفت الصدور من
أمراضها ، ووفت النفوس بأغراضها ، واستولت على ما كان لملّة الكفر من جواهرها
وأعراضها ، ثم وقع الاختلاف ، بعد ذلك الائتلاف ، فعصفت ريح العدوّ والحروب سجال ،
وأعيا العلاج حكماء الرجال ، فصار أهل الأندلس يتذكّرون موسى بن نصير وطارق ، ومن
بعدهما من ملوك الأندلس الذين راعت العدوّ الكافر منهم طوارق .
وما أحسن ما أعرب
الإمام الكاتب القاضي أبو المطرف بن عميرة ، عمّا يشمل هذا المعنى وغيره ، في كتاب
بعث به إلى الشيخ أبي جعفر بن أمية ، حين حلّ الرّزء ببلنسية ، وهو : [الطويل]
ألا أيها القلب
المصرّح بالوجد
|
|
أما لك من بادي
الصّبابة من بدّ
|
وهل من سلوّ
يرتجى لمتيّم
|
|
له لوعة الصادي
وروعة ذي الصّدّ
|
يحنّ إلى نجد ،
وهيهات! حرّمت
|
|
صروف الليالي أن
يعود إلى نجد
|
فيا جبل الريّان
، لا ريّ بعدما
|
|
عدت غير الأيام
عن ذلك الورد
|
ويا أهل ودّي
والحوادث تقتضي
|
|
خلوّي عن أهل
يضاف إلى الودّ
|
ألا متعة يوما
بعارية المنى
|
|
فإنّا نراها كلّ
حين إلى الردّ
|
أمن بعد رزء في
بلنسية ثوى
|
|
بأحنائنا
كالنّار مضمرة الوقد
|
يرجّي أناس جنّة
من مصائب
|
|
تطاعن فيهم
بالمثقّفة الملد
|
ألا ليت شعري هل
لها من مطالع
|
|
معاد إلى ما كان
فيها من السّعد
|
وهل أذنب
الأبناء ذنب أبيهم
|
|
فصاروا إلى
الإخراج من جنّة الخلد
|
مرحبا بالسّحاءة ، وما أعارت أفقي من الإضاءة ، وردت تسحر النّهى ، وتسحب
ذيلا على السّها ، وتهزّ من المسرّة أعطافا ، وتردّ من نجوم المجرّة نطافا ، عامت
من الظلمة في موجها ، ثم غلبت الشهب على أوجها ، فقلب العقرب يجب ، وسهيل بداره
يحتجب ، والطّرف غضيض ، وجناح الطائر مهيض ، وصاحب الأخبية يقرض ، والذابح عن
ذبيحته يعرض ، ورامح السماكين تخونه السلاح ، وواقع النّسرين يودّ لو أنه يخفيه الصباح ، بلاغة تفتن كلّ لبيب ،
__________________
وترعى روض كلّ
أديب ، وتغضّ على رغم العدوّ من حبيب ، إنّ من البيان لسحرا ، ويا أيها الجواد
وجدناك بحرا ، أدريت ، أيّ بري بريت ، وبأيّ قمر اهتديت ، ليلة سريت ، افتتحت
بأبياتك الحسان ، ونظمتها نظم الجمان ، فعوذت سبعتها بالسّبع ، وعرفت منها براعة ذلك الطبع ، ثم نثرت على
القرطاس شذور النثور ، بل من جواهر النحور ، ما استوقف النّظّار ، وبهرج
اللّجين والنّضار ، ورأيتك استمددت ولك الباع الأمدّ ، وأعرت محاسنك والعارية تردّ
، وجئت باللألاءة تروق أربعتها ، وتخرس بها قعقعة الأشعار وجعجعتها ، فأدّت
من حسنها ما يسرّ ، واجتمع لمن روى القطعتين ما نظم فيها وهو الدّرّ. وأجريت خبر
الحادثة التي محقت بدر التمام ، وذهبت بنضارة الأيام ، فيا من حضر يوم البطشة ،
وعزّي في أنسه بعد تلك الوحشة ، أحقّا أنه دكّت الأرض ، ونزف المعين والبرض ، وصوّح روض المنى ، وصرّح الخطب وما كنى؟ أبن لي كيف فقدت رجاحة
الأحلام ، وعقدت مناحة الإسلام ، وجاء اليوم العسر ، وأوقدت نار الحزن فلا تزال
تستعر؟ حلم ما نرى؟ بل ما رأى ذا حالم ، طوفان يقال عنده لا عاصم ، من ينصفنا من
الزمان الظالم؟ الله بما يلقى الفؤاد عالم. بالله أيّ نحو تنحو ، ومسطور تثبت
وتمحو ، وقد حذف الأصلي والزائد ، وذهبت الصّلة والعائد ، وباب التعجب طال ، وحال
البائس لا تخشى الانتقال ، وذهبت علامة الرفع ، وفقدت سلامة الجمع ، والمعتلّ أعدى
الصحيح ، والمثلّث أردى الفصيح ، وامتنعت العجمة من الصّرف ، وأمنت زيادتها من
الحذف. ومالت قواعد الملّة ، وصرنا إلى جمع القلّة ، وللشّرك صيال وتخمّط ، ولقرنه
في شركه تخبّط ، وقد عاد الدين إلى غربته ، وشرق الإسلام بكربته ، كأن لم يسمع
بنصر بن نصير ، وطرق طارق بكل خير ، ونهشات حنش وكيف أعيت الرّقى ، وأذالت بليل السّليم يوم الملتقى ، ولم تخبر عن المروانية
وصوائفها ، وفتى معافر وتعفيره للأوثان وطوائفها ، لله ذلك السلف ، لقد طال الأسى
عليهم والأسف. وبقي الحكم العدل ، والربّ الذي قوله الفصل ، وبيده الفضل ، ربّنا
أمرت فعصينا ، ونهيت فما انتهينا ، وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا ، أنت العليم
بما أعلنّا وما أخفينا ، والمحيط بما لم نأت وما أتينا ، لو أننا فيك أحببنا
وقلينا ، لم
__________________
ترنا من الفرقة ما
رأينا ، ولم تسلّط عدوّك وعدونا علينا ، لكن أنت أرحم من أن تؤاخذنا بما جنينا ،
وأكرم من أن لا تهب حقوقك إلينا .
وأشرت أيها الأخ
الكريم إلى استراحة إليّ ، وتنسّم بما لديّ ، لتبرّد ـ كما زعمت ـ حرّ نفس ، وتقدح
زناد قبس ، وهيهات صلد الزند ، وذوى العرار والرّند ، وأقشع الشؤبوب ، وركد ما كان يظنّ
به الهبوب ، فالقلم دفين لا يحشر ، وميّت لا ينشر ، والطبع قد نكص القهقرى ، وقلّ
منزله أن يدعى له النّقرى ، فها هو لا يملك مبيتا ، ولا يجد لقلمه تثبيتا ، وأنت ـ أبقاك
الله عزّ وجلّ! ـ بمقتبل الآداب ، طائر هيعة الشباب ، وأين سنّ السّموّ من سنّ الانحطاط ، ووقت الكسل
من وقت النشاط ، وقد راجعتك لا داخلا في حلبتك ، بل قاضيا حقّ رغبتك ، والله تعالى
يجعلك بوسيلة العلم مترقيا ، وبجنّة الطاعة متوقّيّا ، ولهناء الأنفس مستقبلا
ومتلقيا! بمنّه ، والسلام ، انتهى.
وكتب ، رحمه الله
، إلى سلطان إفريقية الوارث ملك بني عبد المؤمن بتلك النواحي ، المستولي على
البلدان والضواحي ، وقد كان لأهل الأندلس أمل في أخذه بثأرهم ، وضمّ انتثارهم ، ما
صورته : [الرمل]
شاقة غبّ الخيال
الوارد
|
|
بارق هاج غرام
الهاجد
|
صدق وعد للتلاقي
ثم ما
|
|
طرقا إلّا بخلف
الواعد
|
وكلا الزّورين
من طيف ومن
|
|
وافد تحت
الدياجي وارد
|
لم يكن بعد
السّرى مستمتع
|
|
فيه للرّائي ولا
للرائد
|
وشديد بثّ قلب
هائم
|
|
يشتكيه عند ربع
هامد
|
بالأمير المرتضى
عزّ الهدى
|
|
وثنى عطف المليّ
الواجد
|
وبه أصحب ما كان
يرى
|
|
حاملا أنف
الأبيّ الشارد
|
إنّما الفخر
لمولانا أبي
|
|
زكريّاء بن عبد
الواحد
|
__________________
ملك لو لا حلاه
الغرّ لم
|
|
يجر بالحمد لسان
الحامد
|
ولو انّ العذب
أبدى رغبة
|
|
عنه لم يشف غليل
الوارد
|
فضله مثل سنى
الشمس ، وهل
|
|
لسنى الشمس يرى
من جاحد
|
قهر البغي بجدّ
صادع
|
|
ما تعدّاه وجدّ
صاعد
|
إنّما آل أبي
حفص هدى
|
|
للورى من غائب
أو شاهد
|
قعدوا فوق
النجوم الزّهر عن
|
|
همم نبّهن عزم
القاعد
|
وعن الإسلام
ذادوا عندما
|
|
فلّ طول العهد
غرب الذائد
|
أيّ فخر عمريّ
المنتمى
|
|
ورثوه ماجدا عن
ماجد
|
ما الفتوح الغرّ
إلّا لهم
|
|
بين ماض بادئ أو
عائد
|
في محيّا لاحق
من سابق
|
|
وعلى المولود
سيما الوالد
|
وليحيى راجح
الحلم الذي
|
|
ترك الطّود بعطفي
مائد
|
عقد أحسابهم تمّ
به
|
|
مثل ما تمّ حساب
العاقد
|
أيّها الجامع ما
قد أحرزوا
|
|
جمع من همّته في
الزائد
|
هذه الأمة قد
أوسعتها
|
|
نظرا يكلأ ليل
الراقد
|
لم تزل منك بخير
طارف
|
|
ريشه تال قدامى
تالد
|
ولهم منك ليوم
حاضر
|
|
وغد رأي البصير
الناقد
|
أرشد الله لأولى
نظر
|
|
بالورى رأي
الإمام الراشد
|
وتولّاه بتوفيق
الألى
|
|
سعدوا من عاقد
أو عاهد
|
وله في الله
أوفى كافل
|
|
بالذي يبقى
وأكفى عاضد
|
نصر الله تعالى
مولانا وأيّده ، وشدّ ملكه وشيّده ، وأبقى للفضل أيّامه ، وللفصل أحكامه! وأظفر
بأعناق الأشقياء حسامه! ووفّر من اتّساق النعم والآلاء حظوظه وأقسامه! والحمد لله
ثم الحمد لله على أن جعل به حرم الأمة آمنا ، ووهج الفتنة ساكنا ، وأبواب الصلة
والمعروف لا تعرف إلّا واصلا أو آذنا ، وتلافى فلّ الإسلام منه بفيئاته التي منها
ينتظرون الكرّ ، وبها يوعدون الفتح الأعزّ والنصر الأغرّ! فهم بين جدة قبضوها ،
وعدة رضوها ، وارتقاب للفتح أكبر هممهم
__________________
منه درك الثار ،
وانتصاف لأهل الجنّة من أهل النار ، فأمّا الأوطان فقد أسلتهم عنها جهة تنبت العزّ
فيما تنبته ، وتنفي من الضيم ما تلك تثبته ، وما ذكر الساخط ، على المحل الساقط ،
منازل عادت على مبانيها أطلالا ، ومغانيها أمحالا ، وللعبد حال يستقبل بها من
النظر الكريم ـ أدامه الله تعالى! ـ ما أعين الآمال إليه صور ، ورجاء الجميع عليه مقصور ، انتهى.
والغاية في هذا
الباب ما كتب به ـ رحمه الله! ـ من جملة كتاب لبعض ذوي الألباب ، ونصّ محل الحاجة
منه : نخصّ الجهة البعيدة الصّيت والاسم ، الشهيرة العمل والعلم ، درّة تاجنا ،
وضوء سراجنا ، ونكتة احتجاجنا ، أبقاها الله تعالى في أعيننا منارا ، ولأندلسنا
فخارا ، على أنه وإن بقيت المفاخر ، فقد أودى المفاخر ، وإن أضاء الطالع ، فقد
درجت المطالع ، وغلب عليها عداة زووا عنها وجوهنا ، وأروا فيها مكروهنا ، حتى أني
أتيت بشعر فيه استسقاء للديار ، على عادة الأشعار ، فقلت : [الكامل]
زدنا على
النائين عن أوطانهم
|
|
وإن اشتركنا في
الصّبابة والجوى
|
إنّا وجدناهم قد
استسقوا لها
|
|
من بعد أن شطّت
بهم عنها النّوى
|
ويصدّنا عن ذاك
في أوطاننا
|
|
مع حبّها الشّرك
الذي فيها ثوى
|
حسناء طاعتها
استقامت بعدنا
|
|
لعدوّنا ،
أفيستقيم لها الهوى
|
قلت : ما رأيت ولا
سمعت مثل هذه الأبيات في معناها ، العالية في مبناها ، فإنّ فيها الإشارة إلى
استيلاء النصارى ـ دمّرهم الله! ـ على تلك الديار ، وثبوت قدمهم فيها على طبق ما
حصل لهم فيه اختيار ، مع إدماج حبّه لها الذي لا يشكّ فيه ولا يرتاب ، واشتمالها
على المحاسن التي هي بغية الرائد ونجعة المنتاب ، ولكل أجل كتاب ، وإذا نفذ سهم
المقدور فلا عتاب.
ومما يستولي على
الخواطر ، ويروي رياض الأفكار بسحب بلاغته المواطر ، قوله ـ رحمه الله تعالى! ـ يخاطب
أبا الحسن الرّعيني سنة (٦٣٤) : [الكامل]
يا صاحبي والدهر
ـ لو لا كرّة
|
|
منه على حفظ
الذّمام ـ ذميم
|
__________________
أمنازعي أنت
الحديث؟ فإنه
|
|
ما فيه لا لغو
ولا تأثيم
|
ومروّض مرعى
مناي فنبته
|
|
من طول إخلاف
الغيوم هشيم
|
طال اعتباري
بالزمان ، وإنما
|
|
داء الزمان كما
علمت قديم
|
مجفوّ حظّ لا
ينادى ثم لا
|
|
ينفكّ عنه الحذف
والترخيم
|
وأرى إمالته تدوم
وقصره
|
|
فعلام يلغى
المدّ والتفخيم
|
وعلام أدعو
والجواب كأنما
|
|
فيه بنصّ قد أتى
التحريم
|
لم ألق إلّا
مقعدا ، غير الأسى
|
|
فلديّ منه مقعد
ومقيم
|
وشرابي الهمّ
المعتّق خالصا
|
|
فمتى يساعدني
عليه نديم
|
غارات أيام عليّ
جوارح
|
|
قعديّها في طبعه
التحكيم
|
ولواعج يحتاج
صالي حرّها
|
|
أمرا به قد خصّ
إبراهيم
|
ولقد أقول لصاحب
هو بالذي
|
|
أدركت من علم
الزمان عليم
|
لا يأس من روح
الإله وإن قست
|
|
يوما قلوب الخلق
فهو رحيم
|
ويهزّني ،
ويستفزّني ، ما كتبه ـ رحمه الله تعالى! ـ من رسالة : كتبته إلى سيدي وهو السيد
حقيقة ، وأخي وقد كتب الدهر بذلك وثيقة ، أبقى الله تعالى جلاله محروسا ، وربع
وفائه لا يخشى دروسا ، من رباط الفتح وأنا بحقه عليم ، وعلى عهده مقيم ، وشأني
توقير له وتعظيم ، وحبّ فيه خالص كريم ، ووصلني خطابه الخطير المبرور ، فكنت به
كالصائم رأى الهلال ، والهائم عاين ماء الزّلال ، علق ليس يوازيه علق ، وسحر لكنه
حلال طلق ، ونظم لذكر الطائي طاو ، وصنعة ولم يروها راء ولا راو ، رمت ابن الرومي
بالخمول ، وبشرت اسم بشار من الفحول ، وحكمت بأن النّمريّ في نمرة الهوان مدرج ، والسّريّ عن سراوة الإحسان مخرج. فأمّا النثر فصهيل لا يجاوبه
الرّغاء ، وطراز لا يحسنه البلغاء ، ونقد تزيف معه النقود ، ومدى تنقطع دونه
الضّمّر القود ، وغادر الصابيّ وصباه غير ذات هبوب ، والصاحب وهو من العجز مع شر
مصحوب ، والميكاليّ وميكاله مرفوض ، والحريريّ وحريرة في سوق
__________________
الكساد معروض ،
فأما بحر رئيس أرّجان ، فقد استخرج منه اللؤلؤ والمرجان ، وأبقاه في ضحضاح ، بل
تركه يمشي بأذرح ضاح ، فمن ذا يجاري فارس الصّفّين وإمام الصنفين؟ أبلغ من
خطّ بقلم ، وأشهر من نار على علم ، وما ذا يقال في أنامل تطرز بها الصحف ، وخمائل
تفخر بها الروضة الأنف ، واسم في شرق البلاد وغربها ظاهر ، ووسم بالكتابة والنجابة
لم يكن لبني وهب وآل طاهر ، فالزمان يأثر ، ما ينثر ، ويعظّم ، ما ينظم ، ولو أن
الأزمنة قبله غمرت المحاضر بكل ناجم ، ونشرت المقابر عن الصّنوبري وكشاجم ،
وجاءت بالكتّاب من كل جيل ، والشعراء رعيلا بعد رعيل ، لطال هذا العصر بواحده
آلافها ، وأنسى بخلفه أسلافها ، انتهى.
وكتب ـ رحمه الله
تعالى! ـ إلى صاحبين له في معنى ما ألمعنا به آنفا ، ما صورته : [مخلع البسيط]
تحيّة منكما
أتتني
|
|
طابت كما طاب
مرسلاها
|
ويا لها أذكرت
عهودا
|
|
قلبي والله ما
سلاها
|
حللتما في
البلاد أرضا
|
|
ريح صباها عني
سلاها
|
لم يصب قلبي إلى
سواها
|
|
يوما ولم يسل عن
سلاها
|
كتابي أيها
الأخوان اللذان بودّهما أقول ، وعن عهدهما لا أحول ، أنزلكما الله تعالى خير منزل!
وجعلكما من النوائب والشوائب بمعزل! من رباط الفتح ولبّي قديما ملكتما رقّه ،
وقلبي تعلّما وتعليما عرفتما صدقه ، كيف حالكما من سفر طويتما خبره ، حين تجشّمتما
غرره؟ وكيف سمحت نفوسكما بأمّ الحصون ، وذات الظلال والعيون؟ تربة الآباء ،
ومنزلة الجمحيّين النّجباء ، حتى صرمتما حبلها ، وهجرتما حزنها وسهلها ، وخضتما
غبر الفجاج ، وخضر الأمواج؟ وما ذاك إلّا لتغلّب الحادث النّكر ، وتألّب المعشر
الغدر ، ومن أجل الداهية النكاد ، والحادثة الشنيعة على البلاد ، أزعجتكم حين
أزعجتنا ، وأخرجتكم كما أخرجتنا ، وطوّحت بنا طوائحها ، واجتاحت ثمرنا وشجرنا
جوائحها ، فشكرا لله تعالى على قضائه ، وتضرّعا فيما نرفعه من دعائه ، وهنيئا لنا
ولكم معشر الشّرداء ، المنطوين من الشجن على شرّ داء ، ذلك الطّود
__________________
الذي إليه أويتما
، وفي ظلّه ثويتما ، وعن رأيه تريان ، وبسعيه تسعيان ، فوجهه المبارك لا يعدم رأيه
نجحا ، ولا يعدو لصبحه إذا دجا ليل الهمّ صبحا ، انتهى.
وكان أبو المطرّف
بن عميرة المذكور كما قال فيه بعض علماء المغرب : قدوة البلغاء ، وعمدة العلماء ،
وصدر الجلّة الفضلاء ، وهو أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي ؛ ونكتة البلاغة
التي قد أحرزها وأودعها ، وشمسها التي أخفت ثواقب كواكبها حين أبدعها ، مبدع
البدائع التي لم يحظ بها قبله إنسان ، ولا ينطق عن تلاوتها لسان ؛ إذ كان ينطق عن
قريحة صحيحة ، ورويّة بدرر العلم فصيحة ، ذلّلت له صعب الكلام ، وصدّقت رؤياه حين
وضع سيد المرسلين ، صلّى الله عليه وسلّم ، وهو الذي أوتي جوامع الكلم في يديه
الأقلام ، وأصل سلفه من جزيرة شقر ، وولد بمدينة بلنسية ، وروى عن أبي الخطاب بن
واجب وأبي الربيع بن سالم وابن نوح والشلوبيني النحوي وابن عات وابن حوط الله ،
وغيرهم من الحفّاظ ، وأجازه من أهل المشرق جماعة ، وكان شديد العناية بشأن الرواية
فأكثر من سماع الحديث ، وأخذه عن مشايخ أهله ، ثم تفنّن في العلوم ، ونظر في
المعقولات وأصول الفقه ، ومال إلى الأدب ، فبرع براعة عدّ فيها من مجيدي النظم ،
فأمّا الكتابة فهو فارسها الذي لا يجارى ، وصاحب عينها الذي لا يبارى ، وله وعظ
على طريقة ابن الجوزي ، ورسائل خاطب بها الملوك وغيرهم من الموحّدين والحفصيين ،
وله تأليف في كائنة ميورقة وتغلّب الروم عليها ، نحا في الخبر عنها منحى الإمام
الأصبهاني في «الفتح القدسي» وله كتاب تعقّب فيه على الفخر الرازي في كتاب «المعالم»
وله كتاب ردّ به على كمال الدين الأنصاري في كتابه المسمّى «بالتبيان» ، في علم
البيان ، المطّلع على «إعجاز القرآن» وسمّاه «بالتنبيهات ، على ما في البيان من
التمويهات» ، وله اختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة ، وغير ذلك.
ورد ـ رحمه الله!
ـ حضرة الإمامة مرّاكش صحبة أمير المؤمنين الرشيد حين قفوله من مدينة سلا ،
واستكتبه مدّة يسيرة ، ثم صرفه عن الكتابة ، وقلّده قضاء هيلانة ، ثم نقله إلى
قضاء سلا ، ثم نقله السعيد إلى قضاء مكناسة الزيتون ، ثم قصد سبتة ، وأخذ ماله في
قافلة بني مرين ، ثم توجّه إلى بلاد إفريقية ، ووصف حاله في رسالة خاطب بها ابن
السلطان أبا زكريا الحفصي ، وهو أبو زكريا ابن السلطان أبي زكريا ،
وكان صاحب بجاية لأبيه ، ولم يزل ـ رحمه الله تعالى ـ مذ فارق الأندلس متطلّعا
لسكنى إفريقية ، معمور القلب بسكناها ، ولمّا قدم تونس مال إلى صحبة الصالحين
والزّهّاد وأهل الخير برهة من الزمان ، ثم استقضي بالأربس من
__________________
إفريقية ، ثم
بقابس مدّة طويلة ، ثم استدعاه أمير المؤمنين المستنصر بالله الحفصي ، وأحضره
مجالس أنسه ، وداخله مداخلة شديدة ، حتى تغلّب على أكثر أمره.
ومولده بجزائر شقر
في شهر رمضان المعظم سنة ٥٨٠ ، وتوفي ليلة الجمعة الموفية عشرين من ذي الحجة سنة
٦٥٨ ، ألحفه الله رضوانه ، وجدّد عليه غفرانه!.
قال ابن الأبار في
«تحفة القادم» في حق أبي المطرف المذكور : فائدة هذه المائة ، والواحد يفي بالفئة
، الذي اعترف باتحاده الجميع ، واتصف بالإبداع فماذا يتّصف به البديع ، ومعاذ الله أن أحابيه بالتقديم ، لما له من حقّ التعليم
، كيف وسبقه الأشهر ، ونطقه الياقوت والجوهر ، تحلّت به الصحائف والمهارق ، وما تخلّت عنه المغارب والمشارق ، فحسبي أن أجهد في
أوصافه ، ثم أشهد بعدم إنصافه ، هذا على تناول الخصوص والعموم لذكره ، وتناوب
المنثور والمنظوم على شكره ، ثم أورد له جملة منها قوله : [الكامل]
وأجلت فكري في
وشاحك فانثنى
|
|
شوقا إليك يجول
في جوّال
|
أنصفت غصن البان
إذ لم تدعه
|
|
لتأوّد مع عطفك
الميّال
|
ورحمت درّ العقد
حين وضعته
|
|
متواريا عن ثغرك
المتلالي
|
كيف اللقاء وفعل
وعدك سينه
|
|
أبدا تخلصه
للاستقبال
|
وكماة قومك
نارهم ووقيدها
|
|
للطارقين أسنّة
وعوالي
|
وله مما يكتب على
قوس قوله : [الكامل]
ما انآد معتقل
القنا إلّا لأن
|
|
يحكي تأطّر
قامتي العوجاء
|
تحنو الضلوع على
القلوب وإنّني
|
|
ضلع ثوى فيها
بأعضل داء
|
وله وقد أهدى وردا
: [البسيط]
خذها إليك أبا
عبد الإله فقد
|
|
جاءتك مثل خدود
زانها الخفر
|
أتتك تحكي سجايا
منك قد عذبت
|
|
لكن تغيّر هذا
دونه الغير
|
__________________
إن شمت منها
بروق الغيث لامعة
|
|
فسوف يأتيك من
ماء لها مطر
|
قال : وكتب إليّ
مع تحفة أهداها مكافئا عن مثلها : [الكامل]
يا واحد الأدب
الذي قد زانه
|
|
بمناقب جعلته
فارس منصبه
|
بالفضل في الهبة
ابتدأت فإن تعر
|
|
طرف القبول لما
وهبت ختمت به
|
قال : وله ارتجالا
بقصر الإمارة من بلنسية وأنا حاضر في صبيحة بعض الجمع ، وقد حجم صاحب لنا من أهل
النظم والنثر ، وأحسن إلى الحجّام بالمخصوص : [الوافر]
أرى من جاء
بالموسى مواسى
|
|
وراحة ذي القريض
تعود صفرا
|
فهذا مخفق إن
قصّ شعرا
|
|
وهذا منجح إن
قصّ صفرا
|
وله أيضا : [الكامل]
هو ما علمت من
الأمير ، فما الّذي
|
|
تزداد منه وفيه
لا يرتاب
|
لا تتقي الأجناد
في أيامه
|
|
فقرا ، ولا
يرجوا الغنى الكتّاب
|
وله بعد انفصاله
من بلنسية عن وحشة في ذي القعدة سنة (٦٢٨) : [الطويل]
أسير بأرجاء
الرّجاء ، وإنّما
|
|
حديث طريقي طارق
الحدثان
|
وأحضر نفسي إن
تقدّمت خيفة
|
|
لغضّ عنان أو
لعضّ زمان
|
أيترك حظي
للحضيض وقد سرى
|
|
لإمكانه فوق
الذرا جبلان
|
وأخبط في ليل
الحوادث بعد ما
|
|
أضاء لعيني
منهما القمران
|
فيحيى لآمالي
حياة معادة
|
|
وإنّ عزيزا عزة
لمكاني
|
وقالوا : اقترح
إنّ الأمانيّ منهما
|
|
وإن كنّ فوق
النجم تحت ضمان
|
فقلت : إذا
ناجاهما بقضيّتي
|
|
ضميري لم أحفل
بشرح لساني
|
وله أيضا : [الكامل]
سلب الكرى من
مقلتيّ فلم يجيء
|
|
منه على نأي
خيال يطرق
|
أهفو ارتياحا
للنسيم إذا سرى
|
|
إنّ الغريق بما
يرى يتعلّق
|
__________________
انتهى ما تلخص من «تحفة
القادم» في ذكر ابن عميرة أبي المطرف.
ومما كتب أبو
المطرف ـ رحمه الله! ـ وفي أثنائه إشارة إلى الكفّار الغالبين على بلاد الأندلس ،
ما نصّه : [الطويل]
ألا إنّ شخصينا
على القطع واحد
|
|
وجاحد هذا
للضرورة جاحد
|
فإن لم تصدّق ما
نطقت بصدقه
|
|
فإنك لي لاح وللودّ
لاحد
|
ومعاذ الله ، عزّ
وجلّ ، أن تلحاني ، أو تمنع أنفك ريح ريحاني ، وكيف تصدّ عنّي بوجهك ، أو تشحذ لي
غرب نجهك ، وأنا على غيبك أمين ، ولشمالك يمين ، ولكم دعوت بي فأجبت
، واستغنيت عني فحجبت ، وأردت الاستبداد فما استطعت ، ونعتّ الوداد فما أحسنت
النعت ، وإنما تحمد فراهة الأعوجيّ إن جرى ، وتذكر فضيلة ابن السّري إذا سرى ، فأما الاقتصار
على عظم باد ، والانتظار لعين عدمت السواد ، فخطأ من القائل ، وخطل عند العاقل ، ولله درّ أخيك من مغمض طرف التطرّف ، قارىء أدب الصحبة
على السبعة الأحرف ، كرع في أعزّ مورد ، وتواضع في شرف مولد ، وسما بنفسه عن أن
يستخفّه نسب يرفعه ، وحسب ما منّا أحد يدفعه ، وكذلك الكرام يرون عليهم حقّا ،
ويتوقّون من لم يكن من الكبر موقّى ، ولعهدي به وظلّ الثروة بارد ، وشيطان الشيبة
مارد ، وبشره في الملمّات يرفّ ، وقدمه إلى الحاجات تخفّ ، يصون عرضه بماله ،
ويخفي صدقة يمينه عن شماله ، ويقسّم جسمه في جسوم ، ويقوم بالحقوق غير ملول ولا ملوم ، تلك المكارم لا قعبان
، وما تستوي البدنة المهيضة مع غيرها في القربان ، وعرضت بذكر العصر الخالي ، والقصر
العالي ، وظل من فنن وريق ، وعيش مع أكرم فريق ، وما تذكر من زمن تولّى؟ وعهد على
أن لا يعود تألّى ، فارقناه أحسن ما كان ، وودّعنا به الأطيبين الزمان والمكان ،
فعفت الرسوم ، وأفلت تلك النجوم ، ورمتنا عن قوسها الروم ، ثم خلفتنا في المغاني ،
وقسمتنا بين الأسير والعاني ، فأودى القلّ والكثر ، واشتفى من الإسلام الكفر ، فكم
كأس أنس أرقناه ، ومنزل فرقة
__________________
الأبد فارقناه ،
وذكرت اجتيازك بين العلمين ، وقطعك متن اليمّ في يومين ، وأنّك انتقلت من ذوات
الألواح ، إلى عذبات الأدواح ، ومن متهافت الشّراع ، إلى منابت اليراع ، ومن سكنى
بيت السكان ، إلى منزل به الفلاح والملاح يشتركان ، حيث اجتمع الضّبّ والنون ،
وأينع التين والزيتون ، وظلّلت الساحات ، وذلّلت الثمار المباحات ، فلا تشرقنا يا
أصيل ، ولأمّ تلك الأرض الويل ، انتهى.
ووصل هذا الكلام
بالأبيات التي تقدّمت قريبا ، وهي قوله «زدنا على النائين عن أوطانهم إلخ».
وكتب رحمه الله عن
أهل شاطبة أيام كان قاضيا بها ، مهنّئا أمير المسلمين ابن هود المستولي على
الأندلس آخر دولة الموحّدين بوصول الكتاب العباسي الكريم إليه من بغداد بولاية
الأندلس ، إذ كان ابن هود حين ثار على الموحدين يدعو إلى الخليفة العباسي الذي كان
أكثر الملوك في ذلك الزمان يدينون بطاعته ، بما نصّه بعد الصدر :
أمّا بعد ، فكتب
العبيد ـ كتب الله تعالى إلى المقام العلي المجاهدي المتوكلي سعادة لا تبلغ أمدا إلّا تخطّته!
ويدا علوّها أثبتته أيدي الأقدار وخطّته ـ من شاطبة وبركات الأمر المجاهديّ
المتوكلي ، والعهد الواثقي المعتصمي ، تنسكب كالمطر ، وتنسحب على البشر ، وتقضي
بعادة النصر والظفر ، وسعادة الورد والصّدر ، والحمد لله ، وعند العبيد من أداء فروض الخدم ، والقيام
بحقوق النّعم ، ما عقدت عليه ضمائرهم ، وسمت إليه نواظرهم ، واشترك فيه بادبهم
وحاضرهم ، فجناب أملهم فسيح ، ومتجر خدمتهم ربيح ، وحديث طاعتهم حسن صحيح ، وبسنى
النظر العليّ اهتداؤهم ، وفي الباب الكريم رجاؤهم ، وبصدق العبودية اعتزازهم
وإليها اعتزاؤهم ، والله تعالى ينهضهم بوظائف المثابة العلية ، ويحملهم على
المناهج السّويّة ، ووصل الكتاب الكريم متحلّيا برواء الحق ، ناطقا بلسان الصدق ،
واصفا من التشريف والفخار المنيف ، ما صدر عن إمام الخلق ، فلا بيان أعجب من ذلك
البيان ، ولا يوم كذلك اليوم تبدّى نظره للعيان ، أو تأدّى خبره في أخبار الزمان ،
نثرت فيه الخلع العباسية في أعلى الصور ، وبرز منها للعيون ما يعثر البليغ عند
وصفه في ذيل الحصر ، ويهدي سواده سواد القلب والبصر ، فيا لمشهدها ما أعجب ما كان
، ومرآها الذي راع الكفر وراق الإيمان ، وأشبه
__________________
يومه بالأندلس يوم
خرجت الرايات السود من خراسان ، وكفى بهذا فخارا لا يحتاج ثابته مثبتا ، أن باشرت بردا
باشر البدن الذي طاب حيّا وميتا ، فهو على في الإسناد ولا نظير له في العوالي ، وفخار ضلّت
عن مثله العصور الخوالي ، وجلّت بهجته أن تخلق جدّتها الأيام والليالي ، ودلّ
الكتاب العزيز على التسمية المشتقة من الجهاد ، والسمة من سيف أمير المؤمنين بما
لا يدخل في جنس ذوات الأغماد ، وخير الأوصاف ما صدقه الموصوف ، والكريم النسب
نسبته يباهي بها الدين وتزهى السيوف : [الطويل]
فإن نحن سمّيناك
خلنا سيوفنا
|
|
من التّيه في
أغمادها تتبسّم
|
وممّا أفاده
الكتاب المبهج بطيب أنبائه ، نصّ علامة سيدنا ، صلوات الله عليه وعلى آبائه ،
فإنّها تضمّنت صفة لله ، عزّ وجلّ ، من صفات الكمال ، ودلّت على مذهب أهل السّنّة
في خلق الله ، عزّ وجلّ ، الأعمال ، وأشعرتنا معشر العبيد بعناية سبقت بالمقام
المجاهدي المتوكلي ـ أحسن الله تعالى إليه! ـ حين تولّى خلافة أمير المؤمنين صلوات
الله عليه ، فإنه لمّا شايعه بعزيمة مساعدة ، ونيّة في مشارع الصفاء والإخلاص
واردة ، ألهم زيادة في العلامة شاركت الإمامة في صفة واحدة ، فهذه كرامة في
العلامة ، هي علامة الكرامة ، وهبة من مواهب الكشف يجدها من امتثل قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] فكان
من أهل الاستقامة ، وتضمّن الكتاب الكريم بيعة أهل جيّان وما معها ، وإن هذه
البشائر وما تبعها ، لفروع عن هذا الأصل الصحيح ، وأقيسة من هذا النصّ الصريح ،
بأدلة الخلاف قد استقلّت ، وشبهة الخلاف قد بطلت واضمحلّت ، والحمد لله
على أن منح جزيل النعماء ، وشرح باليقين صدور الأولياء ، وشرّف هذه الأمة بإمامة
نجل الأئمة الخلفاء ، وابن عمّ سيّد الرسل وخاتم الأنبياء ، والعبيد يهنئون بهذه
النّعم ، التي لا يستقلّ بذكرها قلم ، ولا يقطع علم من وصفها إلّا بدا علم ، وبهم من الأشواق إلى مشاهدة المعالم السنيّة ، ولثم
اليمين الطاهرة العليّة ، ما أكّده دنو الدار ، وجدّده ما تجدّد للمقام العالي
المتوكلي من نعم الله تعالى الجليلة المقدار ، والشاهدة له بإسعاد الأيام وإسعاف
الأقدار ، فلو أمكنهم الإقدام لأقدموا ، ولو وجدوا رخصة في المسير لعزموا ،
__________________
وهم يستلمون
البساط الأشرفي توهّما ومن أملهم أنهم في الحقيقة قد استلموا ، انتهى.
وبه تعلم أن
الدولة العباسية خطب لها ببلاد الأندلس ـ أعادها الله للإسلام! ـ ولا يخفاك أنّ ما
جلبناه من ذلك وغيره مناسب للمقام ، فلا انتقاد ولا ملام.
وقد رأيت أن أذكر
هنا مخاطبة صدرت من الغني بالله صاحب الأندلس إلى السلطان المنصور أحمد ابن
السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، من إنشاء الوزير الكبير لسان الدين بن الخطيب
رحمه الله ، لما اشتملت عليه من أحوال الأندلس ، ونصّها : الأبواب التي تفتح
لنصرها أبواب السماء ، وتستدرّ من آفاقها سحائب النعماء ، وتجلى بأنوار سعدها
دياجي الظلماء ، وتعرّف نكرة البلاد ، والعباد بالانتساب إلى محبّتها والانتماء ،
على اختلاف العروض وتباين الحدود وتعدّد الأسماء ، ويجتزأ من صلات صلاتها عند
الموانع من كمال حالات صفاتها بالإيماء ، وتحمل لها التحيّة ذوات الدّسر والألواح طاعنة نحر الصباح على كتد الماء ، أبواب السلطان الكبير ، الجليل الشهير ، الطاهر الظاهر ،
الأوحد الأسعد ، الأصعد الأمجد ، الأعلى العادل ، العالم الفاضل الكامل ، سلطان
الإسلام والمسلمين ، عماد الدنيا والدين ، رافع ظلال العدل على العالمين ، جمال
الإسلام ، علم الأعلام ، فخر الليالي والأيام ، ملك البرّين والبحرين ، إمام
الحرمين ، مؤمّن الأمصار والأقطار ، عاصب تاج الفخار ، هازم الفرنج والترك
والتتار ، الملك المنصور ابن الأمير الرفيع الجادة ، الكريم الولادة ، الطاهر
الظاهر ، الكبير الشهير ، المعظّم الممجّد الأسمى ، الموقّر الأعلى ، فخر الجلّة ،
سيف الملّة ، تاج الإمارة ، عزّ الإسلام ، مستظلّ الأنام ، قمر الميدان ، أسد
الحرب العوان ، المقدّس المطهّر ، الأمير أحمد ابن والد السلاطين ، ومالك المسلمين
، وسيف خلافة الله على العالمين ، ووليّ المؤمنين ، سلطان الجهاد والحجّ ، ومقيم
رأس العجّ والثجّ ، محيي معالم الدين ، قامع المعتدين ، قاهر الخوارج والمتمرّدين
، ناصر السّنّة ، محيي الملّة ، ملك البرّين والبحرين ، سلطان الحرمين ، الملك
العادل ، العالم العامل ، المنصور المؤيّد المعان المرفّع المعظّم المبجّل المؤمّل
، المجاهد المرابط المغازي الممجّد المكمّل ، المطهّر الكبير الشهير ، المقدّس الملك
الناصر أبي عبد الله محمد بن قلاوون الصالحي ، جعل الله فسطاط دعوته معمودا بعمود
الصبح ، وحركات عزمه مبنية على الفتح ، ومجمل سعادته غنيّا عن الشّرح ،
__________________
وجياد أوصافه
متبارية في ميدان المدح ، وزناد رأيه وارية على القدح ، من موجب حقه وجوب الشعائر
الخمس ، المرحب لأجل أفقه الشرقيّ بوفادة الشمس ، المجدّد في اليوم حكم ما تقرر
بين السلف رحمهم الله بالأمس ، أمير المسلمين بالأندلس عبد الله الغني بالله
الغالب به محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر. سلام كريم كما زحفت راية الصبح
تقدمها طلائع مبشرات الرياح ، يفاوح أرجه أزاهير الأدواح ، ويحاسن طرر الوجوه الملاح ، يخصّ أبوّتكم التي رتب العزّ فصولها ، وعضدت نصوص النصر
نصولها ، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله
الذي جعله فاتحة القرآن ، وخاتمة دعاء أهل الجنان ، وشكره على ما أولى من مواهب
الإحسان ، حمدا وشكرا يستخدمان من الإنسان ، ملكتي القلب واللسان. والصلاة والسلام
على سيّدنا ومولانا محمد رسوله زهرة كمامة الأكوان ، وسيّد ولد آدم على اختلاف
اللغات والألوان ، الذي أذلّ بعزّة الله نفوس أهل الطغيان ، وغطى بدينه الحق على
الأديان ، وزويت له الأرض فرأى ملك أمّته يبلغ ما زوي له فكان الخبر وفق العيان ،
والرضا عمّن له من الأصحاب والأحباب والأعمام والأخوال والإخوان ، صلاة يجدّدها
الجديدان ، ويمليها الملوان وتتزاحم على تربته المقدّسة مع الأحيان
، ما سجعت طيور البراعة من أعواد اليراعة على الأفنان ، والتفتت عيون المعاني ما
بين أجفان البيان ، والدعاء لأبوابكم الشريفة جعل الله تعالى عصمته تقيم بها
وظيفتي الحجابة والاستئذان ، وضرب بدعوتها التي هي لذّة الإقامة والأذان على
الآذان ، واستخدم بروج الفلك الدوار في أمرها العزيز استخدام الأنصار والأعوان ،
حتى يعلم ما في المدافعة عن حماها مخالب السّرحان ، وفي الإشادة بعدلها كفّتي الميزان ، ويهدي لها من الزهرة
كرة الميدان ، ومن الهلال عوض الصولجان ، وأبقى في عواملها ضمير الأمر والشان ،
إلى يوم تعنو وجوه الملوك إلى الملك الديّان ، فإنّا كتبناه إلى تلك
الأبواب ، كتب الله لعتبتها النصرة الداخلة ، كما أخجل بمكارمها السحب الباخلة ،
وجعل مفارق مناصلها المختضبة من نجيع عداها غير ناصلة ، وقرن بكل سبب عن أضدادها
فاصلة ، من دار ملك الإسلام بالأندلس حمراء غرناطة ـ وصل الله سبحانه عادة الدفاع
عن أرجائها! وشدّ بأيدي اليقين عرى أملها في الله ورجائها! ـ حيث المصافّ المعقود ، وثمن النفوس المنقود ، ونار الحرب ذات الوقود ،
حيث الأفق قد تردّى بالقتام وتعمّم ، والسيف قد تجرّد وتيمّم ، وغبار الجهاد يقول : أنا
الأمان من دخان
__________________
جهنّم ، حيث الإسلام
من عدوّه كالشامة من جلد البعير ، والتمرة من أوسق العير ، حيث المصارع تتزاحم
الحور على شهدائها ، والأبطال يعلو بالتكبير مسمع ندائها ، حيث الوجوه الضاحكة
المستبشرة قد زيّنتها الكلوم بدمائها ، وإنّ هذا القطر الذي مهدت لسياستنا أكوار
مطاياه ، وجعلت بيدنا ـ والمنّة لله ـ عياب عطاياه ، قطر مستقلّ بنفسه ، مرب يومه
في البرّ على أمسه ، زكيّ المنابت عذب المشارب ، متمّم المآمل مكمّل المآرب ، فاره
الحيوان ، معتدل السّحن والألوان ، وسيطة في الأقاليم السبعة ، شاهدة لله بإحكام
الصنعة ، أما خيله ففارهة ، وإلى الرّكض شارهة ، وأما سيوفه فلمواطن الغمود كارهة
، وأمّا أسله فمتداركة الخطف ، وأما عوامله فبيّنة الحذف ، وأمّا نباله
فمحذورة القذف ، إلّا أنّ الإسلام به في سفط مع الحيّات ، وذريعة للمنيّات الوحيّات ، وهدف للنبال ، وأكلة للشّبال ، تطؤهم الغارات المتعاقبة
، وتخيفهم الحدود المصاقبة ، وتجوس خلالهم العيون المراقبة ، وتريب
من أشكال مختطّهم إلّا أن يتفضل الله بحسن العاقبة ، فليس إلّا الصبر ، والضّرب
الهبر ، والهمز والنبر ، والمقابلة والجبر ، وقد حال البحر بينهم وبين إخوان
ملّتهم ، وأساة علّتهم ، يقومون بهذا الفرض ، عن أهل الأرض ، ويقرضون ملك يوم
العرض ، أحسن القرض ، فلو لا بعد المدى ، وغول الرّدى ، ولغط العدا ، وما عدا ممّا
بدا ، لسمعتم تكبير الحملات ، وزئير تلك القلّات ، ودويّ الحوافر ، وصليل السيوف
من فوق المغافر ، وصراخ الثّكالى ، وارتفاع الأدعية إلى الله تعالى ، ولو ارتفع
هذا المكان ، وهو للأولياء مثلكم من حيّز الإمكان ، لمقلتم مقل الأسنّة الزّرق ،
حالّة من أطراف قصب الرماح محالّ الورق ، وأبصرتم القنا الخطّار قد عاد أخلّة ،
والسيوف قد صارت فوق بدور الخوذ أهلّة ، وعقود الشهادة عند قاضي السعادة مستقلّة ،
وكان كما تحصره علومكم الشريفة حدق سور الفتح ، وآخر ولاء ذلك المنح ، عرض على الفاروق فاحتاط ، وأغرى به من بعده فاشتاط ،
وسرحت خيال ابن أبي سرح ، في خبر يدعو إلى شرح ، حتى إذا ولد مروان تقلّدوا كرتها
التي هوت ، وقضموا ما أنضجت ورثة الحق وشوت ، ويدهم على الأمر احتوت ، وفازت
منه بما نوت ، نفل ولائده الوليد ، وجلب له الطريف والتليد ، وطرقت خيل طارق ،
وضاقت عن أخباره المهارق ، وجلّت الفائدة ، وظهر على الذخيرة التي منها المائدة ،
ثم استرسل المهبّ ، ونصر الربّ ، ويكثر الطير
__________________
حين ينتثر الحبّ ،
وصرفت أشراف الشام أعنّتها إلى التماس خيره ، وطارت بأجنحة العزائم تيمّنا بطيره ،
وقصدته الطلائع صحبة بلج بن بشر وغيره ، ففتحت الأقفال ، ونفلت الأنفال ، ونجح
الفال ، ووسمت الأغفال ، وافتتحت البلاد الشهيرة ، وانتقيت العذارى الخيرة ،
واقتنيت الذخيرة ، وتجاوز الإسلام الدروب وتخطّى ، وخضد الأرطى ، وأركب وأمطى ، واستوثق واستوطا ، وتثاءب وتمطّى ، حتى
تعدّدت مراحل البريد ، وسخنت عين الشيطان المريد ، واستوسق للإسلام ملك ضخم
السّرادق ، مرهوب البوارق ، رفيع العمد ، بعيد الأمد ، تشهد بذلك الآثار والأخبار ،
والوقائع الكبار ، والأوداق والأمطار ، وهل يخفى النهار؟ ولكل هبوب ركود ، والدهر حسود لمن يسود
، فراجعت الفرنج كرّتها ، واستدركت معرّتها ، فدوّمت جوارحها وحلّقت ، وأومضت
بوارقها وتألّقت ، وتشبّثت وتعلّقت ، وأرسلت الأعنّة وأطلقت ، وراجعت العقائل التي
طلّقت ، حتى لم يبق من الكتاب إلّا الحاشية ، ولا من الليل إلّا الناشية ، وسقطت
الغاشية ، وأخلدت الفئة المتلاشية ، وتقلّصت الظلال الفاشية ، إلّا أنّ الله تدارك
بقوم رجّح من سلفنا أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم ، وأخلصوا لله بأسهم وإقدامهم
، ووصلوا سيوفهم البارقة بخطاهم ، وأعطاهم منشور العز من أعطاهم ، حين تعيّن الدين
وتحيّز ، واشتدّ بالمدافعة وتميّز ، وعادت الحروب سجالا ، وعلم الروم أنّ لله
رجالا ، وقد أوفد جدّنا ـ رضي الله عنه! ـ على أبواب سلفكم من وقائعه في العدوّ
كلّ مبشّرة ، ووجوه به مستبشرة ، ضحكت لها ثغور الثغور ، وسرت بها في الأعطاف حميّا
السرور ، وكانت المراجعة عنها شفاء للصدور ، وتمائم في درر النحور ، وخفرا في وجوه البدور ، فإن ذمام الإسلام موصول ، وفروعه
تجمعها في الله أصول ، وما أقرب الحزن ممّن داره صول ، والملّة ـ والمنّة لله ـ واحدة ، والنفوس لا منكرة للحقّ
ولا جاحدة ، والأقدار معروفة ، والآمال إلى ما يوصل إلى الله مصروفة ، فإذا لم يكن
الاستدعاء ، أمكن الدعاء ، والخواطر فعّالة ، والكلّ على الله عالة ، والدين غريب
والغريب يحنّ إلى أهله ، والمرء كثير بأخيه على بعد محلّه.
انتهى المقصود من
المخاطبة مما يتعلّق بهذا الباب ، والله سبحانه وتعالى الموفّق للصواب.
__________________
الباب الثالث
الدولة الإسلامية في الأندلس
في سرد بعض ما كان
للدّين بالأندلس من العزّ السامي العماد ، والقهر للعدوّ في الرواح والغدوّ
والتحرّك والهدوّ والارتياح البالغ غاية الآماد ، وإعمال أهلها للجهاد ، بالجدّ
والاجتهاد ، في الجبال والوهاد ، بالأسنّة المشرعة والسيوف المستلّة من الأغماد.
أقول : قدّمنا في
الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين ، وفتحهم الأندلس ، وما حصل لهم من سلطان
بها إلى مجيء الداخل ، فتقرّرت القواعد السلطانية ، وعلت الكلمة الإيمانية ، كما
نسرده هنا إن شاء الله تعالى.
وذكر غير واحد ـ منهم
ابن حزم ـ أن دولة بني أميّة بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام ، وأنكاها في العدو ،
وقد بلغت من العزّ والنصر ما لا مزيد عليه ، كما سترى بعضه.
وأصل هذه الدولة ـ
كما قال ابن خلدون وغير واحد ـ أنّ بني أمية لمّا نزل بهم بالمشرق ما نزل ، وغلبهم
بنو العباس على الخلافة ، وأزالوهم عن كرسيّها ، وقتل عبد الله بن علي مروان بن
محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة ، وتتبّع بني مروان
بالقتل ، فطلبوا بطن الأرض من بعد ظهرها. وكان ممّن أفلت منهم عبد الرحمن بن
معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، وكان قومه يتحيّنون له ملكا بالمغرب ،
ويرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن مسلمة بن عبد الملك ، وكان هو قد سمعها منه
مشافهة ، فكان يحدّث نفسه بذلك ، فخلص إلى المغرب ، ونزل على أخواله نفزة من برابرة طرابلس. وشعر به عبد الرحمن بن حبيب ، وكان قد
قتل ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك لمّا دخلا إفريقية ، فلحق بمغيلة ، وقيل
بمكناسة ، وقيل : بقوم من زناتة ، فأحسنوا قبوله ، واطمأنّ فيهم. ثم لحق بمليلة ،
وبعث بدرا مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين وأشياعهم ، فاجتمع بهم ،
وبثّوا له في الأندلس دعوة ، ونشروا له ذكرا. ووافق قدومه ما كان من الإحن بين اليمنية
__________________
والمضريّة ،
فأصفقت اليمنية على أمره ؛ لكون الأمر كان ليوسف بن عبد الرحمن
الفهري وصاحبه الصّميل ، ورجع بدر مولاه إليه بالخبر ، فأجاز البحر سنة ثمان
وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور ، ونزل بساحل المنكّب ، وأتاه قوم من أهل
إشبيلية فبايعوه. ثم انتقل إلى كورة ريّة فبايعه عاملها عيسى بن مساور ، ثم إلى
شذونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخميّ. ثم إلى مورور فبايعه ابن الصباح ، ونهد إلى
قرطبة فاجتمعت إليه اليمنية. ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن
الفهري ، وكان غازيا بجلّيقية ، فانفضّ عسكره ، ورجع إلى قرطبة ، وأشار عليه وزيره
الصّميل بن حاتم بالتلطّف له ، والمكر به ، لكونه صغير السّنّ ، حديث عهد بنعمة ،
فلم يتمّ ما أراده. وارتحل عبد الرحمن من المنكّب ، فاحتلّ بمالقة فبايعه جندها ،
ثم برندة ، ثم بشريش كذلك ، ثم بإشبيلية ، فتوافت إليه جنود الأمصار ، وتسايلت
المضرية إليه ، حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهريّة والقيسية لمكان
الصّميل منه زحف حينئذ عبد الرحمن الداخل ، وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة ، فانكشف
يوسف ، ولجأ إلى غرناطة فتحصّن بها ، وأتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله. ثم رغب
إليه يوسف في الصلح ، فعقد له على أن يسكن قرطبة ، ثم أقفله معه ، ثم نقض يوسف
عهده ، وخرج سنة إحدى وأربعين ومائة ، ولحق بطليطلة ، واجتمع إليه زهاء عشرين ألفا
من البربر ، وقدّم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني ، وكان وفد
عليه من المشرق ، وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن
مروان بمصر ، فلمّا دخلت المسوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يؤمّ الأندلس في عشرة
رجال من قومه مشهورين بالبأس والنجدة ، حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين ، فعقد
له على إشبيلية ، ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور. وسار يوسف إليهما ، وخرجا
إليه ولقياه ، وتناجز الفريقان ، فكانت الدائرة على يوسف ، وأبعد المفرّ ، واغتاله
بعض أصحابه بناحية طليطلة ، واحتزّ رأسه ، وتقدّم به إلى الأمير عبد الرحمن ،
فاستقام أمره ، واستقرّ بقرطبة ، وثبت قدمه في الملك ، وبنى المسجد الجامع والقصر
بقرطبة ، وأنفق فيه ثمانين ألف دينار ، ومات قبل تمامه. وبنى مساجد ، ووفد عليه
جماعة من أهل بيته من المشرق ، وكان يدعو للمنصور ، ثم قطع دعوته ، ومهّد الدولة
بالأندلس ، وأثّل بها الملك العظيم لبني مروان والسلطان العزيز ، وجدّد ما طمس لهم
بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها ، واستلحم الثّوّار عليه على كثرتهم في النّواحي
، وقطع دعوة آل العباس من منابر الأندلس ، وسدّ المذاهب منهم دونها ، وهلك سنة
ثنتين وسبعين ومائة ، وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل ؛ لأنه أول داخل من ملوك بني
مروان إلى الأندلس ، وكان أبو
__________________
جعفر المنصور
يسميه «صقر قريش» لمّا رأى أنه فعل بالأندلس ما فعل ، وما ركب إليها من الأخطار ،
وأنه نهد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا أنصار ، فغلب أهلها على
أمرهم ، وتناول الملك من أيديهم بقوّة شكيمة ، ومضاء عزم حتى انقاد له الأمر ،
وجرى على اختياره ، وأورثه عقبه ، وكان يسمّى بالأمير ، وعليه جرى بنوه من بعده ،
فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدّبا مع الخلافة بمقرّ الإسلام ومنتدى العرب ،
حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر ، وهو ثامن بني أمية بالأندلس ، فتسمّى بأمير
المؤمنين على ما سنذكره ، لمّا رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة ،
وغلبة الأعاجم عليهم ، وكونهم لم يتركوا لهم غير الاسم ، وتوارث التلقيب بأمير
المؤمنين بنو عبد الرحمن الناصر واحدا بعد واحد.
قال ابن حيان : وكان لبني عبد الرحمن الداخل بالعدوة الأندلسية ملك ضخم
ودولة متّسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة ، وعند ما شغل المسلمون بعبد الرحمن
وتمهيد أمره قوي أمر الجلالقة ، واستفحل سلطانهم ، وعمد فرويلة بن أذفونش ملكهم إلى ثغور البلاد فأخرج
المسلمين منها ، وملكها من أيديهم ، فملك مدينة لكّ وبرتقال وسمّورة وقشتالة
وشقوبية ، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور ابن أبي عامر آخر
الدولة ، ثم استعادوها بعده فيما استعادوه من بلاد الأندلس ، واستولوا على جميعها
حسبما يذكر ، ولله سبحانه الأمر ، انتهى.
وخاطب عبد الرحمن
قارله ملك الإفرنج ، وكان من طغاة الإفرنج ، بعد أن تمرّس به مدّة ، فأصابه صلب
المكسر ، تامّ الرجولية ، فمال معه إلى المداراة ، ودعاه إلى
المصاهرة والسّلم ، فأجابه للسلم ، ولم تتمّ المصاهرة.
قال ابن حيّان :
ولما ألفى الداخل الأندلس ثغرا قاصيا غفلا من حلية الملك عاطلا أرهف أهلها بالطاعة السلطانية ، وحنّكهم بالسّيرة الملوكية ،
وأخذهم بالآداب فأكسبهم عمّا قليل المروءة ، وأقامهم على الطريقة ، وبدأ فدوّن
الدواوين ، ورفع الأواوين ، وفرض الأعطية ، وعقد الألوية ، وجنّد الأجناد ، ورفع
العماد ، وأوثق الأوتاد ، فأقام للملك آلته ، وأخذ للسلطان عدّته ، فاعترف له بذلك
أكابر الملوك وحذروا جانبه ، وتحاموا حوزته ، ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس ،
واستقلّ له الأمر فيها.
__________________
فلذلك ما ظلّ
عدوّه أبو جعفر المنصور ـ بصدق حسّه ، وبعد غوره ، وسعة إحاطته ـ يسترجح عبد
الرحمن كثيرا ، ويعدله بنفسه ، ويكثر ذكره ، ويقول : لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع
طول مراسه وقوة أسبابه ، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذيّ الفذّ في جميع شؤونه ، وعدمه لأهله ونشبه ، وتسلّيه عن
جميع ذلك ببعد مرقى همّته ، ومضاء عزيمته ، حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء
مجده ، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل ، نائية المطمع ، عصبية الجند ، ضرب بين جندها
بخصوصيته ، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته ، واستمال قلوب رعيّتها بقضية سياسته ، حتى
انقاد له عصيّهم ، وذلّ له أبيّهم ، فاستولى فيها على أريكته ، ملكا على قطيعته ، قاهرا لأعدائه ، حاميا لذماره ، مانعا لحوزته ، خالطا
الرغبة إليه بالرهبة منه ، إنّ ذلك لهو الفتى كلّ الفتى لا يكذب مادحه.
وجعل ابن حيّان من
النوادر العجيبة موافقة عبد الرحمن هذا لأبي جعفر المنصور في الرجولية والاستيلاء
والصّرامة ، والاجتراء على الكبائر والقساوة ، فإن أمّ كلّ واحد منهما بربرية. وكان الداخل يقعد للعامّة ،
ويسمع منهم ، وينظر بنفسه فيما بينهم ، ويتوصّل إليه من أراده من الناس ، فيصل
الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقّة ، وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه
من أدرك وقت طعامه ، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه.
وفي كتاب ابن
زيدون أنه كان أصهب ، خفيف العارضين ، بوجهه خال ، طويل القامة ، نحيف الجسم ،
له ضفيرتان ، أعور ، أخشم ؛ والأخشم : الذي لا يشمّ ، وكان يلقّب «بصقر قريش»
لكونه تغرّب وقطع البرّ والبحر ، وأقام ملكا قد أدبر وحده.
ولمّا ذكر الحجاري
أنه أعور قال : ما أنشد فيه إلّا قول امرئ القيس : [المنسرح]
لكن عوير وفى
بذمّته
|
|
لا عور شانه ولا
قصر
|
وقال ابن خلدون :
وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى
__________________
الأندلس ، ونزل
بباجة الأندلس داعيا لأبي جعفر المنصور ، واجتمع إليه خلق ، فسار عبد الرحمن إليه
ولقيه بنواحي إشبيلية ، فقاتله أياما. ثم انهزم العلاء ، وقتل في سبعة آلاف من
أصحابه ، وبعث عبد الرحمن برءوس كثير منهم إلى القيروان ومكّة ، فألقيت في أسواقها
سرّا ، ومعها اللواء الأسود ، وكتاب المنصور للعلاء ، فارتاع المنصور لذلك وقال :
ما هذا إلّا شيطان ، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر ، أو كلاما هذا معناه
، وقد مرّ ذكر ذلك. وكثرت ثورة رؤساء العرب بالأندلس على عبد الرحمن الداخل ،
ونافسوه ملكه ، ولقي منهم خطوبا عظيمة ، وكانت العاقبة له ، واستراب في آخر أمره
بالعرب ، لكثرة من قام عليه منهم ، فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم ، واتخاذ
الموالي ، ثم غزا بلاد الإفرنج والبشكنس ومن وراءهم ، ورجع بالظّفر ، وكان في
نيّته أن يجدّد دولة بني مروان بالمشرق ، فمات دون ذلك الأمل ، وكانت مدة ملكه
ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر ، إذ دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة ، ومات
سنة اثنتين وسبعين ، وقيل : إحدى وسبعين ومائة ، في خلافة الرشيد ، وأمّه أمّ ولد
بربرية اسمها راح ، ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة ، بدير حنّا من أرض دمشق ، وقيل :
بالعليا من تدمر ،
ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثماني عشرة عن إحدى وعشرين سنة ، وكفله وإخوته
جدّهم هشام ، ووهب لعبد الرحمن هذا جميع الأخماس التي اجتمعت للخلفاء بالأندلس ،
وأقطعه إيّاها ، ووجّه لحيازتها من الشام سعيد بن أبي ليلى ، وقيل : إنه لمّا قصد
المغرب من فلسطين خرج معه أربعة : بدر مولى أبيه ، وأبو شجاع ، وزياد ، وعمرو ،
وقيل : إنّ بدرا لحقه ولم يخرج معه ، فالله أعلم ، وخلف من الولد عشرين ، منهم أحد
عشر رجلا وتسع إناث.
وحكى غير واحد أنه
لمّا هرب من الشام إلى إفريقية قاصدا الأندلس نزل بمغيلة ، فصار بها عند شيخ من
رؤساء البربر يدعى وانسوس ، ويكنى أبا قرّة ، فاستتر عنده وقتا ، ولحق به بدر مولى
أبيه بجوهر وذهب أنفذته أخته إليه ، فلمّا دخل الأندلس واستتبّ أمره به سار إليه
أبو قرة وانسوس البربري ، فأحسن إليه ، وحظي عنده ، وأكرم زوجته تكفات البربرية
التي خبأته تحت ثيابها عندما فتّشت رسل ابن حبيب بيتها عنه ، فقال لها عبد الرحمن
مداعبا حين استظلّت بظله في الأندلس : لقد عذّبتني بريح إبطيك يا تكفات على ما كان
بي من الخوف ، وسطعتني
__________________
بأنتن من ريح
الجيف ، فكان جوابها له مسرعة : بل ذلك كان والله يا سيدي منك ، خرج ولم تشعر به
من فرط فزعك ، فاستظرف جوابها ، وأغضى عن مواجهتها بمثل ذلك ، وهذا من آفات
المزاح.
ومن محاسنه أنه
أدار السور بقرطبة ، رحمه الله !.
وتولّى الملك بعده
ابنه هشام بعهد منه إليه ، وأمّه أمّ ولد اسمها حلل ، وأفضى إليه الملك وهو بماردة
وال عليها ، وكان أبوه يوليه في صباه ويرشّحه للأمر ، وكان الداخل كثيرا ما يسأل
عن ابنيه سليمان وهشام ، فيذكر له أن هشاما إذا حضر مجلسا امتلأ أدبا وتاريخا
وذكرا لأمور الحرب ومواقف الأبطال ، وما أشبه ذلك ، وإذا حضر سليمان مجلسا امتلأ
سخفا وهذيانا ، فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان ، وقال يوما لهشام : لمن
هذا الشعر : [الطويل]
وتعرف فيه من
أبيه شمائلا
|
|
ومن خاله أو من
يزيد ومن حجر
|
سماحة ذا ، مع
برّ ذا ، ووفاء ذا ،
|
|
ونائل ذا ، إذا
صحا وإذا سكر
|
فقال له : يا سيدي ، لامرىء القيس ملك كندة ، وكأنه قاله
في الأمير أعزّه الله! فضمّه إليه استحسانا بما سمع منه ، وأمر له بإحسان كثير ،
وزاد في عينيه. ثم قال لسليمان على انفراد : لمن هذا الشعر؟ وأنشده البيتين ، فقال
: لعلّهما لأحد أجلاف العرب ، أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب؟ فأطرق عبد
الرحمن ، وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية.
ولمّا ولي هشام
أشخص المنجم المعروف بالضّبّي من وطنه الجزيرة الخضراء إلى قرطبة ، وكان في علم
النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقا وإصابة ، فلمّا أتاه خلا به
وقال له : يا ضبّي ، لست أشكّ أنه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم ندع تحديد النظر فيه ، فأنشدك الله إلّا ما نبّأتنا بما ظهر لك فيه ،
فلجلج وقال : أعفني أيها الأمير ، فإني
__________________
ألممت به ، ولم
أحقّق النظر فيه لجلالته في نفسي ، فقال له : قد أجّلتك لذلك ، فتفرّغ للنظر فيما
بقي عليك منه ، ثم أحضره بعد أيام ، فقال : إن الذي سألتك عنه جدّ مني ، مع أني
والله ما أثق بحقيقته ، إذ كان من غيب الله الذي استأثر به ، ولكني أحبّ أن أسمع
ما عندك فيه ، فالنفس طلعة ، وألزمه الصّلة أو العقوبة ، فقال : اعلم أيها الأمير أنه
سوف يستقرّ ملكك ، سعيدا جدّك ، قاهرا لمن عاداك ، إلّا أنّ مدّتك فيه فيما دلّ
عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها ، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال : يا ضبّي ،
ما أخوفني أن يكون النذير كلّمني بلسانك ، والله لو أنّ هذه المدّة كانت في سجدة
لله تعالى لقلّت طاعة له ، ووصله وخلع عليه ، وزهد في الدنيا ، ولزم أفعال الخير
والبرّ.
ومن حكاياته في
الجود أنه كان قاعدا لراحته في علّية على النهر في حياة والده ، فنظر إلى رجل من
قدماء صنائعه من أهل جيّان قد أقبل يوضع السير في الهاجرة ، فأنكر ذلك ، وقدّر
شرّا وقع به من قبل أخيه سليمان ، وكان واليا على جيّان ، فأمر بإدخاله عليه ،
فقال له : مهيم يا كناني ، فلأمر ما ، وما أحسبك إلّا مزعجا لشيء دهمك ، فقال : نعم يا سيدي ،
قتل رجل من قومي رجلا خطأ ، فحملت الدّية على العاقلة ، فأخذ بها من كنانة عامّة ،
وحمل عليّ من بينهم خاصّة ، وقصدني أخوك بالاعتداء إذ عرف مكاني منك ، فمدّ هشام
يده إلى جارية كانت وراء الستر ، وقطع قلادة عقد نفيس كان في نحرها ، وقال له :
دونك هذا العقد يا كناني ، وشراؤه عليّ ثلاثة آلاف دينار ، فلا تخدعنّ عنه ، وبعه
، وأدّ عن نفسك وعن قومك ، ولا تمكّن الرّجل من اهتضامك ، فقال : يا سيدي ، لم آتك
مستجديا ولا لضيق المال عمّا حملته ، ولكني لما اعتمدت بظلم صراح أحببت أن يظهر
على عزّ نصرك ، وأثر ذبّك وامتعاضك ، فأتمجّد بذلك عند من يحسدني على الانتماء
إليك ، فقال هشام : فما وجه ذلك؟ فقال : أن تكتب إلى أخيك في الإمساك عنّي ،
والقيام بذمّتك لي ، فقال : أمسك العقد ، وركب من حينه إلى والده الداخل ، واستأذن
عليه في وقت أنكره ، فانزعج ، وقال : ما أتى بأبي الوليد في هذا الوقت إلّا أمر
مقلق ، ائذنوا له ، فلمّا دخل سلّم عليه ، ومثل قائما بين يديه ، فقال له : اجلس
يا هشام ، فقال : أصلح الله الأمير سيدي ، وكيف جلوسي بهمّ وذلّ مزعج ، وحقّ لمن
قام مقامي أن لا يجلس إلّا مطمئنا ، ولن يقعدني إلّا طيب نفسي بإسعاف الأمير
لحاجتي ، وإلّا رجعت على عقبي ، فقال له : حاش لك من انقلابك خائبا ، فاقعد مجابا
مشفّعا ، فجلس ، فقال له
__________________
أبوه : فما الحدث
المقلق؟ فأعلمه ، فأمر بحمل الدّية عنه وعن عشيرته من بيت المال ، فسرّ هشام وأطنب
في الشكر ، وكتب الأمير إلى ولده سليمان في ترك التعرّض لهذا الكناني لما لم يدر
في خلده . ولمّا دخل الكناني لوداع هشام قال له : يا سيدي ، قد
تجاوزت بك حدّ الأمنية ، وبلغت غاية النصر ، وقد أغنى الله عن العقد المبذول بين
يدي العناية الكريمة ، فتعيده إلى صاحبته ، فأبى من ذلك ، وقال : لا سبيل إلى
رجوعه إلينا.
وكان هشام يذهب
بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز ، وكان يبعث بقوم من ثقاته إلى الكور فيسألون الناس
عن سير عمّاله ، ويخبرونه بحقائقها ، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه
وأنصف منه ، ولم يستعمله بعد.
ولمّا وصفه زياد
بن عبد الرحمن لمالك بن أنس قال : نسأل الله تعالى أن يزيّن موسمنا بمثل هذا .
وفي أيامه فتحت
أربونة الشهيرة ، واشترط على المعاهدين من أهل جلّيقية من صعاب شروطه انتقال عدد
من أحمال التراب من سور أربونة المفتتحة يحملونها إلى باب قصره بقرطبة ، وبنى منه
المسجد الذي قدّام باب الجنان ، وفضلت منه فضلة بقيت مكوّمة.
وقاسى مع
المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروبا ، ثم كانت الدائرة له.
وقصد إلى بلاد
الحرب غازيا ، وقصد ألبة والقلاع ، فلقي العدوّ وظفر بهم ، وفتح الله عليه سنة خمس
وسبعين. وبعث العساكر إلى جلّيقية مع يوسف بن نجية ، فلقي ملكها ابن منده ، وهزمه ، وأثخن في العدوّ.
وفي سنة ست وسبعين
بعث وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدوّ ، فبلغ ألبة والقلاع ،
فأثخن في نواحيها ، ثم بعثه في العساكر سنة سبع وسبعين إلى أربونة وجريدة فأثخن فيها ، ووطئ أرض برطانية ، وتوغّل عبد الملك في بلاد
الكفّار وهزمهم ، ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع
سنة ثمان وسبعين ، ومع أخيه
__________________
عبد الملك بن عبد
الواحد إلى بلاد جلّيقية ، فانتهى إلى أسترقة ، فجمع له ملك الجلالقة واستمدّ بملك
البشكنس ، ثم خام عن اللقاء. ورجع أدراجه ، واتّبعه عبد الملك ، وكان هشام
قد بعث الجيوش من ناحية أخرى ، فالتقوا بعبد الملك ، وأثخنوا في البلاد ، واعترضهم
عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ، ثم خرجوا سالمين ظافرين.
ومن محاسنه أنه
جدّد القنطرة التي يضرب بها المثل بقرطبة كما سبق ، وكان بناها السّمح الخولاني
عامل عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، فأحكم هشام بناءها إلى الغاية ، وقال
يوما لأحد وزرائه : ما يقول أهل قرطبة؟ فقال : يقولون : ما بناها الأمير إلّا
ليمضي عليها إلى صيده وقنصه ، فآلى هشام على نفسه أن لا يسلك عليها ، فلم يمرّ عليها
بعد ، ووفى بما حلف عليه.
ومن محاسنه أيضا
إكمال بناء الجامع بقرطبة ، وكان أبوه قد شرع فيه ؛ ومن محاسنه أنه أخرج المصدّق لأخذ الزكاة على الكتاب والسّنّة ، رحمه الله.
ثم توفي سنة
ثمانين ومائة ، لسبع سنين وتسعة أشهر من إمارته ، وقيل : لثمان ـ وكان من أهل
الخير والصلاح ، كثير الغزو والجهاد ـ وعمره أربعون سنة وأربعون أشهر ، وولد في
شوّال سنة ١٣٧ . وولي بعده ابنه الحكم بعهد منه إليه ، فاستكثر من المماليك ، وارتبط الخيل ، واستفحل ملكه ،
وباشر الأمور بنفسه. وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عمّيه اغتنم العدوّ الكافر
الفرصة في بلاد المسلمين ، وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين ، وتأخّرت
عساكر المسلمين إلى ما دونها ، وبعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث
إلى بلاد الجلالقة ، فأثخنوا فيها ، وخالفهم العدوّ إلى المضايق ، فرجع على
التعبية ، وظفر بهم ، وخرج إلى بلاد الإسلام ظافرا. وكانت له الواقعة الشهيرة مع
أهل الرّبض من قرطبة لأنه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذّاته ،
فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة ، مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك وأحد رواة
الموطّإ عنه وطالوت الفقيه وغيرهما ، فثاروا به ، وخلعوه ، وبايعوا بعض قرابته ،
وكانوا بالرّبض الغربيّ من قرطبة ، وكان محلّة متّصلا بقصره ، فقاتلهم الحكم ، فغلبهم ، وافترقوا ، وهدم دورهم
ومساجدهم ، ولحقوا بفاس من أرض العدوة ،
__________________
وبالإسكندرية من
أرض المشرق ، ونزل بها جمع منهم ، ثم ثاروا بها ، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر
صاحب مصر للمأمون بن الرشيد ، وغلبهم ، وأجازهم إلى جزيرة أقريطش ، فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم بعد
مدّة.
وكانت في أيام
الحكم حروب وفتن مع الثوّار المخالفين له من أهل طليطلة وغيرهم.
وفي سنة ثنتين
وتسعين جمع لذريق بن قارله ملك الفرنج جموعه ، وسار إلى حصار طرسونة ، فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر ، فهزمه ، ففتح
الله على المسلمين ، وعاد ظافرا.
ولمّا كثر عيث
الفرنج في الثغور بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست
وتسعين ، فافتتح الثغور والحصون ، وخرّب النواحي ، وأثخن في القتل والسبي والنهب ،
وعاد إلى قرطبة ظافرا.
وفي سنة مائتين
بعث العساكر مع ابن مغيث إلى بلاد الفرنج فخرّب وهدم عدّة حصون ، وأقبل عليه أليط
ملك الجلالقة في جموع عظيمة ، وتنازلوا على نهر ، واقتتلوا عليه أياما ، ونال
المسلمون منهم أعظم النّيل ، وأقاموا كذلك ثلاث عشرة ليلة ، ثم كثرت الأمطار ،
ومدّ النهر ، وقفل المسلمون ظافرين ظاهرين.
وهو أول من جنّد
الأجناد ، واتّخذ العدّة ، وكان أفحل بني أمية بالأندلس ، وأشدّهم إقداما ونجدة ،
وكان يشبّه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العباس في شدّة الملك وتوطيد الدولة
وقمع الأعداء. وكان يؤثر الفقيه زياد بن عبد الرحمن . وحضر يوما عنده ، وقد غضب فيه على خادم له لإيصاله إليه
كتابا كره وصوله ، فأمر بقطع يده ، فقال له زياد : أصلح الله الأمير! فإن مالك بن
أنس حدّثني في خبر رفعه أن «من كظم غيظا يقدر على إنفاذه ملأه الله تعالى أمنا
وإيمانا يوم القيامة» فأمر أن يمسك عن الخادم ، ويعفى عنه ، فسكن غضبه ، وقال : الله
إنّ مالكا حدّثك بهذا؟ فقال زياد : الله إنّ مالكا حدّثني بهذا.
__________________
وكانت المجاعة
الشديدة سنة سبع وتسعين ومائة ، فأكثر فيها مواساة أهل الحاجات ، وفي ذلك يقول
عباس بن ناصح الجزيري فيه : [الكامل]
نكد الزمان
فآمنت أيّامه
|
|
من أن يكون
بعصره عسر
|
ظلع الزمان بأزمة فجلا له
|
|
تلك الكريهة
جوده الغمر
|
وكان نقش خاتمه «بالله
يثق الحكم ويعتصم».
وذكور ولده عشرون
، وإناثهم عشرون ، وأمّه جارية اسمها زخرف.
وكان أسمر ، طوالا
، أشمّ ، نحيفا.
ومدّة ملكه ستّ
وعشرون سنة ، سامحه الله!.
وقال غير واحد :
إنه أول من جعل للملك بأرض الأندلس أبّهة ، واستعدّ بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف
: منهم ثلاثة آلاف فارس ، وألفا راجل.
ثم توفي الحكم بن
هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته ، ومولده سنة ١٥٤.
وقال ابن خلدون
وغير واحد : إنه أول من جنّد بالأندلس الأجناد والمرتزقة ، وجمع الأسلحة والعدد ،
واستكثر من الخدم والحواشي والحشم ، وارتبط الخيول على بابه ، واتّخذ المماليك ،
وكان يسمّيهم الخرس لعجمتهم ، وحكى في عدّتهم ما تقدّم. ثم قال : وكانت له عيون
يطالعونه بأحوال الناس ، وكان يباشر الأمور بنفسه ، ويقرّب الفقهاء والعلماء
والصالحين ، وهو الذي وطّأ الملك لعقبه بالأندلس ، انتهى.
وكان له ـ فيما
حكى غير واحد ـ ألفا فرس مرتبطة على شاطىء النهر بقبليّ قصره يجمعها داران. وهو
القائل لما قتل أهل الرّبض وهدم ديارهم وحرثها : [الطويل]
رأبت صدوع الأرض
بالسّيف راقعا
|
|
وقدما لأمت
الشّعب مذ كنت يافعا
|
فسائل ثغوري هل
بها اليوم ثغرة
|
|
أبادرها مستنضي
السّيف دارعا
|
تنبّيك أني لم
أكن في قراعهم
|
|
بوان ، وقدما
كنت بالسّيف قارعا
|
__________________
وهل زدت إذ
وفّيتهم صاع قرضهم
|
|
فوافوا منايا
قدّرت ومصارعا
|
فهذي بلادي ،
إنني قد تركتها
|
|
مهادا ، ولم
أترك عليها منازعا
|
وقال ابن حزم في
حقه : إنه كان من المجاهرين بالمعاصي ، السافكين للدماء ، ولذلك قام عليه الفقهاء
والصلحاء.
وقال غير واحد : إنه تنصّل أخيرا ، وتاب ، سامحه الله!.
ومن نظمه قوله
متغزّلا : [البسيط]
قضب من البان
ماست فوق كثبان
|
|
ولّين عنّي وقد
أزمعن هجراني
|
ومنها :
من لي بمقتضبات
الروح من بدني
|
|
يغصبنني في
الهوى عزّي وسلطاني
|
وقيل : إنه كان يمسك
أولاد الناس ويخصيهم ، ونقلت عنه أمور ، ولعلّه تاب منها كما قدّمنا ، والله أعلم
بحقيقة أمره.
ومن بديع أخبار
الحكم أن العباس الشاعر توجّه إلى الثّغر ، فلمّا نزل بوادي الحجارة سمع امرأة
تقول : وا غوثاه بك يا حكم ، لقد أهملتنا حتى كلب العدوّ علينا ، فأيّمنا وأيتمنا
، فسألها عن شأنها ، فقالت : كنت مقبلة من البادية في رفقة ، فخرجت علينا خيل عدوّ
، فقتلت وأسرت ، فصنع قصيدته التي أوّلها : [الطويل]
تململت في وادي
الحجارة مسئدا
|
|
أراعي نجوما ما
يرون تغيّرا
|
إليك أبا العاصي
نضيت مطيّتي
|
|
تسير بهمّ ساريا
ومهجّرا
|
تدارك نساء
العالمين بنصرة
|
|
فإنك أحرى أن
تغيث وتنصرا
|
فلما دخل عليه
أنشده القصيدة ، ووصف له خوف الثغر ، واستصراخ المرأة باسمه ، فأنف
__________________
ونادى في الحين
بالجهاد والاستعداد ، فخرج بعد ثلاث إلى وادي الحجارة ومعه الشاعر ، وسأل عن الخيل
التي أغارت من أيّ أرض العدوّ كانت ، فأعلم بذلك ، فغزا تلك الناحية وأثخن فيها ،
وفتح الحصون ، وخرّب الديار ، وقتل عددا كثيرا ، وجاء إلى وادي الحجارة فأمر بإحضار
المرأة وجميع من أسر له أحد في تلك البلاد ، فأحضر ، فأمر بضرب رقاب الأسرى
بحضرتها ، وقال للعباس : سلها : هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة ، وكانت نبيلة :
والله لقد شفى الصدور ، وأنكى العدوّ ، وأغاث الملهوف ، فأغاثه الله ، وأعزّ نصره!
فارتاح لقولها ، وبدا السرور في وجهه وقال : [الطويل]
ألم تر يا عباس
، أنّي أجبتها
|
|
على البعد أقتاد
الخميس المظفّرا
|
فأدركت أوطارا
وبرّدت غلّة
|
|
ونفّست مكروبا
وأغنيت معسرا
|
فقال عباس : نعم ،
جزاك الله خيرا عن المسلمين! وقبّل يده.
وممّا عيب به أنه
قتل الفقيه أبا زكريا يحيى بن مضر القيسي ، وكان قدوة في الدين والورع ، سمع من
سفيان ومالك بن أنس ، وروى عنه مالك وقال : حدّثنا يحيى بن مضر عن سفيان الثّوري
أن الطّلح المنضود هو الموز ، وكان قتل المذكور مع جماعة من العلماء وغيرهم.
وقال بأمره من
بعده ابنه عبد الرحمن ، بعهد منه إليه ، ثم لأخيه المغيرة بعده ، فغزا عبد الرحمن
لأول ولايته إلى جلّيقيّة وأبعد ، وأطال المغيب ، وأثخن في أمم النصرانية هنالك ،
ورجع.
وقدم عليه سنة ست
ومائتين زرياب المغني من العراق ، وهو مولى المهدي ومتعلّم إبراهيم الموصلي ،
واسمه علي بن نافع ، فركب بنفسه لتلقّيه ، على ما حكاه ابن خلدون ، وبالغ في
إكرامه ، وأقام عنده بخير حال ، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلّف أولادا فخلفه
كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته.
وفي سنة ثمان أغزى حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع ،
فخرّب
__________________
كثيرا من البلاد
وانتسفها ، وفتح كثيرا من حصونهم ، وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين ،
وانصرف ظافرا.
وفي سنة أربع
وعشرين بعث قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو ألبة والقلاع ، فسار ولقي
العدوّ فهزمهم وأكثر القتل والسّبي ، ثم خرج لذريق ملك الجلالقة ، وأغار على مدينة
سالم بالثغر ، فسار إليه فرتون بن موسى ، وقاتله ، فهزمه وأكثر القتل والسبي في
العدوّ والأسر ، ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين ،
فافتتحه وهدمه ، ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جلّيقية ، فدوّخها وافتتح
عدّة حصون منها ، وجال في أرضهم ، ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم.
وفي سنة ستّ
وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة ، وانتهوا إلى أرض برطانية ، وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة ،
ولقيهم العدوّ ، فصبر حتى هزم الله عدوّهم ، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود.
وفي سنة تسع
وعشرين بعث ابنه محمدا بالعساكر ، وتقدّم إلى ينبلونة ، فأوقع بالمشركين عندها ، وقتل غرسية صاحبها ، وهو من
أكبر ملوك النصارى.
وفي أيامه ظهر
المجوس ، ودخلوا إشبيلية ، فأرسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع القوّاد من قرطبة ،
فنزل المجوس من مراكبهم ، وقاتلهم المسلمون ، فهزموهم بعد مقام صعب ، ثم جاءت
العساكر مددا من قرطبة فقاتلهم المجوس ، فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم
وأحرقوها ، ورحل المجوس إلى شذونة فأقاموا عليها يومين ، وغنموا بعض الشيء ، ووصلت
مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية فأقلع المجوس إلى لبلة ، وأغاروا وسبوا ، ثم إلى
باجة ثم أشبونة ، ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة ، وسكنت البلاد ، وذلك سنة
ثلاثين ، وتقدّم عبد الرحمن بإصلاح ما خرّبوه من البلاد ، وأكثف حاميتها.
وفي سنة إحدى
وثلاثين بعث العساكر إلى جليقية فدوّخوها ، وحاصروا مدينة ليون ورموها بالمجانيق ، وهرب أهلها عنها وتركوها ، فغنم
المسلمون ما فيها وأحرقوها ، وأرادوا
__________________
هدم سورها فلم
يقدروا عليه ؛ لأنّ عرضه كان سبعة عشر ذراعا ، فثلموا فيه ثلمة ورجعوا.
ثم أغزى عبد
الرحمن حاجبه عبد الكريم في العساكر إلى بلاد برشلونة ، فعاث في نواحيها وأجاز
الدروب التي تسمّى البرت إلى بلاد الفرنجة فدوّخها قتلا وأسرا وسبيا ، وحاصر
مدينتها العظمى جرندة ، وعاث في نواحيها ، وقفل. وقد كان ملك القسطنطينية من
ورائهم نوفلس بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية يطلب
مواصلته ويرغّبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم حتى إنه
ذكرهما له في كتابه له وعبّر عنهما بابني مراجل وماردة ، فكافأه الأمير عبد الرحمن
عن الهدية ، وبعث إليه يحيى الغزال من كبار أهل الدولة ، وكان مشهورا في الشعر
والحكمة ، فأحكم بينهما الوصلة ، وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني
العباس.
ويعرف الأمير عبد
الرحمن بالأوسط ؛ لأنّ الأول عبد الرحمن الداخل ، والثالث عبد الرحمن الناصر.
ثم توفي عبد
الرحمن الأوسط سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، بربيع الآخر ، لإحدى وثلاثين سنة من
إمارته.
ومولده بطليطلة في
شعبان سنة ست وسبعين ومائة.
وكان عالما بعلوم
الشريعة والفلسفة ، وكانت أيامه أيام هدوء وسكون ، وكثرت الأموال عنده ، واتّخذ
القصور والمتنزهات ، وجلب إليها المياه من الجبال ، وجعل لقصره مصنعا اتخذه الناس
شريعة ، وأقام الجسور ، وبنيت في أيامه الجوامع بكور الأندلس ، وزاد في جامع قرطبة
رواقين ، ومات قبل أن يستتمّه ، فأتمّه ابنه محمد بعده ، وبنى بالأندلس جوامع
كثيرة ، ورتّب رسوم المملكة ، واحتجب عن العامّة.
وعدد ولده مائة
وخمسون من الذكور ، وخمسون من الإناث ، ونقش خاتمه «عابد الرحمن بقضاء الله راض»
وفي ذلك قيل : [مجزوء الكامل]
خاتم للملك أضحى
|
|
حكمه في الناس
ماضي
|
عابد الرحمن فيه
|
|
بقضاء الله راضي
|
__________________
وهو أول من أحدث
هذا النقش ، وبقي وراثة لمن بعده من ولده.
قال ابن سعيد :
وفي أيامه انتهى مال الجباية إلى ألف ألف دينار في السنة ، وكان قبل لا يزيد على
ستمائة ألف ، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما يخالف هذا فليراجع ، والله أعلم.
ومن توقيعاته : من
لم يعرف وجه طلبه ، فالحرمان أولى به .
ومن شعر عبد
الرحمن المذكور قوله : [الكامل]
ولقد تعارض أوجه
لأوامر
|
|
فيقودها التوفيق
نحو صوابها
|
والشيخ إن يحو
النّهى بتجارب
|
|
فشباب رأي القوم
عند شبابها
|
وفي زيادته في
جامع قرطبة يقول ابن المثنى رحمه الله تعالى : [البسيط المخلع]
بنيت لله خير
بيت
|
|
يخرس عن وصفه
الأنام
|
حج إليه بكل أوب
|
|
كأنه المسجد
الحرام
|
كأنّ محرابه إذا
ما
|
|
خفّ به الركن
والمقام
|
وقال آخر : [الطويل]
بنى مسجدا لله
لم يك مثله
|
|
ولا مثله لله في
الأرض مسجد
|
سوى ما ابتنى
الرحمن والمسجد الذي
|
|
بناه نبيّ
المسلمين محمّد
|
له عمد حمر وخضر
كأنما
|
|
تلوح يواقيت بها
وزبرجد
|
ألا يا أمين
الله ، لا زلت سالما
|
|
ولا زلت في كل
الأمور تسدّد
|
فيا ليتنا نفديك
من كلّ حادث
|
|
وأنك للدنيا
وللدين تخلد
|
وكان كثير الميل
للنساء ، وولع بجاريته طروب ، وكلف بها كلفا شديدا ، وهي التي بنى عليها الباب
ببدر المال حين تجنّت عليه ، وأعطاها حليّا قيمته مائة ألف دينار ، فقيل له : إن
مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك ، فقال : إن لابسه أنفس منه خطرا ، وأرفع
قدرا ، وأكرم جوهرا ، وأشرف عنصرا ، وفيها يقول : [المتقارب]
__________________
إذا ما بدت لي
شمس النّها
|
|
ر طالعة ذكّرتني
طروبا
|
أنا ابن
الميامين من غالب
|
|
أشبّ حروبا
وأطفي حروبا
|
وخرج غازيا إلى
جلّيقية فطالت غيبته فكتب إليها : [المتقارب]
عداني عنك مزار
العدا
|
|
وقودي إليهم
سهاما مصيبا
|
فكم قد تخطّيت
من سبسب
|
|
ولاقيت بعد دروب
دروبا
|
ألاقي بوجهي
سموم الهجي
|
|
ر إذ كاد منه
الحصى أن يذوبا
|
تدارك بي الله
دين الهدى
|
|
فأحييته وأمتّ
الصليبا
|
وسرت إلى الشّرك
في جحفل
|
|
ملأت الحزون به
والسّهوبا
|
وساق بعض المؤرخين
قضية طروب هذه بقوله : إنّ السلطان المذكور أغضبها فهجرته ، وصدّت عنه ، وأبت أن
تأتيه ، ولزمت مقصورتها ، فاشتدّ قلقه لهجرها ، وضاق ذرعه من شوقها ، وجهد أن
يترضّاها بكل وجه فأعياه ذلك ، فأرسل من خصيانه من يكرهها على الوصول إليه ،
فأغلقت باب مجلسها في وجوههم ، وآلت أن لا تخرج إليهم طائعة ، ولو انتهى الأمر إلى
القتل ، فانصرفوا إليه وأعلموه بقولها ، واستأذنوه في كسر الباب عليها ، فنهاهم
وأمرهم بسدّ الباب عليها من خارجه ببدر الدراهم ، ففعلوا ، وبنوا عليها بالبدر ،
وأقبل حتى وقف بالباب وكلّمها مسترضيا راغبا في المراجعة على أنّ لها جميع ما سدّ
به الباب ، فأجابت وفتحت الباب ، فانهالت البدر في بيتها ، فأكبّت على رجله
تقبّلها ، وحازت المال ، وكانت تبرم الأمور مع مضر الخصيّ فلا يردّ شيئا ممّا تبرمه.
وأحبّ أخرى اسمها
مدثرة فأعتقها وتزوّجها ، وأخرى كذلك اسمها الشفاء ، وأمّا جاريته قلم فكانت أديبة
، حسنة الخط ، راوية للشعر ، حافظة للأخبار ، عالمة بضروب الأدب. وكان مولعا
بالسّماع ، مؤثرا له على جميع لذّاته ، وله أخبار كثيرة ، رحمه الله!.
ولمّا مات ولي
ابنه محمد ، فبعث لأول ولايته عساكر مع موسى بن موسى صاحب
__________________
طليطلة ، فعاث في نواحي ألبة والقلاع ، وفتح بعض حصونها ، ورجع.
وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها ، فعاثوا فيها وفتحوا حصونا من
برشلونة ورجعوا.
ولما استمدّ أهل
طليطلة المخالفون من أهل بلاد الأمير محمد عليه بملكي جلّيقية والبشكنس لقيهم
الأمير محمد على وادي سليطة ، وقد أكمن لهم ، فأوقع بهم ، وبلغت عدّة القتلى من
أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفا.
وفي سنة خمس
وأربعين ظهرت مراكب المجوس ، وعاثوا في الأندلس ، فلقيهم مراكب الأمير محمد ،
فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين ، واستشهد جماعة من المسلمين.
وفي سنة سبع
وأربعين أغزى محمد إلى نواحي ينبلونة ، وصاحبها حينئذ غرسية بن وبقة ، وكان يظاهر أردن بن أذفنش
، فعاث في نواحي ينبلونة ، ورجع وقد دوّخها وفتح كثيرا من حصونها ، وأسر فرتون ابن
صاحبها ، فبقي أسيرا بقرطبة عشرين سنة.
ثم بعث سنة إحدى
وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها ، وجمع لذريق
للقائهم ، فلقيهم وانهزم ، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر ، فكان فتحا
لا كفاء له.
ثم غزا الأمير
محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة ، فأثخن وخرّب.
وفي سنة ثلاث
وستّين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب ، وفي السنة التي بعدها إلى
بلاد ينبلونة فدوّخها ورجع.
وفي سنة ثمان
وستّين أغزاه أيضا إلى دار الحرب ، فعاث في نواحيها وفتح حصونا.
وفي أيام الأمير
محمد خربت ماردة وهدمت ولم يبق لها أثر.
وذكر بعضهم أنه
رأى بالمشرق هذه الأبيات قبل أن تخرب ماردة بأعوام ، ولم يعلم قائلها ، وذلك سنة
٢٥٤ : [الكامل]
__________________
ويل لماردة التي
مردت
|
|
وتكبّرت عن عدوة
النهر
|
كانت ترى لهم
بها زهر
|
|
فخلت من
الزّهرات كالقفر
|
فالويل ثم الويح
حين غزا
|
|
بجميعهم من صاحب
الأمر
|
ثم توفي الأمير
محمد في شهر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين ، لخمس وثلاثين سنة من إمارته ، ومولده
سنة سبع ومائتين.
وولي بعده ابنه
المنذر ، ولم تطل مدّته ، وأقام في الملك سنتين إلّا نصف شهر ، وتوفي منتصف صفر
سنة خمس وسبعين ومائتين ، وفيه قيل : [مجزوء الكامل]
بالمنذر بن محمد
|
|
صلجت بلاد
الأندلس
|
ثم ولي أخوه عبد
الله ، قال ابن خلدون : كان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار :
مائة ألف للجيوش ،
ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض ، ومائة ألف ذخيرة ووفرا ، فأنفق الوفر حين
اضطربت عليه نواحي الأندلس بالثّوار والمتغلّبين في تلك السنين ، وقلّ الخراج ،
انتهى.
ومن نظم الأمير
عبد الله قوله : [السريع]
يا مهجة المشتاق
ما أوجعك
|
|
ويا أسير الحبّ
ما أخشعك
|
ويا رسول العين
من لحظها
|
|
بالردّ والتبليغ
ما أسرعك
|
تذهب بالسّرّ
فتأتي به
|
|
في مجلس يخفى
على من معك
|
كم حاجة أنجزت
إبرازها
|
|
تبارك الرحمن ما
أطوعك
|
وهذه الأبيات
عنوان فضله ، وبراعة استهلال نبله.
وكان الوزراء
يطالعون بآرائهم ، الخليفة في بطاقة ، فطالعه وزيره النّضر بن سلمة برأيه في أمر
في ورقة ، فلمّا وقف عليها لم يعجبه ذلك الرأي ، فكتب : [مجزوء الخفيف]
أنت يا نضر آبدة
|
|
ليس ترجى لفائدة
|
إنما أنت عدّة
|
|
لكنيف ومائدة
|
وتوفي الأمير عبد
الله سنة ثلاثمائة ، ومدة ملكة نحو من خمس وعشرين سنة.
__________________
وولي حافده عبد
الرحمن الناصر ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرّف ، وكانت ولايته من الغريب ؛ لأنه
كان شابّا ، وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون ، فتصدّى إليها واحتازها دونهم ، ووجد
الأندلس مضطربة بالمخالفين ، مضطرمة بنيران المتغلّبين ، فأطفأ تلك النيران ،
واستنزل أهل العصيان ، واستقامت له الأندلس في سائر جهاتها بعد نيّف وعشرين سنة من
أيامه ، ودامت أيامه نحو خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أميّة بتلك الناحية ، وهو
أول من تسمّى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين ، عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق ، واستبدّ موالي الترك على بني العباس ،
وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة فتلقّب بألقاب
الخلافة ، وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب ، إلى أن هزم عام الخندق
سنة ثلاث وعشرين ، ومحّص الله فيها المسلمين ، فقعد عن الغزو بنفسه وصار يردّد
الصّوائف في كل سنة ، فأوطأ عساكر المسلمين ، من بلاد الإفرنج ما لم
يطؤوه قبل في أيام سلفه ، ومدّت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان ،
وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم
والاعتمال فيما يعنّ في مرضاته ، ووصل إلى سدّته الملوك من أهل جزيرة
الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وينبلونة وما ينسب إليها من الثغور
الجوفية ، فقبّلوا يده ، والتمسوا رضاه ، واحتقبوا جوائزه ، وامتطوا مراكبه ، ثم
سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة ونقل الفرضة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة وثلاثمائة
، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة والبربر ، وأجاز إليه الكثير منهم
كما يعلم من أخباره ، وبدأ أمره أول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا ، انتهى
كلام ابن خلدون.
وفيه يقول ابن عبد
ربه صاحب «العقد» يوم تولّى الملك : [المجتث]
بدا الهلال
جديدا
|
|
والملك غضّ جديد
|
يا نعمة الله
زيدي
|
|
إن كان فيك مزيد
|
إن كان للصّوم
فطر
|
|
فأنت للدهر عيد
|
وأراد بأول
الأبيات أنه ولي مستهلّ ربيع الأول كما علم.
__________________
وما أشار إليه ابن
خلدون في غزوة الخندق فصّله المسعودي فقال ، بعد أن أجرى ذكر مخالفة أميّة بن إسحاق على الناصر
ودخوله أرض النصارى ودلالته إياهم على عورات المسلمين ، ما ملخّصه : وغزا عبد
الرحمن صاحب الأندلس سمّورة دار الجلالقة ، وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون ، وكانت الوقعة
بينه وبين ردمير ملك الجلالقة في شوّال سنة ٣٢٧ بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر
بثلاثة أيام ، فكانت للمسلمين عليهم ، ثم ثابوا بعد أن حوصروا وألجئوا إلى المدينة ، فقتلوا من المسلمين
بعد عبورهم الخندق خمسين ألفا. وقيل : إن الذي منع ردمير من طلب من نجا من
المسلمين أمية بن إسحاق ، وخوّفه الكمين ، ورغّبه فيما كان في عسكر المسلمين من
الأموال والعدّة والخزائن ، ولو لا ذلك لأتى على جميع المسلمين ، ثم إن أميّة
استأمن بعد ذلك إلى عبد الرحمن وتخلّص من ردمير ، وقبله عبد الرحمن أحسن قبول. وقد
كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهّز عساكر مع عدّة من قوّاده إلى الجلالقة ، فكانت
لهم بهم عدّة حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى
، وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية ، وردمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت وهو
سنة ٣٣٢ ، انتهى.
وقال في موضع آخر
ما ملخّصه : إن عبد الرحمن غزا في أزيد من مائة ألف فارس من الناس ، فنزل على دار
مملكة الجلالقة ، وهي مدينة سمّورة ، وعليها سبعة أسوار من أعجب البنيان قد أحكمته
الملوك السالفة ، وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة ، وافتتح منها سورين ، ثم
إن أهلها ثاروا على المسلمين فقتلوا منهم ـ ممّن أدركه الإحصاء وممّن عرف ـ أربعين
ألفا ، وقيل : خمسين ألفا ، وكانت للجلالقة والبشكنس على المسلمين ، انتهى كلام
المسعودي.
رجع إلى أخبار
الناصر ـ فنقول : إن الناصر ـ رحمه الله! ـ كان له نظم ، وممّا نسب إليه بعضهم
قوله : [الخفيف]
لا يضرّ الصغير
حدثان سنّ
|
|
إنما الشأن في
سعود الصغير
|
كم مقيم فازت
يداه بغنم
|
|
لم تنله بالرّكض
كفّ مغير
|
__________________
هكذا ألفيت البيتين
منسوبين إليه بخط بعض الأكابر ، ثم كتب بأثره ما نصّه : الصحيح أنهما لغيره ،
والله أعلم ، انتهى.
وكان الناصر ـ رحمه
الله ـ قد استحجب موسى بن محمد بن حدير ، واستوزر عبد الملك بن جهور. وأحمد
بن عبد الملك بن شهيد ، وأهدى له ابن شهيد هديته المشهورة المتعدّدة الأصناف ، وقد
ذكرها ابن حيّان وابن خلدون وغيرهما من المؤرّخين. قال ابن خلدون : وهي مما يدلّ
على ضخامة الدولة الأموية ، واتّساع أحوالها ، وكان ذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة
، لثمان خلون من شهر جمادى الأولى ، وهي هدية عظيمة الشأن ، اشتهر ذكرها إلى الآن
، واتّفق على أنه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها ، وقد أعجبت الناصر وأهل
مملكته جميعا ، وأقرّوا أنّ نفسا لم تسمح بإخراج مثلها ضربة عن يدها ، وكتب معها
رسالة حسنة بالاعتراف للناصر بالنعمة والشكر عليها ، فاستحسنها الناس وكتبوها ، وزاد الناصر وزيره هذا حظوة واختصاصا ،
وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعا وأضعف له رزق الوزارة ، وبلّغه ثمانين ألف
دينار أندلسية ، وبلغ معروفه إلى ألف دينار ، وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق ، فسمّاه
«ذا الوزارتين» لذلك ، وكان أول من تسمّى بذلك بالأندلس امتثالا لاسم صاعد بن مخلد
وزير بني العباس ببغداد ، وأمر بتصدير فراشه في البيت ، وتقديم اسمه في دفتر
الارتزاق أول التسمية ، فعظم مقداره في الدولة جدّا.
وتفسير هديته
المذكورة على ما ثبت في كتاب ابن خلدون على ما يفسّر : خمسمائة ألف مثقال من الذهب
العين ، وأربعمائة رطل من التّبر ، ومصارفة خمسة وأربعون ألف دينار ، ومن سبائك
الفضّة مائتا بدرة . واقتصر ابن الفرضي على خمسمائة ألف دينار فقط ، واثنا عشر
رطلا من العود الهندي الذي يختم عليه كالشمع ، ومائة وثمانون رطلا من العود
المتخيّر ، ومائة رطل من العود الشبه المنتقى ، هكذا ذكره ابن خلدون.
وقال ابن الفرضي
مستندا إلى الكتاب الذي وجّهه ابن شهيد مع الهدية : إن العود العالي من ذلك
أربعمائة رطل ، منها قطعة واحدة مائة وثمانون رطلا.
وقال ابن خلدون :
ومائة أوقية من المسك الذكي المفضّل في جنسه ، انتهى.
__________________
وقال ابن الفرضي ،
نقلا عن الكتاب المصحوب مع الهدية : إن المسك مائتا أوقية ، واثنتا عشرة أوقية ،
ومن العنبر الأشهب الباقي على خلقته بغير صناعة خمسمائة أوقية ، منها قطعة عجيبة
ململمة الشلّ وزن مائة أوقية ، هكذا في تاريخ ابن خلدون.
وفي ابن الفرضي أن
الكلّ مائة أوقية ، وأن هذه القطعة أربعون أوقية.
ومن الكافور
المرتفع النقي الذكيّ ثلاثمائة أوقية.
قال ابن خلدون :
ومن اللباس ثلاثون شقّة من الحرير المختّم المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء المختلف
الألوان والصنائع ، وعشرة أفرية من عالي جلود الفنك الخراسانية.
وخالفه ابن
الفرضيّ ، إذ قال : ومن أنواع الثياب ثلاثون شقّة خلج خاصية للباسه بيضاء وملوّنة ، وخمس ظهائر شعيبية خاصية له ، وعشر فراء من عالي الفنك منها سبعة بيض
خراسانية وثلاث ملوّنة ، وستة مطارف عراقية خاصية له ، وثمان وأربعون ملحفة زهرية
لكسوته ، ومائة ملحفة زهرية لرقاده.
ولم يذكر ابن
خلدون ذلك ، وابن الفرضي أعرف ، لا سيما وقد استند إلى كتاب المهدي وصاحب البيت
أدرى.
قال ابن خلدون : وعشرة
قناطير شدّ فيها مائة جلد سمّور ، وقاله ابن الفرضي أيضا. وزاد ابن خلدون : وستة
من السرادقات العراقية ، وثمانية وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من
الحرير والذهب ، ثم قالا معا : وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول ، وألف رطل من
لون الحرير المنتقى للاستغزال ، وزاد ابن خلدون : وثلاثون شقّة من الفربون لسروج الهبات ، وزاد ابن الفرضي في الحرير المذكور : قيل :
إنه قبضه منه صاحب الطراز ولم يأت به مع الهدية ، وإنما دفعه لصاحب الطراز ،
وأثبته في الدفتر. قالا : وثلاثون بساطا من الصوف مختلفة الصناعات طول كل بساط
منها عشرون ذراعا ، وقال ابن خلدون : منتقاة مختلفة الألوان ، قالا : ومائة قطعة
مصلّيات من وجوه الفرش المختلفة ، زاد ابن الفرضي : الصناعات من جنى البسط ، قالا
: وخمسة عشر نوخا من عمل الخزّ المقطوع شطرها ، قال ابن الفرضي : وسائرها من
__________________
جنس البسط ، قال
ابن خلدون : ومن السلاح والعدّة ثمانمائة من التجافيف المزيّنة أيام البروز
والمواكب ، وقال ابن الفرضي : مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها ، قالا :
وألف ترس سلطانية ، ومائة ألف سهم ، زاد ابن خلدون : من النّبال البارعة الصنعة ،
قال ابن خلدون : ومن الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب المتخيّرة لركاب السلطان
فائقة النّعوت ، وقال ابن الفرضي : ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب
المتخيّرة لركابه خمسة عشر فرسا ، وخمس من عرض هذه الخيل مسرجة ملجمة لمراكب
الخلافة مجالس سروجها خزّ عراقي ، وثمانون فرسا ممّا يصلح للوصفاء والحشم ، وقال
ابن خلدون : مائة فرس من الخيل التي تصلح للركوب في التصرّف والغزوات ، وقال ابن
الفرضي : وخمسة أبغل عالية الركاب ، وقال ابن خلدون : وعشرون من بغال الركاب مسرجة
ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خزّ جعفري عراقي ، قالا : ومن الرقيق أربعون
وصيفا وعشرون جارية من متخيّر الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم. وقال ابن خلدون في
الجواري : متخيّرات بكسوتهنّ وزينتهنّ ، وقال ابن خلدون : ومن سائر الاصناف قرية
تغلّ آلافا من أمداد الزرع ، ومن الصخر للبنيان ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون
ألف دينار ، وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه وأقومه قيمتها خمسون
ألف دينار ، انتهى.
وقال ابن الفرضي
نقلا عن كتاب ابن شهيد المصحوب مع الهدية عندما ذكر الرقيق ما صورته : وكان قد
أربى ـ أيّده الله! ـ بابتياعهم من مال الأخماس ، فابتعتهم من نعمته عندي ،
وصيّرتهم من بعثي ، ومع ذلك عشر قناطير سكر طبرزذ لا سحاق فيه.
وفي آخر الكتاب :
ولمّا علمت تطلّع مولاي ـ أيّده الله تعالى! ـ إلى قرية كذا بالقنبانية المنقطعة الغرس شرفها ، وترداده ـ أيّده الله تعالى! ـ لذكرها لم أهنأ بعيش حتى
أعملت الحيلة في ابتياعها بأحوازها ، وأكتبت وكيله ابن بقية الوثيقة فيها باسمه ،
وضمّها إلى ضياعه ، وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر جيّان عندما اتّصل بي من وصفه
لها وتطلّعه إليها ، فما زلت أتصدّى لمسرّته بها حتى ابتعتها الآن بأحوازها وجميع
منازلها وربوعها ، واحتاز ذلك كله الوكيل ابن بقيّة ، وصار في يده له أبقاه الله
سبحانه ، وأرجو أنه سيرفع فيها في هذه السنة
__________________
آلاف أمداد من
الأطعمة إن شاء الله تعالى. ولمّا علمت نافذ عزمه ـ أبقاه الله تعالى! ـ في
البنيان ، وكلفه به ، وفكّرت في عدد الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد
آثاره في بنيانها ـ مدّ الله تعالى في عمره ، وأوفى بها على أقصى أمله! ـ علمت أنّ
أسّه وقوامه الصخر والاستكثار منه ، فأثارت لي همّتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها
سعدك وجدّك اللذان يبعثان ما لا يتوهّم عليه ، حيلة أقيم لك فيها بعام واحد عدد ما
كان يقوم على يدي عبدك ابن عاصم في عشرين عاما ، وينتهي تحصيل النفقة فيه إلى نحو
الثمانين ألفا أعجل شأنه في عام ، سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان قبلا إن
شاء الله تعالى ، وكذلك ما ثاب إليّ في أمر الخشب لهذه المنية المكرّمة ، فإنّ ابن
خليل عبدك المجتهد الدؤوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه إلى ثلاثمائة ألف عود
ونيّف على عشرين ألف عود ، على أنه لا يدخل منه في السنة إلّا نحو الألفي عود ،
ففتح لي سعدك رأيا أقيم له بتمامه جميع هذا الخشب العام على كماله بورود الجليبة لوقتها ، وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفا والستّين
ألفا ، انتهى.
ومن غريب ما يحكى
عن أمير المؤمنين الناصر المذكور أنه أراد الفصد ، فقعد بالبهو في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته
بالزهراء ، واستدعى الطبيب لذلك ، وأخذ الطبيب الآلة وجسّ يد الناصر ، فبينما هو
إذ أطلّ زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس ، وأنشد :
[مجزوء الكامل]
أيها الفاصد
رفقا
|
|
بأمير المؤمنينا
|
إنّما تفصد عرقا
|
|
فيه محيا
العالمينا
|
وجعل يكرّر ذلك
المرة بعد المرة ، فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف ، وسرّ به
غاية السرور ، وسأل عمّن اهتدى إلى ذلك وعلّم الزّرزور ، فذكر له أن السيدة الكبرى
مرجانة أمّ ولده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك ، وأعدّته لذلك الأمر ،
فوهب لها ما ينيف على ثلاثين ألف دينار.
وذكر ابن بسّام أن
أبا عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك الوزير أهدي له غلام من النصارى لم تقع العيون
على شبهه ، فلمحه الناصر فقال لابن شهيد : أنّى لك هذا؟ قال : هو من عند الله ،
فقال له الناصر : تتحفوننا بالنجوم وتستأثرون بالقمر ، فاستعذر واحتفل في هدية
__________________
بعثها مع الغلام ،
وقال : يا بني ، كن مع جملة ما بعثت به ، ولو لا الضرورة ما سمحت بك نفسي ، وكتب
معه هذين البيتين : [الطويل]
أمولاي هذا
البدر سار لأفقكم
|
|
وللأفق أولى
بالبدور من الأرض
|
أرضيكم بالنّفس
وهي نفيسة
|
|
ولم أر قبلي من
بمهجته يرضي
|
فحسن ذلك عند
الناصر ، وأتحفه بمال جزيل ، وتمكّنت عنده مكانته ، ثم إنه بعد ذلك أهديت إليه
جارية من أجمل نساء الدنيا ، فخاف أن ينتهي ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة
الغلام ، فاحتفل في هدية أعظم من الأولى ، وبعثها معها ، وكتب له : [الطويل]
أمولاي ، هذي
الشمس والبدر أوّلا
|
|
تقدّم كيما
يلتقي القمران
|
قران لعمري
بالسعادة قد أتى
|
|
فدم منهما في
كوثر وجنان
|
فما لهما والله
في الحسن ثالث
|
|
وما لك في ملك
البريّة ثاني
|
فتضاعفت مكانته
عنده.
ثم إن أحد الوشاة
رفع للملك أنه بقي في نفسه من الغلام حرارة ، وأنه لا يزال يذكره حين تحرّكه
الشّمول ، ويقرع السّنّ على تعذّر الوصول ، فقال للواشي : لا تحرّك به لسانك ، وإلّا
طار رأسك ، وأعمل الناصر حيلة في أن كتب على لسان الغلام رقعة منها : «يا مولاي ،
تعلم أنك كنت لي على انفرادي ، ولم أزل معك في نعيم ، وإنّي وإن كنت عند الخليفة مشارك
في المنزلة ، محاذر ما يبدو من سطوة الملك ، فتحيّل في استدعائي منه» ، وبعثها مع
غلام صغير السنّ ، وأوصاه أن يقول : من عند فلان ، وإنّ الملك لم يكلّمه قطّ ، إن
سأله عن ذلك ، فلمّا وقف أبو عامر على تلك الرسالة واستخبر الخادم علم من سؤاله ما
كان في نفسه من الغلام ، وما تكلّم به في مجالس المدام ، فكتب على ظهر الرقعة ولم
يزد حرفا :
[الطويل]
أمن بعد
إحكام التجارب ينبغي
٤
|
|
لديّ سقوط
الطّير في غابة الأسد
|
وما أنا ممّن
يغلب الحبّ قلبه
|
|
ولا جاهل ما
يدّعيه أولو الحسد
|
فإن كنت روحي قد
وهبتك طائعا
|
|
وكيف يردّ
الرّوح إن فارق الجسد؟
|
فلما وقف الناصر
على الجواب تعجّب من فطنته ، ولم يعد إلى استماع واش به.
__________________
ودخل عليه بعد ذلك
فقال له : كيف خلصت من الشّرك؟ فقال : لأنّ عقلي بالهوى غير مشترك ، فأنعم عليه ،
وزادت محبّته عنده ، وممّن ذكر هذه الحكاية صاحب «مطالع البدور ، في منازل السرور».
وأخبار الناصر
طويلة جدّا ، وقد منح الظفر على الثوّار ، واستنزلهم من معاقلهم ، حتى صفا له
الوقت ، وكانت له في جهاد العدوّ اليد البيضاء ، فمن غزواته أنه غزا سنة ثمان
وثلاثمائة إلى جلّيقية وملكها أردون بن أذفونش ، فاستنجد بالبشكنس والإفرنجة وظاهر
شانجه بن فريلة صاحب ينبلونة أمير البشكنس ، فهزمهم ، ووطئ بلادهم ، ودوّخ
أرضهم ، وفتح معاقلهم ، وخرّب حصونهم ، ثم غزا ينبلونة سنة ثنتي عشرة ، ودخل دار الحرب ، ودوّخ البسائط ، وفتح
المعاقل ، وخرّب الحصون ، وأفسد العمائر ، وجال فيها ، وتوغّل في قاصيتها ،
والعدوّ يحاذيه في الجبال والأوعار ، ولم يظفر منه بشيء ، ثم بعد مدّة ظفر ببعض
الثوّار عليه ، وكان استمدّ بالنصارى فقتل الناصر من كان مع الثائر من النصارى أهل
ألبة ، وفتح ثلاثين من حصونهم ، وبلغه انتقاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة ودوّخ أرضها واستباحها ،
ورجع إلى قرطبة ، ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جلّيقية فانهزم وأصيب
فيها المسلمون ، وقعد بعدها عن الغزو بنفسه ، وصار يردّد البعوث والصوائف إلى
الجهاد ، وبعث جيوشه إلى المغرب فملك سبتة وفاسا وغيرهما من بلاد المغرب ، وطار
صيته وانتشر ذكره كما سبق. ولمّا هلك شانجه بن فرويلة ملك البشكنس قام بأمرهم بعده أمه طوطة ، وكفلت ولده ، ثم
انتقضت على الناصر سنة خمس وعشرين ، فغزا الناصر بلادها ، وخرّب نواحي ينبلونة
وردّد عليها ، كما مرّ ، الغزوات. وكان قبل ذلك سنة ثنتين وعشرين غزا إلى وخشمة ،
ثم رحل إلى ينبلونة ، فجاءته طوطة بطاعتها وعقد لابنها غرسيه على ينبلونة ، ثم عدل
إلى ألبة وبسائطها فدوّخها وخرّب حصونها ، ثم اقتحم جلّيقيّة وملكها يومئذ ردمير
بن أردون ، فخام عن لقائه ، ودخل وخشمة ، فنازله الناصر فيها ، وهدم برغش وكثيرا من معاقلهم ، وهزمهم مرارا ، ورجع ، ثم كانت بعدها
غزوة الخندق السابقة ، وهابته أمم النصرانية. ثم وفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل
صاحب قسطنطينية وهديته ، وهو يومئذ قسطنطين ، واحتفل الناصر
__________________
لقدومهم في يوم
مشهود ، وقال ابن خلدون : ركبت في ذلك اليوم العساكر بالسلاح في أكمل شكّة ، وزيّن القصر الخلافيّ بأنواع الزينة وأصناف الستور ،
وحمّل السرير الخلافيّ بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة ، ورتّب الوزراء
والخدمة في مواقفهم ، ودخل الرّسل فهالهم ما رأوه ، وقرّبوا حتى أدّوا رسالتهم.
وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل ، ويعظّموا من أمر الإسلام والخلافة ،
ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه ، وذلّة عدوّه ، فاستعدّوا لذلك. ثم
بهرهم هول المجلس فوجموا ، وشرعوا في القول فأرتج عليهم ، وكان فيهم أبو علي
القالي وافد العراق ، كان في جملة الحكم وليّ العهد وندبه لذلك استئثارا ، فعجز ، فلمّا وجموا كلّهم قام منذر بن سعيد البلّوطي من غير
استعداد ولا رويّة ولا تقدّم له أحد بشيء من ذلك ، فخطب واستحضر وجلّى في ذلك القصد ، وأنشد شعرا طويلا ارتجله في ذلك
الغرض ، ففاز بفخر ذلك المجلس ، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع ، وأعجب به
الناصر ، وولّاه القضاء بعدها ، وأصبح من رجالات المعالم ، وأخباره مشهورة ،
وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيّان وغيره. ثم انصرف هؤلاء الرّسل ، وبعث
الناصر معهم هشام بن هذيل بهديّة حافلة ليؤكّد المودّة ويحسن الإجابة ، ورجع بعد
سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء وجاءت معه رسل قسطنطين. ثم جاء رسول من ملك الصقالبة
ـ وهو يومئذ دوقوه ـ ورسول آخر من ملك الألمان ، ورسول آخر من ملك الإفرنجة وراء
البرت ـ وهو يومئذ أوفة ـ ورسول آخر من ملك الإفرنجة بقاصية المشرق ـ وهو يومئذ
كلدة ـ واحتفل الناصر لقدومهم ، وبعث مع رسول الصقالبة ربيعا الأسقفّ إلى ملكهم
دوقوه ورجع بعد سنتين.
وفي سنة أربع
وأربعين جاء رسول أردون يطلب السلم ، فعقد له ، ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب
إدخال فردلند قومس قشتيلة في عهده فأذن له في ذلك ، وأدخل في عهده ، وكان غرسيه بن
شانجه قد استولى على جلّيقيّة بعد أبيه شانجه بن فرويله ثم انتقض
__________________
عليه أهل جليقية ،
وتولّى كبرهم قومس قشتيلة فردلند المذكور ، ومال إلى أردون بن ردمير ، وكان غرسيه
بن شانجه حافدا لطوطة ملكة البشكنس ، فامتعضت لحافدها غرسيه ، ووفدت على الناصر
سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجه بن ردمير الملك ،
وإعانة حافدها غرسيه بن شانجه على ملكه ، ونصره من عدوّه ، وجاء الملكان معها ،
فاحتفل الناصر لقدومهم ، وعقد الصلح لشانجه وأمّه ، وبعث العساكر مع غرسيه ملك
جلّيقية فردّ عليه ملكه ، وخلع الجلالقة طاعة أردون إليه ، وبعث إلى الناصر يشكره
على فعلته ، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك ، وبما ارتكبه فردلند قومس قشتيلة في
نكثه ووثوبه ، ويعيّره بذلك عند الأمم ، ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى
أن هلك ، ولمّا وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالشرق ، كما تقدّم ، وصل معه رسول ملك
برشلونة وطرّكونة راغبا في الصلح ، فأجابه الناصر ، ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب
المودّة فأجيب ؛ انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
ولنفصّل بعض ما
أجمله فنقول : ذكر ابن حيّان وغير واحد أنّ ملك الناصر بالأندلس كان في غاية
الضخامة ورفعة الشأن ، وهادته الروم ، وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر ، ولم تبق أمّة
سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلّا وفدت عليه خاضعة راغبة
، وانصرفت عنه راضية ، ومن جملتهم صاحب القسطنطينية العظمى ، فإنه هاداه ، ورغب في موادعته ، وكان وصول أرساله في صفر سنة ثمان
وثلاثين وثلاثمائة ، وتقدّم في كلام ابن خلدون أنها ستّ وثلاثون ، فالله أعلم
أيّهما أصحّ ، وتأهّب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقّوا أعظم تلقّ وأفخمه ، وأحسن
قبول وأكرمه ، وأخرج إلى لقائهم ببجاية يحيى بن محمد بن الليث وغيره لخدمة أسباب
الطريق ، فلمّا صاروا بأقرب المحلّات من قرطبة خرج إلى لقائهم القوّاد في العدد
والعدّة والتعبية ، فتلقّوهم قائدا بعد قائد ، وكمل اختصاصهم بعد ذلك ، بأن أخرج
إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتمّاما ، إبلاغا في الاحتفال بهم ، فلقياهم
بعد القواد ، فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه ؛ لأنّ الفتيان
حينئذ هم عظماء الدولة ، لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه وبيدهم القصر
السلطانيّ ، وأنزلوا بمنية وليّ العهد الحكم المنسوبة إلى نصير بعدوة قرطبة في الرّبض ، ومنعوا من لقاء الخاصّة والعامّة
جملة ، ومن ملابسة الناس طرّا ، ورتّب لحجابتهم رجال تخيّروا من الموالي ووجوه
الحشم فصيّروا على باب قصر هذه المنية ستة عشر رجلا لأربع دول ، لكل دولة أربع
منهم ،
__________________
ورحل الناصر لدين
الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه ، فقعد لهم يوم السبت
لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعودا
حسنا نبيلا ، وقعد عن يمينه وليّ العهد من بنيه الحكم ثم عبد الله ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان ، وقعد عن يساره المنذر
ثم عبد الجبّار ثم سليمان ، وتخلّف عبد الملك ؛ لأنه كان عليلا لم يطق الحضور ،
وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ، ووقف الحجّاب من أهل الخدمة من أبناء
الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم ، وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم
الدرانك ، وظلّلت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور
، فوصل رسل ملك الروم حائرين ممّا رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ، ودفعوا
كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون ، وهو في رقّ مصبوغ لونا سماويا مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي ، وداخل
الكتاب مدرجة مصبوغة أيضا مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضا فيها وصف هديته التي أرسل
بها وعددها ، وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل ، على الوجه الواحد منه صورة
المسيح ، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده ، وكان الكتاب بداخل درج فضة
منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين الملك معمولة من الزجاج الملوّن البديع ،
وكان الدّرج داخل جعبة ملبسة بالديباج ، وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه :
قسطنطين ورومانين المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم ، وفي سطر
آخر : إلى العظيم الاستحقاق الفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة
الحاكم على العرب بالأندلس ، أطال الله بقاءه. ولمّا احتفل الناصر لدين الله هذا
الاحتفال أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ، لتذكر جلالة مقعده وعظيم
سلطانه ، وتصف ما تهيّأ من توطيد الخلافة في دولته. وتقدّم إلى الأمير الحكم ابنه
وليّ عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ، ويقدّمه أمام نشيد الشعراء ، فأمر
الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البرّ الكسنيانيّ بالتأهّب لذلك ، وإعداد خطبة
بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة ، وكان يدّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس
في وسع غيره ، وحضر المجلس السلطاني ، فلمّا قام يحاول التكلّم بما رأى هاله وبهره
هول المقام وأبّهة الخلافة ، فلم يهتد إلى لفظة ، بل غشي عليه وسقط إلى
__________________
الأرض ، فقيل لأبي
علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي والنوادر ، وهو حينئذ ضيف
الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة : قم فارفع هذا الوهي ، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلّى على نبيّه
صلّى الله عليه وسلّم ، هكذا ذكر ابن حيّان وغيره ، وكلام ابن خلدون السابق يقتضي
أنّ القالي هو المأمور بالكلام أوّلا والمعدّ لذلك ، ونحوه في المطمح ، والخطب سهل
، ثم انقطع القول بالقالي ، فوقف ساكتا مفكّرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد
منه ، وقال في المطمح : إن أبا علي القالي انقطع وبهت ، وما وصل إلّا قطع ، ووقف
ساكتا متفكّرا ، لا ناسيا ولا متذكّرا ، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيد ـ وكان ممّن
حضر في زمرة الفقهاء ـ قام من ذاته ، بدرجة من مرقاته ، فوصل افتتاح أبي علي لأوّل
خطبته بكلام عجيب ، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كلّ مجيب ، يسحّه سحّا كأنما كان يحفظه قبل ذلك
بمدّة ، وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي ، فقال : أمّا بعد حمد الله والثناء عليه ، والتعداد لآلائه ،
والشكر لنعمائه ، والصلاة والسلام على محمد صفيّه وخاتم أنبيائه ، فإن لكل حادثة
مقاما ، ولكلّ مقام مقال ، وليس بعد الحق إلّا الضلال. وإنّي قد قمت في مقام كريم
، بين يدي ملك عظيم ؛ فأصغوا إليّ معشر الملإ بأسماعكم ، وأتقنوا عني بأفئدتكم ، إنّ من الحقّ أن يقال للمحقّ صدقت ،
وللمبطل كذبت ، وإنّ الجليل تعالى في سمائه ، وتقدّس بصفاته وأسمائه ، أمر كليمه
موسى صلّى الله على نبيّنا وعليه وعلى جميع أنبيائه ، أن يذكّر قومه بأيام الله ،
عزّ وجلّ ، عندهم ، وفيه وفي رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أسوة حسنة ،
وإنّي أذكّركم بأيام الله عندكم ، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمّت شعثكم
، وأمّنت سربكم ، ورفعت قوّتكم ، بعد أن كنتم قليلا فكثركم ، ومستضعفين فقوّاكم ،
ومستذلّين فنصركم ، ولّاه الله رعايتكم ، وأسند إليه إمامتكم ، أيام ضربت الفتنة
سرادقها على الآفاق ، وأحاطت بكم شعل النفاق ، حتى صرتم في مثل حدقة البعير ، من
ضيق الحال ونكد العيش والتغيير ، فاستبدلتم بخلافته من الشدّة بالرخاء ، وانتقلتم
بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء ، أنشدكم بالله معاشر الملإ ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها ، والسّبل
مخوفة فأمّنها ، والأموال منتهبة فأحرزها وحصّنها؟ ألم تكن البلاد خرابا فعمرها ،
وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته ، وتلافيه
جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته ، حتى أذهب الله عنكم غيظكم ، وشفى صدوركم ،
وصرتم يدا على
__________________
عدوّكم ، بعد أن
كان بأسكم بينكم ، فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها؟
ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القوّاد والأجناد
، حتى باشره بالقوّة والمهجة والأولاد ، واعتزل النّسوان ، وهجر الأوطان ، ورفض
الدّعة وهي محبوبة ، وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة ، بطويّة صحيحة ، وعزيمة
صريحة ، وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة ، وريح هابّة غالبة ، ونصرة من الله واقعة واجبة
، وسلطان قاهر ، وجدّ ظاهر ، وسيف منصور ، تحت عدل مشهور ، متحمّلا للنّصب ، مستقلّا لما ناله في جانب الله من التعب ، حتى لانت
الأحوال بعد شدّتها ، وانكسرت شوكة الفتنة عند حدّتها ، ولم يبق لها غارب إلّا
جبّه ، ولا نجم لأهلها قرن إلّا جدّه فأصبحتم بنعمة الله إخوانا ، وبلمّ أمير المؤمنين لشعثكم
على أعدائه أعوانا ، حتى تواترت لديكم الفتوحات ، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب
الخيرات والبركات ، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم ، وآمال الأقصين
والأدنين مستخدمة إليه وإليكم ، يأتون من كل فجّ عميق ، وبلد سحيق ، لأخذ حبل بينه
وبينكم جملة وتفصيلا ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولن يخلف الله وعده ، ولهذا
الأمر ما بعده ، وتلك أسباب ظاهرة بادية ، تدلّ على أمور باطنة خافية ، دليلها
قائم ، وجفنها غير نائم (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور : ٥٥]
الآية ، وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب ، ولكلّ نبإ مستقرّ ولكلّ أجل كتاب ،
فاحمدوا الله أيّها الناس على آلائه ، واسألوه المزيد من نعمائه ، فقد أصبحتم
بخلافة أمير المؤمنين أيّده الله بالعصمة والسّداد ، وألهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد ، أحسن الناس حالا ، وأنعمهم بالا
، وأعزّهم قرارا ، وأمنعهم دارا ، وأكثفهم جمعا ، وأجملهم صنعا ، لا تهاجون ولا
تذادون ، وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون ، فاستعينوا على صلاح أحوالكم ،
بالمناصحة لإمامكم ، والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عمّ نبيّكم ، صلّى الله عليه
وسلّم ، فإنّ من نزع يدا من الطاعة ، وسعى في تفريق الجماعة ، ومرق من الدين ، فقد
(خَسِرَ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج : ١١] وقد
علمتم أنّ في التعلّق بعصمتها ، والتمسّك بعروتها ، حفظ الأموال وحقن الدماء ،
وصلاح الخاصّة والدّهماء ، وأنّ بقوام الطاعة تقام الحدود ، وتوفى العهود ، وبها
وصلت الأرحام ، ووضحت الأحكام ، وبها سدّ الله الخلل ، وأمّن السّبل ، ووطّأ
الأكناف ، ورفع الاختلاف ، وبها طاب لكم القرار ، واطمأنّت بكم الدار ، فاعتصموا
بما أمركم الله بالاعتصام به ، فإنه تبارك وتعالى يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ،
وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين ، وصنوف الملحدين ، الساعين
في شقّ عصاكم ، وتفريق ملاكم ، الآخذين
__________________
في مخاذلة دينكم ، وهتك حريمكم ، وتوهين دعوة نبيّكم ، صلوات الله وسلامه
عليه وعلى جميع النبيّين والمرسلين ، أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله ربّ
العالمين. مستغفرا الله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين.
وساق ابن سعيد في «المغرب»
هذه الحكاية فقال ما صورته : منذر بن سعيد البلّوطي ، قاضي الجماعة بقرطبة ، خطيب
مصقع ، وله كتب مؤلفة في القرآن والسّنّة والورع ، والردّ على أهل الأهواء والبدع
، شاعر بليغ ، ولد سنة خمس وستّين ومائتين ، وأوّل سببه في التعلّق بعبد الرحمن
الناصر لمّا احتفل لدخول رسول ملك الروم صاحب قسطنطينية بقصر قرطبة الاحتفال الذي
اشتهر ذكره ، أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ، لذكر جلالة مقعده ، ووصف
ما تهيّأ له من توطيد الخلافة ، ورمي ملوك الأمم بسهام بأسه ونجدته ، وتقدّم إلى
الأمير الحكم ابنه ووليّ عهده بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء ، ويقدّمه أمام
إنشاد الشعراء ، فتقدّم الحكم إلى أبي عليّ البغدادي ضيف الخليفة ، وأمير الكلام
وبحر اللغة ، أن يقوم ، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه محمد ، صلّى
الله عليه وسلّم ، ثم انقطع ، وبهت فما وصل ولا قطع ، ووقف ساكتا مفكّرا ، فلمّا
رأى ذلك منذر بن سعيد قام قائما بدرجة من مرقاة أبي علي ، ووصل افتتاحه بكلام عجيب
بهر العقول جزالة ، وملأ الأسماع جلالة ، ثم ذكر الخطبة كما سبق ، وقال بعد
إيرادها ما صورته : فصلب العلج وغلب على قلبه ، وقال : هذا كبير القوم ، أو كبش
القوم ، وخرج الناس يتحدّثون عن حسن مقامه ، وثبات جنانه ، وبلاغة لسانه ، وكان
الناصر أشدّهم تعجّبا منه ، وأقبل على ابنه الحكم ـ ولم يكن يثبت معرفته ـ فسأله عنه
، فقال له : هذا منذر بن سعيد البلّوطي ، فقال : والله لقد أحسن ما شاء ، ولئن
أخّرني الله بعد لأرفعنّ من ذكره ، فضع يدك يا حكم عليه ، واستخلصه ، وذكرّني
بشأنه ، فما للصنيعة مذهب عنه ، ثم ولّاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع
بالزهراء ، ثم توفي محمد بن عيسى القاضي فولّاه قضاء الجماعة بقرطبة ، وأقرّه على
الصلاة بالزهراء.
ومن شعره في هذه
الواقعة قوله : [الطويل]
مقالي كحدّ
السّيف وسط المحافل
|
|
فرقت به ما بين
حقّ وباطل
|
__________________
بقلب ذكيّ ترتمي
جمراته
|
|
كبارق رعد عند
رعش الأنامل
|
فما دحضت رجلي
ولا زلّ مقولي
|
|
ولا طاش عقلي
يوم تلك الزلازل
|
وقد حدّقت حولي
عيون إخالها
|
|
كمثل سهام أثبتت
في المقاتل
|
لخير إمام كان أو
هو كائن
|
|
لمقتبل أو في
العصور الأوائل
|
ترى الناس
أفواجا يؤمّون بابه
|
|
وكلّهم ما بين
راج وآمل
|
وفود ملوك الروم
وسط فنائه
|
|
مخافة بأس أو
رجاء لنائل
|
فعش سالما أقصى
حياة مؤمّلا
|
|
فأنت رجاء الكلّ
حاف وناعل
|
ستملكها ما بين
شرق ومغرب
|
|
إلى درب قسطنطين
أو أرض بابل
|
انتهى كلام ابن
سعيد ، وهو يؤيد كلام ابن خلدون أن المأمور بالخطبة هو القالي .
وذكر أن الناصر
قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه : لقد حسن ما شاء ، فلئن كان حبّر خطبته هذه وأعدّها مخافة أن يدور ما دار فيتلافى الوهي
فإنه لبديع من قدرته واحتياطه ، ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنه لأعجب
وأغرب.
قال ابن سعيد :
ولمّا فرغ منذر من خطبته أنشد : [البسيط]
هذا المقام الذي
ما عابه فند
|
|
لكنّ قائله أزرى
به البلد
|
لو كنت فيهم
غريبا كنت مطّرفا
|
|
لكنني منهم
فاغتالني النّكد
|
ويروى بدل هذا
الشطر] :
ولا دهاني لهم بغي ولا حسد
لو لا الخلافة
أبقى الله حرمتها
|
|
ما كنت أرضى
بأرض ما بها أحد
|
قلت : كأنه عرّض
بأبي علي القالي ، وتقديمهم إياه في هذا المقام ، والله أعلم.
ومن نظم منذر بن
سعيد قوله : [المنسرح]
الموت حوض
وكلّنا نرد
|
|
لم ينج مما
يخافه أحد
|
__________________
فلا تكن مغرما
برزق غد
|
|
فلست تدري بما
يجيء غد
|
وخذ من الدهر ما
أتاك به
|
|
ويسلم الروح منك
والجسد
|
والخير والشّرّ
لا تذعه فما
|
|
في الناس إلّا
التشنيع والحسد
|
وله وقد آذاه شخص
فخاطبه بالكنية ، فقيل له : أيؤذيك وأنت تخاطبه بالكنية؟ فقال: [الكامل]
لا تعجبوا من
أنّني كنّيته
|
|
من بعد ما قد
سبّنا وأذانا
|
فالله قد كنّى
أبا لهب وما
|
|
كنّاه إلّا خزية
وهوانا
|
وقال في المطمح :
منذر بن سعيد البلوطي ، آية حركة وسكون ، وبركة لم تكن معدّة ولا تكون ، وآية
سفاهة في تحلّم ، وجهامة وورع في طي تبسّم ، إذا جدّ وجد ، وإذا هزل نزل ، وفي
كلتا الحالتين لم ينزل للورع من مرقب ، ولا اكتسب إثما ولا احتقب ، ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيام عبد الرحمن ، وناهيك من
عدل أظهر ، ومن فضل أشهر ، ومن جور قبض ، ومن حقّ رفع ومن باطل خفض ، وكان مهيبا
صليبا صارما غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حقّ ورفع
ظلم ، واستمرّ في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله ثم ولي ابنه الحكم فأقرّه ،
وفي خلافته استعفى مرارا فما أعفي ، وتوفي بعد ذلك لم يحفظ عنه مدّة ولايته قضية
جور ، ولا عدّت عليه في حكومته زلّة ، وكان غزير العلم ، كثير الأدب ، متكلّما
بالحق ، متبيّنا بالصدق ، له كتب مؤلفة في السّنّة والقرآن والورع ، والردّ على
أهل الأهواء والبدع ، وكان خطيبا بليغا وشاعرا محسنا ، ولد عند ولاية المنذر بن
محمد ، وتوفي سنة ٣٥٥ ، ومن شعره في الزهد قوله : [الخفيف]
كم تصابى وقد
علاك المشيب
|
|
وتعامى عمدا
وأنت اللبيب ؟
|
كيف تلهو وقد
أتاك نذير
|
|
أن سيأتي الحمام
منك قريب
|
يا سفيها قد حان
منه رحيل
|
|
بعد ذاك الرحيل
يوم عصيب
|
__________________
إنّ للموت سكرة
فارتقبها
|
|
لا يداوي ، إذا
أتتك ، طبيب
|
كم توانى حتى
تصير رهينا
|
|
ثم تأتيك دعوة
فتجيب
|
بأمور المعاد
أنت عليم
|
|
فاعملن جاهدا له
يا ربيب
|
وتذكّر يوما
تحاسب فيه
|
|
إنّ من يدّكر
فسوف ينيب
|
ليس من ساعة من
الدهر إلّا
|
|
للمنايا بها
عليك رقيب
|
ولعلّنا نذكر شيئا
من أحوال منذر في غير هذا الموضع.
رجع لأخبار الناصر
لدين الله ـ حكي أنه لمّا أعذر لأولاد ابنه أبي مروان عبيد الله اتّخذ لذلك صنيعا
عظيما بقصر الزهراء لم يتخلّف أحد عنه من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء
المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس ، فتخلّف من بينهم المشاور
أبو إبراهيم ، وافتقد مكانه لارتفاع منزلته ، فسأل في ذلك الخليفة الناصر ، إذ أبو
إبراهيم من أكابر علماء المالكية الذين عليهم المدار ، ووجد الناصر بسبب ذلك على
أبي إبراهيم ، وأمر ابنه وليّ العهد الحكم بالكتاب إليه ، والتفنيد له ، فكتب إليه
الحكم رقعة نسختها : «بسم الله الرحمن الرحيم ، حفظك الله وتولّاك! وسدّدك ورعاك!
لمّا امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي ـ أبقاه الله! ـ الأولياء الذين يستعدّ بهم
وجدك متقدّما في الولاية ، متأخّرا عن الصّلة ، على أنه قد أنذرك ـ أبقاه الله! ـ خصوصا
للمشاركة في السرور الذي كان عنده ، لا أعدمه الله توالي المسرّة ، ثم أنذرت من
قبل إبلاغا في التكرمة ، فكان منك على ذلك كله من التخلّف ما ضاقت عليك في المعذرة
، واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليه ، فأعيت عليك عنك الحجّة ، فعرّفني ـ أكرمك الله! ـ ما العذر الذي أوجب
توقفك عن إجابة دعوته ، ومشاهدة السرور الذي سرّ به ورغب المشاركة فيه ، لنعرّفه ـ
أبقاه الله! ـ بذلك ، فتسكن نفسه العزيزة إليه إن شاء الله تعالى». فأجابه أبو
إبراهيم : «سلام على الأمير سيدي ورحمة الله ، قرأت ـ أبقى الله الأمير سيدي! ـ هذا
الكتاب وفهمته ، ولم يكن توقفي لنفسي ، إنّما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقى الله
سلطانه ، لعلمي بمذهبه ، وسكوني إلى تقواه ، واقتفائه لأثر سلفه الطّيّب رضوان
الله عليهم ، فإنهم يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها ، ولا بما يغضّ منها ويطرق إلى تنقيصها ، يستعدّون بها
لدينهم ، ويتزيّنون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من
__________________
قصّادهم ، فلهذا
تخلّفت ، ولعلمي بمذهبه توقّفت ، إن شاء الله تعالى». فلما أقرأ الحكم أباه الناصر
لدين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق أعجبه ، واستحسن اعتذاره ، وزال ما بنفسه عليه.
وكان الفقيه أبو
إبراهيم المذكور معظّما عند الناصر وابنه الحكم ، وحقّ لهما أن يعظّماه ، وقد حكى
الفقيه أبو القاسم بن مفرّج قال : كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم ـ رحمه الله
تعالى! ـ فيمن يختلف إليه للتفقّه والرواية ، فإني لعنده في بعض الأيام في مجلسه
بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلّي به قرب داره بجوفيّ قصر قرطبة ، ومجلسه
حافل بجماعة الطلبة ، وذلك بين الصلاتين ، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل ،
جاء من عند الخليفة الحكم ، فوقف وسلّم ، وقال له : يا فقيه ، أجب أمير المؤمنين
أبقاه الله ، فإنّ الأمر خرج فيك ، وها هو قاعد ينتظرك ، وقد أمرت بإعجالك ، فالله
الله ، فقال له : سمعا وطاعة لأمير المؤمنين ، ولا عجلة ، فارجع إليه وعرّفه وفّقه
الله عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى معي طلاب العلم أسمعهم حديث ابن
عمّه رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فهم يقيّدونه عني ، وليس يمكنني ترك ما
أنا فيه حتى يتمّ المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته ، فذلك أوكد من مسيري
إليه الساعة ، فإذا انقضى أمر من اجتمع إليّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى.
ثم أقبل على شأنه ، ومضى الخصيّ يهينم متضاجرا من توقّفه ، فلم يك إلّا ريثما أدّى جوابه ،
وانصرف سريعا ساكن الطيش ، فقال له : يا فقيه ، أنهيت قولك على نصّه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله ، فأصغى إليه ، وهو
يقول لك : جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين! وأمتعهم بك!
وإذا أنت أوعيت فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى ، وقد أمرت أن أبقى معك
حتى ينقضي شغلك وتمضي معي ، فقال له : حسن جميل ، ولكني أضعف عن المشي إلى باب
السّدّة ، ويصعب عليّ ركوب دابّة لشيخوختي وضعف أعضائي ، وباب الصناعة الذي يقرب
إليّ من أبواب القصر المكرّم أحوط لي وأقرب ، وأرفق بي ، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أيّده
الله تعالى! ـ أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هوّن عليّ المشي ، وودع جسمي ، وأحبّ
أن تعود وتنهي إليه ذلك عنّي حتى تعرف رأيه فيه ، وكذلك تعود إليّ فإني أراك فتى
سديدا ، فكن على الخير معينا. ومضى عنه الفتى ، ثم رجع بعد حين وقال : يا فقيه ،
قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت ، وأمر
__________________
بفتح باب الصناعة
وانتظارك من قبله ، ومنه خرجت إليك ، وأمرت بملازمتك مذكّرا بالنهوض عند فراغك ،
وقال : افعل راشدا. وجلس الخصيّ جانبا حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل وأفسح ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق ، فلمّا انفضضنا عنه
قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب ،
وقضى حاجته من لقائه ، ثم صرفه على ذلك الباب ، فأعيد إغلاقه على إثر خروجه. قال
ابن مفرّج : ولقد تعمّدنا في تلك العشيّة إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور
بهذا الباب المعهود إغلاقه بدبر القصر لنرى تجشّم الخليفة له ، فوجدناه مفتوحا كما
وصف الخصيّ ، وقد حفّه الخدم والأعوان منزعجين ما بين كنّاس وفرّاش
متأهّبين لانتظار أبي إبراهيم ، فاشتدّ عجبنا لذلك ، وطال تحدّثنا عنه ، انتهى.
فهكذا تكون العلماء مع الملوك والملوك مع العلماء ، قدّس الله تلك الأرواح!.
ثم توفي الناصر
لدين الله ثاني ـ أو ثالث ـ شهر رمضان ، من عام خمسين وثلاثمائة ، أعظم ما كان سلطانه
، وأعزّ ما كان الإسلام بملكه.
قال ابن خلدون :
خلّف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات ، انتهى.
وقال غير واحد :
إنه كان يقسم الجباية أثلاثا : ثلث للجند ، وثلث للبناء ، وثلث مدّخر ، وكانت
جبابة الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف
دينار ، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستّين ألف دينار ، وأمّا أخماس
الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان.
وحكي أنه وجد بخطّ
الناصر ـ رحمه الله! ـ أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من
سنة كذا ويوم كذا من كذا ، وعدّت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما ، فاعجب أيها
العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها ، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها ، هذا الخليفة
الناصر حلف السعود ، المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود ، ملكها
خمسين سنة وستة ـ أو سبعة ـ أشهر وثلاثة أيام ، ولم تصف له إلّا أربعة عشر يوما ،
فسبحان ذي العزّة القائمة ، والمملكة الدائمة لا إله إلّا هو.
__________________
وممّا ينسب للناصر من الشعر ، وقيل :
لابنه الحكم ، قوله : [مخلع البسيط]
ما كلّ شيء فقدت
إلّا
|
|
عوّضني الله عنه
شيّا
|
إني إذا ما منعت
خيري
|
|
تباعد الخير من
يديّا
|
من كان لي نعمة
عليه
|
|
فإنّها نعمة
عليّا
|
وممّا زيّن الله
به دولة الناصر وزراؤه الذين من جملتهم ابن شهيد ، قال في المطمح : أحمد بن عبد
الملك بن عمر بن شهيد ، مفخر الإمامة ، وزهر تلك الكمامة ، وصاحب الناصر عبد الرحمن ، وحامل الوزارتين على سموّها في ذلك
الزمان ، استقلّ بالوزارة على ثقلها ، وتصرّف فيها كيف شاء على حدّ نظرها والتفات
مقلها ، فظهر على أولئك الوزراء ، واشتهر مع كثرة النظراء ، وكانت إمارة عبد
الرحمن أسعد إمارة ، بعد عنها كلّ نفس بالسّوء أمّارة ، فلم يطرقها صرف ، ولم
يرمقها محذور بطرف ، فقرع الناس فيها هضاب الأمانيّ ورباها ، ورتعت ظباؤها في ظلال
ظباها ، وهو أسد على براثنه رابض ، وبطل أبدا على قائم سيفه قابض ، يروع الروم
طيفه ، ويجوس خلال تلك الديار خوفه ، ويروى بل يحسم كلّ آونة سيفه ، وابن شهيد
ينتج الآراء ويلقحها ، وينقد تلك الأنحاء وينقحها ، والدولة مشتملة بغنائه ،
متجمّلة بسنائه ، وكرمه منتشر على الآمال ، ويكسو الأولياء بذلك الإجمال ، وكان له أدب تزخر لججه ، وتبهر حججه ، وشعره رقيق لا ينقد ، ويكاد من
اللطافة يعقد ، فمن ذلك قوله : [الطويل]
ترى البدر منها
طالعا فكأنّما
|
|
يجول وشاحاها
على لؤلؤ رطب
|
بعيدة مهوى
القرط مخطفة الحشا
|
|
ومفعمة الخلخال
مفعمة القلب
|
من اللّاء لم
يرحلن فوق رواحل
|
|
ولا سرن يوما في
ركاب ولا ركب
|
ولا أبرزتهنّ
المدام لنشوة
|
|
وشدو كما تشدو
القيان على الشّرب
|
__________________
وكان بينه وبين
الوزير عبد الملك بن جهور متولّي الأمر معه ، ومشاركه في التدبير إذا حضر مجتمعه ،
منافسة ، لم تنفصل لهما بها مداخلة ولا ملابسة ، وكلاهما يتربّص بصاحبه دائرة
السّوء ، ويغصّ به غصص الأفق بالنّوء ، فاجتاز يوما على ربضه ، ومال إلى زيارته
ولم تكن من غرضه ، فلمّا استأمر عليه ، تأخّر خروج الإذن إليه ، فثنى عنانه حنقا
من حجابه ، وضجرا من حجّابه ، وكتب إليه معرّضا ، وكان يلقّب بالحمار : [الطويل]
أتيناك لا عن
حاجة عرضت لنا
|
|
إليك ولا قلب
إليك مشوق
|
ولكنّنا زرنا
بفضل حلومنا
|
|
فكيف تلاقى
برّنا بعقوق
|
فراجعه ابن جهور
يغضّ منه ، بما كان يشيع عنه ، بأنّ جدّه أبا هشام ، كان بيطارا بالشام ، بقوله : [الطويل]
حجبناك لمّا
زرتنا غير تائق
|
|
بقلب عدوّ في
ثياب صديق
|
وما كان بيطار
الشّآم بموضع
|
|
يباشر فيه برّنا
بخليق
|
ومن شعره قوله
يتغزل : [الوافر]
حلفت بمن رمى
فأصاب قلبي
|
|
وقلّبه على جمر
الصّدود
|
لقد أودى تذكّره
بقلبي
|
|
ولست أشكّ أنّ
النّفس تودي
|
فقيد وهو موجود
بقلبي
|
|
فوا عجبا لموجود
فقيد
|
وقد تقدّم الكلام
على هدية ابن شهيد وبعض أخباره ، رحمة الله عليه!.
ولمّا توفي الناصر
لدين الله تولّى الخلافة بعده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله فجرى على رسمه ، ولم
يفقد من ترتيبه إلّا شخصه ، وولي حجابته جعفر المصحفي .
وأهدى له يوم
ولايته هديّة كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيّان في «المقتبس» وهي : مائة
مملوك من الإفرنج ناشبة على خيول صافنة كاملو الشّكة والأسلحة من السيوف والرماح
والدّرق والتّراس والقلانس الهندية ، وثلاثمائة ونيّف وعشرون درعا مختلفة الأجناس
، وثلاثمائة
__________________
خوذة كذلك ، ومائة
بيضة هندية ، وخمسون خشبية من بيضات الفرنجة من غير الخشب يسمّونها الطاشانية ، وثلاثمائة حربة إفرنجية ، ومائة ترس سلطانية ، وعشرة
جواشن فضة مذهبة ، وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس ، انتهى.
قال ابن خلدون : ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور ، فغزا الحكم
المستنصر بنفسه ، واقتحم بلد فرلند بن غندشلب ، فنازل شنت إشتبين وفتحها عنوة واستباحها ، وقفل ، فبادروا إلى عقد السلم معه
وانقبضوا عمّا كانوا فيه. ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جلّيقية وسار إلى مدينة سالم
لدخول دار الحرب ، فجمع له الجلالقة ، ولقيهم ، فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر
بلد فرذلند ودوّخها ، وكان شانجه بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض ، فأغزاه الحكم
التجيبيّ صاحب سرقسطة في العساكر. وجاء ملك الجلالقة لنصره ، فهزمهم ، وامتنعوا
بقورية ، وعاثوا في نواحيها ، وقفل ، ثم أغزى الحكم أحمد بن يعلى
ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة ، فعاثت العساكر في نواحيها ، وأغزى هذيل
بن هاشم ومولاه غالبا إلى بلاد القومس ، فعاثا فيها ، وقفلا ، وعظمت فتوحات الحكم
وقوّاد الثغور في كل ناحية ، وكان من أعظمها فتح قلمرية من بلاد البشكنس على يد غالب ، فعمرها الحكم ، واعتنى بها
، ثم فتح قطوبية على يد قائد وشقة وغنم فيها من الأموال والسلاح والأقوات
والأثاث وفي بسيطها من الغنم والبقر والرّمك والأطعمة والسّبي ما لا يحصى.
وفي سنة أربع
وخمسين سار غالب إلى بلد ألبة ، ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي
النون ، فابتنى حصن غرماج ودوّخ بلادهم ، وانصرف. وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس
في البحر الكبير ، وأفسدوا بسائط أشبونة وناشبهم الناس القتال ، فرجعوا إلى
مراكبهم ، وأخرج الحكم القوّاد لاحتراس السواحل ، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن
رماحس بتعجيل حركة الأسطول. ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من
السواحل.
__________________
ثم كانت وفاة
أردون بن أذفونش ملك الجلالقة ، وذلك أن الناصر لمّا أعان عليه شانجه بن ردمير ـ وهو ابن عمّه ، وهو الملك من قبل أردون ـ وحمل النصرانية
على طاعته. واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلة ، توقّع مظاهرة الحكم لشانجه
كما ظاهره أبوه الناصر ، فبادر إلى الوفادة على الحكم مستجيرا به ، فاحتفل لقدومه
، وعبّى العساكر ليوم وفادته ، وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيّان كما وصف أيام
الوفادات قبله. ووصل إلى الحكم ، وأجلسه ، ووعده بالنصر من عدوّه ، وخلع عليه ،
وكتب بوصوله ملقيا بنفسه ، وعاقده على موالاة الإسلام ، ومقاطعة فردلند القومس
وأعطى على ذلك صفقة يمينه ، ورهن ولده غرسية ، ودفعت الصّلات والحملان له ولأصحابه.
وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة ليوطّدوا له الطاعة عند رعيّته ، ويقبضوا رهنه.
وعند ذلك بعث ابن
عمّه شانجه بن ردمير ببيعته وطاعته مع قواميس أهل جلّيقية وسمّورة وأساقفتهم ،
يرغب في قبوله ، ويمتّ بما فعل أبوه الناصر معه ، فتقبّل بيعتهم على شروط شرطها
كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين.
ثم بعث ملكا
برشلونة وطرّكونة وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه ، وبعثا
بهدية ، وهي : عشرون صبيّا من الخصيان الصقالبة ، وعشرون قنطارا من صوف السمّور ،
وخمسة قناطير من القصدير ، وعشرة أدراع صقلبيّة ، ومائتا سيف فرنجيّة ، فتقبّل
الهدية وعقد على أن يهدموا الحصون التي تضرّ بالثغور ، وأن لا يظاهروا عليه أهل
ملّتهم ، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.
ثم وصلت رسل غرسيه
بن شانجه ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح ، بعد أن كان
توقّف وأظهر المكر ، فقعد لهم الحكم ، فاغتبطوا ورجعوا.
ثم وفدت على الحكم
أمّ لذريق بن بلاشك القومس بالقرب من جلّيقية ، وهو القومس الأكبر ، فأخرج الحكم
لتلقّيها أهل دولته ، واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور ، فوصلت وأسعفت ، وعقد
السلم لابنها كما رغبت ، ودفع لها مالا تقسّمه بين وفدها ، دون ما وصلت به هي ،
وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج. ثم عاودت مجلس الحكم
للوداع ، فعاودها بالصّلات لسفرها ، وانطلقت.
__________________
ثم أوطأ عساكره
أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط ، وتلقّى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة
، فبثّوها في أعمالهم ، وخطبوا بها على منابرهم ، وزاحموا بها دعوة الشّيعة فيما
بينهم. ووفد عليه من بني خزر وبني أبي العافية ، فأجزل صلتهم ، وأكرم وفادتهم ، وأحسن
منصرفهم ، واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الرّيف. وأجازهم البحر إلى
قرطبة ، ثم أجلاهم إلى الإسكندرية.
وكان محبّا للعلوم
، مكرّما لأهلها ، جمّاعا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله ، قال
أبو محمد بن حزم : أخبرني تليد الخصيّ ـ وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني
مروان ـ أنّ عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة ، وفي كل فهرسة
عشرون ورقة ، ليس فيها إلّا ذكر أسماء الدواوين لا غير ، وأقام للعلم والعلماء سوقا
نافقة جلبت إليها بضائعه من كل قطر.
قال أبو محمد بن
خلدون : ولما وفد على أبيه أبو علي القالي صاحب كتاب «الأمالي» من بغداد
أكرم مثواه ، وحسنت منزلته عنده ، وأورث أهل الأندلس علمه ، واختصّ بالحكم
المستنصر ، واستفاد علمه.
وكان يبعث في
الكتب إلى الأقطار رجالا من التجّار ، ويرسل إليهم الأموال لشرائها ، حتى جلب منها
إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في كتاب «الأغاني» إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني
، وكان نسبه في بني أمية ، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين ، فبعث إليه
بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي
في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم ، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النّسخ
والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد ، فأوعى من ذلك كلّه ، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن
لأحد من قبله ولا من بعده ، إلّا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء. ولم تزل
هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر ، وأمر بإخراجها وبيعها
الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر. ونهب ما بقي منها عند دخول البربر
قرطبة واقتحامهم إيّاها عنوة ، انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
__________________
ولنبسط الكلام على
الحكم فنقول : إن الحكم المستنصر اعتلى سرير الملك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس
، وقام بأعباء الملك أتمّ قيام ، وأنفذ الكتب إلى الآفاق بتمام الأمر له ، ودعا
الناس إلى بيعته ، واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه ، وتثقيف مملكته ، وضبط
قصوره ، وترتيب أجناده ، وأوّل ما أخذ البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين
بالخلفاء الأكابر ، كجعفر صاحب الخيل والطراز وغيره من عظمائهم ، وتكفّلوا بأخذها
على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم ، وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء
الأكابر من الكتّاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء ، فبايعوه ، فلمّا كملت بيعة أهل
القصر تقدّم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض إلى أخيه شقيقه أبي مروان عبيد
الله المتخلّف بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة ، وتقدّم إلى موسى بن أحمد بن
حدير بالنهوض أيضا إلى أبي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني ، فمضى إليهما كلّ واحد
منهما في قطيع من الجند ، وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء ، ونفذ غيرهما من وجوه
الرجال في الخيل لإتيان غيرهما من الإخوة ، وكانوا يومئذ ثمانية ، فوافى جميعهم
الزهراء في الليل ، فنزلوا في مراتبهم بفصلان دار الملك ، وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي ، وقعد
المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي
في السطح الممرّد ، فأوّل من وصل إليه الإخوة فبايعوه ، وأنصتوا لصحيفة
البيعة ، والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها ، ثم بايع بعدهم الوزراء
وأولادهم وإخوتهم ، ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة ، وقعد الإخوة والوزراء
والوجوه عن يمينه وشماله ، إلّا عيسى بن فطيس فإنه كان قائما يأخذ البيعة على
الناس ، وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة ، فاصطفّ في المجلس
الذي قعد فيه أكابر الفتيان يمينا وشمالا إلى آخر البهو كلّ منهم على قدره في
المنزلة ، عليهم الظهائر البيض شعار الحزن ، قد تقلّدوا فوقها السيوف ، ثم تلاهم
الفتيان الوصفاء ، عليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية صفّين منتظمين في السطح ، وفي الفصلان المتّصلة به ذوو
الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض ، بأيديهم السيوف ، يتّصل بهم
من دونهم من طبقات الخصيان الصقالبة ، ثم تلاهم الرماة متنكّبين قسيّهم وجعابهم ،
ثم وصلت
__________________
صفوف هؤلاء
الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدّة الكاملة ،
وقامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجّالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية
البيض ، وعلى رؤوسهم البيضات الصّقلبية ، وبأيديهم التّراس الملوّنة والأسلحة المزيّنة ، انتظموا
صفّين إلى آخر الفصل ، وعلى باب السّدّة الأعظم البوّابون وأعوانهم ، ومن خارج باب
السّدّة فرسان العبيد إلى باب الأقباء ، واتّصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة ،
موكبا إثر موكب ، إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء ، فلمّا تمّت البيعة أذن
للناس بالانفضاض ، إلّا الإخوة والوزراء وأهل الخدمة فإنهم مكثوا بقصر الزهراء إلى
أن احتمل جسد الناصر ـ رحمه الله! ـ إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء.
وفي ذي الحجة من
سنة خمسين تكاثرت الوفود بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب ،
من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها ، فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر
جميع الوزراء والقاضي منذر بن سعيد والملأ ، فأخذت عليهم البيعة ، ووقّعت الشهادات في نسخها.
وفي آخر صفر من
سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر بالله مولييه محمدا وزيادا ابني أفلح
الناصري بكتيبة من الحشم لتلقّي غالب الناصر يالذي خرجوا إليه صاحب مدينة سالم المورد للطاغية أردون بن أذفونش الخبيث في
الدولة المتملّك على طوائف من أمم الجلالقة والمنازع لابن عمّه المملّك قبله شانجه
بن ردمير ، وتبرّع هذا اللعين أردون بالمسير إلى باب المستنصر بالله من ذاته ، غير
طالب إذن ولا مستظهر بعهد ، وذلك عندما بلغه اعتزام الحكم المستنصر بالله في عامه
ذلك على الغزو إليه ، وأخذه في التأهّب له ، فاحتال في تأميل المستنصر بالله
والارتماء عليه ، وخرج قبل أمان يفقد له أو ذمّة تعصمه في عشرين رجلا من وجوه
أصحابه ، تكنّفهم غالب الناصري الذي خرجوا إليه ، فجاء به نحو مولاه الحكم ،
وتلقّاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم ، ثم تحرّكا بهم ثاني يوم نزولهم إلى
قرطبة ، فأخرج المستنصر بالله إليهم هشاما المصحفيّ في جيش عظيم كامل التعبية ،
وتقدّموا إلى باب قرطبة ، فمرّوا بباب قصرها ، فلمّا انتهى أردون إلى ما بين باب
السّدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر
في الروضة ، فخلع
__________________
قلنسوته ، وخضع
نحو مكان القبر ، ودعا ، ثم ردّ قلنسوته إلى رأسه. وأمر المستنصر بإنزال أردون في
دار الناعورة ، وقد كان تقدّم في فرشها بضروب الغطاء والوطاء ، وانتهى من ذلك إلى
الغاية ، وتوسّع له في الكرامة ولأصحابه ، فأقام بها الخميس والجمعة ، فلمّا كان
يوم السبت تقدّم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بعد إقامة الترتيب وتعبية
الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة ، وقعد المستنصر بالله على
سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح ، وقعد الإخوة وبنوهم والوزراء
ونظراؤهم صفّا في المجلس ، فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكّام والفقهاء ، فأتى
محمد بن القاسم بن طملس بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه ثوب ديباجي روميّ أبيض
ويلبوال من جنسه وفي لونه ، وعلى رأسه قلنسوة رومية منظومة بجوهر ، وقد حفته جماعة
من نصارى وجوه الذمّة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه ، فيهم وليد بن حيزون قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة
وغيرهما ، فدخل بين صفّي الترتيب يقلّب الطّرف في نظم الصفوف ، ويجيل الفكر في
كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها ، فراعهم ما أبصروه ، وصلّبوا على وجوههم ،
وتأمّلوا ناكسي رؤوسهم غاضّين من أجفانهم قد سكّرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أوّل باب قصر الزهراء ، فترجّل
جميع من كان خرج إلى لقائه ، وتقدّم الملك أردون وخاصّة قوامسه على دوابّهم ، حتى
انتهوا إلى باب السّدّة ، فأمر القوامس بالترجّل هنالك والمشي على الأقدام ،
فترجّلوا.
ودخل الملك أردون
وحده راكبا مع محمد بن طملس ، فأنزل في برطل البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي
مرتفع مكسوّ الأوصال بالفضة ، وفي هذا المكان بعينه نزل قبله عدوّه ومناوئه شانجه
بن ردمير الوافد على الناصر لدين الله ـ رحمه الله تعالى! ـ فقعد أردون على الكرسي
، وقعد أصحابه بين يديه ، وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه
، فتقدّم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح ، فلمّا قابل المجلس الشرقي
الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه ، وبقي حاسرا إعظاما لما بان له
من الدنو إلى السرير ، واستنهض ، فمضى بين الصّفّين المرتبين في ساحة السطح ،
__________________
إلى أن قطع السطح
وانتهى إلى باب البهو ، فلمّا قابل السرير خرّ ساجدا سويعة ، ثم استوى قائما ، ثم
نهض خطوات ، وعاد إلى السجود ، ووالى ذلك مرارا إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوى
إلى يده فناوله إياها وكرّ راكعا مقهقرا على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب ،
جعل له هنالك ، ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير ، فجلس عليه ، والبهر قد علاه ، وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأتباعه ، فدنوا
ممتثلين في تكرير الخنوع ، وناولهم الخليفة يده فقبّلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا
على رأس ملكهم ، ووصل بوصولهم وليد بن حيزون قاضي النصارى بقرطبة ، فكان الترجمان
عن الملك أردون ذلك اليوم ، فأطرق الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أمامه
وقتا كيما يفرخ روعه . فلمّا رأى أن قد خفّض عليه افتتح تكليمه فقال : ليسرّك إقبالك ويغبطك تأميلك ،
فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته ، فلمّا ترجم له كلامه إيّاه
تطلّق وجه أردون ، وانحطّ عن مرتبته ، فقبّل البساط ، وقال : أنا عبد أمير المؤمنين
، مولاي ، المتورّك على فضله ، القاصد إلى مجده ، المحكم في نفسه ورجاله ،
فحيث وضعني من فضله وعوّضني من خدمته رجوت أن أتقدّم فيه بنيّة صادقة ، ونصيحة
خالصة ، فقال له الخليفة : أنت عندنا بمحلّ من يستحقّ حسن رأينا ، وسينالك من
تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملّتك ما يغبطك ، وتتعرّف به فضل جنوحك إلينا ،
واستظلالك بظل سلطاننا ، فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة ، وابتهل
داعيا ، وقال : إن شانجه ابن عمّي تقدّم إلى الخليفة الماضي مستجيرا به منّي ،
فكان من إعزازه إيّاه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم
وأمّلهم ، وكان قصده قصد مضطرّ قد شنأته رعيّته ، وأنكرت سيرته ، واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم
الله ذلك ، ولا دعاء إليه ، فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرّا مضطهدا ، فتطوّل عليه ـ رحمه الله! ـ بأن صرفه إلى ملكه ، وقوّى سلطانه ، وأعزّ
نصره ، ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه ، وقصّر في أداء المفروض عليه
وحقّه وحقّ مولاي أمير المؤمنين من بعده ، وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير
ضرورة من قرارة سلطاني وموضع أحكامي ، محكّما له في نفسي
__________________
ورجالي ومعاقلي
ومن تحويه من رعيتي ، فشتّان ما بيننا بقوة الثقة ومطرح الهمّة ، فقال الخليفة :
قد سمعنا قولك ، وفهمنا مغزاك ، وسوف يظهر من إقراضنا إيّاك على الخصوصيّة شأنه ،
ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا ـ رضي الله تعالى عنه! ـ إلى ندّك
، وإن كان له فضل التقدّم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا ، فليس ذلك ممّا
يؤخّرك عنه ، ولا ينقصك ممّا أنلناك ، وسنصرفك مغبوطا إلى بلدك ، ونشدّ أواخيّ ملكك ونملّكك جميع من انحاش إليك من أمتك ونعقد لك بذلك
كتابا يكون بيدك نقرّر به حدّ ما بينك وبين ابن عمّك ، ونقبضه عن كل ما بتصرّفه من البلاد إلى يدك ، وسيترادف عليك من إفضالنا فوق ما
احتسبته ، والله على ما نقول وكيل. فكرّر أردون الخضوع ، وأسهب في الشكر ، وقام
للانصراف مقهقرا لا يولّي الخليفة ظهره ، وقد تكنّفه الفتيان [من جملة الفتيان] ، فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح ، وقد علاه البهر
وأذهله الرّوع ، من هول ما باشره ، وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزّة
، فلمّا أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليا منه انحطّ ساجدا
إعظاما له ، ثم تقدّم الفتيان به إلى البهو الذي بجوفي هذا المجلس ، فأجلسوه هنالك
على وساد مثقل بالذهب ، وأقبل نحوه الحاجب جعفر ، فلمّا بصر به قام إليه وخضع له ، وأومأ إلى تقبيل يده ، فقبضها الحاجب عنه ، وانحنى إليه
فعانقه ، وجلس معه ، فغبّطه ، ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره ، ثم أمر
الحاجب جعفر فصبّت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة ، وكانت درّاعة منسوجة بالذهب ، وبرنسا مثلها له لوزة مفرغة من خالص التبر
مرصعة بالجوهر والياقوت ملأت عين العلج تجلّة ، فخرّ ساجدا ، وأعلن بالدعاء ، ثم
دعا الحاجب أصحابه رجلا رجلا فخلع عليهم على قدر استحقاقهم ، فكمل جميع ذلك بحسب
ما يصلح لهم ، وخرّ جميعهم خاضعين شاكرين ، ثم انطلق الملك أردون وأصحابه ، وقدّم لركابه في
أوّل البهو الأوسط فرس من عتاق خيل الركاب عليه سرج حلي ولجام حلي مفرغ ، وانصرف
مع ابن طملس إلى قصر الرصافة مكان تضييفه ،
__________________
وقد أعدّ له فيه
كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون ، واستقرّ أصحابه فيما لا كفاء له من
سعة التضييف وإرغاد المعاش. واستشعر الناس من مسرّة هذا اليوم وعزّة الإسلام فيه
ما أفاضوا في التبجّح به والتحدّث عنه أياما ، وكانت للخطباء والشعراء بمجلس
الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان ، وإنشادات لأشعار محكمة متان ، يطول القول في
اختيارها ، فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول : [الكامل]
ملك الخليفة آية
الإقبال
|
|
وسعوده موصولة
بنوال
|
والمسلمون بعزّة
وبرفعة
|
|
والمشركون بذلّة
وسفال
|
ألقت بأيديها
الأعاجم نحوه
|
|
متوقّعين لصولة
الرّئبال
|
هذا أميرهم أتاه
آخذا
|
|
منه أواصر ذمّة
وحبال
|
متواضعا لجلاله
متخشّعا
|
|
متبرّعا لمّا
يرع بقتال
|
سينال بالتأميل
للملك الرّضا
|
|
عزّا يعمّ عداه
بالإذلال
|
لا يوم أعظم
للولاة مسرّة
|
|
وأشدّه غيظا على
الأقبال
|
من يوم أردون
الذي إقباله
|
|
أمل المدى
ونهاية الإقبال
|
ملك الأعاجم
كلّها ابن ملوكها
|
|
والي الرّعاة
إلى الأعاجم والي
|
إن كان جاء
ضرورة فلقد أتى
|
|
عن عزّ مملكة
وطوع رجال
|
فالحمد لله
المنيل إمامنا
|
|
حظّ الملوك
بقدره المتعالي
|
هو يوم حشر
الناس إلّا أنهم
|
|
لم يسألوا فيه
عن الأعمال
|
أضحى الفضاء
مفعّما بجيوشه
|
|
والأفق أقتم
أغبر السّربال
|
لا يهتدي الساري
لليل قتامه
|
|
إلّا بضوء صوارم
وعوالي
|
وكأن أجسام
الكماة تسربلت
|
|
مذ عرّيت عنه
جسوم صلال
|
وكأنما العقبان
عقبان الفلا
|
|
منقضّة لتخطّف
الضّلّال
|
وكأن مقتضب القنا مهتزّة
|
|
أشطان نازحة
بعيدة جال
|
__________________
وكأنما قبل
التجافيف اكتست
|
|
نارا تؤجّجها
بلا إشعال
|
وقال بعض المؤرخين
في حق الحكم المستنصر عن فتاه تليد صاحب خزانته العلمية فيما حدّث عنه الحافظ أبو
محمد بن حزم : إنّ عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل
فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلّا ذكر الدواوين فقط ، انتهى. وقد قدّمناه عن ابن
خلدون ، ونقله ابن الأبار في التكملة.
وقال بعض
المؤرّخين في حق الحكم : إنه كان حسن السيرة ، مكرّما للقادمين عليه ، جمع من
الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف كثرة ونفاسة ، حتى قيل : إنها كانت أربعمائة ألف مجلد ،
وإنّهم لمّا نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها ، وكان عالما نبيها ، صافي السريرة ،
وسمع من قاسم بن أصبغ وأحمد بن دحيم ومحمد بن عبد السلام الخشني وزكريا بن خطاب
وأكثر عنه ، وأجاز له ثابت بن قاسم ، وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء. وكان يستجلب
المصنّفات من الأقاليم والنواحي باذلا فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها
خزائنه ، وكان ذا غرام بها ، قد آثر ذلك على لذّات الملوك ، فاستوسع علمه ، ودقّ
نظره ، وجمت استفادته ، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيّا نسيج وحده ، وكان ثقة فيما ينقله ، بهذا وصفه ابن الأبار
وبأضعافه ، وقال : عجبا لابن الفرضي وابن بشكوال كيف لم يذكراه وقلّما يوجد كتاب
من خزائنه إلّا وله فيه قراءة أو نظر في أي فنّ كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده
ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلّا عنده لعنايته بهذا الشأن.
ومما ينسب إليه من
النظم قوله : [الطويل]
إلى الله أشكو
من شمائل مسرف
|
|
عليّ ظلوم لا
يدين بما دنت
|
نأت عنه داري
فاستزاد صدوده
|
|
وإنّي على وجدي
القديم كما كنت
|
ولو كنت أدري
أنّ شوقي بالغ
|
|
من الوجد ما
بلّغته لم أكن بنت
|
وقوله : [الطويل]
__________________
عجبت ، وقد
ودّعتها ، كيف لم أمت
|
|
وكيف انثنت بعد
الوداع يدي معي
|
فيا مقلتي العبرى
، عليها اسكبي دما
|
|
ويا كبدي الحرّى
، عليها تقطّعي
|
وتوفي ـ رحمه الله
تعالى! ـ بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستّين وثلاثمائة ، لستّ عشرة سنة من خلافته
، وكان أصابه الفالج ، فلزم الفراش إلى أن هلك ـ رحمه الله تعالى! ـ وكان قد شدّد
في إبطال الخمر في مملكته تشديدا عظيما.
وولي بعده ابنه
هشام صغيرا سنّه تسع سنين ، ولا ينافيه قول ابن خلدون : «قد ناهز الحلم» وكان
الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر ، ونقله من خطة القضاء إلى وزارته ، وفوّض
إليه أموره ، فاستقلّ.
قال ابن خلدون : وترقّت حال ابن أبي عامر عند الحكم ، فلما توفي الحكم
وبويع هشام ولقّب المؤيّد بعد أن قتل ليلتئذ المغيرة أخو الحكم المرشّح لأمره
تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة من جعفر بن عثمان المصحفيّ حاجب أبيه
، وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم ، ومن خصيان القصر يومئذ ورؤسائهم فاتن وجؤذر ، فقتل ابن أبي عامر المغيرة بممالأة من ذكر ، وتمّت
البيعة لهشام. ثم سما لابن أبي عامر أمل في التغلّب على هشام لمكانه في السنّ ،
وثاب له رأي في الاستبداد ، فمكر بأهل الدولة ، وضرب بين رجالها ، وقتل بعضا ببعض.
وكان من رجال اليمنية من معافر ، دخل جدّه عبد الملك على طارق ، وكان عظيما في
قومه ، وكان له في الفتح أثر ، وعظم ابن أبي عامر هذا ، وغلب على المؤيد ، ومنع
الوزراء من الوصول إليه إلّا في النادر من الأيام يسلّمون وينصرفون. وأرضخ للجند في العطاء ، وأعلى مراتب العلماء ، وقمع أهل البدع ،
وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين. ثم تجرّد لرؤساء الدولة ممّن
عانده وزاحمه ، فمال عليهم ، وحطّهم عن مراتبهم ، وقتل بعضا ببعض ، كلّ ذلك عن
هشام وخطّه وتوقيعه حتى استأصلهم وفرّق جموعهم. وأول ما بدأ بالصقالبة الخصيان
الخدّام بالقصر ، فحمل الحاجب المصحفيّ على نكبتهم ، فنكبهم وأخرجهم من القصر ،
وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ، ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم ، وبالغ في خدمته
والتنصّح له ، واستعان به على المصحفيّ فنكبه ومحا أثره من
__________________
الدولة ، ثم
استعان على غالب بجعفر بن أحمد بن علي بن حمدون صاحب المسيلة وقائد الشيعة ممدوح بن هانىء
بالفائية المشهورة وغيرها ، وهو النازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن كان معه من
زناتة والبربر. ثم قتل جعفرا بممالأة ابن عبد الودود وابن جهور وابن ذي النون
وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم. ثم لمّا خلا الجوّ من أولياء الخلافة
والمرشّحين للرياسة رجع إلى الجند ، فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة
فرتّب منهم جندا ، واصطنع أولياء ، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة وبني يفرن وبني
برزال ومكناسة وغيرهم ، فتغلّب على هشام وحجره ، واستولى على الدولة ، وملأ الدنيا وهو في جوف بيته ؛ من
تعظيم الخلافة ، والخضوع لها ، وردّ الأمور إليها ، وترديد الغزو والجهاد ، وقدّم
رجال البرابرة وزناتة ، وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم ، فتمّ له ما أراد من
الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر ، وبنى لنفسه مدينة لنزله سمّاها الزاهرة.
ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ، وقعد على سرير الملك ، وأمر أن يحيّا بتحية
الملوك ، وتسمّى بالحاجب المنصور ، ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه ، وأمر
بالدعاء له على المنابر باسمه عقد الدعاء للخليفة ، ومحا رسم الخلافة بالجملة ،
ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء على المنابر وكتب اسمه في
السّكة والطرز ، وأغفل ديوانه ممّا سوى ذلك. وجنّد البرابرة والمماليك ، واستكثر
من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرتبة ، وقهر من تطاول إليها من العلية ، فظفر من ذلك بما أراد ، وردّد الغزو بنفسه إلى دار الحرب
، فغزا ستّا وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم تنتكس له فيها راية ، ولا فلّ له
جيش ، وما أصيب له بعث ، وما هلكت له سريّة ، وأجاز عساكره إلى العدوة ، وضرب بين
ملوك البرابرة ، وضرب بعضهم. ببعض ، فاستوثق له ملك المغرب ، وأخبتت له ملوك زناتة ، وانقادوا لحكمه ، وأطاعوا سلطانه ، وأجاز
ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر ، ولمّا سخط زيري بن عطيّة ملكهم
لمّا بلغه ما بلغه من إعلانه بالنّيل منه والغضّ من منصبه والتأفّف لحجر الخليفة
__________________
هشام أوقع به عبد
الملك سنة ستّ وثمانين ، ونزل بفاس وملكها ، وعقد لملوك زناتة على ممالك المغرب
وأعماله من سجلماسة وغيرها ، وشرّد زيري بن عطية إلى تاهرت ، فأبعد المفرّ ، وهلك في مفرّه ذلك. ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة ،
واستعمل واضحا على المغرب. وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا ، وأشدّ استيلاء ، سنة
أربع وتسعين وثلاثمائة ، بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته ، ودفن هنالك ، وذلك
لسبع وعشرين سنة من ملكه ، انتهى كلام ابن خلدون ، وبعضه بالمعنى وزيادة يسيرة.
ولا بأس أن نزيد
عليه فنقول : ممّا حكي أنه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى : [الكامل]
آثاره تنبيك عن
أخباره
|
|
حتّى كأنّك
بالعيان تراه
|
تالله لا يأتي
الزمان بمثله
|
|
أبدا ، ولا يحمي
الثغور سواه
|
وعن شجاع مولى
المستعين بن هود : لمّا توجّهت إلى أذفونش وجدته في مدينة سالم ، وقد نصب على قبر
المنصور بن أبي عامر سريره ، وامرأته متّكئة إلى جانبه ، فقال لي : يا شجاع ، أما
تراني قد ملكت بلاد المسلمين ، وجلست على قبر ملكهم؟ قال : فحملتني الغيرة أن قلت
له : لو تنفّس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه ، ولا استقرّ بك
قرار ، فهمّ بي ، فحالت امرأته بيني وبينه ، وقالت : صدقك فيما قال ، أيفخر مثلك
بمثل هذا؟.
وهذا تلخيص ترجمة
المنصور من كلام ابن سعيد : قال رحمه الله : ترجمة الملك الأعظم المنصور أبي عامر
محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، المعافري
، من قرية تركش ، وعبد الملك جدّه هو الوافد على الأندلس مع طارق في أوّل
الداخلين من العرب ، وأمّا المنصور فقد ذكره ابن حيّان في كتابه المخصوص
__________________
بالدولة العامرية
، والفتح في المطمح ، والحجاري في المسهب ، والشّقندي في الطرف ، وذكر الجميع أن
أصله من قريش تركش ، وأنه رحل إلى قرطبة ، وتأدّب بها ، ثم اقتعد دكانا عند باب القصر يكتب فيه لمن يعنّ له كتب من الخدم
والمرافقين للسلطان ، إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيّد من يكتب عنها ، فعرّفها
به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر ، فترقّى إلى أن كتب عنها ، فاستحسنته
، ونبّهت عليه الحكم ، ورغّبت في تشريفه بالخدمة ، فولّاه قضاء بعض المواضع ،
فظهرت منه نجابة ، فترقّى إلى الزكاة والمواريث بإشبيلية وتمكّن في قلب السيدة بما
استمالها به من التّحف والخدمة ما لم يتمكّن لغيره ، ولم يقصّر ـ مع ذلك ـ في خدمة
المصحفي الحاجب ، إلى أن توفي الحكم وولي ابنه هشام المؤيد ، وهو ابن اثنتي عشرة
سنة ، فجاشت الروم ، فجهّز المصحفيّ ابن أبي عامر لدفاعهم ، فنصره الله عليهم
، وتمكّن حبّه من قلوب الناس.
وكان جوادا عاقلا
ذكيّا ، استعان بالمصحفي على الصّقالبة ، ثم بغالب على المصحفيّ ، وكان غالب صاحب
مدينة سالم ـ وتزوّج ابن أبي عامر ابنته أسماء ، وكان أعظم عرس بالأندلس ـ ثم
بجعفر بن علي الأندلسي ممدوح ابن هانىء على غالب ، ثم بعبد الرحمن بن محمد بن هشام
التّجيبي على جعفر ، وله في الحزم والكيد والجلد ما أفرد له ابن حيّان تأليفا ،
وعدد غزواته المنشأة من قرطبة نيّف وخمسون غزوة ، ولم تهزم له راية ، وقبره بمدينة
سالم في أقصى شرق الأندلس.
ومن شعره : [الطويل]
رميت بنفسي هول
كلّ عظيمة
|
|
وخاطرتة والحرّ
الكريم يخاطر
|
وما صاحبي إلّا
جنان مشيّع
|
|
وأسمر خطّيّ
وأبيض باتر
|
فسدت بنفسي أهل
كلّ سيادة
|
|
وفاخرت حتى لم
أجد من أفاخر
|
وما شدت بنيانا
ولكن زيادة
|
|
على ما بنى عبد
المليك وعامر
|
__________________
رفعنا العوالي
بالعوالي مثلها
|
|
وأورثناها في
القديم معافر
|
وجوده مع صاعد
البغدادي اللغوي مشهور.
وصدر عن بعض
غزواته فكتب إليه عبد الملك ابن شهيد ، وكان قد تخلّف عنه : [الخفيف]
أنا شيخ والشّيخ
يهوى الصّبايا
|
|
يا بنفسي أقيك
كلّ الرّزايا
|
ورسول الإله
أسهم في الفي
|
|
ء لمن لم يخبّ
فيه المطايا
|
فبعث إليه بثلاث
جوار من أجمل السّبي ، وكتب معهنّ ، وكانت واحدة أجملهنّ ، قوله:[الخفيف]
قد بعثنا بها
كشمس النهار
|
|
في ثلاث من
المها أبكار
|
وامتحنّا بعذرة
البكر إن كن
|
|
ت ترجّي بوادر
الإعذار
|
فاجتهد وابتدر
فإنّك شيخ
|
|
قد جلا ليله
بياض النهار
|
صانك الله من
كلالك فيها
|
|
فمن العار كلّة
المسمار
|
فافتضّهنّ من
ليلته ، وكتب له بكرة : [الخفيف]
قد فضضنا ختام
ذاك السّوار
|
|
واصطبغنا من
النّجيع الجاري
|
وصبرنا على دفاع
وحرب
|
|
فلعبنا بالدّرّ
أو بالدراري
|
وقضى الشيخ ما
قضى بحسام
|
|
ذي مضاء عضب
الظّبا بتّار
|
فاصطنعه فليس
يجزيك كفرا
|
|
واتّخذه فحلا
على الكفّار
|
وقدم بعض التجّار
ومعه كيس فيه ياقوت نفيس ، فتجرّد ليسبح في النهر ، وترك الكيس ، وكان أحمر ، على
ثيابه ، فرفعته حدأة في مخالبها ، فجرى تابعا لها وقد ذهل ، فتغلغلت في البساتين ،
وانقطعت عن عينه ، فرجع متحيّرا ، فشكا ذلك إلى بعض من يأنس به ، فقال له :
صف حالك لابن أبي
عامر ، فتلطّف في وصف ذلك بين يديه ، فقال : ننظر إن شاء الله تعالى في شأنك ،
وجعل يستدعي أصحاب تلك البساتين ، ويسأل خدّامها عمّن ظهر عليه تبديل حال ،
فأخبروه أن شخصا ينقل الزبل اشترى حمارا ، وظهر من حاله ما لم يكن قبل ذلك ، فأمر
__________________
بمجيئه ، فلمّا
وقعت عينه عليه قال له : أحضر الكيس الأحمر ، فتملّك الرعب قلبه وارتعش ، وقال :
دعني آتي به من منزلي ، فوكل به من حمله إلى منزله. وجاء بالكيس ، وقد نقص منه ما
لا يقدح في مسرّة صاحبه ، فجبره ، ودفعه إلى صاحبه ، فقال : والله لأحدّثنّ في مشارق الأرض
ومغاربها أن ابن أبي عامر يحكم على الطيور وينصف منها ، والتفت ابن أبي عامر إلى
الزبّال فقال له : لو أتيت به أغنيناك ، لكن تخرج كفافا لا عقابا ولا ثوابا.
وتوفي ، رحمه الله
، في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، وحمل في سريره على أعناق
الرجال ، وعسكره يحفّ به ، وبين يديه ، إلى أن وصل إلى مدينة سالم.
ودامت دولته ستّا
وعشرين سنة ، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف ، انتهى
كلام ابن سعيد ، وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون.
وقال الفتح في «المطمح»
في حق المصحفي الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ، ما صورته : تجرد للعليا ، وتمرّد في طلب الدنيا ، حتى بلغ المنى ، وتسوّغ ذلك الجنى ، ووصل إلى المنتهى ، وحصل على ما اشتهى ، دون مجد تفرّع
من دوحته ، ولا فخر نشأ بين مغداه وروحته ، فسما دون سابقة ، ورمى
إلى رتبة لم تكن لنفسه مطابقة ، فبلغ نفسه ، ونزع عن جنسه ، ولم يزل يستقلّ ويضطلع
، وينتقل من مطلع إلى مطلع ، حتى التاح في أفق الخلافة ، وارتاح إليها بعطفه
كنشوان السّلافة ، واستوزره المستنصر ، وعنه كان يسمع وبه يبصر ، وحجب الإمام ،
وأسكب برأيه ذلك الغمام ، فأدرك لذلك ما أدرك ، ونصب لأمانيه الحبائل والشرك ،
فاقتنى اقتناء مدّخر ، وأزرى بمن سواه وسخر ، واستعطفه ابن أبي عامر ونجمه غائر لم
يلح ، وسرّه مكتوم لم يبح ، فما عطف ، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف ، وأقام في
تدبير الأندلس ما أقام وبرهانه مستقيم ، ومن الفتن عقيم ، وهو يجري من السعد في
ميدان رحب ، ويكرع من العزّ في مشرب عذب ، ويفضّ ختام السرور ، وينهض بملك على
لبّته مزرور ، وكان له أدب بارع ، وخاطر إلى نظم القريض مسارع ، فمن محاسنه التي
بعثها إيناس دهره وإسعاده ، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده ، قوله : [الطويل]
لعينيك في قلبي
عليّ عيون
|
|
وبين ضلوعي
للشجون فنون
|
__________________
نصيبي من الدنيا
هواك ، وإنه
|
|
غذائي ، ولكنّي
عليه ضنين
|
وستأتي هذه
الترجمة من المطمح الصغير إن شاء الله تعالى بما فيه بعض زيادة ونقصان في الباب
الرابع.
وقال في المطمح في
حق ابن أبي عامر : إنه تمرّس ببلاد الشّرك أعظم تمرّس ، ومحا من طواغيتها كلّ تعجرف وتغطرس ، وغادرهم صرعى البقاع ، وتركهم أذلّ من وتد بقاع ، ووالى
على بلادهم الوقائع ، وسدّد إلى أكبادهم سهام الفجائع ، وأغصّ بالحمام أرواحهم ،
ونغّص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم ، ومن أوضح الأمور هنالك ؛ وأفصح الأخبار في ذلك
، أنّ أحد رسله كان كثير الانتياب ، لذلك الجناب ؛ فسار في بعض مسيراته إلى غرسيه
صاحب البشكنس فوالى في إكرامه ، وتناهى في برّه واحترامه ، فطالت مدّته فلا متنزّه
إلّا مرّ عليه متفرّجا ، ولا منزل إلّا سار عليه معرّجا ، فحلّ في ذلك ، أكثر
الكنائس هنالك ، فبينا هو يجول في ساحتها ، ويجيل العين في مساحتها ، إذ عرضت له
امرأة قديمة الأسر ، قويمة على طول الكسر ، فكلّمّته وعرّفته بنفسها وأعلمته ،
وقالت له : أيرضى المنصور أن ينسى بتنعّمه بوسها ، ويتمتّع بلبوس العافية وقد نضت
لبوسها ، وزعمت أنّ لها عدة سنين بتلك الكنيسة محبسة ، وبكل ذلّ وصغار ملبسة ،
وناشدته الله في إنهاء قصتها ، وإبراء غصّتها ، واستحلفته بأغلظ الأيمان ، وأخذت
عليه في ذلك أوكد مواثيق الرحمن ، فلمّا وصل إلى المنصور عرّفه بما يجب تعريفه به
وإعلامه ، وهو مصغ إليه حتى تمّ كلامه ، فلما فرغ قال له المنصور : هل وقفت هناك
على أمر أنكرته ، أم لم تقف على غير ما ذكرته؟ فأعلمه بقصة المرأة وما خرجت عنه
إليه ، وبالمواثيق التي أخذت عليه ، فعتبه ولامه ، على أن لم يبدأ بها كلامه ، ثم
أخذ للجهاد من فوره وعرض من من الأجناد في نجده وغوره ، وأصبح غازيا على سرجه ،
مباهيا مروان بن الحكم يوم مرجه ، حتى وافى ابن شانجه في جمعه ، فأخذت مهابته ببصره وسمعه
، فبادر بالكتاب إليه يتعرّف ما الجليّة ، ويحلف له بأعظم أليّة ، أنه ما جنى ذنبا ، ولا جفا عن مضجع الطاعة جنبا ، فعنف
أرساله وقال لهم : كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورة ولا
__________________
مأسور ، ولو حملته
في حواصلها النّسور ، وقد بلغني بعد بقاء المسلمة في تلك الكنيسة ، وو الله لا
أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها ، فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها ، وأقسم أنه ما
أبصرهنّ ولا سمع بهنّ وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها ، قد بالغ في هدمها ،
تحقيقا لقوله ، وتضرّع إليه في الأخذ فيه بطوله ، فاستحيا منه ، وصرف الجيش عنه ،
وأوصل المرأة إلى نفسه ، وألحف توحّشها بأنسه ، وغيّر من حالها ، وعاد بسواكب
نعماه على جدبها وإمحالها ، وحملها إلى قومها ، وكحلها بما كان شرد من نومها ،
انتهى.
وقال في المطمح
أيضا في حقه ما نصه : فرد نابه على من تقدّمه ، وصوّبه واستحزمه ، فإنه كان أمضاهم
سنانا ، وأذكاهم جنانا ، وأتمّهم جلالا ، وأعظمهم استقلالا ، فآل أمره إلى ما آل ،
وأوهم العقول بذلك المآل ، فإنه كان آية الله في اتفاق سعده ، وقربه من الملك بعد
بعده ، بهر برفعة القدر ، واستظهر بالأناة وسعة الصّدر ، وتحرّك فلاح نجم الهدوّ ،
وتملّك فما خفق بأرضه لواء عدوّ ، بعد خمول كابد منه غصصا وشرقا ، وتعذّر مأمول
طارد فيه سهرا وأرقا ، حتى أنجز له الموعود ، وفرّ نحسه أمام تلك السعود ، فقام
بتدبير الخلافة ، وأقعد من كان له فيها إنافة ، وساس الأمور أحسن سياسة ، وداس
الخطوب بأخشن دياسة ، فانتظمت له الممالك ، واتّضحت به المسالك ، وانتشر الأمن في
كل طريق ، واستشعر اليمن كلّ فريق ، وملك الأندلس بضعا وعشرين حجّة ، لم تدحض لسعادتها حجّة ، ولم تزخر لمكروه بها لجّة ، لبست فيه
البهاء والإشراق ، وتنفّست عن مثل أنفاس العراق ، وكانت أيامه أحمد أيام ، وسهام
بأسه أسدّ سهام ، غزا الروم شاتيا وصائفا ، ومضى فيما يروم زاجرا وعائفا ، فما مرّ
له غير سنيح ، ولا فاز إلّا بالمعلّى لا بالمنيح ، فأوغل في تلك الشّعاب ، وتغلغل حتى راع ليث الغاب ، ومشى
تحت ألويته صيد القبائل ، واستجرّت في ظلّها بيض الظّبا وسمر الذوابل ،
وهو يقتضي الأرواح بغير سوم ، وينتضي الصفاح على كل روم ، ويتلف من لا ينساق
للخلافة وينقاد ، ويخطف منهم كلّ كوكب وقّاد ، حتى استبدّ وانفرد ، وأنس إليه من
الطاعة ما نفر وشرد ، وانتظمت له الأندلس بالغدوة ، واجتمعت في ملكه اجتماع قريش
بدار النّدوة ، ومع هذا لم يخلع اسم الحجابة ، ولم يدع السمع لخليفته والإجابة ،
ظاهر يخالفه الباطن ، واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن ، وأذلّ قبائل الأندلس
بإجازة البرابر ، وأخمل بهم أولئك الأعلام
__________________
الأكابر ، فإنه
قاومهم بأضدادهم ، واستكثر من أعدادهم ، حتى تغلّبوا على الجمهور ، وسلبوا عنهم
الظهور ، ووثبوا عليهم الوثوب المشهور ، الذي أعاد أكثر الأندلس قفرا يبابا ،
وملأها وحشا وذئابا ، وأعراها عن الأمان ، برهة من الزمان ، وعلى هذه الهيئة فهو
وابنه المظفر كانا آخر سعد الأندلس ، وحدّ السرور بها والتأنّس ، وغزواته فيها
شائعة الأثر ، رائعة كالسيف ذي الأثر ، وحسبه وافر ، ونسبه معافر ، ولذا قال يفتخر
:
رميت بنفسي ....
الأبيات ، وزاد
هنا بعد قوله «أبيض باتر» بيتا ، وهو : [الطويل]
وإني لزجّاء
الجيوش إلى الوغى
|
|
أسود تلاقيها
أسود خوادر
|
وكانت أمّه تميمية
، فحاز الشرف بطرفيه ، والتفّ بمطرفيه ، ولذا قال القسطلّي فيه : [الطويل]
تلاقت عليه من
تميم ويعرب
|
|
شموس تلالا في
العلا وبدور
|
من الحميريّين
الذين أكفّهم
|
|
سحائب تهمي
بالنّدى وبحور
|
وتصرّف قبل ولايته
في شتى الولايات ، وجاء من التحدّث بمنتهى أمره بآيات ، حتى صحّ زجره ، وجاء بصبحه
فجره ، تؤثر عنه في ذلك أخبار ، فيها عجب واعتبار ، وكان أديبا محسنا ، وعالما
متفنّنا ، فمن ذلك قوله يمنّي نفسه بملك مصر والحجاز ، ويستدعي صدور تلك الأعجاز :
[الخفيف]
منع العين أن
تذوق المناما
|
|
حبّها أن ترى
الصّفا والمقاما
|
لي ديون بالشّرق
عند أناس
|
|
قد أحلّوا
بالمشعرين الحراما
|
إن قضوها نالوا
الأماني ، وإلّا
|
|
جعلوا دونها
رقابا وهاما
|
عن قريب ترى
خيول هشام
|
|
يبلغ النّيل
خطوها والشآما
|
انتهى ما نقله من
المطمح.
__________________
وفي المنصور
المذكور أيضا قال بعض مؤرّخي المغرب ، مازجا كلامه ببعض كلام الفتح ، بعد ذكر
استعانته ببعض الناس على بعض ، وذكر قتله لجعفر بن علي ، فقال بعده ما صورته : ثم
انفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر هل من مبارز ، فلمّا لم يجده حمل الدهر على
حكمه ، فانقاد له وساعده ، فاستقام أمره منفردا بمملكة لا سلف له فيها ، ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قطّ في حرب شهدها
، وما توجّهت عليه هزيمة ، وما انصرف عن موطن إلّا قاهرا غالبا ، على كثرة ما زاول
من الحروب ومارس من الأعداء وواجه من الأمم ، وإنها لخاصّة ما أحسب أحدا من الملوك
الإسلامية شاركه فيها ، ومن أعظم ما أعين به مع قوة سعده وتمكّن جدّه سعة جوده ، وكثرة بذله ، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان ،
وأول ما اتكأ على أرائك الملوك وارتفق ، وانتشر عليه لواء السعد وخفق ، حط صاحبه المصحفيّ ،
وأثار له كامن حقده الخفيّ ، حتى أصاره للهموم لبيسا ، وفي غيابات السجن حبيسا ،
فكتب إليه يستعطفه بقوله : [البسيط]
هبني أسأت فأين
العفو والكرم
|
|
إذ قادني نحوك
الإذعان والنّدم
|
يا خير من مدّت
الأيدي إليه أما
|
|
ترثي لشيخ رماه
عندك القلم
|
بالغت في السّخط
فاصفح صفح مقتدر
|
|
إن الملوك إذا
ما استرحموا رحموا
|
فما زاده ذلك إلّا
حنقا وحقدا ، وما أفادته الأبيات إلّا تضرّما ووقدا ، فراجعه بما أيأسه ، وأراه
مرمسه ، وأطبق عليه محبسه ، وضيّق تروّحه من المحنة وتنفّسه : [البسيط]
الآن يا جاهلا زلّت
بك القدم
|
|
تبغي التّكرّم
لمّا فاتك الكرم
|
أعريت بي ملكا
لولا تثبّته
|
|
تبغي التّكرّم
لمّا فاتك الكرم
|
أغريت بي ملكا
لو لا تثبّته
|
|
ما جاز لي عنده
نطق ولا كلم
|
فايأس من العيش
إذ قد صرت في طبق
|
|
إنّ الملوك إذا
ما استنقموا نقموا
|
نفسي إذا سخطت
ليست براضية
|
|
ولو تشفّع فيك
العرب والعجم
|
وكان من أخباره
الداخلة في أبواب البرّ والقربة بنيان المسجد الجامع ، إلى أن قال :
__________________
ومن ذلك بناؤه
قنطرة على نهر قرطبة الأعظم ، ابتدأ بناءها المنصور سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ،
وفرغ منها في النصف من سنة تسع وسبعين ، وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف دينار
وأربعين ألف دينار ، فعظمت بها المنفعة ، وصارت صدرا في مناقبه الجليلة. وكانت
هنالك قطعة أرض لشيخ من العامّة ، ولم يكن للقنطرة عدول عنها ؛ فأمر المنصور
أمناءه بإرضائه فيها ، فحضر الشيخ عندهم ، فساوموه بالقطعة ، وعرّفوه وجه الحاجة
إليها وأنّ المنصور لا يريد إلّا إنصافه فيها ، فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده
فيما ظنّه أنها لا تخرج عنه بأقلّ من عشرة دنانير ذهبا ، كانت عنده أقصى الأمنيّة
، وشرطها صحاحا. فاغتنم الأمناء غفلته ، ونقدوه الثّمن ، وأشهدوا عليه ، ثم أخبروا
المنصور بخبره ، فضحك من جهالته ، وأنف من غبنه ، وأمر أن يعطى عشرة أمثال ما سأل
، وتدفع له صحاحا كما قال ، فقبض الشيخ مائة دينار ذهبا ؛ فكاد أن يخرج من عقله ،
وأن يجنّ عند قبضها من الفرح ، وجاء محتفلا في شكر المنصور ، وصارت قصّته خبرا
سائرا.
ومن ذلك أيضا بناء
قنطرة على نهر إستجة ، وهو نهر شنيل ، وتجشم لها أعظم مؤنة ، وسهّل الطريق الوعرة
والشّعاب الصعبة.
ومن ذلك أيضا أنه
خطّ بيده مصحفا كان يحمله معه في أسفاره وغزواته .
يدرس فيه ،
ويتبرّك به.
ومن قوة رجائه أنه
اعتنى بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده ، فكان الخدم يأخذونه
عنه بالمناديل في كل منزل من منازله ، حتى اجتمع له منه صرّة ضخمة ، عهد بتصييره
في حنوطه ، وكان يحملها حيث سار مع أكفانه ، توقّعا لحلول منيّته ،
وقد كان اتّخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضّيعة الموروثة عن أبيه ، وغزل بناته.
وكان يسأل الله تعالى أن يتوفّاه في طريق الجهاد ؛ فكان كذلك.
وكان متّسما بصحّة
باطنه ، واعترافه بذنبه ، وخوفه من ربّه ، وكثرة جهاده. وإذا ذكّر بالله ذكر ،
وإذا خوّف من عقابه ازدجر ، ولم يزل متنزّها عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر ،
لكنه أقلع عنها قبل موته بسنتين. وكان عدله في الخاصّة والعامّة وبسط الحقّ على
الأقرب فالأقرب من خاصّته وحاشيته أمرا مضروبا به المثل.
__________________
ومن عدله أنه وقف
عليه رجل من العامّة بمجلسه ، فنادى : «يا ناصر الحق ، إنّ لي مظلمة عند ذلك
الوصيف الذي على رأسك» ، وأشار إلى الفتى صاحب الدّرقة ، وكان له فضل محلّ عنده ،
ثم قال : وقد دعوته إلى الحاكم ، فلم يأت ، فقال له المنصور : «أو عبد الرحمن بن
فطيس بهذا العجز والمهانة ، وكنّا نظنّه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك يا هذا» ، فذكر
الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نصف ، فقال المنصور : «ما أعظم بليّتنا بهذه الحاشية»! ثم نظر
إلى الصّقلبي وقد ذهل عقله ، فقال له : «ادفع الدّرقة إلى فلان ، وانزل صاغرا ،
وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحقّ أو يضعك» ، ففعل ، ومثل بين يديه ، ثم قال
لصاحب شرطته الخاصّ به : «خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدّمه مع خصمه إلى صاحب
المظالم لينفّذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحقّ من سجن أو غيره» ، ففعل ذلك ، وعاد
الرجل إليه شاكرا ، فقال له المنصور : «قد انتصفت أنت» ، اذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممّن تهاون بمنزلتي».
فتناول الصّقلبيّ بأنواع من المذلّة ، وأبعده عن الخدمة.
ومن ذلك قصة فتاه
الكبير المعروف بالبورقي مع التاجر المغربي ؛ فإنهما تنازعا في خصومة توجّهت فيها
اليمين على الفتى المذكور ، وهو يومئذ أكبر خدم المنصور ، وإليه أمر داره وحرمه ،
فدافع الحاكم ، وظنّ أنّ جاهه يمنع من إحلافه. فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى
الجامع متظلّما من الفتى ، فوكّل به في الوقت من حمله إلى الحاكم ، فأنصفه منه ،
وسخط عليه المنصور ، وقبض نعمته منه ، ونفاه. ومن ذلك قصة محمد فصّاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه ، فإنّ المنصور احتاجه
يوما إلى الفصد ، وكان كثير التّعهد له ، فأنفذ رسوله إلى محمد ، فألفاه الرسول
محبوسا في سجن القاضي محمد بن زرب لحيف ظهر منه على امرأته قدّر أنّ سبيله من الخدمة يحميه
من العقوبة. فلمّا عاد الرسول إلى المنصور بقصّته ، أمر بإخراجه من السجن مع رقيب
من رقباء السجن يلزمه إلى أن يفرغ من عمله عنده ، ثم يردّه إلى محبسه. ففعل ذلك
على ما رسمه ، وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله ، فقطع عليه المنصور ، وقال له : «يا
محمد ، إنّه القاضي ، وهو في عدله ، ولو أخذني الحقّ ما أطقت الامتناع منه ، عد
إلى محبسك أو اعترف بالحقّ فهو الذي يطلقك». فانكسر الحاجم ، وزالت
__________________
عنه ريح العناية.
وبلغت قصته للقاضي ، فصالحه مع زوجته ، وزاد القاضي شدّة في أحكامه.
وقال ابن حيّان :
إنه كان جالسا في بعض الليالي ، وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر ، فدعا بأحد
الفرسان وقال له : «انهض الآن إلى فج طليارش ، وأقم فيه ، فأول خاطر يخطر عليك سقه
إليّ». قال : فنهض الفارس وبقي في الفجّ في البرد والريح والمطر واقفا على فرسه ،
إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ، ومعه آلة الحطب ، فقال له الفارس: «إلى
أين تريد يا شيخ»؟ فقال : «وراء حطب» ، فقال الفارس في نفسه : «هذا شيخ مسكين نهض
إلى الجبل يسوق حطبا ، فما عسى أن يريد المنصور منه»؟ قال : فتركته ، فسار عنّي
قليلا ، ثم فكّرت في قول المنصور ، وخفت سطوته ، فنهضت إلى الشيخ وقلت له : «ارجع
إلى مولانا المنصور». فقال له : وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله
أن تتركني أذهب لطلب معيشتي ، فقال له الفارس : لا أفعل ، ثم قدم به على المنصور ،
ومثّله بين يديه وهو جالس لم ينم ليلته تلك ، فقال المنصور للصقالبة : فتّشوه ،
ففتّشوه فلم يجدوا معه شيئا ، فقال : فتّشوا برذعة حماره ، فوجدوا داخلها كتابا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى
المنصور ، ويخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النّواحي
المرطومة . فلما انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب
الزاهرة ، فضربت أعناقهم ، وضربت رقبة الشيخ معهم.
ثم ذكر هذا
المؤرّخ قصة الجوهري التي قدّمنا نقلها من مغرب ابن سعيد ، ولكنّا
رأينا إعادتها بلفظ هذا المؤرّخ ؛ لأنه أتمّ مساقا إذ قال عطفا على دهائه : ومن
ذلك قصة الجوهري التاجر ، وذلك أن رجلا جوهريا من تجّار المشرق قصد المنصور من
مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة ، فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه ، ودفع إلى
التاجر الجوهري صرّته ، وكانت قطعة يمانيّة ، فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرّملة
على شطّ النهر ، فلمّا توسّطها واليوم قائظ ، وعرقه منصبّ دعته نفسه إلى التبرّد
في النهر ، فوضع ثيابه وتلك الصّرّة على الشّطّ ، فمرّت حدأة فاختطفت الصّرّة ،
تحسبها لحما ، وصارت في الأفق بها ذاهبة ، فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين
التاجر ، فقامت قيامته ، وعلم أنّه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة ، فأسرّ
__________________
الحزن في نفسه ،
ولحقه لأجل ذلك علّة اضطرب فيها. وحضر الدفع إلى التجّار ، فحضر الرجل لذلك بنفسه
، فاستبان للمنصور ما بالرجل من المهانة والكآبة ، وفقد ما كان عنده من النشاط
وشدّة العارضة ، فسأله المنصور عن شأنه ، فأعلمه بقصّته ، فقال له : هلّا أتيت
إلينا بحدثان وقوع الأمر؟ فكنّا نستظهر على الحيلة ، فهل هديت إلى الناحية التي
أخذ الطائر إليها؟ قال : مرّ مشرفا على سمت هذا الجبل الذي يلي قصرك ، يعني الرملة
، فدعا المنصور شرطيّه الخاصّ به ، فقال له : جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة ،
فمضى وجاء بهم سريعا ، فأمرهم بالبحث عمّن غيّر حال الإقلال منهم سريعا ، وانتقل
عن الإضافة دون تدريج ، فتناظروا في ذلك ثم قالوا : يا مولانا ، ما نعلم إلّا رجلا
من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السّبق بأقدامهم عجزا عن شراء
دابّة ، فابتاع اليوم دابّة ، واكتسى هو وولده كسوة متوسّطة ، فأمر بإحضاره من
الغد ، وأمر التاجر بالغدوّ إلى الباب ، فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور ،
فاستدناه والتاجر حاضر ، وقال له : سبب ضاع منّا وسقط إليك ، ما فعلت به؟ قال : هو
ذا يا مولاي ، وضرب بيده إلى حجزة سراويله فأخرج الصّرّة بعينها ، فصاح التاجر طربا ، وكاد
يطير فرحا ، فقال له المنصور : صف لي حديثها ، فقال : بينا أنا أعمل في جناني تحت نخلة إذ سقطت أمامي ، فأخذتها وراقني منظرها ، فقلت :
إنّ الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار ، فاحترزت بها ، ودعتني فاقتي إلى أخذ
عشرة مثاقيل عيونا كانت معها مصرورة ، وقلت : أقلّ ما يكون في كرم مولاي أن يسمح
لي بها ، فأعجب المنصور ما كان منه ، وقال للتاجر : خذ صرّتك وانظرها ، واصدقني عن
عددها ، ففعل وقال وحقّ رأسك يا مولاي ، ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها
، وقد وهبتها له ، فقال له المنصور : نحن أولى بذلك منك ولا ننغص عليك فرحك. ولو
لا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفورا عليه ، ثم أمر للتاجر بعشرة
دنانير عوضا من دنانيره ، وللجنّان بعشرة دنانير ثوابا لتأنّيه عن فساد ما وقع
بيده ، وقال : لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعناه جزاء ، قال : فأخذ التاجر في
الثناء على المنصور ، وقد عاوده نشاطه وقال : والله لأبثّنّ في الأقطار عظيم ملكك ، ولأبيّننّ أنّك تملك طير أعمالك
كما تملك إنسها ، فلا تعتصم منك ولا تمتنع ، ولا تؤذي جارك ، فضحك المنصور وقال :
اقصد في قولك يغفر الله لك ، فعجب الناس من تلطّف المنصور في أمره وحيلته في تفريج
كربته.
__________________
ومن ذلك غزوة
المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية ، وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد
الأندلس ، وما يتّصل بها من الأرض الكبيرة. وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة
عندنا ، وللكعبة المثل الأعلى ، فبها يحلفون ، وإليها يحجّون من أقصى بلاد رومة
وما وراءها ، ويزعمون أنّ القبر المزور فيها قبر ياقب الحواريّ أحد الاثني عشر ،
وكان أخصّهم بعيسى ، على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام! وهم يسمّونه أخاه للزومه
إيّاه. وياقب بلسانهم يعقوب ، وكان أسقفا ببيت المقدس ، فجعل يستقري الأرضين داعيا
لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية ، ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها ، وله مائة
وعشرون سنة شمسية ، فاحتمل أصحابه رمّته ، فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره. ولم يطمع أحد
من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها ، لصعوبة مدخلها ، وخشونة مكانها. وبعد
شقّتها. فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لستّ بقين من جمادى
الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ، وهي غزوته الثامنة والأربعون. ودخل على مدينة
قورية ، فلمّا وصل إلى مدينة غليسية وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسّكين بالطاعة
في رجالهم ، وعلى أتمّ احتفالهم ، فصاروا في عسكر المسلمين ، وركبوا في المغاورة سبيلهم. وكان المنصور تقدّم في إنشاء أسطول كبير في الموضع
المعروف بقصر أبي دانس من ساحل غرب الأندلس ، وجهّزه برجاله البحريّين وصنوف
المترجّلين ، وحمل الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة ، استظهارا على نفوذ العزيمة
إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويرة ، فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل
المنصور على العبور منه ، فعقد هنالك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هنالك ،
ووجّه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند ، فتوسّعوا في التزوّد منه إلى أرض
العدو. ثم نهض منه يريد شنت ياقب ، فقطع أرضين متباعدة الأقطار ، وقطع بالعبور عدة
أنهار كبار وخلجان يمدّها البحر الأخضر. ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة
من بلاد فرطارش وما يتّصل بها ، ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك
فيه ولا طريق ، لم يهتد الأدلّاء إلى سواه. فقدّم المنصور الفعلة بالحديد لتوسعة
شعابه وتسهيل مسالكه ، فقطعه العسكر ، وعبروا بعده وادي منية ، وانبسط المسلمون
بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة ، وانتهت
__________________
مغيرتهم إلى دير قسطان
وبسيط بلنبو على البحر المحيط ، وفتحوا حصن شنت بلاية ، وغنموه ، وعبروا سباحة إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ
إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي ، فسبوا من فيها ممّن لجأ إليها. وانتهى العسكر
إلى جبل مراسية المتّصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط. فتخلّلوا أقطاره ، واستخرجوا
من كان فيه ، وحازوا غنائمه. ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليجا في معبرين أرشد
الأدلّاء إليهما ، ثم نهر أيلة ، ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة كثيرة الفائدة
، ثم انتهوا إلى موضع من مشاهد ياقب صاحب القبر تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل
، يقصد نسّاكهم له من أقاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنّوبة وغيرهما ، فغادره
المسلمون قاعا. وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة ، وذلك يوم الأربعاء
لليلتين خلتا من شعبان ، فوجدها المسلمون خالية من أهلها ، فحاز المسلمون غنائمها
، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها ، وعفّوا آثارها. ووكّل المنصور بقبر ياقب من
يحفظه ويدفع الأذى عنه ، وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيما كأن لم تغن
بالأمس ، وانتسفت بعوثه بعد ذلك سائر البسائط ، وانتهت الجيوش إلى مدينة شنت مانكش
منقطع هذا الصقع على البحر المحيط ، وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم ، ولا
وطئها لغير أهلها قدم ، فلم يكن بعدها للخيل مجال ، ولا وراءها انتقال. وانكفأ
المنصور عن باب شنت ياقب وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله ، فجعل في طريقه القصد
على عمل برمند بن أردون ليستقرّ به عائثا ومفسدا ، حتى وقع في عمل القوامس المعاهدين الذين في عسكره ، فأمر
بالكفّ عنها ، ومرّ مجتازا حتى خرج إلى حصن بليقية من افتتاحه ، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم ،
وكساهم وكسا رجالهم ، وصرفهم إلى بلادهم ، وكتب بالفتح من بليقية. وكان مبلغ ما
كساه في غزاته هذه لملوك الروم ولمن حسن غناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمسا
وثمانين شقّة من صنوف الخزّ الطّرازي ، وأحدا وعشرين كساء من صوف البحر ، وكساءين
عنبريّين ، وأحد عشر سقلاطونا ، وخمس عشرة مريّشات ، وسبعة أنماط ديباج ، وثوبي ديباج روميّ ، وفروي فنك ،
ووافى جميع العسكر قرطبة غانما ، وعظمت النعمة والمنّة على المسلمين. ولم يجد
المنصور بشنت ياقب إلّا شيخا من الرّهبان جالسا على القبر ، فسأله عن مقامه ، فقال
: «أونس يعقوب» ، فأمر بالكفّ عنه.
قال : وحدّث شعلة
، قال : قلت للمنصور ليلة طال سهره فيها : «قد أفرط مولانا في
__________________
السهر ، وبدنه
يحتاج إلى أكثر من هذا النوم ، وهو أعلم بما يحرّكه عدم النوم من علّة العصب ،
فقال : يا شعلة ، الملك لا ينام إذا نامت الرعيّة ، ولو استوفيت نومي لما كان في
دور هذا البلد العظيم عين نائمة». انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور.
وقد رأيت أن أذكر
هنا أخبارا ، نقلتها من كتاب «الأزهار المنثورة ، في الأخبار المأثورة» : قال في
الزهرة التاسعة والعشرين : تقدّم إلى المنصور وانزمار بن أبي بكر البرزالي أحد
جنود المغاربة ، وقد جلس للعرض والتمييز ، والميدان غاصّ بالناس ، فقال له بكلام
يضحك الثّكلى : يا مولاي ، ما لي ولك ، أسكنّي فإني في الفحص ، فقال : وما ذاك يا
وانزمار؟ وأين دارك الواسعة الأقطار؟ فقال : أخرجتني عنها والله نعمتك ، أعطيتني
من الضياع ما انصبّ عليّ منها من الأطعمة ما ملأ بيوتي وأخرجني عنها ، وأنا بربري
مجوّع حديث عهد بالبؤس ، أتراني أبعد القمح عني؟ ليس ذلك من رأيي. فتطلّق المنصور
وقال : لله درّك من فذّ عييّ ، لعيّك في شكر النعمة أبلغ عندنا ، وآخذ بقلوبنا من
كلام كل أشدق متزيد وبليغ متفنّن ، وأقبل المنصور على من حوله من أهل الأندلس فقال
: يا أصحابنا ، هكذا فلتشكر الأيادي وتستدام النعم ، لا ما أنتم عليه من الجحد
اللازم ، والتشكّي المبرّح ، وأمر له بأفضل المنازل الخالية.
وفي الموفية
ثلاثين ما نصّه : أصبح المنصور صبيحة أحد ، وكان يوم راحة للخدمة الذي أعفوا فيه من قصد الخدمة ، في مطر وابل غبّ أيام مثله
، فقال : هذا يوم لا عهد بمثله ، ولا حيلة للمواظبين لقصدنا في مكابدته ، فليت
شعري هل شذّ أحد منهم عن التقرير فأغرب في البكور؟ اخرج وتأمّل ، يقوله لحاحبه ، فخرج وعاد
إليه ضاحكا ، وقال : يا مولاي ، على الباب ثلاثة من البرابرة : أبو الناس بن صالح
واثنان معه ، وهم بحال من البلل إنّما توصف بالمشاهدة ، فقال : أوصلهم إليّ وعجّل.
فدخلوا عليه في حال الملّاح بللا ونداوة ، فضحك إليهم وأدنى مجلسهم ، وقال خبّروني
كيف جئتم؟ وعلى أيّ حال وصلتم؟ وقد استكان كل ذي روح في كنّه ، ولاذ كل طائر بوكره ، فقال له أبو الناس بكلامه : يا
مولانا ، ليس كل التّجّار قعد عن سوقه ، وإذا عذر التجار على طلب الربح بالفلوس
فنحن أعذر بإدراكها بالبدر ومن غير رؤوس الأموال ، وهم يتناوبون الأسواق على
أقدامهم ويذيلون في قصدها ثيابهم ، ونحن نأتيك على خيلك ، ونذيل على صهواتها
ملابسك ، ونجعل الفضل في قصدك مضمونا إذا جعله
__________________
أولئك طمعا ورجاء
، فترى لنا أن نجلس عن سوقنا هذا؟ فضحك المنصور ودعا بالكسا والصّلات ، فدفعت لهم
، وانصرفوا مسرورين بغدوتهم.
وفي الزهرة
الرابعة والأربعين ما نصّه : كان بقرطبة على عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر
فتى من أهل الأدب قد رقّت حاله في الطلب ، فتعلّق بكتاب العمل ، واختلف إلى
الخزانة مدّة ، حتى قلّد بعض الأعمال ، فاستهلك كثيرا من المال ، فلمّا ضمّ إلى
الحساب أبرز عليه ثلاثة آلاف دينار ، فرفع خبره إلى المنصور ، فأمر بإحضاره ،
فلمّا مثل بين يديه ولزم الإقرار بما برز عليه قال له : يا فاسق ، ما الذي جرّأك
على مال السلطان تنتهبه؟ فقال : قضاء غلب الرأي ، وفقر أفسد الأمانة ، فقال
المنصور : والله لأجعلنّك نكالا لغيرك ، ليحضر كبل وحدّاد ، فأحضرا ، فكبل الفتى وقال : احملوه إلى السجن ،
وأمر الضابط بامتحانه والشدّة عليه ، فلما قام أنشأ يقول : [السريع]
أوّاه أوّاه وكم
ذا أرى
|
|
أكثر من تكرار
أوّاه
|
ما لامرىء حول
ولا قوّة
|
|
الحول والقوة
لله
|
فقال المنصور :
ردّوه ، فلما ردّ قال : أتمثلت أم قلت؟ قال : بل قلت ، فقال : حلّوا عنه كبله ،
فلمّا حلّ عنه أنشأ يقول : [السريع]
أما ترى عفو أبي
عامر
|
|
لا بدّ أن تتبعه
منّه
|
كذلك الله إذا
ما عفا
|
|
عن عبده أدخله
الجنّه
|
فأمر بإطلاقه ،
وسوّغه ذلك المال ، وأبرأه من التبعة فيه.
وفي الخامسة
والأربعين : عرض على المنصور بن أبي عامر اسم أحد خدمه في جملة من طال سجنه ، وكان
شديد الحقد عليه ، فوقّع على اسمه بأن لا سبيل إلى إطلاقه حتى يلحق بأمّه الهاوية
، وعرّف الرجل بتوقيعه ، فاهتمّ واغتمّ وأجهد نفسه في الدعاء والمناجاة ، فأرق
المنصور إثر ذلك ، واستدعى النوم فلم يقدر عليه ، وكان يأتيه عند تنويمه آت كريه
الشخص عنيف الأخذ يأمره بإطلاق الرجل ، ويتوعّده على حبسه ، فاستدفع شأنه مرارا
إلى أن علم أنّه نذير من ربّه ، فانقاد لأمره ، ودعا بالدواة في مرقده فكتب
بإطلاقه ، وقال في كتابه : هذا طليق الله على رغم أنف ابن أبي عامر ، وتحدّث الناس
زمانا بما كان منه.
__________________
وفي السادسة
والأربعين ما نصّه : انتهت هيبة المنصور بن أبي عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور
الرجال وقوّام الملك إلى غاية لم يصلها ملك قبله ، فكانت مواقفهم
في الميدان على احتفاله مثلا في الإطراق ، حتى إنّ الخيل لتتمثّل إطراق فرسانها
فلا تكثر الصهيل والحمحمة ، ولقد وقعت عينه على بارقة سيف قد سلّه بعض الجند بأقصى
الميدان لهزل أو جدّ بحيث ظنّ أنّ لحظ المنصور لا يناله ، فقال : عليّ بشاهر السيف
، فمثل بين يديه لوقته ، فقال : ما حملك على أن شهرت سيفك في مكان لا يشهر فيه
إلّا عن إذن؟ فقال : إنّي أشرت به إلى صاحبي مغمدا فذلق من غمده ، فقال : إن مثل هذا لا يسوغ بالدعوى ، وأمر به
فضربت عنقه بسيفه ، وطيف برأسه ، ونودي عليه بذنبه انتهى.
وفي السابعة
والأربعين : أن المنصور كان به داء في رجله ، واحتاج إلى الكيّ فأمر الذي يكويه
بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكته ، فجعل يأمر وينهى ويفري الفريّ في
أموره ، ورجله تكوى والناس لا يشعرون ، حتى شمّوا رائحة الجلد واللحم ، فتعجّبوا
من ذلك وهو غير مكترث.
وأخباره ـ رحمه
الله تعالى! ـ تحتمل مجلّدات ، فلنمسك العنان ، على أنّا ذكرنا في الباب الرابع
والسادس من هذا الكتاب جملة من أخباره ، رحمه الله تعالى! فلتراجع إلى آخره.
وقال الفتح في
المطمح : وكان ممّا أعين به المنصور على المصحفيّ ميل الوزراء
إليه ، وإيثارهم له عليه ، وسعيهم في ترقّيه ، وأخذهم بالعصبيّة فيه ، فإنها وإن
لم تكن حميّة أعرابية ، فقد كانت سلفيّة سلطانية ، يقتفي القوم فيها سبيل سلفهم ،
ويمنعون بها ابتذال شرفهم ، غادروها سيرة ، وخلّفوها عادة أثيرة ، تشاحّ الخلف فيها تشاحّ سلفهم أهل الديانة ،
وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة ، ورأوا أنّ أحدا لا يلحق فيها غاية ، ولا يتعاقد
لها راية. فلمّا اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه ، ووضعه من
أثرته حيث وضعه ، وهو نزيع بينهم ونابغ فيهم ، حسدوه وذمّوه ، وخصّوه بالمطالبة وعمّوه. وكان أسرع صنف الطائفة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إلى مهاودة
المنصور عليه ، والانحراف عنه إليه ، آل أبي
__________________
عبيدة وآل شهيد وآل فطيس من الخلفاء وأصحاب الرّدافة ، من أولي
الشرف والإنافة وكانوا في الوقت أزمّة الملك وقوّام الخدمة ، ومصابيح الأمّة ،
وأغير الخلق على جاه وحرمة ، فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعة ، ولبعض أسبابه
الجامعة متابعة ، وشادوا بناءه ، وقادوا إلى عنصره سناءه ، حتى بلغ الأمل ، والتحف
بمناه واكتحل ، وعند التئام هذه الأمور لابن أبي عامر استكان ، جعفر بن عثمان ،
للحادثة ، وأيقن بالنكبة ، وزوال الحال وانتقال الرتبة ، وكفّ عن اعتراض محمد
وشركته في التدبير ، وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير. وانثالوا على ابن أبي
عامر فخفّ موكبه ، وغار من سماء العزّ كوكبه ، وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه
، إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلّا اسمها ، وابن أبي
عامر مشتمل على رسمها ، حتى محاه ، وهتك ظلّه وأضحاه. قال محمد بن إسماعيل : رأيته
يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلا فأقبل يدرم ، وجوارحه باللواعج تضطرم ،
وواثق الضاغط ينهره ، والزّمع يقهره ، والبهر والسّنّ قد هاضاه ، وقصّرا خطاه ،
فسمعته يقول : رفقا بي فستدرك ما تحبّه وتشتهيه ، وترى ما كنت ترتجيه ، ويا ليت
أنّ الموت يباع فأغلي سومه ، حتى يرده من أطال عليه حومه ، ثم قال : [الكامل]
لا تأمننّ من
الزمان تقلّبا
|
|
إنّ الزمان
بأهله يتقلّب
|
ولقد أراني
والليوث تخافني
|
|
فأخافني من بعد
ذاك الثعلب
|
حسب الكريم
مذلّة ومهانة
|
|
أن لا يزال إلى
لئيم يطلب
|
فلمّا بلغ المجلس
جلس في آخره دون أن يسلّم على أحد ، أو يومئ إليه بعين أو يد ، فلمّا أخذ مجلسه
تسرّع إليه الوزير محمد بن حفص بن جابر فعنّفه واستجفاه ، وأنكر عليه ترك السلام
وجفاه ، وجعفر معرض عنه ، إلى أن كثر القول منه ، فقال له : يا هذا ، جهلت المبرّة
فاستجهلت معلّمها ، وكفرت النعم فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدّمها ، ولو أتيت نكرا ،
لكان غيرك أدرى ، وقد وقعت في أمر ما أظنّك تخلص منه ، ولا يسعك السكوت عنه ،
ونسيت الأيادي الجميلة ، والمبرّات الجليلة ، فلمّا سمع محمد بن حفص ذلك من قوله
قال : هذا البهت بعينه ، وأيّ أياديك الغرّ التي مننت بها وعيّنت أداء واجبها؟ أيد
كذا أم يد كذا؟ وعدّد أشياء أنكرها منه أيام إمارته ، وتصرّف الدهر طوع إشارته ،
فقال جعفر : هذا ما لا يعرف ، والحق الذي لا يردّ ولا يصرف ، دفعي القطع عن يمناك
، وتبليغي لك إلى مناك ، فأصرّ
__________________
محمد بن حفص على
الجحد ، فقال جعفر : أنشد الله من له علم بما أذكره ، إلّا اعترف به فلا ينكره ،
وأنا أحوج إلى السكوت ، ولا تحجب دعوتي فيه عن الملكوت ، فقال الوزير أحمد بن عباس
: قد كان بعض ما ذكرته يا أبا الحسن ، وغير هذا أولى بك ، وأنت فيما أنت فيه من
محنتك وطلبك ، فقال : أحرجني الرجل ، فتكلّمت ، وأحوجني إلى ما به أعلمت ، فأقبل
الوزير ابن جهور على محمد بن حفص وقال : أسأت إلى الحاجب ، وأوجبت عليه غير الواجب
، أو ما علمت أنّ منكوب السلطان لا يسلّم على أوليائه لأنه إن فعل ألزمهم الردّ
لقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء : ٨٦] فإن
فعلوا طاف بهم من إنكار السلطان ما يخشى ويخاف ؛ لأنه تأنيس لمن أوحش وتأمين لمن
أخاف ، وإن تركوا الردّ أسخطوا الله ، فصار الإمساك أحسن ، ومثل هذا لا يخفى على أبي
الحسن ، فانكسر ابن حفص ، وخجل ممّا أتى به من النقص. وبلغه أن قوما توجّعوا له ،
وتفجّعوا ممّا وصله ، فكتب إليهم : [الطويل]
أحنّ إلى
أنفاسكم فأظنّها
|
|
بواعث أنفاس
الحياة إلى نفسي
|
وإنّ زمانا صرت
فيه مقيّدا
|
|
لأثقل من رضوى
وأضيق من رمس
|
انتهى ما ترجم به
المنصور بن أبي عامر.
ولنرجع فنقول :
ولمّا توفي المنصور قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك المظفّر أبو مروان فجرى على
سنن أبيه في السياسة والغزو ، وكانت أيامه أعيادا دامت مدّة سبع
سنين وكانت تسمى بالسابع ، تشبيها بسابع العروس ، ولم يزل مثل اسمه مظفرا إلى أن
مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة في المحرم ، وقيل : سنة ثمان وتسعين.
وكاتبه المعزّ بن
زيري ملك مغراوة بعد أن استرجع فاسا والمغرب إثر موت أبيه ، فكتب له العهد على
المغرب ، وثارت الطوائف في ممالكهم ، وتحرّكت الجلالقة لاسترجاع معاقلهم وحصونهم.
قال ابن خلدون : ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن ، وتلقّب بالناصر
لدين الله ، وقيل : بالمأمون ، وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام
، والاستبداد عليه ، والاستقلال بالملك دونه. ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي
من رسوم الخلافة ، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده ، فأجابه ، وأحضر لذلك الملأ
من أرباب الشورى وأهل الحلّ
__________________
والعقد ، فكان
يوما مشهودا ، فكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصّه : «هذا ما عهد به هشام
المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامّة ، وعاهد الله عليه من نفسه خاصّة ،
وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامّة ، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة ، وأهمّه
ما جعل الله إليه من الإمامة ، وعصب به من أمر المؤمنين ، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن ، وخاف
نزول القضاء بما لا يصرف ، وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع
لهذه الأمة علما تأوي إليه ، وملجأ تنعطف عليه ، أن يكون يلقى ربّه تبارك وتعالى
مفرّطا ساهيا عن أداء الحق إليها ، ونقص عند ذلك من إحياء قريش وغيرها من يستحقّ أن يسند هذا الأمر
إليه ، ويعوّل في القيام به عليه ، ممّن يستوجبه بدينه وأمانته ، وهديه وصيانته ، بعد
اطّراح الهوى ، والتحرّي للحق ، والزّلّفى إلى الله جلّ جلاله بما يرضيه. وبعد أن قطع الأواصر ،
وأسخط الأرقاب ، فلم يجد أحدا أجدر أن يوليه عهده ، ويفوّض إليه الخلافة بعده ،
لفضل نفسه وكرم خيمه وشرف مرتبته وعلوّ منصبه ، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه ،
من المأمون الغيب ، الناصح الجيب ، أبي المطرّف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر
محمد بن أبي عامر ، وفّقه الله! إذ كان أمير المؤمنين ـ أيّده الله تعالى! ـ قد
ابتلاه واختبره ، ونظر في شأنه واعتبره ، فرآه مسارعا في الخيرات ، سابقا في
الحلبات ، مستوليا على الغايات ، جامعا للمأثرات. ومن كان المنصور
أباه ، والمظفّر أخاه ، فلا غرو أن يبلغ من سبل البرّ مداه ، ويحوي من خلال الخير
ما حواه ، مع أن أمير المؤمنين ـ أيّده الله! ـ بما طالع من مكنون العلم ، ووعاه
من مخزون الأثر ، يرى أن يكون وليّ عهده القحطاني الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو
بن العاص وأبو هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال : «لا تقوم السّاعة حتّى
يخرج رجل من قحطان يسوق النّاس بعصاه». فلما استوى له الاختبار ، وتقابلت عنده
فيه الآثار ، ولم يجد عنه مذهبا ، ولا إلى غيره معدلا ، خرج إليه من تدبير الأمور
في حياته ، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته ، طائعا راضيا مجتهدا ، وأمضى أمير
المؤمنين هذا وأجازه ، وأنجزه وأنفذه ، ولم يشرط فيه مثنوية
__________________
ولا خيارا ، وأعطى
على الوفاء به في سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه ، وذمّة نبيّه محمد
صلّى الله عليه وسلّم ، وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه ، وذمّة نفسه ، أن لا
يبدّل ولا يغيّر ولا يحوّل ولا يزول. وأشهد الله على ذلك والملائكة ، وكفى بالله
شهيدا ، وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي
عهده المأمون أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفّقه الله تعالى ، وقبوله ما
قلّده ، وإلزامه نفسه ما ألزمه ، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين
وثلاثمائة. وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم ، وتسمّى
بعدها بوليّ العهد.
ونقم عليه أهل
الدولة ذلك ، فكان فيه حتفه ، وانقراض دولته ودولة قومه ، وكان أسرع الناس كراهة
لذلك الأمويون والقرشيون ، فغصّوا بأمره ، وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية
إلى اليمنية ، فاجتمعوا لشأنهم ، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم ، وأجمعوا أمرهم
في غيبة من المذكور ببلاد الجلالقة في غزاة من صوائفه ، ووثبوا بصاحب الشرطة
فقتلوه بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، وخلعوا هشاما
المؤيد.
وبايعوا محمد بن
هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعقاب الخلفاء ،
ولقّبوه المهدي بالله ، وطار الخبر إلى عبد الرحمن الحاجب بن المنصور بمكانه من
الثغر ، فانفضّ جمعه ، وقفل إلى الحضرة مدلّا بمكانه ، زعيما بنفسه ، حتى إذا قرب
من الحضرة تسلّل عنه الناس من الجند ووجوه البربر ، ولحقوا بقرطبة ، وبايعوا
المهدي القائم بالأمر ، وأغروه بعبد الرحمن الحاجب ، لكونه ماجنا مستهترا غير صالح
للأمر ، فاعترضه منهم من قبض عليه ، واحتزّ رأسه ، وحمله إلى المهدي والي الجماعة.
وذهبت دولة
العامريين كأن لم تكن ، ولله عاقبة الأمور.
وفي المهدي يقول
بعضهم : [مخلع البسيط]
قد قام مهديّنا
ولكن
|
|
بملّة الفسق
والمجون
|
وشارك الناس في
حريم
|
|
لولاه ما زال
بالمصون
|
من كان من قبل
ذا أجما
|
|
فاليوم قد صار
ذا قرون
|
وكان رؤساء البربر
وزناتة لحقوا بالمهديّ لمّا رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن وانتقاض أمره. وكانت
الأموية تعتدّ عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين ، وتنسب تغلّب المنصور
__________________
وبنيه على الدولة إليهم ، فسخطتهم القلوب ، وخزرتهم العيون ، ولو
لا ما لهم من العصبية لاستأصلهم الناس ، ولغطت ألسنة الدهماء من أهل المدينة
بكراهتهم. وأمر المهدي أن لا يركبوا ولا يتسلّحوا ، وردّ بعض رؤسائهم في بعض
الأيام من باب القصر ، فانتهبت العامّة دورهم ، وشكا بعضهم إلى المهدي ما أصابهم ،
فاعتذر إليهم وقتل من اتّهم من العامّة في أمرهم ، وهو مع ذلك مظهر لبغضهم ، مجاهر
بسوء الثناء عليهم. وبلغهم أنّه يريد الفتك بهم ، فتمشّت رجالاتهم ، وأسرّوا
نجواهم ، واشتوروا في تقديم هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر ، وفشا في
الخاصّة حديثهم ، فعوجلوا عن مرامهم ذلك ، وأغرى بهم السواد الأعظم ، فثاروا بهم ،
وأزعجوهم عن المدينة. وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر ، وأحضرا بين يدي المهدي ،
فضرب أعناقهما. ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر ، وقد اجتمعوا بظاهر
قرطبة وتوامروا ، فبايعوه ولقّبوه المستعين بالله ، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة ،
فاستجاش بابن أذفونش ، ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة ، وبرز
إليه المهدي في كافّة أهل البلد وخاصّة الدولة ، فكانت الدائرة عليهم ، واستلحم
منهم ما يزيد على عشرين ألفا ، وهلك من خيار الناس وأئمّة المساجد وسدنتها
ومؤذّنيها عالم. ودخل المستعين قرطبة ختام المائة الرابعة. ولحق المهديّ بطليطلة.
واستجاش بابن أذفونش ثانية ، فنهض معه إلى قرطبة ، وهزم المستعين والبرابرة بعقبة
البقر من ظاهر قرطبة ، ودخل قرطبة ـ أعني المهدي ـ وملكها. وخرج المستعين مع
البربر ، وتفرّقوا في البسائط ينهبون ولا يبقون على أحد. ثم ارتحلوا إلى الجزيرة
الخضراء ، فخرج المهديّ ومعه ابن أذفونش لاتّباعهم ، فكرّوا عليهم ، فانهزم المهدي وابن أذفونش ومن
معه من المسلمين والنصارى ، واتّبعهم المستعين إلى قرطبة ، فأخرج المهدي هشاما
المؤيّد للناس ، وبايع له ، وقام بأمر حجابته ، ظنّا منه أنّ ذلك ينفعه ، وهيهات!
وحاصرهم المستعين والبربر ، فخشي أهل قرطبة من اقتحامهم عليهم ، فأغروا أهل القصر
وحاشية المؤيد بالمهديّ وأنّ الفتنة إنّما جاءت من قبله ، وتولّى كبر ذلك واضح
العامري ، فقتلوا المهدي ، واجتمع الكافّة على المؤيّد ، وقام واضح بحجابته.
واستمرّ الحصار ، ولم يغن عن أهل قرطبة ما فعلوه شيئا ، إلى أن هلكت القرى
والبسائط بقرطبة ، وعدمت المرافق ، وجهدهم الحصار. وبعث المستعين إلى أهل ابن
أذفونش يستقدمهم لمظاهرته ، فبعث إليهم هشام وحاجبه واضح يكفّونهم عن ذلك ، بأن
ينزلوا لهم عن ثغور قشتالة التي كان المنصور
__________________
افتتحها ، فسكن عن
مظاهرتهم عزم أذفونش ، ولم يزل الأمر حتى دخل المستعين قرطبة ومن معه من البربر
عنوة سنة ثلاث وأربعمائة ، وقتل هشام سرّا. ولحق بيوتات قرطبة معرّة في نسائهم
وأبنائهم. وظن المستعين أن قد استحكم أمره ، وتوثّبت البرابرة والعبيد على الأعمال ، فولّوا المدن العظيمة ، وتقلّدوا
البلاد الواسعة ، مثل باديس بن حبّوس في غرناطة ، والبرزالي في قرمونة ، واليفرني
في رندة ، وخزرون في شريش ، وافترق شمل الجماعة بالأندلس ، وصار الملك طوائف في
آخرين من أهل الدولة ، مثل ابن عبّاد بإشبيلية ، وابن الأفطس ببطليوس ، وابن ذي
النون بطليطلة ، وابن أبي عامر ببلنسية ، وابن هود بسرقسطة ، ومجاهد العامري
بدانية والجزائر.
قال ابن خلدون
وكان مائلا لبني حمّود يهجو سليمان المستعين : [السريع]
لا رحم الله
سليمانكم
|
|
فإنه ضدّ سليمان
|
ذاك به غلّت
شياطينها
|
|
وحلّ هذا كلّ
شيطان
|
فباسمه ساحت على
أرضنا
|
|
لهلك سكان
وأوطان
|
وكان من أعظم
الأسباب في فساد دولة المستعين أنه قال هذه الأبيات مستريحا بها إلى خواصّه ، وهي
قوله : [الطويل]
حلفت بمن صلّى
وصام وكبّرا
|
|
لأغمدها فيمن
طغى وتجبّرا
|
وأبصر دين الله
تحيا رسومه
|
|
فبدّل ما قد كان
منه
وغيّرا
|
فواعجبا من
عبشميّ مملّك
|
|
برغم العوالي
والمعالي تبربرا
|
فلو أنّ أمري
بالخيار نبذتهم
|
|
وحاكمتهم للسّيف
حكما محرّرا
|
فإمّا حياة
تستلذّ بفقدهم
|
|
وإمّا حمام لا
نرى فيه ما زرى
|
وقد سلك هذا
المسلك المرتضى المرواني فقال : [السريع]
قد بلغ البربر
فينا بنا
|
|
ما أفسد الأحوال
والنّظما
|
كالسّهم للطائر
لو لا الذي
|
|
فيه من الرّيش
لما أصمى
|
__________________
قوموا بنا في
شأنهم قومة
|
|
تزيل عنّا العار
والرّغما
|
إمّا بها نملك ،
أو لا نرى
|
|
ما يرجع الطّرف
به أعمى
|
وكان علي بن حمّود
الحسني وأخوه قاسم من عقب إدريس ملك فاس وبانيها قد أجازوا مع البربر من العدوة
إلى الأندلس ، فدعوا لأنفسهم ، واعصوصب عليهم البربر ، فملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة ، وقتلوا المستعين ،
ومحوا ملك بني أمية ، واتّصل ذلك في خلف منهم سبع سنين ، ثم رجع الملك إلى بني
أميّة.
وكان المستعين
المذكور أديبا بليغا ، ومن شعره يعارض هارون الرشيد في قوله : [الكامل]
ملك الثلاث الآنسات عناني
الأبيات ـ قوله : [الكامل]
عجبا يهاب الليث
حدّ سناني
|
|
وأهاب لحظ فواتر الأجفان
|
وأقارع الأهوال
لا متهيّبا
|
|
منها سوى
الإعراض والهجران
|
وتملّكت نفسي
ثلاث كالدّمى
|
|
زهر الرجوه
نواعم الأبدان
|
ككواكب الظّلماء
لحن لناظري
|
|
من فوق أغصان
على كثبان
|
حاكمت فيهنّ
السلوّ إلى الهوى
|
|
فقضى بسلطان على
سلطاني
|
هذي الهلال ،
وتلك بنت المشتري
|
|
حسنا ، وهذي أخت
غصن البان
|
فأبحن من قلبي
الحمى وتركنني
|
|
في عزّ ملكي
كالأسير العاني
|
لا تعذلوا ملكا
تذلّل في الهوى
|
|
ذلّ الهوى عزّ
وملك ثاني
|
ما ضرّ أنّي
عبدهنّ صبابة
|
|
وبنو الزمان
وهنّ من عبداني
|
إن لم أطع فيهنّ
سلطان الهوى
|
|
كلفا بهنّ فلست
من مروان
|
وولي الأمر بعده
علي بن حمّود الحسني ؛ تلقّب بالناصر ، وخرج عليه العبيد وبعض
__________________
المغاربة ،
وبايعوا المرتضى أخا المهدي ، ثم اغتيل المرتضى ، واستقام الملك لعلي بن حمّود نحو
عامين ، إلى أن قتلته صقالبته بالحمّام سنة ثمان وأربعمائة ، فولي مكانه أخوه
القاسم ، وتلقّب بالمأمون ، ونازعه الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه ،
وكان على سبتة ، فأجاز إلى الأندلس سنة عشر ، واحتلّ بمالقة وكان أخوه إدريس بها
منذ عهد أبيهما ، فبعثه إلى سبتة ، ثم زحف يحيى إلى قرطبة فملكها سنة ثنتي عشرة
وأربعمائة ، وتلقب المعتلي ، وفرّ عمّه المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي ابن
عباد ، واستجاش بعض البرابرة ، ثم رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة وملكها ، ثم لحق
المعتلي بمكانه من مالقة ، وتغلّب على الجزيرة الخضراء ، وتغلّب أخوه إدريس على
طنجة من وراء البحر ، وكان المأمون يعتدّها حصنا لنفسه ، وفيها ذخائره ، فلمّا
بلغه الخبر اضطرب ، وثار عليه أهل قرطبة ، ونقضوا طاعته ، وخرج فحاصرهم فدافعوه ،
ولحق بإشبيلية فمنعوه ، وكان بها ابنه فأخرجوه إليه ، وضبطوا بلدهم ، واستبدّ ابن
عباد بملكها ، ولحق المأمون بشريش ، ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه ،
فبايعوه سنة خمس عشرة ، وزحف إلى عمّه المأمون فتغلّب عليه ولم يزل عنده أسيرا
وعند أخيه إدريس بمالقة إلى أن هلك بمحبسه سنة سبع وعشرين ، وقيل : إنه خنق كما
سيأتي ، واستقلّ المعتلي بالأمر ، واعتقل بني عمّه القاسم. وكان المستكفي من
الأمويين استولى على قرطبة في هذه المدّة عندما أخرج أهلها العلوية ، ثم خلع أهل
قرطبة المستكفي الأموي سنة ست عشرة ، وصاروا إلى طاعة المعتلي ، واستعمل عليهم ابن
عطّاف من قبله ، ثم نقضوا سنة سبع عشرة ، وصرفوا عاملهم ، وبايعوا للمعتدّ بالله
الأموي أخي المرتضى ، وبقي المعتلي يردّد لحصارهم العساكر إلى أن اتفقت الكلمة على
إسلام الحصون والمدائن له ، فعلا سلطانه ، واشتدّ أمره إلى أن هلك سنة تسع وعشرين
؛ اغتاله أصحابه بدسيسة ابن عبّاد الثائر بإشبيلية ، فاستدعى أصحابه أخاه إدريس بن
علي [بن حمّود] من سبتة ، وملّكوه ، ولقّبوه المتأيّد ، وبايعته رندة وأعمالها
وألمريّة والجزيرة الخضراء ، وبعث عساكره لحرب أبي القاسم إسماعيل بن عبّاد والد
المعتضد بن عباد ، فجاؤوه برأسه بعد حروب ، وهلك ليومين بعد ذلك سنة إحدى وثلاثين
، وبويع ابنه يحيى ، ولم يتمّ له أمر ، وبويع حسن المستنصر بن المعتلي ، وفرّ يحيى
إلى قمارش فهلك بها سنة أربع وثلاثين ، ويقال : إنه قتله نجا ، وهلك حسن مسموما
بيد ابنة عمه إدريس ، ثأرت منه بأخيها ، وكان إدريس بن يحيى المعتلي معتقلا بمالقة
فأخرج بعد خطوب وبويع بها ، فأطاعته غرناطة وقرمونة ، ولقّب العالي ، وهو الممدوح
بالقصيدة المشهورة بالمغرب التي قالها فيه أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا القبذاقي الأشبوني من شعراء الذخيرة ، وهي : [الرمل]
__________________
ألبرق لائح من
أندرين
|
|
ذرفت عيناك
بالماء المعين
|
لعبت أسيافه
عارية
|
|
كمخاريق بأيدي اللّاعبين
|
ولصوت الرّعد
زجر وحنين
|
|
ولقلبي زفرات
وأنين
|
وأناجي في
الدّجى عاذلتي
|
|
ويك لا أسمع قول
العاذلين
|
عيّرتني بسقام
وضنى
|
|
إنّ هذين لدين
العاشقين
|
قد بدا لي وضح
الصّبح المبين
|
|
فاسقنيها قبل
تكبير الأذين
|
اسقنيها مزّة
مشمولة
|
|
لبثت في دنّها
بضع سنين
|
نثر المزج على
مفرقها
|
|
دررا عامت فعادت
كالبرين
|
مع فتيان كرام
نجب
|
|
يتهادون رياحين
المجون
|
شربوا الراح على
خدّ رشا
|
|
نوّر الورد به
والياسمين
|
وجلت آياته
عامدة
|
|
سبج الشّعر على
عاج الجبين
|
لوت الصّدغ على
جاجبه
|
|
ضمّة اللّام على
عطفة نون
|
فترى غصنا على
دعص نقا
|
|
وترى ليلا على
صبح مبين
|
وسيسقون إذا ما
شربوا
|
|
بأباريق وكأس من
معين
|
ومصابيح الدّجى
قد طفئت
|
|
في بقايا من
سواد الليل جون
|
وكأنّ الظّلّ
مسك في الثّرى
|
|
وكأنّ الطّلّ
درّ في الغصون
|
والنّدى يقطر من
نرجسه
|
|
كدموع أسبلتهنّ الجفون
|
والثريّا قد هوت
من أفقها
|
|
كقضيب زاهر من
ياسمين
|
وانبرى جنح
الدّجى عن صبحه
|
|
كغراب طار عن
بيض كنين
|
__________________
وكأنّ الشّمس
لمّا أشرقت
|
|
فانثنت عنها
عيون الناظرين
|
وجه إدريس بن
يحيى بن عليّ
|
|
ابن حمّود أمير
المؤمنين
|
ملك ذو هيبة
لكنّه
|
|
خاشع لله ربّ
العالمين
|
خطّ بالمسك على
أبوابه :
|
|
ادخلوها بسلام
آمنين
|
فإذا ما رفعت
راياته
|
|
خفقت بين جناحي
جبرئين
|
وإذا أشكل خطب
معضل
|
|
صدع الشّكّ
بمصباح اليقين
|
فبيسراه يسار
المعسرين
|
|
وبيمناه لواء
السابقين
|
يا بني أحمد ،
يا خير الورى
|
|
لأبيكم كان وفد
المسلمين
|
نزل الوحي عليه
فاحتبى
|
|
في الدّجى فوقهم
الرّوح الأمين
|
خلقوا من ماء
عدل وتقى
|
|
وجميع الناس من
ماء وطين
|
انظرونا نقتبس
من نوركم
|
|
إنّه من نور ربّ
العالمين
|
وقيل : إنه أنشده
إياها من وراء حجاب اقتفاء لطريقة خلفاء بني العباس ، فلما بلغ إلى قوله :
انظرونا نقتبس
من نوركم
|
|
إنه من نور ربّ
العالمين
|
أمر حاجبه أن يرفع
الحجاب ، وقابل وجهه وجه الشاعر دون حجاب ، وأمر له بإحسان جزيل ، فكان هذا من
أنبل ما يحكى عنه.
وخلع العالي سنة
ثمان وثلاثين ، وولي ابن عمّه محمد بن إدريس بن علي ، وتلقّب بالمهدي ، وتوفي سنة
أربع وأربعين.
وبويع إدريس بن
يحيى بن إدريس ، ولقّب الموفّق ، ولم يخطب له بالخلافة وزحف إليه العالي إدريس
المخلوع الممدوح بالقصيدة السابقة ، وكان بقمارش ، فدخل عليه مالقة ، وأطلق أيدي
عبيده عليها لحقده عليهم ، ففرّ كثير منهم ، وتوفي العالي سنة ستّ أو سبع وأربعين.
وبويع محمد بن
إدريس ، ولقّب المستعلي ، ثم سار إليه باديس بن حبّوس سنة تسع
__________________
وأربعين وأربعمائة
، فتغلّب على مالقة ، وسار محمد إلى ألمريّة مخلوعا ، ثم استدعاه أهل المغرب إلى
مليلة فأجاز إليهم وبايعوه سنة ست وخمسين ، وتوفي سنة ستّين.
وكان محمد بن
القاسم بن حمّود لمّا اعتقل أبوه القاسم بمالقة سنة أربع عشرة فرّ من الاعتقال
ولحق بالجزيرة الخضراء وملكها ، وتلقّب بالمعتصم ، إلى أن هلك سنة أربعين. ثم
ملكها بعده ابنه القاسم الواثق ، إلى أن هلك سنة خمسين ، وصارت الجزيرة للمعتضد بن
عبّاد ، ومالقة لابن حبوس مزاحما لابن عباد.
وانقرضت دولة
الأشراف الحمّوديين من الأندلس ، بعد أن كانوا يدّعون الخلافة.
وأما قرطبة فإن
أهلها لمّا قطعوا دعوة الحمّوديين بعد سبع سنين من ملكهم وزحف إليهم القاسم بن
حمّود في البربر ، فهزمهم أهل قرطبة ، ثم اجتمعوا واتّفقوا على ردّ الأمر لبني
أميّة ، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبّار أخا المهدي ، وبايعوه في
رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة ، ولقّبوه المستظهر وقاموا بأمره ، ومن شعره قوله :
[مجزوء الرمل]
طال عمر الليل
عندي
|
|
مذ تولّعت بصدّي
|
يا غزالا نقض
العه
|
|
د ولم يوف بوعد
|
أنسيت العهد إذ
بت
|
|
نا على مفرش ورد
|
واجتمعنا في
وشاح
|
|
وانتظمنا نظم
عقد
|
ونجوم الليل
تحكي
|
|
ذهبا في لازورد
|
قال الحجاري : لو
قال «لؤلؤا في لازورد» لكان أحسن تشبيها ، وأنشد متمثلا : [مجزوء الكامل]
إنّا عصابتك
الألى
|
|
كنّا نكابد ما
تكابد
|
هذا أوان بلوغنا
الن
|
|
عمى وإنجاز
المواعد
|
وكان حسان بن أبي
عبدة من وزراء المستظهر ، ولمّا أكثر المستظهر دونه الاستبداد كتب إليه بقوله : [الطويل]
__________________
إذا غبت لم أحضر
، وإن جئت لم أسل
|
|
فسيّان منّي
مشهد ومغيب
|
فأصبحت تيميّا ،
وما كنت قبلها
|
|
لتيم ، ولكنّ
الشّبيه نسيب
|
يشير إلى قول
الأول : [الوافر]
ويقضى الأمر حين
تغيب تيم
|
|
ولا يستأذنون
وهم شهود
|
وعاتبه أيضا بقوله
: [الطويل]
إذا كان مثلي لا
يجازى بصبره
|
|
فمن ذا الذي
بعدي يجازى على الصّبر
|
وكم مشهد حاربت
فيه عدوّكم
|
|
وأمّلت في حربي
له راحة الدّهر
|
أخوض إلى
أعدائكم لجج الوغى
|
|
وأسري إليهم حيث
لا أحد يسري
|
وقد نام عنهم كلّ
مستبطن الحشا
|
|
أكول إلى الممسى
نؤوم إلى الظّهر
|
فما بال هذا
الأمر أصبح ضائعا
|
|
وأنت أمين الله
تحكم في الأمر
|
وسيأتي إن شاء
الله تعالى من كلام الوزير المذكور ما يدلّ على عظيم قدره ، وهناك نذكر تحلية
الفتح له.
ثم ثار عليه
لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر لدين
الله ، فاتّبعه الغوغاء ، وفتك بالمستظهر ، وتلقّب بالمستكفي ، واستقلّ بأمر قرطبة
، وهو والد الأديبة الشهيرة ولّادة ، ولعلّنا نلمّ ببعض أخبارها إن شاء الله تعالى
فيما بعد ، وكان أبوه عبد الرحمن قتله المنصور بن أبي عامر لسعيه في الخلافة.
ثم بعد ستة عشر
شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى المعتلي يحيى بن علي بن حمّود سنة ست عشرة ،
وخلع أهل قرطبة المستكفي ، وولّى عليهم المعتلي من قبله ، وفرّ المستكفي إلى ناحية
الثغر ، ومات في مفرّه ، ثم بدا لأهل قرطبة فخلعوا المعتلي بن حمّود سنة سبع عشرة
، وبايع الوزير أبو محمد جهور بن محمد بن جهور عميد الجماعة وكبير قرطبة لهشام بن
محمد أخي المرتضى ، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود ، وذلك سنة ثماني عشرة ،
وتلقّب المعتدّ بالله ، وأقام متردّدا في الثغر ثلاثة أعوام ، واشتدّت الفتن بين
رؤساء الطوائف ، واتّفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة ، فاستقدمه ابن جهور
والجماعة ، ونزلها آخر سنة عشرين ، وأقام بها يسيرا ، ثم خلعه الجند سنة ثنتين
وعشرين ، وفرّ إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين.
وانقطعت الدولة
الأموية من الأرض ، وانتثر سلك الخلافة بالمغرب ، وقام الطوائف بعد
انقراض الخلائف ،
وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات ،
واقتسموا خطّتها ، وتغلّب بعض على بعض ، واستقلّ أخيرا بأمرها منهم ملوك استفحل
أمرهم وعظم شأنهم ، ولاذوا بالجزى للطاغية أن يظاهر عليهم أو يبتزّهم ملكهم ، وأقاموا على
ذلك برهة من الزمان ، حتى قطع إليهم البحر ملك العدوة وصاحب مراكش أمير المسلمين
يوسف بن تاشفين اللّمتوني ، فخلعهم ، وأخلى منهم الأرض.
فمن أشهرهم بنو
عبّاد ملوك إشبيلية وغرب الأندلس الذين منهم المعتمد بن عباد الشهير الذكر بالمغرب
والمشرق ، وفي الذخيرة والقلائد من أخباره ما هو كاف شاف.
ومنهم بنو جهور ،
كانوا بقرطبة في صورة الوزارة ، حتى استولى عليهم المعتمد بن عبّاد ، وأخذ قرطبة ،
وجعل عليها ولده ، ثم كانت له وعليه حروب وخطوب ، وفرّق أبناءه على قواعد الملك ،
وأنزلهم بها ، واستفحل أمره بغرب الأندلس ، وعلت يده على من كان هنالك من ملوك
الطوائف ، مثل ابن حبّوس بغرناطة ، وابن الأفطس ببطليوس ، وابن صمادح بالمريّة ،
وغيرهم ، فكانوا يخطبون سلمه ، ويغلون في مرضاته ، وكلّهم يدارون الطاغية ويتّقونه
بالجزى ، إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين ، واستفحل ملكه ، فتعلّقت آمال الأندلس
بإعانته ، وضايقهم الطاغية في طلب الجزية ، فقتل المعتمد اليهوديّ الذي جاء في طلب
الجزية للطاغية ، بسبب كلمة قالها آسفه بها. ثم أجاز البحر صريخا إلى يوسف بن
تاشفين ، فأجاز معه البحر ، والتقوا مع الطاغية في الزلّاقة ، فكانت الهزيمة
المشهورة على النصارى ، ونصر الله تعالى الإسلام نصرا لا كفاء له ، حتى قال بعض
المؤرّخين : إنه كان عدد النصارى ثلاثمائة ألف ، ولم ينج منهم إلّا القليل ، وصبر
فيها المعتمد صبر الكرام ، وكان قد أعطى يوسف بن تاشفين الجزيرة الخضراء ليتمكّن
من الجواز متى شاء ، ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس
والظلامات عنهم ، فتقدّم بذلك إلى ملوك الطوائف ، فأجابوه بالامتثال ، حتى إذا رجع
من بلادهم رجعوا إلى حالهم ، وهو خلال ذلك يردّد عساكره للجهاد ، ثم أجاز إليهم
وخلع جميعهم ، ونازلت عساكره جميع بلادهم ، واستولى على قرطبة وإشبيلية وبطليوس
وغرناطة وغيرها ، وصار المعتمد بن عباد كبير ملوك الأندلس في قبضته أسيرا بعد حروب
، ونقله إلى أغمات قرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة ، واعتقله هنالك إلى أن
مات سنة
__________________
ثمان وثمانين.
وسنلمّ بما قاله الوزير لسان الدين بن الخطيب فيه لمّا زار قبره.
وللمعتمد هذا
أخبار مأثورة خصوصا مع زوجته أمّ أولاده الرميكية الملقّبة باعتماد ، وقد روي أنها
رأت ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن في القرب وهنّ رافعات عن سوقهنّ في
الطين ، فقالت له : [يا سيدي] أشتهي أن أفعل أنا وجواريّ مثل هؤلاء النساء ، فأمر
المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد ، وصيّر الجميع طينا في القصر ، وجعل
لها قربا وحبالا من إبريسم ، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين ، فيقال : إنه لمّا
خلع وكانت تتكلّم معه مرّة فجرى بينهما ما يجري بين الزوجين ، فقالت له : والله ما
رأيت منك خيرا ، فقال لها : ولا يوم الطين؟ تذكيرا لها بهذا اليوم الذي أباد فيه
من الأموال ما لا يعلمه إلّا الله تعالى ، فاستحيت وسكتت.
وولي بعده غير من
تقدّم بنو رزين أصحاب السّهلة ، وبنو الفهري أصحاب البونت ، وتغلّب عليهما أخيرا
يوسف بن تاشفين.
ومن أعظم ملوك
الطوائف بنو ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي ، وكانت لهم دولة كبيرة ،
وبلغوا في البذخ والتّرف إلى الغاية ، ولهم الإعذار المشهور الذي يقال له «الإعذار
الذّنّوني» وبه يضرب المثل عند أهل المغرب ، وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل
المشرق ، والمأمون من بني ذي النون هو صاحب ذلك ، وهو الذي عظم بين ملوك الطوائف
سلطانه ، وكان بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة ، وغلب على قرطبة ، وملكها من يد
ابن عبّاد المعتمد ، وقتل ابنه أبا عمرو ، وغلب أيضا على بلنسية وأخذها من يد بني
ابن أبي عامر.
وفي أيام حافد
المأمون ـ وهو القادر بن ذي النون ـ كان الطاغية ابن أذفونش قد استفحل أمره ، لمّا
خلا الجوّ من مكان الدولة الخلافية ، وخفّ ما كان على كاهله من إصر العرب ، فاكتسح
البسائط ، وضايق ابن ذي النون ، حتى أخذ من يده طليطلة ، فخرج له عنها سنة ثمان
وسبعين وأربعمائة كما سبق ، وشرط عليه أن يظاهره على أهل بلنسية ، فقبل شرطه ،
وتسلّمها ابن ألفونش ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
ومن أعظم ملوك
الأندلس الموالي العامريون مثل خيران وزهير وأشباههما. وأخبار الجميع تطول.
__________________
ومن ملوك الطوائف
بالأندلس بنو هود ملوك سرقسطة وما إليها ، ومن أشهرهم المقتدر بالله ، وابنه يوسف
المؤتمن ، وكان المؤتمن قائما على العلوم الرياضية ، وله فيها تآليف ، ومنها كتاب
الاستكمال والمناظر ، وولي بعده ابنه المستعين أحمد سنة أخذ طليطلة ، وعلى يده
كانت وقعة وشقة ـ زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين ليدافع الطاغية
عن وشقة ، وكان محاصرا لها ، فلقيه الطاغية وهزمه ، وهلك من المسلمين نحو عشرة
آلاف ، وهلك هو شهيدا سنة ثلاث وخمسمائة ، بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها.
وولي ابنه عبد الملك عماد الدولة ، وأخرجه الطاغية من سرقسطة سنة ثنتي عشرة ،
وتولّى ابنه سيف الدولة ، وبالغ في النكاية بالطاغية ، ثم اتّفق معه ، وانتقل
بحشمه إلى طليطلة ، فكان فيها حمامه .
ومن شعر المقتدر
بن هود قوله رحمه الله في مبانيه : [الكامل]
قصر السرور
ومجلس الذّهب
|
|
بكما بلغت نهاية
الأرب
|
لو لم يحز ملكي
خلافكما
|
|
كانت لديّ كفاية
الطّلب
|
ومن مشاهير ملوك
الطوائف بنو الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها ، والمظفر منهم هو صاحب التأليف
المسمّى بالمظفري في نحو الخمسين مجلدا ، والمتوكّل منهم قتل على يد جيش يوسف بن
تاشفين ، وفيه قال ابن عبدون قصيدته المشهورة : [البسيط]
الدهر يفجع بعد
العين بالأثر
|
|
فما البكاء على
الأشباح والصّور
|
وهي من غرر
القصائد الأندلسية .
ولما استولى ملوك
لمتونة على بلاد الأندلس وأزالوا ملوك الطوائف منها ، وبقيت عمّالهم تتردّد إليها
وبنوهم حتى فشلت ريحهم ، وهبّت ريح الموحدين ، أعني عبد المؤمن بن علي وبنيه ،
فحاربوا لمتونة ، واستولوا على ملكهم بالمغرب بعد حروب كثيرة ، ثم أجازوا البحر
إلى الأندلس ، وملكوا أكثر بلاد الأندلس ، وملك بنو مردنيش شرق الأندلس ، وملخص
ذلك أن الأندلس كان ملكها مجموعا للمتونة بعد خلعهم ملوك الطوائف ، فلما اشتغل
لمتونة في العدوة بحرب الموحّدين اضطربت عليهم الأندلس ، وعادت إلى الفرقة بعض
الشيء ، ثم خلص أكثرها لعبد المؤمن وبنيه بعد حروب منها ما حصل بين عبد المؤمن
وبين ابن مردنيش
__________________
وقائده ابن همشك
بفحص غرناطة ، وقد استعان ابن مردنيش بالنصارى على الموحّدين ، فهزمهم عبد المؤمن
، وقتلهم أبرح قتل ، واستخلص غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة من يد ابن مردنيش.
وولي الأمر بعد عبد المؤمن ابنه يوسف ، وأجاز إلى الأندلس ، وكانت له مواقف في
جهاد العدوّ ، وولي بعده ابنه يعقوب المنصور الطائر الصيت ، وكانت له في النصارى
بالأندلس نكاية كبيرة ، ومن أعظمها غزوة الأرك التي تضاهي وقعة الزلّاقة أو تزيد ، والأرك : موضع بنواحي
بطليوس ، وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ، وغنم فيها المسلمون ما عظم قدره ، وكان
عدّة من قتل من الفرنج ـ فيما قيل ـ مائة ألف وستّة وأربعين ألفا ، وعدّة الأسارى
ثلاثين ألفا ، وعدّة الخيام مائة ألف وخمسين ألف خيمة ، والخيل ثمانين ألفا ،
والبغال مائة ألف ، والحمير أربعمائة ألف ، جاء بها الكفّار لحمل أثقالهم لأنهم لا
إبل لهم ، وأما الجواهر والأموال فلا تحصى ، وبيع الأسير بدرهم ، والسيف بنصف درهم
، والفرس بخمسة دراهم ، والحمار بدرهم ، وقسّم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى
الشرع ، ونجا ألفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوإ حال ، فحلق رأسه ولحيته ، ونكس
صليبه ، وآلى أن لا ينام على فراش ، ولا يقرب النساء ، ولا يركب فرسا ولا دابّة ،
حتى يأخذ بالثأر ، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدّ ، ثم لقيه يعقوب
وهزمه وساق خلفه إلى طليطلة وحاصره ورمى عليها بالمجانيق وضيّق عليها ، ولم يبق
إلّا فتحها ، فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه ، وسألنه
إبقاء البلد عليهنّ ، فرقّ لهنّ ، ومنّ عليهنّ بها ، ووهب لهنّ من الأموال
والجواهر ما جلّ ، وردّهنّ مكرمات ، وعنا بعد القدرة ، وعاد إلى قرطبة ، فأقام
شهرا يقسم الغنائم ، وجاءته رسل ألفنش بطلب الصلح ، فصالحه ، وأمّن الناس مدّته ،
وفيه يقول بعض شعراء عصره : [الكامل]
أهل بأن يسعى
إليه ويرتجى
|
|
ويزار من أقصى
البلاد على الرّجا
|
من قد غدا بالمكرمات
مقلّدا
|
|
وموشّحا ومختّما
ومتوّجا
|
عمرت مقامات
الملوك بذكره
|
|
وتعطّرت منه
الرّياح تأرّجا
|
ولمّا أرسل له
السلطان صلاح الدين بن أيوب شمس الدين بن منقذ يستنجد به على الفرنج الخارجين عليه
بساحل البلاد المقدّسة ، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين ، لم يجبه إلى ما طلبه ، وكل
ذلك في سنة ٥٨٧ ، ومدحه ابن منقذ بقوله من قصيدة : [الكامل]
__________________
سأشكر بحرا ذا
عباب قطعته
|
|
إلى بحر جود ما
لأخراه ساحل
|
إلى معدن
التّقوى إلى كعبة النّدى
|
|
إلى من سمت
بالذكر منه الأوائل
|
إليك أمير
المؤمنين ولم تزل
|
|
إلى بابك
المأمول تزجى الرّواحل
|
قطعت إليك البرّ
والبحر موقنا
|
|
بأنّ نداك الغمر
بالنّجح كافل
|
وحزت بقصديك
العلا فبلغتها
|
|
وأدنى عطاياك
العلا والفواضل
|
فلا زلت للعلياء
والجود بانيا
|
|
تبلّغك الآمال
ما أنت آمل
|
وعدّتها أربعون
بيتا ، فأعطاه بكل بيت ألفا ، وقال له : إنّما أعطيناك لفضلك ولبيتك.
وكان عنوان الكتاب
الذي أرسله صلاح الدين «إلى أمير المسلمين» وفي أوّله «الفقير إلى الله تعالى يوسف
بن أيوب» وبعده من إنشاء الفاضل «الحمد لله الذي استعمل على الملّة الحنيفية من
استعمر الأرض ، وأغنى من أهلها من سأله القرض ، وأجزى من أجرى على يده النافلة
والفرض ، وزيّن سماء الملّة بدراري الذراري التي بعضها من بعض» وهو كتاب طويل سأله
فيه أن يقطع عنه مادة البحر ، واستنجده على الإفرنج إذ كانت له اليد عليهم ، وعاد
ابن منقذ من هذه الرسالة سنة ٥٨٨ بغير فائدة ، وبعث معه هديّة حقيرة ، وأمّا ابن
منقذ فإنه أحسن إليه وأغناه ، لا لأجل صلاح الدين ، بل لبيته وفضله كما مرّ ، وما
وقع من يعقوب في صلاح الدين إنّما هو لأجل أنّه لم يوفّه حقّه في الخطاب.
رجع ـ ولمّا
استفحل أمر الموحّدين بالأندلس استعملوا القرابة على الأندلس وكانوا يسمّونهم
السادة ، واقتسموا ولايتها بينهم. ولهم مواقف في جهاد العدوّ مذكورة ، وكان صاحب
الأمر بمراكش يأتي الأندلس للجهاد ، وهزم يعقوب المنصور كما سبق قريبا بالأرك ابن
أدفونش ملك الجلالقة الهزيمة الشنعاء.
وأجاز ابنه الناصر
الوالي بعده البحر إلى الأندلس من المغرب سنة تسع وستمائة ومعه من الجنود ما لا يحصى
، حتى حكى بعض الثقات من مؤرّخي المغرب أنه اجتمع معه من أهل الأندلس والمغرب
ستمائة ألف مقاتل ، فمحص الله المسلمين بالموضع المعروف بالعقاب ، واستشهد منهم عدّة. وكانت سبب ضعف المغرب والأندلس ، أما
المغرب فبخلاء
__________________
كثير من قراه
وأقطاره ، وأما الأندلس فبطلب العدوّ عليها ؛ لأنه لمّا التاث أمر الموحدين بعد الناصر ابن المنصور انتزى السادة بنواحي الأندلس كلّ في عمله ، وضعف ملكهم بمراكش ،
فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بعضهم على بعض ، وإسلام حصون المسلمين إليه في
ذلك ، فمشت رجالات الأندلس وأعقاب العرب منذ الدولة الأموية ، وأجمعوا على إخراجهم
، فثاروا به لحين واحد ، وأخرجوهم. وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي
الثائر بالأندلس وابن مردنيش وثوّار آخرون.
وقال ابن خلدون : ثم خرج على ابن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضا
وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر ، وتلقّب محمد هذا بالشيخ ،
فجاذبه الحبل ، وكانت لكل واحد منهما دولة أورثها بنيه ، انتهى.
وكان ابن هود يخطب
للعباسي صاحب بغداد ، ثم حصلت لابن هود وأعقابه حروب وخطوب إلى أن كان آخرهم
الواثق بن المتوكل ، فضايقه ألفنش والبرشلوني فبعث بالطاعة لابن الأحمر ، فبعث
إليه ابن أشقيلولة ، وتسلّم مرسية منه ، وخطب لابن الأحمر بها ، ثم خرج منها راجعا
إلى ابن الأحمر ، فأوقع به النصارى في طريقه ، ثم رجع الواثق إلى مرسية ثالثة ،
فلم يزل إلى أن ملكها العدو من يده سنة ثمان وستّين وستمائة ، وعوّضه عنها حصنا
يسمّى يسر ، وهو من عملها ، فبقي فيه إلى أن هلك. وانقرضت دولة ابن هود ، والله
وارث الأرض ومن عليها.
رجع إلى ذكر دولة
أولاد الأحمر ؛ لأن لسان الدين وزير أحدهم ، ولأنهم آخر ملوك الأندلس ،
ومن يدهم استولى النصارى على جميعها كما سنذكره. قال ابن خلدون : أصلهم من أرجونة
من حصون قرطبة ، ولهم فيها سلف من أبناء الجند ، ويعرفون ببني نصر ، وينتسبون إلى
سعد بن عبادة سيد الخزرج. وكان كبيرهم لآخر دولة الموحّدين محمد بن يوسف بن نصر ،
ويعرف بالشيخ ، وأخوه إسماعيل. وكانت له وجاهة في ناحيتهم.
ولمّا فشلت ريح
الموحّدين ، وانتزى الثوّار بالأندلس ، وأعطى السادة حصونها للطاغية ، استقل بأمر
الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية بدعوة العباسية ، وتغلّب على شرق
الأندلس أجمع ، فتصدّى الشيخ هذا للثورة عليه وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة ،
ودعا
__________________
لأبي زكرياء صاحب
إفريقية ، وأطاعته جيّان وشريش سنة ثلاثين بعدها ، واستظهر على أمره بقرابته من
بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة. ثم بايع لبني هود سنة إحدى وثلاثين ، عند ما بلغه
خطاب الخليفة من بغداد. ثم ثار بإشبيلية أبو مروان الباجي عند خروج ابن هود عنها
ورجوعه إلى مرسية ، فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوّجه ابنته ، فأطاعه
، ودخل إشبيلية سنة اثنتين وثلاثين. ثم فتك بابن الباجي فقتله ، وتناول البطش به
علي بن أشقيلولة. ثم راجع أهل إشبيلية بعدها بشهر دعوة ابن هود ، وأخرج ابن
الأحمر. ثم تغلّب على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها حين ثار ابن أبي خالد
بدعوته فيها ، ووصلته بيعتها وهو بجيّان ، فقدم إليها علي بن أشقيلولة. ثم جاء على
أثره ، ونزلها ، وابتنى بها حصن الحمراء لنزوله. ثم تغلّب على مالقة ، ثم تناول
ألمريّة من يد ابن الرميمي وزير ابن هود الثائر بها سنة ثلاث وأربعين ، ثم بايعه
أهل لورقة سنة ثلاث وستّين ، وكان ابن الأحمر أول أمره وصل يده بالطاغية استظهارا
على أمره ، فعضده وأعطاه ابن هود ثلاثين حصنا في كفّ غربه بسبب ابن الأحمر ،
وليعينه على ملك قرطبة ، فتسلّمها ، ثم تغلّب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة
، أعادها الله! ثم نازل إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه ، ثم دخلها صلحا ،
وملك أعمالها. ثم ملك مرسية سنة خمس وستّين. ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك المسلمين
كورة كورة وثغرا ثغرا إلى أن ألجأ المسلمين إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب
وإلبيرة من شرق الأندلس نحو عشر مراحل من الغرب إلى الشرق ، وفي قدر مرحلة أو
دونها في العرض ما بين البحر والجوف. ثم سخط ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء على
سائر الجزيرة فامتنعت عليه ، وتلاحق بالأندلس الغزاة من بني مرين وغيرهم ، وعقد
ملك المغرب يعقوب بن عبد الحق لنحو الثلاثة آلاف منهم ، فأجازوا في حدود الستّين
وستمائة ، وتقبّل ابن الأحمر إجازتهم ، ودفع بهم في نحر عدوّة ، ورجعوا. ثم
تناسلوا إليه بعد ذلك ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك الشيخ ابن الأحمر سنة
إحدى وسبعين وستمائة ، وولي بعده ابنه محمد الفقيه ، وأوصاه باستصراخ بني مرين ،
ملوك المغرب بعد الموحدين ، إن طرقه أمر أن يعتضد بهم ، فأجازه الفقيه إلى يعقوب
بن عبد الحقّ سلطان فاس والمغرب سنة ثنتين وسبعين ، فأجاب صريخه ، وأرسل ابنه
وعساكره معه. ثم أجاز على أثره وتسلّم الجزيرة الخضراء من ثائر كان بها وجعلها
ركابا لجهاده ، ونزل إليه ابن الأحمر عن طريف وما إليها من الحصون ، وهزم هو وابن
الأحمر زعيم النصرانية دنّنه وفرّق جمعه ، وأوقع بجموع الطاغية من كل جهة ، وبثّ
سراياه وبعوثه في أرض النصرانية ، ثم خاف ابن الأحمر على ملكه ، وصالح الطاغية ثم
عاد ، انتهى كلام ابن خلدون ملخصا.
وثبتت قدم عقب ابن
الأحمر بالأندلس ، واستولوا على جميع ما بأيدي المسلمين من ملكها مثل الجزيرة
وطريف ورندة التي كانت بيد بني مرين.
وبعد مدّة ألّب
ملوك النصارى سنة تسع عشرة وسبعمائة على غرناطة ، وجاءها الطاغية دون بطره في جيش
لا يحصى ومعه خمسة وعشرون ملكا ، وكان من خبر هذه الوقعة أن الإفرنج حشدوا وجمعوا
وذهب سلطانهم دون بطره إلى طليطلة ، ودخل على مرجعهم الذي يقال له البابا ، وسجد
له ، وتضرّع ، وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين بالأندلس ، وأكّد عزمه ، فقلق
المسلمون بغرناطة وغيرها ، وعزموا على الاستنجاد بالمريني أبي سعيد صاحب فاس ،
وأنفذوا إليه رسلا ، فلم ينجع ذلك الدواء ، فرجعوا إلى أعظم الأدوية وهو اللّجأ
إلى الله تعالى ، وأخلصوا النيّات ، وأقبل الإفرنج في جموع لا تحصى ، فقضى ناصر من
لا ناصر له سواه بهزم أمم النصرانية ، وقتل طاغيتهم دون بطره ، ومن معه ، وكان
نصرا عزيزا ويوما مشهورا مشهودا.
وكان السلطان إذ
ذاك بالأندلس الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل بن الرئيس أبي سعيد فرج بن نصر
المعروف بابن الأحمر رغب أن يحصّن البلاد والثغور ، فلما بلغ النصارى ذلك عزموا
على منازلة الجزيرة الخضراء ، فانتدب السلطان ابن الأحمر لردّهم ، وجهّز الأساطيل
والرجال ، فلمّا رأوا ذلك طلبوا إلى طليطلة ، وعزموا على استئصال المسلمين وبلادهم
وتأهّبوا لذلك غاية الأهبة ، ووصلت الأثقال والمجانيق وآلات الحصار والأقوات
في المراكب ، ووصل العدوّ إلى غرناطة ، وامتلأت الأرض بهم ، فتقدّم السلطان إلى
شيخ الغزاة الشيخ العالم أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء المريني بالخروج إلى لقائهم
بأنجاد المسلمين وشجعانهم ، فخرج إليهم يوم الخميس الموفي عشرين
لربيع الأول.
ولمّا كانت ليلة
الأحد أغارت سريّة من العدوّ على ضيعة من المسلمين ، فخرجت إليهم جماعة من فرسان
الأندلس الرّماة ، فقطعوهم عن الجيش ، وفرّت تلك السّريّة أمامهم إلى جهة سلطانهم
، فتبعهم المسلمون إلى الصبح ، فاستأصلوهم وكان هذا أول النصر.
ولمّا كان يوم
الأحد ركب الشيخ أبو سعيد لقتال العدوّ في خمسة آلاف من أبطال المسلمين المشهورين
، فلمّا شاهدهم الفرنج عجبوا من إقدامهم مع قلّتهم في تلك الجيوش العظيمة ، فركبوا
وحملوا بجملتهم عليهم ، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة ، وأخذتهم السيوف ، وتبعهم
المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام ، وخرج أهل غرناطة لجمع الأموال ، وأخذ الأسرى
، فاستولوا على أموال عظيمة منها من الذهب ـ فيما قيل ـ ثلاثة وأربعون قنطارا ،
ومن
__________________
الفضّة مائة
وأربعون قنطارا ، ومن السّبي سبعة آلاف نفس حسبما كتب بذلك بعض الغرناطيين إلى
الديار المصرية ، وكان من جملة الأسارى امرأة الطاغية وأولاده ، فبذلت في نفسها
مدينة طريف وجبل الفتح وثمانية عشر حصنا فيما حكى بعض المؤرّخين ، فلم يقبل
المسلمون ذلك ، وزادت عدّة القتلى في هذه الغزوة على خمسين ألفا ، ويقال : إنه هلك
منهم بالوادي مثل هذا العدد ، لعدم معرفتهم بالطريق ، وأمّا الذين هلكوا بالجبال
والشّعاب فلا يحصون ، وقتل الملوك الخمسة والعشرون جميعهم ، واستمرّ البيع في
الأسرى والأسلاب والدوابّ ستّة أشهر ، ووردت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر
البلاد.
ومن العجب أنه لم
يقتل من المسلمين والأجناد سوى ثلاثة عشر فارسا ، وقيل : عشرة أنفس ، وقيل : كان
عسكر الإسلام نحو ألف وخمسمائة فارس ، والرّجّالة نحوا من أربعة آلاف راجل ، وقيل
دون ذلك.
وكانت الغنيمة
تفوق الوصف ، وسلخ الطاغية دون بطره وحشي جلده قطنا ، وعلّق على باب غرناطة ، وبقي
معلّقا سنوات ، وطلبت النصارى الهدنة ، فعقدت لهم بعد أن ملكوا جبل الفتح الذي كان
من أعمال سلطان فاس والمغرب ، وهو جبل طارق ، ولم يزل بأيديهم إلى أن ارتجعه أمير
المسلمين أبو الحسن المريني صاحب فاس والمغرب ، بعد أن أنفق عليه الأموال ، وصرف
إليه الجنود والحشود ، ونازلته جيوشه مع ولده وخواصّه ، وضيّقوا به ، إلى أن
استرجعوه ليد المسلمين ، واهتمّ ببنائه وتحصينه ، وأنفق عليه أحمال مال في بنائه
وحصنه وسوره وأبراجه وجامعه ودوره ، ومخازنه ، ولمّا كاد يتمّ ذلك نازله العدوّ
برّا وبحرا ، فصبر المسلمون ، وخيّب الله سعي الكافرين ، فأراد السلطان المذكور أن
يحصّن سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدوّ في منازلته ، ولا
يجد سبيلا للتضييق عند محاصرته ، ورأى الناس ذلك من المحال ، فأنفق الأموال ،
وأنصف العمّال ، فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال ، وكان بقاء هذا الجبل بيد
العدوّ نيّفا وعشرين سنة ، وحاصره السلطان أبو الحسن ستّة أشهر ، وزاد في تحصينه
ابنه السلطان أبو عنان ، ولمّا أجاز السلطان أبو الحسن المذكور إلى الأندلس ،
واجتمع عليه ابن الأحمر ، وقاتلهم الطاغية. هزمهم في وقعة طريف ، واستولى على
الجزيرة الخضراء ، حتى قيّض الله من بني الأحمر الغني بالله محمدا الذي كان لسان
الدين بن الخطيب وزيره ، فاسترجعها وجملة بلاد كجيّان وغيرها.
وكانت له في
الجهاد مواقف مشهورة ، وامتدّ ملكه واشتدّ حتى محا دولة سلاطين فاس ممّا وراء
البحر ، وملك جبل الفتح ، ونصر الله الإسلام على يده ، كما ستقف عليه في بعض
مكاتبات لسان الدين ـ رحمه الله! ـ في مواضع من هذا الكتاب ، وسعد هذا الغني بالله
من العجائب.
وبقي ملك الأندلس
في عقبه إلى أن أخذ ما بقي من الأندلس العدوّ الكافر واستولى على حضرة الملك
غرناطة أعادها الله للإسلام ، كما نبيّن ذلك إن شاء الله ، وخلت جزيرة الأندلس من
أهل الإسلام ، فأبدلت من النور بالظلام ، حسبما اقتضته الأقدار النافذة والأحكام ،
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
قال ابن خلدون :
واتفق بنو الأحمر سلاطين غرناطة أن يجعلوا مشيخة الغزاة لواحد يكون من أقارب بني
مرين سلاطين المغرب ؛ لأنهم أوّل من ولي الأندلس عند استيلاء بني عمّهم على ملك
المغرب لما بينهم من المنافسة ، وكان لهؤلاء في الجهاد مواقف مشهورة ، منها ما كتب
على قبر شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلاء لتستدلّ عند ذلك على ما ذكرناه «بحمد الله
تعالى ، هذا قبر شيخ الحماة وصدر الأبطال والكماة ، واحد الجلالة ، ليث الإقدام
والبسالة ، علم الأعلام ، حامي ذمار الإسلام ، صاحب الكتائب المنصورة ، والأفعال
المشهورة ، والمغازي المسطورة ، وإمام الصفوف ، القائم بباب «الجنّة تحت ظلال
السيوف» ، سيف الجهاد ، وقاصم الأعاد ، وأسد الآساد ، العالي الهمم ، الثابت القدم
، الهمام المجاهد الأرضى ، البطل الباسل الأمضى ، المقدّس ، المرحوم أبي سعيد عثمان
ابن الشيخ الجليل الهمام الكبير ، الأصيل الشهير ، المقدّس المرحوم أبي العلاء
إدريس بن عبد الله بن عبد الحق ، كان عمره ثمانيا وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة
في سبيل الله وغدوة ، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة ، وقطع
عمره جاهدا مجتهدا في طاعة الربّ ، محتسبا في إدارة الحرب ، ماضي العزائم في جهاد
الكفّار ، مصادما بين جموعهم تدفّق التّيّار ، وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع
الكبار ، ما سار ذكره في الأقطار ، أشهر من المثل السّيّار ، حتى توفي رحمه الله
وغبار الجهاد طيّ أثوابه ، وهو مراقب لطاغية الكفّار وأحزابه ، فمات على ما عاش
عليه ، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله تعالى إليه ، واستأثر به سعيدا مرتضى ، وسيفه
على رأس ملك الروم منتضى ، مقدّمة قبول وإسعاد ، ونتيجة جهاد وجلاد ، ودليلا على
نيّته الصالحة ، وتجارته الرابحة ، فارتجّت الأندلس لبعده ، أتحفه الله تعالى رحمة
من عنده! توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من عام ثلاثين وسبعمائة» انتهى.
ومنها ما كتب به
لسان الدين بن الخطيب ـ رحمه الله! ـ في تولية علي بن بدر الدين مشيخة الغزاة ما
نصّه : «هذا شيخ الغزاة الذي فتح على الإسلام أبواب السّرّاء ، وراق طرازا مذهّبا
على عاتق الدولة الغرّاء ، وأعمل عوامل الجهاد ، في طاعة ربّ العباد شارعة لأهل
الكفر والعناد ، من باب الإعمال والإغراء ، أمر به فلان صدر صدور أودّائه ، وحسامه
المشهور على أعدائه ، ووليّه الذي خبر صدق وفائه ، وجلّى في مضمار الخلوص له
مغبّرا في وجوه أكفائه ،
شيخ شيوخ
المجاهدين وقائد كتائبه المنصورة إلى غزو الكافرين والمعتدين ، وعترته التي يدافع
بها عن الدين ، وسابق ودّه المبرّز في الميادين ، الشيخ الأجلّ» إلى آخر ما وصفه
به ممّا ضاق الوقت عن مثله ، والله وليّ التوفيق.
[تمّ بحمد الله
الجزء الأول من نفح الطيب ويليه الجزء الثاني مفتتحا بالباب الرابع في ذكر قرطبة
نسأل الله أن يعيننا على إكماله].
فهرس الرسائل والخطيب والظهائر
للجزء الأول من كتاب نفح الطيب
ابن
برد الأكبر : عهد أنشأه لعبد الرحمن شنجول على لسان المؤيد............................ ٣٢٩
ابن شهيد الوزير : رسالته إلى الناصر في
ذكر هديته........................................... ٢٨١
ابن عقال : رسالة إلى الحفصي سلطان
إفريقية................................................ ٢٤٨
قطعة من
رسالة له.......................................................... ٢٥١
قطعة
أخرى............................................................... ٢٥٢
من
رسالة إلى صاحبين له.................................................... ٢٤٧
رسالة
في ضياع بعض المدن الأندلسية......................................... ٢٥١
رسالة
عن أهل شاطبة في تهنئة ابن هود....................................... ٢٥٢
أبو إبراهيم الفقيه : رده على رسالة
وصلته من الحكم المستنصر............................... ٢٩٣
أحمد بن شاهين : مقتطفات من رسالته إلى
المؤلف............................................. ٩٦
الحكم المستنصر : رسالته إلى الفقيه أبي
إبراهيم لتخلفه عن إعذار............................. ٢٩٣
صفوان بن إدريس ، أبو البحر : رسالته في
تنافس مدن الأندلس على أمير موحدي........... ١٤٥
طارق بن زياد : خطبته عند دخول الأندلس................................................. ١٩٥
لسان الدين بن الخطيب : رسالة على لسان
السلطان في تفضيل الجهاد على الحج............. ١٥٧
رسالته
عن الغني بالله إلى المنصور بن قلاوون................................... ٢٥٤
ظهير
في تولية علي بن بدر مشيخة الغزاة...................................... ٣٤٨
منذر
بن سعيد : خطبته في استقبال وفد الروم.................................. ٢٩٠
فهرس موضوعات الجزء الأول من كتاب نفح الطيب
مقدمة الناشر
|
٥
|
وصف داريا
|
٨٢
|
خطبة الكتاب
للمؤلف
|
١٧
|
المؤلف يصف موقف
الوداع
|
٨٣
|
حديث المؤلف عن
وطنه وحنينه إليه
|
٢٧
|
عودة المؤلف إلى
مصر وشوقه إلى دمشق
|
٩٤
|
وصف أهوال البحر
|
٤٤
|
شوق المؤلف إلى
دمشق
|
٩٥
|
وصف مصر والتمدح
بها
|
٤٥
|
شروع المؤلف في
التصنيف ، ورسالة من الشاهين يحثه على ذلك
|
٩٦
|
وصف مصر ونيلها
|
٤٦
|
المؤلف يصف
رسالة ابن شاهين
|
٩٧
|
حج المؤلف
وزيارته المدينة ووصفه المشاهد المباركة
|
٤٩
|
مقتطفات من
رسالة الشاهيني
|
٩٩
|
عودة المؤلف إلى
مصر وزيارته بين المقدس
|
٦١
|
قصيدة للشاهيني
|
١٠٠
|
زيارة المؤلف
بيت المقدس
|
٦٣
|
تصميم المؤلف
على استئناف التصنيف
|
١٠٢
|
عودة المؤلف إلى
مصر وخدمته العلم بالأزهر
|
٦٣
|
بدء التأليف
|
١٠٣
|
زيارة ثانية إلى
القدس ، ثم زيارة إلى دمشق
|
٦٤
|
تقدير المؤلف
للسان الدين بن الخطيب
|
١٠٤
|
وصف دمشق
|
٦٥
|
تقدير المؤلف
للسان الدين بن الخطيب ، ومدحه النبي والصحابة
|
١٠٦
|
ذكر أهل دمشق
ومدحهم
|
٦٨
|
تقسيم الكتاب
وتبويبه
|
١٠٧
|
وصف دمشق وذكر
محاسنها
|
٧١
|
خاتمة المقدمة
وذم الدنيا
|
١١١
|
تتيم المؤلف
بالشام وبوطنه
|
٧٢
|
القسم الأول
|
١١٥
|
فضل دمشق
|
٧٣
|
الباب الأول
|
١١٧
|
ذكر المؤلف
الأندلس ووصف محاسنها
|
٧٤
|
أقوال في مزايا
الأندلس
|
١١٧
|
اقتراح ابن
شاهين على المؤلف تأليف كتاب عن لسان الدين بن الخطيب ، واعتذاره
|
٧٤
|
مساحة الأندلس
وأبعادها
|
١١٨
|
إصرار ابن شاهين
وعدم قبوله عذر المؤلف
|
٧٨
|
مساحة الأندلس
وأبعادها ومناخها
|
١٢١
|
اعتذار المؤلف
عن الكتابة عن لسان الدين بن الخطيب وأسبابه
|
٧٨
|
أول من استوطن
الأندلس
|
١٢٢
|
اعتزام المؤلف
إجابة طلب ابن شاهين وتوديعه الشام ووصفه داريا
|
٨١
|
غرائب ما أصيب
بالأندلس عند الفتح الإسلامي
|
١٢٣
|
|
|
موقع الأندلس من
الأقاليم
|
١٢٤
|
|
|
إشبان والخصر
عليه السلام
|
١٢٥
|
|
|
دخول عجم رومة
والقوط الأندلس ، ودخول النصرانية إليها
|
١٢٦
|
حكم القوط في
الأندلس
|
١٢٧
|
أبو بكر
المخزومي الهجاء والوزير أبو بكر بن سعيد
|
١٦٠
|
مناخ الأندلس
وخيراتها ومعادنها
|
١٢٧
|
أبو بكر
المخزومي والشاعرة نزهون الغرناطية
|
١٦١
|
خواص طليطلة
وبعض حاصلات الأندلس ومعادنها ، ووصف أهلها
|
١٢٩
|
عبد الوهاب بن
الحسين الحاجب المغني الشاعر
|
١٦٢
|
الأندلسيون
والأمم المجاورة ونبذة عن خراج الأندلس
|
١٢٩
|
بعض عجائب
سرقسطة
|
١٦٤
|
خبر ابن خلدون
عن الأمم التي استوطنت الأندلس ، ووصف غرناطة
|
١٣٠
|
السمور بالأندلس
|
١٦٥
|
غرناطة وأعمالها
|
١٣٢
|
بعض وحش الأندلس
وحيوانها وطيورها
|
١٦٦
|
شهرة غرناطة
وسرقسطة وبرجة
|
١٣٣
|
ثمار الأندلس
ومعادنها
|
١٦٧
|
شهرة برجة
ومالقة
|
١٣٤
|
بعض مصنوعات
الأندلس
|
١٦٨
|
وصف مالقة
وأشبونة وقرطبة
|
١٣٤
|
الآلات الحربية
والآثار الأولية بالأندلس
|
١٦٨
|
نبذة من قرطبة
وشهرتها
|
١٣٥
|
ابن سعيد يذكر
بعض عجائب الأندلس
|
١٦٩
|
إشبيلية
وإقليمها
|
١٣٧
|
وصف ابن سعيد
للأندلس
|
١٦٩
|
باجة وجبل طارق
|
١٣٩
|
بيلتا طليطلة
|
١٧١
|
كورة طليطلة وما
اشتهرت به
|
١٤٠
|
عود إلى ذكر
إشبيلية
|
١٧٢
|
مدينة المرية ،
وما اشتهرت به
|
١٤١
|
ابن سعيد يقارن
بين الأندلس وغيرها
|
١٧٣
|
شنتره وخصائصها
|
١٤٢
|
وصف ابن حوقل
لرخاء الأندلس
|
١٧٤
|
أقاليم الأندلس
، وكور كل إقليم
|
١٤٢
|
ردّ ابن سعيد
على ابن حوقل
|
١٧٥
|
الجزر البحرية
بالأندلس
|
١٤٢
|
لمحة من تاريخ
الحكم في الأندلس منذ الفتح
|
١٧٦
|
خطاب يتضمن
المناظرة بين بلاد الأندلس
|
١٤٥
|
الوزارة في
الأندلس
|
١٧٨
|
عود إلى ذكر
غرناطة
|
١٤٩
|
الكتابة ،
والخراج في الأندلس ، القضاء ، والشرطة
|
١٧٩
|
ابن جزيّ يصف
غرناطة
|
١٥٠
|
الحسبة في
الأندلس ، الطواف بالليل ، والتدين في الأندلس
|
١٨٠
|
وصف قرية نارجة
|
١٥٠
|
التسول ،
والعلوم والآداب في الأندلس
|
١٨١
|
وصف بلنسية
|
١٥٢
|
زيّ أهل الأندلس
|
١٨٢
|
بعض أعمال
بلنسية وبعض متفرجات إشبيلية
|
١٥٣
|
نظافة
الأندلسيين ، واحتياطهم ، وتدبيرهم ، ومروءاتهم
|
١٨٣
|
موسى بن سعيد
يعتذر عن مفارقة الأندلس
|
١٥٤
|
منهج كتاب
المغرب لابن سعيد
|
١٨٤
|
وصف شريش وشلب
وكورة اشكونية
|
١٥٥
|
وصف بعض
المؤرخين للأندلس
|
١٨٤
|
في بطليوس
وشاطبة
|
١٥٦
|
مقطعات في وصف
الأندلس
|
١٨٥
|
كتاب لسان الدين
بن الخطيب على لسان سلطانه في تفضيل الجهاد
|
١٥٧
|
من خصائص
الأندلس
|
١٨٦
|
ابن تاشفين يصف
الأندلس ويشبهها بالعقاب
|
١٥٩
|
|
|
الباب الثاني
|
١٨٧
|
سليمان بن عبد
الملك ينكل بموسى ابن نصير
|
٢٢٣
|
فتح الأندلس
وأسبابه
|
١٨٧
|
مقتل عبد العزيز
بن موسى بن نصير وأسبابه
|
٢٢٤
|
رواية ابن خلدون
في فتح الأندلس
|
١٨٩
|
لمحة عن عبد
الرحمن الداخل ، وعود إلى قصة التنكيل بموسى بن نصير
|
٢٢٥
|
بعض أمراء
الأندلس
|
١٩٠
|
قصة التنكيل
بموسى بن نصير ونهايته
|
٢٢٦
|
ولاة الأمراء
وأمراؤها
|
١٩١
|
نهاية موسى بن
نصير ، وشيء من صفاته
|
٢٢٧
|
رواية الحميدي
للفتح
|
١٩٤
|
ذكر بعض من دخل
الأندلس من التابعين
|
٢٢٩
|
رجع إلى حديث
طارق بن زياد
|
١٩٥
|
غنائم الأندلس ،
والحديث عن مائدة سليمان
|
٢٣٠
|
خبر بيت الحكمة
الذي كان بالأندلس
|
١٩٧
|
القبائل العربية
التي نزحت إلى الأندلس واستوطنتها
|
٢٣١
|
الكراهية
والبغضاء بين المغربيين والأندلسيين
|
١٩٧
|
أسماء من حكم
الأندلس من العرب
|
٢٣٧
|
حكاية ابنة ملك
قادس وعمل الرحيّ واتخاذ الطلسم
|
١٩٨
|
الوزير أبو
الحزم بن جهور
|
٢٣٩
|
فتح لذريق بيت
الحكمة ، وما وجد فيه
|
١٩٩
|
كتاب أبي مطرف
بن عميرة لأبي جعفر بن أمية
|
٢٤٠
|
ابن حيان يتحدث
عن فتح الأندلس ويذكر أمراءها
|
٢٠٠
|
كتاب أبي المطرف
إلى سلطان أفريقية
|
٢٤٣
|
ملخص خبر الفتح
من الكتاب الخزائني
|
٢٠١
|
من خطاب لأبي
المطرف إلى بعض ذوي الألباب
|
٢٤٥
|
رواية الرازي في
شأن الفتح
|
٢٠٩
|
رسالة من أبي
المطرف إلى أبي الحسن الرعيني
|
٢٤٦
|
رواية ابن حيان
في فتح طليطلة
|
٢١٢
|
من رسائل أبي
المطرف أيضا
|
٢٤٧
|
شأن أولاد غيطسة
، وخبر سارة بنت ألمند القوطية
|
٢١٣
|
ترجمة أبي
المطرف بن عميرة
|
٢٤٨
|
بعض أخبار
القوطية سارة بنت ألمند
|
٢١٤
|
رسالة لأبي
المطرف
|
٢٥١
|
حسد موسى بن
نصير طارقا واشتراكه في الفتح
|
٢١٥
|
رسالة أبي
المطرف إلى ابن هود
|
٢٥٣
|
موسى بن نصير
وفتح الأندلس
|
٢١٦
|
رسالة صاحب
الأندلس إلى أحمد بن قلاوون بقلم لسان الدين بن الخطيب
|
٢٥٤
|
فتح موسى
للأندلس ، ثم نكبته ، ومائدة سليمان
|
٢١٧
|
الباب الثالث
دولة بني أمية بالأندلس
|
٢٥٨
|
مائدة سليمان ،
ثم رجع إلى رواية ابن حيان في الفتح
|
٢١٧
|
عبد الرحمن
الداخل
|
٢٥٨
|
رجع إلى رواية
ابن حيان في الفتح
|
٢١٨
|
وصف أبي جعفر
المنصور لعبد الرحمن الداخل
|
٢٦١
|
انتصارات موسى
وابنه عبد الأعلى
|
٢١٩
|
المنصور يبعث
العلاء بن مغيث اليحصبي
|
|
انتصارات موسى ،
ثم عودته إلى المشرق
|
٢٢٠
|
|
|
اسماء من دخل
الأندلس من الصحابة والتابعين
|
٢٢١
|
|
|
عود إلى عودة
موسى إلى الشام
|
٢٢٣
|
|
|
ليدعو للمنصور
فينتصر عليه عبد الرحمن ويقتله
|
٢٦١
|
أخبار في سيرة
المنصور
|
٣١٧
|
هرب عبد الرحمن
من الشام ووصوله إلى الأندلس
|
٢٦٢
|
أمثلة من عدل
المنصور بن أبي عامر
|
٣١٨
|
هشام بن عبد
الرحمن الداخل
|
٢٦٣
|
دهاء المنصور بن
أبي عامر
|
٣٢٠
|
الحكم بن هشام
|
٢٦٦
|
غزو المنصور
لمدينة شنت ياقب
|
٣٢٢
|
حروب الحكم
وفتوحه
|
٢٦٧
|
أخبار المنصور (من
كتاب الأزهار المنثورة)
|
٣٢٤
|
صفات الحكم
|
٢٦٨
|
عود إلى أخبار
المنصور (من المطمح)
|
٣٢٦
|
آثار الحكم في
الدولة
|
٢٦٨
|
ولاية عبد الملك
المظفر بن المنصور ، ثم ولاية عبد الرحمن الناصر لدين الله
|
٣٢٨
|
من أخبار الحكم
|
٢٦٨
|
ولاية عبد
الرحمن بن المنصور بن أبي عامر
|
٣٢٩
|
عبد الرحمن بن
الحكم
|
٢٧٠
|
خلع هشام المؤيد
وبيعة محمد بن هشام المهدي بالله
|
٣٣٠
|
محمد عبد الرحمن
|
٢٧٤
|
ثورة سليمان
المستعين على المهدي
|
٣٣١
|
ولاية المنذر بن
محمد ، ثم عبد الله بن محمد
|
٢٧٦
|
شعر للمستعين
|
٣٣٢
|
عبد الرحمن
الناصر
|
٢٧٧
|
بنو حمود
|
٣٣٣
|
هدية ابن شهيد
للناصر
|
٢٧٩
|
خلافة المستظهر
عبد الرحمن بن هشام الأموي
|
٣٣٧
|
غزوات الناصر
|
٢٨٤
|
انقطاع الدولة
الأموية وظهور ملوك الطوائف
|
٣٣٨
|
وفود دول
النصرانية على الناصر
|
٢٨٥
|
بنو عباد ، وبنو
جهور
|
٣٣٩
|
ترجمة منذر بن
سعيد البلوطي (عن المغرب)
|
٢٩٠
|
بنو ذي النون
|
٣٤٠
|
ترجمة منذر بن
سعيد (في المطمح)
|
٢٩٢
|
بنو هود
|
٣٤١
|
رجع لأخبار الناصر
لدين الله
|
٢٩٣
|
بنو الأفطس
|
٣٤١
|
الحكم المستنصر
بالله
|
٢٩٧
|
يعقوب المنصور
بن يوسف ملك الموحدين وغزو الأرك
|
٣٤٢
|
صفات المستنصر ،
وغايته بالكتب
|
٣٠٧
|
بين صلاح الدين
الأيوبي ويعقوب الموحدي
|
٣٤٣
|
وفاة المستنصر ،
وولاية هشام بن الحكم وتسلط ابن أبي عام
|
٣٠٨
|
الناصر بن يعقوب
الموحدي
|
٣٤٣
|
ترجمة المنصور
بن أبي عامر من كلام ابن سعيد
|
٣١٠
|
دولة بني الأحمر
|
٣٤٤
|
ترجمة الحاجب
المصحفي (عن المطمح)
|
٣١٣
|
شيخ الغزاة أيام
بني الأحمر
|
٣٤٨
|
ترجمة ابن أبي
عامر المنصور (عن المطمح)
|
٣١٤
|
تم فهرس الجزء
الأول من كتاب نفح الطيب
|
|
|