
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
مقدمة
لقد مدح أبو
عثمان الجاحظ أنواع العلوم ، ومنها علم النحو ، حيث سئل عنه ، فقال :
"يبسط من
العي اللسان ، ويجزي من حصر البيان ، وبه يسلم من هجنة اللحن وتخريف القول ، وهو
آلة لصواب المنطق ، وتسديد لكلام العرب .
ومن هنا كانت
المكانة الرفيعة التي حظي بها كتاب سيبويه ، أو (أبو النحو العربي) كما يطلقون
عليه ، الذي يعتبر تصنيفه (الكتاب) أشهر كتاب في النحو ، فكان جديرا بالتربع ـ دون
منازع ـ على قمة علم النحو ، إذ أن مكانة سيبويه وأهميته ترجع إلى أنه أول من سجل
قواعد النحو العربي ، وأرسى أسس معالمه واتجاهاته.
وقد اقتضت
الأمانة العلمية أن نذكر فضل المستشرق الفرنسي (هرتويج دبرنبورج) على كتاب سيبويه
، حيث نشره في العام ١٨٨١ ، أي قبل أن تظهر طبعة بولاق بمصر بعشرين عاما ، وذلك في
ألف صفحة مع مقدمة وحواش في مجلدين ، مع ترجمته إلى الفرنسية .
ومن هذه
المكانة الرفيعة التي اعتلاها (الكتاب) استمد (شرح أبي سعيد السيرافي) شهرته
وتفرده بالصيت دون سائر الشروح التي تعرضت للكتاب ؛ لأنه أقدم شرح وصل إلى أيدينا
، فكان محور اهتمام الباحثين والدارسين في الشرق والغرب على السواء.
ولعل المستشرق
الألماني (يان) من أسبق الذين نشروا مقتطفات من (شرح السيرافي) ، عند ما نقل كتاب
سيبويه إلى اللغة الألمانية ..
وهي ذات
المقتطفات التي استعانت بها مطبعة بولاق بمصر عند ما نشرت كتاب
__________________
سيبويه ، فكانت ـ بحق ـ إشراقة فجر التعريف ب (السيرافي) في البيئة العربية
اللغوية ، حيث اطلع القراء على بعض من شروحه للكتاب عند ما تداولته الأيدي من
مطبعة بولاق.
ومع هذه
المبادرة المبكرة التي كنا نأمل أن تكون فاتحة للمزيد ، إلا أن (شرح السيرافي) لم
يحظ بوضوح النهار الذي بدأ فجره الألماني (يان) فاستمرت النسخ المخطوطة لشرح
السيرافي حبيسة الأسر والظلمات عشرات السنين ، إلى أن تنبهت إليه الأوساط البحثية
في الثلث الأخير من القرن العشرين.!!
إلى أن شاءت
المقادير أن نتعرض ـ مرة أخرى ـ بعد هذه الصحوة المتأخرة ، لنعيد قراءة (شرح
السيرافي) ندلو بدلونا في هذا المضمار مسترشدين بمحاولات من سبقونا ، آملين أن
نضيف بعضا مما نراه يسهم في اقتراب النص إلى الكمال ، ولله الكمال وحده ، وهي غاية
البحث والتحقيق أن يصلا بالنص إلى الصورة التامة التي قصدها المؤلف.
السيرافي :
ترجمت له كتب
التراجم والطبقات ، ولكن أقدم هذه التراجم ، ما ورد في كتاب (الفهرست) لابن النديم
الذي ألفه عام ٣٧٧ ه ، حيث يقول :
" قال
الشيخ أبو أحمد ، أمده الله : أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان ، وأصله من
فارس ، مولده ب (سيراف) ، وفيها ابتدأ بطلب العلم ، وخرج عنها قبل العشرين من عمره
، ومضى إلى عمان وتفقه بها ، ثم عاد إلى سيراف ، ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة
ولقي محمد بن عمر الصيمري المتكلم ، وكان يقدّمه ويفضله على جميع أصحابه ، وكان
فقيها على مذاهب العلماء العراقيين ، وخلف القاضي أبا محمد بن معروف على قضاء
الجانب الشرقي ، وكان أستاذه في النحو ، ثم الجانبين ، وكان الكرخي الفقيه يقدمه
ويفضله ، وعقد له حلقة يفتي فيها ، ومولده قبل التسعين ، وتوفي في رجب لليلتين
خلتا من سنة ثمان وستين وثلاث مائة" .
وكتب التراجم
والطبقات ـ على رحابتها ـ التي ذكرت السيرافي قد تراوحت بين أمرين من حياة الرجل :
__________________
فمنها ما اهتم
بذكر المصنفات والمؤلفات ، كما هو مستفاد من كتاب (ابن النديم) الفهرست ، ومنها ما
اهتم بذكر حياته الإنسانية والعلمية ، كما أخبرنا (البغدادي) المتوفى (٤٦٤ ه) في
كتابه : تاريخ بغداد.
ثم أن ما تلا
هذين المصنفين من كتب التراجم والطبقات ، قد اقتفى آثارهما واعتمد عليهما في ثبت
المعلومات ، عن حياة السيرافي وتاريخه العلمي. نذكر منها :
ـ كتاب الأنساب
للسمعاني (ت ٥٦٢ ه).
ـ نزهة الألباء
، لابن الأنباري (ت ٥٧٧ ه).
ـ إرشاد الأريب
، لياقوت الحموي (ت ٦٢٠ ه).
ويعتبر إرشاد
الأريب من أهم المصادر المتأخرة التي اعتنت بحياة السيرافي.
ثم توالت
المؤلفات والمصادر التي تعني بتراجم الأعلام ، وهي على تواترها ـ أي المؤلفات
والمصادر ـ لا ترقى إلى مرتبة كتابي : الفهرست ، لابن النديم ، وتاريخ بغداد ،
للبغدادي.
السيرافي العالم :
السيرافي ،
نسبة إلى مكان ميلاده (سيراف) وهي مدينة من مدن بلاد فارس حيث تربطها علاقات
تجارية مع بلاد الهند بحكم موقعها الجغرافي ، الواقع جنوبا من بلاد فارس.
وقد أتاحت له
نشأته أن يتقن الفارسية ، لغة قومه وعشيرته ، واللغة العربية ، التي كانت ـ إذا صح
التعبير ـ لغة المراسم والدواوين ، فضلا عن كونها لسان التخاطب بين سائر الناس من
سكان البلاد.
وكان السيرافي
قد أتمّ بعضا من معارفه وعلومه اليسيرة في مدينته (سيراف) حيث إنها لم تكن بيئة علمية
، وإنما كانت ـ كما ذكرنا ـ مركزا للتجارة والمال.
ثم انصرف عن (سيراف)
مسقط رأسه قبيل بلوغه عامه العشرين من عمره قاصدا بلاد (عمان) لدراسة علوم الفقه ،
ثم ارتحل إلى (عسكر مكرم) حيث انتظم في حلقات الصّيمري المعتزلي ، المتوفى سنة ٣١٥
ه ، فكان السيرافي نابغة الحلقة وفارسها الذي يشار إليه بالبنان.
ونظرا لأن
بغداد ـ حاضرة حواضر الدنيا ـ كانت ذاخرة بالمعارف والعلوم
والعلماء ، فأحبّ أبو سعيد أن يسبح في موجات معارفها وعلومها ، إذ كانت
بغداد مطمح العلماء ومقصد المتعلمين وقبلتهم.
فوصل السيرافي
إلى بغداد لينهل من روافدها ، التي صنعت منه ـ فيما بعد ـ لغويّا عالما بأسرار
العربية ، فذاع صيته حتى أفاء الله عليه بوضع شرحه المستفيض لكتاب الكتب (الكتاب)
لإمام النحويين سيبويه ، الذي كان محور الدراسات اللغوية وعمدتها في بغداد ، ثم
طارت شهرة السيرافي وملأت الفضاء على رحابته ، فعرف كمدرس وقاض. ولكنهما ـ كمهنة ـ
لم يكفياه مؤنة العيش ، فقد كان زاهدا لا يعتاش إلا من كدّ يده ، فكان يعتمد على
مهنة النسخ حيث ينسخ في اليوم بعض وريقات تكفيه دراهمها المعدودات متطلبات الحياة
فحسب ، فقد كان يرى ـ وهو الزاهد ـ ضرورة التدريس بدون مقابل ، كما كان يرفض أجره
عن عمله كقاض ؛ لأن نشر العدالة ، ورد المظالم ، وإعادة الحقوق يجب أن تكون خالصة
لوجه الله تعالى ، هكذا كانت حياته وفلسفته ورسالته ، ولعلها كانت سمة من سمات
السلف ؛ لأن التاريخ العربي الإسلامي حافل بالأعلام الذين لم يتقاضوا أجرا مقابل
التدريس والقضاء ...!
شيوخه :
ـ أبو بكر محمد
بن السري ، المعروف ب (ابن السرّاج).
ـ أبو بكر محمد
بن علي ، المعروف ب (مبرمان).
ـ أبو بكر بن
دريد.
ـ أبو بكر بن
مجاهد (عالم القراءات).
ـ الصيمري
المعتزلي.
تلاميذه :
ـ إبراهيم بن
علي إسحاق الفارسي.
ـ أحمد بن بكر
العبدي.
ـ إسماعيل بن
حماد الجوهري. (ت ٣١٣ ه). صاحب معجم الصحاح.
ـ أبو البركات
محمد بن عبد الواحد الزبيدي الأندلسي.
ـ أبو حيان
التوحيدي. (ت ٤١٤ ه).
ـ الحسين بن
محمد بن جعفر. (ت ٣٨٨ ه).
ـ ابن خالويه ،
اللغوي. (ت ٣٧٠ ه).
ـ عبد الله بن
الرقاق. (ت ٣٨٧ ه).
ـ عبد الواحد
بن رزمه.
ـ عبيد الله بن
أحمد العراري. (ت ٣٨٢ ه).
ـ علي عبد الله
السمعي. (ت ٤١٥ ه).
ـ علي بن عبيد
بن الرقاق. (ت ٣٤٥ ه).
ـ علي بن عيسى
الربعي ، النحوي. (ت ٤٢٠ ه).
ـ علي بن محمد
بن عبد الرحيم بن دينار. (ت ٣٢٣ ه).
ـ محمد بن أحمد
بن عمر الحلال.
ـ محمد بن محمد
بن عباد. (ت ٣٣٤ ه).
ـ معز الدولة
ابن بويه.
مؤلفاته :
١ ـ شرح شواهد
سيبويه.
٢ ـ كتاب ألفات
الوصل والقطع.
٣ ـ كتاب أخبار
النحويين البصريين.
٤ ـ كتاب الوقف
والابتداء.
٥ ـ كتاب صنعة
الشعر والبلاغة.
٦ ـ الإقناع في
النحو.
٧ ـ شرح مقصورة
ابن دريد.
٨ ـ المدخل إلى
سيبويه.
بسم الله الرحمن
الرحيم
قال أبو سعيد :
قال سيبويه :
هذا باب «علم ما الكلم من العربية»
هذا موضوع
كتابه الذي نقله عنه أصحابه ، ويسأل في ذلك عن أشياء :
فأولها : أن
يقال : إلام أشار سيبويه بقوله : " هذا". والإشارة بها تقع إلى حاضر؟
فالجواب عن ذلك
أنه يحتمل ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون أشار إلى ما في نفسه من العلم ، وذلك حاضر
، كما يقول القائل : " قد نفعنا علمك هذا الذي تبثه ، وكلامك هذا الذي تتكلم
به". والثاني : أن يكون أشار إلى متوقّع قد عرف وانتظر وقوعه في أقرب الأوقات
إليه. فجعله كالكائن الحاضر تقريبا لأمره ، كقوله : " هذا الشتاء مقبل".
و" هذا الخليفة قادم" ، ومثله قول الله عزوجل : (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ).
والثالث : أن
يكون وضع كلمة الإشارة غير مشير بها ؛ ليشير بها عند الحاجة. والفراغ من المشار
إليه. كقولك : " هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب" وإنما
وضع ليشهدوا وما شهدوا بعد.
وأما"
علم" فمصدر ، إما أن يكون مصدر أن تعلم أو أن يعلم ، لأن المصادر العاملة عمل
الأفعال تقدر بأن الخفيفة والفعل بعدها.
فإذا
قدّر" علم" بأن تعلم ، كان الكلام على" ما" من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون استفهاما ، فإذا كانت كذلك كان لفظها رفعا ، لو تبين الإعراب فيه
، ويكون ارتفاعه بالابتداء ، ويكون" الكلم" خبره ، أو يكون"
الكلم" الابتداء ، و" ما" خبر مقدمة ، ويكون موضع الجملة التي هي
ابتداء وخبر نصبا ، ويكشف هذا المعنى لك أنك لو جعلت مكانها" أيّا"
لقلت" هذا باب علم أي شيء الكلم من العربية ، فترفع" أيّ" ويكون
موضعها مع الكلم نصبا ، لأنك أردت : هذا باب أن تعلم.
فإذا لم تكن
استفهاما قلت : هذا باب علم مسألتك ، وتبين الإعراب فيه ؛ لأنه ليس باستفهام يمتنع
عمل ما قبله فيه ، وإنما لم يعلم ما قبل" أيّ" و" ما"
والأسماء التي يستفهم بها فيها ، من قبل أن هذه الأسماء المستفهم بها نائبة عن ألف
الاستفهام ، متضمنة لمعناها ،
__________________
وليس بجائز أن يعمل ما قبل ألف الاستفهام فيما بعده ؛ لأن حرف الاستفهام
يقع صدر الكلام ، كما تقع" ما" النافية ، و" إنّ" المؤكدة ،
والحروف الداخلة على الجمل لها صدور الكلام.
والوجه الثاني
من وجوه" ما" أن تكون بمعنى" الذي" ويكون صلتها هو"
الكلم" و" هو" محذوفة ، وحذفها جائز ، كأنك قلت : هذا باب علم الذي
هو الكلم" من العربية" ، والدليل على جواز حذفها قول الله تعالى في
قراءة بعضهم (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يريد الذي هو أحسن. وكما قرأ بعضهم : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً
فَما فَوْقَها) أراد ما هو بعوضة وكما قرأ بعضهم : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ
أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أراد أيهم هو. بمعنى : الذي هو. وحكى"
الخليل" : " ما أنا بالذي قائل لك شيئا" أراد : بالذي
هو قائل لك شيئا.
والوجه الثالث
: أن تكون" ما" صلة ، ويكون دخولها كخروجها في تغيير إعراب غيرها ، إلا
أنها تؤكد المعنى الذي تدخل فيه ، فيكون اللفظ : هذا باب علم ، ما الكلم من
العربية.
وإذا كان"
علم" مصدر" أن يعلم" كان الكلام فيه كالكلام في" أن
تعلم" إلا في موضعين :
أحدهما :
موضع" ما" إذا جعلناه منصوبا هناك جعلناه مرفوعا هاهنا.
والوجه الثاني
: إذا جعلنا" ما" صلة هناك ، فنصبنا الكلم رفعناه هاهنا.
ويجوز
إضافة" علم" وترك التنوين منها ، و" ما" محتملة لوجوهها
الثلاثة ، فإذا كانت استفهاما ، كان لفظها رفعا على ما قلنا آنفا وموضعها بما
بعدها خفضا ، وإذا كانت بمعنى" الذي" كانت مخفوضة بالإضافة ، وصلتها على
ما وصفنا ، وإذا كانت صلة كان" الكلم" خفضا ، ولفظه : هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
__________________
وفي صحة
إضافة" علم" إلى" ما" ـ وهي استفهام ـ نظر ؛ لأنه يجوز أن
يفرق بين وقوع الخافض على الاستفهام ، وبين وقوع الناصب ، وذلك أن الناصب قد يعلّق
ويبطل عمله ؛ ألا ترى أنّا نقول : قد علمت" أزيد في الدار أم عمرو"
و" علمت أيهم في الدار" ، " وأتيت أيهم في الدار" ، ولا نقول
: " أنبئت بأيّهم في الدار ، وأنبئت أيهم في الدار".
ويجوز
تنوين" الباب" ؛ فإذا نوّن جاز في" العلم" الرفع والنصب ،
فإذا نصبت فعلى التمييز ، كأنك لما قلت : " هذا باب" احتمل أن يكون بابا
من العلم وغيره ، كما أنك إذا قلت : " أخذت عشرين" احتمل أن يكون من
الدراهم وغيرها ، فإذا ذكرت نوعا مما تحتمله نصبته ، كذلك إذا ذكرت نوعا مما
يحتمل" الباب" نصبته.
وإذا رفعته
ففيه ثلاثة أوجه مرضيّة :
أحدها : أن
يكون" هذا" مبتدأ ، و" باب" خبره ، و" علم" خبر
مبتدأ محذوف ، كأنك قلت : هذا باب ، هذا علم ، أو قلت : هذا باب هو علم ما الكلم.
والثاني : أن
يكون" باب" خبر" هذا" ، ويكون" علم" بدلا منه واقعا
موقعه ، كأنك قلت : هذا" علم" ما الكلم.
والثالث : أن
يكون" باب" و" علم" جميعا خبرين ل" هذا" كما تقول :
" هذا حلو حامض" تريد : قد جمع الطعمين ، ومثله قول الشاعر :
من يك ذا بت
فهذا بتي
|
|
مصيّف مقيّظ
مشتى
|
تخذته من
نعجات ست
|
|
سود جعاد من
نعاج الدست
|
ويجوز هذا بابا
علم ما الكلم ، فيكون" هذا" مبتدأ ، وبابا منصوبا على الحال ، والخبر
علم ، و" بابا" في معنى مبوّبا ، والعامل في نصبه ما في هذا من التنبيه
والإشارة ، كقول الشاعر :
أترضى بأنا
لم تجف دماؤنا
|
|
وهذا عروسا
باليمامة خالد
|
وأما"
الكلم" فقد يسأل السائل فيقول : لم لم يقل : الكلام ، أو الكلمات؟ لجواب أن
الكلام يقع على القليل والكثير ، والواحد والاثنين والجمع ، والكلم : جماعة كلمة ،
كما
__________________
تقول : خلفة وخلف وخربة وخرب ، وإنما أراد سيبويه أن يبين الاسم والفعل والحرف
، وهي جمع ، فأراد أن يعبر عنها بأشكل الألفاظ بها وأشبهها بحقيقتها ، ولم
يقل" الكلمات" ؛ لأنها جمع مثل الكلم. والكلم أخف منها في اللفظ ،
فاكتفى بالأخف عن الأثقل ، إذ لم يكن في أحدهما مزية على الآخر.
ووجه ثان : أن
الكلم اسم ذات الشيء ، والكلام اسم الفعل المصرّف من الكلم ، كما أن النعل
الملبوسة اسم ذات الملبوس ، والانتعال والتنعيل والإنعال ، وما أشبهه اسم الفعل
المصرّف منها ، والفعل قبل ما صرّف منها ، فكذلك الكلم قبلما يصرّف منها ، وأقدمها
في الرتبة اسم الذات ، فذكره دون اسم الحدث ، والمصدر الذي هو فرع ، ولو ذكر
الكلام ، ما كان معيبا ، ولكنه اختار الأفصح الأجود لمعناه الذي أراده.
وفي ذكرنا هذا
ونحوه ، والبحث عنه ، مما يدرّب به المتعلم ، وينشرح به صدر العالم.
وللسائل أن
يسأل فيقول : لم قال : " الكلم من العربية" ، والكلم أعمّ من العربية ،
لأنها تشملها والعجمية ، وبعض الشيء أقل من جمعه ، والذي يتصل بمن هو المبعّض لا
البعض ، وهو الكثير الذي يذكر منه القليل؟ قيل له : في ذلك جوابان :
أحدهما : أنه
ذكر" الكلم" التي هي شاملة على جميع موضع الكلام ، وأراد بعضها ، لأنه
رائز سائغ ذكر اللفظ العام وإرادة البعض ، ثم بيّن البعض المراد ، خشية اللبس ،
فكأنه لما قال : " ما الكلم" وهو مريد لبعضها خشي ألا يفهم المعنى الذي
هو مراده ، فقال : " من العربية" ، تبيينا لما أراد ، وتلخيصا لما قص! ،
لئلا يبقى للسائل مسألة ولا للطاعن متعلّقا ، ومثله قوله عزوجل : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) لما كان الرجس يقع على الأوثان وغيرها بين الذي أراد
بالنهي من ضروب الرجس.
والوجه الثاني
: أن يكون أراد بالكلم الاسم والفعل والحرف الذي جاء لمعنى ، وهو ما ضمنه هذا
الباب الذي ترجمه به ، وهذه الجملة هي اسم وفعل وحرف ، هن بعض العربية ؛ لأن العربية
جملة وتفصيل ، وليست هذه الجملة كل العربية ، والدليل على ذلك أنه ليس من أحاط
علما بحقيقة الاسم والفعل والحرف أحاط علما بالعربية كلها ، والدليل
__________________
على هذا التأويل الثاني من قول سيبويه قوله : " هذا باب علم ما الكلم
من العربية" ولم يقل : هذا كتاب علم،فقد أنبأك هذا عن صحة ما بينا ، فجملة
اللفظ في ترجمة هذا الباب :
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا باب علم ما
الكلم من العربية.
هذا بابا علم
ما الكلم من العربية
هذا بابا علم
ما الكلم من العربية
هذا بابا علم
ما الكلم من العربية
هذا بابا علم
ما الكلم من العربية
هذا بابا علم
ما الكلم من العربية
فذلك خمسة عشر
لفظا.
وأما إدخال
الفاء في "الكلم" فلوجهين : أحدهما أن يكون جوابا للتنبيه الذي في قوله
: "هذا" لأن التنبيه في معنى انظر وتنبه ، فكأنه قال : انظر ، فالكلم :
اسم وفعل وحرف.
والوجه الثاني
: أن كل جملة فهي مفيدة معنى ما ، وعلى ذلك موضوعها ، وقوله : "هذا باب علم ما الكلم" إلى آخر السطر ، جملة مفيدة معنى ، والجمل كلها
يجوز أن تكون أجوبتها بالفاء كقولك : "زيد أبوك فقم إليه" فكأن الفاء في
قوله : "فالكلم" جواب الفائدة التي في الترجمة ، ودخول الفاء هاهنا
كدخولها في الجواب من المجازاة وغيرها.
وإن سأل سائل
فقال : لم قال : وحرف جاء لمعنى ، وقد علمنا أن الأسماء والأفعال جئن لمعان؟
قيل له : إنما
أراد : وحرف جاء لمعنى ، في الاسم والفعل ، وذلك أن الحروف إنما تجيء للتأكيد ،
كقولك : " إن زيدا أخوك" ، وللنفي كقولك : " ما زيد أخاك"
و" لم يقم أبوك" ، وللعطف كقولنا : " قام زيد وعمرو" ولغير
ذلك من المعاني التي تحدث في الأسماء والأفعال ، وإنما تجيء الحروف مؤثرة في غيرها
بالنفي والإثبات ، والجمع والتفريق ، وغير ذلك من المعاني.
والأسماء
والأفعال معانيها في أنفسها ، قائمة صحيحة ، والدليل على ذلك أنه إذا قيل : ما
الإنسان؟ كان الجواب عن ذلك أن يقال : الذي يكون حيّا ناطقا كاتبا ، وإذا قيل ما
الفرس؟ قال : الذي يكون حيّا له أربع قوائم وصهيل ، وغير ذلك من الأوصاف ، التي
تخص المسمى.
وإذا قيل : ما
معنى" قام"؟ قيل : وقوع قيام في زمان ماض فعقل معناه في نفسه قبل أن
يتجاوز به إلى غيره ، وليس كذلك الحروف ؛ لأنه إذا قيل ما معنى" من"؟
كان الجواب :
أنه يبعّض بها
الجزء من الكل ، الجزء غير" من" وكذلك الكل ، ولم يعقل معنى تحتها غير
الجزء والكل ، فعلمنا أنها تؤثر في المعاني ، ولا يعقل معناها إلا بغيرها.
ووجه آخر ، وهو
أن قوله : وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل.
أي جاء لمعنى
ذلك المعنى ليس باسم ، أي : ليس بدال عليه الاسم ، " ولا فعل" أي : بدال
عليه الفعل.
وفيه جواب آخر
، وهو أن حروف المعاني ، لما كانت تدخل لتغيير معنى ما تدخل عليه ، أو إحداث معنى
لم يكن فيه ، فإذا انفردت لم تدل على ذلك ، صارت بمنزلة الياء والتاء والنون
والهمزة ، اللاتي يدللن على الاستقبال ، والألف التي تدخل في" ضارب"
زائدة على حروف" ضرب" وتدل على اسم الفاعل ، وحروف المضارعة ، وألف ضارب
وما يجري مجراه ـ كبعض حروف ما دخلن عليه ، لتغييرها معنى إلى معنى كتغيير حروف
المضارعة ، وألف" ضارب".
وأما"
الاسم" فإن سيبويه لم يحده بحد ينفصل به عن غيره ، وينماز من الفعل والحرف ،
وذكر منه مثالا اكتفى به عن غيره ، فقال : " الاسم رجل وفرس".
وإنما اختار
هذا ؛ لأنه أخف الأسماء الثلاثية ، وأخفها ما كان نكرة للجنس ، وهذا نحو" رجل
وفرس".
إن سأل سائل عن
حد الاسم ، فإن الجواب في ذلك أن يقال : كل شيء دل لفظه على معنى غير مقترن بزمان
محصّل ، من مضىّ أو غيره فهو اسم.
فهذا الحد الذي
لا يخرج منه اسم البتة ، ولا يدخل فيه غير اسم. وتوهم بعض الناس أن" مضرب
الشّول" ، وما جرى مجراه ، قد دل على الضّراب ، وعلى الزمان الذي يقع فيه ،
وأراد بذلك إفساد ما ذكرناه من حد الفعل بدلالته على الحدث والزمان ، وقد وهم فيما
توهم ؛ لأن الذي أردناه من الدلالة على الزمان ، هو ما يدل عليه الفعل بلفظه من
زمان ماض أو غير ماض ، كقولك : " قام ، ويقوم" و" مضرب" اسم
للزمان الذي يقع فيه الضّراب دون الضرّاب ، كقولنا : مشتى ومصيف ، وقولك : "
أتى مضرب الشول" ، و" انقضى مضرب الشول". كما يقال : جاء وقته ،
وذهب وقته. ولو كانت الأسماء المشتقة توجب ألا ينفرد المشتق له بالاسم إلا أن ينضم
إليه المعنى الذي اشتق منه اللفظ ، لكان الزاني يقتضي الرجل والزنى جميعا ، وكنا
إذا قلنا لعن الله الزاني فقد أدخلنا الزنى معه في اللعن ، وهذا بيّن الفساد.
وأما الفعل
فللسائل أن يسأل فيقول : لم لقّب هذا بالفعل وقد علمنا أن الأشياء كلها أفعال لله
تعالى ولخلقه :
فالجواب في ذلك
أن الفعل في حقيقته ما فعله فاعله فأحدثه ، وإنما لقّب النحويون أشياء من ألفاظهم
ليرتاض بها المتعلمون ويتناولوها من قرب ، وجعلوا لكل شيء مما خالف معناه معنى
غيره من الألفاظ التي يحتاجون إلى استعمالها كثيرا لقبا يرجع إليه : لئلا تتسع
عليهم الألفاظ ، فيدخل الشيء في غير بابه احتياطا ، فلقبوا بالفعل كل ما دل لفظه على
حدث مقترن بزمان ، ماض ، أو مستقبل ، أو مبهم في الاستقبال والحال ، لينماز مما
لقبوه بالاسم والحرف.
فقال
سيبويه : " وأما الفعل فأمثلة" :
وقصد إلى هذا
الجنس الذي ذكرناه ، وقوله : " أمثلة" أراد به : أبنية ؛ لأن أبنية
الأفعال مختلفة ، فمنها على" فعل" نحو" ضرب" ومنها على"
فعل" نحو" علم" و" فعل" نحو" ظرف" وغير ذلك من
الأبنية ، وهي تسعة عشر بناء لما سمّي فاعله ، ولا يعد فيها ما يلحق من الثلاثي
بالرباعي كبيطر وحوقل وسلقى ونحو ذلك ، وإنما بعد الثلاثة غير الملحقة ، والرباعية
يدخل فيها ما ألحق بها.
وقال
: " أخذت من لفظ أحداث الأسماء".
يعني أن هذه
الأبنية المختلفة أخذت من المصادر التي تحدثها الأسماء وإنما أراد بالأسماء أصحاب
الأسماء وهم الفاعلون. فإن سأل سائل ، فقال ما الدليل على أن الأفعال مأخوذة من
المصادر؟ قيل له في ذلك ثلاثة أوجه :
أولها : أن
الفعل دال على مصدر وزمان والمصدر يدل على نفسه فقط ، وقد علمنا أن المصدر أحد
الشيئين اللذين دل عليهما الفعل وقد صح في الترتيب أن الواحد قبل الاثنين ، فقد صح
أن المصدر قبل الفعل ؛ لأنه أحد الشيئين اللذين دل عليهما الفعل.
والوجه الثاني
: أن الفعل يصاغ بأمثلة مختلفة ، نحو" ضرب ويضرب واضرب" والمصدر في جميع
ذلك واحد فصار المصدر هو الذي يصاغ منه أمثلة الفعل المختلفة ؛ لأنه واحد يوجد
فيها كلّها ، ويبين ذلك أن الفضة والذهب وغيرهما ، مما يصاغ منه الصور الكثيرة
المختلفة أصل للصور لوجوده في كل واحد منها ، وكذلك المصدر أصل الأفعال ؛ لوجوده
في كل واحد من أمثلتها المختلفة.
والوجه الثالث
: أن الفعل أثقل من الاسم ، وهو فرع عليه ، من قبل أنه لا يقوم بنفسه ، والفرع لا
بد له من أصل يؤخذ منه ، يكون حكم ذلك الأصل أن يكون قائما بنفسه ، غير محتاج إلى
سواه ، فعلمنا بذلك أن الفعل فرع ، ولا أصل له غير المصدر.
فإن قال قائل :
إذا كان المصدر قد يعتل باعتلال الفعل ويصح بصحته ، فهلا دلكم ذلك على أن المصدر
فرع على الفعل الذي يعتل باعتلاله ويصح بصحته قيل له في ذلك جوابان : أحدهما : أن
الأصل قد يعتل باعتلال الفرع إذا كان كل واحد منهما يؤول إلى الآخر ، وينبئ كل واحد
منهما على صاحبه ؛ ليتسق ولا يختلف ؛ من ذلك أنا قد بنينا الفعل المضارع في فعل
المؤنث نحو" يضربن" وأشباه ذلك على" ضربن" ، وهو فرع ؛ لأن
المستقبل قبل الماضي. ومنه ما زعم" الفراء" ، الذي ينازعنا أصحابه ـ في
هذا الأصل ـ أن فعل الواحد الماضي فتح لانفتاح فعل الاثنين ، والواحد أصل الاثنين
، فحمل الأصل على الفرع.
والوجه الثاني
، أن أصل المصادر التي لا علة فيها ولا زيادة لا يجيء إلا صحيحا ، وهو"
فعل" نحو" ضربته ضربا" و" وعدته وعدا". وإنما يجيء معتلا
ما لحقته الزيادة ، وإنما الكلام في أصول المصادر ، لا في فروعها ، فتبين ذلك.
فإن قال قائل :
إذا كان الفعل يعمل في المصادر ، وحكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، فهلا
دلّكم ذلك على أن الفعل قبل المصدر؟
قيل له هذا
ساقط من وجهين : أحدهما : أنه لا فعل إلا وهو عامل في اسم ، ومع هذا فالأسماء قبل
الأفعال في الرتبة ، لقيامها بأنفسها ، واستغنائها عن الأفعال ، ولا يعمل اسم في
فعل ، فلو كان جنس عمل العامل في المعمول فيه في غير ترتيب عمله ، يوجب أن يكون
العامل قبل المعمول فيه ، لوجب أن تكون الأفعال قبل الأسماء ، ووجب من ذلك ما هو
أقبح من ذلك ، وهو أن تكون الحروف قبل الأسماء والأفعال ؛ لأنها تكون عاملة في
الأسماء والأفعال ، ولا يعملان فيها ، وهذا محال فاسد ؛ لأن الحروف جاءت لمعان في
الأسماء والأفعال ، ولا يقمن بأنفسهن.
والوجه الثاني
: أن قولنا : " ضربت ضربا" معناه أوقعت ضربا ، وفعلت ضربا كقولك :
" قتلت زيدا" أعني من جهة أنهما مفعولان.
وإن كان"
زيد" موجودا قبل قتلك إياه ، والضرب معدوما ، قبل إيقاعك إياه : إلا أنك
تعرفه وتقصد إليه وتأمر به ، فلما كان معناها أوقعت ضربا وقد كان الضرب معقولا
مقصودا إليه مذكورا ، يصح الأمر به ـ صح أنه ـ قبل إيقاعك معلوم ، فإذا صح ذلك فهو
الفعل.
فإن قال قائل :
إذا قلنا : " ضربت زيدا ضربا" فالمصدر تأكيد للفعل ، وإذا كان تأكيدا له
فهو بعده ، وما كان بعد الشيء فالأول أصل له ، إذ كان الثاني متعلقا به.
قيل له : قد
قلنا إن معنى ضربت ضربا أوقعت ضربا. وليس في ذلك دليل على أن الفعل قبل الاسم ،
كما لم يكن في قولك" ضربت زيدا" ما يدل على أن زيدا بعد"
ضربت" وكذلك الأسماء كلها.
ومما يدل على
صحة قولنا في المصدر ، اجتماع النحويين على تلقيبه مصدرا ، والمصدر المفهوم في
اللغة هو الموضع الذي يصدر عنه كقولهم : " مصدر الإبل وموردها" وللموضع
الذي تصدر عنه وترده ، فعقلنا بذلك أن الفعل قد صدر عن المصدر ، حين استوجب بذلك ،
أن يسمى مصدرا ، كما وصفنا في المصدر وبالله التوفيق.
وأما
قوله : " وبنيت لما مضى ، ولما يكون ولم يقع ، ولما هو كائن لم ينقطع".
اعلم أن"
سيبويه" ومن نحا نحوه يقسم الفعل على ثلاثة أزمنة : ماض ومستقبل
وكائن في وقت النطق وهو الزمان الذي يقال عليه الآن الفاصل بين ما مضى
ويمضي.
وأما الماضي
فإنه يختص مثالا واحدا والحال والمستقبل الذي ليس بأمر يختصان بناء واحدا ، إلا أن
يدخل عليه حرف يخلص له الاستقبال وهو سوف والسين وأن الخفيفة.
إن طعن طاعن في
هذا فقال : أخبرونا عن الحال الكائن ، أوقع وكان ، فيكون موجودا في حيز ما يقال
عليه : كان ، أم لم يوجد بعد فيكون في حيز ما يقال عليه : " لم يكن"؟
فإن قلتم : هو في حيز ما يقال عليه : لم يكن ، فهو مستقبل ، وإن كان قد وقع ووجد
فهو في حيز الماضي ، ولا سبيل إلى ثالث ، فدلوا على صحة هذا.
فالجواب في ذلك
ـ وبالله التوفيق ـ أن الماضي هو الذي أتى عليه زمانان : أحدهما : الزمان الذي قد
وجد فيه ، وزمان ثان يخبر أنه قد وجد وحدث وكان ، ونحو ذلك ، فالزمان الذي يقال :
وجد الفعل فيه وحدث غير زمان وجوده ، فكل فعل صح الإخبار عن حدوثه في زمان بعد
زمان حدوثه فهو فعل ماض ، والفعل المستقبل هو الذي يحدّث عن وجوده ، في زمان لم
يكن فيه ولا قبله.
فقد تحصل لنا
الماضي والمستقبل ، وبقى قسم ثالث ، وهو الفعل الذي يكون زمان الإخبار عن وجوده هو
زمان وجوده ، وهو الذي قال سيبويه : " وما هو كائن لم ينقطع".
فإن سأل سائل
فقال : أي الأفعال أقدم في الرتبة؟ فإن لأصحابه في ذلك قولين ، أحدهما : إن
المستقبل أول الأفعال ، ثم الحال ، ثم الماضي ، وهذا شيء كان يذهب إليه الزجاج وغيره ، والحجة فيه أن الأفعال المستقبلة تقع بها
العدات ، ثم توجد بعد تقدم الميعاد وانتظار الموعود ، فيكون حالا ، ثم يأتي عليه
غير زمان وجوده ، فيكون ماضيا.
والقول الثاني
: إن الحال هو أول الأفعال ، ويكون الأقرب إليه في الترتيب المستقبل ، وتاليه
الماضي. والحجة في ذلك أن الميعاد بما يستقبل لا يصح إلا بما عرف وشوهد ، حتى
يتصوره الموعود ، ويكون على ثقة مما وعد ، وإلا فليس وراء العدة معنى يرغب فيه ولا
يرهب منه ؛ لأن القلب لا يتعلق منه برغبة ولا رهبة ، ويكون المستقبل أقرب إلى
الحال ، من قبل أن المستقبل يجوز مصيره إلى الحال الذي هو أول ، والماضي قد بعد ،
حتى
__________________
لا يجوز مساواته الحال في شيء من الأزمنة.
فإن قال قائل :
فلم يخصّ الماضي ببناء واحد ، لا يشركه فيه غيره ، وشورك بين الحال والمستقبل فجعل
اللفظ الواحد لفعلين في زمانين؟
فإن الجواب في
ذلك : أن الأفعال التي في أوائلها الزوائد الأربع ، لما شابهت الأسماء وضارعتها في
أشياء ، شبّهن من بعد بالأسماء وصرفت تصريف الاسم ، فجعل اللفظ الواحد لأكثر من
معنى ، كما أن اللفظ الواحد في الاسم لأكثر من معنى ، فمن ذلك أن"
العين" عين الإنسان ، وعين الركبة ، وعين القبلة ، وعين الميزان ، وعين من
عيون الماء وغير ذلك ، " والرّجل" رجل الإنسان والرّجل القطعة من الجراد
، وأشياء غير ذلك كثيرة من هذا النحو ، فجعل ما ضارع من الأفعال الأسماء مضارعة
تامة في اللفظ لزمانين.
فإن قال قائل :
فهلا كان أحد الزمانين الماضي؟
فالجواب في ذلك
: أن أول الأفعال يكون إما أن يكون المستقبل وإما أن يكون الحال ، على القولين
اللذين ذكرنا ، فلا بد أن يكون أحد هذين اللفظين اللفظ الذي في أوله الزوائد
الأربع ، ويكون الآخر أقرب الباقين منه ، وكل واحد من المستقبل والحال أقرب إلى
صاحبه من الماضي إليه فاعرفه إن شاء الله.
وأما
قول سيبويه : " وأما ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل". فإن جملة الحروف تجيء لمعان أنا أذكرها.
فأولها :
للإشراك بين اسمين أو فعلين ، وذلك حروف العطف التي تدخل الثاني في إعراب لفظ
الأول ومعناه ، وهي الواو ، والفاء ، وثم ، وغيرها ، كقولك : " قام زيد
وعمرو" و" انطلق بكر فخالد" ، و" لقيت أخاك ثم أباك".
والثاني : أن
تكون لتعيين اسم أو فعل ، فأما تعيين الاسم فبالألف واللام ، كقولك : الرجل
والغلام ، وأما تعيين الفعل ، فبالسين وسوف ، وتكون لنفي الاسم والفعل هو : "
ما ، ولا ، ولن ، ولم ، وما أجري مجراهن ، تقول : ما زيد أخاك ، ولا يقوم عبد الله
، ولم يقم عمرو ، ولن يذهب أخوك.
وتجيء لتأكيد
الاسم والفعل ، فأما تأكيد الاسم ، فنحو" إن زيدا أخوك". وأما تأكيد
الفعل فلتقومنّ ، ولأنطلقن وتدخل لربط الاسم بالفعل ، وإيصال الفعل إلى الاسم ،
كقولك : " مررت بزيد" وقمت إلى أخيك.
وتدخل لإخراج
الكلام عن الواجب إلى غيره ، مثل حروف الاستفهام كقولك : هل زيد قائم؟
وتدخل أيضا
لعقد الجملة بالجملة كقولك : " إن يقم أقم" فإن" يقم" جملة ،
" وأقم" جملة ، وانعقدت إحداهما بالأخرى بدخول حرف الشرط.
وما لم نذكره
فهو يجري مجراه.
هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية
أما
قوله : " مجاري" فإنما أراد به الحركات ، حركات أواخر الكلم ، والدليل
على ذلك قوله : "
وهي تجري على ثمانية مجار على النصب والرفع".
فأبدل"
النصب والرفع" وما بعدهما من" ثمانية" ، والبدل هو المبدل منه في
هذا الموضع ، وأبدل بإعادة العامل ، كما قال الله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) فأبدل من" الذين" وأعاد اللام.
وقوله
: " وهي" كناية عن أواخر الكلم ، كأنه قال : باب حركات أواخر الكلم ، وأواخر الكلم
تجري على ثماني حركات.
فإن قال قائل :
فلم سمى الحركات" مجاري" ، وهنّ يجرين ، والمجاري يجرى فيهن؟ ففي ذلك
جوابان :
أحدهما : أن
الحركات ـ لما كانت أواخر الكلم قد تنتقل من بعضها إلى بعض ، كما تنتقل الحركة من
حرف إلى حرف ـ جاز أن يسمّي الحركات مجاري ، من حيث تنتقل فيهن أواخر الكلم ، وجعل
كل واحدة منهن" مجرى" ، ثم جمعها على" مجار".
والوجه الثاني
: أن يكون" مجرى" في معنى جرى ، وهو مصدر ، والمصادر قد يلحق أوائلها
الميم ، كما يقول : " مضرب" في معنى الضرب و" مفر" في معنى
الفرار ، فكأن واحد المجاري في هذا الوجه" مجرى" في معنى"
جري".
فإن قال قائل :
فلم جمع ، والمصادر لا تجمع؟ قيل له : قد تجمع المصادر إذا كانت مختلفة أو ذهب بها
مذهب الخلاف ، وقال الله عزوجل : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا) أراد :
__________________
ظنونا مختلفة ، ويقال : العلوم والأفهام ، في أشباه لذلك كثيرة ، فجعل جري
كل واحدة من الحركات خلاف جري صواحبها ؛ لأن جريها ليس شيئا أكثر منها ، وهي
مختلفات في ذواتها ، فكأنه قال : هذا باب جري أواخر الكلم وهي تعني أواخر الكلم
تجري على ثمانية أنحاء من الجري ، ثم بين ذلك بما بعده.
فإن قال قائل :
فقد يروى عن المازني أنه غلّط سيبويه في قوله : " على ثمانية
مجار" ، وزعم أن المبنيات حركات أواخرها كحركات أوائلها ؛ وإنما الجري لما
يكون مرة في شيء يزول عنه ، والمبني لا يزول عن بنائه ، وكان ينبغي أن يقول : على
أربعة مجار على الرفع والنصب والجر والجزم ، ويدع ما سواهن.
فالجواب في ذلك
ـ وبالله التوفيق ـ أن أواخر الكلم لا يوقف على حركاتهن ، وإنما تلزمهن الحركات في
الدّرج ، وليس كذا صدور الكلام وأوساطها فجاز أن تصنف حركات أواخر الكلم من الجري
بما لا تصنف به أوائلها وأوساطها ؛ لأن حركات الأوائل والأوساط لوازم في الأحوال
كلها.
ووجه ثان : أن
أواخر الكلم هن مواضع التغير ، فيجوز إطلاق لفظ المجاري عليهن ، وإن كان بعض
حركاتهن لازما في حال ، ومثل ذلك تسمية" سيبويه" لأواخر الكلم
عامة" حروف الإعراب". وقد علمت أن المبنيات لا يعربن ، وإنما سماهن حروف
الإعراب لأن الإعراب يكون فيهن إذا أجريت الكلمة.
وقوله
: " وإنما ذكرت لك ثمانية مجار ، لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة ،
لما يحدث فيه العامل ، وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه ، وبين ما بني عليه الحرف
بناء لا يزول" إلى آخر الفصل.
قال أبو سعيد :
اعلم أن سيبويه لقّب الحركات والسكون هذه الألقاب الثمانية ـ وإن كانت في الصورة
أربعا ـ ليفرق بين المبني الذي لا يزول ، وبين المعرب الذي يزول ـ وإنما أراد
بالمخالفة بين تلقيب ما يزول وما لا يزول إبانة الفرق بينهما ؛ لأن في ذلك فائدة
جسيمة تقريبا وإيجازا ، لأنه متى قال : هذا الاسم مرفوع ، أو منصوب ، أو
__________________
مخفوض ، علم بهذا اللفظ أن عاملا عمل فيه يجوز زواله ، ودخول عامل آخر يحدث
خلاف عمله ، فيكتفي" بمرفوع" عن أن تقول هذه ضمة تزول ، أو تقول : عمل
فيه عامل فرفعه ، ففي هذا حكمة وإيجاز فاعرفه ؛ فإن كثيرا من النحويين الكوفيين
يخالفونه ، ويسمون الضمة اللازمة رفعا ، وقد عرفتك وجه الحكمة في تسمية هذا رفعا.
وقال جماعة من
النحويين : غلط سيبويه في قوله "
وإنما ذكرت لك ثمانية مجار ؛ لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة" ، قالوا : من قبل أن ما يدخله ضرب من هذه الأربعة هو
حرف ، لأن هذه الأربعة أراد بها الحركات والسكون ، وما يدخله ضرب منها حرف ، لأن
الحركات لا تدخل إلا على الحروف ، ثم قال : " وبين ما بني عليه الحرف بناء لا
يزول". والذي بني عليه الحرف هو الحركة ، فكأنه في التمثيل قال : لا فرق بين
الحرف والحركة ، وهذا بعيد جدّا ؛ لأن الفرق واقع بين الحروف والحركات بلا لبس ولا
شبهة ، ولا يشك في الفرق بينهن أحد ، ولا يلتبس عليه ، إنما الوجه أن يفرق بين
الحركة والحركة ، ألا ترى أن قائلا لو قال ، لا فرق بين جسم زيد وحركة عمرو ، لكان
واضعا للفرق في غير موضع الحاجة إليه ، وإنما يفرق بين زيد وعمرو أو بين حركة زيد
وحركة عمرو.
فالجواب في ذلك
: أن" سيبويه" إنما أراد : لأفرق بين إعراب ما يدخله ضرب هذه الأربعة
وبين الحركة التي يبنى عليها الحرف بناء لا يزول ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه
مقامه كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيها). وتصحيح اللفظ فإنما ذكرت لك ثمانية مجار ، يعني :
النصب والجر والرفع والجزم والفتح والضم والكسر والوقف ، لأفرق بين حركات ما يدخله
ضرب من هذه الضروب الأربعة : يعني بين حركة ما يدخله رفع أو نصب أو جرّ أو جزم ،
فكأنه قال : لأفرق بين المرفوع والمنصوب والمخفوض والمجزوم ، وهو ما يتغير من
الكلم بالعوامل التي تثبت مرة وتزول مرة أخرى ، وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول
، يعني صيغت عليه الكلمة صياغة لا يزيلها شيء من العوامل المختلفة ، نحو :
فتحة" أين" ، وضمة" حيث" ، وكسرة" هؤلاء"
ووقف" من" فاعرف ذلك ، إن شاء الله.
__________________
قال
سيبويه" فالنصب والرفع والجزم والجر لحروف الإعراب" إن سأل سائل فقال : ما حروف الإعراب؟ فإن مذهب سيبويه
يحتمل وجهين :
أحدهما : أن
حروف الإعراب ما كان الإعراب فيه ظاهرا أو مقدرا ، فالظاهر كقولك : الرجل ، والفرس
، والغلام ، والمقدر نحو قولنا : هذه الرحى والعصا ، ورأيت الرحى والعصا.
والوجه الآخر :
أن حروف الإعراب هي أواخر الكلم ، معربة كانت أم غير معربة ، وإنما سميت حروف
الإعراب لأن الإعراب متى كان لم يوجد إلا فيها ، ومثال هذا قولنا : الحروف الزوائد
عشرة يجمعها (اليوم تنساه) ، والزوائد ما زيد على أصل الكلمة في موضعها مثل قولنا
: " كوثر" للرجل الكثير العطية ، الواو زائدة لأنه من الكثرة ، وليس في
الكثرة واو بعد الكاف ، و" ضارب" الألف زائدة لأنه مشتق من الضرب ، وقد
تكون هذه الحروف أصولا غير زائدة ، وإنما يراد أن الزوائد منها تكون دون غيرها ،
فسميت الحروف الزوائد وإن لم تكن زوائد على كل حال ، وكذلك سميت أواخر الكلم حروف
الإعراب وإن لم تكن معربة على كل حال ، لأن الإعراب يكون فيها دون غيرها ، ومثل
ذلك حروف المد واللين ، وهي الواو والياء والألف ، وقد يكون بعض هذه الحروف في
مواضع لغير المد واللين. وإنما سميت حروف المد واللين ؛ لأن المد فيها دون غيرها ،
وإنما المد لازم في الألف منها وشرط المد في الواو والياء اللتين للمد أن يكونا
ساكنين ، وقبل الواو ضمة وقبل الياء كسرة ، مثل" كافور" و"
قنديل". والواو والباء إذا حركتا فليستا للمد ، كقولك غزو وظبي ووحوحته ويهيّرى . وكذلك الكلام في حروف البدل وما جانس ذلك.
فإن قال قائل :
فإذا كانت حروف الإعراب هي ما ذكرتم ، فلم قال سيبويه : فالرفع والنصب والجر
والجزم لحروف الإعراب ، وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة ، كيف
خص ذلك من جملة الكلم ، وقد زعمتم أن حروف الإعراب للكلم كلها معربها ومبنيها؟ قيل
: قد يحتمل ذلك الوجهين اللذين ذكرناهما ، فإن حمل الكلام على
__________________
الوجه الأول ـ وهو أقواهما ـ كان ذلك على أن حروف الإعراب ما كان فيه إعراب
لفظا أو مقدرا ، والمقدر ما كان مستحقا للإعراب ومنه من اللفظ به استثقال اللفظ به
، أو تعذره ، فالاستثقال نحو : القاضي ، ومررت بالقاضي ، والتعذر نحو : العصا ،
والرحى ، لأنه يستثقل الضم والكسر في القاضي وتتعذر الحركة في ألف عصا ورحى.
وإن حمل كلامه
على الوجه الثاني ، احتمل ذلك معنيين :
أحدهما : أن
يكون سيبويه أراد بقوله : " لحروف الإعراب" : لإعراب حروف الإعراب ،
فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وقوله : وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة
أراد : وإعراب حروف الإعراب للأسماء المتمكنة.
والوجه الثاني
: أن يكون أراد بقوله : فالرفع والنصب والجر والجزم لحروف الإعراب أي لحروف
الإعراب التي فيها الإعراب ، ويكون اللفظ عاما والمراد به البعض ، كما تقول الناس
بنو تميم وأنت تريد بعضهم مجازا واتساعا.
وقوله
: " وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة".
إن سأل سائل
فقال : ما الأسماء المتمكنة؟ قيل له : كل اسم مستحق للإعراب فهو متمكن ، ثم ينقسم
قسمين : قسم مستوف للتمكن كله ، وهو ما تعتقب عليه الحركات الثلاث : الضم ، والفتح
، والكسر ، ويدخله التنوين ، وقسم ناقص عن هذا وهو ما منع التنوين والخفض فلم
يعتقب عليه إلا الرفع والنصب.
وكان بعض
أصحابنا يسمي الاسم المستوفي للحركات الثلاث ، الاسم الأمكن ، فيخصه بذلك ، ويجعل
كل ما استحق الإعراب متمكنا.
وقوله
: " والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين التي في أوائلها الزوائد الأربع : الهمزة
والتاء والنون والياء : مثل أفعل ، وتفعل ، ونفعل ، ويفعل".
والألف التي
في" أفعل" هي في الحقيقة همزة ؛ لأن الألف لا تكون متحركة في حال ،
وإنما سمى النحويين الهمزة ألفا لأنها تصور صورة الألف في الخط إذا كانت أوله ،
والهمزة لا صورة لها ، وإنما تصور بصورة غيرها.
فإن سأل سائل
فقال : كيف صارت هذه الحروف أولى بالأفعال المضارعة من غيرها؟
قيل له : أولى
الحروف بالزيادة في أوائل هذه الأفعال حروف المد واللين ، وهي
الحروف المأخوذة منها الحركات : الواو ، والياء والألف ، فأما الألف فلا
سبيل إلى جعلها أولا ، من قبل أنها لا تكون إلا ساكنة ، والأول لا يكون ساكنا ؛
فجعل مكانها أقرب الحروف منها ، وهي الهمزة ، فاجتمع فيها ـ أعني الهمزة ـ قربها
من الألف ، وكثرة وقوعها زائدة أولا ، فكانت أولى الحروف بالوضع مكان الألف.
وأما الواو
فإنها لا تقع زائدة أولا في حكم التصريف ، فأبدل منها حرف يبدل من الواو كثيرا ،
وهو التاء ، ومواضع بدلها من الواو كثير ، منها قولهم : " تخمة" وهي من
الوخامة وتهمة ، وتقي ، وتراث ، واتعد ، إذا أردت" افتعل" من الوعد ،
وقولهم : " تالله" مكان" والله".
واحتاجوا بعد
هذه الحروف إلى حرف رابع ، فكان أقرب الحروف من حروف المد واللين"
النون" ؛ وذلك أنها غنة في الخيشوم تجري فيه كما تجري حروف المد واللين في
مواضعها ، وتكون إعرابا في قولك : تفعلان ، ويفعلون ، وتفعلين ، تكون لضمير جماعة
المؤنث في قولك : " قعدن" في مكان" قعدوا" ، و"
قمن" في مكان" قاموا" ، وتبدل منها الألف في الوقف ، في قولك :
" رأيت زيدا" فجعلوا النون هو الحرف الرابع والله أعلم.
قال
: " وليس في الأسماء جزم ؛ لتمكنها ، وإلحاق التنوين بها فإذا ذهب التنوين لم
يجمعوا عليه ذهابه ، وذهاب الحركة".
إن سأل سائل
فقال : لم دخل التنوين الاسم؟ قيل له من قبل أن الأسماء على ثلاثة أقسام : منها أن
تكون على خفتها غير داخل عليها ما ينقلها إلى شبه الفعل ، ومنها ما يشبه الأفعال ،
ومنها ما يشبه الحروف ، فوجب أن ترتب على هذه المراتب الثلاث ، فنون أخفها ليكون
حذف التنوين علامة لما يشبه الفعل عندهم ، وحذف الحركة والتنوين ، ولزوم طريقة
واحدة علامة لما يشبه الحرف. وسنبين كل ما يشبه الحرف في موضعه إن شاء الله.
فإن قال قائل :
فهلا اقتصروا على الإعراب في الاسم الأخف وسكنوا ما يشبه الفعل؟ قيل له : لو فعلوا
ذلك لم يكن فرق بين ما يشبه الفعل أو بين ما يشبه الحرف.
فإن قال قائل :
فكيف صارت النون أولى بذلك من سائر الحروف؟ قيل له : لأن النون غنه في الخيشوم ،
وهي أقرب الحروف وأشبهها بحروف المد واللين.
فإن قال : فلم
لم يدخل الجزم الاسم؟ فإن الذي قال" سيبويه" في ذلك : أنه لو دخل
الجزم الاسم لأبطل الحركة ، وإذا أبطل الحركة زال بدخوله التنوين الذي هو
لاحق بالاسم.
فإن قال : فهلا
حذفوا بدخول الجزم التنوين دون الحركة ، لأنه أول ما يصادف فحذف ، إن صادف حركة
حذفها ، وإن صادف حرفا ساكنا حذفه؟ قيل له : يمنع من هذا شيئان :
أحدهما : أن
التنوين لو حذفه الجزم لالتبس ما ينصرف بما لا ينصرف.
والوجه الثاني
: أن التنوين شيء يصحب الحركات كلها ، والعوامل إنما تغير الحركات التي يختلف بها
الكلم ، والدليل على ذلك أنك تقول : " رأيت زيدا" و" مررت بزيد""
وهذا زيد" ، فالتنوين موجود في الأحوال كلها.
واختلفت
الحركات باختلاف العوامل ، فلو جاز دخول الجزم على الاسم لكان لا بد من تأثير في
الاسم بإزالة الحركة التي تختلف باختلاف العوامل ، ولا يؤثر فيما لا يختلف باختلاف
العوامل ، وهو التنوين.
فإن قال قائل
في العلة الأولى : فهلا أذهب الجزم التنوين في المنصرف وحذف الحركة مما لا ينصرف؟
قيل له : لأنه لو فعل ذلك لكان الاسم الذي لا ينصرف في حال دخول الجزم عليه مشبها
للمبنى.
فإن قال قائل :
فقد رأينا الفعل المجزوم يشبه في الصورة الفعل المبني على السكون وهو فعل الأمر ـ فإذا
جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يدخل الجزم في الأسماء المعربة ، فيستوي لفظها ولفظ
الأسماء المبنية ، كما استوى لفظ الأفعال المجزومة ، والمبنية على السكون؟
قيل له :
بينهما فرق ظاهر واضح ، وذلك أن الموضع الذي ينجزم فيه الفعل لا يقع فيه الفعل
المبني ، والفعل المبني لا يقع في الموضع الذي ينجزم فيه الفعل فإذا كان كل واحد
منهما لا يقع في موضع صاحبه لم يضر تشابه لفظيهما ، والأسماء المبنية تقع مواقع
الأسماء المعربة ، فمتى تشابه لفظاهما اختلطا والتبسا.
فإن قال قائل :
فهلا حذفتم الحركة وحدها ، بدخول الجزم ، وبقيتم التنوين ، ثم حركتم الحرف المجزوم
، لالتقاء الساكنين؟
قيل له : هذا
يفسد من وجهين :
أحدهما : أن
التنوين فرع ، وإنما أتى به لقوة المتحرك ومزيته على غيره ، فإذا دخل
ما يحذف الحركة ويزيلها ، كان أولى بحذف التنوين. والوجه الثاني : أنا لو
حذفنا الحركة ثم حركنا ، لالتقاء الساكنين لعاد لفظه إلى لفظ غير المجزوم فلم يصح
الجزم فيه ؛ لأنه لا يسلم سكونه ، لما يوجبه التنوين من الحركة إذا سكنا ، ولم نكن
لندخل عاملا على اسم فيحدث فيه ما لا يسلم له أبدا.
فإن قال قائل :
أليس المجزوم قد يتحرك لالتقاء الساكنين إذا قلت : " لم يقم الرجل"؟ قيل
له : بلى ، وليست هذه الحركة بموجودة في كل حال ، وإنما هي عارضة توجد فيه إذا
وليه ما فيه الألف واللام ، أو ساكن غير ذلك ، ولو فصلت بينهما سلم الجزم ، ولم
يضطر إلى تحريكه.
والتنوين لازم
للاسم في أوليته ، فلو دخل الجازم وحذف الحركة لم يسلم السكون ؛ لما يوجبه التنوين
من الحركة فلم يصح دخوله ؛ لأنه لا يصح تأثيره في أولية الأسماء.
واحتج بعض
أصحابنا ، وحكى عن" المازني" أنه قال : لم يدخل الأسماء الجزم ؛ لأنه لا
يكون إلا بعوامل ، يمتنع دخولها على الأسماء من جهة المعنى ، نحو : "
لم" و" لما" و" إن" للمجاز وما جرى مجراهن فاعرف ذلك إن
شاء الله.
قال
سيبويه : " والنصب في المضارع من الأفعال" لن يفعل" ، والرفع"
سيفعل" ، والجزم" لم يفعل" وليس في الأفعال المضارعة جر ، كما أنه
ليس في الأسماء جزم لأن المجرور داخل في المضاف إليه معاقب للتنوين ، وليس ذلك في
هذه الأفعال".
قال أبو سعيد :
قد اشتمل هذا الفصل على أشياء محتاجة إلى تفسير وتعليل ، فنبدأ منها بشرح إعراب
الأفعال المضارعة ، وبالله التوفيق.
اعلم أن
الأفعال كلها حكمها التسكين ووقف الأواخر ، من قبل أن العلة التي من أجلها وجب
إعراب الأسماء غير موجودة فيها ؛ لأن العلة في إعراب الأسماء هي الفصل بين فاعليها
ومفعوليها الذين يجوز أن يكونوا فاعلين ولغير ذلك من الفصول لا توجد في الأفعال
إلا أن الأفعال ، تنقسم ثلاثة أقسام :
منها : الفعل
المضارع الذي قصدنا إلى إبانة علة إعرابه وقد شابه الأسماء من جهات :
منها أنك إذ
قلت : " زيد يقوم" فهذا يصلح لأحد زمانين مبهما فيهما ، كما أنك إذا قلت
: " رأيت رجلا" فهو لواحد من هذا الجنس مبهما فيهم غير متحصل على معين ،
ثم
يدخل على الفعل المضارع المبهم في الزمانين ما يقصره على أحدهما ويخلصه له
كقولك : " زيد سيقوم" و" سوف يقوم" كما أنك إذا أدخلت على
الواحد المبهم في جنسه من الأسماء الألف واللام قصراه على واحد بعينه واشتبها
بوقوعهما أولا مبهمين وتعينهما بحروف تبينهما.
ووجه ثان من
المضارعة : وهو أن الفعل المضارع إذا وقع خبرا صلح دخول اللام عليه كقولك" إن
زيدا ليذهب" كما صلح دخول اللام على الاسم إذا قلت : " إن زيدا
لذاهب". فإذا كان الخبر فعلا ماضيا امتنع ذلك فيه ، لا تقول" إن زيدا
لذهب" فلما اشترك الاسم والفعل المضارع في دخول اللام في هذا الموضع وامتنع
دخولها على غيره من الأفعال ، علمنا أن بين الفعل المضارع والاسم ملابسة غير
موجودة لسائر الأفعال.
ووجه ثالث : وهو
أن الفعل توصف به النكرات كقولك : " مررت برجل يقوم" ويكون خبرا كقولك :
" إن زيدا يقوم" و" كان زيد ينطلق" كما يكون ذلك في الاسم إذا
قلت : " مررت برجل قائم"" كان زيد منطلقا" فلما وقع موقعه صار
مثله في هذا الوجه.
فاجتمع للفعل
المضارع مشابهة الاسم من هذه الوجوه التي ذكرناها دون غيره من الأفعال ففضل على
سائر الأفعال ، بأن أعرب ، لما بان به من هذه المشاركة للاسم واختص به دون نظائره.
هذه ثلاثة أوجه
من المضارعة ، وبقى وجهان : المساواة في العدة والرتبة ، وأن ألف الوصل لا تدخل
على المضارع كما دخلت على الماضي والأمر.
فإن قال قائل :
كيف صار الفعل أولى بالإعراب لمشاركة الأسماء المعربة دون أن تبنى الأسماء التي
حقها أن تعرب لمشاركة الأفعال المبنية؟ فإن الجواب في ذلك : أن الأفعال إنما شاركت
الأسماء في معان هي للأسماء دونها ؛ لأن الأصل في الصفات والأخبار إذا قلت :
" مررت برجل يقوم" و" إن زيدا لا يقوم" ، هو الاسم ، والأفعال
داخلة عليه ، فلما شابهت الأفعال الأسماء فيما للأسماء دونها ، أعطيت ما للأسماء
ولم تعط الأسماء ما للأفعال. ووجه آخر : وهو أنا لو بنينا الأسماء على السكون ،
لمضارعة الأفعال بطل الإعراب الذي يضطرنا إليه الفصل بين المعاني في الأسماء.
فإن قال قائل :
فإذا أعطيتم الأفعال الإعراب لمضارعتها الأسماء ، فلم أعربتموها في المواضع التي
لا تقع الأسماء فيها ، إذا قلتم : " لن يقوم"" ولم يذهب" ،
وغير ذلك من
المواضع التي لا يحسن وقوع الأسماء فيها؟ فإن الجواب في ذلك : أن عوامل
الأفعال في كل موضع مخالفة لعوامل الأسماء في المواضع كلها ، فإذا وجب إعراب
الأفعال ، فليس يجوز أن تعربها بما أعربنا به الاسم ، وإذا كان ذلك كذلك ، فلا بد
من عوامل لها ، لا تقع الأسماء بعدها.
ووجه ثان : أن
الفعل المضارع قد شابه الاسم بالزوائد التي في أوله ، فاستحق بذلك أن يكون معربا ،
وأين وجد على هذه الصورة وبهذه الصيغة استحق الإعراب ، للزوائد في أوله ، وليس
الزائد هو الذي أعربه ، ولكن هو الذي سوغ أن يدخل عليه العوامل فتعربه ، ونظير هذا
أنا نقول : إن ما لا ينصرف إذا دخل عليه الألف واللام ، أو أضيف ، حرك بالحركات
الثلاث ، فليس الألف واللام والإضافة هن اللاتي حركنه ، ولكنهن سوغن دخول الحركات
الثلاث عليه ، وهيأنه لذلك.
فإن قيل : فهلا
أعطيتم الفعل جميع ما للاسم ، من الرفع والنصب والجر ، والتنوين ، لمضارعته الاسم
، كما أعطيتم الأسماء المبنية ، لمضارعة الحروف ـ السكون الذي للحرف ـ نحو"
من" و" كم" وأشباه ذلك؟ فإن الجواب في ذلك : أن الحروف هي ساكنة
فقط ، والسكون هو وجه واحد ، فإذا ضارعها اسم ، أعطى بحق المضارعة شيئا هو في
الحروف ، وليس فيه إلا السكون ، فسكن فقط ، والأسماء فيها ثلاث حركات وتنوين ،
فإذا ضارعها الفعل أعطى بحق المضارعة بعض ما في الاسم ، ولم يبلغ من قوته ، وهو
فرع على الاسم ، ومشبه به أن يكون مثله في جميع أحواله ، وقد أمكن أن يعطي بعض ما
فيه ، ليدل على موضع المشابهة.
فإن قال قائل :
فبماذا ترفع الأفعال المضارعة؟ قيل له : لوقوعها في موقع الأسماء ، سواء كانت
الأسماء التي وقعت موقعها ، مرفوعة ، أو منصوبة ، أو مخفوضة ، وذلك قولك : "
جاءني رجل يضحك" و" رأيت رجلا يضحك" ، و" مررت برجل
يضحك".
فإن قال قائل :
فلم كانت الأفعال مرفوعة بوقوعها موقع أشياء مختلفة الإعراب ، من مرفوع ، ومنصوب ،
ومخفوض؟ قيل له : من قبل أن العوامل التي للأسماء ، لا تعمل في الأفعال ، ولا تسلط
عليها ، فلم يعتبر اختلاف إعراب الأسماء في إعراب الأفعال ، إذ كان لا تأثير لذلك
في الأفعال ، ورفع الفعل ، لوقوعه موقع الاسم.
فإن قال قائل :
فلم صار الرفع أولى به ؛ بوقوعه موقع الاسم؟
قيل له : من
قبل أن وقوعه موقع الاسم ، ليس بعامل لفظي ، فأشبه الابتداء الذي ليس بعامل لفظي.
فإن قال قائل :
فإذا زعمتم أن الأفعال ترتفع بوقوعها مواقع الأسماء ، فلم قلتم : " كاد زيد
يقوم" ، و" جعل زيد يقول" ، و" أخذ زيد يقول كذا وكذا" ،
وهذه مواضع لا تقع الأسماء موقعها ، لا تقول : " كاد زيد قائما"
ولا" جعل زيد قائلا" ، ولا" أخذ زيد ذاهبا"؟ قيل له في ذلك
وجوه : منها أن" كاد زيد يقوم" في موضع" كاد زيد قائما" ، وإن
كان لا يستعمل الاسم بعده ، كما أن قولك : " عسى زيد أن يقوم" في
تقدير" عسى زيد القيام" ؛ لأن أن الخفيفة والفعل ، بمنزلة المصدر ، وفي
تقديره وإن كان المصدر غير مستعمل في" عسى" ، وكما أن قولك : " لا
تأتني فأشتمك" ينتصب على تقدير : فأن أشتمك ولا يجوز إظهاره والتكلم به ، وإن
كان الفعل معربا على تقديره ، كذلك الفعل في" كاد" مرفوع على تقدير
وقوعه موقع الاسم ، وإن كان الاسم لا يجوز استعماله وإظهاره فيه.
ومنها أن
ارتفاع الفعل ـ في هذه المواضع التي ذكرناها ـ غير ناقض لما أصّلناه ؛ وذلك أنا
إذا قلنا : إن الفعل يرتفع ، بوقوعه موقع الاسم فلا يلزمنا بهذا ألا يرتفع إلا
بوقوعه موقع الاسم ، كما أن نقول : إن الفعل ينجزم بلم ، وينتصب بلن ، ولا يلزمنا
ألا ينجزم إلا بلم ولا ينتصب إلا بلن ، وذلك إنا إذا ذكرنا أحد العوامل في رفع ،
أو نصب ، أو جزم ، لم يلزم ألا يكون في الكلام عامل غيره لذلك الشيء ، ولكن يجب
متى جعلنا عاملا لشيء من الإعراب في حال ، أن نجعله عاملا أين وجد على تلك الشريطة
، وبذلك الوصف.
فإن قال قائل :
فهبكم غير ناقضين لما أصلتم ، ولا تاركين لما قلتم ، فلم رفعتم الفعل بعد"
كاد" وأخواته اللاتي ذكرناها؟ قيل له في ذلك ـ غير ما تقدم ـ وجهان آخران :
أحدهما :
أن" كاد" لما لم يكن عاملا في الفعل تعرّى الفعل من العوامل اللفظية ،
فناسب الأفعال التي تقع مواقع الأسماء ، في تعرّيها من ذلك ، فرفع بهذه المناسبة.
والوجه الثاني
: أن" كاد" لا تستغنى باسمها ـ إذا أردت هذا المعنى ـ ولا أخواتها ،
فأشبه" كان" وأخواتها ، و" إن" وأخواتها ، وكل ما يحتاج إلى
خبر ، فرفع الفعل الذي لا يستغني اسم" كاد" عنه ، كما رفع في"
كان" وأخواتها ، وسائر ما ذكرنا.
ووجه ثالث أيضا
: وهو أن" كاد زيد يفعل" إنما أصله : " يفعل زيد" ، ودخلت كاد
تقريبا لهذا بعينه ، ومشارفة له ، ولم يكن مما يجوز أن يعمل فيه فبقي على أصله.
فإن قال قائل :
فلم رفعتم الفعل بعد السين وسوف ولا يقع الاسم بعدها؟ قيل له : السين وسوف إذا
دخلا على الفعل صارا من صيغة الفعل بمنزلة الألف واللام إذا دخلا على الاسم ، وذلك
أنهما إذا دخلا على الفعل خلصاه للمستقبل بعينه كتخليص الألف واللام الاسم لواحد
بعينه ، ولم يدخلا لتغيير معنى فيما دخلا عليه ، وإنما دخلا لتحصيل المعنى لنا ،
وتعريفه إيانا ، ولم يتغير المعنى في نفسه ، وإنما العوامل هي الأشياء التي تدخل
على الألفاظ بعد حصول معانيها ، فتقرها على ما كان يعرفه المخاطب من معانيها ،
فاعرف ذلك إن شاء الله.
فإن قال قائل :
بما ذا تنصبون الأفعال المضارعة؟ قيل له : جملة ما ينصب به الأفعال المضارعة أربعة
أحرف ، وهي : أن الخفيفة ، ولن ، وكي ، وإذن ، أما أن الخفيفة فهي أم الحروف في
هذا الباب ، والغالبة عليه ، والقوية فيه ، وهي إذا وقعت على الأفعال المضارعة
خلصتها للاستقبال ونصبتها ، فأما علة نصبها ، فمن قيل أن" أن" وما بعدها
من الفعل بمنزلة المصدر كما أن" إنّ" المشددة وما بعدها من الاسم والخبر
، بمنزلة اسم واحد ، فلما كانت المشددة ناصبة للاسم جعلت هذه ناصبة الفعل.
فإن قال قائل :
فلم لا تنصبون بما ، إذا جعلتموها والفعل كالمصدر في قولك : " يعجبني ما
تصنع"؟ فإن الجواب في ذلك : أن أصحابنا قد اختلفوا في" ما" إذا كان
الفعل بعدها ، فكان الأخفش لا يجيز أن تكون" ما" إلا اسما ، إذا كانت
كذلك ، فإن كانت معرفة فهي بمنزلة" الذي" عنده والفعل في صلتها ، كما
يكون في صلة" التي" فترفع كما يرفع الفعل إذا وقع صلة للذي ، أو تكون
نكرة في تقدير شيء ، فيكون الفعل صفة لها فيرتفع كما يرتفع الفعل إذا كان صفة لشيء
لا يجعلها حرفا ، مثل" أن" فلا يلزمه هذا السؤال.
وأما سيبويه
فقد أجاز أن تكون" ما" بمنزلة" أن" ويكون الفعل الذي بعدها
صلة
__________________
لها ، والجواب على مذهبه في الفصل بينهما ، أنّ" أن" المخففة ،
شبهت في الفعل بالمشددة في الاسم لفظا ومعنى ، وإن كان لفظها ناقصا مخففا ،
والدليل على ذلك أنهم يستقبحون" أنّ أن تقوم خير لك" كما يستقبحون :
" إنّ أنّ زيدا قائم يعجبني" في معنى : إن قيام زيد يعجبني ، فلما كان
المعنى الذي نصبنا به ما بعد" أن" الخفيفة من التشبيه مفقودا في"
ما" لم ينتصب بها. ومما يفرق بين" ما" و" أن" أنّ"
أن" لا يليها إلا الفعل و" ما" يليها الاسم والفعل في معناها مصدرا
، فالفعل قولك : " يعجبني ما تصنع" أي : يعجبني صنيعك ، والاسم"
يعجبني ما أنت صانع" أي : صنيعك ، وكل حرف يليه الاسم مرة والفعل مرة ، لم
يعمل في واحد منهما.
وأيضا فإنا إذا
جعلنا" ما" حرفا ، وجعلنا الفعل بعدها صلة لها أدت عن معناها ، إذا
جعلناها اسما ، وجعلنا ما بعدها صفة لها أو صلة ، إذا قلت : " يعجبني ما
صنعت" فلما كانت مؤدية حرفا ، معناها اسما ، لم تخالف بينهما وليس لأن إلا
حالة واحدة.
وبعض العرب
ربما رفعوا ما بعد (أن) تشبيها" بما" وقد روي عن" ابن مجاهد" أنه قرأ (أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ).
قال الشاعر :
يا صاحبي فدت
نفسي نفوسكما
|
|
وحيثما كنتما
لاقيتما رشدا
|
أن تحملا
حاجة لي خف محملها
|
|
وتصنعا نعمة
عندي بها ويدا
|
أن تقرآن علي
أسماء ويحكمها
|
|
مني السّلام
وألّا تشعرا أحدا
|
والمعنى فيه :
أسألكما أن تحملا.
وأما"
لن" فزعم سيبويه أنه حرف ناصب ، بمنزلة أن وهو نقيض" سوف" وذلك أنك
إذا قلت" سوف أقوم" فضد هذا أن يقول القائل : " لن تقوم"
وإنما نصبت تشبها ب" أن" ... وشبهها" بأن" أنهما يقعان
للمستقبل في الأفعال المضارعة ، التي في أوائلها الزوائد الأربع.
__________________
وروي عن"
الخليل" روايتان في" لن" ، إحداهما مثل القول الذي ذكرناه ،
والثانية أنها كانت" لا أن" فحذف وخفف لكثرته ، كما قالوا : "
أيش" و" يلمّه" والأصل" أي شيء" و" ويل أمه".
واحتج سيبويه
مبطلا لهذا القول فقال : لو كان معنى" لن" لا أن ، لما جاز أن نقول : "
زيدا لن أضرب" ، كما لا يجوز" زيدا لا أن أضرب" ؛ لأن ما في صلة أن
لا يعمل فيما قبله.
وللمحتج
عن" الخليل" أن يقول : إن الحرفين إذا ركّبا قد يتغير معناهما منفردين ،
من ذلك أنك تقول : " لو جئتني لأكرمتك" فإنما امتنعت من إكرامه ؛
لامتناع مجيئه ، و" لو" يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، فإذا أدخلت
على" لو"" ما" ، أو" لا" ، استحال معناها الأول ،
وصارت بما بعدها للتحضيض ، نحو قول الله عزوجل : (لَوْ ما تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ) وقوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) والمعنى : هلا ، و" لولا" قد يكون لها معنى
آخر ، وهو أن يمتنع الشيء بها لوقوع غيره ، كقولك : " لو لا عبد الله
أتيتك" فإنما امتنع الإتيان من أجل المحذوف بعد عبد الله ، والمعنى لو لا عبد
الله قائم ، أو عندك ، أو نحو ذلك ، فبذلك المعنى المضمر ، ومن أجله امتنع إتيانه
، فقد رأينا حروفا يتغير معناها ، بتركيب غيرها معها. فيقول المحتج للخليل : إن
معنى" لن" لا أن ، إلا أنا إذا ركبنا أن مع" لا" لم يكن الفعل
صلة لها ، كما يكون صلة لأن ، وصارت بمنزلة" لم" في أن الفعل الذي بعدها
ليس بصلة لها.
فإن قال قائل :
فإذا كان أصلها : " لا أن" ، فهل جاز استعمالها على أصلها ، كما جاز أن
يقال : " أي شيء" ، و" ويل أمه" ، فيستعملا على أصولهما؟ قيل
له المخفف والمحذوف على ضربين :
أحدهما : يجوز
استعماله على أصله ، والآخر متروك استعماله ، غير جائز إجراؤه على أصله ، لترك
العرب لذلك ، ولغيره من العلل التي لا يتسع الموضع لها ، فمن المحذوف الذي يجوز رد
ما حذف منه ما ذكرناه وهو" أي شيء" و" ويل أمه" وما لا أحصيه
كثرة.
__________________
وما لا يجوز
استعماله على أصله قولنا : " كينونة" و" قيدودة" و" ميلولة" وما كان من المصادر نحو ذلك ،
والأصل فيه عندنا" فيعلولة"" كيّنونة" و" ميّلولة"
و" قيّدودة" وخفف كما يخفف في" سيد" فيقال : " سيد"
، وفي" لين" فيقال : " لين" ، إلا أنه لا يجوز في"
كينونة" وبابها إلا التخفيف ، وترك الإجراء على الأصل ، ومن ذلك ما ينصب
بإضمار" أن" مع الفاء والواو في قولنا : " لا تأتنا فنهينك" ،
و" لا تقرب الأسد فيأكلك" ، و" لا تنه عن شيء وتأتي مثله" هذا كله بإضمار" أن" ولا يحسن إظهارها.
فقد وضح بما
قلنا أن المحذوفات تنقسم قسمين : أحدهما جائز ردّ ما حذف منه ، والآخر قبيح ،
وكذلك" لن" على ما ذكرنا من حجة هذا المحتج مخففة من" لا أن"
وقبيح استعمال" لا أن" والقول هو الأول لأن" لن" إذا أفردت
لها حكم غير متعلق بحكم" أن" كحرف واحد موضوع لمعناه.
وزعم الفراء
أن" لن" و" لم" و" لا" أصلها واحد ، وأن الميم
والنون مبدلتان من الألف في" لا" وهذا ادعاء شيء لا نعلم فيه دليلا ،
فيقال للمحتج عنه ، ما الدليل على ما قلت؟ فلا يجد سبيلا إلى ذلك.
فأما"
كي" فإن الذي ينتصب بعدها من الفعل المضارع على وجهين : أحدهما : أن تكون هي
الناصبة ، وهي حرف ، وإنما نصبت من قبل أن الذي يقع بعدها مستقبل ، فشابهت"
أن" في وقوع" ما" بعدها مستقبلا ، وفي جعل" كي" حرفا
بمنزلة" أن" ونصب بها نفسها ، أدخل عليها اللام ، كما يدخلها على"
أن" فيقول" أتيتك كي تكرمني" و" أتيتك لكي تكرمني" ، كما
تقول : " أتيتك لأن تكرمني" ، فدخول اللام عليها دلالة على أنها
بمنزلة" أن".
ومن العرب من
يقول" كيم" فيدخل على" كي"" ما" في الاستفهام ،
ويحذف الألف من" ما" كما يدخل حروف الجر على" ما" في
الاستفهام ، ويحذف ألفها نحو : لم وبم وعم ومم وفيم ، فلذلك قال : "
كيم" جعل" كي" بمنزلة اللام ، وفي ، وعن ، وسائر حروف الجر ، ونصب
الفعل بعدها بإضمار" أن" كما ينصب بعد اللام بإضمار" أن" إذا
__________________
قال" أتيتك لتكرمني" وإنما المعنى" أتيتك لأن تكرمني"
، كذلك" كي" في هذا القول إذا قلت : " أتيتك كي تكرمني"
والمعنى : كي أن تكرمني والدليل على ذلك قول" جميل" في إحدى الروايتين :
فقالت أكلّ
الناس أصبحت مانحا
|
|
لسانك كيما
أن تغرّ وتخدعا
|
ويروى : "
لسانك هذا كي تغر وتخدعا".
و"
ما" زائدة في إنشاد من أنشده" كيما أن".
وروى" أبو
عبيدة" عن" الخليل" أنه قال : لا ينتصب شيء من الأفعال المضارعة ،
إلا بأن مضمرة أو مظهرة ، في : كي ، وإذن ، ولن ، وغير ذلك ، فاعرفه إن شاء الله.
وأما"
إذن" فإنها إذا وقعت أولا نصبت ، وإنما ينصب بها لأنها تكون جوابا ، وما
بعدها مستقبل لا غير ، وذلك إذا قال لك إنسان : أنا أودّك. قلت : " إذن
أكرمك" وإنما أردت إكراما توقعه في المستقبل ، فصارت بمنزلة" أن"
في وقوعها للمستقبل من الأفعال ، إلا أنّ" إذن" لها ثلاثة أحوال :
حال تعمل (فيه)
لا غير ، وحال يجوز إعمالها وإلغاؤها ، وحال يقبح إعمالها.
فأما الحال
التي تعمل (فيه) لا غير ، فأن تقع مبتدأة ، ليس قبلها ما يعتمد عليه ما بعدها ،
مثل قولك : إذن أكرمك ، إذن أسرّك قال الشاعر :
أردد حمارك
لا تنزع سويته
|
|
إذن يردّ
وقيد العير مكروب
|
وأما الحال
التي يجوز إعمالها وإلغاؤه فأن يكون قبلها واو أو فاء ، وذلك قولك : " أنا
أخوك فإذن أذبّ عنك ، وأذبّ عنك".
وكذلك قال الله
عزوجل : (وَإِذاً لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) ، وفي قراءة ابن مسعود : " لا يلبثوا" فشبّه
أصحابنا" إذن" في الحروف الناصبة ب" ظننت" وأخواتها في
الأفعال العاملة ، وذلك أن" ظننت" متى قدمت على مفعوليها عملت لا غير ،
كقولك : " ظننت زيدا قائما" وإذا قدم عليها المفعولان أو أحدهما فيها
جاز الإعمال والإلغاء جميعا ، وكذلك (إذن) إذا قدمت عملت لا غير ، وإذا تقدمتها
الواو والفاء جاز فيها
__________________
الإعمال والإلغاء.
فإن قال قائل
ما العلة التي من أجلها جاز الإلغاء في" ظننت" و" إذن" إذا
كان على الحد الذي وصفته؟ فالجواب في ذلك : أنك إذا قلت : " ظننت زيدا
منطلقا" فقد بدأت بفعل لا بد من إعماله ؛ لأنه واقع على ما بعده ، وذلك قولك
: " ظننت زيدا منطلقا" فإذا قدمت زيدا فقد بدأت به على لفظ اليقين
والإخبار ، فجاز على أن يجري على سنن ابتدائك ، ويلغى الفعل المتأخر إذا كان مما
يلغى ؛ لأن الأول قد تعلق لمعنى يوجب رفعه ، وذلك قولك : " زيد ظننت
منطلق" ، و" زيد منطلق ظننت" ، كأنك قلت : زيد منطلق في ظني ، كما
تقول : زيد منطلق عندي ، وأنت تريد في رأيي واعتقادي. وهذا كلام مستعمل ، أعني إذا
قلت : زيد منطلق عندي وأنت تريد : في ظني واعتقادي ، فإذا نصبت مع التقدم فقلت :
" زيدا ظننت منطلقا ، وزيدا منطلقا ظننت" ، فكأنك قدمت اللفظ مريدا
لتأخيره معتمدا على الظن الذي أخرته.
وكذلك"
إذن" بعد الواو والفاء تجري هذا المجرى ، وذلك لأن الواو والفاء لا تكونان
إلا متعلقتين بما قبلهما و" إذن" إذا كان قبلها محتاجا إلى ما بعدها لم
تعمل ، وذلك قولك : " زيد إذن يقوم" ، و" إنّ زيدا إذن ينطلق"
، " والله إذن لا يقوم" ألغيت" إذن" لحاجة ما قبلها إلى ما
بعدها ، فإذا كان قبلها واو أو فاء ، وجعلت الكلام الذي بعدها في تقدير الحاجة إلى
ما قبلها ألغيت" إذن" ؛ لأن الواو للعطف ، فكأن ما بعد" إذن"
من تمام ما قبلها وإذا جعلت الواو مستأنفة جعلت لها حكم نفسها وصارت كجملة معطوفة
على جملة.
ونبيّن هذا
المعنى بمسألة تقول : " زيد يقوم وإذن يكرمك". إذا عطفت" وإذن
يكرمك" على" يقوم" الذي هو الخبر ألغيت إذن من العمل ، وصار بمنزلة
قولك : " زيد إذن يكرمك" ، لأن المعطوف على الشيء يقع موقعه ، ويصير
خبرا لزيد ، بمنزلة" يقوم" ، فكأنك قلت : " زيد يقوم ويكرمك"
، في تقدير اللفظ. وإذا لم تعطف" وإذن يكرمك" على الخبر ، وجعلته عطفا
على الجملة المتقدمة نصبت ما بعدها وصار لها حكمها إذا ابتدأت ولم يتقدمها كلام ،
وكان بمحل قولك : " زيد قائم وعمرو منطلق"" زيد منطلق وأبوه
يكرمك" جعلت الثانية جملة قائمة بنفسها ، غير معطوفة على خبر الأول ، ولكنها
معطوفة على جملة الكلام ، وأما الحال التي تلغى فيها إذن فأن يتقدم اسم
يحتاج إلى خبر كقولك : " إن زيدا إذن يقوم" ، أو شرط يحتاج إلى
جواب كقولك : " إن تأتني إذن أكرمك" ، أو قسم يحتاج إلى مقسم عليه ،
كقولك : " والله إذن لأضربك" ، وأما" والله إذن لأقومن إليك"
فإنما ألغيت في هذه الوجوه ؛ لأن ما بعد" إذن" معتمد على ما قبلها وما
قبلها محتاج إلى ما بعدها ، وهي قد تلغى في حال ، فوجب إلغاؤها هاهنا.
فإن قال قائل :
فما معنى قول الشاعر :
لا تتركني
فيهم شطيرا
|
|
إني إذن أهلك
أو أطيرا
|
فالجواب أن هذا
شاذ ، ومتى صح فإنه على أحد وجهين : إما أن يكون جعل" إذن أهلك أو
أطيرا" جملة في موضع خبر إن ، كقولك : " إني لن أقوم" فشبه إذن بلن
، وإن كانت" لن" لا تلغي لها حال ، و" إذن" تلغي.
والوجه الثاني
: أن يكون حذف خبر" إني" ، وابتدأ" إذن" بعد تمام الأول بخبره
، وجاز حذف خبر الأول ؛ إذن كان في الثاني عليه دليل ، كأنه قال : " لا
تتركني فيهم غريبا بعيدا إني أذل ، إذن أهلك أو أطيرا" فكان في الثاني دلالة
على الأول المحذوف ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.
فإن سأل سائل
فقال : إذا حملتم هذه الحروف على" أن" فنصبتم بها ، لمشاركتهن"
أن" في وقوع ما بعدهن مستقبلا ، فينبغي على قياس هذا القول واطراده أن تنصبوا
بما بعد" لا" في النهي ، وما بعد" لام" فعل الأمر وما بعد
حروف الجزاء؟ قيل له : قد كان ذلك قياسا لازما ، وقولا مطردا ، لو لا علل دخلن
عليه ، فوجب من أجلها الجزم والسكون.
أما لام الأمر
فإن ما بعدها ضارع فعل الأمر المبني الموقوف ، ووقع في موقعه ، فلما كان في معناه
، وواقعا موقعه له ثقل ذلك ، ونقص عن منزلة نظائره من الأفعال المستقبلة ، وأعطى
أضعف الإعراب ، وهو الجزم ، وحمل المجزوم على فعل الأمر ، كما حمل فعل الأمر في
المعتل الناقص عليه ، نحو : اغز ، وارم ، واخش ، وإنما حذف أواخر هذه الحروف ؛
بعلامة الجزم وحمل الأمر عليه ، وإن كان مبنيّا.
وأما النهي
فإنه نقيض الأمر ، فلما كان الأمر على الحد الذي وصفناه بالعامل الذي
__________________
ذكرناه كان النهي مثله.
وأما حروف
المجازاة والشرط فإنما جزمت ما بعدها ؛ لأنها محتاجة إلى أجوبة من أفعال وجمل ،
فاستطالوا الكلام فأعطوه الجزم تخفيفا له ؛ من أجل طوله ، وذلك أنك إذا قلت :
" إن تكرمني" لم يكن كلاما تاما ، حتى تجيء له بجواب فتقول : "
أكرمك" ، أو فأنا مكرم لك أو نحو ذلك من الأجوبة ، فلذلك آثروا الجزم ، والله
أعلم.
فإن قال قائل :
إذا قلتم : " إن تكرمني أكرمك" بما ذا جزمتم الأول والثاني؟ قيل له.
أما الأول فلا
اختلاف بين أصحابنا ـ أعلمه ـ في أنه مجزوم" بأن" واختلفوا في الجواب
على ثلاثة أنحاء : فكان أبو العباس محمد بن يزيد يقول : إنه جزم بإن والفعل الذي بعدها جميعا ، وإنهما
عاملان فيه ، وكان يقول : هو بمنزلة الخبر والابتداء ، والعامل والمبتدأ الرافع له
الابتداء ، والابتداء والمبتدأ عاملان في الخبر ، وكذلك" إن" هي العاملة
فيما بعدها ، وهي وما بعدها عاملان في الجواب ، وحجته في ذلك أن الثاني الذي هو
الجواب ـ لا يصح أن يتقدم الأولين ، فلا جائز لأحد أن يجعل العامل أحد الأولين إلا
جاز لآخر أن يضادّه في دعواه ، وليس أحدهما أولى من صاحبه بالعمل في الجواب فجعلنا
العامل اجتماعهما جميعا ؛ من حيث لا يصح الثاني الذي هو الجواب إلا بتقدم الأولين
واجتماعهما.
والقول الثاني
: أنّ" إن" هي العاملة في الشرط والجواب جميعا ، كما يعمل الفعل في
الفاعل والمفعول به جميعا ، إلا أن العوامل تختلف إعمالها ومعمولاتها ، فمنها ما
يعمل فيه بأن يكون إلى جنبه وملاصقا له. ومنها ما يعمل فيه بواسطة بينهما. وقد كان
بعض أصحابنا يشبه هذا بالنار التي تعمل فيما في القدر يتوسط القدر بينهما ، وتؤثر
فيه تأثيرا ما ، وتؤثر في القدر الإحماء والتسخين ، فقد أثرت في القدر بلا واسطة ،
وأثرت فيما فيها بواسطة ، وهي القدر ، وهذا تقريب ، وجملة الاعتلال لهذا القول ،
أنا رأينا الأول ينجزم بالحرف فقط ، بلا اختلاف وكذلك الجواب ينجزم بمثل ما انجزم
به الشرط ، إلا أن الحرف الذي يعمل فيهما ، يقبل في كل شيء ، منهما في موضعه الذي
رتب فيه لمعناه.
__________________
والعمل لا يختلف.
والقول الثالث
: وهو شيء يحكى عن أبي عثمان المازني أنه قال : الشرط والجواب غير مجزوم وإنما هو
مسكّن على حكم الأفعال في أصلها من التسكين ، وحكي عنه أنه اعتل أن الفعل إذا وقع
في موقع لا يقع فيه الاسم ، ردّ إلى حكمه الأصلي ، وهذا قول فاسد ، وما أظن
أن" أبا عثمان" في علمه وثقوب معرفته ، وجلالة محله ، كان يذهب عليه هذا
المعنى الواضح ، ويختار هذا القول الفاسد البين الفساد ، وذلك أنه لو ردت الأفعال
إلى أصلها يحلو لها في غير محل الأسماء ، لم يجز أن ينصب بلن وأن وسائر نواصب
الأفعال ؛ لأنهن صيغ ، لا تقع بعدهن الأسماء ، ولكان يلزم أيضا أن يكون إعراب
الأفعال وجها واحدا إذا حلت محل الأسماء ، فكان ينتج من هذا ألا تكون الأفعال
معربة ؛ لأن الإعراب هو اعتقاب الحركات أو : حركات وسكون على أواخر الكلام ، وما
لزم طريقة واحدة فليس بمعرب.
فإن سأل سائل
فقال : ما قولكم في فعل الأمر ، أمعرب هو أم غير معرب؟ قيل له هو عندنا مبني على
السكون على أصل ما يستحقه. فإن قال : وما الذي أبطل أن يكون مجزوما؟ قيل له :
امتنع أن يكون مجزوما من قبل إن الصورة الموضوعة للأمر من الفعل إذا لم يكن في
أولها الزوائد الأربع لا تكون إلا على طريقة واحدة وشريطة المعرب أن يعتقب على
آخره أكثر من حركة ، والمبني لا يتغير عما يصاغ عليه من حركة أو سكون ، فقضينا
بذلك أن فعل الأمر الذي ليس في أوله الزوائد الأربع مبني على السكون ، ونكشف هذا
بمثال فنقول : إذا قلت : " زيد يذهب أو أنا أذهب" أو" أنت تذهب"
أو" نحن نذهب" فالباء من يذهب تكون مرة مضمومة ، ومرة مفتوحة ، ومرة
موقوفة ، ما صحب" يذهب" أحد هذه الحروف الزوائد تقول : " أنا أذهب
، ولن أذهب ، " ولم أذهب" فإذا أمرت منه قلت : " اذهب" ،
فغيرت الصورة ، ونزعت حرف المضارعة ، ولزم السكون ، فلما لزم السكون عند ما بني
هذه البنية ، علمنا أن هذه البنية هي التي أوجبت أن تكون مبنية على حال واحدة.
فإن قال قائل :
فهلا جعلتموه مجزوما بلام محذوفة هي لام الأمر كأنكم قلتم" لتذهب"
فحذفتم اللام؟ قيل له : هذا لا يجوز ؛ من قبل أنا رأينا عوامل الأفعال ضعيفة ، لا
يجوز حذفها نحو : لن ، لم ، وأشباه ذلك ، فلم يجز أن نضمر اللام ونعملها ؛ لضعف
ذلك ،
وأيضا فإنا رأينا الأسماء المعربة هي أقوى من الأفعال وأشد تمكنا ، وقد
رأينا العوامل فيها تنقسم قسمين. أحدهما يجوز حذفه ، والآخر لا يجوز.
فالذى يجوز
حذفه ما عمل فيه الفعل ، كقولك : " هلا زيدا" ، تريد" هلا ضربت
زيدا" ، ونحو ذلك على ما جرى عليه الكلام كقولك : " أزيدا ضربته"
تريد أضربت زيدا ضربت وكنحو المبتدأ المحذوف المبقي خبره ، كقولك : " الهلال
والله" تريد هذا الهلال. وإنما يرتفع خبر المبتدأ بما تقدم على نحو ما ذكرناه
من الاختلاف فيه ، فهذا القسم من الأسماء يجوز حذف عامله ، وكذلك ما جرى مجراه.
والذي لا يجوز
حذف عامله ، ما كان العامل فيه حرفا ، نحو قولك : " إن زيدا قائم"
و" لعل بكرا منطلق" ، و" أخذته من زيد" ، " ومررت
بعمرو" وأشباه ذلك ، وهذا القسم الذي لا يجوز حذف عامله هو أقوى وأمكن من
الأفعال ، وعوامله أمكن من عوامل الأفعال ، ومع ذلك لا يجوز حذفها ، فإذا لم يجز
حذفها ، لم يجز حذف ما هو أضعف منها عملا.
فإن قال قائل :
فأنتم تنصبون الأفعال بإضمار" أن" مع" الواو" ، و"
الفاء" و" أو" وتضمرون" أن"؟ قيل له : إنما جاز ذلك
عندنا ؛ لأنه قد بقي من الحروف ما يكون بيانا عما ألقي ومثاله في الأسماء قولهم :
ومهمه بآلة مؤزّر
وقولهم :
بل بلد ذي صعد وأضباب
ونحو ذلك في
معنى" ربّ" جعلوا" الواو" و" بل" و"
الفاء" بدلا من المحذوف وهو" ربّ" وكذلك الفاء والواو و"
أو" عوض من المحذوف.
ولما يحذف
ويعوض منه باب نتقصّاه إن شاء الله. وإنما ذكرنا منه نبذا غير متقصين ؛ لأن القصد
في الباب إلى غيره لا إليه.
ووجه ثان مما
يبطل أن تكون اللام الجازمة لفعل الأمر محذوفة ، كما تحذف أن أنها لو كانت محذوفة
، لبقي حرف المضارعة ، وكان يقال : تذهب في معنى" لتذهب" كما بقي
__________________
حرف المضارعة لما حذفت" أن" مع الفاء والواو ، والدليل على ذلك
أن الشاعر إذا اضطر إلى حذفها حذفها ، وبقي سائر الكلام على حاله ، أنشد الأخفش :
محمد تفد
نفسك كلّ نفس
|
|
إذا ما خفت
من أمر تبالا
|
أراد لتفد نفسك
كل نفس.
وقال آخر :
فقلت ادعي
وأدع فإن أندى
|
|
لصوت أن
ينادي داعيان
|
أراد : ولأدع
وقد أنكر"
أبو العباس محمد بن يزيد" البيت الأول ، وقد أنشده كثير من الناس إلا أنا
أردنا أن نبين أن حذف العامل لو كان على ما زعموا ، لم يوجب تغيير الصورة من المعمول
فيه.
فإن قال قائل :
" إنما كان الأصل فيه : " لتقم" ، و" لتذهب" في فعل
الأمر إلا أنه كثير في كلامهم ، فحذفوه استخفافا ، كما قالوا : " أيش"
و" يلّمة" ، والأصل" أي شيء" ، و" ويل أمّه" ،
وقالوا : عم صباحا ، والأصل : أنعم صباحا من نعم ينعم ، ويقال : نعم ينعم ، ونعم
ينعم" و" عم صباحا" من المكسور العين ، وحذفوا النون التي هي فاء
الفعل استخفافا ، لما كثر في كلامهم التحية بهذا ، وغير ذلك من المحذوفات.
قيل هذا قياس
مطرح ، وتشبيه بين شيئين لا يشتبهان ؛ وذلك من قبل أن المحذوف إنما يكون في شيء
إذا كثر الكلام (به) والترداد له ، ولا يكون في نظائره إذا نقص عن مثل حاله في
الكثرة التي جاز معها الحذف ، وقد رأينا فعل الأمر فيما كثر استعماله وما قل من
الأفعال إذا أمروا به صاغوه هذه الصيغة نحو قولهم : اعرنزم ، واحرنجم ، ونحو هذا
من الأفعال التي هي أقل من ذا أو مثله في القلة ، يطرد فيه الحذف ، فلو كان ذا على
ما زعم الزاعم ، لاختص الحذف بالكثير الدائر المستعمل في كلامهم ، وما كان يتعدى
الحذف إلى ما يقل ويشذ حتى يصير بابا مطردا وقياسا لازما.
ألا ترى أنا لا
نقول قياسا على : " لم يك" ، في معنى : لم يكن : " لم
يص"" ولم يه" في
__________________
معنى : لم يصن ، ولم يهن ؛ لكثرة لم يكن. ولا نقول قياسا على" لم
يبل" ، في معنى : يبال : " لم يعط" ، " ولم يجز" ـ في
معنى لم يعاط ، ولم يجاز ، فتبين الفصل فإنه واضح إن شاء الله".
فإن قال قائل :
فلم قالوا : " اقض" ، فحذفوا الياء كحذفهم إذا قالوا : " لم
يقض" ، وهذا الحذف يكون للجزم ، و" اضربا" كما كقالوا : " لم
يضربا" ، و" اضربوا" كما قالوا : لم يضربوا"؟
فإن الجواب في
ذلك أنه لما استوى المجزوم غير المعتل ، وفعل الأمر ، غيّر المعتل كقولك : "
لم يذهب" و" اذهب يا زيد" ، وإن كان أحدهما مجزوما معربا ، والآخر
مسكنا على أصله ، سوىّ بينهما في المعتل وفي التثنية والجمع ، وحمل ذلك أجمع على
الواحد الصحيح.
وذكر"
المازني" لفظا يؤول إلى ما قلنا ، فقال : إنما قالوا اقض ، وارم ؛ لمضارعة
الجزم السكون ، وهذا هو المعنى الذي أردناه ، إلا أنا لخصنا هذا المعنى وبيناه.
فإن قال قائل :
لم جعلوا في إعراب الأفعال الجزم دون الأسماء؟ قيل له : قد تقدم قولنا في امتناع
دخول الجزم على الأسماء ، ونبين الآن : لم ساغ دخوله على الأفعال ، فنقول وبالله
التوفيق :
إن الاسم لما
كان هو المستحق للإعراب في أصل الكلام ، استحق جميع الحركات ؛ لقوته ، ولما ستراه
في موضعه ، إن شاء الله. وضارع الفعل الاسم فجرى مجراه ، واستحال دخول الحركة التي
هي الجر عليه ؛ لما تبين لك من فساد ذلك في موضعه ، فجعل مكان تلك الحركة ـ التي
هي الجر ـ الجزم ؛ ليكون معادلا للاسم في إعرابه ؛ لتمام مضارعته له.
قال
سيبويه : " وليس في الأفعال المضارعة جرّ ، كما أنه ليس في الأسماء
جزم".
قال أبو سعيد :
إن سأل سائل : فقال لك لم لم يكن في الأفعال المضارعة جر؟ فإن في ذلك أجوبة منها :
إن الجر إنما
يكون بأدوات يستحيل دخولها على الأفعال ، وهي حروف الجر ، وبالإضافة المحضة ، وليس
لدخول ذلك على الأفعال معنى يعقل. ألا ترى أنك لو قلت : هذا غلام يضرب ، أو مررت
بيضرب ، ونحو ذلك فسد الكلام.
ووجه ثان : إن
المضاف إليه يتعرف به المضاف ، أو يخرج به من إبهام إلى
تخصيص على مقدار خصوصه في نفسه ، كقولك : " هذا غلام زيد" فيتعرف
الغلام بزيد وتقول : " هذا غلام رجل صديق لك" ، فيخرج الغلام عن حد
الإبهام الذي في قولك :
" هذا
غلام" حتى ينحصر ملكه على صديق له ، دون سائر الناس ، وصديق له أخص من واحد
من الناس مبهم.
ووجه ثالث : إن
الفعل لا يكون إلا نكرة ، ولا يكون شيء منه أخصّ من شيء ، فإذا كانت الإضافة إنما
ينبغي لها زيادة معرفة المضاف ، ولا سبيل إلى أن يعرف المضاف إليه ، حتى يكون مقصورا
إليه معروفا ، فيتعرف المضاف بذلك ، لم يصح.
ووجه رابع :
وهو أن الفعل والفاعل جملة ، ولا يجوز أن تقول : " هذا غلام زيد يقوم ، كذلك
لا تقول : " هذا غلام يقوم زيد" ؛ لأنه جملة كالابتداء والخبر.
ووجه خامس : إن
الفعل إنّما هو اللفظ الدال على حدث في زمان ماض أو غير ماض ، فلو أضفنا إلى الفعل
كنا قد أضفنا إلى الحدث والزمن ، لا إلى أحدهما ، ولا يصح الإضافة إلى زمان غير
متحصل ، وإنما يضاف إلى الزمان الدال على وقت منه بعينه ؛ لأن الزمان الماضي يقع
على" أمس" وما قبله ، من الأزمنة التي لا يحصلها وقتا وقتا ، وعلى ما بعده
من الأوقات إلى ما يلينا من أقربها ، فلا يتبين المضاف إليه من الزمان ، ولا يتخلص
من غيره.
ويدل على صحة
هذا الوجه أن الزمان المستقبل قد يكون ماضيا ، وقد كان الماضي مستقبلا ، فلا معنى
للإضافة إلى زمان لا يختص لنفسه حالا يتبين بها من غيره ، والإضافات إنما حكمها
والفائدة فيها : إخراج المضاف من حالة مبهمة إلى ما هو أخصّ منها.
وذكر أبو الحسن
الأخفش في ذلك علّتين :
إحداهما : أنه
قال : لو أضفنا إلى الفعل لاحتجنا بعده إلى الفاعل ، وقد علمنا أن المضاف إليه
يقوم مقام التنوين ، ولم يبلغ من قوة التنوين عنده أن يقوم مقامه شيئان.
والعلة الثانية
، زعم أن الأفعال أدلّة على غيرها ، يعني على الحدث والزمان وعلى فاعليها
ومفعوليها.
وزعم أن المضاف
إليه مدلول عليه ؛ قال : والأفعال أدلة ، وليست بمدلول عليها ، فلا يضاف إليها ؛
لأن الإضافة إلى المدلول عليه لا إلى الدليل.
فإن قال قائل :
فقد أضيفت أسماء الزمان إلى الأفعال ، كقولك : " هذا يوم يقوم زيد ، وساعة
يذهب زيد ورأيته يوم قام زيد"!
فإنما جازت
إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال ؛ لأن الأفعال لا بد لها من فاعلين ، والفعل
والفاعل جملة ، والزمان يضاف إلى الجمل ، كقولك : " رأيته يوم زيد أمير"
، " ورأيته زمن أبوك غائب" ، ونحو ذلك ، فأضيف اسم الزمان إلى الفعل
والفاعل ، كما يضاف إلى الابتداء والخبر ، ويكون المعنى في ذلك كالمعنى في إضافة
الزمان إلى المصدر ، فإذا قلت : هذا يوم يقوم زيد فكأنك قلت : هذا يوم قيام زيد.
فإن قال قائل :
فلم خصّ الزمان بالإضافة إلى الجمل دون غيره؟
فالجواب في ذلك
أنا رأينا الزمان قد تشتق له أفعال ، تدل على وقوع الجمل في أوقاته المختلفة ، نحو
: كان ، ويكون ، اللذين هما عبارتان عن الماضي والمستقبل من الزمان ، وتليهما
الجمل : ونحو : أصبح وأمسى اللذين هما عبارتان عن وقتين معلومين من الزمان ويليهما
الجمل ، فمن حيث جاز أن يضاف المكان والزمان والمصدر وغير ذلك إلى الفاعلين ،
وكانت الجملة كالفاعل من حيث صيغ لها من لفظ الزمان ما يدل ، عليها أضيف الوقت
إليها ـ أعني الجمل ـ كما صيغ للوقت ما يدل عليه.
وزعم"
الأخفش" أنهم أضافوا أسماء الزمان إلى الأفعال ؛ لأن الأزمنة كلها تكون ظروفا
للأفعال والمصادر ، لا يمتنع شيء منها من ذلك فعوّضوا من كون جميعها ظروفا أن
أضافوها إلى الجمل والأفعال. ومما يدل على هذا : أن الزمان الماضي بمعنى"
إذ". والزمان المستقبل بمعنى" إذا" والأزمنة ماضية ومستقبلة ، فلما
كانت" إذ" تضاف إلى الجمل : المبتدأ والخبر والفعل والفاعل ، أضيف
الزمان الذي في معناها إلى الفعل والفاعل ، والمبتدأ والخبر.
ولما
كانت" إذا" تضاف إلى الفعل والفاعل فقط ، أضيف الزمان الذي في معناها
إلى الفعل والفاعل فقط ، فلا تقول : أتيتك زمان زيد قائم ؛ لأنك لا تقول : أتيتك
إذا زيد قائم.
ومما يدل على
صحة ما بينا أن الفعل مشتق من المصدر في زمان ماض أو مستقبل ، وليس بدال على وقت
من الماضي معين ولا من المستقبل ، فصار الزمان كبعض الفعل ؛ إذ كان الفعل يدل على
شيئين : أحدهما : الزمان ، والآخر : المصدر ، فإذا أضفنا
الزمان إليه فقد أضفناه كما يضاف البعض إلى الكل كقولنا : " ثوب
خزّ"" وخاتم حديد" وفي إضافتنا إليه فائدة ، إذ كان يتحصل فيها غير
الزمان ولا يضاف إليه المصدر ؛ لأن الفعل معه الفاعل ، فقد دل على أن المصدر له ،
فلم يضف إليه.
فإن قال قائل :
فقد يضاف إلى الفعل غير الزمان ، وهو قولهم : ائتني بآية قام زيد ، أراد : بعلامة
قام زيد ، قال الشاعر :
بآية يقدمون
الخيل زورا
|
|
كأن على
سنابكها مداما
|
وقولهم :
" اذهب بذي تسلم" ، و" اذهبا بذي تسلمان" ، " واذهبوا
بذي تسلمون" ، " واذهبي بذي تسلمين" ، و" اذهبا بذي تسلمان"
، و" اذهبن بذي تسلمن".
فالجواب في ذلك
أن يقال : أما" آية" فإنما جاز إضافتها ؛ لأنها بمنزلة الوقت ، وذلك أن
الوقت إنما جعل ؛ ليعلم ترتيب الحوادث في كونها ، وما يتقدم منها ، وما يتأخر ،
وما يقترن وجوده بوجود غيره ، والمقدار الذي بين وجود المتقدم منها والمتأخر ،
فصار ذكر الوقت علما له ، وقع أم لم يقع ، وما يقرن وجوده بوجود غيره ، يكون كون
أحدهما علامة لكون الآخر وقتا له.
ويدل على هذا
أنك قلت : " إذا أذّن المؤذن فأتنى" فيصير أذان المؤذن وقتا لإتيانه
وعلامة له ، كما أنك لو قلت : " إذا كان يوم كذا فأتنى" فقد جعلت ذلك
اليوم وقتا لإتيانه ، وعلامة متى وجدها امتثل أمرك عند كونها ، وكذلك إذا قال :
" بآية يقوم" فقد جعل" يقوم" وقتا لما يريده فيصح أن يضيف
العلامة إلى الفعل ، كما تضيف الوقت ؛ لأنهما في التحصيل فيؤولان إلى شيء واحد.
وأما قولهم :
" اذهب بذي تسلم" ففسر العلماء معناه ، فقالوا : معناه : اذهب بسلامتك ،
والذي جوّز عندي إضافته إلى الفعل ، أن معنى : ذي ، إنما هو لذات الشيء ، كما تقول
: مررت برجل ذي مال ، فذي هو الرجل وهو نعت له ، وأضفته إلى" مال" ،
فإذا قلت : " اذهب بذي تسلم" فكأنك قلت : اذهب بيوم ذي تسلم ، أو بوقت
ذي تسلم ، فذو هو اليوم والوقت ، فلذلك جاز إضافته إلى تسلم ، وأقمته فقام اليوم ،
فافهم هذا فإنه لطيف جدا.
__________________
وقال بعض أهل
العلم : إن" ذي" بمنزلة" الذي" كأنك قلت : " اذهب بالذي
تسلم" والهاء محذوفة وهو مصدر تقديره بالسلامة التي تسلمها ، وذكر لأنه أراد
السلامة وإن لم يستعمل.
وجملة
قول" سيبويه" أن الأفعال لم يضف إليها ؛ لأن المضاف داخل في المضاف إليه
: فقد أضفناه كما يضاف البعض إلى الكل كقولنا : ثوب خزّ ، وخاتم حديد ، وفي إضافته
إليه فائدة ؛ إذ كان يتحصل منها غير الزمان ، ولا يضاف إليه المصدر ؛ لأن الفعل
معه الفاعل ، فهو يدل على أن المصدر له فلم يضف إليه ، فاعرف ذلك إن شاء الله.
وأيضا فإن
الأول يضم الثاني إليه ، وزيادته عليه تدل على ما يدل عليه منفردا ، غير أنه في
الإضافة له اختصاص بشيء قد كان متوهما فيه وفي غيره كالألف واللام ، ويكون اختصاصه
على حسب ما للثاني من التعريف والتخصيص ، فلما لم يختص المضاف بإضافته إلى الفعل ـ
كما ذكرنا ـ بطلت الإضافة.
فإن سأل سائل
فقال : أخبرونا عن قوله : "
وليس في الأفعال المضارعة جر ، كما أنه ليس في الأسماء جزم" لم منع دخول الجر على الأفعال ، حيث امتنع دخول الجزم
على الأسماء؟ وكيف صار امتناع دخول الجزم على الأسماء أصلا لمنع دخول الجر على
الأفعال ، وما وجه رد أحدهما على الآخر؟
فإن الجواب في
ذلك أنه لم يجعل امتناع الجزم في الأسماء علة منع بها دخول الجر على الأفعال ،
وإنما أراد أن كل واحد منهما ممتنع في بابه للعلة التي تمنعه ، والمعنى الذي يحيله
، فتعرّف ذلك إن شاء الله.
فإن قال قائل :
فما معنى قوله : "
لأن المجرور داخل في المضاف إليه"؟ إلام عادت الهاء في إليه؟ وكيف تلخيص هذا الكلام
وترتيبه؟
فإن الجواب في
ذلك : أن قوله : " لأن المجرور" ، يريد : المضاف إليه ، وهو الثاني ،
داخل في المضاف إليه ، يعني : داخلا في الصف الأول الذي قد أضيف إلى المجرور.
والهاء تعود إلى المجرور ؛ فكأنه قال : لأن الثاني المجرور داخل في الأول المضاف
إلى الثاني ، فاعرفه إن شاء الله.
فإن سأل سائل ،
فقال : لم عاقبت الإضافة التنوين؟
فالجواب في ذلك
أن التنوين إنما دخل عندنا ؛ للفرق بين ما ينصرف
وما لا ينصرف ، ومتى أضيف الاسم أخرجته الإضافة إلى حكم المنصرف ، فزال
المعنى الذي له دخل للفرق.
وقوله
: " وليس ذلك في الأفعال" ، يعني : وليس المعنى الذي تجر به الاسم في هذه الأفعال ،
يعني في الأفعال المضارعة ، وقد ذكرنا المعنى الذي ينفرد به الاسم في الجر بما
أغنى عن إعادته.
قال
سيبويه : " وإنما ضارعت أسماء الفاعلين".
يعني ضارعت
الأفعال المضارعة أسماء الفاعلين ، وأضمرها لتقدم ذكرها أنك تقول : " إن عبد
الله ليفعل" ، فيوافق قوله : " لفاعل" ، حتى كأنك قلت : إن عبد
الله لفاعل ، فيما تريد من المعنى.
إن سأل سائل ،
فقال : إذا قلنا : " زيد فاعل" و" إن زيدا لفاعل" ، أو"
فاعل" ، هل دل هذا على وجود المعنى الذي ذكره في وقته ، أو هو مبهم لا يوقف
عليهم؟
فإن الجواب في
ذلك أن الإخبار عن الأشياء كلها أولى الأوقات بها الوقت الذي وقع فيه الخطاب في
المعنى ؛ لأن اللفظ صيغ له ، وذلك أن المتكلم إذا قال : زيد قائم ، فإنما يريد
إفادة المخاطب ، وتعريفه من أمر زيد ما خفي عليه ، وإن لم يكن في حاله قائما ،
فهذا الوصف غير لازم له ، والمعتاد في الخطاب أن يكون للحال ، فعلم من جهة المعنى
أن الوصف متى ما عرّي من النسبة إلى وقت بعينه ، كان مقصورا على وقت التكلم به
والإخبار ؛ لما بينا أن حكم الخطاب إفادة المخاطب به ما يحتاج إلى معرفته.
فإن قال قائل :
فإذا قلت : " إنّ زيدا ليقوم" فهل الفعل لأحد وقتين مبهمين ، أم هو
للحال؟
فالجواب في ذلك
: إن أصحابنا على قولين ، قال بعضهم : اللام تقصر الفعل المضارع في خبر إن على
الحال ، واستدل على ذلك بقول سيبويه : حتى كأنك قلت" إن زيدا لفاعل"
فيما يريد من المعنى ، فقال : قد علمنا أنا إذا قلنا : " إن زيدا لفاعل"
فإنما يريد به الحال ؛ وقد قال لنا : إن قولنا : " إن عبد الله ليفعل" ،
كقولك : " إن عبد الله لفاعل" ، فصح بهذا الكلام أن اللام تقصر الفعل
المضارع على الحال.
وقالت طائفة
أخرى من أصحابنا : إن اللام تقصر الفعل المضارع على الحال ، وأجازوا أن تقولوا :
" إن عبد الله لسوف يقوم" واستدلوا على صحة ذلك بقوله عزوجل :
(وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فقالوا : لو كانت اللام تقصر الفعل على الحال لم يجز أن
تقول : " ليحكم بينهم" كما أن السين وسوف لما قصرتا الأفعال المضارعة
على الاستقبال ، لم يجز أن يقول القائل : " إن زيدا سوف يقوم الآن" لأنه
يجمع بين معنيين متضادين.
فإن قال قائل :
فأنت تقول : إنا إذا قلنا" زيد قائم" فأولى الأشياء بهذا الكلام أن يكون
للحال ، ومع ذلك فقد يجوز أن تقول : " زيد قائم غدا" وكذلك : " إن
زيدا ليقوم" ، هو للحال ، ومع ذلك يجوز ؛ أن تقول : " إن زيدا ليقوم
غدا".
فإن الجواب عن
ذلك أن قول القائل : " زيد قائم" لم يدخل عليه لفظ لوقت دون وقت ، وهو
مبهم الصيغة يجوز أن يكون للماضي والحال والمستقبل ، غير أنا نجعله للحال ، إذا
عرّي من غيره ، لما ذكرنا من فائدة المخاطب به. واللام فيما زعم هذا الزاعم تدخل
على الفعل المضارع الذي يصلح لوقتين ، فتقصره على أحدهما ، كما تدخل السين وسوف
عليه فتقصره على الآخر ، فقلنا : لو كانت اللام هي التي قصرت الفعل على أحد
الوقتين ، فإذا قصرته على أحد الوقتين لفظا لم يجز أن تجعله للآخر ، فتقول :
" إن زيدا ليقوم غدا" مع دخول اللام ، كما لا يجوز أن تقول : " إن
زيدا سوف يقوم الآن" : لأن" سوف" قد أخرجت الفعل إلى المستقبل
وقصرته عليه ، وهذا القول الثاني أقرب عندي.
فإن قال قائل :
فما معنى قول سيبويه : "
حتى كأنك قلت إن زيدا لفاعل فيما تريد من المعنى" فالجواب في ذلك أنا إذا قلنا إن زيدا ليفعل ، صلح أن
تريد به الحال وصلح أن تريد به المستقبل ، فإذا أردنا به الحال فكأنما قلنا إن
زيدا لفاعل الآن ، وإذا أردنا به المستقبل ، فكأنا قلنا إن زيدا لفاعل بعد ، فجاز
أن يقع (فاعل) مكان (يفعل) وإن كنت في أحدهما تحتاج إلى زيادة لفظ للبيان فاعرف
ذلك إن شاء الله.
قال
سيبويه : " وأما الفتح والضم والكسر والوقف ، فللأسماء غير المتمكنة المضارعة
عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير".
إن سأل سائل
فقال : أخبرونا عن النصب والرفع والجر والجزم ، هل يقال لها فتح وضم وكسر ووقف؟
فالجواب في ذلك
أن يقال : نعم.
__________________
فإن قال : فلم
خصّ سيبويه تسمية الفتح والضم والكسر والوقف للأسماء غير المتمكنة ، وقد زعمتم أن
المعرب يقال له ذلك؟
فالجواب في ذلك
: أن سيبويه وسائر النحويين فصلوا بين الضم الذي بعامل والضم الذي بغير عامل في
التسمية والتلقيب ، إنما أرادوا تقريب معرفته على المخاطب ليتناول علم ذلك من قرب
، ولا فرق بين المعرب والمبني في النطق ، ولكنهم جعلوا الفتح المطلق لقبا للمبني
على الفتح ، والضم المطلق لقبا للمبني على الضم ، وكذلك الكسر والوقف ، وجعلوا
النصب لقبا للمفتوح بعامل ، وكذلك المرفوع والمجرور والمجزوم ، لا يقال لشيء من
ذلك مضموم مطلقا ، وإنما يخبر عنه بتقييد لئلا يدخل في حيز المبنيات المسميات بهذه
الأسماء المطلقة ، والدليل على أن كل ذلك يجمعه اسم الفتح والضم والكسر والوقف ،
أن سامعا لو سمع لفظين مفتوحين أحدهما بعامل والآخر بغير عامل لم يفصل بينهما بنفس
السمع واستويا عنده في النطق ، حتى يرجع فيعرف ما أوجب ذلك له من عامل أو غير ذلك.
وقوله
: " فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس
غير". قوله : " فللأسماء غير
المتمكنة" ، فهي للأسماء المبنية عندهم ، يعني المشابهة عندهم الحروف التي جاءت
لمعنى ليس غير.
فإن قال قائل
كيف تعرب" غير" في هذا الموضع؟
فإن أبا العباس
كان يقول : " غير" مبني على الضم ، مثل قبل وبعد ، كذلك إذا قلنا لا غير
، وكذلك القول في سائر الحروف التي جرت مجرى هذا إذا حذف منها المضاف إليه وكان
معرفة مثل : قدام ، وخلف ، وتحت ، وأمام ، ووراء ، وفوق ، قال الشاعر :
ينجيه من مثل
حمام الأغلال
|
|
وقع يد عجلى
ورجل شملال
|
قبّا
من تحت وريّا من عال
|
وقال آخر :
... ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء
__________________
وهو كثير.
فإن قال قائل :
فما معنى قوله : ليس غير ، وما موضع غير؟ فإن الجواب في ذلك أن ليس دخلت هاهنا
للاستثناء ، كقولك : " جاءني القوم ليس زيدا" تريد : ليس بعضهم زيدا ،
واسم ليس مضمر في النية ، وموضع غير منصوب بخبر ليس ، كما كان زيد منصوبا في قولك
: أتاني القوم ليس زيدا ، كأنك قلت ليس شيء غير ذلك ، فحذف منه المضاف وبني على
الضم ، والعرب تفعل ذلك فيما عرف معناه ، يقولون : " أتاني زيد ليس إلا"
، " وأتاني القوم ليس إلا" أي ليس إلا هذا الذي ذكرت.
وتقدير قوله : " المضارعة
عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير" ، كأنه قال : المشابهة للحروف التي جاءت لمعنى ليس غير
ذلك المعنى ، أي ليس ما جاءت فيه غير ذلك المعنى ، فجعل الاسم في النية وحذف
المضاف إليه وغيّر بناؤه.
وأما الزجاج فإنه
كان يقول إذا قلت : " ليس غير" أو" لا غير" فأدرجته ، نونته ،
ويكون التقدير : مما جاء لمعنى ليس فيه غير ، وهو يريد : غير ذلك المعنى ، وكذلك
لا غير ، يريد لا فيه غير لذلك المعنى ، ويحذف الخبر ، وحجته في ذلك أنه بمنزلة أي
وكل وبعض أنهن منونات ، وإن حذف ما أضفن إليه : كقولك : أي قام ، وكقولك : تخلّف
بعض وجاءني بعض ، ونحو ذلك. وفي القولين جميعا نظر ، والله الموفق.
قال
: " والأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة".
الأفعال التي
لم تجر مجرى المضارعة هي الأفعال الماضية المبنيّة على الفتح وأفعال الأمر المبنية
على الوقف ، فأما أفعال الأمر فقد مرت ، وأما الأفعال الماضية فسنراها إن شاء
الله.
قال
: " وللحروف التي ليست بأسماء ولا أفعال ولم تجئ إلا لمعنى" ، يعني : الفتح والضم والكسر والوقف للأسماء المبنية
وللأفعال غير المضارعة وللحروف.
وقوله
: " فالفتح في الأسماء نحو قولهم حين وأين وكيف".
قال أبو سعيد :
اعلم أن الأسماء المبنية كلها لا يخرج بناؤها من أن يكون لمشابهة الحروف ومضارعتها
، أو للتعلق بها وملابستها ، أو لوقوع المبني موقع فعل مبني ، أو لخروجه عما عليه
نظائره وخلافه لباب أشكاله ، وأنا مبين جميع المبنيات بما يحضر لي من شرحها
وإبانتها بعللها ، وبالله التوفيق.
فنبدأ من ذلك
ما ذكره سيبويه في هذا الباب ونشفعه بسائر المبنيات ، فأول ذلك" حيث"
اعلم أن حيث فيها أربع لغات ، يقال حيث وحيث ، وحوث ، وحوث ، وهي مبنية في جميع
وجوهها والذي أوجب بناءها علتان :
إحداهما أنها
تقع على الجهات الست ، وهي : خلف ، وقدام ، ويمنة ، ويسرة ، وفوق ، وأسفل ، وتقع
على كل مكان. وكل واحد من هذه الجهات تقع مضافة إلى ما بعدها ، وأبهمت"
حيث" فوقعت عليها كلها ولم يخص مكانها دون مكان ، فشبهوها لإبهامها في
الأمكنة" بإذ" المبهمة في الزمان الماضي كله ، فلما كانت" إذ"
مضافة إلى جملة موضحة لها ، أوضحت" حيث" بالجملة التي أوضح بها"
إذ" من ابتداء وخبر وفعل وفاعل ، فلما استحقت الإضافة ومنعتها ، صارت بمنزلة
قبل وبعد ، إذ حذف المضافتان إليه وبنيت كما بنيتا.
والعلة الثانية
: أنه ليس شيء من غير الأزمنة ، وما في معناها يضاف إلى الجمل إلا" حيث"
، فلما خالفت أخواتها" حيث" بأنها قد أضيفت إلى الجملة بنيت لمخالفتها
أخواتها ودخولها في غير بابها ، أعني في مشابهة إذ من الإضافة إلى الجمل ، واستحقت
أن تبنى على السكون ؛ لأن المبني على حركة من الأسماء هو ما كانت له حالة في
التمكن ، مثل : قبل ، وبعد ، وأول ، ومن حل ، ويا زيد ، وكان حكم آخره أن يكسر
لالتقاء الساكنين.
وسنبين لما وجب
الكسر في التقاء الساكنين دون غيره إذا انتهينا إلى موضعه إن شاء الله ـ فلم يكسر
وفتح استثقالا للكسرة مع الباء. فإن قال قائل : فقد قالوا : جير وويب ووهيت
فكسروهن ، فإن الجواب في ذلك أن الحرف على مقدار كثرة استعماله تختار خفته وتؤثر
سهولته ، فلما كثر استعمال حيث مع العلة التي ذكرنا من اجتماع الكسر والياء آثروا
الفتحة لذلك ، فأما من ضم" حيث" فإنما ضمها لما كانت مستحقة للإضافة
ومنعتها كما فعل بقبل وبعد ، ونحن نبين علة الضم في قبل وبعد إذا انتهينا إليه إلا
أن الضم في حيث لالتقاء الساكنين ، وفي قبل وبعد للبناء في أول أمره.
وقد حكى
الكسائي عن بعض العرب أنهم يكسرون" حيث" فيقولون (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فيضيفونها إلى جملة ويكسرونها مع ذلك ، والأمر في هذه
اللغة عندي أنهم
__________________
شبهوها بأسماء الزمان إذا أضيفت إلى غير متمكن ، فيجوز بناؤها وإعرابها ،
كقوله عزوجل : (وَمِنْ خِزْيِ
يَوْمِئِذٍ) ويومئذ كما قال النابغة :
على حين
عاتبت المشيب على الصّبا
|
|
وقلت ألمّا
تصح والشيب وازع
|
ويروى : على
حين ، فمن قال : على حين ، جره بعلى ، ومن قال : على حين بناه ؛ لأنه أضافه إلى
غير متمكن.
وفي كسرة"
حيث" وجه آخر يجوز عندي ، أن يكون الذين كسروها فعلوا ذلك لالتقاء الساكنين ،
لا للعامل على ما يجب في التقاء الساكنين من الكسر ، فاعرف ذلك إن شاء الله.
ومن العرب من
يضيف حيث فيجرّ ما بعدها ، أنشد ابن الإعرابي بيتا آخره :
حيث ليّ العمائم
فهذا بناه
وأضافه كما قال : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
عَلِيمٍ).
فإن قال قائل :
إنما ضم" حيث" لأنها يشتمل معناها على شيئين ، كما ضم" نحن"
حين دلت على التثنية والجمع ، وكما ضمت الضاد من" ضرب" حين اشتملت على
الفاعل والمفعول.
فالجواب في ذلك
أن ما ذكره كله خطأ لا يثبت في حجاج ، ولا يستمر على نظر ؛ لأنه لو كان على ما زعم
لوجب أن تضم" إذ" لاحتياجها إلى شيئين بعدها واشتمالها عليهما كقولك :
قام زيد إذ قام عمرو ، ووجب أن لا يضم : قبل ، وبعد إذ بنيا. لاشتمالهما على شيء
واحد. يدل على فساد هذا القول أيضا أنا متى أضفنا شيئا من أسماء الزمان إلى فعل
وفاعل فبنيناه لم يجز ضمه ، وإن كان قد اشتمل على شيئين ، ولو تقصينا الوجوه التي
تفسد هذا القول لطال الكتاب ، بينما الغرض غيره.
وأما"
أين" فإنه اسم من أسماء المكان ، وهو يستوعب الأمكنة كلها ، متضمنة لمعنى
الاستفهام ، والحكمة في ذلك أن سائلا لو سأل عن مكان فقال : " أفي الدار زيد؟
أو في
__________________
السوق ، أو في المسجد". ولم يكن في واحد منها ، قال المسؤول"
لا" ويكون مجيبا ، ويكون صادقا في ذلك ، وليس عليه أن يجيب عن مكانه وإن كان
عالما به لأنه لم يسأل إلا عن كونه في هذه الأمكنة فقط ، ولو ذهب السائل فعدد
الأمكنة مكانا مكانا في الاستفهام قصّر عن استيعابها وطال عليه بلوغ غايتها ، فأتى
بلفظة تشتمل على الأمكنة كلها وتقتضي الجواب عن كل واحد منها ، وتتضمن معنى
الاستفهام ، وهي" أين" ووجب أن تبنى على السكون لوقوعها موقع حروف
الاستفهام ، إلا أنه التقى في آخره ساكنان ، الأول منهما ياء فآثروا الفتح من أجل
الياء التي قبلها ولأنها كثيرة الدّور في كلامهم ، ولم يحملوه على قياس ما يجب في
التقاء الساكنين من الكسر استثقالا للياء والكسرة بعدها ؛ لأن الكسرة كبعض الياء
ألا ترى أنك إذا أشبعت الضمة صارت واوا ، وإذا أشبعت الكسرة صارت ياء ، وإذا أشبعت
الفتحة صارت ألفا.
وقد اختلف
الناس في الحركات والحروف المأخوذة منها الحركات ؛ فقالت طائفة إن الحروف مركبة من
الحركات ، كأنهم جعلوا الواو مركبة من ضمة مشبعة وكذلك أختاها ، وقالت طائفة : إن
الحركات مأخوذة من الحروف ، قالوا : والدليل على ذلك أنا رأينا هذه الحروف الثلاث
لها مخارج كمخارج سائر الحروف ، فعلمنا أنها غير مركبة من شيء سواها ، والحركات
مأخوذة منها ، ويدل على أن الحركات مأخوذة منها أنا إذا أردنا تحريك حرف بإحدى
الحركات الثلاث ، أملنا ذلك الحرف إلى مخرج الحرف المأخوذة منه تلك الحركة.
فإن قال قائل :
ولم زعمتم أن التقاء الساكنين يوجب كسر أحدهما ، دون أن يوجب ضمه أو فتحه؟ قيل له
: في ذلك علتان :
إحداهما : أنا
رأينا الكسرة لا تكون إعرابا إلا باقتران التنوين بها ، أو ما يقوم مقامه ، وقد
تكون الضمة والفتحة إعرابين فيما لا ينصرف بغير تنوين يصحبهما. ولا شيء يصحبهما
يقوم مقام التنوين ، وإذا اضطررنا إلى تحريك الحرف حركناه بحركة لا يوهم إنها
إعراب وهي الكسرة.
والعلة الثانية
: أنا رأينا الجر مختصا بالأسماء ، ولا يكون في غيرها ، ورأينا الجزم الذي هو سكون
مختصا به الأفعال دون غيرها. فقد صار كل واحد منهما في لزوم بابه والاختصاص به مثل
صاحبه ، فإذا اضطررنا إلى تحريك الساكن منهما حركناه
بحركة نظيره.
ووجه آخر وهو
أن المجزوم الساكن قد تلقاه ساكن بعده ، فلو حركناه بالضم أو بالفتح لتوهّم أنه
فعل مرفوع أو منصوب.
فإن قال قائل :
قد رأينا الساكنين إذا اجتمعا حرك الأول منهما أو حذف إن كان مما يحذف ، ورأينا
التغيير يلحق الأول منهما فألا ألحقتم التغيير الياء من أين دون غيرها؟
قيل له : لعمري
كان حكم اجتماع الساكنين أن يلحق التغيير الأول ، إذا لم تكن علة مانعة ، نحو قولك
: قامت المرأة ولم يذهب الرجل ، وقد يلحق الثاني التغيير إذا لم يمكن في الأول ،
كقولك : رجلان ، وغلامان ، ومسلمون ، وصالحون ، وما أشبه ذلك.
والذي منع
الأول في" أين" من التحريك هو أنا لو كسرنا الياء كانت الكسرة فيها
مستثقلة ، ولو فتحناها فقلنا" أين" وجب أن نقلبها ألفا لتحركها وانفتاح
ما قبلها على حكم التصريف ، كقولنا : باع وجاد ، ولو قلبناها ألفا وجب تحريك النون
أو حذف الأول ، فكان يلزم فيه تغيير بعد تغيير ، فتجنبوا ذلك.
فإن قال القائل
: فلم وجب في التقاء الساكنين تغيير الأول دون الثاني؟ قيل له : من قبل أن سكون
الأول يمنع من التوصل إلى الثاني ، وبتحريكه يتوصل إلى النطق بالثاني ، فصار
بمنزلة ألفات الوصل التي تدخل متحركات ليتوصل بها إلى ما بعدها من الساكن.
فإن قال قائل :
فقد رأينا في كلامهم ، نحو : جير ، وحيص بيص في بعض اللغات ، وحروف قد جاءت مكسورة
على مثال أين وفيه من استثقال الكسر بعد الياء مثل ما ذكر تموه في أين ، فكيف ساغ
لكم الاحتجاج في فتح أين وأخواتها بما ذكرتموه ، وقد جاء ما ينقض ذلك من هذه
الأسماء الذي ذكرناها؟
قيل له : إنما
كسرت هذه الأسماء على أصل ما يجب لالتقاء الساكنين ، وقلّت في كلامهم فلم يحفلوا
بكسرها لقلتها وقلة معالجتهم لها ، وأين وأخواتها كثيرات الدور في الكلام ؛ لأنها
يستفهم بها عن الأشياء العامة ، فاختير لها أخف الحركات لما فيها من الياء ، وثقل
الكسر معها على ما وصفنا ، فاعرف ذلك إن شاء الله.
وأما"
كيف" فإنه يستفهم بها عن الأحوال ، ووقعت موقع ألف الاستفهام ، كأنك إذا قلت
كيف زيد فقد قلت : أصحيح زيد أم سقيم؟ أم غير ذلك من أحواله؟ إلا أنك لو نطقت
بأحواله واحدة واحدة طال عليك أن تأتي على آخرها ، ولم تكن مستوعبا للغرض
المقصود ، ألا ترى أنك لو قلت : أأسود زيد؟ أم أبيض؟ أم أشقر؟ جاز أن يكون
على لون خلاف هذه الثلاثة ، فلا يجب على المسؤول إجابتك عنه ولا شرحه لك ؛ لأنك لم
تأت بلفظ يقتضي جوابه ، فجاءوا بكيف مشتملة على الأحوال كلها جملة وتفصيلا ، ووقعت
موقع الحال متضمنة ألف الاستفهام فوجب بناؤها على السكون والتقى في آخرها ساكنان :
الياء والفاء ، فحركوا الفاء إلى الفتح استثقالا للياء والكسرة ، وقد بيّنا هذا
مستقصى في أين.
فإن قال قائل :
أليس إذا قلنا : أين زيد؟ وجب على المسؤول أن يخبر عن مكانه الذي هو فيه لا يجزم
شيئا مما اشتملت عليه المسألة إذا أراد أن يوفيها حقها.
قيل له : نعم ،
فإن قال : فينبغي إذا قيل : كيف زيد ، أن يجيبه عن أحواله التي هو عليها في وقت
المسألة ، لأن له أحوالا كثيرة ، قيل له قد ـ لعمري ـ يجب ذلك في ظاهر المسألة كما
وجب في" أين" ، وكما يجب في" متى" ، إلا أن الشيء لا يكون له
إلا مكان واحد في حال المسألة ، وكذلك لا يكون له إلا وقت واحد في حال المسألة ،
فالجواب منه يمكن غير متعدد ولا مستثقل ، ويكون له أحوال كثيرة لا يأتي المحصي على
تعدادها في حالة واحدة إلا بعد طول ومشقة ، ألا ترى أنه في وقت واحد : أسود طويل
صحيح متكلم سميع بصير ؛ وغير ذلك من الأحوال ، ولا يكون في حال واحد في السوق وفي
المسجد ، ولا يحدث الشيء الواحد في زمانين مختلفين حدوثا واحدا ، فيجب أن يكون
الجواب لكيف ما يقّر المسؤول أنه غرض السائل من أحوال المسؤول عنه.
فإن قال قائل :
ألستم تقولون : من أين جئت؟ وإلى أين تذهب؟ وكذلك : منذ متى؟ وإلى متى؟ فتدخلون
حروف الجر على الأسماء المستفهم بها ، فلم امتنع دخول ذلك على كيف ؛ فتقولون : من
كيف ، وإلى كيف ، فالجواب في ذلك ـ وبالله التوفيق ـ أن" أين" لما كانت
استفهاما عن الأمكنة ونائبة عن اللفظ بها ، وكنا متى ذكرنا الأمكنة جاز أن يدخل
عليها الحروف فنقول : أمن السوق جئت أم من البيت؟ وإلى السوق تذهب أم إلى المسجد؟
جاز أن تدخلها على ما قام مقام هذه الأشياء التي يجوز دخول الجر عليها ، وكذلك
سائر الأشياء المستفهم بها ، هي نائبة عن أسماء تدخل عليها حروف الجر فجاز أن تدخل
الحروف عليها هي.
وأمّا"
كيف" فإنما هي مسألة عن الأحوال ، والأحوال لا يجوز دخول حروف الجر
عليها في الاستفهام ، لا تقول : أمن صحيح أم من سقيم؟ وكذلك سائر الأحوال ،
فلم تدخل على كيف ، كما لما لم تدخل على ما ناب عنه كيف.
فإن قال قائل :
ولم لم يدخل على ما ناب عنه كيف ، كما دخل على ما ناب عنه أين وأخواتها؟
فإن الجواب في
ذلك أن كيف هو الاسم الذي بعده ، وأين هو غير الاسم الذي بعده ، وإنما هو مكانه
وفي تقدير الظروف له ، ومعنى ذكرنا اسمين وأحدهما هو الآخر. فإن الكلام غير محتاج
إلى حرف ، كقولك : زيد أبوك وزيد قائم ، وإذا كان أحدهما غير الآخر فلا بد من حرف
ظاهر أو مقدر ، كقولك : زيد في الدار ، وعمرو من بني تميم ، وخالد خلفك ، والتقدير
: في خلفك ، والقتال يوم الجمعة ، والتقدير : في يوم الجمعة.
قال قائل : لم
يكون الجواب عن الأسماء التي يستفهم بها معرفة ونكرة؟ كقولك : أين زيد؟ فيقول
المسؤول عنه : مكانا طيبا ، وتقول في حال : خلفك فيكون معرفة مرة ونكرة أخرى ، ولا
يكون الجواب في كيف إلا نكرة.
فالجواب في ذلك
أن" كيف" على ما بينا هو الاسم الذي بعده ، فلو جعلناه معرفة لكان
السائل إذا قال : كيف زيد ، فقال : المسؤول : القائم أو الصحيح ، كان قد أجابه عن
إنسان بعينه لا عن حال ، وإنما هو جواب من إذا قلت : " من زيد" فيقول :
القائم أو القاعد ، ونحو ذلك. فلما كان التعريف يخرجه إلى الجواب عن الذوات ، بطل
أن يجاب عن" كيف" بمعرفة ، وأما" أين" فإنما يجيب عن مكانه ،
وقد يكون مكانه معرفة ونكرة كما بينا. وفي كيف لغة أخرى ، يقال : كيف ، وكي في
معنى كيف ، قال الشاعر :
أو راعيان
لبعران لنا شردت
|
|
كي لا يحسّان
من بعراننا أثرا
|
أراد كيف لا
يحسان ، فمنهم من يقول : أنه حذف للشعر ، ومنهم من يقول : إنها لغة.
فإن قال قائل :
لم جاز أن يجازي بالأسماء التي يستفهم بها ، ولا يجوز المجازاة بكيف؟ ففي ذلك
جوابان : أحدهما أن الأسماء التي يجازي بها ويستفهم بها لا شيء منها إلا ويجوز أن
يكون معرفة ونكرة ، ويكون جوابه معرفة ونكرة ، والمجازاة به على تقدير
__________________
حرف الجزاء فيه ، وذلك أنك إذا قلت : أين زيد آته ، فكأنك قلت : أين زيد إن
أعرف مكانه آته ، ففي أيّ مكان كان وجب عليك إتيانه بعد معرفته ، وكذلك إذا قلت :
أين تكن أكن ، كأنك قلت : إن تكن في السوق أكن فيها ، أو تكن في مكان غيرها أكن
فيه ، فلمّا كانت مشتملة على الأسماء التي تقع بعد حرف المجازاة جاز أن يجازي بها
، إذا كانت مساوية لها. وأما كيف فلا يقع إلا على نكرة ، ولا يكون جوابها إلا نكرة
، فخالفت حروف الجزاء فيما يقع عليه فلم يجاز بها لقصورها عن بلوغ معاني حروف
الجزاء ، فهذه علة أبي العباس.
والجواب الثاني
: أنك إذا قلت : " أين يكن زيد أكن" ، فقد شرطت على نفسك أنك تساويه في
مكانه ، وتحل في محله ، وهذا معنى ممكن غير متعذر وقوع الشرط عليه ، وإذا قلت :
" كيف تكن أكن" ، فقد ضمنت أن تكون عن أحواله وصفاته كلها ، وهذا متعذر
وقوعه ، وبعيد اتفاق شيئين من جميع جهاتهما في جميع أوصافهما.
قال
سيبويه : " والكسر فيها نحو ألاء وحذار وبداد".
قال أبو سعيد :
يعني الكسر في الأسماء المبنية ، فأما ألاء : ففيه ثلاث لغات أشهرها ألاء ممدود
مكسور على مثال غراب ، وألى مقصور على وزن هدى وقد زادوا فيه هؤلاء.
فإن قال قائل :
لم وجب الكسر في ألاء؟ قيل له : في ذلك وجهان : أحدهما أنه إشارة إلى ما بحضرتك
مادام حاضرا فإذا زال لم يسمّ بذلك ، والأسماء موضوعة للزوم مسمياتها ، ولما كان
لهذا غير لازم لما وضع له صار بمنزلة المضمر الذي يعتقب الذكر إذا جرى ولا يؤتى به
قبل ذلك ، فهو اسم المسمى في حال دون حال ، فلما وجب بناء المضمر وجب بناء المبهم
لذلك.
فإن قال قائل :
فأنت إذا قلت متحرك وساكن وآكل وشارب ، فإنما يقع هذا الاسم عليه في حال أكله
وشربه وحركته وسكونه ، فإذا زال عن ذلك لم يسم به ، فكذلك المشار إليه يسمى بأسماء
الإشارة ما دام حاضرا فإذا زال لم يسم بها ، فلم بال أسماء الإشارة وفيها ما في
المتحرك والساكن من زوال التسمية عنه إذا زال عن الفعل؟ قيل له : الفصل بينهما أن
المتحرك والساكن اسمهما لازم لهما في كل أحد حاضر وغائب ، والمشار إليه لا يجوز أن
يقول له" هذا" إلا من كان حاضرا ، ومن غاب عنه لم تسمه بذا ، فعلمنا أن
هذا الاسم غير لازم له فصار بمنزلة الضمير الذي يضمره من ذكر الاسم إذا ذكر عنده
ولا
يسميه به غيره.
ووجه ثان : أن
الإشارة مبهمة واقعة على كل شيء من حيوان وجماد وإنسان فوجب أن سكن آخر"
أولاء" ، فالتقى فيه ساكنان ، فكسر الثاني منهما لامتناع كسر الأول. فإن قال
قائل : ولم وجب بناء هذه الأسماء لمشاكلة الضمير؟
قيل له : إنما
وجب بناؤها وبناء الضمير معها لمشاكلتها لحروف المعاني ؛ لأنه لا شيء إلا وحروف
المعاني داخلة عليه غير ممتنعة في شيء دون شيء ، فلما كان الضمير والإشارة داخلين
على الأشياء كلها لدخول الحروف عليها ، وجب بناؤها.
فإن قال قائل :
فأنت قد تقول : " شيء" فيكون واقعا على الأشياء كلها ؛ فهذا وجب بناؤه
لوقوعها على الأشياء كلها.
قيل له :
الجواب عن ذلك أن شيئا هو اسم المسمى لازم له في أحواله كلها ، والكناية والإشارة
والحروف هي أعراض تعرض في الأشياء كلها ، وليس شيء منها إلا يزول فافترق المعنيان
وتباين الحكمان ، وصار" شيء" للزومه ما سمى به وإن كان عاما كلزوم رجل
وفرس وسائر الأشياء المنكورة لما سمي بهن وتصرف في وجوه الإعراب كتصرف الأشياء
المنكورة ، وأما من قصر فإنه بناء لمثل العلة التي ذكرنا إلا أنه لم يلتق في آخره
ساكنان.
وأما من قال :
" هؤلاء" ، فإنه كان الأصل : هاؤلاء ، فها للتنبيه ، وأولاء للإشارة ،
وكثر في كلامهم حتى صار ككلمة واحدة ، فخففوه ، وقالوا هؤلاء ، قال الشاعر :
تجلّد لا يقل
هؤلاء هذا
|
|
بكى لما بكى
ألما وغيظا
|
ويقال في
واحد" أولاء" ، للمذكر : ذا ، وللمؤنث : تا ، وتي ، وذي ، وذه. والكلام
في بنائهن كالكلام في بناء أولاء.
فإن قال قائل :
أخبرونا عن هذه الوجوه التي في المؤنث ، هل هي أصول كلها؟ أم بعضها أصول وبعضها
فروع؟
فالجواب في ذلك
أن : تا ، وتي ، وذي هي أصول ، و" ذه" هاؤها مبدلة من الياء ، وهو
الشائع من قول أصحابنا ، واستدلوا على ذلك بأن قالوا : رأينا التأنيث قد يكون
بالياء في
__________________
حال ، في قولك : اضربي ، ولم نر الهاء تكون للتأنيث ، فإذا جاءت اللغتان في
شيء الهاء والياء فيه ، وقد رأينا الياء للتأنيث في أصل ، ولم أر الهاء للتأنيث في
شيء جعلنا الياء هي الأصل في التأنيث.
فإن قال قائل :
فقد رأيناهم جعلوا الهاء للتأنيث في قولهم : قائمة ، وشجرة ، إذا وقفوا عليها. قيل
له : ليست هذه هاء في أصلها وحقيقتها ، وإنما تأنيث الاسم بالتاء ، وإنما يوقف
عليها بالهاء ليفرق بين تأنيث الاسم وتأنيث الفعل ، وأيضا فإن هذه الهاء تنقلب تاء
في الدرج ، والكلام إنما هو في حقيقته على ما يدرج عليه الكلام ، ألا ترى أنا نقلب
من التنوين ألفا في النصب ، وحقيقته تنوين على ما يدرج عليه الكلام.
ويدل على ذلك
أيضا أن من العرب قوما وهم من طيئ يقفون على التاء في مثل هذا ، فيقولون : شجرت ،
وحجفت ، يريدون : شجرة ، وحجفة ، فإذا ثنيت شيئا من هذا أدخلت حرف التثنية ، وهو
ساكن ، فاجتمع ساكنان وليس الألف مما تحرك بحال لإبهامها فسقطت ، فتقول : ذا ،
وذان ، وتا ، وتان ، وذي ، وتان ، وذه ، وتان يجتمعن في التثنية على تا وسقط الحرف
الأول لاجتماع الساكنين ولأنه مبهم لا يحرك بحال.
فإن قال قائل :
فأنتم تقولون : رحا ورحيان ، وقفا وقفوان فتقلبون الألف واوا أو ياء في التثنية
لاجتماع الساكنين وتحركونها ، فهلا فعلتم ذلك في تثنية ذا وتا؟
قيل له : إنما
فعل هذا برحا وقفا ؛ لأن الألف منهما في موضع حركة ، والدليل على ذلك أن مثلهما في
الصحيح متحرك كقولهم حمل وجبل وأشباه ذلك.
فإن قال قائل :
فأنتم تقولون : حبلى وحبليان وحباري وحباريان ، وألف التأنيث لا حركة لها في أصلها
فهلا فعلتم في ذلك في تين وذين؟
فالجواب في ذلك
أنا رأينا ألف التأنيث في حكم الحركة ، ولو كانت متحملة للتحريك لكانت محركة ولم
تكن مسكنة كما تسكن المبهمات ، والدليل على ذلك أن حمراء وصفراء وخنفساء متحركات
الهمزة ، وهمزتهن مبدلة من ألفات التأنيث ، فلما كان الهمز محتملا للحركة حركته
بما كان يستحق الألف من الحركة وليس ذلك في ذين وتين.
فإن قال قائل :
فأنتم إذا صغرتم : ذا ، وتا ، قلتم : ذيا ، وتيا ، فقلبتم هذه الألف ياء وحركتموها
، فهلا فعلتم ذلك في التثنية؟
فإن الجواب في
ذلك أن باب التصغير لا يشبه شيئا مما ذكرناه ، وذلك أنا إذا
صغرنا اسما على أقل من ثلاثة أحرف رد التصغير الحرف الذاهب ، فلما
صغرنا" ذا" لم يكن بد من تتمة ثلاثة أحرف وتحريكهن ، ولم تكن هذه الألف
بأضعف من حرف ليس في الاسم يرده التصغير ويوجب تحريكه ، فكأنما جعلناه بمنزلة حرف
معدوم فرده التصغير وحركه ، ولا توجب التثنية ذلك ، ألا تراهم قالوا : يد ، ويدان
، وقالوا : يديّة ، وقالوا : دم ، ودمان ، ودمي.
فإن قال قائل :
لم أجمعوا في تثنية المؤنث على إحدى اللغات الثلاث ، فقالوا : تان. فالجواب في ذلك
أنهم لو قالوا تان وذان في تثنية ذي التبس المذكر بالمؤنث في لغة الذين يقولون ذي
، فاستعملوا في التثنية لغة الذين يقولون : تا ، لزوال اللبس وإيضاح المقصود
بالتثنية.
فإن قال قائل :
فلم استوى المذكر والمؤنث في قولك : أولاء عند الإشارة؟
فالجواب في ذلك
أن أولاء وقع على جمع أو جماعة ، فكأنه قال : أشير إلى هذه الجماعة ، أو إلى هذا
الجمع ، فلما كانت في مذهب الجمع والجماعة ، وكان الجمع والجماعة يقع على الرجال
والنساء والحيوان والجماد والمذكر والمؤنث والأجسام والأعراض وقع على ذلك كله
أولاء وهؤلاء ، فاستوى المذكر والمؤنث ، قال جرير :
دم المنازل
بعد منزلة اللوى
|
|
والعيش بعد
أولئك الأيام
|
وقال بعض
الأعراب :
ياما أميلح
غزلانا شدن لنا
|
|
من هؤليائكن
الضال والسمر
|
فجاء بأولاء
للأيام وللضال والسمر ، ومما يشبه هذا المعنى أن جمع المذكر والمؤنث إذا كان مكسرا
فهو مؤنث ولا يختلف باختلاف واحده ؛ لأنه ذهب بهما مذهب الجماعة ، فكذلك ذهب
بالإشارة مذهب الجماعة والجمع ، فاعرف ذلك إن شاء الله.
فإن قال قائل :
فلم دخلت النون في تثنية : ذا ، فإن في ذلك جوابين ، أحدهما : أن النون عوض مما
حذف لالتقاء الساكنين وهو الألف التي كانت في ذا ، وكذلك المبهمات
__________________
التي تدخل عليها النون في التثنية ، نحو : تا ، والذي وغير ذلك.
فإن قال قائل :
ولم إذا حذف حرف لالتقاء الساكنين وجب أن يعوض منه؟
قيل له : من
قبل أن التثنية لا يسقط بها شيء من آخر الاسم لالتقاء الساكنين إلا المبهم ، فلما
خالف المبهم الصحيح ، فمنع ما يكون في نظيره من جهة التثنية ، ونقص منه حرف لا
ينقص من غيره من المثنى عوض من ذلك.
والوجه الثاني
: أنا رأينا التثنية لا تختلف طريقتها ولا تكون إلا على منهاج واحد لأنه يرد فيها
صيغة المفرد وتزاد عليه علامة التثنية فقط ، فلما كانت التثنية على ما وصفنا استوى
المبهم وغيره في التثنية لاستواء طريقة التثنية واتفاق منهاجها فأعرب جميعها ، وقد
شدد بعضهم النون في تثنية المبهمات ، فقالوا : هذان واللذان (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ).
فأما هذان
واللذان. ففيه وجهان : أحدهما أن هذه النون جعلت عوضا من المحذوف الذي ذكرنا ، في
الوجه الأول فصار بمنزلة الميم المشددة في آخر اللهم عوضا من (يا) ويحتمل أن يكون
في هذا الوجه شددت النون ، ليفرقوا بين النون التي هي عوض من حرف محذوف والنون
التي تدخل عوضا من الحركة والتنوين ، فجعلت للمعوضة من الحرف مزية فشددت ؛ لأن
الحرف أقوى من الحركة والتنوين. والوجه الثاني أنه شددت النون للفرق بين المبهم
وغيره ليدلوا بتشديد النون على أنه على غير منهاج المثنى الذي ليس بمبهم ، ولأنه
لا تصح فيه الإضافة ، وغيره من المثنى يصح أن يضاف فتسقط نونه وكان ما لا يسقط
بحال أقوى مما يسقط تارة ويثبت أخرى فشددت لذلك.
وأما ذانك ففيه
الوجهان اللذان في" هذان واللذان" ، وفيه وجه آخر ، قالوا أبو العباس :
الذي يقول في الواحد ذلك فيدخل اللام للزيادة في البعد ، يقول في التثنية : ذانك
مشدد النون والذي يقول ذاك في الواحد يقول في التثنية ذانك بالتخفيف.
فإن قال قائل :
كيف صار تثنية ذلك ذانك؟ فإن في ذلك وجهين :
أحدهما : أنا
ثنينا ذا فصار ذان ، ثم أدخلنا اللام بعد النون للمعنى الذي أردنا من زيادة البعد
فصار ذانلك ، فاجتمع حرفان اللام والنون وكل واحد منهما يجوز إدغامه في
__________________
صاحبه فقلبنا الثاني إلى الأول فصار الثاني الذي هو اللام نونا وأدغمنا فيه
النون الأولة. ونظير هذا" مذكر" بالذات المعجمة مفتعل من الذكر ، وكان
أصله مذتكر فقلبنا من التاء دالا فصار مذدكر ، والدال والذال كل واحد يدغم في
صاحبه ، فقلبنا الثانية إلى جنس الأولة فصارت الدال غير المعجمة ذالا معجمة ،
وأدغمت الذال الأولى فيها فكان قلب الثاني إلى لفظ الأول أولى ؛ لأن لفظ النون يدل
على التثنية ولفظ اللام لا يدل على شيء.
والوجه الثاني
: أنا أدخلنا اللام قبل النون فصار ذالنك ، ثم قلبنا اللام نونا وأدغمناها في
النون ، وهذا نظير مدكر بالدال غير المعجمة ، وهو القياس ؛ لأن حكم الحرف الأول أن
يكون هو المدغم في الثاني ؛ لأن الثاني هو المتحرك الظاهر. إلا أن إدغام اللام في
النون ليس بذاك القوى كإدغام الذال في الدال ، فكذلك القائل بالقول الأول في ذانك
إلى ما وصفناه.
فإن قال قائل :
فإذا زعمت أن ذانك هو تثنية ذلك فيجب أن تكون الألف والنون بعد اللام فيكون ذا
لانك؟
فالجواب في ذلك
أن هذه اللام دخلت بعد التثنية للتوكيد الذي ذكرناه في البعد كما دخلت على الواحد
بعد تمام صياغته ومعناه فوقعت أخيرا بعد الألف كما وقعت بعد حروف الواحد ، فاعرف
ذلك إن شاء الله.
فإن قال قائل :
أخبرونا عن الألف التي في ذان أهي الألف في ذا أم هي ألف التثنية؟
فالجواب في ذلك
أنها ألف التثنية ، وقد عطف الألف الأولة ، والدليل على ذلك أنها تنقلب ياء في
الجر والنصب كألف التثنية فعلمنا أنها هي ، وأن ألف ذا هي الساقطة ، فاعرف ذلك إن
شاء الله.
وأما"
حذار" و" بداد" فإن ما كان على بنائهما مما يستحق البناء على
الكسرة على أربعة أقسام :
الأول : ما وضع
موضع الفعل نحو حذار ونزال.
والثاني : ما
كان واقعا موقع المصدر نحو فجار وبداد.
والثالث : ما
كان معدولا عن صفة غالبة ، نحو قولهم : حلاق للمنية وفساق للفاسقة.
والرابع : ما
كان معدولا عن فاعله علما كقولك حذام وقطام ، وأنا مبين هذه
الأقسام قسما قسما بتعليله وما فيه إن شاء الله.
فأما فعال في
الأمر إذا وقع موقع فعل الأمر فإن حكمه أن يقع مسكنا في الأمر فإنه وقع موقع فعل
الأمر ، وهو مسكن فاستحق مثل حال الذي وقع موقعه ، والتقى في آخره ساكنان الألف
الزائدة ولام الفعل ، فوجب تحرك اللام لالتقاء الساكنين ، وكان الكسر أولى بها
لعلتين إحداهما أن نزال مؤنثة والكسر من علم التأنيث فأعطي أشكل الحركات بها ،
والدليل على ذلك قول زهير :
ولأنت أشجع
من أسامة إذ
|
|
دعيت نزال
ولج في الذعر
|
فأنث نزال.
والعلة الثانية : أنه لما التقى في آخره ساكنان كسرنا على حد ما يوجبه التقاء
الساكنين من الكسر. وزعم سيبويه أنه يطرد في هذا الباب من الأفعال الثلاثية كلها
أن يقال فيها فعال بمعنى افعل فما كان افعل منه غير متعد لم يتعد فعال الذي وقع
موقعه وما كان افعل متعديا تعدى فعال منه نحو حذار ونزال ومناع ، كما تقول : اترك
، احذر ، امنع ، قال الكميت :
نعاء جذاما
غير موت ولا قتل
|
|
ولكن فراقا
للدعائم والأصل
|
أراد أنع جذاما
، وقال آخر :
تراكها من
إبل تراكها
|
|
أما ترى
الموت لدى أوراكها
|
وقال آخر :
مناعها من
إبل مناعها
|
|
أما ترى
الموت لدى أرباعها
|
وقد يكون مثل
هذا في الفعل الرباعي إلا أنه قليل لا يجعل أصلا ولا يقاس عليه ، قالوا قرقار في
معنى قرقر ، وعرعار في معنى عرعر وعرعار لعب ، قال الشاعر :
قالت له ريح
الصبا قرقار
|
|
واختلط
المعروف بالإنكار
|
وقال النابغة :
__________________
متكنفي جنبي
عكاظ كليهما
|
|
يدعو وليدهم
بها عرعار
|
فإن قال قائل :
أخبرونا عن فعال هذه أهي اسم أم غير اسم؟ قيل له : هي عندنا اسم معرفة مؤنث ،
والدليل على أنها اسم أنه ليس في أبنية الأفعال مثله ؛ لأنه ليس أبنية الأفعال
فعال وهو في الأسماء كثير ، ومع ذلك فإن زهيرا جعلها فاعلة وأنثها بقوله : "
دعيت نزال" ، وذلك لا يكون إلا في الأسماء والدليل على أنها معرفة أنك لو قلت
دعيت نزال فإنما يراد انزل أو انزلوا ، وهذا اللفظ هو معروف لا ينكر ، وقد ذكر بعض
النحويين أن فعال في معنى افعل لا تكون مطردة في الأفعال الثلاثية كلها وكما لا
يطرد في الأفعال الرباعية كلها إنما يقال من ذلك ما قالته العرب حسب ، فلا يقال
قوام في معنى قم ولا قعاد في معنى اقعد ، ومع ذلك فإن فعال اسم وضعته العرب موضع
افعل وليس لأحد أن يبتدع اسما لم تقله العرب ولا تكلمت به ، وذهب سيبويه في الفصل
بين الثلاثي والرباعي إلى أن فعال في الثلاثي قد كثر في كلامهم جدا واستمر ولم
يسمع من الرباعي إلا في الحرفين اللذين ذكرناهما أو غيرهما من القليل الشاذ النادر
، وإنما يعرف استمرار الشيء واطراده في القياس بكثرته على منهاج واحد فلما كثر ذلك
في الثلاثي على المنهاج الذي ذكرناه جعله أصلا وقاس عليه.
وأما القسم
الثاني من فعال إذا كانت في معنى المصدر فليست تكون مبنية إلا أن تكون معرفة مؤنثة
معدولة. وذلك نحو فجار وبداد. قلنا فجار فكأنا أردنا الفجرة والفجرة مؤنثة معرفة
وفجار معدولة عنها واجتمع فيها العدل والتأنيث والتعريف ، فزعم سيبويه أن الذي
أوجب بناءها مشابهتها لفعال التي تقع في الأمر ومشابهتها إياها أنهما معرفتان
مؤنثتان.
وزعم أبو
العباس أن الذي أوجب بناءها أنها لو كانت مؤنثة معرفة غير معدولة لكان حكمها أن لا
تصرف فلما عدلت زادها العدل ثقلا فلم يبق بعد منع الصرف إلا البناء فبقيت لذلك ،
وهذا قول مدخول من قبل أن الشيء إذا اجتمع فيه علتان يمنعان الصرف أو ثلاث وأربع
كانت القصة واحدة في منع الصرف حسب ، فلا يجاوز به اجتماع العلل إلى البناء : لأن
البناء يقع بمشاكلة الحروف ومناسبتها والوقوع موقعها ومنع
__________________
الصرف ، إنما يكون لاجتماع علتين فصاعدا في الاسم من العلل التي تمنع الصرف
، والدليل على ذلك أن صحراء ونحوها لا تنصرف وهي نكرة ، وإذا سمينا بها مؤنثا لم
يزدها التعريف ثقلا يخرجها إلى البناء وكذلك مساجد لو سمي بها رجل لم يصرف من أجل
هذا البناء وهو مذكر معرفة ولو سمي بها امرأة لم تنصرف وكان حالها في تسمية الرجل
والمرأة بها سواء وإن كانت في تسمية المرأة بها علّة زائدة. فهذا يبين لك ما
ذكرناه من صحة قول سيبويه وفساد قول غيره ، وقال النابغة :
إنّا اقتسمنا
خطتينا بيننا
|
|
فحملت برّة
واحتملت فجار
|
يريد الفجرة :
قال أبو سعيد :
ويجوز عندي أن يكون أراد فاجرة معرفة فعدل فجار عن فاجرة معرفة مثل قطام وجعلها
علما للخطة. والدليل على ذلك قوله فحملت برّة فجعل الخطة برّة ولقّبها بهذا وجعلها
معرفة فلم يصرفها ونقيض برة فاجرة لا الفجرة وكأن الخطط خطتان : إحداهما يقال لها
برة والأخرى فجار اسم لها معدول عن فاجرة ، فتبيّن ذلك إن شاء الله ، وقال آخر :
وذكرت من لبن
المحلّق شربة
|
|
والخيل تعدو
بالصعيد بداد
|
يعني بددا في
معنى متبددة. وحقيقة هذا أنّ بداد في موضع مصدر مؤنث معرفة وإن كان لا يتكلم به
كأنه في التقدير البدّة لا يتكلم بالبدة ولكن هذا حقيقتها.
فإن قال قائل :
وكيف يجوز هذا التقدير ، وبداد في موضع الحال ، والحال لا تكون إلّا نكرة ، قيل له
قد يجوز أن تجيء الحال إذا كان المصدر معرفة بالألف واللام أو بالإضافة ، كما تقول
فعلته جهدي وطاقتي ، وكما قال لبيد :
فأرسلها
العراك ولم يذدها
|
|
ولم يشفق على
نغص الدّخال
|
ويروى على نغص
الدّخال.
والقسم الثالث
الصفة الغالبة ، وذلك نحو قوله للمنية حلاق وللمنية أيضا جباذ ،
__________________
وللشمس حناذ ، ومعناها أن تشوي ما يقع عليه لحرارتها ، ومنه قول الله تعالى
: (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) وقال الشاعر في المنية :
لحقت حلاق
بهم على أكسائهم
|
|
ضرب الرّقاب
ولا يهمّ المغنم
|
ويدخل في هذا
الباب قولهم يا فساق ويا خباث ويا لكاع ، وبابه أن يكون في النداء إلا أن يضطر
شاعر فيذكره في غيره مضطرا. قال الشاعر :
أطوّف ما
أطوّف ثم آوي
|
|
إلى بيت
قعيدته لكاع
|
والعلة في بناء
هذا على الكسر كالعلة فيما قبله ، والاختلاف فيه كالاختلاف فيه.
والوجه الرابع
: ما كان معدولا عن فاعله نحو حذام وقطام ، فأما أهل الحجاز فإنهم يجعلونها
كالأبواب الثلاثة التي قبلها فيبنونها ويكسرونها لاجتماع التأنيث والعدل والتعريف
، كما كان ذلك فيما قبل ، وعلة أبي العباس أنها قبل العدل غير منصرفة فإذا عدلت
زادها العدل ثقلا فبنيت ، وقد ذكرنا هذا المعنى ، قال الشاعر :
إذا قالت
حذام فصدّقوها
|
|
فإن القول ما
قالت حذام
|
وقال آخر :
أتاركة
تدلّها قطام
|
|
وضنّا بالتحية
والسّلام
|
وأما بنو تميم
فإنهم يجرونها مجرى ما لا ينصرف من المؤنث نحو زينب وعمرة ، فيقولون جاءتني قطام
ومررت بقطام ولقيت قطام إلا ما كان آخره راء فإنّ أكثرهم يوافق أهل الحجاز فيكسر
الراء ، وذلك أن الراء لها حظ في الإمالة ليس لغيرها من الحروف فيكسرونها على
الأحوال من جهة الإمالة التي تكون في الحرف ليكون الكسر من جهة واحدة ، وذلك نحو
حضار اسم لكوكب عظيم في مجرى سهيل وقربه ، وجعار اسم للضبع ووبار موضع ، ويزعمون
أنه بلد للجن ويذكرون فيه أحاديث وقصصا ليس هذا موضع ذكرها.
__________________
وبعض بني تميم
يجعل ما آخره راء كغيره من نحو حذام وقطام فلا يصرفها ويرفعها في الرفع ، ويفتحها
في النصب والجر ، قال الشاعر :
ومرّ دهر على
وبار
|
|
فهلكت جهرة
وبار
|
وهذا البيت
للأعشى وهو من بني قيس بن ثعلبة إلا أن منزله باليمامة وفيها بنو تميم وغيرهم من
قبائل العرب والمتجاورون قد يغلب على جماعتهم لغة أصلها لبعضهم.
قال
سيبويه : " والضم نحو حيث وقبل وبعد".
قال أبو سعيد :
أما حيث فقد مرّ تفسيرها وأما قبل وبعد فإن أصلهما في الكلام أن يكونا مضافتين
وكذلك حقهما في معناهما ، كقولك جئتك قبل يوم الجمعة وقبل وبعد يوم التقينا فيه
فحذف ما أضيفتا إليه واكتفى بمعرفة المخاطب فصارا بمنزلة بعض الاسم ؛ لأن المضاف
والمضاف إليه كشيء واحد ، فلما بقي المضاف دون المضاف إليه وتضمن معنى الإضافة وجب
أن يبنى ، لأن بعض الاسم مبني فإذا نكرا لحقهما الإعراب ، كقولك" جئتك قبلا
يا هذا" ، ومن قبل ومن بعد ، لأنهما إذا نكرا لم يتضمنا معناهما مضافين ، لأن
المخاطب لم يعرف معناهما مضافين فلم يصيرا كبعض الاسم ،قال الشاعر :
فساغ لي
الشراب وكنت قبلا
|
|
أكاد أغصّ
بالماء الفرات
|
فإن قال قائل :
ولم لم يبن على سكون؟ قيل له المبنيات على ضربين :
ضرب لا ملابسة
بينه وبين المتمكن ولا تعلق له به. وضرب يلابسه ويتعلق به ، فإذا كان كذلك فلا بد
من ترتبهما في البناء فيجعل لكل واحد منهما مرتبة غير مرتبة صاحبه ، فلما كان
السكون أنقص من الحركة بنينا عليه كل مبني لم يتعلق بالمتمكن ولم نلابسه وجعلنا
المبني الملابس للمتمكن مبنيا على حركة ، ليكون له بذلك فضيلة على المبني الآخر
لفضل الحركة على السكون ، فوجب من أجل ذلك أن يبني قبل وبعد على حركة لأنهما
متمكنان في الإضافة وتمكنهما في حال الإضافة فضيلة لهما في حال البناء وتعلّق
منهما بالمتمكن.
فإن قال قائل
فلم وجب بناؤهما على الضمة من بين الحركات دون غيرها؟
__________________
فإن الجواب في
ذلك أن كل واحد منهما لما كانت منصوبة ومخفوضة في حال الإضافة والتمكن في
قوله" جئته من قبلك" و" رأيته قبلك" أعطيت في حال البناء حركة
لم تكن لها في حال التمكن وهي الضمة.
وعلة ثانية :
أن قبل وبعد قد حذف منهما المضاف إليه وتضمنا معنى الإضافة ، فحركا بأقوى الحركات
ليكون عوضا من الذاهب كما يعوض من المحذوفات في مواضع كثيرة حروف وحركات ، ألا ترى
أن سيبويه جعل السين في اسطاع عوضا من ذهاب الحركة من الواو في أطوع ، فإذا جاز أن
يبدل الحرف من الحركة ويجعل عوضا ، جاز أن تبدل الحركة من الحرف وتجعل عوضه.
وعلة ثالثة :
وهي أن قبل وبعد يشبهان الاسم المنادى المفرد ، والشبه بينهما أن المنادى المفرد
متى نكر أو أضيف أعرب ، كقولك" يا راكبا" و" يا عبد الله"
وإذا أفرد بنى إذا كان معرفة وقد كان متمكنا قبل أن يبنى ، فكذلك قبل وبعد إذا
أضيفا أو نكرا أعربا وإذا أفردا غير نكرتين بنيا فلما أشبها المنادى المفرد بالشبه
الذي ذكرناه وكان المنادى مضموما ضما كما ضم.
فإن قال قائل :
فما وجه كونهما منكورين في حال ومعروفين في حال إذا كانا مفردين؟ قيل له : أما
كونهما معروفين فأن يكون المضاف إليه المحذوف منهما معرفة فيتعرفان به فإذا حذفته
لمعرفة المخاطب به فقد فهم بهما مفردين ما كان يفهمه بهما مضافين فهما على حدهما
في التعريف ، ومن ذلك قوله عزوجل : (لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أراد من قبل الأشياء ومن بعدها ، فحذف الأشياء وفهم
المعنى ، وإذا كانا منكورين فكأنهما أضيفا إلى منكور وحذف المضاف إليه فبقيا على
التنكير. فإن قال قائل فلم لم يبنيا منكورين؟ قيل له لأنهما لم يتضمنا معنى
الإضافة ، فإذا كان كذلك لم يكونا كبعض الاسم وصارا بمنزلة قولك : " مررت
بعبد وغلام" ، ونحو ذلك ، وإنما كانت العلة التي وجب من أجلها البناء أنهما
كبعض الاسم لتضمنهما معنى الإضافة ، والذي قلناه في قبل وبعد هو العلة في أوّل وفي
وراء وقدام ، وهذه الظروف إذ حذفت المضاف إليه حكمهن حكم قبل وبعد كما قال الشاعر
:
__________________
.... ولم
|
|
يكن لقاؤك
إلا من وراء وراء
|
وقد مر هذا.
والنحويون يسمون قبل وبعد إذا ضمّنا معنى الإضافة بعد حذف المضاف إليه غاية.
والمعنى في ذلك أنه لما كان حد الكلام أن ينطق بهما مضافين فحذف المضاف إليه
واقتصر بهما ، وقد كان تمام الكلام وغايته هو الشيء الذي بعدهما ، صيّرا غاية
الكلام في النطق وتم الكلام بلفظهما دون المضاف إليه في النطق فصارا غاية ينتهي
عندها المتكلم فاعرف ذلك إن شاء الله.
قال
سيبويه : " والوقف قولهم من وكم وقط وإذ".
قال أبو سعيد :
أما من فهي اسم ، والدليل على ذلك أنها تقع مواقع الأسماء فاعلة ومفعولة ولها ضمير
يعود إليها ويدخلها حروف الجر ، ولها ثلاثة مواضع هي فيها كلها مبنية لعلل أوجبت
ذلك لها ، فأولها أنه يستفهم بها عن ذوات ما يعقل من الثقلين والملائكة
كقولك" من جبريل؟ " و" من زيد؟ " و" من إبليس؟ "
فوقعت موقع حرف الاستفهام في هذا الوجه فبنيت من أجل ذلك. والثاني أنها تقع في
المجازاة على ذوات ما يعقل فبنيت لوقوعها موقع حرف الجزاء ، وهو" إن"
وذلك قولك : " من يأتني آته" كأنك قلت : " إن يأتني زيد
آته"" وإن يأتني عمرو آته" وكذلك غيرهما من سائر ما يعقل.
والثالث أن
يكون بمعنى الذي لذوات ما يعقل فيحتاج في هذا الموضع خاصة دون الموضعين الأولين من
الصلة إلى مثل ما احتاجت إليه (الذي) وتكون مبنية مثل ما كانت (الذي) ؛ لأنها
والصلة في موضع اسم واحد فهي بعض الاسم وبعض الاسم لا يكون إلا مبنيا.
وهي تفارق (الذي)
في شيئين :
أحدهما : أنها
لا توصف كما توصف الذي.
وثانيهما : أنه
لا يوصف بها ، كما يوصف بالذي : تقول : " جاءني زيد الذي قام" و"
جاءني الذي قام بالعاقل" فتصف الذي ، وتصف بها ، ولا تقول : " جاءني زيد
من قام" تريد الذي قام على النعت ولا جاءني من قام العاقل ، فإن قال قائل لم
زعمت أنها لا تقع إلا على ذوات ما يعقل من الثقلين والملائكة ، فقد قال الله عزوجل : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي
عَلى أَرْبَعٍ) والذي يمشي على بطنه ليس مما يعقل ولا الذي يمشي على
أربع ، لأن الذي يمشي على بطنه هو ما ينساب من الحيات ونحوها ، والذي يمشي على
أربع نحو الخيل والبغال والحمير والأنعام وسائر ذوات الأربع؟ قيل له : إنما جاز
إجراء" من" على هذه الأشياء وإن لم تكن مما يعقل لما خلطن بمن يعقل
وذكرن معه ، كقول لبيد :
فعلا فروع
الأيهقان وأطفلت
|
|
بالجلهتين
ظباؤها ونعامها
|
والنعام لا
تطفل وإنما تبيض ، فكأنه قال : وباضت نعامها ، وقال آخر :
علفتها تبنا
وماء باردا
|
|
حتى شتت
همّالة عيناها
|
والماء البارد
لا يعلف ولكنه قد دل العلف على السقي فكأنه قال وسقيتها ماء باردا ، وقال آخر :
يا ليت زوجك
قد غدا
|
|
متقلدا سيفا
ورمحا
|
فالرمح لا
يتقلد ولكن لما كان تقلد السيف هو حمله فكأنه قال حاملا سيفا ورمحا.
وكذلك يجعل (من)
في معنى الذي ، فكأنه قال : الذي يمشي على بطنه ، وإنما سوغ ذلك حين قال : "
فمنهم" لأنه إذا جمع كناية ما يعقل وما لا يعقل كان على لفظ كناية ما يعقل ،
فلما كان الجمع الذي فيه ما يعقل وما لا يعقل كنايته على مثل كناية الجمع الذي ليس
فيه ما لا يعقل ، كان تفصيل الجمع الذي فيه ما يعقل وما لا يعقل على مثال الجمع
الذي فيه ما لا يعقل ، فلما قال عزوجل : " فمنهم" صاروا كأنهم كلهم يعقلون ، فأجرى
على كل واحد منهم" من" في التفصيل.
وأعلم أن من
لفظها واحد مذكر إلا أنها تقع على الواحد والاثنين والجماعة من المؤنث والمذكر ،
فإذا وقع على كل شيء من ذلك كنت فيه بالخيار ، وإن شئت أجريت اللفظ عليها في نفسها
، وإن شئت على معناها في التثنية والجمع والتأنيث ، تقول : " من الناس من
يكرمك"" وإن شئت من يكرمونك" إذا أردت الجماعة ، وإذا أردت الاثنين
__________________
قلت : " من الناس من يصحب فتحمد صحبته" وإن شئت" من يصحبان
فتحمد صحبتهما" وتقول : " في النساء من يكتب ويحسب" وإن شئت"
من تكتب وتحسب" قال الله عزوجل في الجمع : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وقال في موضع آخر (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) وقال تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) فذكر أحد الفعلين وأنت الآخر ، وقال الفرزدق :
تعشّ فإن
عاهدتني لا تخونني
|
|
نكن مثل من
يا ذئب يصطحبان
|
وقد زاد
الكسائي في معاني (من) وجها رابعا ، فزعم أنها تكون صلة ، وأنشد في ذلك :
آل الزّبير
سنام المجد قد علمت
|
|
ذاك العشيرة
والأثرون من عددا
|
أراد الأثرون
عددا. وأنشد أيضا (قول عنترة) :
يا شاة من
قنص لمن حلت له
|
|
حرمت عليّ
وليتها لم تحرم
|
فجعل من في
هذين البيتين بمنزلة ما في الصلة. فأما البيت الأول فقد زعم بعضهم أن معناه
الأثرون من يعد عددا ، فحذف الفعل واكتفى بالمصدر منه ، كما يقول ما أنت إلا سيرا
، وأما البيت الثاني فإن رواية أكثر الناس (يا شاة ما قنص لمن حلت له) فإن كانت الرواية
صحيحة في من فهي لعمري زائدة وقد يحتمل أن لا تكون زائدة وتجعل من نكرة بمنزلة
إنسان. قنص بمعنى قانص وهو نعت له كما قال : وكفى بنا فضلا على من غيرنا.
وأما كم فإنها
مبنية على السكون ، والذي أوجب بناءها على ذلك أنها وقعت موقعين شابهت في كل واحد
منهما حرفا ؛ فالأول وقوعها موقع ألف الاستفهام ، ويسأل بها عن جميع الأعداد كقولك
: " كم غلاما لك" و" وكم مالك؟ " فتصير بمنزلة قولك
__________________
" أعشرون غلاما لك"" أثلاثون مالك؟ " فتغنى عن حرف
الاستفهام والاسم الذي بعده.
والثاني : أنها
تقع في الخبر موقع ربّ ، وربّ حرف فضارعتها كم في الخبر فبنيت وهي ـ أعني وكم ـ في
هذين الموضوعين تقع صدر الكلام ؛ لأنها وقعت موقع شيئين يقعان صدر الكلام إلا أنها
وإن وقعت موقع ربّ فإنها نقيضة ربّ في القلة والكثرة ، لأن ربّ يقلل بها ما بعدها
ولم يكثر بها ما بعدها ، فإن قال قائل : لم وقعت رب في صدر الكلام وهي من حروف
الجر ، وحروف الجر لا يقعن صدرا لأنهن يوصلن الأفعال إلى ما بعدهن؟ فالجواب في ذلك
وبالله التوفيق ، أن رب قد ضارعت حرف النفي وهي لا التي تنفي الجنس ومضارعتها
إياها أنها تقلل ، والتقليل يشبه النفي فجعلت صدرا كما جعلت لا صدرا.
ومما يدل على
أن التقليل يشبه النفي أنهم قد يستعملون التقليل في معنى النفي البتة ، من ذلك
قولهم : " قل من يقول ذلك إلا زيد"" وأقل رجل يفعل ذلك إلا
زيد" يريدون لا يقولون ذاك ولا يفعل ذاك إلا زيد.
وقال الشاعر :
أنيخت فألقت
بلدة فوق بلدة
|
|
قليل بها
الأصوات إلّا بغامها
|
أراد ليس بها
أصوات إلا بغامها. فإن قال قائل : ولم جعلتم كم بمحل رب واقعة موقعها وقد زعمتم
أنهما نقيضتان؟ فالجواب في ذلك أن كل جنس فيه قليل وكثير لا يخلو جنس من ذلك ،
فالجنس يشمل القليل والكثير ويحيط بهما ويقعان تحته فليس يخرج أحدهما كثرته من جنس
الآخر ؛ لأنهما معا يقعان تحت كل جنس ؛ ولأن الكثير مركب من القليل ؛ والقليل بعض
الكثير.
ولكم أحكام
ستبين في مواضعها ، إلا أن الغرض المقصود هاهنا الإبانة من علة بنائها ، وقد
أبنّاها.
وأما قط فهي
مسكنة مبنية على ذلك ، والذي أوجب بناءها على ذلك أنها اسم وقع موقع فعل الأمر في
أول أحواله ، وفعل الأمر مبني على السكون فبني قط لذلك ، وذلك قولك : قطك درهمان ؛
يريد ليكفك درهمان واكتف بدرهمين ، ونحو ذلك من
__________________
التقدير. وفي معناها قد تقول قدك درهمان ، كما تقول قطك درهمان ، فإذا
أضافهما المتكلم إلى نفسه زاد نونا ، فيقول" قطني درهمان" و" قدني
درهمان" وإنما زاد النون ليسلم سكون البناء ؛ لأنه على حرف لا يدخله الكسر
بحال كما قالوا منّي وعنّي،قال الشاعر :
امتلأ الحوض
وقال قطني
|
|
مهلا رويدا
قد ملأت بطني
|
وربما حذفوا
النون في الشعر فأضافوا وكسروا الحرف الساكن كما حكي عن بعض العرب أنه يقول مني
وعني وقدي ، قال الشاعر :
قدني من نصر الخبيبين قدي
ويروي الخبيبين
قدي فمن روى الخبيبين أراد عبد الله ومصعبا ابني الزبير ، وكان عبد الله يكني أبا
خبيب بابن له يقال له خبيب ، فلما قرن معه مصعبا قال الخبيبين. والذي قال الخبيبين
نسبهم إلى عبد الله كما قالوا الأشعرين أرادوا الأشعريين.
والشاهد في هذا
حذفه النون من قدي الأخيرة ، وقال الشاعر في حذف النون من من وعن ، قال :
أيها السائل
عنه وعني
|
|
لست من قيس
ولا قيس مني
|
وسنذكر قط
مشددة في موضعها إن شاء الله تعالى.
فإن قال قائل.
فإذا بنيتم قط للعلة التي ذكرتموها فهلا بنيتم حسبك وهو في ذلك المعنى؟ فالجواب في
ذلك أن حسب اسم صحيح أريد به معنى الفعل بعد أن وقع متصرفا ولم يصغ في أول أحواله
ليوضع موضع الفعل كما فعل ذلك بقط. والدليل على ذلك أنك تقول : أحسبني الشيء إحسابا
إذا كفاني ، واحتسبت بالشيء إذا اكتفيت به ، قال امرؤ القيس :
كحقف النّقا
يمشي الوليدان فوقه
|
|
بما احتسبا
من لين مسّ وتسهال
|
ويقال هذا لك
حساب أي كاف ، قال الله عزوجل : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطاءً
__________________
حِساباً) أي كافيا ، فمعنى حسبك أي كافيك في أصل موضوعه من جهة
اللغة لما بيناه من تصرفه ، فلعلة لم يبن فاعرفه إن شاء الله تعالى.
وأما إذ فإنها
مبنية على السكون ، والذي أوجب بناءها على ذلك أنها تقع على الأزمنة الماضية كلها
وهي محتاجة إلى إيضاح كقولك : " جئتك إذ زيد قائم"" وإذ قام
زيد". فلما كانت محتاجة إلى إيضاح وإيضاحها يصحح معناها ويفهم موضوعها صارت
بمنزلة الذي ، والأسماء الناقصة المحتاجة إلى الصلات لأن الأسماء في أصل موضوعها
للدلالة على المسميات والتمييز بين بعضها وبعض ، فإذا صار بعض الأسماء إلى حد لا
يدل بنفسه على معناه واحتاج ما يوضحه ويكشف فحواه ، حل بما بعده من تمامه محل
الاسم الواحد ، وصار هو بنفسه كبعضه وبعض الاسم يبنى.
وإذ توضح
بالابتداء والخبر ، والفعل والفاعل ، فأما الابتداء والخبر فقولك" جئتك إذ
زيد قائم" وأما الفعل والفاعل فقولك" جئتك إذ قام زيد"." وإذ
يقوم زيد". فإذا كان الفعل مستقبلا حسن تقديمه وتأخيره فتقول : " جئتك
إذ يقوم زيد" و" إذ زيد يقوم" وإذا كان ماضيا قبح التأخير لا
يقولون" جئتك إذ زيد قام" إلا مستكرها من قبل أن إذ للماضي فإذا كان في
الكلام فعل ماض اختاروا إيلاءه إياها ، لمطابقتها ومشاكلة معناهما.
وإذ عند
أصحابنا اسم مضاف إلى موضع الجملة التي بعدها كما تضاف أسماء الزمان إلى الجمل
التي هي الابتداء والخبر والفعل والفاعل كقولك" جئتك زمن زيد أمير"
و" زمن يقوم زيد" و" زمن قام زيد" ويكون موضع الجملة خفضا
بالإضافة.
واعلم أن إذ لا
يجازي بها لأنها مقصورة على وقت بعينه ماض ، فإذا دخل عليها ما وركبت معها صارت
مبهمة وجاز المجازاة بها وحلت محل متى فيجازي بها مع ما ، فهي إذا جوزي بها حرف
وليست باسم ، وسنبين ذلك في باب المجازاة إن شاء الله تعالى. قال الشاعر :
إذ ما تريني
اليوم مزجى مطّيتي
|
|
أصعد سيرا في
البلاد وأفرع
|
فإني من قوم
سواكم وإنما
|
|
رجالي فهم
بالحجاز وأشجع
|
_________________
وقد يكون لإذ
موضع آخر ، وهو قولك : " بينما زيد قائم إذ رأى عمرا" واختلفوا في ذلك ؛
فقال بعضهم : معناه ، في هذا الموضع للحال ، كما تقول : " خرجت فإذا زيد
قائم". وقال بعضهم : هي زائدة ، قال الشاعر :
بينما هنّ
بالأراك معا
|
|
إذ أتى راكب
على جملة
|
ونحن
نذكر" إذا" مع" إذ" إذ كانت مؤاخية لها في هذا الموضع وإن لم
يذكرها سيبويه. واعلم أن" إذا" اسم من أسماء الزمان وهي ظرف من ظروفه ،
وتقع فيها الأفعال المستقبلة ، وهي موضحة بما بعدها كما كانت" إذ" غير
أنها لا يليها إلا أفعال مظهرة كانت أو مضمرة ، كقولك : " أجيئتك إذا قام
زيد" يعني الوقت الذي يقوم فيه ، وفيها معنى المجازاة ؛ فلذلك لا يقع بعدها
إلا الأفعال. وإذا رأيت الاسم بعدها مرفوعا فعلى تقدير فعل قبله لأنه لا يكون
بعدها الابتداء والخبر. قال الشاعر :
إذا ابن أبي
موسى بلال بلغته
|
|
فقام بفأس
بين وصليك جازر
|
ومعناه إذا
بلغت ابن أبي موسى بلال بلغته ، فأضمرت فعلا لم يسم فاعله كما قال الآخر :
ليبك يزيد
ضارع لخصومة
|
|
ومختبط مما
تطيح الطوائح
|
ولا يجازي بإذا
عند أهل البصرة من قبل أنها لوقت معلوم آت ، والمجازاة والشروط هي معقودة على أنها
يجوز أن تكون ويجوز أن لا تكون. والدليل على ذلك قوله عزوجل : (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ) و (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) ونحو ذلك في القرآن. أراد الوقت الذي تكور فيه الشمس
وتنشق فيه السماء. ولو قال قائل : "إن الشمس كورت" ، "إن السماء
انشقت" كان قبيحا ؛ لأنه جعل المعلوم مبهما ، وأوهم أنه يجوز ألا يكون. ولو
قال قائل : "إذا أقام الله القيامة عذّب الكفار" كان كلاما مستقيما
حسنا. فإن
__________________
قال قائل : "إن أقام الله القيامة عذّب الكفار" كان كلاما ناقصا.
فلما كانت إذا
لوقت معلوم لم يجاز بها ، وإن كان فيها معنى المجازاة إلا أن يضطر الشاعر فيجازي
بها في الشعر لكون معنى المجازاة فيها ، قال الشاعر الفرزدق :
ترفع لي خندف
والله يرفع لي
|
|
نارا إذا
اغمدت نيرانها تقد
|
وقال آخر :
إذا قصرت
سيوفنا كان وصلها
|
|
خطانا إلى
أعدائنا فنضارب
|
فإن قال قائل :
ما معنى قولكم فيها معنى المجازاة ولا يجازي بها؟ فالجواب في ذلك أن معنى المجازاة
فيها هو أن جوابها يقع عند الشرط كما تقع المجازاة عند وقوع الشرط ، ولم يجاز بها
في اللفظ فتجزم ما بعدها لما ذكرناه من توقيتها وحصولها على وقت معلوم.
ومثل ذلك قولك
: "الذي يأتيني فله درهم" فيه معنى المجازاة ولا يجازي به. وإنما كان
فيها معنى المجازاة لأن بالإتيان استحق الدرهم. ووجه الكلام أن ترفع شرطها وجوابها
كما قال ذو الرّمة :
تصغى إذا
شدّها بالكور جانحة
|
|
حتى إذا ما
استوى في غرزها تثب
|
ولإذا موضع آخر
تكون فيه اسما للمكان وظرفا من ظروفه ، وذلك قولك : "خرجت فإذا زيد
قائم" ويجوز أن تقول : "خرجت فإذا زيد قائما" ويجوز : "خرجت
فإذا زيد" ؛ فمن قال : "خرجت فإذا زيد قائم" أراد خرجت فحضرني زيد
قائم ، والمعنى فيه أنه فاجأني عند خروجي وهو بمنزلة قولك : في الدار زيد قام.
وإذا قلت : " خرجت فإذا زيد" ؛ قائما" فكأنك قلت خرجت فحضرني زيد
قائما رفعت زيدا بالابتداء ، وجعلت الخبر فإذا ونصبت قائما على الحال وهو بمنزلة
قولك في الدار زيد قائما. وإذا قلت : " خرجت فإذا زيد" كأنك قلت خرجت
فحضرني زيد جعلت زيدا ابتداء ، وفإذا هو الخبر بمنزلة قولك في الدار زيد. ولإذا
موضع آخر وهو جواب الشرط وتكفي من الفاء ، تقول : "إن تأتني فأنا مكرم
لك" وإن شئت قلت "إن تأتني إذا أنا مكرم لك" قال الله عزوجل : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ومعناه فهم يقنطون.
__________________
قال سيبويه : "والفتح في
الأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة قولهم ضرب ، وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه
فعل".
إن سأل سائل
فقال : لم وجب فتح أواخر الأفعال الماضية ؛ فهلا أسكنت أو حركت بغير الفتح؟
فالجواب عنه
وبالله التوفيق أن الأفعال كلها من حقها أن تكون مسكنة الأواخر والأسماء كلها من
حقها أن تكون معربة وقد بينا هذا فيما مرّ من التفسير.
غير أن الأفعال
انقسمت ثلاثة أقسام ؛ فقسم منها ضارع الأسماء مضارعة تامة استحق بها أن يكون معربا
وهو الأفعال المضارعة التي في أوائلها الزوائد الأربع ، وقد بينا كيفية المضارعة
واستحقاق المضارعة للإعراب بما أغنى عن إعادته.
والضرب الثاني
من الأفعال ما ضارع الأسماء مضارعة ناقصة وهو الفعل الماضي.
والضرب الثالث
ما لم يضارع الأسماء بوجه من وجوه المضارعة وهو فعل الأمر.
فرأينا الأفعال
قد ترتبت ثلاث مراتب : أولها الفعل المضارع المستحق للإعراب ، وقد أعرب ، وآخرها
الثالث فعل الأمر الذي لم يضارع الاسم البتة فبقي على سكونه ، وتوسط الفعل الماضي
فنقص عن درجة الفعل المضارع لنقصان مضارعته ، وزاد على فعل الأمر لما فيه من
المضارعة ، فلم يسكن كفعل الأمر لفضله عليه ، ولم يعرب كالفعل المضارع لقصوره عنه
، وبني على حركة واحدة إذ كان المتحرك أمكن من الساكن ، وجعلت تلك الحركة فتحة دون
غيرها من أربعة أوجه :
أولها : أنّ
الفتحة أخفّ الحركات ، وإنما القصد والمغزى في تحريكه إلى أن يخرج عن مرتبة الساكن
الذي هو فعل الأمر ، فلما كانت الفتحة تخرجه من ذلك وهي أخف الحركات لم يتجاوز إلى
غيرها.
والوجه الثاني
: أن الضمة لا تصلح فيه لما يقع فيه من اللبس بين فعل الواحد والجماعة ؛ لأن من
العرب من يقول : "ضرب" ، في معنى"ضربوا" ، "والقوم
قام" في معنى "قاموا" ، فيحذف الواو ويكتفي بالضمة منها ، وقد قال
الشاعر :
فلو أنّ
الأطبّا كان حولى
|
|
وكان مع
الأطبّاء الأساة
|
يريد : كانوا.
__________________
وقال الآخر :
لو أنّ قومي
حين أدعوهم حمل
|
|
على الجبال
الصمّ لأرفضّ الجبل
|
أراد : "
حملوا" فحذف الواو ، فصار حمل : ثم وقف عليه ، وهو يضمه في الدرج بلا واو ،
ويقف عليه بالسكون ، لأن كل متحرك يلحقه السكون في الوقف.
ولم يصلح أن
يكون آخر الفعل الماضي مكسورا ؛ لأن الكسر اختص الأسماء ولم يدخل في شيء من
الأفعال ، فبقي الفتح فبني عليه الماضي.
والوجه الثالث
: أن الفعل الماضي قد يثنى ضمير فاعله بالألف ، والألف توجب فتح ما قبلها ، فلما
كان أقرب الحركات التي يلحق الماضي الفتحة باجتلاب ألف التثنية لها ، وقد وجب
تحريك آخره حرك بأقرب الحركات إليه.
والوجه الرابع
: أن الفعل الماضي يكون على فعل وفعل ، فلو بنوا آخره على ضمة خرجوا في فعل من
كسرة إلى ضمة وليس ذلك في كلامهم ، ولو بنوه على كسرة خرجوا في فعل من ضمة إلى
كسرة وهذا قليل مستثقل.
فإن قال قائل :
فما المضارعة التي بها استحق الفعل الماضي الحركة والمزية على رتبة الساكن؟
قيل له وقوعه
موقع الأسماء والأفعال المضارعة في النعت والخبر ، كقولك : " مررت برجل
قام" ، و" زيد قام" وقع موقع قولك" مررت برجل قائم" ،
أو" وبرجل يقوم" ، و" وزيد قائم" ، " وزيد يقوم".
ووقوعه موقع الفعل المضارع في أبواب الجزاء كقولك : " إن قمت قمت" ، وقع
موقع قولك : " إن تقم أقم" ، فهذا قول سيبويه في مضارعة الفعل الماضي.
وقد أنكر أبو العباس المبرد على سيبويه الوجه الأخير من مضارعة الفعل الماضي
للمضارع في أبواب الجزاء ، فقال : إذا قلنا" إن قمت قمت" فإن هي التي
قلبت المستقبل إلى الماضي في اللفظ والمعنى على الاستقبال كما تدخل لم على الأفعال
المضارعة فتنفيها وتقلب ألفاظها إلى المستقبل ، كقولك : " لم يقم"
و" لم ينطلق عمرو" والمعنى" ما قام زيد" و" ما انطلق
عمرو" غير أن لم هي المغيرة للفظ فكذلك إن عند أبي العباس ، مغيرة لفظ
المستقبل إلى الماضي في اللفظ والمعنى على حاله. وزعم أنه لا حجة لسيبويه فيما
ذكره
__________________
لهذا الاعتلال الذي أورده.
قال أبو سعيد :
والوجه الذي ذهب إليه سيبويه عندي صحيح وهو غير مشبه لما شبهه به أبو العباس ،
وذلك أن لم وغيرها من الحروف التي تغير الألفاظ وتدخل له لا يصلح دخولها إلا
مغيّرة ، ولو كانت" إن" هي التي غيّرت اللفظ ، وقلبت المستقبل إلى
الماضي لما جاز أن يوجد إلا كذلك ، لأن هذا بمنزلة عمل تعمله وتأثير تؤثره ، فلا
تدخل إلا كذلك ، كما أنّ" لم" إذا دخلت على الفعل الماضي ، لم يصح أن
يبقى على مضيه وقلبته إلى المستقبل ، فاعرف فرق ما بينهما إن شاء الله.
قال
سيبويه : ولم يسكنوا آخر الحروف ، وهو يعني آخر الفعل الماضي ؛ لأن فيها بعض ما في المضارعة ، تقول : " هذا رجل
ضربنا" فتصف بها النكرة وتكون في موضع ضارب إذا قلت : " هذا رجل
ضارب" وتقول : " إن فعلت فعلت" فتكون في موضع : " إن تفعل
أفعل" ، فهي فعل ـ يعني الماضي ـ كما أن المضارع فعل وقد وقعت موقعها في أن
ووقعت موقع الأسماء في الوصف كما تقع المضارعة.
قال (أبو سعيد)
: وقد مضى تفسيرها بما فيه.
قال
سيبويه : " ولم يسكّنوها كما لم يسكّنوا من الأسماء ما ضارع المتمكن ولا ما
صير من المتمكن في موضع ، بمنزلة غير المتمكن".
قال أبو سعيد :
قوله ، فلم يسكّنوها ، يعني لم يسكّنوا الأفعال الماضية كما لم يسكّنوا من الأسماء
التي حكمها البناء ما كان مضارعا للمتمكن ولا ما كان متمكنا في حال ثم بني لعلة
داخلة.
فإن قال قائل :
ولم لم يسكّنوا من الأسماء المبينة ما ضارع المتمكن منها ، أو ما كان متمكنا في
حال؟ قيل له من قبل أن الأسماء في حكمها أن تكون معربة كما تقدم من تفسير ذلك ،
وقد تدخل بعضها علل وتخرجها عن حكمها إلا أن ذلك البعض الذي يدخله من الحال ما
يوجب بناءه ينقسم قسمين :
أحدهما : لم
يوجد قط إلا في الموضع الذي ثبت بناؤه فيه. والآخر : قد كان معربا في حال ثم وجب
بناؤه في حالة ثانية ، ففرق بينهما فيما يبنى عليه لأن الذي قد كان معربا في نفسه
أشد تمكنا بزواله عن البناء في حال أخرى ، وأعطي في حال البناء إذا كان قد يزول
عنها فضيلة على المبني الذي لا يزول لما فيه من التمكن.
وعلة أخرى وهو
أن المبني الذي لا يكون متمكنا بحال لما كان لا يوجد إلا ثقيلا أعطوه أخف ما يقع
في النطق وهو السكون ، ولما كان المتمكن الذي يبنى في حال قد يوجد خفيفا ويقع
المواقع التي لا يستثقل فيها لم يستثقلوها حين بنائه إذ كانت حالا عارضة ، وليس
العارض كالراتب الذي لا يزول ، وسنبين الأسماء التي حكمها البناء على حركة.
قال
سيبويه : " فالمضارع من عل حركوه لأنهم يقولون من عل".
قال أبو سعيد :
اعلم أن" عل" إذا قلت : " جئته من عل" معناه من فوق ، قال
الفرزدق :
ولقد سددت
عليك كلّ ثنيّة
|
|
وأتيت فوق
بني كليب من عل
|
وفيه لغات :
يقال جئتك من عل يا هذا ، ومن عل ، ومن علو ، ومن علو ، ومن علو ، قال الشاعر :
إني أتتني
لسان لا أسرّ بها
|
|
من علو لا
عجب منها ولا سخر
|
ومن علا ، قال
الراجز :
فهي تنوش
الحوض نوشا من علا
|
|
نوشا به تقطع
أجواز الفلا
|
وجئتك من عال
ومن عال كما قال :
قباء من تحت وريّا من عال
ويروى : تظمأ
من تحت وتروى من عال. ومعنى هذه الألفاظ كلها واحد وهي فوق.
وفوق لا بد أن
يكون مضافا إلى شيء : إما ظاهر ، وإما باطن مقدر ، وكذلك الألفاظ التي في معناها ،
فوجب أن تكون عل وعل وما ذكرنا بعدهما في تقدير الإضافة ، فإذا حذفت المضاف إليه
لم يخل من أن يكون معرفة أو نكرة ، فإن كان المحذوف نكرة
__________________
تنكر عل وما كان في معناه ونوّن ، وإن كان معرفة بني لأنه بمنزلة اسم قد
اكتفى ببعضه إذ كان المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ، وأدّى عن معنى الإضافة ،
فإذا كان عل في تقدير مضاف إلى معرفة كان مبنيا على الضم ، وإن كان في تقدير مضاف
إلى منكور كان معربا كما ذكرنا في فوق بما يوجب ذلك من العلل.
فإن قال قائل :
فما معنى قول سيبويه : ولا ما ضارع المتمكن ، وهو يعني : مضارعة" عل"
هذا" لعل" المنكور المنون ، ولا يقال إن الشيء يضارع كما لا يقال : إن
زيدا في حال النداء إذا قلت : " يا زيد" ، قد ضارع زيدا في حال الإعراب
، إذا لم تكن منادى؟
قيل له : معنى
مضارعة" عل" لعل هو أنهما يقعان بمعنى واحد على تقديرين مختلفين ؛ فكل
واحد منهما مضارع للآخر لاشتراكهما في معناهما واختلافهما في تقديرهما وحركاتهما ،
كما يكون المبتدأ مضارعا للفاعل في أنّ معناهما سواء وإن كان عاملاهما مختلفين.
فإن قال قائل :
وكيف يستوي معناهما على اختلاف تقديرهما ، وأحدهما معرفة والآخر نكرة؟
قيل له : هذا
جائز وله نظائر في العربية ، منها أن" غدا" منكور ويعرف به اليوم والذي
يلي يومك حتى لا يظن السامع غيره ، وكذلك أسماء ساعات اليوم ، نحو"
عتمة"" وعشيّة" متى ما ذكرت شيئا منها كان المعنى مصروفا إلى يومك
دون سائر الأيام فإن كن نكرات فيستوي في فهم المخاطب" آتيك غدا" ،
و" آتيك الغد" ، " وآتيك العشيء"" وآتيك عشيا" ،
وكذلك" عتمة" وإن كان تقديرهما مختلفا ، وكذلك القول في" عل"
فاعرف ذلك إن شاء الله.
قال
سيبويه : " فالمضارع من عل حرّكوه ؛ لأنهم يقولون من عل فيجرّونه" ، وقد مرّ تفسيره ، وقول : فيجرّونه ، أي فينونونه
ويصرفونه.
قال
: " وأما المتمكن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن في موضع قولهم أبدا بهذا أوّل
ويا حكم".
قال أبو سعيد :
اعلم أنّ ما كان متمكنا في حال ثم دخلته علة أوجبت له البناء هو الأسماء المفردة
المناداة ؛ كقولك" يا زيد" و" يا حكم" والغايات التي تكون معربة
في
حال الإضافة والتنكير وتكون مبنية في غير ذلك ، نحو" قبل"
و" بعد" ، و" أبدأ بهذا أوّل" فأمّا الغايات فقد أحكمنا شرحها
وأبنّا عن عللها بما أغنى إعادته.
فأما الاسم
المنادى المفرد المعرفة فإنه يستحق البناء على حركة ، ويجب أن تكون تلك الحركة
ضمة. فأما الدليل على أنه يجب بناؤه فهو أنّ المنادى مخاطب ، والنداء حال خطاب ،
والدليل على ذلك أنّ رجلا لو قال : " والله لا خاطبت زيدا" ، ثم قال
له" يا زيد" ، كان حانثا وكان هذا منه خطابا ، وأسماء المخاطب تقع مكنية
في الخطاب ، فكان ينبغي أن يكون مكان الاسم المنادى مكنيّ ، غير أن المنادي إذا
أراد أن ينادي واحدا من جماعة ليعطفه عليه حتى يصغي إليه ، فلابد من ذكر اسمه
الظاهر الذي يخصه دون غيره ، إذ كانت الكنايات يشترك هو فيها والذي معه فلما احتيج
إلى الاسم الظاهر لهذه الضرورة التي ذكرنا ؛ وكان الموضع موضع كناية وجب أن يبنى
لما صار إليه من مشاركة المكني الذي يجب بناؤه ؛ لأن الأسماء إنما تبنى على حسب
وقوعها موقع المبينات ، والدليل على ذلك أن من العرب من ينادي صاحبه إذا كان مقبلا
عليه أو ذكر من حاله ما لا يلتبس نداؤه بالمكني بغيره ، فيكنى عن اسمه الظاهر
فيقول : " يا أنت" و" يا إياك" ، قال الشاعر أنشده أبو زيد :
يا مرّ يا
ابن واقع يا أنتا
|
|
أنت الذي
طلّقت عام جعتا
|
فقد ناداه :
" يا أنت" ، وقد أنكر الأصمعي ذلك ، وفسّر معنى البيت على غير هذا
التفسير ، فقال : إنما أراد" يا" التي تقع في صدر الكلام للتنبيه ، وكان
تقديره : " يا مر يا ابن واقع أنت الذي طلقت" ، و" يا" زائدة
ومثله (أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ) وقال الشاعر :
يا دار سلمى
يا اسلمي ثم اسلمي
|
|
بسمسم وعن
يمين سمسم
|
ومثله :
يا لعنة الله
على أهل الرّقم
|
|
أهل الحمير
والوقير والخزم
|
ولم يناد
اللعنة ، ولو ناداها نصبها. والشواهد في هذا كثيرة.
__________________
والمعنى الذي
قاله أبو زيد صحيح ، وهو موجود في كلام العرب ، ذكره النحويون وحكاه العلماء
بالعربية وقد يقولون أيضا : " يا إياك" ، فينصبون لما أضافوا على غير
قول من يرى" إياك" مضافا وقد حكى قولهم : " يا إياك" سيبويه.
وقد ذكر عن الأحوص في خبر له ذكره أبو عبيدة أنه وفد على معاوية مع أبيه فقام فخطب
فوثب أبوه ليخطب فكفه ، وقال : يا إياك قد كفيتك ، وقال أبو عبيدة في قوله :
" يا إياك" أنّ" يا" تنبيه و" إياك" منصوب بفعل
مضمر والمعنى الأول أظهر وأجود ، فإن كان هذا جائزا فقد صح بما حكينا أن الاسم
الظاهر في النداء وقع موقع المكني فوجب بذلك أن يبنى.
وفي بنائه علة
أخرى وهي أن نداءك المنادى إنما هو صوت تصوّت به لتنبه إليك وهو بمنزلة الأصوات
التي تقع للزجر ، كقولك للغراب : " غاق" وللبغل : عدس" ، قال
الشاعر :
عدس ما
لعبّاد عليك إمارة
|
|
نجوت وهذا
تحملين طليق
|
فشبّه لفظ
المنادى بالأصوات التي يزجر بها ؛ لأنّه لا يقع إلا العطف المنادى على المنادي كما
تقع الأصوات لدعاء البهائم وزجرها.
فإن قال قائل :
وكيف وجب أن يكون بناؤه على حركة؟ هلا بني على السكون ؛ لأنّ الأشياء المبنية
أصلها أن تبنى على السكون؟ فالجواب في ذلك مثل ما مر في بناء عل على الحركة.
فإن قيل : فلم
وجب أن يبنى على الضمّ من بين الحركات؟
ففي ذلك علتان
:
إحداهما : أن
المنادى المفرد يشبه : " قبل" ، و" بعد" من قبل أنه إذا أضيف
أو نكر أعرب ، وإذا أفرد بني كما أنّ" قبل" وبعد" تعربان مضافتين
ومنكورتين ، وتبنيان في غير ذلك ، فكان هذا تشبيها لازما وصحيحا فلما بني قبل وبعد
على الضمّ : جعل المنادى المفرد كذلك.
والعلة الثانية
أنّ المنادى إذا كان مضافا إلى مناديه ، كان الاختيار حذف ياء الإضافة
__________________
والاكتفاء بالكسرة منها ، وإذا كان مضافا إلى غائب كان منصوبا وكذلك إذا
كان منكورا ، فلما كان الفتح والكسر له في غير حال البناء فبني ، جعل له في حال
البناء من الحركات ما لم تكن له في غير حال بنائه.
فإن قال قائل :
إذا زعمتم أن المنادى المفرد المعروف وجب بناؤه ، لأنه مخاطب وأسماء الخطاب
مبنيّات ، أو لأن المنادى كمن جر به ، فقد لزمكم بهذا الاعتلال أن تبنوا المضاف
والمنكور في النداء في قولك : يا" عبد الله أقبل" ، و" يا راكبا
عرّج" ؛ لأنهما قد وقعا الموقع الذي ذكرتموه.
ففي ذلك جوابان
:
أحدهما : أن
المنادى المفرد مع وقوعه الموقع الذي وصفناه إنما بني لأنه في التقدير
بمنزلة" أنت" ، و" أنت" لا يكون إلا معرفا غير مضاف ، فخرج
المنكور والمضاف من شبه المكني الذي يوجب شبهه بناء المفرد.
والجواب الثاني
أنّ المفرد يؤثر فيه النداء حتى يكون معرفة به ، كقولك" يا رجل" إذا
قصدت واحدا بعينه صار معروفا بالنداء ، لإقبالك عليه وقصدك إياه بحرف النداء كما
قال الأعشى :
قالت هريرة
لما جئت زائرها
|
|
ويلي عليك
وويلي منك يا رجل
|
وإنما قصدت
قصده ، والمضاف والمنكور لا يغيرهما النداء ولا يحيلهما عن حالهما إلى غيره ، لأنك
إذا قلت : " يا عبد الله" و" يا راكبا" فعبد الله معرفة
بالإضافة لا بالنداء ، وراكبا منكور على حاله فلمّا لم يؤثر النداء في نفس معناهما
لم يؤثر في بنائهما.
فإن قال قائل :
أمّا رجل وسائر المنكورات ، فقد علمنا أنّه يصير معرفة بالنداء إذا قصد قصده ، فما
الدليل على بناء زيد وسائر المعارف المفردة قبل النداء؟
قيل له :
المعارف المفردة كلها إذا نوديت نكرت ، ثم تنادى فتكون معارف بالنداء فهذا قول أبي
العباس محمد بن يزيد ، وقد أنكر عليه ابن السراج هذا وزعم أنه قول فاسد من قبل أنه
قد وقع في الأسماء المفردة ما لا يشاركه غيره في اللفظ نحو : فرزدق ، وغير ذلك من
الأسماء المفردة ، وزعم أن تنكير اللفظ هو أن تجعله من أمة كل واحد منهم له
__________________
مثل لفظه ، قال : والفرزدق لا يلتبس به غيره.
والقول عندي ما
قاله أبو العباس وما أدخله عليه أبو بكر غير لازم من جهات ، إحداهن : أنهم لم
يختلفوا أن الاسم العلم يجوز أضافته ومتى أضيف تعرف بالإضافة ، وغير جائز أن يعرف
بالإضافة إلا وقد نزع عنه التعريف الذي كان فيه ونكر كقولك : " قام
زيدكم" و" قعد زيدكم" وأشباه ذلك.
والأخرى أن هذه
الأسماء المفردة التي لا إشكال لها فيما نعلم ، غير جائز أن يجعل ذلك قضية لازمة
لا إشكال لها ، لأنه ليس لعاقل أن يقول ليس في العالم من اسمه الفرزدق أو لم يكن
في العالم من اسمه الفرزدق سوى رجل واحد ، لان أسامي الناس لا يحاط بها ولا يؤتى
عليها ، ولا يدّعي أحد علم ذلك ، على أن كنية العجير السلولي أبو الفرزدق ويقال
أبو الفيل.
والجهة الثالثة
: أنه غير مستحيل أن يسمى الرجل ولده الساعة الفرزدق ، أو ينبز بعض الناس به ،
فأعرفه إن شاء الله.
ومن الطريف أن
الفرزدق الذي مثّل به لا شك أن تعريفه بالألف واللام اللتين فيه وإذا نزعتا عنه
تنكر ، ونحن متى نادينا نزعناهما عنه وقلنا يا فرزدق ، فقد تنكر بنزع الألف واللام
وتعرف بالنداء.
فإن قال قائل :
لم مثل سيبويه بأول ويا حكم دون غيرهما من الأسماء ، فإن الجواب في ذلك ، وإن كان
التمثيل لا مسألة فيه لسائل أن هذا التمثيل تضمن فائدة لطيفة وهو أنه لو جعل مكان
أول : قبل ومكان يا حكم : يا زيد ؛ لجاز أن يخالج النفس الفكر بأن حركة قبل وزيد
لالتقاء الساكنين ، دون أن يكونا مستحقين للحركة في أصل بنائهما كما تضم الثاء
من" حيث" لالتقاء الساكنين وأصلها السكون ، وكما تفتح أواخر كيف وأين
وأشباهها ، فمثل سيبويه مثالا يزيل الشك وينفي التوهم.
قال
سيبويه : " والوقف قولهم اضرب في الأمر لم يحركوها ؛ لأنها لا يوصف بها ولا
تقع موقع المضارعة".
قال أبو سعيد :
يعني أن فعل الأمر يكون موقوفا غير مجزوم وذلك من قبل أن الأفعال كلها كان حكمها
في الأصل أن تكون وقد مر تفسيرها. وقوله : " لم يحركوها لأنها لا يوصف بها
ولا تقع موقع المضارعة" يعني لم يجعلوها بمنزلة الفعل الذي بني
آخره على حركة ؛ لأن فعل الأمر لا يوصف به كما يوصف بالفعل الماضي ؛ ألا
ترى أنك لا تقول : " مررت برجل قم إليه" كما تقول : " مررت برجل
قائم" ولا يقع فعل الأمر موقع الفعل المضارع كما وقع موقعه الماضي ألا ترى
أنك تقول : " إن قمت قمت" مكان" إن تقم أقم" ولا يصلح في
موضعه فعل الأمر ولم يكن لفعل الأمر وجه يوجب بناءه على الحركة فترك على أصله. وقد
يكون الأمر خبرا للمبتدأ واقعا موقع الاسم وغيره من الأفعال وذلك" زيد قم
إليه وعمرو اضرب عبده".
فإن قال
قائل" فهلا حرك بهذه المضارعة؟ قيل له هذه مضارعة ضعيفة وذلك أن مضارعته
الاسم ووقوعه موقعه في هذا الموضوع خاصة وقد شاركه فيه الفعل الماضي ، وزاد عليه
الفعل الماضي بوقوعه في الصفة ووقوعه موقع المضارعة ، فلما كان الفعل الماضي غير
معرب وكان مبنيا على حركة وفعل الأمر أنقص منه ، جعل له الوقف بناء لأنه ليس حال
أنقص من البناء على الحركة إلا البناء على السكون ، فترك فعل الأمر على أصله الذي
له من الوقف.
فإن قال قائل :
إذا قلتم زيد قم إليه وجعلتم زيدا مبتدأ ، فقد وجب أن يكون قم إليه خبره ؛ لأن
المبتدأ لا بدّ له من خبر ، والخبر ما صح فيه الصدق والكذب ، وفعل الأمر لا يكون
صدقا ولا كذبا فكيف صحّ أن يكون خبرا؟
فالجواب في ذلك
أن قولك : " زيد قم إليه" ليس بخبر في الحقيقة عن زيد ، وإنما هو واقع
موقع خبره ومغن عنه وليس بخبر حقيقي ، غير أنه يحتمل في المعنى وجهين :
أحدهما أن يكون
معناه زيد يجب عليك أن تقوم إليه أو نحو ذلك ، فيكون الأمر في موضع ما ذكرناه ، أو
يكون تقديره أنك أردت قم إلى زيد ، فلما قدمته وشغلت الجار بضميره وقع معرّى من
العوامل اللفظية ، فرفع بالابتداء وصار هذا الكلام الذي جاء بعده وإن لم يكن خبرا
، متما لفائدة الكلام.
قال
سيبويه : " فبعدت من المضارعة بعدكم وإذ من المتمكنة ، وكذلك كل بناء من
الفعل كان معناه أفعل".
قال أبو سعيد :
يعني فعل الأمر من الأفعال المضارعة المعربة التي في أوائلها الزوائد الأربع : بعد
كم ، وإذ من الأسماء المعربة المتمكنة أنهما اسمان مبنيان على السكون ، والأسماء
المتمكنة متحركة متصرفة ، وأبعد الأشياء من المتحرك المتصرف مبني على
السكون وأقرب من المبني الساكن إليه ما كان مبنيا على حركة ؛ وكذلك فعل
الأمر الذي هو مبني على السكون أبعد الأشياء من الأفعال المضارعة المعربة ، وأقرب
منه إليها الفعل الماضي الذي هو مبني على حركة.
فصارت الأفعال
ثلاث مراتب : الأفعال المضارعة المعربة ، وبعدها الفعل الماضي المبني على الفتح ،
وبعد ذلك كله فعل الأمر المبني على السكون ، والأسماء ثلاث مراتب أيضا : فأولها
المعربة نحو زيد وعمرو وكل اسم معرب ، وبعدها الأسماء المبنية على حركة كقولك : يا
زيد ويا حكم وجئتك أوّل ، وبعد ذلك الأسماء المبنية على السكون كقولك : من ، وكم ،
وإذ ، فأبعد الأفعال من الأفعال المضارعة فعل الأمر ، وأقربها إليها الفعل الماضي
، وأبعد الأسماء من الأسماء المتمكنة ما كان مبنيا على السكون نحو كم وإذ ، وأقر
بها إليها يا حكم وأبدأ بهذا أوّل ، وكل بناء من الفعل يؤمر به فحكمه أن يكون
موقوفا وإن اختلفت أمثلته كقولك : انطلق ، استغفر ، وما أشبه ذلك ، فاعرفه إن شاء
الله تعالى.
وقال
سيبويه : والفتح في الحروف التي ليست إلا لمعنى وليست بأفعال ولا أسماء ، قولهم :
" سوف" و" ثمّ".
قال أبو سعيد :
فإن قال قائل : ولم فتح الفاء والميم في" سوف" و" ثم"؟ قيل له
: إنما كان من حكمهما أن يكونا ساكنين ، إلا أنه التقى ساكنان في آخر الحرفين ،
وهما الواو والفاء في" سوف" والميم الأولى والثانية في" ثم"
وكانت الفتحة أخف ، لأن الفاء في" سوف" قبلها واو ، فكرهوا كسرها للواو
قبلها ، والميم الأخيرة في" ثم" قد أدغم فيها ميم أخرى وقبلها ضمة ،
فكرهوا كسرها للتضعيف فيها ، والضمة قبلها.
فإن قال قائل :
فهلا أجزت : و "ثمّ" ، و "ثمّ" و "ثمّ" ، كما تقول
: "ردّ" و "ردّ" و "ردّ" ، كقول جرير :
فغضّ الطّرف
إنك من نمير
|
|
فلا كعبا
بلغت ولا كلابا
|
ويروى "فغضّ"
و "غضّ"؟
وقال آخر :
قال أبو ليلى
بحبل مده
|
|
ثم إذا مددته
فشدّه
|
إن أبا ليلى نسيج وحده
قيل له : إنما
تصرفوا في" ردّ" بهذه الحركات الثلاث على مقدار تصرفه في نفسه ، فضمّه
بعضهم لاتباع الضمة الضمة ، وكسره بعضهم لالتقاء الساكنين على ما يجب في ذلك من
الكسر لالتقاء الساكنين ، وفتحه بعضهم فرارا إلى أخف الحركات عند التضعيف والضمة ؛
لأن" ردّ" مأخوذ من : " ردّ يردّ" ، وهو فعل متصرف ، فتصرفوا
فيه بهذه الحركات على حسب ذلك.
و"
ثم" حرف لازم لموضع واحد غير مشتق من شيء ، ولا تصرف فيه ، فألزم أخف الحركات
؛ لما ذكرناه. فأعرفه إن شاء الله.
قال
سيبويه : والكسر فيها قولهم في باء الإضافة ولامها : " بزيد" و"
لزيد".
قال أبو سعيد :
اعلم أن الحروف التي جاءت لمعنى وهي على حرف واحد ، حكمها أن تكون مفتوحة كواو
العطف وفائه ، إذا قلت : " قام زيد وعمرو" و" قام زيد فعمرو".
وألف الاستفهام كقولك : " أزيد عندك؟ ".
وإنما كان
الأصل في هذه الحروف أن تجيء مفتوحة ، من قبل أنها حروف يضطر المتكلم بها إلى
تحريكها لابتدائه بها. وقد كان حكمها لو أمكن فيها السكون أن تكون حروفا ساكنة ؛
لأنها حروف معان ، فلما أوجبت الضرورة تحريكها ليمكن النطق بها حركوها بأخف
الحركات. وهي الفتحة ، وبها يمكنهم النطق بها ، فلم يحتاجوا إلى تكلف ما هو أثقل
منها.
فإن قال قائل :
فلم كسروا الباء وفيها من العلة الموجبة للفتح ما ذكرته في الحروف المفتوحة؟
قيل له : من
قبل أن الحروف التي ذكرناها غير عاملة عملا يختص به ، ولا يكون في غيره. والباء
عاملة الجر لا تكون إلا فيه ، فألزموها الكسر لمشاكلة موضعها من الجر. فإن قال
قائل : فلم كسروا لام الإضافة؟
قيل له : للفرق
بينها وبين لام التأكيد في الموضع الذي يلتبسان فيه ، فهو مع الاسم الظاهر ؛ وذلك
أن تقول : " إن هذا لزيد" ، إذا أخبرت أنه زيد فإذا أخبرت أنه مملوك
لزيد
__________________
قلت : " إن هذا لزيد".
فإن قال قائل :
فإن الجر والرفع يفرّق ما بينهما ، إذا قلت : " إن هذا لزيد" علم أنه
مملوك لزيد ، وإذا قلت : " إن هذا لزيد".
ففي ذلك جوابان
:
أحدهما : أن في
الأسماء ما لا يبين الإعراب فيه ، نحو ؛ موسى وعيسى ، وما أشبههما ، فلا يدل على
فصل ما بين هذين المعنيين إلا فتح اللام وكسرها.
والثاني : أن
الكلام إذا وقف عليه لم يعرب ، فلما كان الاسم المعرب لا يتبين فيه الإعراب عند
الوقف عليه ، لم يوقف على فصل ما بينهما ، فلزم بما ذكرناه كسر اللام مع الظاهر
كله.
وإذا أضمر
الاسم فتحوا اللام كقولك : " هذا لك ، وهذا له" من قبل أن الضمير الذي
يقع بعد اللام الجارة بخلاف صورة الضمير الذي يقع بعد اللام المؤكدة ، تقول : "
إن هذا لك" إذا أردت أنه يملكه ، و" إن ذاك لأنت" إذا أردت أنه هو
، فإذا أدخلت ياء المتكلم كسرت اللام ؛ لأن كناية المتكلم تكسر ما قبلها من الحروف
المتحركة ، فتقول : " إن هذا لي" كما تقول : " إن هذا غلامي".
وقد يفتح بعض
العرب لام الإضافة مع غير المكني ، أنشد بعضهم :
أريد لأنسى
ذكرها فكأنما
|
|
تمثّل لي
ليلى بكل مكان
|
ففتح اللام ،
وهذه لام كي ، وهي لام الإضافة عندنا.
واعلم أن هذه
اللام لما اطرد كسرها في الظاهر ، وقع لبس بين ظاهرين في موضع ، ففتحت اللام في
أحدهما لزوال اللبس بينهما ، ولم تزل اللام عن معناها مكسورة وعملها خافضة في
حقيقة معناها ، وذلك في المستغاث له ، والمستغاث به ، والمدعو له ، والمدعو إليه ؛
تقول : " يا لزيد" إذا كنت تدعوه إلى نصرك ، وتستغيث به ، و" يا
لزيد" إذا كنت تدعو غيره إلى نصره وتستصرخ له ولشيء أصابه. وفتحت لام
المستغاث به ؛ لينفصل من المستغاث له ، وهي على معناها في الإضافة وذلك أنك إذا
دعوت رجلا ، فقد فعلت به الدعاء فإذا كنت تدعوه لآخر ، فقد فعلت به الدعاء من أجل
الآخر ، فكلاهما مفعول في
__________________
المعنى واللام تدخل على المفعولات ، كقولك : " ضربي لزيد"
و" دعائي لزيد" ، أي : " ضربي واقع بزيد" ، ودعائي واقع به.
وتقول : " ضربي لزيد" إذا كنت ضربت غيره لأجله. فإذا قلت : " يا
لزيد" فهو المدعو فيشبه هذا قولك : " دعائي لزيد" إذا كان هو
المدعو به فإذا قلت : " بالزيد" فقد دعوت غيره من أجله ، فهو يشبه قولك
: " دعائي لزيد" أي من أجله.
فلما كان
المدعو والمدعو له يقعان في لفظ النداء ، قوى اللبس بينهما إلا بفاصل ، ففتحوا
اللام من أحدهما ، وبقوها من الآخر على حالها. وربما كان الشيء الواحد يصلح فيه
المعنيان جميعا ، يقولون : " يا للعجب" و" يا للعجب" فإذا
قالوا : " يا للعجب" بكسر اللام ، فكأنك قلت : " يا قوم تعالوا
للعجب" ، فهو بمنزلة المدعو إليه. وإذا قالوا : " يا للعجب" فكأنهم
نادوا العجب ، فقالوا : " يا عجب تعال" ، فإن هذا من زمانك ووقتك فهو
بمنزلة المدعو.
وأما قول
الشاعر :
يا لبكر
أنشروا لي كليبا
|
|
يا لبكر أين
أين الفرار
|
فإن كثيرا من
الناس يروي الأول بالفتح والثاني بالكسر. فإن قيل : فكيف يكونون مدعوين ومدعوا
إليهم غيرهم في حال؟ فالجواب في ذلك أن الشاعر في الأول يهزأ بهم ، كما يقال
للمنهزم : " إلى أين أرجع؟ " وقد قيل في قوله عزوجل : (فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ ...) إن هذا توبيخ لهم حين فروا ، وبخوا على ما كان منهم.
وقال قتادة :
هذا هزء من ربنا جلّ وعزّ.
وإذا استغثت
بقوم ففتحت اللام منهم ، ثم عطفت على ذلك ، فإن اللام من المعطوف مكسورة ، كقولك :
" يا للرجال وللنّساء" ، اللام من الرجال مفتوحة ، ومن النساء مكسورة ؛
وإنما كسرت هذه اللام وهي في موضع المستغاث به ، من قبل أن اللام في المستغاث به ،
إنما فتحت وأصلها الكسر. لئلا يقع اللبس بين المدعو والمدعو إليه. فإذا فتحناها ثم
عطفنا عليها ، فقد علم أن الثاني مدعو ومستغاث به ، ولم يقع بينه وبين
__________________
غيره لبس ، فردّت لامه إلى أصلها من الكسر.
قيل له : من
قبل أن لام المستغاث له هي على معناها غير مغيرة ولا مزالة ؛ لأنك إذا قلت :
" يا لزيد" فمعناه : أدعوكم لزيد ، فكأنك قلت : يا قوم أدعوكم لزيد ،
ومن أجل زيد وبسببه ناديتكم. وإذا قلت : " يا لزيد" فكأنك قلت : ندائي
لزيد ، كما تقول : ضربي لزيد ، وكرامتي لزيد ، فلهذا التأويل دخلته اللام ،
فالمدعو له على ما بينا لا يصلح نزع اللام منه ؛ لأن معناه : من أجله وسببه
والمدعو قد كان الأصل ألا تدخل فيه اللام لأنك إذا قلت : " ضربي لزيد" ،
و" كرامتي لزيد" فأنت تريد أن ضربك واقع بزيد ، وكرامتك لاحقة به.
والأصل : ضربي زيدا وكرامتي زيدا ، فكان إجراء اللام على أصلها ، فيما لا بد له من
اللام أولى من إجرائها فيما لا تلزم اللام فيه في معناه ، فاعرف ذلك إن شاء الله. فإن
قال قائل : فهلا كسرت كاف التشبيه ؛ لأنها تلزم الخفض كما كسرت الباء للزوم الكاف
الإضافة والجر ، كما زعمتم ذلك في الباء؟
قيل له : إن
الباء لا تكون إلا جارة ، ولا تستعمل إلا حرفا ، وقد تكون الكاف بمنزلة المثل
تستعمل اسما حتى تدخل عليها حروف الجر من ذلك قول الشاعر :
وصاليات ككما يؤثفين
فأدخل الكاف
الأولى وهي حرف جار على الكاف الثانية ، فعلمنا أن الكاف الثانية ليست بحرف ؛ لأن
حروف الجر لا تدخل إلا على الأسماء. ومنه قول الأعشى :
هل تنتهون
ولن ينهى ذوي شطط
|
|
كالطعن يذهب
فيه الزيت والفتل
|
في هذا البيت
قولان :
أحدهما : أن
يكون تقديره ؛ ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن.
والقول الثاني
: أن تكون الكاف اسما بمنزلة : " مثل" ، وتكون هي الفاعلة لينهى ، وهذا
أجود القولين ، وهو قول المبرد. وإنما صار أجود القولين من قبل أنه لا بدّ لينهى
من فاعل ، ولا يصلح أن يكون فاعله محذوفا ، لأن الفعل لا يصلح إلا بفاعل.
قال
سيبويه : " والضم فيها" منذ" فيمن جر بها ؛ لأنها بمنزلة"
من" في الأيام".
قال أبو سعيد :
اعلم أن" منذ" و" مذ" جميعا في معنى واحد ، وهما يكونان اسمين
__________________
وحرفين ، غير أن الغالب على" منذ" أن تكون حرفا ، وعلى"
مذ" أن تكون اسما : وأنا مبين جملة كافية في ذلك إن شاء الله.
تقول : "
ما رأيته منذ يوم الجمعة" و" ما رأيته منذ اليوم". وإذا قلت :
" ما رأيته منذ يوم الجمعة" كان معناه : انقطعت رؤيتي له من يوم الجمعة ،
فكان يوم الجمعة لابتداء غاية انقطاع الرؤية ، فمحل ذلك من الزمان كمحل"
من" في المكان. إذا قلت : " ما سرت من بغداد" ، أي ما ابتدأت السير
من هذا المكان ، فكذلك : ما وقعت رؤيتي عليه من هذا الزمان ، غير أن"
من" على ما ذكرها البصريون تستعمل في غير الزمان ، ويستعمل مكانها في الزمان
: " منذ".
فإن قال قائل :
فقد قال الله عزوجل : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُ) ، و" أول يوم" من الزمان ، فقد دخلته"
من" على الزمان.
ثم قال زهير :
لمن الدّيار
بقنّة الحجر
|
|
أقوين من حجج
ومن دهر
|
وحجج معناها :
سنون ، وقد دخل عليها : " من". فالجواب في ذلك : أن قوله : " من
أول يوم" يجوز أن يكون معناها : من تأسيس أول يوم ، وحذف المضاف وأقام المضاف
إليه مقامه. وقول زهير : " من حجج" أي من مر حجج.
والكوفيون
يزعمون أن" من" تصلح للمكان والزمان ، و" منذ" لا تصلح إلا
للزمان ، وتعلق بعضهم بما ذكرناه وقد أنبأنا عما فيه.
وتقول : "
ما رأيته مذ يوم الجمعة" و" ما رأيته مذ السبت" وإن شئت قلت :
" مذ السبت". فأما من ضم الذال فإنه اتبع الضمة الضمة. ومن كسر فلالتقاء
الساكنين على ما يجب من الكسر لالتقاء الساكنين.
وفي الضم وجه
آخر ، وهو أن" مذ" مخففة من : " منذ" ، كما خففت"
رب" من : " ربّ" ، وقد كانت الذال من" منذ" مضمومة ،
فلما اضطر إلى تحريك الذال في" مذ" ضم بحركته في : " منذ".
__________________
فإن قال قائل :
فما حكم" مذ" في هذا الوجه وتقديرها؟
قيل له : حكمها
أن تكون اسما ، وتقديرها أن تكون مبتدأة ، ويكون ما بعدها خبرها ، كأنك قلت :
" ما رأيته مدة ذلك يوم السبت : فيكون على كلامين".
فإن قيل : فهلا
خفضت بمذ ، وجعلتها مثل : " من" كما فعلت ذلك بمنذ؟ قيل له : لما
كانت" منذ" تكون اسما وتكون حرفا ، وكانت الأسماء أجمل للحذف من الحروف
، آثروا الحذف لها في حالها اسما. فإذا جعلت : " منذ" لما أنت فيه صار
حرفا بمنزلة" في" ، وانخفض ما بعدها ؛ وذلك أنك إذا قلت : " ما
رأيته مذ يوم الجمعة" ، فإنما معناه : انقطاع رؤيتي له ابتداؤه يوم الجمعة ،
وانتهاؤه الساعة ؛ فتضمنت" مذ" معنى الابتداء والانتهاء. وإذا قلت :
" ما رأيته مذ اليوم" ، فليس فيه إلا معنى ابتداء الغاية ، وهي في
معنى" في" وانخفض ما بعدها.
وزعم بعض
أصحابنا أن" منذ" و" مذ" هما اسمان على كل حال. فإذا رفعنا ما
بعدهما كان التقدير على ما مرّ ، وإذا خفضنا ما بعدهما كانا في تقدير اسمين مضافين
، وإن كانا مبنيين كقوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
عَلِيمٍ) نضيف" لدن" ، وإن كان مبنيا ، إلى حكيم عليم
، وإن كان ما بعدهما مرفوعا ، فتقديرهما تقدير اسم مبتدأ ، وما بعدهما خبرهما ،
ويكون من كلامين على النحو الذي قد تقدم.
ومثله في خفض
ما بعده ورفعه : " كم" تقول : كم رجل جاءني" فتكون" :
"
كم" بمنزلة عدد مضاف في الخبر. وتقول : " كم دراهمك" فتكون اسما في
موضع الرفع خبرا لما بعدها ، ويكون ما بعدها مرفوعا على الابتداء.
واستدل أصحابنا
على خلاف هذا القول ، وأنها حرف إذا انخفض ما بعدها بأن قالوا : رأيناها في الزمان
تقوم مقام" من" وتكون لابتداء الغاية ، و" من" حرف ، فلا يجوز
أن يكون ما في معناها وواقعا موقعها إلا حرفا.
فإن قال قائل :
فإذا كانت : " منذ" و" مذ" على ما وصفتم من أمرهما ، فلم كان
الغالب على" منذ" أن يكون ما بعدها مخفوضا ، وعلى : " مذ" أن
يكون ما بعدها مرفوعا في الماضي؟
__________________
قيل له : لما
كانتا مستعملتين اسمين وحرفين ، وكان الأصل فيهما : " منذ" و"
مذ" مخففة ، غلبوا الاسمية على" مذ" ، بسبب الحذف الذي لحقها ؛ لأن
الحذف إنما حقه أن يكون في الأسماء ، وهي بذلك أولى لتصرفها وتمكنها ولحاق التنوين
بها في تصريفها.
فإن قال قائل :
لأية علة ضمت منذ؟ وما كان أصلها في البناء؟ قيل له : كان أصلها أن تكون الذال
منها ساكنة اسما كانت أو حرفا. أما إذا كانت حرفا ، فالحروف حقها السكون ، وإذا
كانت اسما فهي اسم في معنى حرف وينوب عنه ، فوجب بناؤها على السكون ، ثم التقى
فيها ساكنان : النون والذال ، فضمت الذال اتباعا للميم ؛ لأن ما بينها حرف ساكن ،
وهو نون ، والنون خفية جدا إذا كانت ساكنة ؛ لأنها غنّة في الخيشوم ، فلو بنوها
على حد التقاء الساكنين ، لكانوا قد خرجوا من ضمة إلى كسرة ؛ وذلك قليل في كلامهم.
ومثله في
الإتباع : قالوا : " منتن" و" منتن". ومنهم من يقول : "
منتن" فمن قال :
"
منتن" أراد : " منتن" ثم اتبع التاء الميم وضمها ؛ لأن الذي بينهما
نون خفية ، وليست حاجزا قويا. والذي يقول : " منتن" بكسر الميم والتاء
على وجهين :
أحدهما : أن
يكون أراد : " منتن" ثم كسر الميم فأتبعها كسرة التاء. ويجوز أن يكون من
: " نتن" لأنه يقال : أنتن ونتن ؛ فيكون" مفعل" من ذلك ، كما
تقول : " منخر". ويجوز أن يكون أصله في هذا الوجه" منتن"
وأتبعوا الميم التاء ، كما قالوا : منخر ومنخر. ويجوز أن يكون : " مفعل"
من" نتن" ثم اتبع التاء الميم ، فكسر فاعرفه إن شاء الله.
قال
سيبويه : " والوقف منها قولهم : من ، وهل ، وبل ، وقد".
قال أبو سعيد :
اعلم أن هذه حروف جئن سواكن على ما يجب أن تجيء عليه الحروف.
فأما"
من" فإنها تجيء عند سيبويه لثلاثة معان :
لابتداء الغاية
، وهو قولك : " سرت من البصرة".
وللتبعيض ،
كقولك : " يريد زيد من زيد" ، و" أخذت من مال عمرو ثلثيه"
وتكون زائدة في النفي ، كقولك : " ما جاءني من أحد" في معنى ؛ ما جاءني
أحد. فأما إذا قلت : " ما جاءني من رجل" فإن فيه فائدة ومعنى زائدا على
قولك : " ما جاءني رجل" ؛ وذلك أنك إذا قلت : " ما جاءني رجل"
احتمل أن تكون نافيا لرجل مفرد ، وقد جاءك أكثر من رجل ،
ويحتمل أن تكون نافيا لجنس الرجال. فإذا أدخلت" من" أزالت"
من" أحد المعنيين من الكلام وقصرته على المعنى الآخر ، وهو معنى الجنس.
وقال أبو
العباس : " من" لها معنيان :
ابتداء الغاية
والزيادة ، وكان يجعل كونها مبعضة داخلا في معنى الابتداء للغاية ، بحجج كثيرة
تأتيك في موضعها إن شاء الله.
وأما"
هل" فإنها تكون استفهاما ، كقولك : " هل زيد قائم" ، وتكون بمعنى :
" قد" ، كقوله عزوجل : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) ومعناه : قد أتى على الإنسان.
واعلم أن"
هل" وإن كانت استفهاما ، تدخل عليها ألف الاستفهام فيما ذكره أبو العباس
المبرد ، ولا تقع في مواقع الألف كلها ، وإنما لها مواضع مخصوصة. قال الشاعر :
سائل فوارس
يربوع بشدّتنا
|
|
أهل رأونا
بسفح القفّ ذي الأكم
|
ونحن نبين
مواضع (هل) في الاستفهام إذا أتينا عليها إن شاء الله.
و (بل) لتحقيق
ما بعدها ؛ كقولك : " قام زيد بل عمرو" ، فربما كان إبطالا للأول ،
وربما كان تحقيقا لما بعدها ، ولا يراد بها إبطال الأول.
و (قد) إذا
كانت حرفا فهي تدخل على الفعل المتوقع كقول القائل : " هل قام زيد"
فتقول له : "قد قام". وقد بينا أمرها إذا كانت اسما.
قال
سيبويه : " ولا ضم من الفعل لأنه لم يجئ ثالث سوى المضارع".
قال أبو سعيد :
يعني أن الأفعال منها ماض ، وحكمه البناء على الفتح ، ومنها فعل الأمر ، وحكمه
البناء على الوقف. والمضارع حكمه أن يكون معربا ، فلم يجئ ثالث بعد الماضي وفعل
الأمر ، مما حكمه أن يكون مبنيا ، فيبنى على الضم.
قال
سيبويه : " وعلى هذين المعنيين بناء كل فعل سوى المضارع. يعني على الماضي وفعل الأمر ، لا يوجد سوى ذلك".
قال أبو سعيد :
قد ذكرنا تعليل ما ذكره سيبويه من المبنيات من الأسماء والأفعال ،
__________________
وشرحناه بما حضرنا. وأنا أتبع ذلك بما يحضرني من المبنيات التي لم يتقدم
ذكرها وأتقصاه بمبلغ قوتي فيه. وبالله أعتصم من الزيغ والزلل وما توفيقي إلا
بالله.
اعلم أن
الأسماء المضمرة وهي الأسماء المكنيات ، مبنيات كلها وهي تنقسم قسمين : متصل
ومنفصل.
فالمتصل لا
حاجة بنا إلى إيضاح علة بنائه ؛ لأنه لا يقوم بنفسه ولا ينطق به مفردا من غيره ،
وإنما يجئ متصلا باسم أو فعل أو حرف ، فيصير كبعض حروفه.
وأما المنفصل
من المضمر ، فهو لا يقوم بنفسه في المعنى ، وإن جاز النطق به مفردا.
وإنما لم يقم
بنفسه لأنه لا يخلو من أن يكون للمتكلم وللمخاطب وللغائب ، ولا يذكر إلا بعد تقديم
اسمه الظاهر الذي هو سمته ، ويعرف به ، فكان احتياج المكني المضمر إلى ما يتقدمه
من الاسم الظاهر يخرجه من شبه الأسماء المتمكنة ، ويدخله في شبه الحروف ؛ لأن
الحروف لا تدل بأنفسها على المعاني ، وإنما هي تأثيرات في الأسماء والأفعال
القائمة بأنفسها لمعانيها ، وضمير المتكلم والمخاطب في مثل هذا المعنى ، وذلك أن
حضورهما بمنزلة ذكر الغائب ، فلم تكن الأسماء المكنية دالة عليها إلا بحضورهما ،
كما لم تدل على الغائب إلا بحضور ذكره.
وأما الأسماء
المبهمة ؛ نحو : " هذا" وما تفرع منه ، فمبني لما تقدم من ذكره.
وأما الأسماء
الموصولة ، وهي" الذي" وما يجري مجراه فمبنيات. وقد مر علة بناء"
من" إذا كانت موصولة. وكل موصول في معنى ذلك.
وأما الأصوات
فتجري على ضربين : معرفة ونكرة ؛ فالمعرفة منها مبنية على السكون ، إلا أن يلتقي
في آخره ساكنان ، فيحرك على قدر ما يستوجبه ، لالتقاء الساكنين فما جاء منه ساكنا
ولم يلتق في آخره ساكنان : " صه" ومعناه : اسكت ، و" مه"
ومعناه : انته وكفّ ، و" عدس" ، وهو زجر البغل. قال الشاعر :
عدس ما
لعّباد عليك إمارة
|
|
نجوت وهذا
تحملين طليق
|
وما التقى في
آخره ساكنان فحرّك ، فنحو : " إيه" و" غاق". قال ذو الرمة :
وقفنا فقلنا
إيه عن أمّ مالك
|
|
وما بال
تكليم الدّيار البلاقع
|
وكان الأصمعي
يخطّئ ذا الرمة في هذا البيت ، ويزعم أن العرب لا تقول إلا
__________________
" إيه" بالتنوين.
والنحويون
البصريون صوبوا ذا الرمة ، وقسموا : " إيه" على ضربين ، فقالوا : "
إيه" استزاده ، فإذا استزاده منكورا كان منونا ، وكان التنوين علامة التنكير
، غير أن التنوين ساكن فيكسر له الهاء. وإذا كان استزاده معروفا زال التنوين ،
فبقي الحرف الأخير ساكنا ، فالتقى ساكنان في آخره ، فكسر الأخير منهما لالتقاء
الساكنين.
وإذا نكّر شيء
من الأصوات نوّنت ، لعلامة التنكير ، ثم كسر آخره ؛ لسكونه وسكون التنوين ؛ كقولك
: " صه" و" مه". وربما لم يكسروا آخره لعلة عارضة ؛ فمن ذلك
قولهم : " إيها" في الكف ، أدخلوا التنوين للتنكير ، ثم فتحوا آخره
لالتقاء الساكنين ؛ لئلا يلتبس" بإيه" الذي هو استزادة.
غير أن هذه
الأصوات منها ما استعمل معرفة ولا ينكر نحو : " عدس" و" تشتو"
للحمار ، إذا دعوته ليشرب. ومنها ما يستعمل نكرة فقط ، كنحو : " إيها"
و" ويها".
ومنها ما
يستعمل معرفة ونكرة ؛ نحو : " غاق" و" غاق" و" إيه"
و" إيه" ، وكنحو قولهم : " أفّ وأفّ وأفّ" وهي كلمة للضجر في
المعرفة. وفي النكرة : " أفّ وأفّا وأفّ" ؛ فمن قال : " أفّ"
فضم ، أتبع الحركة ، كما تقول : " مدّ". ومن قال : أفّ كسر لالتقاء
الساكنين على حسب ما يوجبه التقاء الساكنين. ومن قال : " أفّ" فتح
استثقالا للتضعيف وضمة الهمزة ، كما تقول : " مدّ يا هذا". وإذا نكرت
أدخلت التنوين على اختلاف هذه الحركات ، للعلل التي ذكرناها. وما أتاك من الأصوات
فهذا قياسه.
ومن المبنيات
قولهم : " أيّان يقوم" في معنى : " متى يقوم" ، وهي مبنية على
الفتح ، وقد كان أصلها أن تكون ساكنة ؛ لأنها وقعت موقع حرف الاستفهام ، غير أنها
التقى في آخرها ساكنان ، فآثروا تحريك آخرها بالفتح ؛ لأن قبلها ياء وهي مع ذلك
مشددة ، وبينها وبين الياء الألف وليست حاجزا حصينا ، فلم يحفلوا بكونها ـ أعني
كون الألف ، ففتحوا النون كأنها وقعت بعد ياء مضاعفة. وعلة أخرى وهي أن الأسماء
التي يستفهم بها ، كل ما وجب التحريك فيه منها مفتوح ، نحو : " أين"
و" كيف" فأتبعوها : " أيّان" ؛ إذ كانت مستحقة لتحريك الآخر ،
حتى لا يخرج من جملتها.
ومن المبنيات
قول الشاعر :
طلبوا صلحنا
ولات أوان
|
|
فأجبنا أن
ليس حين بقاء
|
__________________
فكسر"
أوان" ونوّن.
قال أبو العباس.
إنما نون من قبل أن الأوان من أسماء الزمان ، وأسماء الزمان قد تكون مضافات إلى
الجمل ، كقولك : " هذا يوم يقوم زيد" و" أتيتك زمن الحجاج
أمير". فإذا حذفت الجمل عوضت منها التنوين ، كما فعلت فيما أضيف على غير
متمكن ؛ كقولك : " يومئذ" و" حينئذ". فهذا معنى ما قال أبو
العباس ، وأظنني قد زدت فيه شرح دخول التنوين ؛ لأن الغالب في ظني عن أبي العباس ،
وهو الذي حكاه أصحابه عنه أنه قال : هو بمنزلة : " قبل" و"
بعد" حين بني لما حذف عنهما من المضاف إليه ، فرأيت هذا القول يختل من جهة
أن" قبل" و" بعد" وما جرى مجراهما ، متى حذف عنهما المضاف
إليه ، لم يخل من أن تكون معرفة أو نكرة ، فإذا كان معرفة كان مبنيا على حالة
واحدة ؛ كقولك : " جئتك من قبل" ، و" جئتك قبل" ؛ فإن كان
نكرة كان معربا ، كقولك : " جئتك قبلا وبعدا" و" جئتك من
قبل".
والصحيح
في" أوان" عندي أنه نوّن ، وبني لعلتين اثنتين :
إحداهما : أنه
كان مضافا إلى جملة حذفت عنه ، فاستحق التنوين عوضا من حذفها ، بمنزلة : " إذ"
، ولم تكن بمنزلة : " قبل" و" بعد" ؛ لأن" قبل"
و" بعد" كان مضافا إلى اسم واحد ، وبني إذ قد صيرت في معنى : " إذ"
حين حذفت الجملة منها ، وبقي فيها عوضها وهو التنوين ، فصار كاسم حذف بعضه ، وبقي
بعضه ، والتقى في آخره ساكنان : التنوين الذي دخل عوضا ، والنون الذي ينبغي إسكانه
للبناء ، فكسرت.
ويجوز عندي أن
تكون النون لم تكسر لالتقاء ، ولكنها بنيت في أول أحوالها على الكسر ، ثم دخل
التنوين لم ذكرنا.
فإن قال قائل :
ولم أجزت ذلك؟
قيل له : من
قبل أني رأيت" الأوان" متمكنا في غير هذه الحال ؛ كقولك : " هذا
أوان المطر" ، وقولك : " هذا الأوان طيب". ورأيت سيبويه ومن بعده
من النحويين البصريين يقولون : إن المبني متى ما كان متمكنا قبل حال بنائه ، وجب
أن يبنى على حركة ، كما قالوا في المنادى المفرد : " يا حكم" و" يا
جعفر" ، وكما قالوا : قبل
وبعد وأول.
والعلة الثانية
في كسر : " أوان" أنا رأينا : " لات" قد يقع بعدها الأزمنة
منصوبة ومرفوعة ، إذا لم يكن محذوفا منها شيء ، فلو قيل : لات أوانا ، أو : لات
أوان ، كانا معربين ، ولم يكن دليلا على حذف شيء ، وصار بمنزلة قوله : " لات
حينا" و" لات حين" بلا تقدير حذف من" حين" فنونوا لما
ذكرنا ، وكسروا لأن يخرج هذا من اللبس.
وقد زعم بعضهم
في : " لات أوان" أن" لات" جارة للأوان ، بمنزلة حرف من حروف
الخفض ، وهو قول بعض الكوفيين. ولو كان كما قال ، جاز أن تقول : " ولات حين
مناص" ؛ لأنه جر فاعرفه إن شاء الله.
ومن ذلك :
" هنا" ، وهو إشارة إلى ما خص من المكان. وفيه ثلاث لغات : هنّا ، وهنّا
، وهنّا ، وهي أردؤها. قال ذو الرمة في التشديد :
هنّا وهنّا
ومن هنّا لهن بها
|
|
ذات الشمائل
والإيمان هينوم
|
ويجوز إدخال
حرف التنبيه عليه كما تدخله على : " ذا" إذا أشرت إليه ، تقول : " ها
هنّا" و" ها هنّا" و" ها هنّا". واستحق البناء للإشارة
والإبهام ، كما استحق : " هذا" و" هؤلاء" وما جرى مجراهما.
ولا تجوز الإشارة به إلى شيء غير المكان ، إلا أن تجريه مجرى المكان مجازا ؛ كقولك
: " قف حيث أمرك الله" ، وإنما" حيث" للمكان ، و" زيد
دون عمرو في مرتبته وفوقه فيها". و" دون" و" فوق"
يستعملان في حقيقة اللغة لما علا شيئا أو انحط عنه. وقد جاء في الشعر للزمان. قال
الأعشى :
لات هنّا
ذكرى جبيرة أو من
|
|
جاء منها
بطائف الأهوال
|
أراد : ليس هذا
أوان ذكرى جبيرة ، وهي امرأة.
فإذا أشرت إلى
مكان منتح متباعد ، قلت : " ثمّ" إذا وصلت الكلام ، فإذا وقفت عليه وقفت
بالهاء ، فقلت : " ثمّة". وإنما ألحقت الهاء إذا وقفت ؛ لأن كل متحرك
ليست حركته إعرابا ، جاز أن يلحق آخره هاء في الوقف ؛ نحو : " كيف" و"
أين" و" هي" و" هو" ؛ فتقول : " كيفه" و"
أينه" و" هيه" و" هوه". قال حسان :
__________________
إذا ما ترعرع
فينا الغلام
|
|
فما إن يقال
له من هوه
|
ويجوز ألا تلحق
هاء ؛ فتقول : " جئتك من ثمّ". وإنما وجب أن تفتح آخره من قبل أن"
ثمّ" يشار به إلى متباعد ، فوجب بناؤه على سكون للإشارة التي فيه ، ولإبهامه
على ما تقدم في المبهمات ، فالتقى في آخره ساكنان ، ففتح للتشديد الذي فيه ، ولا
يستعمل إلا للمكان المتنحي أو ما يجري مجراه.
فإن قال قائل :
فهلا زادوا على إشارة الحاضر من المكان كافا ، فتكون إشارة إلى المتنحي منه ،
كقولهم : " ذا" إذا أشاروا إلى حاضر ، وإذا أشاروا إلى متنح زادوا كافا
للمخاطب ، وجعلوه علامة لتباعد المشار إليه فقالوا : ذاك؟
قيل له : قد
فعلوا مثل ذلك في الإشارة إلى المكان ، فقالوا : " هنا" ثم قالوا :
" هناك" فدلّوا بزيادة الكاف على المكان المتنحي المشار إليه ، ثم جعلوا
للمكان المتباعد لفظا تدل صورته على تباعده ، ولم يحتاجون إلى الكاف ، وهو قولهم :
" رأيته ثمّة" فثّمة صورتها تدل على تباعد المكان.
فإذا قالوا :
" رأيته هناك" دلت الكاف على مثل ما دلت عليه" ثمّة" بغير
كاف. والدليل على ذلك أنهم لو نزعوا الكاف فقالوا : " رأيته هنا" بغير
كاف ، صارت الإشارة إلى مكان حاضر. وقد علمت أن الكاف مع" هنا" بمنزلة :
" ثمّ" بصيغتيها ، ويدخلون اللام لتأكيد التباعد ، فيقولون : " هنالك"
، كما يقولون : " ذلك" ، ولا فرق بينهما في الإشارة ، غير أن"
هنالك" وبابها إشارة إلى مكان ، و" ذلك" إشارة إلى كل شيء فاعرفه
إن شاء الله.
قال أبو العباس
: " ذلك" أشد تراخيا من : " ذاك". فقال أبو إسحاق : دخلت
اللام عوضا من سقوط حرف التنبيه ؛ ذلك أنه لا يقال : " هذا لك" وانكسرت
اللام ؛ لأنها زيدت ساكنة وكسرت لالتقاء الساكنين.
ومن ذلك :
" الآن" وهي مبنية على الفتح.
قال أبو العباس
المبرد : الذي أوجب بناءها أنها وقعت في أول أحوالها بالألف واللام ، وحكم الأسماء
أن تكون منكورة شائعة في الجنس ، ثم يدخل عليها ما يعرفها من
__________________
إضافة أو ألف ولام ، فخالفت" الآن" سائر أخواتها من الأسماء ،
بأن وقعت معرفة في أول أحوالها ولزمت موضعا واحدا ، فبنيت لذلك المعنى. قاله أبو
العباس أو نحوه.
وأقول : إن
لزومها في هذا الموضع في الأسماء قد ألحقها بشبه الحروف ، وذلك أن الحروف لازمة
لمواضعها التي وقعت فيها في أوليتها ، غير زائلة عنها ، ولا بارحة منها ، واختاروا
الفتح لأنه أخف الحركات ، وأشكلها بالألف ، وأتبعوها الألف التي قبلها ، كما
أتبعوا ضمة الذال التي في : " منذ" ضمة الميم ، وإن كان حق الذال أن
تكسر لالتقاء الساكنين.
وقد يجوز أن
يكونوا أتبعوا فتحة النون فتحة الهمزة ، ولم يحفلوا بالألف ، كما لم يحفلوا بالنون
التي بين الميم والذال في : " منذ".
وقد يجوز في
فتحها وجه آخر ، وهو ما ذكرنا من أمر الظروف المستحقة لبناء أواخرها على حركة
لالتقاء الساكنين ، كأين ، وأيّان ، وقد بنيا على الفتح ، وأحدهما من ظروف الزمان
والآخر من ظروف المكان ، وشاركتهما : " الآن" في الظرفية ، وآخرها مستحق
للتحريك لالتقاء الساكنين ، ففتح تشبيها بهما. ومعنى" الآن" أنه للزمان
الذي كان يقع فيه كلام المتكلم ، وهو الزمان الذي هو آخر ما مضى وأول ما يأتي من
الأزمنة.
وقال الفراء :
فيه قولان :
أحدهما : أن
أصله من آن الشيء يئين ، إذا أتى وقته ، كقولك : " آن لك أن تفعل"
و" أنى لك أن تفعل" و" أنى لك أن تفعل كذا" أي أتى وقته.
وآخر" آن لك" مفتوح ؛ لأنه فعل ماض.
وزعم الفراء
أنهم أدخلوا الألف واللام على" آن" وهو مفتوح فتركوه على فتحه ، كما
يروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه نهى عن قيل وقال. وقيل وقال فعلان ماضيان ، وأدخل
عليهما الخافض ، وتركهما على ما كانا عليه.
والقول الثاني
: أن الأصل فيه : " أوان" ثم حذفوا الواو فبقي" آن" كما قالوا
: رياح وراح.
والذي قاله
الفراء خطأ ، أعني الوجه الأول من الوجهين ؛ لأن الألف واللام وإن كانتا للتعريف ،
كدخولهما في" الرجل" ، فليس لآن الذي هو فعل فاعل ، وإن كانتا
بمعنى" الذي" لم يجز دخولهما إلا في ضرورة ، كاليجدّع ، واليتقصّع. وقد
ذكرناهما.
فإن قال قائل :
يكون فيه ضمير المصدر كما أضمر في قيل وقال؟
فإن قال قائل :
إذا فرقتم بين اللامين بالكسر والفتح ، فلم صارت لام المستغاث به أولى بالفتح من
لام المستغاث له؟
فالجواب في ذلك
: أن ما يحكى تدخل عليه العوامل ، ولا تدخل عليه الألف واللام ؛ لأن العوامل لا
تغير معاني ما تدخل عليه ، كتغيير الألف واللام ، ألا ترى أنّا نقول : نصبنا اسم
إن بإن ، ورفعنا بكان ، ولا نقول : نصبنا بالإن ، ورفعنا بالكان.
وأما ما شبّهه
به من نهيه عليهالسلام عن قيل وقال ، فغير مشبه له ؛ لأنه حكاية والحكايات
تدخل عليها العوامل فتحكى ، ولا تدخل عليها الألف واللام ، ألا ترى أنك تقول :
" مررت بتأبط شرا" و" برق نحره". ولا تقول : " هذا
التأبط شرا". وإنما حكي : قيل وقال عندي ، من قبل أن فيهما ضميرا قد أقيم
مقام الفاعل ، ومتى ورد الفعل ومعه فاعله ، حكي لا غير ، كما ذكرنا في : " تأبط
شرّا" و" برق نحره".
وأما ما ذكره
من الراح والرياح ، وأن أصله : " أوان" فليس ذلك تعليلا لبنائه على
الفتح. وإنما كلامنا في بنائه.
ومن ذلك :
" شتّان" وهو مبني على الفتح ، ومعناه : بعد كقولك : " شتان زيد
وعمرو" ، من الشّتّ ، وهو التفريق والتباعد ؛ يقال : " شتّان زيد وعمرو
و" شتّان ما زيد وعمرو" ، فمعناه : تباعد وتفرق أمرهما.
قال الشاعر :
شتّان هذا
والعناق والنّوم
|
|
والمشرب
البارد في الظلّ الدّوم
|
ويروى : في ظلّ
الدّوم. وقال الأعشى :
شتّان ما
يومي على كورها
|
|
ويوم حيّان
أخي جابر
|
وكان الأصمعي
يأبى : " شتان ما بين زيد وعمرو" وينشد بيت الأعشى الذي ذكرناه ، ويرد
قول ربيعة الرقي ، ويقول : ليس بحجة ، وهو قوله :
__________________
لشتّان ما
بين اليزيدين في النّدى
|
|
يزيد سليم
والأغرّ بن حاتم
|
قال أبو سعيد :
والقياس لا يأباه ، من قبل أن" شتان" إذا كان معناه : شتّ ، وهو بعد ،
فغير ممتنع أن تقول : بعد ما بين زيد وعمرو ، وتفرق ما بينهما والذي أوجب
بناء" شتان" أنه وقع موقع الفعل الماضي ، والفعل الماضي مبني ، فبني
وكانت الفتحة أولى به كما تكون في الفعل الماضي. ويجوز أن تكون النون فتحت إتباعا
للتاء التي قبلها ، كما ذكرناه في : " الآن".
وزعم الزجاج أن
الذي أوجب له البناء أنه مصدر جاء على" فعلان" فخالف أخواته ، فبني
لذلك.
قال أبو سعيد :
وقد وجدنا فعلان في المصادر ، قالوا : لوى يلوى ليّانا ، قال الشاعر :
تطيلين
ليّاني وأنت مليّة
|
|
وأحسن يا ذات
الوشاح التقاضيا
|
ولقائل أن يقول
: إن" ليّانا" مصدر فعل مستعمل له وهو قولك : لوى يلوى ليانا ، وليس
كذلك : شتان ، لأنك لا تقول : شتانا يشت شانا ، فهو مع خروجه عن أمثلة المصادر غير
منطوق بالفعل المأخوذ منه.
وفي ليّان كلام
يأتي بعد هذا في موضعه وذكر أهل العلم باللغة أن" شت" الذي"
شتان" في معناه ، إنما هو فعل كان أصله : " شتت" فنزعوا الضمة
وأدغموا.
ومثل قولهم :
" شتان" قولهم : " سرعان ذي إهاله" يريدون : سرع هذه إهالة
فجرى" سرعان" مجرى" سرع" ففعل به ما فعل بشتان حين كان في
معنى ؛ شتت.
و" سرعان
ذي إهالة" مثل ، وذلك أن بعض حمقى العرب يقال إنه اشترى شاة وسال رغامها ،
فتوهمه شحما مذابا ، فقال لبعض أهله : خذ من شاتنا إهالتها ، فنظر إلى مخاطها فقال
: " سرعان ذي إهالة". والإهالة : الشحم المذاب.
وزعم أبو حاتم
السجستاني ، وقد ذكر" شتان" ، وزعم أنه بمنزلة : " سبحان"
وهذا وهم ؛ لأن : " سبحان" عند النحويين منصوب معرب إلا أنه لا ينصرف ؛
لأنه معرفة ولأن في آخره نونا وألفا زائدتين. وانتصب لأنه مصدر ، ولم ينون لأنه لا
ينصرف. قال
__________________
أمية بن أبي الصلت :
سبحانه ثم
سبحانا يعود له
|
|
وقبلنا سبّح
الجوديّ والجمد
|
الجودي والجمد
: جبلان. و" سبحانا" فيه وجهان ؛ أحدهما : أن يكون نوّن للضرورة ، كما
يصرف ما لا ينصرف في الشعر ، والآخر أن يكون نكرة ، فاعرفه إن شاء الله.
وأما"
إبّان ذلك" و" إفّان ذلك" والمعنى فيهما متقارب ، فهما معربان
مضافان إلى ما بعدهما ؛ كقولك : " جئت على إفان ذلك" و" جئت في
إبّانه" أي في وقته فإذا لم يدخل الجار نصبت على الظرف فقلت : " جئت
إبان ذلك".
ومن ذلك :
" هلمّ" ، تقول : " هلمّ ذاك" و" هلم إلى ذاك"
والمعنى الدعاء إليه. وهو" ها" ضمّ إليها : " لمّ".
وفيها لغتان :
فأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والاثنين والجماعة من المذكر والمؤنث بلفظ واحد ،
كقولهم : " هلمّ يا رجل" و" هلّم يا رجلان" و" هلّم يا
رجال" و" هلم يا امرأة" و" هلم يا نسوة". قال الله تعالى
: (وَالْقائِلِينَ
لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) والمخاطبون بهذا جماعة ، وإنما جعلوا اللفظ واحدا في كل
حال ؛ لأنهم بنوه معه ، فخالفوا مجراه في لغتهم ؛ لأنهم يقولون للواحد : " المم"
، فلما غيّروا قياسه وبنوه مع غيره ، ألزموه طريقة واحدة في أحواله كلها.
وأما بنو تميم
فيثنون ويجمعون ويؤنثون ؛ كقولهم : " هلّم يا رجل" و" هلمّا يا
رجلان" و" هلمّوا يا رجال" و" هلمّي يا امرأة".
واختلف عنهم في
فعل جماعة النساء. فذكر البصريون وبعض الكوفيين : " هلممن يا نسوة" بفتح
الهاء وتسكين اللام ، وضمة الميم الأولى ، وتسكين الثانية وفتحة النون بلا تشديد ؛
وإنما جعل كذلك لأن هذه النون لا بد لها من تسكين ما قبلها ؛ كقولك : " قعدن"
و" قمن" للنساء ، فلما كانت هذه النون التي هي ضمير جماعة النساء ، توجب
تسكين ما قبلها بطل الإدغام ؛ لسكون الحرف الذي يلي النون ، وصار عندهم بمنزلة :
" أرددن".
__________________
وزعم الفراء أن
الصواب في هذه اللغة : " هلمّن" فتحة الهاء وضمة اللام وتشديد الميم
وفتحها وفتحة النون وتشديدها. وزعم أن الذي أوجب ذلك أن هذه النون التي هي ضمير
الجماعة لا توجد إلا وقبلها ساكن ، فزادوا نونا أخرى ، لئلا تسكن الميم الأخيرة ،
وتركوا الميم الأخيرة على حالها ، وجعلوا النون المزيدة توقية لتغيير الميم
الأخيرة. ويشبه هذا قولهم : " مني" و" عني" حين زادوا نونا
أخرى توقي سكون النون الأولى : لأن النون الأولى لا تكون إلا ساكنة ، وياء المتكلم
يكسر ما قبلها ، فزيدت نون لتكسر لدخول الياء ، وتسلم النون الأولى.
واحتج الفراء
لذلك بما يروى في بعض اللغات من زيادة الألف في : " ردّات" ؛ وذلك أن من
العرب من يقول مكان : " رددت" : " ردّت" فيدغم ، كما كان قبل
دخول تاء ضمير المتكلم ، فمن أهل هذه اللغة من يقول : " ردّات" فيزيد
ألفا ، ليسكن ما قبل هذه التاء ؛ لأن ذلك حكمها ، ويبقى التضعيف على حاله. وكذلك
تزاد نون قبل نون جماعة المؤنث ، ليكون ما قبل النون ساكنا ويسلم التضعيف.
والذي ذكره
الجماعة سوى الفراء هو القياس. وما قاله الفراء من زيادة الألف في هذه اللغة ، فهو
شاذ من شاذ لا يعبأ بمثله.
وقد حكي عن
بعضهم : " هلمّين يا نسوة" في هذه اللغة ، بجعل الزائد ياء وهذا شاذ
أيضا.
وتقول : "
هلمّ يا رجل إلى كذا وكذا" ، فيقول : " لا أهلمّ إليه" و"
هلمّ كذا وكذا" ، فيقول : " لا أهلمّه" بفتحة الألف والهاء وضمة
اللام وتشديد الميم وضمها. والأصل في ذلك : " لا ألم" ، كما تقول :
" لا أردّ" والهمزة مفتوحة ؛ لأنها للمتكلم في فعل ثلاثي ، والفاء مزيدة
مفتوحة ، فهي على أصل فتحتها ، واللام فاء الفعل والميم مرفوعة ؛ لأنه فعل مستقبل
، وتقديره : " لا ألمه" ، ثم أدخلت الهاء بين الألف واللام مفتوحة وتركت
سائر الكلام على حاله ، فاعرفه إن شاء الله.
ومما يؤمر به
من المبنيات قولهم : " هاء يا فتى" ومعناه : تناول ويفتحون الهمزة ،
يجعلون فتحها علم المذكر ، كما تقول : " هاك يا فتى" فتجعل فتحة الكاف
علامة المذكر ، ويصرفونها تصريف الكاف في التثنية ، والجمع ، والمؤنث. وتقول
للاثنين المذكرين والمؤنثين : " هاؤما" ، وللجماعة المذكرين : " هاؤموا"
و" هاؤم". وقال الله تعالى : (هاؤُمُ
اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) والمؤنث الواحدة : " هاء يا امرأة" همزة
مكسورة بغير ياء ، ولجماعة النساء : " هاءون يا نسوة" وهذا أجود اللغات
وأكثرها وبها جاء القرآن.
ومنهم من يقول
: " هاء يا رجل" على وزن : عاط يا رجل والأصل ؛ " هائي" ،
ومثاله من الفعل : فاعل ، كما تقول : " قاتل يا رجل" ، وسقطت الياء
للأمر ، ومثله : " هات يا رجل". ويتصرف كما يتصرف" هات".
ويقول للاثنين ؛ " هائيا" ، كما تقول : " هاتيا" ، وللجماعة
المذكرين : " هاءوا" ، كما تقول : " هاتوا" ، وللمرأة ؛ "
هائي يا امرأة" بهمزة بعدها ياء ، كما تقول : " هاتي" ، وللجماعة
من النساء : " هائين يا نسوة" ، كما تقول : " هاتين يا نسوة".
فأما ما يروى
أن عليا رضياللهعنه قال :
أفاطم هاء
السيف غير مذمّم
|
|
....
|
فيحتمل أن يكون
من هذه اللغة ، وسقطت الياء منها للام الساكنة بعدها. ويحتمل أن يكون من اللغة
الأولى وقال آخر من هذه اللغة :
وقلت لها
هائي فقالت براحة
|
|
ترى زعفرانا
في أسرّتها ورد
|
ومنهم من يقول
: " هاك يا رجل" و" هاكما يا رجلان" و" هاكما يا
امرأتان" و" هاكموا وهاكم يا رجال" و" هاك يا امرأة"
و" هاكنّ يا نسوة".
ومنهم من يقول
: " ها يا رجل" بهمزة ساكنة ، و" هاءا يا رجلان" مثل ؛ خف يا
رجل ، وخافا يا رجلان ، و" هاءوا يا رجال" و" هائي يا امرأة"
مثل : خافي ، و" هأن يا نسوة" ، مثل : خفن يا نسوة.
ومن هذه اللغة
ما حكاه الكسائي من قول الرجل منهم ، إذا قيل له ذلك : " إلام أهاء
وإهاء" ، كما تقول : أخاف وإخاف. وتقدير هذا الفعل أن يكون على : فعل يفعل ؛
ولذلك جاز كسر همزة المتكلم في : إهاء.
ويجوز أن يكون
البيتان الأولان من هذه اللغة.
ومنهم من يقول
: " هاء يا رجل" و" هاءا يا رجلان" كما تقول : طاء يا رجل ،
وطاءا
__________________
يا رجلان ، وهب يا رجل ، وهبا يا رجلان ، و" هاءوا يا رجال"
و" هئي يا امرأة" كما تقول : هبي يا امرأة ، و" هأن يا نسوة"
كما تقول : هبن يا نسوة.
وهذه اللغة
تشبه أن يكون فاء الفعل منها واوا سقطت ، كما سقطت في : وهب يهب.
ومنهم من يقول
: " هاءك يا رجل" ، بهمزة بعد الألف مفتوحة ، وتغير الكاف على حسب
المخاطبين ، تقول للواحد المذكر : " هاءك يا رجل" وللاثنين : " هاء
كما" وللجماعة : " هاءكم" وللمؤنث : " هاءك" وللجماعة من
المؤنث : " هاءكن".
والكاف للخطاب
لا موضع لها ، كما تقول : " أرأيتك" فالتاء مرفوعة ، والكاف للخطاب.
وتلزم التاء حالة واحدة ، وتتغير الكاف ، فتقول للرجل : " أرأيتك يا
رجل" ، وللاثنين : " أرأيتكما يا رجلان" وللجماعة : " أرأيتكم"
وللمرأة : أرأيتك" ولجماعة النساء : " أرأيتكن" وذلك أنهم استغنوا
بما يظهر من التثنية والجمع والتأنيث ، عن تغيير التاء في : " أرأيتك"
والهمزة في : " هاءك".
ونظير : "
أرأيتك" وبابه في توحيد التاء وتذكيرها ، وإن كان الفاعل جماعة أو مثنى : "
حبذا زيد" و" حبذا الزيدان" و" حبذا هند". وتوحد"
حبذا" وإن كانت الأسماء جماعة أو مؤنثا. وشبيهه : " هلّم" في لغة
أهل الحجاز في قولهم : " هلّم" للواحد والجماعة والمؤنث والمذكر ، ولفظ
: " هلمّ" موحد.
ومنهم من يقول
: " هاء ـ مهموزا وغير مهموز ـ يا رجل" ، و" ها يا رجلان"
و" ها يا رجال" و" ها يا امرأة" و" ها يا نسوة" ،
جعلوه صوتا لم يلحقوا فيه علامة الخطاب ، كقولهم : " صه يا رجل" و"
صه يا رجلان" وكذلك الجماعة والمؤنث وجماعتها.
ومن المبنيات
العدد من" أحد عشر" إلى" تسعة عشر" يكون النيف والعشرة
مفتوحين جميعا ، تقول : " أحد عشر" ، و" ثلاثة عشر" و"
تسعة عشر".
والذي أوجب
بناءهما أن التقدير فيها ؛ خمسة وعشرة ، فحذفت الواو وتضمنتا معناها ، فاختير لهما
الفتح ؛ لأنه أخف الحركات.
وبعض العرب
يقول : " إحدى عشر" و" خمسة عشر" ، فيسكن العين. وإنما فعل
هذا لأن" إحدى عشر" قد اجتمع فيها ست متحركات ، وليس في كلامهم أكثر من
ثلاث متحركات متواليات إلا ما كان مخففا ، والأصل غيره ، كقولهم : " علبط"
و" جندل" و" زلزل". وليس في كلامهم أكثر من أربع حركات
متواليات في كلمة كانت أصلا أو مخففة. فلما صار : " أحد عشر". بمحل اسم
واحد ، خففوا الحرف الرابع الذي بتحريكه يكون الخروج عن ترتيب حركات الأصول في
كلامهم.
ومن يسكن العين
في اللغة التي ذكرناها ، لا يسكنها في" اثني عشر" لئلا يجتمع ساكنان ،
وليس في كلامهم جمع بين ساكنين ، إلا أن يكون الساكن الثاني بعد حرف من حروف المد
واللين مدغما في مثله ؛ نحو : " دابة" وما أشبهها.
فإن قال قائل :
هلا بنيتم ؛ : " اثني عشر" على حد واحد ، فلا يتغير في رفع ولا نصب ولا
جر ، كما فعلتم ذلك في أخواته؟
قيل له : من
قبل أن الاثنين قد كان إعرابهما بالألف والياء ، وكانت النون على حالة واحدة فيهما
جميعا ، كقولك : " هذان الاثنان" و" رأيت الاثنين" و"
مررت بالاثنين". فإذا أضفت سقطت النون ، وقام المضاف إليه مقامها ، ودخل حرف
التثنية ، من التغير في حال الرفع والنصب والجر مع المضاف إليه ، ما كان يدخله مع
النون. ولما كان : " عشر" في قولك : " اثنا عشر" حل محل النون
وعاقبها ، صار بمنزلة المضاف إليه ، ولم يمنع تغير الألف إلى الياء في النصب
والجر.
وتقول في
المؤنث : " إحدى عشر" و" ثنتا عشر" ، وإن شئت""
اثنتا عشرة".
وتقول في :
" ثماني عشرة" : " ثماني عشرة" بفتح الياء وهو الاختيار عند
النحويين.
وقد يجوز :
" ثماني عشرة" بتسكين الياء. فأما من فتحها فأجراها على أخواتها ؛ لأنها
جميعا في عدة واحدة وترتيب واحد. وأما من سكّنها فشبهها" بمعدي كرب"
و" أيادي سبأ" و" قاليقلا" وأشباه ذلك.
وفي عشرة لغتان
:
فأما أهل
الحجاز فيقولون : إحدى عشر بتسكين الشين.
وأما بنو تميم
فيقولون : " إحدى عشر" بكسرها.
وهذا عكس ما
يعرف من اللغتين ؛ لأن الغالب على بني تميم تسكين العين من فعل وفعلة ، وعلى أهل
الحجاز كسرها.
واعلم أنك إذا
سميت رجلا بخمسة عشر ، جاز أن تضم الراء ، فتقول : " هذا خمسة عشر" ،
و" رأيت خمسة عشر" و" مررت بخمسة عشر" تجريه مجرى اسم لا
ينصرف.
ولك أن تحكيه
فتفتحه على كل حال. والأخفش كان يرى إعرابهما إذا أضفتها وهي عدد ، فتقول : "
هذه الدراهم خمسة عشرك".
وقد ذكر سيبويه
أن هذه لغة رديئة. والعلة في ذلك أن الإضافات ترد الأشياء إلى أصولها ، وقد علمت
أن خمسة عشر درهما ، هي تقدير التنوين ، وبه عمل في الدرهم. فإذا أضفتها إلى
مالكها لم يجز تقدير التنوين فيها ، لمعاقبة التنوين الإضافة ، فصار بمنزلة اسم لا
ينصرف ، فإذا أضيف انصرف ، وأعرب بما كان يمتنع من الإعراب قبل حال الإضافة.
والكلام على
هذا القول وعلته وتفصيله ، له موضع نذكره فيه ، إن شاء الله. وقال الخليل بن أحمد
: من يقول : " هذا خمسة عشرك" لم يقل : " هذا اثنا عشرك" في
العدد ، من قبل أن عشر قد قام مقام النون ، والإضافة تسقط النون ، فلا يجوز أن
يثبت معها ما قام مقام النون ، ولكن تقول : " هذا اثنا عشرك".
فإن قال قائل :
فأضف وأسقط" عشرة" كما تسقط النون.
قيل : هذا لا
يجوز ، من قبل أنا لو أسقطناه كما تسقط النون ، لم ينفصل في الإضافة"
اثنان" من" اثني عشر" ؛ لأنك تقول في اثنين : هذان اثناك ، فلو قلت
في : " اثني عشر" :
" هذا
اثناك" لالتبسا ، فإذا كان اسم رجل ، جازت إضافته بإسقاط" عشر".
ومن قال في رجل
اسمه : " مسلمان" : " هذا مسلمان ومسلمانك" ، جاز أن يقول : "
هذا اثنان عشرك" ؛ لأنه يجعل هذه النون كنون" سعدان".
واعلم أن
الفراء ومن وافقه يجيز إضافة النيف إلى العشرة ؛ فتقول : " هذا خمسة
عشر".
وأنشدوا فيه :
كلّف من
عنائه وشقوته
|
|
بنت ثماني
عشرة من حجّته
|
وهذا لا يجيزه
البصريون ولا يعرفون البيت.
وإذا كان عشر
مضافا ، وجب عند الفراء إضافة النيف على عشر ، كقولك : " هذا خمسة عشرك"
، وللاحتجاج له وعليه موضع غير هذا.
__________________
واعلم أن العرب
تقول : " هذا ثاني اثنين" و" ثالث ثلاثة" و" عاشر
عشرة". وقد يقال : " ثاني واحد" و" ثالث اثنين" و"
عاشر تسعة" ؛ لأنه مأخوذ من ثنى الواحد ، وثلث الاثنين ، وعشر التسعة.
فإن نونت فهو
بمنزلة قولك : " ضارب زيدا". وإن أضفت فهو بمنزلة قولك : " ضارب
زيد".
ولا يجوز
التنوين في الوجه الأول ، إذا قلت : " ثالث ثلاثة" ؛ لأنك أردت به : أحد
ثلاثة ، وبعض ثلاثة. ولا يجوز التنوين مع هذا التقدير في قول أكثر النحويين ؛ لأنه
لا يكون مأخوذا من فعل عامل.
وإذا قلت :
" هذا عاشر عشرة" قلت : " هذا حادي عشر" بتسكين الياء. ومنهم
من يقول : " هذا حادي عشر" بفتح الياء. فأما من سكن الياء من"
حادي" ، فتقديره : هذا حادي الأحد عشر ، كما تقول : " هذا قاضي
بغداد" ، وحذف" أحد" تخفيفا لدلالة المعنى عليه. وأما من فتح فإنه
بنى" حادي" مع" عشر" حين حذف" أحد" ، فجعل"
حادي" قائما مقامه ، ومنهم من يقول : " هذا الحادي أحد عشر". فإذا
قالوا ذلك لم يجز في الياء إلا التسكين ؛ لأن ثلاثة أشياء لا يجوز أن يكن اسما
واحدا ، وتقول فيما جاوز أحد عشر من هذه اللغة : " هذا ثاني عشر"
و" ثاني عشر" و" ثاني اثنى عشر" و" ثالث عشر"
و" ثالث ثلاثة عشر" لا غير ، على تسعة عشر ، على ما بيناه.
فإن قال قائل :
فلم قيل : " حادي عشر" وهو فاعل من واحد؟ وهلا قالوا : " واحد
عشر" أو" آحد عشر" من لفظ" أحد"؟
ففي ذلك جوابان
:
أحدهما : أنه
مقلوب من" واحد" ، والواو من" واحد" في موضع الفاء منه ،
فجعلت الفاء في موضع اللام ، فانقلبت الواو ياء ، لانكسار الدال ، كما قيل :
" غازي" ، وتقديره من الفعل : عالف والقلب في كلامهم كثير ، كقولهم :
" شائك السلاح" و" شاكي السلاح" ، وكقولهم : " لائث"
و" لاثي". وكما قال الشاعر :
خيلان من
قومي ومن أعدائهم
|
|
خفضوا
أسنّتهم وكلّ ناعي
|
__________________
قال أبو عبيدة
: أراد" نائع" أي : مائل ، أو عطشان ، من قولك : جائع نائع.
وقال الأصمعي :
إنما أراد" الناعي" من : نعى ينعي.
والقول الثاني
في : " حادي" أنه يتبع الإبل ويحدوها ، مثل : حادي الإبل ، وهو الذي
يتبعها ويسوقها.
وتقول في
المؤنث من هذا : " هذه حادية عشرة" و" حادية عشرة" و"
حادية إحدى عشرة" بالضم لا غير ، و" ثانية عشرة" و" ثانية
عشرة" و" ثانية اثنتي عشرة" بالضم لا غير إلى : تسع عشرة ، على هذا
المنهاج. وعلة وجوه الإعراب فيها كعلة المذكر. فإذا أدخلت الألف واللام في شيء من
هذا تركوه على حاله ، تقول : " الحادي عشر" و" الحادي
عشر"" الحادي أحد عشر" بتسكين الياء لا غير ، وكذلك الباب على هذا
المنهاج.
والألف واللام
لا تخرج هذا من لفظه ولا تزيله عن بنائه ، كما لا تزيل خمسة عشر ؛ إذا قلت : أخذت
الخمسة عشر درهما ، وكما لا يزيل" الخازباز" عن بنائه ، إذا قلت :
هذا الخازباز
فاعلم. وسنذكر" الخازباز" في موضعه إن شاء الله.
فأما من يقول :
" هذا ثالث اثنين" و" عاشر تسعة" ، فإن كثيرا من النحويين
يمنعون أن يقولوا فيما جاوز العشرة من هذا ، وذلك أن القوم إذا كانوا تسعة ، فصرت
عاشرهم ، جاز أن تقول : " عشّرتهم" ، وإذا كانوا عشرة وكملتهم أحد عشر ،
لا يكون من هذا فعل مشتق في تكميلك العشرة أحد عشر ، كما كان لك فعل مشتق في
تكميلك التسعة العشرة ، فلم يكن لك اسم فاعل فيما جاوز العشرة.
وهذا هو
القياس. ومنهم من يجيزه ويشتقه من لفظ النيف ، فيقول : " هذا ثاني أحد
عشر" و" ثالث اثني عشر" وينّونه وإنما جاز له أن يشتق من لفظ النيف
، من قبل أن العشرة معطوفة على النيف ، فإذا قلت : " ثلاثة عشر" فمعناه
: ثلاثة وعشرة ، ويشتقه من الأول ، ويجعل الثاني عطفا عليه. وقد حكى نحو من هذا عن
العرب ؛ قال الراجز :
أنعت عشرا والظليم حادي
أراد : الظليم
حادي عشر ، فاعرفه إن شاء الله.
ومن ذلك :
العدد من واحد إلى عشرة ، تقول : واحد ، اثنان ، ثلاثه ، أربعة ، بتسكين أواخر
الأعداد إلى العشرة.
فإن قال قائل :
ولم سكّنت؟
فالجواب في ذلك
: أن هذه الأعداد إذا عددتها لم تقع فاعلة ، ولا مفعولة ، ولا مبتدأة ولا خبرا ولا
في جملة كلام آخر ، والإعراب في أصله للفرق بين اسمين في كلام واحد ولفظين مجتمعين
في قصة ، لكل واحد منهما معنى خلاف معنى صاحبه ؛ فيفرق بين إعرابهما للدلالة على
اختلاف معناهما ، أو يكون الإعراب لشيء محمول على ما ذكرنا ، فلما لم تكن هذه
الأعداد على الحد الذي يستوجب الإعراب ، ولا على الحد الذي يحمل ـ على ما استوجب
الإعراب ـ سكّنّ وصرن بمنزلة الأصوات ، كقولك : صه ، ومه ، وبخ بخ.
ويجوز أن تقول
: " واحد اثنان" فتكسر الدال من : واحد.
فإن قال قائل :
لم كسرت الدال من واحد؟ أللتقاء الساكنين؟ أم ألقيت كسرة الهمزة على الدال فكسرتها؟
قيل له : بل
ألقيت كسرة الهمزة على الدال ، ولا يصلح أن تكون الكسرة لالتقاء الساكنين ، من قبل
أن كل كلمة من هذه المقضية عليها بالوقف واستئناف ما بعدها ، كأن لم يتقدمه شيء.
وألف القطع والوصل يستويان في الابتداء ويثبتان ، فألف اثنان ثابتة ، إذا كان
التقدير فيهما أن تكون مبتدأة ، فهي بمنزلة ألف القطع ، وألف القطع يجوز إلقاء
حركتها على الساكن قبلها ؛ فلذلك كانت الكسرة في الدال من : " واحد" هي
الكسرة التي ألقيت عليها من همزة : " اثنان" ، ويدل على صحة ذلك أنهم
يقولون في هذا إذا خففوا الهمزة : " ثلاثة أربعة" ؛ فيحذفون الهمزة من
أربعة ، ولا يقلبون الهاء في ثلاثة تاء من قبل أن الثالثة عندهم في حكم الوقف ،
والأربعة في حكم الكلام المستأنف ، وإنما تنقلب هذه الهاء تاء إذا وصلت ، فلما
كانت مقدرة على الوقف بقيت هاء ، وإن ألقيت عليها حركة ما بعدها ، كما تكون هاء
إذا لم يكن بعدها شيء.
فإن قال قائل :
لم قالوا : " اثنان" ، فأثبتوا النون في العدد ، ومن قولهم إنما تدخل
النون عوضا عن الحركة والتنوين ، وهذا موضع يسكن فيه العدد؟
فالجواب في ذلك
أن" اثنان" صيغ بثبات النون على معناه ، ولم يقصد إلى" اثن"
فتضمه إلى مثله ؛ إذ كان لا ينطق" باثن" ، ولكنه لما كان حكم التثنية في
الأشياء التي ينطق بواحدها ، متى ثنيت أن تزاد النون فيها عوضا من الحركة
والتنوين. وقد جاء اثنان وإن لم ينطق بإثن ، على ما يجيء عليه الشيء المنطوق
بواحده ، حمل عليه وإن لم يكن له
واحد فيه حركة وتنوين وتثبت هذه النون على كل حال إلا أن تعاقبها الإضافة.
ومن ذلك حروف
التهجي وهي مقصورة ، إذا تهجيت بها ؛ تقول : آ ، با ، تا ، ثا تقصرها. وفي"
زاي" لغتان ؛ منهم من يقول ؛ " زاي" بياء بعد ألف ، كما تقول : "
واو" بواو بعد الألف. ومنهم من يقول" زي".
وإنما وقعت هذه
الحروف إذا قطعتها على هذا النحو ؛ لأنها تشبه الأصوات ، ولأنك لم تحدث عنها ولم
تحدث بها ، ولا جعلت لها حالة تستحق الإعراب لها ، كما قلنا في العدد ، وإن تهجيت
اسما فإنك تقطع حروفه وتبنيها على الوقف ، كقولك إذا تهجيت : " عمرا" :
عين ، ميم ، را ، واو. فإن كان شيء من هذه الحروف بعده همزة جاز أن تلقى حركة
الهمزة عليه ، وتحذفها ؛ كقولك في هجاء : " عامر" : عين ، ألف ، ميم ،
را ، ويجوز أن تقول : عين ألف ، ميم ، را ؛ فتحذف الهمزة ، وتحرك النون من : عين.
قال الراجز :
أقبلت من عند
زياد كالخرف
|
|
تخطّ رجلاي
بخط مختلف
|
تكتبان
في الطريق لام ألف
|
ويروى : تكتبان
، فألقى الهمزة من" ألف" على الميم من : " لام" وحذف الهمزة.
فمن روى :
" تكتبان في الطريق" يعني ؛ تؤثران لام ألف ، ومن روى : " تكتبان"
أراد : تتكتبان ، أي تصيران هما كلام ألف.
قال
سيبويه : إذا قلت في باب العدد : واحد اثنان ، جاز أن تشم الواحد الضم ، فتقول :
واحد اثنان ، ولا يجوز ذلك في الحروف إذا قلت لام ألف أو نحوها. قال : والفصل
بينهما أن الواحد متمكن في أصله والحروف أصوات مقطعة ، فاحتمل الواحد من إشمام
الحركة لما له من تمكن الأصل ، ما لم يحتمله الحرف. فإذا جعلت هذه الحروف أسماء ، وخبرت
عنها ، وعطفت بعضها على بعض ، أعربتها ، ومددت منها ما كان مقصورا ، وشددت الياء
من : " زي" في قول من لا يثبت الألف. قال الشاعر يذكر النحويين :
إذا اجتمعوا
على ألف وباء
|
|
وتاء هاج
بينهم القتال
|
وإنما فعلوا
ذلك من قبل أنها إذا صيرت أسماء ، فلا بد من أن تجري مجراها وتعطي حكمها ، وليس في
الأسماء المفردة التي تدخلها الإعراب اسم على حرفين الثاني من حروف المد واللين ـ واوا
أو ياء أو ألفا ؛ لأن التنوين إذا دخله أبطله لالتقاء الساكنين ، فيبقى الاسم على
حرف واحد ، وهو إجحاف شديد. وقد جاء من الأسماء المعربة ما هو على حرفين الثاني من
حروف المد واللين ، غير أن الإضافة تلزمه ، فيمتنع التنوين ، كقولهم : " هذا
فو زيد" و" رأيت فا زيد". وربما اضطر الشاعر ، فيجيء به غير مضاف.
قال العجاج :
خالط من سلمى خياشيم وفا
وإنما فعل ذلك
؛ لأنه في آخر بيت في موضع لا يحتاج فيه إلى تنوين. فلما كان الأمر على ما وصفنا ،
وجعلت هذه الحروف أسماء زيد في كل واحد منها ما يكمل به اسما ، وجعلت الزيادة
مشاكلة لآخر المزيدة فيه ، تقول في : با : " باء" تكون الهمزة مشاكلة
الألف ، وفي : زي : " زيّ".
ومما يدل على
صحة هذا المعنى قول الشاعر في ليت و" لو" التي هي حرف ، حين جعلها اسما
:
ليت شعري
وأين منّي ليت
|
|
إنّ ليتا
وإنّ لوا عناء
|
وقال النمر بن
تولب :
علقت لوّا
تردّده
|
|
إنّ لوّا ذاك
أعيانا
|
ويجيز الفراء
في هذه الحروف ، إذا جعلت أسماء : القصر والمد ، فتقول : " هذه حا
فاعلم" و" يا فاعلم" وتثنى فتقول : " حيان" و"
بيان" ولا تزيد فيهما شيئا. وقد بينا صحة القول الأول.
ويفرق الفراء
بين هذه الأسماء المنقولة عن أحوال لها هي غير متمكنة فيها وبين ما
__________________
يصاغ من الكلام متمكنا في أول أحواله. والقول الأول أقوى. والله أعلم.
وهذه الحروف
تذكر وتؤنث ، إذا جعلت أسماء تقول : " هذه يا مخطوطة" وإن شئت قلت :
" هذا ياء مخطوط" ، فمن أنثها ذهب بها مذهب الكلمة ، وهو الأغلب عليها ،
ومن ذكّرها ذهب بها مذهب الحرف. قال الشاعر في التأنيث :
...
|
|
كما بيّنت
كاف تلوح وميمها
|
وقال آخر في
التذكير :
كافا وميمين وسينا طاسما
ومن ذلك :
" خاز باز" وفيه سبع لغات ، وله خمسة معان. فأما اللغات التي فيها ؛
فيقال : خازباز ، وخازباز ، وخازباز ، وخازباز وخازباز ، وخازباء ، على مثل :
قاصعاء ونافقاء ، وخزباز ؛ مثل : كرباس.
وأما معانيها ،
فخازباز ؛ عشب ، وهو أيضا ؛ ذباب يكون في العشب ، وقال بعضهم : هو صوت الذباب ،
وهو أيضا داء يكون في اللهازم وقالوا الخازباز : السّنور ، وهو أغرب ما فيه.
والحجة على أنه
العشب قول الشاعر :
والخازباز السّنم المجّودا
وقال آخر :
تفقأ فوقه
القلع السّواري
|
|
وجنّ
الخازباز به جنونا
|
فهذا يحتمل أن
يكون : العشب ، ويحتمل أن يكون : الذباب ؛ يقال : جن النبت إذا خرج زهره ، وجن
الذباب إذا طار وهاج. وقال المتلمس :
فهذا أوان
العرض جنّ ذبابه
|
|
زنابيره
والأزرق المتلمّس
|
ويروى : حي
ذبابه.
__________________
وقال آخر في
الداء :
مثل الكلاب
تهر عند درابها
|
|
ورمت لهازمها
من الخزباز
|
وقال آخر :
يا خازباز أرسل اللهازما
فأما من قال :
خازباز ، فإنه جعلهما اسمين ، ثم كسر كل واحد منهما لالتقاء الساكنين ، مثل قوله :
غاق غاق ، وحاب حاب. ومن فتحهما ، شبههما بخمسة عشر ، وحضرموت ، إذا فتحت آخره.
ومن ضم آخره
وفتح أوله ، فإنه يشبهه ببعلبك ، وحضرموت ، إذا جعلت الإعراب في آخره ؛ تقول :
" هذه بعل بك" و" حضرموت".
قال امرؤ القيس
:
لقد أنكرتني
بعلبكّ وأهلها
|
|
ولابن جريج
في قرى الشام أنكرا
|
ومن قال :
" الخازباز" فإنه بنى أوله على السكون ، ثم كسره ، لالتقاء الساكنين ،
وضم آخره حين صيرهما كشيء واحد. ومثله : " معد يكرب" ، فمن أعرب آخره ،
فقال : هذا معد يكرب ، ورأيت معد يكرب ، ومررت بمعد يكرب ، يجعل الإعراب في آخره
ويبنى أوله على السكون ، إلا أنه اضطر إلى تحريك الأول حين التقى ساكنان ، ولم يكن
ذلك في معد يكرب ؛ لأن ما قبل الياء الساكنة في معد يكرب متحرك.
وأما من قال :
" خازباز" فإنه أضاف الأول إلى الثاني ، كما يقول : " بعل بك"
و" حضرموت" و" معد يكرب" فيمن أضاف ، وجعل : كربا مذكرا ،
و" معديكرب" فيمن أضاف وجعل كرب مؤنثا.
ومثل هذا في
الكلام أنا لو لقّبنا رجلا معروفا بلقب لأضفنا اسمه إلى لقبه ، كقولك : " هذا
سعيد قفة" ، فأضيف اسمه إلى" قفة" حين لقب بها ، وكذلك كل اسم مفرد
إذا لقبته.
واعلم أن"
الخازباز" في هذه الوجوه التي يبنى فيها متى دخلت الألف واللام عليه ، ترك
على بنائه ، كما قال :
__________________
...
|
|
وجنّ
الخازباز به جنونا
|
وكما تقول :
" هذه الخمسة عشر درهما" فتدخل الألف واللام عليها وتدعها على بنائها.
وأما من قال :
" خازباء" فإنه بناء اسما على فاعلاء ، وجعل الهمزة للتأنيث.
وأما من قال :
" الخزباز" فإنه بناء مثل : كرباس ، ويكون متصرفا في جميع وجوه الإعراب
، كما يكون الكرباس.
ومن ذلك قولهم
عند الدعاء ، وسؤالك الإجابة : " آمين". وفيه لغتان : و"
أمين" و" آمين" مقصور وممدود.
قال الشاعر :
تباعد مني
فطحل وابن أمّه
|
|
أمين فزاد
الله ما بيننا بعدا
|
وقال آخر في
المد :
يا ربّ لا
تسلبنّي حبّها أبدا
|
|
ويرحم الله
عبدا قال آمينا
|
وإنما فتح
آخرهما ، وبنيا على ذلك من قبل أنهما صوتان وقعا موقع فعل الدعاء ، وهو أنك إذا
قلت : " أمين" ، فمعناه : استجب يا ربنا ، كما وقع : " صه"
و" مه" في معنى ؛ اسكت ، وكف. فلما كان" أمين" على ما وصفنا
كان من حقه أن يبنى على السكون ، فالتقى في آخره ساكنان ، ففتح ولم يكسر من قبل
الياء التي قبلها ، استثقالا للكسر مع الياء ، كما قالوا : " مسلمين"
وكما قالوا : " أين" و" كيف" حين كان قبل آخره ياء ، فاعرفه إن
شاء الله.
ومما جاء من
الاسمين اللذين جعلا اسما واحدا ، وآخر الأول منهما ياء مكسور ما قبلها : " معدي
كرب" و" أيادي سبأ" و" قالي قلا" و" ثماني
عشر" و" بادي بدا".
فأما"
معدي كرب" فهو اسم علم. وفيه لغات ؛ يقال : " معدي كرب" و"
معدى كرب" و" معدي كرب" فأما من قال : " معدي كرب" فإنه
جعلهما اسما واحدا ، وجعل الإعراب في آخره ومنعه الصرف لعلتين ، إحداهما ؛ التعريف
، والأخرى ؛ جعل الاسمين اسما
__________________
واحدا ، وهو أحد موانع الصرف. وسواء قدرته في هذا الوجه مذكرا أم مؤنثا
تجعله كاسم لا ينصرف ، وتقول : " جاءني معدي كرب" و" رأيت معدي
كرب" و" مررت بمعدي كرب".
وأما من قال :
" هذا معدي كرب" ، فإنه جعل : " معدي" مضافا إلى"
كرب" وجعل كربا اسما مذكرا.
فإن قال قائل :
فإن كان الأمر على ما ذكرت ، فهلا قالوا : " رأيت معدي كرب" ، كما تقول
: " رأيت قاضي واسط"؟
قيل له :
" معدي كرب" لا يشبه : " قاضي واسط" من قبل أن الياء في"
معدي" قد كانت ساكنة في الموضع الذي يجب فتح الحرف الصحيح فيه ، وذلك إذا
جعلته مع" كرب" بمنزلة اسم واحد ، ألا ترى أنك تقول : " هذا
حضرموت" و" بعل بك" ، فيفتح آخر الاسم الأول في الصحيح ، ويسكن
الياء في" معدي" ، فكما وجب تسكين هذه الياء في الموضع الذي ينفتح فيه
غيرها من الصحيح ، وإن كان فتحها بناء ، أسكن في الموضع الذي يكون فتحها إعرابا ؛
لأنه قد لزمها السكون في موضع الفتح.
ووجه ثان يؤيد
هذا المعنى ، وهو قولهم : " أرض وأرضون". ويقال" أرضون"
بتسكين الراء ، وفتحها أكثر وأجود. وإنما فتحت هذه الراء في الجمع ، وإن كانت في
الواحد مسكنة من قبل أنهم يقولون : " أرض وأرضات" ، كما يقولون : "
دعد ودعدات وتمرة وتمرات" فلما كانت" أرضات" جمعا سالما قد لزمت
فيه فتحة الراء التي كانت مسكنة في الواحد على علة" تمرات" و"
دعدات" ، فتحوها في : " أرضون" ، ليعلموا أن لها حالا تنفتح فيها
في جمع سالم مثل : أرضات.
ومن قال :
" معدي كرب" على كل حال ، فإنه على وجهين :
أحدهما : أن
يكون بجعلهما اسما واحدا ، فيكون مثل : " خمسة عشر" و"
حضرموت" فكأنهما كانا مبنيين على الفتح قبل التسمية ثم حكى في التسمية.
والثاني : أن
يجعل" معدي" مضافا إلى" كرب" ويجعل كربا اسما مؤنثا فلا ينصرف
ويكون في موضع مخفوض.
وأما"
قالي قلا" فإنك تجعله غير منون على كل حال إلا أن يجعل : " قالي"
مضافا إلى" قلا" ويجعل" قلا" اسم موضع مذكر فتنونه ، فتقول
على هذا" قالي قلا" فاعلم.
والأكثر ترك التنوين. قال الشاعر :
سيصبح فوقي
أقتم الرّيش كاسر
|
|
بقالي قلا أو
من وراء دبيل
|
وتفسير"
قالي قلا" ، كتفسير" معدي كرب". والوجه الذي ينون فيه كالوجه الذي
ينون فيه" معدي كرب".
وأما"
أيادي سبأ" ففيه لغتان : " أيادي سبأ" و" أيدي سبأ"
ومعناه : متفرقين ، يقول : " ذهب القوم أيدي سبأ" و" أيادي
سبأ" ، إذا تبددوا وتشتتوا. والأصل أن سبأ بن يشجب لما أنذروا بسيل العرم
خرجوا من اليمن متفرقين في البلاد ؛ فقيل لكل جماعة تفرقت ؛ " ذهبوا أيدي
سبأ". وموضعه من الإعراب نصب بالحال ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه
معرفة وقع موقع الحال كما قال :
فأرسلها
العراك ولم يذدها
|
|
...
|
يريد : معتركة.
كما قالوا : " القوم فيها الجماء الغفير" يريد مجتمعين ، وغير ذلك مما
وقعت المعرفة فيه موقع الحال.
والوجه الثاني
: أن يجعل" سبأ" في تقدير منكور ، وتضيف" أيدي" إليه فتكون
منكورة ، فإذا كانت كذلك فلا كلام في وقوعها حالا.
وللسائل أن
يسأل فيقول ؛ كيف يكون" سبأ" منكورا حالا وهو اسم رجل ، فقد صارت له
حالة في التفرق يجوز من أجلها أن يشبه غيره به ، كما قيل : " قضية ولا أبا
حسن لها" ، وإنما القصد فيه إلى علي بن أبي طالب عليهالسلام. كما قال الشاعر :
لا هيثم الليلة للمطى
فإنه وإن كان
أراد عليّا رضياللهعنه قصد الهيثم ، فإن تقدير الكلام : لا مثل علي ولا مثل
الهيثم ؛ لأن (لا) لا تنصب إلا منكورا ، فإنما جاز تقدير" مثل" وإن كان
القصد إلى واحد ؛ لأن التأسف إذا وقع لفقد إنسان ، فإن وجود مثله يزيل ذلك ، ويصير
كأنه هو الأول المطلوب ، فكذلك : تفرق القوم أيدي سبأ ، يجوز أن يكون في التقدير :
أيدي مثل سبأ ، وسبأ في هذا الموضع على هذا التقدير معرفة ؛ فلذلك لم ينون.
__________________
فإن قيل : ولم
صار معرفة و" أيدي" المضاف إليه نكرة؟
قيل له : إذا
رتبنا الكلام على ما ذكرناه ، فأيدي هي مضافة إلى" مثل" ومثل منكور وإن
كان مضافا إلى" سبأ" ، كما تقول : " لا عبد الله الليلة"
فتعمل (لا) في (عبد الله) وإن كان معرفة ؛ لأن تقدير عملها في" مثل" ونقل ذلك
إلى" عبد الله".
و"
سبأ" مهموز في الأصل ، وترك همزه في : " أيادي سبأ" لكثرته ، وطوله
، كما قيل : " منساة" ، وهي من : " نسأته".
فأما"
ثماني عشرة" فقد ذكرناها فيما تقدم.
وأما"
بادي بدا" ، ويقال : " بادي بديء" فمعناه أول كل شيء ، وهو مأخوذ
من الابتداء. وكان الأصل فيه : " بادي بداء" أو" بادي بديء" ،
غير أنهم خففوا الهمزة فيه ، قلبوها ياء ، وسكنوها كما سكنوا ياء" معدي
كرب". قال الشاعر :
وقد علتني
ذرأة بادي بدي
|
|
ورثية تنهض
في تشدّدي
|
و" بادي
بدي" منكور بمنزلة : " خمسة عشر" لأنه حال ، كأنه قال : وقد علتني
مبتدئا ، يعني أول كل شيء. وقد قيل : " بادي بدي" أي ظاهرا ، من قولك :
بدا يبدو. والأول أجود.
فإن قال قائل :
ولم وجب إسكان هذه الياءات من أواخر الأسماء الأولى؟
قيل له : من
قبل أن الاسمين إذا جعلا اسما واحدا ، وكان الأول منهما صحيح الآخر بنيا على الفتح
، والفتح أخف الحركات ، وقد علمنا أن الياء المكسور ما قبلها أثقل من الحروف
الصحيحة ، وأعطيت أخف مما أعطى الحرف الصحيح ، وليس أخف من الفتحة إلا السكون ، فاعرفه
إن شاء الله.
ومن ذلك قولهم
: " وقع الناس في حيص بيص" ، إذا وقعوا في اختلاط وهذا الكثير المعروف.
قال الهذلي :
قد كنت
خرّاجا ولوجا صيرفا
|
|
لم تلتحصني
حيص بيص لحاص
|
وقيل : " حيص
بيص" وقيل : " حيص بيص" وقد يكسر هذا فيقال : " حيص
بيص".
__________________
وحكي في هذا كله التنوين مع كسر الصاد.
وأقول :
إن" حيص" يجوز أن يكون مشتقا من ؛ حاص يحيص ، وإذا فر ، و"
بيص" من : باص يبوص ، إذا فات ؛ لأنه إذا وقع الاختلاط والفتنة ، فمن بين
الناس من يحيص عنها أو يبوص منها ، وكان ينبغي أن يقال : " حيص بوص" ،
غير أنهم أتبعوا الثاني الأول كما قال الشاعر :
أزمان عيناء
سرور المسرور
|
|
عيناء حوراء
من العين الحير
|
والكلام :
العين الحور ؛ لأنها جمع حوراء ، غير أنهم اتبعوها ؛ العين. وكما قالوا : " العدايا
والعشايا" ، فقالوا : " الغدايا" من أجل : " العشايا".
والغداة وحدها لا تجمع غدايا.
والذي أوجب
بناء : " حيص بيص" تقدير الواو فيهما ؛ كأنك قلت : " في حيص
وبيص" ، فلما حذف الواو ، وتضمنتا معناها بنيتا كما تبنى" خمسة
عشر" لما كان فيها معنى الواو. ومن كسر فلالتقاء الساكنين. ويجوز أن تجعله
صوتا ، فتحكى به ما يقع في الاختلاط والفتنة ، ولا تجعله مشتقا من شيء فتكسره كما
تقول : " غاق غاق" إذا قدرته تقدير المعرفة وتنونه ، كما تقول : " غاق
غاق" إذا قدرته تقديرا كنكرة فاعرفه إن شاء الله.
وقولهم :
" ذهب الناس شغر بغر" ، إذا تفرقوا تفرقا لا اجتماع بعده ، و" ذهب
الناس شذر مذر" في ذلك المعنى. ويقال : " شذر مذر ، ويقال : " شذر
بذر" و" شذر بذر" وكله في معنى التفرق الذي لا اجتماع بعده.
وإنما بنيت هذه
الحروف لأن فيها معنى الواو ، كأنه في الأصل : " ذهب الناس شغرا وبغرا"
، فلما حذفت الواو وتضمنتا معناها بنيتا على الفتح مثل : " خمسة عشر".
وشغر بغر عندي
مشتق من قولهم : " شغر الكلب" إذا رفع إحدى رجليه فباعدها من الأخرى ،
و" بغر" من قولهم : " بغر الرجل" إذا شرب فلم يرو لما به من
شدة الحرارة ، فجعل من شغر في التفرق الذي هو لا اجتماع بعده ، كما يكون البغر في
العطش الذي لا ري معه.
وسائر هذه
الحروف فيها معنى الواو على ما قدرت لك في" شغر بغر" ومن ذلك
__________________
قولهم : " ذهب فلان بين بين". والمعنى : بين هذا وبين هذا ، فلما
اسقطت الواو بنيا. قال الشاعر :
...
|
|
وبعض الناس
يذهب بين بينا
|
ومن ذلك :
" لقيتك صباح مساء" و" يوم يوم" على هذا المعنى الذي ذكرناه
من تضمن الواو ، فكأنك قلت : " صباحا ومساء" أو" يوما ويوما"
ولست تقصد صباحا واحدا ولا يوما واحدا.
ويجوز أن تقول
: " أتيتك صباح مساء" فتضيف الصباح إلى المساء وتجعل" صباح"
منسوبا. وإنما جاز إضافته إلى" مساء" من قبل أنك أردت إتيانه في صباح
مقترن بمساء ، فلما اصطحبا في الإتيان ، جاز إضافة أحدهما إلى الآخر ، كما يضاف
الشيء إلى ما يصحبه.
فإذا أدخلت
عليهما شيئا من حروف الجر لم يكن إلا مضافا مخفوضا ، تقول : " أتيتك في كل
صباح مساء" ؛ لأنهم إذا أدخلوا عليه شيئا من حروف الجر خرج عن باب الظروف
وصار اسما وتمكن أكثر من تمكنه الأول ، فلم يقدر فيه الواو.
فإن قال قائل :
فهلا أعربتم" خمسة عشر" ونحوها ، وكل اسمين جعلا اسما واحدا إذا أدخلتم
شيئا من حروف الجر عليه؟
فالجواب في ذلك
أن" خمسة عشر" نحوها على كل حال لا يخلو من تقدير الواو فيه ، فلم يجز
غير البناء ، و" صباح مساء" قد كان مرة يجوز بناؤه قبل دخول الجار على
تقدير الواو ، وإضافته على ما بينا ، فإذا دخل الجار وصار اسما ، وخرج عن حد الظرف
، وتمكن لم يكن فيه إلا الإضافة التي توجب الإعراب له ، إذ كانت الإضافة جائزة قبل
دخول الجار.
ومن ذلك قولهم
: " لقيته كفة كفة" وفيها معنى الواو ، وأصله كفة وكفة. وإنما المعنى :
كفة مني وكفة منك ، وإن شئت : كفة على كفة ، أو : كفة عن كفة. وذلك أن المتلاقيين
إذا تلاقيا ، فقد كف كل واحد منهما صاحبه عن مجاوزته إلى غيره في دفعه التقائهما ،
فكفة وكفة : مصدران وضعا موضع الحال ، كأنك قلت : لقيته متكافّين ، مثل
__________________
قولك : لقيته قائمين.
قال الشاعر :
متى ما تلقني
فردين ترجف
|
|
روانف أليتيك
وتستطارا
|
وقال آخر :
تعلقت ليلى
وهي ذات موصّد
|
|
ولم يبد
للأتراب من ثديها حجم
|
صغيرين نرعى
البهم يا ليت أننا
|
|
إلى اليوم لم
نكبر ولم تكبر البهم
|
وتقول : "
هذا جاري بيت بيت" ، والمعنى : بيت إلى بيت. وإن شئت : بيت لبيت ، فحذفت حرف
الجر ، وتضمنا معناه فبنيا لذلك ، وجعلا في موضع : متلاصقا ، كأنك قلت. هو جاري
ملاصقا ، ويكون جاري هو العامل في موضع" بيت بيت". ولو قلت : " هو
بيت بيت جاري" لم يجز ؛ إذ كان العامل ليس بفعل ولا اسم فاعل.
ويجوز في"
كفة كفة" أن تقول : " كفة كفة لقيته" ؛ إذ كان العامل فعلا. ولو
قلت : " هو مجاوري بيت بيت" أو" جاورني بيت بيت" جاز التقديم
وأن تقول : " بيت بيت جاورني" و" بيت بيت مجاوري" فاعرفه إن
شاء الله.
ومن ذلك ما
أضفته من المعرب إلى غير المتمكن ، من مثل قوله : (مِنْ عَذابِ
يَوْمِئِذٍ). فأما قوله عزوجل : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ) ففيه وجهان :
أحدهما : أن (مثل)
مبني بإضافته إلى غير متمكن ، وهو : ما أنكم تنطقون ، كما قال النابغة :
على حين
عاتبت المشيب على الصّبا
|
|
فقلت ألما
تصح والشّيب وازع
|
وينشد بالخفض.
فإن قال قائل ؛
ولم إذا أضيف إلى غير متمكن بني؟
__________________
قيل له : من
قبل أن ما أضيف إليه ليس باسم في لفظه ، وإنما هو اسم في معناه ، والإضافة الصحيحة
ما كانت اللام مقدرة فيه ، أو من ، فهذه الأشياء التي أضيفت إلى غير متمكن لا يصح
تقدير اللام في لفظ ما أضيفت إليه ولا تقدير" من" ألا ترى أنك إذا قلت :
" هذا يوم يقوم زيد" كان معناه : هذا يوم قيام زيد. ويصلح هذا يوم لقيام
زيد. وإذا قلت : " هذا يوم يقوم زيد" لم يجز أن تدخل اللام فتقول : يوم
ليقوم زيد. وإذا قلت : " هذا يوم قيام زيد" جاز أن تدخل اللام ، فعلمنا
أن الإضافة إلى ما لا يتمكن ضعيفة فلذلك أجازوا البناء في المضاف إليه.
والوجه الثاني
: في قوله : (إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أن (مثل) منصوب على الحال ، كأنه قال : إنه لحق مشبها
لذلك.
وقوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) على قراءة من نصب على وجهين :
أحدهما : ما
ذكرناه من الإضافة إلى غير متمكن.
والثاني : على
الظرف ، أي : هذا في ذلك اليوم ، ويكون المشار إليه غير اليوم في هذا الوجه. وفي
الوجه الأول المشار إليه هو اليوم.
وقوله تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) على قراءة من قرأ بالنصب ، لا يجوز إلا أن يكون بناء
حين أضيف إلى غير متمكن.
رأيت بعض
أصحابنا يقول في قول النابغة.
على حين عاتب
المشيب على الصبا
|
|
...
|
لو قال : على
حين أعاتب ، ما كان يجوز أن يفتح (حين) ، لأن أعاتب ـ زعم ـ معرب ، وليس هذا بقول
مرضى لقوله تعالى ؛ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ) إنما يبنى هذا وما شاكله ؛ لأنه أضيف على ما ليس باسم
في لفظه.
ومن ذلك قولك ؛
" ما نفعني غير قيام زيد" رفع غير عند أصحابنا البصريين. فإذا قلت :
" ما نفعني غير أن قام زيد" ، فلك أن ترفعه على ما يستحقه من الإعراب ،
ولك أن
__________________
تبنيه وتفتحه ؛ لأنك أضفته إلى (أن) وهي حرف. قال الشاعر :
لم يمنع
الشرب منها غير أن نطقت
|
|
حمامة في
غضون ذات أو قال
|
وزعم أهل
الكوفة أنه يجوز نصبها في كل موضع تحسن فيه (إلا) سواء كان مضافا إلى اسم متمكن أو
غير متمكن ، فأجازوا : " ما جاءني غير زيد" و" ما غمني غير أن
قمت" ، ولم يفصلوا بينهما ، ولم يجيزوا : " جاءني غير زيد" لأنه لا
يقع موقعها (إلا).
قال أبو سعيد ؛
واستشهدوا في جواز النصب في الاستثناء بالبيت الذي أنشدناه ، فقال البصريون ؛ لو
قلنا : " ما قام غير زيد" كان قد بقي" قام" بغير فاعل ، ولا
يجوز خلو الفعل من فاعل.
وإذا قلت :
" ما غمني غير أن قمت" فهذا مبني موضعه رفع.
فإن قال قائل :
فاجعلوا (غير) إذا كان مضافا إلى اسم في الاستثناء مبنيا وموضعه رفع.
قيل له : لا
يجوز ذلك من قبل أن الإضافة إلى الاسم المحض لا توجب بناء الاسم المضاف. ولو أوجبت
ذلك لفتحت (غير) في الاستثناء وغيره للإضافة التي فيها ، وليس الاستثناء موجبا
للبناء فتبينه بسبب الاستثناء. وقد رأينا لما ذكرنا من بناء المضاف إلى غير متمكن
نظائر ، وهي ما ذكرناه فحملناه عليه.
فإن قال قائل :
اجعلوا (غير) في الاستثناء مبنيا ، لأنه وقع موقع (إلا) و (إلا) حرف ، والأسماء
إذا وقعت موقع الحروف بنيت.
قيل له : لو
جاز ذلك لجاز أن تقول : " زيد مثل عمرو" لأنا نقول : " زيد
كعمرو" فتبنى" مثل" لوقوعه موقع الكاف ، فلما بطل هذا بطل ما ادعاه
هذا المدعي. فاعرفه إن شاء الله.
ومن ذلك ما
ذكره بعض النحويين : " ما لقيته يوم يوم" وهذا نادر شاذ ، وتفسيره أنه
يجعل (يوم) الأول بمعنى : منذ ، و (اليوم) الثاني معلوما قد حذف منه ما أضيف إليه
، كأنه قال : " ما رأيته منذ يوم تعلم" وتبنيه كما بني : قبل وبعد ، حين
حذف ما أضيف إليه.
فإن قال قائل :
فلم بني يوم الأول؟
قيل له : من
قبل أنه حين جعلته بمعنى : مذ ، ومذ إذا كان ما بعدها مرفوعا ، كانت
فيهما على أحد تقديرين ، هي فيهما جميعا في تقدير إضافة إلى شيء ، وذلك أنك
إذا قلت : " لم أره مذ يومان" أو" مذ شهران" أو نحو ذلك مما
يكون جوابا لكم ، فتقديره : " لم أره وقتا ما" ، ثم فسرت ذلك فقلت ؛ أمد
ذلك شهران ، أو : مدة ذلك شهران ، فقولك : " مذ شهران" جملة ثانية ، هي
تفسير للوقت المبهم في الجملة الأولى ، فهذا أحد تقديري : " مذ" إذا
رفعت ما بعدها.
والتقدير الآخر
أن تقول : " ما رأيته مذ يوم الجمعة" فيكون تقديره : فقدت رؤيته وقتا
أوله يوم الجمعة فمذ في هذين الوجهين بمنزلة اسم مضاف ، إما على تقدير ؛ أمد ذلك ،
أو : أول ذلك. فإذا حذفت المضاف إليه من (يوم) الذي هو في معناه في قولك : " ما
رأيته يوم يوم" بنيته على الضم كما فعلت بقبل ، وبعد ، وحين حذفت المضاف إليه
ولا يجوز أن تقول : " ما رأيته شهر شهر" ولا : " دهر دهر" من
قبل أن (يوم) اسم يستعمل للأوقات كلها ليلها ونهارها ، والشهر اسم مؤقت لشيء من
الزمان والدهر لما كثر منه ، وإن لم يكن مؤقتا.
والدليل على أن
اليوم اسم يقع لكل جزء من الزمان ليل أو نهار قول الله جل ذكره : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ) فهذا زجر عن الفرار في كل وقت من آناء الليل والنهار.
ومن أبين ما يدل على هذا قول الشاعر :
يا حبذا
العرصات يو
|
|
ما في ليال
مقمرات
|
أراد وقتا ؛
فلما كان (يوم) يقع على كل شيء من الزمان كما يقع (مذ) ، أقاموه مقامه ، فاعرفه إن
شاء الله.
ومن ذلك : لدن.
وفيه ثماني لغات ، وهي : لدن ، ولدن ، ولدن ، ولدن ، ولدا ، ولد ، ولد ، ولد.
ومعناها : عند ، وهي مبنية مع دخول حرف الجر عليها.
فإن قال قائل :
فهلا أعربت كما أعربت" عند"؟
فالجواب في ذلك
: أن" عند" توسعوا فيها ، وأوقعوها على ما بحضرتك ، وما يبعد. وإن كان
أصلها للحاضر ، فقالوا : " عندي مال" وإن كان بخراسان ، وأنت بمدينة
السّلام.
__________________
و" فلان عنده علم" وإن لم يعنوا به الحضرة. وقد كان حكم"
عند" في البناء حكم" لدن" لو لا ما لحقها من التصريف الذي ذكرناه ،
و" لدن" لا يتجاوز بها حضرة الشيء ؛ فلذلك بني.
فأما من قال :
لدن ولدن ولدا ، فإنه يبنى آخره على السكون من جهة البناء.
وأما من قال :
لد ، فهو محذوف النون من : لدن.
فإن قال قائل :
ولم زعمتم ذلك؟ وهلا كانت حرفا على حياله؟
فالجواب في ذلك
أنها لو كانت حرفا على حياله ، ولم تكن مخففة من" لدن" لكانت مبنية على
السكون لا غير ، لحكم البناء الذي ذكرناه. ومثل ذلك قولهم : رب ، وربّ ، مخففة
ومشددة. ولو كانت المخففة كلمة على حيالها لكانت ساكنة لا غير ؛ إذ كانت حرفا جاء
لمعنى. ومثل ذلك : " منذ" و" مذ" ، والأصل : منذ ، و"
مذ" مخففة منها. وعليها دليلان.
أحدهما : أن من
العرب من يقول : " مذ".
والثاني : أنّا
نضم الذال لالتقاء الساكنين بالحركة التي كانت فيها مع النون في قولك : منذ.
وأما من قال :
لدن ، ولدن ، فكسر النون لالتقاء الساكنين.
وأما من سكن
الدال ، فإنه بنى باقي الكلمة بعد الحذف والتخفيف.
واعلم أن حكم"
لدن" أن تخفض بها على الإضافة ؛ لأن النون من أصل الكلمة بمنزلة الدال
من" عند" كما قال الله عزوجل : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
عَلِيمٍ) غير أن من العرب من ينصب بها" غدوة" فيقول :
" من لدن غدوة".
قال الشاعر :
لدن غدوة حتى
ألاذ بخفّها
|
|
بقية منقوص
من الظلّ قالص
|
وإنما يفعل ذلك
، لأنه ينزع النون عنها ، فيقول : " لد" ويدخلها فيقول : " لدن"
، فشبهت بنون" عشرين" حين قالوا : " عشر وزيد" و" عشرون
درهما" ، إلا أن نون" عشرين"
__________________
زائدة ، ونون" لدن" أصلية ، فشبهت الأصلية بالزائدة حين ثبتت في
حال وسقطت في حال ، كما ثبتت الزائدة في حال وسقطت في حال.
وأما قول
الشاعر :
من لد شولا فإلى إتلائها
فهذا فيه وجهان
:
أحدهما : أن
يكون الشول مصدر : شالت بذنبها شولا. والناقة تشول بذنبها إذا لقحت. والإتلاء : أن
تلد فيتلوها ولدها ، ومعناه يتبعها. وقد أتلت فهي متلية ، إذا تلاها ولدها ؛ فيقول
: مذ كانت في وقت شول ذنبها إلى وقت إتلائها ، وحذف الوقت وجعل الشول ظرفا ، كما
تقول : " أتاني مقدم الحاج" و" خفوق النجم" وإنما تعني : في
وقت مقدم الحاج ، ووقت خفوق النجم. وصحة التقدير من طريق العربية : مذ لد وقت أن
شالت شولا إلى وقت إتلائها ؛ لأنه لا يصح أن تقول : مذ لد أن كانت الناقة في وقت
شولها إلى وقت إتلائها ؛ لأن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث.
والقول الثاني
: أن يكون الشول جمع شائل ، وهي التي قل لبنها وليس من رفع الذنب. تقول : ناقة
شائلة ، ونوق شول ، إذا قلت ألبانها. كما تقول : امرأة زائرة ونسوة زور. وناقة
شائل إذا رفعت ذنبها ونوق شول.
قال أبو النجم
:
كأن في أذنا
بهن الشّول
|
|
من عبس الصيف
قرون الأيل
|
فيكون تقدير
هذا : مذ لد وقت أن كانت النوق شولا إلى وقت إتلائها ، أي إلى وقت أن ولدت وكثرت
ألبانها.
والاختيار عند
أصحابنا للأول ، فاعرفه إن شاء الله.
قال
سيبويه : " اعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زائدتان ، الأولى منهما حرف المد
واللين ، وهو حرف الإعراب غير متحرك ولا منون ، يكون في الرفع ألفا ، ولم يكن واوا
ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد التثنية ، ويكون في الجرياء مفتوحا ما قبلها
، ولم يكسر ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد التثنية ، ويكون في النصب كذلك ،
ولم يجعلوا النصب ألفا ليكون مثله في الجمع ، وكان مع ذا أن يكون
تابعا
لما الجر منه أولى ؛ لأن الجر للاسم لا يجاوزه ، والرفع قد ينتقل إلى الفعل ، فكان
هذا أغلب وأقوى".
قال أبو سعيد :
اعلم أن العرب إذا ثنت اسما باسم زادوا على أحد الاسمين زيادة تدل على التثنية.
وكان ذلك أخصر وأوجز من أن يذكروا الاسمين. فيعطفوا أحدهما على الآخر ، كقولك :
" زيد وزيد" و" رجل ورجل" ، وجعلوا العلامة الدالة على ذلك
حروفا ؛ إذ كانت الحركات قد استوعبها الواحد ، وجعلوا تلك الحروف هي الحروف
المأخوذة منها الحركات ؛ لأن حكم العلامات أن تكون بالحركات ؛ إذ كانت أقل وأخف.
فإذا كانت الحركات ممتنعة لما ذكرناه ، فأولى العلامات الحروف التي تشبه الحركات ،
فإذا كانت والواو والألف ، فكان حكم الواو أن تكون في تثنية المرفوع ، وحكم الياء
أن تكون في تثنية المجرور ، وحكم الألف أن تكون في تثنية المنصوب. وكذلك الجمع
الذي على حد التثنية ، لما لم يمكن إبانته إلا بالحروف على حسب ما ذكرنا في
التثنية ، غير أنه لا بد من فصل بين التثنية والجمع ، فلم يمكن الفصل بينهما بنفس
الحروف ؛ لأنها سواكن ، فجعل الفصل بين التثنية والجمع بالحركات التي قبل الحروف.
فكان ينبغي على الترتيب الذي رتبنا أن تكون تثنية المرفوع بواو مفتوح ما قبلها ؛
كقولك : " مسلمون" ، وتثنية المجرور : " مسلمين" وتثنية
المنصوب" مسلمين".
وجمع المرفوع
بواو مضموم ما قبلها كقولك : " مسلمون" وجمع المجرور بياء مكسور ما
قبلها ، كقولك : " مسلمين" وجمع المنصوب بالألف ، والألف لا يمكن أن
يكون ما قبلها إلا مفتوحا كقولك : " مسلمان".
وإنما وجب أن
يكون ما قبل هذه الحروف في التثنية مفتوحا ، وفي الجمع على غير ذلك ، من قبل أن
حرف التثنية لما أضيف إلى الواحد ـ لعلامة التثنية ـ أشبه الهاء التي تضاف إلى
الواحد لعلامة التأنيث ، وهي تفتح ما قبلها ، ففتح ما قبل حرف التثنية لهذه
المشابهة.
ووجه آخر ، وهو
: أن بعض علامات التثنية ألف لازمة لها مستعملة فيها ، والألف لا يكون ما قبلها
إلا مفتوحا ، ففتحوا ما قبل غيرها من الحروف ، لئلا يختلف ؛ إذ ليس علة تضطر إلى
المخالفة.
ووجه ثالث ،
وهو : أن التثنية أكثر في الكلام من الجمع السالم ؛ لأنها على منهاج
واحد ، والجمع يقع فيه مكسر وسالم ، والمكسر لا علامة فيه من هذه العلامات
، نحو : " ثياب" و" مساجد" و" أفلس" و"
أكلب" ، فلما كانت التثنية أكثر اختاروا لها حركة خفيفة.
ووجه رابع ،
وهو : أنهم لما احتاجوا إلى تحريك ما قبل حرف التثنية لسكونه حركوه بأخف الحركات
إذ كان ذلك يوصلهم إلى ذلك ولم يتكلفوا أثقل منها لاستغنائهم عنه ، ثم غيروا في
الجمع الحركات التي قبل هذه الحروف ، لئلا يقع لبس ، غير أنهم لما فعلوا ذلك وقع
الفرق بين التثنية والجمع في المرفوع والمجرور ؛ لأن ما قبل الياء والواو في
التثنية مفتوح ، وفي الجمع على غير ذلك ، وما قبل الألف في التثنية والجمع مفتوح
فالتبس تثنية المنصوب بجمعه ، فأسقطوا علامة النصب لما ذكرنا من اللبس ، فبقي
النصب بلا علامة ، فلم يكن بد من إلحاقه بأحدهما ، إما بالرفع وإما بالجر.
وكان إلحاقه
بالجر أولى من أربعة أوجه :
أولها : أن
الجر يختص به الاسم ، ولا يكون إلا فيه والرفع يكون فيه وفي الفعل ، وما لزم شيئا
واحدا واختص به فهو أقوى فيه ، فلما قوي الجر في الاسم للزومه له ، كان إلحاق
النصب به أولى في المعنى الذي لا يكون إلا في الاسم وهو التثنية.
والوجه الثاني
: أن المنصوب والمجرور يستويان في الكتابة ، ويخالفهما المرفوع ، وذلك قولك :
" هذا غلامك" و" ضربتك" ، فالكاف في : " غلامك"
موضعها جر ، وفي : " ضربتك" موضعها نصب ، وصيغتهما واحدة.
والوجه الثالث
: أن المنصوب والمخفوض جميعا مشتركان في وصول الفعل إليهما ووقوعه عليهما ، غير أن
وقوعه على المنصوب بلا واسطة ، وعلى المجرور بواسطة ، وذلك قولك : " تعلقتك"
و" تعلقت بك" و" نصحتك" و" نصحت لك" و"
جئتك" و" جئت إليك" ، فالفعل يكون مرة واصلا بحرف ومرة بغير حرف ،
والمعنى واحد ، فلما اشتركا في معنى الكلام دون المرفوع ، اشتركا في اللفظ دونه.
والوجه الرابع
: وهو أنا لما احتجنا إلى إلحاق المنصوب بالمرفوع أو المجرور لزوال حروفه على ما
تقدم من بيان ذلك ، وكانت الياء التي هي علامة المجرور أخف من الواو التي هي علامة
المرفوع ، كان إلحاقه بالأخف أولى إذ لا علة تضطر إلى الإلحاق بالأثقل ، فتبقى
علامة التثنية" مسلمون" للمرفوع بفتحة الميم ، و" مسلمون" في
الجمع المرفوع بضمة الميم ، و" مسلمين" و" مسلمين" المجرور
والمنصوب. فأزالوا الواو من التثنية ، وجعلوا
مكانها ألفا ، فصارت تثنية المرفوع بالألف. وإنما فعلوا ذلك لعلل منها :
أنهم كرهوا أن يستعملوا حرفين من حروف المد واللين ، ويطرحوا الثالث ، وقد كانت
الحركات المأخوذات منهن مستعملات في الواحد ، واستعملوا الألف في التثنية دون
الجمع ، لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح مشاكل للألف واستعملوه في المرفوع دون
المجرور لثلاث علل. إحداها : أن المجرور قد الحقوا به المنصوب فلو استعملوها فيه
للحق به المنصوب وكان يعود المنصوب بالألف وقد أزيلت علامته بالألف لما وصفنا.
والعلة الثانية
: أن المجرور ألزم في الاسم من المرفوع وأخص به وكان تغيير ما ليس بلازم أولى من
تغيير اللازم.
والعلة الثالثة
: وهي أنهم لما احتاجوا إلى إبدال الياء : أو إبدال الواو وبالألف وإزالة إحداهما
كانت إزالة الواو وإبدالها أولى لأنها أثقل.
ومما أوجب أن
تستعمل الألف أن تثنية المرفوع إذا استعملت بالواو فقيل : مسلمون يشبه ما جمع من
المقصور جمع السلامة نحو مصطفون ومعلون ، وأشباه ذلك.
فإن قيل فأنتم
إذا قلتم مسلمين ، فهو يشبه معلين ومصطفين.
قيل له إذا وقع
الفرق في وجه من التثنية ، كان الفرق الواقع فيها دلالة على ما لم يفترق في اللفظ
وما قل في اللبس كان أولى مما كثر واتسع ، فإذا أبدلنا الألف من الواو في التثنية
لئلا يشبه مصطفون وتركنا الياء في التثنية ، وإن أشبهت في اللفظ"
مصطفين" فقد فرقنا في المرفوع بين التثنية والجمع الذي على حدها وإن لم يفعل
ذلك وقع اللبس بين المرفوع والمجرور جميعا.
فإن قال قائل :
فهلا استعملوا النصب بالألف في التثنية أو الجمع ، وأسقطوه في الآخر لأن اللبس
إنما يقع باستعماله فيهما.
قيل له : لما
كان جمع السلامة كالتثنية في تسليم لفظ الواحد وزيادة ما يدل على التثنية والجمع
وقد وجب ما ذكرناه من إسقاط النصب من أحدهما ، كرهوا استعماله في الآخر ، لئلا
يختلف طريقهما ، وهذا مثله كثير في العربية ، منها أنهم قالوا : " يعد
ويزن" والأصل يوعد ويوزن لأن فاء الفعل واو فحذفوها لوقوعها بين ياء وكسرة في
يوعد ويوزن ثم اتبعوا الحذف بسائر الأفعال المضارعة فقالوا تزن وتعد وإن لم تقع
الواو بين ياء وكسرة حتى لا تختلف الأفعال المضارعة إذا كانت طريقتها واحدة.
فإن قال قائل :
فهلا جعلوا الألف للنصب في التثنية والواو له في الجمع وأسقطوا الرفع وألحقوه
بالجر؟
قيل له : إن
الرفع له المرتبة الأولى فلا بد له من علامة تسبق إليه على النحو الذي تكون فيه
حركته وتلك العلامة الواو ، وقد أمكن فيها الفصل على ما وصفنا فلم تكن بنا حاجة
إلى إسقاطه وإلحاقه بغيره.
واعلم أن الألف
والياء في التثنية والواو والياء في الجمع عند جمهور مفسري كتاب سيبويه هن حروف
الإعراب بمنزلة الدال من زيد والراء من جعفر والألف من قفا وعصا.
واحتجوا في ذلك
بحجج ، منها : أنهم قالوا : حكم الإعراب أن يدخل الكلمة بعد دلالتها على معناها ؛
لاختلاف أحوالها في فعلها ، ووقوع الفعل بها ، وغير ذلك من المعاني ومعنى ذاتها
واحد ، ألا ترى أنك تقول : " مررت بالرجل" و" رأيت الرجل" ،
و" هذا الرجل" ، فمعنى" الرجل" واحد في هذه الأحوال ، واختلف
إعرابه لاختلاف ما يقع منه وبه ، فلما كان الواحد دالا على مفرد وبزيادة حرف
التثنية دل على اثنين ، كان حرف التثنية من تمام صيغة الكلمة للمعنى الذي وضعت له
فصارت الألف بمنزلة الهاء في" قائمة" ، والألف في" حبلى" ،
لأن الهاء والألف زيدتا لمعنى التأنيث ، كما زيد حرف التثنية لمعنى التثنية :
قالوا : فإن قال قائل : إذا كانت هذه الحروف هي حروف الإعراب ، كالألف في"
حبلى" والنصب والهاء في" قائمة" وغير ذلك من الحروف التي هي أواخر
الكلمة ، فينبغي أن لا يتغيرن في حال الرفع والجر ، لأن حروف الإعراب لا تتغير
ذواتها في هذه الأحوال.
فالجواب في ذلك
أن التثنية والجمع خاصة ينفردان بها ، فاستحقا من أجلها التغيير وهي أن كل اسم
معتل لا تدخله الحركات فله نظير من الصحيح تدخله الحركات نحو قفا وعصا وحبلى وسكرى
، نظير قفا وعصا جبل وجمل ، ونظير ألف التأنيث في حبلى وسكرى حمراء وفقهاء. لأن
هذه الهمزة في حمراء وفقهاء هي ألف التأنيث ، والتثنية وجمع السلامة لا نظير لواحد
منهما إلا تثنية أو جمع فامتنع التثنية والجمع من نظير يدل إعرابه على مثل
إعرابهما ، كدلالة جمل وجبل وحمراء وفقهاء ، على إعراب أمثالهن من المعتل فعوض
التثنية والجمع من فقد النظير الدال على مثل إعرابهما تغيير الحروف فيهما.
ومما يدل على
أن تغيير الحروف لا يدل على إعراب ، أنا قد رأينا أسماء مبنية وقد تتغير صورها في
حال النصب والجر والرفع ، وهي الكنايات المنفصلة والمتصلة ؛ تقول في المنفصلة أنا
وأنت في حال الرفع وإياك وإياي في حال النصب ، وتقول في المتصلة" هذا
غلامك" فتكون الكاف في موضع الخفض ، وهي اسم المخاطب ، و" رأيتك"
فتكون في موضع نصب وتقول" قمت" وذهبت فتكون التاء في موضع الرفع وقد
تغيرت صورة هذه الحروف في حال الرفع والنصب والجر ، وهي مبنية مع ذلك فغير مستنكر
أن تتغير حروف التثنية والجمع ، وإن لم يكن تغيرها إعرابا.
فإن قال قائل :
أخبرونا عن هذه الحروف هل فيهن حركة في النية وإن لم ينطق بها ، استثقالا كما تكون
في قفا وعصا حركة منوية فإن في هذا جوابين ؛ أحدهما : أن فيه حركة مقدرة وإن لم
ينطق بها استثقالا ، كما تكون في قفا وعصا حركة منوية من قبل أن هذه الحروف لما
دلت على تمام معنى الكلمة في ذاتها ، وأشبههن ألف حبلى وقفا وعصا جرين مجراهن في
نية الحركة فيهن إذ لا موجب للبناء.
والجواب الآخر
أن لا حركة منوية فيه من قبل أن الحركات وضعن في أصولهن لدلالة على اختلاف أحوال
ما دخلن عليه ، ولا سبيل إلى إدخالهن في المثنى والمجموع ، ولا في نظير لهما يبين
اختلافهما في النظير لهما عن اختلافهما ويدل عليه كما أنبأت الحركة في حبل وجمل عن
حركة قفا وعصا.
ومما احتج به الذاهبون
إلى هذا الذين يقولون : إن الألف والياء في التثنية ليستا بإعراب من قول سيبويه أن
قالوا : رأينا الإعراب المجمع عليه يجوز سقوطه من الشيء المعرب حتى لا يكون فيه ،
نحو الحركات في" زيد" والرجل وما أشبه ذلك ، إذا وقفت عليه وكنحو النون
في تثنية الفعل وجمعه وتأنيثه كقولك : " تفعلان" و" تفعلون"
إعراب وهي علامة الرفع ثم تسقط في النصب والجزم فتقول" لم يفعلا""
ولن يفعلا".
واحتجوا أيضا
فقالوا : ليس يخلو القول في هذه الحروف من أن تكون بمنزلة الدال من زيد ، والألف
من عصا ، كما قلنا ، أو تكون بمنزلة الضمة في الدال من زيد ، والفتحة والكسرة ،
كما قال قطرب ومن تابعه أو تكون دليلا على الضمة والكسرة والفتحة كما قال الأخفش
ومن تابعه قالوا : ففاسد أن تكون هذه الحروف بمنزلة الحركات من قبل أن ارتفاع
الحركات من الاسم حتى يبقى متعريا منها غير مخل بمعناه
وارتفاع الحروف من التثنية والجمع مبطل لمعناهما وفاسد أن تكون هذه الحروف
دليل الإعراب من وجهين أحدهما أن الدليل إنما يدل على معنى في شيء ، فإذا قلنا :
الزيدان أو الرجلان أو رجلان فليس تخلو هذه الألف أن تكون دالة على حركة فيها أو
حركة في غيرها فغير جائز أن تكون دالة على حركة في غيرها ، لأنه لا شيء في الكلمة
سواها يمكن تقدير الإعراب فيه. وإن كانت تدل على حركة فيها فهي الضمة ، فينبغي أن
يكون التغيير إذا وقع دل على حركة أخرى في الألف ولا تتغير الألف لأن الألف الدالة
إنما دلت على حركة فيها كما تكون ألف عصا في حال واحدة في حال الرفع والنصب والجر
وتقدير الإعراب مختلف فيها ، فيكون الدليل دالا على اختلاف الحركات في موضع واحد.
فإن عارض معارض
في هذه الوجه فقال : الألف تدل على إعراب فيها والياء تدل على إعراب أيضا فيها سوى
الإعراب الأول.
قيل له : فإذا
كانت صورتا الألف والياء قد اختلفا وليس في غيرهما شيئان يدلان على اختلافهما
باختلاف صورتيهما فلم لا يكونان إعرابين في أنفسهما وما الحاجة الداعية إلى أن
تجعلهما دليلين على شيء في أنفسهما وهما قد أغنيا عنه بصوريهما.
والوجه الثاني
: أن الإعراب دال على المعنى فإذا جعلنا هذه الحروف دليلة على الإعراب ، والإعراب
دال على المعنى ، فهذه الحروف غير دالة على معنى الكلمة ، وإنما الدال على معناها
ما ليس في الكلام ، وبعيد أن يجعل معنى الكلمة معلوما من غير لفظ الكلمة مع إمكان
الاستدلال بلفظها على معناها.
قالوا : فإن
قال قائل فإذا زعمتم أن هذه الحروف بمنزلة الدال في زيد والألف في عصا ، وأنه لا
إعراب فيها فلم سماها سيبويه حروف الإعراب؟
فالجواب في ذلك
أن حروف الإعراب هي أواخر الكلم دخلها الإعراب أو لم يدخلها ؛ لأنها في الموضع
الذي يحل فيه الإعراب إذا وجد ، ونظير هذا قول النحويين :
الحروف الزوائد
عشرة ويجمعها : " اليوم تنساه" ، وهذه الحروف قد تكون زائدة وأصلية ؛
ألا ترى أن الألف في" أكل" أصلية ، واللام في" لمح" كذلك ،
وسائر هذه الحروف العشرة تكون أصولا ثم سموها زوائد إذ كانت الحروف الزوائد لا
تخرج عنها ، فاعرفه إن شاء الله.
وذكر قوم مذهب
سيبويه أن الألف والياء في التثنية ، والواو والياء في الجمع ، هن
إعراب بمنزلة الضمة والكسرة والفتحة في دال" زيد".
فاحتج عليهم
الآخرون فقالوا هذه الحروف إذا حذفت بطل معنى التثنية ، والإعراب إنما يدخل الكلمة
بعد تمام معناها.
فقال لهم أهل
هذه المقالة : قد يجوز أن يكون الحرف من الكلمة نفسها ويكون أيضا إعرابا ، وذلك
أنا لا نختلف أن الأفعال التي في أواخرها الياء والواو والألف جزمها بسقوط هذه
الحروف منها ، كقولك : " لم يقض" و" لم يغز" و" لم
يخش" ، فإذا جاز أن يكون الإعراب بحذف شيء من الكلمة نفسها جاز أن يكون
بإثباته.
وقال أهل
المقالة الثانية : ويدل على صحة ما قلت قول سيبويه : اعلم أنك إذا ثنيت الواحد
لحقته زائدتان الأولى منهما حرف المد واللين ، وهو حرف الإعراب غير متحرك ولا منون
يكون في الرفع ألفا ، والرفع لا يكون إلا إعرابا ، وقد جعله سيبويه رفعا فصح أنه إعراب.
فإن قال قائل :
فإن سيبويه قد سمى الضمة رفعا في نداء المفرد كقولك : " يا زيد" وليست
بإعراب.
فإن الجواب في
ذلك : أنه إنما سماها رفعا من حيث كانت ضمة لتشابه الصورتين ضمة الرفع وضمة البناء
، والألف لا تكون علامة للرفع فيسمى ألف الاثنين رفعا لمشابهتهما ، فصح أن نفس
الألف هي الرفع.
قالوا : وقول سيبويه : "
وهو حرف الإعراب" هو أيضا دليل على ما قلنا ؛ لأن معناه الحرف الذي به أعرب الاسم ، كما
تقول : " الرجل" فضمة الإعراب التي على اللام دون الضمة الأخرى ، وهي
الإعراب ، كذلك حرف الإعراب هو الحرف الذي أعرب به الاسم.
ثم نعود إلى
تفسير الفصل من كلام سيبويه حرفا حرفا ، وإن كنا قد أتينا على تفسير قوله " أعلم أنك إذا
ثنيت الواحد لحقته زائدتان" يعني لحقته ألف ونون أو ياء ونون ؛ وإنما أنث"
زائدتان" ، لأن حروف المعجم تؤنث وتذكر ، والتأنيث أغلب فيها.
وقوله : " الأولى منهما
حرف المد واللين وهو حرف الإعراب" يعني الأولى ألف أو ياء فأيهما كان فهو حرف المد واللين
، وهو حرف الإعراب ، يعني حرف المد واللين الذي ذكر هو حرف الإعراب. وقد ذكرنا فيه
قولين أحدهما أنه بمنزلة الدال من زيد
والآخر أنه بمنزلة حركة الدال.
وقوله
: " غير متحرك ولا منون" يعني أن حرف الإعراب الذي ذكره غير متحرك ، لأنه ألف
والألف لا تكون متحركة. أو ياء سبيلها سبيل الألف في علامة التثنية. ومعنى : "
ولا منون" يعني أن حرف الإعراب لا يدخل عليه التنوين كما يدخل على ألف قفا
وعصا من قبل أن النون قد جعلت بمنزلة التنوين.
وقوله
: " يكون في الرفع ألفا" يعني حرف الإعراب الذي ذكره وقد وصفنا أن منهم من يقول
إنها هي الإعراب ، ومنهم من يقول إنها بمنزلة الدال فيتأول قول سيبويه :
" يكون في
الرفع ألفا" أي في الموقع الذي يقع فيه المرفوع وإن لم يكن هو مرفوعا ، كما
يقول ضمير المنصوب المنفصل إياك وإياه ، وضمير المرفوع هو وهي ، وفي التثنية هما ،
وفي الجمع هم وهن ، وليس شيء من هذا بمرفوع ولا منصوب ولكن ما يقع موقعه من
الأسماء المعربة يكون مرفوعا ومنصوبا.
وقوله
: " ولم يكن واوا ليفصل بين الاثنين والجمع الذي على حد التثنية" يعني ولم يكن حرف الإعراب في تثنية المرفوع واوا ،
وحكمه أن يكون واوا ، لأن الضمة مأخوذة من الواو ليفصل بين التثنية إذا ثنيت مسلما
على مسلمون بفتح ما قبل الواو وبين الجموع المعتل في حال الرفع ، تقول مصطفون جمع
مصطفى ، وقد مر هذا.
وقوله
: " ويكون في الجر ياء مفتوحا ما قبلها" يعني حرف الإعراب.
وقوله
: " ولم يكسر ليفصل بين التثنية والجمع" لأنك لو كسرت فقلت في
التثنية" مسلمين" بكسر ما قبل الياء وفي الجمع" مسلمين"
لالتبس التثنية بالجمع.
وقوله
: " الذي على حد التثنية" يعني الجمع السالم لأن الجمع على ضربين سالم ومكسر ؛
فالسالم ما سلم فيه لفظ واحده وزيد عليه واو ونون أو ياء ونون كقولك : " مسلم
ومسلمون ومسلمين" والمكسر ما تغير فيه لفظ واحده كقولك" غلام
وغلمان" و" درهم ودراهم" والتثنية لا تكون إلا على وجه واحد ، وهو
أن يسلم لفظ واحدها وتزاد عليه علامة التثنية فإنما قال : " الجمع الذي
على حد التثنية" أي الذي يسلم لفظ واحده "
ويكون في النصب كذلك" يعني ويكون حرف الإعراب في النصب كالجر الذي تقدم ذكره.
وقوله
: " ولم يجعلوا النصب ألفا ليكون مثله في الجمع" يعني لو جعلوا النصب
بالألف في التثنية ؛ لأن الألف مأخوذ منها الفتحة ، للزمهم أن يجعلوا النصب
بالألف في الجمع فكانت تلتبس التثنية بالجمع ، وقد مر نحو هذا.
فإن سأل سائل
فقال : ما معنى دخول اللام في : " ليكون" وأي لام هي؟ وما تقدير الكلمة؟
فإن الجواب في
ذلك أن معناه تركوا جعل النصب بالألف لئلا يكون مثله في الجمع ، كأن تركهم جعل
النصب بالألف في التثنية أن تلزمهم جعله بالألف في الجمع كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ومعناه كراهة أن تضلوا وبعضهم يقول : لئلا تضلوا وكذلك
لم يجعلوا النصب ألفا لكراهة أن يكون مثله في الجمع ، وإن شئت : لئلا يكون مثله في
الجمع. وظاهر أن تركهم الألف في تثنية المنصوب علة أن يكون مثله في الجمع ، وليس
كذلك ؛ لأنهم ما تركوه في التثنية ليثبتوه في الجمع كما أن الله تعالى ما بين لهم
ليضلوا. وهذه اللام هي لام المفعول له ، وتكون داخلة على علة وقوع الفعل والسبب
الفعل فكان هذا أغلب وأقوى" يعني إتباع النصب بالجر أولى ؛ لأن الجر لا يكون
إلا في الاسم والرفع قد يكون في الاسم والفعل وقد أحكمنا هذا فيما مضى.
قال أبو الحسن
الأخفش بعد الفصل الذي أمللناه من كلام سيبويه ولم يتبع الجر الرفع. لأنه أول ما
يدخل الاسم ، فقد ثبت الرفع قبل الجر وقد مر تفسير هذا.
وقال
سيبويه : " وتكون الزائدة الثانية نونا كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين
وهي النون وحركتها الكسر ، وذلك قولك الرجلان ورأيت الرجلين ومررت بالرجلين".
قال أبو سعيد :
إن سأل سائل فقال ما الدليل على أن النون عوض من الحركة والتنوين؟
قيل له :
الدليل على ذلك أنا رأينا الاسم المنفرد فيه حركة ، وتنوين بحق التمكن والاسمية ،
فلما ضم إليه غيره وثني معه ، زيد عليه حرف لمعنى التثنية ، فامتنع ما قبل حرف
التثنية من الإعراب والتنوين وألزم حركة واحدة ، ولم تزل التثنية عنه ما كان له من
الاسمية والتمكن ، فعوض النون من الحركة والتنوين ؛ لأن المعنى الذي أوجبها لم
تزله التثنية.
__________________
فإن قال قائل :
فلم يجعل النون عوضا؟
قيل له : قد
كان ينبغي في القياس أن يكون ذلك العوض أحد حروف المد واللين والألف أو الياء أو
الواو ، غير أنهم لو جعلوا ذلك ألفا أو ياء أو واوا للزمهم قلبها أو تغيير ما
قبلها أو حذفه ، لأن علامة التثنية في الرفع ألف فلو وقعت الألف بعدها أو الياء أو
الواو ، انقلبت همزة وكذا حكمه في التصريف ألا تراهم قالوا : " أحمر
وحمراء" الهمزة في" حمراء" منقلبة من ألف التأنيث وقالوا"
سقاء" و" عطاء" والأصل" سقاي" و" عطاي". وفي
حال النصب والجر لو جعل العوض ألفا تحركت الياء التي هي علامة التثنية وانفتحت ؛
لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا. ولو جعلت واوا أو ياء في حال النصب والجر
، قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء الأولى فتنكبوا هذه الحروف لهذا التغيير الذي
ذكرنا.
فلم يكن بعد
هذه الحروف حروف أشبه بها ولا أقرب منها من النون ، لأنها قد تكون إعرابا في الرفع
إذا قلت : " يضربان" وتزاد مع الإعراب علامة للتمكن في قولك : " زيد"
و" فرس" وغير ذلك من مواضعها.
وكسروا هذه
النون لالتقاء الساكنين.
فإن قال قائل
فإذا زعمتم أن النون عوض من الحركة والتنوين فلم تثبت مع الألف واللام ولا تنوين
معهما؟ فإذا جاز أن يوجد في موضع ليس فيه تنوين فكيف صار عوضا من التنوين ولا
تنوين؟
فإن في ذلك
جوابين كلاهما مقنع ، أحدهما : أن النون دخلت قبل دخول الألف واللام عوضا من
الحركة والتنوين ثم دخلت الألف واللام للتعريف والدليل على ذلك أن ما فيه الألف
واللام لا تجوز تثنيته لأنه معرفة بالألف واللام معين مقصود إليه ، فإذا ثنيناه
زال التعين وصار من أمة كل واحد منهم له مثل اسمه ، ألا ترى أنه لو قيل : ثن زيدا
وبقي فيه التعريف لقلت الزيدان ، وذلك أنك قصدت إلى" زيد" الذي هو معرفة
بالتسمية ، فلما ثنيته قلت : " زيدان" فزالت التسمية والتلقيب الذي كان
من أجله معرفة ؛ لأنهما لم يسميا معرفة في موضع تلقيبهما وتسميتهما بالزيدين مثنى
، ثم أدخلت الألف واللام عليهما فتعرفا بها لا بالتسمية والتلقيب ؛ فصح بما ذكرنا
أن النون حين أدخلوها دخلت عوضا من الحركة والتنوين ، ثم لم تزلها الألف واللام ،
كما أزالت التنوين ؛ لأن التنوين ساكن ساقط في
الوقف والنون متحركة ثابتة في الوقف وسلم قولنا من المناقضة والدخل ؛ لأنا
نقول إن النون تدخل عوضا من الحركة والتنوين فلم تدخل إلا كذلك.
والوجه الثاني
من الوجهين أن النون لما دخلت عوضا من الحركة والتنوين ، ثم رأيناها تسقط في
المضاف مع ثبوت أحد بدليها وهي الحركة إذا قلت : " هذان غلاما زيد" فكان
المضاف في سقوط النون عنه بمنزلة ما ليس فيه حركة ؛ إذ قد سقطت عنه النون التي هي
عوض من الحركة والتنوين ، فجعلوا الحركة التي في المضاف ولم يعوض منها شيء مع
الحركة التي في الألف واللام بمنزلة حركتين فعوضوا منها النون ، وجعلوا سقوط النون
في المضاف مع ثبوت أحد بدليها ، كثبوت النون في الألف واللام مع سقوط أحد بدليها
للاعتدال.
فإن قال قائل :
فهلا أثبتوها مع المضاف وأسقطوها مع الألف واللام؟
فإن في ذلك
ثلاثة أجوبة أحدها : أن المضاف إليه محله محل التنوين وجعلت الألف واللام في أول
الكلام فكان حذف النون وإحلال المضاف إليه محلها أحسن وأجود.
والوجه الثاني
أن المضاف إليه مع المضاف كالشيء الواحد ، والنون والتنوين يفصلان الكلمة عما
بعدها ، والألف واللام تفصل الكلمة أيضا عما بعدها كفصل النون والتنوين ، فكان
زيادة النون مع الألف واللام تأكيدا لمعناها ، ومع الإضافة نقصا لفحواها.
والوجه الثالث
أن الألف التي هي مثل علامة التثنية قد تلحق الواحد مع الألف واللام في القوافي ،
وفي أواخر الآي كقول الله تعالى : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) قال الشاعر :
أقلّى اللوم
عاذل والعتابا
|
|
وقولي إن
أصبت لقد أصابا
|
فلو أسقط النون
مع الألف واللام لجاز أن يظن في حال أنه واحد.
فإن قال قائل :
فلم تدخل النون ما لا ينصرف إذا ثنيته كقولك : " أحمر وأحمران" ولا
تنوين في الواحد؟
فإن الجواب في
ذلك أن ما لا ينصرف من الأسماء أصله الصرف وإنما دخلته علة
__________________
أشبه بها الفعل ، والتثنية تزيل عنه تلك العلة ، فيعود إلى مثل حكم سائر
الأسماء.
فإن قال : فلم
دخل المبهمات النون إذا ثنيت ، كقولك : " هذا" و" هذان"
و" الذي" و" اللذان" ولا حركة ولا تنوين في شيء من ذلك.
فإن الجواب في
ذلك من وجهين ؛ أحدهما : أن هذه الأسماء المبهمة متى ثنيت فدخل عليها حرف التثنية
سقط بدخوله آخر حرف فيها لالتقاء الساكنين كقولك في ثنية" ذا" : " ذان"
و" ذين" في حال النصب والجر ، و" اللذين" و"
اللذان" في ثنية" الذي" فلما سقط في التثنية ما ذكرنا جعلوا النون
عوضا من الساقط ، ومن العرب من يشدد النون المدخلة على المبهمات فيجعل تشديدها
فرقا بين النون الداخلة عوضا من الحركة والتنوين ، وبين النون الداخلة عوضا من حرف
ساقط وبذلك قرأ ابن كثير (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ)(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ)(إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى).
وقال بعض
النحويين إن تشديد النون في هذا فرق بين ما يضاف من المثنى فتسقط النون للإضافة
كقولك : " غلاما زيد" وبين ما لا يضاف كنحو ما ذكرنا من المبهمات.
والوجه الثاني
من الجوابين الأولين أن هذه المبهمات ، كما جعلت في تغيير حرف التثنية منها
كالأسماء الصحيحة المعربة ، جعلت في إلحاق النون بمنزلتها ، ولأن البناء إنما يلحق
الواحد والجمع ، ومنها جمع التثنية غير مختلف ، فزال بالتثنية الفرق الذي كان يوجب
البناء في الواحد ؛ لاشتراك الجمع في علامة التثنية.
وكسرت نون
الاثنين لعلتين إحداهما التقاء الساكنين وهما الألف أو الياء في قولك" مسلمان
ومسلمين" والنون. وحكم التقاء الساكنين أن يحذف الأول منهما إن كان حرفا من
حروف المد واللين كقولك : " هذان غلاما القاسم" و" هؤلاء بنو
القاسم" و" مررت بقاضي البلد" ، أو بكسر الأول إن لم يكن حرفا من
حروف المد واللين كقولك قامت المرأة و" مررت بعبدي الله" غير أنهم في التثنية
لم يحذفوا الأول وهو حرف من حروف اللين وكسروا الثاني.
فأما ترك حذفهم
الأول ؛ فلأنه علامة التثنية والنون لازمة لها أو ما يقوم مقامها من
__________________
الإضافة ، فلو حذفوه بطل علامة التثنية ، فلم يتبين المثنى من غيره.
فإن قال قائل :
فأنتم إذا قلتم" غلاما القاسم" فقد سقط علامة التثنية في اللفظ ، وإن
كانت تراد ؛ فإن الفصل بينهما واضح بين وذلك أن" غلاما القاسم" غير واجب
إضافته إلى ما فيه الألف واللام دون غيره ؛ لأنك تقول : " غلاما زيد"
كما تقول : " غلاما القاسم" والذي يسقط الألف فيما يثني عارض غير لازم ،
فهي وإن سقطت في قولك : " غلاما القاسم" فهي ثابتة في قولك : " غلاما
زيد وعمرو" ، وما لا يحصى من الأسماء كثرة ، فلم نحفل بسقوطها لالتقاء
الساكنين إذا كان الساكن الثاني من كلمة أخرى ، كما لم نحفل بتحريك اللام في
قولك" لم يقل القاسم" في رد الواو التي كانت سقطت لالتقاء الساكنين ،
وليس نون الاثنين كذلك ؛ لأنها من نفس الحرف والفصل بين ما كان من الحرف نفسه ،
وبين ما عرض له من غيره بين واضح في أشياء كثيرة من العربية ، سنقف عليها في
مواضعها إن شاء الله ولم يكسروا الأول لالتقاء الساكنين على ما ينبغي كسره ؛ لأن
الألف لا سبيل إلى تحريكها وحكم الياء حكم الألف.
فإن قال قائل :
ولم وجب الكسر لالتقاء الساكنين دون غيره من الحركات؟
فإن في ذلك
جوابين ، أحدهما : أن الضم والفتح قد يكونان إعرابا ولا تنوين معهما ، وذلك قولك
فيما لا ينصرف : " جاءني عمر" و" رأيت عمر" ولا يكون الكسر
إعرابا إلا والتنوين مقترن به ، أو ما يقوم مقامه من الألف واللام والإضافة ،
كقولك : مررت برجل وغلام وبالرجل والغلام وبرجلكم وغلامكم ، فلما اضطروا إلى
التحريك لالتقاء الساكنين ، أتوا بحركة لا يتوهم أنها حركة إعراب إذ لا تنوين معها
وهي الكسرة.
والجواب الثاني
: أن الكسر يشاكل الجزم لأن الكسر لفظه لفظ الجر ، وتشاكلهما أن الجر يختص
بالأسماء ولا يتعداها إلى غيرها ، والجزم يختص بالأفعال ولا يتعداها على غيرها
فلما اضطررنا إلى تحريك الساكن الذي هو في لفظ الجزم ، حركناه بحركة نظيره الذي هو
الجر ، وكذلك نفعل في القوافي إذا كانت مجرورة ووقع في آخرها حرف مجزوم أو ساكن
غير مجزوم.
فأما المجزوم
فمثل قول زهير :
أمن أم أوفى
دمنة لم تكلّم
|
|
بحومانة
الدّراج فالمتثلم
|
__________________
وأما كسر الحرف
الساكن ، فقول النابغة :
أزف التّرحّل
غير أن ركابنا
|
|
لم تزل
برحالها وكأن قد
|
والآخر من وجهي
كسر النون ، هو الفصل بين حركة النون الداخلة على المثنى وحركة النون الداخلة على
الجمع ؛ وذلك أنهم لما فصلوا بين الحروف الداخلة على التثنية والجمع باختلاف حركات
ما قبلها واختلافها في أنفسها ؛ كقولك في التثنية مسلمين وفي الجمع مسلمين فصلوا
بين النونين أيضا ، فكسروا نون الاثنين ، وفتحوا نون الجمع.
فإن قيل : فإذا
كان الأمر على ما وصفت ، فلم وجب أن يكون الكسر لنون الاثنين والفتح لنون الجمع
دون أن يكون الأمر على الضد من هذا؟
قيل له : لما
كانت حركة النون فتحة أو كسرة ، وكانت الكسرة أثقل من الفتحة والجمع أثقل من
التثنية ، جعلوا الأثقل للأخف ، والأخف للأثقل ؛ حتى يعتدلا ، ولا يجتمع عليهم في
شيء واحد أثقال مترادفة.
ووجه ثان : وهو
أن الجمع يقع فيه واو مضموم ما قبلها وياء مكسور ما قبلها علامة له ، فلو كسرت
النون فيه لخرجوا في حال الرفع من واو مضموم ما قبلها إلى كسرة ، وليس في كلامهم
الخروج من ضمة إلى كسرة إلا فيما لم يسم فاعله من الأفعال ، كقولك : " ضرب
وشتم" وهذا مستثقل قليل منفرد به هذا البناء ، ولخرجوا في حال النصب والجر من
ياء مكسور ما قبلها إلى كسرة ، فكان يتوالى عليهم ما يستثقلون ، فكانت الفتحة أخف
عليهم في البناء الأثقل لما وصفنا ، ولم يضموا النون لأن الضمة أثقل الحركات ، وقد
استغنوا عنها بالحركتين الأخريين.
فإن قال قائل :
قد ذكرت أن حروف التثنية لا تدخلها الحركة وأنت تقول : " رأيت عبدي
الله" و" مررت بعبدي الله" وتقول في الجمع أيضا : " هؤلاء
مصطفو" القوم" وبعضهم يقول" مصطفو القوم" ومررت" بمصطفي
القوم" فحركت هذه الحروف بالضم والكسرة مع القول الذي قدمته. فإن الجواب في
ذلك أن هذه الحركات هي عارضة ، وقد قلنا إن ما أوجبه من التحريك ساكن من كلمة أخرى
غير معتد به في حكم تغير الحرف ، كقولك : " لم يقل القاسم" والواو
والياء إذا انفتح ما قبلهما خف ضمهما وكسرها فلذلك
__________________
جاز الضم والكسر فيما ذكرنا وأيضا فلو حذفت هذه الحروف لالتقاء الساكنين
لزالت علامة التثنية في وجوه إضافتها إلى ما فيه الألف واللام أو ألف وصل.
فإن قال قائل :
فأنت تقول : " هذان غلاما القاسم" و" هؤلاء بنو القاسم""
ومررت ببني القاسم" فتحذف هذه الحروف وتزول علامة التثنية والجمع.
قيل إن سقوط
هذه الحروف في هذه المواضع قد يدل عليها ما يثبت في مثلها إذا كان ما قبلها مفتوحا
، كما ذكرنا ، فيكون الثابت منها دليلا على الساقط ، فلو سقط الجميع ما كان على
شيء منها دليل ، فأسقطوا ما استثقلوا فيه الضم والكسر ، وهو الياء المكسور ما
قبلها والواو المضموم ما قبلها وأثبتوا الباقي.
وزعم الفراء أن
النون إنما كسرت لأن الألف في نية الحركة في التثنية ، وفتحت في الجميع ؛ لأن
الياء والواو ليستا في نية الحركة. وزعم أن ما كان في نية الحركة أو متحركا ، فإن
الساكن الذي بعده إذا حرّك كسر في نحو هذا ؛ كقولك : " دمنة لم تكلم"
هذا متحرك قد كسر الساكن بعده ، والألف في نية الحركة ، وقد حرك الساكن بعدها وما
لم يكن في نية الحركة فإن الساكن يفتح بعدها كقولك أين وكيف وأشباه ذلك.
وهذه دعاوى
يحتاج عليها إلى براهين ، على أنها قد صح فسادها ، فمن ذلك أنّا نقول : " أمس"
والميم ليست في نية حركة و" جير" وليست الياء في نية الحركة وتقول :
"
حيث" وليست الياء في نية الحركة وليت شعري ما الذي فصل بين التثنية والجمع
حتى صار آخر أحدهما في نية حركة وآخر الآخر في نية سكون ، ولا يعلم الغيب إلا الله
على أن من العرب من يفتح نون الاثنين ، قال الشاعر :
إنّ لسلمى
عندنا ديوانا
|
|
أخزى فلانا
وابنه فلانا
|
كانت عجوزا
عمّرت زمانا
|
|
وهي ترى
سيّئها إحسانا
|
أعرف منها
الأنف والعينانا
|
|
ومنخرين
أشبها ظبيانا
|
أراد العينين
فجعل مكان الياء ألفا ، وفتح النون وأراد : منخري ظبيين ، فجعل المضاف إليه مكان
المضاف ، ومن روى أشبها ظبيانا فقد صحف ، ومن قال" ظبيان" اسم إنسان فقد
أخطأ ؛ لأن المنخرين لا يشبهان الإنسان إنما أراد المبالغة في قبحه فشبهه
__________________
بمنخري الظبي ، كما قال الآخر :
وقد علمت
ياقفي التتفله
|
|
ومرسن العجل
وساق الحجله
|
أراد بمرسن
العجل الأنف منه ، وعلى هذا كلام العرب ومذاهبها فاعرفه إن شاء الله. وعلى أنه
يلزم الفراء بفتح نون الاثنين في النصب والجر ؛ لأن الذي قبلها ياء ساكنة نحو
رجلين وفرسين وهو في اللفظ كأين وكيف.
قال
سيبويه : " وإذا جمعت على حد التثنية لحقتها زائدتان : الأولى منهما حرف المد
واللين والثانية نون ، وحال الأولى في السكون وترك التنوين وأنها حرف الإعراب حال
الأولى في التثنية ، إلا أنها واو مضموم ما قبلها في الرفع ، وفي النصب والجر ياء
مكسور ما قبلها ، ونونها مفتوح ، فرقوا بينهما وبين نون الاثنين ، كما أن حرف
اللين الذي هو حرف الإعراب مختلف فيهما".
قال أبو سعيد
هذا فصل قد أتينا على تفسيره في الفصل الذي قبله ، واحتججنا لمعانيه ما أغنى عن
إعادته ، غير أنا نذكر مطابقة كلامه في هذا الفصل لما قدمناه من تفسيره مرتبا إن
شاء الله.
قوله
: " وإذا جمعت على حد التثنية" يعني جمعت الاسم جمع السلامة ، فبقي لفظ واحدها ، إنما
قال : على حد التثنية ، لأن التثنية لا تكون إلا مسلمة ، يبقى لفظ واحدها ثم تلحق
علامة التثنية ، السلامة لا يكون في كل مجموع ألا ترى أنك لا تقول : " مسجد
ومسجدون" ولا" مسجدات" ولا تقول مررت برجل أحمر ورجال أحمرين.
وإنما يجمع بإلحاق الزيادتين ضروب من الجمع سنبينها إذا انتهينا إلى مواضعها إن
شاء الله.
وقوله
: " لحقتها زائدتان" يعني الواو والنون أو الياء والنون ، الأولى منهما حرف
المد واللين وهي الواو والياء.
وقوله
: " وحال الأولى في السكون وترك التنوين وأنهما حرف الإعراب حال الأولى في
التثنية" يعني حال الياء والواو في الجمع في أنها ساكنة ، وأنها لا يلحقها تنوين
كما تلحق ياء قاض ورام ، وفي أنها حرف الإعراب. وقد بينا المعنى في حرف الإعراب ،
واختلاف التفسير فيه كاختلاف الألف والياء في التثنية.
وقوله
: " إلا أنها واو مضموم ما قبلها في الرفع ، وفي النصب وفي الجر ياء مكسور ما
قبلها" يعني أن الزيادة الأولى في الجمع ، وإن كان مثل الزيادة الأولى في التثنية
فيما ذكر من
سكونها وترك التنوين فيها ، وأنها حرف الإعراب ، فهي مخالفة لها لأن في
الجمع واوا مضموما ما قبلها وياءا مكسورا ما قبلها.
وقوله
: " ونونها مفتوحة فرّقوا بينها وبين نون الاثنين ، كما أن حرف اللين الذي هو
حرف الإعراب مختلف فيهما". يعني أنهم فرقوا بين النونين بالفتح ، والكسر كما فرقوا
بين حرف اللين فيهما جميعا ، في أن جعلوا ما قبل حرف اللين من المثنى مفتوحا ،
وجعلوا فيه ألفا ، وجعلوا ما قبل حرف اللين في الجمع مضموما أو مكسورا. فإن قال
قائل : وما في تفريقهم بين حرفي اللين منهما مما يوجب التفريق بين النونين؟
فإن الجواب في
ذلك أن سيبويه لم يجعل أحدهما حجة للآخر وإنما عرفنا ما تكلمت به العرب من التفريق
بين النونين ، والتفريق بين حرفي اللين ، وإذا كان أحدهما غير موجب للآخر ، كما
يقول القائل للمسؤول : " أعطني كما أعطى زيد عمرا" و" كن لي مكرما
كما أن زيدا مكرم لعمرو" وإن كان إكرام زيد لعمرو غير موجب إكرام المسؤول
للسائل ، ولكنه يسأله أن يشبه زيدا في إكرامه. وقد بينا الاحتجاج له فيما سلف.
قال
سيبويه : " ومن ثم جعلوا تاء الجمع في النصب والجر مكسورة ، لأنهم جعلوا
التاء التي هي حرف الإعراب ، كالواو والياء والتنوين ، بمنزلة النون ، لأنها في
التأنيث نظير الواو والياء في التذكير".
قال أبو سعيد
اعلم أن جمع المؤنث على ضربين : سالم ومكسر كما كان جمع المذكر ، وكذلك ما ألحق
بالمؤنث مما لا يعقل كقولك" جبل راس" و" جبال راسيات" و"
جمل قائم" و" جمال قائمات" والمكسر من جمع المؤنث كقولك"
امرأة مرضع" و" نساء مراضيع" و" امرأة قاعد" و"
نساء قواعد". والجمع السالم للمؤنث وما جرى مجراه بزيادة ألف وتاء فيه بعد
سلامة لفظ الواحد ؛ كقولك : " مسلمة ومسلمات" و" اصطبل
واصطبلات" وقصدنا في هذا الموضع إلى إبانة الإعراب فيه دون تقصي جميعه ، فإذا
زيدت فيه الألف والتاء ، صار بزيادة الألف والتاء بمنزلة جمع المذكر السالم.
وخالفت الألف
والتاء في جمع المؤنث السالم الواو والنون ، والياء والنون في جمع المذكر السالم
في أشياء ، ووافقتها في أشياء ، فأما ما خالفتها فيه فإن التاء في جمع المؤنث يجري
عليها حركات الإعراب ؛ كقولك : " هؤلاء مسلمات" و" رأيت
مسلمات"" ومررت بمسلمات" ، ولا تتغير الزيادة الأولى من جمع المؤنث
التي هي الألف وتثبت التاء
في الإضافة ؛ كقولك : " هؤلاء مسلماتك" و" مررت
بمسلماتك".
فهذه وجوه
يختلفان فيها ويستويان في سلامة لفظ الواحد وزيادة الزائدين لعلامة الجمع ؛
فبالمعنى الذي استويا فيه حمل أحدهما على الآخر ، وكذلك طريقة القياس ؛ لأن الشيء يقاس
على الشيء ، إذا كانا مشتبهين في معنى ما ، وإن كانا مختلفين في أشياء أخر ، فحمل
جمع المؤنث على جمع المذكر ، في أن جعل للرفع علامة يفرد بها وللنصب والجر علامة
واحدة اشتركا فيها كقولك : " جاءني مسلمات" و" رأيت مسلمات"
و" مررت بمسلمات" وصارت التاء في مسلمات هي آخر ما صيغت عليه الكلمة
لمعنى الجميع ؛ لأن بزوالها يتغير المعنى كما صارت الواو والياء آخر ما صيغ عليه
الجمع لمعناه ، وبزوالهما يزول معنى الجمع ، والتاء حرف إعراب كما أن الواو والياء
حرفا إعراب وليست النون في جميع المذكر بمنزلة التاء في جميع المؤنث ؛ لأن زوال
النون في جميع المذكر إذا أضفت فقلت : " مسلموك" لا يزيل معنى الجمع كما
يزيله زوال التاء ، ودخل الإعراب والتنوين على التاء فلم يحتج إلى عوض من التنوين
والحركة كما احتجنا إلى تعويضهما النون في جمع المذكر فصارا التنوين فيه يعاقب
الإضافة ، كما عاقبت النون الإضافة ، فالتنوين في هذا الجمع بمنزلة النون.
فإن قال قائل :
فما معنى قول سيبويه : "
ومن ثم جعلوا تاء الجميع في النصب والجر مكسورة" قيل له : معناه في ذلك أنهم جعلوا تاء الجميع في النصب
والجر مكسورة ؛ لأنهم قد جعلوا هذه التاء والحرف الذي قبلها ، علامة لهذا الجمع
كما جعلوا الواو والياء علامة لجمع المذكر ، ولاجتماعهما في هذا المعنى أشركوا بين
النصب والجر في هذا الجمع ، كما أشركوا بينهما في ذلك الجمع.
فإن قال قائل :
لما جعل التنوين بمنزلة النون والتنوين في هذا الجمع لا يثبت مع الألف كما يثبت
النون في ذاك الجمع.
فالجواب في ذلك
أنه جعل التنوين بمنزلة النون لأن التنوين زيد على هذا الجمع بعد التاء ، التي هي
حرف الإعراب فيه ، كما زيدت النون على الواو والياء ، التي هي حرف الإعراب في ذلك
الجمع ، ولم يعرض لما يلحق التنوين والنون من أحكام ثبوتهما وسقوطهما.
وقال الأخفش :
ليس فيها في موضع النصب إعراب ولا حذف إعراب يعني ليس في التاء إذا قلت : " رأيت
مسلمات" إعراب ، وهذه الكسرة عنده كسرة بناء.
قال أبو سعيد :
والذي عندي من الاحتجاج له ، أن هذه الكسرة اتبعت كسرة الخفض وكسرة الخفض إعراب
وكسرة النصب بناء ، وصارت متبعة لتلك ، كما قالوا" يا زيد بن عبد الله"
فيمن فتح الدال من زيد ، واتبعوا حركة الدال إعراب الابن وإن كانت إحدى الحركتين
إعرابا والأخرى بناء. ومثل هذا قولهم" امرؤ" و" ابنم" و"
رأيت امرأ وابنما" و" مررت بامرئ وابنم" فتكون حركة ما قبل الهمزة
والميم تابعة لإعرابهما وليست بإعراب.
واحتج عليه أبو
عثمان المازني فقال : لو كانت الكسرة في" رأيت مسلمات" بناء ، لكانت
الإضافة تبطلها وترد الكلمة إلى أصلها في التمكن ، ونحن نقول في الإضافة : " رأيت
مسلماتك" بالكسر كما تقول في غير الإضافة ، ثم رجع أبو عثمان على نفسه بإبطال
هذا الاحتجاج ، وأنه غير لازم بأن قال : إذا بنى الشيء في حال تنكير لم ترده
الإضافة إلى الإعراب كما لم يوجب له التنكير الإعراب نحو قولك في خمسة عشر إذا
أضفتها قلت : " هذه خمسة عشرك" ومررت" بخمسة عشرك"" وهذه
الخمسة عشر" إذا أدخلت عليها الألف واللام.
ويلزم أبا
الحسن الأخفش أن يجعل فتحة ما لا ينصرف في حال الجر بناء كقولك" مررت
بعمر" و" ذهبت إلى مساجد" وأشباه ذلك لأن هذه الفتحة للنصب ، والجر
داخل عليه فيها كما كانت الكسرة في التاء للجر ودخل النصب عليها.
قال أبو سعيد :
والذي فيه عندي أن الكسرة في التاء في النصب والفتحة فيما لا ينصرف في الجر هما
إعرابان ؛ وذلك أن الإعراب هو تعاقب الحركات على أواخر الكلم لاختلاف العوامل ،
وهذه الكسرة والفتحة تدخلان معاقبتين للضمة ، لعوامل توجب ذلك لهما ، وقد وجد
فيهما شرط الإعراب. قال أبو الحسن : التاء المكسورة والمضمومة ليست بمنزلة الياء
والواو وإنما الضمة نظيرة الواو ، والكسرة نظيرة الياء ، ألا ترى أنك لو
سمعت" مسلمات" لم تدلك التاء على رفع ولا جر ، كما تدلك الواو والياء
ولو سمعت الحركة تدلك على الرفع والجر كما تدلك الواو والياء.
وإنما قال أبو
الحسن هذا لأن سيبويه قال في الفصل الذي تقدم" لأنهم جعلوا التاء
التي هي حرف الإعراب كالواو والياء" وكأنه خطأ سيبويه فيما قال ، ولم
يذهب سيبويه حيث قدر أبو الحسن والله أعلم : لأن سيبويه إنما أراد أنهم زادوا
للجمع في المؤنث ألفا وتاء ، كما زادوا في المذكر واوا وقد أحكمنا هذا فيما ذكرنا
قبل ، ويحتمل أيضا أن يكون أراد سيبويه بقوله : " جعلوا التاء التي هي حرف
الإعراب" حركة التاء وحذفها كما قال الله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
الأفعال الخمسة
قال
سيبويه : " اعلم أن التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة ، علامة للفاعلين ،
لحقتها ألف ونون ، ولم تكن الألف حرف الإعراب ؛ لأنك لم ترد أن تثنّى"
يفعل" هذا البناء ، فتضمّ إليه" يفعل" آخر ، ولكنه إنّما ألحقته
هذا علامة للفاعلين ، ولم تكن منوّنة ولا تلزمها الحركة ؛ لأنه يدركها الجزم
والسكون ، فتكون الأولى حرف الإعراب ، والثانية كالتنوين ، فلمّا كانت حالها في
الواحد ، غير حال الاسم وفي التثنية لم تكن بمنزلة ، فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات
النون ؛ ليكون له في التثنية علامة للرفع ، كما كان في الواحد ؛ إذ منع حرف
الإعراب ، وجعلوا النون مكسورة حالها في الاسم ، ولم يجعلوها حرف إعراب ؛ إذ كانت
متحركة لا تثبت في الجزم.
قال أبو سعيد :
اعلم أن الفعل لا يثنّى ولا يجمع ؛ لأن المثنى والمجموع هو الذي يدخل في نوع
يشاركه فيه غيره ، فيشتمل النوع على آحاد منكورين ، فتضمّ بالتثنية واحدا من النوع
إلى آخر منه ، وتضم بالجمع واحدا من النوع إلى أكثر منه ، كقولك : رجل ورجلان
ورجال ، وفرس وفرسان وأفراس ، وليس الفعل كذلك ، لأن اللفظ الواحد من الفعل يعبّر
به عما قلّ منه وكثر ، وما كان لواحد ولجماعة ، كقولك : " أكل زيد"
و" ضرب زيد عمرا" ، فيجوز أن يكون أكل لقمة ويجوز أن يكون أكل مرارا
ويجوز أن يكون ضربه مرة ويجوز أن يكون ضربه مرارا ؛ وكذلك تقول : " قام زيد"
، و" قام الزّيدان" و" قام الزّيدون". ولو كان الفعل مثنّى في
قولك : " الزّيدان قاما" ومجموعا في قولك : " الزّيدون قاموا"
؛ لأنّ فعل كلّ واحد منهما غير فعل الآخر ، لجاز أن يقال : " زيد قاما"
و" زيد قاموا" إذا كان قد قام مرّتين أو مرارا. فإذا صح أن الفعل لا
يثنّى صح أن الألف
__________________
التي تلحقه في التثنية ، والواو التي تلحقه في الجمع لغير تثنية الفعل
وجمعه.
وزعم سيبويه أن
الألف والواو قد يكونان مرّة اسم المضمرين والمضمرين ، وقد يكونان مرّة حرفين
دالّين على التثنية والجمع ، فإذا قلت : " الزّيدان قاما" فهذه الألف
اسم ، وهي عنده ضمير الزّيدين المذكورين فإذا قلت : " الزّيدون قاموا" ،
فهذه الواو هي اسم وهي ضمير الزيدين ، وإذا قلت : " قاما أخواك" فهذه
الألف هي حرف وليست باسم ، دخلت علامة مؤذنة بأن الفعل لفاعلين ، وكذلك إذا قلت :
" قاموا إخوتك" ؛ فإن الواو حرف ، دخلت مؤذنة بأنّ الفعل لجماعة ، ومثل
الألف والواو في التثنية والجمع : النون لجماعة المؤنّث والياء للمؤنث المخاطبة ،
تقول : " الهندات قمن" فتكون النون ضميرا الجماعة وهي اسم ؛ " وقمن
الهندات" فتكون حرف علامة ، والياء في المخاطبة للمؤنث لا تكون إلا ضميرا ،
كقولك : " قومي" للمرأة ، و" انطلقي" و" هل
تذهبين". وهذه الياء كثير من النحويين يذهبون إلى أنها علامة بمنزلة التاء في
قولك : " قامت".
وسيبويه يذهب
إلى أنها ضمير في آخر الكتاب ، في : " باب الأبنية وغيرها". والذي يدل
على ما ذكرنا من حكم هذه الحروف في كلام العرب وأشعارها ، قولهم" أكلوني
البراغيث" وقول الشاعر :
يلومنني في
اشتراء النّخي
|
|
ل أهلي فكلهم
يعذل
|
وأهل الذي
باع يلحونه
|
|
كما لحي
البائع الأوّل
|
وقال آخر :
ألفيتا عيناك
عند القفا
|
|
أولى فأولى
لك ذا واقية
|
وقال الفرزدق :
ولكن ديافيّ
أبوه وأمه
|
|
بحوران يعصرن
السّليط أقاربه
|
فهذه الحروف
عند سيبويه في وقوعها أسماء مرة وحروفا مرة بمنزلة التاء في قولك : " قلت"
و" قالت" ، فالتاء في" قلت" اسم المتكلم ، والتاء في"
قالت" علامة تؤذن بأن
__________________
الفعل للمؤنث. وقد قال أبو عثمان وغيره من النحويين : إن الألف في"
قاما" ، والواو في" قاموا" حرفان لا يدلان على الفاعلين والفاعلين
المضمرين ، وأن الفاعل في النّية ، كما أنك إذا قلت : " زيد قام"
ففي" قام" ضمير في النّية ، وليست له علامة ظاهرة ، فإذا ثنى وجمع
فالضمير أيضا في النّية ، غير أنّ له علامة.
قال أبو سعيد :
القول فيه عندي ما قاله سيبويه ؛ وذلك أنه لا خلاف بينهم أن التاء في"
قمت" هي اسم المتكلم وضميره ، وقد يكون للمتكلم فعل لا علامة للضمير فيه ،
كقولك : " أنا أقوم" ، و" أذهب" ، فإذا جاز أن يكون له فعلان
، أحدهما يكون ضميره في النّية ، وهو : " أقوم" ، و" أذهب" ،
والآخر يتّصل به ضمير المتكلم ، وهو : " قمت" ، و" ذهبت" ،
جاز أن يكون ذلك في الغائب ، وأيضا فإنك إذا قلت : " زيد قام ، والزّيدان
قاما" فقد حلّت هذه الألف والضمير الذي في" قام" محل"
أبوه" إذا قلت : " زيد قام أبوه" ، فلما حلّ محلّ ما لا يكون إلا
اسما وجب أن يكون اسما.
فإن قال قائل :
لم كان الواحد المضمر المرفوع بلا علامة لضميره ، كقولك" زيد قام"
والاثنان والجماعة بعلامة ، كقولك : " الزّيدان قاما" و" الزّيدون
قاموا" و" الهندات قمن"؟
فإن الجواب في
بذلك أنّ الفعل معلوم في العقول أنه لا بدّ له من فاعل ، كالكتابة التي لا بدّ لها
من كاتب ، وكالبناء الذي لا بد له من بان ، وما أشبه ذلك ، ولا يحدث شيء منه من
تلقاء نفسه ، فقد علم فاعل لا محالة ، ولا يخلو منه الفعل ، وقد يخلو من الاثنين
والجماعة ، فلما لم يخل بالفعل من واحد ، لم يحتج إلى علامة له ، ولما جاز أن يخلو
من الاثنين والجماعة احتاج إلى علامة.
فإن قال قائل :
إذا جعلت الألف والواو والنون في : " قاما أخواك" و" قاموا
إخوتك" و" قمن الهندات" علامة تؤذن بعدد الفاعلين ، كما جعلت التاء
في : " قامت هند" مؤذنة بالتأنيث ، فلم لا يكون الاختيار" قاما
أخواك" ، كما كان الاختيار" قامت هند" ولا يحسن" قام
هند"؟
فالجواب في ذلك
أنهما يفترقان ؛ لعل منها : أن التأنيث لازم للاسم ، موجود فيه ، وليست التثنية
كذلك ؛ لأنها قد تفارق الاسم فيصير إلى الواحد فللزوم التأنيث لزمت علامته ؛
ولزوال التثنية لم تلزم علامتها.
وعلة أخرى : أن
علامة التأنيث لا تمنع ضمير الاثنين. كقولك : " الهندان قامتا" ، وعلامة
الاثنين تمنع ضمير الاثنين وتشبهه ، فكان ما لا يمنع شيئا من تصاريف الكلام أولى
باللزوم مما يمنع.
وعلة أخرى :
وهو أنك إذا قلت : " قاما أخواك" جاز فيه أن تكون الألف علامة ، وجاز أن
تكون خبرا مقدما ، وأن يرتفع" أخواك" بالابتداء ، فيكون التقدير"
أخواك قاما" ، فلمّا كان في تقديم علامة الاثنين والجماعة ما ذكرناه من اللبس
، لم يلزمه تقديمه ؛ لأنه لا يعلم أنه علامة فقط ، والتاء علم التأنيث ، تقدمت أو
تأخرت.
وعلة أخرى :
وهو أنه قد تشترك الرجال والنساء في أسماء كثيرة ، نحو" هند وأسماء
وجعفر". قال الشاعر :
تجاوزت هندا
رغبة عن قتاله
|
|
إلى مالك
أعشو إلى ذكر مالك
|
وهند هاهنا
رجل. وقال آخر :
يا جعفر يا
جعفر يا جعفر
|
|
إن أك دحداحا
فأنت أقصر
|
فجعفر هاهنا
امرأة. فلما اشترك الرجال والنساء في أسماء لزم علامة التأنيث ؛ لئلا يظن أن
الفاعل مذكر ، ولحقت النون علامة للرفع ؛ لأن ضمير الفاعلين ، وهو الألف ، منع
الإعراب الذي كان يكون في آخر الفعل ، وانفتح للألف ما قبلها ، والمضارعة الموجبة
للإعراب قائمة في هذا الفعل ، فوجب إعرابه لها ، ولم يكن سبيل إلى إعراب ما قبل
الألف ، فجعل الإعراب بعدها ، وجعلت النون هي الإعراب ؛ لما ذكرنا من مشاكلتها
حروف المدّ ، وكسرت لالتقاء الساكنين ، وجعل سقوطها علامة للنصب والجزم ، والأصل
في سقوطها للجزم. والنصب محمول عليه ، كما حمل النصب على الجرّ في الأسماء ؛ لأنّ
الجرّ والجزم نظيران.
وجعلت النون
علامة للرفع في خمسة أفعال ، وهي : تفعلان ، ويفعلان ، وتفعلون ، ويفعلون ،
وتفعلين ، للمؤنث ، والعلّة في ذلك كلّه واحدة ؛ لأن الواو في الجمع والياء في
المؤنث قد منعتا الإعراب الذي كان في الفعل توجبه المضارعة ، والمضارعة الموجبة
__________________
للإعراب موجودة ، وفتحت النون في الجمع والمؤنث استثقالا لكسرها مع الواو
والياء. وقد مر نحو هذا مستقصى وجعلوا سقوط النون في هذه الأفعال كلّها علامة
للجزم والنصب ، والنصب محمول على الجزم.
ولم تكن هذه
النون في هذه الأفعال بمحلها في تثنية الأسماء وجمعها ؛ لأنها في الأسماء بدل من
الحركة والتنوين وهي في الفعل علامة للرفع ؛ ولم تكن بدلا ؛ لأنه لا تنوين في
الأفعال ولا حركة لازمة ؛ لأنها تسكن في الجزم.
فإن قال قائل ؛
إذا قلت إن الألف في تثنية الفعل والواو في جمعه ، إنما هو ضمير الاثنين والجماعة
الفاعلين ، فلم وقعت النون علامة لرفع الفعل ، وقد فصلت بينها وبين الفعل
بالفاعلين؟ وهل في الكلام إعراب شيء ليس فيه؟
فإن الجواب في
ذلك أن الإعراب إنما يكون في المعرب إذا كان حركة ؛ لأن الحركة إنما تكون في
المتحرّك وتوجد فيه لا غير ، فإذا كان حرفا فهو قائم بنفسه متصل بما أعرب به ، وقد
صارت الألف التي هي ضمير الاثنين والواو التي هي ضمير الجماعة ، بمنزلة حرف من
حروف الفعل ؛ لأنه لا يقوم بنفسه ، فلما كان كذلك لحق الإعراب بعدهما ، وقد يفعل
العرب نظير هذا في الأسماء الظاهرة ، من ذلك قولهم : " هذا حبّ رمّاني"
، فإنما يريد المتكلم إضافة الحبّ إلى نفسه لا الرمّان ؛ لأنه لا يملكه ولكنه أضاف
الرمان لما كان الحب مضافا إليه ، والمضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ، وإذا كان
هذا من كلامهم كان ما ذكرناه أولى.
قال أبو سعيد :
ثم نرجع إلى كلام سيبويه في الفصل الذي قدمناه. قوله : " واعلم أن التثنية إذا
لحقت الأفعال المضارعة علامة للفاعلين" ، يعني تثنية الفاعلين المضمرين المتصلين بالفعل ، وليس
يعني تثنية الفعل.
وقوله
: " لحقتها ألف ونون" يعني لحقت الأفعال المضارعة ألف ونون.
وقوله
: " ولم تكن الألف حرف الإعراب" ، يعني لم تكن الألف حرف الإعراب في الفعل ؛ لأن آخر الفعل
قبل الألف ، وحرف الإعراب هو الحرف الأخير من الكلمة الذي بتمامه يتم معنى الكلمة
، والألف هاهنا هي ضمير الفاعلين.
وقوله
: " لأنك لم ترد أن تثني (يفعل) هذا البناء ، فتضم إليه (يفعل) آخر" ، يعني لأنك لم ترد تثنية الفعل فتضم فعلا إلى فعل ، كما
تضم الاسم إلى الاسم ، فتزيد ألفا لعلامة
التثنية ، وتكون الألف فيه حرف الإعراب ، فليست تثنية الفعل كذلك.
وقوله
: " ولكنك إنما ألحقته هذه للفاعلين" ، يعني ولكنك إنما ألحقت الفعل هذا الحرف ، وهو الألف
ضميرا للفاعلين لا للتثنية.
وقوله
: " ولم تكن منونة ولا تلزمها الحركة" ، يعني ولم تكن الأفعال قبل هذه التثنية منونة كالاسم ،
ولا لها حركة لازمة كالاسم ؛ لأنه يدركها الجزم والسكون ، إذا قلت : " لم
يذهب" و" لم يقم".
وقوله
: " فتكون الأولى حرف الإعراب ، والثانية كالتنوين" ، يعني : أن الأفعال لو كانت منونة لا تفارقها الحركة قبل
التثنية ، ثم ثنّيت كانت الألف فيها حرف والإعراب والنون فيها كالتنوين ، مثل
الاسم. وقوله : " فتكون" جواب لقوله : " لم تكن منونة".
وقوله
: " فلما كانت حالها في الواحد غير حال الاسم ، وفي التثنية ، لم تكن
بمنزلته" ، يعني : كما خالف الفعل الاسم في الواحد ؛ لأن الاسم منوّن لازم الحركة ،
وليس الفعل كذلك ، وخالف أيضا في التثنية ؛ لأن الاسم إذا ثني ضم إلى مثله ، وليس
الفعل كذلك ، فلما خالفه في الواحد ، وفي التثنية أيضا خالفه ، لم يكن بمنزلته.
وقوله
: " لم يكن بمنزلته" جواب لاختلافهما في حال التوحيد والتثنية.
وقوله
: " فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات النون ؛ ليكون له في التثنية علامة الرفع
كما كان في الواحد" ، وقد مر الاحتجاج لهذا ولفظه فيه بيّن.
وقوله
: " إذ منع حرف الإعراب" يعني : إذ منع الفعل حرف الإعراب ، وإنما منع ؛ لأن
الألف التي هي علامة التثنية فتحت آخر الفعل ؛ لأنها يفتح ما قبلها ، وحرف الإعراب
آخر الفعل.
وقوله
: " جعلوا النون مكسورة كحالها في الاسم" ، يعني : جعلوها مكسورة لالتقاء الساكنين كما فعلوا ذلك في
الاسم.
وقوله
: " ولم يجعلوها حرف الإعراب" ، يعني : النون.
وقوله
: " إذ كانت متحركة لا تثبت في الجزم" ، يعني : إذا كانت متحركة لا تثبت في الجزم ، وذلك أن حرف
الإعراب لا يسقط إذا كان متحركا في الفعل بدخول الجزم عليه ، كقولك : " يذهب"
، ثم تقول : " لم يذهب" ، وإذا كان حرف الإعراب ساكنا في الفعل أزاله
الجزم ، كقولك : " لم يقض" و" لم يغز" و" لم يخش".
وهذه النون متحركة تذهب في
الجزم ، إذا قلت : " لم يذهبا" فعلمنا أن النون ليست بحرف إعراب.
قال
سيبويه : " ولم يكونوا ليحذفوا الألف : لأنها علامة الإضمار والتثنية ، فيمن
قال : " أكلوني البراغيث" ، وبمنزلة التاء في : " قلت"
و" قالت".
يعني أن الألف
التي تلحق الفعل في التثنية ، إمّا أن تكون علامة للإضمار ، كقولك : " الزّيدان
لم يذهبا" أو علامة التثنية ، كقولك : " لم يذهبا الرّجلان" ، ولا
تحذفها في الجزم ، فيبطل الضمير أو العلامة.
ولم يرد بقوله
: "
علامة الإضمار والتثنية" في حال واحدة ، إنما أراد : لأنها علامة الإضمار ، إذا
تقدم المضمرون ، أو التثنية ، في لغة من قال : " أكلوني البراغيث" ؛ لأن
هؤلاء عند سيبويه جعلوا الواو في : " أكلوني" علامة تؤذن بالجماعة ،
وليست ضميرا.
وفي : " أكلوني
البراغيث" ثلاثة أوجه ؛ أحدهما : ما قال.
والثاني : أن
تكون" البراغيث" مبتدأ ، و" أكلوني" خبرا مقدّما ،
تقديره" البراغيث أكلوني".
والوجه الثالث
: أن تكون الواو في" أكلوني" ضميرا على شرط التفسير ، "
والبراغيث" بدل منه ، كقولك : " ضربوني وضربت قومك" ، فتضمر قبل
الذكر على شرط التفسير.
وقد كان الوجه
في : " أكلوني البراغيث" على تقديم علامة الجماعة ، أن يقال : " أكلتني
البراغيث" ؛ لأن" البراغيث" مما لا يعقل وما لا يعقل جمعه وضمير
جمعه كالمؤنث ، وإن كان مذكرا ؛ تقول : " ثيابك مزّقن" و" جمالك
يمشين". قال الشاعر :
فإن تكن
الأيّام فرّقن بيننا
|
|
فقد بان
محمودا أخي يوم ودّعا
|
ولا يحسن أن
يقول : فإن تكن الأيام فرّقوا بيننا ؛ لأن الجمع بالواو لما يعقل ، وهم الثّقلان
والملائكة ، وربما ذكر لما لا يعقل فعل يكون الأغلب فيه أن يكون لما يعقل ، فيجعل
لفظه كلفظ ما يعقل تشبيها ، فمن ذلك قوله عزوجل : (إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، فجمع الشمس والقمر والكواكب
__________________
بالياء والنون ؛ وذلك لأنه وصفها بالسجود ، الذي يكون مما يعقل ، ولو
أجراها على معناها وحقها من اللفظ لقال : " ساجدات" وقال تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) ولم يقل : " ادخلن مساكنكن" ؛ لأنه أخبر
عنهنّ بالخطاب الذي يكون لما يعقل. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن وغيره. قال الشاعر
:
شربت بها
والدّيك يدعو صباحه
|
|
إذا ما بنو
نعش دنوا فتصوّبوا
|
ويروى : "
شربت بهم". وقال : " دنوا فتصوّبوا" ، وكان حقّه أن يقول : " دنونن
فتصوّبن" ؛ لأنها مما لا يعقل ، إلا أنه أجراها مجرى ما يعقل ، إذ كان دورها
على تقدير لا يختلف ، كقصد العاقل الشيء الذي يعمله ، فجعلوا" البراغيث"
مشبّهة بما يعقل ، حين وصفت بالأكل ، وصارت الألف إذا كانت إضمارا ، بمنزلة التاء
في : " قلت" ، وإذا كانت علامة بمنزلة التاء في : " قالت" ؛
لأن التاء في : " قلت" ضمير المتكلم ، وفي : " قالت" علامة
للتأنيث.
قال
سيبويه : " فأثبتوها في الرفع وحذفوها في الجزم".
يعني النون ،
" كما حذفوا الحركة في الواحد".
وقال
: " ووافق النصب الجزم في الحذف".
يعني : في حذف
النون في الاثنين. وقد ذكرنا في كم شيء يوافقه ، وأنبأنا عن العلة في ذلك.
وقال
: " كما وافق النصب الجرّ في الأسماء ؛ لأن الجزم نظير الجرّ في الأسماء ،
وليس لها في الجزم نصيب ، كما ليس للفعل في الجرّ نصيب ؛ وذلك قولك : " هما
يفعلان" و" لم يفعلا" و" لن يفعلا" و" لن
تفعلا".
وقد مر تفسير
هذا كله ، وبيان علته.
قال
: وكذلك إذا ألحقت الأفعال علامة للجمع لحقتها زائدتان ، إلا أن الأولى واو مضموم
ما قبلها ، لئلا يكون الجمع كالتثنية ونونهها مفتوحة بمنزلتها في الأسماء كما فعلت
في ذلك في التثنية ؛ لأنهما وقعتا في التثنية والجمع هاهنا ، كما أنهما في الأسماء
كذلك ،
__________________
وهو
قولك : " كم يفعلوا" و" لن يفعلوا". وكذلك إذا ألحقت التأنيث
في المخاطبة ، إلا أن الأولى ياء مكسور ما قبلها وتفتح النون ؛ لأن الزيادة التي
قبلها بمنزلة الزيادة التي في جمع الأسماء في الجرّ والنصب ، وذلك قولك : " أنت
تفعلين" و" لن تفعلي" و" لم تفعلي".
وقد مر تفسير
ذلك كله.
وقال
سيبويه : فإن أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع ، ألحقته للعلامة نونا ، وكانت
علامة الإضمار والجمع ، فيمن قال : " أكلوني البراغيث".
قال أبو سعيد :
يعني أن جمع المؤنث بالنون ، كما أن جمع المذكر بالواو ، وتكون النون لضمير جماعة
المؤنث في حال ، وفي حال تكون علامة الجمع فيمن يقدم العلامة ، وهم الذين يقولون :
" أكلوني البراغيث".
قال : وأسكنت
ما كان في الواحد حرف الإعراب ، كما فعلت ذلك في" فعل" حين قلت : "
فعلت" و" فعلن".
قال أبو سعيد :
اعلم أن ضمير المتكلم والمخاطب وجماعة النساء ، إذا اتصل بالفعل الماضي ، سكن آخر
الفعل ؛ كقولك : " جلست" و" جلسن" ، وإنما سكن آخر الفعل من
قبل أن هذا الضمير متحرك ؛ لأنه نائب عن معرب وهو اسم ، فإذا انضم إلى الفعل ، والفعل
لا بدّ له منه ، ولا يصّح معناه إلا به ، ولا يجوز انفراده عنه إذا كان متصلا ـ صار
الفعل والضمير كالشيء الواحد ، واجتمع أربع متحركات ، وذلك غير موجود في شيء من
كلامهم وأشعارهم ، إلا بحذف ، فلم يكن سبيل إلى تسكين الحرف الأول ؛ لأنه لا يبدأ
بساكن ، ولا إلى تسكين الحرف الثاني ؛ لأنه بحركاته توجد الأبنية المختلفة ؛ كقولك
: فعل وفعل وفعل فلزم الحرف الثالث التسكين.
وكان أولى به
لعلتين ، إحداهما : أن الحرف الثالث قد يوقف عليه بالسكون. والعلة الأخرى : أنا لو
لم نسكن الحرف الثالث ، وجب تسكين الرابع ، والرابع نائب معرب يستحق الحركة من أجل
ذلك ، فكان تسكينه أولى ، ومع ذلك كان يلتبس المتكلم بالمؤنث الغائبة ، إذا قلت :
" جلست" قال : "
وأسكن هذا هاهنا ، وبني على هذه العلامة ، كما أسكن" فعل" ؛ لأنه فعل
كما أنه فعل ، وهو متحرك كما أنه متحرك".
قال أبو سعيد :
قوله : "
فأسكن هذا" ، يعني : أسكن لام الفعل من" يفعلن". وهو الذي قال في أول هذه
الفصل : "
فإذا أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع ألحقته
للعلامة
نونا".
وقوله
: " وبني على هذه العلامة" ، يعني : بني اللام في" يفعلن" على السكون.
وقوله
: " كما أسكن فعل" يعني : كما تسكن اللام من" فعل" في الماضي ،
إذا قلت : " فعلن".
وقوله
: " لأنه فعل كما أنه فعل ، وهو متحرك كما أنه متحرك".
قال أبو سعيد :
يعني أن الفعل المضارع قد شارك الماضي في الفعلية ، وشاركه في أن آخر كل واحد
منهما متحرك ، فلما لزم سكون اللام في" فعلن" الماضي ، وجب سكون اللام
في المستقبل ؛ للشركة التي بينهما من الفعلية والحركة.
فإن قال قائل :
فإن العلة التي من أجلها وجب تسكين الماضي ، هو ما ذكرت من اجتماع أربع متحركات ،
وليس ذلك في المستقبل ؛ لأن الفاء من" يفعلن" ساكنة.
فالجواب في ذلك
أن العلة إذا لحقت شيئا من الأفعال لمعنى ، فإنه قد يحمل عليه سائر الأفعال التي
ليس فيها ذلك المعنى ؛ لئلا يختلف منها وجه. وقد مر هذا في مثل قولنا : " وعد
يعد" ، تسقط الواو ؛ لوقوعها بين ياء وكسرة ، ثم تقول : " نعد"
و" أعد" و" تعد" ، فتتبع الياء سائر حروف المضارعة ، وتسقط
الواو فيها ، وإن لم تقع بين ياء وكسرة ؛ لينتظم منهاج الأفعال.
قال
سيبويه : " فليس هذا بأبعد فيه ـ إذا كانت هي و" فعل" شيئا واحدا ـ
من يفعل ؛ إذا جاز فيها الإعراب حين ضارعت الأسماء ، وليست بأسماء".
يعني : ليس هذا
التسكين في الفعل المضارع ، وهذا الحمل على الماضي ، بأبعد فيها ، وهما مشتركان في
الفعلية ، من حمل الأفعال المضارعة على الأسماء في الإعراب ؛ لأن الأفعال المضارعة
إنما أعربت ، ولم تكن مستحقة للإعراب ، لما فيها من مشاكلة الأسماء المستحقة
للإعراب ، فإذا جاز لهم حمل الأفعال المضارعة على الأسماء في الإعراب ، كان حملها
على الأفعال الماضية في تسكين أواخرها ، عند لحاق النون بها ، أولى وأوجب ؛ لأن
مشاكلة الفعل المضارع الماضي أكثر من مشاكلة الاسم.
ثم
قال : " وذلك قولك : هن يفعلن ، ولن يفعلن".
قال أبو سعيد :
أراد بهذا التمثيل ما قدمته في أول الفصل ، كأنه قال : فإذا أردت جمع المؤنث في
الفعل المضارع ، ألحقته للعلامة نونا ، وذلك قولك : " هن يفعلن" و"
لم
يفعلن" و" لن يفعلن". واعترض بالاعتلال بين الجملة الممثلة
وبين التمثيل.
ثم
قال : " تفتحها ؛ لأنها نون جمع".
يعني تفتح هذه
النون ، التي هي لجماعة المؤنث لأنها نون جمع. وقد تقدم الكلام في نون الجمع أنها
مفتوحة ، فحملت هذه عليها ؛ لاشتراكهما في الجمع ، لا لاشتراكهما في العلة الموجبة
في الأصل لفتح تلك النون ؛ لأن العلة التي فتحت تلك من أجلها استثقال الكسرة
والضمة عليهن في" مسلمين" و" مسلمون" ، ولكنه شاركها في
الجمع.
وعلة أخرى توجب
فتحها ، وهي أنها ضمير ، وأثقل الأسماء الضمائر ، وإذا احتجنا إلى تحريكها حركناها
بأخف الحركات.
ثم
قال : " ولا تحذف لأنها علامة إضمار وجمع ، فيمن قال : أكلوني
البراغيث".
يعني : لا تحذف
هذه النون ؛ لأنها تذكر لأحد معنيين ؛ إما أن تكون ضمير الفاعلات ، فلا سبيل إلى
حذف الفاعل ، وإما أن تكون علامة تؤذن بجماعة تأتي من بعد ، فلا سبيل إلى حذفها
أيضا ؛ لأن الذي يقدمها للعلامة ، غرضه وقصده ، تبين ما بعدها بها ، فإذا حذفها ،
فقد أبطل ما قصد له. وقد تقدم الكلام في استقصاء هذا بما يغني عن إعادته.
ثم
قال : " فالنون هاهنا في يفعلن بمنزلتها في فعلن".
يعني النون
في" فعلن" و" يفعلن" بمنزلة واحدة في تسكين ما قبلها.
ثم
قال : " وفعل بلام يفعل من التسكين ما فعل بلام فعل ، لما ذكرت لك".
يعني فعل بها
من التسكين ، لاتصال النون بها ، ما فعل بلام فعل من التسكين للعلة التي ذكرها.
ثم
قال : " ولأنها قد تبنى مع ذلك على الفتحة في قولك : هل تفعلن".
قوله
: " ولأنها" علة أخرى لسكون اللام في" يفعلن" ، وذلك أن نون التأكيد المشددة
أو المخففة ، إذا دخلت على الفعل المضارع ، سكن لها لام الفعل ، ثم تفتح اللام
لالتقاء الساكنين ، ويبطل الإعراب الذي كان فيه بدخول هذه النون ، فإذا كانت نون
التوكيد التي يستغنى عنها تؤثر في الفعل هذا التأثير ، كانت النون التي لا يستغنى
عنها وهي ضمير جماعة المؤنث أولى بهذا التأثير.
ثم
قال : " وألزموا لام فعل السكون ، وبنوها على هذه العلامة وحذفوا الحركة ،
لما
زادوا عليها ؛ لأنها ليس في الواحد آخرها حرف الإعراب ، لما ذكرت لك".
يعنيي : ألزموا
لام" فعل" السكون ، وبنوها على العلامة التي هي السكون ، وحذفوا الحركة
التي كانت فيه للنون التي زادوها ؛ لأن اللام قبل اتصال هذه النون بها في قولك : "
فعل" لم تكن حركتها حركة إعراب ، وإذا كانت الحركة بناء ، فهي إلى السكون
أقرب ، فإنما أراد أن يسهل الأمر في تسكين هذه اللام ، إذ كانت الحركة المتروكة
فيها حركة بناء ، لا حركة إعراب ، والسكون الذي صيرت إليه هو أيضا سكون بناء ،
فالأمر بينهما قريب ، وقد أحكمنا علة ذلك فيما مضي من غير هذا الوجه.
وقوله
: " لأنها ليس في الواحد آخرها حرف إعراب".
يؤيد قول من
يقول إن آخر حرف في التثنية في تقدير حركة هي إعراب ، وأن التثنية والجمع معربان ؛
لأن سيبويه قد جعل آخر حرف فيهما ـ أعني التثنية والجمع ـ حرف إعراب.
وقد ذكر هاهنا
أن اللام في (فعل) ليس بحرف إعراب إذ لا إعراب فيه ولا يستحقه فعلم أنه لم يسم آخر
حرف في التثنية والجمع حرف إعراب إلا والإعراب مقدر فيه.
قال
سيبويه : " اعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض ، فالأفعال أثقل من الأسماء ؛ لأن
الأسماء هي الأولى وهي أشد تمكنا ، فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون ،
وهي من الأسماء ، ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلام ، والاسم
قد يستغنى عن الفعل ؛ تقول : " الله إلهنا" ، " وعبد الله
أخوك".
قال أبو سعيد :
اعلم أن سيبويه قدم هذه المقدمة ليرى خفة الأسماء المنصرفة ، وأن الصرف فيها هو
الأول ، وأن الذي منع الصرف علل من بعد ذلك دخلت عليه حادثة فرعية فبدأ فدل على أن
الفعل أثقل من الاسم في الأصل ؛ لأن الاسم يستغنى به عن الفعل ، كقولك : " الله
ربنا" ، ولا يجوز أن يقول قائل : " قام" أو غيره من الأفعال من غير
أن يأتي بالفاعل ، واستدل أيضا على ذلك بأن الفعل مأخوذ من المصدر والمصدر اسم ،
فالاسم إذا أصل للفعل ، فلما دل على أن الاسم أخف والفعل أثقل ، ذكر أن نقصان تمكن
الفعل عن الاسم لثقل الفعل وخفة الاسم ؛ لأن الاسم لخفته تدخله الحركات الثلاث
والتنوين بعد ذلك ، والفعل لا يدخله إلا حركتان ولا يدخله تنوين ، والعلة الفاصلة
بينهما
الخفة والثقل ، فجعل هذه العلة علة في كل ما ثقل من الأسماء ، بدخول العلل
المثقلة لها عليها ، في منع التنوين وتمام الحركات التي تكون في الأسماء الخفيفة ،
تشبيها لما ثقل من الاسم بالفعل ، وأشرك بينما لاشتراكهما في الثقل ونقصانهما عن
تمكن الاسم الأخف. فهذه جملة مقدمة لهذا المعنى ، وستقف على شرحها من كلامه في هذا
الباب ، وعلى تفصيل مسائلها وتعرفها في باب ما ينصرف وما لا ينصرف ، إن شاء الله.
قال أبو سعيد :
أما قوله : "
اعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض" فقد فهم هذا فيما تقدم. وقوله : " والأفعال أثقل
من الأسماء ؛ لأن الأسماء هي الأولى" وقد مر الدليل على أن الأفعال أثقل من الأسماء ، ومعنى
قوله أن الأسماء هي الأولى ، أنها مقدمة في الرتبة على الأفعال ؛ لأنها أصل
الأفعال.
وقوله
: " وهي أشد تمكنا" يعني الأسماء أشد تمكنا من الأفعال لخفتها وما خف كان
أشد احتمالا لزوائد.
قال أبو سعيد :
قوله : "
فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون" يعني فمن ثم لم يلحق الأفعال.
فقوله : " هي من
الأسماء" يعني الأفعال من الأسماء ، فقولك : " قتل" مشتق من"
القتل".
وقوله
: " ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلاما" يعني أنك متى ذكرت فعل ولم تذكر فاعله لم يكن كلاما.
وقوله
: " والاسم قد يستغني عن الفعل ، تقول : الله إلهنا" و" عبد الله
أخونا" وهذا بين.
قال
سيبويه : " واعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام ، ووافقه في
البناء ، أجري لفظه مجرى ما يستثقلون ، ومنعوه ما يكون لما يستخفون ، وذلك
نحو" أبيض" و" أسود" و" أحمر" فهذا بناء"
أذهب" و" أعلم" فيكون في موضع الجر مفتوحا ، استثقلوه حيث قارب
الفعل في الكلام ، ووافقه في البناء".
قال أبو سعيد :
" ينبغي أن نقدم العلل المانعة للصرف المحلة الأسماء محل الأفعال ليكون توطئة
للجملة التي ذكرها سيبويه في هذا الباب ، ونفسرها تفسيرا شافيا كاشفا لما استبهم
منه ، ولا توفيق إلا بالله.
اعلم أن الاسم
لمعنى الاسمية فيه يستحق الحركات الثلاث ، ويستحق التنوين أيضا ، وقد تقدم في أول
تفسير علة ذلك ، ثم يعتور الأسماء بعد ذلك معان مختلفة ، يحدث ذلك فيها نقصانا عن
تمكنها ، وتلك المعاني على ثلاثة أقسام ؛ فقسم منها ينزلها منزلة الحروف فتوجب لها
البناء نحو قولك : " يا حكم" و" من قبل" و" من بعد"
و" من" و" كم" ، وقد استقصينا ذلك في أول التفسير.
والقسم الثاني
: أن يدخل عليه ما لا يغيره عن تمكنه ، كقولك : " زيد قائم" و" مررت
برجل قائم" و" هذه امرأة" ، ف" زيد" لم يثقل لفظه بما
دخل عليه من التعريف فقط ، وبقي على تمكنه ، و" قائم" لم يثقل بأن كان
نعتا فقط ، والنعت فرع ، و" المرأة" لم تثقل بأن كانت مؤنثة فقط.
والقسم الثالث
: وهو الذي قصدنا له ، دخلت عليه من حوادث الأشياء ما أحله محمل الفعل المضارع في
منع الجر والتنوين ، ولم يمنعه الإعراب البتة ، كما كان في القسم الأول.
وجملة ما يمنع
الصرف ، وينزل الاسم منزلة الفعل المضارع ، هي تسع علل : التأنيث ، والصفة ،
والجمع ، ووزن الفعل ، والعدل ، والعجمة ، وأن يجعل الاسمان اسما واحدا ، والتعريف
، وشبه التأنيث باللفظ والزيادة ، فهذه التسع العلل متى اجتمع منها ثنتان فصاعدا ،
أو واحدة في معنى ثنتين ، امتنع الاسم من الصرف ، ولم يلحقه جر ولا تنوين ، وإنما
كانت هذه عللا حادثة من قبل أن الواحد قبل الجمع من غير وجه ؛ من ذلك أن الجمع
مركب من الواحد ، فالواحد أصل له ، ومنها أن الواحد يدل على العدد والجنس ،
كقولك" رجل" وكذلك الاثنان كقولك : " رجلان" ، وإذا جمعت فقلت
: " رجال" دل على الجنس ، ولم يدل على العدد ، فالواحد أخف من الجمع ؛
لأن الجمع يحتاج إلى معنى ثان يكشف عدده ، والصفة أثقل من الاسم الذي ليس بصفة ؛
لأن الصفة لا تكون صفة حتى يكون فيها معنى الفعل ، والفعل فرع على الاسم والاسم
قبله ، وذلك قولك : " مررت برجل قائم" و" رأيت رجلا منطلقا"
وهو في معنى" يقوم" و" ينطلق" ، ويدل أيضا على ذلك أن الصفة
لا تحسن إلا أن يتقدمها الاسم ، ألا ترى أنك إذا قلت : " جاءني طويل" ،
لم يكن في حسن" جاءني رجل طويل" ، فاحتياج الصفة إلى تقدم الاسم حتى
يحسن ، كاحتياج الفعل إلى الاسم حتى يجوز.
ووزن الفعل
معنى حادث ؛ لأن الفعل حادث فوزنه لا محالة حادث.
والتعريف حادث
؛ لأن الاسم نكرة في أول أمره ، مبهم في جنسه ، ثم يدخل عليه ما يفرده بالتعريف ،
حتى يكون اللفظ له دون سائر جنسيه ، كقولك : " رجل" ، فيكون هذا اللفظ
لكل واحد من الجنس ، ثم يحدث عهد المخاطب لواحد من الجنس بعينه ، فتقول : " الرجل".
فيكون مقصورا على واحد بعينه ، وتقول : " زيد" ومعناه الزيادة ، وهي
نكرة من قولك : " زاد يزيد زيدا" :
كقول الشاعر :
وأنتم معشر
زيد على مائة
|
|
فأجمعوا
أمركم طرا فكيدوني
|
ثم سمي به رجل
، فتعرف حيث جعل لشخص بعينه فكان التعريف حادثا والعدل فرع ؛ لأن العدل إنما هو
إحداث شيء في الاسم يغيره عن اللفظ الأول ، فيصير معدولا.
والعجمة فرع ؛
لأنها دخيلة في كلام العرب ؛ لأن أول ما يعتادون التكلم به كلامهم العربي ، ثم
الكلام العجمي بعد ذلك.
وجعل الاسمين
اسما واحدا هو فرع ؛ لأنه تركيب الاسم الواحد ، فهو بعد الاسم المفرد.
وشبه التأنيث
باللفظ والزيادة من أبين الأشياء أنه فرع ؛ لأن المشبه به فرع ؛ والتأنيث بعد
التذكير ، من قبل أن كل معلوم يصح الإخبار عنه ؛ لأنه يصلح أن يعبر عنه بشيء
والشيء مذكر ، وفي الأشياء ما لا تصلح العبارة عنه بلفظ مؤنث ، ألا ترى أنك تقول :
" الله كريم" و" الله يغفر لمن يشاء" و" هو أعز
الأشياء" و" هو شيء لا كالأشياء" كما قال تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً
قُلِ اللهُ شَهِيدٌ) وكما قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) ، أراد كل شيء هالك إلا الله ، ولا يقع عليه عزوجل لفظ كلفظ المؤنث. ويدل على ذلك أيضا أن التأنيث قد يكون
بعلامات حادثة في الاسم ؛ كقولك : " قائم" و" قائمة" فولولا
أن التأنيث معنى حادث في الاسم ، لم يحتج له إلى لفظ زائد
__________________
يدل عليه.
فهذه الأشياء
المانعة للصرف مشبهة بثقل الأفعال ، والأسماء الممنوعة الصرف مشبهة بالأفعال ؛
لاشتراكهما في النقل ، وليست الواحدة من هذه العلل تبلغ الاسم إذا دخلته مبلغ
الفعل في الثقل ، فلا تؤثر تأثيرا إذا انفردت في الاسم ؛ لأن للاسم خفة قوية
بالاسمية ، فلا يزيلها إلا علتان فصاعدا.
فإن قال قائل :
إذا قلتم إن الأسماء التي لا تنصرف مشبهة بالأفعال ، فلذلك أزلتم عنها الجر
والتنوين ، فهلا أسكنتموها لمشابهة الفعل ؛ لأن الفعل لا يدخله الجر والتنوين ،
ويدخله السكون!؟
ففي ذلك جوابان
: أحدهما أن ما شبه بالشيء لا يجب أن يساوى به في جميع أحواله المشبهة ، فلما
أشبهت هذه الأسماء الأفعال بما شملها من الثقل ، سوى بينهما في اللفظ الذي لا يكون
إجحافا بالاسم ، فمنع التنوين والجر فقط ، وجعل مكان الجر الفتح ، فحصل الحذف على
شيء واحد ، وهو التنوين ؛ لأن الجر قد جعل مكانه الفتح ولو سكنا الاسم لأجحفنا
بحذف التنوين والحركة منه ، وتسكين الفعل في حال الجزم لا يكون إجحافا به ، وذلك
أنه غير منون في الأصل ، فلم يذهب منه إلا شيء واحد.
والجواب الثاني
: أن الاسم كان محركا بحركات ثلاث يتبع كل واحدة منهن تنوين ، فلو سكنا الاسم الذي
لا ينصرف في حال ، وحركناه في حال ، كان التسكين لا يخلو أن يكون في حال رفع أو جر
أو نصب ، وتكون الحركة في غيرها ، ولو فعلنا هذا لكنا قد خالفنا بين أشياء كانت
منتظمة على حال واحدة ؛ لأن هذه الحركات الثلاث قد كانت مقترنة بالتنوين ، فإذا
دخلت عليها علة فغير جائز أن تزيل التنوين عن بعضها فقد ، وتزيل الحركة والتنوين
عن البعض الآخر.
قال أبو سعيد :
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون الذي أزاله ثقل الاسم الذي لا ينصرف هو التنوين
فقط ، وفتح الاسم في حال الجر ؛ لئلا يشبه المضاف إلى المتكلم؟
فإن الجواب في
ذلك أن يقال : الذي أزال التنوين هو الثقل الذي دخل عليه حتى أحله محل ما ليس فيه
تنوين ، فإذا أزلنا عنه التنوين لحلوله محل ما ليس فيه تنوين أزلنا عنه الكسر ،
لحلوله محل ما ليس فيه كسر ؛ لأن طريقهما واحد ، وليس لمدع أن يدعي خلاف ما ظهر
إلا ببرهان ، وقد ظهر الثقل وظهر التغيير ؛ فقلنا : التغيير الظاهر للثقل الظاهر.
فإن قال قائل :
لو كان زوال الجر عن الاسم الذي لا ينصرف ، لما ذكرت من الثقل ، لكان الرفع أولى
بزواله عنه ؛ لأن الضم أثقل من الكسر.
فيقال : ليس
كون الضم أثقل من الكسر بمانع أن يدخل الضم ما لا يدخله الكسر ؛ لأن الفعل أثقل من
الاسم ؛ ولذلك نقص عن حركاته وتنوينه ، ويدخله الضم ، ولا يدخله الكسر ، وكذلك ما
شبه به ، وجرى مجراه في الثقل ، وأعطى لفظه حركات الفعل لمشاكلتهما في الثقل.
ثم نرجع إلى
الفصل الذي قدمنا من كلام سيبويه :
قوله
: " اعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام ، ووافقه في
البناء" ، أراد به باب" أفعل" الذي مؤنثه" فعلاء" ، وهو
اسم مضارع للفعل ، ومضارعته أنه صفة والفعل يوصف به أيضا ، كقولك : " مررت
برجل أحمر" و" مررت برجل يأكل" ، ويضارعه أيضا أن الفعل لا يكون
إلا بفاعل ، والنعت لا يحسن إلا بمنعوت ، ومشاركته له في البناء أن"
أحمر" الهمزة فيه زائدة ، كما هي زائدة في" أذهب" ووزنها"
أفعل".
وقوله
: " أجرى لفظه مجرى ما يستثقلون" ، يعني لفظ" أحمر" وبابه ، مجرى الفعل وهو ما
يستثقلون ، و"
منعوه ما يكون لما يستخفون" يعني منعوه التنوين والجر ، الذي يكون للاسم المستخف.
وقوله
: " وذلك نحو : أبيض وأحمر وأسود ، فهذا بناء : أذهب ، وأعلم".
وقوله
: " فيكون في موضع الجر مفتوحا" ، يعني فيكون الاسم الذي لا ينصرف في موضع الجر مفتوحا ،
ولا يجوز أن يقال : فيكون في موضع الجر منصوبا ؛ لأن هذه الفتحة لم يحدثها في هذه
الحال عامل النصب ، وإنما حمل الجر على النصب في هذا الموضع ، إذ قد سقط لفظه ،
لما قدمنا ذكره من مشاكلة الفعل ، فاحتيج إلى حمله على غيره. وكان حمله على النصب
أولى ؛ لما بينهما من المشاكلة التي أنبأها في الموضع الذي ذكرنا فيه حمل النصب
على الجر في تثنية الأسماء وجمعها.
وقال
سيبويه : " وأما مضارعته في الصفة".
يعني
مضارعة" أحمر" الفعل في كونه ، أعني كون" أحمر" صفة.
"
فإنك لو قلت : أتاني اليوم قوي ، أو ألا باردا ، ومررت بجميل ، كان ضعيفا ، ولم
يكن في حسن : أتاني رجل قوي ، وألا ماء باردا ، ومررت برجل جميل".
ثم قال : " ألا ترى أن
هذا يقبح هاهنا ، كما أن الفعل المضارع ، لا يتكلم به إلا ومعه الاسم ؛ لأن الاسم
قبل الصفة ، كما أنه قبل الفعل".
يعني : أن
النعت لا يحسن إلا بذكر المنعوت ، كما أن الفعل المضارع لا يستغني عنه الاسم.
وإنما خص المضارع. وإن كان الماضي قد شاركه في هذا المعنى ؛ لأن التشبيه الذي ذكره
وقع بين المضارع وبين الاسم. وقد مر هذا المعنى.
ثم
قال : " ومع هذا أنك ترى الصفة تجري في معنى يفعل".
يعني : أنك
تقول : " هذا ضارب زيدا" و" هذا يضرب زيدا" و" مررت برجل
ضارب زيدا" و" يضرب زيدا".
ثم
قالي : " فإن كان اسما كان أخف ، نحو أكلب وأفكل ، ينصرفان في النكرة".
يعني : فإن كان
الذي وزنه وزن الفعل من الأسماء وليس بنعت ، نصرف في النكرة ، وذلك أنه ليس فيه
إلا علة واحدة ، وهي وزن الفعل.
فإن قيل :
فأكلب هي جمع على وزن أقتل ، فينبغي أن تمنعه من الصرف بهاتين العلتين.
فالجواب : أن
الجمع إذا كان يجمع ، أو يتأتى فيه الجمع ، كان محله محل الواحد ، ولم يعتد به
ثقلا. وسنبين ذلك إن شاء الله في باب ما لا ينصرف." فأكلب" قد يقال فيه
: (أكالب) ، لو كسرت ، فلم يعتد بجمعها وانصرفت في النكرة.
ثم
قال : " ومضارعة أفعل الذي يكون صفة للاسم أنه يكون وهو اسم صفة".
يعني :
أن" أحمر" وبابه يكون صفة على هذا المثال ، وهو اسم ، كما يكون الفعل
صفة في قولك : " مررت برجل يضرب زيدا". فشاركه في حال اسمية الفعل ، في
كونها صفة وانضم إلى ذلك وزن الفعل فامتنع من الصرف.
ثم
قال : " وأما يشكر ، فإنه لا يكون صفة وهو اسم ، إنما يكون صفة وهو
فعل".
يعني أن"
يشكر" و" يزيد" و" تغلب" و" أحمد" و"
يعمر" والأسماء الأعلام التي على مثال الفعل لا تنصرف لوزن الفعل والتعريف ،
فمتى نكّرت انصرفت ، كقولك : " مررت بيشكر ويشكر آخر" ، و" ما كلّ
يزيد أبا خالد" ؛ لأن هذه الأسماء متى نكرت زال التعريف عنها ، وحصل لها من الثقل
وزن الفعل فقط ، فانصرفت ، وقد كانت هذه الأسماء ينعت بها في حال ما كانت أفعالا ،
كقولك : " مررت برجل يشكر زيدا" ، و" هذا رجل يزيد في
البر" ، فلما سمي بها بطل المعنى الذي كان من أجله يقع النعت بها وهو
الفعلية ، فلم يبق له في حال التنكير إلا وزن الفعل ، وليس كذلك" أحمر"
من قبل أن" أحمر" وقع في أول أحواله صفة على وزن الفعل ، فشارك الفعل في
حال فعليته في الوزن وفي معنى الصفة ، فمنع الصرف لذلك.
وقال
سيبويه : " اعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة ، وهي أشد تمكنا ؛ لأن
النكرة أول ، ثم يدخل عليها ما تعرّف به ، فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في
النكرة".
قال أبو سعيد :
قد تقدم من تفسيرنا ما دل على أن النكرة أخف من المعرفة ، وهي أشد تمكنا منها ؛
لأنها لخفتها تحتمل ما لا تحتمله المعرفة ، واحتمالها ما لا تحتمله المعرفة أنها
تحتمل التنوين في الموضع الذي توجد الأسماء المعارف فيه غير منصرفة ، نحو"
أحمد" و" طلحة" و" عمر" و" إبراهيم" ، إذا
نكرت انصرفت ، فاحتملت حين خفت بتنكيرها ما لا تحتمله حين عرفت.
وتمكن الشيء
المتمكن هو وجوده متصرفا في أكثر من حركة ، إذا كان اللفظ يتصرف في حركتين ، ولفظ
آخر يتصرف في أكثر من ثلاث حركات وتنوين ، فالذي يتصرف في ثلاث حركات وتنوين أشد
تمكنا ؛ لأنه أكثر تصرفا.
وقد استعمل
سيبويه لفظ التمكن في الظروف ولم يرد بها الإعراب ، قال : كل ظرف يكون مرفوعا في
حال ومنصوبا في حال فهو متمكن ، نحو قولنا اليوم والليلة وخلفك وأمامك : لأنك تقول
: قمت اليوم ، وقمت الليلة ، وقمت خلفك وأمامك فتكون ظروفا ، ثم تقول : اليوم طيب
، والليلة باردة ، وخلفك واسع ، وأمامك ضيق ، فتكون أسماء مرفوعة ، فيقال ما جرى
هذا المجرى من هذه الظروف ظرف متمكن ، فليس يراد به أنه متمكن بمعنى متصرف أنه
معرب ، إنما يراد أنه يدخله الرفع ، وكل ظرف لا يدخله الرفع فهو غير متمكن ، وإن
كان معربا نحو" قبل" و" بعد" و" عند" ؛ تقول :
" أنا عندك" و" خرجت من عندك" و" رأيته قبلك"
و" من قبلك" ، ولا تقول : عندك ولا قبلك ولا بعدك مرفوعا بوجه من الوجوه
، فهذه غير متمكنة من الظروف ، وإن كانت معربة بدخول الجر والنصب عليها.
وأما المتمكن
من الأسماء فهو كل ما دخله الإعراب منصرفا كان أو غير منصرف وإنما كان غير منصرف
متمكنا ؛ لأنه تصرف ضربا من التصرف ، وهو تنقله من فتحة إلى
ضمّة ومن ضمة إلى فتحة.
وقول سيبويه في
آخر هذا الفصل : "
فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة". يعني : من أجل خفة التنكير وتمكن النكرة ، يكون أكثر
الكلام الذي لا ينصرف متى نكر انصرف ، كنحو ما ذكرنا من" طلحة" وما بعده
من الأسماء.
والأسماء التي
لا تنصرف في المعرفة والنكرة هي خمسة أسماء فقط ؛ أفعل ، إذا كان صفة ، نحو"
أحمر" و" أشقر" ، وفعلان الذي مؤنثة فعلى ، نحو" سكران"
و" غضبان" ، ومؤنثهما" غضبى" و" سكرى" ، وما كان في
آخره ألف التأنيث ممدودة كانت أو مقصورة ، نحو" حمراء" و"
حبلى" ، وما كان من الجمع على مثال ليس للواحد ، نحو" مساجد" و"
قناديل" ، وما كان معدولا من العدد نحو" ثناء" و" ثلاث"
إلى" عشار" ، وفيه لغتان : " فعال" و" مفعل" من
الواحد إلى العشرة ، وكلتاهما لا تنصرف ، وسائر الأسماء منصرفة في حال التنكير.
فإن قال قائل :
لم قال سيبويه" فمن ثمّ أكثر الكلام ينصرف في النكرة" ونحن نعلم أيضا أن
أكثر الكلام ينصرف في المعرفة؟
فالجواب في ذلك
: أنه أراد فمن ثم أكثر الكلام الذي لا ينصرف إذا نكّر انصرف لأن ما لا ينصرف في
المعرفة وينصرف في النكرة أكثر مما لا ينصرف في المعرفة ولا في النكرة.
قال
سيبويه : " واعلم أن الواحد أشد تمكنا من الجمع ؛ لأن الواحد الأول ، ومن ثم
لم يصرفوا من الجمع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد نحو" مساجد". و"
مفاتيح".
قال أبو سعيد :
وقد تقدم من التفسير ما دل على أن الواحد أشدّ تمكّنا من الجمع. وأما قوله :
" فمن ثم لم يصرفوا من الجمع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد نحو"
مساجد ومفاتيح". فإن" مساجد" و" مفاتيح" وما جرى مجراهما
لا ينصرف ، من قبل أنه جمع ، وأنه لا نظير له من الواحد ، وقد علمت أن الجمع على
ضربين : جمع له نظير من الواحد ، وجمع لا نظير له من الواحد ، فالجمع الذي لا نظير
له من الواحد هو" مساجد" ونحوها ، والجمع الذي له نظير من الواحد
نحو" كلاب" و" فلوس" ونظيرهما من الواحد" كتاب"
و" سدوس" ، والجمع إذا كان له نظير من الواحد لا يعتد به ثقلا ، فالجمع
الذي لا
نظير له من الواحد قد اجتمع فيه معنيان يمنعان الصرف : أحدهما أنه جمع ،
والآخر أنه لا نظير له من الواحد ؛ لأن نفس الجمع لا يمنع شبه الواحد في اللفظ ،
فإذا رأيناه جمعا ورأيناه مخالفا للواحد ، ومخالفة الواحد هو معنى ثان ، صار كأنه
جمع آخر ، كأنه جمع مرّتين ، منع الصرف لذلك.
فإن قال قائل :
فقد رأينا هذا البناء في الواحد ، وهو قولهم للضّبع" حضاجر".
قال الحطيئة :
هلا غضضبت
لرحل جا
|
|
رك إذ تنبّذه
حضاجر
|
قيل له :
" حضاجر" جمع" حضجر" و" الحضجر" العظيم البطن ،
وإنما لقّبت الضبع بهذا اللقب ، وصار علما لها لعظم بطنها ، وبولغ لها في هذا
الوصف ، فجعلت كأنها ذات بطون عظام. والدليل على أن" حضاجر" جمع"
حضجر".
قول الشاعر :
حضجر كأمّ
التّوأمين توكّأت
|
|
على مرفقيها
مستهلّة عاشر
|
أراد أنه عظيم
البطن كامرأة في بطنها ولدان ، وتم لها تسعة أشهر ودخلت في العاشر ، واتكأت على
مرفقيها ، فنتأ بطنها وعظم ، فذلك أعظم ما يكون.
فإن قال قائل :
إذا كنت تمنع الصرف في الجمع الذي لا نظير له في الواحد ، فينبغي ألا تصرف"
أكلبا" ؛ إذ لا نظير له من الواحد.
قيل له : لم
يرد سيبويه بقوله : " على مثال ليس يكون للواحد" ما ذهبت إليه ، إنما
أراد : على مثال لا يجمع جمعا ثانيا ؛ لأن ما كان على مثال يتأتّى فيه جمع ثان ،
فهو بمنزلة الواحد.
فإن اعترض
معترض فقال : في الكلام أفعل نحو" آنك" و" أسنمة" ، فإن
سيبويه قد نفى أن يكون في الواحد أفعل.
ونحن نستقصي ما
ينصرف وما لا ينصرف ، إذا صرنا إليه إن شاء الله.
قال
سيبويه : " واعلم أن المذكر أخف عليهم من المؤنث ؛ لأن المذكّر أول ، وهو
__________________
أشدّ
تمكنا".
وقد مر الكلام
في تفسير ذلك ، والاحتجاج له.
ثم
قال : " وإنما يخرج التأنيث من التذكير". يعني أن كلّ شيء مؤنث فله اسم مذكر ، وفي الأشياء ما
لا يسمى باسم مؤنث ، والتأنيث يخرج من التذكير ؛ لأن المؤنث نفسها هي مذكّر بغير
اللفظ الذي أنثتها به.
وقوله
: " يخرج من التذكير" كقولك : يتفرّع من التذكير ، ومثله في الكلام كثير ،
كقولك : الإنسان يخرج من النّطفة ، والكبير يخرج من الصغير ، وقد خرج من زيد شجاع
، أي تفرّع ونشأ.
ثم
قال : " ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه". وهو الذي ذكرناه ؛ إذ كان هذا اللفظ واقعا على كل مذكر
ومؤنث بلفظ واحد.
ثم
قال : " والتنوين علامة للأمكن عندهم والأخف عليهم". يعني أن التنوين علامة لما ينصرف من الأسماء ؛ لأن
المتمكن يقع على ما ينصرف وعلى ما لا ينصرف ، وما ينصرف أمكن مما لا ينصرف ، فسمى
المنصرف الأمكن ، إذ كان غاية في استيفاء الحركات والتنوين.
ثم
قال : " وتركه علامة لما يستثقلون" ، يعني ترك التنوين علامة لما منع من الصرف.
قال
سيبويه : " وجميع ما لا ينصرف ، إذا أدخلت عليه الألف واللام أو أضيف ، انجرّ
؛ لأنها أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرف ، وأدخل فيها المجرور ، كما يدخل في
المنصرف ، ولا يكون ذلك في الأفعال ، فأمنوا التنوين".
قال أبو سعيد :
إن سأل سائل فقال : إذا كان الاسم الذي لا ينصرف ، متى دخل عليه الألف واللام أو
أضيف ، انصرف ؛ لأنه بالإضافة والألف واللام يخرج عن شبه الفعل ، فينبغي أن تكون
حروف الجرّ متى دخلت على اسم لا ينصرف ، انصرف بدخولها ، كقولك : " مررت
بأحمر" وما أشبه ذلك ، ففي ذلك أربعة أجوبة :
الأول منها :
أن يقال إنّ الإضافة والألف واللام ، متى دخلت واحدة منهما على الاسم غير المنصرف
، أخرجته عن شبه الفعل ، ثم تدخل عليه بعد ذلك العوامل ، وقد خرج عن شبه الفعل ،
فيعمل فيه ما يعمل في الأسماء المنصرفة ؛ لأنها صادفت شيئا لا شبه
للفعل به ، وحروف الجرّ إذا دخلت على ما لا ينصرف ، دخلت على شيء مشبه
للفعل ، فلم يكن لها فيه تأثير ؛ لأنها صادفت ما يشبه الفعل.
والجواب الثاني
: أن يقال قد رأينا الفعل تضاف إليه أسماء الزمان كقولك : " هذا يوم ينفع
زيد" والإضافة بمحلّ حروف الجر ، ولم نره يضاف ولا يدخل عليها الألف واللام ،
فلما جاز أن يضاف إلى الفعل في حال ، لم يكن دخول حروف الجر على الاسم المشبه له
مما يخرجه عن شبهه.
فإن قال قائل :
فقد رأينا الألف واللام يدخلان على الفعل ،
كقول الشاعر :
فيستخرج
اليربوع من نافقائه
|
|
ومن حجره ذي
الشيخة اليتقصّع
|
أراد : الذي
يتقصّع. قيل له : هذا شاذّ من أقبح ما يكون في ضرورة الشاعر ولا يحتج بمثله.
والذي دعا
الشاعر إلى ذلك ، مع الضرورة ، أنه رأى الألف واللام تكون بمعنى" الذي"
كقولك : " مررت بالقائم" ، أي بالذي قام ، فجعل" اليتقصّع"
بمعنى الذي يتقصّع ، وأخطأ في ذلك ؛ لأن الألف واللام إذا كانتا بمعنى"
الذي" نقل لفظ الفعل إلى اسم الفاعل.
والجواب الثالث
: هو أن عوامل الأسماء لا تدخل على الأفعال ، وعوامل الأفعال لا تدخل على الأسماء
، فلو صرفنا الاسم بدخول حرف الجر عليه ، لوجب أن تصرفه في كل حال ، من قبل أنه لا
بدّ له في شيء من أحواله من دخول عامل عليه من عوامل الأسماء ، نحو إن وأخواتها ،
وكان وأخواتها ، وظننت وأخواتها ، والابتداء والفعل وهذه الأشياء كلها لا تدخل على
الأفعال ، فلو صرفنا الاسم لأجل هذه العوامل ، لبطل منع الصّرف البتّة.
والجواب الرابع
: هو أن الصّرف إنما هو جواز الجرّ والتنوين في الاسم ، ولا ينفرد أحدهما من صاحبه
، ومتى دخله التنوين جاز فيه الجر ، ومتى جاز فيه الجر دخله التنوين ، فإذا أضيف
الاسم ، أو دخله الألف واللام ، فالإضافة والألف واللام يقومان مقام التنوين ،
فكأن الاسم قد نوّن ، وإذا نوّن جاز دخول الجر عليه ، وليس كذلك إذا دخله حرف من
__________________
حروف الجر ؛ لأن دخوله لا يقوم مقام التنوين الذي هو علامة الصرف.
قوله
: " وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام أو أضيف انجرّ".
يعني جاز دخول
الجر عليه بدخول عامله ، ليس أنه بالإضافة ودخول الألف واللام ينجرّ لا محالة ،
وهذا كلام مفهوم.
وقوله
: " لأنها أسماء أدخل عليها ما أدخل على المنصرف". يعني الألف واللام.
وقوله
: " أدخل فيها المجرور ، كما يدخل في المنصرف". يعني أضيف كما أضيف المنصرف ، والمجرور هو المضاف إليه.
وقوله
: " ولا يكون ذلك في الأفعال". يعني ولا يكون الألف واللام والإضافة في الأفعال.
وتقدير لفظ اعتلاله هو أن يقال : لأنها أسماء دخل عليها من الإضافة والألف واللام
ما لا يكون في الأفعال.
وقوله
: " فأمنوا التنوين" يعني بدخول الألف واللام والإضافة أمنوا أن يكون في
الاسم تنوين مقدر يكون حذفه علامة لمنع الصرف ؛ لأن ما لا ينصرف فيه تنوين مقدر
محذوف ، وليس ذلك فيما ذكر.
قال
سيبويه" فجميع ما يترك صرفه يضارع به الفعل ؛ لأنه إنما فعل ذلك به لأنه ليس
له تمكّن غيره ، كما أن الفعل ليس له تمكن الاسم".
يعني جميع ما
يترك صرفه من الأسماء يضارع الفعل بالثقل الذي دخله. وقد وصفنا كيفيته.
وقوله
: " وإنما فعل ذلك به" ، يعني : وإنما فعل منع الصرف به ، يعني بالاسم الذي لا
ينصرف ؛ "
لأنه ليس له تمكن غيره" يعني تمكن الاسم المنصرف ، " كما أن الفعل
ليس له تمكن الاسم".
ثم
قال : واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع ، حذف في الجزم ؛ لئلا يكون الجزم
بمنزلة الرفع ، فحذفوا كما حذفوا الحركة ونون الاثنين والجمع ، وذلك قولهم :
" لم يرم" و" لم يغز" و" لم يخش" ، وهو في الرفع
ساكن الآخر ، تقول : " هو يغزو ويرمى ويخشى".
قال أبو سعيد :
إن سأل سائل فقال : إذا قلت" لم يرم" فما علامة الجزم فيه؟
قيل له : حذف
الياء.
فإن قال كيف
جاز أن يكون حذف حرف من نفس الكلمة علامة إعراب؟
قيل له : إنما
جاز ذلك ؛ لأن هذا الحرف مشبه للحركة ، وذلك أن الحركة منه مأخوذة ، وعلى قول
بعضهم : هو حركة مشبعة ، ومع ذلك فقد كان في حال الرفع لا يدخله حركة ، كما لا
تدخل الحركة حركة ، فلما أشبه الحركة ، والجزم يحذف ما يصادفه من الحركات ، حذف هذه
الياء ؛ إذ كانت بمنزلة الحركة فكان حذفها جزما ، كما يكون حذف الحركة جزما.
فإن قال قائل :
فما قولكم في الياء والواو في حال الرفع ، هل تقولون : إن سكونها علامة الرفع ، أم
علامة الرفع ضمة محذوفة؟
فإن الجواب في
ذلك أن يقال : علامة الرفع ضمة محذوفة ، استثقل اللفظ بها على ياء قبلها كسرة ، أو
واو قبلها ضمة ، والنية فيها الحركة ، كما أنّا إذا قلنا : " يخشى"
فليست علامة الرفع سكون الألف ؛ لأن الألف لا تكون إلا ساكنة ، وهي في حال النصب
أيضا بألف ، والحركة فيها مقدرة ، وإن لم يكن اللفظ بها ، وكذلك الأسماء التي
أواخرها ياء قبلها كسرة ؛ نحو" القاضي" و" الرامي" إذا قلت :
" هذا القاضي" و" مررت بالقاضي" ، فليس علامة الجر والرفع
فيها سكون الياء ، وكذلك ما كان في آخره ألف ، نحو" العصا" و"
الرّحى" تكون في حال النصب والرفع والجر ساكنة الألف ، والحركات المختلفة
مقدّرة فيها على حسب أحواله ، ولو كان سكون الحرف علامة الإعراب ؛ لوجب أن
تكون" العصا" و" الرحى" وما جرى مجراهما مبنيّا ؛ لأن رفعه
وجره ونصبه بسكون الألف وهذا لا يقوله ذو لبّ.
وقوله
: " واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع" ، أراد : " يغزو"
و" يرمي" ، ولم يرد بقوله : " يسكن في الرفع" أن السكون هو
علامة الرفع ، وإنما أراد : يسكن في حال الرفع بالضم المقدّر.
وقوله
: " حذف في الجزم ؛ لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع" ، يعني : حذف الحرف الساكن علامة للجزم ؛ لأنهم لو اقتصروا
على حذف الضّمّ المقدر ، لاستوى لفظ الجزم والرفع ، فحذفوا شيئا ليفرق بينهما في
اللفظ.
وقوله
: " فحذفوا كما حذفوا الحركة ، ونون الاثنين والجمع" ؛ يعني : حذفوا الياء في" يرمي" كما حذفوا
الحركة في" يذهب" ، ونون الاثنين والجمع في يقومان ، ويقومون.
هذا باب المسند والمسند إليه
"
وهو ما يستغني واحد منهما عن الآخر ، ولا يجد المتكلم منه بدّا
قال أبو سعيد :
أما قوله : " المسند والمسند إليه" ففيه أربعة أوجه أجودها وأرضاها :
أن يكون"
المسند" معناه" الحديث" و" الخبر" ، و" المسند
إليه" المحدّث عنه ، وذلك على وجهين : فاعل وفعل : كقولك : " قام
زيد" و" ينطلق عمرو" واسم وخبر : كقولك : " زيد قائم"
و" إنّ عمرا منطلق" ، فالفعل حديث عن الفاعل ، والخبر حديث عن الاسم ،
فالمسند هو الفعل ، وهو خبر الاسم ، والمسند إليه هو الفاعل ، وهو الاسم المخبر
عنه.
وإنما كان
المسند الحديث ، والمسند إليه المحدّث عنه ، كقولنا في الحديث الذي يحدّث به عن
النبي صلىاللهعليهوسلم هذا الحديث مسند إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فالحديث هو المسند ، ورسول الله هو المسند إليه.
والوجه الثاني
: أن يكون التقدير فيه : هذا باب المسند إلى الشّيء ، والمسند ذلك الشّيء إليه ،
وحذف من الأول ، اكتفاء بالثاني ، وذلك هو الاسم والخبر ، والفعل والفاعل ، وكل
واحد منهما محتاج إلى صاحبه ، وكل واحد منهما مسند إلى صاحبه ؛ لاحتياجه إلى صاحبه
، إذ لا يتم إلا به ؛ كقولك لمن تخاطبه : " إنّما أمري مسند إليك" ، أي
أنا محتاج إليك فيه وأنت قيّمه.
والوجه الثالث
: أن يكون المسند هو الثاني في الترتيب على كلّ حال ، والمسند إليه هو الأول ،
فإذا كان فعلا وفاعلا ، فالمسند هو الفاعل ، والمسند إليه هو الفعل ، وإن كان
مبتدأ وخبرا ، فالمسند هو الخبر ، والمسند إليه هو المبتدأ ، ويكون بمنزلة المبني
والمبنىّ عليه ، فالمبني هو الثاني فعلا كان أو خبرا ، والمبنىّ عليه هو الأول ،
وإنما كان الأول هو المسند إليه ، والمبنى عليه ، من قبل أنّك جئت به ، فجعلته
أصلا لما بعده ، ولم تبنه على شيء قبله ، ثم جئت بما بعده ، وهو محتاج إلى ما قبله
، فصار فرعا عليه ، فلذلك قيل : مبنيّ للثاني ، إذ كان هو الفرع ، وقيل الأوّل مبنيّ
عليه ، إذ كان هو الأصل ، كما تبنى الفروع على الأساس.
الوجه الرابع :
وهو أن يكون المسند هو الأوّل على كل حال ، والمسند إليه الثاني على كلّ حال ، فإن
كان فعل وفاعل ، فالفعل هو المسند والفاعل هو المسند إليه ، وإن
كان مبتدأ وخبرا فالمبتدأ هو المسند ، والخبر هو المسند إليه ، ويكون
المسند والمسند إليه بمنزلة المضاف والمضاف إليه ، في أن المضاف هو الأول ،
والمضاف إليه هو الثاني ، وذلك أن معنى الإضافة والإسناد واحد تقول : " أسندت
ظهري إلى الحائط" ، و" أضفت ظهري إليه".
قال امرؤ القيس
:
فلمّا دخلنا
أضفنا ظهورنا
|
|
إلى كلّ
حارىّ قشيب مشطّب
|
أي أسندناها ؛
فعلى هذا الوجه يكون مسندا إلى الثاني ، وذلك أنك جئت بالأول ، فعلم أنه لا بدّ له
من غيره ، وأنه محتاج إلى ما بعده ، فأسندته إلى الثاني فتمّ ، فتبيّن هذه الوجوه
فإنها محتملة كلّها.
قال
سيبويه : " فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه" ، يعني الخبر" وهو قولك : عبد الله أخوك ، وهذا أخوك
، ومثل ذلك : يذهب عبد الله".
يعني : فمن باب
المسند والمسند إليه الذي أحكمنا معانيه ، المبتدأ وما بعده إلى قوله : " يذهب
عبد الله".
ثم
قال : " فلا بد للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأول بد من الآخر في
الابتداء". يعني : لا بد للفعل من فاعل ، كما لا بد للابتداء من خبر ، وكل واحد
منهما محتاج إلى صاحبه. ثم قال : " ومما يكون بمنزلة الابتداء
والخبر : كان عبد الله منطلقا ، وليت زيدا منطلق ؛ لأن هذا يحتاج إلى ما بعده
كاحتياج المبتدأ إلى ما بعده".
قال أبو سعيد :
اعلم أن الأسماء التي لا بد لها من أخبار هي أربعة : المبتدأ لا بدّ له من خبر وهو
أصل هذه الأربعة. واسم كان وأخواتها ، كقولك : كان زيد منطلقا ، وأصبح زيد ذاهبا ،
وليس عمرو عندنا ، واسم إنّ وأخواتها ، كقولك : إن زيدا منطلق ، وليت أباك قائم ،
والمفعول الثاني من مفعولي ظننت وأخواتها كقولك : ظننت عبدك ذاهبا ، وحسبت أباك
منطلقا.
غير أن ظننت
وأخواتها يجوز أن يكتفى بها وبفاعليها عن المفعولين فتقول : ظننت ، وحسبت وتسكت ،
كما قالت العرب في مثل لها : " من يسمع يخل" ، أي : يظن
__________________
ويتهم ، يقوله الرجل إذا بلّغ شيئا عن رجل فاتّهمه. ويخل من خال يخال ، ولم
يأت بمفعوليه ، فإذا أتيت بالمفعول الأول فلا بدّ له من الثاني ، وسنحكم هذا بأكثر
من هذا الشرح إن شاء الله ، و" كان" و" إنّ" متى أتيت بها ،
أو بواحدة من أخواتهما فلا بدّ أن تأتي بالاسم والخبر.
فهذه الأربعة
التي ذكرناها داخلة في باب المسند والمسند إليه ؛ لأن كل واحد من الاسم والخبر ،
محتاج إلى الآخر ؛ فلذلك جعل سيبويه" كان عبد الله منطلقا ، وليت زيدا
منطلق" ، بمنزلة المبتدأ والخبر ، وأدخله في جملة ما انعقد عليه الباب.
ثم
قال : " واعلم أن الاسم أوّله الابتداء : وإنما يدخل الناصب ، والرافع سوى
الابتداء ، والجار على المبتدأ".
قال أبو سعيد :
أما قوله : " اعلم أن الاسم أوله الابتداء" فهو كلام بيّن ، من قبل أن
المبتدأ معرّى من العوامل اللفظية ، وتعرّى الاسم من غيره في التقدير قبل أن يقترن
به غيره ؛ لأن الكلام يوضع كل كلمة منه تدل على معنى ما ، ثم تركّب فيقترن بعضها
ببعض ، فيقع بها الفوائد المستفادة باقترانها ، وإن كانت كل واحدة منها قد دلّت
على معنى بعينه ، ثم يدخل الناصب على المبتدأ إمّا تأكيدا ، وإمّا لتغيير معنى ؛
فالتأكيد : " إنّ زيدا قائم" والمعنى زيد قائم ، وتغيير المعنى"
ليت زيدا منطلق" والأصل زيد منطلق ، مبتدأ وخبر ، فدخلت ليت فنصبت ما كان
مبتدأ وغيّرت المعنى ، والرّافع الذي دخل على المبتدأ كان وأخواتها ، وظننت
وأخواتها إذا لم يسمّ فاعلوها ؛ كقولك : " كان عبد الله منطلقا" ،
و" ظنّ بكر أخاك" ، وهذان الرافعان هما غير الابتداء ، ودخلا على
الابتداء فأزالاه.
وقد يدخل الجار
على المبتدأ في قولك : " ما عندي من أحد" و" هل عندك من مال؟
" ، والمعنى" ما عندي أحد" ، و" هل عندك مال؟ " ، فأحد ،
ومال يرتفعان بالابتداء ، ثم دخل عليهما الجار ، ومن ذلك أيضا قولك : " حسبك
زيد" ، فيكون حسب مبتدأ ، وزيد الخبر ، ثم تقول : " بحسبك زيد" ،
فيدخل الجر على ما كان مبتدأ قبل دخوله.
وقد ظن بعض
الناس أن (الباء) في" مررت بزيد" و (من) في" أخذت من زيد" هو
ما عناه سيبويه من دخول الجرّ على المبتدأ ، وظن أن قوله : " المبتدأ"
ما يكون مبتدأ في حال ، وهو على غير ما ظن ؛ لأن ما يدخل على المبتدأ هو الذي إذا
نزع صار مبتدأ ، وليس ذلك في" مررت بزيد".
قول
سيبويه : " اعلم أن الاسم أوله الابتداء" يعني : المبتدأ لأن المبتدأ هو الاسم المرفوع ،
والابتداء هو العامل فيه ، وستقف على هذا ، غير أنه اكتفى بالمصدر عن الاسم ،
كقولك : " أنت رجائي" أي مرجوّى.
وقوله
: " إنما يدخل الناصب" ، يعني كان وأخواتها ، وظننت وأخواتها ، " والرافع
سوى الابتداء" ، يعني كان وأخواتها ، وظن وأخواتها ، ورفعهما غير الرفع الذي
يوجبه الابتداء والجار ، وهو الباء في" بحسبك زيد" وما ذكر معه ، تدخل
هذه العوامل على المبتدأ ، فتزيل الابتداء ويصير الاسم معربا بها دون الابتداء.
قال
سيبويه" ألا ترى أن ما كان مبتدأ قد تدخل عليه هذه الأشياء حتى يكون غير
مبتدأ".
يعني : أن
الاسم المبتدأ المعرّى من العوامل اللفظية قد تدخل عليه كان وإنّ وحروف الجر فيصير
غير معرّى من العوامل ، وإذا كان غير معرّى فقد صار غير مبتدأ.
قال
: " فلا تصل إلى الابتداء ما دام مع ما ذكرت لك إلا أن تدعه".
يعني : لا تصل
إلى الابتداء ، وهو تعرّيه من العوامل اللفظية ، وقد اقترنت به العوامل إلا أن
تحذف العوامل فيصير الاسم مبتدأ ؛ وإنما ذكر سيبويه ذلك مستدلا على أن المبتدأ هو
الأول ، إذ كان لفظ المبتدأ هو موجود مع هذه العوامل ، وإنما الابتداء الرافع له
زوال هذه العوامل.
وقوله
: " ما دام مع ما ذكرت لك" يعني : ما دام المبتدأ مع ما ذكرت لك من العوامل إلا أن
تدع العوامل.
ثم
قال : " وذلك أنك إذا قلت : " عبد الله منطلق" ، إن شئت أدخلت
عليه" رأيت" فقلت : " رأيت عبد الله منطلقا".
وقد مر نحو هذا
؛ لأن قوله : " رأيت عبد الله منطلقا" بمنزلة ظننت عبد الله منطلقا. ثم
قال : "
فالمبتدأ أول كما أن الواحد أول العدد ، والنكرة قبل المعرفة".
قال أبو سعيد
وقد ذكرنا أن المبتدأ أول في هذا الباب ، وذكرنا في الباب الذي قبله أن الواحد أول
العدد ، وأن النكرة قبل المعرفة.
هذا باب اللفظ للمعاني
قال سيبويه : " اعلم أنّ من
كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين ،
واختلاف
اللفظين والمعنى واحد ، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ، وسترى ذلك إن شاء
الله".
قال أبو سعيد :
هذا آخر الباب من كلام سيبويه. قوله : " اختلاف اللفظين لاختلاف
المعنيين" يحتمل وجهين : يحتمل أن يكون أراد باللفظين الكلمتين ، ويحتمل أن يكون
أراد الحركتين ؛ فإن كان أراد الكلمتين ، فهو نحو" دار" و"
ثوب" و" إنسان" وما أشبه ذلك مما يخالف بعضه بعضا في اللفظ والمعنى
، وعليه أكثر الكلام ، وإن كان أراد باللفظ الحركة ، فهو قولك : " ما أحسن
زيدا" إذا أردت التعجّب ، و" ما أحسن زيد" ، إذا أردت أنه لم يحسن
، و" ما أحسن زيد" إذا استفهمت أيّ شيء منه أحسن ، أعينه ، أم أنفه ، أم
وجهه ، أم خدّه؟
وكذلك"
ضرب زيد عمرا" اختلفت حركة زيد وحركة عمرو ، لاختلاف المعنيين ، إذ كان
أحدهما فاعلا والآخر مفعولا.
وأما
قوله : " واختلاف اللفظين ، والمعنى واحد" فهو على الوجه الذي جعلنا فيه اللفظين هما الكلمتين ،
نحو : " الجلوس" و" القعود" ومعناهما واحد ، ولفظاهما مختلفان
، ونحو : " هلمّ" و" تعال" و" أقبل" ، وعلى الوجه
الذي جعلنا فيه اللفظين هما الحركتين ، فهو قولك : " إنّ زيدا قائم"
و" زيد قائم" معناهما واحد ، ولفظهما مختلف ، ومثله قوله : " زيدا ظننت
قائما" و" زيد ظننت قائم" ، حركاتهما مختلفة ومعناهما واحد.
وقوله
: " واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين" على الوجه الذي جعلنا فيه اللفظين
الكلمتين ؛ قولك : " عين" يصلح لمعان شتىّ مختلفة ، منها : العين التي
تبصر بها ، ومنها عين الرّكبة ، وعين الميزان ، والعين من عيون الماء ، ودينار عين
، ومطر العين الذي من نحو القبلة ، وعين القوم يكون الرئيس ويكون الذي يبحث لهم عن
الأخبار ، و" جلس" إذا قعد ، و" جلس" إذا أتى نجدا ، وهو جلس
، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.
وعلى الوجه
الذي جعلنا اللفظين فيه هما الحركتين قولك : " ضرب عمرو زيدا" ،
فيكون" زيد" مفعولا و" عمرو" فاعلا ، ثم تقول : ضرب زيد فيكون
مفعولا ، مرفوع اللفظ كلفظ الفاعل ، فاتفق لفظ الفاعل ولفظ المفعول به والمعنى
مختلف.
فإن قال قائل :
لم أتى سيبويه بهذا الباب ، وما الفائدة فيه من طريق الإعراب؟ فإن بعض النحويين أجاب
عن هذا بأن قال : أراد سيبويه باختلاف اللفظين اختلاف
الكلمتين ، وجعل هذا دليلا على اختلاف الإعرابين ، لاختلاف المعنيين ودليلا
على اختلاف الإعرابين والمعنى واحد ، واتفاق الإعرابين والمعنى واحد ، واتفاق
الإعرابين والمعنى مختلف ، وهذا يذكر عن أبي العباس المبرّد ، وكان ينكر الوجه
الآخر ، وهو أن يقول القائل : إن سيبويه أراد اختلاف الحركتين فقط ، ويقول : لم
يذهب إليه سيبويه.
قال أبو سعيد :
والذي عندي في ذلك أن الذي قصده سيبويه على ما يتوجه القول في صحته ـ والله أعلم ـ
أنه أراد الإبانة عن هذا المعنى بعينه ، لا أنه جعله دليلا على شيء سواء ، وذلك أن
في الناس من يزعم أنه لا يجيء لفظان مختلفان إلا ومعناهما مختلف ، علمناه أو
جهلناه ، وهو قول جماعة من النحويين ، ويحكي هذا عن ثعلب عن ابن الأعرابي ، وإليه
كان يذهب ثعلب فيما حكى لي ، وعاب قوم من الناس اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ،
وقالوا : هذا يوقع اللبس ، فأراد سيبويه إبانة مذهب العرب ، وجعلهم اللفظين
مختلفين لمعنى واحد ، واللفظين متفقين للمعنيين المختلفين.
فإن قال قائل :
لم قلتم إنّ اللفظين قد يجوز أن يختلفا ، ويكون معناهما واحدا؟
فإن الجواب في
ذلك : إنا رأينا العرب ، ربما يتكلم القبيل منهم بلفظ ما لمعنى بعينه ، ويتكلم
غيرهم بلفظ سواه ، لذلك المعنى بعينه ، كقول بني تميم : " ثلاث عشرة"
وقول أهل الحجاز" ثلاث عشرة" ، وكقول بعضهم للطلع" طلع"
وبعضهم يقول للطلع بعينه" إغريض" ، وأهل المدنية يقولون للزّئبق"
زاووق" وغيرهم يقول : " زئبق" لذلك المعنى بعينه ، فيما لا يحصى
كثرة.
ورأينا العرب
بعضهم يأخذ عن بعض ، على حسب المخالطة لهم ، والإلف لكلامهم ، كمثل ما نعرفه من
أنفسنا أنّا نتكلّم بلغة من اللغات في وقت ، ثم ندعها ونألف غيرها ، حتى يكون أكثر
كلامنا بغيرها ، إمّا أن يكون غيرها أخفّ منها لفظا ، وإمّا أن نسمع قوما يتكلمون
بها فنألفها على طول السّماع لها.
وليس تخرج
اللغة الثانية اللغة الأولى أن تكون في معناها ، فكذلك العربية ، ومثل ذلك أن أهل
العراق يسمّون البرّ" برّا" وأهل مكة يسمونها" حنطة" وأهل مصر
يسمونها" القمح" ، فلو أن عراقيّا أتى مكة فتكلم" بحنطة"
ليفهموا عنه ، فألفها ، أو كلّم أهل مصر على لغتهم" بقمح" ثم ألف ذلك
واعتاده ، ما كان يتغيّر" البرّ" عنده عما كان ، ولو أن قمحا حمل من مصر
إلى مكة ، لسمّوه بعينه حنطة ، وهذا أبين من أن يطال فيه الكلام.
ويقال لمن
يخالف هذا : أخبرنا عن قولهم : " عليهم" و" عليهم" و"
عليهمو" و" عليهمو" و" عليهمى" ، هل هذه الألفاظ
المختلفة لشيء واحد ، أو لأشياء؟ فإن قال لأشياء ، فينبغي أن يكون الضمير العائد
في" عليهم" يعود إلى قوم غير الذين عاد إليهم الضمير في"
عليهم" ، وهذا ما لا أظن أحدا يستجيزه ؛ لأن الضمير يعود إلى ما تقدم وهم قوم
بأعيانهم. ويلزمه أيضا أن تكون سائر اللغات في" عليهم" يختلف القوم
الذين يعود إليهم الضمير.
وأما الذي عاب
العرب في جعل المتفقين لمعنيين مختلفين ، فهو المعيب عليه في عيبه ، وذلك أنّا قد
بيّنّا أن العرب لحاجتها إلى اتفاق القوافي في شعرها وانتظام السجع في خطبها
وكلامها ، جعلوا الإعراب دالا على معانيها باختلاف الحركات ، فقدّموا وأخّروا
للتوسيع في الكلام ، وكذلك أيضا جعلوا للشيء الواحد أسماء ، وللشيئين المختلفين
لفظا واحدا ، ولم يقتصروا على ذلك الاسم فقط حتى لا يكون للمعنيين المختلفين اسم
غير هذا الواحد ، ألا ترى أنّا إذا قلنا" العين" التي يبصر بها ،
وقلنا" العين" السحابة التي تنشأ من القبلة ، فقد عبرنا عنها بلفظ آخر ،
وقد عبرنا عنها بالعين ، وكل ذلك فعلته العرب ، لما ذكرنا فاعرف ذلك إن شاء الله.
وفي الباب من
كلام غير سيبويه ما قد أتينا على شرحه ، وبالله التوفيق.
هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراض
قال أبو سعيد :
قوله : " من الأعراض" يعني ما يعرض في الكلام ، فيجيء على غير ما ينبغي
أن يكون عليه قياسه.
قال
سيبويه : " اعلم أنهم مما يحذفون الكلم ، وإن كان أصله في الكلام غير ذلك ،
ويحذفون ويعوضون ، ويستغنون بالشيء عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يستعمل حتى
يصير ساقطا ، وسترى ذلك في بابه إن شاء الله".
قال أبو سعيد :
قوله : " مما يحذفون" أراد ربما يحذفون ، وهو يستعمل هذه الكلمة كثيرا
في كتابه ، والعرب تقول : " أنت مما تفعل كذا" أي ربّما تفعل ، وتقول
العرب أيضا : " أنت مما أن تفعل كذا" أي من الأمر أن تفعل ، فتكون"
ما" بمنزلة الأمر ، و" أن تفعل" بمنزلة الفعل ويكون" أن
تفعل" في موضع رفع بالابتداء ، وخبره" مما" وتقدير : " أنت
فعلك كذا وكذا من الأمر الذي تفعله".
قال الشاعر في
الوجه الأول :
وإنّا لممّا
نضرب الكبش ضربة
|
|
على وجهه
تلقي اللّسان من الفم
|
وقال آخر في
المعنى الثاني :
ألا غنّنا
بالزّاهريّة إنّني
|
|
على النّأي
ممّا أن ألمّ بها ذكرا
|
أي من الأمر أن
ألم بها ذكرا ، أي من أمري إلمامي بها.
قال
سيبويه : " فمما حذف وأصله في الكلام غير ذلك : " لم يك" و"
لا أدر" ، وأشباه ذلك".
قال أبو سعيد :
أما قوله" لم يك" فأصله" لم يكن" ؛ لأن الأصل فيه قبل
دخول" لم" أن يقال : " يكون" فدخلت عليها" لم"
فسكنت النون لدخول الجزم ، والتقى ساكنان الواو والنون ، فسقطت الواو لالتقاء
الساكنين ، وكثر في كلامهم هذا الحرف ، لأنه عبارة عن كل ما كان ويكون ، والنون
تشبه ـ إذا كانت ساكنة ـ حروف المدّ واللّين ؛ لأنها غنّة في الخيشوم. وقد ذكرنا
شبهها بحروف المدّ واللّين فيما تقدم ، فشبّهوها في هذا الموضع وقد دخل عليها
الجازم بقولهم : " لم يغز" و" لم يرم" فإذا لقيها ألف ولام ،
أو ألف وصل ، لم يكن فيها إلا الإثبات والتحريك ، كقولهم : " لم يكن الرّجل
عندنا" قال لله عزوجل : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وإنما لم يحذفوها إذا لقيها ساكن من قبل أنها إذا
تحرّكت لالتقاء السّاكنين ، زال عنها شبه حروف المدّ واللّين ، ويكون مخرجها من
الفم لا من الأنف ، فأقرّت على ما ينبغي لها.
فإن قال قائل :
فينبغي أن يقال على قياس" لم يك" : " لم يص" و" لم
يه" في" لم يصن" و" لم يهن" ، قيل له : قد بيّنا أن
القياس في" لم يكن" إثبات النون ، وإنما شبّهوا النون بحروف المدّ واللّين
، لما كثر في كلامهم هذا الحرف ، وطلبوا خفّة اللفظ به ، فالذي أوجب الحذف اجتماع
معنيين : أحدهما شبه النّون بحروف المدّ واللين ، والآخر كثرته في الكلام. وإذا
انفرد أحدهما لم يجب الحذف ، ولهذا نظائر : منها : أنّا نقول : " من
الرّجل"
__________________
فنفتح النون ، لالتقاء الساكنين ، ثم يقول : " إن الله أمكنني
فعلت" فنكسر النون لالتقاء الساكنين ، وقبل كل واحدة منهما كسرة ، وذلك من
قبل أنّ" من" كثرت في كلامهم ، وكثر دخولها على ما فيه الألف واللام ،
فطلبوا خفّة اللفظ بها ، فلم يكسروا النون فتجتمع كسرتان مع كثرة اللفظ بها ،
ففرّوا إلى الفتح ، وقلّت" إن" مع الألف واللام ، فكسروها على ما ينبغي
من الكسر لالتقاء الساكنين.
وقوله
: " ولا أدر" كان ينبغي أن يقال : " لا أدري" ؛ لأنه في موضع رفع ،
والأصل" لا أدري" فاستثقلت الضمة على الياء ؛ لانكسار ما قبلها ، فسكنت
، فأشبهت بسكونها المجزوم ؛ لأن المجزوم ساكن. فحذفوا الياء منها كما تحذف من
المجزوم مع كثرة الكلام بها ، ودلالة الكسر عليها.
فإن قال قائل :
لم خص سيبويه هذا الحرف بالشّذوذ ، ونحن نرى الياء قد تحذف من أواخر الأسماء
والأفعال ، إذا كان ما قبلها مكسورا في غير هذا الحرف ، كما قرأ بعضهم : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ)
(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ)
و (الْكَبِيرُ
الْمُتَعالِ)؟
قيل له : إنما
أراد سيبويه في هذا الموضع ـ والله أعلم وأحكم ـ أن يبيّن أن كثيرا من العرب ،
الذين لغتهم إثبات الياء في مثل هذا ، يحذفونها من" لا أدر" ولغتهم :
" لا أرمي" و" لا أبري" و" لا نشتري" ، فخصوا هذا
الحرف بالحذف لكثرته في كلامهم ، وإن كان من لغتهم الإثبات.
ولقول سيبويه
وجه آخر ، وهو أنه أكثر من غيره في الحذف ، فإن جاز في كل ما كان نظيرا لهذا الحرف
حذف الياء منه ، فليس يخرجه ذلك من أن يكون على غير القياس ، الذي ينبغي أن يكون
الكلام عليه.
قال
سيبويه : " وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء ، فإنهم يقولون : يدع ، ولا
يقولون : ودع ، استغنوا عنه بترك. وأشباه ذلك كثيرة".
قال أبو سعيد :
اعلم أن" يدع" في معنى" يترك" و" يذر" مثلها. غير
أنهم يقولون :
__________________
" ترك يترك تركا فهو تارك" ، ولا يقولون : " ودع يدع ودعا
فهو وادع" ولا" وذر يذر وذرا فهو واذر" وإنما يقولون : " يدع"
و" دع" في الأمر ، و" يذر" و" ذر" ؛ لأن الأمر
مستقبل أيضا ، وخصّوا المستقبل ؛ لأن الكلام بالمستقبل أكثر منه بالماضي : لأن
الاستقبال يصلح لزمانين ، وفعل الأمر مستقبل أيضا ، فكان استعماله فيما كثر أولى ،
وقد جاء في الشّعر ماضيا.
قال الشاعر ،
وهو أبو الأسود الدؤلي :
ليت شعري عن
خليلي ما الذي
|
|
غاله في
الحبّ حتى ودعه
|
وقال سويد أبي
كاهل :
فسعى مسعاته
في قومه
|
|
ثم لم يبلغ
ولا عجزا ودع
|
وقد قيل في
البيتين جميعا إن" ودع" بمعنى : " ودّع" مخفف من التشديد.
قال
سيبويه : " والعوض قولهم : زنادقة ، وزناديق ، وفرازنة وفرازين ، حذفوا الياء
وعوضوا الهاء".
قال أبو سعيد :
اعلم أن كل اسم على خمسة أحرف ، ورابعها حرف زائد من حروف المدّ واللين ؛ فإنك إذا
جمعته جمع التكسير ، فتحت أوّله ، ودخلت ألف الجمع ثالثة ، وكسرت ما بعد ألف الجمع
، وقلبت ذلك الحرف الذي كان رابعا في الواحد ياء ساكنة ، إن كان في الواحد واوا أو
ألفا ، وأقررته ياء إن كان في الواحد ياء كقولك في" صندوق" : " صناديق"
، وفي" كرباس" : " كرابيس" وفي" قنديل" : " قناديل".
وهذا القياس المطّرد ، وقد أبدلوا من هذه الياء هاء ، فقالوا : " زنديق"
و" زنادقة" ، والأصل" زناديق" مثل" قنديل" و"
قناديل" ، وقالوا : " فرازنة" و" فرازين" والأصل"
فرازين" ؛ لأن الواحد" فرزان" مثل" سرحان" و"
سراحين" و" كرباس" و" كرابيس".
قال
سيبويه : وقولهم : " أسطاع يسطيع ، إنما هو أطاع يطيع ، زادوا السّين عوضا من
ذهاب حركة العين ، وقولهم : اللهم ، حذفوا" يا" وألحقوا الميم
عوضا".
قال أبو سعيد :
أما قوله أسطاع يسطيع ومصدره إسطاعة ، فإن فيه أربع لغات :
__________________
أسطاع يسطيع إسطاعة والألف في هذه مقطوعة في الفعل الماضي منه وفي المصدر ،
وحرف المضارعة مضموم ؛ واستطاع يستطيع استطاعة ، والألف موصولة في الفعل الماضي
والمصدر والأمر وأول المستقبل مفتوح ؛ واسطاع يسطيع اسطاعة ، فالألف موصولة في
الفعل الماضي والمصدر والأمر ، وأول المستقبل مفتوح ، واستاع يستيع استاعة ، بوصل
الألف فيهما. ومعنى الجميع القدرة على الشيء واشتقاقه من الطاعة ؛ لأنك إذا استطعت
الشيء ، وقدرت عليه ، فالشيء منقاد لك ، فكأنه مطيع ، وتصريف الفعل من ذلك.
أما أسطاع
يسطيع ، فأصله أطوع يطوع ، ومن حكم أفعل في الفعل ، إذا كان موضع العين منه واوا
أو ياء أن تلقى حركة العين على الفاء ، فتقلب الواو ألفا والياء ألفا ،
كقولك" أجار يجير وأقام يقيم" و" ألان يلين" والأصل : أقوم
وألين ، فألقوا حركة الياء والواو على ما قبلهما ، وقلبتا ألفين ؛ فلهذا القياس
وجب أن يقال في" أطوع"" أطاع" ، ثم زادوا السين في"
أطاع" عوضا من إلقاء حركة الواو على الطاء.
وقد طعن قوم
على سيبويه في قوله : زادوا السين عوضا من ذهاب حركة العين ، والعين هي الواو
في" أطوع" ؛ لأنها عين الفعل ؛ فقالوا : الحركة ما ذهبت ، وإنما ألقيت
على ما قبلها.
والجواب عن
سيبويه : أنه أراد جعلوا السّين عوضا من ذهاب حركة العين من العين والحركة قد ذهبت
منها ، وإن وجدت في غيرها ، فكأنّ تحصيله أنهم جعلوا السين عوضا من نقل الحركة.
ومن قال :
" استطاع" فهو استفعل ، من الطاعة ، كما تقول : " استجار"
و" استمال".
ومن قال :
" اسطاع" فإنه حذف تاء الاستفعال ، لما كثر الكلام بهذا الحرف ، وكان
الطاء والتاء من مخرج واحد ، وثقل موالاتهما بلا فاصل.
ومن قال :
" استاع" فإن الأصل أيضا" استطاع" وحذف الطاء ؛ لأن الطاء
أثقل من التاء ، لما فيها من الإطباق. وقال يعقوب بن السكيت : استاع واسطاع من
القلب والإبدال ، جعلوا التاء مكان الطاء ؛ وهذا بعيد جدّا ، وذلك أن قولنا :
اسطاع ، إن لم نجعله من استطاع ، خرج من أن يكون له نظير في الفعل ، ولا يكون له
اشتقاق ، وهو قول فاسد
بيّن الفساد ، ولم يجئ في استفعل حذف التاء الزائدة وفاء الفعل إلا في هذا
الحرف ، ولا يجيء التعويض من إلقاء حركة العين على الفاء إلا في أسطاع يسطيع ،
ونظيره" أهراق"" يهريق" ، ولم يجئ غيرهما.
وفي"
أهراق" ثلاث لغات : يقال : هراق يهريق هراقة ، وأهراق يهريق إهراقة. وأراق
يريق إراقة ؛ فمن قال : أهراق يهريق ، فإن الأصل : أروق يروق ، ثم ألقى حركة الواو
ـ على ما قدمنا ـ على الراء ، وقلب الواو ألفا ، وعوض لنقل حركة الواو إلى الراء
الهاء.
ومن قال : هراق
يهريق ، فإنه أراد به : أراق ، فجعل مكان الهمزة هاء ، كما قالوا إياك وهيّاك ،
وأما والله وهما والله.
فإن قيل فينبغي
أن تسقط الهاء التي هي عوض من الهمزة في المستقبل ، كما يسقطون الهمزة ؛ لأنك تقول
في المستقبل : يريق بإلقاء الهمزة التي في أراق.
قيل له : إنما
حذفنا الهمزة في يريق من أراق ، لئلا يجتمع همزتان في فعل المتكلم إذا قال أؤريق
وأؤكرم ، كما تقول : " أدحرج" ، والهاء ليست كذلك ، فإذا عوّضوا من
الهمزة هاء في الماضي فإنّ المستقبل ليس يجتمع فيه همزتان ، فيحتاج إلى حذف.
ومن قال : أراق
يريق فهو بمنزلة أقام يقيم.
فإن قيل : لم
كان العوض في أسطاع سينا ، والعوض في أهراق هاء؟
فإن الجواب في
ذلك أن يقال : السين والهاء هما من الحروف الزوائد والبدل ، فإذا عوّضوا حرفا فقد
وصلوا إلى ما أرادوا من التعويض ، أي حرف كان ؛ لأن الغرض التعويض ، لا الحرف
بعينه ، ومع ذلك فمحتمل أن تكون زيادة السين للعوض في أسطاع ، لأن يشاكل سائر
اللغات فيها التي السّين مزيدة في بنائها ، وزيادة الهاء في" أهراق"
ليشاكل" هراق" الذي الهاء فيه مبدلة من الهمزة.
وأما قولهم :
" اللهم" فإن الميم زيدت عوضا من" يا" وشدّدوا الميم ، لأن
يكون على عدة" يا" ، لأن" يا" حرفان ، وخصوا الميم ؛ لأنها
تقع زائدة في أواخر الأسماء نحو : " زرقم" و" ستهم" و"
دلقم". ولا يقع هذا الحرف إلا في النداء.
وقال الفراء :
إن الأصل في هذا الحرف : يا الله أمنّا بخير ، وكثر في كلامهم حتى ألقوا الهمزة
وطرحوا ضمتها على الهاء ، وحذفوا حركة الهاء.
وهذا عند
البصريين غير جائز ، من قبل أن هذا الاسم يس تعمل في المواضع التي
لا يحسن فيها هذا التقدير ؛ من ذلك أنا نقول : اللهمّ أمّنا بخير ، ولا
نقول : يا الله أمّنا بخير ، ونقول في الدعاء على غيرنا : اللهم عذّب الكفّار
ودمّر عليهم ، ولا يحسن في مبدأ مثل هذا الدعاء : يا الله أمنّا بخير عذّب
الكفّار.
واحتج الفراء
في إبطال من يقول : إن الميم عوض من" يا" بأن قال : قد يجيء في
الشعر" يا" مع" اللهمّ" كقول الشاعر :
وما عليك أن
تقولي كلّما
|
|
سبّحت أو
صلّيت يا اللهمّا
|
اردد
علينا شيخنا مسلّما
|
وهذا عند
البصريين في ضرورة الشعر جائز أن يعوّضوا من حروف ، ثم يردونه مع بقاء العوض ، فمن
ذلك قولهم : يا رجل ، ويا غلامان ، فتكون" يا" عوضا من الألف واللام ،
ويتعرّف المنادى بيا ، كما يتعرف بالألف واللام ، ثم يضطر الشاعر فيجمع بينهما ،
فمن ذلك قوله :
فيا الغلامان
اللذان فرّا
|
|
إيّاكما أن
تكسباني شرّا
|
وقوله :
من أجلك يا
التي تيمت قلبي
|
|
وأنت بخيلة
بالودّ عنّي
|
ومن ذلك أنهم
جعلوا الميم في فم بدلا من الواو ، ثم يضطر الشاعر فيردّ الواو مع بقاء الميم. قال
الفرزدق :
هما نفثا في
فيّ من فمويهما
|
|
على النّابح
العاوي أشدّ رجام
|
هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة
قال سيبويه : " فمنه مستقيم
حسن ، ومحال ، ومستقيم كذب ، ومستقيم قبيح ، وما هو محال كذب".
__________________
ثم فسر ذلك
فقال : " فأما
المستقيم الحسن ، فقولك ، أتيتك أمس ، وسآتيك غدا".
وهذا كما قال ؛
لأن ظاهره مستقيم اللفظ ، والإعراب غير دالّ على كذب قائله ، وكذلك كل كلام تكلّم
به متكلّم ، فأمكن أن يكون على ما قال ، ولم يكن في لفظه خلل من جهة اللغة والنحو
، فهو كلام مستقيم في الظاهر ، وقد تبيّن في مثل هذا أن قائله كاذب فيما قاله ،
فتحكم على كلامه أنه كذب غير مستقيم من حيث كان كذبا ، إلا أنه مستقيم اللفظ.
ويلحق بقوله : " حملت الجبل" و" شربت ماء البحر" و" صعدت
السّماء" في أنه كذب ، غير أن الذي استعمله سيبويه في المستقيم ، أن يكون
مستقيم اللّفظ والإعراب فقط ، وعنى بالمستقيم اللفظ والإعراب أن يكون جائزا في
كلام العرب ؛ دون أن يكون مختارا.
ثم
قال : " وأما المحال فأن تنقض أوّل كلامك ، فتقول : أتيتك غدا ، وسآتيك
أمس".
فهذا كلام
محال. ومعنى المحال أنه أحيل عن وجهه المستقيم ، الذي به يفهم المعنى إذا تكلّم
به.
وزعم قوم أن
المحال إنما هو اجتماع المتضادّات ، كالقيام والقعود ، والبياض والسواد ، وما أشبه
ذلك ؛ قالوا : لأن المحال هو ما لا يصحّ وجوده ، والكلام الفاسد الذي ذكرتموه من
قول القائل : " أتيتك غدا" ، " وسآتيك أمس" كلام موجود ، على
ما فيه من الفساد والخلل ، والمحال لا يوجد.
والذي نقول في
هذا ، وبالله التوفيق : إنّ المحال هو الكلام الذي يوجب اجتماع المتضادات ، وقولنا
إن القعود والقيام اجتماعهما محال ، إنما نريد به الكلام الذي يوجب اجتماعهما محال
، قد أحيل عن وجهه ، ألا ترى أنك تقول لمن تكلّم به : قد أحلت في كلامك ، فالكلام
هو المحال ، كما أن الكلام هو الكذب.
ثم قال : " وأما المستقيم الكذب فقولك :
حملت الجبل ، وشربت ماء البحر ، ونحوه".
وإنما
خصّ" حملت الجبل" و" شربت ماء البحر" بالكذب ؛ لأن ظاهرهما
يدلّ على كذب قائلهما ، قبل التصفّح والبحث ، وإلا فكل كلام تكلّم به ، وكان مخبره
على
خلاف ما يوجبه الظاهر فهو كذب ، علم أو لم يعلم ، كقول القائل : " لقيت
زيدا اليوم" و" اشتريت ثوبا" إذا لم يكن الأمر على ما قال ، فهو
مستقيم كذب.
ثم
قال : " وأما المستقيم القبيح ، فأن تضع اللفظ غير موضعه ، نحو قولك : "
قد زيدا رأيت" و" كي زيد يأتيك".
وإنما قبح هذا
، لأنّ من حكم" قد" أن يليها الفعل ، ولا يفارقها ؛ لأنها جعلت مع الفعل
بمنزلة الألف واللام مع الاسم ، وكذلك" سوف" مع الفعل ، فقبح أن يفصل
بين" قد" وبين الفعل بالاسم ؛ لما ذكرنا من شبه الألف واللام. و"
كي" قد جعلت بمعنى" أن" أو بمعنى اللام ، إذا قلت : " جئتك كي
يأتيك زيد" ، فهو بمعنى : ليأتيك زيد ، ولأن يأتيك زيد ، فحكم الفعل أن يليها
دون الاسم ؛ إذ كانت بمحل أن ، فإيلاؤهم إياها الاسم وضع الكلام في غير موضعه.
فإن قال قائل :
كيف جاز أن يسميه مستقيما قبيحا؟ وهل هذا إلا بمنزله قوله : حسن قبيح؟ ؛ لأنّ
المستقيم هو الحسن.
فإن الجواب في
ذلك أن الكلام ينقسم قسمين : كلام ملحون ، وكلام غير ملحون ؛ فالملحون هو الذي لحن
به عن القصد ، وكذلك معنى اللّحن ، إنما هو العدول عن قصد الكلام إلى غيره ، وما
لم يكن ملحونا فهو على القصد ، وعلى النحو ، ومن ذلك سمي النحو نحوا ، والمستقيم
من طريق النحو هو ما كان على القصد سالما من اللّحن ، فإذا قال : " قد زيدا
رأيت" فهو سالم من اللّحن ، فكان مستقيما من هذه الجهة ، وهو مع ذلك موضوع في
غير موضعه فكان قبيحا من هذه الجهة.
ثم قال : " وأما المحال الكذب فهو أن
يقول" : " سوف أشرب ماء البحر أمس".
فهو محال كذب ؛
فأما استحالته ؛ فلاجتماع" سوف" و" أمس" فيه ، وهما يتناقضان
ويتعاقبان. وأما الكذب فيه ، فإنا لو أزلنا عنه" أمس" ، الذي يوجب
المناقضة والإحالة لبقي كذبا. وكان الأخفش ينكر أن يقال في المحال صدق أو كذب.
فأما إنكاره الصّدق فبيّن ، وأما إنكاره أن يكون كذبا ؛ فلأنّ الكذب نقيض الصّدق ،
والمحال لا يجوز أن يكون صدقا بحال ، فإن استحال أن يقال فيه صدق بوجه من الوجوه ،
استحال أن يقال كذب.
قال أبو سعيد :
والقول عندي ما قاله سيبويه ، وذلك أنّ قائلا لو قال : " زيد جمع
بين القيام والقعود في حال" ، كان قد خبّر باجتماع هذين المعنيين ،
وقد علمنا أن الاجتماع الذي خبر به على غير ما خبّر ، والكذب إنما هو الإخبار عن
الشيء بخلاف ما هو به ، وإن كان ذلك الشيء مما لا يجوز فيه الصّدق البتّة ، ألا
ترى أنك تقول للمشرك الذي يدّعي أن لله شريكا في ملكه وسلطانه ، جل الله وعز : إنه
كاذب ، وإن كان هذا لا يجوز أن يكون البتة ، وكذلك الذي يقول : " إن لله
ولدا" كاذب. قال الله عزوجل : (لَيَقُولُونَ وَلَدَ
اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).
وقد ذكر سيبويه
المحال في موضعين ؛ فقال في أحدهما : " وأما المحال فأن تنقض أول كلامك ،
فتقول : " أتيتك غدا" و" سآتيك أمس". وقال في الموضع الآخر :
" وأما المحال الكذب فأن تقول : " سوف أشرب ماء البحر أمس" فقال في
الموضع الأول : " فأما المحال" ولم يقل : المحال الكذب. وقال في الثاني
: " المحال الكذب" غير أنه مثل الأول بشيء هو محال كذب أيضا ، وإنما
أبهم الأول ؛ لأن المحال قد يكون كذبا وغير كذب ، غير أن الذي يجمع ذلك كلّه تناقض
اللفظ فيه.
فأما المحال
الذي ليس بكذب ، فاللفظ الذي يستحيل في الأمر ، وفي الاستفهام ، وفي : موضع لا يقع
فيه الكذب ؛ كقولك لمن تأمره : " قم أمس" ، ولمن تستفهمه : " أستقوم
أمس؟ " و" هل قمت غدا"؟ والمحال الكذب قد مرّ ، فحصل من ذلك أن
المحال على ضربين : كذب وغير كذب. والكذب على ضربين : محال وغير محال.
وقال أبو الحسن
الأخفش : ومنه الخطأ ، وهو ما لا تعمّد فيه ؛ نحو قولك : " ضربني زيد"
وأنت تريد : " ضربت زيدا" ، وهذا من جهة اللفظ مستقيم ، فيقال فيه على
قياس ما مضى : مستقيم خطأ ، كما قيل : مستقيم كذب ، ومستقيم قبيح.
هذا باب ما يحتمل الشّعر
قال
سيبويه : " اعلم أنه يجوز في الشّعر ما لا يجوز في الكلام ، من صرف ما لا
ينصرف يشبّهونه بما ينصرف من الأسماء ؛ لأنها أسماء كما أنها أسماء".
قال أبو سعيد :
اعلم أن سيبويه ذكر في هذا الباب جملة من ضرورة الشعر ؛ ليري بها الفرق بين الشّعر
والكلام ، ولم يتقصّه ؛ لأنه لم يكن غرضه في ذكر ضرورة الشاعر
__________________
قصدا إليها نفسها ، وإنما أراد أن يصل هذا الباب ، بالأبواب التي تقدمت
فيما يعرض في كلام العرب ومذهبهم في الكلام المنظور والمنثور. وأنا أذكر ضرورة
الشاعر مقسّمة بأقسامها ، حتى يكون الشاذ منها مستدلا عليه بما أذكره إن شاء الله
وبالله التوفيق.
اعلم أن الشّعر
لما كان كلاما موزونا ، تكون الزيادة فيه والنقص منه ، يخرجه عن صحة الوزن حتى
يحيله عن طريق الشعر المقصود مع صحّة معناه ، استجيز فيه لتقويم وزنه من زيادة
ونقصان وغير ذلك ما لا يستجاز في الكلام مثله ، وليس في شيء من ذلك رفع منصوب ولا
نصب مخفوض ، ولا لفظ يكون المتكلم فيه لاحنا. ومتى وجد هذا في شعر كان ساقطا
مطّرحا ، ولم يدخل في ضرورة الشعر.
وضرورة الشعر
على سبعة أوجه وهي : الزّيادة ، والنّقصان ، والحذف ، والتّقديم ، والتأخير ،
والإبدال ، وتغيير وجه من الإعراب إلى وجه آخر على طريق التشبيه ، وتأنيث المذكر
وتذكير المؤنث.
فأما الزيادة ،
فهي زيادة حرف ، أو زيادة حركة ، أو إظهار مدغم ، أو تصحيح معتلّ ، أو قطع ألف وصل
، أو صرف ما لا ينصرف. وهذه الأشياء بعضها حسن مطّرد ، وبعضها مطرد ليس بالحسن
الجيد وبعضها يسمع سماعا ولا يطّرد.
فأوّل ذلك ما
يزاد في القوافي للإطلاق ، فإذا كانت القافية مرفوعة مطلقة ، جاز إنشادها على
ثلاثة أوجه : أحدها أن يجعل بعد الضمة واوا مزيدة.
كقول زهير :
صحا القلب عن
سلمى وقد كان لا يسلو
|
|
وأقفر من
سلمى التعانيق فالثّقلو
|
فتلحق
آخر" الثّقل" واوا إتباعا لضمّة لام الثقل.
ويجوز أن يجعل
مكان الواو التنوين فينشد :
...
|
|
وأقفر من
سلمى التعانيق فالثّقلن
|
وقد كنت من
سلمى سنين ثمانيا
|
|
على صير أمر
ما يمرّ وما يحلو
|
__________________
ومن يجعل
الإطلاق تنوينا فهو يقلب الواو الأصلية تنوينا ، فيقول : ما يمرّ وما يحلن.
وكنت إذا ما
جئت يوما لحاجة
|
|
مضت وأجمّت
حاجة الغد ما تخلو
|
والوجه الثالث
في الإنشاد أن ينشد البيت على خفّة من الإعراب ، كقول جرير :
متى كان
الخيام بذي طلوح
|
|
سقيت الغيث
أيّتها الخيام
|
فتسكن الميم
إذا وقفت ، وتضمّها بلا واو ولا تنوين إذا وصلت ، فتقول : " أيّتها
الخيام"
بنفسي من
تجنّبه عزيز
|
|
عليّ ومن
زيارته لمام
|
فإذا وصل"
لمام" نوّن ، فقال : " لمام".
ومن أمسى
وأصبح لا أراه
|
|
ويطرقني إذا
هجع النّيام
|
والذي ينون في
إنشاد المطلق ، لا يقف على التنوين ، وإنما ينوّنه في الوصل ، والذي يزيد الواو
للإطلاق ، قد يقف عليها ؛ لأنه ليس في الكلام شيء آخره تنوين في الوقف ، وقد يكون
الوقف على حرف يبدل من التنوين ، ألا ترى أنك تقول : " رأيت زيدا" فتبدل
الألف من التنوين ولا يجوز : " رأيت زيدا" بالتنوين في الوقف ، وبعضهم
يقول : " هذا زيدو" و" مررت بزيدي" فيبدل من التنوين واوا أو
ياء في الكلام ، وليس أحد يقف على التنوين ، فقد علمت أن الذي ينشد بالتنوين ، لا
يقف عليه منونا.
وإذا كانت
القافية مطلقة مخفوضة ، ففيها الأوجه الثلاثة ، غير أنهم يجعلون مكان الواو في
المرفوع ، ياء في المخفوضة ، كقول الأعشى :
ما بكاء
الكبير بالأطلال
|
|
وسؤالي فما
يرّدّ سؤالي
|
دمنة قفرة
تعاورها الصّي
|
|
ف بريحين من
صبا وشمال
|
__________________
وإذا كانت
منصوبة ، ففيها تلك الأوجه ، وتجعل مكان الواو في المرفوعة ، ألفا فيها ، كقول
الأعشى :
استأثر الله
بالوفاء وبال
|
|
حمد وولي
الملامة الرّجلا
|
وإنما جازت هذه
الزيادة في الشعر في القوافي ؛ لأنهم يترنّمون بالشعر ، ويحدون به ، ويقع فيه
تطريب ، لا يتمّ إلا بحروف المدّ ، وأكثر ما يقع ذلك في الأواخر ، وكان الإطلاق
بسبب المدّ الواقع فيه للترنّم.
وقد شبهوا
مقاطع الكلام المسجّع ، وإن لم يكن موزونا وزن الشّعر بالشّعر في زيادة هذه الحروف
، حتى جاء ذلك في أواخر الآي من القرآن ، كقوله تعالى : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(قَوارِيرَا. قَوارِيرَا) و" قوارير" لا ينصرف ، وقد أثبت في الوقف
منها ألفا ؛ لأنها رأس آية. وهذا مذهب أبي عمرو. وبعضهم ينون الأول من"
قوارير" تشبيها بتنوين القوافي ، على مذهب من ينشدها منوّنة.
وهذه الزيادة
غير جائزة في حشو الكلام ، وإنما ذكرناها ؛ لاختصاص الشّعر بها دون الكلام ، وهي
جيّدة مطّردة ، وليست تخرجها جودتها عن ضرورة الشّعر ؛ إذ كان جوازها بسبب الشّعر.
ومن ذلك صرف ما
لا ينصرف ، وهو جائز في كلّ الأسماء ، مطرد فيها ؛ لأنّ الأسماء أصلها الصّرف
ودخول التنوين عليها ، وإنما تمتنع من الصرف ، لعلل تدخلها ، فإذا اضطر الشاعر
ردّها إلى أصلها ، ولم يحفل بالعلل الدّاخلة عليها ، والدليل على ذلك : أن ما لا
أصل له في التنوين لا يجوز للشاعر تنوينه للضرورة ، ألا ترى أن الشاعر غير جائز له
تنوين الفعل ؛ إذ كان أصله غير التنوين ، وليس يردّه بتنوينه إلى حالة قد كانت له.
فمما جاء
منوّنا مما لا ينصرف قول النابغة :
فلتأتينك
قصائد وليركبن
|
|
جيش إليك
قوادم الأكوار
|
__________________
فنون"
قصائد" وهي لا تنصرف. وقال أبو كبير :
ممّن حملن به
وهنّ عواقد
|
|
حبك النّطاق
فعاش غير مهبّل
|
فصرف"
عوائد" وهي لا تنصرف.
وقال الكسائي
والفراء : يجوز صرف كل ما لا ينصرف إلا" أفعل منك" نحو : " زيد
أفضل منك" فإنهما لا يجيزان صرفه في الشّعر ، وزعما أن" من" هي
التي منعت من صرفه.
وأبي أصحابنا
البصريون ذلك ، فأجازوا صرفه ، وذكروا أن العلّة المانعة لصرف" أفضل
منك" وزن الفعل ، وأنه صفة ، فيصير بمنزلة" أحمر" فكما جاز
صرف" أحمر" في الضرورة ، جاز صرفه ، وليس" لمن" في منع صرفها
تأثير ؛ لأنهم قد قالوا : " زيد خير منك" و" شرّ منك" فينونون
لمّا لم يكن على وزن أفعل ، ولم يمنعوهما الصرف بدخول" من" عليهما.
ومما جاء من
صرف ما لا ينصرف ، على غير البناء الأول قول أمية بن أبي الصلت :
فأتاها أحيمر
كأخي السّه
|
|
م بعضب فقال
كوني عقيرا
|
فصرف"
أحيمر".
وقد ينوّن أيضا
ما بني من الأسماء ، التي قد استعملت منونة في حال ، إذا اضطر الشاعر إليه ، كقولك
: " يا زيد" في ضرورة الشّعر ، قال الشاعر :
سلام الله يا
مطر عليها
|
|
ولي عليك يا
مطر السّلام
|
وينشد بالنصب ،
فيمن نصب ردّ الكلمة إلى أصلها ؛ لأن الأصل في النداء منصوب. ومن رفع ونوّن ، زاد
التنوين على لفظه ، كما تفعله فيما لا ينصرف من المرفوع.
واعلم أن ما
لحقه التنوين مما لا ينصرف في ضرورة الشّعر ، لحقه الجرّ ؛ لأنه يردّ الكلمة إلى
أصلها ، فتحرّكها بالحركة التي تنبغي لها ، كقول النابغة :
__________________
إذا ما غدوا
بالجيش حلّق فوقهم
|
|
عصائب طير
تهتدي بعصائب
|
فخفض"
عصائب" لما ردّها إلى أصلها.
وقد أجاز
الكوفيون والأخفش ترك صرف ما ينصرف وأباه سيبويه وأكثر البصريين ؛ لأنه ليس يحاول
بمنع صرف ما ينصرف أصل يردّ إليه.
وأنشدوا في ذلك
أبياتا كلها تتخرّج على غير ما أوّلوه ، وتنشد على غير ما أنشدوه. فمن ذلك إنشادهم
قول عباس بن مرادس السلمي :
فما كان حصن
ولا حابس
|
|
يفوقان مرداس
في مجمع
|
فلم يصرف"
مرداسا" وهو أبوه ، وليس بقبيلة.
ومن ذلك أيضا
قول الآخر :
وممّن ولدوا عامر ذو الطول وذو العرض
فلم يصرف"
عامرا" ولم يجعله قبيلة ؛ لأنه قد وصفه فقال : " ذو الطول وذو
العرض" ولو كان قبيلة ، لقال : ذات الطّول وذات العرض.
وأنشدوا أيضا :
ومصعب حين
جدّ الأم
|
|
ر أكثرها
وأطيبها
|
فأما بيت عباس
بن مرادس ، فإن الرواية عند أصحابنا :
" يفوقان شيخي في مجمع"
وشيخه هو مرادس
، ورأيت في شعر عباس بن مرادس في نسخة عمرو بن أبي عمرو الشيباني : " يفوقان
شيخي".
وأما : " عامر
ذو الطول وذو العرض" فإن عامرا أبو القبيلة فيجوز أن يعني بلفظه القبيلة ،
فلا يصرف. ثم يردّ الكلام إلى لفظه ، فيصرف ، كما قال عزوجل : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) فصرف الأول ، وترك صرف الثاني ، على قراءة
__________________
أكثر القرّاء ، فصرف الأول على لفظ أبي القبيلة ، وترك صرف الثاني ؛ لأنه
أريد بلفظه القبيلة نفسها.
قال الشاعر في
هذا المعنى :
قامت تبكّيه
على قبره
|
|
من لي من
بعدك يا عامر
|
تركتنى في
الدار ذا غربة
|
|
قد ذلّ من
ليس له ناصر
|
فأنث المبكّية
، وحكى عنها أنها قالت لعامر : تركتني في الحيّ ذا غربة ، وكان حكمها أن تقول :
ذات غربة ، ولكنه ردّ الكلام إلى معنى الإنسان ؛ لأنها إنسان ، فكأنها قالت :
تركتني إنسانا ذا غربة. وكذا قوله : ذو الطول وذو العرض ، ردّه إلى نفس عامر.
وأما قوله :
" ومصعب حين جدّ الأمر" ، فإن أصحابنا يروونه : " وأنتم حين جدّ
الأمر" وقد يروى في نحو هذا بيت لدوسر بن دهبل القريعيّ :
وقائلة ما
بال دوسر بعدنا
|
|
صحا قلبه عن
آل ليلى وعن هند
|
والجيّد الصحيح
في إنشاد هذا البيت : " وقائلة ما للقريعي بعدنا".
قال أبو سعيد
وكان ابن السّرّاج يقول : لو صحّت الرواية في ترك صرف ما ينصرف ، ما كان بأبعد من
قولهم :
فبيناه يشري
رحله قال قائل
|
|
لمن جمل رخو
الملاط نجيب
|
فإنما هو :
" فبينا هو يشري رحله" فحذف الواو من هو ، وهي متحركة من نفس الكلمة ،
وليست بزائدة ، فإذا جاز أن يحذف ما هو من نفس الحرف ، جاز أن يحذف التنوين ، الذي
هو زائد ، للضرورة.
قال أبو سعيد :
والذي قاله وجه ، غير أن حذف التنوين عندي ، وإن كان زائدا أقبح من حذف الواو
في" هو" ؛ لأن التنوين علامة تفرّق بين ما ينصرف وما لا ينصرف ، وسقوطه
يوقع اللّبس ، وحذف الواو من" هو" لا يوقع لبسا ، ولا يلحقه بغير بابه.
وممّا زيد عليه
حرف للضرورة قولهم في الشعر : " رأيت جعفرّا" و" مررت بجعفر"
و" هذا جعفرّ" ، وذلك أنهم يقولون في الوقف : " هذا جعفرّ"
و" مررت بجعفرّ" ليدلّوا على
__________________
أن آخره متحرّك في الوصل ؛ لأنهم إذا شدّدوا اجتمع ساكنان في الوقف ، الحرف
الذي كان في الأصل ، والحرف المزيد ، وقد علم أن الساكنين لا بدّ من تحريك أحدهما
في الوصل ، فشدّدوا ؛ ليدلّوا بالتشديد على التحريك في الوصل. وإنما يفعلون هذا
فيما كان قبل آخره متحرّك مثل : " خالد" و" جعفر" إذا وقفوا
عليه ، ولا يفعلون في زيد وعمرو ، لئلا تتوالى ثلاثة سواكن ، فإذا وصلوا ردّوا
الكلام إلى أصله فقالوا : " مررت بجعفر يا فتى" ، و" هذا جعفر
فاعلم" استغنوا عن التشديد بتحريك آخره ؛ إذ كانوا إنما شدّدوه ؛ ليدلّوا على
التحريك في الوصل ، فإذا اضطر الشاعر إلى تشديده في الوصل شدّده ، وأجراه مجراه في
الوقف فقال : " رأيت جعفرّا" و" مررت بجعفرّ" و" هذا
جعفرّ".
قال الشاعر :
مهر أبي
الحبحاب لا تشلّي
|
|
بارك فيك
الله من ذي ألّ
|
ومن موصّى لم
يضع قيلا لي
|
|
خوارجا من
لغط القسطلّ
|
إذ
أخذ القلوب بالأفكلّ
|
وإنما هو :
" الأفكل" ، و" القسطل" مخففان.
ونظير هذا
قولهم : " الضّاربونه والقاتلونه" إذا وقفوا عليه ، يزيدون الهاء ،
لبيان حركة النون ، وكذلك كلّ حركة ليست للإعراب يجوز أن تلحقها هذه الهاء ؛ فتقول
: " أينه" ، و" كيفه" في الوقف. فإذا اضطر الشاعر جاز أن يجرى
هذه الهاء في الوصل مجراها في الوقف ، ويجعلها كهاء من نفس الكلمة داخلة للضمير.
قال الشاعر :
هم القائلون
الخير والآمرونه
|
|
إذا ما خشوا
من معظم الأمر مفظعا
|
وقال آخر :
ولم يرتفق
والنّاس محتضرونه
|
|
لديه وأيدي
المعتفين رواهقه
|
والصحيح الجيد
في هذا أن تكون الهاء هي هاء الوقف ، وجعلها في الوصل على
__________________
حكمها في الوقف وحرّكها كما قال : " القسطلّ" و" الأفكلّ".
وقال بعضهم :
هذه الهاء هي ضمير المفعول ، وضمير المفعول متى اتصل باسم الفاعل لم يجز فيه إلا
حذف التنوين في الواحد والنون في الاثنين والجماعة ، ألا ترى أنك تقول هذا ضاربك ،
وهذان ضارباك ، وهؤلاء ضاربوك ، ولا يقال : هذا ضاربك ، وهذان ضاربانك ، غير أن سيبويه
قد أجاز هذا في ضرورة الشعر. وأنشد البيتين اللذين أنشدنا ، وضعّفهما وجعلهما
موضوعين.
ومن ذلك أنهم
قد يزيدون في آخر الاسم نونا مشدّدة ؛ كقولهم في" القطن" : " قطننّ"
وهذا من أقبح الضرورة.
وقال الراجز :
كأن مجرى
دمعها المستنّ
|
|
قطننّة من
أجود القطننّ
|
ويروي : القطنّ
فزادوا نونا أخرى في القطنّة ، وأصلها بنون واحدة ، وإنما زادها إتباعا للنون
الأولى ، وستقف على ما يزاد للإتباع ، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك قول
الراجز لابنه :
أحبّ منك
موضع الوشحنّ
|
|
وموضع الإزار
والقفنّ
|
والأصل : الوشح
: جمع وشاح ، والقفا. وزاد نونا مشددة ، وفتح لها ما قبلها ، تشبيها بالنون
المشدّدة ، التي تزاد في آخر الأفعال للتأكيد ، وكسرها بحقّ الاسمية ، كما تدخل
هاء التأنيث فيفتح لها ما قبلها ، ثم تعرب هي. ودخلت هذه النون على"
قفا" فالتقى ساكنان ، الألف التي في" قفا" ، والنون الأولى من
النونين ، وليس زيادة النون في هذين البيتين ، كزيادتها فيما قبل.
وأما زيادة
الحركة ، فإنهم قد يحرّكون الحرف الساكن بحركة ما قبله ، إذا اضطرّوا إلى ذلك ،
فمن ذلك قول رؤبة :
وقاتم
الأعماق خاوي المخترق
|
|
مشتبه
الأعلام لمّاع الخفق
|
وإنما هو :
" الخفق" ، فحرك الفاء ، بحركة الخاء.
__________________
ومثله قول زهير
:
ثم استمروا
وقالوا إنّ موعدكم
|
|
ماء بشرقيّ
سلمى فيدأو ركك
|
واسم الماء ـ فيما
ذكروا : ركّ ، فاضطرّ الشاعر إلى تحريك الكاف الأولى ، بحركة الراء ، ومثله في هذه
القصيدة :
كما استغاث
بسيء فزّ غيطلة
|
|
خاف العيون
فلم ينظر به الحشك
|
وإنما هو :
" الحّشك" ومعناه : الدّرّة ، وامتلاء الضرع ، من قولك : حشك يحشك حشكا.
قال الهذلي :
إذا تجرّد
نوح قامتا معه
|
|
ضربا أليما
بسبت يلعج الجلدا
|
فكسر اللام
من" الجلد" إتباعا للجيم ، والقصيدة من الضرب الأول من البسيط ، موضع
اللام من" الجلد" متحرّك.
وأولها :
ما ذا يغير
ابنتي ربع عويلهما
|
|
لا ترقدان
ولا بؤسى لمن رقدا
|
وأما قول
الراجز :
علّمنا
أخوالنا بنو عجل
|
|
شرب النبيد
واعتقالا بالرّجل
|
فليس من هذا
الباب ، وإنما هو من باب إلقاء حركة الحرف الأخير على الساكن الذي قبله ، وهو جيّد
بالغ في الكلام والشّعر ، كقولك : " مررت ببكر" ، " وهذا بكر"
؛ كقول أوس :
أراد : " بكر"
ومثله :
عجبت والدّهر
كثير عجبه
|
|
من عنزيّ
سبّني لم أضربه
|
__________________
وإنما هو :
" أضربه" في الوصل ، فألقي ضمة الهاء على الباء.
ومن ذلك زيادة
الحركة على ما ينبغي أن يكون استعمال اللفظ عليه ، وهو إظهار المدغم ؛ كقولك
في" رادّ" : " رادد" ؛ لأنه فاعل ، فأدغمت الدال الأولى في
الثانية ، لأن تنطق بهما في مرة واحدة طلبا للتخفيف ، ولأنه يثقل أن يتكلم بالحرف
ثم يعاد إليه فيتكلم به من غير فاصل. وستقف على علة استثقال ذلك إن شاء الله
تعالى.
فإذا اضطر شاعر
رده إلى الأصل ، فأظهره وحرّكه بما يكون له من الحركات ، فمن ذلك قول قعنب بن أمّ
صاحب :
مهلا أعاذل
قد جرّبت من خلقي
|
|
أنّي أجود
لأقوام وإن ضننوا
|
والذي يستعمل :
ضنّوا فردّه إلى أصله ؛ إذا كان أصله : ضنن ، فمن ذلك :
الحمد لله العليّ الأجلل
والذي يستعمل :
الأجلّ. ومنه :
تشكو الوجى من أظلل وأظلل
أراد : من أظل
وأظلّ
ومن نحو هذا :
تحريك المعتلّ فيما حقّه أن يكون اللفظ به على السّكون ، ورده إلى أصله في التحريك
الذي ينبغي له مع ما فيه من الاستثقال ، لتقويم اللّفظ ، فمن ذلك قول ابن قيس
الرقيات :
لا بارك الله
في الغواني هل
|
|
يصبحن إلا
لهنّ مطّلب
|
ومنه قول جرير
:
فيوما يجارين
الهوى غير ماضي
|
|
ويوما ترى
منهنّ غولا تغوّل
|
وإنما الوجه
ألا تكسر الياء المكسورة ما قبلها ، ولا تضمّ ؛ لاستثقال الضم والكسر عليها وإن
كانت النية فيها التحريك ، فكان الوجه : لا بارك الله في الغواني ، بتسكين الياء
__________________
وغير ماض ، بسقوط الياء لدخول التنوين ؛ لأنها تسكن والتنوين ساكن ، فتحذف
لالتقاء الساكنين.
وأما قول جرير
؛ فإن أكثر رواة الشعر ينشدونه : " غير ما صبى"؟ والمعنى : يجارين الهوى
بالحديث والمجالسة ، دون التخطي إلى ما لا يجوز.
ومن ذلك قوله :
ألم يأتيك
والأنباء تنمي
|
|
بما لاقت بني
لبون بني زياد
|
والوجه فيه :
" ألم يأتك" تسقط للجزم الياء ؛ لأنها ساكنة في الرفع غير أن الشاعر إذا
اضطر جاز له أن يقول : " يأتيك" في حال الجزم ، إذا كان من قوله : يأتيك
في حال الرفع فلحق هذه الضرورة جزم أسكنها ، وكان علامة الجزم حذف الضمة.
وفي الناس من
يتأوله على غير هذا فيقول : نحن إذا قلنا : " يأتيك" في حال الرفع تقدّر
ضمّة محذوفة ، فإذا جزمناه قدرنا حذف تلك الضمة ، وإن لم يظهر شيء من ذلك في اللفظ
، كما تقول : " رأيت العصا" و" مررت بالعصا" ، " وهذه
العصا" فتكون في النيّة حركات مختلفة لا تظهر في اللفظ ويشدّ هذا قراءة ابن
كثير : " إنّه من يتّقي ويصبر" في بعض الروايات عنه. وهذا قليل في
الكلام جدّا.
وهذا النحو قول
عبد يغوث بن وقّاص الحارثي :
وتضحك مني
شيخة عبشميّة
|
|
كأن لم ترى
قبلي أسيرا يمانيا
|
ويروى : "
ترى" على خطاب المؤنث ؛ فمن قال : " ترى" على الخطاب ، فلا ضرورة
فيه ، ومن قال : " ترى" فهو على التقدير الثاني في البيت الذي قبله ،
وهو أنه جعل الجزم حذف الحركة المنويّة في الألف.
فإن قال قائل :
فقد قرأ حمزة : لا تخف دركا ولا تخشى وليس في القرآن ضرورة.
قيل له : في
ذلك وجهان سوى هذا ، أحدهما : أنه جعل الأول نهيا ، والثاني خبرا ،
__________________
كأنه قال : ولا تخف دركا وأنت لا تخافه امتثالا لما أمرناك به ، وانزجارا
عمّا زجرناك عنه ، ومثله كثير في الكلام.
والوجه الثاني
: أن تكون الألف في : " تخشى" زيدت لإطلاق الفتحة إذ كانت رأس آية كما
تزاد في القوافي والكلام المسجوع.
مثل الآية قوله
: (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى) يجوز أن يكون خبرا كأنه قال : سنقرئك ونزيل عنك النسيان
، فلست تنساه ، وذلك أنه عليهالسلام قد كان قبل نزول هذه الآية يتلقى الوحي بإعادة ما أوحي
إليه قبل استتمامه مخافة النسيان ، ويعجل في تلقّيه ، فنهاه الله تعالى عن ذلك
بقوله : (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) وبشره بأنّه لا ينساه ، فهذا وجه.
والوجه الثاني
: لا يكون نهاه عن التشاغل والإهمال المؤديين إلى النسيان لما أقرئ ؛ لأن النسيان
ليس هو بفعل النّاسي ، فينهى عنه ، وإنما هو من فعل الله تعالى ، يحدثه عند إهمال
ما ينسى وترك مراعاته.
وفي الآيتين
التقدير الذي ذكرناه في البيتين ، وفي القراءة المروية عن ابن كثير.
واعلم أن
الاعتلال قد يلحق البناء الذي لا ينصرف ، ولا يدخله التنوين ؛ فيدخله التنوين بسبب
لحاقه ؛ فمن ذلك : " جواري" وبابها ومن ذلك رجل يسمى" بيرمي"
و" يعيلي" والوجه في ذلك في حال الرفع والجر أن يقال : " مررت بجوار"
و" هذه جوار يا فتى" و" مررت بيرم" ، " وهذا يرم يا
فتى" ومثاله من الصحيح : " مررت بضوارب" و" هؤلاء ضوراب"
و" مررت بيزيد"" وهذا يزيد" ، غير أن الياء لما انكسر ما
قبلها وأسكنت دخل البناء نقصان ، فلزمه هذا التغير ؛ لعلل سنذكرها في مواضعها إن
شاء الله تعالى.
فإذا اضطر
الشاعر فحرك هذه الياء في حال الرفع والجر لزمه أن لا يصرف إلا أن يضطر إلى الصرف
، فيجريه مجرى ما لا ينصرف إذا اضطر إلى صرفه ، فمن ذلك قول الفرزدق :
فلو كان عبد
الله مولى هجوته
|
|
ولكنّ عبد
الله مولى مواليا
|
__________________
وكان الوجه أن
يقول : مولى موال ويلغي الياء لسكونها وسكون التنوين ، فلمّا اضطرّ إلى تحريكها لم
يصرف لتمام حركات البناء المانع من الصرف.
وقال آخر :
قد عجبت مني
ومن يعيليا
|
|
لما رأتني
خلقا مقلوليا
|
أراد : " من
يعيل" والكلام فيه كالكلام في الذي قبله ؛ لأن" يعيلى" لا ينصرف
مثاله من الصحيح لأنه يفيعل ، وهو تصغير" يعلي".
وربما حملهم
على هذا الفرار من الزّحاف في الشعر ، وإن كان البيت يتقوم في الإنشاد على ما
ينبغي أن يكون عليه الكلام ؛ فمن ذلك قول المنتخل :
أبيت على
معارى فاخرات
|
|
بهن ملوّب
كدم العباط
|
ولو أنشد : على
معار ، لكان مستقيما غير أنه يصير مزاحفا ؛ لأن الجزء على" مفاعلتن" من
الوافر ، فيسكن خامسه ويصير على" مفاعيلن". ويسمى هذا الزحاف : العصب.
وذكر المازني أنه سمع أعرابيّا ينشد : أبيت على معار فاخرات ، واحتمل قبح الزحاف
لاستواء الإعراب.
وقال آخر :
ما إن رأيت
ولا أرى في مدّتي
|
|
كجواري يلعبن
في الصّحراء
|
فجمع بين
ضرورتين ، إحداهما : أنه كسر الياء في حال الجرّ ، والثانية : أنه صرف ما لا ينصرف
، وقد ينشد هذا البيت بالهمز : كجواري ، وأنا مبين ذلك في باب البدل من ضرورة
الشاعر إن شاء الله تعالى.
...
|
|
سماء الإله
فوق سبع سمائيا
|
فأتى بثلاثة
أوجه من الضرورة ، منها :
أن"
سماء" ونحوها يجمع على" سمايا" كما تجمع" مطيّة" على"
مطايا" و" خطيّة" على" خطايا" فجمعه على"
سمائي" كما تجمع" سحابة" على" سحائب" وإنما يجمع هذا
__________________
الجمع في الصحيح دون المعتلّ.
ثم حرّك الياء
في حال الجرّ ، وكان حكمه أن يقول : " سبع سماء" كما تقول : " سبع
جوار" بحذف الياء ، لدخول التنوين.
والثالث : أنه
جمع" سماءة" على" سمائي" كما تجمع" سحابة"
على" سحائب" ، والعرب لا تجمع" سماءة" على هذا الجمع ، إنما
تقول : " سماءة" و" سماء" كما تقول : " سمامة"
و" سمام" ، مثل" تمرة" و" تمر" و" سماوة"
و" سموات" ، كما تقول : " سمامة" و" سمامات".
على أن جماعة
من النحويين منهم يونس وعيسى بن عمر والكسائي يرون أن ما كان من المعتل الذي لا
ينصرف إذا سمّي به ، يجعل خفضه كنصبه من غير ضرورة ، بل هو الحق عندهم : فيقولون
في رجل اسمه" جوار" : " مررت بجوارى" قيل : ولا ضرورة عندهم
فيه.
ومن ذلك قطع
ألف الوصل ، وأكثر ما يكون في أوّل النصف الثاني من البيت.
قال حسان :
لتسمعنّ
وشيكا في دياركم
|
|
ألله أكبر يا
ثارات عثمانا
|
فقطع الألف في
قوله" الله أكبر".
وقال آخر :
ولا يبادر في
الشّتاء وليدنا
|
|
ألقدر ينزلها
بغير جعال
|
وكان بعض
النحويين يزعم أن الألف واللام للتعريف هما جميعا بمنزلة" قد" وأن الألف
قد كان حكمها أن لا تحذف في الكلام ، غير أنهم حذفوها لما كثرت استخفافا لا على
أنها ألف وصل. وقائل هذا ابن كيسان واحتج بقطعهم إياها في أوائل الأنصاف الأخيرة
من الأبيات.
ولا حجة له في
هذا عندي ؛ لأنهم قد يقطعون غير هذه الألف ، من ذلك قول الشاعر :
__________________
لا نسب اليوم
ولا خلّة
|
|
إتسع الخرق
على الرّاقع
|
فقطع ألف"
اتّسع" ، وليس هي مع اللام.
وإنما يكثر هذا
في النّصف الأخير ؛ لأنهم كثيرا يسكتون على النّصف الأول ، فيصير كأنّه مبتدأ.
قال قيس بن
الخطيم :
إذا جاوز
الإثنين سرّ فإنّه
|
|
بنشر وإفشاء
الحديث قمين
|
فقطع الألف
من" الاثنين" في حشو البيت قبل النصف الأخير.
فإن قال قائل :
إذا جاز في الشعر قطع ألف الوصل ، وهي زيادة ، فلم لا يجوز مد المقصور عندكم ، وقد
قلتم إنّ الذي أبطل مدّ المقصور أنه زيادة ، وليس للشاعر أن يزيد في الكلام ما ليس
منه؟
فإنّ الجواب في
ذلك : أنّ ألف الوصل قد يكون لها حال تثبت فيها وهي أن تكون مبتدأ بها ، فإذا
اضطرّ الشاعر ، ردّها إلى حال قد كانت لها ، كما يصرف ما لا ينصرف ، فيردّه إلى
أصله في الصرف ، وليس كذلك مدّ المقصور ؛ لأنه لا أصل له في ذلك. فاعرف ذلك إن شاء
الله تعالى.
وقد تزيد العرب
في الشعر ياء في الجمع ، فيما ليس حكمه أن يجمع بالياء نحو قولهم : " مسجد"
و" مساجيد" في الشعر و" درهم" و" دراهيم" و"
صيرف" و" صياريف".
قال الفرزدق :
تنفي يداها
الحصا في كل هاجرة
|
|
نفي
الدّراهيم تنقاد الصّياريف
|
وإنما الوجه في
الكلام : نفي الدراهم ، والصيارف ، وإنما زاد الياء هاهنا ؛ لأن دخولها في الجمع
في غير الضرورة على وجهين ؛ أحدهما : أن يكون الاسم الواحد على خمسة أحرف ، ورابعه
حرف من حروف المدّ واللّين ، فتقلبه ياء في الجمع ، كقولهم : " صندوق"
و" صناديق" و" قنديل" و" قناديل" و"
كرباس" و" كرابيس".
والوجه الثاني
: أن يكون الاسم الواحد على خمسة أحرف أو أكثر ، وليس رابعه
__________________
حرفا من حروف المدّ واللّين ، فيحذف من الواحد حرف ، حتى يبقى الاسم على
أربعة أحرف ، ثم يجمع ، فإذا جمع فأنت مخيّر بين التّعويض من المحذوف ، وبين تركه
؛ فمن ذلك أنك إذا جمعت" فرزدق" حذفت القاف منه ؛ لأنه على خمسة أحرف ،
فبقى" فرزد" فتجمعه على" فرازد" ، وإن شئت عوّضت من القاف
المحذوفة الياء ، فقلت : " فرازيد" ، وكذلك لو جمعت" منطلق"
جمع التكسير ، لجاز أن تقول : " مطالق" و" مطاليق" تعوّض
الياء من النون المحذوفة في" منطلق".
فإذا اضطر
الشاعر زاد هذه الياء التي تزاد للتعويض ، لأنهما جميعا ليس في أصلهما ياء فتكون
الضرورة بمنزلة التعويض.
ومن ذلك أنهم
يزيدون النّون الخفيفة والثقيلة في الشعر في غير الموضع الذي ينبغي أن تزاد فيه ،
وذلك أن موضع زيادتهما فيما لم يكن واجبا ؛ مثل الأمر والنهي والاستفهام والجزاء ،
كقولك : " اضربنّ زيدا" و" لا تأتينّ بكرا" و" هل تقومنّ
عندنا" و" إما تذهبنّ أذهب معك" و" لئن أتيتني
لأكرمنّك".
ولا يجوز أن
تقول : " أنا أقومنّ إليك" لأن هذا واجب ، وقد قال الشاعر ؛ ويقال إنّه
لجذيمة الأبرش :
ربّما أوفيت
في علم
|
|
ترفعن ثوبي
شمالات
|
في فتوّ أنا
رابئهم
|
|
من كلال غزوة
ماتوا
|
فأدخل النون
في" ترفعن" وهي واجبة.
وقال بعض
النحويين : إنما أدخلها في الموضع بسبب" ما" ؛ لأنها في لفظ"
ما" الجحد ، فأشبهت ـ وإن كانت موجبة ـ المنفيّ لفظا.
قال أبو سعيد :
وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن" ربّ" تدخل للتقليل ، وما كان مقلّلا فهو
كالمنفي ، حتى أنهم يستعملون" قلّ" في معنى ليس ؛ قال :
أنيخت فألقت
بلدة فوق بلدة
|
|
قليل بها
الأصوات إلا بغامها
|
أي ليس بها صوت
إلا بغامها ، فلما أشبهت" ربّ" بالتقليل الذي فيها المنفيّ ،
__________________
أدخلوا النون على الفعل الذي بعدها ، كما أدخلوها على ما بعد حرف النفي.
ومن ذلك أنهم
يقولون : " أنا" إذا وقفوا عليه ومنهم من يقول : " أنه" فإذا
وصلوا حذفوا الألف والهاء ، فقالوا : " أن قمت" بحذف الألف وفتح النون ؛
لأن الألف المزيدة إنما كانت لبيان حركة النون ، وكذلك الهاء ، فإذا وصلت بانت
الحركة ، فاستغني عن الألف.
وربما اضطر
الشاعر فيثبتها وهو واصل.
قال الشاعر :
أنا سيف
العشيرة فاعرفوني
|
|
حميد قد تذرّيت
السّناما
|
وقال الأعشى :
فكيف أنا
وانتحالي القواف
|
|
ي بعد المشيب
كفى ذاك عارا
|
وكان أبو
العباس ينكر هذا ، وينشد بيت الأعشى : " فكيف يكون انتحالي القوافي". ولم
ينشد البيت الأول.
فإن قيل : كيف
يكون هذا ضرورة ، وفي القرّاء من يثبت هذه الألف في الوصل ، فيقرأ : (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ) ، وما كان في القرآن ، مثله لا يقال له ضرورة.
قيل له : يجوز
أن يكون هذا القارئ وصل في نيّة الوقف ، كما قرأ بعضهم : (فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) و (ما أَدْراكَ ما هِيَهْ.
نارٌ حامِيَةٌ) ، فأثبتوا هاءات الوقف في الوصل ، على نية الوقف ، وإن
كان الفصل بين النطقين قصير الزمان.
باب الحذف
قال أبو سعيد :
اعلم أن الشاعر يحذف ما لا يجوز حذفه في الكلام ، لتقويم الشعر ، كما يزيد
لتقويمه.
__________________
فمن ذلك ما
يحذفه من القوافي الموقوفة من تخفيف المشدّد ، كقول امرئ القيس ؛ أو غيره :
لا وأبيك ابنة العامريّ لا يدّعي القوم أنّي أفر
وكقول طرفة :
أصحوت اليوم
أم شاقتك هر
|
|
ومن الحبّ
جنون مستعر
|
فأكثر الإنشاد
في هذا حذف أحد الحرفين ، لتتشاكل أواخر الأبيات ، ويكون على وزن واحد ؛ لأنك إذا
قلت : لا يدّعي القوم أنّي أفر ، صار آخر جزء من البيت : " فعل" في وزن
العروض ؛ لأنه من المتقارب من الضرب الثالث ، وإذا شددت الراء صار آخر
أجزائه" فعول" من الضرب الثاني من المتقارب ، فهو مضطرّ إلى حذف أحد
الحرفين ، لاستواء الوزن ، ومطابقة البيت لسائر أبيات القصيدة ، ألا تراه يقول بعد
هذا :
تميم بن مرّ
وأشياعها
|
|
وكندة حولي
جميعا صبر
|
فهذا من الضرب
الثالث لا غير ، ولم يكن بالجائز أن يأتي في قصيدة واحدة بأبيات من ضربين.
ومن ذلك :
تخفيف المشدّد وتسكينه ، مع حذف حرف بعده ، كقولهم في" معلّى" : " معل"
وفي" عنّى" : " عن". قال الشاعر وهو الأعشى :
لعمرك ما طول
هذا الزّمن
|
|
على المرء
إلا عناء معن
|
أراد معنّى ،
فحذف الياء وإحدى النونين :
وقال أيضا في
هذه القصيدة :
وعهد الشّباب
وثاراته
|
|
فإن يك ذلك
قد زال عن
|
يريد : عنّي.
وقال لبيد :
__________________
وقبيل من
لكيز شاهد
|
|
رهط مرجوم
ورهط ابن المعل
|
أراد :
المعلّي.
وأول هذه القصيدة
:
إنّ تقوى
ربّنا خير نفل
|
|
وبإذن الله
ريثي وعجل
|
وإذا كان ما
ذكرناه من الحذف جائزا ، فحذفهم ياء المتكلّم ، وتسكين ما قبلها أجوز ، كما قال
لبيد في البيت الذي أنشدته : " ريثي وعجل" ، أراد : عجلي.
وقد يحذفون
أيضا من القصائد المطلقة على إنشاد من ينشدها بالوقف ، الحذف الذي ذكرناه في
المقيد. قال النابغة :
إذا حاولت في
أسد فجورا
|
|
فإنّي لست
منك ولست من
|
أراد : مني ،
والقصيدة مطلقة ، وإنما هذا إنشاد بعضهم.
ومن ذلك
الترخيم ، والترخيم على ثلاثة أوجه ؛ أولها : ترخيم النداء ، وهو أن تحذف من آخر الاسم
المنادى تخفيفا ما تقف على تقصّيه في باب الترخيم ، غير أنا نذكر ما يتصل به ضرورة
الشاعر.
وهذا الترخيم
يجيء على ضربين ؛ أحدهما : أن تحذف من آخر الاسم المنادى ما يجوز حذفه ، ويبقى
سائر الاسم على حاله ، كقولك في ترخيم" حارث" : " يا حار"
وفي" حنظلة" : " يا حنظل" وفي" هرقل" : " يا
هرق" بتسكين القاف.
والضرب الثاني
: أن تحذف للترخيم ما يجوز حذفه ، وتجعل باقي الاسم كاسم غير مرخّم ، فتجريه في
النداء على ما ينبغي للاسم المفرد ، غير المرخم ، كقولك في" حارث" :
" يا حار" ، وفي" حنظلة" : " يا حنظل" وفي"
هرقل" : " يا هرق".
وهذا الترخيم
إنما يكون في النداء ، فإذا اضطر الشاعر ، فليس بين النحويين خلاف أنه جائز له في
غير النداء ، على أنه يجعله اسما مفردا ، ويعربه بما يستحقّه من الإعراب ، فيقول :
هذا حنظل ، و" مررت بحنظل" و" رأيت حنظلا".
__________________
قال الشاعر :
ألا هل لهذا
الدّهر من متعلّل
|
|
عن النّاس
مهما شاء بالنّاس يفعل
|
وهذا ردائي
عنده يستعيره
|
|
ليسلبني عزّى
أمال ابن حنظل
|
وقد اختلف
النحويون في الوجه الأوّل من الترخيم في غير النداء لضرورة الشعر ؛ كقولك : "
هذا حنظل قد جاء" و" هذا هرق قد جاء" و" مررت بهرق
وحنظل" تحذف آخره وتبقي ما قبل المحذوف على حاله ، فكان سيبويه وغيره من
المتقدمين البصريين والكوفيين يجيزونه ، وأنشدوا في ذلك أبياتا منها :
خذوا حذركم
يا آل عكرم واحفظوا
|
|
أواصرنا
والرّحم بالغيب تذكر
|
ففتح الميم
من" عكرم" ؛ لأن أصله عكرمة ، فحذف الهاء ، وبقّى الميم على حالها.
وأنشدوا أيضا :
ألا أضحت
حبالكم رماما
|
|
وأضحت منك
شاسعة أماما
|
أراد : أمامة ،
فحذف الهاء وبقّى الميم على حالها ، وهي غير مناداة.
وأنشدوا أيضا
لابن أحمر :
أبو حنش
يؤرّقني وطلق
|
|
وعبّاد وآونة
أثالا
|
فذكر سيبويه أن
أثالا معطوف على" أبو حنش وطلق" ، غير أنه قد حذف الهاء منه وأصله :
" أثالة" وبقّي الّلام على فتحها.
ومن ذلك :
ألا يا أمّ
فارع لا تلومي
|
|
على شيء رفعت
بهذا سماعي
|
أراد" فارعة".
وكان أبو
العباس محمد بن يزيد ينكر هذا ولا يجيزه في الشعر ، ويعلل الأبيات ، فذكر أن قوله
: " خذوا حظّكم يا آل عكرم" ، يذهب بعكرم مذهب القبيلة ، ففتح الميم ؛
لأنه لا ينصرف ، لا للترخيم.
__________________
وذكر أن
الرواية في البيت الثاني :
ألا أمست
حبالكم رماما
|
|
ولا عهد
كعهدك يا أماما
|
وذكر أن"
أثال" في بيت ابن أحمر ، معطوف على النون والياء في" يؤرّقني" ،
فموضعه نصب لذلك.
قال أبو سعيد :
والذي عندي في" أثال" غير ما قال الفريقان ، وهو أن" أثال" لم
يحذف منه هاء ؛ لأنّه ليس في الأسماء" أثالة" ، وإنما هو"
أثال". ولم ينصبه للعطف على النون والياء ، في" يؤرّقني" : لأن ابن
أحمر يبكي قوما من عشيرته ماتوا أو قتلوا ، فيهم أبو حنش وطلق وعبّاد وأثال ، فرفع
الأسماء المرفوعة بيؤرقني فدلّ يؤرّقني على أنه يتذكّرهم ؛ لأنهم لا يؤرقونه إلا
وهو يذكرهم ، فنصب" أثالا"" بأذكر" الذي قد دلّ عليه يؤرّقني
، وهذا قول أظن الأصمعي قاله في تفسير شعره.
ومثله :
إذا تغنّى
الحمام الورق هيّجني
|
|
ولو تعزّيت
عنها أمّ عمّار
|
نصب" أمّ
عمار" بفعل مضمر ، كأنه قال : فذكّرني أمّ عمار ؛ لأن التهيّج لا يكون إلا
بالذكر.
وأما قوله :
" ألا يا أمّ فارع" فلم يذكره أبو العباس.
والقول عندي ما
قاله سيبويه وسائر المتقدمين ؛ لعلتين ؛ إحداهما الرواية في" أماما" ،
والثانية : القياس ، وذلك أن هذا الترخيم أصل جوازه في النداء ، فإذا اضطّر الشاعر
إلى ذكره في غير النداء ، أجراه على حكمه في الموضوع الذي كان فيه ؛ لأن ضرورته في
النقل من موضع إلى موضع.
وأما قول ذي
الرّمّة :
ديار ميّة إذ
ميّ تساعفنا
|
|
ولا ترى
مثلها عجم ولا عرب
|
ففيه قولان ؛
أحدهما : أنه رخم" ميّة" للضرورة ، على ما تقدّم القول فيه. والثاني :
أن المرأة تسمى بميّ وميّة ، وهما اسمان لها ، فمرة يسمّيها بهذا ، ومرة يسمّيها
بهذا.
__________________
والوجه الثاني
من الترخيم : أن ترخّم الاسم ، فيبقى من حروفه ما يدلّ على جملة الكلمة من غير
مذهب ترخيم الاسم المنادى. وهذا أيضا من ضرورات الشعر. قال لبيد :
درس المنا
بمتالع فأبان
|
|
...
|
وقال علقمة بن
عبدة :
كأنّ إبريقهم
ظبى على شرف
|
|
مفدّم بسبا
الكتّان ملثوم
|
أراد : بسبائب
الكتان. وقال آخر :
عليّة ما
عليّة ما
|
|
عليّة أيّها
الرّجل
|
علّيّة
بالمدينة وال
|
|
مطا مرحولة
ذلل
|
يريد : المطايا.
ومنه أيضا :
قلنا لها قفي
لنا قالت قاف
|
|
لا تحسبي
أنّا نسينا الإيجاف
|
فاكتفى بالقاف
من" وقف". وقال آخر :
لو شئت
أشرفنا كلانا فدعا
|
|
الله جهرا
ربّه فأسمعا
|
بالخير خيرات
وإن شرّا فآ
|
|
ولا أريد
الشّرّ إلا أن تآ
|
وقوله : "
فآ" أراد : فأصابك الشّرّ ، وأطلق الهمزة بالألف ؛ لأنها مفتوحة.
قال أبو زيد :
فأراد فالشرّ إن أردت ، فأقام الألف مقام القافية. والذي ذكرته آثر في نفس ؛ لأن
فيه همزة مفتوحة. والذي ذكر أبو زيد ليس فيه همزة إلا أن تقطع ألف الوصل من الشر ،
وفيه قبح. وقوله : " إلا أن تآ" ، قال أبو زيد : أي إلا أن تشاء ، فحذف
الشين والألف ، واكتفى بالهمزة والتاء ، وأطلقها للقافية ، والهمزة مكسورة
من" تشائي" ؛ لأن الخطاب لمؤنث ، وهي مفتوحة من" تأ". وأحب
إليّ مما قاله ما قال بعضهم : " إلا أن تأبى الخير".
وقال العجاج :
قواطنا مكة من ورق الحمى
__________________
وهو يريد
الحمام ، فرخمها.
وفي كيفيّة
ترخيمها ثلاثة أوجه ؛ يجوز أن يكون حذف الألف والميم من الحمام ؛ للترخيم الذي
ذكرناه ، فبقى : " الحم" فخفضه وأطلقه للقافية.
والوجه الثاني
: أن يكون حذف الألف ، فبقي" الحمم" فأبدل من الميم الثانية ياء
استثقلالا للتضعيف ، كما قالوا في" تظنّنت" : تظنّيت ، وفي"
أمّا" : " أيما" ، ويحتمل أن يكون حذف الميم ، وأبدل من الألف ياء
، كما تبدل من الياء ألف ، كقولهم في" مداري"" مدارى"
وفي" عذاري" : " عذارى".
والوجه الثالث
من الترخيم ترخيم التصغير ، وهو جائز في الكلام وفي الشعر وهو أن تصغّر الاسم على
حذف ما فيه من الزوائد ، كقولهم في تصغير" أزهر" : " زهير" ،
وفي تصغير" حارث" : " حريث" ، وفي" فاطمة" : "
فطيمة" ولا حاجة بنا إلى استقصائه هاهنا ؛ لأن الشعر غير مختص به دون الكلام.
ومن ذلك قصر
الممدود ، وقد أجمع على جوازه النحويون ، غير أن الفراء يشرط فيه شروطا يهملها غيره
، فمن ذلك قول الراجز :
لا بدّ من صنعا وإن طال السّفر
وإنما هو :
" صنعاء" ممدود.
وقول الأعشى :
والقارح
العدّا وكلّ طمرّة
|
|
ما إن تنال
يد الطّويل قذالها
|
وإنما هو"
العداء" فعّال من العدو.
وقال شميت بن
زنباع :
ولكنما أهدي
لقيس هديّة
|
|
بفيّ من
اهداها لك الدّهر إثلب
|
وزعم الفراء
أنه لا يجوز أن يقصر من الممدود ما لا يجوز أن يجيء في بابه مقصورا ، نحو"
حمراء" و" صفراء" لا يجوز أن تجيء مقصورة ؛ لأن مذكّرها"
أفعل" ، وإذا كان المذكر" أفعل" لم يكن المؤنث إلا"
فعلاء" ممدودة. وكذلك لا يقصر" فقهاء" ، لأنه
__________________
جمع" فقيه" ، وما كان من" فعلاء" جمع" فعيل"
لم يكن إلا ممدودا ، نحو" كريم" ، و" كرماء" لم يجئ غير ذلك.
فقد منع القياس الذي ذكرنا مجيء الممدود الذي وصفناه مقصورا ، فلا يجوز عنده في
الشعر أن يجيء مقصورا ، وكذلك ما كان من المقصور له قياس يوجب قصره ، لم يجئ في
الشعر ممدودا عنده. وهو يجيز أن يمدّ المقصور ، وإنما يجيز قصر الممدود الذي يجوز
أن يجئ في بابه مقصورا ، نحو" الحداء" ، و" الدّعاء" ، لأنه
قد جاء" البكا" مقصورا أو نحو" الغطاء" و" الكساء"
و" العطاء" ؛ لأنها أسماء لأشياء لا يوجب القياس مدّها ، ولها نظائر
مقصورة نحو : " المعا" ، و" العصا" ، و" الهدى".
ولا يجيز أيضا مدّ" سكرى" ، و" غضبى" ؛ لأن مذكّرهما : "
سكران" و" غضبان" وهما يوجبان قصر مؤنثهما. ويجوز عنده مد"
الرّحا" و" العصا" ؛ لأن مثلهما في الأسماء" العطاء"
و" السّماء".
وأهل البصرة
يجيزون قصر كلّ ممدود ، ولا يفرقون بين بعضه وبعض ، ولا يجيزون مد المقصور إلا
الأخفش ومن تبعه. وكان الأخفش يجيز مدّ كلّ مقصور كما أجاز قصر كل ممدود من غير
استثناء ولا شرط.
والحجة في جواز
قصر كل ممدود على خلاف ما قال الفراء الأبيات التي أنشدناها ، وذلك أن قول الأعشى
: " القارح العدّا وكلّ طمرّة" لا يجوز أن يجيء في بابه مقصور ، وذلك
أنه" فعّال" لتكثير الفعل ، كقولك : " قتّال" و"
ضرّاب" ولا يجيء في هذا" فعّل" فيكون مقصورا من المعتل.
وقول شميت :
" بفيّ من اهداها" وهو مصدر من" أهدى يهدي". ولا يكون"
الإهداء" إلا ممدودا ، مثل" أكرم إكراما" و" أخرج
إخراجا" ولا يجيء في هذا الباب" إفعل" في مصدر" أفعل" ،
ليس في الكلام مثل : " أكرم إكرما" ، فيكون مثاله من المعتلّ مقصورا.
وذكر الفراء
قوله :
لا بدّ من صنعا وإن طال السّفر
فقال إنما
قصرها ؛ لأنّها اسم ، وليس بمنزلة" حمراء" التي لها مذكّر يمنع من قصرها
، ولم أره ذكر البيتين الآخرين ، على أنه قد أنشد في بعض شواهده قوله :
__________________
فلو أنّ
الأطبّا كان حولي
|
|
وكان مع
الأطبّاء الأساة
|
و"
الأطبّا" جمع" طبيب" والقياس يوجب مدّه ويمنع من قصره.
وأنشد الأخفش
وغيره من البصريين في مد المقصور قوله :
سيغنيني الذي
أغناك عنيّ
|
|
فلا فقر يدوم
ولا غناء
|
والغنى مقصور.
وليس له في ذلك
حجة من وجهين ؛ أحدهما : أن البيت يجوز إنشاده بفتح الغين : " فلا فقر يدوم
ولا غناء". و" الغناء" ممدود ، ومعناه معنى" الغنى".
ويجوز أن يكون" غناء" مصدر" غانيته" أي فاخرته بالغنى عنه ،
كما قال :
كلانا غني عن
أخيه حياته
|
|
ونحن إذا
متنا أشدّ تغانيا
|
أي غنيّ بعض عن
بعض.
وأنشد الفراء
أو غيره من الكوفيين في مد المقصور :
قد علمت أخت
بني السّعلاء
|
|
وعلمت ذلك مع
الجراء
|
أنّ نعم
مأكولا على الخواء
|
|
يا لك من تمر
ومن شيشاء
|
ينشب
في المسعل واللهاء
|
فمد"
السّعلا" وهو مقصور ، وكذلك : " الخواء". وهذه أبيات غير معروفة ،
ولا يعرف قائلها ، وغير جائز الاحتجاج بمثلها. ولو كانت صحيحة لم يعوزنا تأوّلها
على غير الوجه الذي تأوّلوه عليه.
فإن قال قائل :
ما الفرق بين جواز قصر الممدود ومد المقصور؟
قيل له : قصر
الممدود تخفيف ؛ وقد رأينا العرب تخفّف بالترخيم وغيره ، على ما تقدّم وصفنا له ،
ولم نرهم يثقّلون الكلام بزيادة الحروف ، كما يخفّفونه بحذفها ، فذلك فرق ما
بينهما ، وشيء آخر وهو أنّ قصر الممدود ، إنما هو حذف زائد فيه ، وردّه إلى أصله ،
ومد المقصور ليس برادّ له إلى أصل.
__________________
ومن ذلك حذف
النّون الساكنة من الحروف التي بنيت على السكون ، نحو" من" و"
لكن" وإنما تحذف لالتقاء الساكنين ، كما قال الشاعر :
فلست بآتيه
ولا أستطيعه ولاك
|
|
اسقني إن كان
ماؤك ذا فضل
|
أراد : ولكن
اسقني ، فلم يتّزن له.
ومنه قول
الأعشى :
وكأنّ الخمر
المدامة مل إس
|
|
فنط ممزوجة
بماء زلال
|
ومثله كثير في
الشعر ، وإنما ألقوها لالتقاء الساكنين ؛ لأن النون تشبه حروف المدّ واللّين ،
وحروف المدّ واللين تحذف لاجتماع الساكنين ، ومع ذلك فإنهم يحذفون التنوين الذي هو
علامة الصرف ، لاجتماع الساكنين وإن كان الاختيار فيه التحريك ، والتنوين نون
ساكنة ، فشبّهوا هذه النون التي وصفنا بالتنوين ، غير أن حذف التنوين لالتقاء
الساكنين جائز في الكلام وفي الشعر.
فأما في الكلام
: " فقد قريء : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ).
قال : وحدثني
غير واحد من أصحابنا عن أبي العباس محمد بن يزيد أنه سمع عمارة ابن عقيل يقرأ : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) فقلت له : لو قلت سابق النهار ، فقال : لو قلت سابق
النهار لكان أوزن ، يعني أثقل.
قال أبو سعيد :
حضرت أبا بكر بن دريد وقد أنشد أبياتا تنحل آدم ، وهي :
تغيّرت
البلاد ومن عليها
|
|
فوجه الأرض
مغبرّ قبيح
|
تغيّر كلّ ذي
لون وطعم
|
|
وقلّ بشاشة
الوّجه المليح
|
فقال أبو بكر :
أول ما قال أقوى. فقلت له : إنشاد البيتين على وجه لا يكون إقواء ، وإنما هو :
وقلّ بشاشة الوجه المليح ، على تقدير : وقلّ بشاشة الوجه المليح ، فطرح التنوين ،
لالتقاء الساكنين ، ومعنى : قلّ بشاشة الوجه المليح ، كمعنى : وقلّ بشاشة الوجه
__________________
المليح ، غير أنه نقل الفعل إلى الوجه ، ونصب بشاشة على التمييز ، كما قال
الله تعالى : (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) وإنما هو : واشتعل شيب الرأس ، غير أنه حوّل فعل الشّيب
إلى الرأس ، ونصب شيبا على التمييز. ويجوز أن يكون جعل بشاشة ، وهي مصدر ، في معنى
الحال ، فكأنّه قال : وقلّ باشّا الوجه.
ومما ينشد من
الشعر في حذف التنوين لالتقاء الساكنين قول حسان :
لو كنت من
هاشم أو من بني أسد
|
|
أو عبد شمس
أو أصحاب اللّوا الصّيد
|
أو من بني
زهرة الأخيار قد علموا
|
|
أو من بنى
خلف الخضر الجلاعيد
|
أراد : من بني
خلف الخضر.
وقال أبو
الأسود :
فألفيته غير
مستعتب
|
|
ولا ذاكر
الله إلا قليلا
|
وأنشد الفراء :
لتجدنّي
بالأمير برّا
|
|
وبالقناة
مدعسا مكرّا
|
إذا
غطيف السلميّ فرّا
|
أراد : غطيف
السّلمىّ.
وحذف التنوين
غير داخل في ضرورة الشّعر ؛ لالتقاء الساكنين. وإنما ذكرناه للفصل بينه وبين نون "من"
و "لكن" ؛ لأن حذفها لاجتماع الساكنين ، في ضرورة الشعر.
وقد رأيت بعض
من ذكر ضرورة الشعر أدخل فيه حذف التنوين وليس هو عندي كذلك. وكان أبو عمرو بن
العلاء يقرأ : (قالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ويذكر أنه اسم عربي ، وأنه حذف التنوين منه لالتقاء
الساكنين. فهذا أبو عمرو يختاره على غيره ويفسّره هذا التفسير ، فكيف يدخل في
ضرورة الشعر؟
ومن ذلك حذف
الياء في حالة الإضافة ومع الألف واللام ، تشبيها بحذفهم إيّاها مع التنوين كقولهم
"هذا قاض بغداد قد أقبل" ، في الشّعر ، و "هذا القاض". والوجه
في هذا أن يقال : "هذا قاضي بغداد قد أقبل" و "هذا القاضي".
__________________
وذلك أن قولنا
: هذا قاض ورام وغاز ، إنما حذفت منه الياء ؛ لأنها سكنت لاستثقال الضم والكسر
عليها ، ولقيت التنوين ، وهو ساكن ، فسقطت لالتقاء الساكنين ، فإذا أضيف زال
التنوين ، فعادت الياء ، غير أن الشاعر إذا اضطرّ حذفها تشبها بحذفهم لها مع
التنوين ، وذلك أن التنوين والإضافة يتعاقبان ، فكلّ واحد منهما يشبه صاحبه في
النيابة عنه والقيام مقامه.
وقال خفاف :
كنواح ريش
حمامة نجديّة
|
|
ومسحت
باللّثتين عصف الإثمد
|
ويقال : إن هذا
البيت مصنوع ، وما وجدته في شعر خفاف.
وأما حذف الياء
مع الألف واللام ، فإن سيبويه قد ذكره في باب ضرورة الشاعر فأنكره كثير من الناس
وقالوا : قد جاء في القرآن بحذف الياء في غير رؤوس الآي.
وقرأ به عدد من
القراء كقوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) وفي آي غيرها. وما جاء في القرآن وقرأت به القراء لم
يدخل مثله في ضرورة الشعر.
والذي أراد
سيبويه عندي غير ما ذهبوا إليه ، وذلك أن حذف الياء مما ذكرنا يتكلم به بعض العرب
، والأكثر على إثباتها كما قال كثير :
على ابن
العاصي دلاص حصينة
|
|
أجاد المسدّى
سردها وأذالها
|
فأثبت الياء
في" العاصي" فإنما أراد سيبويه أن الذين من لغتهم إثبات الياء يحذفونها
للضرورة ، تشبيها بالتنوين ، إذ كانت الألف واللام والتنوين يتعاقبان.
ومن ذلك هاء
الكناية المتصلة حكمها إذا اتصلت بحرف مفتوح أو مضموم أن تضم وتزاد عليها واو في
الوصل كقولك : " رأيتهو" و" ضربت غلامهو يا فتى".
وإذا اتصلت
بحرف مكسور كان فيه وجهان : إن شئت ضممتها وألحقتها واوا ، وإن شئت كسرتها
وألحقتها ياء ، كقولك" مررت بغلامهي وغلامهو يا فتى".
__________________
وإنما ألحقوها
هذه الواو والياء ؛ لأن الهاء خفيّة ، فأرادوا إبانة حركتها ، والأصل فيها الضم ،
وسوف نشرح هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإذا كان قبلها
ساكن فأنت بالخيار : إن شئت ألحقت واوا أو ياء فيما كان قبل الهاء منه ياء وألحقت
واوا فيما كان قبل الهاء منه غير الياء ، وإن شئت لم تلحق ، كقولك : " عليه"
و" عليهي" و" عليه" و" عليهو" و" منه"
و" منهو" وكلاهما جيد بالغ. وإذا وقفت على ذلك أجمع كان ساكنا.
ولا يجوز حذف
الواو والياء مما قبله متحرك إلا في الشعر كقول الشاعر :
أو معبر الظّهر
ينبي عن وليّته
|
|
ما حجّ ربّه
في الدنيا ولا اعتمرا
|
وقال آخر :
وأيقن أنّ
الخيل إن تلتبس به
|
|
يكن لفسيل
النّخل بعده آبر
|
فهولاء حذفوا
الواو فقط وبقوا ضمة الهاء. وقال الآخر :
فإن يك غثّا
أو سمينا فإنّني
|
|
سأجعل عينيه
لنفسه مقنعا
|
والوجه أن يقول
: " لنفسهي" فحذف الياء ، وبقّى الكسرة على حالها.
وإنما جاز حذف
هذه الحروف ؛ لأنها زوائد تسقط في الوقف.
فإن قال قائل :
فهلا أجزتم حذف التنوين مما ينصرف ؛ لأنه زائد لا يثبت في الوقف ، كما أجزتم حذف
الواو والياء من الهاء؟
قيل له : الفرق
بينهما بيّن ، وهو أن الياء والواو اللاحقتين بالهاء إنما أريد بهما بيانها في
اللفظ ، فإذا وصل الكلام قام ما بعدها مقام الياء والواو في إبانتها ، وإن كانتا
أبلغ في البيان ، ومع ذلك فإن حذفهما لا يخلّ بمعنى ولا يدخل شيئا في غير بابه ،
وما ينصرف متى ترك صرفه دخل في غير بابه ، ووقع اللبس ، فلم يشبه حذف الواو ترك
الصرف.
وربما اضطر
الشاعر فحذف الحركة أيضا. قال :
فظلت لدى
البيت العتيق أخيله
|
|
ومطواي
مشتاقان له أرقان
|
__________________
وأقبح من هذا
حذف الواو والياء من" هو وهي" وذلك أن الواو والياء فيهما متحركتان
يثبتان في الوقف. قال :
دار لسلمى إذه من هواكا
أراد : إذ هي
من هواكا.
وقال آخر :
فبيناه يشري
رحله قال قائل
|
|
لمن جمل رخو
الملاط نجيب
|
أراد : فبينا
هو يشرى.
وقال آخر :
بيناه في دار
صدق قد قام بها
|
|
حينا يعلّلنا
وما نعلّله
|
أراد : بينا
هو.
ومن ذلك أنهم
يحذفون الواو الساكنة والياء الساكنة إذا كان قبلها ضمة أو كسرة ، فيكتفون بالضمّة
من الواو وبالكسرة من الياء ، سواء كانت الواو ضميرا أو لم تكن ، نحو قول الشاعر :
فلو أنّ
الأطبّا كان حولي
|
|
وكان مع
الأطبّاء الأساة
|
أراد : " كانوا"
، فاكتفى بالضمّة من الواو.
وربما وقع مثل
هذا في آخر بيت مقيّد ، فتحذف الواو ويسكن ما قبلها : كقول الشاعر :
لو أنّ قومي
حين أدعوهم حمل
|
|
على الجبال
الصّمّ لا رفضّ الجبل
|
فهذا البيت فيه
وجهان : أحدهما أن يكون أراد" حمل" على لغة من يحذف الواو فيكتفي بالضمة
، فلما وقف سكّن.
والوجه الثاني
أن يكون أراد : لو أن من أدعو من قومي حين أدعوه حمل ، وكان تقدير اللفظ فيه : لو
أنّ جمع قومي حين أدعوهم حمل ، فحذف جمع ، وأقام مقامه القوم ووحّد على لفظه.
__________________
ومما يشبه هذا
قوله :
كفّاك كف ما
تليق درهما
|
|
جودا وأخرى
تعط بالسّيف الدّما
|
أراد : تعطي ،
فحذف الياء واكتفى بالكسرة منها.
وأما قوله :
اضرب عنك
الهموم طارقها
|
|
ضربك بالسّوط
قونس الفرس
|
فإن الخليل
يقول في هذا : إنّه حذف النون الخفيفة منه ؛ أراد" اضربا عنك". فحذف
النون لأنها زائدة ، وحذفها لا يخلّ بمعنى ، ولا يدخل شيئا في غير بابه ، كما
ذكرنا في حذف الياء والواو من هاء الضمير. وقال الفرّاء : أراد : اضرب عنك. فكثر
السواكن ، فحرك للضرورة ، فهذا على قول الخليل من باب الحذف ، وعلى قول الفرّاء من
باب الزيادة.
ومما يشبه
الترخيم قول الشاعر :
أو راعيان
لبعران لنا شردت
|
|
كي لا يحسّان
من بعراننا أثرا
|
أراد : " كيف
لا يحسّان". ولا يجوز أن يكون في معنى : " كي" ؛ لأن الراعيين لم
يفعلا شيئا كيلا يحسّا أثرا من البعران.
ومن ذلك حذف
الفاء في جواب الشرط كقولك : " إن تأتني أنا أكرمك" تريد : فأنا أكرمك.
قال الشاعر :
يا أقرع بن
حابس يا أقرع
|
|
إنّك إن يصرع
أخوك تصرع
|
أراد : فتصرع.
وقال آخر :
من يفعل
الحسنات الله يشكرها
|
|
والشّرّ عند
الله مثلان
|
أراد : فالله
يشكرها.
وإنما كانت
الفاء واجبة هاهنا ؛ لأن جواب الشرط متى كان جملة أو فعلا مرفوعا لم
__________________
يكن بدّ من الفاء ؛ لأنهما إنما أتي بها لئلا يتسلط ما قبلها على ما بعدها
، ألا ترى أنك تقول : " إن تقم أقم" فتجزم" أقم" بما تقدم ،
ولو أدخلت الفاء عليها بطل جزمها ، لا تقول." إن تقم فأقم" فحذف الفاء
مع الحاجة إليها لما ذكرنا من ضرورة الشعر.
وقد كان سيبويه
يجيز هذا الوجه ، ويجيز أيضا تقدير الجواب على تقديم اللفظ ، كأنه قال : تصرع إن
يصرع أخوك.
وكان الأصمعي
ينشد :
" من يعمل الخير فالرحمن يشكره"
وكان أبو
العباس محمد بن يزيد يأبى أن يقدر الجواب مقدما ؛ لأنه قد وقع في موقعه الذي ينبغي
له ؛ والشيء إذا وقع في موقعه لم ينو به التقديم.
ومثله :
فقلت تحمّل
فوق طوقك إنّها
|
|
مطبّعة من
يأتها لا يضيرها
|
أي فلا يضيرها.
واستقصاء هذا
والاحتجاج لسيبويه في إجازة الوجهين له موضع ستقف عليه ، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك حذفهم
الفتحة من عين" فعل" كقولهم في" هرب" : " هرب"
وفي" طلب"" طلب". قال الراجز ، أنشده الأصمعي :
على محالات
عكسن عكسا
|
|
إذ تسدّاها
طلابا غلسا
|
أراد : غلسا.
وليس في وجه
الكلام ؛ لأن الفتحة غير مستثقلة ، وإنما يفعلون مثل ذلك في الضمة والكسرة ؛
كقولهم في" فخذ" : " فخذ" وفي" عضد" : " عضد".
ولا يقولون في : " جبل" : " جبل" ، ولكنهم قد يضطرون فيفتحون
الساكن ، كما تقدم ذكرنا له من قولهم في : " خفق" : " خفق" ،
وفي" حشك" ؛ " حشك" ، فلما زادوا هذه الفتحة على الساكن ،
والسكون أخف من الفتح ، كان حذف الفتحة أجدر ؛ لأنهم يحلّونه بالحذف محلا له هو
أخف من محلّه.
__________________
ومن ذلك : حذف
الضمّة والكسرة في الإعراب : كقولهم : " قام الرّجل إليّك" ، وذهبت
جاريتك و" أنا أذهب إليه". وكان سيبويه يجيز هذا ، وأنشد فيه أبياتا ،
وأنشد غيره أيضا ممن يوافقه على هذا الرأي ؛ فمما أنشد سيبويه في ذلك قول امرئ
القيس :
فاليوم أشرب
غير مستحقب
|
|
إثما من الله
ولا واغل
|
فسكّن الباء
من" أشرب". والوجه أن يقول : " أشرب" بالرفع.
وقال أبو نخيلة
:
إذا اعوججن
قلت صاحب قوّم
|
|
بالدّوّ
أمثال السّفين العوّم
|
ولم يقل :
" صاحب" ، ولا" صاحب" ، وهما الوجه.
وقال :
وأنت لو باكر
مشمولة
|
|
صهباء مثل
الفرس الأشقر
|
رحت وفي
رجليك ما فيهما
|
|
وقد بدا هنك
من المئزر
|
وقال : " هنك"
وسكّن النون.
وقال لبيد :
ترّاك أمكنة
إذا لم أرضها
|
|
أو يرتبط بعض
النّفوس حمامها
|
وقال جرير :
ما للفرزدق
من عزّ يلوذ به
|
|
إلا بنو
العمّ في أيديهم الكرب
|
سيروا بني
العّمّ فالأهواز منزلكم
|
|
ونهر تيري
فما تعرفكم العرب
|
والوجه :
" فما تعرفكم".
قال سيبويه : " شبهوا هذه
الضّمّات والكسرات المحذوفة بالضمة من عضد ، والكسرة من فخذ ، حين قالوا : عضد
وفخذ ، غير أن حذفها من عضد وفخذ حسن مطّرد في الشّعر والكلام جميعا ؛ من قبل أنّه
لا يزيل معنى ولا يغيّر إعرابا ، وفيما
__________________
ذكرناه
يزول الإعراب الذي تنعقد به المعاني ، إلا أنه شبّه اللفظ باللّفظ".
وكان أبو
العباس محمد بن يزيد والزجاج ينكران هذا ؛ ويأتيان جوازه وينشدان بعض ما أنشدنا ،
على خلاف الرّواية التي ذكرنا ؛ فأما بيت امرئ القيس فأنشداه :
فاليوم أسقى
غير مستحقب
|
|
و"
فاليوم فاشرب غير مستحقب
|
وأما بيت أبي
نخيلة فأنشداه :
إذا اعوججن قلت صاح قوّم.
وأنشدا موضع :
هنك من
المئزر :
|
|
وقد بدا ذاك
من المئزر
|
وموضع : فما
تعرفكم العرب : فلم تعرفكم
وأما بيت لبيد
فإن الجزم فيه صحيح ؛ لأن المعنى : تراك أمكنة إذا لم أرضها وإذا لم يأتني
موتي". وأراد بالموت هاهنا أسباب الموت التي لا يمكن معها براح المكان
ومفارقته من العلل الحابسة له والضرورات الدافعة إلى المقام ، وقد تسمّى أسباب
الموت موتا ؛ قال الله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).
وقد يجوز أن
يكون الجزم أيضا على المجاورة للمجزوم ، كما قالوا : " هذا جحر ضبّ خرب"
و" يرتبط" لو حرّك كان منصوبا على التأوّل الذي تأوّله من يرى تسكينه
للضرورة ، ويجعل" أو" في معنى" حتى" وإلى أن ؛ كأنه قال : حتى
يرتبط بعض النفوس حمامها ، أو" إلى أن يرتبط". وهو يعني نفسه.
قال أبو سعيد :
والقول عندي ما قاله سيبويه في جواز تسكين حركة الإعراب للضرورة ؛ وذلك أنّا رأينا
القراء قد قرءوا : (ما لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) وخطه وكتابه في المصحف بنون واحدة ، ووافقهم النحويون
على جواز الإدغام فيه وفي غيره ،
__________________
مما تذهب فيه حركة الإعراب للإدغام. فلما كانت حركة الإعراب يجوز ذهابها
للإدغام ، طلبا للتخفيف ، صار أيضا ذهاب الضّمّة والكسرة طلبا للتخفيف ، وليس لقول
من يأبى ذلك ، ويحتج في فساده بأنه تذهب منه حركة الإعراب ـ معنى ؛ لأن الإدغام
أيضا يذهب حركة الإعراب.
وقد حكى قوم من
النحويين أن كثير من العرب يسكنون لام الفعل ، إذا اتصلت بها الهاء والميم ، أو
الكاف والميم ، كقولهم : " أنا أكرمكم" و" أعظّمكم".
وقد حكي عن بعض
القراء :
(إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ)(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ). وهذا يدل على جواز ما قلناه ويقويه.
ومن ذلك أيضا
أنهم يدخلون جزما على جزم ، إذا لم يلتق فيه ساكنان ، وذلك أنهم يجزمون : " يشتري"
و" يتّقي" ، فيسقطون الياء.
وربما اضطر
الشاعر ، فحذف الكسرة التي تبقى بعد حذف الياء.
فيقول : "
لم يشتر زيد شيئا" و" لم يتّق زيد ربّه".
وذلك أنه قد
رأى المجزوم مسكّنا للجزم ، والجازم يوجب ذلك ، فلما كان" يشتري"
و" يتّقي" لا سبيل فيه إلى التسكين إلا بحذف الياء ، ثم تسكين ما قبلها
، جعل الحذف والتسكين جميعا علامة الجزم ؛ لأن التسكين لا يحصل إلا بهما ، وقد
يجوز أن يكون هذا على لغة من يحذف الياء في الرفع ، ويكتفي بكسرة ما قبلها ، كقوله
تعالى : (ذلِكَ ما كُنَّا
نَبْغِ) ، فلما جزم حرفا متحرّكا سكّنه. قال الراجز أنشده أبو
زيد في نوادره :
قالت سليمى
اشتر لنا دقيقا
|
|
وهات خبز
البّرّ أو سويقا
|
آخر :
ومن يتّق
فإنّ الله معه
|
|
ورزق الله
موتاب وغادي
|
__________________
ومن ذلك أنهم
قد يجرون هاء التأنيث في الوصل مجراها في الوقف ، فلا يقلبونها تاء ، ولا سبيل إلى
هذا إلا بالتسكين ؛ لأنهم متى حرّكوا وجب القلب قال الشاعر :
لمّا رأى أن
لادعه ولا شبع
|
|
مال إلى
أرطاة حقف فاضّطجع
|
وقال آخر :
لست إذا
لزعبله إن لم أغيّر
|
|
بكلتي إن لم
أساو بالطّول
|
ومن الحذف :
إقامتهم الصفة مقام الموصوف في الشّعر في الموضع الذي يقبح في الكلام مثله.
قال الشاعر :
فيا الغلامان
اللّذان فرّا
|
|
إياكما أن
تكسباني شرّا
|
أراد : فيا
أيّها الغلامان ، فأقام : " الغلامان" مقام" أيّ" وقبح هذا ؛
لأنّ حرف النداء لا يليه ما فيه الألف واللام ، لأنه يعرّف المنادى إذا قصد ، والألف
واللام يعرّفانه ؛ فلا يجتمع تعريفان في اسم واحد. ومثله :
من أجلك يا
التي تيّمت قلبي
|
|
وأنت بخيلة
بالودّ عنّي
|
يريد : " يا
أيتها التي".
وأما قوله :
إني إذا ما
حدث ألمّا
|
|
دعوت يا
اللهم يا اللهمّا
|
فليس هذا من
ضرورته ، يعني : إدخال" يا" على اسم الله تعالى ، وإنما الضرورة الجمع
بين" يا" وبين" الميم" في هذا الاسم ، وذلك أن العرب لا تنادي
اسما فيه الألف واللام إلا اسم الله تعالى ، فيقولون : " يا الله اغفر
لي" ويبدلون الميم في آخره من حرف النداء عوضا ، فيقولون : " اللهمّ
اغفر لنا" ، فإذا اضطرّ الشاعر ردّ الحرف المحذوف ، مع وجود عوضه. وقد مر نحو
من هذا.
ومن ذلك :
إقامتهم الفعل في موضع الاسم ، إذا كان الفعل نعتا ؛ كما قال النابغة :
__________________
كأنّك من
جمال بني أقيش
|
|
يقّعقع خلف
رجليه بشنّ
|
أراد : جمل
يقعقع. وقال آخر :
لو قلت ما في
قومها لم تيثم
|
|
يفضلها في
حسب وميسم
|
أراد : أحد
يفضلها.
وهذا الحذف
يحسن ويكثر مع" من" كقولك : " منّا ظعن ومنّا أقام" في الكلام
والشعر ، وذلك أنهم جعلوا" من" بمعنى" البعض" ، فكأنك قلت :
" بعضنا ظعن وبعضنا أقام". قال الله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا
عَلَى النِّفاقِ). أي بعض أهل المدينة.
باب البدل
قال أبو سعيد :
اعلم أنهم يبدلون الحرف من الحرف في الشعر في الموضع الذي لا يبدل مثله في الكلام
لمعنى يحاولونه من تحريك ساكن أو تسكين متحرك ؛ ليستوي وزن الشّعر به ، أو ردّ شيء
إلى أصله أو تشبيه بنظيره ؛ فمن ذلك قول شميث بن زنباع في قصيدته :
فأقسم لو
لاقى هلالا وتحته
|
|
مصكّ كذئب الرّدهة
المتأوّب
|
لأدّاها كرها
وأصبح بيته
|
|
لديه من
الإعوال نوح مسلّب
|
ولكنّما أهدي
لقيس هديّة
|
|
بفيّ من
اهداها لك الدّهر إثلب
|
فهمز الألف
في" أدّاها" ؛ لأنه لو تركها
ساكنة لم يستقم
البيت.
ومثله :
قد كان يذهب
بالدّنيا ولذّتها
|
|
مواليء ككباش
العوس سحّاح
|
ويروى : شحّاح
، فهمز الياء من" موالى" لاستقامة البيت.
ومثله :
__________________
يا عجبا لقد
رأيت عجبا
|
|
حمار قبّان
يسوق أرنبا
|
خاطمها
زأمّها أن تذهبا
|
فهمز : زأمّها
، والأصل فيه : زامّها ، فهمز الألف ليمكّن دخول الحركة عليها ، وإنما همزها دون
أن يبدلها حرفا آخر ؛ لأن أقرب الحروف من الألف الهمزة ، وربما تكلّم بعض العرب
بمثل هذا فرارا من التقاء الساكنين ، كنحو" دأبة" و" ضألّ" ؛
لأن الألف ساكنة ، والحروف الأول من الحرف المشدّد ساكن ، فيكرهون الجمع بين
ساكنين.
وروي عن أبي
زيد أنه قال : صلّيت خلف عمرو بن عبيد في الفجر فقرأ : (وَلَا الضَّالِّينَ) فقلت : ولم فعلت هذا؟ فقال : كرهت أن أجمع بين ساكنين.
ومن ذلك قوله :
لها أشارير
من لحم تتمّره
|
|
من الثّعالي
ووخز من أرانيها
|
أراد : " أرانبها"
و" من الثعالب" غير أنه كره إبقاء الباء في الحرفين ، فيلزمه تحريكها ،
وتحريكها يكسر الشعر ، فأبدل منها حرفا لا يحرّك ، وشبّهها بقولهم : " تظنّيت"
و" تقصّيت" في معنى : " تظنّنت" و" تقصّصت" ،
أبدلوا ياء من الحرف الأخير ، لما كرهوا التضعيف ، وكذلك أبدلوا" ياء"
مما ذكرنا لما احتاجوا إلى استقامة الوزن وسلامة الإعراب.
ومثله :
وبلدة ليس
لها حوازق
|
|
ولضفادي
جمّها نقانق
|
أراد : ولضفادع
جمّها.
ومن ذلك قولهم
:
والله أنجاك
بكفّي مسلمه
|
|
من بعد ما
وبعد ما وبعدمه
|
فأبدل الألف
هاء في" بعدمه" ؛ لأنّهما متقاربتا المخرج ، وهما بعد من حروف الزيادة ،
والهاء شبيهة بالألف ، ألا ترى أنه يفتح ما قبلها في التأنيث ، كما أن الألف
__________________
لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا.
ومن ذلك قول
الفرزدق :
راحت بمسلمة
البغال عشيّة
|
|
فارعى فزارة
لا هناك المرتع
|
وأراد : "
لا هنأك المرتع" فقلب الهمزة ألفا ، حين احتاج إلى تسكينها ، كما تقلب الألف
همزة إذا احتاج إلى تحريكها.
ومثله :
ولا يرهب ابن
العمّ ما عشت صولتي
|
|
ولا أختتي من
صولة المتهدّد
|
وإنّي وإن
أوعدته أو وعدته
|
|
لمخلف إيعادي
ومنجز موعدي
|
أراد : " ولا
أختتئ" فقلب من الهمزة ياء حين احتاج إلى تسكينها.
وإنما جعلنا
هذا في ضرورة الشعر ؛ لأن الهمزة المتحرّكة إذا كان قبلها فتحة ، أو كانت مضمومة
وقبلها كسرة ، كان تليينها أن تجعل بين بين ، ولا تبطل حركتها ، وقد تبطل حركتها
في مواضع غير هذه ، وستقف عليها إن شاء الله تعالى. وأما قول حسان :
سالت هذيل
رسول الله فاحشة
|
|
ضلّت هذيل
بما قالت ولم تصب
|
وقول الآخر :
سالتاني
الطّلاق أن رأتاني
|
|
قلّ ما لي قد
جئتما بنكر
|
ويكأن من يكن
له نشب يح
|
|
بب ومن يفتقر
يعش عيش ضرّ
|
فإن هذا ليس من
تخفيف الهمز ، وذلك أن من العرب من يقول : " سلته أساله" ، " وهما
يتساولان" فلا يهمز ، وإنما أتى به الشاعر غير مهموز على هذه اللغة.
قال أبو العباس
محمد بن يزيد : ومن أقبح الضرورات التي ينبغي أن لا يجوز مثلها ولا تصح ، أبيات
تروي عن بعض المتقدمين :
إذا ما المرء
صمّ فلم يناج
|
|
ولم يك سمعه
إلا ندايا
|
ولا عب
بالعشيّ بني بنيه
|
|
كفعل الهرّ
يلتمس العطايا
|
__________________
يلاعبهم
وودّوا لو سقوه
|
|
من الذّيقان
مترعة ملايا
|
فأبعده الإله
ولا يؤبّى
|
|
ولا يشفى من
المرض الشّفايا
|
فقال أبو
العباس : هذه أبيات لو أنشدت على الصواب لم تنكسر ، فلا وجه لإجازتها.
قال أبو سعيد :
وقد ذكرها المازنيّ ولم يطعن في روايتها ، وقال : جعلوا ألف الإطلاق بمنزلة هاء
التأنيث ، وأنت تقول في هاء التأنيث : " عظاية" و" شكاية"
و" نهاية".
قال أبو سعيد :
عندي في جوازها وجه آخر ، وهو أنه لما أدخل ألف الإطلاق وقعت الهمزة بين ألفين ،
والهمزة تشبه الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فاستثقل ذلك ، فقلب من الهمزة ياء
، كما فعلوا ذلك" بخطايا" و" مطايا" وقد كان : " خطاأا""
مطاأا" قبل أن تقلب ياء.
ووجه آخر ، وهو
أن الكسائي حكى أن بعض العرب يقلب من الهمزة ياء في التثنية ، وبعضهم يقلبها واوا
، وبعضهم يدعها همزة على حالها ؛ كقولهم في تثنية" رداء" : " رداءان"
و" ردايان" و" رداوان" ، فشبه الشاعر ألف الإطلاق بألف
التثنية.
ومن ذلك بدل
أسماء الأعلام ، وهو يجيء في الشعر على ثلاثة أوجه : وجه جائز في الشعر والكلام ،
ووجه جائز في الشعر دون الكلام ، ووجه لا يجوز في الشعر ولا في الكلام.
فأما ما يجوز
في الشعر والكلام ، فنحو تصغير الاسم العلم الذي يعرف بغير التصغير ؛ كقولهم
في" عبد الله" : " عبيد الله" ، وفي" زيد" : "
زبيد". وهذا جائز في الشعر والكلام.
قال الراعي :
ولا أتيت
نجيدة بن عويمر
|
|
أبغي الهدى
فيزيدني تضليلا
|
أراد : " نجيدة
بن عامر الخارجي". وقد ينشد هذا البيت على التكبير : " ولا أتيت نجدة بن
عامر" وهو مزاحف جائز.
__________________
وقال النابغة
في هذا :
مقرّنة
بالعيس والأدم كالقطا
|
|
عليها الخبور
محقبات المراجل
|
وكلّ صموت
نثلة تبّعيّة
|
|
ونسج سليم
كلّ قضّاء ذائل
|
أراد سليمان ،
فإمّا أن يكون رخّم ، فأسقط الألف والنون ، كما تقدّم من حكم الترخيم ، وإما أن
يكون صغّر تصغير الترخيم ، وهو أن تحذف منه الزوائد ، ثم يصغّر. والزوائد في"
سليمان" الياء والألف والنون ، فحذفن كلّهن ، ثم صغّر ما بقي ، كما يقال
في" عمران" : " عمير" ، وفي" أزهر" : " زهير"
بحذف الزوائد.
وأما ما يجوز
في الشعر ، ولا يجوز في الكلام فأن يبدل اسم من الاسم المعروف به ، كما
أبدلوا" معبدا" من" عبد الله" ، و" سلّاما"
من" سليمان" على غير قياس يوجب ذلك. قال الحطيئة :
وما رضيت لهم
حتّى رفدتهم
|
|
من وائل رهط
بسطام بأصرام
|
فيه الرّماح
وفيه كلّ سابغة
|
|
بيضاء محكمة
من نسج سلّام
|
أراد : " سليمان"
عليهالسلام.
وقال دريد بن
الصمة يرثي أخاه عبد الله.
فإن تنسأ
الأيّام والدّهر تعلموا
|
|
بني قارب
أنّا غضاب بمعبد
|
ثم قال :
تنادوا
فقالوا أردت الخيل فارسا
|
|
فقلت أعبد
الله ذلكم الرّدي
|
فسمّاه"
معبدا" واسمه" عبد الله" ؛ لأنه رجع إلى معنى العبودة ، وكذلك سمى
الحطيئة" سليمان"" سلّاما" ؛ لأن سليمان وسلّاما اشتقاقهما من
السلامة.
وأما ما لا
يجوز في الشعر ولا في الكلام ، فالغلط الذي يغلطه الشاعر في اسم أو غيره مما يظن
أن الأمر فيه على ما قال : كقوله :
والشّيخ عثمان أبو عفّان
__________________
فظن أن"
عثمان" يكنى" أبا عفّان" ؛ لأن اسم أبيه" عفّان" ، وإنما
هو" أبو عمرو" ، فهذا مما لا يجوز.
وكقول آخر :
مثل النّصارى قتلوا المسيحا
وإنما اليهود
على ما قالت النّصارى قتلوا المسيح ، وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ).
وموضع الإنكار
على الشاعر أن الذين اعتقدوا قتله اعتقدوا أن الذين قتلوه هم اليهود ، غير أنه ظنّ
لما كان اليهود والنّصارى مخالفين للإسلام وجاحدين لمحمد صلىاللهعليهوسلم أنهم جميعا مشتركون في سائر من ينكرونه من الأنبياء.
ومثل هذا كثير
في الشّعر ، وربما جاء منه ما يظن بعض الناس أنه غلط ، وعند غيره ليس بغلط ، كقول
زهير :
فتنتج لكم
غلمان أشأم كلّهم
|
|
كأحمر عاد ثم
ترضع فتفطم
|
فقال الأصمعي وغيره
من أهل اللغة : إنه غلط في قوله : " كأحمر عاد" ، وإنما هو : " أحمر
ثمود" الذي عقر الناقة ، فنزل العذاب على قومه بعقره ، وصار مشؤوما عليهم.
والعرب تضرب به
المثل وتذكره.
قال أمية بن
أبي الصلت يصف عاقر الناقة :
فأتاها أحيمر
كأخي السهّ
|
|
م بعضب فقال
كوني عقيرا
|
أي فعقرها ،
يعني الناقة.
وقال بعض أهل
اللغة ، العرب تسمي" ثمود"" عادا الآخرة" ، وتسمي قوم
هود" عادا الأولى" ؛ لأن ثمود هي عاد الأخرى ، فقول زهير صحيح على هذا.
وفي نحو هذا
قول أبي ذؤيب :
فجاء بها ما
شئت من لطميّة
|
|
يدوم الفرات
فوقها ويموج
|
فقال الأصمعي :
هذا غلط ؛ وذلك أنه ظنّ أن الّلؤلو يخرج من الماء العذب ، لبعده
__________________
عن مواضع اللؤلؤ. ومعنى يدوم الفرات فوقها ويموج ، أي يسكن مرة ويهيج أخرى
بالريح أو زيادة الماء.
وذكر بعض أهل
اللغة أن هذا صحيح ، وأن الأصمعي هو الغالط ، وكيف يذهب هذا على أبي ذؤيب ، وهو من
هذيل ، ومساكنهم جبال مكّة المطلّة على البحر ومواضع اللؤلؤ؟ وإنما أراد أبو ذؤيب
بالفرات هاهنا ماء اللؤلؤة الذي قد علاها ، وجعله فراتا ؛ إذ كان أعلى المياه ما
كان فراتا. وقوله : يدوم الفرات ، أي يسكن ويموج ، أي يضطرب ، وإنما أراد أنه يسكن
في عين النّاظر مرّة ويضطرب أخرى لصفائها وبريقها ، وأن الماء هو ماء اللؤلؤة.
وكقول امرئ القيس :
كبكر
المقاناة البياض بصفرة
|
|
غذاها نمير
الماء غير محلّل
|
ذكر بعض أهل
اللغة أنّ" البكر" هاهنا الّلؤلؤة ، وجعلها بكرا لأنها أول شيء يخرج من
الصدف ، وذكروا أنّ اللؤلؤة الكبيرة النفيسة تكون في طرف الصّدفة ، فأول ما تشقّ
تخرج ، فلذلك سمّيت بكرا.
وأما قوله :
" غذاها نمير الماء" ـ والنمير : العذب المشروب ـ فإنه لم يرد أنها في
العذب المشروب ، وإنما أراد أنّ ماء البحر الذي هي فيه غذاء لها ، كغذاء الماء
العذب لنا ، والنمير : العذب ، فماء البحر نميرها. وقوله" غير محلّل" أي
لا يحلّه أحد مستوطنا مقيما.
وقد تبدل بعض
العرب حروفا من حروف لا يجري ذلك مجرى الضرورة ؛ لأنّ ذلك لغتهم كإبدال بني تميم
العين من الهمزة.
كما قال ذو
الرمة :
أعن ترسّمت
من خرقاء منزلة
|
|
ماء الصّبابة
من عينيك مسجوم
|
وإنما أراد :
أأن ترسّمت.
وإنما يفعلون
هذا في الهمزتين إذا اجتمعتا كراهية اجتماعهما. وهذا الذي نسميه عنعنة تميم. وربما
أبدلوا من الهمزة الواحدة مع النون ، وأكثر ذلك في" أن" ؛ وسمّى"
عنعنة" لاجتماع العين والنون ، فركبوا منهما فعلا.
__________________
وقد يبدل بعضهم
من كاف المؤنث شينا كقولهم" منش يا امرأة" ، يريد : منك. قال الشاعر :
فعيناش
عيناها وجيدش جيدها
|
|
سوى أنّ عظم
السّاق منش دقيق
|
وهذه اللغة في
بكر بن وائل ، وتسمى كشكشة بكر.
ومنهم من يبدل
مكان الياء المشدّدة والمخفّفة جيما في الوقف. وأكثر ما يكون ذلك في المشددة. قال
:
خالي عويف
وأبو علجّ
|
|
المطعمان
اللّحم بالعشجّ
|
وبالغداة
فلق البرنجّ
|
وقال في
المخفقة :
يا ربّ إن
كنت قبلت حجّتج
|
|
فلا يزال
شاحج يأيتك بج
|
أقمر
نهّات ينزّى وفرتج
|
وقد يبدلون من
تاء المخاطب كافا ؛ كما قال الراجز :
يا ابن الزّبير
طال ما عصيكا
|
|
وطال ما
عنّيتنا إليكا
|
لنضربن
بسيفنا قفيكا
|
وكما أبدلت
خيبر والنّضير من الثّاء تاء في كثير من الحروف ، كقولهم في" الثوم" : "
توم" وفي" المبعوث" : " مبعوت" ، وفي" الخبيث"
: " خبيت". قال الشاعر :
ينفع الطّيّب
القليل من الرّز
|
|
ق ولا ينفع
الكثير الخبيت
|
ويروى أن
الخليل قال للأصمعي : لم قال الخبيت؟ فقال : هذه لغتهم ، يجعلون مكان الثاء تاء ،
فقال الخليل : فلم جعل الكثير بالثّاء؟ فسكت الأصمعيّ.
قال أبو سعيد :
وهذا عندي يحتمل وجهين ؛ أحدهما : أن يكون إبدالهم التاء من الثاء في حروف ما بأعيانها
، و" الخبيث" منها ، ولا يبدلونها في جميع المواضع ، كما أبدل من الثاء
الفاء في" مغفور" و" مغثور" و" فوم" و"
ثوم" ، ولا يجب البدل في كلّ موضع.
__________________
والوجه الثاني
: أن يكون الشاعر قاله : " الكتير" بالتاء ، غير أن الرواة نقلوا بالثاء
على ما تتكلم به العرب ، ولم ينقلوا" الخبيث" بالثاء ، للقافية التائية
، وفيها :
ليت شعري
وأشعرنّ إذا ما
|
|
قرّبوها
منشورة ودعيت
|
ألي الفضل أم
عليّ إذا حو
|
|
سبت إنّي على
الحساب مقيت
|
وقد يبدل
الشاعر بعض حروف الجرّ مكان بعض ، وليس ذلك من الضرورة ، كإبدالهم" على"
من" عن" كما قال الشاعر :
إذا رضيت
علىّ بنو قشير
|
|
لعمر الله
أعجبني رضاها
|
أي"
عنيّ".
وقال النابغة
الجعدي :
كان رحلي وقد
زال النهار بنا
|
|
بذي الجليل
على مستأنس وحد
|
أراد : " زال
عنّا". ومثل هذا كثير ، وليس من الضرورة فأستقصيه.
وقد يبدلون من
كلام العجم ، إذا تكلموا به فعرّبوه ، وربما اختلفوا في البدل من كلمة واحدة ؛ فمن
ذلك أنهم يقولون في الحانوت : " قربق" و" كربج" والأصل فيه :
" كربه" ، فبعضهم يجعله بالقاف ، وبعضهم يجعله بالجيم.
وكذلك : "
الفالوذج" و" الفالوذق". والأصل فيه بالفارسية : " بالوذه"
بين الفاء والباء.
و"
دختنوس" و" دختنوش" و" تختنوس" و" تختنوس"
والأصل فيه : " دخت نوش".
وقال العجاج :
كأنّه مسرول
أرندجا
|
|
كما رأيت في
النّبيط البردجا
|
أراد : " البرده"
وهم الرقيق.
وقال أيضا :
__________________
فهنّ يعكفن
به إذا حجا
|
|
عكف النّبيط
يلعبون الفنزجا
|
وإنما هو :
" البنجكان". قال أبو حاتم : البنجكان : الدّستبند.
وقال أيضا :
يوم خراج يخرج السّمرّجا
وأصله
بالفارسية : " سامرّه" ، يعني : يخرج في كل سنة ثلاث مرّات.
وقال آخر :
لو كنت بعض الشّاربين الطّوسا
أراد : " أذرنطوس"
وهو دواء.
قال آخر وهو
رؤبة :
بارك له في شرب أذرنطوس
فعرّب مّرة
بالطّوس ، ومرة بأذرنظوس.
وقال آخر :
في جسم شخت المنكبين قوش
أراد : كوجك ،
فغيّر.
ولهذا أشباه
كثيرة لا أحصيها ، وليس في شيء مما ذكرناه من تعريب العجمية ، والتكلم بها في
الشعر معربة ، ولا في إبدال حرف جر من غيره ، مما تقدّم ذكره ، ضرورة وإنما ذكرناه
ليعلم أنه مما يجوز في الكلام والشعر ، ولا ينسب قائله إلى دخول في ضرورة.
ومما لا يجوز
إلا في الشعر جعل الكاف في موضع" مثل" اسما ، وإدخال حروف الجر عليها ،
كإدخالها على مثل ؛ مثل قولهم : " زيد ككعمرو" ، يريدون به : كمثل عمرو
، فجعلوا الكاف الثانية في موضع مثل ، وجعلوا الكاف الأولى حرف جرّ دخل عليه. قال
:
__________________
وصاليات ككما يؤثفين
يعني : كمثل ما
يؤثفين ، والكاف الأولى زائدة وهو كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) ؛ المعنى ليس مثله ، والكاف زائدة لا غير.
والدليل على
ذلك أنّا لو لم نجعلها زائدة لاستحال الكلام ، وذلك أنها إذا لم تكن زائدة ، فهي
بمعنى مثل وإن كانت حرفا فيكون التقدير : ليس مثل مثله شيء ، وإذا قدّر بهذا
التقدير ، فقد أثبت له مثل ونفي الشّبه عن مثله وهذا محال من وجهين : أحدهما : أن
الله تعالى لا مثل له ولا نظير.
والثاني : أن
نفس اللفظ به محال في كل أحد وذلك أنّا لو قلنا" ليس مثل مثل زيد أحد"
لاستحال وذلك أنا لو أثبتنا لزيد مثلا ، فقد جعلنا زيدا مثلا له. لأن ما ماثل
الشيء فقد ماثله ذلك الشيء ، ويجوز أن يكون زيد مثلا لعمرو وعمرو ليس مثلا لزيد ،
فإذا نفينا المثل عن مثل زيد وزيد هو مثل مثله فقد أحلنا.
ومن ذلك وضعهم
الاسم مكان الاسم على سبيل الاستعارة ، وقد يجري مثله في الكلام حتى لو أخرجه مخرج
عن باب الضرورة ، لم يكن بالمخطئ ؛ فمن ذلك قول الحطيئة :
قروا جارك
العيمان لما جفوته
|
|
وقلّص عن برد
الشّراب مشافره
|
أراد : شفتيه ،
والمشافر للإبل. وقال آخر :
سأمنعها أو
سوف أجعل أمرها
|
|
إلى ملك
أظلافه لم تشقّق
|
أراد عقبيه.
والأظلاف للبقر والغنم في موضع عقبى الإنسان وقدمه.
وقال آخر يصف
إبلا :
تسمع للماء
كصوت المسحل
|
|
بين وريديها
وبين الجضحفل
|
والجحفل لذوات
الحافر ، وهو من الإبل المشفر.
__________________
وقال أيضا في
هذه الأرجوزة :
والحشو من حفّانها كالحنظل
والحفّان صغار
النعام ، فجعلها هاهنا لصغار الإبل.
وقال آخر ، وهو
أوس بن حجر :
وذات هدم عار
نواشرها
|
|
تصمت بالماء
تولبا جدعا
|
أراد بالتولب :
طفلا من الناس ، والتّولب : ولد الحمار ، وقد كان المفضّل روى" جذعا"
وأنكره الأصمعي وقال : جدع أي سّيّئ الغذاء. قال : فناظره المفضل وصاح ، فقال
الأصمعي : تكلم بكلام النمل وأصب.
وقال آخر :
لها حجل قد
قرّعت عن رؤوسه
|
|
لها فوقه
ممّا تحلّب واشل
|
والحجل : إناث
القبج ، فوضعها لصغار الإبل.
ويقوي أن هذا
خارج من باب الضرورات ما يروى عن الرسول صلىاللهعليهوسلم أنه قال : " لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو فرسن
شاة" والفرسن للبعير ، لا للشاة.
ومن أقبح
الضرورات جعل الألف واللام بمعنى الذي مع الفعل ، كقول طارق بن ديسق :
يقول الخنا
وأبغض العجم ناطقا
|
|
إلى ربّنا
صوت الحمار اليجدّع
|
أراد : الذي
يجدّع ، ولو قال : المجدّع للزمه أن يخفض فيقوي ؛ لأنّ القصيدة مرفوعة ففرّ من
الإقواء إلى ما هو أقبح.
وفيه عندي وجه
آخر ، وهو أنه لم يرد الألف واللام التي بمعنى الذي ، ولا الألف واللام التي
للتعريف ، ولكنه أراد ، الذي نفسها ، فحذف الذّال والياء وإحدى اللامين ، لأنه قد
رأى الذي يلحقها حذف كقولهم : اللّذ والّلذ ، كما قال :
__________________
كالّلذ تزبّى زبية فاصطيدا
وربما حذفوا
فأحجفوا وبقّوا من الكلمة الحرف منها والحرفين كقوله :
بالخير خيرات
وإن شرّا فآ
|
|
ولا أحبّ
الشّرّ إلا أن تآ
|
أراد إلا أن
تشا فحذف الشين والألف. ومن روى : " إلا أن تا" بغير همزة غلط ؛ لأن أول
هذه الأبيات :
إن شئت
أشرفنا كلانا فدعا
|
|
الله جهرا
ربّه فأسمعا
|
بالخير
خيرات وإن شرّا فآ
|
والأبيات هي من
مشطور الرجز ، وهو : مستفعلن مستفعلن مستفعلن ، كقول العجاج :
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
والقافية العين
، والألف وصل في" دعا" و" أسمعا" ، ثم جعل الهمزة مكان العين
، كما قال :
حدّث حديثين
امرأه
|
|
فإن أبت
فأربعه
|
وإنما يستجاز
هذا لأن العين والهمزة من موضع واحد ، كما قال :
أنا لها
بعيرها المذلّل
|
|
أحملها
وحملتني أكثر
|
فجعل الرّاء
مكان الّلام ؛ لتجاورهما في المخرج.
ومن الضرورة
قوله :
ألا يا أمّ
فارع لا تلومي
|
|
على شيء رفعت
به سماعي
|
وكوني
بالمكارم ذكّريني
|
|
ودلّي دلّ
ماجدة صناع
|
فجعل"
ذكّريني" في موضع" مذكّرة" ، وهذا قبيح ، وذلك لأن فعل الأمر لا
يقوم مقام الاسم ، وإنما يقوم الفعل المستقبل والماضي ، كقولك : " كان زيد
يقوم" أي قائما ، و" كان زيد قد انطلق" أي منطلقا ، ولكنه اضطر
فوضع فعل الأمر موضع الفعل المستقبل في خبر كان ؛ لأن ابتداء كلامه أمر ، وهو قول
: " كوني" ومحصول الأمر إنما وقع منه لها
__________________
على التذكير ، فلما كان في المعنى أمرا لها بتذكيره استعمل فيه لفظ الأمر ،
إذ كان المعنى عليه.
وهذا يشبه
قولهم : " أنت الّذي قمت" وذلك أنه لما كان الاسم المبدوء به للخطاب ،
والثاني للغائب ، ومعناه معنى الأول ، لم تحفل به ، وردّ الضمير إلى الأوّل ، فقام
ردّ الضمير إلى الأول مقام ردّه إلى الثاني ، إذ كان هو هو في المعنى. وكذلك قوله
: " وكوني بالمكارم ذكريني" أراد : وذكريني بالمكارم ، أي كوني مذكرة لي
بالمكارم.
وأدخل : "
كوني" ليتوصل بها إلى ما بعدها ، إذ كانت الفائدة فيه. ومن ذلك قوله :
مهما لي
اللّيلة مهما ليه
|
|
أودى بنعليّ
وسر باليه
|
إنكّ قد
يكفيك بغي الفتى
|
|
ودرأه أن
تركض العاليه
|
ومهما لا تكون
إلا في الشرط والجزاء كقولك : " مهما تفعل أفعل" وهذا الشاعر لم يرد ذلك
، وإنما أراد : " مالي الّليلة" ، مستفهما ، ثم زاد" ما"
الأخرى ، كما تزاد صلة في مواضع ، وكره اجتماع اللفظين ، فقلب من الألف الأولى هاء
، ولو لم يقلب لم ينكسر البيت ولم يفسد ، ولكنه استقبح تكرير اللفظين ، ففعل فيه
ما يفعله في غير الضرورة ، لتشاركهما في القبح عنده.
ومن ذلك أن كاف
التشبيه لا يتّصل بها مكنيّ في الكلام ؛ لا تقول : " أناكك" ولا"
أنت كي" ؛ وذلك أن معنى الكاف ومثل سواء ، فإذا كنّي عن المشبّه
استعملوا" مثلا" فقط ، فإذا اضطر الشاعر جاز أن يأتي بعد الكاف بمكنى ،
إذ كان معناها معنى" المثل". وقد يجوز اتصال المكني بمثل. قال العجاج :
وأمّ أوعال كها أو أقربا
وقال امرؤ
القيس :
فلا ترى بعلا
ولا حلائلا
|
|
كه ولا كهنّ
إلا حاظلا
|
__________________
باب التقديم والتأخير
قال أبو سعيد :
اعلم أن الشاعر قد يضطر حتى يضع الكلام في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه ،
فيزيله عن قصده الذي لا يحسن في الكلام غيره ، ويعكس الإعراب ، فيجعل الفاعل
مفعولا ، والمفعول فاعلا ، وأكثر ذلك فيما لا يشكل معناه.
فمن ذلك قول
الأخطل :
أمّا كليب بن
يربوع فليس لها
|
|
عند المفاخر
إيراد ولا صدر
|
مثل القنافذ
هدّا جون قد بلغت
|
|
نجران أو
بلغت سوآتهم هجر
|
أراد : بلغت
نجران سوآتهم أو هجر ، وذلك وجه الكلام ؛ لأن السّوآت تنتقل من مكان فتبلغ مكانا
آخر ، والبلدان لا ينتقلن ، وإنّما يبلغن ولا يبلغن.
وقال النمر بن
تولب :
فإنّ المنيّة
من يخشها
|
|
فسوف تصادفه
أينما
|
وإن أنت
حاولت أسبابها
|
|
فلا تتهّيبك
أن تقدما
|
أراد : فلا
تتهيّبها ؛ لأنّ المنيّة لا تهاب أحدا. وقال آخر وهو ابن مقبل :
ولا تهيّبني
الموماة أركبها
|
|
إذا تناوحت
الأصداء بالسّحر
|
أراد : ولا
أتهيّب الموماة. وقال آخر :
كانت فريضة
ما تقول كما
|
|
كان الزّناء
فريضة الرّجم
|
ويروى : كما
كان الزّناء يحدّ بالرّجم. أراد : كما كان الرّجم فريضة الزّناء.
وليس هذا من
جعل المفعول فاعلا ، ولكنه حذف اسم كان وهو" فريضة" ، وأقام مقامها ما
كانت مضافة إليه ، وهو" الزّناء" وجعل فريضة الرجم هي خبر كان ، وهو
كلام على نظمه ، وتلخيصه : كما كان فريضة الزنا فريضة الرّجم ؛ لأنّ الفريضة هي
الواجبة والذي يجب بالزنا هو الرجم ، فأضفت الفريضة إلى الزنا وإلى الرجم جميعا ؛
لأنها من أجل الزنا تجب ، والواجب هو الرّجم ، فأضيف إلى الشيء وإلى سببه ، وحذف
من الأول وأقيم
__________________
مقامه كما يفعل بالمضاف إليه.
ومثل هذا في
إضافة شيء واحد إلى شيئين لتعلقه بهما المصدر الذي يضاف إلى الفاعل لوقوعه منه ،
وإلى المفعول لوقوعه به ، وإلى الزمان أيضا لوقوعه فيه ، كقول الله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)
وأما قول
الشاعر :
...
|
|
وتشقى
الرّماح بالضّياطرة الحمر
|
ففيه وجهان ؛
أحدهما : ما ذكرناه من التقديم والتأخير ، وذلك أنا الضياطرة هم الذين يشقون
بالرماح لقتلهم بها.
والوجه الثاني
: أنّ الرّماح تشقى بالضياطرة ؛ لأنه لم يجعلهم أهلا للتشاغل بها ، وحقّر شأنهم
جدّا ، فجعل طعنهم بالرّماح شقاء للرماح ، كما يقال : " شقي الخّزّ بجسم
فلان" إذا لم يكن أهلا للبسه.
قال الشاعر :
بكى الخّز من
عوف وأنكر جلده
|
|
وضجّت ضجيجا
من جذام المطارف
|
ولو قال قائل :
إن التقديم والتأخير فيما ذكرناه ليس من الضرورة ، لم يكن عندي بعيدا ؛ لأنها
أشياء قد فهمت معانيها ، وليست بأبعد من قولهم : أدخلت القلنسوة في رأسي ، والخاتم
في إصبعي.
كما قال الشاعر
:
ترى الثّور
فيها مدخل الظّلّ رأسه
|
|
وسائره باد
إلى الشّمس أجمع
|
وإنما يدخل
الرأس في القلنسوة ، والإصبع في الخاتم ، ورأس الثور في الظل. قال الله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح.
وفيها قول آخر
، وهو أنها على غير التقديم والتأخير ، وذلك أن معنى قوله تعالى :
__________________
" تنوء بالعصبة" أي تنيئها ، كما تقول : " ذهب بزيد"
و" أذهبه" ، وكذلك : " ناء به" و" أناءه".
ومعنى هذا عند
الفراء : تثقل العصبة وتميلهم من ثقلها. ويقال في قول القائل : " ساءك
وناءك" ومعنا : " أناءك" ، وأتبعه" ساءك" ، كما يقال :
" هنأني الطّعام ومرأني" إتباعا. وإذا أفردوه قالوا : أمرأني.
ومن ذلك تأخير
المضاف إليه عن موضعه الذي ينبغي أن يكون عليه من مجاورة المضاف بلا فصل ، كقولك :
" غلام زيد" و" ضارب بكر". فإذا اضطرّ شاعر جاز أن يفصل بينما
بالظروف وحروف الجر ، فتشبهها بإن وأخواتها ، حيث فصل بينها وبين أسمائها بالظروف
فقط.
قال الشاعر ذو
الرمة :
كأن أصوات من
إيغالهنّ بنا
|
|
أواخر الميس
أصوات الفراريج
|
أراد : كأن
أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا.
وقال أبو حية :
كما خطّ
الكتاب بكفّ يوما
|
|
يهوديّ يقارب
أو يزيل
|
أراد : بكف
يهودي يوما. وقال آخر :
لما رأت
ساتيدما استعبرت
|
|
لله درّ
اليوم من لامها
|
أراد : لله در
من لامها اليوم.
وقالت امرأة من
العرب :
هما أخوا في
الحرب من لا أخا له
|
|
إذا خاف يوما
نبوة فدعاهما
|
ولا يجوز هذا
عند البصريين إلا في الظروف. وقد أنشد فيه ما لا يثبته أهل الرواية وهو :
فزججتها
بمزجّة
|
|
زجّ القلوص
أبي مزاده
|
__________________
أي زجّ أبي
مزادة القلوص ، وليست القلوص بظرف.
وقال آخر :
تمرّ على ما
تستمرّ وقد شفت
|
|
غلائل عبد
القيس منها صدورها
|
أراد : وقد شفت
عبد القيس منها غلائل صدورها ، وهذا قبيح جدّا.
وأما قراءة
بعضهم ، وهو ابن عامر : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) أراد : قتل شركائهم أولادهم ، وهذا خطأ عند النحويين.
والذي دعاه إلى
هذه القراءة أنّ مصحف أهل الشام فيه ياء مثبتة في شركائهم فقدر أن الشركاء هم
المضلون لهم الداعون إلى قتل أولادهم ، فأضاف القتل إليهم ، كما يضاف المصدر إلى
فاعله ، ونصب الأولاد ؛ لأنهم المفعولون ، ولو أضاف المصدر إلى المفعولين فقال :
قتل أولادهم ، للزمه أن يرفع الشركاء فيكون مخالفا للمصحف ، فكان اتباع المصحف آثر
عنده.
ووجه الآية أن
يخفض" شركائهم" بدلا من الأولاد ويجعل الأولاد هم الشركاء ؛ لأن أولاد
الناس شركاء آبائهم في أحوالهم وأملاكهم.
ووجه آخر وهو :
أن تكون الياء المثبتة في المصحف مضمومة ، وقد تكون بدلا من الهمزة ، على لغة من
يقول : شفاه الله يشفيه شفايا ، وهذه لغة غير مختارة في القرآن.
والقول الأول
أجود ، وتقدير هذا : وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، يرفعهم
بزّين ، وهذان الوجهان على تخريج خط مصحف أهل الشام. وقراءة ابن عامر لا وجه لها.
وأما قوله :
كميت يزلّ
اللّبد عن حال متنه
|
|
كما زلّت
الصّفواء بالمتنزّل
|
ففيه وجهان ؛
أحدهما : أن يكون من المقلوب ، وتقديره : " كما زلّ المتنزّل بالصّفواء"
، وهي الصّفاة الملساء.
__________________
والوجه الآخر :
أن يكون من قولك : " ذهبت به" في معنى : " أذهبته"
فيكون" زلّت به" في معنى : " أزلّته".
وقد كان بعض
أصحابنا يذهب إلى أن قولك : " ذهبت بزيد" معناه على غير معنى"
أذهبت زيدا" ؛ وذلك أن قولك : " أذهبت زيدا" معناه : أزلته ، ويجوز
أن تكون أنت باقيا في مكانك لم تبرح. وإذا قلت : ذهبت بزيد ، فمعناه ذهبت معه ،
وهذا يحكي عن أبي العباس المبرد.
وبعض الناس
ينكر هذا ، ويقول : معناهما سواء ؛ لأن الله تعالى قد قال : (لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) في معنى أذهب الله سمعهم وأبصارهم ، وهو تعالى غير ذاهب
، ويحتج بالبيت الذي أنشدناه أنّ الصّفواء غير زالّة.
وللمحتج عن أبي
العباس أن يقول في الآية : إن الله تعالى وإن لم يكن ذاهبا ، فقد وصف نفسه في
مواضع من القرآن بالمجيء والإتيان ، فهو أعلم بحقيقة ذلك ، فقال : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) وقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ).
وأما قول
النابغة :
كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا
|
|
بذي الجليل
على مستأنس وحد
|
فإنما يريد
غابت الشّمس ، وذهب النهار ، وهم ما زالوا. والمعنى عندي أن النهار أزالهم من مكان
كانوا فيه إلى مكان صاروا إليه ، وزال أيضا معهم بأن غابت شمسه وذهب وقته ، فصار
بمعنى قولك : " ذهبت بزيد" ، بمعنى" أذهبته" و" ذهبت
معه". وقد كان قوم من أهل اللغة يجعلون" الباء" هاهنا في
معنى" على" ، فيقولون : زال النهار بنا في معنى علينا ، وهذا غير متحصّل
، والقول فيه ما خبّرتك به.
وأما قول قيس
بن الخطيم :
ديار التي
كادت ونحن على منى
|
|
تحلّ بنا لو
لا نجاء الرّكائب
|
__________________
فإن بعض الناس
يتأوله على معنى : تحلّنا وتنزلنا. من غير أن تنتقل إلينا ، على المذهب الذي
ذكرناه في : ذهبت به ، من غير أن تذهب معه.
قال أبو سعيد :
والأمر عندي على خلاف ذلك ، من قبل أنهم لما رأوا ديارهم اشتاقوا إليها ، وتصوروها
، فصارت بالتصوّر كأنها معهم نازلة في الديار ، فهي قد أنزلتهم ونزلت معهم.
وأما قول
الفرزدق :
وما مثله في
النّاس إلا مملّكا
|
|
أبو أمّه حيّ
أبوه يقاربه
|
فإن فيه ضروبا
من العيوب من التقديم والتأخير. وحق الكلام على ما ينبغي أن يكون عليه اللفظ ؛ وما
مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه ؛ وذلك أن الفرزدق مدح إبراهيم بن
هشام بن إسماعيل المخزومي ، خال هشام بن عبد الملك ، وأبو أم هشام بن عبد الملك
أبو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، فقال : " وما مثله" ، يعني
إبراهيم الممدوح ، " في الناس حي يقاربه" ، أي أحد يشبهه ، " إلا
مملك" ، يعني خليفة ، " أبو أمه" ، يعني أبو أم الخليفة ، "
أبوه" ، يعني أبو الممدوح ؛ فالهاء في" أمه" تعود إلى الملك ، وهو
هشام بن عبد الله ، والهاء في" أبوه" تعود إلى إبراهيم بن إسماعيل ،
ففرق بين المبتدأ والخبر بما ليس منه ، وذلك أن قوله : " أبو أمه" مبتدأ
في موضع نعت الملك ، ففرق بينهما بقوله : " حيّ" و" حيّ" هو
خبر" ما" ، وفرق بين قوله : " حيّ" وبين قوله : " يقاربه"
وهو نعت" حيّ" ب" أبوه" وهو خبر مبتدأ ، وقدم الاستثناء ،
وترتيب الكلام مع تقديم الاستثناء أن يقال : " وما مثله في النّاس" إلا
مملّكا أبو أمّه أبوه حيّ يقاربه" ، كما تقول" ما مثل زيد إلا عمرا
أحد". فلو لم يكن في هذا البيت إلا تقديم الاستثناء فقط ما كان معيبا ، والذي
فيه عيبان ، أحدهما : الفصل بين المبتدأ وخبره بخبر" ما" ، والآخر :
الفصل بين خبر" ما" ونعته بخبر المبتدأ.
ومن ذلك قول
الفرزدق :
هيهات قد
سفهت أميّة رأيها
|
|
فاستجهلت
حلماؤها سفهاؤها
|
حرب تردّد
بينهم بتشاجر
|
|
قد كفّرت
آباؤها أبناؤها
|
وتقديره :
هيهات قد سفهت أميّة حلماؤها رأيها ، فاستجهلت سفهاؤها ، فأبدل
__________________
حلماؤها من أميّة ، ورفع سفاؤها باستجهلت ، ووضع الكلام في غير موضعه ؛ لأن
قوله : " فاستجهلت" هو جواب لقوله : " قد سفهت" ، وفاعل الفعل
الأول حكمه أن يأتي بعد الذي يعمل فيه الفعل الثاني.
الذي يعمل فيه
الفعل الثاني.
قال أبو سعيد :
وكان حكمه في الظاهر أن يعمل أحد الفعلين ، إما سفهت ، وإما استجهلت ، فأعملهما
جميعا بعد الفعل الثاني ، وهذا كقولك : " ضربني وضربت زيدا" و"
أعطاني وأعطيت زيدا درهما" ، إذا أعملت الفعل الثاني ، وإن أعملت الأول قلت :
" أعطيت وأعطاني إيّاه زيدا درهما" ، فالذي تعمله في الظاهر أحد الفعلين
، ولا يحسن أن تقول : " أعطيت وأعطاني إيّاه زيد درهما" ترفع زيدا
بالفعل الثاني ، وتنصب الدّرهم بالفعل الأول.
وتقول أيضا على
هذا : " ظنّ عمرو أو قال زيد منطلق". إذا أعملت قال ، فإذا أعملت الظن
فالوجه أن تقول : " ظنّ عمرو أو قال هو هو زيد منطلقا" ولو قلت : "
ظنّ عمرو أو قال زيد هو إيّاه منطلقا" لم يحسن ، لأن الظاهرين إما أن يفعل
فيهما الأول أو الثاني ، ولا يحسن أن يعمل كلّ واحد من الفعلين في واحد من الظاهرين
، وهذا كله إذا وقعت الأسماء بعد الفعلين جميعا ، فإذا وقع كل واحد من الأسماء في
موضعه ، لم يحتج فيه إلى هذا واستعمل كما ينبغي ، فلما كانت" حلماؤها
وسفهاؤها" بعد" سفهت" و" استجهلت" لم يحسن أن يكونا
ظاهرين بعد الفعلين جميعا ، وأحدهما غير الآخر ، ولو كان أحدهما هو الآخر لكان
أقرب إلى الجواز ؛ لأنه كان يجعل ظاهره مكان مضمره ، وذلك أنك إذا قلت : " قام
فانطلق زيد" ورفعت زيدا بقام ، وجعلت في" انطلق" ضميرا منه ، صار
التقدير : " قام زيد وانطلق".
قال أبو سعيد :
يجوز على القياس : " قام فانطلق زيد زيد" على أنك ترفع زيدا الثاني بقام
، وترفع الأول بانطلق ، فيكون التقدير : قام زيد فانطلق زيد ، والوجه الإضمار ،
وإن كان هذا جائزا. والدليل على جوازه قوله :
لا أرى الموت
يسبق الموت شيء
|
|
نغّص الموت
ذا الغنى والفقيرا
|
والوجه أن يقول
: لا أرى الموت يسبقه شيء.
__________________
وقوله : "
قد كفّرت آباؤها أبناؤها" ، فآباؤها يرتفع بكفرت ، ومعناه : لبست السلاح
وتغطت به ، ويرتفع" أبناؤها" بتشاجر ، كما يرتفع الفاعل بالمصدر ، كأنه
قال : حرب تردّد بينهم بأن يتشاجر أبناؤها فلبست الآباء السلاح بتشاجر الأبناء ،
وقد كان ينبغي أن لا يفرق بين ما قد ارتفع بتشاجر وبين تشاجر بقوله : " قد
كفرت" ؛ لأن ما يعمل فيه المصدر بمنزلة الصلة فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
وفي هذين
البيتين وجه أقرب من هذا من غير ضرورة ، وهو أن يجعل" حلماؤها" ابتداء
و" سفهاؤها" خبرا له ، ومعناه أن حليمهم صار سفيها ، وكذلك"
أبناؤها" و" آباؤها" مبتدأ وخبر ، يعني من طول ترددها قد صارت
أصاغرها ، ومن نشأ فيها ، كبارا. قال الفرزدق :
فليست خراسان
الّتي كان خالد
|
|
بها أسد إذ
كان سيفا أميرها
|
فهذا البيت
يدخله النحويون في ضرورة الشعر ، ويذكرون أنه يمدح" خالدا" ويذمّ"
أسدا ، وكانا واليين بخراسان ، و" خالد" قبل" أسد" ، وتقديره
: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها ، ويكون
رفع" أسد" بكان الثانية ، و" أميرها" نعت له ، وكان في معنى
وقع ، ويجوز أن يكون في كان ضمير الأمر والشأن ، ويكون" أسدا" و"
أميرها" مبتدأ وخبرا في موضع خبر الضمير.
وقال أبو سعيد
: وهذا عندي كلام فاسد ؛ لأن الاسم لا يرتفع بكان وهو قبله ، والمعنى فيه على غير
ما قدّروه ، وليس في البيت ضرورة ، على أنّا نجعل" أسدا" بدلا من"
خالد" ونجعله هو خالد ، على سبيل التشبيه له بالأسد ، فكأنه قال : فليست
خراسان التي كان بها أسد إذ كان سيفا أميرها ، وتجعل" سيفا" خبرا لكان
الثانية ، وتجعل" أميرها" الاسم ، وإن شئت جعلت في كان الثانية ضميرا من
أسد وجعلت أميرها بدلا من الضمير و" سيفا" هو الخبر.
وقال الفرزدق :
وترى عطيّة
ضاربا بفنائه
|
|
ربقين بين
حظائر الأغنام
|
متقلّدا
لأبيه كانت عنده
|
|
أرباق صاحب
ثلّة وبهام
|
__________________
أراد : متقلدا
أرباق صاحب ثلّة وبهام كانت عنده ، فقدم النّعت على المنعوت ، ولم يكن النعت باسم
فيقع الفعل عليه ، وهو "متقلّد" ويجعل المنعوت بدلا منه.
وقال آخر :
صددت فأطولت
الصّدود وقلّما
|
|
وصال على طول
الصّدود يدوم
|
ووجه الكلام ؛
وقلّما يدوم وصال على طول الصّدود ، وذلك أن الأصل في هذا أن يقال : قلّ وصال يدوم
على طول الصدود ؛ لأن" قل" قبل دخول" ما" من حكمها أن لا
تليها الأفعال ؛ لأنها فعل ، ولا يلي الفعل فعل ، فأدخلوا عليها" ما"
ليوطئوا للفعل أن يليه ؛ لأن الفعل لا يمتنع أن يلي" ما" ، وكان الحكم
أن يولوها ما دخلت" ما" من أجله ، وهو الفعل ، فلما اضطرّ قدّم الاسم
الذي كان يفعل بعد" قلّ" قبل دخول" ما" وإذا قلت : " قلّ
ما يدوم وصال" ؛ فإنّ" قلّ" لم تزل عن فعليتها ، غير أن الذي يرتفع
بها : " ما" وهي اسم مبهم ، يجعل في هذا الموضع للزمان ، فكأنه قال :
قلّ وقت يدوم فيه وصال ، ويحذف العائد كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) يريد ، تجزي فيه نفس عن نفس. وقد يجوز في "قلّ
ما" أن تجعل "ما" زائدة ، ويرتفع "وصال" بقلّ ، فكأنك
قلت : قلّ وصال يدوم ، كما قال عزوجل : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ).
باب تغيير الإعراب عن وجهه
قال أبو سعيد :
فمن ذلك قول الشاعر :
سأترك منزلي
لبني تميم
|
|
وألحق
بالحجاز فأستريحا
|
والوجه في هذا
الرفع ، وذلك أن قوله : " سأترك" هو مرفوع موجب ، وما بعده معطوف عليه
داخل في معناه ، فحكمه أن يكون جاريا على لفظه ، وإنما ينصب ما كان جوابا لشيء
مخالف لمعناه كقولك : " ما تجلس عندنا فنحدّثك" ، وما أشبه ذلك مما يحكم
في موضعه ، ولا يقال في الكلام : " أنا أجلس عندكم فأحدّثكم" إنما
هو" فأحدّثكم".
وإذا اضطر
الشاعر فنصب فيما ذكرنا أن الوجه فيه الرفع يؤوّل تأويلا يوجب
__________________
النصب ، كالتأويل الذي يتأوّل فيما يخالف آخره أوّله ؛ وذلك أنك إذا قالت :
" ما تجلس عندنا فنحدّثك" فتأول : ما يكون منك جلوس فحديث منا ، غير أن
المصدر قد يجوز أن يقع موقعه" أن" الخفيفة وفعل ذلك المصدر ، ألا ترى
أنك تقول : " يعجبني قيامك" ، و" يعجبني أن تقوم" في معناه.
وإذ قد وضح هذا فأنت إذا قلت : " ما تجلس عندنا فنحدّثّك" إنما تنفى
جلوسه ، ولست بناف للحديث على كل حال ، كما نفيت الجلوس ، وإنما نقدر في ذلك أحد
تقديرين ، إما أن يكون على معنى قولك : " ما تجلس عندنا فكيف نحدّثك"
فتكون نافيا للجلوس ومخبرا أن الحديث يتعذر وقوعه مع عدم الجلوس ، أو يكون على
تقدير : ما تجلس عندنا محدثين لك ، وقد تجلس عندنا على غير حديث بيننا فتكون نافيا
للجلوس الذي يقرن به الحديث ، ولم تعمد لنفي الحديث ، فلمّا خالف الأول الثاني هذه
المخالفة ، كرهوا أن يعطفوا الثاني على الأول في لفظه ، فيكون داخلا في معناه ؛
لأنك إذا قلت : " ما تجلس عندنا فتحدّثنا" فأنت ناف لكل واحد من الجلوس
والحديث من غير تعلق أحدهما بالآخر ، كما أنك إذا قلت : " ضربت زيدا
وعمرا" كنت ضاربا لكل واحد منهما ، من غير تعلق أحدهما بالآخر ، فلما كان
الفعل الثاني في" ما" جوابا تضمن معنى يخالف الأول ، وإن كان معطوفا
عليه في المعنى ، فقدّر الأول تقدير المصدر ، كأنه قال :
ما يكون منك
جلوس ، وقدر في الثاني" أن" فنصب بها الفعل ، ثم كره أن يكون الأول في
لفظ الفعل ، والثاني يقترن به ما يصيره اسما وهو" أن" ، فحذفت"
أن" ليشاكل الأول الثاني في الفعلية ، ولم يبطل النصب الذي أثّرته"
أن" ؛ لئلا يدخل الثاني فيما دخل فيه الأوّل ، فإذا اضطر الشاعر في المتّفقين
، ردّه إلى التقدير الذي يوجب النصب هنا.
ومثل هذا قول
طرفة :
لنا هضبة لا
ينزل الذّلّ وسطها
|
|
ويأوي إليها
المستجير فيعصما
|
والوجه فيعصم.
وقال الآخر :
هنالك لا
تجزونني عند ذاكم
|
|
ولكن سيجزيني
الإله فيعقبا
|
__________________
والوجه :
الرفع. ومن ذلك قوله :
قد سالم
الحّيات منه القدما
|
|
الأفعوان
والشّجاع الشّجعما
|
وكان الوجه أن
يقول : الأفعوان الشجاع الشجعم ، غير أنّ قوله : " قد سالم الحيّات منه
القدما" يوجب أن القدم أيضا قد سالمت الحيات ؛ لأن باب المفاعلة يكون من
اثنين كل واحد منهما يفعل بصاحبه مثل ما يفعل به صاحبه. فلما ذكر مسالمة الحيات
للقدم دلّ أن القدم أيضا قد سالمت فكأنه قال : وسالمت القدم الشّجاع الشجعما ،
فحذف لما ذكرنا.
وكان بعض
النحويين يروي هذا البيت بنصب" الحيات" منه ويجعل" القدما" في
معنى القدمان ، ويحذف النون ، كما قال تأبط شرّا :
هما خطّتا
إمّا إسار ومنّه
|
|
وإما دم
والقتل بالحرّ أجدر
|
أراد : خطتان ،
فحذف ، وحمل حذف النون على قوله :
... إنّ عمّيّ اللّذا
|
|
قتلا الملوك
وفكّكا الأغلال
|
أراد : اللذان
؛ لأنّ اللّذان يحتاج إلى صلة ، وهي والصّلة كالشيء الواحد فاستطال فحذف.
ومن ذلك :
فكرّت تبتغيه
فصادفته
|
|
على دمه
ومصرعه السّباعا
|
على تقدير :
صادفت السّباع على مصرعه ، وكان الوجه أن يقول : على دمه ومصرعه السّباع ؛ لأنه لم
يعطف السباع على الهاء التي في" صادفته" ، ولو فعل هذا لكان النصب جيّدا
، وكان يقول : صادفته السباع على دمه ومصرعه ، ثم يؤخّر. فلما لم يعطف كان الوجه
أن يجعل الجملة الثانية في موضع الحال ، فوجب أن يرفع السّباع لذلك ، فإذا نصبه
فهو على مثل الأول الذي جرى ذكره ، وكان أبو العباس المبرد يروي هذا البيت :
فكرّت عند
فيقتها فألفت
|
|
على دمه
ومصرعه السّباعا
|
__________________
ومن ذلك قوله :
ليبك يزيد
ضارع لخصومة
|
|
ومختبط مما
تطيح الطوائح
|
فبدأ بفعل لم
يسمّ فاعله ، ثم أتى بالفعل أن بنى الفعل بناء ما لم يسمّ فاعله ، وكان الوجه أن
يقول : ليبك يزيد ضارع لخصومة. وتقدير الرفع في الثاني وهو" ضارع" :
ليبكه ضارع لخصومة ، وذلك أنه لما قال : ليبك يزيد دلّ هذا الفعل على أنه أمر قوما
يبكونه ، فقال : ضارع لخصومة ، يعني من أمره بالبكاء ، فأضمر : " لبكه".
ومثل ذلك قراءة
بعضهم : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)
على تقدير :
زيّنه شركاؤهم ؛ لأنه قد دلّ" زيّن" على قوم قد زيّنوا ، فرفعهم على ذلك
الفعل ، وهم الشركاء ، وليس هذا بالمختار في كتاب الله تعالى ؛ لأنه لا يجري مجرى
ضرورة الشاعر.
ومن ذلك قوله :
وجدنا
الصّالحين لهم جزاء
|
|
وجنّات وعينا
سلسبيلا
|
فنصب جنّات وما
بعدها ، وكان الوجه الرفع عطفا على قوله : "جزاء" ، وإنما فعل هذا
واستجازه ؛ لأنه حين قال "وجدنا الصّالحين لهم جزاء" ، دلت على أنه قد
وجد الجزاء لهم ، فأضمر وجدنا ونصب "جنات" وما بعدها.
ومن ذلك بيت
أنشده سيبويه على وجه الضرورة ويجعله غيره على غير ضرورة ، وهو قول الشماخ :
أمن دمنتين
عرّج الرّكب فيهما
|
|
بحقل
الرّخامي قد عفا طللاهما
|
أقامت على
ربعيهما جارتا صفا
|
|
كميتا
الأعالي جونتا مصطلاهما
|
قال سيبويه :
هذا هو مثل "هند حسنة وجهها" وهذا قبيح ، ولا يجوز في الكلام ، وإنما
الوجه أن تقول : "هند حسنة الوجه" أو "حسنة الوجه" وما أشبه
ذلك ، إذا لم ترفع
__________________
"الوجه" لم تجعل فيه ضميرا من الأول ، وإن رفعته جعلت فيه ضميرا
من الأوّل فقلت : "حسن وجهها" فإذا اضطر الشاعر فلم يرفع وجعل فيه ضميرا
، فقد وضع الإعراب في غير موضعه ، واحتمل له ذلك للضرورة ، والبيت تقديره على هذا
: جونتا مصطلاهما ، بمنزلة : حسنتا أوجههما ، فجونتا بمنزلة حسنتا ، ومصطلاهما
بمنزلة : أوجههما. وكان الوجه أن يقول : جونتا المصطلى أو المصطلين ، ولا يجعل فيه
ضميرا ، وسنذكر أحكام هذا إن شاء الله تعالى.
باب تأنيث المذكر وتذكير المؤنث
قال أبو سعيد :
فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة :
وكان مجنى
دون من كنت أتّقي
|
|
ثلاث شخوص
كاعبان ومعصر
|
فحذف الهاء من
ثلاثة ، وكان ينبغي أن يقول ، ثلاثة شخوص ، من قبل أنّ الشخص مذكّر ، ولكنه ذهب به
مذهب النسوة ؛ لأنهن كن ثلاث نسوة.
وقال آخر :
وإنّ كلابا
هذه عشر أبطن
|
|
وأنت بريء من
قبائلها العشر
|
أراد بالأبطن
القبائل ، فذهب مذهب القبائل في تأنيثها ، وإلا فقد كان الوجه أن يقول : عشرة
لتذكير البطن.
ومما يجري مجرى
الضرورة عند كثير من النحويين ، ويذهب أبو العباس إلى تجويزه في غير الشعر : تأنيث
المذكّر المضاف إلى المؤنث ، كقولك : "ذهبت بعض أصابعه" ، "واجتمعت
أهل اليمامة". قال الشاعر :
وتشرق بالقول
الّذي قد أذعته
|
|
كما شرقت صدر
القناة من الدّم
|
وإنما الوجه أن
يقول : كما شرق صدر القناة ، لأن الصّدر مذكّر ، والفعل له. ومثله :
إذا بعض
السّنين تعرّقتنا
|
|
كفى الأيتام
فقد أبي اليتيم
|
وإنما الوجه أن
يقول : تعرّقنا ؛ لأن الفعل للبعض وهو مذكّر.
__________________
وقد ذكر سيبويه
هذه الأبيات وغيرها مما يشاكلها في باب بعد هذا. ونحن نستقصى الكلام فيها إذا صرنا
إليها.
واحتج أبو
العباس في تجويز هذا المعنى ، وجودته في غير الشعر بقوله تعالى : (فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) فذكر أنه أجرى" خاضعين" على الهاء والميم
التي أضيفت إلى الأعناق ، واعتمد على أصحابها فقال : فظلوا لها خاضعين ، فكذلك إذا
قلت : شرقت صدر القناة ، كأنك لم تذكر الصدر واعتمدت على ما أضيف إليه الصدر.
وهذه الآية
فيها تأويلات غير ما تأول أبو العباس ، منها : أن الأعناق هم الرؤساء ، كما يقال :
" هؤلاء رؤوس القوم" و" هؤلاء وجوه القوم" يراد به الرؤساء
والمنظور إليهم ، وليس القصد إلى الرؤوس المركّبة على الأجساد ، ولا إلى الوجوه
المخلوقة في الرؤوس ، فكأنه قال : فظلّت رؤساؤهم خاضعين.
ومنها أن أبا
زيد حكى وغيره أن العرب تقول : " عنق من النّاس" في معنى جماعة. قال
الهذلي :
تقول
العاذلات أكلّ يوم
|
|
لرجلة مالك
عنق شحاح
|
كذلك يقتلون
معي ويوما
|
|
أؤوب بهم وهم
شعث طلاح
|
فجعل العنق
الجماعة.
وقال الشاعر في
تذكير ما ينبغي تأنيثه :
فلا مزنة
ودقت ودقها
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها
|
أراد : ولا أرض
أبقلت إبقالها ، وقد كان يمكنه أن يقول : ولا أرض أبقلت ابقالها ، فيخفف الهمزة
غير أنه آثر تحقيقها ، فاضطره تحقيقها إلى تذكير ما يجب تأنيثه ، وتأوّل في الأرض
المكان ؛ لأن الأرض مكان ، فذكّر لذلك. ومن ذلك قوله :
فإمّا ترى
لمّتي بدّلت
|
|
فإنّ الحوادث
أودى بها
|
__________________
ذهب بالحوادث
مذهب الحدثان.
وهذا الباب إذا
تقدم الفعل فيه لم يستقبح تذكير المؤنث فيما ليس بحيوان ، كقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ) وقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لأن الفعل إذا تقدم ، فهو عار من علامة الاثنين
والجماعة ، فشبهوا تعرّيه من علامة التأنيث بذلك.
وإذا كان
الفاعل مؤنثا حيوانا ، وتقدّم الفعل ، لم يحسن التذكير إلا في الشّعر ، لا يحسن أن
تقول : " ذهب هند" ولا" ذهب امرأة".
قال جرير :
لقد ولد
الأخيطل أمّ سوء
|
|
على جار
استها صلب وشام
|
وقال آخر :
إذ هى أحوى
من الرّبعىّ خاذله
|
|
والعين
بالإثمد الحاريّ مكحول
|
وكان ينبغي أن
يقول : مكحولة ؛ لأن العين مؤنثة ، فتأول تأويل الظروف.
وقال آخر :
أرى رجلا
منهم أسيفا بماله
|
|
يضمّ إلى
كشحيه كفّا مخضّبا
|
قال
سيبويه : " اعلم أنه يجوز في الشّعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف
يشبهونه بما ينصرف من الأسماء ، لأنها أسماء كما أنها أسماء ، وحذف ما لا يحذف ،
يشبّهونه بما قد حذف واستعمل محذوفا".
قال أبو سعيد :
أما قوله : " يجوز في الشعر صرف ما لا ينصرف" فقد ذكرناه.
وقوله : "
يشبهونه بما ينصرف من الأسماء" يريد أنهم يشبهون ما لا ينصرف بما ينصرف
وتشبيههم له به أنهم يردّونه إلى أصله الذي هو من الصرف بحق الاسمية.
والدليل على أن
الاسم الذي لا ينصرف أصله الصرف ، أن الشاعر لا يجوز له أن
__________________
يعمل بالفعل عند الضرورة من التنوين والجر ما يعمله بالاسم الذي لا ينصرف ،
فعلمنا أن الذي فرق بينهما أنه يرد الاسم إلى حالة قد كانت له ، وليس للفعل أصل في
التنوين والجر يردّه إليه عند الضرورة ، وقد ذكرنا حذف ما لا يحذف في الشعر بما
أغنى عن إعادته.
وأنشد سيبويه
لخفاف بن ندبة :
كنواح ريش
حمامة نجديّة
|
|
ومسحت
بالّلثتين عصف الإثمد
|
استشهد في حذف
الياء من" كنواح" وكان ينبغي أن يقول : " كنواحي" ، وإنما حذف
الياء تشبيها بالياء التي تسقط في الواحد ، لدخول التنوين ، كقولك : " قاض"
و" رام" ، والإضافة والألف واللام معاقبتان للتنوين ، فسقطت الياء
للإضافة ، كما سقطت مع التنوين.
وزعم أبو محمد
التّوّزيّ ، وهو من متقدّمي أهل اللغة من أصحاب أبي عبيدة ، أنه بلغه أن ابن
المقفع وضع هذا البيت. وقال أبو عمر الجرمي : هو لخفاف.
وأنشد سيبويه :
فطرت بمنصلى
في يعملات
|
|
دوامي الأيد
يخبطن السّريحا
|
والوجه :
الأيدي. وإنما يصف أنه مضى بسيفه. وهو المنصل ، في نوق فعقرهنّ ، ودميت أيديهن
فخبطن السّيور المشددة على أرجلهن ، وهي السّريح الذي ذكره.
وأنشد سيبويه
للنجاشي :
فلست بآتيه
ولا أستطيعه
|
|
ولاك اسقني
إن كان ماؤك ذا فضل
|
أراد : ولكن.
وأنشد سيبويه
لمالك بن حريم الهمداني ، وحريم هو اسم أبيه ، المعروف عند الرواة وأهل اللغة.
وكان أبو العباس المبرد يقول : خزيم ، وينسب في ذلك إلى التصحيف.
قال أبو سعيد :
وأخبرني أبو بكر بن السراج أنه وجد بخط بعض اليزيديين : حريم وخريم جميعا. قال :
فإن يك غثّا
أو سمينا فإنّني
|
|
سأجعل عينيه
لنفسه مقنعا
|
أراد : لنفسهي
، وهو يصف ضيفا ؛ يقول : إن كان ما عندي غثّا أو سمينا ، فإنني
__________________
أبذله وأقدمه إليه كلّه حتى يقنع به. وقوله : " عينيه" يريد : ما
تراه عيناه. وأنشد سيبويه لرؤبة :
ضخم يحبّ الخلق الأضخمّا
ويروى : "
الإضخمّا" ، و" الضّخمّا" فمن قال : " الضّخمّا" جعله
على مثال : " خدبّ" و" هجفّ". ومن قال : " الإضخمّ"
جعله على مثال : " إرزبّ" ، وليس الشاهد في واحد منهما ، وإنما الشاهد
في" الأضخمّا" لأنه كان ينبغي أن يقول" الأضخم" مثل قولك : "
الأعظم" و" الأكبر". وأنشد لحنظلة بن فاتك :
أيقن أنّ
الخيل إن تلتبس به
|
|
يكن لفسيل
النخل بعده آبر
|
أراد : " بعد
هو" وهو يصف رجلا بالشجاعة والإقدام ، يريد أنه قد علم أنه إن قتل أو مات لم
تتغيّر الدّنيا ، وكان للنخل من يقوم بها ويصلحها. والآبر : الملقح للنّخل.
وأنشد لرجل من
باهلة :
أو معبر
الظّهر ينبي عن وليّته
|
|
ما حجّ ربّه
في الدنيا ولا اعتمرا
|
يريد : " ربّهو
في الدنيا".
وهذا رجل لصّ
يتمنى سرقة جمل معبر الظهر ، وهو الذي على ظهره وبر كثير ، وهو سمين لسمنه ينبي عن
وليّته وهي البرذعة. وينبي عنها : يزيلها ويرفعها. وقوله : " ما حج
ربّه" يريد أن صاحبه لم يحج عليه فينضيه ، فهو يتمناه في أحسن ما يكون.
وأنشد سيبويه
للأعشى :
وما له من
مجد تليد وما له
|
|
من الرّيح
فضل لا الجنوب ولا الصّبا
|
أراد : " وما
لهو".
ومعنى البيت
أنه يهجو رجلا ويقول إنه لا خير عنده قليل ولا كثير ؛ وذلك أن الجنوب أغزر الأرواح
عندهم خيرا ؛ لأنها تجمع السحاب وتلقح المطر ، والصّبا أقل الأرواح عندهم خيرا ،
لأنها تقشع الغيم ، فليس لهذا المهجو خير قليل ولا كثير.
وقال بعضهم :
الأرواح التي فيها الخير ونماء الأشياء : الجنوب والصّبا ، فالجنوب
__________________
تلقح السحاب ، وتدرّ الأمطار ، والصّبا تلقح الأشجار وتنمّها ، والدّبور تثير
العجاج ، والشّمال تطيب النّسيم وتبرد المياه. فالخير إنما هو في الجنوب والصّبا ،
فنفى حظّه منهما.
وقال بعضهم :
المطر يكون بالجنوب والصّبا وهو الخير ، فنفى حظه منها. والدليل على ذلك قول بشير
بن النّكث الكلبي :
الله أسقاك
غزيرا بؤقه
|
|
جاءت به ريح
الصّبا تصفّقه
|
وأنشد سيبويه
للمرار بن سلامة العجلي :
ولا ينطق
الفحشاء من كان منهم
|
|
إذا جلسوا
منا ولا من سوائنا
|
وكان ينبغي ألا
يدخل" من" على سواء ؛ لأنها لا تستعمل إلا ظرفا ، ولكنه جعلها
بمنزلة" غير" في إدخال" من" عليها.
وكذلك قول
الأعشى :
...
|
|
وما قصدت من
أهلها لسوائكا
|
و"
سواء" و" سوى" معناهما واحد ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا كسرتها
قصرت.
وأنشد سيبويه
لخطام المجاشعي :
وصاليات ككما يؤثفين
جعل الكاف
الثانية بمنزلة" مثل" وأدخل عليها الكاف الأولى.
وأما قوله :
" يؤثفين" أي يجعلن أثافيّ.
وقد اختلف
النحويون في وزن" يؤثفين" فقال قائلون : إنه يؤفعلن ، والهمزة زائدة ،
والثاء فاء الفعل ، وكان ينبغي أن يقول : " يثفين" كما تقول : " يبلين"
و" يرضين" غير أنه ردّ الهمزة الزائدة ، التي هي في الماضي للضرورة ،
كما يضطر الشاعر فيقول : " يؤكرم" مثل قوله :
فإنه أهل لأن يؤكرما
ومن قال هذا ،
قال : " أثفيّة" وزنها أفعولّة ، ويستدلّ على ذلك بقول العرب : ثفيت
القدر : إذا جعلتها على الأثافي.
__________________
وقال آخرون :
" يؤثفين" وزنه يفعلين بمنزلة" يسلقين". ومن ذلك"
سلقى"" يسلقي" ، فالهمزة فاء الفعل. ومن قال هذا ، قال : " أثفيّة"
وزنها فعليّة ، واستدل على ذلك بقول العرب : تأثّفني القوم إذا صاروا حولك
كالأثافي.
قال النابغة :
لا تقذفنّي
بركن لا كفاء له
|
|
وإن تأثّفك
الأعداء بالرّفد
|
تأثفك ، تفعّلك
، والهمزة أصلية ، وهي فاء الفعل.
هذا باب الفاعل
الذي لم يتعدّه
إلى مفعول والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولا تعدّى فعله إلى مفعول آخر ،
وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدّى إلى مفعول ، وما
يعمل من المصادر ذلك العمل ، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوّة
كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها ، وما
أجري مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوّته ، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين
التي ذكرت لك ولا الصّفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء وتكون لأحداثها أمثلة لما
مضى ولما لم يمض ، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوّة كأسماء الفاعلين والمفعولين
، التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها ، وليست لها قوّة أسماء
الفاعلين التي ذكرت ولا هذه الصفات ، كما أنّه لا يقوى قوّة الفعل ما جرى مجراه
وليس بفعل.
قال أبو سعيد :
اعلم أن هذا الباب يشتمل على تراجم أبواب تجيء مفصّلة بعده بابا بابا بما يتضمّنه
من أصوله ومسائله ، ولكنّا نفسّر معنى باب باب جملة ، إلى أن نجيء إلى تفصيله ،
فنضع كل شيء في موضعه الذي ذكره فيه.
قوله : " هذا باب الفاعل الذي لم يتعدّه
فعله إلى مفعول" بريد به : " قام زيد" و" ذهب عمرو"
وسائر ما كان من الأفعال التي لا تتعدى. والمفعول الذي يعنيه هاهنا هو المفعول به
، الذي يصل الفعل إليه بغير حرف جرّ ؛ كقولك : " ضرب زيد عمرا" ، ولا
يدخل في معنى ذلك : المفعول فيه ، ولا المفعول معه ، ولا المفعول له ، ولا المفعول
__________________
المطلق
، وهو المصدر. وأنا أفسر هذا في موضعه ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : " والمفعول الذي لم يتعد إليه فعل
فاعل ، ولا تعدى فعله إلى مفعول آخر" ، يريد به : " ضرب زيد" فزيد هو مفعول في
الحقيقة ، و" ضرب" هو فعل له. وليس يريد أنه على الحقيقة : فعل له أوقعه
، وإنما يريد أنه فعل بني له ورفع به ، وإن كان قد وصل إليه من غيره ، كما يبنى
الفعل للفاعل ، وربما لم يكن هو الموقع له ؛ كقولنا : " مات زيد"
و" طلعت الشّمس" ، فزيد لم يفعل موته ، ولا الشمس طلوعها ، وإنما الله
تعالى أماته وأطلعها ، وقد ينسب الفعل إليهما.
ومما يسوّغ هذا
أن الفعل أصله مصدر ، والمصادر قد تنسب إلى فاعليها ومفعوليها ، فنسبتها إلى
فاعليها ؛ كقولك : " قيام زيد" و" بناء عمرو" ، ونسبتها إلى
مفعوليها قولك : " بناء الحائط" و" دقّ الثّوب".
فمعنى قوله " والمفعول الذي
لم يتعدّ إليه فعل فاعل" يعني لم يذكر له فاعل بني الفعل له ، ولا تعدّى هذا
الفعل المبنيّ للمفعول إلى مفعول آخر منصوب : كقولك : " كسى عمر جبّة"
و" أعطي زيد درهما" ، فقولك : " أعطى زيد درهما" و" كسي
عمر وجبّة" فعل مفعول تعدّى إلى مفعول آخر ، فأراد أن يفصل بين" ضرب
زيد" و" أعطي زيد درهما" في أن" ضرب" لا يتعدّى المفعول
إلى مفعول آخر ، و" أعطى" يتعدّى المفعول إلى مفعول آخر.
وقوله
: " وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدّى إلى
مفعول". واعلم أن اسم الفاعل المشتقّ له من الفعل يعمل عمل الفعل : كقولك : "
هذا ضارب زيدا" ، فضارب ينصب زيدا ، كما ينصبه" يضرب" ، إذا قلت :
" هذا يضرب زيدا" ، وإذا قلت : " هذا معط زيدا درهما" و"
هذا حاسب أخاك منطلقا" ، و" معلم زيدا عمرا قائما" فهو بمنزلة :
" يعطي" و" يحسب" و" يعلم". وإذا قلت : " هذا
معطى درهما" فهو بمنزلة قولك : " هذا يعطي درهما" فيعطي هو فعل
مفعول تعدّى إلى مفعول آخر ، و" معطى" اسم المفعول المشتق من هذا الفعل
، فيعمل عمله. وكذلك تقول : " هذا مكسوّ أبوه ثوبا" فيعمل" مكسوّ"
عمل" يكسى" ويصير بمنزلة قولك : " هذا يكسى أبوه ثوبا".
وقوله
: " وما يعمل من المصادر ذلك العمل". اعلم أن المصدر يعمل عمل الفعل المشتق منه ، كقولك :
" أعجبني ضرب زيد عمرا" و" دقّ الثّوب القصّار" و" إعطاء
عمرو
زيدا درهما" و" عجبت من حسبان أخوك منطلقا".
فهذه المصادر
تعمل عمل أفعالها ، فتصير بمنزلة قولك : أعجبني أن ضرب زيد عمرا ، وأن دقّ الثّوب
القصّار ، وأن أعطى عمر زيدا درهما ، وعجبت أن حسب أخوك أباك منطقا ، تقدّرها أبدا
بأن والفعل بعدها.
ويجوز أن
تضيفها ، فتخفض الذي تضيفها إليه فقط ، وتجري الباقي على ما يوجبه معناه ، فإن كان
فاعلا رفعته ، وإن كان مفعولا نصبته ؛ كقولك" أعجبني ضرب زيد عمرا"
و" دقّ الثّوب القصّار" ، وإذا أدخلت عليها الألف واللام ، فهي بمنزلتها
منّونة.
وقوله : " وما يجري من الصّفات التي لم
تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدّي
إلى مفعول مجراها" ، يريد : حسن الوجه وبابه ؛ كقولك : " مررت برجل حسن
الوجه" و" حسن الوجه" ، فتعمل حسنا في الوجه ، كما تقول : " مررت
برجل ضارب زيدا" ، فتعمل ضاربا في زيد ، " وهذا حسن الوجه" كما
تقول : " هذا ضارب زيدا" و" معطى درهما" و" مكسوّ
جبّة" ، غير أنك لا تقول : " هذا الوجه حسن" فتقدم الوجه ، وتقول :
" هذا زيدا ضارب" و" جبّة مكسوّ" ، فالصفة هي قولك : " حسن
الوجه" ، وأسماء الفاعلين : " ضارب زيدا" ، وأسماء المفعولين :
" مكسوّ جبّة".
ولم يبلغ"
حسن الوجه" أن يكون في القّوة كضارب زيدا ، ومكسوّ جبّة ؛ لأن هذا يجوز فيه
التقديم والتأخير ، والصّفة لا يجوز فيها ذلك ، وأسماء الفاعلين والمفعولين تجري
مجرى الفعل في جميع تصرفه.
والهاء في قوله
: " مجراها" تعود إلى أسماء الفاعلين ، وتقدير اللفظ : وما يجري من
الصفات مجرى أسماء الفاعلين ، وهي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين
والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول.
وقوله : " وما أجرى مجرى الفعل ، وليس
بفعل ولم يقو قوّته" ، يعني : إنّ وأخواتها وذلك لأن (إنّ وأخواتها) حروف قد
عملت عمل الأفعال المتعدّية إلى مفعول ، وذلك أنك إذا قلت : " إنّ زيدا
قائم" كلفظ : " ضرب زيدا قائم" ، بمنزلة فعل قد تقدّم مفعوله على
فاعله ، وليس له قوة الفعل ؛ لأنه لا يتقدم الاسم عليه ، ولا يتقدم المرفوع الذي
هو خبره على المنصوب.
وقوله : " وما جرى من الأسماء التي ليست
بأسماء الفاعلين .." إلى آخر الباب ؛ يعني
به : ما ينصب من الأسماء على طريق التمييز ، كقولك : " هذه عشرون
درهما" و" ما في السّماء موضع راحة سحابا" ، فهذا أضعف عوامل
الأسماء ؛ لأنه لا يعمل إلا في منكور ولا يتقدّم عليه ما يعمل فيه ، فهذا ليس
بمنزلة أسماء الفاعلين ، ولا بمنزلة الصفات ، ولا هي بمنزلة المصادر ؛ لأن المصادر
تعمل في المعرفة والنكرة ، ويتقدّم فاعلوها على مفعوليها ، فليست لعشرين درهما
وبابه زيادة قوّة شيء من العوامل التي قبلها ، ثم عاد إلى العوامل فقال : " عشرون
درهما" وهي ناصبة ولم تبلغ أن تكون في القوة كالنواصب التي قبلها ، فاعرف
ذلك.
هذا باب الفاعل
الذي لم يتعدّه
فعله إلى مفعول والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولم يتعدّه فعله إلى مفعول.
وقد فسرنا هذه
الترجمة.
قال
سيبويه : " والفاعل والمفعول في هذا سواء ، يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل ؛
لأنّك لم تشغل الفعل بغيره ، وفرّغته له كما فعلت ذلك بالفاعل".
قال أبو سعيد :
إن قال قائل : لم كان الفاعل مرفوعا ، دون أن يكون منصوبا أو مخفوضا؟
قيل له : في
ذلك وجوه ؛ منها : أن الفاعل واحد والمفعول جماعة ؛ لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول
ومفعولين وثلاثة ، ويتعدّى إلى المفعول له ، والمفعول معه ، ويتعدى إلى ظرف الزمان
والمكان والحال والمصدر ، فكثر فاختير لهم أخفّ الحركات ، وجعل للفاعل إذ كان
واحدا أثقلها ؛ لأن إعادة ما خفّ تكريره في الأسماء الكثيرة أيسر مئونة مما يثقل.
ووجه ثان : وهو
أن الفاعل أوّل ؛ لأنّ ترتيبه أن يكون بعد الفعل ؛ لأن الفعل لا يستغني عنه ،
ويجوز الاقتصار عليه دون المفعولين ، والمفعول بعد الفاعل في ترتيبه ، فلما كان
كذلك ، وكانت الحركات مختلفة المواضع ، لاختلاف مواضع الحروف المأخوذة منها هي ،
وذلك أن الحركات ثلاث : والفتحة مأخوذة من الألف ، ومخرج الواو من بين الشفتين ،
ومخرج الياء من وسط اللسان ، ومخرج الألف من الحلق فأوّل هذه المخارج وأقربها
متناولا الواو ، فجعلوا الحركة المأخوذة منها لأوّل الأسماء رتبة ، وآخرها لآخرها
رتبة ، وهاتان علتان مرضيتان.
وربما احتجّ
بعض النحويين بأن يقول : الفاعل من المفعول ؛ لأنه محتاج إليه ، فجعل له أقوى
الحركات للمشاكلة. وقد احتج بعضهم بأن قال : أوّل ما يرد من الأسماء الفاعل ، فيرد
والنفس جامّة ، فاستعمل له أقوى الحركات ؛ لقوة النّفس عند وروده على إتمام النطق
، وجعل أخفّ الحركات لما بعده.
وقد احتج بعضهم
بأن الفاعل مضارع للمبتدأ ؛ لأنه يخبر عنه بفعله الذي قبله ، كما يخبر عن المبتدأ
بخبره الذي بعده ، فالفعل والفاعل كالمبتدأ والخبر ، إلا في التقديم والتأخير
والزّمان الذي يدلّ على صيغة الفعل ، ألا ترى أنّك إذا قلت : " قام زيد"
فمعناه" زيد قائم" إلا أن" قام زيد" قد دلّ على زمان متقدّم ،
والقيام الذي به خبّرت عن زيد ملفوظ به قبله. وإذا قلت : " زيد قائم"
فهو غير دالّ على زمان متقدّم أو متأخر.
واعلم أن قولنا
: فاعل وفعل ليس المقصد فيه إلى أن يكون الفاعل مخترعا للفعل على حقيقته ، وإنما
يقصد في ذلك إلى اللفظ الذي لقّبناه فعلا في أول الكتاب الدال بصيغته على الأزمنة
المختلفة ، متى ما بنيناه لاسم ورفعناه به ، سواء كان مخترعا له أو غير مخترع
رفعناه به وسمّيناه فاعلا من طريق النحو ، لا على حقيقة الفعل ، ألا ترى أنا نقول
: " مات زيد" ، ولم يفعل موتا ، ونقول من طريق النحو : " مات"
فعل ماض و" زيد" فاعله ، و" طلعت الشّمس" و" انتصبت الخشبة"
و" نظف ثوبك" ، وما أشبه ذلك من الأفعال التي لا تحصى.
وقد ينقل الفعل
عن الاسم الذي سميناه فاعلا ، ويحذف الفاعل ، ويغير لفظ الفعل ، ويرفع به ما كان
مفعولا في اللفظ ، كقولنا : " ضرب زيد عمرا" ، تحذف زيدا وتغير الفعل ،
وتبنيه لعمرو. وسبيل هذا سبيل الفاعل الذي بنينا له الفعل ، ورفعناه به ، غير أنّ
النحويين يسمّون هذا الفعل : فعل مفعول به ؛ لأنه قد كان له فاعل حذف وغيّر لفظ
الفعل بالحركات ، والعمل فيها واحد ، فالذي يرتفع بالفعل هو الذي يشغل الفعل به
سواء كان فاعلا أو مفعولا أقيم مقام الفاعل. ومعنى شغل الفعل به أنّك تجعله خبرا
غير مستغن عنه. وذلك معنى قول سيبويه : " لأنّك لم تشغل الفعل بغيره" يعني إذا قلت : " ضرب زيد" لم تشغل الفعل
بغيره ، ولو شغلت الفعل بغيره لنصبته كقولك : " ضرب عمرو زيدا".
ثم قال سيبويه
بعد أن مثّل فعل الفاعل وهو : " ذهب زيد" ، وفعل المفعول وهو : " ضرب
زيد" فقال : "
والأسماء المحدّث عنها والأمثلة دليلة على ما مضى وعلى ما لم
يمض
من المحدّث به عن الأسماء ، وهو الذهاب والجلوس والضّرب".
يعني أنك إذا
قلت : " ذهب زيد" و" جلس عمرو" و" يضرب أخوك" فقد
دللت على ذهاب في زمان ماض كان من زيد ، وجلوس كان من عمرو ، وضرب يقع بالأخ في
زمان مستقبل ، فحدثت عن زيد بذلك الذهاب الماضي ، وحدّثت عن الأخ بالضرب الذي يقع
به ، والأمثلة هي أمثلة الأفعال التي منها ماض وغير ماض ، والمحدّث به عن الأسماء
هو المصادر والأسماء هاهنا هم المسمّون الفاعلون ، كأنه أراد أصحاب الأسماء. وقد
مضى هذا في أول الكتاب.
فإن قال قائل :
لم قال سيبويه : "
فالأسماء المحدّث عنها والأمثلة دليلة على ما مضى ، وعلى ما لم يمض" ، ونحن
نعلم أن الأمثلة وحدها هي الدالة على الأزمنة الماضية وغير الماضية ، والأسماء لا
تدل على ذلك؟
فالجواب عنه أن
يقال : إن الفعل بنفسه إذا عري من الاسم لم يكن كلاما ، وإنما يتمّ الكلام بذكر
الفاعل معه ، فإذا ذكر الفعل والفاعل دلّ حينئذ على المصادر المحدّث بها عن
الأسماء ، غير أن الدلالة على الأزمنة للأفعال وخلط الأسماء بها لاحتياجها إلى
الأسماء أعني احتياج الفعل.
ثم
قال سيبويه : " وليست الأمثلة بالأحداث ، ولا يكون ما كان منه الأحداث".
يعني أن قولك :
" قام ويقوم" و" انطلق وينطلق" و" ضرب ويضرب" وما
أشبه ذلك من أمثلة الفعل ليست هي المصادر ، وذلك أن هذه الأمثلة تدل على المصادر
والأزمنة ، فليست هي المصادر وحدها ولا هذه الأمثلة الفاعلين الذين يكون منهم
الأحداث ، كزيد وعمرو وسائر الأسماء التي يقع منها الأحداث.
وقوله
: " هي الأسماء". يريد أصحاب الأسماء الفاعلين.
هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعول
قال سيبويه : " وذلك قولك :
ضرب عبد الله زيدا ، فعبد الله ارتفع هاهنا كما ارتفع في ذهب ، وشغلت ضرب به ، كما
شغلت به ذهب". وقد فسرنا هذا.
وشبه سيبويه
رفع الفاعل الذي يتعدى فعله في" ضرب". برفع الفاعل الذي لا يتعدى فعله
في" ذهب" ، لاجتماعهما في أنهما فاعلان قد شغل الفعل بهما ، وإن كانا قد
اختلفا في التعدّي.
ثم قال : " وانتصب زيد ، لأنه مفعول تعدّى
إليه فعل الفاعل". وقد بينا هذا.
ثم قال : " إن قدّمت المفعول وأخّرت الفاعل
جرى اللفظ كما جرى في الأوّل ، وذلك قولك : ضرب زيدا عبد الله ؛ لأنك إنما أردت به
مؤخّرا ما أردت به مقدّما ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأوّل منه ، وإن كان مؤخّرا في
اللفظ ، فمن ثمّ كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدما وهو عربيّ جيّد كثير ، كأنهم
يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعني ، وإن كانا جميعا يهمّانهم
ويعنيانهم".
قال أبو سعيد :
أمّا قولهم : " ضرب زيدا عبد الله" ، فإنهم قدّموا المفعول على الفاعل
لدلالة الإعراب عليه ، فلم يضرّ من جهة المعنى تقديمه ، واكتسبوا بتقديمه ضربا من
التوسّع في الكلام ؛ لأن في كلامهم الشّعر المقفّى والكلام المسجّع ، وربما اتفق
أن يكون السجع في الفاعل فيؤخّرونه.
فإذا وقع في
الكلام ما لا يتبين فيه الإعراب في فاعل ولا مفعول قدّم الفاعل لا غير ، كقولهم :
" ضرب عيسى موسى" ، فعيسى هو الفاعل لا غير ، وإن بان الإعراب في أحدهما
جاز التقديم والتأخير ، كقولك : " ضرب زيدا عيسى" و" ضرب عيسى
زيدا".
والفاعل كيفما
تصرفت فيه الحال ، فهو الذي يبنى له الفعل ، والمفعول كالفضلة في الكلام ؛
للاستغناء عنه ، والفاعل وإن كان مؤخرا في اللفظ فإن تقديره التقديم ؛ لأن الفعل
لا يستغنى عنه.
وقول
سيبويه : " فمن ثم كان حدّ اللفظ أن يكون فيه مقدّما".
يعني إنما أردت
أن تشغل الفعل بالفاعل وتبنيه له ، وإن كان في اللفظ مؤخرا ، أو لم ترد أن يبنى
الفعل لاسم قبل الفاعل ، وهو قوله : " أن تشغل الفعل بأوّل منه" يعني
بالمفعول الذي هو قبله ، لأن حدّ اللفظ أن يكون مقدّما ، وليس يريد بقوله : "
حد اللفظ" أن يكون تقديم الفاعل هو حدّ اللفظ الذي لا يحسن غيره ، وإنما نريد
بحد اللفظ : ترتيبه وتقديره.
وقوله : " وهو عربي جيّد كثير". يريد به تقديم المفعول ، وردّ كلامه هذا إلى قوله : " وإن قدّمت
المفعول وأخّرت الفاعل".
وقوله : " كأنهم يقدّمون الذي بيانه
أهم". معنى ذلك أنه قد تكون أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ، ولا
يبالون من أوقعه به ، كمثل ما يريده الناس من قتل
خارجي مفسد في الأرض ، ولا يبالون من قتله ، فإذا قتله زيد فأراد مخبر أن
يخبر بذلك قدم الخارجي في اللفظ ؛ لأن القلوب متوقعة لما يقع به من أجله ، لا من
أجل قتله ، فتقول : " قتل الخارجيّ زيد". وإن كان رجل ليس له بأس ، ولا
يقدّر فيه أن يقتل أحدا ، فقتل رجلا ، فأراد الخبر أن يخبر بهذا المستبعد من هذا القاتل
، كان تقديم القاتل في اللفظ أهمّ ؛ لأن الغرض أن يعلم أنه قتل إنسانا ، فيقال :
" قتل زيد رجلا". وهذا الكلام إنما هو على قدر عناية المتكلم ، وعلى ما
يسنح له وقت كلامه وربما فعل هذا لطلب سجع أو قافية أو كلام مطابق ، ولأغراض شتي
اكتفاء بدلالة اللفظ عليه.
ثم قال سيبويه : " واعلم أن
الفعل الذي لا يتعدّى الفاعل ، يتعدّى إلى اسم الحدثان الذي أخذ منه ؛ لأنّه إنما
يذكر ليدل على الحدث".
يعني أنّ الفعل
يعمل في مصدره ، وإن كان لا يتعدّى الفاعل ، كقولنا : " قام زيد قياما".
والمصدر أصحّ المفعولات ؛ لأن الفاعل يحدثه ويخرجه من العدم إلى الوجود ، وصيغة
الفعل تدلّ عليه ، والأفعال كلها متعدّية إليه عاملة فيه ، كقولك : " ضرب زيد
عمرا ضربا" و" قتل بكر خالدا قتلا". وأنا أذكر الأشياء التي تشترك
الأفعال في تعدّيها إليها ، والأشياء التي تختلف فيها ، إن شاء الله :
فأما الأشياء التي
تشترك في تعدّي الأفعال إليها ، وعملها فيها ، فهي المصادر وظروف الزمان والمكان
والحال ، والمفعول معه ، والمفعول له. فأما المصدر فقد ذكرناه ، وظروف الزمان
كقولك : " قام زيد يوم الجمعة" ، وظروف المكان : " قام زيد
خلفك". والحال : " قام زيد ضاحكا" أي في حال ضحكه ، والمفعول معه
قولك : " ما صنعت وأباك"؟ و" جاء الشّتاء والطّيالسة" ، تريد
: ما صنعت مع أبيك؟ ، وجاء الشتاء مع الطيالسة ، والمفعول له : " قام زيد حذر
الشّرّ" ، يريد لحذر الشّر ومن أجله. وأما اختلاف الأفعال في غير هذه الستة ،
فمن الأفعال ما لا يتعدّى إلى شيء سوى هذه الستة ، كقولك : " قام زيد"
و" ذهب عمرو". ومنها ما يتعدى إلى مفعول سواها ، كقولك : " ضرب زيد
عمرا".
ومنها ما
يتعدّى إلى مفعولين وهو على ضربين : أحدهما يجوز الاقتصار على أحد المفعولين فيه ،
كقولك : " أعطى زيد عمرا درهما" ، ويجوز أن تقول : " أعطى زيد
عمرا" و" أعطى زيد درهما" وتسكت والضرب الآخر : لا يجوز فيه
الاقتصار على أحدهما ، وهو
قولك : " حسب زيد عمرا منطلقا" ولا يجوز أن تقول : " حسب
زيد عمرا" ولا" حسب زيد منطلقا".
ومنها ما يتعدى
إلى ثلاثة مفعولين سوى الستّة ؛ كقولك : " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا".
والنحويون
يذكرون تعدّي الأفعال إلى أربعة من الستة ، واشتراكها فيها ، وهي المصادر ، وظروف
الزمان ، وظروف المكان ، والحال ، ولم يذكروا المفعول معه ، ولا المفعول له مع هذه
الأربعة ، وذلك أن كلّ فعل لا بدّ له من مصدر ، وظرف زمان ، وظرف مكان ، وحال ، وقد
تخلو من المفعول له ، والمفعول معه ، وذلك أن المفعول له هو الذي وقع الفعل من
أجله وهو الغرض الداعي للفاعل إلى إيقاع الفعل ، والمفعول معه هو الذي يشاركه
الفاعل ويلابسه فيه ، تقول : " قام زيد حذر الشّرّ" ، فكأنه قام ، وكان
غرضه في قيامه أن يكفى الشر الذي يحذره و" قام زيد ابتغاء الخير" أي
لابتغاء الخير وكان قصده إلى ذلك.
ولو أن إنسانا
تكلّم وهو نائم ، أو فعل فعلا وهو ساه ، ولم يكن له فيه غرض ، لم يكن في فعله
مفعول له ، ولو فعل فعلا لم يشاركه فيه غيره لم يكن مفعول معه ، فذكر النحويون
الأربعة التي يحتاج الفعل إليها ، ولا يستغني عن واحد منها مذكورا أو محذوفا ،
وهذه المفعولات تجيء واحدا واحدا مشروحا إن شاء الله تعالى.
فقول سيبويه : " إن الفعل
الذي لا يتعدّى ، يتعدّى ، إلى اسم الحدثان" نحو" ذهب زيد ذهابا" ، فذهب هو فعل لا يتعدّى
، والحدثان هو الذّهاب ، واسمه هذا اللفظ ؛ أعني لفظ الذهاب.
وقوله : " ألا ترى أنّ قولك : " قد
ذهب" فيه دليل على أنه قد كان منه ذهاب".
قال أبو سعيد :
اعلم أن سيبويه يجعل المفعول الذي تدلّ صيغة الفعل عليه أقوى من المفعول الذي لا
تدلّ صيغة الفعل عليه ، والمفعول الذي تدل صيغة الفعل عليه اثنان : المصدر وظروف
الزمان ، فبدأ سيبويه بالمصدر ؛ لأنه أقوى من ظروف الزمان ؛ لأن الفاعل قد فعله
وأحدثه ، ولم يفعل الزمان ، وإنما فعل فيه.
ثم قال سيبويه : " وإذا قلت ضرب
عبد الله ، لم يتبيّن أن المفعول زيد أو عمرو".
يريد أن"
ضرب عبد الله" في تعدّيه إلى" زيد" ليس بمنزلة" ذهب عبد
الله" في
تعدّيه إلى الذهاب ، وذلك أنك إذا قلت : " ذهب عبد الله" فقولك :
" ذهب" يدلّ على ضرب من المصادر والأحداث دون سائرها ، وهو"
الذّهاب" ، فإذا قلت : " ضرب عبد الله" أمكن أن يكون الضرب واقعا
بجميع الأسماء نحو" زيد" و" عمرو" و" بكر" و"
خالد" ، فمفعول الضرب لم تدل عليه صيغة فعله ، كما دلت على المصدر.
ثم مثّل فقال : " وذلك قولك :
ذهب عبد الله الذّهاب الشديد ، وقعد قعدة سوء ، وقعد قعدتين ، لمّا عمل في الحدث
عمل في المّرّة منه والمرّتين ، وما يكون ضربا منه ، فمن ذلك : قعد القرفصاء ،
واشتمل الصّمّاء ، ورجع القهقرى ؛ لأنّه ضرب من فعله الذي أخذ منه".
وقال أبو سعيد
: اعلم أن المصادر على ثلاثة أنحاء : فنحو منها يدلّ على نوع المصدر فقط ، كقولك :
" ضرب زيد ضربا" و" قعد قعودا" فضربا وقعودا يدلان على نوع
الضرب والقعود ، ولا يدلان على مرّة ، ولا مرّتين ، ولا على صفة دون صفة.
والنحو الثاني
: يدل على الكمية والعدد ، كقولك : " قعد زيد قعدتين" و" ضرب زيد
عمرا ضربة".
والضرب الثالث
: يدل على كيفية المصدر ، كقولك : " قعد القرفصاء" و" اشتمل
الصّمّاء" و" رجع القهقرى" و" قعد قعدة سوء" ، وذلك
أن" القرفصاء" هو ضرب من القعود على وصف لا يقع على كل قعود ، وهو أن
يقعد مجتمعا متداخلا ، وتقديره : قعد القعود القرفصاء ، فحذف القعود ، وأقام
القرفصاء مقامه ، و" اشتمل الصّمّاء" معناه : الاشتمالة الصّمّاء ، وهو
أن يتجلّل بثوب ، ويكون يداه داخل الثوب ، وليس كلّ اشتمال كذلك ، و" رجع
القهقرى" ومعناه : رجع الرجوع القهقرى ، كأنه رجع كما ذهب متوجّها الوجه الذي
كان منه الذهاب ، وليس كل رجوع كذلك. وكذا" قعد قعدة سوء" ، القعدة هي
حال قعوده ووصفه ، فقد يكون قعدة سوء وقد يكون قعدة صدق ، وليست من باب"
قعدة" ؛ لأن قعدة تقع على مرّة فقط.
وهذه الأنحاء
التي ذكرناها يتعدّى الفعل إليها ؛ لأنها كلها مصادر وإن كانت مختلفة في أنفسها ،
فقوله : "
الذّهاب الشّديد" هو من باب يدل على النّوع ، غير أنه أدخل الألف واللام فيه ، وعرّفه ،
ووصفه بالشّدة.
وقوله : " لمّا عمل في الحدث عمل في
المرّة منه والمرّتين" يعني لمّا عمل" قعد" في
" قعود" من قولك : " قعد قعودا" عمل في"
قعدة" و" قعدتين" إذا قلت : " قعد قعدة" و"
قعدتين" وعمل في" القرفصاء" ، و" الصّمّاء" و"
القهقرى" ، لأنه صفة المصدر وضرب منه ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
قال سيبويه : " ويتعدّى إلى
الزّمان نحو قولك : ذهب ؛ لأنّه بني لما مضى منه وما لم يمض ، فإذا قال : ذهب ،
فهو دليل على أنّ الحدث فيما مضى من الزمان ، وإذا قال : سيذهب ، فهو دليل على أنه
سيكون فيما يستقبل من الزّمان ، ففيه بيان ما مضى وما لم يمض منه ، كما أن فيه
استدلالا على وقوع الحدث".
قال أبو سعيد :
وقد بينا أن أولى المفعولات بعمل الفعل فيه ، ما دلّت صيغة الفعل عليه مجملا. وقد
ذكرنا المصادر التي قد دلّت صيغة الفعل عليها ، وقد دلّت صيغة الفعل على الزمان
مجملا أيضا ، فكان عمله فيه كعمله في المصدر.
فإن قال قائل :
الفعل يدلّ على الزمان كدلالته على المكان ؛ لأنه قد علم أنه لا يقع إلا في مكان ،
كما أنه لا يقع إلا في زمان.
قيل له : هذا
المعنى وإن كان مفهوما منهما جميعا من طريق المعنى فإنّ صيغة الفعل تحصّل لنا
زمانا دون زمان بذاتها ؛ لأنا إذا قلنا : " ذهب" حصل لنا زمان ماض دون
غيره ، وإذا قلنا : " يذهب" حصل لنا زمان غير ماض بلفظ الفعل ، ولا يحصل
لنا مكان بعينه دون مكان ، فلذلك كانت ظروف الزّمان أولى بالفعل.
قال سيبويه : " وإن شئت لم
تجعلها ظرفا ، فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان ، كما كان في كل شيء من أسماء
الحدث".
قال أبو سعيد :
اعلم أنّ الظروف على ضربين : منها متمكّن ، وغير متمكن فالمتمكّن منها ما يجوز أن
يكون مرفوعا في حال ، نحو" اليوم" و" الّليلة" و"
خلفك" ، و" قدّامك" ؛ لأنك تقول : " اليوم طيّب" ،
و" الّليلة مظلمة" ، و" خلفك واسع". وغير المتمكّن ما لا
يدخله الرفع ولا يستعمل إلا ظرفا نحو : " قبل" و" بعد"
و" عند" ؛ لأنّك لا تقول : " قبلك قديم" ولا" بعدك
متأخّر" ولا" عندك واسع".
وهذان النوعان
يستقصيان في باب الظروف ، وإنما قدّمنا ذكرهما ؛ لأنّ الظرف المتمكن يجوز أن يجعل
مفعولا على سعة الكلام ويقام مقام الفاعل ، والظرف الذي لا يتمكّن لا يجعل مفعولا
على السّعة ولا يقام مقام الفاعل ، فإذا قلت : " صمت اليوم"
جاز أن يكون ظرفا وجاز أن يكون مفعولا على السعة ، واللفظان واحد ،
والتقديران مختلفان ، فإذا جعلته ظرفا فتقديره" صمت في اليوم" ، قدّرت
وصول الصوم إلى اليوم بتوسط" في" ، فأنت تنويها ، وإن لم تلفظ بها ،
وإذا جعلته مفعولا على السّعة ، فأنت غير ناول" في" ، ولكنك تقدّر فعل
الصوم باليوم ، كما تفعل الضرب بزيد ، إذا قلت : " ضربت زيدا" ، وهذا
على المجاز ؛ لأنّ اليوم لا يؤثّر فيه الصوم ، كما يؤثر الضّرب في زيد.
وقد جاء مثل
ذلك في القرآن ، ثمّ في الشّعر ، قال الله عزوجل : (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، وليس لليل والنهار مكر ، وإنما المكر يقع فيهما ،
فجعل ما يقع فيهما بمنزلة ما يوقعانه ، أو يوقع منهما ؛ لأن المصادر إنما تضاف إلى
الفاعل أو المفعول. وقال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) ، والنهار لا يبصر ، وإنما يبصر فيه.
وقال الشاعر :
أمّا النّهار
ففي قيد وسلسلة
|
|
واللّيل في
جوف منحوت من السّاج
|
فإذا قلت :
" صمت اليوم" وجعلته ظرفا ، ثم كنّيت عنه قلت : " صمت فيه" ؛
لأنك تردّ الحرف المحذوف ، وإنما رددته ؛ لأنّ الكناية لا تقوم بنفسها ، ولا تقوم
مقام" في" كما قام الظاهر وإذا كنّيت عنه فقد جعلته مفعولا على السّعة ،
فقلت : " صمته" لأنّك لست تنوي حرفا ، كما تقول : " ضربته".
قال الشاعر :
ويوم شهدناه
سليما وعامرا
|
|
قليل سوى
الطّعن النّهال نوافله
|
وجعل : " صمت
اليوم" مفعولا على السّعة ، فإذا جعلت الفعل لما لم يسم فاعله واستعملته
مفعولا على السّعة قلت : " صيم اليوم" ، ولا يجوز أن تردّه إلى ما لم
يسمّ فاعله حتى تنقله عن الظرف إلى المفعول على السّعة ، فإذا قلت" صمت
عندك" لم يكن فيه إلا وجه واحد ؛ لأنه ظرف غير متمكن ، ولا يكون مفعولا على
السّعة ، ولا ينقل إلى ما لم
__________________
يسمّ فاعله ، فيقال : " صيم عندك".
وأما قول سيبويه : " فهو يجوز في
كل شيء من أسماء الزّمان" ، فإنه أراد لأكثر ؛ لأن في الزمان ما لا يستعمل
إلا ظرفا ، كسحر يومك ، إذا لم يكن فيه ألف ولام كقولك : " سير عليه
سحر" إذا أردته من يومك ، وكذلك : صحوة ، وعشيّة ، وعتمة ، إذا أردتهنّ من
يومك. وهذا يستقصى في بابه إن شاء الله تعالى. ولفظ سيبويه عام ومراده الأكثر. وقد
ذكرنا جواز هذا المعنى فيما مضى.
وقوله
: " كما كان في كل شيء من أسماء الحدث" ، يعني أنه يجوز أن يجعل الظرف من الزمان مفعولا على
السّعة ، كما جاز أن تجعل المصادر مفعولة على السعة ، والمفعول على السعة يراد به
أن يجعل بمنزلة المفعول به كزيد وعمرو.
والمصادر تجيء
على ضربين : منها ما يراد به تأكيد الفعل فقط ، ومنها ما يراد به إبانة فائدة فيه
، فما أردت به تأكيد الفعل فقط ، لم تجعله مفعولا على سعة الكلام ، وما كان فيه
فائدة جاز أن تجعله مفعولا على السّعة ، إلا أن يكون متمكنا ، فإذا لم يكن متمكنا
لم يقم مقام الفاعل ، ولم يكن إلا منصوبا ، كقولهم : " سبحان" و"
شتان" ألا ترى أنك تقول : " سبّح في هذه الّدار تسبيح لله كثير"
و" تسبيح الله كثيرا" ، ولا يجوز أن تقول : " سبّح في هذه الدار
سبحان الله" ، وإن كان معناه معنى التّسبيح. وسوف نذكر المصادر المتمكنة ،
وغير المتمكنة ، في بابها إن شاء الله تعالى.
وأما قول سيبويه : " كما كان في
كلّ شيء من أسماء الحدث" ، فهو على ما عرّفتك من إرادة الأكثر باللّفظ العامّ ،
ويجوز أن يكون قوله : "
فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان" ، يعني تعدّي الفعل إليه على سبيل الظرف ، لا على سبيل
المفعول ، كما كان في كل شيء من أسماء الحدث على طريق المصدر ، لا على طريق
المفعول.
قال سيبويه : " ويتعدى إلى
ما اشتق من لفظه اسما للمكان ، وإلى المكان ، لأنه إذا قال : ذهب ، أو قعد ، فقد
علم أنّ للحدث مكانا ، وإن لم تذكره ، كما علم أنه قد كان ذهاب".
اعلم أن سيبويه
لما رتب المفعولات ، قّدّم المفعول الذي تدلّ عليه صيغة اللفظ وهو الحدث والزّمان
، ثم جعل المفعول الذي يدلّ عليه المعنى محمولا على ذلك ، وهو المكان ، وسائر
المفعولات ، لأنه قد علم هذا في المعنى ، كما علم ذلك في اللفظ ، فاشتركا
في العلم بوقوعه ، وإن كان أحدهما من طريق اللفظ ، والآخر من غيره.
وقوله : " كما علم أنّه قد كان" ، يريد : كما علم أن الحدث والهاء ضميره. قد كان : يعني قد
وقع ، وكذلك أيضا قد علم أنه قد وقع في مكان. وفي بعض النسخ : " قد كان ذهاب"
وهذا غني على تفسير الضمير في كان.
وقوله : " اسما للمكان ، وإلى
المكان" ، فالذي هو اسم للمكان نحو قولك : " المذهب" و"
المجلس" و" المقعد" و" المقام" ، وسائر الأمكنة المشتقة
من لفظ الأفعال.
وأما قوله : " وإلى
المكان" ، يريد : ما لم يكن مشتقّا من لفظ الفعل المذكور ، كقولك : " خلفك"
و" قدّامك" و" المكان" وما أشبه ذلك.
واعلم أن ظروف
المكان مختصّة ببعض ألفاظ الأمكنة دون بعض ، والألفاظ التي تكون لظروف الأمكنة ،
هي الألفاظ التي لا يختص بها مكان دون مكان ، ويصلح استعمالها فيها كلها ، فمن ذلك
الجهات الست ، وهي : خلف ، وقدّام ، ويمنة ، ويسرة ، وفوق ، وتحت ، وما كان في
العموم مثلهن ، وذلك أنه لا شيء من المكان إلا وهو يصلح أن يكون خلفا لشيء ،
وقدّاما لشيء ، ويمنة لشيء ، وكسرة لشيء ، وفوقا لشيء ، وتحتا لشيء.
وما جرى من
الأماكن مجراهن فهو بمنزلتهن ، كقولك : النّاحية ، ووسط ، وجانب ، وذلك أنه لا شيء
من المكان إلا وهو ناحية عن شيء ، وجانب لشيء ، ووسط لما يحيط به ، فما كان سبيله
هذا السبيل ، جاز أن يكون ظرفا من المكان ، وما كان مختصا بضرب من البنية أو بشيء
من البقاع على صورة لا يقع على غيرها لم يصلح أن يستعمل ظرفا نحو : المسجد ،
والبيت ، والدّار ، والحمّام ، والسّوق ، والجبل ، والصّحراء ، والوادي ، وما أشبه
ذلك ؛ لأن هذه أشياء سمّيت بهذه الأسماء ، لاختصاصها بضرب من الصور غير موجود في
غيرها ، ألا ترى أن المسجد اسم لبقعة ما ، على صورة من الصّور ، إذا بطلت بطل أن
تكون مسجدا ، وكذلك الدّار والحمّام ، والجبل : فتقول : " قمت خلف"
و" قمت ناحية" و" كلّمت زيدا مكانا طيّبا" ، ولا يجوز أن تقول
: " كلّمت زيدا المسجد ولا البستان" ، حتى تأتي بحرف الجرّ ؛ لأن ما لم
يكن ظرفا من المكان ، فهو بمنزلة سائر الأسماء ، يصل الفعل إليه كما يصل إلى غيره
، بحرف جرّ أو بغيره ، فتقول : " قمت في المسجد" كما تقول : " تكلّمت
في زيد".
قال سيبويه :
"
وقد قال بعضهم : ذهبت الشّأم ، وشبهه بالمبهم ، إذ كان مكانا وكان يقع عليه المكان
والمذهب. وهذا شاذ ؛ لأنه ليس في" ذهب" دليل على" الشّأم"
وفيه دليل على المذهب والمكان. ومثل" ذهبت الشّأم" : " دخلت
البيت".
قال أبو سعيد :
قد قدمنا أن الأماكن المختصة التي لا تقع ألفاظها على كل مكان لا تستعمل ظروفا ،
فكان من حكم الشّأم أن لا يستعمل ظرفا ؛ لأنه اسم لبقاع بعينها ، فلما قالت العرب
: " ذهبت الشّأم" وحذفوا حرف الجر ، وهو" في" أو"
إلى" علمنا أن ذلك شاذ خارج عن القياس الذي ذكرناه ، إذ كان حكمه أن يقول :
" ذهبت إلى الشّأم" و" ذهبت في الشّأم" ، وهو الأكثر في
كلامهم ، إلا أن الذين تكلموا بالشاذ الذي ذكرناه ، قد ذهبوا فيه مذهبا ، وإن كان
ضعيفا ، وذلك المذهب هو أنك تعلم أن كلّ بقعة ، وإن اختصت باسم ما ، كنحو : "
المسجد" و" الدّار" فله اسم يشاركه فيه سائر البقاع نحو : " مكان"
و" موضع" ، ألا ترى أن" المسجد" هو مكان ، وإن كان مسجدا ولو
قال قائل : " قمت مكانا طيّبا" ، وهو يعني المسجد ، جاز ؛ لأنه أتى
باللفظ الذي يشاركه فيه غيره ، فكذلك الشأم هو مكان ، فإذا قال قائل : " ذهبت
الشّأم" وجعله ظرفا من حيث كان مكانا ، وإن لم يأت بلفظه ، جاز ، وهذا لا
يقاس عليه ، كما لا يقاس على وضع الأسماء.
ومما لفظ بلفظ
فيه ، وأجري على معناه ، لا على حقيقة اللفظ قوله :
فإنّ كلابا
هذه عشر أبطن
|
|
وأنت بريء من
قبائلها العشر
|
فقال : عشر
أبطن. وحكمه أن يقول : عشرة أبطن ؛ لأن البطن مذكّر ، ولكنه ذهب بها مذهب القبائل
؛ لأنها قبائل.
وقال بعض
النحويين : إنما قالت العرب هذا في الشّأم ؛ لأن معناه : " اليسار" وبه
سمّي لأنه شأمة كقولك : " يسره" ولو قلت" ذهبت الشّأمة"
و" اليسار" جاز. قال : ومثل هذا : " اليمن" ؛ لأنهم يريدون به
اليمين واليمنة فأجاز أن تقول : ذهبت اليمن ، ولم يجز ذلك في" عمان"
و" مكّة" ؛ لأنه ليس فيها ذلك المعنى. ولا أشباهها.
ويلزمه عندي أن
يجيز في" العالية" و" نجد" ؛ لأنها مأخوذة من الارتفاع وأنت
لو قلت : " ذهب فلان فوق" لجاز ؛ لأنه ظرف.
وقد حذفت العرب
حرف الجرّ من الأماكن مع الدخول ، فقالوا : " دخلت البيت"
و" دخلت الدّار" ، وكان القياس أن تقول : " دخلت في
البيت" و" دخلت في الدار" إلا أنهم حذفوا حرف الجرّ وجعلوه كالظروف
، لأنها أماكن.
وجعل سيبويه
حذف حرف الجرّ من" الشّأم" بتأويل أنه مكان كحذف حرف الجرّ من : " دخلت
البيت" بتأويل أنه مكان.
وقد رد ذلك
عليه من وجهين أحدهما : أنه قيل للمجتمع عنه : ليس" ذهبت الشّأم"
مثل" دخلت البيت" ، من قبل أن" الشّأم" اسم لموضع بعينه ، لا
يقع على كل ما كان مثله من البلدان والمدن ، و" البيت" اسم لكلّ ما كان
مبنيا ، فكان البيت أعمّ.
وهذا الذي قاله
هذا القائل ، وإن كان مصيبا فيه ، فلم يذهب سيبويه حيث ذهب ؛ لأن سيبويه إنما أراد
أن يرينا أن" ذهبت الشّأم" شاذ ، والأصل فيه استعمال حرف الجرّ ، كما
أن" دخلت البيت" الأصل فيه استعمال حرف الجرّ ، وإن كان البيت أعمّ
من" الشّأم".
والوجه الآخر
من وجهي الردّ عليه : ما قاله أبو عمر الجرمي ، وهو أنّ" دخلت" فعل
يتعدى بحرف وغير حرف تقول : " دخلته" و" دخلت فيه" ، كما تقول
: " جئتك" و" جئت إليك" و" تعلّقتك" و" تعلّقت
بك" على أنه مفعول به كزيد وعمرو ، وتارة يتعدّى بحرف ، وتارة بغيره. ومن
الأفعال ما يكون هكذا.
وليس الأمر على
ما قاله أبو عمر. والدليل على أن" دخلت" لا يتعدّى ، وأن" دخلت
البيت" قد حذف منه حرف الجرّ وهو يراد قولك : " دخلت في الأمر" ،
و" دخلت في كلام زيد" ، ولا يجوز : " دخلت الأمر" ولا"
دخلت كلام زيد" ، فعلمت بهذا أنهم توسّعوا في حذف حرف الجرّ من الأماكن فقط ،
وتركوا غيرها على القياس.
ومما يدل على
أن الدخول هو نقيض الخروج ، والخروج لا يكون إلا بحرف جرّ ، كقولك : " خرجت
من الدّار".
ومما يدل على
ذلك أيضا أنّ الدخول في الشيء إنما هو انتقال من مكان إليه ، وهذا الانتقال إنما
هو شيء تفعله في نفسك وتصير به إلى المكان الثاني ، والانتقال لا يتعدّى إلا بحرف.
وهاتان العلتان
الأخريان قد كان أبو بكر السراج يحتج بهما.
قال سيبويه : " ومثل ذلك قول
ساعدة بن جؤية" :
لدن بهزّ
الكفّ يعسل متنه
|
|
فيه كما عسل
الطّريق الثّعلب
|
قال أبو سعيد :
وكان ينبغي أن يقول : " عسل في الطّريق الثّعلب" وعسل : عدا. وهو يصف
رمحا يهتزّ متنه ، فجعل سرعة اهتزازه بمنزلة عسلان الثّعلب.
ولم يجعل
سيبويه الطريق ظرفا ؛ لأن الطريق اسم خاصّ للموضع المستطرق ، ألا ترى أنه لا يقال
للمسجد طريق ، ولا للبيوت طرق على الإطلاق ، وإنما يقال : " جعلت المسجد
طريقا" أي استطرقته ، وليس الطريق المعروف على هذا المنهاج.
وقد قال بعض
النحويين إن الطريق ظرف ؛ لأن كل موضع استطرقته فهو طريق.
قال سيبويه : " ويتعدّى إلى
ما كان وقتا للأماكن ، كما يتعدّى إلى ما كان وقتا في الأزمنة ، لأنه وقت يقع في
المكان ولا يختصّ به مكان واحد ، كما أن ذلك وقت في الأزمان ، ولا يختص به زمن
بعينه".
قال أبو سعيد :
يريد أن الفعل يتعدى إلى ما كان مقدار مسافته من الأمكنة ، نحو الفرسخ والميل ،
وذلك أن الفرسخ والميل وما أشبهه يصلح وقوعه على كل مكان بتلك المسافة المعلومة
المقدّرة ، وسمّاه وقتا ؛ لأن العرب قد تستعمل التوقيت في معنى التقدير ، وإن لم
يكن زمنا ، ألا ترى أن النّبي صلىاللهعليهوسلم وقّت مواقيت الحجّ لكل بلد ، فجعلها أماكن ، فميقات أهل
العراق" ذات عرق" وميقات أهل الشام" الجحفة" ، وميقات أهل
المدينة" ذو الحليفة". وسبيل الفرسخ والميل في المكان كسبيل اليوم
والشهر في الزمان.
قال سيبويه : " فلما صار
بمنزلة الوقت في الزمن كان مثله" ، يعني لما صار الفرسخ في المكان بمنزلة الشهر في الزمن
كان مثله في الظرف.
قال سيبويه : " وكذلك كان
ينبغي أن يكون إذ صار فيما هو أبعد نحو ذهبت الشأم".
يعني أنّ العرب
لما جعلوا الشأم ظرفا بالتأويل الذي ذكرناه ، كان الفرسخ والميل ، وما أشبه ذلك
أولى بالظرف ؛ لأنه لكل مكان ، والشأم أبعد من ذلك ؛ لأنّه اسم مكان بعينه.
__________________
قال سيبويه : " وإنما جعل في
الزمان أقوى ؛ لأنّ الفعل بني لما مضى منه وما لم يمض ، ففيه بيان متى وقع كما أنّ
فيه بيانا أنه قد وقع المصدر".
وقد ذكرنا قوة
الزّمان في باب الظروف على المكان وأن في الفعل بيانا لزمان محصّل من ماض أو غيره
، كما أن فيه دليلا على مصدر بعينه من بين المصادر.
قال سيبويه : " والأماكن لم
يبن لها فعل ، وليست بمصادر أخذ منها الأمثلة". يريد أن الأماكن ليست بمنزلة الظروف من الزمان ، ولا
بمنزلة المصادر.
قال سيبويه : " والأماكن إلى
الأناسيّ ونحوهم أقرب ؛ ألا ترى أنهم يختصونها بأسماء كزيد وعمرو ، في قولهم :
" مكّة" و" عمان" ونحوهما". يعني أنهم يلقّبون الأماكن ولا يلقّبون الأيام لقبا
ينفرد به يوم بعينه من بين سائر الأيام ، كما انفردت مكّة عن سائر المدن بهذا
الاسم ، ويوم السبت ، والجمعة ، ونحوه لكل يوم وقع في الأسبوع ذلك الموقع وإنما
أراد سيبويه قوّة ظروف الزّمان وشدة إبهامها.
ثم قال : " ويكون فيها خلق لا تكون لكل
مكان ولا فيه كالجبل والوادي والبحر. والدهر ليس كذلك ، والأماكن لها جثّة ، وإنما
الدهر مضيّ الليل والنهار ، فهو إلى الفعل أقرب".
يريد أن
الأماكن فيها خلق ثابتة مختلفة كاختلاف الناس وثباتهم ، وهي جثث كما أن الناس جثث.
والدّهر جزء منه يبقى ولا يثبت ، وليس فيه خلق مختلفة ، وإنما هو الليل والنهار
يتكرّران ويعودان بساعاتهما ، ويقرب من الفعل بأشد من قرب المكان ؛ لأن الفعل أيضا
إنما هو حركات تتقضّى كتقضّي الزمان ، وإنما أعني بالفعل هاهنا ما عناه النحويون ،
دون الفعل الحقيقي ؛ لأن العالم إنما هو فعل الله تعالى أحدثه وخلقه ، وإنما أعني
اللفظ بفعل ويفعل ، وذلك أنّ الإنسان إذا كان في حال فعل ، فقلنا إنه يفعل الآن ،
لم يثبت على هذا أكثر من وقت واحد حتى يصير إلى أن تقول فعل ، فحال الفعل متقضّية
غير ثابتة كالزّمان ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين
فإن شئت اقتصرت
على المفعول الأوّل ، وإن شئت تعدّى إلى الثاني كما تعدّى إلى الأول.
" وذلك
قولك : أعطّى عبد الله زيدا درهما" ، و" كسوت بشرا الثّياب
الجيادّ" ومن
ذلك : " اخترت الرّجال زيدا" ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلاً) و" سمّيته زيدا" و" كّتّبت زيدا أبا عبد
الله" و" دعوته زيدا" ، إذا أردت" دعوته" التي تجري
مجرى" سمّيته" ، وإن عنيت الدّعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولا واحدا".
قال أبو سعيد :
اعلم أنّ هذا الباب يشتمل على وجهين من التعدّي ؛ أحدهما : أن يتعدّى الفعل إلى
مفعولين ، وأحد المفعولين فاعل بالآخر فعلا يصل إليه من غير توصّل حرف جرّ ، وذلك
قولك : " أعطى عبد الله زيدا درهما" ، وذلك أن زيدا قد أخذ الدّرهم وهو
فاعل به الأخذ ، وقد وصل الأخذ منه إلى الدرهم من غير توسّط حرف جر ، وكذلك"
كسوت بشرا الثّياب الجياد". وكان الأصل." أخذ زيد درهما" و"
لبس بشر الثّياب الجياد" وقد علم أنّ الأخذ لا بدّ له من مأخوذ منه ، واللابس
لا بدّ له من كاس ، فأردت أن تبيّن من الذي أوصل إليه الأخذ ، والذي كساه ، فلمّا
ذكرتهما لم يكن بدّ من رفعهما ؛ لأنهما أدخلا الفاعل في فعله ، وهو زيد وبشر ،
فرفعتهما بفعلهما الذي فعلاه بالفاعل من إيصاله إلى فعله بالمفعول ، وهو الدّرهم
والثّياب ، فاكتفى الفعل بالفاعل وارتفع به ، ونصب ما سواه ؛ لأن الفعل لا يرفع
أكثر من واحد.
والوجه الثاني
من وجهي ما يشتمل عليه الباب : أن يتعدّى الفعل إلى مفعول بغير حرف جر ، ويتّصل
بآخر" من" ، ولم يكن المفعول في الأصل فاعلا بالذي فيه حرف الجر ، فنزع
حرف الجرّ من الثاني ، فيصل الفعل إليه ، وذلك قولك : " اخترت الرّجال عبد
الله". والأصل : " اخترت عبد الله من الرّجال" ، وحذفت"
من" ، فوصل الفعل إلى الرجال ، ولم يكن" عبد الله" فاعلا بالرجال
شيئا ، كما فعل زيد بالدرهم الأخذ. ومثل ذلك : " سمّيته زيدا" و"
كتّبت زيدا أبا عبد الله" والأصل : " سمّيته بزيد" و" كتّبت
زيدا بأبي عبد الله" ، ولم يكن زيد فاعلا بأبي عبد الله شيئا.
فإن قال قائل :
أنت تقول : " تكنّى زيد أبا عبد الله" ، تجعله فاعلا ، وتنصب" أبا
عبد الله" فتجعله مفعولا له ، فهلا جعلته من القسم الأول.
قيل له : ليس
في قولنا : " تكنّى زيد أبا عبد الله" و" تسمّى أخوك زيدا"
دلالة على أن أحدهما فاعل بالآخر ، إنما هو من باب قبول الفعل الذي أوقع به ، وهو
قولك : " حرّكته
__________________
فتحرّك" ، " كسّرته فتكسّر" ، والنيّة فيه حرف الجر ، كأنك
قلت : " تسمّى زيد بعمرو" ولم يكن من باب الفاعل الذي بينت به من أدخله
في فعله ، كقولك : " أخذ زيد درهما" ، ثم بينت من أدخله في الأخذ وسهّله
له فقلت : " أعطى عبد الله زيدا درهما".
وأما قول سيبويه : " دعوته زيدا ،
إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سمّيته" ، فإنّ الدعاء في الكلام على ثلاثة معان ، أحدهما :
التسمية. والآخر : أن تستدعيه إلى أمر يحضره. والثالث : في معنى المسألة لله
تعالى.
فإذا كان
الدّعاء بمعنى التسمية جرى مجرى التسمية ، فقلت : " دعوت أخاك زيدا"
و" دعوت أخاك بزيد" ، كما تقول : " سمّيت أخاك زيدا" و"
سمّت أخاك بزيد" ، وهو الذي يدخل في هذا الباب ، دون معنى الاستدعاء ، وهو
الذي قاله سيبويه : "
وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم تجاوز مفعولا واحدا" ، يعني الاستدعاء إلى أمر ، ألا ترى أنك تقول : " استدعيت
أخاك" ، ولا تقول : " استدعيت أخاك بزيد". وقول الشاعر :
أستغفر الله
ذنبا لست محصيه
|
|
ربّ العباد
إليه الوجه والعمل
|
فإنّه أراد :
أستغفر الله من ذنب. وهذا هو من القسم الثاني.
وقال عمرو بن
معد يكرب ؛
أمرتك الخير
فافعل ما أمرت به
|
|
فقد تركتك ذا
مال وذا نشب
|
والمعنى :
أمرتك بالخير. وهو أيضا من القسم الثاني.
وقال سيبويه : " وإنما فصل
هذا أنها أفعال توصل بحرف الإضافة ، فتقول : اخترته من الرجال ، وسمّيته بفلان ،
كما تقول : عرّفته بهذه العلامة ، وأوضحته بها ، وأستغفر الله من ذلك ، فلما حذفوا
حرف الجرّ عمل الفعل".
يعني أن هذه
الأفعال التي تتعدّى إلى مفعولين مما كان في الأصل متعدّيا إلى واحد بغير حرف جرّ
، وإلى الثاني بحرف جرّ ، مما جعلناه القسم الثاني ، وجعلنا أحد المفعولين غير
فاعل بالآخر في الأصل ، إنما فصله من القسم الأول ؛ لاختلاف معناهما في الأصل.
__________________
وقد ذكرنا ذلك.
وأما قوله : " سمّيته بفلان
كما تقول : عرّفته بهذه العلامة" ، فإن" عرّفته" على ضربين : فإن أردت شهرته
حتى عرف به ، فإنه يجري مجرى التسمية ؛ لأنك إذا شهرته بشيء فعرف به فهو بمنزلة
تسميتك له بالاسم الذي يعرف به.
والوجه الآخر :
أن يكون" عرّفته" بمعنى أعلمته أمرا كان يجهله ، وتقول في الوجه الأول :
" عرّفت أخاك بزيد" ، كما تقول : " عرّفت أخاك بالعمامة
السّوداء" إذا جعلتها علامة له يعرفه غيره بها. وتقول على الوجه الثاني"
عرّفت أخاك زيدا". إذا أعلمته إياه ، ولم يكن عارفا به من قبل ، وهذا من
القسم الأول ؛ لأن الأصل : " عرف أخوك زيدا" ، كما تقول : " أخذ
زيدا" ، كما تقول : " أخذ زيد درهما" ، وقولك : " عرّفت أخاك
بزيد" وإن جرى مجرى : " سمّيت أخاك بزيد" فلا يجوز حذف حرف الجرّ
منه ، كما جاز في" سمّيت" : لئلا يلتبس بالوجه الآخر من وجهي"
عرّفت" وليس" لسمّيت" إلا طريقة واحدة.
قال سيبويه : " ومثل ذلك قول
المتلمس"
آليت حبّ
العراق الدّهر أطعمه
|
|
والحبّ يأكله
في القرية السّوس
|
يريد : على حب
العراق. وإنما هذا شاهد لجواز حذف حرف الجرّ ، لا للذي يتضمنه الباب من تعدّى
الفعل إلى مفعولين ، وهو متصل بقوله : " فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل"
، كما عمل" آليت" في" حبّ" لما حذفت" على". وقال
بعض النحويين : " الحبّ منصوب بإضمار فعل كأنه قال : آليت أطعم حبّ العراق
الدهر أطعمه ، ومعناه : لا أطعم حبّ العراق لا أطعمه ؛ لأن" آليت" بمعنى
حلفت ، وجواب اليمين إذا كان فعلا منفيّا ، جاز حذف النفي ، كما قال تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) يريد : والله لا تفتأ تذكر يوسف.
وقال سيبويه
مستشهدا لجواز حذف حرف الجر : "
كما قال نبّئت زيدا يريد : عن
__________________
زيد"
ثم قال : " وليست (عن) هاهنا بمنزلة الباء
في قولك : كفى بالله شهيدا ، وليس بزيد ؛ لأن على وعن لا يفعل بهما ذلك ولا بمن في
الواجب".
قال أبو سعيد :
واعلم أنّ الحروف التي يجوز حذفها على ضربين : منها ما يحذف وهو مقدّر منوي لصحّة
معنى الكلام ، ومنها ما يكون زائدا لضرب من التأكيد ، والكلام لا يحوج إليه ، فإذا
حذف لم يقدّر. وأما الذي يكون زائدا قولك : كفى بالله وليّا ، والمعنى : كفى الله.
وليس أخوك بزيد ؛ لأن معناه : ليس أخوك زيدا. وما قام من أحد ، لأن معناه : ما قام
أحد ، فإذا حذفنا هذه الحروف ، لم يختلّ الكلام ، ولا يحوج المعنى إلى تقديرها.
وأمّا الذي يقتضيه معنى الكلام فنحو قولك : " نبّئت زيدا فعل كذا وكذا"
تقديره : نبّئت عن زيد ؛ لأن" نبّئت" في معنى" أخبرت" والخبر
يقتضي" عن" في المعنى ، وكذلك : " أمرتك الخير" الباء مقدرة ؛
لأن الأمر لا يصل إلى المأمور به إلا بحرف ، فأراد سيبويه أن" عن"
المحذوفة في قولك : نبّئت زيدا ، و" على" المحذوفة في قوله : آليت حبّ
العراق ، ليستا زائدتين ، وأن المعنى يحوج إليهما بأن قال : " على"
و" عن" لم يزدادا قط ولا واحدة منهما ، ولم يدخلا إلا لمعنى يحوج إليه
الكلام ، فإذا وجدناها في شيء ثم فقدناها ، علمنا أنّها مقدرة ، كأنهم لما قالوا :
نبّئت عن زيد ، ثم قالوا : نبّئت زيدا ، علمنا أن" عن" مقدرة ، ولو لم تكن
مقدرة عند حذفها كانت زائدة عند ذكرها ، وهي لم تكن قط زائدة كزيادة الباء في كفى
بالله وليس أخوك بزيد.
ومعنى قوله : " ولا بمن في
الواجب" يريد : أن" من" سبيلها في الواجب أنها تدخل لمعنى ، فإذا حذفت
فهي تراد كنحو قولك : " اخترت الرّجال زيدا" ، يريد : من الرجال ، وقد
تزاد في النّفي ، كقولك : " ما قام من أحد" ، فعن وعلى في كل حال ، ومن
في الواجب دون النّفي تدخلن لمعان ، فإذا حذفن قدّرن.
قال سيبويه : وليست : أستغفر الله
ذنبا ، وأمرتك الخير أكثر في كلامهم جميعا ، وإنما يتكلم بها بعضهم".
يعني أنّ حذف
حرف الجرّ من هذين الفعلين ليس كثيرا في كلام العرب ، وإنما يتكلم به بعض العرب.
وليس كلّ ما كان متعدّيا بحرف جرّ جاز حذفه إلا ما كان مسموعا من العرب سماعا ،
ألا ترى أنك تقول : مررت بزيد ، وتكلمت في زيد ، ولا تقول : مررت زيدا ، ولا تكلمت
زيدا ، كما تقول : أمرتك الخير ، ودخلت البيت ، في
معنى : أمرتك بالخير ، ودخلت في البيت.
وقال سيبويه : " وأمّا سمّيت
وكنّيت ، فإنما أدخلت الباء على حد ما دخلت في عرّفت".
يعني أن الباء
في" سمّيته بزيد" و" كنّيته بأبي عمرو" يحتاج إليها في
التقدير ، وإن حذفت كما يحتاج إليها في قولك : عرّفته بزيد ، إذا أردت : شهرته
بهذا الاسم. ثم بيّن سيبويه احتياج" عرّفت" إلى الباء فقال : " تقول : عرّفته
زيدا ، ثم تقول : عرفته بزيد ، فهو سوى ذلك المعنى".
يعني أنك تقول
: " عرّفته زيدا" ، والمعنى : أعلمته. وتقول : " عرّفته بزيد"
، بمعنى شهرته ، فالمعنيان مختلفان ، ولا يجوز حذف الباء في : " عرّفته
بزيد".
ثم قال : " وإنما تدخل في سمّيت على حدّ ما
دخلت في : عرّفته بزيد". وقد بينا هذا.
ثم قال سيبويه : " وليس كلّ
الفعل يفعل به هذا كما أنّه ليس كلّ فعل يتعدّى الفاعل ولا يتعدّى إلى
مفعولين".
يعني : ليس كلّ
ما كان متعدّيا بحرف جر جاز حذفه ؛ بل المتعدّي بحرف جر على قسمين ؛ أحدهما : يجوز
حذفه كما ذكر في : " دخلت البيت" و" اخترت الرّجال زيدا". والآخر
لا يجوز حذفه" كمررت بزيد" و" تكلّمت في عمرو" ، كما كان
الفعل في الأصل على ضربين ، منه ما يتعدّى نحو : ضرب زيد عمرا" ، ومنه ما لا
يتعدّى ، نحو : " جلس" و" قام" وهذا معنى قوله : " كما
أنه ليس كل فعل يتعدى الفاعل" ، وقوله : " ولا يتعدى إلا مفعولين"
، كأنه قال : ولا كلّ فعل يتعدّى إلى مفعولين ، بل منه ما يتعدّى إلى مفعول ، ومنه
ما يتعدّى إلى مفعولين ، فكذلك ليس كل فعل يتعدّى إلى مفعول بلا حرف جرّ وإلى
مفعول ثان بحرف جرّ ، يجوز حذف حرف الجرّ من الثاني حتى يصير الفعل متعدّيا إلى
مفعولين ، ألا ترى أنا إذا قلنا : " أخذت المال من زيد" لم يصلح أن
تحذف" من" فتقول : " أخذت المال زيدا" كما صلح أن تقول :
" اخترت الرّجال زيدا".
قال سيبويه : " ومنه قول
الفرزدق :
ومنّا الذي
اختير الرّجال سماحة
|
|
وجودا إذا
هبّ الرّياح الزّعازع"
|
فهذا البيت
شاهد لقولنا : " اخترت الرّجال زيدا" ؛ ولذلك أنّك لو رددت هذا إلى ما
لم يسمّ فاعله قلت : " اختير زيد الرّجال" ، فإن قدّمت قلت : " زيد
اختير الرّجال" وقوله : " منّا الذي اختير" في" اختير"
ضمير قد أقيم مقام الفاعل يعود على الذي ، والرجال المفعول الثاني.
قال الفرزدق :
نبّئت عبد
الله بالجوّ أصبحت
|
|
كراما
مواليها لئيما صميمها
|
مستشهدا لما
قدّم من حذف" عن" في قوله : " نبّئت زيدا" في معنى"
نبّئت عن زيد".
وقد أنكر قوم
هذا فقالوا : " نبّئت زيدا فعل كذا" بمعنى" أعلمت زيدا فعل
كذا" ، ونحن إذا قلنا : " أعلمته زيدا قائما" فليست" عن"
مقدرة ، وكذلك هي غير مقدّرة ، في قولك : " نبّئت زيدا".
فالجواب في هذا
أن" نبّئت" وإن كانت تجري مجرى" أعلمت" في العمل ، ويتقارب
معناهما ، فليست هي" أعلمت" ؛ وذلك أن" نبّئت" مأخوذ من"
النّبأ" و" النّبأ" هو الخبر لا العلم ، بإجماع أهل اللغة ، والخبر
يتعدّى بعن ، ألا ترى أنك تقول : " هذا خبر عن زيد" ، إذا أخبرك به مخبر
عنه بخبر ما ، فكذا" هذا خبر عن دارك وعن أمرك" ، وما أشبه ذلك ، فأصل النبأ
يصل بعن ، وإن حذفت في بعض المواضع. و" عبد الله" في البيت : قبيلة ،
فلذلك أنّث مواليها وصميمها ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين وليس لك
أن تقتصر على أحد المفعولين
" وذلك قولك : حسب عبد الله زيدا
بكرا ، وظنّ عمرو خالدا أباك ، وخال عبد الله زيدا أخاك ، ومثل ذلك : رأى عبد الله
زيدا صاحبنا ، ووجد عبد الله زيدا ذا الحفاط".
__________________
قال أبو سعيد :
اعلم أنّ الأفعال التي يشتمل عليها هذا الباب ، إنما هي أفعال من أفعال تدخل على
مبتدأ وخبر ، لتبيّن اليقين أو الشّكّ ، وهي سبعة أفعال : ظننت ، وحسبت ، وخلت ،
ورأيت ، إذا أردت بها رؤية القلب ، ووجدت ، إذا أردت به وجود القلب ، وزعمت ،
وعلمت.
والاعتماد بهذه
الأفعال على المفعول الثاني الذي كان خبرا للمفعول الأول ، وذلك أنك إذا قلت :
" حسبت زيدا منطلقا" فأنت لم تشكّ في زيد ، وإنما شككت في انطلاقه ، هل
وقع أو لا ، وكذلك إذا قلت : " علمت زيدا منطلقا اليوم" فإنما وقع علمك
بانطلاقه إذا كنت عالما به من قبل ؛ وإنما كان كذلك ، لأنك إذا قلت" زيد
منطلق" قبل دخول هذه الأفعال ، فإنما تفيد المخاطب انطلاقه الذي لم يكن يعرفه
، لا ذاته التي قد عرفها ، فكذلك إذا قلت : " حسبت زيدا منطلقا" فالشكّ
في انطلاقه ، لا في ذاته.
وهذا الاسمان ،
وإن كان الاعتماد على الثاني منهما ، فلا بد من ذكر الأول ، ليعلم صاحب القصة
المشكوك فيها أو المتيقّنة ، ولا بد من ذكر الثاني ؛ لأنه المعتمد عليه في اليقين
أو الشكّ ، كما كان هو المستفاد قبل دخول هذه الأفعال ، فقد صحّ أنه لا يجوز
الاقتصار على أحدهما دون الآخر. ولو لم تذكر واحدا منهما وجئت بالفعل والفاعل فقط
، جاز في كل هذه الأفعال ، كقولك : ظننت. ومن أمثال العرب : " من يسمع
يخل" ، ففي" يخل" ضمير فاعل ، ولم يأت بمفعولين.
ولو جئت بظرف
أو مصدر ، ولم تأت بواحد من المفعولين ، جاز كقولك : " ظننت ظنّا"
و" ظننت يوم الجمعة" و" ظننت خلفك". وقال الله تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) ، فأتى بالمصدر فقط.
وحروف الجرّ
إذا اتّصلت بها هذه الأفعال فهي بمنزلة الظروف ، كقولك : " ظننت بزيد"
و" ظننت في الدّار" ، أي وقع ظنّي في هذا المكان ، كما تقول : " ظننت
يوم الجمعة" و" ظننت خلفك".
وقد يتوجه بعض
هذه الأفعال على معنى لا يحتاج فيه إلى مفعولين ؛ فمن ذلك : " ظننت" قد
تكون بمعنى اتّهمت ، ومنه يقال : " رجل ظنين" أي متّهم ، فإذا كان كذلك
__________________
تعدّى إلى مفعول واحد ، تقول : " ظننت زيدا" كما تقول : " اتّهمت
زيدا".
ومنه : " علمت"
إذا أردت به معرفة ذات الاسم ، ولم تكن عارفا به من قبل كقولك : " علمت
زيدا" أي عرفته ولم أكن أعرفه من قبل ، وليس بمنزلة قولك : " علمت زيدا
قائما" إذا أخبرت عن معرفتك بقيامه ، وكنت عارفا من قبل.
ومنه"
رأيت" إذا أردت به رؤية العين ، بمنزلة : " أبصرت" يتعدّى إلى
مفعول واحد ، تقول : " رأيت زيدا" ، كما تقول : " أبصرت زيدا"
، وإذا كانت الرؤية للقلب تعدّت إلى مفعولين ، على ما ذكرنا ، وكان لها معنيان :
العلم والحسبان. قال الله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً) أي يحسبونه بعيدا ونعلمه قريبا.
"
والظّنّ" أيضا قد يكون بمعنى العلم ، كقولك الله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُوا رَبِّهِمْ) وقال الشاعر :
فقلت لهم
ظنّوا بألفى مدجّج
|
|
سراتهم في
الفارسيّ المسرّد
|
ومعناه :
أيقنوا.
ومنه : " وجد
عبد الله ضالّته" إذا أصابها ، فهو يتعدى إلى مفعول واحد.
وأما"
حسب" و" خال" و" زعم" ، فلا يكون لهنّ معنى غير ما
ذكرنا.
وقد جاءت سبعة
أفعال لم يسمّ فاعلوها ، تجري مجرى هذه الأفعال التي قدمنا ذكرها وهي : نبّئت ،
وخبّرت ، وأخبرت ، وأعلمت ، وأريت ، وحدّثت ، وقد كانت متعدّية في الأصل إلى ثلاثة
، فأقيم واحد منها مقام الفاعل ، وبقى الآخران كمفعولي الظنّ في جميع أحكامها ؛
لأن معنى : أعلمت ، وأريت ، يعود إلى : علمت ، ورأيت وأنبئت ، ونبّئت ، وخبّرت ،
وأخبرت ، وحدّثت يعود معناها إلى : حسبت.
وقد كان تعدّي
الفعل في هذه الخمسة الأفعال بحرف جرّ ؛ لأن معنى : " أنبئت زيدا
منطلقا" : " نبّئت عن زيد" ، وقد مر هذا.
قال سيبويه : " وإنما منعك
أن تقتصر على أحد المفعولين هاهنا أنّك إنما أردت
__________________
أن
تبيّن ما استقر عندك من حال المفعول الأوّل يقينا كان أو شكّا".
يعني من خبره
وقصته.
"
وذكرت الأوّل لتعلم الذي تضيف إليه ما استقر عندك".
يعني أنك إذا
قلت : " علمت زيدا منطلقا" بيّنت ما استقر عندك من حال زيد ، وهو الانطلاق
، وكان يقينا لا شكّا ، وذكرت زيدا ، وهو الأول ، ليعرف صاحب الانطلاق أيّ شيء
استقرّ له عندك من الانطلاق ، فمعنى قوله : " لتعلم الذي تضيف إليه"
لتعلم زيدا الذي أضفت إليه الشيء الذي استقر له ، يعني لزيد ، عندك وهو الانطلاق.
ثم قال : " وإنما ذكرت" ظننت" ونحوه
، لتجعل خبر الأوّل يقينا أو شكّا". وقد ذكرنا هذا.
ثم قال
:
" ولم ترد أن تجعل المفعول الأوّل فيه الشك ، أو يعتمد فيه على اليقين".
يعني أنك إذا
قلت : " حسبت زيدا منطلقا" ، فليس الشكّ في زيد ، وإذا قلت" علمت
زيدا خارجا" فالعلم لم يقع به ، وإنما وقع بخروجه ، فلم يعتمد على زيد في
العلم.
ثم قال : " ومثل ذلك : علمت زيدا الظّريف ،
وزعم عبد الله زيدا أخاك". وهذا مثال لما يتعدى إلى مفعولين.
ثم قال : " وإن قلت : رأيت ، فأردت به رؤية
العين ، أو وجدت ، فأردت وجدان الضالّة ، فهو بمنزلة : ضربت". وقد ذكرنا هذا.
ثم قال : " ولكنّك إنما تريد بوجدت : علمت
، وبرأيت : ذلك أيضا".
يعني : أردت
بوجدت الذي يتعدّى إلى مفعولين بمعنى : علمت ، وهو الوجود بالقلب ، وكذلك : رأيت ،
الذي هو رؤية القلب.
ثم قال : " ألا ترى أنه يجوز للأعمى أن
يقول : رأيت زيدا الصّالح ، وقد تكون بمعنى : عرفت".
يعني : وقد
تكون" علمت" بمعنى" عرفت" وقد تكون" علمت" لحدوث
العلم بالأول. وقد ذكرنا هذا. وهو بمنزلة" عرفت" ؛ لأن" عرفت"
إنما يراد به حدوث المعرفة بالاسم ، فإذا قلت : " عرفت زيدا" فإنما عرفت
ذاته ، ولم تكن عارفا ، ولو قلت" عرفت زيدا منطلقا" كانت المعرفة بذات
زيد لا بانطلاقه ، و" منطلقا" نصب على الحال ،
كأنك قلت : عرفته في حال انطلاقه.
ولا فرق بين
العلم والمعرفة ، ووجود القلب ورؤيته إذا أردت بها العلم في التّحصيل ، غير أنّ
العرب تجعل عرفت زيدا لمعرفة ذاته فقط ، وتجعل" وجدت" و"
رأيت" لمعرفة قصّته فقط ، كقولك : وجدت زيدا منطلقا ، و" رأيته
متكلّما" ، وتجعل" علمت" مرّة لمعرفة الذات فقط ، في مذهب"
عرفت" ومرّة في معرفة القصّة ، في مذهب" وجدت". وقال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) وقال الله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ
لا تَعْلَمُونَهُمُ).
قال سيبويه : " أمّا ظننت
ذاك ، فإنما جاز السّكوت عليه ؛ لأنك تقول : ظننت فتقتصر".
يعني : أنّ قول
العرب : " ظننت ذاك" إنما يعنون ذاك الظّنّ ، وقد جاز أن تقول : ظننت ،
كما بينّا ، فإذا جئت بذاك ، وأنت تعني به المصدر ، فإنما أكّدت الفعل ، ولم تأت
بمفعول يحوج إلى مفعول آخر.
قال سيبويه في تفسير هذا : " تقول ظننت ثم
تعمله في الظن ، كما تعمل ذهبت في الذهاب ، فذاك هاهنا الظن كأنك قلت : ظننت ذاك
الظنّ وكذلك : خلت وحسبت.
يعني إذا قلت :
خلت ذاك ، وحسبت ذاك.
قال : " ويدلّك على أنه الظن أنك لو قلت
: خلت زيدا وأرى زيدا يجز". وهذا بيّن.
ثم قال : " وتقول : ظننت به ، أي جعلته موضع
ظنّك ، كما تقول : نزلت به ، ونزلت عليه" :
وقد بينا أن
اتصال هذه الأفعال بحروف الجر كاتصالها بالظروف ، ولا تحوج إلى ذكر مفعول آخر.
ثم قال : " ولو كانت الباء زائدة بمنزلتها
في قوله : كفى بالله ، لم يجز السّكوت عليه".
__________________
يعني : لو كانت
الباء في قولك : " ظننت بزيد" زائدة ، لاحتجت إلى مفعول آخر ؛ لأنك لو
قلت : " ظننت زيدا" لاحتجت إلى مفعول آخر ، والباء في" كفى
بالله" زائدة ، لأنّ معناه : كفى الله.
ثم قال : " فكأنك قلت : ظننت في الدار ،
وشككت فيه".
يعني أنك إذا
قلت" ظننت بزيد" ، فهو كقولك : ظننت في الدار ، وشككت في زيد.
وقد بيّنا هذا
فاعرفه.
هذا باب الفاعل الذي يتعدّى فعله إلى ثلاثة مفعولين
قال سيبويه : " لا يجوز أن
يقتصر على مفعول واحد دون الثلاثة ؛ لأن المفعول الأول هاهنا كالفاعل في الباب
الذي قبله في المعنى ، وذلك قولك : أرى زيدا بشرا خير الناس ، ونبّأت زيدا عمرا
أبا فلان ، وأعلم الله زيدا عمرا خيرا منك".
قال أبو سعيد :
اعلم أن هذا الباب منقول من الباب الذي قبله ، وذلك أن الباب الذي قبله كان متعديا
إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، فنقلت الفعل عن الفاعل إلى من أدخله في
فعله ، فصار الفاعل مفعولا ، واجتمع ثلاثة مفعولين ، وصار المدخل له في الفعل هو
الفاعل ، وذلك أنك إذا قلت : " علم زيد عمرا منطلقا" ، فيجوز أن يكون
أعلمه معلم ، فإذا ذكرت ذلك المعلم ، صيّرت زيدا مفعولا له ، فقلت : " أعلم
بكر زيدا عمرا منطلقا".
وهذا الباب
يشتمل على ثلاثة أضرب : ضرب منها كان متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على
أحدهما من السبعة الأفعال التي قدمنا ذكرها في الباب الذي قبل هذا ، وهي ظننت
وأخواتها ، وهذا الضرب في فعلين من تلك الأفعال فقط ، وذلك أرى وأعلم منقولان من
رأى وعلم. وكان الأخفش يقيس عليها الجميع ، فيقول : " ظنّ زيد عمرا أخاك
منطلقا" ، " وأزعمته ذاك إيّاه" ، وكذلك يعمل في الأفعال السبعة ،
وغيره لم يجاوز ما قالت العرب.
والضرب الثالث
: ما يكون متعديا إلى مفعول أو مفعولين ، ثم يتعدى إلى الظرف ويجعل الظرف مفعولا
على سعة الكلام ، فيقال فيما يتعدى إلى مفعول : " سرق زيد عبد الله الثّوب
اللّيلة" ، فعبد الله هو المفعول الأول ، وقد سقط منه حرف الجر ، والثوب هو
المفعول الصحيح ، والليلة ظرف جعلته مفعولا على السعة ، و" أعطيت عبد الله
ثوبا
اليوم" إذا جعلت اليوم مفعولا على السعة.
وفي النحويين
من يقول : إنّ الظرف لا يجعل مفعولا على السعة بعد تعدي الفعل إلى ثلاثة مفعولين ،
لأنها نهاية التعدّي ، وإنما يجعل مفعولا على السعة فيما كان يتعدى إلى مفعول
ليلحق بما يتعدى إلى ثلاثة.
قال سيبويه : واعلم أن هذه
الأفعال إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين ، فلم يكن بعد ذلك متعدّ ، تعدّت
إلى جميع ما يتعدّى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل".
قال أبو سعيد :
أراد أنّ الفعل الذي يتعدى إلى مفعول أو إلى مفعولين أو إلى ثلاثة ، يتعدّى بعد
تعدّيه إلى المفعول أو المفعولين أو الثلاثة إلى الظرف من الزمان والمكان ، والحال
، والمصدر ، وقد بينا هذا فيما مضى.
ومثله سيبويه
فقال : "
وذلك قولك : " أعطى عبد الله زيدا المال إعطاء جميلا ، فزيد والمال هما مفعولا" أعطى" و"
إعطاء" مصدر و" جميلا" نعت ، فتعدّي" أعطى" إلى"
إعطاء" ، كتعدّي قام إلى القيام ، إذا قلت : " قام زيد قياما
حسنا".
ثم قال سيبويه : " وسرقت عبد
الله الثّوب اللّيلة ، لا تجعله ظرفا".
يعني : لا
تجعل" الليلة" ظرفا ، ولكنك تجعلها مفعولا على السعة. وقوله." لا
تجعلها ظرفا". يعني : أن" سرقت عبد الله الثوب الليلة" يتعدى إلى
ثلاثة مفعولين ، إذا لم تجعلها ظرفا وجعلتها مفعول على السعة. وذكر ضمير الليلة في
قوله : " لا تجعله ظرفا" ؛ لأنه أراد الوقت ، أو هذا اللفظ.
ثم قال : " ولكن كما تقول : يا سارق الليلة
زيدا الثوب ، لم تجعلها ظرفا".
والضرب الآخر :
ما كان في معنى الخبر والتقدير فيه" عن" وهو في خمسة أفعال.
نبّأت ، وأنبأت
، وخبّرت ، وأخبرت ، وحدّثت ، كقولك : " أخبرت أباك زيدا منطلقا"
و" حدّثت عمرا بكرا أخاك".
وقد قال الحارث
بن حلّزة :
...
|
|
فمن حدّثتموه
له علينا العلاء
|
__________________
فالتاء والميم
المفعول الأول ، وقد أقيم مقام الفاعل ، والهاء المفعول الثاني ، و" له علينا
العلاء" جملة في موضع المفعول الثالث.
وهذان الضربان
المفعول الثالث فيهما خبر عن المفعول الثاني ، ولا يجوز ذكر أحدهما دون الآخر ،
ويجوز الاقتصار في هذين الضربين على المفعول الأول ؛ لأن المفعول الأول في هذين
الضربين بمنزلة الفاعل ، والفاعل يجوز أن يقتصر عليه ، ألا ترى أن قولنا : " أعلم
الله زيدا عمرا منطلقا" : أصله : " علم زيد عمرا منطلقا" وأنت لو
قلت : " علم زيد" وسكت عليه جاز ، وكذلك يجوز أن تقول : " أعلمت
زيدا" وكذلك : " نبّأت زيدا" ، ولا تذكر أي شيء نبأته ، ويجوز ألا
تذكر المفعول الأول وتذكر المفعولين الآخرين ، فتقول : " أعلمت دارك
طيّبة" ، وأنت تريد : أعلمت زيدا ؛ لأن زيدا ليس يتعلق بالمفعولين الآخرين ،
وليس يضطر الكلام إلى ذكره ؛ لأنه مفعول يستغنى عنه.
وقول
سيبويه : " لا يجوز أن يقتصر على مفعول واحد دون الثلاثة" فإن معناه لا يحسن ، ألا ترى إلى قوله : " لأنّ المفعول
هاهنا كالفاعل في الباب الذي قبله". ويجوز الاقتصار على الفاعل في الباب الذي قبله.
وكثير من مفسري
كتاب سيبويه من المتقدمين والمتأخرين ، ربما قالوا : لا يجوز الاقتصار على واحد من
الثلاثة ، تلقّنا من لفظ سيبويه من غير تفتيش ولا تحصيل. والصحيح ما خبرتك به.
يريد : أنك إذا
قلت : يا سارق الليلة ، فقد جعلتها مفعولا له على السعة لا غير ، وأضفت إليها اسم
الفاعل ، كما تقول : يا ضارب زيد. وإذا قلت : " سرقت عبد الله الثوب
الليلة" جاز أن تكون" الليلة" مفعوله على السعة ، وجاز أن تكون
ظرفا ، فإن لم تجعلها ظرفا فقد صيرتها بمنزلة" يا سارق الليلة" التي لا
تكون ظرفا.
فإن قال قائل :
لم جاز أن تكون" الليلة ظرفا إذا لم تضف إليها ، ولا يجوز أن تكون ظرفا إذا
أضفت إليها؟
قيل له : معنى
الظّرف ما كانت" في" مقدرة محذوفة ، فإذا ذكرنا" في" أو حرفا
من حروف الجر ، فقد زال عن ذلك المنهاج ، فإذا أضفناه إليه فقد صارت الإضافة
بمنزلة حروف الجر ، فخرج من أن يكون ظرفا.
ثم قال سيبويه
ممثلا لما قدم : "
وتقول : أعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين
إعلاما"." فالعلم" مصدر و" اليقين" نعت له
، و" إعلاما" مصدر أيضا ، فجاء بمصدرين ، أحدهما فيه فائدة ليست في
الفعل ، وهو العلم اليقين ؛ لأنّ معناه العلم اليقين الذي تعرف ، و"
إعلاما" هو تأكيد لأعلمت ، لأنه ليس فيه فائدة أكثر مما في أعلمت.
وقال سيبويه في
التمثيل : "
وأدخل الله عمرا المدخل الكريم إدخالا" ، فعمرو المفعول الأوّل ، و" المدخل" المفعول
الثاني ، و" الكريم" نعت له ، و" إدخالا" مصدر.
هذا باب المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعول
قال
سيبويه : " وذلك قولك : كسى عبد الله الثّوب ، وأعطى عبد الله المال ، رفعت
عبد الله هاهنا ، كما رفعته في ضرب ، حين قلت : ضرب عبد الله ، وشغلت به : كسي
وأعطي ، كما شغلت به ضرب ، وانتصب الثوب والمال ؛ لأنهما مفعولان تعدى إليهما فعل
مفعول ، هو بمنزلة الفاعل".
قال أبو سعيد :
قد قدمنا أنّ الفعل يصاغ للذي يقع به كما يصاغ للذي يقع منه ، وإن كانت الصيغتان
مختلفتين ، فإذا قلت : ضرب زيد ، فقد صغت : " ضرب" لزيد ، ورفعته به ،
كما أنك إذا قلت : جلس زيد ، فقد صغت" جلس" لزيد ، ورفعته به.
و"
ضرب" وبابه يسمى فعل مفعول ؛ لأن الذي صيغ له قد كان مفعولا ، وكان له فاعل
مذكور ، فقد علمت أن الفعل إذا ارتفع به فاعله ، فجميع ما تعلّق به سوى الفاعل
منصوب وكذلك إذا وضعته لمفعول فرفعته به فجميع ما تعلق به سواه منصوب. فوجب في
قولك : " كسى عبد الله الثّوب" و" أعطى عبد الله المال" نصب
الثوب والمال ؛ لأن عبد الله قد ارتفع بالفعلين وصيغا له ، وتعلّق الثوب والمال
بالفعلين جميعا. فوجب نصبهما كما بينا.
وهذا الباب
يتعدّى فعل المفعول فيه إلى مفعول آخر فقط ، واعتبار ذلك أنك تنظر الفعل الذي
يتعدّى إلى مفعولين ، وقد سمّي فاعله ، فإذا أردت أن تنقله إلى ما لم يسمّ فاعله
حذفت الفاعل وأقمت أحد المفعولين مقامه بصياغة الفعل له ، فصار الفعل للمفعول الذي
رفعته ، ونصبت المفعول الآخر ، فصار المفعول متعدّيا إلى مفعول ، ولو كان الفعل
الذي يسمى فاعله متعدّيا إلى مفعول واحد ، ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله ، أقمت
المفعول مقام الفاعل ، فصار الفعل للمفعول ، ولا يتعدّى إلى غيره ، لأنّ المفعول
الذي كان يتعدّى إليه قد صار مرفوعا مصوغا الفعل ، وذلك نحو قولك : " ضرب
زيد" وقد كان أصله :
" ضرب عمرو زيدا" فحذفت" عمرا" وقلت : " ضرب
زيد". ولو كان الفعل يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين ، ونقلته إلى ما لم يسمّ فاعله
صار فعل المفعول يتعدّى إلى اثنين ، كقولك : " أعلم زيد عمرا منطلقا"
وقد كان : " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا" فافهم هذا الترتيب.
ولو كان الفعل
غير متعدّ إلى شيء من المفعولات ، فنقلته إلى ما لم يسمّ فاعله أقمت المصدر ، أو
الظرف ، أو حرفا من حروف الجرّ المتصلة بالاسم مقام الفاعل ، وذلك قولك : " سير
بزيد السير الشّديد فرسخين يومين" ، تقيم الباء مقام الفاعل ؛ وإن شئت قلت :
" سير بزيد السير الشّديد فرسخين يومين" ، تقيم" السّير" مقام
الفاعل ؛ وإن شئت قلت : " سير بزيد السّير الشّديد فرسخان يومين"
و" فرسخين يومان" ، أيّ الظرفين شئت ، أقمته مقام الفاعل.
واعلم أن الفعل
الذي يتعدّى يجوز أن لا تذكر مفعوله فيما لا يسمّى فاعله وتقام حروف الجرّ أو
الظرف أو المصدر مقام الفاعل ، كقولك : " ضرب بزيد" و" ضرب ضربتان
في الدّار اليوم" ، " وضرب اليوم في الدّار ضربتين".
قال
سيبويه : " فإن شئت قدّمت وأخّرت ، فقلت : " كسي الثّوب زيد"
و" أعطى المال عبد الله ، كما قلت : ضرب زيدا عبد الله ، فأمره في هذا المكان
كأمر الفاعل".
وقد بيّنا هذا
، ويجوز أن يقال أيضا فيه : " الثّوب كسي زيد" و" المال أعطى عبد
الله" كما تقول : " زيدا ضرب عمرو".
قال
سيبويه : " واعلم أن المفعول الذي لا يتعداه فعله إلى مفعول يتعدى إلى كل شيء
تعدّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعول".
يعني : أن قولك
: " ضرب زيد" هو فعل للمفعول الذي لا يتعدى إلى مفعول آخر يتعدّى إلى
الظرف من الزمان والمكان والمصدر والحال ، كما تعدّى فعل الفاعل إلى هذه الأربعة ،
وإن كان لا يتعدّى إلى مفعول غيرها كقولك : " جلس" و" قام"
و" ذهب".
ثمّ مثّل تعدّي
فعل الفاعل إلى هذه الأربعة فقال : " وذلك قولك : ضرب زيد الضّرب
الشّديد" ، فهذا قد تعدّى إلى المصدر.
ثم بيّن أن فعل
المفعول قد يجوز أن يجعل الظرف معه مفعولا على سعة الكلام ، كما كان ذلك في فعل
الفاعل فقال : "
ضرب عبد الله اليومين اللّذين تعلم ، لا تجعله ظرفا" ، يعني اليومين " ولكن كما تقول : يا مضروب
اللّيلة الضّرب الشّديد" ، الليلة في
قولك : " يا مضروب اللّيلة" قد كانت مفعولة على سعة الكلام ،
وأضيف إليها" مضروب" كما يضاف الفاعل إلى المفعول في قولك : " ضارب
زيد" و" مكسوّ ثوب" و" معطى درهم" بمنزلة" ضارب
زيد" ؛ لأن هذا مفعول صيغ له الفعل ، ثم أضيف إلى مفعوله ، كما أن"
ضاربا" فاعل صيغ له الفعل ، وأضيف إلى مفعوله.
ومن تمثيله
أيضا : "
أقعد عبد الله المقعد الكريم" ، المقعد ظرف من ظروف المكان.
ثم
قال : " فجميع ما تعدّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعوله ،
يتعدى إليه فعل المفعول ، الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعول" ، يعني : الظرفين ، والحال ، والمصدر. وقد بينا ذلك.
ثم
قال : " واعلم أن المفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل في التعدّي والاقتصار
، بمنزلته إذا تعدّى إليه فعل الفاعل ، لأن معناه متعدّيا إليه فعل الفاعل. وغير
متعدّ إليه فعله سواء".
يريد : أن
المفعول الذي لم يسمّ فاعله ، وهو الذي لم يتعد إليه فعل الفاعل ، إذا كان يجوز
الاقتصار عليه في حال تسمية الفاعل ، جاز الاقتصار عليه ، وإن لم يسمّ الفاعل ،
وإن كان لا يجوز الاقتصار عليه في حال تسمية الفاعل ، لم يجز الاقتصار عليه في حال
ما لم يسمّ فاعله ، وذلك أنّك تقول : " ضرب عمرو زيدا" ، فتقتصر
على" زيد" ولا تأتي بظرف ولا مصدر ولا غير ذلك ، و" كسى زيد
عمرا" فيجوز الاكتفاء به ، فإذا نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله ، قلت : " كسي
عمرو" و" ضرب زيد" ، فلا يحتاج إلى غيره. ولو قلت" ظنّ زيد
عمرا منطلقا" ، ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله قلت : " ظنّ عمرو
منطلقا" ولم يجز : " ظنّ عمرو" وتسكت ، كما لم يجز أن تقول :
" ظنّ زيد عمرا" وتسكت.
ونقل الفعل إلى
ما لم يسمّ فاعله ، لا يجلب للفعل مفعولا لم يكن له في حال تسمية الفاعل ، ولا
يزيل عنه مفعولا كان له ، ألا ترى أنك تقول : " ضربت زيدا" فلا تجاوز
هذا المفعول ، وتقول : " ضرب زيد" فلا يتجاوزه أيضا الفعل ؛ لأنّ المعنى
واحد ، وتقول : " كسوت زيدا ثوبا" فتجاوز زيدا إلى مفعول آخر ، ثم تقول
: " كسي زيد ثوبا" فلا تجاوز الثوب.
قال
سيبويه : " لأن الأوّل بمنزلة المنصوب" ، يعني" زيدا" في قولهم : " كسي زيد
ثوبا" بمنزلته في : " كسوت زيدا ثوبا" ، لأن المعنى واحد ،
وإن كان لفظه لفظ الفاعل ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا باب المفعول الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين
وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر
قال
سيبويه : " وذلك قولك : نبّئت زيدا أبا فلان ، لما كان الفاعل يتعدّى إلى
ثلاثة ، تعدّى فعل المفعول إلى اثنين".
يعني : " نبّأت
زيدا عمرا أبا فلان". وقد ذكرنا هذا.
قال
: " وتقول : أرى عبد الله أبا فلان ؛ لأنك لو أدخلت في هذا الفعل الفاعل ،
وبنيته له ، لتعدّاه فعله إلى ثلاثة مفعولين".
يعني : أنك إذا
قلت : " يريني زيد عبد الله أبا فلان" ، تعدى إلى ثلاثة مفعولين فإذا
نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله تعدى إلى مفعولين ، وقد مر هذا.
ثم
قال : واعلم أن الأفعال إذا انتهت هاهنا ، فلم تجاوز ، تعدّت إلى جميع ما يتعدّى
إليه الفعل الذي لا يتعدّى المفعول".
يعني : أن
الفعل بعد تعدّيه إلى المفعولين في هذا الباب يتعدّى إلى المصادر والظرفين والحال
كما تعدى" ضرب زيد" إلى ذلك.
ثم
مثل فقال : " أعطي عبد الله الثّوب إعطاء جميلا ، ونبّئت زيدا أبا فلان
تنبيئا ، وسرق عبد الله الثّوب اللّيلة ، لا تجعله ظرفا ، ولكن على قولك : " يا
مسروق اللّيلة الثّوب".
قال أبو سعيد :
أما قوله : " أعطي عبد الله الثّوب إعطاء جميلا" ، فإنه عقد الباب على
مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، ثم جعل الشاهد : " أعطي عبد الله
الثّوب" ، وساغ ذلك ، لأنه أراد أن يبيّن المصدر ، وهو" إعطاء
جميلا" ولم يرد أن يمثّل نفس الفعل ، وحين أراد أن يمثل نفس الفعل قال :
" نبّئت زيدا أبا فلان" و" أرى عبد الله أبا فلان".
وأما قوله : " نبّئت زيدا
أبا فلان تنبيئا" مصدر" نبّئت".
وقد قال سيبويه
في باب المصادر : إن" فعّلت" إذا كان لام الفعل منه همزة ، فهو بمنزلة
ما لام الفعل منه ياء ، فينبغي أن يجيء على" تفعلة" ، فيقال : " تنبئة""
سرّيته
تسرية" و" سوّيته تسوية" ، وإذا كان صحيحا من غير الياء
والهمزة ، جاء على" تفعيل" و" تفعلة" نحو : " كرّمته
تكريما وتكرمة" ، و" عظّمته تعظيما".
ورد عليه أبو
العبّاس فقال : الهّمزة بمنزلة سائر الحروف الصحاح تجيء على تفعيل ، وظنّ أنّ
سيبويه لم يجز التفعيل في باب الهمز ، وقد تكلّم به في هذا الباب ، ولو لا أنه
جائز عنده ما تكلّم به ، ولكن الأكثر في باب الهمز التّفعلة ، لأنها يلحقها
التليين ، وإن كان التفعيل جائزا في الهمز ، ولكنه ذكر في باب المصادر الأكثر في
كلام العرب.
وأما قوله :
" سرق عبد الله الثّوب اللّيلة" فإنما قصد أن يبيّن أنّ فعل المفعول قد
يجوز إذا كان متعدّيا إلى مفعول واحد أن يجعل الظرف معه مفعولا على السّعة ، وقد
ذكرنا نظير هذا.
ثم
قال : " صيّر فعل الفاعل والمفعول حيث انتهى فعلهما ، بمنزلة الفعل الذي لا
يتعدّى فاعله ولا مفعوله ، ولم يكونا أضعف من الفعل الذي لا يتعدّى".
يعني : أن
المفعول والفاعل اللذين يتعدّى فعلهما في تعدّيهما إلى المصدر والظرفين والحال
ليسا بأضعف من الفعل الذي لا يتعدّى في تعدّيه إلى هذه الأشياء.
هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينتصب
وهو حال وقع فيه الفعل وليس بمفعول
قال
سيبويه : " كالثوب في : كسوت الثّوب ، وكسوت زيدا الثّوب ؛ لأنّ الثّوب ليس
بحال وقع فيها الفعل ، ولكنه مفعول كالأوّل".
قال أبو سعيد :
ضمّن سيبويه هذا الباب ما ينتصب لأنّه حال ، وفرّق بينه وبين ما ينتصب لأنه مفعول
ثان ، فيما يتعدّى من الفعل إلى مفعولين ، ولك أن تقتصر على أحدهما ، من قبل أنّ
الحال إنما هي وصف من أوصاف الفاعل والمفعول في وقت وقوع الفعل ؛ كقولك : " قام
زيد ضاحكا" أي وقع فعله في الحال التي هو موصوف فيها بضاحك ، و" ضرب زيد
هندا قائمة" أي وقع الضرب بها في الحال التي هي موصوفة فيها بقائمة ، وإذا
قلت : " كسوت زيدا الثّوب" ، فالثوب ليس هو الكاسي ، ولا هو المكسوّ ،
فليس بحال وقع فيها الفعل من أحوالهما ، فوجب أن يكون الثوب مثل زيد في فصول الفعل
إليه وتناوله له. وهذا معنى قوله : " ولكنّه مفعول كالأول" يعني : الثوب
مفعول كزيد.
ثم
قال : " ألا ترى أنه يكون معرفة ، ويكون معناه ثانيا كمعناه أولا ، إذا قلت :
كسوت الثّوب ، وكمعناه إذا كان بمنزلة الفاعل ، إذا قلت : كسي الثّوب".
قال أبو سعيد :
أما قوله : "
يكون معرفة" ، يعني أن المفعول الثاني مما يتعدّى إلى مفعولين يكون معرفة ، كقولك :
" كسوت زيدا الثّوب" ، والحال لا تكون معرفة ، لأنك لا تقول : " قام
زيد الضّاحك" فأراك الفرق بين المفعول الثاني وبين الحال.
وأما قوله : " ويكون معناه
ثانيا كمعناه أولا" ، يعني : أنّ المفعول الثاني إذا كان معه مفعول ، فهو
بمنزلته إذا لم يكن معه مفعول غيره ، وذلك أنك إذا قلت : " كسوت زيدا
الثّوب" ، فالثوب هو مفعول ثان ، وقد وصل الفعل إليه ، وإذا قلت : " كسوت
الثّوب" ولم تذكر غيره ، فهو أوّل ، ومعناه في الوجهين جميعا واحد ؛ لأنك ،
وإن لم تذكر غيره ، فقد علم أنّك ألبسته شيئا ما ، والحال ليس كذلك ؛ لأن الحال لا
تقوم بنفسها منفردة عن الأسماء التي هي حال منها كما انفرد الثوب عن المفعول
الأوّل ، لا تقول : " ضربت قائمة" وتنصب قائمة على الحال ، وأنت تريد :
" ضربت هندا قائمة".
وأما قوله : " كمعناه إذا
كان بمنزلة الفاعل" ، يعني : أن الثوب قد يقوم مقام الفاعل فيقال : " كسي
الثّوب" ، ولا تقام الحال مقام الفاعل ، ففرّق بينها ، لاختلاف حكمها.
ثم مثّل الحال
الذي عقد الباب عليه فقال : "
وذلك قولك : ضربت عبد الله قائما ، وذهب زيد راكبا ، فلو كان بمنزلة المفعول الذي
يتعدّى إليه فعل الفاعل : نحو عبد الله وزيد ، ما جاز في ذهبت".
يعني لو كان ما
ينتصب بالحال كالمفعول نحو : عبد الله وزيد ما جاز الحال من" ذهب"
لأنّ" ذهب" لا يتعدّى إلى مفعول فلما جاز" ذهبت راكبا" ولم
يجز" ذهبت زيدا" علمنا أنه ليس مثله.
ثم
قال : " ولجاز أن تقول : ضربت زيدا أباك ، وضربت زيدا القائم ، لا تريد بالأب
ولا بالقائم ، الصفة والبدل".
يعني : أنه لو
كان الحال بمنزلة الاسم المفعول لجاز أن تأتي" لضربت" بمفعول ثان فتقول
: " ضربت زيدا أباك" على أن تجعل : " زيدا" المفعول الأول ،
و" أباك" مفعولا ثانيا ،
ولا تجعله نعتا لزيد ، كذا" ضربت زيدا القائم" ، كما قلت :
" ضربت زيدا قائما" ونصبته على أنّه حال ، فلما جاز في" ضربت
زيدا" أن تأتي بمنصوب آخر حال ، ولا تأتي بمنصوب آخر مفعول ، كزيد وعمرو ،
علمنا أن الحال لا تشبه المفعول.
قال
سيبويه : " فالاسم الأوّل المفعول به في ضربت ، قد حال بينه وبين الفعل أن
يكون فيه بمنزلته ؛ لأن ضربت إنما يتعدّى إلى مفعول واحد ، كما حال الفاعل بينه
وبين الفعل في ذهب ، أن يكون المفعول به فاعلا ، وكما حالت الأسماء المجرورة بين
ما بعدها وبين الجار ، في قولك : لي مثله رجلا ، ولي ملؤه عسلا ، وما في السّماء
موضع راحة سحابا ، وكذلك : ويحه فارسا".
قال أبو سعيد :
أما قوله : "
فالاسم الأوّل المفعول في ضربت ، قد حال بينه وبين الفعل" ، يعني : أنّك إذا قلت : " ضربت زيدا قائما"
فزيد الذي هو المفعول الأوّل قد اكتفى به" ضربت" في التعدّي إليه ،
فامتنع" قائم" من وصول الضرب إليه ، كما يصل إلى المفعولات ، فانتصب ،
لأنّه حال ، كما أنك إذا قلت : " ذهب زيد راكبا" فقد اكتفى"
ذهب" بزيد ، لأنه فاعل له ، فلم تصر الحال فاعلا ، فقد صار الفاعل حائلا بين
الفعل وبين الحال أن يكون فاعلا. ومثل ذلك أنّك إذا قلت : " لي مثل هذا الجيش
رجلا" و" ملء هذا القدح عسلا" فقد أضفت" مثل" إلى الجيش.
ونصبت" رجلا" على التمييز ، وكذلك" عسلا" ؛ لأنّ المضاف إليه
وهو المجرور قد حال بين الاسم المضاف وهو" مثل" و" ملء" وما
أشبه ذلك ، وبين" رجلا" و" عسلا" وما أشبه ذلك ، أن يكون
مجرورا ؛ لأنّه قد استوفى الجرّ ، وليس ينجرّ به اثنان ، فانتصب لأنه تمييز كما
انتصب الحال ، بعد استيفاء الفعل لفاعله ومفعوله ؛ لأنه حال ، ولم يصر فاعلا ولا
مفعولا ، وكذلك : " ويح زيد فارسا" بمنزلة : " لي مثل الجيش
رجلا" والهاء في" مثله" و" ملؤه" و" ويحه"
أسماء مجرورة.
ثم
قال : " وكما منعت النون من عشرين أن يكون ما بعدها جرّا".
يعني أنك تقول
: " عشرون درهما" فتنصب" درهما" على التمييز ، وقد حالت النون
بين" عشرون" وبين" درهم" أن ينجرّ الدّرهم ، بإضافة العشرين
إليه ، ألا ترى أنك تقول : " عشرو زيد" إذا أردت إضافتها إلى مالكها ،
وتحذف النون ، فقد علمت أن النون حائلة بين" عشرو" وبين"
الدرهم" أن يكون منجرّا.
ثم
قال : " فعمل الفعل هاهنا فيما يكون حالا ، كعمل : لي مثله رجلا ، فيما
بعده".
يعني : أن عمل
الفعل في الحال ، كعمل ما ينصب على طريق التمييز ، وذلك أن الحال لا تكون إلا نكرة
، والتمييز لا يكون إلا بنكرة ومعناهما متقارب ، وذلك أنّك إذا قلت : " جاء
زيد" فإن مجيئه يصلح أن يكون واقعا في حال من أحوال يمكن أن يكون له ، فإذا
قلت : " راكبا" فقد ميّزت هذه الحالة من سائر الأحوال المقدّرة ، وإذا
قلت" جاءني عشرون" يصلح أن يكونوا من أنواع كثيرة ، فإذا قلت : " رجلا"
بينت واحدا من الأنواع الممكنة ، غير أنّ النوع المميّز غير الشيء المميّز ،
والحال هي اسم الفاعل والمفعول في حال وقوع الفعل ، فهما مختلفان في أنفسهما ،
ومتقاربان في طريق نصيبهما.
ثم
قال سيبويه : " ألا ترى أنه لا يكون إلا نكرة ، كما أن هذا لا يكون إلا
نكرة" يعني : لا تكون الحال إلا نكرة ، كما لا يكون التمييز إلا نكرة.
ثم
قال : " ولو كان هذا بمنزلة الثّوب وزيد في : كسوت لما جاز في ذهبت راكبا ،
لأنه لا يتعدى إلى مفعول".
يعني : لو كان
الحال بمنزلة الثوب لما جاز ذهبت راكبا ، ما لا يجوز : " ذهبت الثّوب و"
ذهبت زيدا".
ثم
قال : " وإنما جاز هذا لأنه حال وليس معناه كمعنى الثوب وزيد ، فعمل كعمل غير
الفعل ولم يكن أضعف منه ، إذ كان يتعدّى إلى ما ذكرت من الأزمنة والمصادر
ونحوه".
يريد : إنما
جاز تعدّي الفعل إلى الحال ، وإن كان الفعل لا يتعدّى إلى مفعول كما يعمل غير
الفعل وهو" عشرون درهما" ونحوه ، " ولي مثله رجلا" ، ولم يكن
الفعل في تعدّيه إلى الحال بأضعف من عمل العشرين في التميز ؛ لأنّ الفعل يتعدّى
إلى الظروف والمصادر وليس كذلك العشرون.
هذا باب الفعل الذي يتعدّى اسم الفاعل إلى اسم المفعول
واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد
"
فمن ثم ذكر على حدته ، ولم يذكر مع الأوّل ، ولا يجوز فيه الاقتصار على الفاعل ،
كما لم يجز في ظننت على المفعول الأول : لأنّ حالك في الاحتياج إلى الآخر هاهنا ،
كحالك في الاحتياج إليه ثمة ، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى".
قال أبو سعيد :
اعلم أنّ هذه الأفعال التي ضمّنها هذا الباب أفعال تدخل على مبتدأ وخبر فتفيد فيها
زمانا محصلا أو نفيا أو انتقالا أو دواما ، فمن ذلك : " كان" ولها ثلاثة
معان ، أحدها : ما ذكرناه ، كقولك : " كان زيد عالما" ، وكان الأصل :
" زيد عالم" فدخلت" كان" لتوجب أنّ ذلك في زمان ماض ، وكذلك :
" يكون زيد منطلقا".
وقد يكون ما
جعلته" كان" في الزّمان الماضي منقطعا ، وغير منقطع ؛ فأما ما لم ينقطع
فقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً) وهو في كل حال موصوف بذلك عزوجل ، وأما ما قد انقطع فقولك : " قد كنت غائبا وأنا
الآن حاضر". وقد يحتمل أن يكون" وكان الله عليما حكيما" في تأويل
المنقطع ، ومعناه : ما وقع عليه العلم والحكمة ، لا العلم والحكمة ، كما قال الله
تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) والمعنى : حتى يجاهد المجاهدون منكم ونحن نعلمهم.
والمعنى الثاني
من معاني كان : أن تكون في معنى : حدث ووقع ، كقولنا : " كان الأمر" أي
حدث.
والوجه الثالث
: أن تكون زائدة. وقولنا : " تكون زائدة" ليس المعنى بذلك أنّ دخولها
كخروجها في كل معنى ، وإنما يعني بذلك أنه ليس لها اسم ولا خبر ، ولا هي لوقوع شيء
مذكور ، ولكنها دالّة على زمان ، وفاعلها مصدرها : وذلك قولك : " زيد كان
قائم" و" زيد قائم كان" تريد ذلك الكون ، وقد دلّت كان على الزمان
الماضي ؛ لأنك لو قلت : " زيد قائم" ولم تقل : " كان" لوجب أن
يكون ذلك في الحال.
وقال الشاعر :
سراة بني أبي
بكر تساموا
|
|
على كان
المسوّمة العراب
|
يريد : على
المسوّمة العراب كان ذلك الكون. ومثل ذلك قولنا : " زيد ظننت منطلق"
وألغينا" ظننت" ولم نعملها ، ومع ذلك فقد أخرجت الكلام من اليقين إلى
الظنّ. كأنك قلت : زيد منطلق في ظنّي. وكذلك قولك : " زيد منطلق كان"
وإن لم تعمل" كان" في اللّفظ ، فقد أوجبت أن هذا المعنى في زمان ماض.
__________________
ولكان أخوات وهي
: صار ، وأصبح ، وأمسى ، وظلّ ، وأضحى ، وبات ، وليس وما زال ، وما دام ، وما
تصرّف منهنّ ؛ فأما صار ففيها معنى الانتقال ، وهي تدخل على جملة لم يكن لها مثل
تلك الحال من قبل ، كقولك : " صار زيد عالما" و" صار الطين
خزفا" ، أي انتقل إلى هذه الحال. وقد تدخل على غير جملة لما فيها من معنى
الانتقال كقولك : " صار زيد إلى عمرو". وأنت لا تقول : زيد إلى عمرو ،
ولكنه بمعنى انتقل إلى عمرو.
وأما أصبح
وأمسى وأضحى وبات وظلّ فهي أوقات مخصوصة دخلن على جمل ، فإذا قلت : " أصبح
عالما" فكأنك قلت : دخل في وقت الصباح وهو عالم ، وإذا قلت : " أمسى"
فقد قلت : دخل وقت المساء وهو كذلك : " أضحى" : دخل وقت الضّحى. و"
ظلّ زيد منطلقا" : أتى عليه النهار وهو منطلق. و" بات زيد قائما" :
أي أتى عليه الليل وهو قائم ، فهذه أوقات مخصوصة. والذي يعمّها ويكون مبهما واقعا
لكل وقت : " كان".
وبينهنّ
وبين" كان" فرق ، وذلك أنّ" كان" لما انقطع ، و"
أضحى" و" أمسى" و" بات" غير منقطع ، ألا ترى أنّك تقول :
" أصبح زيد غنيا" فهو غنيّ في وقت إخبارك ، غير منقطع غناه ، وربما
توسّعت العرب في بعض هذه الأفعال ، فاستعملوه في معنى : " كان" و"
صار" فيقولون : " أصبح زيد غنيّا" ولا يقصد إلى وقت الصباح دون غير
هذا. قال الشاعر :
ثمّ أضحوا
كأنّهم ورق جفّ
|
|
فألوت به
الصّبا والدّبور
|
ولم يقصد إلى
وقت دون وقت.
وأما"
ليس" فإنها تدخل على جملة فتنفيها في الحال ، كقولك" ليس زيد
قائما" والأصل : " زيد قائم" قبل دخول" ليس" وفيه إيجاب
قيامه في الحال ، فإذا قلت : " ليس زيد قائما" فقد نفيت هذا المعنى ،
وكان الأصل في" ليس" : " ليس" مثل : " صيد البعير"
فخفّفوه ، وألزموه التخفيف ؛ لأنه لا يتصرّف للزومه حالة واحدة ، وإنما تختلف
أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدلّ عليها ، وجعلوا البناء الذي خصّوه به
ماضيا لأنّه أخفّ الأبنية.
فإن قال قائل :
وما الدّليل على أن ليس فعل؟ قيل له : الدليل على ذلك اتصال
__________________
الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال ، كقولك : لست ولسنا ولستم والقوم
ليسوا قائمين.
وأما" ما
زال" فما للنفي و" زال" للنّفي فصار المعنى بدخول النّفي على
النّفي إيجابا فإذا قلت : " ما زال زيد قائما" و" لم يزل بكر
منطلقا" و" لا يزال أخوك في الدّار" فقد أوجبت ذلك كلّه بنفي
النفي. ولا تستعمل" زال" إلا مع حروف النفي ؛ لو قلت : " زال زيد
منطلقا" لم يجز ، ولو قلت : " ما زال زيد إلا منطلقا" لم يجز ؛
لأنّك لمّا أدخلت" إلا" انتقض معنى" ما" فصار تقديره : "
زال زيد منطلقا" وهذا لا يجوز.
وأما قوله :
" ما دام زيد منطلقا" فليست" ما" هاهنا مثلها في قولك :
" ما زال زيد منطلقا" ؛ لأنّ" ما" في" ما زال"
للنفي ، و" ما" هاهنا مع بعدها من الفعل في موضع مصدر يراد به الزّمان ،
وذلك أنّك إذا قلت : " أنا أقوم هاهنا ما دام زيد قاعدا" فمعناه :
" أقوم هاهنا دوام زيد قاعدا" ، وتريد بالدوام : وقت الدّوام ؛ تقول :
" جئتك مقدم الحاجّ" ، تريد وقت مقدم الحاج. ولو قلت : " ما دام
زيد قائما" من غير أن يكون معه كلام ، لم يجز ؛ لأنه في معنى ظرف من الزّمان
، فيحتاج إلى ما يقع فيه. ولو قلت : " ما زال زيد قائما" كان كلاما
تامّا ، ولا يستعمل" ما دام" إلا بلفظ" ما" ؛ لأنّ"
ما" وما بعدها بمعنى المصدر. و" ما زال" يجعل مكان" ما"
حروف النفي فيقال : " لم يزل" و" لا يزال" ولن يزال".
وقد يقتصر في
بعض هذه الأفعال على الفاعل ، كقولك : " أصبح الرجل" و" أمسى
زيد" و" أضحى بكر" أي دخل في هذا الوقت ، كما يقال : " أظهر
الرجل" أي دخل في وقت الظّهر ، ويقال : " دام الرّجل على فعل كذا"
و" دام الرّخص بحمد الله تعالى".
وكل هذه
الأفعال يستعمل فيها الماضي والمستقبل إلا" ليس" و" ما دام"
فإنّ" ليس" ليس لها مستقبل ، و" ما دام" إذا جعلت في
مذهب" كان" في جعل الاسم والخبر لها ، تقول : " آتيك ما دام زيد
صاحبك" ، ولا يقال : ما يدوم زيد صاحبك ؛ وذلك أن قولك : " ما دام"
ليس لها إلا طريقة واحدة ، فاختير له بناء واحد ، وإنما يستعمله القائل فيما قد
وقع ويشترط اتّصاله ودوامه ، والفعل الذي يقع على" ما دام" مستقبل أبدا.
وهذه الأفعال
إذا كانت مقدّرا دخولها على اسم وخبر لم يجز الاقتصار على الاسم دون الخبر ، ولا
على الخبر دون الاسم ، كما لم يجز الاقتصار على المفعول الأوّل في"
ظننت" ولا على الثاني. وقد بيّنا ذلك فيما مضى.
وذكر سيبويه من
جملة هذه الأفعال : كان ، ويكون ، وصار ، وما دام ، وليس ، ثم قال
بعقب ذلك : " وما كان نحوهنّ من الفعل مما لا يستغني عن الخبر".
وقد ذكرنا جملة ذلك.
ويلحق به :
" ما فتئ" وهو بمعنى : " ما زال" ، وكذلك : " ما
انفكّ" ، ولا يستعملان إلا في النّفي ، كقولك : " ما فتيء زيد
قائما" و" لا يفتأ منطلقا" و" ما انفكّ ذاهبا" و"
لا ينفّكّ منطلقا" ، ويلحقون به أيضا : " طفق" ، تقول : " طفق
زيد يفعل كذا" كما تقول : " ظلّ يفعل كذا" و" بات باللّيل
يفعل كذا" غير أنّ" ظل" بالنهار ، و" بات" بالليل ،
و" طفق" تصلح بالنهار والليل.
ثم مثل سيبويه
فقال : "
تقول : كان عبد الله أخاك" ، فإنّما أردت أن تخبر عن الأخوّة وأدخلت كان
لتجعل ذلك فيما مضى ، وذكرت الأوّل كما ذكرت المفعول الأول في" ظننت".
يعني أن
الفائدة في قولك : " كان عبد الله أخاك" الإخبار عن الأخوّة ، وكذلك
الفائدة في كل اسم وخبر في الخبر دون الاسم.
وقوله
: " أدخلت كان لتجعل ذلك فيما مضى" ، يعني أنّ كان دلت أن الفائدة المستفادة بالخبر فيما مضى
من الزّمان ، وذكرت الاسم لتعلم أنه صاحب هذه الفائدة ، كما ذكرت المفعول الأوّل
في باب" ظننت".
ثم
قال : " وإن شئت قلت : كان أخاك عبد الله ، وقدّمت وأخّرت ، كما فعلت ذلك في
: ضرب ، لأنه فعل مثله".
يعني أنّ تقديم
المنصوب في هذه الأفعال كتقديم المفعول. فجاز أن تقول : " كان أخاك عبد الله"
كما جاز" ضرب أخاك عبد الله" و" أخاك كان عبد الله" كما تقول
: " أخاك ضرب عبد الله". ويجوز ذلك في سائر أفعال هذا الباب.
فأما" ما
زال" و" ما فتيء" و" ما دام" فلا يجوز تقديم الأسماء
على" ما" فيهنّ ، وذلك أن (ما) في" ما زال" و" ما
فتيء" و" ما انفكّ" للنّفي ، ولا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها
فلا يجوز أن تقول : " زيدا ما ضرب عمرو" وأنت تريد : " ما ضرب عمرو
زيدا" وقد كان أبو الحسن بن كيسان يجيز : " قائما ما زال زيد". وقد
بيّنّا فساد ذلك.
ويجوز في"
لا" و" لم" تقديم الخبر ، فتقول : " قائما لم يزل زيد"
و" قائما لا يزال زيد" كما يجوز أن تقول : " زيدا لم يضرب
عمرو" و" زيدا لا تضرب".
وأما" ما
دام" فإنّ" دام" و" ما فتيء" واحد ، فلا يجوز أن يتقدم (ما)
شيء عمل فيه" دام" ؛ لأنّ دام صلة لما ، ولا يفّرّق بين (ما) وبينها ،
كما لا يفرّق بين (أن) الخفيفة والفعل ، فلا يقال : " آتيك قائما ما دام
زيد".
وأما"
ليس" فإن الذي يدلّ عليه قول سيبويه في باب سأقفك عليه ، إذا انتهينا إليه أن
تقديم الخبر عليها جائز ، فتقول : " قائما ليس زيد". وبعض النحويين
يأباه ولا خلاف بينهم في جواز تقديم الخبر على الاسم بعد ليس ، كقولك : " ليس
قائما زيد".
قال
سيبويه : " وحال التقديم والتأخير فيه كحاله في : ضرب إلا أنّ اسم الفاعل
والمفعول فيه لشيء واحد".
يعني تقديم
الخبر على الاسم في" كان" كتقديم المفعول في" ضرب" إلا أنّ
الاسم المرفوع والمنصوب في كان لشيء واحد ، وفي ضرب لشيئين.
قال
سيبويه : " وتقول : كناهم ، كما تقول : ضربناهم. وتقول : إذا لم نكنهم ، فمن
ذا يكونهم ، كما تقول : إذا لم نضربهم ، فمن ذا يضربهم".
أراد الدلالة
على أن كان وأخواتها أفعال ؛ لاتصال الفاعلين بها ووقوعها على المفعولين ، كما
يكون ذلك في ضربناهم.
وقوله
: " إذا لم نكنهم" يكون على وجهين ؛ أحدهما : إذا لم نشبههم ، ألا ترى
أنّك تقول : " أنت زيد" ، في معنى : مشبه له.
والوجه الآخر :
أن يقول قائل : من كان الذين رأيتهم أمس في مكان كذا وكذا ، فيقول المجيب : "
نحن كنّاهم" إذا كان السائل قد رآهم ، ولم يعلم أنهم المخاطبون. قال أبو
الأسود الدؤلي :
فإن لا يكنها
أو تكنه فإنّه
|
|
أخوها غذّته
أمّه بلبانها
|
فجعل"
يكون" فعلا واقعا على الضّمير ، وفيه ضمير فاعل ، وإنما يصف الزّبيب والخمر
وقبل هذا البيت :
دع الخمر
تشربها الغواة فإنّني
|
|
رأيت أخاها
مغنيا لمكانها
|
يعني بأخيها
الزّبيب. ثم قال : " فإن لا يكنها" يعني إن لا يكن الزّبيب الخمر
__________________
" أو تكنه" يعني تكن الخمر الزبيب : " فإنّه أخوها"
يعني الزّبيب أخو الخمر ، لأنّهما من شجرة واحدة.
وأما أبو
الأسود الدؤلي ، فإن أهل البصرة يقولون : " الدّؤليّ" ، بضم الدّال ،
وفتح الهمزة وهو من الدّئل بن بكر بن كنانة. وفتحت الهمزة ، كما قالوا في النّمر :
نمريّ. وكان ابن حبيب يقول : الدّيل من كنانة ، والدّئل مهموز مضموم ، على مثال :
فعل : الدئل بن محلّم بن غالب بن يثبع بن الهون بن خزيمة بن مدركة. وجماعة من
النحويين منهم الكسائي ، يقول : الدّيليّ.
أخبرنا أبو بكر
أحمد بن أبي سهل الحلواني ، قال : سمعت أبا سعيد الحسن بن الحسين السكّريّ ، يقول
: حدثنا العباس بن محمد الجمحي ، قال : حدثنا محمد بن سلام بن عبيد الله ، قال :
قال يونس : هم ثلاثة : الّدول من حنيفة ، ساكن الواو ، والدّيل في عبد القيس ،
ساكن الياء ، والدّئل في كنانة رهط أبي الأسود ، الواو مهموزة ، فهو أبو الأسود
الدؤلي. هذا قول عيسى بن عمر من البصريين.
وأما
قوله : " كائن ومكون" ، فالكائن اسم الفاعل من كان ؛ لأنك إذا قلت : " كان
زيد قائما" جاز أن تقول : " زيد كائن قائما" ، وأما"
مكون" فهو لما لم يسمّ فاعله ، غير أنّ" كان" لا يجوز نقلها إلى ما
لم يسّمّ فاعله ، بأن يقام الخبر مقام الاسم ؛ لأنّا إذا قلنا : " كان زيد
أخاك" فزيد والأخ لا يستغنى أحدهما عن الآخر ، كالمبتدأ والخبر ، فلا يجوز أن
تحذف زيدا ، فيبقى الخبر منفردا ، وقد كان لا يجوز استغناؤه عن الاسم ، كما أنك لا
تقول : " حسبت زيدا" ، ولا تأتي له بخبر ؛ لأن كان وحسب جميعا إنما
يدخلان على اسم وخبر ، ولكن الوجه الذي يصح منه" مكون" أن تحذف الاسم
والخبر جميعا ، وتصوغ كان لمصدرها ، وذلك المصدر ينوب مناب الاسم والخبر ، ويكون
الاسم والخبر تفسيرا له ، فتقول : " كين الكون زيد منطلق" ، فالكون اسم
ما لم يسمّ فاعله لكين ، وزيد منطلق جملة هي تفسير الكون ، ألا ترى أنه لو قال
قائل : " هل كان زيد منطلقا" ، لقلت :
" قد كان
ذاك". وإنما تريد : قد كان ذلك الكون ، فيفهم المخاطب بذلك أنّ زيدا منطلق ،
وكذلك إذا قلت : " كان زيد منطلقا كونا" ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله
، أقمت الكون مقام الفاعل ، وجعلت الجملة تفسيرا للكون ، فقلت : " كين الكون
زيد منطلق". ويجوز إضمار الكون ؛ لدلالة الفعل عليه ، إذ كان مصدرا ، فتقول :
" كين زيد منطلق"
و" مكون زيد منطلق". وكان الفراء يجيز" كين أخوك"
في" كان زيد أخاك" ويزعم أنه ليس من كلام العرب ، ولكن على القياس ، وقد
بينا القياس في فساد ذلك.
قال
سيبويه : " وقد يكون لكان موضع آخر يقتصر عليه فيه ، فتقول : كان عبد الله ،
أي قد خلق عبد الله ، وقد كان الأمر أي قد وقع الأمر ، وقد دام فلان ، أي قد ثبت ،
كما تقول : رأيت زيدا ، تريد من رؤية العين ، وكما تقول : أنا وجدته ، تريد وجدان
الضالّة ، وكما يكون أمسى وأصبح مرة بمنزلة كان ومرة بمنزلة استيقظوا
وناموا".
وقد ذكرنا هذه
المعاني فيما مضى ، وأراد أن يبين أنّ لفظا واحدا قد يكون له حالان أحدهما يحتاج
إلى اسم وخبر ، والآخر لا يحتاج.
ثم
قال : " وأما ليس فليس يكون فيها ذلك ـ لأنها وضعت موضعا واحدا".
يعني أن"
ليس" لا يكون لها حال تستغنى بالفاعل فقط فيها.
قال
: " فمن ثمّ لم تتصرّف تصرّف الفعل لآخر".
يعني لم
تتصرّف" ليس" تصرّف"" كان" وأخواتها في الماضي والمستقبل
واسم الفاعل ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى.
قال
: " فمن جاء على وقع قوله ، وهو مقاس العائذي.
فدى لبني ذهل
بن شيبان ناقتي
|
|
إذا كأن يوم
ذو كواكب أشهب"
|
يعني إذا وقع.
ويزعم بعض
النّاس أنه : مقاعس العائذيّ ، وهو خطأ ، إنما هو : مقّاس واسمه : مسهر ابن
النعمان. وسمي مقّاسا بقوله :
مقّست بهم
ليل التّمام مسهّرا
|
|
إلى أن بدا
ضوء من الفجر ساطع
|
وقال عمرو بن
شأس :
بني أسد هل
تعلمون بلاءنا
|
|
إذا كأن يوما
ذا كواكب أشنعا
|
يريد : إذا كان
اليوم يوما ذا كواكب أشنعا ، وإنما أضمر لعلم المخاطب ، ومعناه ، إذا
__________________
كان اليوم الذي يقع فيه القتال. وبعض العرب يقول : " إذا كان يوم ذو
كواكب أشنعا" ، فيجعل" كان" بمعنى وقع ، ويجعل" أشنعا"
على الحال. وقد يجوز أن يكون" أشنعا" خبرا.
قال
سيبويه : " واعلم أنه إذا وقع في هذا الباب نكرة ومعرفة ، فالذي تشتغل به كان
المعرفة ؛ لأنّه حدّ الكلام ؛ لأنهما شيء واحد".
يعني أنك إذا
قلت : " كان زيد قائما" ، فالوجه أن ترفع" زيدا" وتنصب"
قائما" ؛ لأن" زيدا" و" قائما" شيء واحد ، وزيد هو معرفة
، وقائم نكرة ، وحدّ الكلام أن تخبر عمّن يعرف بما لا يعرف ؛ لأنّ الفائدة هي في
أحد الاسمين ، والآخر معروف لا فائدة فيه ، والذي فيه الفائدة هو الخبر ، فالأولى
أن يجعل زيدا المعروف هو الاسم وتجعل المنكور هو الخبر ، حتى يكون مستفادا ، فليس
يحسن إذن أن تقول : " كان قائم زيدا" ولا يشبه هذا" ضرب رجل
زيدا" ؛ لأنك إذا قلت" ضرب رجل زيدا" فإنما أخبرت عن رجل بالضرب
الواقع منه بزيد ، ولو نصبت رجلا ورفعت زيدا انعكس المعنى ، وصار المفعول فاعلا ؛
لأنهما شيئان مختلفان.
وقال
: " وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء إذا قلت : عبد الله منطلق".
يعني أن اسم
كان وخبره كالمبتدأ وخبره في أن الخبر فيهما نكرة ، والاسم معرفة.
ثم
مثل فقال : " وذلك قولك : كان زيد حليما ، وكان حليما زيد ، لا عليك قدمت أم
أخّرت ، إلا أنه على ما وصفت لك".
يعني أنك تنصب
الخبر المنكور وإن قدّمته ، كما جاز تقديم المنصوب في قولك : " ضرب زيد عبد الله".
قال
: " فإذا قلت : كان زيد ، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك".
يعني ابتدأت
بالاسم الذي يعرفه المخاطب ، كما تعرفه أنت ، فإنّما ينتظر الخبر الذي لا يعلمه
وتستفيده ، فإذا قلت : حليما ، فقد أعلمته مثل ما علمت مما لم يكن يعلم ، ولو قلت
: كان حليما ، فقد استفاد وقوع حلم لا يدرى لمن هو ، فإنما ينتظر صاحبه ، فإذا قلت
زيد علم أن الحلم الذي قد استفاد وقوعه لزيد هذا المعروف ، فهو جائز وإن كان
مؤخّرا في اللفظ.
ثم
قال : " وإن قلت : كان حليم أو رجل فقد ابتدأت بنكرة فلا يستقيم أن تخبر
المخاطب عن المنكور ، وليس هذا بالذي ينّزّل به المخاطب منزلتك في المعرفة ،
فكرهوا
أن يقربوا باب لبس".
يعني أن
ابتداءك بالنكرة لتحدث عنها غير مستقيم ؛ لأن المخاطب ليس ينزّل منزلتك في
معرفتها. وحكم الخطاب المفهوم أن يساوي المخاطب المتكلم في معرفة ما خبّره به ،
فإذا قال : " كان زيد عالما" فقد كان المخاطب عالما بزيد من قبل ، وقد
عرف علمه الآن ، لإخبار المتكلم إياه ، فقد ساواه في الأمرين جميعا ، وإذا قال :
" كان عالم زيدا" فعالم منكور لا يعرفه المخاطب ، ولم يجعله خبرا فيفيده
، وقد قدّمنا أنّ الأسماء لا تستفاد ، فمعرفة المخاطب بعالم غير واقعة. فلم يساو
المخاطب المتكلم إذن ؛ لأن المنكور في الإخبار لا يعرفه المخاطب ، وإن كان
المتكلّم قد رآه وعرفه.
فأما قوله : " فكرهوا أن يقربوا
باب لبس". يعني أن المخاطب يبقى على جهالته في المنكور الذي جعلته اسما.
ثم
قال : " وقد تقول : كان زيد الطّويل منطلقا ، إذا خفت التباس الزّيدين".
يعني أنك تنعت
الاسم المعروف إذا كان يشاركه في مثل لفظه غيره ، بالنعت الذي يميزه من المشاركة
في جنسه.
قال
: " وتقول : أسفيها كان زيد أم حليما ، وأرجلا كان زيد أم صبيّا ، تجعلها
لزيد ؛ لأنه إنما ينبغي أن تسأله عن خبر من هو معروف عنده".
يعني أنّك إذا
أدخلت الاستفهام على" كان" لم تغيّرها عن الحكم الذي ذكرناه من جعل
المعروف الاسم والمنكور الخبر ؛ لأنّك إنما تسأله أيضا عمّن هو معروف عندك وعنده ،
ليفيدك عنه ما لا تعرفه ، فيما تقدّر أنه يعرفه. وذلك الشيء الذي تسأل إفادته هو
الخبر.
قال
: " والمعروف هو المبدوء به ، ولا يبتدأ بما يكون فيه اللّبس وهو
النكرة". وقد ذكرنا هذا.
ثم
قال : " ألا ترى أنّك لو قلت : كان إنسان حليما ، وكان رجل منطلقا ، كنت
تلبس".
يعني أن هذا
الكلام إنما يجعل للمخاطب العلم بوقوع علم إنسان لا يعرفه من جملة الناس ، وهو قد
كان يعلم هذا قبل إخبار هذا المخبر إيّاه ، فكرهوا أن يبدؤوا بهذا المنكور بسبب
اللبس الذي ذكرناه.
قال
سيبويه : " وقد يجوز في الشّعر في ضعف من الكلام. حملهم على ذلك أنه فعل
بمنزلة ضرب ، وأنه قد يعلم إذا ذكرت زيدا ، وجعلته خبرا أنه صاحب الصّفة على ضعف
من الكلام".
يريد أنه يجوز
أن يجعل النكرة اسم كان والمعرفة خبرها في الشعر ، وإن كان جوازه في الكلام ضعيفا
، والذي حملهم على ذلك أنّهم قد جعلوا (كان) فعلا بمنزلة" ضرب". وقد
يجوز أن يكون فاعل ضرب منكورا ، ومفعوله معروفا ، وسوّغ أيضا في كان أن الاسم فيها
هو الخبر ، فإذا قلت : " كان قائم زيدا" فزيد هو القائم الذي قد نكرته ،
فتعرّف المنكور بتعريفك زيدا ؛ إذ كانا لشيء واحد ، فكأنّك تعرّف المخبر عنه بمعرفة
خبره. وكان ضعفه أنك لم تعرف بنفسه ، وحكم الاسم يعرّف بنفسه ، ثم يستفاد خبره.
واستشهد سيبويه
على ذلك بقول خداش بن زهير :
فإنّك لا
تبالي بعد حول
|
|
أظبي كان
أمّك أم حمار
|
وبقول حسان بن
ثابت :
كأنّ سلافة
من بيت رأس
|
|
يكون مزاجها
عسل وماء
|
وقول أبي قيس
بن الأسلت الأنصاري :
ألا من مبلغ
حسّان عنّى
|
|
أسحر كان
طبّك أم جنون
|
وقول الفرزدق :
أسكران كان
ابن المراغة إذ هجا
|
|
تميما بجوف
الشّام أم متساكر
|
فأما البيت
الأول ، فقد ردّ على سيبويه الاستشهاد به ؛ لأنّه جعله شاهدا لجعل النكرة اسما
والمعرفة خبرا ، واسم كان في هذا البيت : ضمير ظبي ، والضمير معرفة ، فحصل من هذا
أن اسم كان وخبرها معرفتان ، لأن الضمير معرفة ، والأم معرفة.
وليس الأمر على
ما ظنه الرادّون على سيبويه ، وذلك أنّ الذي أحوج أن يكون الاسم معروفا تبيين
المخبر عنه للمخاطب حتى لا يلتبس عليه ويستفيد خبره على ما
__________________
بيّنّاه ، وضمير النكرة لا يستفيد منه المخاطب أكثر من النّكرة ، ألا ترى
أنّ قائلا لو قال : " مررت برجل وكلّمته" ، لم تكن الهاء العائدة إلى
رجل بموجبة لتعريف شخص بعينه من بين الرجال ، وإن كانت الهاء معرفة من حيث علم
المخاطب أنها تعود إلى ذلك الرجل المذكور من غير أن يكون تمييز له من بين الرجال ،
فلا فرق بين أن تقول : " قائم كان زيدا" ويجعل في كان ضمير قائم ، وبين
أن يقول : " كان قائم زيدا" في باب معرفة المخاطب بالمخبر عنه.
وجواب آخر :
أن" ظبي" اسم كان أخرى مضمرة قبل ظبي ، وكان الثانية تفسير لها ، ويكون
اسم كان الذي أراده سيبويه ظبي.
وأما ارتفاع
ظبي فإنه على وجهين : إما أن يكون مبتدأ ، وتكون كان واسمها وخبرها في موضع خبره ،
كما تكون الجمل أخبار المبتدآت ، وإما أن يرتفع بكان أخرى مضمرة ؛ لأن ألف
الاستفهام بالفعل أولى ، فيكون تقديره : " أكان ظبي كان أمّك" فيكون ظبي
مرتفعا بكان ، ويكون : " كان أمك" تفسيرا لكان المضمرة ، ويكون كان
المضمرة بمعنى وقع ، وهذه الأخرى الظاهرة تفسيرا للمضمرة لتقارب معناهما.
وهذا الشاعر
إنما يصف إضراب النّاس عن التشرّف بالأنساب ، وتقارب ما شرف منها ووضع ، فقال : لا
تبالي بعد هذا الوقت إن دام ما نحن فيه إلى من نسبت من الأمهات.
وأما البيت
الثاني ، فإنه جعل (مزاجها) خير يكون و (عسل وماء) اسمها ، فهو مطابق لما استشهد
به سيبويه من غير اعتراض عليه. غير أن في هذا البيت ما يسهّل جعل النكرة اسما من
جهة المعنى ، وذلك أن الذي يستفيده المخاطب بعسل وماء منكورين ، هو الذي يستفيده
منهما معروفين ؛ لأنّهما نوعان متشابها الأجزاء ، ألا ترى أنّ قائلا لو قال لك : شربت
الماء والعسل ، أو قال : شربت ماء وعسلا ، كان معناهما عندك واحدا ، لعلمك أنه إذا
قال : العسل والماء أنّه لا يأتي على شربهما أبدا ، وأن غرضه من ذلك البعض ،
واستواء أجزائهما أن العسل والماء يقال لما قلّ منه وكثر : عسل وماء ، ألا ترى أنّ
جرعة ماء وأقلّ منها يقال لها ماء ، وأن دجلة والفرات والبحر ماء ، فأجزاؤه متساوية
ومما سهل ذلك أيضا أن الضمير الذي في مزاجها يعود إلى منكور ، وهي سلافة. وقد
بيّنا ما في ذلك.
وكان أبو عثمان
المازني ينشد :
" يكون مزاجها عسلا وماء"
فيحمل : وماء
على المعنى ، وذلك أن ما مازج الشيء فقد مازجه الشيء ، فكأنّه قال : ومازجها ماء.
والبيت الثالث
مثل البيت الأول. ورأس : اسم خمّار.
والبيت الرابع
كذلك أيضا ، غير أن بعضهم ينشد" أسكران كان ابن المراغة". وقد كان حكمه
أن يقول : " أم متساكرا" ؛ لأن متساكرا عطف على سكران ، ولكنّه لم يعطفه
عليه لفظا ، وعطفه على تقدير جملة معطوفة على جملة ، كأنه قال : أم هو متساكر ،
كما قال :
يهدي الخميس
نجادا في مطالعها
|
|
إمّا المصاع
وإمّا ضربة رغب
|
كأنه قال :
وإما أمرنا ضربة رغب.
قال
سيبويه : " وإذا كانا معرفة فأنت بالخيار أيّهما جعلته فاعلا رفعته ونصبت
الآخر ، كما فعلت ذلك في ضرب ، وذلك قولك : كان أخوك زيدا ، وكان زيد صاحبك ، وكان
هذا زيدا ، وكان المتكلّم أخاك".
قال أبو سعيد :
إن قال قائل : إذا كان الاسم والخبر جميعا معروفين،فما الفائدة؟
قيل له : الاسم
المعروف قد يعرف بأنحاء منفردة ، وقد يعرف بها مركّبة ، فزيد معروف بهذا الاسم
منفردا ، وأخوك معروف بهذا الاسم منفردا ، غير أن الذي عرفهما بهذين الاسمين
منفردين ، قد يجوز أن يجهل أنّ أحدهما هو الآخر ، ألا ترى أنك لو سمعت بزيد وشهر
أمره عندك ، من غير أن تراه ، لكنت عارفا به ذكرا أو شهرة ، ولو رأيت شخصه لكنت
عارفا به عيانا ، غير أنك لا تركّب هذا الاسم الذي سمعته على الشخص الذي رأيته إلا
بمعرفة أخرى ، بأن يقال لك : هذا زيد ونحوه من المعارف.
وقول سيبويه في
هذا الفصل : "
كما فعلت ذلك في ضرب" ، يريد : كما رفعت الفاعل وهو منكور ونصبت المفعول وهو
منكور في ضرب. وقد بيّنا أن الفعل لا يختص رفع المعروف دون المنكور.
قال
سيبويه : " وتقول : من كان أخاك ، ومن كان أخوك ، كما تقول : من ضرب
__________________
أباك
، إذا جعلت (من) الفاعل ، ومن ضرب أبوك ، إذا جعلت الأب الفاعل وإذا قلت : من كان
أخاك ، فمن مبتدأة وهي استفهام ، ولا يحتاج إلى صلة ، وفي ضمير من وهو اسم كان ،
وأخاك الخبر".
وقول سيبويه : " جعلت (من)
الفاعل" يريد ضمير من وإذا قلت : من كان أخوك فأخوك اسم كان ومن خبر كان ، وهي في
موضع نصب ، وليس في الكلام ضمير ، وهو بمنزلة" قائما كان زيد" إلا أن من
لا تكون إلا صدرا لأنها استفهام.
قال
سيبويه : " وكذلك : أيهم كان أخاك وأيهم كان أخوك" وتفسيره كتفسير من.
قال
سيبويه : " وتقول : ما كان أخاك إلا زيد ، كما تقول : ما ضرب أخاك إلا
زيد".
يريد أن دخول (إلا)
لم يغيّر اللّفظ عن منهاجه في الإعراب ، وإنما دخلت لتغيير معنى النفي. ومن الحروف
ما يدخل لتغيير المعنى من غير أن يحدث في اللفظ تأثيرا ، كقولك : هل زيد قائم؟
وأزيد قائم؟ ولم تغيّر (هل) و (الألف) مع إحداثهما معنى الاستفهام لفظ الابتداء
والخبر.
قال
: " ومثل ذلك قوله تعالى : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا) و
(وَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) ،
فإن وما بعدها بمنزلة المصدر ، فكأنه قال : "إلا قولهم".
وقال الشاعر :
وقد علم
الأقوام ما كان داءها
|
|
بثهلان إلا
الخزي ممّن يقودها
|
وإن شئت قلت :
ما كان داؤها إلا الخزي وقرأ بعض القراء : "ما كان حجّتهم" و "ما
كان جواب قومه".
قال
سيبويه : " ومثل قولهم : من كان أخاك قول العرب : ما جاءت حاجتك كأنه قال :
ما صارت حاجتك ، ولكنّه أدخل التأنيث على ما حيث كانت الحاجة ، كما قال
__________________
بعض
العرب : من كانت أمّك ، حيث أوقع (من) على مؤنّث".
قال أبو سعيد :
اعلم أن (من) و (ما) لهما لفظ ومعنى ، والألفاظ الجارية عليهما يحق أن تكون محمولة
على لفظيهما ومعناهما ، فإذا جرت على لفظهما ، كان مذكّرا موحّدا ، تقول : " من
قام" سواء أردت واحدا أو اثنين أو جماعة من مذكر ومؤنث ، وكذلك : " ما
أصابك" سواء أردت به شيئا أو شيئين من مذكر ومؤنث.
ويجوز أن تحمل
الكلام على معناهما ، فتقول : " من قامت" إذا أردت مؤنثا ، وفيكم من
يختصمان ، ومن يقومان ، ومن يقمن ، ومن يقومون. قال الله تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) فذكّر" يقنت" على لفظ" من" ،
وأنّث" تعمل" على معناها ، ولو ذكرهما على اللفظ أو أنّثهما على المعنى
لجاز.
وبعض الكوفيين
يزعم أنه لا يجوز تذكير الثاني ؛ لأنه قد ظهر تأنيث المعنى بقوله :
"
منكن" وهذا غلط لأنّا إنما نردّه إلى لفظ (من) وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) ، فقال تعالى : " ومن يؤمن" موحدا على
لفظ" من" ، ثم قال : " خالدين" على المعنى ، ثم رجع إلى اللفظ
فقال تعالى : " قد أحسن الله له رزقا" ، فبطل بما ذكرناه ما توهمه
الكوفي.
وقال الله
تعالى في جمع (من) على المعنى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) وعلى اللفظ : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وقال تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ثم قال تعالى : (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على المعنى.
ثم قال الفرزدق
في التثنية :
__________________
تعشّ فإن
عاهدتني لا تخونني
|
|
نكن مثل من
يا ذئب يصطحبان
|
فثنّاه على
المعنى. وكذلك الحكم في" ما" ، تقول : " ما نتج من نوقك"
و" ما نتجت من نوقك" و" ما نتجن من نوقك" ، فإذا قلت : "
ما نتج من نوقك" فهو على لفظ (ما) فإذا قلت : " ما نتجت" فهو على
معنى ناقة ، كأنك قلت : أية ناقة نتجت من نوقك ، وإذا قلت" ما نتجن من
نوقك" فكأنه يسأله عن جماعة نتجن من نوقه ، ويقدّر اللفظ على تقدير : أيّ نوق
نتجن من نوقك ، ولو كنت سائلا عن ناقتين ، ثم حملت الكلام على المعنى لقلت : ما
نتجتا من نوقك.
وأمام قول
العرب : " ما جاءت حاجتك" ، فالأصل في" جاء" أن يكون فعلا
كسائر الأفعال ، منهم من لا يجعله متعديا ، فيقول : " جاء زيد إلى عمرو"
، كما تقول : " قام زيد إلى عمرو" ومنهم من يعدّيه فيقول : " جاء
زيد عمرا" كما تقول : " لقى زيد عمرا" ، ويكون الفاعل غير المفعول.
فأما قول العرب
: " ما جاءت حاجتك" ، فقد أجروها مجرى صارت ، وجعلوا لها اسما وخبرا وهو
الاسم ، كما كان ذلك في باب كان وأخواتها ؛ فجعلوا (ما) مبتدأ وجعلوا في (جاءت)
ضمير" ما" وجعلوا ذلك الضمير اسم جاءت ، وجعلوا (حاجتك) خبر"
جاءت" فصار بمنزلة" هند كانت أختك" وأنثّوا" جاءت"
لتأنيث معنى" ما" فكأنه قال : أية حاجة جاءت حاجتك ، وجعلوا"
جاء" بمنزلة" صار" وإدخالها على اسم وخبر هو غير معروف إلا في هذا
، وهو من أمثال العرب ، ولم يسمع إلا بتأنيث" جاءت" وأجروه مجرى"
صارت" لضرب من الشّبه بينهما ، وذلك أنك تقول : " صار زيد إلى عمر"
كما تقول : " جاء زيد إلى عمرو" ؛ ففي" جاء" من الانتقال ما
في" صار" ، فحملوا" ما جاءت حاجتك" في جعل الاسم والخبر له
على" صار" في جعل الاسم والخبر له إذ قلت : " صار الّطين
خزفا" و" صار زيد منطلقا" لما بينهما من الاشتراك في معنى الانتقال
، وإنما يقوله الرجل للرجل إذا أتاه في معنى قوله : " ما جاء بك" ويقال
إن أول ما شهرت هذه الكلمة من قول الخوارج لابن عباس حين أتاهم يستدعي منهم الرجوع
إلى الحقّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام.
__________________
وقول سيبويه : " ولكنه أدخل
التأنيث على (ما) حيث كانت الحاجة".
يعني
أنّث" جاءت" لمعنى التأنيث في (ما) ؛ لأن معناها : أيّة حاجة ، ولو
حمل" جاء" على لفظ" ما" لقال : " ما جاء حاجتك" إلا
أنّ العرب لا تستعمل هذا المثل إلا مؤنثا والأمثال إنّما تحكي.
وقول العرب :
" من كانت أمّك" جعلوا (من) مبتدأة ، وجعلوا في كانت ضميرا لها ، وجعلوا
ذلك الضمير اسم كان وجعلوا" أمّك" خبرها وأنثوا" كان" على
معنى" من" فكأنه قال : " أيّة امرأة كانت أمّك".
قال
سيبويه : " وإنما صيّر جاء بمنزلة كان في هذا الحرف ؛ لأنه بمنزلة المثل كما
جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم : " عسى الغوير أبؤسا". ولا تقول : عسيت
أخانا. وكما جعلوا" لدن" لها مع" غدوة" حالة ليست مع غيرها ،
مع غدوة منّونة ، كقولهم : لدن غدوة ومن كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير
حاله في سائر الكلام ، وسترى مثل ذلك إن شاء الله تعالى".
قال أبو سعيد :
أما قوله : " إنما صير جاء بمنزلة كان في هذا الحرف" يعني أنهم جعلوا له
اسما وخبرا ، كما جعلوا لكان ، وقد بينّا هذا. ومثل ذلك : " عسى الغوير
أبؤسا" جعلوا الغوير اسم عسى ومرفوعا به ، وأبؤسا خبر الغوير ، فجرت"
عسى" مجرى" كان" في أن لها اسما وخبرا في هذا المثل فقط. ولو قال
قائل : " عسى زيد أخاك" ، كما تقول : " كان زيد أخاك" لم يجز
، وإنما أراد أن يريك أن" جاء" و" عسى" في الكلام في غير هذين
المثلين ليسا بمنزلة" كان" وصيّرا في هذا الموضع بمنزلة كان في العمل.
وقولهم :
" عسى الغوير أبؤسا" يقال إن" الزبّاء" الرّومية هي التي
قالته لما أتاها" قصير" بصناديق فيها رجال طالبا لثأر جذيمة الأبرش منها
، فأخذ في طريق الغار مريدا للإيقاع بها ، ولم يكن الطريق الذي يسلكه إليها ذلك
الطريق ، فلما أحسّت بذلك قالت : عسى الغوير أبؤسا.
وأبؤس جمع بأس
فكأنها قالت : صار الغوير أبؤسا ، إلا أنّ عسى فيها معنى الشكّ والتوقّع ، وصار
لليقين فعسى هاهنا وإن أجريناها مجرى (صار) و (كان) ، فهي غير خارجة من معنى الشك
، فكأنها قالت : عسى الغوير أن يأتيني البأس من قبله.
والغوير تصغير
الغار. وفي الناس من يقول : عسى الغوير أن يكون أبؤسا ، فينصب
أبؤسا بيكون. ولا وجه لهذا الإضمار كله.
ثم ذكر سيبويه
: "
لدن غدوة" احتجاجا بأنّ الشيء قد يكون على لفظ في موضع فلا يطرد القياس في غيره ،
وذلك أن العرب تقول : لدن غدوة ، فينصبون ، ولا يقولون : لدن عشيّة ، ولا لدن
زيدا. وكذلك : عسى الغوير أبؤسا ، وما حاجتك ، ولا يقولون : عسى زيد أخانا ، ولا
جاء زيد قائما في معنى : صار زيد قائما. وإنما تنصب العرب غدوة ، وإن كان القياس
فيها الخفض على ضرب من التأويل والتشبيه ، وذلك أنهم يقولون : " لد"
فيحذفون النون ، و" لدن" فيثبتون النون ، فشبّهوا هذه النون بالنون
الزائدة في عشرين وضاربين ؛ لأنك تقول : هذه عشرو زيد ، وضاربو زيد ، ثم تقول :
هذه عشرون درهما ، وضاربون زيدا.
قال
سيبويه : " ومن يقول من العرب : ما جاءت حاجتك ، كثير ، كما تقول : من كانت
أمّك".
يعني أن من
العرب من يجعل" حاجتك" اسم" جاءت" ويجعل خبرها" ما"
، كما يجعل من خبر" كانت" ، ويجعل" أمّك" اسمها ، وما في موضع
نصب ، كأنك قلت : أيّة حاجة كانت حاجتك ، وأيّة امرأة كانت أمّك. كما تقول :
" قائمة كانت هند" ، ولا يجوز تأخير" ما" و" من"
وإن كانتا منصوبتين في التقدير ؛ لأنهما استفهام ، والاستفهام لا يتأخر.
قال
سيبويه : " ولم يقولوا : ما جاء حاجتك".
يعني : لم يسمع
هذا المثل إلا بالتأنيث ، وليس هو بمنزلة قولك : " من كان أمّك" ؛ لأنّ
قوله : من كان أمّك ليس بمثل ، فلا يغيّر لفظه ، ولكن" من" مبتدأ
وفي" كان" ضميرها ، وهو اسم كان" وأمّك" خبر كان ،
وذكّر" كان" على لفظ" من".
قال
سيبويه : " فألزموه التاء كما اتفقوا على : لعمر الله ، في اليمين".
يعني أن العرب
اتفقوا على النطق بهذا المثل على تأنيث" جاءت" ، كما اتّفقوا على قولهم
في اليمين : " لعمر الله" ، وذلك أنّ العمر والعمر معناهما البقاء.
وقولهم : لعمر الله : لبقاء الله كأنه قال : لبقاء الله حلفي ، ولم يقل أحد : لعمر
الله ، وإن كان معناه معنى" العمر" في غير هذا الموضع. واختصّ هذا
الموضع بإحدى اللّغتين ، كما اختصّ" جاءت" بالتأنيث دون التذكير.
قال
سيبويه : " ومثل قولهم : ما جاءت حاجتك ، إذا صارت تقع على مؤنث :
قراءة
بعض القراء : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) وتلتقطه
بعض السيارة .
يريد أن"
تكن" مؤنث ، واسمها" أن قالوا" وليس في" أن قالوا" تأنيث
لفظا ، وإنما حمل تأنيثه على معنى" أن قالوا" إذا تأوّلته تأويل مقالة ،
كأنه قال : ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. وحمل" تلتقطه" على المعنى في
التأنيث ؛ لأن لفظ البعض الذي هو فاعل الالتقاط مذكّر ، ولكنّ بعض السّيّارة في
المعنى سيّارة ، ألا ترى أنه يجوز أن تقول : تلتقطه السّيّارة ، وأنت تعني البعض ،
فهذا مثل : ما جاءت حاجتك ، حين أنّث فعلها على المعنى.
قال
سيبويه : " وربما قالوا في بعض الكلام : ذهبت بعض أصابعه ، وإنما أنّث بعضا ؛
لأنّه أضافه إلى مؤنّث هو منه ، ولو لم يكن منه لم يؤنثه. لو قال ذهبت عبد أمّك لم
يحسن". يعني لم يجز.
قال أبو سعيد :
اعلم أن المذكّر الذي يضاف إلى المؤنث على وجهين ؛ أحدهما : تصحّ به العبارة عن
معناه بلفظ المؤنّث التي أضفته إليها لو أسقطته هو. والآخر لا تصح العبارة عن
معناه بلفظ المؤنث التي أضيف إليها.
فأما ما يصح
معناه لو أسقط بلفظ المؤنث ، فقولك : " أضرّت بي مرّ السّنين" و"
آذتني هبوب الرياح" و" ذهبت بعض أصابعي" و" اجتمعت أهل
اليمامة" ؛ وذلك أنك لو أسقطت المذكّر فقلت : " أضرّت بي السّنون"
و" آذتني الرّياح" و" ذهبت أصابعي" و" اجتمعت
اليمامة" وأنت تريد ذلك المعنى لجاز.
وأما ما لا تصح
به العبارة عن معناه بلفظ المؤنث ، فقولك : " ذهب عبد أمّك". ولو قلت :
" ذهبت عبد أمّك" لم يجز ؛ لأنك لو قلت : " ذهبت أمّك" لم يكن
معناه معنى قولك : " ذهب عبد أمّك" ؛ كما كان معنى : " اجتمعت
اليمامة" كمعنى" اجتمع أهل اليمامة".
وهذا الباب
الأول الذي أجزنا فيه تأنيث فعل المذكّر المضاف إلى المؤنث ، الذي تصح العبارة عن
معناه بلفظها ، فإن الاختيار تذكير الفعل ، إذ كان لمذكّر في اللفظ ؛
__________________
فقولك : اجتمع أهل اليمامة و" ذهب بعض أصابعه" أجود من"
اجتمعت" و" ذهبت" ، والتأنيث على الجواز.
ومثل تأنيث ما
ذكرنا قول الأعشى :
وتشرق بالقول
الّذي قد أذعته
|
|
كما شرقت صدر
القناة من الدّم
|
ومثل ذلك قول
جرير :
إذا بعض
السّنين تعرّقتنا
|
|
كفى الأيتام
فقد أبي اليتيم
|
فأنّث"
تعرّقتنا" والفعل للبعض ، إذ كان يصح أن يقول : إذا السّنون تعرّقتنا ، وهو
يريد بعض السّنين.
وقال جرير أيضا
:
لمّا أتى خبر
الزّبير تواضعت
|
|
سور المدينة
والجبال الخشّع
|
فأنّث"
تواضعت" والفعل للسّور ؛ لأنه لو قال : تواضعت المدينة لصح في المعنى الذي
أراده بذكر السور.
وكان أبو عبيدة
معمر بن المثنى يقول : إن السّور جمع سورة ، وهي كل ما علا ، وبها سمّي سور
المدينة سورا ، فزعم أنّ تأنيث" تواضعت" ؛ لأن السور مؤنث ؛ إذ كان جمعا
ليس بينه وبين واحدة إلا طرح الهاء ، كنحلة ونحل ، وإذا كان الجمع كذلك جاز تأنيثه
وتذكيره. وقال الله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ
نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) فذكّر. وقال الله تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ
لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فأنث.
فأما قوله :
" والجبال الخشّع" فمن الناس من يرفع الجبال بالابتداء ، ويجعل الخشع
الخبر ، كأنه قال : والجبال خشّع. ولم يرفعها بتواضعت ؛ لأنه إذا رفعها بتواضعت
ذهب معنى المدح ؛ لأن الخشّع هي المتضائلة ، فإذا قال : تواضعت الجبال المتضائلة
لموته لم يكن ذلك طريق المدح ، وإنما حكمه أن تقول : تواضعت الجبال الشّوامخ.
وقال بعضهم :
الجبال مرتفعة بتواضعت والخشّع نعت لها ، ولم يرد أنها كانت خشّعا
__________________
من قبل ، وإنما هي خشّع لموته فكأنه قال : تواضعت الجبال الخشّع لموته ،
كما قال رؤبة :
والسّبّ تخريق الأديم الألخن
ولم يقل"
الأمتن" فيكون أبلغ على ما ذكرنا ، ولكنه أراد الألخن بالسّبّ.
وقال ذو الرمة
:
مشين كما
اهتزّت رماح تسفّهت
|
|
أعاليها مرّ
الرّياح النّواسم
|
فأنّث والفعل
للمرّ ؛ لأنه لو قال : تسفّهت أعاليها الرياح ، لجاز.
وقال العجّاج :
طول الّليالي
أسرعت في نقضي
|
|
أخذن بعضي
وتركن بعضي
|
فأنث"
أسرعت" ؛ لأنه لو قال : الليالي أسرعت في نقضي ، لجاز.
قال
سيبويه : " وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق : اجتمعت أهل اليمامة ؛ لأنّه
يقول في كلامه : اجتمعت اليمامة ، والمعنى ، أهل اليمامة ، فأنّث الفعل إذ جعله في
اللّفظ لليمامة ، فترك اللفظ على ما كان يكون عليه في سعة الكلام".
يعني ترك لفظ
التأنيث في قولك : اجتمعت أهل اليمامة على قوله : اجتمعت اليمامة. وقال الفراء :
لو كنّيت عن المؤنّث في هذا الباب لم يجز تأنيث فعل المذكّر الذي أضيف إليه ، لو
قلت إن الرّياح آذتنى هبوبها ، لم يجز أن تؤنث" آذتنى" إذا جعلت الفعل
للهبوب. واحتج بأنّا إذا قلنا : " آذتني هبوب الرّياح" فكأنّا قلنا :
" آذتني الرياح" وجعلنا الهبوب لغوا وإذا قلنا : " آذتني
هبوبها" لم يصلح أن يجعل الهبوب لغوا ، ؛ لأنّ الكناية لا تقول بنفسها ،
فتجعل الهبوب لغوا.
والصحيح عندنا
جوازه ، وذلك أنّ التأنيث الذي ذكرناه ، إنما أجزناه ؛ لأنه تجوز العبارة عنه ،
بلفظ المؤنث المضاف إليها ، لا لأنه لغو ، وقد تجوز العبارة بلفظ المؤنث عن لفظ
المذكّر ، وإن كان لفظها مكنيا ، ألا ترى أنّا نقول : إن الرّياح آذتني ، وإن
أصابعي ذهبت ، وأنّا نريد البعض والهبوب.
__________________
قال
سيبويه : " ومثله يا طلحة أقبل ، لأن أكثر ما تدعو طلحة بالترخيم ، فترك
الحاء على حالها ، ويا تيم تيم عديّ وسترى هذا في موضعه إن شاء الله تعالى".
اعلم أن الاسم
الذي في آخره هاء التأنيث ينادي بأربعة ألفاظ : الضم وإثبات الهاء ، كقولك : يا
طلحة ، وبحذف الهاء وفتح الحاء ، كقولك : يا طلح ، وبهذا أكثر ما ينادى ، ويا طلح
بضم الحاء وحذف الهاء ويا طلحة بفتح الهاء وإثباتها. وهذا اللفظ هو الذي نفسره في
هذا الموضع ، وذلك أنه مفتوح ولم يلحق ترخيم في اللفظ ، وإنما جاز فتحها ، لأن
أكثر ما تنادى العرب هذا الاسم بحذف الهاء وفتح الحاء ، فإذا فعلوا ذلك ؛ ثم
أدخلوا الهاء فتحوها على حسب ما تكون الحاء مفتوحة إتباعا لها ، فكان فتحهم آخر
هذا المنادى كفتح يا طلح ، وجعل هذا شاهدا لقوله : " اجتمعت أهل
اليمامة" حين أجروه على التأنيث الذي يكون في قوله : اجتمعت اليمامة ولم يحفل
بدخول أهل.
وأما قوله " يا تيم تيم
عديّ" فإنما أراد : يا تيم عديّ ، وزاد" تيم" الثاني ، فأجراه على لفظ
تيم الأول تأكيدا ، ولم يبطل الإضافة ، كما قال : اجتمعت أهل اليمامة ، فلم يبطل
التأنيث بإدخال الأهل ، ويجوز أن يكون تقديره : يا تيم عديّ تيم عديّ ، فتحذف
المضاف إليه الأول ، اكتفاء بالثاني كما تقول : هذا نصف وثلث درهم تريد : هذا نصف
درهم وثلث درهم.
وقال الفرزدق :
يا من رأى
عارضا أسرّ به
|
|
بين ذراعي
وجبهة الأسد
|
ويجوز : يا تيم
تيم عديّ ، وهو أجود ، على أن تجعل الأول نداء مفردا ، وتجعل الثاني نعتا له.
قال
سيبويه : " فإن قلت : من ضربت عبد أمّك ، وهذه عبد زينب ، لم يجز ؛ لأنّه ليس
منها ولا بها ، ولا يجوز أن تلفظ بها ، وأنت تريد الغلام".
يريد أنك لا
تقول : " مررت بزينب" وأنت تريد غلامها. وقد أحكمنا هذا مفسرا.
قال جرير :
يا تيم تيم
عديّ لا أبا لكم
|
|
لا يلقينّكم
في سوأة عمر
|
__________________
وقد فسرنا : يا
تيم تيم عديّ.
هذا باب ما يخبر فيه عن النكرة بالنكرة
قال سيبويه : (وذلك قولك : "
ما كان أحد مثلك" ، و" ما كان أحد خيرا منك" ، و" ما كان أحد
مجترئا عليك" ، وإنما حسن الإخبار هاهنا عن النكرة ، حيث أردت أن تنفي أن
يكون في مثل حاله شيء أو فوقه ؛ لأن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا الشيء).
قال أبو سعيد :
قد قدمنا جواز الإخبار عن الشيء معقود بوقوع الفائدة للمخاطب ، وتعريفها ما يجوز
أن يجهله. فإذا قلت : " ما كان أحد مثلك" ، فقد خبّرته أنه فوق الناس
كلهم ، حتى لا يوجد له مثل أو دونه ، حتى لا يوجد له مثل في الضعة. وقد كان يجوز
أن يجهل مثل هذا من نفسه ، فيظن أن له مثلا في رفعته أو ضعته.
(وإذا
قلت : " كان رجل ذاهبا"). لم يجز ؛ لأن المخاطب لا يجهل هذا ، (وإذا قلت : " كان
رجل من آل فلان فارسا" حسن).
وجاز ؛ لأنه قد
يجوز ألا يكون في آل فلان فارس ، وقد يجوز أن يكون فيهم فارس يجهله المخاطب.
قال
سيبويه : (ولو قلت : " كان رجل في قوم عاقلا. لم يحسن) يريد : لم يجز.
(لأنه لا
يستنكر أن يكون في الدنيا عاقل ، وأن يكون من قوم).
قال
سيبويه : (فعلى هذا النحو يحسن ويقبح).
يريد : ما كانت
فيه فائدة جاز الكلام به وحسن ، وما لم تكن فيه فائدة لم يحسن.
ثم قال : (ولا
يجوز لأحد أن تضعه في موضع واجب).
قال أبو سعيد :
واعلم أن : " أحدا" له مذهبان في الكلام :
أحدهما : أن
يكون في معنى" واحد". والآخر أن يكون موضوعا في غير الإيجاب بمعنى
العموم.
فأما كونه في
موضع الواحد ؛ فأكثر ذلك يكون في العدد كقولك : " أحد وعشرون" أي : واحد
وعشرون. وقد قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) أي : واحد.
وأما الموضع
الآخر : فإنك تضعه في موضع غير الواجب ، في النفي والاستفهام ، وتنفي به ما يعقل
مؤنثا كان أو مذكرا ، صغيرا كان أو كبيرا ؛ نفيا عاما ، فتقول : " ما بالدار
أحد" ، نافيا للرجال والنساء والصبيان ، كما تقول : " ما بالدار
عريب ولا كرّاب" ، " وما بالدار طوري". ولا يجوز أن تقول : " بالدار
أحد". كما لا تقول" بالدار عريب". وتقول : " هل بالدار
أحد" ، فيكون بمنزلة" وما بالدار أحد" ؛ لأنه غير واجب.
وقد كان أبو
العباس المبرد يجيز وقوع" أحد" في كل موضع يصلح أن يكون فيه الواحد
بمعنى الجماعة نفيا كان أو استفهاما ، أو إيجابا. كقولهم : " قد جاءني كل
أحد" ، كما تقول : " قد جاءني كل رجل" ؛ لأن" كلا" إذا
وقع بعدها واحد منكور ، صار في معنى جماعة. وأما قول الأخطل :
حتّى ظهرت
فما تخفى على أحد
|
|
إلا على أحد
لا يعرف القمرا
|
ففي قوله :
" إلا على أحد". وجهان.
أحدهما : أنه
بمعنى : " واحد" كأنه قال : إلا على إنسان لا يعرف القمر.
والوجه الثاني
: أنه على الحكاية لما قبله ، ولو كان مبتدأ لم يجز ؛ لأن قوله" إلا
على" في موضع إيجاب إذا كان استثناء من نفي.
فإن قال قائل :
وكيف جاز أن يقع في النفي ما لا يصح وقوعه في الإيجاب؟ قيل له : النفي قد يصح
لأشياء متضادة في حال واحدة ، ولا يصح إيجابها. ألا ترى أنك تقول : " زيد ليس
بقائم ولا قاعد" ، إذا كان مضطجعا ، أو ساجدا ، أو راكعا ، فتنفي قيامه
وقعوده معا. ولا يصح أن تقول : " هو قائم قاعد". وكذلك تقول : " زيد
ليس بأبيض ولا أحمر" ، إذا كان أسود ، ولا يجوز أن تقول : " هو أبيض
أحمر" ، " وزيد ليس في الدار ولا في المسجد" ، إذا كان في السوق أو
غيرها. ولا يجوز أن تقول : " هو في الدار والمسجد" ، وهذا أكثر من أن
يؤتى عليه.
فإذا قلنا :
" ما جاءني أحد" ، و" ما بالدار أحد" ، فقد نفينا أن يكون
فيها كل من يعقل ، ونفينا أن يكون بها واحد منهم فقط ، وأن يكون بها جماعة دون
غيرهم ، أو صغير أو كبير. ولا يصح إيجاب هذا على طريق نفيه ؛ لأنا إذا قلنا :
" جاءني أحد" ، وسلكنا به مسلك نفي ، قد أوجبنا أن يكون قد جاءك كل من
يعقل ، وأن يكون قد جاءك واحد منهم فقط ، وأن يكون قد جاءك جماعة دون جماعة.
__________________
وأما ما قاله
أبو العباس ، في وقوعها موقع كل اسم في معنى جماعة ، فليس ذلك بمشهور من كلام
العرب ، ولا يكاد يعرف" جاءني كل أحد" ، وإن صحت الرواية ، جاز أن
يكون" أحد" في معنى" واحد".
ثم مثل سيبويه
تمثيلات يبين لك فيها أن أحدا نفي عام ، فقال :
(لو
قلت : " كان أحد من آل فلان ، لم يجز ؛ لأنه إنما وقع في كلامهم نفيا عاما. يقول
الرجل : " أتاني رجل" ، يريد واحدا في العدد لا اثنين).
أراد سيبويه :
أن قول القائل : " أتاني رجل" خاص ؛ لأنه أراد : واحدا ، فيجوز أن ينفى
هذا بعينه.
(فيقال
: " ما أتاك رجل" ، أي أتاك أكثر من ذلك).
فيكون هذا نفيا
خاصا.
(ويقول
: " أتاني رجل لا امرأة" ، فيقال : " ما أتاك رجل" ، أي :
أتتك امرأة).
فيكون هذا أيضا
نفيا خاصا ؛ لأنه نفى الذكور دون الإناث.
(ويقول
: " أتاني اليوم رجل". أي في قوته ونفاذه ، فيقول : " ما أتاك
رجل" أي أتاك الضعفاء) ، فيكون نفيا خاصا ؛ لأنه نفى الأشداء.
(فإذا
قلت : " ما أتاك أحد" كان نفيا).
لهذا كله ،
الواحد والجماعة ، والرجال والنساء ، والأشداء والضعفاء.
قال
سيبويه : (ولو قلت : " ما كان مثلك أحدا" ، و" ما كان زيد
أحدا". كنت ناقضا ؛ لأنه قد علم أنه لا يكون" زيد" ، ولا"
مثله" إلا من الناس).
قال أبو سعيد :
قد قدمنا أن الفائدة إنما تكون في الخبر دون الاسم. فإذا قلت : " ما كان مثلك
أحدا" ، " وما كان زيد أحدا مثلك" ، " فمثلك" ، و"
زيد" هو الاسم ، و" أحد" هو الخبر ، والنفي واقع على"
أحد" و" أحد" معناه : إنسان ، فكأنك قلت : " ما كان مثلك
إنسانا" ، " وما كان زيد إنسانا" ، فهذا محال. إلا أن تريد : معنى
الوضع منه ، أو الرفعة له ، وإن كنت معتقدا أنه إنسان من الجنس. ألا ترى أنك تقول
: " ما زيد بإنسان" ، إذا أردت أنه ينسلخ عن الأخلاق التي ينبغي أن
يتخلق بها الإنسان ، وكذلك يقال : " ما أنت إنسانا" عند فضل بارع يظهر
منه ، يقل وجوده في الناس قال : " فلست بإنسي ، ولكن بملاك".
قال
سيبويه : (ولو قلت : " ما كان مثلك اليوم أحد" ، فإنه يريد ألا يكون في
اليوم
إنسان
على حاله).
يريد : أن هذا
جائز ، كما جاز" ما كان مثلك أحد". وزيادة" اليوم" لم تغير
الكلام ؛ لأنه يجوز أن يكون فضله على الناس في يومه دون ما تقدم من الأيام. ثم رجع
إلى ما ذكرنا ، فقال :
(إلا
أن تقول : " ما كان زيد أحدا" أي من الأحدين." وما كان مثلك
أحدا". على تصغير لشأنه وتحقير له).
وقد ذكرنا هذا.
وقوله" من الأحدين". أي من الناس المستقيمي الأحوال. فإذا قلت : " ما
كان زيد أحدا" ـ على هذا المعنى ـ صار بمنزلة قولك : " ما ضرب زيد
أحدا" في العمل ، وجاز فيه التقديم والتأخير ، ولا فرق بين المعرفة والنكرة في
التقديم والتأخير.
وقوله
: (وحسنت النكرة في هذا الباب ؛ لأنك لم تجعل الأعرف في موضع الأنكر).
يريد أن
الفائدة قد انعقدت بالإخبار عن النكرة ، ولم يكن ذلك بمنزلة معرفة ونكرة يجتمعان
في" كان" ، فتخبر عن النكرة ، كقولك : " كان قائم زيدا" ؛ لأن
هذا إذا قلته ، فقد جعلت الأعرف الذي هو" زيد" خبرا ، وحق الخبر أن
يكون" قائم" ، فقد جعلت" زيدا". الذي هو الأعرف في موضع"
قائم" الذي هو الأنكر.
(والنكرتان
متكافئتان) متساويتان في جعل إحداهما خبرا عن الأخرى (كما تتكافأ المعرفتان) في جعل
إحداهما خبرا عن الأخرى.
ثم
قال : (وتقول : " ما كان فيها أحد خير منك" و" ما كان أحد مثلك
فيها" ، و" ليس أحد فيها خير منك" ، إذا جعلت" فيها"
مستقرا ، ولم تجعله على قولك : " فيها زيد قائم").
يريد : أنك إذا
جعلت" أحدا" اسم كان ، وجعلت" خير منك" ، " ومثلك"
نعتا له ، وجعلت" فيها" خبر" كان" ، كأن قلت : استقر فيها.
وإذا كان الظرف ، أو حرف الجر خبرا ، سمّي مستقرا ؛ لأنه بمعنى استقر.
وقوله
: (ولم تجعله على قولك : " فيها زيد قائم" ؛ لأن" زيدا" مبتدأ
، و" قائم" هو الخبر ، و" فيها" من صلة قائم. كأنك قلت :
" زيد قائم فيها").
قال
: (فإن جعلته على قولك : " فيها زيد قائم" نصبت. تقول : " ما كان
فيها أحد خيرا منك" ، و" ما كان أحد فيها خيرا منك" و" ما كان
أحد خيرا منك فيها").
تجعل"
أحد" اسم كان ، و" خيرا منك" خبرها ، و" فيها" من
صلة" خيرا منك" ، وهو ظرف ل" خيرا منك". وإذا كان الظرف أو
حرف الجر غير خبر ، وكان من صلة الخبر ، سماه ملغى ؛ لأنه يستغنى عنه ، إذا كان
الخبر في غيره ، فقولك : " ما كان فيها أحد خيرا منك فيها" ، ملغى إذا
لم يكن خبرا.
(إلا
أنك إذا أردت الإلغاء ، فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن ، وإذا كان مستقرا مكتفى
به. فكلما قدمته كان أحسن).
يعني أن قولك :
" ما كان أحد خيرا منك فيها" ، أحسن من قولك : " ما كان فيها أحد
خيرا منك" ؛ لأن" فيها" لغو.
وقولك : "
ما كان فيها أحد خير منك" ، أحسن من قولك : " ما كان أحد خير منك
فيها" ؛ لأن" فيها" خبر.
ثم مثله"
بأظن ، وأحسب" وذلك أن" أظن ، وأحسب" وبابهما يجوز فيه الإلغاء
والإعمال. فإذا أعملت ، كان التقديم أحسن ؛ فقلت : " أظن زيدا منطلقا" ،
وهو أحسن من قولك : " زيدا أظن منطلقا" ، وإذا ألغيت كان التأخير أحسن.
فقولك : " زيد منطلق ظننت" ، أحسن من قولك : " زيد ظننت
منطلق" تجعل جعلك ل" فيها" إذا كان خبرا ، بمنزلة إعمال الظن ، وإلغاءها
كإلغاء الظن في اختيارك التقديم والتأخير.
ثم
قال : (والتقديم ههنا والتأخير فيما يكون ظرفا ، أو يكون اسما في العناية
والاهتمام. مثله فيما ذكرت لك في باب الفاعل والمفعول وجميع ما ذكرت لك من التقديم
والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد).
يعني :
تقديم" فيها" وتأخيرها ، وجعلها خبرا مستقرا جيد كثير.
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ).
قدم"
له" ، وجعل الخبر" كفوا" ، والاسم" أحد" ، و" لم
يكن له" ، مستقرا وقد قدمه.
فإن قال قائل :
فكيف اختار سيبويه ألا يقدم الظرف إذا لم يكن خبرا ، وكتاب الله
__________________
تعالى أولى بأفصح اللغات؟
قيل له : قوله
تعالى : " له" وإن لم يكن خبرا يتم المعنى ، فإن سقوطها يبطل معنى
الكلام ؛ لأنك لو قلت : " لم يكن كفوا أحد" لم يكن له معنى ، فلما أحوج
الكلام إلى ذكر" له" صار بمنزلة الخبر الذي لا يستغنى عنه وإن لم يكن
خبرا ، ولم يكن بمنزلة قوله : " ما كان فيها أحد خيرا منك" ؛ لأنك لو
حذفت" فيها" كان كلاما صحيحا.
قال
: (وأهل الجفاء من العرب يقولون : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ)).
يعني : الأعراب
الذين لا يدرون كيف هو مكتوب في المصحف لقوة التأخير في أنفسهم إذا لم يكن حفظ.
قال الشاعر :
لتقربنّ قربا
جلذيّا
|
|
ما دام فيهنّ
فصيل حيّا
|
فقد
دجا اللّيل فهيّا هيّا
|
الشاهد في هذا
: أنه قدم" فيهن فصيل" وجعله لغوا ، لأنه جعل" فصيل"
اسم" مادام" ، و" حيا" خبره.
ومما سوغ أيضا
التقديم ، أنك لو حذفت" فيهن" انقلب المعنى ؛ لأنك إذا قلت : " مادام
فصيل حيا" ، فالمراد" أبدا" كما تقول : " ما طلعت شمس"
و" ما ناح قمري".
وقوله"
جلذيا" يحتمل وجهين :
أحدهما : أن
يكون نعتا ل" قربا" ومعناه : جلذيا أي شديدا كما قال العجاج :
فالخمس والخمس بها جلذيّ
ويحتمل أن يكون
اسم ناقته جلذية ورخّم.
هذا باب ما أجري مجرى ليس
(في بعض
المواضع بلغة أهل الحجاز ، ثم يصير إلى أصله.
وذلك الحرف" ما" تقول :
" ما عبد الله أخاك" ، و" ما زيد منطلقا").
قال أبو سعيد :
أعم أن" ما" حرف نفي يليه الاسم والفعل ، وقد كان من حكمه ألا يعمل شيئا
، وذلك أن عوامل الأسماء لا تدخل على الأفعال ، وعوامل الأفعال لا
__________________
تدخل على الأسماء.
فإذا كان الحرف
يدخل عليهما جميعا فمن حكمه ألا يعمل في واحد منهما ، مثل : " ألف الاستفهام.
وهل. وإنما". ألا ترى أنك تقول : " هل زيد قائم" ، و" إنما
زيد أخوك" ، و" أزيد منطلق" ، فترفع ما بعدهن على الابتداء والخبر
؛ لأنك تقول : " هل انطلق زيد" ، و" هل قام أخوك" ، و"
أذهب عمرو؟ " فتوليهن الأفعال ، كما توليهن الأسماء. فهذا هو القياس في"
ما" ؛ لأنك تقول : " ما قام زيد" كما تقول : " ما زيد
قائم" ، فتوليها الاسم والفعل. غير أن أهل الحجاز حملوا" ما"
على" ليس" ، فرفعوا الاسم بعدها بها ، ونصبوا الخبر أيضا ، كما يرفعون
الاسم" بليس" ، وينصبون الخبر بها ، إذا قالوا : " ليس زيد
قائما" وهم وإن أعملوها عمل" ليس" ، فهي أضعف عندهم من"
ليس" ؛ لأن" ليس" فعل ، و" ما" حرف ، ولضعفها عندهم لم
يجروها مجرى" ليس" في كل المواضع ؛ وذلك أن الخبر إذا تقدم على الاسم
في" ما" ، أو دخل حرف الاستثناء بين الاسم والخبر بطل عملها ، وارتفع ما
بعدها بالابتداء والخبر ، كقولك : " ما قائم زيد" ، و" ما زيد إلا
قائم".
وأما"
ليس" ، فهي تعمل في كل حال ، تقول : " ليس زيد قائما" ، و"
ليس قائما زيد" ، و" ليس زيد إلا قائما".
وإنما
عملت" ليس" في هذه الأحوال من قبل أنها فعل ، والفعل لا يمنع عمله
التقديم والتأخير والاستثناء ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيدا ضربت" و"
ما ضربت إلا زيدا".
وإنما
حملوا" ما" على" ليس" ؛ لاتفاقهما في المعنى ؛ لأنهما يدخلان
لنفي الحال ، فإذا قلت : " ما زيد إلا منطلق" ، فقد انتقض النفي الذي
اشتبها به بدخول الاستثناء ، فبطل عمل" ما" وإذا قلت : " ما قائما
زيد" لم يجز ذلك لأن الكلام قد غيّر عن وجهه بالتقديم والتأخير.
وزعم أهل
الكوفة أن خبر" ما" إنما ينتصب بسقوط الخافض وهو الباء ، وهذا قول فاسد
؛ لأنّا قد رأينا أسماء تدخل عليها خوافض من الحروف ، ولا تنتصب بزوالها عنها ،
كقولك : " كفى بالله شهيدا" ، ثم تقول : " كفى الله شهيدا" ،
وكقولك" بحسبك زيد" ، ثم تقول : " حسبك زيد" قال عبد بني
الحسحاس :
__________________
عميرة ودّع
إن تجهّزت غاديا
|
|
كفى الشّيب
والإسلام للمرء ناهيا
|
على معنى : كفى
بالشيب والإسلام. وتقول : " ما قام من أحد" ، و" هل عندك من
شيء" ؛ فإذا حذفت قلت" ما قام أحد" ، و" هل عندك شيء".
فليس حذف حرف الجر هو الذي نصبه ، وإنما نصب بها لشبه ليس.
وهذه اللغة
إنما هي لغة أهل الحجاز ، وبها نزل القرآن ، وهو قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً). وروي عن الأصمعي أنه قال : " ما سمعته في شيء من
أشعار العرب" ، يعني نصب خبر" ما". وقد أنشدنا أبو بكر بن دريد في
معاني الأشنانداني :
وأنا النذير
بحرة مسودّة
|
|
تصل الجيوش
إليكم أقوادها
|
أبناؤها
متكنفون أباهم
|
|
حنقوا الصدور
وما هم أولادها
|
فنصب خبر"
ما".
قال
سيبويه : (وأما بنو تميم فيجرونها مجرى" أما" ، و" هل" ، أي
لا يعملونها في شيء ، وهو القياس ؛ لأنها ليست بفعل).
وقد ذكرنا هذا.
قال
: (وليس" ما"" كليس" ولا يكون فيها إضمار).
يعني : لا يكون
في" ما" إضمار الفاعل ، كما يكون في" ليس" إذا قلت : " لسنا"
و" لست" ، وما أشبه ذلك.
قال
سيبويه : (فأما أهل الحجاز فيشبهونها" بليس" إذ كان معناها كمعناها ،
وقد مر هذا).
قال
: (كما شبّهت" لات"" بليس" في بعض المواضع ، وذلك مع"
الحين" خاصة. لا تكون" لات" إلا مع" الحين").
يعني أنك إذا
قلت (لاتَ حِينَ مَناصٍ) أو" لات حين فرار" ، وما أشبه ذلك ،
فبعد" لات" اسم مرفوع" بلات" ، و" حين" خبر ذلك
الاسم ، وهو منصوب ، وجعلت" لات" رافعة لذلك الاسم المحذوف ، وناصبة
للخبر ، كما ترفع" ليس" الاسم وتنصب
__________________
الخبر. وحملت" لات" على" ليس" ؛ لاشتراكها في النفي ،
وتقديره : " لات الحين حين مناص" ، كما تول : " ليس الحين حين
مناص". غير أن" لات" ، تحمل على" ليس" مع"
الحين" خاصة ، والنفي بلا ، و" التاء" زائدة ، كما تقول : " ثم
، وثمت" ، وهي تاء التأنيث ؛ وقد زيدت لأحد وجهين.
أحدهما : أن
يكون زادوها على معنى الكلمة ؛ لأن" لا" كلمة ، و" ثم" كلمة.
وإما أن يكون
زادوها للمبالغة في معناها من نفي أو غيره ، كما قالوا : " علامّة" ،
و" راوية".
ولا يظهر
بعد" لات" الاسم والخبر جميعا : إما أن يظهر الاسم ، ويحذف الخبر كقولك
: " لات حين مناص" وتقديره" لات حين مناص لنا" ، وإما أن يحذف
الاسم ، فتقول : " لات حين مناص" ، على معنى" لات الحين حين
مناص".
قال
سيبويه : (تضمر فيها مرفوعا ، وتنصب" الحين" ؛ لأنه مفعول به ، ولم
تمكّن تمكنها ، ولم تستعمل إلا مضمرا فيها).
يعني : تضمر
بعد" لات" مرفوعا ، ولم تعن الإضمار الذي يكون في الفعل مستكنا ،
مثل" لست" ، و" زيد ليس قائما" ؛ لأن" لات" حرف ،
والحروف لا يستكن فيها ضمير المرفوع.
ولكن قوله : " وتضمر
فيها" يعني تضمر في هذه الجملة بعد" لات" ـ في قلبك ـ "
الحين" ، الذي قدرناه غير مستكن في" لات".
وقوله
: " تنصب الحين ؛ لأنه مفعول به". يعني : لأنه شبيه مفعول به ؛ إذ كان خبر ليس ، إنما
ينصب تشبيها بالمفعول به.
وقوله
: " ولم تمكن تمكنها" يعني ولم تمكن" لات" تمكن" ليس".
وقوله
: " ولم تستعمل إلا مضمرا فيها". يعني : ولم تستعمل" لات" إلا محذوفا بعدها
الاسم أو الخبر.
وقوله
: " مضمرا" أي : مقدرا في قلبك محذوفا.
قال
سيبويه. (وليست" كليس" في المخاطبة والإخبار عن غائب). يعني : ليس" لات" كليس في المخاطبة ؛ لأنك
تقول : " لست قائما" ، وليس هذا في" لات" ، والإخبار عن غائب
كقولك : " عبد الله ليس منطلقا ، فتجعل" عبد الله" مبتدأ ، وتجعل
في" ليس"
ضميرا منه ، وتجعل" ليس" وما بعدها خبرا" لعبد الله"
مبنيا عليه.
(وليس
هذا في" لات" لأنك لا تقول : " عبد الله لات منطلقا" ،
ولا" قومك لاتوا منطلقين").
قال
سيبويه : (ونظير" لات" في أنه لا يكون إلا مضمرا فيها : " ليس"
و" لا يكون" في الاستثناء ، إذا قلت : " أتوني ليس زيدا" ،
و" لا يكون بشرا").
قال أبو سعيد :
واعلم أنك تقول في الاستثناء : " أتاني القوم ليس زيدا" ، و" أتاني
إخوتك لا يكون بشرا" ، وتقديره : ليس بعضهم زيدا ، ولا يكون بعضهم بشرا. غير
أن العرب لا تستعمل إظهار ذلك في الاستثناء ، وإن كان مقدرا في الكلام. قال :
فكذلك في (لاتَ حِينَ مَناصٍ) لا يستعمل إلا على الحذف ثم قال : (وزعموا أن بعضهم قرأ
: ولات حين مناص وهي قليلة).
يعني : أن
الرفع قليل بعد" لات" ، والأكثر حذف الاسم وإظهار الخبر.
كما قال سعد بن
مالك القيسي :
من صدّ عن
نيرانها
|
|
فأنا ابن قيس
لا براح
|
فجعل"
لا" بمنزلة" ليس" ، ورفع" براح" بها ، وجعل الخبر
محذوفا. ويجوز أن يكون رفع" براح" بالابتداء وحذف الخبر. غير أن الأحسن
إذا رفع ما بعد" لا" بالابتداء أن تكرر كقوله تعالى : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) و (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ).
قال
: (فجعلها بمنزلة" ليس") يعني : قوله" لا براح".
قال
: (فهي بمنزلة" لات" في هذا الموضع في الرفع).
يعني : " لا
براح" بمنزلة (لات حين مناص) إذا رفعت.
ثم
قال : (ولا يجاوز بها الحين رفعت أو نصبت). يعني : " لات" لا تستعمل إلا مع
__________________
" الحين" ، أظهرت الحين بعدها مرفوعا أو منصوبا ، وهي العاملة.
قال الأخفش :
" لات" لا تعمل شيئا في القياس ؛ لأنها ليست بفعل ، فإذا كان ما بعدها
رفعا فهو على الابتداء ، ولم تعمل في شيء رفعت أو نصبت.
يعني الأخفش :
أن" لات" حرف غير عامل ، فإذا كان ما بعدها مرفوعا فبالابتداء ، وإن كان
منصوبا ، فبإضمار فعل ، كما قال جرير :
فلا حسبا
فخرت به لتيم
|
|
ولا جدّا إذا
ازدحم الجدود
|
يعني : فلا
ذكرت حسبا. فإنما نصبت" حين مناص" بعد" لات" عند الأخفش
بإضمار فعل كأنه قال : لا أرى حين كذا.
وقال المحتج عن
سيبويه : ليس كون" لات" حرفا ، بمانعها أن تعمل عمل" ليس"
تشبيها ، كما عملت" ما" في لغة أهل الحجاز عمل" ليس" تشبيها.
قال
سيبويه : (ولا تمكن في الكلام كتمكن" ليس" وإنما هي مع"
الحين" ، كما أن" لدن" إنما ينصب بها مع" غدوة").
وقد مر الكلام
في" لدن".
ثم
قال : (وكما أن التاء لا تجر في القسم وغيره إلا في" الله" تعالى إذا
قلت" تا لله لأفعلن").
يعني :
أن" التاء" ، لا تدخل إلا في قولك : " تالله". لا تقول :
" تالرحمن" ، ولا تدخل على غيره من الأسماء ، وإنما كانت كذلك لأن الأصل
في المحلوف به" الباء" ، إذا قلت : " بالله لأفعلن" ، ومعناه
: أحلف بالله. و" الباء" توصل الحلف إلى المحلوف به ، كما تقول"
اسألك بالله" ، و" مررت بزيد".
وأبدلت" الواو"
من" الباء" ، لأنها من مخرجها فقيل : " والله" ، ثم أبدلت
التاء من" الواو" في هذا الموضع لأنها تبدل منها كثيرا نحو قولهم :
" تراث" ، و" تجاه" ، و" تهمة" و" تقي" ،
والأصل : وراث ، ووجاه ، ووهمة ، ووقي ؛ لأنه من ورث ، وواجه ، والوهم ، ووقيته.
وكان الأصل" الباء" ، وهي تدخل على كل مقسم به من ظاهر ومضمر ، فيما حلف
به الإنسان أو حلف على غيره. كقولك : " بالله وبك لأفعلن كذا" ، و"
بالله إلا فعلت
__________________
كذا" ، إذا كنت تحلّفه. و" الواو" أنقص توسعا من"
الباء" ؛ لأنها بدل منها ، فلم تدخل على المضمر ، ولا في الحلف على المخاطب ،
لا يجوز أن تقول : " وك" ، كما تقول : " بك" في اليمين ولا
تقول : " والله إلا فعلت" ، كما تقول : " بالله إلا فعلت".
و"
التاء" أضيقها كلها توسعا ؛ لأنها بدل من بدل ، فلم يستعمل إلا في اسم الله
تعالى وحده. وإنما جعل سيبويه هذا شاهدا ؛ لأنه يدخل على قولك : " الله"
، ولا يدخل على غيره من الأسماء ، مثل دخول" لات" على الحين دون غيره.
وقوله
: (فإذا قلت : " ما منطلق عبد الله" ، و" ما مسئ من أعتب"
رفعت ، ولا يجوز أن يكون مقدما مثله مؤخرا ، كما أنه لا يجوز أن تقول : " إن
أخوك عبد الله" ، على حد قولك : " إن عبد الله أخوك" ؛ لأنها ليست
بفعل ، وإنما جعلت بمنزلته. فكما لم تصرف" إن" كالفعل ، كذلك لم يجز
فيها كل ما يجوز فيه ، ولم تقو قوته وكذلك" ما").
قال أبو سعيد :
يريد أن" ما" ، إذا تقدم الخبر لم تعمل ، وإن كانت مشبهة ب"
ليس" ، كما أن" إنّ" مشبهة بالفعل ، واسمها مشبه بالمفعول ، وخبرها
مشبه بالفاعل ، ومع ذلك فلا يجوز أن يتقدم الخبر على الاسم ، كما تقدم الفاعل على
المفعول ؛ لأنها حرف لا يبلغ من قوتها أن تكون بمنزلة ما شبهت به.
قال
: (وتقول : " ما زيد إلا منطلق" ، يستوي في اللغتين جميعا. ومثله (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) ،
لم تقو" ما" حيث نقضت معنى" ليس" كما لم تقو حين قدمت الخبر).
قال أبو سعيد :
يعني أنك لما استثنيت فبطل معنى النفي ، بطل تشبيه" ما" ب" ليس"
، ولم تقو" ما" ؛ لإبطال معناها أن تعمل عمل" ليس" وقد ذكرنا
هذا المعنى.
قال
: (فمعنى" ليس" النفي ، كما أن معنى" كان" الواجب ، فكل واحد
منهما يعني" ليس وكان" إذا جردته كان هذا معناه. فإن قلت : " ما
كان" ، أدخلت عليها ما ينفي به ، فإذا قلت : " ليس زيد إلا ذاهبا"
، أدخلت ما يوجب ، كما أدخلت ما ينفي. فلم تقو" ما" في قلب المعنى ، كما
لم تقو في تقديم الخبر).
يريد :
أن" ليس" على عملها ، وإن دخلها الاستثناء فانتقض معناها ؛ لأنها فعل ،
__________________
وانتقاض معناها لا يبطل عملها ، كما أن" كان" للإيجاب وقد تدخل
عليها حروف النفي ، فيبطل معنى الإيجاب ، ولا يبطل العمل كقولك : " ما كان
زيد ذاهبا" ، نفيت ذهابه ، ونصبت كما تنصب في قولك : " كان زيد
ذاهبا" وليست" ما" كذلك ؛ لأنها أضعف من" ليس".
قال
سيبويه : (وزعموا أن بعضهم قال : وهو الفرزدق :
فأصبحوا قد
أعاد نعمتهم
|
|
إذ هم قريش
وإذ ما مثلهم بشر)
|
قال أبو سعيد :
حكى سيبويه أن بعض الناس نصب" مثلهم" وجعله على وجه الخبر في هذا البيت.
ثم استبعد ، وقال : (هذا لا يكاد يعرف).
إلا أنه حكى ما
سمع.
وهذا التأويل
في هذه الرواية ، يوجب جواز" ما قائما زيد" ، وهذا بعيد جدا.
وقد رد هذا
التأويل على سيبويه. فقيل له : قد علمنا أن الفرزدق من بني تميم ، وقد علمنا أن
بني تميم يرفعون الخبر مؤخرا فكيف ينصبونه مقدما؟ فقال المحتج عن سيبويه :
يجوز أن يكون
الفرزدق قد سمع أهل الحجاز ينصبونه مؤخرا وفي لغة الفرزدق لا فرق بين التقديم
والتأخير ؛ لأنه يرفع مقدما ومؤخرا ، فظن الفرزدق أن أهل الحجاز لا يفرقون بين
الخبر مقدما ومؤخرا. فاستعمل لغتهم فأخطأ ، وفي نصب" مثلهم" وجهان آخران
:
أحدهما : أن
يكون تقديره ، وإذ ما في الدنيا بشر مثلهم فيكون" بشر" : مبتدأ ، "
ومثلهم" : نعتا له ، و" في الدنيا" : هو الخبر ، فلما قدمت"
مثلهم" ، نصبته على الحال كقولك : " في الدار قائما رجل" كما قال :
لميّة موحشا
طلل
|
|
يلوح كأنه
خلل
|
فكأنه قال :
وإذ ما في الدنيا مثلهم بشر.
والوجه الثاني
: أن يكون" مثلهم" منصوبا على الظرف : وإذ ما في حالهم وفي
__________________
مكانهم في الرفعة بشر ، كما تقول : " وإذ ما فوقهم بشر" أي فوق
منزلتهم بشر وإذ ما دونهم على الظرف.
قال
: (وهذا لا يكاد يعرف كما أن (لاتَ حِينَ مَناصٍ) كذلك
و" رب شيء هكذا" ، وهو كقولهم : " هذه ملحفة جديدة" في القلة).
يعني : أن
نصب" مثلهم بشر" ، على تقديم الخبر لا يعرف ، كما أن (لاتَ حِينَ مَناصٍ) بالرفع قليل ، لا يكاد يعرف.
كما أن"
ملحفة جديدة" قليل وذلك أن" فعيلا" الذي بمعنى مفعول حكمه ألا
يلحقه هاء التأنيث ، كقولهم : " امرأة قتيل" ، و" كف خضيب" ،
و" ملحفة جديد" ، في معنى مقتولة ، ومخضوبة ، ومجدودة ، ولا يقال :
قتيلة ، ولا جديدة ، وقد قيل : " ملحفة جديدة" ، وهو قليل خارج عن
نظائره ، وإنما قبل ذلك عندي على تأويل متجددة ؛ فكأنها جعلت فاعلة وجعلت"
فعيلة" على معنى فاعلة. وإذا كان" فعيل" بمعنى فاعل لحقه التأنيث
كقولك : " امرأة كريمة ، وظريفة" وما أشبه ذلك.
قال
سيبويه : (وتقول : " ما عبد الله خارجا ، ولا معن ذاهب" ، ترفعه على ألا
تشرك الاسم الآخر في" ما" ولكن تبتدئه كما تقول : " ما كان عبد
الله منطلقا ولا زيد ذاهب" إذا لم تجعله على معنى" كان" وجعلته غير
ذاهب الآن).
قال أبو سعيد :
يعني أنك إذا قلت : " ولا معن ذاهب" ، فإنما نفيت ب" لا" نفيا
مستأنفا ، و" لا" لا تعمل شيئا ؛ لأنك تقول : " لا زيد ذاهب ولا
عمرو منطلق" ، وجعلت الواو لعطف جملة على جملة ، غير أنه لا يحسن أن تنفي
ب" لا" ، وترفع ما بعدها على الابتداء والخبر ، إلا أن تكرر النفي. لا
يحسن أن تقول : " لا زيد ذاهب" ، فإذا قلت : " ولا عمرو
منطلق" حسن ، أو" ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلق" ، وهذا يستقصى في
بابه.
وإذا قلت :
" ما كان عبد الله منطلقا ولا زيد ذاهب" ، " فزيد" أيضا مرفوع
بالابتداء ، واستأنفت النفي ب" لا" ، وجعلت الواو لعطف جملة على جملة ،
وكذلك" ليس عبد الله ذاهبا ولا زيد منطلق".
فإن جعلت"
لا" لتأكيد النفي الذي قبلها ولم تجعلها هي النافية عطفت آخر الكلام على أوله
فقلت : " ما كان عبد الله خارجا ولا معن ذاهبا" ، و" ما كان زيد
ذاهبا ولا عمرو منطلقا" و" ليس زيد ذاهبا ولا عبد الله خارجا" ؛
لأنك لم تحفل ب" لا" وجعلت العطف
بالواو على العامل الذي قبل.
قال
سيبويه : (وليس قولهم لا يكون في" ما" إلا الرفع بشيء ، لأنهم يحتجون
بأنك لا تستطيع أن تقول : " ولا ليس"" ولا ما").
قال أبو سعيد :
يعني بذلك قوما من النحويين يزعمون أنه لا يجوز" ليس زيد ذاهبا ، ولا معن
منطلقا" ، ولا يجيزون أيضا" ما زيد ذاهبا ولا معن منطلقا" ، حملا
على" ما ، وليس" ، وذلك أنه عندهم لا يصح عطف الثاني على الأول إلا
بتقدير إعادة العامل بعد حرف العطف ، كقولك : " قام زيد وعمرو" و"
ضربت زيدا وعمرا" ، والتقدير عندهم : قام زيد وقام عمرو ، وضربت زيدا وضربت
عمرا ، فلا يجيزون" ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا" ؛ لأنه لا يصح إعادة
العامل ، وهو" ما" ، ألا ترى أنك لا تقول : " ما زيد ذاهبا ولا ما
عمرو منطلقا" ، و" ليس زيد ذاهبا ولا ليس عمرو منطلقا".
وأما الذي
عندنا فإن المعطوف لا تقدر له إعادة العامل بعد حرف العطف ، بل تجعل العامل الأول
لهما جميعا وتجعل حرف العطف كالتثنية فيصير المعطوف والمعطوف عليه كالمثنى ، ألا
ترى أن قولنا" قام الزيدان" ، بمنزلة : " قام زيد وقام زيد" ،
و" قام زيد وعمرو" ، بمنزلة : قام الزيدان ، غير أنه لم يمكن
تثنية" زيد وعمرو" بلفظ واحد ، ففصل بينهما بالواو ، وصارت الواو
كالتثنية فيما اتفق لفظه.
ولو قدمت
ذكر" زيد ، وعمرو" ثم كنيت عنهما لم تحتج إلى عطف وثنيت كنايتهما لاتفاق
الكنايتين ، وإن كان الاسمان مختلفين ، فقلت : " زيد وعمرو قاما". وكذلك
إذا قلنا : " ليس زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا" ، و" ما زيد ذاهبا
ولا عمرو منطلقا" ، لم تحتج إلى إعادة العامل ، فبطل العطف لبطلان إعادة
العامل والذي منع من إعادة العامل أنك لا تجمع بين حرفي نفي ؛ فلم يجز إعادة"
ما" و" ليس" بعد" لا".
ثم أراهم
سيبويه المناقضة فيما أضلوا.
فقال
: (فأنت تقول : " ليس زيد ولا أخوه ذاهبين". و" ما عمرو ولا خالد
منطلقين" ، فتشركه مع الأول في" ليس" وفي" ما").
يعني : أنهم
يقولون : " ليس زيد ولا أخوه ذاهبين" ، فيعطفون الأخ على"
زيد" ، والعامل فيه" ليس" ، ولا يحسن إعادة" ليس" فقد
ناقضوا.
فإن قال قائل :
إنا إذا قلنا" ليس زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا" ، فقد تم الأول ،
وأمكن استئناف الجملة الثانية بعده. وإذا قلت : " ليس زيد ولا أخوه
ذاهبين" ، لم يجز استئناف الثاني بعد الأول ، ولا الأول حيث أتى بعده بجملة
تامة يحسن السكوت عليها. فهذا هو كلام واحد والأول كلامان.
قيل له : لسنا
ننكر هذا ، ولكنا نلزمكم المناقضة فيما اعتللتم به ؛ لأن العلة المانعة من الأول
إن كانت هي في بطلان إعادة العامل ، فقد وجدناها في المسألة الأخيرة ، وقد جازت مع
وجود هذه العلة فيها ، فلو كانت هذه العلة مانعة للعطف لمنعت في كل كلام.
قال
سيبويه : (" فما" يجوز فيها الوجهان كما يجوز في" كان" ، إلا
أنك إن حملته على الأول ، أو ابتدأت ، فالمعنى أنك تنفي شيئا غير كائن في حال
حديثك ، وكان الابتداء في" كان" أوضح ؛ لأن المعنى يكون على ما مضى ،
وعلى ما هو الآن ، وليس يمتنع أن يراد به الأول ، كما أرادت به الثاني في"
كان").
قوله
: (ف" ما" يجوز فيها الوجهان).
يريد : " ما
زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا ، ومنطلق" ، كما يجوز في" كان" إذا قلت
: " ما كان زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا ومنطلق". غير أن الجملة الثانية
فيما رفعت أو نصبت إنما تنفي شيئا في حال حديثك ، ألا ترى أنك إذا قلت : " ما
زيد ذاهبا" ، فإنما تنفي ذهابه في حال حديثك فإذا قلت : " ولا عمرو
منطلقا" ، فإنما تنفي انطلاقه في حال حديثك ، وإذا رفعت أيضا ، فأنت تنفيه في
حال حديثك ، لأنه نفي مستأنف ، ويختلف المعنى في" كان" ؛ لأنك إذا قلت :
" ما كان زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا" ، فإنما تنفي انطلاقه فيما مضى ،
وإذا قلت : " ولا عمرو منطلق" ، فإنما تنفي انطلاقه الساعة. وهذا معنى
قوله :
(وكان
في" كان" أوضح ؛ لأن المعنى يكون على ما مضى وعلى ما هو الآن).
يعني : في
النصب على ما مضي ، وفي الرفع على ما هو الآن.
وقوله
: (وليس يمتنع أن يراد به الأول).
يعني" ما
زيد ذاهبا ، ولا عمرو منطلقا ، ليس يمتنع أن تردّ الجملة الثانية على"
ما" فتنصب.
قال
: (ومثل ذلك : " إن زيدا لظريف وعمرو أو عمرا". فالمعنى في الحديث واحد
، وما تريد به من الإعمال مختلف).
يعني : أنك إذا
قلت : " إن زيدا لظريف" ، فمعناه : " زيد ظريف" ، فأدخلت إن
واللام لتؤكد ، فإذا قلت : " وعمرو" ؛ فإنما تعطفه على موضع"
زيد" قبل دخول" إن" ، وإن نصبت فعلى لفظ" زيد" ، والمعنى
فيهما واحد ، غير أن التقدير الذي قدرته للرفع والنصب مختلف ، فكذلك قولك : "
ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا ومنطلق" ، المعنى واحد ، وتقدير الإعراب مختلف.
وقال
سيبويه : (وتقول : " ما زيد كريما ولا عاقلا أبوه" ، تجعله كأنه للأول
بمنزلة" كريم" ؛ لأنه ملتبس به إذا قلت : " أبوه" فتجريه عليه
، كما أجريت عليه الكريم ؛ لأنك لو قلت : " ما زيد عاقلا أبوه" ، نصبت.
وكان كلاما).
قال أبو سعيد :
أعلم أنه لا يجوز أن تجري اسم الفاعل المشتق من فعله نعتا لغير فاعله ، أو خبرا ،
أو حالا ، إذا كان في فاعله ضمير يعود إلى الاسم الذي أجريته عليه ، وكذلك إن كان
الضمير في شيء يتعلق به الفعل من الكلام. تقول : " رأيت رجلا قائما
أبوه" ، و" مررت برجل قائم أبوه" ، و" جاءني رجل قائم
أبوه" ، فجعلت قائما نعتا لرجل ، وهو فعل أبيه لا فعله ، غير أنك أجريته عليه
، لأن في الأب هاء تعود إليه. وكذلك لو قلت : " مررت برجل قائم عمرو إليه ،
أو في داره" ، كان بمنزلة" قائم أبوه" ، فهذا في النعت.
وأما الخبر
فقولك : " كان زيد قائما أبوه" أو" إن زيدا قائم أبوه" ،
و" كان زيد قائما عمرو إليه" ، و" كان أخوك منطلقا رجل يحبه"
، و" مررت بزيد قائما رجل يحبه" ، " فقائما" : حال من"
زيد" وهو مشتق من فعل" رجل" ، وفي" يحبه" الذي هو نعت
لرجل ضمير يعود إلى" زيد" ، فاسم الفاعل ، وإن كان لغير الأول ـ إذا كان
في الكلام ما يعود إلى الأول ـ بمنزلة اسمه المشتق من الفعل ، وترفع الذي له الفعل
بفعله. فإذا قلت : " ما زيد كريما ، ولا عاقلا أبوه"" فكريما"
: خبر" لزيد" ، و" عاقلا" : عطف عليه ، و" أبوه" : مرتفع"
بعاقل" ، فقد صار" عاقلا أبوه" في أنه خبر عن" زيد"
بمنزلة" كريما" ، لما فيه من الضمير العائد إليه. ألا ترى أنك لو قلت :
" ما زيد عاقلا أبوه" ، جاز ، وصار خبرا له ، وإن كان الفعل منفيّا عن
أبيه ، كما تقول : " ما زيد عاقلا".
وتقول : "
ما زيد ذاهبا ولا عاقل عمرو" ، فلا يجوز في" عاقل" إلا الرفع ،
وذلك أنه لا يصح عطف" عاقل" على" ذاهبا" ؛ لأنه ليس في الكلام
ما يعود إلى" زيد" ألا ترى أنك
لا تقول : " ما زيد عاقلا عمرو" ، فرفعت" عاقلا"
وجعلته خبرا لعمرو ، و" عمرو" مرفوع بالابتداء. ولم يجز أن تقول :
" ولا عاقلا عمرو" على حد قولك : " ولا عمرو عاقلا" ؛ للحمل
على" ما" ؛ لأن" ما" متى تقدم خبرها بطل عملها. ألا ترى أنك
تقول : " ما عاقل عمرو" ؛ ولا يجوز أن تقول : " ما عاقلا
عمرو" ، فلم يكن إلا الاستئناف والابتداء والخبر.
ولو قلت :
" ولا عاقلا عمرو في داره" أو" عنده" ، أو ما أشبه ذلك من
الضمير جاز ، ونصبت" عاقلا" ؛ لأنه خبر" ما" عطفا على"
ذاهبا" ، ورفعت" عمرا" بفعله.
قال
: (وإن شئت قلت : " ما زيد عاقلا ولا كريم أخوه" ، إن ابتدأته ، ولم
تجعله على ضمير" ما" ، كما فعلت ذلك حين بدأت بالاسم).
قال أبو سعيد :
يعني : أنه يجوز أن تقول : " ولا كريم أخوه" على أن تجعل"
أخوه" مرفوعا بالابتداء ، لا" بكريم" ، وتجعل" كريما"
مرفوعا بخبر الابتداء ، وإن كان مقدما ، ويكون التقدير : ولا أخوه كريم ، وقد تقدم
جواز مثل هذا في قولنا : " ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلق".
ثم
قال : (ولكن" ليس" ، و" كان" يجوز فيهما النصب ، وإن قدمت
الخبر ولم يكن ملتبسا ؛ لأنك لو ذكرتهما ، كان الخبر فيهما مقدما مثله مؤخرا).
يعني : أنك إذا
قلت : " ما كان زيد ذاهبا ، ولا منطلقا عمرو" ، " وليس زيد ذاهبا
ولا منطلقا عمرو" ، جاز على حد قولك : " ولا عمرو منطلقا" ، بأن
يكون" عمرو" مرتفعا" بكان ، وليس". و" منطلقا" :
خبر ؛ لأنك تقول : " ما كان منطلقا عمرو" ، فلما جاز في العامل الأول
تقديم الخبر مع النصب ، جاز في المعطوف.
قال
: (وتقول : " ما زيد ذاهبا ، ولا محسن زيد" ، الرفع أجود ، وإن كان ،
يريد الأول : لأنك لو قلت : " كان زيد منطلقا زيد" ، لم يكن حد الكلام ،
وكان هاهنا ضعيفا ، ولم يكن كقولك : " ما زيد منطلقا هو" ؛ لأنك قد
استغنيت عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تضمره ألا ترى أنك لو قلت : " ما زيد
منطلقا أبو زيد" ، لم يكن كقولك : " ما زيد منطلقا أبوه" ؛ لأنك قد
استغنيت عن إظهاره ، وإنما كان ينبغي لك أن تضمره. فلما كان هذا كذلك ، أجرى مجرى
الأجنبي ، واستؤنف على حياله حيث كان ضعيفا فيه).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكرار ذكره في جملة واحدة ، كان الاختيار أن
يذكر ضميره ؛ لأن ذلك أخف ، وأنفى للشبهة واللبس كقولك : " زيد
ضربته" ، و" زيد ضربت أباه" ، و" زيد مررت به" ،
ولو أعدت لفظه بعينه في موضع كنايته لجاز ، ولم يكن وجه الكلام كقولك : " زيد
ضربت زيدا" ، و" زيد ضرب أبا زيد" ، و" زيد مررت بزيد"
على معنى : زيد ضربته ، وضربت أباه ، ومررت به. وإذا أعدت ذكره في غير تلك الجملة
، جاز إعادة ظاهره وحسن ، كقولك : " مررت بزيد" و" زيد رجل
صالح". قال الله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ
آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فأعاد الظاهر ؛ لأن قوله : (الله أعلم) جملة ابتداء
وخبر ، وقد مرت الجملة الأولى. فإذا قلت : " ما زيد ذاهبا ولا محسن زيد"
جاز الرفع والنصب. فإذا نصبت ، قلت : " ولا محسنا زيد" ، جعلت"
زيدا" هو الظاهر بمنزلة كنايته ، فكأنك قلت : " ما زيد ذاهبا ولا محسنا
هو" ، كما تقول : " ولا محسنا أبوه" ، فتعطف" محسنا"
على" ذاهبا" ، وترفع" زيدا" بفعله ، وهو محسن. وإذا رفعت ،
جعلت" زيدا" كالأجنبي ورفعته بالابتداء ، وجعلت" محسنا" خبرا
مقدما. واختار سيبويه الرفع ؛ لأن العرب لا تعيد لفظ الظاهر إلا أن تكون الجملة
الأولى غير الجملة الثانية ، وتكون الجملة الثانية مستأنفة ، كما قلنا في قوله : (... رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ ...) فإذا رفعته فهو مطابق لما ذكرناه وخرج عن باب العيب ؛
لأنك جعلته جملة مستأنفة.
واستشهد سيبويه
لجواز النصب ، وجعل الظاهر بمنزلة المضمر بقول : سوادة بن عدي :
لا أرى الموت
يسبق الموت شيء
|
|
نغّص الموت
ذا الغنى والفقيرا
|
وبقول الجعدي :
إذا الوحش
ضمّ الوحش في ظللاتها
|
|
سواقط من حرّ
وقد كان أظهرا
|
فأعاد الإظهار.
وذلك أن قوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء. الموت الأول هو المفعول الأول لأرى ، ويسبق الموت
شيء في موضع المفعول الثاني ، وهما جملة واحدة ، وكان
__________________
ينبغي أن يقول : " يسبقه شيء" فيضمر.
وقوله : إذا
الوحش ضم الوحش : " الوحش" الأول مرفوع بفعل مضمر هذا الظاهر تفسيره :
كأنه قال : إذا ضم الوحش ضمه سواقط من حرّ. على ما لم يسم فاعله كما قال :
ليبك يزيد ضارع لخصومة
فهما في جملة
واحدة ؛ لأن الأول لا يستغني بنفسه ، فقد كان ينبغي أن يضمر ولا يظهر.
ومن الناس من
يقول : " الوحش" الأول مرفوع بالابتداء ، و" ضم الوحش في
ظللاتها". خبر ، و" سواقط" : فاعل" ضم" ، فكأنه قال :
" زيد ضرب زيدا عمرو". وقد بينا أنه بمنزلة قولك : " زيد ضربه
عمرو".
واستشهد
لاختيار الرفع فيما اختاره فيه بقول الفرزدق :
لعمرك ما معن
بتارك حقّه
|
|
ولا منسئ معن
ولا متيسر
|
ومعنى الثاني
هو الأول ، وهو بمنزلة قوله : " ما زيد ذاهبا ولا محسن زيدا".
وللمعترض أن
يقول : الفرزدق تميمي ، وهو يرفع خبر" ما" على كل حال ، مكنيّا كان أو
ظاهرا. ألا ترى أن الفرزدق من لغته أن يقول : " ما معن تارك حقه ولا منسئ
هو" فالظاهر والمكني على لغته سواء.
قال
سيبويه : (وإذا قلت : " ما زيد منطلقا أبو عمرو" ، " وأبو عمرو
أبوه" ـ لم يجز ـ لأنك لم تعرفه به ولم تذكر له إظهارا ولا إضمارا ، فهذا لا
يجوز ؛ لأنك لم تجعل له فيه سببا).
يعني : أن :
" أبا زيد" إذا كانت كنيته أبا عمرو ، لم يجز أن تقول : " ما زيد
منطلقا أبو عمرو" ، كما جاز" ما زيد منطلقا أبوه" ؛ لأن في"
أبوه" هاء تعود إلى" زيد" ، وليس في" أبو عمرو" ما يعود
إلى" زيد" ، وإن كان" أبو عمرو" أباه ، ولا يشبه هذا قولك :
" ما زيد منطلقا زيد" ؛ لأن" زيدا" الثاني هو لفظ"
زيد" الأول : فكان بمنزلة ضميره على ما قدمنا ، فلا يجوز أن يكون خبر الأول
إلا ما كان فيه ضمير يعود إليه ، أو كان الظاهر معادا بعينه.
__________________
فقول
سيبويه : (" ما زيد منطلقا أبو عمرو" غير جائز ، ولأنك لم تعرفه به).
يعني : لم تعرف
الأب بزيد. فتقول : أبوه أو أبو" زيد".
(ولم
تذكر له إظهارا ولا إضمارا).
يعني : ولم
تذكر لزيد.
قال
: (وتقول : " ما أبو زينب ذاهبا ، ولا مقيمة أمها" ، فترفع ؛ لأنك لو
قلت : " ما أبو زينب مقيمة أمها" لم يجز ؛ لأنها ليست من سببه).
قال أبو سعيد :
قوله : "
ما أبو زينب ذاهبا" ، " أبو" : اسم : " ما" ، وهو مضاف
إلى زينب و" ذاهبا" خبره ، والهاء التي في" أمها" تعود
إلى" زينب" ، و" زينب" ليست هي اسم" ما" و"
أمها" أجنبية من اسم" ما" ، فصار بمنزلة قولك : " ما أبو زينب
ذاهبا ولا مقيمة هند" الرفع لا غير ، وقد تقدم هذا.
قال
: (ومثل ذلك قول الأعور الشني :
هوّن عليك
فإنّ الأمور
|
|
بكف الإله
مقاديرها
|
فليس بآتيك
منهيها
|
|
ولا قاصر عنك
مأمورها
|
لأنه جعل
المأمور من سبب الأمور ، ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي) ، والشاهد في البيت
الثاني.
قال أبو سعيد :
قوله : منهيها اسم ليس ، والضمير الذي فيها ضمير المأمور ، فكأنه قال : " ليس
بآتيك منهي الأمور" ، وخبره : " ليس بآتيك.
وقوله
: و" لا قاصر عنك مأمورها"." مأمور" ، مضاف إلى الأمور ، وليس بمضاف إلى
اسم" ليس" ، فهو أجنبي منه ، فصار بمنزلة قولك : " ما أبو زينب
ذاهبا ، ولا مقيمة أمها" ؛ لأن" الأم" لم تضف إلى اسم"
ما". غير أن النصب في" قاصر عنك مأمورها" جائز ، ولا يجوز في :
" مقيمة أمها" في المسألة الأولى : وذلك أن خبر ليس إذا تقدم نصب ،
فكذلك إذا عطفت جملة على ليس ، وقد تقدم الخبر منها ، جاز أن يكون منصوبا ، وإن لم
يكن فيها ما يعود إلى الأول. ألا ترى أنك تقول : " ليس زيد قائما ، ولا
منطلقا عمرو" ،
__________________
كما تقول : " ليس منطلقا عمرو".
فإن قال قائل :
فقد ذكر سيبويه في المسألة الأولى ، فقال :
(تقول
: " ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة أمها" ، فترفع ؛ لأنك لو قلت :
"
ما أبو زينب مقيمة أمها" لم يجز ؛ لأنها ليست من سببه).
ثم
قال : (ومثل ذلك قول الأعور الشنيّ) ؛ فأنشد البيت مستشهدا لإبطال النصب ، والنصب في البيت
جائز سائغ.
فإن في ذلك
جوابين :
أحدهما : أنه
أنشد البيت ؛ ليرينا كيف حكم" ما" لو كانت مكان" ليس" في
البيت الذي أنشده ، وهذا يحكى عن أبي العباس.
والجواب الثاني
: ـ وهو أرضاهما عندي ـ أنه أنشد البيت ؛ ليرينا أن الجملة الثانية غريبة من
الجملة الأولى ، لما لم يكن الضمير الذي من الجملة الثانية ضمير الاسم الأول ،
وإنما هو ضمير ما أضيف إليه كما قال ذلك في المسألة الأولى.
قال
سيبويه : (وجرّه قوم ، فجعلوا المأمور للمنهي ، والمنهي هو الأمور ؛ لأنه من
الأمور فهو بعضها).
قال أبو سعيد :
أعلم أن سيبويه لا يجيز" ليس زيد بقاعد ولا قائم عمرو". وتجويز"
ليس زيد بقاعد ولا قائم أبوه".
فأما
إبطاله" ليس زيد بقاعد ولا قائم عمرو" لأنه لا يرى العطف على عاملين ،
ومتى أجاز ذلك كان عطفا على عاملين. ومعنى ذلك أنك إذا قلت : " ليس زيد
بقائم" ، " فزيد" : مرتفع" بليس" و" قائم"
مجرور بالباء ، و" الباء وليس" عاملان ، أحدهما عمل الرفع والآخر عمل
الجر. فإذا قلت : " ولا قائم عمرو" ، فقد عطفت" قائما"
على" قاعد" ، وعامله الباء ، وعطفت" عمرو" على اسم"
ليس" وعامله" ليس". فقد عطفت على شيئين مختلفين ، ومثل ذلك في
الفساد" قام زيد في الدار والقصر عمرو".
فإن قال قائل :
وما الذي أبطل العطف على عاملين؟
قيل له : حرف
العطف يقوم مقام العامل ، ويغني عن إعادته ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : " قام زيد
وعمرو" كان بمنزلة قولك : " قام زيد. قام عمرو" ، فلما كان حرف
العطف كالعامل : والعامل لا يعمل رفعا وجرا ، لم يجز أن تعطف بحرف واحد على عاملين
مختلفين. فإن قلت" قام زيد في الدار وفي القصر عمرو" جاز ؛ لأنك
أعدت أحد العاملين فصار العطف على عامل واحد وهو" قام".
وقد أجاز
الأخفش وغيره من البصريين العطف على عاملين ، فقالوا : " قام زيد في الدار
والقصر عمرو" ، وقدموا في العطف المجرور على المرفوع ؛ لأن الجار والمجرور
كالشيء الواحد. ولم يجيزوا" قام زيد في الدار ، وعمرو القصر" لئلا يفصل
بين الجار والمجرور ، واحتجوا بأشياء أخر : منها قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). فقالوا : (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) مجرور بالعطف على المجرور الذي قبله. والعامل في قوله :
(آياتٌ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ)" إن" وهو منصوب بالعطف على ما عمل فيه"
إن" ، فصار بمنزلة قولك : " إن في الدار لزيدا والقصر عمرا". فرد
أبو العباس هذه القراءة ؛ لأنه كان مذهبه إبطال العطف على عاملين مختلفين ، وقدّر
أن هذه القراءة لا بد فيها من العطف على عاملين ، ورفع" الآيات" في
الآيتين الأخريين ليتخلص من العطف على عاملين ، فلزمه في الرفع مثل ما فر منه ،
ذلك أنه جر (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالعطف على ما قبله. والعامل في رفع الآيات ، فيقال له
: لم رفعتها؟ فلا بد من أن يكون رفعها بالابتداء عطف على موضع" إن" ،
كما تقول : " إن زيدا في الدار وعمرو" ، فإذا صار كذلك ، فقد عطف على
عاملين ، وهما في موضع" إن" ، الذي هو الابتداء.
فإن قال :
أجعله كلاما مستأنفا ، وأعطف جملة على جملة.
قيل له : فلا
بد من ذكر حرف الجر في الجملة الثانية إذ كانت مستأنفة ، ألا ترى أنا لا نقول :
" ... القصر عمرو" ، على معنى" في القصر عمرو".
وقد احتجوا
بأبيات ظاهرها العطف على عاملين ، وهي تخرج على تأويل لا يكون عطفا على عاملين ،
منها قول أبي النجم :
أوصيت من
برّة قلبا حرّا
|
|
بالكلب خيرا
والحماة شرا
|
فقالوا :
" الحماة" مجرور بالعطف على" الكلب" ، والعامل"
الباء" ، " والشرّ" منصوب
__________________
بالعطف على" خيرا" ، والعامل" أوصيت".
وليس في شيء
مما احتجوا به حجة على سيبويه.
أما الآية التي
ذكرناها : فإن" الآيات" المعادة فيها أعيدت لتأكيد الآيات الأولى وهي هي
، وكان تقدير الكلام : (إِنَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ
مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...).
ومثله" إن
في الدار زيدا ، والقصر زيدا" وهو جائز إذا كان" زيد" الثاني هو
الأول. وكأنه قال : " إن في الدار زيدا ، والقصر" ؛ لأن ذكره وتركه في
الفائدة سواء غير التأكيد.
فإن قال قائل :
وكيف تكون الآيات التي في السموات هي الآيات التي في الأرض ، وفي خلق السموات
والمطر وتصريف الرياح؟
قيل له : لما
كانت هذه الآيات التي في هذه الأشياء المختلفة ، تدل مع اختلافها دلالة واحدة على
خالقها ـ عزوجل ـ جاز أن يقال إنها واحدة ألا ترى أنك لو سمعت قوما
يخبرون عن شيء بمعنى واحد جاز أن تقول : سمعت أقاويلهم ، وهي واحدة. وتقول : "
قول زيد وعمر وواحد" إذا كانا يخبران عن معنى واحد مجازا وتوسعا.
وأما البيت
الذي أنشده ، فهو على تقدير إعادة حرف الجر ، وحذفه اختصارا واكتفاء بما قبله ،
وكأنه قال : " وبالحماة شرا" وخفض الحماة بهذه" الباء"
الثانية دون الأولى ، وحذفها ضرورة ، ولم يكن جره على طريق العطف والدليل على ذلك
قول الشاعر :
سل المفتي
المكّي ذا العلم ما الذي
|
|
يحلّ من
التقبيل في رمضان
|
ثم قال :
فقال لي
المكي أما لزوجة
|
|
فسبع وأمّا
خلّة فثمان
|
فخفض"
خلة" بلام قدرها وحذفها ، فكأنه قال : وأما لخلة.
ولا يجوز إن
يكون بالعطف من قبل أن" ما" لا يعطف ما بعدها على ما قبلها ، وهي من
الحروف التي ما بعدها مستأنف ، وقد علمتم أن قولنا : " ليس زيد بقاعد ولا
قائم أبوه" جائز. فيكون" قاعد" مجرورا بالباء ، وهو خبر"
ليس" ، و" قائم" عطف عليه ،
__________________
و" الأب" مرتفع بفعله فكأنك قلت : " ليس زيد بقائم
أبوه" ، فجاز ؛ لأنه من سبب" زيد". فتأول سيبويه في البيت تأويلا
أخرجه إلى مثل هذا فأجاز : " ولا قاصر عنك مأمورها". وذلك أنه جعل منهي
الأمور بمنزلة الأمور ؛ إذ كان البعض قد يجوز أن يجرى مجرى ما أضيف إليه ، فجعل
منهي الأمور إذ كان بعضها بمنزلة الأمور. فكأنه قال : " ليس بآتيك الأمور ،
ولا قاصر عنك مأمورها" ، و" مأمورها" من سبب الأمور. وقد جعل
المنهي كأنه هو الأمور ، فقد صار المأمور من سبب المنهي.
ثم استشهد
لجعله منهي الأمور بمنزلة الأمور بقول جرير :
إذا بعض
السّنين تعرّقتنا
|
|
كفى الأيتام
فقد أبي اليتيم
|
وقد مر البيت.
قال
: ومثل ذلك قول النابغة الجعدي :
فليس بمعروف
لنا أن نردّها
|
|
صحاحا ولا
مستنكرا أن تعقّرا
|
الرفع والنصب
في" مستنكر" مثلهما في" ولا قاصر عنك ...".
وأما الخفض على
مذهب سيبويه فعلى تأويل أن يجعل الثاني من سبب الأول : وذلك أن قوله : " فليس
بمعروف لنا أن نردها" يريد : ردها. أي : رد الخيل. وقبله.
وننكر يوم
الرّوع ألوان خيلنا
|
|
من الطّعن
حتى نحسب الجون أشقرا
|
فإذا قال :
" فليس بمعروف لنا رد الخيل" ، جاز أن تجعل رد الخيل بمنزلة الخيل. كما
قال :
(طوال الليالي أسرعت في نقضي)
والمعنى :
الليالي أسرعت
__________________
و... تسفهت
|
|
أعاليها مرّ
الرياح ...
|
(كأنه قال : تسفهتها الرياح).
فقد صار رد
الخيل بمنزلة الخيل ، فكأنه قال ليس بمعروفة لنا الخيل ، ولا مستنكر عقرها ،
والعقر يعود إلى الخيل ، غير أنه قد جعل الرد بمنزلة الخيل ، فجعل عقرها من سبب
الرد.
ثم
قال سيبويه : (كأنه قال : " ليس بآتيك منهيها ، وليس بمعروفة ردها" حين
كان من الخيل ، والخيل مؤنثة ، فأنث).
يعني : أنا لما
جعلنا منهيّها بمنزلة الأمور ، وردها بمنزلة الخيل ، فكأنهما قد صارا مؤنثين ،
فعاد إليهما ضمير المؤنث في مأمورها وفي تعقّرا.
قال
: (وهذا مثل قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))
.
وحدّ الأول على
اللفظ ، وجمع ما بعده على المعنى ، فكذلك ذكر" بآتيك منهيها" ، و"
بمعروف لنا ردها" ، على اللفظ ، وأنث مأمورها وتعقرا على المعنى.
قال الأخفش :
هذا كله يجوز فيه النصب وإن كان الأخير ليس من سبب الأول ؛ لأن" ليس" إن
قدمت فيها الخبر ، أو أخرته فهو سواء.
قال أبو سعيد :
وقد ذكرنا هذا.
قال الأخفش :
وليس هذان البيتان على ما زعم سيبويه في الجر ؛ لأنه لا يجوز عنده العطف على
عاملين وإن لم يكن الثاني من سبب الأول.
وقال أبو سعيد
: كان الأخفش يجيز" ولا قاصر عنك مأمورها" ، " ولا مستنكر أن
تعقّرا" ، وإن لم يكن" مأمورها" من سبب منهيها ، ولا"
عقرها" من سبب ردّها ؛ لأنه يجيز" ليس زيد بقائم ولا قاعد عمرو" ،
عطفا على عاملين.
وزعم الأخفش أن
سيبويه غلط في إنكار العطف على عاملين ، وأنه جائز مثل قول
__________________
الله تعالى في قراءة بعض الناس : (وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ) ، فجر" الآيات" وهي في موضع نصب ، ومثل ذلك
قول الله تعالى : (... لَعَلى هُدىً
أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، عطفا على خبر إن. وعلى اللام.
وغلط الأخفش في
الآيتين اللتين ذكرهما من غير وجه.
أما قوله تعالى
: (وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) فالشاهد في الآية التي بعدها لا فيها ، لأن حرف الجر قد
ذكر في قوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) وموضع الاحتجاج في الآية التي بعدها وقد ذكرنا الجواب
عنه.
وأما قوله
تعالى : (لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). فإن الأخفش يقدر : " إنا أو إياكم لعلى هدى وإنا
أو إياكم لفي ضلال مبين". فحذف إن واللام من قوله : " أو في ضلال
مبين". وهذا لا حجة له فيه ؛ لأن قوله : " أو في ضلال مبين" ليس
فيه معمول إن منفي ، فيكون عطفا على" إن". و" اللام" في قوله عزوجل : (لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) غير عاملة. فاحتجاجه بهذا بعيد.
قال أبو العباس
: غلط أبو الحسن في الآيتين جميعا في أنهما عطف على عاملين ، ولكن ذلك في قراءة من
قرأ (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ،) إذا قال : " آيات" فجره فقد عطف على عاملين ،
وهي قراءة.
قال أبو سعيد :
وقد غلط أبو العباس في تفريقه بينهما : وذلك أن أبا العباس كان يرى أن من قرأ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ) عاطف على عاملين وأن من قرأ" آيات" غير عاطف
على عاملين ؛ لأن الذي يقرأ : " آيات" ينصبها" بأن" ، والذي
يقرأ" آيات" يرفعها بالابتداء ، فيقال : أخبرنا عن الذي يقرأ : " آيات"
إذا رفعها بالابتداء هل يعطفها على موضع" إن" ، أو يقطعها من الكلام
الأول؟ ، فإن كان يعطفها على موضع" إن" ، فقد عطف على عاملين أحدهما
موضع" إن" ، والآخر" في" ، وإن كان مقطوعا من الكلام الأول ،
وجب أن يذكر حرف الجر في" اختلاف الليل والنهار" ، ألا ترى أنه لا يجوز لك
__________________
أن تقول : " اختلاف الليل والنهار آيات" وأنت تريد في ؛ لأنه
مستأنف ليس قبله ما يعطف عليه.
قال
سيبويه : (وتقول : ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة وإن شئت نصبت).
يعني : إن شئت
قلت : شحمة.
(و"
بيضاء" في موضع جر ؛ كأنك أظهرت" كلّ" كأنك قلت : ولا كلّ بيضاء
شحمة).
فاحتج بعض
الناس بأن هذا عطف على عاملين ، وذلك أن" بيضاء" جر عطفا على"
سوداء" والعامل فيها كل ، و" شحمة" منصوبة عطفا على خبر"
ما".
فقال
سيبويه : (ليس ذلك عطفا على عاملين ، وتأوّله تأويلا أخرجه عما قاله القائل. فقال
: " بيضاء" مجرور" بكل" أخرى محذوفة مقدرة بعد" لا"
، وليست معطوفة على سوداء ، فلم يحصل العطف على عاملين.
وقال أبو دؤاد
:
أكلّ امرئ
تحسبين أمرأ
|
|
ونار توقد
بالليل نارا
|
أراد : كل نار
توقد بالليل نارا. بتقدير" كلّ" معادة ، ولم يعطف" نار"
على" امرئ واستغنى عن تثنية" كلّ" بذكره إيّاها في أول الكلام
ولقلة التباسه على المخاطب).
قال
سيبويه : (وجاز ذلك كما جاز في قولك : " ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا
أخيه". وإن شئت قلت : " ولا مثل أخيه فهذا يحتمل أن يكون"
مثل" مقدرا بعد" لا" ، ويجوز ألا يكون مقدرا ، ويكون"
الأخ" معطوفا على" عبد الله" والعامل فيهما" مثل" الأول
، ثم يقول : " ما مثل عبد الله يقول ذاك ، ولا أخيه يكره ذاك" ومثل ذلك
وما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك").
فهنا لا محالة
تقدر" مثل" بعد" لا" ، وذلك أنه لو كان" وأبيك" معطوفا
على" أخيك" ، والعامل" مثل" ما جاز أن يثنّي"
يقولان" فلما ثني ، علمنا أن تقديره : " وما مثل أخيك ولا مثل أبيك
يقولان ذاك". و" مثل" الأول غير الثاني فلما جاز حذف الثاني اكتفاء
بالأول في هذه المسألة ، جاز في التي قبلها ، وجاز أيضا فيما كان خبره معرّفا ،
كقولك :
__________________
" ما مثل عبد الله يقول ذاك ، ولا أخيه يكره ذاك" ، فخبر"
عبد الله" يقول ذاك ، وخبر" أخيه" يكره ذاك.
وقد حذف
منه" مثل" اكتفاء بالأول ، كأنه قال : ولا مثل أخيه يكره ذاك.
وهو العامل دون
الأول ، وقوله :
" أكل امرئ تحسبين أمرا"
مشبه لهذا ؛
لأن خبر" كل امرئ" هو" امرأ" ، وخبر" كل نار""
نارا" الثانية.
هذا باب ما يجرى على الموضع لا
على الاسم الذي قبله
قال
سيبويه : (وذلك قولك : " ليس زيد بجبان ولا بخيلا" ، و" ما زيد
بأخيك ولا صاحبك" ، والوجه فيه الجر. لأنك تريد أن تشرك بين الخبرين ، وليس
ينقض إجراؤه عليه المعنى ، وأن يكون آخره على أوله أولى ؛ ليكون حالهما في الباء
سواء ، كحالهما في غير الباء مع قربه منه).
قال أبو سعيد :
معنى ذلك أنك إذا قلت : " ليس زيد بجبان ولا بخيلا" ، جاز النصب
في" بخيل" ، والجر أيضا ، غير أن الجر أجود لأن معناهما واحد ولفظ الخبر
مطابق للفظ الأول ، وإذا تطابق اللفظان مع تساوي المعنيين ، كان أفصح من تخالف
اللفظين ، والعرب تختار مطابقة الألفاظ ، وتحرص عليها ، وتختار حمل الشيء على ما
يجاوره ، حتى قالوا : " جحر ضبّ خرب" فجروا" خربا" ، وهو
نعت" للجحر" لمجاورة" الضّب" ، فكذلك إذا قلت : " ليس
زيد بجبان ولا بخيل" ، فأقرب الأسماء من" بخيل" هو اسم مجرور ،
والحمل عليه أولى من النصب على المعنى ؛ إذ كان معنى النصب والجر واحدا وقال
الشاعر في بيت أنشده سيبويه في جواز النصب على قوله عقيبة الأسدي :
معاوي إنّنا
بشر فأسجح
|
|
فلسنا
بالجبال ولا الحديدا
|
فحمله على موضع
الباء لو لم تكن ، كأنه قال : فلسنا الجبال ولا الحديدا.
والباء زائدة.
وهذا البيت أيضا يروى مع أبيات سواه على الجر. منها :
__________________
أكلتم أرضنا
فجزرتموها
|
|
فهل من قائم
أو من حصيد
|
ومن روى البيت
بالنصب أنشد الأبيات منصوبة ، ولم يرو هذا البيت المجرور.
قال سيبويه بعد
إنشاده البيت : (لأن
الباء دخلت على شيء لو لم تدخل عليه لم يخل بالمعنى ، ولم يحتج إليه لو كان نصبا ،
ألا تراهم يقولون : " حسبك هذا وبحسبك هذا" فلم تغير الباء معنى ، وجرى
هذا مجراه قبل أن تدخل الباء ؛ لأن" بحسبك" في موضع ابتداء).
وهذا بيّن ؛
لأن الباء إذا كانت زائدة ، فكأنها ليست في الكلام ، فجاز حمل الثاني على الأول ،
وكأن الباء ليست فيه.
قال
: (ومثل ذلك قول لبيد :
فإن لم تجد
من دون عدنان والدا
|
|
ودون معدّ
فلتزعك العواذل)
|
وكان الوجه أن
يقول : " ودون معدّ" ، عطفا على" من دون عدنان" ، ولكنه نصبه
على الموضع ، كأنه قال : فإن لم تجد دون عدنان.
فإن قلت :
" ما زيد على قومنا ولا عندنا" ، كان النصب في" عندنا" لا غير
، ولا يجوز" ولا عندنا" حملا على" قومنا" ؛ لأن"
عند" لا يجوز أن تدخل عليها" على". لا تقول : " زيد على
عندنا" ، ولا تستعمل" عند" إلا ظرفا ولا يدخل عليها من حروف الجر
إلا" من".
قال
: (وتقول : " أخذتنا بالجود وفوقه" ؛ لأنه ليس في كلامهم وبفوقه).
ومعنى هذا
الكلام : أخذتنا السماء بالجود من المطر ، وبمطر فوق الجود ، ولم يجز جر"
فوق" عطفا على" الجود" ؛ لأن العرب لا تكاد تدخل الباء على"
فوق" ؛ لا يقولون : " أخذتنا بفوق الجود" إنما يقولون : " أخذتنا
بمطر فوق الجود" ، ولو جررت لجاز ، وليس الاختيار. ثم أنشد بيتين في مثل معنى
البيت المتقدم وهو قول كعب بن جعيل :
إلا حيّ
ندماني عمير بن عامر
|
|
إذا ما
تلاقينا من اليوم أو غدا
|
فنصب"
غدا" ، ولم يعطفه على اليوم ، كأنه قال : " إذا ما" تلاقينا اليوم
أو غدا. وقال
__________________
العجاج :
كشحا طوى من
بلد مختارا
|
|
من يأسة
اليائس أو حذارا
|
وكان الأجود أن
يقول : أو حذار ، ولكنه حمله على موضع" من" كأنه قال : يأسة اليائس ،
وهذا مفعول له كقولك : " انصرفت عن زيد يأسا" أي من" يأس"
أو" ليأس".
قال
: (وتقول : " ما زيد كعمرو ولا شبيها به" و" ما عمرو كخالد ولا
مفلحا" : النصب في هذا جيد ؛ لأنك إنما أردت : ما هو مثل فلان ، ولا مفلحا.
هذا معنى الكلام. فإن أردت أن تقول : ولا بمنزلة من يشبهه جررت ، وذلك نحو قولك :
" ما أنت كزيد ولا شبيه به" فإنما أردت ولا كشبيه به).
قال أبو سعيد :
إذا قلت : " ما زيد كعمرو ولا شبيها به" ، فمعناه : ما زيد كعمرو ، وما
زيد شبيها بعمرو. وإذا قلت : " ما عمرو كخالد ولا مفلحا" ، فمعناه : ولا
عمرو مفلحا." فشبيها" ، و" مفلحا" عطف على موضع"
الكاف" ، وموضعها منصوب بخبر" ما". وإذا قلت : " ما زيد كعمرو
ولا شبيه به" فمعناه : ما زيد كعمرو ولا كشبيه بعمرو ، فقد أثبت لعمرو شبيها
، ثم نفيت عن" زيد" شبه عمرو ، وشبه شبيهه.
قال
سيبويه : (فإذا قال قائل : " ما أنت بزيد ولا قريبا منه" فإنه ليس ها
هنا معنى للباء ، لم يكن قبل أن تجيء بها ، وأنت إذا ذكرت الكاف تمثل).
يريد أنك إذا
قلت : " ما أنت بزيد ولا قريبا منه أو ولا قريب منه" فالمعنى واحد ،
ويجوز الجر والنصب ، وإن كان الجر أجود لما ذكرنا أن الباء زائدة في قولك : "
بزيد" ، وإذا قلت : " ما زيد كعمرو" فالكاف دخلت للتشبيه. فإذا قلت
: " ولا شبيه به" ، فخفضت ، فكأنك قلت : " ولا كشبيه بعمرو"
فأثبت له شبيها. وإذا نصبت" شبيها" فمعناه : ولا زيد شبيها به.
قال
سيبويه : (وإن شئت قلت : " ما أنت بزيد ولا قريبا منه" ، فجعلت"
قريبا" ظرفا).
وإذا جعلته
ظرفا لم يكن فيه إلا النصب كأنك قلت : " ما أنت بزيد ولا خلف زيد".
__________________
وقال الأخفش :
والفصل بين الجر والنصب في قولك : " ما أنت كزيد ، ولا شبيها به" أنك
إذا جررت" الشبيه" ، فقد أثبت شبيها ، وإذا نصبت لم تثبت هاهنا شبيها
بزيد وقد بينا هذا.
هذا باب الإضمار
في" ليس" و" كان" كالإضمار في" إنّ"
(إذا
قلت : " إنه من يأتنا نأته" ، و" إنه أمة الله ذاهبة" فمن ذلك
قول العرب : " ليس خلق الله مثله" ، فلو لا أن فيه إضمارا ، لم يجز أن
تذكر الفعل ، ولم تعمله في اسم ، ولكن فيه من الإضمار مثل ما في" إنه"
وسوف نبين حال هذا الإضمار ، وكيف هو إن شاء الله تعالى).
قال أبو سعيد :
اعلم أن كل جملة فهي حديث أمر وشأن ، والعرب قد تقدم قبل الجمل ضمير الأمر والشأن
، ثم تأتي بالجملة ، فتكون الجملة هي خبر الأمر والشأن ؛ لأن الجملة هي الأمر
والشأن وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول. فمن ذلك قولهم : " إنه أمة الله
ذاهبة" و" إنه زيد ذاهب"." فالهاء" ضمير الأمر و"
زيد ذاهب" مبتدأ ، وخبره في موضع خبر الأمر والشأن ، و" إنه من يأتنا
نأته" ، و" إنه قام عبد الله". فالهاء في هذه المواضع هي الاسم ،
وما بعدها من الجملة خبر ، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر ، لا يجوز أن تقول :
" إن زيد ذاهب" على معنى : إنه زيد ذاهب في الكلام. وقد جاء في الشعر.
قال الشاعر :
إنّ من لام
في بني بنت حسّا
|
|
ن ألمه وأعضه
في الخطوب
|
أراد : " إنه".
وربما جعلوا
مكان ضمير الأمر والشأن ضمير القصة. فيقولون : " إنها جاريتك منطلقة" ،
قال الله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ) تقديرها : فإن القصة : وأكثر ما يجيء إضمار القصة مع
المؤنث ، وإضمارها مع المذكر جائز في القياس ، ومن ذلك : " كان زيد
ذاهب" ، و" كان قام زيد" تريد : كان الأمر والشأن زيد ذاهب.
ففي" كان" ضمير
__________________
الأمر ، والجملة التي بعدها في موضع خبر" كان".
وأخوات"
كان" بمنزلتها ، كما أن أخوات" إنّ" بمنزلتها ، ولم يظهر ذلك
الضمير في" كان" وأخواتها ؛ لأنه اسم" كان" ، و"
كان" فعل ، فإذا أضمرناه استكنّ في الفعل.
ومن ذلك :
" ظننته زيد قائم" ، و" ظننته قام أبوك" ، فالهاء ضمير الأمر
والشأن ، وهي في موضع المفعول الأول ، والجملة التي بعدها في موضع المفعول الثاني.
ومن ذلك"
ما هو زيد قائم" ، و" ما هو قام زيد" ، " فهو" ضمير
الأمر والشأن ، والجملة بعدها خبر" ما". وتقول في المبتدأ : " هو
زيد قائم" وإن لم يكن جرى ذكر شيء ، فهو مبتدأ ضمير الأمر والشأن ، والجملة
التي بعدها خبر.
وقد قال جماعة
من البصريين ـ والكسائي معهم ـ في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) أن" هو" ضمير على غير مذكور ، جرى كالضمير
في" إنه زيد قائم".
وقال الفراء :
" هو" ضمير اسم الله تعالى ، وجاز ذلك وإن لم يكن قبله ذكر ، لما في
النفوس من ذكره تبارك اسمه. وكان الفراء يجيز" كان قائما زيد" و"
كان قائما الزيدان ، والزيديون" ، فيجعل" قائما" خبر ذلك الضمير ،
ويجعل ما بعده مرفوعا به. وكذلك" ليس بقائم أخواك" و" ما هو بذاهب
الزيدان".
وأهل البصرة لا
يجيزون أن يكون خبر ذلك الضمير اسما مفردا ؛ لأن ذلك الضمير هو ضمير الجملة ،
فينبغي أن تأتي بالجملة كما هي ، فتجعلها في موضع خبر الضمير ، كما تقول : " كان
زيد أخاك" فتجعل" الأخ" خبرا له ؛ إذ كان" هو" هو ، غير
أن الاسم المفرد يتأثر فيه الإعراب : إذا كان خبرا. ولا يجيز البصريون" كان
ذاهبا زيد" ، إلا على ألا يكون في" كان" ضمير الأمر والشأن ،
ويكون" زيد" الاسم و" ذاهبا" الخبر.
وأما" ما
هو بذاهب أخواك" فلا يجيزون إلا على أن يقال : " ما هو بذاهبين
أخواك" فيثنون ، ويجعلون" أخواك" مرتفعين بالابتداء ، لا بالذهاب
ويجعلون الباء خبرا مقدما ، وتقديره : " ما هو أخواك بذاهبين" ، كما
تقول : " ليس بذاهبين أخواك" ، على معنى : ليس أخواك بذاهبين.
__________________
ولقائل أن يقول
: ـ وفيه نظر ـ وليس تقديم الباء في" ما" بالحسن.
قال أبو سعيد :
ويجوز عندي" ليس بذاهب أخواك" ، و" ما هو بذاهب أخواك" على أن
تجعل" ذاهبا" في معنى الفعل ، وترفع ما بعده به ، وتجعل الجملة في موضع
خبر المجهول ، ولا تجعل" ذاهبا" خبرا له ، ولكن تجعل" ذاهبا"
في موضع ابتداء وإن كان فيه الباء ، و" الأخوين" مرتفعين بفعلهما ، وقد
سدا مسد الخبر كما تقول : " ما ذاهب أخواك" ، فترفع" ذاهبا"
بالابتداء ، وترفع" الأخوين" بفعلهما ، وقد سدا مسد الخبر ، وإنما دخلت
الباء على المبتدأ في هذا الموضع لنفي الذي وجب بالحرف الذي قبله ، ألا ترى أنك
تقول : " ليس زيد بقائم" ، فإذا استثنيت لم يجز أن تقول : " ليس
زيد إلا بذاهب" لبطلان معنى النفي.
فإن قال قائل :
فأجز على هذا : " ليس زيد بأبيه قائم" ، على معنى" ليس زيد أبوه
قائم" ، كما أجزت" ليس زيد بذاهب أبواه" ، على معنى" ليس زيد
ذاهبا أبواه".
قيل له : قولنا
: " ليس زيد أبوه قائم" ، " قائم" مع الأب خبر"
ليس" ، والعامل فيه الابتداء ، فلا يجوز أن يبطل الابتداء بالباء وتعمله ،
وإذا قلنا : " ليس زيد بذاهب أخواه" ، فإنما ترفع" الأخوين"
بفعلهما.
فإن قال قائل :
فأنت تقول : " بحسبك زيد" ، فترفع" زيدا" بخبر المبتدأ ، وقد
دخلت الباء على" حسبك".
قيل له : دخول
الباء في" حسبك" ، مع جعله مبتدأ ، شاذ لا يقاس عليه ، ألا ترى أنك لا
تقول : " بأخيك زيد" ، على معنى" أخوك زيد" ، ودخول الباء على
خبر كل منفي مطرد.
ومن أصحابنا من
لا يجيز البتة : " ما هو بذاهب زيد" ، و" ليس بذاهب أخوك" ،
إذا جعلت في" ليس" ضمير الأمر والشأن ؛ لأن الأمر إنما تفسيره جملة ،
ولا يكون في ابتداء الجمل" الباء" ، فاحتج عليه بقوله تعالى : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ).
فقال مجيبا عن
ذلك : يجوز أن يكون" هو" ضمير التعمير ؛ لأنه قد جرى ذكره في قوله : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) وقوله : " أن يعمّر" بدل من" هو" ،
وقد صار" هو" ضميرا للتعمير الذي قد تقدم الفعل الدال عليه ، كما قال :
" من كذب كان شرا له". والمعنى : كان
__________________
الكذب شرا له. فاكتفى بدلالة" كذب" على إظهار الكذب.
قال
سيبويه : (فلو لم يكن في" ليس" ضمير الأمر ، لما جاز" ليس خلق الله
مثله" ؛ لأن" ليس" و" خلق" فعلان ، والفعل لا يعمل في
الفعل ، فلا بد من اسم يرتفع به. وقال حميد الأرقط :
فأصبحوا
والنّوى عالي معرّسهم
|
|
وليس كلّ
النّوى تلقي المساكين)
|
فقوله"
كل" ينتصب ب" يلقي" ، و" المساكين" يرتفع ب"
يلقي" ، وفي" ليس" ضمير الأمر ، ولو لم يكن في" ليس"
ضمير الأمر لارتفع" كلّ"" بليس" ، وصار" يلقي
المساكين" خبر" كل" ، واحتيج إلى إضمار" كل" في"
يلقي" ، فيصير التقدير : " وليس كل النوى يلقيه المساكين" ، وهو
قبيح ؛ لأن حذف الهاء من الإخبار قبيح ؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول : " زيد
ضربت" في معنى" زيد ضربته".
قال
: (ولا يحسن أن تحمل" المساكين" على" ليس" وقد قدمت. فجعلت
الذي يعمل فيه الفعل الآخر يلي الأول ، وهذا لا يحسن ولا يجوز).
يعني لا يجوز
أن ترفع" المساكين" ، " بليس" ، وقد جعلت الذي يلي ،
ليس" كل" ، وهو منصوب ب" يلقي" ؛ لأن" كان" و"
ليس" وأخواتهما لا يليهن منصوب يغيرهن ، ولا يجوز أن تقول : " كانت زيدا
الحمّى تأخذ" ، أو" كانت زيدا تأخذ الحمى" ، وذلك أن"
كان" وبابها أن تعمل الرفع والنصب ، فلا يجوز أن يليه إلا شيء يعمل فيه أو في
موضعه ، فإذا قلت : " كانت زيدا الحمى تأخذ" ، فإنما تنصب"
زيدا" ب" تأخذ" لا ب" كان".
وقد احتج بعض
من يجيز هذا بقول الفرزدق :
قنافذ
هدّاجون حول خبائهم
|
|
بما كان
إيّاهم عطية عوّدا
|
وهذا البيت لا
حجة فيه ؛ لأنه يجوز أن يكون جعل في" كان" ضمير الأمر والشأن ،
وتنصب" إياهم" ب" عوّدا" وتجعل الجملة في موضع خبر للضمير
الذي في" كان" ، ويجوز أن تكون زائدة ويكون تقديره : " بما إياهم
عطية عودا" ، كما يقال : " الذي إياهم عطية
__________________
عوّد" ، على معنى" عوّده". ولا يجوز أن يقال : " كان
عمرا زيد ضاربا" بنصب" عمرو" ، وقد جعلت" ضاربا" منصوبا
ب" كان". ولكنك لو قلت : " كان عمرا زيد ضارب" ، جاز.
والفرق بينهما
أن المسألة الأولى ليس في" كان" ضمير الأمر والشأن ، وفي هذه ضمير الأمر
والشأن فإذا نصبت" عمرا" ، فالذي يلي" كان" الأمر والشأن. فلم
يلها منصوب يغيرها. ولو قلت : " عمرا كان زيد ضاربا" جاز ؛ لأن هذا الذي
قبله كان كالملغى ، ولم يصر حاجزا بينهما وبين ما حكمها أن تعمل فيه :
قال
سيبويه : (ومثل ذلك من الإضمار :
إذا متّ كان
النّاس صنفان شامت
|
|
وآخر مثن
بالذي كنت أصنع
|
أضمر في"
كان" الأمر والشأن. وقال بعضهم : " كان أنت خير منهم" على معنى كان
الأمر ، ومثله قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ)).
يعني : أن
في" كاد" ضميرا من الأمر والشأن ؛ لأن" كاد" فعل ، و"
يزيغ" فعل ، ولا يعمل الفعل في الفعل.
(وقال هشام أخو
ذي الرمة :
هيّ الشّفاء
لدائي لو ظفرت بها
|
|
وليس منها
شفاء الدّاء مبذول)
|
معناه : ليس
الأمر.
وقال
: (وليس يجوز هذا في" ما" في لغة أهل الحجاز).
يعني أنه لا
يجوز أن تقول : " ما زيد قائم" ، وتجعل في" ما" ضمير القصة
والشأن مستكنا ، لأنها ليست بفعل ليستكن فيها الضمائر.
قال
سيبويه : (ولا يجوز أيضا في لغتهم أن تقول : " ما زيدا عبد الله ضاربا"
و" ما زيدا أنا قاتلا" ؛ لأنه لا يستقيم في" ما" كما لم يستقم
أن تقدم في" كان وليس" ولا يجوز أن تقدم في" كان" و"
ليس" ما يعمل فيه الآخر).
يعني : لا يجوز
أن يلي" ما" منصوب بغيرها. على لغة أهل الحجاز ، لأنهم يجعلونها
__________________
بمنزلة" ليس" ، وقد قدمنا في" ليس" أنه لا يجوز أن
يليها منصوب بغيرها. وأما على لغة بني تميم فجائز أن تقول : " ما زيدا أنا
ضارب" ؛ لأنهم لا يعملونها فتصير بمنزلة قولك : " أما زيدا فأنا
ضارب" ، وكقولك في المبتدأ : " زيدا أنا ضارب".
وقال مزاحم
العقيلي :
وقالوا
تعرّفها المنازل من منّي
|
|
وما كلّ من
وافى منّي أنا عارف
|
وقال بعضهم :
وما كلّ من وافى مني أنا عارف
لزم اللغة
الحجازية ، فرفع كأنه قال : " ليس عبد الله أنا عارف".
قال
: (فأضمر الهاء في" عارف" ، وكان الوجه : أنا عارفه ، حيث لم يعمل"
عارف" في" كل" ، وكان هذا أحسن من التقديم والتأخير ؛ لأنهم يدعون
هذه الهاء في كلامهم وفي الشعر كثيرا ، وليس ذلك في شيء من كلامهم ، ولا يكاد يكون
ذلك في شعر ، وسترى ذلك إن شاء الله تعالى).
واعلم بأن
البيت يروى بنصب" كل" ، وبرفعه.
فأما من
نصب" كلا" ، فقد جعل" ما" تميمية ، وأبطل عملها ، ونصب"
كلا"" بعارف". ومن رفع" كلا" ، جعل" كلا"
اسم" ما" ، على لغة أهل الحجاز ، ورفع" كلا" ب" ما"
، وجعل" أنا عارف" في موضع الخبر ، وأضمر الهاء في" عارف" ،
حتى يكون في الجملة ما يعود على الاسم ، فيصح أن يكون خبرا ، كأنه قال : " أنا
عارف" ، وفي لغة بني تميم إذا رفع" كل" ، رفع بالابتداء ، و"
أنا عارف خبر وفيه الهاء.
وقوله
: (وكان هذا أحسن من التقديم والتأخير).
يعني : أن
رفع" كل" ب" ما" على لغة أهل الحجاز ، وإضمار الهاء في خبرها
أحسن من أن ينصب" كلا" ب" عارف" في لغتهم فيولي"
ما" منصوبا بغير" هاء" ؛ لأن حذف إضمار الهاء من الخبر كثير ، وليس
إيلاء" الناصب" منصوبا بغيره في شيء من الكلام. وسترى حذف الهاء من
الخبر ـ فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى.
__________________
هذا باب ما عمل عمل الفعل فلم يجر مجراه ولم يتمكّن تمكنه
قال سيبويه : (وذلك قولك : "
ما أحسن عبد الله". زعم الخليل أنه بمنزلة قولك : " شيء أحسن عبد
الله" ، ودخله معنى التعجب وهذا تمثيل فلم يتكلم به).
قال أبو سعيد :
أعلم أن التعجب من الشيء أن يكون زائدا في معنى ما تعجب منه على غيره نادرا في
بابه ؛ لأن فيه تفضيلا. ولا يجوز أن يقال" لزيد" ، إذا كان في أول مراتب
الحسن" ما أحسن زيدا" ؛ لأنه لا تفضيل فيه. فإذا قالوا : " ما أحسن
زيدا" ، " فما" عند سيبويه اسم مبتدأ غير موصولة ، و" أحسن"
خبر" ما" ، وفي" أحسن" ضمير من" ما" وهو فاعل"
أحسن" ؛ لأن" أحسن" فعل ، و" زيدا" مفعول"
أحسن" ، وهو بمنزلة قولك في الإعراب : " زيد أكرم عبد الله".
وقد مثّل
الخليل" ما" بشيء ، كأنك قلت : " شيء أحسن" عبد الله ، ومعنى
: أحسن أي حسنه ، وأصاره إلى هذا الحسن. ولو قلت : " شيء أحسن عبد الله"
لم يكن فيه تعجب ؛ لأن" شيء" اسم غير مبهم ، و" ما" مبهمة ،
وإنما وضعت للتعجب من قبل إبهامها ؛ لأن المتعجب منظم للأمر ، وكأنه إذا قال :
" ما أحسن عبد الله" ، فقد جعل الأشياء التي يقع بها الحسن متكاملة في
عبد الله ، فلا يصلح ذلك إلا بلفظ مبهم. ولو قال : " شيء أحسن عبد الله"
، كان قد قصر حسنه على جهة دون سائر جهان الحسن.
وقد أنكر بعض
الناس على الخليل قوله أن : " ما أحسن عبد الله" بمنزلة" شيء أحسن
عبد الله" فقال : يلزمه في هذا أن يكون قولنا : " ما أعظم الله"
بمنزلة" شيء أعظم الله".
وليس هذا
الاعتراض بشيء ؛ لأنه يتوجه الجواب عنه من ثلاثة أوجه :
منها : أن يقال
: قولنا : " ما أعظم الله" بمنزلة شيء أعظم الله ، وذلك الشيء يعني به
من يعظمه من عباده ؛ لأن عباده يعظمونه.
والوجه الثاني
: أن يعني بذلك الشيء ، ما دل خلقه المعتبرين على أنه عظيم ، من عجائب خلق السموات
والأرض وما بينهما من الأفلاك والكواكب والجبال والبحار والحيوان والنبات.
والوجه الثالث
: أن يقال : شيء أعظم الله تعالى ، ويرجع بذلك الشيء إليه فيكون بنفسه عظيما ، لا
بشيء جعله عظيما ، فرقا بينه وبين خلقه ؛ لأن العظيم من خلقه قد
عظّمه غيره ، فصار بما عظموه عظيما ، وهو تبارك وتعالى عظيم ، لا بأحد
أصاره إلى العظمة.
وفيه وجه رابع
: وهو أن الألفاظ الجارية منا على معان ، لا تجوز على الله تعالى ، فإذا رأينا تلك
الألفاظ مجراة عليه حملناها على ما يجوز في صفاته ويليق به. ألا ترى أن الامتحان منا
والاختبار إنما هو بمنزلة التجربة ، وإنما يمتحن ويختبر منا من يريد أن يقف على ما
يكون ، وهو غير عالم به ، والله تعالى يمتحن ، ويختبر ويبلو بمعنى الأمر ، لا
بمعنى التجربة ، وهو عالم بما يكون.
ومن ذلك
أن" لعل" يستعمله المستعمل منا عند الشك ، وإذا جرى في كلام الله ،
فإنما هو بمعنى" كي" و" كي" يقع بعدها الفعل الذي هو غرض ما
قبله كقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى
اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) معناه : كي تفلحوا. فالفلاح هو الغرض الذي من أجله
أمرهم بالتوبة. ومثل هذا كثير.
فيكون قولنا في
الله : " ما أعلمه ، وما أعظمه" بمنزلة الإخبار منا بأنه عظيم ، ولا
يقدر فيه شيء أعظمه ، وإن كان تقديره في غيره على ما ذكرنا من الجواب الرابع.
وقال الفراء
ومن تابعه من الكوفيين : إن قولنا : " ما أحسن عبد الله" ، أصله"
ما أحسن عبد الله" ، وأن" أحسن" اسم كان مضافا إلى" عبد
الله" ، وكان المعنى فيه الاستفهام. ثم إنهم عدلوا عن الاستفهام إلى الخبر ،
فغيروا" أحسن" ففتحوه ، ونصبوا" عبد الله" ، فرقا بين الخبر
والاستفهام.
وهذا قول لا
دليل عليه ، وهو أيضا يفسد ؛ لأنه يقال : بأي شيء نصبت أحسن ، و" ما" هي
مبتدأه ، و" أحسن" خبرها ، وهو اسم ، وحكم الاسم المبتدأ إذا كان خبره
اسما مفردا أن يكون مرفوعا مثله ، والتفريق بين المعاني لا يوجب إزالة الإعراب عن
وجهه ، ومن ذلك أنا نقول : " ما أحسن بالرجل أن يصدق" ، ولو كان أصله
الإضافة لم يفصل بين المضاف والمضاف إليه" بالياء" ، ألا ترى أنا نقول :
" ما أحسن بالرجل الصدق".
واحتج القائل
بأن" أحسن" اسم بقول العرب : " ما أحيسن زيدا" كما قال الشاعر
:
__________________
يا ما أميلح
غزلانا شدنّ لنا
|
|
من هؤليّئكنّ
الضّال والسّمر
|
فصغر أملح ،
والفعل لا يصغر.
واحتج أيضا
بقولهم : " ما أقوم زيدا" ولو كان فعلا لم تصح الواو : ألا ترى أنك تقول
: " أقام يقيم" ولا تقول : " أقوم يقوم".
والجواب عن هذا
: أن" أحسن" في التعجب ، وإن كان فعلا ، فقد أشبه الاسم ؛ للزومه لفظ
الماضي ، وقلة تصرفه ، ولأن معنى : " ما أحسن زيدا" ومذهب التعجب فيه ـ كمعنى
: زيد أحسن من غيره ، وزيد أقوم من غيره. وقولنا : " أحسن من غيره" ، هو
اسم فيه معنى التعجب والتفضيل فلما كان" ما أحسن زيدا" زائلا عن تصرف
الفعل ، مشبها للاسم في لزومه لفظا واحدا ، حمل على الاسم الذي هو نظيره في جواز
التصغير ، وترك الإعلال.
وكان الأخفش
يجعل" ما" بمنزلة" الذي" ، ويجعل" أحسن" صلة لها ،
وفي" أحسن" ضمير" ما" ، و" عبد الله" مفعول"
أحسن" ، والجميع في صلة" ما" والخبر محذوف ، كأنه قال : " الذي
أحسن عبد الله فيه".
وأنكر سيبويه
هذا ، وذكر أن" ما" غير موصولة.
فقال الأخفش :
إنما تكون" ما" غير موصولة في الاستفهام والمجازاة. فالاستفهام قولك :
" ما عندك؟ " والمجازاة قولك : " ما تفعل أفعل" ، وإذا كانت
في الخبر فهي بمعنى" الذي" موصولة كقولك : " ركبت ما عندك"
و" شربت ما أصلحته" أي ركبت الذي عندك ، وشربت الذي أصلحته ، قال :
والتعجب خبر ، فينبغي أن يكون" ما" فيه موصولة.
فقال
سيبويه : العلة التي من أجلها كانت" ما" في الاستفهام والمجازاة غير
موصولة ، هي بعينها موجودة في التعجب ؛ وذلك أن المستفهم إنما يستفهم عما لا يعرف
، فلو وصل" ما" لأوضح ، واستغنى عن الاستفهام. والمجازى إنما يريد أن
يعمّ ولو وصل لحصل على شيء بعينه ، فاستغنى عن الصلة ، والمتعجب مبهم فلا يصح أن
يصل" ما" فيخرج عن الإبهام ؛ لأن الصلة إيضاح وتبيين.
وقد جاءت"
ما" غير موصولة في الخبر كقولك : " غسلته غسلا نعمّا" يريد : نعم
__________________
الغسل ، فجعل" ما" بمنزلة الغسل ولم يصلها ، لأن" نعم"
إنما يليها المبهم ، فجعل" ما" بعدها غير موصولة. ومن ذلك قول العرب :
" إني مما أن أصنع" أي من الأمر أن أصنع ، فجعل" ما" وحدها في
موضع الأمر ولم يصلها بشيء ، وتقدير الكلام إني من الأمر صنعى. كذا ... وكذا ... ؛
فالياء اسم" إن" و" صنعي" مبتدأ ، و" من الأمر" خبر
صنعي والجملة ، في موضع خبر" إن".
قال
سيبويه : (ولا يجوز أن تقدم" عبد الله" وتؤخر" ما" ولا تزيل
شيئا عن موضعه ، فلا تقول فيه : " ما يحسن" ، ولا شيئا مما يكون في الأفعال
سوى هذا).
قال أبو سعيد :
يعني لا تقول : " عبد الله ما أحسن" ، ولا" ما عبد الله أحسن"
كما تقول : " عمرا زيد أكرم" ، و" زيد عمرا أكرم" ؛ لضعف فعل
التعجب ، إذا فصلت بين فعل التعجب وبين المتعجب منه. وكثير من أصحابنا يجيز ذلك
منهم : الجرمي ، وكثير منهم يأباه ؛ منهم : الأخفش ، وأبو العباس المبرد ، وذلك
قولك : " ما أحسن في الدار زيدا".
فاحتج الذين لم
يجيزوه بأن قالوا : التعجب كالمثل ، والألفاظ فيه مقصورة على منهاج واحد ، وإن كان
يجوز في غيره من العربية تغيير مثله ، وتقديمه ، وتأخيره ، فلما جاء كالمثل ـ والأمثال
لا تغير ـ لم يغير.
واحتج الذين
أجازوا الفصل بأن قالوا : رأينا" إن" حرفا مشبها بالفعل ، ورأينا فعل
التعجب فعلا ناقص العمل والتصرف ، وليس يبلغ من نقصان تصرفه أن يصير أضعف من"
إن" التي ليست بفعل ، وقد رأينا الفصل في" إن" جائزا بينها وبين
الاسم بالظروف في قولك : " إن فيها زيدا" فكذلك قولك : " ما أحسن
فيها زيدا" ، ويدل على جواز ذلك أيضا قولهم : " ما أحسن بالرجل أن
يصدق" ، وتقديره : ما أحسن بالرجل الصدق ، وقد فصل بين" أحسن" ،
وبين" الرجل" بالباء.
وقول
سيبويه : (ولا تزيل شيئا عن موضعه).
إنما أراد أنك
تقدم" ما" وتوليها الفعل ، ويكون الاسم المتعجب منه بعد الفعل ، ولم
يعرض الفصل بين الفعل والمتعجب منه.
ولا يجوز
التعجب بلفظ المستقبل ، لأنه مدح ، وإنما يمدح الإنسان بما عرف به ، وثبت فيه.
قال
سيبويه : (وبناؤه أبدا من فعل ، وفعل ، وفعل ، وأفعل).
قال أبو سعيد
يعني : أن فعل التعجب لا يكون إلا فعلا ، أصله قبل التعجب فعل ، كقولك : " ما
أضرب زيدا ، و" أشتم عمرا للناس" ، وأصله ، ضرب وشتم ، و" ما أعلم
زيدا ، وأسمعه" ، وأصله : علم وسمع. و" ما أظرف زيدا" ، وأصله :
ظرف ، و" ما أعطى زيدا" ، وأصله : أعطى.
وإنما كان
الفعل التعجب مما أصله هذه الأفعال لأنها تحتمل زيادة الهمزة نحو : خرج وأخرجه
غيره ، وسمع وأسمعه غيره ، فلا تصح زيادة هذه الهمزة إلا في أول الأفعال الثلاثية.
وأما قولك :
" ما أعطى زيدا" ، وأصله أعطى ، فإن الهمزة التي في" أعطى"
قبل التعجب زائدة ؛ لأنه من" عطا يعطو" إذا تناول ، فحذفوا هذه الهمزة
الزائدة فصار" عطا" ، ثم زادوا الهمزة التي للتعجب.
وأما سائر
الأفعال فلا تحتمل صيغتها زيادة الهمزة في أولها نحو : انطلق ، واستغفر ، واحمر ،
وقاتل ، وما أشبه ذلك.
قال
سيبويه : (هذا ؛ لأنهم لم يريدوا أن يتصرف ، فجعلوا له مثالا واحدا يجري عليه).
يعني : لما لم
يتصرف فعل التعجب ، جعلوا له مثالا واحدا يجري عليه ، وإن كان قد يستعمل في باب
النقل غيره ، ألا ترى أنك تقول :
" عرف زيد
عمرا وعرفته" ، و" علم كذا" ، " وأعلمته إياه". فالنقل
قد يكون بتشديد العين. كما يكون بزيادة الهمزة في أوله ، فاختاروا زيادة الهمزة في
باب التعجب ؛ لأنها أكثر في النقل.
قال
سيبويه : (فشبه هذا بما ليس من الفعل ، نحو" لات" و" ما" ،
وإن كان من" حسن" و" كرم" و" أعطى").
قال أبو سعيد :
يعني أن فعل التعجب وإن كان مشتقا من أفعال متصرفة ، فهو غير متصرف بمنزلة"
لات" و" ما" في قلة تصرفها ، وقد بينا ذلك. ونظير ذلك قول العرب
للصقر" هذا أجدل" مصروف بمنزلة قولهم" هذا أفكل" والأجدل
مأخوذ من الجدل وهو الشدة والفتل ، فصرفوه ولم يجعلوه بمنزلة" أحمر" ؛
لأنه وإن كان مشتقا من الجدل ، فقد صار اسما للصقر ولا يقال لغيره إذا كان شديدا
أجدل.
قال
سيبويه : (ونظير جعلهم" ما" وحدها اسما قول العرب : " إني مما أن
أصنع" أي : من الأمر أن أصنع ، فجعل" ما" وحدها اسما. ومثل
ذلك" غسلت غسلا نعمّا" أي نعم الغسل).
وقد بينا هذا.
قال
سيبويه : (وتقول : " ما كان أحسن زيدا" ، فتذكر كان لتدل على أنه كان
فيما مضى).
إذا قلت :
" ما كان أحسن زيدا" ففي" كان" وجهان :
أحدهما : أن
تكون زائدة ، كأنك قلت : " ما أحسن زيدا" ، ثم أدخلت" كان"
لتدل على الماضي ، وفي" كان" ضمير الكون على ما قدمنا في معنى"
كان" إذا كانت زائدة ، والوجه الثاني أن تجعل" ما" مبتدأة ، وتجعل
في" كان" ضميرا من" ما" وهو اسم" كان" ،
وتجعل" أحسن" خبر" كان" ، كقولك : " زيد كان ضرب
عمرا".
قال أبو الحسن
: وإن شئت جعلت" أحسن" صلة" لما" ، وأضمرت الخبر ، فهذا أكثر
وأقيس ، وقد ذكرنا هذا.
وقالوا :
" ما أصبح أبردها" و" ما أمسى أدفأها" وليس هذا من كلام
سيبويه ، وهو غير جائز ، وذلك أن الذين قالوا من النحويين : " ما أصبح أبرد
الغداة" جعلوا" أصبح" بمنزلة" كان" ، و" أصبح"
لا تشبه" كان" في هذا الموضع من وجهين :
أحدهما :
أن" أصبح" لا تكون زائدة مثل" كان".
الوجه الثاني :
أنك إذا قلت" كان" فقد دللت على ماض ولم توجب له في الحال شيئا ، وإذا
قلت : " أصبح" ، فقد أوجبت دخوله فيه ، وبقاءه عليه. ألا ترى أنك تقول :
" كان زيد غنيا" ، فلا توجب له الغنى في حال إخبارك. وتقول : " أصبح
زيد غنيا" ، فتوجب له الدخول في الغنى والخروج عن الفقر فاعرفه ـ إن شاء الله
تعالى ـ.
هذا باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما
يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به
وما كان نحو ذلك
قال أبو سعيد :
اعلم أن من العرب إذا عطفت فعلا على فعل ـ وكان كل واحد من الفعلين متعلقا باسمين
أو باسم واحد ـ فإنهم يستجيزون في ذلك ما لا يستجيزونه في
غيره من كلامهم. فمن ذلك أنك تقول : " قام وقعد أخوك" فأنت
بالخيار إن شئت رفعت الأخ بالفعل الأول ، وإن شئت رفعته بالفعل الثاني.
فإن رفعته
بالفعل الأول فتقديره : قام أخوك وقعد ، ويكون في" قعد" ضمير من الأخ ،
وإذا ثنيته ، أو جمعت على هذا الوجه قلت : " قام وقعدا أخواك" ، و"
قام وقعدوا إخوتك" ، و" قامت وقعدن الهندات" ، ويكون قد جعلت الاسم
الذي تعلق بالفعل الأول بعد الفعل الثاني ، فقد فصلت بين الفعل الأول وفاعله
بجملة. فهذا لا يجوز في كل مكان ، وإن أعملت الفعل الثاني في" الأخ" ،
جعلت في الفعل الأول ضمير الأخ ؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل مظهر أو مضمر. وإذا
ثنيت أو جمعت على هذا الوجه قلت : " قاما وقعدا أخواك" ، و" قاموا
وقعدوا إخوتك" ، " وقمن وقعدت الهندات" ، فتضمر في الأول ضمير
الفاعل قبل الذكر ، وليس ذلك بمستحسن في جميع المواضع وهو هاهنا الاختيار.
وإذا كان الفعل
متعديا إلى مفعول جرى هذا المجرى ، فقلت : " ضربني وضربت زيدا" إن أعملت
الفعل الآخر ، وتجعل في" ضربني" ضمير الفاعل ولا بد من ذلك ، لأن الفعل
لا يخلو من فاعل. فإذا ثنيت أو جمعت ـ على هذا الوجه ـ قلت : " ضرباني وضربت
الزيدين" و" ضربوني وضربت الزيدين" و" ضربني وضربت
الهندات".
وإن أعملت
الفعل الأول في هذه الوجوه ، كان الاختيار أن تقول : " ضربني وضربته
زيد" ، لأن التقدير : ضربني زيد وضربته وضربني وضربتهما الزيدان ، و"
ضربني وضربتهم الزيدون" ، و" ضربتني وضربتهن الهندات".
ويجوز حذف ضمير
المفعول من الفعل الثاني ؛ لأن المفعول يجوز حذفه ؛ لأنه كالفضلة المستغنى عنها.
وقد علم أن الفعل قد وقع به ، وقال الله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ
اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) على معنى والذاكراته (وَالْحافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) ، ولم يأت للفعل الثاني بمفعول اكتفاء بالأول.
وإذا قلت :
" ضربت وضربني زيد" فأعملت الفعل الثاني ، رفعت" زيدا" به ،
ولم تأت للأول بمفعول ، وقد علم أنه واقع" بزيد" ؛ لذكرنا في الفعل
الثاني ، فلم تضمره كما أضمرته حيث كان فاعلا ؛ لأنهم احتملوا إضماره قبل الذكر
حيث كان فاعلا ؛ لأن الفعل
__________________
لا بد له من فاعل ، وقد يستغنى عن المفعول ، فلم يكن بهم ضرورة توجب إضمار
المفعول قبل الذكر.
فإذا ثنيت ، أو
جمعت ـ على هذا الوجه ـ قلت : " ضربت وضربني الزيدان" ، و" ضربت
وضربني الزيدون" ، " وضربت وضربتني الهندات" ، فإن أعملت الفعل
الأول ـ في هذه الوجوه ـ قلت : " ضربت وضربني زيدا" ، وجعلت في"
ضربني" ضميرا من زيد ، وتقديره : ضربت زيدا ، وضربني. وفي التثنية
والجمع" ضربت وضرباني الزيدين" و" ضربت وضربوني الزيدين" ،
و" ضربت وضربني الهندات".
وإذا كان الفعل
متعديا إلى اثنين جرى على هذا المجرى ، وعلى هذا القياس. وإذا تعدى إلى ثلاثة
مفاعيل : فالجرمي ومن ذهب مذهبه لا يرون إجراءه على قياس هذا الباب ؛ لأن هذا
الباب خارج عن القياس ، وإنما يستعمل فيما استعملته العرب ، وتكلمت به ، وما لم
تتكلم به فمردود إلى القياس. ومن أصحابنا من يقيس ذلك في جميع الأفعال.
فما يتعدى إلى
مفعولين ، تقول : " أعطاني وأعطيت أخاك درهما" ، فتجعل في"
أعطاني" ضمير الأخ ؛ لأنه فاعل مضطر إلى ذكره ، وتحذف ضمير الدرهم ؛ لأنه
مفعول ، وما في الفعل الثاني يدل عليه ، وتعمل الفعل الثاني في الآخر.
فإذا ثني أو
جمع ـ على هذه الوجوه ـ قلت : " أعطياني وأعطيت أخويك درهما" ، و"
أعطوني وأعطيت إخوتك درهما" ، و" أعطيتني وأعطيت الهندات درهما".
فإذا أعملت
الفعل الأول ـ على هذا الوجه ـ قلت : " أعطاني وأعطيته إياه أخوك درهما"
، وتقديره : أعطاني أخوك درهما وأعطيته إياه ، فالهاء ضمير الأخ ، وإياه ضمير
الدرهم ، وقد جرى ذكرهما في التقدير فأضمرتهما لذلك ، فإذا ثنيت أو جمعت قلت : "
أعطاني وأعطيتهما إياه أخواك درهما" ، و" أعطاني وأعطيتهم إياه إخوتك
درهما" ، و" أعطتني وأعطيتهن إياه الهندات درهما".
ويجوز حذف ضمير
المفعول من الفعل الثاني على نحو ما مضى : فإذا قلت : " أعطيت وأعطاني زيد
درهما" وأعملت الفعل الثاني حذفت المفعولين من الفعل الأول ، وإن كانا يرادان
في المعنى ؛ لأن الفعل الثاني قد دل عليهما ، والمفعولان أحدهما زيد والآخر الدرهم
، كأنك قلت : " أعطيت زيدا درهما ، وأعطاني زيد درهما ، وإذا ثنيت أو جمعت
قلت : " أعطيت وأعطاني الزيدان درهما" ، و" أعطيت وأعطاني الزيدون
درهما" ،
و" أعطيت وأعطتني الهندات درهما".
وإذا أعملت
الأول ـ على هذا الوجه ـ قلت : " أعطيت وأعطاني إياه زيدا درهما" ،
و" أعطيت وأعطياني إياه الزيدين درهما" ، و" أعطيت وأعطوني إياه
الزيدين درهما" ، و" أعطيت وأعطينني إياه الهندات درهما" ، ويجوز
حذف إياه ؛ لأن المفعول يستغنى عنه.
وإن كان الفعل
متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، فسبيله سبيل" أعطيت"
الأول إلا في الاقتصار على أحد المفعولين ، تقول : " ظنني وظننت زيدا منطلقا
إياه" ، أعملت الفعل الثاني في" زيد" ، و" منطلق" ،
وجعلت في الفعل الأول ضمير" زيد" وهو الفاعل ، والنون والياء هما
المفعول الأول من مفعولي الظن ، وأنت مضطر إلى ذكر الثاني ؛ لأنه لا يقتصر على أحد
المفعولين فجئت به في آخر الكلام. وهو ضمير" منطلق" بعد أن جرى ذكره ،
ولا يجوز أن تضمر قبل ذكره ؛ لأن المفعول لا يضمر قبل الذكر ، وكل ما تعلق بالفعل
الأول فلا يجوز أن تذكره بعد الفعل الثاني حتى يتم فاعله ومفعوله.
ولو ثنيت أو
جمعت ـ على هذا الوجه ـ لم يجز ؛ لأنك لو أخرته لقلت : " ظناني وظننت أخويك
منطلقين إياه وإياهما" وكلاهما فاسد ، وذلك أنك إذا قلت : إياه فقد جعلت
ضميرا واحدا ، وإذا قلت : إياهما فأضمرت المنطلقين ، فقد جعلت المتكلم اثنين وهما
واحد ، وعلى هذا قياس جميع هذا الباب ، فيما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل.
وكان الكسائي
إذا أعمل الفعل الثاني في الفاعل ، أعرى الفعل الأول من الفاعل ، ولم يجعل فيه
ضميرا له.
وكان الفراء لا
يضمر الفاعل قبل ذكره في شيء من هذه الأفعال التي ذكرنا ، فأما الكسائي فإنه يقال
للمحتج عنه ، أخبرنا عن هذا الفعل ، أتنوي فاعله أو لا تنويه؟
فإن قال : لا
أنويه فقد أحال ؛ لأن الفعل لا يتصور بغير فاعل ، وإن قال : أنويه قلنا : فإذا كنت
تنويه قبل أن تذكره لحاجة الفعل إليه ، فلم لا تأتي بالعلامة التي تكون لما ينوى
من الفاعلين؟
وأما الفراء
فإن قوله مخالف لكلام العرب ؛ لأن الرواة قد أنشدوا قول طفيل الغنوي :
وكمتا مدمّاة
كأنّ متونها
|
|
جرى فوقها
واستشعرت لون مذهب
|
فنصب"
لونا" باستشعرت ، وجعل في" جرى" ضمير فاعل ، كأنه قال : جرى فوقها
لون مذهب ، واستشعرت لون مذهب مع ما حكاه البصريون من قول العرب : " ضربني
وضربت زيدا" ، واختيارهم لإعمال الفعل الثاني ، وإذا أعملوا الفعل الثاني
جعلوا في الأول ضمير فاعل.
قال سيبويه :
مفسرا لترجمة الباب : (وهو
قولك : " ضربت وضربني زيد" و" ضربني وضرب زيدا" ، فحمل الاسم
على الفعل الذي يليه).
قال أبو سعيد :
يعني أنك تعمل الفعل الثاني وهو الاختيار عنده. وقد ذكرناه. قال سيبويه :
(والعامل
في اللفظ أحد الفعلين ، وأما في المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع ، إلا أنه لا
يعمل في اسم واحد رفعا ونصبا).
يعني العامل في
الاسم الظاهر هو أحد الفعلين ، كأنا إذا قلنا : " ضربت وضربني زيد" ،
فالعامل في" زيد" هو" ضربني" ، وقد علم أن" ضربت"
له مفعول مثل" ضربني" وإن لم يذكر ، وكذلك إذا قلت : " ضربني وضربت
زيدا" فالعامل في" زيد" هو" ضربت" ، وفاعل"
ضربني" ضمير زيد ، وإن لم تظهره ، فقد علم أن الفعل الأول كالفعل الثاني في
وصوله إلى الفاعل والمفعول. ولا يجوز أن يكون الفعل الأول والثاني يعملان في الاسم
الظاهر ؛ لأن الفعل الأول يوجب نصبه ، والثاني يوجب رفعه ، أو الأول يوجب رفعه
والثاني يوجب نصبه ، ومحال أن يكون الاسم مرفوعا منصوبا.
وقد زعم الفراء
أنا إذا قلنا : " قام أو قعد زيد" ، فالعامل في" زيد" الفعلان
جميعا.
وهذا غير جائز
؛ لأنهما لو كانا عاملين في" زيد" جاز أن يبدل من أحدهما ما يوجب
نصب" زيد" ، فتقول : " ضربت أو ضربني زيد" ، فيكونان جميعا
عاملين في" زيد" وهذا فاسد.
قال
سيبويه : (وإنما كان الذي يليه أولى ؛ لقرب جواره ، وأنه لا ينقض معنى ، وأن
المخاطب قد عرف أن الأول قد وقع" بزيد").
__________________
يعني : أن
الاختيار إعمال الثاني ؛ لأنه لا فرق في المعنى بين إعمال الأول والثاني ، ونحن
نكتسب بإعمال الثاني حمل الشيء على ما يقرب منه ويجاوره ، والعرب تختار حمل الشيء
على ما يقرب منه ، وقد بينا هذا.
قال
سيبويه : (كما أن" خشّنت بصدره وصدر زيد" ، وجه الكلام ، حيث كان الجر
في الأول ، وكانت الباء أقرب إلى الاسم من الفعل ، ولا تنقض معنى سوّوا بينهما في
الجر كما يستويان في النصب).
قال أبو سعيد
يعني : أن قولنا : " خشنت بصدره وصدر زيد" ، أجود من" خشنت بصدره
وصدر زيد" وكلاهما جائز ؛ لأنك إذا جررت حملته على مجرور يجاوره لفظا ، وإذا
نصبت حملته على المعنى ، كأنك قلت : " خشنت صدره وصدر زيد" وحمله على
اللفظ أجود ؛ لأنه معه وإلى جنبه ، فكذلك الأول حمله على ما يقاربه ويجاوره أجود.
ولا فرق بين النصب والجر في" خشنت" فلما لم يكن فرق كان مطابقة اللفظ
أولى بالاختيار ، كما أنهم لو نزعوا الباء لسوّوا بين الأول والثاني في النصب ،
وقالوا : " خشنت صدره وصدر زيد".
قال
سيبويه : (ومما يقوى ترك نحو هذا لعلم الخاطب ، قوله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ))
.
أراد و"
الحافظاتها" والذاكرين الله كثيرا والذاكراته. فترك مفعول الثاني لعلم
المخاطب بذلك والاكتفاء بالأول لو كان منصوبا.
وكذلك قوله : (" ونخلع ونترك
من يفجرك").
فلو كان منصوبا
ب" نخلع" كان الاختيار أن يقول : ونخلع ونتركه من يفجرك ، ونصبه ب"
نخلع" جائز أيضا ، فقد ترك إما مفعول" نخلع" وإما مفعول"
نترك" اكتفاء بعلم المخاطب.
قال
سيبويه : (وقد جاء في الشعر من الاستغناء أشد من هذا ، وذلك قول قيس بن الخطيم :
__________________
نحن بما
عندنا ، وأنت بما
|
|
عندك راض
والرأي مختلف
|
أراد : نحن بما
عندنا راضون.
ومثله قول ضابئ
البرجمي :
فمن يك أمسى
بالمدينة رحله
|
|
فإنّي
وقيّارا بها لغريب
|
فجاء بخبر
أحدهما.
وقال ابن أحمر
:
رماني بأمر
كنت منه ووالدي
|
|
بريئا ومن
أجل الطّوي رماني
|
ويروى : ومن
جول الطوى. وحق الكلام أن يقول : بريئين فهذه الأبيات أشد مما ذكر ؛ وذلك أنه حذف
خبر الاسم الذي لا بد له منه اكتفاء بخبر الاسم الأخير ، وما ذكرناه فإنما حذف منه
المفعول المستغنى عنه ، وحذف الخبر أشد من حذف المفعول.
فأما قول ضابئ
البرجمي : " وإني وقيارا بها لغريب" ، فيجوز أن يكون" لغريب"
خبرا للنون والياء وخبر" قيار" محذوفا. ويجوز أن يكون خبرا"
لقيار" ، وخبر" إني" محذوف.
وكذلك بيت ابن
أحمر ، يجوز أن يكون خبرا" للقاء" في" كنت" ، ويجوز أن يكون
خبرا" لوالدي". ومن روى : ومن أجل الطّوي رماني يعني بسبب الطّويّ ،
والطويّ : البئر. وإنما كان بينهما مشاجرة في بئر ، فبهته بسبب ما كان بينهما من
المشاجرة ، وقذفه بما لم يكن فيه.
ومن قال :
"ومن جول الطوي رماني" أراد : ما رماني به رجع عليه ؛ لأن من رمى من بئر
رجع عليه ما رمي.
قال سيبويه بعد
هذه الأبيات : (فوضع
في موضع الخبر لفظ الواحد ؛ لأنه قد علم أن المخاطب سيستدل به ، والأول أجود).
يعني : أنه جاء
بخبر واحد ، وقد ذكر أكثر من واحد ، فحذف الخبر اكتفاء بما ذكر والأول أجود ، يعني
: حذف المفعول من الفعل الذي ذكره أجود.
__________________
(لأنه
لم يضع واحدا في موضع جمع ، ولا جمعا في موضع واحد. قال : ومثله قول الفرزدق :)
يعني : مثله
الاكتفاء بخبر واحد عن خبر جماعة :
إني ضمنت لمن
أتاني ما جنى
|
|
وأبى فكان
وكنت غير غدور
|
ولم يقل :
غدورين.
واعترض بعض
النحويين على سيبويه فقال : " فعيل وفعول" قد يكونان للجماعة والواحد
والمذكر والمؤنث ، ومن ذلك قولهم : "رجل صديق" و" قوم صديق" ،
و" رجل خليط" ، و" قوم خليط" ، و" رجل عدو" ،
و"قوم عدو" كما قال تعالى : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً).
قال فيجوز أن
يكون" غدور" و" بديء" للاثنين. وهذا الذي ذكرنا يروى عن
الزيادي. وهو غير ناقض لما ذكره سيبويه ؛ لأنه قد ذكر في أول هذه الأبيات"
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض" ، و" راض" لا يصلح إلا لواحد ؛
وغرضه أن يبيّن أنه يحذف الخبر اكتفاء بخبر واحد.
على أن"
فعيل" و" فعول" ليس طريقهما في كل موضع أن يكونا للجميع والواحد ؛
ألا ترى أنك تقول : " رجل كريم" ، و" رجلان كريمان" ، و"
رجل ظريف" و" رجلان ظريفان" ، وما سمع" رجلان ظريف" ،
وكذلك" رجل صبور" ، و" رجلان صبوران" ، ولم نسمع : " رجلان
صبور".
قال
سيبويه : (ولو لم تحمل الكلام على الآخر لقلت : " ضربت وضربوني قومك" ،
وإنما كلامهم : " ضربت وضربني قومك").
يعني : إذا
أعملت الأول قلت : " ضربت وضربوني قومك" ؛ لأن تقديره : ضربت قومك
وضربوني. والوجه" ضربت وضربوني قومك" على إعمال الثاني وترك مفعول الفعل
الأول.
قال
سيبويه : (فإذا قلت : " ضربني" لم يكن سبيل إلى الأول ؛ لأنك لا تقول :
__________________
"
ضربني" وأنت تجعل المضمر جميعا).
يعني إذا قلت :
" ضربت وضربني قومك" لا يجوز أن تقول : " ضربت وضربني قومك"
وقد أعملت الأول ؛ لأنك إذا أعملت الأول في" القوم" وجب أن تضمر في
الثاني ضمير جماعة.
قال
: (ولو أعملت الأول لقلت : " مررت ومرّ بي بزيد").
على
تقدير" مررت بزيد ومرّ بي".
(وإنما
قبح هذا ؛ لأنهم جعلوا الأقرب أولى إذا لم ينقض معنى).
يعني أن قولك :
" مررت ومرّ بي زيد" أجود ؛ لأن" زيدا" أقرب إلى الفعل
الثاني.
قال الفرزدق في
إعمال الثاني :
ولكنّ نصفا
لو سببت وسبنّي
|
|
بنو عبد شمس
من مناف وهاشم
|
ولو أعمل الأول
في غير الشعر لقال : " سببت وسبّوني بني عبد شمس".
قال طفيل
الغنوي :
وكمتا مدمّاة
كأنّ متونها
|
|
جرى فوقها
واستشعرت لون مذهب
|
أعمل"
استشعرت" ولو أعمل الأول ، وهو" جرى" لقال : لون مذهب وقال رجل من
باهلة :
ولقد أرى
تغني به سيفانة
|
|
تصبي الحليم
ومثلها أصباه
|
قال :
أعمل" تغني" ، ولو أعمل" أرى" لقال" سيفانة".
والسيفانة : المهفهفة الممشوقة ، ومثلها أصباه يعني : مثل السيفانة أصبى الحليم.
وقال
: (فالفعل الأول في كل هذا معمل في المعنى وغير معمل في اللفظ والآخر معمل في
اللفظ والمعنى).
قال
سيبويه : (فإن قلت : " ضربت وضربوني قومك" نصبت إلا في قول من قال :
" أكلوني البراغيث").
والاختيار : "
ضربت وضربني قومك" عند البصريين ؛ تعمل الثاني في" القوم" ، وإذا
__________________
أعملت الثاني فيهم أفردت الفعل ، وإن جمعت الفعل الثاني فقلت : " ضربوني"
كان على وجهين :
أحدهما : أن
تنصب" قومك بالفعل الأول وتضمر" هم" في الفعل الثاني ؛ كأنك قلت :
" ضربت قومك وضربوني" وهذا هو المختار من الوجهين.
والوجه الثاني
: أن ترفع" قومك" فقلت : " ضربت وضربوني قومك" فإذا فعلت هذا
كان فيه وجهان :
أحدهما : أن
تجعل" الواو" في" ضربوني" علامة للجمع لا ضميرا على لغة من
يقول : " قاما أخواك" و" ضربوني إخوتك" ، و" أكلوني
البراغيث".
والوجه الثاني
: أن تجعل" الواو" ضمير الفاعلين وتجعل" القوم" بدلا منهم ،
وجاز أن تضمر قبل الذكر على شرط التفسير ، وهذا معنى قول سيبويه :
(أو
تحمله على البدل فتجعله بدلا من المضمر كأنه قال : " ضربت وضربني ناس بنو
فلان").
قال
: (وعلى هذا الحد تقول : " ضربت وضربني عبد الله" تضمر في"
ضربني" كما أضمرت في" ضربوني").
يعني أنك إذا
قلت : " ضربت وضربني عبد الله" جاز أن يكون في ضربني ضمير فاعل ، أضمرته
قبل الذكر على شرط التفسير ؛ على أنه لا يظهر في اللفظ لأن كناية الفاعل الواحد في
الفعل لا تظهر.
قال
: (فإن قلت : " ضربني وضربتهم قومك" رفعت ؛ لأنك شغلت الآخر فأضمرت فيه
، كأنك قلت : " ضربني قومك وضربتهم" على التقديم والتأخير).
يعني أنك إذا
قلت : " ضربني وضربتهم قومك" فوحّدت الفعل الأول ، فالاختيار أن
ترفع" القوم" به ؛ لأنك لو لم ترفعهم به لوجب أن تضمر ضمير جماعة في
الفعل الأول ؛ لأن الفعل الأول لجماعة فيكون تقديره : " ضربني قومك
وضربتهم".
وقال
: (إلا أن تجعل" ها هنا البدل كما جعلته في الرفع ، فإن فعلت ذلك لم يكن بد
من" ضربوني" لأنك تضمر فيه الجمع).
يعني أنك إذا
نصبت" قومك" فجعلتهم بدلا من الهاء والميم في" ضربتهم" وجب أن
تأتي بفاعل الفعل الأول وهم جماعة ؛ فتأتي لهم بضمير الجماعة على شرط التفسير.
قال عمر بن أبي
ربيعة :
إذا هي لم
تستك بعود أراكة
|
|
تنحّل ،
فاستاكت به عود إسحل
|
أراد : تنحّل
عود إسحل ، فاستاكت به ، فأعمل الفعل الأول ، والشاهد إنما هو إعمال الفعل الأول.
قال المرار
الأسدي :
فردّ على
الفؤاد هوّى عميدا
|
|
وسوئل لو
يبين لنا السؤالا
|
وقد نغنى به
ونرى عصورا
|
|
بها يقتدننا
الخرد الخدالا
|
أراد : ونرى
الخرد الخدال بها يقتدننا في عصور : فالعصور : ظرف ، وأعمل الفعل الأول في الخرد ،
وهو" نرى" ، ولو أعمل الفعل الثاني لقال : ونرى عصورا بها يقتادنا الخرد
الخدال.
قال
: (وإذا قلت : " ضربوني وضربتهم قومك" جعلت" يقوم" بدلا
من" هم" ؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل ، والفاعل ها هنا جماعة ، وضمير
الجماعة الواو. وكذلك تقول : " ضربوني وضربت قومك" ، إذا أعملت الآخر
فلا بدّ في الأول من ضمير الفاعل ، لأن الفعل لا يخلو من فاعل).
قال أبو سعيد :
يعني أنك إذا أعملت الفعل الثاني في القوم ، فلا بد من أن تأتي بالواو التي هي
ضمير" هم" في الفعل الأول ؛ لأنهم فاعلون للفعل الأول وهم جماعة فعلا
متهم الواو.
قال
سيبويه : (وإنما قلت : " ضربت وضربني قومك" فلم يجعل في الأول الهاء
والميم ؛ لأن الفعل قد يكون بغير مفعول ، ولا يكون الفعل بغير فاعل).
يعني أنك إذا
أعملت الفعل الثاني في القوم ، وهم الفاعلون له ، وقد وقع بهم الفعل الأول ، لم
يحتج إلى ضمير لهم في الفعل الأول ؛ لأن الفعل قد يكون بلا مفعول ؛ ألا ترى أنه
يجوز أن تقول" أكلت" ولا تذكر المأكول ، ولا تقول" أكل" من
غير أن تذكر الأكل.
قال
(وأما لقول امرئ القيس :
__________________
فلو أنّ ما
أسعى لأدنى معيشة
|
|
كفاني ولم
أطلب قليل من المال
|
فإنما رفع ؛
لأنه لم يجعل القليل مطلوبا ، وإنما كان المطلوب عنده الملك ، وجعل القليل كافيا ،
ولو لم يرد ذلك ونصب ، فسد المعنى).
يعني أنه رفع
قليلا و" كفاني" ولم ينصبه ب" أطلب" ؛ لأن امرأ القيس إنما
أراد : لو سعيت لمنزلة دنيئة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك. وعلى ذلك معنى
الكلام ؛ لأنه قال في البيت الثاني :
ولكنما أسعى
لمجد موثّل
|
|
وقد يدرك
المجد المؤثّل أمثالي
|
ولو نصب بأطلب
لاستحال المعنى ، وذلك أن قوله : " فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة" ، يوجب
أنه لم يسع لها ؛ ألا ترى أنك تقول : " لو لقيت زيدا" لوجب أنك لم تلقه.
فإذا قلت : " لو لقيت زيدا ... لم يقصر" يوجب أنك تلقه ، وأنه قد قصّر
بسبب أنك لم تلقه. فإذا كان المعنى كذلك ، وجب متى نصبنا" قليلا"
ب" أطلب" أن يكون معناه : لو سعيت لمعيشة دنيئة لم أطلب قليلا من المال
، فنفيت أنك سعيت لمعيشة دنيئة ، وأوجبت أنك طلبت قليلا من المال.
لأنك نفيت أنك
لم تطلب قليلا من المال ؛ لأن جواب" لو" منفي ، كما أن الفعل بعدها منفي
، وذلك متناقض.
قال
سيبويه : (وقد يجوز : " ضربت وضربني زيدا" ؛ لأن بعضهم قد يقول : "
متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا").
يعني : أن
إعمال الفعل الأول جائز ، كما أن الذي قال : " متى رأيت أو قلت زيدا
منطلقا" أعمل." رأيت".
قال
: (والوجه : متى رأيت أو قلت زيد منطلق).
فيحكي ويعتمد
على" قلت" لأنه الفعل الثاني.
قال
: (ومثل ذلك في الجواز : " ضربني وضربت قومك" ، والوجه أن تقول : "
ضربوني وضربت قومك" فتحمله على الآخر).
__________________
يعني :
أن" ضربوني وضربت قومك" قد أعملت فيه الفعل الآخر ، فهو أجود من :
" ضربني
وضربت قومك" ؛ لأنك قد أعملت فيه الفعل الأول.
قال
: (وإن قلت : " ضربني وضربت قومك" فجائز ، وهو قبيح أن تجعل اللفظ
كالواحد كما تقول : " هذا أجمل الفتيان" ، و" أحسن وأكرم بنيه وأنبله").
يعني : أنك إذا
وحّدت الفعل الأول ، وأعملت الفعل الثاني في مفعولين ، وقد علمت أن فاعل الفعل
الأول جماعة ، والفعل لا بد له من فاعل ، فالضرورة تحوجك إلى أن تضمر في الفعل
الأول ضميرا واحدا في معنى جمع ، حتى لا معرّي الفعل من فاعل فيكون تقديره : "
ضربني من ثم" ، أو" ضربني جمع" ، " فمن ثم" و"
جمع" إذا قدرته ، لفظه لفظ الواحد ، ومعناه جماعة. قال : وهذا وإن كان قبيحا
؛ لأنا نقول : " هذا أجمل الفتيان ، وأحسنه ، وأكرم بنيه ، وأنبله"
وإنما تريد : أحسنهم ، وأجملهم.
قال
: (ولا بد من هذا ؛ لأنه لا يخلو الفعل من فاعل مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء ؛
كأنك قلت : إذا مثّلته : " ضربني من ثم" ، و" ضربت قومك").
يريد : أنه لا
بد لك من فاعل مقدر في الفعل الأول ، وإن أفردناه.
قال
سيبويه : (وترك ذلك أحسن وأجود للبيان الذي يجيء بعده).
قال أبو سعيد :
في هذا وجهان :
أحدهما : ما
قاله بعض أصحابنا أن شيئا من الكلام قد سقط ، وأن تمامه. وترك ذلك جائز ، وذكره
أجود ، وأحسن للبيان الذي يجيء بعده. يعني : وترك ضمير الجماعة جائز ، وإبانة
ضميرهم أجود لذكر الجماعة التي تأتي بعده.
والوجه الثاني
: أن قوله : (وترك ذلك أجود).
يريد : وترك
إضمار الواحد في معنى الجماعة أجود بسبب ذكر الجماعة التي تأتي من بعد.
ثم
قال : (وأضمر" من" لذلك. وهو رديء في القياس ، فدخل فيه أن تقول : "
أصحابك جلس" تضمر شيئا يكون في اللفظ واحدا).
يعني : أن
إضمار" من" الذي هو مفرد في معنى الجماعة رديء ؛ لأنك إذا ألزمت هذا
القياس ، وجب عليك أن تقول : " أصحابك جلس" تضمر في" جلس"
شيئا يكون بمعنى الجماعة وهذا قبيح جدا.
قال
: (وقولهم : " هو أظرف الفتيان وأجمله" لا يقاس عليه. ألا ترى أنك لو
قلت ، وأنت تريد الجماعة : " هذا غلام القوم وصاحبه" لم يحسن).
يريد أن قولنا
: " هذا أظرف الفتيان وأجمله" أجود من" ضربني وضربت قومك" ،
من قبل أنك تقول : " هذا أظرف فتى" ، فيكون بمعنى : أظرف الفتيان ، فلما
كان الواحد في هذا الموضع يقع موقع الجماعة ، جاز أن تضمر بعد الجماعة واحدا وحسن
، ولم يحسن في" ضربني وضربت قومك" ، إلا أنه مع قبحه جائز.
هذا باب ما يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل قدّم أو أخّر
وما يكون الفعل فيه مبنيا على الاسم
قال أبو سعيد :
اعلم أن بناء الشيء على الشيء كثيرا ما يدور في كلام سيبويه ، ونحن نبينه ، حتى
تقف عليه من كلامه كلّ ما مرّ بك في موضع من الكتاب.
فإذا قال :
بنيت الاسم على الفعل ، فمعناه : أنك جعلت الفعل عاملا في الاسم ، كقولك : " ضرب
زيد عمرا" ، " فزيد ، وعمرو" مبنيان على الفعل.
وكذلك لو قلت :
" عمرا ضرب زيد" ؛ لأن" عمرا" وإن كان مقدما فالنية فيه
التأخير ، وإذا قال لك : بنيت الفعل على الاسم ، فمعناه : أنك جعلت الفعل وما يتصل
به خبرا عن الاسم ، وجعلت الاسم مبتدأ كقولك : " زيد ضربته" ، "
فزيد" مبني عليه ضربته و" ضربته" مبني على الاسم.
وجملة الأمر :
أن الذي حكمه أن يكون مؤخرا مبنيا على ما حكمه أن يكون مقدما ، عمل في اللفظ أو لم
يعمل ، إذا كان أحدهما يحتاج إلى الآخر. وقد ذهب سيبويه إلى أنك إذا قلت : " لو
أن عندنا زيدا لأكرمناه" ، " أنّ" التي بعد" لو" مبنية
على" لو" وإن كانت" لو" غير عاملة فيها ، لأن حكم"
لو" أن تكون مقدمة على" أنّ" ولا يستغنى عنها.
قال
سيبويه : (فإذا بنيت الاسم عليه قلت : " ضربت زيدا" وهو الحد ؛ لأنك
تريد أن تعمله أو تحمل الاسم عليه ، كما كان الحد" ضرب زيد عمرا" ، حيث
كان" زيد" أول ما تشغل به الفعل).
قال أبو سعيد :
قد ذكر أن المفعول مبني على الفعل وقوله : وهو الحد.
يعني : تأخر
المفعول هو الأصل والوجه.
وقوله
: (لأنك تريد أن تعمله وتحمل الاسم عليه).
يريد : لأنك
تريد أن تعمل الفعل ، وتجعله صدر الكلام في النية ، وتعمله في الاسم ، وتحمل الاسم
عليه.
وقوله
: (كما كان الحد ضرب زيد عمرا).
يعني : أن الحد
تأخير" زيد" في" ضربت زيدا" مع الفاعل المكني وهو التاء كما
كان الحد تأخير المفعول مع الفاعل الظاهر.
قال
: (وإن قدمت الاسم ، فهو عربي جيد ، كما كان ذلك عربيا جيدا ، وذلك قولك : " زيدا
ضربت").
يعني أن"
زيدا ضربت" بمنزلة" زيدا ضرب عمرو" ، ولا فرق بين الفاعل الظاهر
والمكني.
قال
: (والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء ، مثله في" ضرب زيد
عمر" و" ضرب زيدا عمرو").
يعني : أن
المكني والظاهر الفاعلين سواء في باب تقديم المفعول وتأخيره ، فإن كانت العناية
بالمفعول فيهما أشد ، قدمت المفعول ، وإن كانت العناية بالفاعل أشد قدمت الفاعل ،
وقد ذكرنا نحو هذا.
قال
: (فإذا بنيت الفعل على الاسم قلت : " زيد ضربته" فلزمته الهاء).
يعني : أنك إذا
جعلت" زيدا" هو الأول في الرتبة ، فلا بد من أن ترفعه بالابتداء ، فإذا
رفعته بالابتداء فلا بد من أن يكون في الجملة التي بعده ضمير يعود إليه ، وتكون
هذه الجملة مبنية على المبتدأ ، كأنك قلت : " زيد مضروب".
قال
: (فإنما قلت : " عبد الله" فنبهته له ثم بنيت عليه الفعل ، فرفعته
بالابتداء).
يعني : ابتدأت
ب" عبد الله" ، فنبّهت المخاطب له فانتظر الخبر عنه فأخبرت بالجملة التي
بعده.
قال
: (ومثل ذلك قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ)).
يعني :
أن" ثمود" مبتدأ ، و" فهديناهم" في موضع الخبر مبني عليه وفيه
ضمير يعود
__________________
إليه.
قال
: (وإنما حسن أن يبني الفعل على الاسم حيث كان معملا في الضمير).
يعني أن"
ضربته" إنما بني على" زيد" ؛ لأنه قد عمل في ضميره ، ولو لا ذلك لم
يحسن إلا أن تنصب" زيدا" ، إلا أنك لو حذفت هذا الضمير ، وأنت تريده جاز
على قول البصريين ، ولم يحسن فقلت : " زيد ضربت" على معنى"
ضربته".
قال
: (وإن شئت قلت : " زيدا ضربته" وإنما نصبته على إضمار فعل هذا تفسيره).
يعني أنك إذا
قلت : " زيدا ضربته" فتقديره" ضربت زيدا ضربته" ، وحذفت الفعل
الأول اكتفاء بتفسير الثاني له ، والدليل على أنه ينتصب بالفعل الأول : أنك قد
تقول : " أزيدا مررت به" ، فتنصبه ولو لم يكن فعل مضمر يعمل فيه النصب
لما جاز نصبه بهذا الفعل ؛ لأن" مررت" لا يتعدى إلا بحرف جر. فإذا قلت :
" زيدا ضربته" لم يحسن إظهار الفعل الناصب لزيد مع الفعل المفسّر له ،
لا تقول : " ضربت زيدا ضربته" فتجمع فيهما ؛ لأن أحدهما يكفيك من الآخر.
قال
: (ومثل ذلك ترك إظهار الفعل ها هنا ، ترك الإظهار في الموضع الذي تقدم فيه
الإضمار).
يعني : أن ترك
إظهار الفعل المضمر في" زيدا ضربته" مع مجيء التفسير بمنزلة قولك :
" نعم رجلا زيد" وتقديره" نعم الرجل رجل زيد" ، أضمر الرجل
في" نعم" ؛ لأن" نعم" فعل ، ولا بد له من فاعل و"
رجلا" تفسير له ، ولا يجوز أن يجمع بينهما فنقول : " نعم الرجل
رجلا".
قال
: (وقد قرأ بعضهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ).
وأنشدوا هذا البيت على وجهين : على الرفع والنصب. قال بشر بن أبي خازم :
فأمّا تميم
تميم بن مرّ
|
|
فألفاهم
القوم روبى نياما)
|
وقد مرّ وجه
النصب والرفع ، غير أن النصب في" أما" بإضمار فعل مقدر بعد
__________________
الاسم كأنه قال : " فأما ثمود فهدينا فهديناهم".
قال
: (ومثله قول ذي الرمة :
إذا ابن أبي
ليلى بلالا بلغته
|
|
فقام بفأس
بين وصليك جازر
|
فالنصب
عربي كثير والرفع أجود).
أراد : النصب
عربي كثير في" زيدا ضربته" ، والرفع أجود ؛ لأنك إذا رفعت لم تحتج إلى
إضمار شيء ، وإذا نصبت أضمرت فعلا ، وأنت لو أردت إعمال الفعل في الاسم كان يمكنك
أن تحذف الضمير الذي في الفعل ، وتصل إلى الاسم ، ولم يكن يحتاج إلى هذا التأويل
البعيد.
وأما قول ذي
الرّمة ؛ فإن الاختيار فيه النصب ؛ لأن" إذا" فيها معنى المجازاة ، فهي
بالفعل أولى. فإذا كانت بالفعل أولى ، كان إضمار الفعل الذي ينصبه أجود.
وقوله"
فقام بفأس" هو دعاء ، ولو لم يكن دعاء لما جاز دخول الفاء ، تقول : " إن
أتاني زيد أتيته" ، ولا يجوز" إن أتاني زيد فأتيته" ، وتقول :
" إن أتاني زيد فأحسن الله جزاءه" ؛ لأن فيه دعاء. والرفع فيما
بعد" أما" أجود ؛ لأن ما بعد" أمّا" مبتدأ ؛ لأنها من حروف
الاستئناف.
قال
: (ومثل ذلك" زيدا أعطيت" ، و" أعطيت زيدا" ، و" زيد
أعطيته" ؛ لأن" أعطيت" بمنزلة" ضربت" وقد بيّن المفعول
الذي هو بمنزلة الفاعل في أول الكتاب).
يعني :
أن" أعطى عمرو زيدا" بمنزلة" ضرب عمرو زيدا" في مجازي
إعرابهما وعمل الفعل فيهما ، فتقديم المنصوب على" أعطى" كتقديمه
على" ضرب".
قال
: (فإن قلت : " زيد مررت به" ، فهو من النصب أبعد من ذلك ؛ لأن المضمر
قد خرج من الفعل ، وأضيف الفعل إليه بالباء ، ولم يوصل إليه الفعل في اللفظ ، فصار
كقولك : " زيد لقيت أخاه").
يعني أنك إذا
ابتدأت الاسم وجئت بالفعل فيتعدى إلى ضميره بحرف جر ، كان الرفع فيه أقوى ، والنصب
منه أبعد ؛ لأنك إذا قلت : " زيدا مررت به" فتنصبه ، أضمرت
__________________
فعلا على غير لفظ الظاهر ؛ كأنك قلت : " لقيت زيدا أو جزت زيدا".
فإذا قلت : " زيدا ضربته" ، أضمرت فعلا من لفظه ، كأنك قلت : " ضربت
زيدا ضربته" ، فيكون الظاهر دالا على مثل لفظه ومعناه ، وفي الوجه الأول يكون
الظاهر دالا على مثل معناه دون لفظه ، وما اجتمع فيه اللفظ والمعنى كان أقوى في
الدلالة ، ومثل الوجه الأول : " زيد لقيت أخاه" ؛ لأنك لو نصبته لأضمرت
فعلا على خلاف لفظ الظاهر ، كأنك قلت : " لا بست زيدا لقيت أخاه" وكل ما
دل على المعنى واللفظ كان أقوى في النصب.
قال
: (وإن شئت قلت : " زيدا مررت به" ، تريد أن تفسّر به مضمرا ، كأنك قلت
إذا مثّلت ذلك" جعلت زيدا على طريقي مررت به").
و" جعلت
زيدا على طريقي" بمنزلة إضمار" جزت" ، ولكنه لا يظهر هذا الفعل
الأول ؛ لما ذكرت لك. يعني : الفعل المضمر لا يظهر مع التفسير.
قال
: (وإذا قلت : " زيد لقيت أخاه" ، فهو كذلك ، وإن شئت نصبت ؛ لأنه إذا وقع
على شيء من سببه فكأنه قد وقع به).
يعني : " زيدا
لقيت أخاه" لما نصبت الأخ جاز أن تضمر فعلا ينصبه لأن وقوع الفعل بسببه
كوقوعه بضميره.
قال
: (والدليل على ذلك أن الرجل يقول : " أهنت زيدا بإهانتك أخاه ، وأكرمته
بإكرامك أخاه ، وهذا النحو كثير في الكلام ، يقول الرجل : " إنما أعطيت
زيدا" وإنما يريد لمكان زيد أعطيت فلانا ، وإذا نصبت" زيدا لقيت
أخاه" ، فكأنه قال : لا بست زيدا لقيت أخاه ، وهذا تمثيل ولا يتكلم به ، فجرى
هذا على ما جرى عليه قولك : " أكرمت زيدا" ، وإنما وصلت الإكرام إلى
غيره).
يعني : أن
نصب" زيد" بوقوع الفعل على سببه بمنزلة" أكرمت زيدا" ، وإن
كان الإكرام وصل إلى غيره بسببه.
(والرفع
في هذا أحسن وأجود ؛ لأن أقرب إلى ذلك أن تقول : " مررت بزيد" ، و"
لقيت أخا عمرو").
يعني : أن
الرفع في" زيد" في" زيد مررت به" ، و" عمرو لقيت
أخاه" ، أجود ؛ لأنك لو أردت إعمال الفعل ، لأعملت هذا الظاهر في"
زيد" فقلت : " مررت بزيد" و" لقيت أخاه".
قال
سيبويه : (ومثل هذا في البناء على الفعل ، وبناء الفعل عليه" أيهم" وذلك
قولك : " أيهم تره يأتك" و" أيهم تر يأتك" والنصب على ما ذكرت
لك ؛ لأنه كأنه قال : أيهم تر تره يأتك ، فقولهم : " أيهم تره يأتك"
مثل" زيد" في هذا ، وقد يفارقه في أشياء كثيرة ، ستبين إن شاء الله
تعالى).
قال أبو سعيد :
يعني : أنك إذا قلت : " أيهم تر يأتك" ، نصبت" أيهم" ب"
تر" ، كما تقول : " زيدا ضربت" وإذا قلت : " أيهم تره
يأتك" ، فشغلت الفعل بضميره ، كان الاختيار الرفع ، كما كان في قولك : "
زيد ضربته" ويجوز فيه النصب بإضمار فعل ، كأنك قلت : " أيهم تر تره
يأتك" ، تقدر الفعل بعده ؛ لأن" أيا" في الاستفهام والمجازاة لا
تقع إلا صدرا. ف" أي" في باب النصب والرفع واختيار أحدهما على الآخر
بمنزلة" زيد".
وهو
يفارق" زيدا" في أشياء لأنها تكون استفهاما ، وتكون مجازاة ، وتكون
بمعنى الذي ، وليس في" زيد" شيء من ذلك.
هذا باب ما يجري مما يكون ظرفا هذا المجرى
وذلك
قولك : (" يوم الجمعة ألقاك فيه" ، وأقلّ يوم لا ألقاك فيه و" أقل
يوم لا أصوم فيه" ، و" خطيئة يوم لا أصيد فيه" ، و" مكانك قمت
فيه" ، وصارت هذه الأحرف ترتفع بالابتداء كارتفاع" عبد الله" ،
وصار ما بعدها مبنيا عليها كبناء الفعل على الاسم الأول).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الظروف على ضربين :
ضرب يكون اسما
وظرفا وهو الظرف المتمكن.
وضرب لا يكون
اسما وهو الظرف الذي لا يتمكن.
فأما الضرب
الذي يكون اسما وظرفا ، فهو ما يكون مرفوعا في حال ومجرورا في حال ومنصوبا في حال
على غير معنى الظرف ، وهذا هو تمكنه ، وكونه اسما ؛ لأنه يصير بمنزلة" زيد ،
وعمرو" ، وهو نحو" اليوم ، والليلة ، والشهر ، والمكان" وما أشبه
ذلك.
فأما الظرف
الذي لا يتمكن ، فهو ما يمتنع من الرفع ولا يكون فاعلا ، ولا مبتدأ ، كقولك :
" عندك ، وقبلك ، وبعدك" ، ألا ترى أنك لا تقول : " عندك
واسع" ، ولا" قبلك يوم الجمعة" ، كما تقول : " وكأنك
واسع" ، ولاستقصاء الفصل بين الظروف المتمكنة وغير المتمكنة موضع غير هذا.
فإذا كان الظرف
متمكنا ، وشغلت الفعل الناصب له بضميره عنه ، رفعته كما ترفع" زيدا" ،
إذا شغلت الناصب له عنه فقلت : " يوم الجمعة ألقاك فيه" كما تقول :
" زيد أضربه" ، " وعمرو أتكلم فيه".
واعلم أن
الظروف المتمكنة إذا نصبت كان لك في نصبها وجهان : أحدهما : أن تنصبها من طريق
الظرف ، فيكون مقدرا ل" في" وإن كانت محذوفة ، ألا ترى أنك لمّا حذفتها
وصل الفعل فنصب.
والوجه الثاني
: أن تقدر وصول الفعل إليها بلا تقدير" في". وهذا هو المفعول على سعة
الكلام.
فإذا شغلت
الفعل عنه وقد قدرته تقدير الظرف قلت : " يوم الجمعة قمت فيه" ، وإن كان
بتقدير المفعول على سعة الكلام ، أضمرت من غير" في" ، كقولك : " يوم
الجمعة ألقاكه" ، و" مكانكم قمته".
قال الشاعر :
ويوم شهدناه
سليما وعامرا
|
|
قليل سوى
الطّعن النّهال نوافله
|
أراد : شهدنا
فيه. وجعله مفعولا على سعة الكلام.
قال سيبويه :
بعد الفصل الأول : (فكأنك
قلت : " يوم الجمعة مبارك" و" مكانك حسن" وصار الفعل).
الذي
هو" ألقاك فيه" ، " وقمت فيه".
(في
موضع هذا) يعني صار الفعل في موضع الخبر كما أنك إذا قلت : " يوم الجمعة مبارك ،
ف" مبارك" خبر ؛ كما أنك إذا قلت : " زيد ضربته" بمنزلة"
زيد منطلق".
(وإنما
صار هذا هكذا ، حين صار في الآخر إضمار اليوم والمكان).
قال أبو سعيد :
يعني : حين اشتغل الفعل بضميرهما ، فلم يصل إليهما ، ورفع بالابتداء ، كما
رفع" زيد" إذا قلت : " زيد ضربته".
قال
: (فخرج من أن يكون ظرفا ، كما يخرج إذا قلت : " يوم الجمعة مبارك").
__________________
يعني : أن قولك
: " يوم الجمعة قمت فيه" ، بمنزلة" يوم الجمعة مبارك" لأن
الفعل لما اشتغل بضميره لم يصلح أن ينتصب بالفعل.
قال
: (فإذا قلت : " يوم الجمعة صمته" ، ف" صمته" في موضع"
مبارك" ، حيث كان المضمر هو الأول ، كما كان المبارك هو الأول).
يعني : أنك إذا
قلت : " يوم الجمعة صمته" ، فجعلت" اليوم" مفعولا على سعة
الكلام ، جعلت الضمير العائد إليه غير متصل ب" في" وقد مضى هذا.
قال
: (فيدخل النصب كما دخل في الاسم الأول).
يعني : أنك
تقول : " يوم الجمعة صمته" على تقدير : " صمت يوم الجمعة
صمته" فهو كما تقول : " زيدا ضربته" ، على تقدير : ضربت زيدا
ضربته. ويجوز" يوم الجمعة آتيك فيه" ، على تقدير : " آتيك يوم
الجمعة آتيك فيه" ، كما تقول : " زيدا تكلمت فيه" ، على تقدير :
" ذكرت زيدا تكلمت فيه".
قال
سيبويه : (كأنك قلت : " ألقاك يوم الجمعة" فنصبته لأنه ظرف ، ثم فسّرته
فقلت : " ألقاك فيه" ، وقدرته : " ألقاك فيه" ، وإن شئت نصبته
على الفعل نفسه ، كما أعمل فيه الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول واحد. وكل ذلك عربي
جيد).
يعني : أنك إذا
قلت : " يوم الجمعة ألقاك فيه" وقدرته : " ألقاك يوم الجمعة ألقاك
فيه" ، فالفعل المضمر الناصب ليوم الجمعة ، إن شئت أعملته فيه من طريق الظرف
، وإن شئت أعملته على طريق المفعول على السعة ، وقد ذكرنا هذين الوجهين ، لأنه
يكون ظرفا ، وغير ظرف.
قال
سيبويه : (ولا يحسن في الكلام أن تجعل الفعل مبنيا على الاسم ؛ ولا تذكر علامة
إضمار الأول ، حتى يخرج من لفظ الإعمال في الأول ، ومن حال بناء الاسم عليه ،
وتشغله بغير الأول حتى يمتنع من أن يكون يعمل فيه).
يعني : أنك إذا
جعلت الاسم مبتدأ ، وجعلت الفعل خبرا ، والوجه أن يظهر الضمير الذي يعود إلى الاسم
، حتى يخرج من لفظ ما يعمل في الأول.
يعني أنه قبيح
أن تقول : " زيد ضربت" ؛ لأن" ضربت" في لفظ ما يعمل في"
زيد" ؛ لحذفك الضمير في اللفظ ، ولا بد من تقديره حتى يصح أن يكون خبرا للاسم
الأول ، إذ قد جعلت الاسم مبتدأ ، ولا يصح أن يكون الفعل خبرا له ، حتى يكون فيه
ما يعود إليه.
قال
سيبويه : (ولكنه قد يجوز في الشعر ، وهو ضعيف في الكلام. قال أبو النجم العجلي.
قد أصبحت أمّ
الخيار تدّعي
|
|
عليّ ذنبا
كلّه لم أصنع)
|
فهذا ضعيف ،
وهو بمنزلته في غير الشعر ؛ لأن النصب لا يكسر الشعر ولا يخل به.
قال
: (فترك إضمار الهاء ، فكأنه قال : كله غير مصنوع).
قال أبو سعيد :
يعني أن إضمار الهاء إذا قلت : " زيد ضربت" هو قبيح ومع قبحه هو جائز في
الكلام. قال : والدليل على جوازه في الكلام ، أن الشاعر لو قال : " كله لم
أصنع" لاستقام البيت ولم ينكسر ، فلم تدعه الضرورة من جهة الشعر إلى رفعه
فعلم بذلك جوازه في غير الشعر.
وكان الفراء
يجيز" كلهم ضربت" ، ولا يجيز" زيد ضربت".
قال : لأن
معنى" كلهم ضربت" معنى الجحد ، كأنه قال : " ما منهم أحد إلا
ضربت". وليس هذا بحجة ؛ لأن كل موجب يتهيأ رده إلى الجحد ، فيمكن للقائل أن
يقول : " زيد ضربت" ، معناه : " ما زيد إلا قد ضربت ، وما زيد إلا
مضروب".
وقد أنشد
سيبويه مع القياس الذي ذكرناه أبياتا منها :
(قول امرئ
القيس :
فأقبلت زحفا
على الرّكبتين
|
|
فثوب لبست
وثوب أجرّ)
|
لم يقل أجره
ولم ينصب الثوب.
(وقال
النمر بن تولب : وسمعناه من العرب ينشدونه :
فيوم علينا
ويوم لنا
|
|
ويوم نساء
ويوم نسرّ)
|
أراد : يوم
نساء فيه ، أو نساؤه ، فأضمر الهاء ، ولم ينصب يوم فهو بمنزلة قولك :
__________________
" يوم الجمعة أقوم" على معنى أقوم فيه ، وضعف هذا كله مع جوازه ؛
لأن الشاعر لو نصب في ذلك كله لم ينكسر الشعر ، ولم يختل.
قال
سيبويه : (زعموا أن بعض العرب يقول : " شهر ثرى" و" شهر ترى"
و" شهر مرعى" يريدون : ترى فيه).
فرفع"
الشهر" ولم يعمل فيه" ترى" للضمير الذي قدره ، ومعنى هذا : شهر ثري
:
أي شهر تبتدئ
فيه الأرض من المطر وتثرى. والثرى : هو الندى ، وشهر ترى : أي ترى فيه النبات ،
وشهر مرعى : أي ترعى فيه المال وتأكله.
قال الشاعر :
ثلاث كلهنّ
قتلت عمدا
|
|
فأخزى الله
رابعة تعود
|
على معنى
قتلتهن.
قال
: (فهذا ضعيف ، والوجه الأكثر الأعرف : النصب ، وإنما شبهوه بقولهم : " الذي
رأيت فلان" ، حيث لم يذكروا الهاء. وهو في هذا أحسن ؛ لأن" رأيت"
تمام الاسم ، وبه يتم ، وليس بخبر ولا صفة ، فكرهوا طوله ، حيث كان بمنزلة اسم
واحد ، مكا كرهوا طول" اشهيباب" فقالوا : اشهباب).
قال أبو سعيد :
اعلم أن حذف الهاء يكون في ثلاثة مواضع : في الصلة ، والصفة ، والخبر.
فالصلة قولك :
" الذي رأيت زيد" ، في معنى : الذي رأيته. والصفة قولك : " مررت
برجل أكرمت" أي أكرمته.
والخبر قولك :
" زيد أكرمت" في معنى : أكرمته.
فأما حذفها في
الصلة فحسن ، وليس بدون إثباتها ، وفي كتاب الله تعالى حذفها وإثباتها ، قال الله
تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) ، وقال جل اسمه : (لا يَزالُ
بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أراد تعالى : الذي بنوه.
__________________
وإنما حسن
حذفها من الصلة ؛ لأن الذي والفعل والفاعل والمفعول جميعا كاسم واحد ، وكذا كل
موصول يكون هو والصلة كالشيء الواحد ، فاستطالوا أن يكون أربعة أشياء كشيء واحد ،
فحذفوا منها للتخفيف واحدا ، فلم يكن سبيل إلى حذف الموصول ؛ لأنه هو الاسم ، ولا
إلى حذف الفعل لأنه الصلة ، ولا إلى حذف الفاعل ؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل ،
فحذفوا المفعول لأنه كالفضلة في الكلام.
وحذف الهاء في
الصفة دون حذفها في الصلة ، وإثباتها أحسن من حذفها ، وذلك لأن الصفة تشبه الصلة
من وجه ، وتفارقها من وجه. فأما شبهها : فلأن الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد ،
كما أن الصلة والموصول كاسم واحد. وأما مفارقتها لها ، فلأن الموصوف يستغني عن
الصفة والموصول لا يستغني عن الصلة.
وأما الخبر فهو
الذي قدمنا ذكره أن حذف الهاء قبيح فيه ؛ لأن الخبر غير المخبر عنه ، وليس هو معه
كشيء واحد ، وإنما شبهوه بالذي في الحذف. ومعنى قول سيبويه : (كما كرهوا طول
اشهيباب ، فقالوا : اشهباب).
أراد أن الذي
وصلتها كالفاعل والمفعول ، لما طالت وهي اسم واحد خففوا منها بحذف المفعول ، كما
خففوا" اشهيبابا" ، فقالوا" اشهباب" ؛ لأن"
اشهيباب" سبعة أحرف ، وهي نهاية ما يكون الاسم عليه مع الزيادة سوى هاء
التأنيث ، فخففوا منها ، وهو مصدر" اشهاب".
قال
سيبويه : (وهو في الوصف أمثل منه في الخبر).
يعني حذف
الهاء.
قال
: (وهو على ذلك ضعيف ليس كحسنه في الهاء).
يعني : في
الصفة.
قال
: (لأنه في موضع ما هو من الاسم ، وما يجري عليه ، وليس بمنقطع منه خبرا مبنيا
عليه ولا مبتدأ ، فضارع ما يكون من تمام الاسم ، وإن لم يكن تماما له ولا منه في
البناء).
يعني : لما حسن
حذف الهاء بعض الحسن ، وإن كان الإثبات أحسن منه ؛ لأنه ضارع الصلة ، وصار كأنه من
الاسم ؛ لأن الصفة والموصوف كشيء واحد وليس هو خبرا له ، ولا هو مبتدأ.
(فضارع
ما يكون من تمام الاسم ، وهو الصلة وإن لم يكن تماما له ولا منه في البناء).
يعني : وإن لم
تكن الصفة تماما للاسم ، كما كانت الصلة قال جرير :
أبحت حمى
تهامة بعد نجد
|
|
وما شيء حميت
بمستباح
|
أراد : حميته ،
ولا يجوز أن ينصب" شيئا" ، ب" حميت" ؛ لأنه لو فعل ذلك لوجب
أن يقول : " وما شيئا حميت مستباحا" ، ويكون" مستباحا" نعتا
لشيء ، والنعت لا تكون فيه الباء زائدة ، وكان ينقلب معنى المدح ؛ لأنه كان يصير
التقدير : وما حميت شيئا مستباحا أي : حميت شيئا محميا ، وليس فيه مدح.
(وقال الحارث
بن كلدة :
وما أدري
أغيّرهم تناء
|
|
وطول العهد
أم مال أصابوا)
|
أراد"
أصابوه" ، والمال هو عطف على تناء ، وهو فاعل غيرهم.
قال
: (ولا سبيل إلى النصب وإن تركت الهاء ؛ لأنه وصف).
يعني ، لا تقول
: " شيئا حميت" ولا" ما لا أصابوا".
(كما
لم يكن النصب فيما أتممت به الاسم يعني الصلة).
يعني كما أنك
إذا قلت : " والذي رأيت" لم يصلح أن تعمل" رأيت" في"
الذي" لأنه صلة.
قال
: (فمن ثمّ كان أقوى مما يكون في موضع المبني على المبتدأ ؛ لأنه لا ينصب به).
يعني فمن ثم
كان حذف الهاء في الصفة أقوى منه في الخبر ؛ لأن الصفة لا يجوز أن تعمل في الموصوف
في هذه المواضع التي ذكر.
وأنت إذا قلت :
" زيد ضربت" جاز أن تقول : " زيدا ضربت" فتعمله في"
زيد" ، والمعنى على حاله غير متغير.
قال
: (وإنما منعهم أن ينصبوا بالفعل الاسم إذا كان صفة له أن الصفة تمام
__________________
الاسم
، ألا ترى أن قولك : " مررت بزيد الأحمر" كقولك : " مررت
بزيد" وذلك أنك" لو احتجت إلى أن تنعته فقلت : " مررت بزيد"
وأنت تريد" الأحمر" ، وهو لا يعرف حتى تقول : " الأحمر" لم
يكن تم الاسم ، فهو يجري منعوتا مجرى" مررت بزيد" إذا كان يعرف وحده ،
فصار" الأحمر" كأنه من صلته).
يريك أنك إذا
قلت : " مررت بزيد" فعرفه المخاطب اكتفيت به ، وإذا لم يعرفه من
بين" الزيدين" حتى يقول" الأحمر". صار" زيد الأحمر"
في معرفة المخاطب به بعينه" كزيد" إذا عرفه مفردا ، فالصفة والموصوف
كشيء واحد.
هذا باب ما يختار فيه إعمال الفعل
مما يكون في المبتدإ مبنيا عليه الفعل
وذلك قولك : " رأيت
زيدا وعمرا كلمته" ، و" رأيت عبد الله وزيدا مررت به" ، و" لقيت
زيدا وبكرا أخذت أباه" و" لقيت بكرا وخالدا اشتريت له ثوبا".
قال أبو سعيد :
اعلم أن العرب إذا ذكرت جملة كلام ، اختارت مطابقة الألفاظ ما لم تفسد عليها
المعاني ، فإذا جئت بجملة صدرتها بفعل ، ثم جئت بجملة أخرى ، فعطفتها على الجملة
الأولى ، وفيها فعل كان الاختيار أن تصدر الفعل في الجملة الثانية لتكون مطابقة
للجملة الأولى في اللفظ وتصدير الفعل. فإذا قلت : " رأيت عبد الله وزيدا مررت
به" ، قدرت فعلا ينصب" زيدا" ، كأنك قلت : " رأيت عبد الله ،
ولقيت زيدا مررت به" ، قدرت فعلا ينصب" زيدا" ؛ لتكون الجملة
الثانية مطابقة للجملة الأولى في تصدير الفعل وتقديمه ، وسواء ذكرت في الفعل الأول
منصوبا أو لم تذكره ، كقولك : " قام عبد الله وزيدا كلمته" ، على تقدير
: وكلمت زيدا كلمته ؛ لأن الغرض أن يجمع بين الجملتين في تقديم الفعل ، لا في لفظ
النصب أو غيره.
ولسيبويه في
هذا المعنى احتجاج يأتي من بعد.
ويجوز ألا تحمل
الجملة الثانية على الفعل ، ولكنك تجعله خبرا ومبتدأ ، فتقول : " رأيت عبد
الله ، وزيد مررت به".
ومن الدليل على
أن الاختيار ما وصفناه ، قول الله تعالى : (وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ
مَنازِلَ) بالرفع ، وقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) بالنصب ، وذلك أن قبل قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ،) قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) فالجملة التي قبل" القمر" صدّر فيها اسم لا
فعل ، والجملة التي قبل قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) ، قد صدر فيها الفعل ، فعطف كل واحدة من الجملتين على
ما يشاكلها من الجملة التي قبلها.
قال
سيبويه : (وإنما اختير النصب ها هنا ؛ لأن الاسم الأول مبني على الفعل ، فكان بناء
الآخر على الفعل أحسن عندهم ، إذ كان يبني على الفعل ، وليس قبله اسم مبني على
الفعل).
يعني : لما
كانوا يقولون : " زيدا ضربته" ، فينصبون" زيدا" بفعل مضمر ،
وليس قبله اسم قد عمل فيه الفعل ، كان نصبه إذا تقدمه اسم يعمل فيه الفعل أولى.
قال
: (ليجري الآخر على ما جرى عليه الذي قبله ، إذ كان لا ينقض المعنى لو لم تبنه على
الفعل).
يعني : لو قلت
: " رأيت عبد الله ، وزيد مررت به" ، لكان معناه كمعناه ، إذا قلت : "
وزيدا مررت به" ، فإذا استوى المعنيان ، وكان في أحد اللفظين مشاكلة ما قبله
كان أولى.
قال
: (وهذا أولى أن يحمل عليه ما قرب جواره منه ، إذ كانوا يقولون : " ضربوني
وضربت قومك").
يعني : أن
قولنا : " رأيت عبد الله ، وزيدا مررت به" ، أولى بعطف الثاني على الأول
في تقديم الفعل لطلب حمل الشيء على مجاوره ، وإيثار تطابق اللفظين من قول
العرب" ضربوني وضربت قومك" ؛ لأن قولك : " ضربوني" فيه إضمار
قبل الذكر ، وأعملوا الفعل الثاني في" قومك" ؛ لأنه يليه ويقرب منه ؛
فإذا كان قد حملهم حمل الشيء على مجاوره على أن احتملوا الإضمار قبل الذكر ، كان
حمل الجملة الثانية على الفعل لمطابقة الجملة الأولى أولى.
__________________
قال
: (فكان أن ليكون الكلام على وجه واحد ، إذا كان لا يمتنع الآخر من أن يكون مبنيا
على ما بني عليه الأول أولى ، وأقرب في المأخذ).
يعني : أن حمل
الثاني على الأول أجود ، حتى يكون الكلام على نظم واحد في حمل الجملتين على الفعل.
ومثل ذلك قوله
تعالى : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ
فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).
وتقديره :
ويعذب الظالمين ؛ لأن الجملة التي قبلها مصدرة بفعل وهو" يدخل".
وقوله جل اسمه
: (وَعاداً وَثَمُودَ
وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ
الْأَمْثالَ).
لأن قبله (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) وتقديره : وذكرنا كلا ضربنا له الأمثال.
وقوله : (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ
الضَّلالَةُ).
لأن قبله (فَرِيقاً هَدى) وهذا في القرآن كثير ، قال ومثل ذلك : " كنت
أخاك" ، و" زيدا كنت له أخا" ؛ لأن" كنت أخاك" ، وزيدا
كنت له أخا بمنزلة" ضربت أخاك ، وتقول : " لست أخاك" ، "
وزيدا أعنتك عليه" ، لأنها فعل ، وتصرف في معناها تصرف كان.
إذا قلت :
" كنت أخاك" ، فجملة الكلام مصدرة بفعل وهو" كنت" ، فلذلك
اختير أن ينصب الاسم في الجملة الثانية بإضمار فعل ، كأنك قلت : " كنت
أخاك" ، و" لابست زيدا كنت له أخا" ، و" لست أخاك" بهذه
المنزلة ، من قبل أن ليس هو فعل ، وإن لم يكن له تصرف غيره من الأفعال في المستقبل
واسم الفاعل. والدليل أنه فعل أيضا اتصال الضمائر التي لا تتصل إلا بالأفعال
نحو" لست ، ولسنا" ، فإذا قلت : " لست أخاك" و" زيدا
أعنتك عليه" ، فكأنك قلت : " لست أخاك" ، و" أخاصم زيدا أعنتك
عليه" وما أشبه ذلك من الأفعال.
قال الربيع بن
ضبع الفزاري :
__________________
أصبحت لا
أحمل السلاح ولا
|
|
أملك رأس
البعير إن نفرا
|
والذّئب
أخشاه إن مررت به
|
|
وحدي وأخشى
الرّياح والمطرا
|
فنصب الذئب على
تقدير : وأخشى الذئب أخشى ، واختار ذلك لأن قبله" أصبحت" وهو فعل ،
و" أصبحت" من أخوات" كنت" و" لست".
قال
: (وقد يبتدأ فيحمل على ما يحمل عليه ، وليس قبله منصوب ، وهو عربي جيد).
أن الجملة
الثانية قد يجوز أن ترفع الاسم فيها ، وإن كانت الجملة الأولى مبنية على فعل ،
فتكون الجملة الثانية كجملة مبتدأة ليس قبلها فعل ، وذلك قولك : لقيت زيدا وعمرو
لقيته كأنك لم تحفل بتقدم قولك : " لقيت زيدا" إذ كانت جملة قائمة
بنفسها ، وكأنك قلت : " عمرو لقيته" في الابتداء ، ثم عطفت جملة على
جملة ، فتجعله كقولك : " لقيت زيدا وعمرو أفضل منه". وهذا لا يجوز فيه
إلا الرفع ؛ لأن" أفضل" ليس بفعل يضمر مثله في نصب" عمرو".
قال
سيبويه : (فإذا جاز أن يكون في المبتدأ بهذه المنزلة ، جاز أن يكون بين الكلامين).
يعني أنه لما
جاز" عمرو لقيته" في الابتداء ، وجاز أن تقول : " لقيت زيدا وعمرو
لقيته" ، فيكون رفعه بعد تقدم الجملة الأولى كرفعه في الابتداء ، وإن كان
الاختيار ما ذكرنا لما وصفنا.
قال
: (وأقرب منه إلى الرفع" عبد الله لقيت وعمرو لقيت أخاه ، وخالدا رأيت ، وزيد
كلمت أباه" هو ها هنا إلى الرفع أقرب كما كان في الابتداء من النصب أبعد).
قال أبو سعيد :
قد قدمناه أن الفعل إذا كان واقعا على ضمير الاسم من غير حرف جر ، فإن إضمار الفعل
الناصب للأول أقوى ، وأوجب من أن يكون الفعل واقعا على ضميره بحرف جر ، أو واقعا
على سبب له ، فإن كان الأمر على ما وصفنا ، فإن قولك : " لقيت زيدا وعمرا
كلمته" ، أقوى في النصب من أن تقول : " لقيت زيدا وعمرا كلمت أخاه"
؛ لأن قولك : " وعمرا كلمته" قد وقع الفعل على ضميره ، وإذا قلت :
" وعمرا كلمت
__________________
أخاه" فقد وقع الفعل على سببه. وكذلك إذا قلت : " لقيت زيدا
وعمرا مررت به" ، فنصبه أضعف من نصب و" عمرا كلمته" ؛ لأن الفعل
وقع على ضميره بلا حرف. ومتى ما كان النصب أضعف كان الرفع أقوى فوجب من هذا أن
يكون" عبد الله لقيت وعمرو ولقيت أخاه" ، الرفع أقوى في"
عمرو" من قولك : " وعمرو لقيته" إذ كان النصب في" وعمرو لقيت
أخاه" أضعف.
فأما قول الله
تعالى : (يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ).
فإنما اختير
الرفع في الثاني ، وإن كان قبله جملة مبنية على فعل ، من قبل أن هذه الواو ليست
بواو عطف ، فيكون حكمها ما ذكرنا ، وإنما هي واو الابتداء تقع للحال كقولك :
" لقيت زيدا وأبوه قائم" و" رأيت أباك وعمرو منطلق" ، وإنما
أردت : " لقيت زيدا" في حال : أبوه فيها قائم ، وكذلك قوله تعالى : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ
قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ، كأنه قال : يغشى طائفة منكم في حال طائفة قد أهمتهم
أنفسهم ، أو يغشى طائفة منكم إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم. وهذه الواو تسمى واو
الابتداء ، وقد يجوز النصب على أن تجعلها واو عطف بإضمار : وتهم طائفة أنفسهم قد
أهمتهم أنفسهم ، ويجوز أن تجعلها واو عطف ، وترفع على ما ذكرنا ما قولك : " لقيت
زيدا وعمرو كلمته". إلا أنا جعلناها واو الابتداء ؛ لأن القراءة بالرفع
فحملناه على أجود الوجوه في المرفوع.
قال
: (ومما يختار فيه النصب قوله : " ما لقيت زيدا ولكن عمرا مررت به"
و" ما لقيت زيدا بل خالدا لقيت أخاه").
جعل ما
بعد" بل" و" لكن" بمنزلة ما بعد الواو فيما مضى ؛ لأن"
بل" و" لكن" من حروف العطف ، كما أن الواو من حروف العطف ، فما
بعدهما كما بعد الواو إذا تقدمت جملة مبنية على فعل وإن كان قبلها حرف نفي ، فيكون
بمنزلة قولك : " لقيت زيدا وعمرا لم ألقه" ؛ لأن الفعل الذي بعد"
لم" وإن كان منفيا في العمل بمنزلة الموجب ، فتنصب" عمرا" كما
تنصبه إذا قلت : " وعمرا لقيته" ، ويكون الإضمار : ولم ألق عمرا لم
__________________
ألقه ، حتى يكون المضمر مشاكلا للمظهر.
قال
سيبويه : (يكون الآخر في أنه يدخله في الفعل بمنزلة هذا ، حيث لم يدخله لأن"
بل" ، و" لكن" لا يعملان شيئا ، ويشركان الآخر مع الأول ؛
لأنهما" كالواو" ، و" ثم" و" الفاء" ، فأجروهما
مجراهن فيما كان النصب فيه الوجه ، وفيما جاز فيه الرفع إن شاء الله).
يعني : أن قولك
: " ما لقيت زيدا ولكن عمرا مررت به" ، الأول فعل منفي ب" ما"
، والثاني موجب ب" لكن" ، ويختار فيه حمل الثاني على الأول في باب النصب
وإضمار الفعل ، وإن اختلفا في الإيجاب والنفي ، كما أن قولك : " لقيت زيدا
وعمرا لم ألقه" قد أوجبت فيه الفعل الأول ونفيت الثاني ، وعمل الفعل على حاله
غير مختلف ، و" لكن" في إدخال الاسم في الفعل المنفي عن الأول
بمنزلة" الواو" في قولك : " وعمرا لم ألقه" في نفس الفعل الذي
أوجبته للأول عن الثاني ؛ لأن حروف العطف تعمل عملا واحدا ، وإن كانت معانيها
مختلفة ، فكل ما كان النصب فيه الوجه مع" الواو" كان كذلك مع"
لكن".
ويجوز الرفع
في" لكن" ، و" بل" ، كما جاز في الواو ، وذلك قولك : " ما
رأيت زيدا لكن عمرو مررت به" فهذا معنى قوله : (وفيما جاز فيه الرفع) فاعرفه
إن شاء الله.
هذا باب ما يحمل فيه الاسم
على اسم بني عليه الفعل مرة
ويحمل مرة أخرى على اسم مبني على الفعل
(أي
ذلك فعلت جاز.
فإن
حملته على الاسم الذي بني عليه الفعل كان بمنزلته إذا بنيت عليه الفعل مبتدأ ، يجوز
فيه ما يجوز فيه إذا قلت : " زيد لقيته" ، وإن حملته على الذي بني على
الفعل ، اختير فيه النصب ، كما اختير فيما قبله وجاز فيه ما جاز في الذي قبله ،
وذلك قولك : " عمرو لقيته وزيد كلمته" ، إن حملت الكلام على الأول ، وإن
حملته على الآخر قلت : " عمرو لقيته وزيدا كلمته").
قال أبو سعيد :
اعلم أن الكلام إذا كان مبتدأ وخبرا ، ثم عطفت عليه جملة في أولها اسم ، وبعده فعل
مشتغل بضميره ، كان الاختيار رفع الاسم الثاني بالابتداء كحاله لو لم
تكن قبله جملة ، كقولك : " زيد أفضل منك وعمرو كلمته" ، و"
زيد أخوك وأبوك قمت إليه" ؛ لأنه لم يتقدم الجملة الثانية شيء يوجب إضمار
الفعل الناصب للاسم الذي في أوله ، فصار بمنزلة مبتدأ. وقد قدمنا أن الجملة الأولى
، إذا كانت مصدرة بفعل مضمر كان الاختيار في الاسم الذي في الجملة الثانية النصب ،
على إضمار فعل يفسره الفعل الذي بعده فهذان أصلان لما يشتمل عليه هذا الباب.
وذلك أنك إذا
قلت : " زيد لقيته وعمرو كلمته" ففيه جملتان إحداهما مبنية على اسم ولا
موضع لها والأخرى مبنية على فعل ولها موضع ، فالجملة التي هي مبنية على اسم ، قولك
: " زيد لقيته كما هو" لأن" زيدا" مبتدأ ، ولقيته خبره ،
والجملة التي هي مبنية على فعل قولك : " لقيته" لأنه فعل وفاعل ، وهذه
الجملة التي هي فعل وفاعل خبر" زيد".
ومعنى قولنا :
جملة لها موضع هو : أنّا متى نحينا الجملة جاز أن يقع موقعها اسم واحد ، فيلحقه
الإعراب. والجملة التي ليس لها موضع : هي التي إذا نحيناها لم يقع موقعها اسم ،
فأما الجملة التي لها موضع فقولك : " مررت برجل أبوه قائم" ، و"
رأيت رجلا قام عمرو إليه" لأنك لو نحّيت" أبوه قائم" أو" قام
عمرو إليه" لقلت : " مررت برجل قائم" و" رأيت رجلا
قائما" فيقع موقع الجملة اسم واحد ، وقولك : " مررت برجل أبوه
قائم" هو جملة ليس لها موضع من الإعراب ؛ لأنك لو نحيتها كما هي لم يقع
موقعها اسم.
فإذ قد وطّأنا
أمر الجمل نرجع إلى قولك : " زيد لقيته وعمرو كلمته".
قال
سيبويه : (أنت في" عمرو" بالخيار ، إن شئت نصبته ، وإن شئت رفعته).
وذلك أنه قد
تقدمته جملتان : إحداهما مبنية على اسم ، وهي قولك : " زيد لقيته كما
هو" ، والأخرى قولك : " لقيته" ، فإن عطفته على الجملة التي
هي" زيد لقيته كما هو" ، رفعت عمرا ؛ لأن صدر الجملة اسم ، وإن عطفته
على الجملة التي هي" لقيته" ، نصبت ؛ لأن صدر الجملة فعل فيصير بمنزلة
قولك : " لقيت زيدا وعمرا كلمته".
وقد أنكر الزيادي
وغيره من النحويين هذا على سيبويه ، فقالوا : إذا قلنا : " زيد لقيته وعمرو
كلمته" لم يجز حمل" عمرو" على" لقيته" ، وذلك أن
لقيته" جملة لها موقع ، ألا ترى أنك تقول : " زيد ملقى" ، و"
زيد قائم" ، فيقع موقعها اسم واحد ، وهي خبر" لزيد" ، وكل شيء عطفت
عليها وقع موقعها ، وصار خبرا" لزيد" ، كما هي خبر له ، و" عمرو
كلمته" لا يجوز أن يكون خبرا" لزيد" ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيد
عمرو كلمته" ، فالهاء
تعود على عمرو ولا شيء يعود إلى زيد من الجملة.
فإن جعلت
في" عمرو كلمته" ما يعود إلى" زيد" جاز حينئذ ما قال سيبويه
من الوجهين جميعا : وذلك قولك : " زيد لقيته وعمرو كلمته عنده" ، فتجعل
الهاء في" عنده" عائدة إلى" زيد" ، أو في" كلمته" ،
وتجعل الأخرى عائدة إلى عمرو ؛ لأنك في هذا الوجه إذا عطفت" عمرو كلمته
عنده" على" لقيته" الذي هو خبر" زيد" جاز ، وصار خبرا له
أيضا ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيد عمرو كلمته عنده" ، فتصير الجملة خبرا
ل" زيد" ، وأظن سيبويه إنما أراد ذلك ، إذ جعل في الجملة الثانية ضميرا
يعود إلى" زيد" واشتغل بأن أرانا جواز رد الجملة الثانية إلى المبتدإ
مرة وإلى المفعول مرة ولم يشتغل بتصحيح لفظ المسألة.
وقال
سيبويه : (ومثل ذلك" زيد لقيت أباه وعمرا مررت به" ، إن حملته على"
الأب" ، وإن حملته على الأول رفعته).
والكلام في هذا
كالكلام في الأول.
قال
: (والدليل على أن الرفع والنصب جائز كلاهما ، أنك تقول : " زيد لقيت أباه
وعمرا" ، إن أردت أنك" لقيت عمرا والأب" ، وإن زعمت أنك" لقيت
أبا عمرو" ولم تلقه رفعته ومثل ذلك" زيد لقيته وعمرو" ، إن شئت
رفعت ، وإن شئت قلت : " زيد لقيته وعمرا").
فاستشهد على
جواز حمل الاسم الذي في الجملة الثانية على المنصوب في الجملة الأولى بقولك :
" زيد لقيت أباه وعمرا" قال : فلما جاز عطف" عمرو" على"
الأب" مرة ، وعلى" زيد" مرة ، جاز ذلك في قولك : " وعمرا
كلمته".
فقال له
الزيادي : هذا غير مشبه لذلك ؛ لأن قولنا : " وعمرا" ليس بجملة وإنما هو
اسم واحد وقع عليه الفعل الذي وقع على" الأب" بعينه ، فقد صار"
عمرو" مع" الأب" مفعولي" لقيت" ، و" لقيت"
خبرا" لزيد" ، وفي مفعوليه ما يعود إليه ، وهو الهاء في"
الأب" ، و" عمرو كلمته" جملة قائمة بنفسها ليست بداخلة في الفعل
الأول ولا الفعل الأول واقع عليها.
قال
سيبويه : (ومثل ذلك" زيد لقيته وعمرو" ، إن شئت رفعت ، وإن شئت قلت :
"
زيد لقيته وعمرا" تقول أيضا : و" زيد ألقاه وعمرو وعمرا").
قال
: (فهذا يقوى أنك بالخيار في الوجهين)
وقد بينا
الكلام في ذلك.
قال
: (وإذا قلت : " مررت بزيد وعمرا مررت به" نصبت ، وكان الوجه ؛ لأنك
بدأت بالفعل ولم تبتدئ اسما بنيته عليه ، ولكنك قلت : " فعلت" ثم بنيت
عليه المفعول ، وإن كان الفعل لا يصل إلا بحرف الإضافة ، فكأنك قلت : " مررت
زيدا").
يعني : أن قولك
: " مررت بزيد" بمنزلة قولك : " ضربت زيدا" ؛ لأن"
مررت" فعل ، كما أن" ضربت" فعل ، وإن كان" مررت" لا
يتعدى إلا بحرف ، فإذا كان كذلك فينبغي أن تختار في الجملة الثانية نصب الاسم ،
كما اختير من" ضربت زيدا" نصب الاسم في الجملة الثانية.
قال
: (ولو لا أنه كذلك ، ما كان وجه الكلام : زيدا مررت به ولا لقيت زيدا وعمرا مررت
به وقمت وعمرا مررت به).
يعني أنك إذا
قلت : زيدا مررت به أضمرت فعلا ينصب" زيدا" ، وإن كان" مررت"
قد تعدى إلى ضميره بحرف ، كما ينصب الاسم إذا تعدى الفعل إلى ضميره بغير حرف ،
كقولك : " أزيدا ضربته".
قال
: (ونحو ذلك" خشنت بصدره" ، " فالصدر" في موضع نصب وقد عملت
الباء.
يريد :
أن" خشنت بصدره" ، كقولك" خشّنت صدره" ، فإن دخول الباء لم
يغير حكم الفعل ؛ ليريك أن" مررت بزيد" ، كقولك : " ضربت
زيدا" ، وكقولك : " مررت زيدا" لو كان يتكلم به.
قال
: (كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ،
وإنما هو : كفى الله ، ولكنك لما أدخلت الباء عملت ، والموضع موضع نصب ، والمعنى
معنى النصب ، وهذا قول الخليل).
يعني : أن قوله
: " كفى بالله" لو نزعت الباء ، لقلت : " كفى الله" والباء
زائدة ، وقد جرت الاسم الذي بعدها ، وإن كان موضعه رفعا بالفعل الذي قبله ، فكذلك
موضع زيد نصب ، إذا قلت : " مررت بزيد".
__________________
وقوله
: (ولكنك لما أدخلت الباء عملت والموضع موضع نصب).
يعني : " مررت
بزيد" لا" في كفى بالله".
قال
: (وإذا قلت : " عبد الله مررت به" أجريت الاسم بعده مجراه بعد"
زيد لقيته").
يعني : أنك إذا
قلت : " عبد الله مررت به وعمرا كلمته" ، جاز في" عمرو"
الوجهان ، كما جاز بعد قولك : " زيد لقيته". وقد مضى الكلام في هذا
المعنى.
وتقول
: (" هذا ضارب عبد الله وزيدا يمر به" ، إذا حملته على المنصوب ، فإن
حملته على المبتدأ ، وهو" هذا" رفعت).
يعني : أن قولك
: " هذا ضارب عبد الله" بمنزلة قولك : " هذا يضرب عبد الله" ،
" فهذا" مبتدأ ، " وضارب" خبره ، كما يكون" يضرب"
خبره. فإذا جئت بالجملة الثانية ، فأنت بالخيار في الاسم الذي في أولها ، إن شئت
حملته على المبتدأ ، وإن شئت حملت على الفعل الذي في الخبر ، كما قدمنا في قولك :
" زيد لقيته وعبد الله مررت به" ، وذلك أن اسم الفعل يعمل عمل الفعل ،
ألا ترى أنك تقول : " مررت برجل ضارب زيدا" كما تقول : " مررت برجل
يضرب زيدا".
قال
: (فإذا ألغيت النون ، وأنت تريد معناها فهي بتلك المنزلة ، وذلك قولك : " هذا
ضارب زيد غدا وعمرا سيضربه").
يعني : أن اسم
الفاعل الذي يعمل عمل الفعل ، إذا لم تعمله في الجملة الأولى ، وأضفته إلى المفعول
، فإنك إذا جئت بالجملة الثانية عاملتها معاملة ما قد أعملت فيه الفعل في الجملة
الأولى ، فقلت : " هذا ضارب زيد وعمرا سيضربه" على ما قدمناه ، وذلك ؛
لأن قولك : " ضارب زيد" ، بمنزلة : " ضارب زيدا" ، "
وضارب زيدا" بمنزلة" يضرب زيدا" ، فكأنا قلنا : " هذا يضرب
زيدا وعمرا سيضربه".
قال
: (ولو لا أنه كذلك ، لما قلت : " أزيدا أنت ضاربه" ، و" وما زيدا
أنا ضاربه").
يعني : لو لا
أن اسم الفاعل ، وإن كان مضافا يجري مجرى ما قد عمل ولم يضف لما قلت : " أزيدا
أنا ضاربه" ، وذلك أنك نصبت" زيدا" بإضمار فعل ، ولا يجوز أن تنصبه
بإضمار فعل إلا والذي قد ظهر من تفسير المضمر يجري مجرى الفعل ، فكأنك قلت : "
أتضرب زيدا أنت تضربه" ؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : " أنت
غلامه" ؛ لأن" غلامه"
لا يجري مجرى الفعل.
قال
سيبويه : (فهذا نحو" مررت بزيد" ؛ لأن معناه منونا وغير منون سواء ، كما
أنك إذا قلت : " مررت بزيد" فكأنك قلت : " مررت زيدا").
يعني : أن الجر
في قولك : " هذا ضارب زيدا" ، لم يخرج" زيدا" بالإضافة من أن
يكون في معنى مفعول ، وأن يكون ما قبله في معنى فعل قد وصل إليه ، كما أنك إذا قلت
: " مررت بزيد" ، فجر" زيد" لم يخرجه من أن يكون في معنى
مفعول ، وأن يكون المرور وصل إليه بالباء.
وقوله
: (لأن معناه منونا وغير منون سواء).
يريد : أن قولك
: " هذا ضارب زيدا" ، بمنزلة قولك : " هذا ضارب زيد" ، كما أن
قولك : " مررت بزيد" ، بمنزلة قولك : " مررت زيدا" ، وإن كان
لا يستعمل إيصال المرور إلا بالباء ، وفي الأفعال ما يستعمل بالباء وغير الباء
كقولك : " تعلّقت زيدا" ، و" تعلّقت بزيد".
قال
: (وتقول : " ضربت زيدا وعمرا أنا ضاربه") بمنزلة قولك : " ضربت
زيدا وعمرا ضربته" ، وقد قلنا إن قوله : " أنا ضاربه" ،
بمنزلة" ضربته" ، فلذلك اختير فيه النصب.
وقوله
: (" تختار هذا" ، كما يختار في الاستفهام).
يعني : أن قولك
: " ضربت زيدا وعمرا أنا ضاربه" ، بمنزلة قولك : " ضربت زيدا وعمرا
ضربته" وقد مضى الكلام في اختيار النصب في" ضربت زيدا وعمرا ضربته"
وقد قلنا : إن" ضاربه" بمنزلة" ضربته" ، فلذلك اختير فيه
النصب.
وقوله
: (كما يختار في الاستفهام).
يعني : في قولك
: " أزيدا ضربته" ، الاختيار فيه النصب ، وله باب يأتي يستقصى فيه الحجة
ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال
: (ومما يختار فيه النصب قول الرجل : " من رأيت" ، و" أيهم
رأيت" فتقول : " زيدا رأيته" ، تنزله منزلة قولك : " كلمت
زيدا وعمرا لقيته").
قال أبو سعيد :
اعلم أن المستفهم الاختيار له في كلامه أن يورد الجواب على منهاج الاستفهام ، فإذا
قال المستفهم : " من رأيت" ، و" أيهم رأيت؟ " قال : " زيدا"
؛ لأن
" أيا" و" من" ونحوهما منصوبتان بوقوع الفعل عليهما ،
فتجعل" زيدا" منصوبا بمثل ذلك الفعل الذي وقع على الاستفهام ، فكأنه قال
: " زيدا رأيت" ، وإذا قال : " أيهم رأيته" ، فالاختيار في
الجواب أن تقول : " زيدا" ؛ لأن المستفهم قد جعل حرف الاستفهام مبتدأ ،
وجعل الفعل واقعا على ضميره ، وفي موضع خبره فيختار أن يكون الجواب كذلك ، فإذا
قال : " زيد" في الجواب ، فكأنه قال : " زيدا رأيته" فقد جرى
الجواب مجرى العطف من أنه تابع للاستفهام. فإذا قلت : " من رأيت؟ " قلت
: " زيدا رأيته" ، ذلك أن قوله : " من رأيت؟ " ، الاسم فيه
منصوب ، والفعل معمل في الاسم ، فيختار أن يكون الجواب على ذلك المنهاج ، فنصب
الاسم بإضمار فعل ، ويكون الفعل الواقع على ضميره تفسيرا له ، فكأنه قال : " رأيت
زيدا رأيته" ، كما كان ذلك في قولك : " رأيت زيدا وعمرا رأيته".
قال
: (ومثل ذلك قولك : " أرأيت زيدا" فتقول : " لا! ولكن عمرا مررت
به").
يعني :
أن" لكن" في الجواب بمنزلتها في العطف ، كأن قولك : " ولكن عمرا
مررت به" بمنزلة قولك" ألا ترى أنك تقول" : " ما رأيت زيدا
ولكن عمرا مررت به" فلما كان قوله : " رأيت زيدا" مصدّرا بفعل ،
والجواب بمنزلة العطف ، والاستفهام متى نصبناه بالفعل الذي بعده فهو بمنزلة ما قد
صدر بفعل ، وإن لم يصلح تقديم الفعل بسبب الاستفهام.
قال
: (فإن قال : " من رأيته؟ " و" أيهم رأيته" فأجبته قلت :
" زيد رأيته" إلا في قول من قال : " زيدا رأيته" في الابتداء
لأن هذا كقولك : " أيهم منطلق" ، و" من رسول؟ " فيقول : فلان).
يعني : أنك إذا
رفعت في الاستفهام ، فالجواب مثله على ما قدمنا وهذا هو الاختيار ، فإن قال :
" زيدا رأيته" وقد قيل له : " أيهم رأيته" ، فهو جائز وليس
بالاختيار ؛ ألا ترى أن قولك : " زيدا رأيته" في الابتداء.
هو جائز وليس
بالاختيار.
قال الأخفش :
ويجوز إذا قلت : " أيهم ضربته" أن تقول : زيدا ضربته ؛ لأن الهاء منصوبة
، وهي في المعنى مستفهم عنها.
أما جواز النصب
فإن سيبويه لم يأبه ، ولكن معنى كلام الأخفش أن الرفع والنصب جميعا يجوزان ،
فالرفع على اللفظ والنصب على المعنى ، وليس الأمر إلا ما قاله سيبويه ،
وذلك أن المعنيين إذا تساويا في اللفظ والمعنى ، كان إتباع اللفظ اللفظ
أولى بالاختيار ، ألا ترى أن قولنا : " مررت بزيد وعمرو" ، أولى من
قولنا : " مررت بزيد وعمرا" ، وقد قدمنا ذكر الحجج في المطابقة بين
الألفاظ.
ومما يدل على
صحة قول سيبويه إجماعهم أنك إذا قلت : " قد علمت أزيد في الدار أم لا" ،
أن" زيدا" مرفوع ؛ لأن حرف الاستفهام منع الفعل من الوصول إليه ، فإذا
قلت : " قد علمت زيدا في الدار هو أم لا" ، فإن الاختيار نصب"
زيد" لزوال حرف الاستفهام عنه ، ويجوز رفعه ؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه ،
فهو بمنزلة ما معه حرف الاستفهام ، فلم يجعلوا لفظ الاستفهام كمعناه في اختيار
الرفع ، ومنع الفعل من الوصول إليه.
قال
: (وهذا كقولك : " أيهم منطلق؟ " ومن رسول؟)
يعني قولك :
" أيهم رأيته : كقولك : " أيهم منطلق" في باب المبتدأ والخبر ؛
فإذا قيل لك : " أيهم منطلق" كان الجواب" زيد" بالرفع لا غير
، وكذلك إذا قيل : " أيهم منطلق" في باب الابتداء والخبر ، فإذا قيل لك
: " أيهم منطلق" كان كالجواب رفع لا غير ، وكذلك إذا قيل : " أيهم
رأيته" فالاختيار في الجواب أن تقول : " زيد" ، وإن كان يجوز في
هذا النصب على ما ذكرنا.
قال
: (وإن قال : " أعبد الله مررت به أم زيدا" ، قلت : " زيدا مررت
به" ، كما فعلت ذلك في الأول).
يعني تنصب في
الجواب كما نصب هو في المسألة.
وكذلك إذا قلت
: " لا بل زيدا" نصبت" زيدا" ، نصبت أيضا في الجواب ، وإن جئت
بحرف عطف كما أنه إذا قال : " من رأيت؟ " ، قلت : " زيدا" ؛
لأن" من" في موضع نصب" فإنما يحمل الاسم في الجواب على إعرابه في
المسألة.
قال
: (ولو قلت : " مررت بعبد الله وزيدا" كان عربيا فكيف هذا؟ ، لأنه فعل ،
والمجرور في موضع مفعول منصوب).
يعني : أنك إذا
قلت : " مررت بعبد الله وزيدا" ، جاز على تأويل : " لقيت عبد الله
وزيدا ، و" جزت عبد الله وزيدا" ، فإذا كان هذا جائزا عربيا في العطف ،
كان في الاسم المستفهم عنه أولى ، وذلك قولك : " أعبد الله مررت به".
وإنما صار فيه
أولى وأجود ؛ لأن عبد الله لا يمكن جره بالباء الظاهرة ، لاشتغالها
بالضمير ولا بباء مضمرة ؛ لأن الجار لا يضمر ، وقولك : " مررت بعبد
الله وزيد" يمكن جر" زيد" بالعطف على" عبد الله" ، فلما
جاز نصبه ، كان نصب المستفهم عنه أولى لما ذكرنا.
والباء الجارة
ليست تمنع المجرور من أن يكون في معنى مفعول على ما تقدم من ذكرنا له ، فلذلك جاز
أن يحمل المعطوف عليه على الفعل ، وإن كان الفعل الظاهر يصل بحرف جر.
(قال جرير :
جئني بمثل
بني زيد لقومهم
|
|
أو مثل أسرة
منظور بن سيّار
|
ومثله قول
العجاج :
يذهبن في نجد وغورا غائرا)
فنصب"
وغورا" ؛ لأن معنى : يذهب فيه يسلكن فيه.
فكأنه قال :
ويسلكن غورا غائرا.
ومعنى : جئني
بكذا ، أي : أعطنيه. فكأنه قال : أعطني مثل بني بدر أو مثل أسرة منظور.
قال
: (ولا يجوز أن تضمر فعلا لا يصل إلا بحرف جر ؛ لأن حرف الجر لا يضمر ، وسترى بيان
ذلك إن شاء الله تعالى ، ولو جاز ذلك لقلت : " زيد" تريد : " مرّ
بزيد").
يعني : أنه لا
يجوز أن تقول : " زيد مررت به" على معنى : " مررت بزيد مررت
به".
(ومثل
هذا (وَحُورٌ عِينٌ) في
قراءة أبي بن كعب).
على
إضمار" ويعطون حورا عينا" ؛ لأن قوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) دليل على أنهم قد أعطوا ذلك ، فنصب أبي (وَحُورٌ عِينٌ) على معنى و" يعطون" ، ومن رفع أراد : و"
لهم حور عين" وقد دل الكلام عليه أيضا ؛ لأن ما طيف به عليهم من الأكواب ،
والأباريق هو لهم.
__________________
قال
: (فإن قلت : " قد لقيت زيدا وأما عمرو فقد مررت به" ، و" لقيت
زيدا فإذا عبد الله يضربه عمرو" فالرفع ، إلا في قول من قال : " زيدا
رأيته وزيدا مررت به" ، لأن" أما" و" إذا" يقطع بهما
الكلام ، وهما من حروف الابتداء ، يصرفان الكلام إلى الابتداء ، إلا أن يدخل
عليهما ما ينصب ، ولا يحمل بواحد منهما آخر على أول ، كما يحمل ب" ثم"
و" الفاء").
يعني :
أن" أما" ليست من حروف العطف ، وهي تقطع ما بعدها مما قبلها فإذا كان ما
قبلها جملة مصدرة بفعل ، لم يختر في الاسم الذي بعدها النصب بإضمار فعل ، كما
اختير ذلك في حروف العطف ؛ لأنك تقول في حروف العطف : " لقيت زيدا وعمرا مررت
به" ، وهو الاختيار ، وتقول في" أما" : " لقيت زيدا وأما عمرو
فقد مررت به" ، فيكون ما بعد" أما" بمنزلة جملة ليس قبلها شيء ،
ومن قال في الابتداء : " أزيدا ضربته" وقال : " زيدا مررت به"
، وليس بالاختيار ، قال في هذا : " أما عمرا فقد مررت به".
و"
إذا" بمنزلة" أما" ، وذلك أن ما بعدها لا يكون معطوفا على ما قبلها
ب" إذا" ، وهي للاستئناف وأما قول الشاعر :
فقال لي
المكّي أمّا لزوجة
|
|
فسبع ، وأمّا
خلّة فثمان
|
فإنه لم
يعطف" خلة" على" زوجة" ؛ لأن" أما" الثانية قد منعت
من ذلك وحالت دونه ، ولكنه أضمر اللام لضرورة الشعر ، وحذفها اكتفاء باللام الأولى
وهو قبيح جدا.
ومعنى قوله : (إلا أن يدخل عليها
ما ينصب).
يعني : إلا أن
تدخل على ما بعد" أما" ، و" إذا" ، فتقول : " لقيت زيدا
وأما عمرا فضربته" ، أو ما يجر ، فتقول : " وأما بعمرو فمررت" ،
و" لقيت زيدا وإذا عبد الله يضربه بكر" ، فما بعدها بمنزلة المبتدأ ،
حتى يدخل عليهما ما ينصب أو يجر.
قال
: (ألا ترى أنهم قرءوا (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ) وقبله
نصب).
يعني : أن قوله
(ثمود) مرفوع بالابتداء ، وإن كان (فهديناهم) قد وقع على ضميره وقبله منصوب ، وهو
قوله : (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) ، ولو كان بمنزلة
__________________
العطف لاختير فيه النصب.
ولمعترض أن
يقول في قوله : (وقبله نصب) أن الذي قبله عطف عليه قوله : (فَأَمَّا عادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) والذي أراده سيبويه : (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً).
قال
: (ولو قلت : " إن زيدا فيها" أو" إن فيها زيدا وعمرو أدخلته أو
دخلت به" ، رفعته ، إلا في قول من قال : " زيدا أدخلته وزيدا دخلت
به").
يعني : إن
نصب" زيد" في قولك : " إن زيدا فيها" خلاف نصبه في قولك :
" ضربت زيدا" ، وذلك أنك إذا قلت : " ضربت زيدا" كان الاختيار
أن تقول : " وعمرا أدخلته" على ما تقدم ذكرنا له ، وإن قلت : " إن
زيدا فيها" ، كان الاختيار أن تقول : " وعمرو أدخلته" ، وذلك
أن" إنّ" ليست بفعل ، فيضمر قبل" عمرو" فعلا ، حتى تكون
الجملة الثانية مشاكلة للأولى على نحو ما مضى ، وليس الغرض من تشاكل الجملتين في
النصب ، وإنما يراد تشاكلهما في الفعل وإن اختلف إعرابهما وقد مضى نحو هذا.
قال
: (لأن" إن" ليس بفعل وإنما هو مشبه به ، ألا ترى أنه لا يضمر فيه فاعل
، ولا يؤخر فيه الاسم ، وإنما هو بمنزلة الفعل ، كما أن" عشرين درهما""
وثلاثين رجلا" ، و" بئس رجلا" بمنزلة" ضاربين زيدا" وليس
بفعل ولا فاعل).
يعني :
أن" إنّ" ليست بفعل ؛ لأنه لا يضمر فيه الفاعل ، كما يضمر في الفعل.
ألا ترى أنك لا
تقول : " الزيدون إنو قائمين" ، ولا" أنت قائما" ولا شيء من
الضمائر التي تكون للفاعلين ، فهي مشبهة بالفعل وليست بفعل ، كما أن" عشرين
درهما" ، و" بئس رجلا" مشبه" بضاربين رجلا" ، ولا يقوى
قوته ؛ لأنك تقول : " هؤلاء زيدا ضاربون" ولا تقول : " هذه درهما
عشرون" ، ولا" رجلا بئس" ، وتفصل فتقول : " هؤلاء ضاربون
اليوم زيدا" ، ولا تقول : " هذه عشرون اليوم درهما" ، فليس لما شبه
بالشيء قوته.
قال
: (وكذلك تقول : " ما أحسن عبد الله وزيد قد رأيناه").
يعني :
أن" زيدا" الاختيار فيه الرفع ، وإن كان قبله فعل ، وهو"
أحسن" ، وذلك أن" أحسن" ، وإن كان فعلا فهو لا يتصرف ، ولا يكون
منه مستقبل ، ولا يتقدم على" ما" ،
__________________
وكذلك وضع في التعجب ، فصار بمنزلة" إنّ" في اختيار رفع الاسم في
الجملة الثانية ، على أن قولنا : " ما أحسن زيدا" ، صدر الكلام اسم
مرفوع وهو" ما" ، فتكون الجملة الثانية مصدرة باسم أيضا.
قال
: (وإنما هي بمنزلة" لدن غدوة" ، و" كم رجلا" فقد عملا عمل
الفعل وليسا بفعل ولا فاعل).
يعني : أن قوله
: " ما أحسن زيدا" ؛ لنقصان تصرفه. قد صار بمنزلة" لدن غدوة"
، و" كم رجلا" ، وهذان قد نصبا ، وليسا بفعل ، فنصب" ما أحسن عبد
الله" ؛ لضعفه ، بمنزلة ما نصب وليس بفعل.
قال
سيبويه : (ومما يختار فيه النصب لنصب الأول ، ويكون الحرف الذي بين الأول والآخر
بمنزلة" الواو" ، و" الفاء" ، و" ثم" ، قولك :
" قد لقيت القوم كلهم حتى عبد الله لقيته" ، و" ضربت القوم حتى
زيدا ضربت أباه" ، و" أتيت القوم أجمعين حتى زيدا مررت به" و"
مررت بالقوم حتى زيدا مررت به" ، ف" حتى" تجري مجرى"
الواو" ، و" ثم" ، وليست بمنزلة" أما" لأنها إنما تكون
على الكلام الذي قبلها ولا تبتدأ).
يعني :
أن" حتى" بمنزلة الواو ، وحروف العطف ، وذلك أنه يجوز العطف بها فيقال :
" مررت بالقوم حتى زيد" ، و" جاءني القوم حتى زيد" ، و"
رأيت القوم حتى زيدا" ، غير أن لها أحكاما تختص بها نذكرها في بابها إذا
انتهينا إليه إن شاء الله تعالى.
والغرض منها في
هذا الموضع : أنها لما جاز أن تكون عاطفة ؛ ثم رأينا جملة قبلها في أولها فعل ،
وجاء بعدها اسم قد اشتغل الفعل بضميره ، كان الاختيار أن تضمر فعلا يقع على الاسم
الذي بعدها ، حتى تكون الجملة التي قبلها مشاكلة للجملة التي بعدها في تقديم الفعل
فيهما ، كما ذكرنا ذلك في حروف العطف ، فإذا قلت : " لقيت القوم كلهم حتى عبد
الله لقيته" ، فتقديره : " حتى لقيت عبد الله لقيته" ، كما أنك إذا
قلت : " لقيت القوم وعبد الله كلمته" ، فعلى تقدير" وكلمت عبد الله
كلمته".
ولا تشبه"
حتى"" أما" ؛ لأن" حتى" من حروف العطف ، ولا يجوز
الابتداء بها ، كما لا يجوز الابتداء بحروف العطف ، ولا ترد إلا بعد كلام.
و"
أما" يبتدأ بها ، وإن وردت بعد كلام صرفت ما بعدها إلى الابتداء ، وقطعته عن
الأول.
قال
: (وتقول : " رأيت القوم حتى عبد الله" فإنما ، معناه : أنك قد رأيت عبد
الله مع القوم ، كما كان : " رأيت القوم وعبد الله" على ذلك).
يعني : أنك إذا
قلت : " رأيت القوم حتى عبد الله" ، فمعنى" حتى" ، وإن خفضت
ما بعدها كمعناها إذا نصبت ما بعدها ، وذلك أن قولك : " رأيت القوم حتى عبد
الله" فمعناه : " رأيت القوم واحدا واحدا إلى أن انتهيت برؤيتي إلى عبد
الله" ، ف" عبد الله" داخل في الرؤية ، والخفض فيه بمعنى"
إلى".
وإذا قلت :
" رأيت القوم حتى عبد الله" ، ف" حتى" بمعنى الواو ، وهي
بمنزلة قولك : " رأيت القوم مع عبد الله" و" رأيت القوم وعبد
الله" والمعنى فيهما واحدا ، وإن كان" عبد الله" مجرورا في أحد
اللفظين.
وتقول : "
ضربت القوم حتى زيدا أنا ضاربه" ، فتنصب" زيدا" ؛ لأن قولك :
" أنا ضاربه" ، بمنزلة قولك : " أضربه" ، فكأنك قلت : " ضربت
القوم حتى زيدا أضربه" ، على تقدير : حتى أضرب زيدا أضربه. وقد بينا أن اسم
الفاعل يجري مجرى الفعل ، وأن إضافته إلى المفعول إذا أردت به معنى التنوين لا
يخرجه عن حكم الفعل ، وإن جررت ما بعده به.
قال
: (فهي كالواو ، إلا أنك تجر بها إذا كانت غاية ، والمجرور مفعول كما أنك إذا قلت
: " هذا ضارب زيد غدا" تجر لكف التنوين وهو مفعول بمنزلته منصوبا منونا
ما قبله).
يعني : أن قولك
: " رأيت القوم حتى عبد الله" وإن جررته فهو مفعول واقع عليه الرؤية ،
بمنزلته إذا قلت : " رأيت القوم حتى عبد الله" فنصبته ، كما أنك إذا قلت
: " هذا ضارب زيد غدا" ، فهو بمنزلة قولك : " هذا ضارب زيدا
غدا" في أنهما مفعولان.
قال
: (ولو قلت : " هلك القوم حتى زيدا أهلكته" ، اختير النصب ؛ ليبنى على
الفعل ، كما بني ما قبله مرفوعا كان أو منصوبا ، كما فعل ذلك بعد ما بنى على الفعل
وهو مجرور).
قال أبو سعيد :
قد قدمنا أن الجملة الأولى إذا كان صدرها فعلا اختير في الثانية مثل ذلك ، سواء
أكان الفعل عمل في منصوب أو لم يعمل فيه تقول : " قام زيد وعمرا كلمته"
، و" مررت بزيد وعمرا كلمته" ، و" ضربت زيدا وعمرا كلمته".
وقولك : "
هلك القوم حتى زيدا أهلكته" ، بمنزلة" قام زيد وعمرا كلمته".
قال
: (فإن قلت إنما هو لنصب اللفظ ، فلا تنصب بعد" مررت بزيد" وانصب
بعد" إن فيها زيدا").
يعني : إن قال
قائل : إذا قلنا : " قام زيد وعمرا كلمته" ، و" هلك القوم حتى زيدا
أهلكته" ، ليس الاختيار في الاسم النصب ؛ لأنه لا منصوب قبله.
قيل له : لو
كان اختيار النصب في الثاني ؛ لأن قبله منصوبا ، لوجب ألا تنصب بعد قولك : " مررت
بزيد" فلا تقول : " مررت بزيد وعمرا كلمته" ، ولوجب أن تنصب بعد
قولك : " إن فيها زيدا" ، فتقول : " إن فيها زيدا وعمرا
كلمته". وهذا غير مختار. فلو كانت العلة ما زعمه هذا الزاعم واجبا ، من عبرة
المنصوب في الجملة الأولى ، للزمة ما قال سيبويه ألا ينصب بعد" مررت
بزيد" ، وليس في الدنيا عربي إلا وهو يجري" مررت بزيد" مجرى"
لقيت زيدا".
قال
: (وإن كان الأول ؛ لأنه في معنى الحديث مفعول فلا يرتفع بعد" عبد الله"
إذا قلت : " عبد الله ضربته").
يعني : إن قال
قائل : إنا إذا قلنا : " مررت بزيد وعمرا كلمته" إنما نصبنا"
عمرا" ؛ لأن" زيد" في معنى منصوب ؛ لوقوع المرور به في التحصيل ،
للزمه أن يقول : " عبد الله ضربته وعمرا كلمته" ؛ لأن" عبد
الله" وإن كان مبتدأ ، فقد وقع به الضرب في التحصيل ، ولكنه يرفع" عمرو
كلمته" حملا على" عبد الله" ؛ لأنه مبتدأ ، حتى يصيرا مبتدأين ،
وتكون في الجملة الثانية مشاكلة للأولى في الابتداء ، ولا يراعى في أنه في معنى
مفعول.
قال
: (وقد يحسن الجر في هذا كله وهو عربي ، وذلك قولك : " لقيت القوم حتى عبد
الله لقيته" ، فإنما جاء" بلقيته" توكيدا بعد أن جعله غاية ، كما تقول
: " مررت بزيد وعبد الله مررت به").
يعني : أنك إذا
قلت : " لقيت القوم حتى عبد الله لقيته"" فعبد الله" مجرور
معنى" بإلى" ، وقد تم الكلام ، ثم جئت" بلقيته" توكيدا للقاء
الواقع" بعبد الله" في المعنى ، كما أنك إذا قلت : " مررت بزيد
وعبد الله مررت به" ، فعبد الله" مجرور بالباء الأولى التي في"
زيد" ، ثم جئت" بمررت" الثانية توكيدا للمرور الواقع" بعبد
الله" في المعنى.
قال الشاعر وهو
ابن مروان النحوي :
ألقى
الصّحيفة كي يخفّف رحله
|
|
والزّاد حتّى
نعله ألقاها
|
قال
: (والرفع جائز).
يعني : في قولك
: " حتى عبد الله لقيته" ، كما جاز مع الواو ، إذا قلت : " لقيت
زيدا وعبد الله لقيته" ، على الابتداء والخبر ، فيكون" عبد الله"
مبتدأ ، و" لقيته" خبره.
كأنك
قلت : (" لقيت القوم حتى زيد ملقي" ، و" سرّحت القوم حتى زيد
مسرّح" وهذا لا يكون فيه إلا الرفع).
يعني : إذا قلت
: ملقيّ ومسرّح ؛ لأن" ملقيّ" و" مسرّح" ليس بفعل واقع على
ضمير" زيد" ، ولا باسم فاعل واقع على ضميره ، كما تقول : " حتى
زيدا أنا لاقيه" ، لأن" ملقيّ"" ومسرح" مأخوذ من لقي
وسرّح ، ففيه ضمير أقيم مقام الفاعل مرفوع ، فلا يجوز أن تنصب الاسم. وليس بعده
ضمير له يوجب نصبه.
قال
: (فإذا كان في الابتداء" زيد لقيته" ، بمنزلة" زيد منطلق" ،
جاز هاهنا الرفع).
يعني : جاز أن
تقول : " حتى زيد لقيته" ، فيكون بمنزلة قولك : " حتى زيد
ملقيّ" ؛ لأن" حتى" قد يقع بعدها الاسم والخبر.
والبيت الذي
أنشدناه يروى بالرفع والجر والنصب.
فالجر
بمعنى" إلى" على ما ذكرناه.
والرفع
بالابتداء والخبر ، والنصب على وجهين :
أحدهما : أن
تجعل حتى بمعنى الواو ، فتعطفها على الصحيفة كأنه قال : " ألقى الصحيفة
ونعله" ثم قال" ألقاها" تأكيدا.
والوجه الثاني
: أن تضمر بعد" حتى" فعلا ، وتجعل" ألقاها" تفسيرا له ، كأنك
قلت : حتى ألقى نعله ألقاها.
هذا باب ما يختار فيه النصب ، وليس قبله منصوب
بني على الفعل وهو باب الاستفهام
قال أبو سعيد :
الذي يشتمل عليه هذا الباب : أن الاسم إذا ولي حرف الاستفهام ، وجاء بعده فعل واقع
على ضميره ، فالاختيار نصب الاسم بإضمار فعل يكون الفعل
__________________
الظاهر تفسيره ، كقولك : " أزيدا ضربته" ، و" أعمرا مررت
به" ، و" أزيدا ضربت أخاه" ، ويكون التقدير فيه : " أضربت
زيدا ضربته" ، و" ألقيت زيدا مررت به" ، و" ألابست زيدا ضربت
أخاه" ، والنصب هو الاختيار ، ويجوز الرفع على أن تجعله مبتدأ وما بعده خبرا.
وإنما صار
الاختيار النصب ، من قبل أن الاستفهام في الحقيقة إنما هو عن الفعل لا عن الاسم ؛
لأن الشك فيه ، ألا ترى أنك إذا قلت : " أزيدا ضربته" ، فإنما تشك في
الضرب الواقع به ، ولست تشك في ذات" زيد" ، فلما كان حرف الاستفهام إنما
دخل للفعل لا للاسم ، كان أولى في الاختيار أن يلي حرف الاستفهام الفعل الذي دخل
من أجله ، وإنما جاز دخوله على الاسم ، ورفع الاسم بعده على الابتداء والخبر ؛ لأن
الابتداء والخبر قبل دخول الاستفهام يوجب فائدة ، وإذا استفهمت فإنما تستفهم عن
تلك الفائدة.
قال
سيبويه : (ذلك أن من الحروف حروفا لا يذكر بعدها إلا الفعل ، ولا يكون الذي يليها
غيره ، مظهرا أو مضمرا).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الحروف على ثلاثة أضرب : منها ما لا يليه إلا الاسم ، ومنها ما لا يليه إلا
الفعل ، ومنها ما يليه الاسم والفعل جميعا.
فأما ما لا
يليه إلا الاسم ، فنحو : " إنّ" وأخواتها ، ولا نحتاج إلى ذكرها في هذا
الباب.
وأما ما لا
يليه إلا الفعل ، فهو على ضربين :
ضرب لا يحسن
إيلاء الاسم إياه ، وحذف الفعل منه ، ولا يقدم الاسم فيه على الفعل.
وضرب يحسن أن
يحذف منه الفعل ، ويليه الاسم في الظاهر ، والفعل مقدر في النية ، فأما الضرب الذي
لا يحسن حذف الفعل منه فنحو : " قد ، وسوف ، ولم ، ولما" ، لا يحسن أن
تقول : " لم زيدا أضرب" ، ولا" قد زيدا" ، على تقدير : لم
أضرب زيدا ؛ وقد ضربت زيدا ، ولا يحسن أيضا فيه التقديم والتأخير ، فتقول : "
قد زيدا ضربت ، ولم زيدا أضرب" ، وذلك لأن" قد ، وسوف" مع الفعل
بمنزلة الألف واللام مع الاسم ؛ لأن" سوف" تقصر الفعل على زمان دون زمان
، فهي بمنزلة التعريف ، و" قد" توجب أن يكون الفعل متوقعا ، وهو يشبه
التعريف أيضا. فإذا كان الألف واللام اللتان للتعريف لا يفصل بينهما وبين المعرّف
كان هذا مثله.
وأما" لم
، ولما" ، وسائر الحروف العاملة في الأفعال ، فإن حكمها ألا يتقدم الاسم على
الفعل فيها ؛ لأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء ، لأن الأفعال أضعف من
الأسماء ، فلما رأينا الحروف العاملة في الأسماء لا يحسن فيها تأخير الأسماء عن
مواضعها إلا بالظروف ، نحو : " إنّ ، وليت ، ولعل ، وبابها" وكانت
الحروف العاملة في الفعل أضعف منها ، لم تؤخر الأفعال عن مواضعها ؛ فإن اضطر
الشاعر إلى تقديم الاسم على الفعل ، جاز واحتمل للضرورة ، نحو قولك : " لم
زيدا أضرب ، وسوف زيدا أضرب" ، وإنما جاز من قبل أن العامل في الاسم هو الفعل
لا الحروف ، وقد كان يجوز تقديم الاسم على الفعل قبل دخول الحرف ، وإنما دخل الحرف
على الجملة ، فأجازوا بعد دخوله ما كان يجوز قبله.
والضرب الآخر
من الحروف ، وهو الذي يليه الفعل ، ويحسن إضماره وتأخره" هلا ، ولو لا ، ولو
ما" ، إذا كانتا بمعنى : " هلا ، وألا" ، إذا كانت كذلك. ومعناها
كلها أنها لوم واستبطاء فيما تركه المخاطب ، أو يقدر فيه الترك ، من ذلك أن يقول
القائل : " قاتلت أهل الكوفة" ، فيقول القائل : " هلا
القرمطي" ، أي : هلا قاتلت القرمطي ، أو يقول : " أنا أقاتل أهل
الكوفة" ، فيقال له : " فهلا القرمطي" ، أي : فهلا تقاتل القرمطي.
فهذا عدول به عما ذكر إلى هذا الآخر الذي حض عليه في المستأنف. أو ليم على تركه في
الماضي قال الشاعر جرير :
تعدّون عقر
النّيب أفضل مجدكم
|
|
بني ضوطري لو
لا الكميّ المقنّعا
|
أي : هلا تعدون
الكمي المقنعا.
وهذه الحروف
مركبة من حرفين لهذا المعنى ، والأصل فيها : هل ، ولو ، وأن. أضيف إليهم : لا ،
وما. ويجوز فيما بعدهن التقديم والتأخير ، ويحسن ، فيقال : " هلا زيدا
ضربت" ، " وهلا عمرا أكرمته" وخالفت هذه الحروف الحروف التي قبلها
في جواز إضمار الفعل ، التقديم والتأخير ؛ لأن هذه الحروف جعل فيها معنى التحضيض ،
واستدعاء الفعل ، فصارت كأنها الأفعال ، فجاز إيلاء الاسم إياها تشبيها لها بالفعل
، وحذف الفعل معها
__________________
لذلك ، فمتى اضطر شاعر إلى تقديم الاسم في الحروف الأولى ، وأوقع الفعل على
ضميره وجب أن تضمر فعلا توقعه على الاسم ، يكون الظاهر تفسيرا له ، فتقول : "
لم زيدا أضربه" و" قد زيدا ضربته" ، و" سوف زيدا أضربه"
على تقدير : لم أضرف زيدا أضربه ، وقد ضربت زيدا ضربته ، وسوف أضرب زيدا أضربه.
ولا بد من تقدير هذا : لأن هذه الحروف لا معنى لوقوعها على الأسماء. والأفعال
المشغولة بضميرها لا يصح تقديرها بعد هذه الحروف ؛ لأن الأسماء المضمرة المنصوبة
قبلها توجب ضرورة إضمار الفعل ، وكذلك إذا قال : " هلا زيدا ضربته" ،
وجب أن تضمر فعلا توقعه على" زيد" ، ويكون الظاهر تفسيرا له.
والذي يليه
الاسم والفعل نحو : " ما ، وإنما ، وألف الاستفهام ، وهل ، وسائر حروف
الاستفهام" وما جرى مجراهن.
فإن قال قائل :
ما الذي أحوج سيبويه إلى ذكر هذه الحروف في صدر هذا الباب وهو باب الاستفهام؟
قيل له : لأن
المعنى الذي من أجله يختار إضمار الفعل بعد حروف الاستفهام هو موجود في هذه الحروف
، وذلك أن هذه الحروف حكمها أن تدخل على الأفعال لا غير ، فإذا وليها الاسم أضمر
بعدها فعل ، وكذلك حرف الاستفهام حكمه أن يدخل على الفعل ، إذا اجتمع الاسم والفعل
بعده. فإذا وليه الاسم وقد وقع الفعل على ضميره ، اختير إضمار الفعل.
فحرف الاستفهام
مشاكل لهذه الحروف في باب أنه أولى بالفعل ، غير أنه يجوز أن يليه الاسم ولا يضمر
الفعل بعده ؛ لأنه يجوز أن يدخل على مبتدإ وخبر ، كقولك : " أزيد قائم"
، و" أزيد أخوك" ، و" هل زيد منطلق"؟
فإن
قلت : " هل زيدا رأيت؟ " ، و" هل زيد ذهب؟ " قبح. ولم يجز إلا
في الشعر ؛ لأنه لما اجتمع الاسم والفعل حملوه على الأصل.
واعلم أن ألف
الاستفهام هي أم حروف الاستفهام ، ومعنى ذلك أنها تدخل على الاستفهام في جميع
مواضعه ، وغيرها من حروف الاستفهام تلزم موضعا وتختص به ، وتنتقل عنه إلى غير
الاستفهام ، نحو قولنا : " من ، وكم ، وهل" وما أشبه ذلك.
فأما"
من" : فهي للاستفهام عما يعقل ، وقد تنتقل فتكون بمعنى الذي ، وفي المجازاة.
وأما"
كم" فللسؤال عن العدد وقد تنتقل فتكون بمعنى" ربّ".
وأما"
هل" : فقد تكون بمعنى" قد" كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ) في معنى : قد أتى على الإنسان ، وقال الشاعر :
سائل فوارس
يربوع بشدّتنا
|
|
أهل رأونا
بسفح القفّ ذي الأكم
|
فأدخل
الاستفهام عليها ، وغير جائز أن يدخل استفهام على استفهام.
ولا يستفهم بها
في جميع المواضع ، لو قال قائل : " رأيت زيدا" ، فأردت أن تستثبت جاز أن
تقول : " أزيدا رأيته؟ " ، ولا يجوز أن تقول : " هل زيدا
رأيته".
فقد تبين أن
الألف أعم في الاستفهام من غيرها ، فتوسعوا فيها بأكثر مما توسعوا في غيرها ، فلم
يستقبح أن يكون بعدها ابتداء وخبر ، واستقبح ذلك في غيرها من حروف الاستفهام لقلة
تصرفها في موضع الألف ، وبدءوا بالفعل الذي حكمه أن يقدم.
قال
: (فإن اضطر شاعر فقدم الاسم نصب كما كان فاعلا ذلك" بقد" ونحوها).
يعني : إن اضطر
شاعر فقال : " هل زيدا رأيت" ، أو" هل زيدا رأيته" ، نصب
الاسم ، وأما في قوله : " هل زيدا رأيت" ، فتنصبه" برأيت" ،
وأما في قوله : " هل زيدا رأيته" فتنصبه بإضمار فعل يكون هذا تفسيره ،
كأنه قال : " هل رأيت زيدا رأيته".
قال
: (وهو في هذه أحسن لأنه يبتدأ بعدها الأسماء).
يعني : تقديم الاسم
في حروف الاستفهام أحسن من تقديمه في" قد" ؛ لأن حروف الاستفهام يليها
المبتدأ والخبر ، كقولك : " هل زيد منطلق" ، وقد لا يليها إلا بالفعل.
قال
: (وإنما فعلوا ذلك في الاستفهام ؛ لأنه كالأمر في أنه غير واجب ، وإنما تريد من
المخاطب أمرا لم يستقر عند السائل).
أراد أن
الاستفهام يشبه الأمر ، وذلك أنك تستفهم عن أمر يجوز أن يكون عندك موجودا ، ويجوز
أن يكون معدوما ، وتأمر بشيء يجوز أن يفعل ، ويجوز ألا يفعل ، فلما كان الأمر لا
يكون إلا بفعل ، اختاروا أن يكون الاستفهام بالفعل.
قال
: (ألا ترى أن جوابه جزم ؛ فلهذا اختير النصب ، وكرهوا تقديم الاسم ، لأنها حروف
ضارعت بما بعدها ما بعد حروف الجزاء ، وجوابها كجوابه ، وقد يصير معنى
__________________
حديثها
إليه ، وهي غير واجبة كالجزاء ، فقبح تقديم الاسم (لهذا) ، ألا ترى أنك إذا قلت :
" أين عبد الله آته" ، فكأنك قلت : " حيثما يكن آته").
أما قوله : (ألا ترى أن جوابه
جزم).
يعني : ألا ترى
أن جواب الاستفهام جزم كما يكون جواب الأمر ، تقول : " أين زيد آته" ،
كما تقول : " ائتني آتك" ، والتقدير : أين زيد إن أعرف مكانه آته ،
وائتني إن تأتي آتك. فقد بين لك التشاكل بينهما.
وقوله
: (وكرهوا تقديم الاسم ؛ لأنها حروف ضارعت بما بعدها ما بعد حروف الجزاء).
يعني : أن حروف
الاستفهام أيضا تشبه حروف الجزاء ؛ لأنها يجازى بها ، وهي غير واجبة ، كما أن حروف
الجزاء غير واجبة ؛ لأن فعل الشرط قد يجوز أن يقع ، ويجوز ألا يقع كالاستفهام.
وقوله
: (وقد يصير معنى حديثها إليه).
يعني : إذا قلت
: " أين زيد آته"" فأين زيد" استفهام.
وقوله
: (آته مجازاة وقد صار الاستفهام نائبا عن شرطه ، فقد صار معنى حديث الاستفهام إلى
الجزاء).
ويعني بقوله : (معنى حديثه).
يريد : الذي
يقصد إليه بلفظ الاستفهام ، يؤول معناه إلى الجزاء ، وليس بحديث في الحقيقة ؛ لأن
الحديث ما كان خبرا. وقد مثل ذلك سيبويه ، فقال : (إذا قلت : " أين عبد الله آته؟
" فكأنك قلت : حيثما يكن آته) ومعناهما واحد ، وأحدهما استفهام ، والآخر جزاء.
قال
سيبويه : (وأما الألف فتقديم الاسم فيها قبل الفعل جائز ، كما جاز ذلك في"
هلا" ، وذلك لأنها حرف الاستفهام الذي لا يزول عنه إلى غيره ، وليس للاستفهام
في الأصل غيره).
قال أبو سعيد :
وقد قدمنا قوة الألف في باب الاستفهام على غيره من الحروف ، وبينّا حسن إيلاء
الاسم إياها لقوتها في بابها ، فحسن أن نقول : " أزيد ضربته" لذلك ؛ ولم
يحسن" هل زيد ضربته" ، وشبهه سيبويه" بهلا" ، من قبل أنك تقول
: " هلا زيدا ضربت" ،
فيحسن ، ولا يحسن" قد زيدا ضربته" ، فتشبه" هلا"
بالألف في إيلاء الاسم إياها ، وبينهما فرق. وذلك أن ألف الاستفهام قد يجوز أن
يليها الاسم المبتدأ المرفوع بالابتداء ، ولا يجوز أن يلي" هلا" ، وذلك
لأنها قد جعلت للفعل فقط ، ولكن لها قوة ، أعني" لهلا" على الحروف التي
يليها الفعل ، جاز من أجلها تقديم الاسم على الفعل العامل فيه ، ومتى رفع الاسم
بعد" هلا" فهو بإضمار فعل لا بالابتداء ، كقولك : " هلا زيد ضربته"
، كأنك قلت : " هلا ضرب زيد ضربته".
ومعنى قوله : (لأنها حرف الاستفهام
الذي لا يزول عنه).
يعني الألف لا
تكون إلا للاستفهام ، وإن كانت تكون في معنى التقرير والجحد ، كقولك : " ألم
آتك" ، أي : قد أتيتك ، وكقول الله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) وهو لم يقل. فهذا لفظ الاستفهام ، وإن كان قد استعمل في
معنى التقرير ، وذلك أن المقرر مستدع لاعتراف المقرر ، فهو بمنزلة المستفهم
المستدعي إخبار المستفهم فهما جميعا من واحد واحد ، وكذلك كل ما دخله ألف
الاستفهام في معنى جحد أو إيجاب ، ففيه استدعاء إقرار المخاطب ، ألا ترى أن رجلا
لو قال : "زيد قائم" ، لم يكن على المخاطب أن يجيبه من هذا بشيء. وإن
قال له : " أليس زيد بقائم" على سبيل التقرير ، كان عليه أن يقول :
"بلى" أو "لا".
وسائر حروف
الاستفهام تكون لها معان غير الاستفهام كما ذكرنا في "من" و "هل".
قال
: (وإنما تركوا الألف في من ، ومتى ، وهل ، ونحوهن حيث أمنوا الالتباس).
قال أبو سعيد :
الأصل عند سيبويه في قولك : "من أخوك؟" ، أن تقول : "أمن أخوك؟"
لأن "من" اسم مبتدأ ، و "أخوك" خبر ، فكأنك قلت : "أزيد
أخوك؟" ولكن لما كانت" من" غير مستعملة في مواضع الأسماء كلها ،
وإنما تستعمل في الاستفهام والمجازاة ، وبمعنى الذي إذا وصلت صلة الذي استغنوا عن
الألف فيها ؛ لأنها لا تشكل ولا يظن بنزع الألف منها أنها خبر ، لأنها لو كانت
خبرا لوصلت ، وقد يجوز أن تقول : " من عندك أم من جاءك؟ ". فقد
دخلت" أم" على" من" وهي نظيرة الألف ، فقد علمت بهذا
__________________
أن الأصل دخول الألف عليها ، وأن أطراحها لعلم المخاطب ، فإذا وصلت"
من" ، فجعلتها بمعنى الذي ، جاز أن تدخل عليها ألف الاستفهام ، قال الله
تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي
النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) كأنه قال : آ الذي يلقي في النار خير أم الذي يأتي
آمنا. ونقول : " أم هل" بمعنى قد ، وقد ذكرناه.
قال
: (وهي ها هنا بمنزلة" إن" في باب الجزاء).
يعني : ألف
الاستفهام من بين حروف الاستفهام في القوة بمنزلة" إن" من بين حروف
المجازاة في القوة ، يحسن في" إن" خاصة تقديم الأسماء كما قال الله
تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) فأولى" إن" الاسم ، ورفعه عند البصريين
بإضمار فعل ، فكأنه قال : " وإن استجارك أحد من المشركين استجارك" ولا
يجوز غير ذلك عند البصريين.
وكان الفراء
يزعم أن رفع" أحد" بالضمير الذي يعود إليه من استجارك ، كقولك" زيد
استجارك" ، وهذا يستقصى في موضعه إن شاء الله.
قال
: (ويختار فيه النصب ؛ لأنك تضمر الفعل فيها ؛ لأن الفعل أولى إذا اجتمع هو والاسم
، وكذلك كنت فاعلا في باب" إن" ، لأنها إنما هي للفعل ، وسترى بيان ذلك)
إن شاء الله.
يعني : أن ألف
الاستفهام وإن كان إيلاء الاسم إياها جائزا فإن الاختيار أن يليها الفعل إذا اجتمع
الفعل والاسم ، وقد ذكرنا هذا ، وكذلك يجب في باب" إن".
قال
: (والألف إذا كان معها فعل بمنزلة لولا ، وهلا ، إلا أنك إن شئت رفعت فيها).
يعني : أن ألف
الاستفهام أولى بالفعل ، وحكم الفعل أن يليها كما يلي" لو لا ، وهلا" ،
إلا أنه يجوز أن ترفع في الألف ، يعني : ترفع الاسم بالابتداء بعد الألف.
قال
: (وهو في الألف أمثل منه في" متى" ونحوها).
يعني : رفع
الاسم بعد الألف أقوى منه بعد متى.
__________________
قال
: (لأنه قد صار فيها ، مع أنك تبتدئ بعدها الأسماء ، أنك تقدم الاسم قبل الفعل).
يعني أن الألف
قد اجتمع فيها أنه يليها الابتداء ، كقولك : " أزيد ضربته". ويليها
الاسم المنصوب الذي يعمل فيه الفعل الذي بعده ، كقولك : " أزيدا ضربت" ،
وهو حسن جيد ، ألا ترى أنك تقول : " أزيدا ضربت أم عمرا؟ " ، وهو
الاختيار قال : (والرفع فيه على الجواز).
يعني : أن
الرفع في الألف على الجواز ، لا على الاختيار.
(ولا
يجوز ذلك في" هلا" و" لو لا" ؛ لأنه لا يبتدأ بعدها الأسماء).
لا يجوز أن
تقول : " هلا زيد قائم" ، ولكن يجوز أن تقول : " هلا زيد
ضربته" ، على معنى" هلا ضرب زيد ضربته".
قال
: (وليس جواز الرفع في الألف ، مثل جواز الرفع في" ضربت عمرا" ، و"
زيدا كلمته").
قال أبو سعيد :
وقد قدمنا أن الاختيار" ضربت زيدا ، وعمرا كلمته" ويجوز و" عمرو
كلمته" ، والاختيار" أزيدا ضربته" ويجوز" أزيد ضربته".
غير أن الرفع في قولك : " وعمرو كلمته" أحسن ؛ لأن الألف بالفعل أولى
مثل المجازاة والأمر والأشياء التي هي بالفعل أولى ، و" عمرا كلمته" ،
إنما يختار فيه النصب طلبا للمشاكلة ، وحملا للجملة الثانية على ما يجاورها من
الجملة الأولى ، وليس فيها حرف هو بالفعل أولى فاعرف ذلك إن شاء الله.
هذا باب ما ينتصب في الألف
تقول
: (" أعبد الله رأيته" ، و" أزيدا مررت به" ، و" أعمرا
قتلت أخاه" ، و" أعمرا اشتريت له ثوبا". ففي هذا كله قد أضمرت بين
الألف والاسم فعلا هذا تفسيره ، كما فعلت ذلك فيما نصبته في هذه الحروف في غير
الاستفهام).
يعني : أنك إذا
قلت : " أعبد الله ضربته" ، كان تقديره" أضربت عبد الله
ضربته" ، وكان هذا أولى في الألف ؛ لأنها جيء بها للاستفهام عن الفعل ؛ لأن
المستفهم لا يشك في الاسم ، وإنما شكه في الفعل ، فأولوها المعنى الذي له دخلت ،
وكان ذلك الاختيار عندهم.
وقوله
: (كما فعلت ذلك فيما نصبته في هذه الحروف في غير الاستفهام).
يعني : أضمرت
فعلا ينصب الاسم في الاستفهام ، كما أضمرت فيما قبل الاستفهام فعلا ينصب ؛ لأن
الاستفهام غير عامل ، ولم يعن بقوله : " الحروف" : حروف المعاني ، وإنما
أراد الأسماء والأفعال التي أشار إليها.
(قال جرير :
أثعلبة
الفوارس أم رياحا
|
|
عدلت بهم
طهيّة والخشابا)
|
أراد : أذكرت
ثعلبة الفوارس ؛ لأن" عدلت" يتعدى بحرف جر ، وتضمر" قست" ،
أو" مثلت" ، أو ما يقارب الفعل المذكور.
وقال
: (فإذا أوقعت الفعل عليه ، أو على شيء من سببه نصبته ، وتفسيره ها هنا هو التفسير
الذي فسر في الابتداء : أنك تضمر فعلا هذا تفسيره).
يعني : أن
الفعل الذي ينصب هذا الاسم قبل دخول الاستفهام ، هو الذي ينصبه إذا دخل الاستفهام.
قال
: (إلا أن النصب هو الذي يختار ها هنا ، وهو حد الكلام ، وأما الانتصاب ثمّ وها
هنا فمن وجه واحد).
يعني : أنك إذا
قلت : " زيدا ضربته" ، فتقديره : " ضربت زيدا ضربته".
وإذا قلت :
" زيدا مررت به" ، فتقديره ، " لقيت زيدا مررت به" ، وإذا قلت
: " زيدا لقيت أخاه" فتقديره : " لابست زيدا لقيت أخاه" ،
فإذا أدخلت ألف الاستفهام على هذا ، فتقديره أيضا : " أضربت زيدا ضربته"
، و" ألقيت زيدا مررت به" ، و" ألابست زيدا لقيت أخاه".
فالنصب مع الاستفهام يقدر بالعامل الذي يقدر في الابتداء ، وهو في الاستفهام مختار
، وفي الابتداء الاختيار الرفع.
قال
: (ومثل ذلك : " أعبد الله كنت مثله" ؛ لأن" كنت" فعل ،
و" المثل" مضاف إليه ، وهو منصوب ومثله" أزيدا لست مثله" ؛
لأنه فعل فصار بمنزلة" أزيدا لقيت أخاه ، وهو قول الخليل).
وقد بينا أن
قولنا : " كان زيد قائما" في التصريف والعمل ، بمنزلة" ضرب زيد
__________________
رجلا" ، وإذا قلت : " كنت زيدا" ، فهو بمنزلة قولك : "
ضربت زيدا". وإذا قلت : " كنت مثل زيد" ، فهو بمنزلة قولك : "
ضربت مثل زيد لك" ، فإذا قلت : " أعبد الله كنت مثله" ، فهو بمنزلة
قولك : " أعبد الله ضربت مثله ، وضربت أخاه". وليس بمنزلة"
كان" ، وإن كان لا يتصرف" أعبد الله ضربت مثله" ، و" ضربت
أخاه" ، وليس لها مستقبل ، ولا اسم فاعل ؛ لأنها فعل يتصل بها كنايات
الفاعلين ، كقولك : لست ، ولسنا ، ولستما ، ولستم ، وما أشبه ذلك.
وقد فهم من قول
سيبويه في هذا الموضع أنه يجيز" قائما ليس زيد" ، فيقدم خبر"
ليس" عليها. وقد أنكر بعض النحويين تقديم خبرها عليها ، وتقديمه جائز ؛ لأن
الذي منع" ليس" من التصرف في نفسها : أن معناها في زمان واحد ، وإنما
جاز تقديم الخبر في" ليس" ؛ لأنها فعل يتصل بها الضمائر التي ذكرناها ،
ولا خلاف بين النحويين في جواز تقديم خبرها على اسمها ، كقولك : " ليس قائما
زيد" ، فهذا أحد ما يدل على جواز التقديم ؛ لأن تقديم الخبر على الاسم ضرب من
التصرف.
فإن قال قائل :
" نعم ، وبئس" ـ على قولكم ـ فعلان ، ولا يجوز تقديم ما يعملان فيه
عليهما ، وكذلك فعل التعجب ، إذا قلت : " ما أحسن زيدا" ، ولا يجوز
تقديم الاسم عليه.
قيل له :
بين" ليس" وبين فعل التعجب ، و" نعم ، وبئس" فرق وذلك ؛
لأن" ليس" لا يمتنع دخولها على الأسماء كلها ، مضمرها ومظهرها ،
ومعرفتها ونكرتها ، ويتقدم اسمها على خبرها ، وخبرها على اسمها ، و" نعم ،
وبئس" لا يتصل بها كناية المتكلم ، ولا يقعان على الأسماء الأعلام ، وفعل
التعجب يلزم طريقة واحدة ، ولا يكون فاعلها إلا ضمير" ما" ، فكانت"
ليس" أقوى منها.
قال : فإن قال
قائل : فأنتم تقولون : " عسى زيد أن يقوم" ، " زيد"
يرتفع" بعسى" ، و" عسى" فعل ، " وأن يقوم" في موضع
نصب. و" عسى" فعل يتصل به الكنايات ؛ لأنك تقول : " عسيت ، وعسينا
، وعسيتم" ، ومع هذا كله لا يجوز تقديم" أن" على" عسى" ،
لا تقول : " أن يقوم عسى زيد" ، على تقدير : عسى زيد أن يقوم.
قيل له : لا
يشبه" عسى"" ليس" ؛ لأن" عسى" وضعت للدلالة على
المستقبل بلفظ" أن" ، حتى لا يحسن نقل" أن" إلى المصدر ، فلا
يقال : " عسى زيد القيام" ، و" أن" إذا
تقدمت ، فليس قبله معنى يمنعها من جعل المصدر مكانها. ألا ترى أنا نقول :
" أن تصوم خير لك" ، إنما تريد : الصوم خير لك ، ولو جعلنا"
الصوم" مكان" أن تصوم" لجاز ، ولا يجوز مع" عسى" أن تنقل
إلى لفظ المصدر" أن" ، فتقول : " عسى زيد الصوم" ، مكان"
عسى زيد أن يصوم" ، فلما أحدثت" عسى" هذا المعنى في" أن"
لم تقدم عليها.
قال
سيبويه : (ومثل ذلك" ما أدري أزيدا مررت به أم عمرا" و" ما أبالي أعبد
الله لقيت أخاه أم عمرا" ؛ لأنه حرف استفهام وهي تلك الألف التي في قولك :
" أزيدا لقيته أم عمرا").
يعني : لأن حرف
الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، فإذا كان قبله فعل فهو ملغى ، وإنما يقع قبله من
الأفعال ما كان من أفعال القلوب نحو : العلم ، والظن ، والشك ، والمبالاة ؛ وما
كان من أفعال اللسان ، نحو : القول ، والإخبار ، والزعم ، فإذا ألغي الفعل الذي
قبل الاستفهام ، صار الاستفهام كأنه مبتدأ ، فأجرى على حكمه إذا كان مبتدأ.
قال
: (وتقول : أعبد الله ضرب أخوه زيدا ، لا يكون إلا الرفع ؛ لأن الذي من سبب عبد
الله مرفوع فاعل ، والذي من مسببه مفعول ، فيرفع إذا ارتفع الذي من سببه كما ينتصب
إذا انتصب ، ويكون المضمر ما يرفع كما أضمرت في الأول ما ينصب ، فإنما جعل هذا
المضمر بيان ما هو مثله).
يعني : أنه
يجوز أن تنصب" عبد الله" ؛ لأن نصبه يكون من وجهين :
إما أن يكون
الفعل الذي بعده واقعا على ضميره ، فيضمر فعل ينصبه.
وإما أن يكون
الفعل الذي بعده واقعا على سببه فيضمر ما ينصبه على حسب ما قدمنا ، وهذه المسألة
الفعل فيها واقع من سببه بزيد ، فوجب رفع" عبد الله" على أحد وجهين :
إما أن يكون
بالابتداء ، وإما أن يكون بإضمار فعل يرفع ، كأنك قلت : ألا بس عبد الله زيدا ضرب
أخوه زيدا.
وقول
سيبويه : (ويكون المضمر ما يرفع ، كما أضمرت في الأول ما ينصب).
يحتمل هذين
الوجهين : إن شئت قدرت الابتداء ، وإن شئت قدرت فعلا ، ويكون المضمر بمعنى المقدر.
وإنما أضمرت فعلا يرفع" عبد الله" ، إذ كان سببه فاعلا ، كما أضمرت فعلا
ينصبه ، حيث كان سببه مفعولا في قولك : " أعبد الله ضرب أخاه زيد".
وقوله
: (فإنما جعل هذا المضمر بيان ما هو مثله).
يريد بقوله :
بيان المبين ، يعني : هذا المضمر بيان الظاهر ، يريد مبين الظاهر ؛ لأن الظاهر قد
بينه ودل عليه. والمصدر قد يكون اسما للفاعل والمفعول. فالفاعل قولك : " هذا
رجل عدل" و" ماء غور" ، يريد : عادل ، وغائر. والمفعول قولك :
" هذا رجائي" ، أي : مرجوي. و" درهم ضرب" ، أي : مضروب.
ومن الناس من
يروي : فإنما جعل هذا المظهر بيان ما هو مثله ، ويقول" المضمر" خطأ في
الرواية ، فإذا قال : المظهر ، فإنما يريد أن الفعل الظاهر قد بيّن المضمر ، ودل عليه
، فالبيان ها هنا المبين.
قال
: (وتقول : " أعبد الله ضرب أخوه غلامه" ، إذا جعلت الغلام في
موضع" زيد" ، حين قلت : " أعبد الله ضرب أخوه زيدا" ، فيصير
هذا تفسيرا لشيء رفع" عبد الله" ؛ لأنه يكون موقعا للفعل بما يكون من
سببه ، كما يوقعه بما ليس من سببه ، كأنه قال في التمثيل ، وإن كان لا يتكلم
به" أعبد الله أهان غلامه ، أو عاقب غلامه" ، أو صار في هذه الحال عند
السائل وإن لم يكن ، ثم فسر : وإن جعلت الغلام في موضع" زيد" فاعلا حين
رفعت" زيدا" ، نصبت ، فقلت : " أعبد الله ضرب أخاه غلامه" ،
كأنه جعله تفسيرا لفعل أوقعه غلامه عليه ؛ لأنه قد يوقع الفعل عليه ما هو من سببه
كما يوقعه هو على ما هو من سببه ، وذلك قولك : " أعبد الله ضربت أخاه" ،
و" أعبد الله ضربه أخوه" فجرى مجرى" أعبد الله ضرب زيدا"
و" أعبد الله ضربه زيد" ، فكأنه في التمثيل تفسير لقوله : " أعبد
الله أهانه غلامه" ، و" أعبد الله أهان غلامه" و" أضرب أخاه
غلامه". ولا عليك أقدمت" الأخ" أم أخرته أم قدمت"
الغلام" أم أخرته ، أيهما ما جعلته" كزيد" مفعولا ، فالأول رفع ،
وإن جعلته" كزيد" فاعلا فالأول نصب).
جملة هذا
الكلام : أن الاسم الذي يلي حرف الاستفهام ، إذا أتى بعده سببان له : أحدهما فاعل
والآخر مفعول به ، فلا بد من حملة على أحدهما ؛ لأنه لا يمكن حمله عليهما ؛ لأنك
لو حملته عليهما لنصبته ورفعته في حال واحدة ؛ لأن أحد سببيه مرفوع ، والآخر منصوب
، ومحال أن يكون هو مرفوعا منصوبا في حال ، فإذ قد استحال هذا ، فلا بد من حمله
على أحدهما ، فإذا حملناه على أحدهما صار الآخر كأنه أجنبي ؛ فإن حملته على
المرفوع منهما رفعته على الشرط الذي ذكرناه في قولك : " أعبد الله ضرب أخوه
زيدا" ،
وإن حملته على المنصوب منهما ، صار بمنزلة قوله : " أعبد الله ضرب
أخاه زيد" ، فإذا قلنا : " أعبد الله ضرب أخوه غلامه" ، فحملناه
على" الأخ" وهو الفاعل ، صار" عبد الله" كأنه الفاعل ،
فأضمرنا فعلا يرفعه ، كأنا قلنا : " أعبد الله ضرب غلامه" ، وإذا حملناه
على" الغلام" فكأن الفعل به واقع من أخيه به ، فيصير التقدير : " أعبد
الله ضرب أخوه".
وقول
سيبويه : (كأنه قال في التمثيل ـ وإن كان لا يتكلم به ـ " أعبد الله أهان
غلامه ، أو عاقب غلامه").
يريد : وإن كان
لا يتكلم به في هذا المعنى الذي ذكره ، وهو قولك : " أعبد الله ضرب أخوه
غلامه" ، وإنما جعله تقدير الرفع" عبد الله" في هذا الكلام ، ولا
يؤدي عن معناه بعينه.
(وتقول
: " آلسوط ضرب به زيد" ، وهو كقولك : " آلسوط ضربت به"
وكذلك" آلخوان أكل عليه اللحم" وكذلك" أزيدا سميت به ، أو سمي به
عمرو" ؛ لأن هذا في موضع نصب).
قال أبو سعيد :
اعلم أنك إذا قلت : " أكل اللحم على الخوان" ، و" ضرب زيد بالسوط ،
و" سمي أخوك بزيد" ، فهذه الحروف في موضع نصب ، وذلك أنك أقمت الأسماء
مقام الفاعل ، فصارت هي في موضع نصب ، وحلت محل قولك : " مررت بزيد" ،
" مر زيد بعمرو" ، " ونزل زيد على أخيك" ، فلما اتصلت الحروف
بكنايات هذه الأسماء ، وقد قدمت الأسماء ، وجب أن تنصبها ؛ لأن الحروف التي اتصلت
بكناياتها في موضع نصب ، فصار بمنزلة قولك : " أزيدا مررت به".
قال
: (وإنما تعتبره أنك لو قلت : " السوط ضربت" فكان هذا كلاما أو"
الخوان أكلت" ، لم يكن إلا نصبا كما أنك لو قلت : " أزيدا مررت" ،
فكان كلاما ، لم يكن إلا نصبا فمن ثمّ جعل هذا الفعل الذي لا يظهر تفسيره تفسير ما
ينصب ، فاعتبر ما أشكل عليك من هذا بذا).
يعني : الذي
يدلك على أن موضع هذه الحروف نصب ، أنه لو كان هذا الفعل يتعدى بغير حرف ، ثم جئت
باسمه تقيمه مقام الفاعل ، لم يكن الاسم الآخر إلا نصبا ، كقولك : " ضرب زيد
السوط" ، و" أكل اللحم الخوان" ، فهذا لا يتكلم به ، ولو تكلم به
لم يكن إلا نصبا ؛ لأنه لا يرتفع اسمان بفعل واحد.
قال
: (وإن قلت : أزيد ذهب به" ، أو" أزيد انطلق به" ، لم يكن إلا رفعا
؛ لأنك لو لم تقل" به" ، فكان كلاما. لم يكن إلا رفعا. كما قلت : "
أزيد ذهب أخوه" ؛ لأنك لو قلت : " أزيد ذهب" لم يكن إلا رفعا).
قال أبو سعيد :
اعلم أنك إذا قلت : " ذهب بزيد"" فالباء" في موضع رفع ؛ لأنه
لا بد للفعل من فاعل أو ما يقوم مقام الفاعل ، فلما لم يكن غير" الباء"
، أقيمت" الباء" مقام الفاعل. وإذا قلت : " ذهبت بزيد" ،
" فالباء" في موضع نصب لا غير ؛ لأن" التاء" قد ارتفعت بالذهاب
، فانتصب موضع" الباء" ؛ لاشتغال الفعل بغيرها ، فإذا اشتغلت الباء
بالذهاب ، واتصلت بكناية اسم قبل الفعل فهي في موضع رفع ، ورفع ذلك الاسم ؛ لأن
الذي اتصلت به كنايته مرفوع ، كقولك : " أزيد ذهب به ، وانطلق به" ،
وصار بمنزلة قولك : " أزيد ذهب أخوه" ؛ لأن كناية" زيد"
اتصلت" بالأخ" ، و" الأخ" مرفوع ، كما اتصلت"
بالباء" ، وهي مرفوعة فاستويا ، ورفع زيد على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما :
إن شئت بالابتداء وإن شئت بإضمار فعل.
قال أبو سعيد :
ويجوز عندي نصب" زيد" في قولك : " أزيد ذهب به" ، و" أزيد
انطلق به" ، بأن تقيم المصدر مقام الفاعل ، فإذا أقمنا المصدر مقام الفاعل
صار موضع الباء نصبا ، وكأنك قلت : " أزيدا ذهب الذهاب به" ، وإذا صار
موضع الباء نصبا نصبت" زيدا" ؛ لأن كنايته اتصلت بمنصوب ، وصار بمنزلة
قولك : " أزيدا ضربت أخاه" ، وهذا لا يمتنع منه أحد من البصريين.
وقد قال أبو
العباس المبرد في كتاب (المقتضب) في" سير بزيد يوم الجمعة فرسخين" ذكر
فيها وجوها منها :
أن تقيم"
يوم الجمعة". مقام الفاعل وتنصب الباقي.
ومنها : أن
تقيم" الفرسخين" مقام الفاعل وتنصب الباقي.
ومنها : أن
تقيم" الباء" مقام الفاعل ، وتنصب الباقي.
ومنها : أن
تقيم المصدر مقام الفاعل ، ويكون التقدير : " سير السير" ؛ لأن الفعل
يدل على المصدر ، فإذا أقمت المصدر مقام الفاعل صار الباقي في موضع نصب ، ووجب فيه
ما قلنا.
قال
: (وتقول : " أزيدا ضربت أخاه" ؛ لأنك لو ألقيت الأخ لقلت" أزيدا
ضربت"
فاعتبر
هذا بهذا ، ثم اجعل كل واحد جئت به تفسير ما هو مثله).
يعني : أن
الاسم المنصوب الذي ولى الاستفهام ، ووقع الفعل على ضميره أو على ما اتصل بضميره ،
إنما تعتبر لزوم نصبه بأن تحذف ضميره من الفعل أو تحذف ما اتصل بضميره. فإن كان
الفعل يتسلط عليه فينصبه علمت أن حكمه أن يكون منصوبا بإضمار فعل يكون هذا تفسيره
، وإن لم يتسلط عليه ناصب له فليس حكمه أن يكون منصوبا بإضمار فعل.
مثال ذلك أنك
تقول : " أزيدا ضربته" تنصب" زيدا" بإضمار فعل ؛ لأنك لو حذفت
الهاء من" ضربته" ، وجب أن تنصب" زيدا" ب" ضرب" هذا
الظاهر. وإذا قلت : " أزيدا مررت به" ، لو حذفت" الباء"
وضمير" زيد" لوجب أن تقول : " أزيدا مررت" ، لو كان مما يتعدى
بغير حرف ، وكان يعمل" مررت" في" زيد". وإذا قلت : " أزيدا
ضربت أخاه" ، ثم حذفت" الأخ" ، لوجب أن تقول : " أزيدا
ضربت" ، فوجب أن يكون هذا الفعل الذي يتصل" بزيد" ، فينصبه ـ إذا
حذفت الكنايات بعده ـ وهو الذي يفسر ما ينصب" زيدا" إذا جعلت بعده
كنايته. وإذا قلت : " أزيد ذهب به" ، و" أزيد قام أخوه" ، لو
حذفت" الأخ" ، و" الباء" وبقيت" أزيد ذهب" أو"
أزيد قام" ، ما جاز أن يتسلط عليه فينصبه. فعلمت بذلك أنه لا يكون تفسير شيء
ينصب" زيدا" فإذا لم يكن كذلك لم ينصب" زيدا".
قال
سيبويه : (واليوم والظروف بمنزلة" زيد وعبد الله" ، إذا لم يكن ظروفا ،
وذلك قولك : " أيوم الجمعة ينطلق فيه عبد الله" كقولك : " أعمرا
تكلم فيه عبد الله" و" أيوم الجمعة ينطلق فيه" كقولك : " أزيد
يذهب به").
يعني : إذا قلت
: " أيوم الجمعة ينطلق فيه عبد الله" فهو في موضع نصب ؛ لأن" عبد
الله" يرتفع ب" ينطلق" ، وإذا ارتفع به ، انتصب غيره مما يتعلق
بالفعل ، فصار" يوم الجمعة" منصوبا ؛ لأن كنايته تتصل بمنصوب ، وإذا قلت
: " أيوم الجمعة ينطلق فيه"" ففي" موضعها رفع بإقامتها مقام
الفاعل ، وكناية" اليوم" تتصل بها ، فصار" اليوم" مرفوعا ،
ويجوز فيه الوجه الذي ذكرناه : وهو أن تقيم المصدر مقام الفاعل ، وتجعل موضع"
في" منصوبا.
قال
: (وتقول : " أأنت عبد الله ضربته" تجريه ها هنا مجرى" أنا زيد
ضربته" ، لأن الذي يلي حرف الاستفهام" أنت" ، ثم ابتدأت هذا ، وليس
قبله حرف استفهام ولا
شيء
هو بالفعل ، وتقديمه أولى ، إلا أنك إن شئت نصبته كما نصبت" زيدا ضربته"
، فهو عربي جيد. وأمره ها هنا على حد قولك : " زيد ضربته").
قال أبو سعيد :
اعلم أن سيبويه ومن ذهب مذهبه ، إذا حال بين حرف الاستفهام وبين الاسم الذي وقع
الفعل على ضميره باسم آخر ، ولم يكن من سببه ، جعل ذلك الاسم الحائل بينهما مخرجا
للاسم الذي بعده عن حكم الاستفهام الذي من أجله يختار النصب فيه بإضمار فعل ، فلم
يجز النصب في" عبد الله" ، إذا قلت : " أأنت عبد الله ضربته؟
" ؛ لأن" عبد الله" لم يل حرف الاستفهام كما وليه في قولك : "
أعبد الله ضربته؟ " ، وحال أنت" بين ألف الاستفهام وبين" عبد
الله" ، فصار" عبد الله" كأنه مبتدأ ليس قبله حرف استفهام كقولك :
" عبد الله ضربته" ومن قال : " عبد الله ضربته" في الابتداء ،
وليس بالاختيار ، قال ها هنا : " أأنت عبد الله ضربته" ، وإن لم يكن
الاختيار على تقدير" أأنت ضربت عبد الله ضربته". كما تقول : " عبد
الله ضربته" على تقدير : " ضربت عبد الله ضربته" ويجب على مذهب
سيبويه أن ترفع" أنت" بالابتداء لا غير في هذا الموضع.
فإن قال قائل :
لم لا ترفع" أنت" بفعل مضمر ، لأن له ضميرا في الفعل مرفوعا وهو التاء
في" ضربته" ، فيصير التقدير : " أضربت عبد الله ضربته؟ ".
وقد قال سيبويه
في فصل قبل هذا : (ويكون
المضمر ما يرفع كما أضمرت في الأول ما ينصب بعد قوله : " أعبد الله ضرب أخاه
زيد". والظاهر من هذا أنه يرفع" عبد الله" بإضمار فعل ، كما ينصبه
بإضمار فعل ، إذا قلت : " أعبد الله ضرب أخاه زيد") فوجب أن ترفع" أنت" بفعل يوقعه على" عبد
الله" على ما ذكرنا.
قيل له :
بينهما فرق ، وذلك أنّا إذا قلنا : " أعبد الله ضرب أخوه زيدا" ،
و" عبد الله" يلي حرف الاستفهام ، والفعل الذي يعمل في سببه الرفع متصل
به ولا فاصل بينهما ، فهو بمنزلة قولك : " أعبد الله ضربت أخاه" في أن
الاسم يلي حرف الاستفهام ، وبعده الفعل الواقع بسببه متصلا بلا فاصل ، وإذا قلنا :
" أأنت عبد الله ضربته" ، فبين" أنت" ، وبين الفعل الذي فيه
ضميره" عبد الله" يصح أن يكون مبتدأ فاصلا بين" أنت" وبين
الفعل فلم يكن بنا حاجة إلى إضمار فعل ل" أنت" ؛ لأن فعله لم يله ، وقد
فصل بينه وبينه ، وقد كنا بيّنا أن قوله : " أعبد الله ضرب أخوه زيدا" ،
يجوز رفعه بالابتداء ، ويكون كلاما مختارا ، ويكون بينه وبين قولنا : " أعبد
الله ضربته" فرق ؛ لأن" عبد الله" إذا رفعناه بالابتداء أو بإضمار
فعل ، فلفظهما واحد فكان الابتداء مختارا ؛ لأنه أخف في التقدير وليس في
اختياره تقدير لفظ ، وليس لتقدير الفعل الواقع قبله لفظ يدل عليه ، كما كان في
المنصوب.
وقد كان أبو
عمر الجرمي يختار في قولنا : " أزيد قام" ، أن يكون" زيد"
مرتفعا بالابتداء.
وكان الأخفش
يختار أن يكون مرفوعا بفعل على تقدير : " أقام زيد قام" ، وقد فسرنا قول
سيبويه : ويكون المضمر ما يرفع أنه يحتمل أن يكون الابتداء ، أعني : ويحتمل أن
يكون عني فعلا يرفعه بما أغنى عن إعادته.
وقال أبو الحسن
الأخفش : " أأنت عبد الله ضربته" ، النصب أجود ؛ لأن" أنت"
ينبغي أن يرتفع بفعل ، إذ كان له فعل في آخر الكلام. وينبغي أن يكون الفعل الذي
يرتفع به" أنت" ساقطا على" عبد الله" ، وكأنه في التقدير :
" أضربت أنت عبد الله ضربته" وقد ذكرنا هذا.
قال
: (فإن قلت : " أكلّ يوم زيدا تضربه" ، فهو نصب كقولك : " أزيدا
تضربه كل يوم" ؛ لأن الظروف لا تفصل كما لا تفصل في قولك : " ما اليوم
زيد ذاهبا" ، و" إن اليوم عمرا منطلق" ، فلا تحجز هاهنا كما لا
تحجز ثمت).
يريد : أن تقدم
الظرف كتأخره في قولك : " أكلّ يوم زيدا تضربه" ؛ لأنه لا فرق بين أن
تقول : " أزيدا كل يوم تضربه" ، وبين أن تقول : " أكل يوم زيدا
تضربه". ولا يشبه هذا قولك : " أأنت عبد الله ضربته" ، ولا قولك :
" أزيد هند يضربها" ، وذلك أنك إذا قلت : " أأنت عبد الله
ضربته" ، رفعت" أنت" بالابتداء ، ولم يكن فيما بعده ضمير له منصوب
، ولا متصل بمنصوب ، والعائد إليه التاء التي في" ضربته" ، فهي ضمير
مرفوع. وإذا قلت : " أكل يوم زيدا تضربه" فلا بد من نصب الظرف ؛ لأنه لا
عائد إليه ، فإذا نصبناه فلا بد من أن تنصبه بالفعل الظاهر ، أو المضمر الذي
ينصب" زيدا". فإن نصبناه بالظاهر فتقديره : " أزيدا تضربه كل
يوم" ، ويجب نصب" زيد" ؛ لأنه يلي حرف الاستفهام. وإن نصبناه
بالمضمر فتقديره : " أتضرب زيدا كل يوم تضربه" ، فيجب نصب"
زيد" بالفعل الذي تنصب به الظرف.
فإن قال قائل :
اجعله مرفوعا ويكون العائد إليه" فيه" محذوفه كقولك : " اليوم
لقيتك" ، على تقدير" لقيتك فيه" ، فيكون تقدير هذا : " أكل
يوم زيد تضربه فيه" ، فيكون
" كل" مبتدأ ، و" زيد" مبتدأ ثان ، و"
تضربه" خبر زيد ، و" زيد" وما بعده خبر" كل".
قيل له : هذا
جائز ، وإنما كلامنا على الاختيار ، فإذا قدرنا هذا التقدير لاتصل ضمير"
كل" ب" في" ، وهي في موضع نصب ، فوجب اختيار نصب" كل" ؛
لاتصال ضميره بالمنصوب.
وبيّن سيبويه
أن وقوع الظرف بين ألف الاستفهام ، وبين الاسم لا يمنعه الحكم الأول ، وكان الاسم
هو الذي بعد حرف الاستفهام ، والظرف ملغي ، كما كان ذلك في قولك : " ما اليوم
زيد ذاهبا" ، و" إن اليوم عمرا منطلق" ، كأنك قلت : " ما زيد
ذاهبا اليوم" ، و" إن عمرا منطلق اليوم".
قال
: (ويقولون : " أعبد الله أخوه تضربه" ، كما تقول : " أأنت زيد
ضربته").
فترفع"
عبد الله" بالابتداء ، و" أخوه" ابتداء ثان ، والهاء تعود
إلى" الأخ" ، وفي" تضربه" ضمير فاعل من" عبد الله"
، وصار" عبد الله" حاجزا بين ألف الاستفهام وبين الأخ ، كما بينا ذلك في
قولك : " أأنت زيد ضربته" ، وإن نصبته على حد قولك : " زيدا
تضربه" ، قلت : " أزيد أخاه تضربه" فترفع" زيدا"
بالابتداء على ما بينا ، وتنصب" الأخ" بفعل ، هذا الظاهر تفسيره ، كأنه
قال : " أزيد يضرب أخاه يضربه" ؛ لأن" الأخ" قد صار بمنزلة
اسم مبتدأ ليس قبله شيء ؛ لحيلولة" زيد" بينه وبين حرف الاستفهام.
قال أبو الحسن
: " أزيد أخاه يضربه" ، الوجه النصب ؛ لأن" زيدا" ينبغي أن
يرتفع بفعل مضمر وذلك الفعل يقع على أخيه ، وقد بينا هذا من قوله : في قولك :
" أأنت عبد الله ضربته". قال : وأما" أزيد أخوه تضربه" فليس
الفعل من" زيد" في شيء ؛ لأنه إنما وقع ها هنا على الأخ. هذا قول الأخفش
ومذهبه في هذه المسألة اختيار رفع" زيد" بالابتداء ؛ لأن"
زيدا" لا فعل له في آخر الكلام ، فيضمر قبله فعل له ، ولا وقع بعده فعل ينصب
ضميره فينصب. فالاختيار رفعه بالابتداء ، ورفع" الأخ" بابتداء ثان ،
و" تضربه" خبر للأخ والجملة خبر لزيد ، وقد خرج" الأخ" من
وقوع حرف الاستفهام عليه لفصل" زيد" بينه وبينها ، فصار بمنزلة المبتدأ
، كأنك قلت : " أخوك تضربه" ، وليس قبله كلام.
ومن قال في
الابتداء : " زيدا ضربته" ، وإن لم يكن الاختيار لزمه أن ينصب"
الأخ" ، فإذا نصبت" الأخ" نصبته بإضمار فعل ، كأنه قال : " تضرب
أخاك تضربه". فإذا قال ذلك ، وجب أن يختار نصب" زيد" أيضا. لأنه
نصب سببه الذي فيه ضمير يعود إليه ما بعده
فصار كأنه قال : " أزيدا ضربت أباه".
قال : فإن قال
قائل : " أزيدا أخاه تضربه" ، فما الذي ينصب" زيدا" و"
الأخ" أهما فعلان أم فعل واحد؟
فإن قلت : فعل
واحد ، فكيف يستقيم هذا ومعناهما مختلف؟ لأن" زيدا" ليس بمضروب ،
و" أخوه" مضروب ، ولا يجوز أن تضمر" لزيد" الضّرب ، كما
أضمرناه للأخ ، ألا ترى أنا إذا قلنا : " أزيدا ضربت أخاه" ، فإنما
تقدّر : " ألا بست زيدا ضربت أخاه" ، ولا تقدّر : " أضربت
زيدا". وإن كان نصبهما بفعلين مختلفين فكيف يصير" تضربه" تفسيرا
لفعلين مختلفين؟
ففي ذلك جوابان
: أحدهما : أن هذا الفعل الواقع بضمير" الأخ" ، قد دل على الفعل الذي
نصب" الأخ" ، فإذا دل عليه ، صار كالظاهر وعلم ما هو ، فإذا علم صار
تفسيرا للفعل الذي نصب" زيدا" ؛ لأن ما علم فهو كالظاهر وتقدير هذا :
أنا إذا قلنا : " أزيدا أخاه تضربه" ، نصبنا" زيدا ب لابست" ،
ونصبنا" الأخ" ب" تضرب" ، فكأنا قلنا : " ألابست زيدا
تضرب أخاه تضربه" ، " فتضربه" الثاني الذي وقع على ضمير الأخ ، قد
دلّ على" تضرب" الذي نصب" الأخ" ، ودل" تضرب" الذي
نصب" الأخ" على" لابست" الذي نصب" زيد" ، وهذا قول
الأخفش.
وفيه قول ثان :
وهو أنا قد رأينا الفعل الواحد قد يدل في حال على نظيره في اللفظ ، ويدل في حال
أخرى على غير نظيره ؛ فمن ذلك أنك إذا قلت : " أزيدا ضربته" فتقديره : أضربت
زيدا ضربته ، فدل" ضربته" على" ضربت" الذي هو نظيره. وإذا قلت
: " أزيدا ضربت أخاه" ، فتقديره : " ألابست زيدا ضربت أخاه" ،
فلم يدل" ضربت" على مثله ، إنما دل على" لابست" ، وإنما يدل
على فعل يليق بمعنى الاسم الذي قبله ، فإذا قلت : " أزيد أخاه تضربه" ،
دل تضربه على فعلين : فعل ينصب" الأخ" ، وفعل ينصب" زيدا" ،
فيدل الضرب على ملابسة وضرب في حال واحدة ، كما دل على الملابسة والضرب في حالين
مختلفين ، على حسب الأسماء التي قبله ، وقد يجوز أن تقول : " أعبد الله أخاه
تضربه" ، كما قلت : " أعبد الله ضربت أخاه" ، والاختيار ما وصفناه.
قال
سيبويه : (وقد يجوز الرفع في" أعبد الله مررت به" على ما ذكرت لك ،
و" أعبد الله ضربت أخاه" وأما قولك : " أزيدا مررت به" ، فبمنزلة قولك
: " أزيدا
ضربته"
والرفع في هذا أقوى منه في قولك : " أعبد الله ضربته" ، وهو أيضا قد
يجوز).
يعني أن الفعل
لم يقم في قولك : " أعبد الله مررت به" على ضمير" عبد الله" ،
وإنما وقع على الباء ، واتصلت الباء بضميره ، وكذلك" أعبد الله ضربت
أخاه" ، وقع الفعل على" الأخ" ، واتصل" الأخ" بضميره ،
وإذا قلت : " أعبد الله ضربته" ، فقد وقع الفعل على ضميره ، فصار"
عبد الله" من الفعل أقرب ، والفعل أشد له ملابسة ، فيكون النصب فيه أجود ،
والرفع فيه أضعف منه في قولك : " أعبد الله مررت به" ، و" أعبد
الله ضربت أخاه" ومع هذا يجوز الرفع في قولك : " أعبد الله ضربته"
، كما جاز الابتداء إذا قلت : " أعبد الله ضربته" ، وكما جاز فيما بعد
الجملة المبنية على فعل في قولك : " ضربت زيدا وعمرو كلمته" ، وإنما جاز
هذا ؛ لأنك تجعل" عبد الله" مبتدأ ، وتجعل ما بعده خبرا له ، فيصير
بمنزلة قولك : " أعبد الله أخوك".
وقال أبو الحسن
: تقول : " أزيدا لم يضربه إلا هو" لا يكون فيه إلا النصب ، وإن كانا
جميعا من سببه ؛ لأن المنصوب ها هنا اسم ليس بمنفصل من الفعل ، وإنما يكون الأول
على الذي ليس بمنفصل ؛ لأن المنفصل يعمل كعمل سائر الأسماء ، ويكون هو في مواضعها.
وغير المنفصل لا يكون هكذا ، وكذلك" أزيد لم يضرب إلا إياه" ؛ لأن
فعل" زيد" إذا كان مع اسم غير منفصل ، لم يتعد إلى" زيد" ولم
يتعد فعل" زيد" إليه ، ألا ترى أنك لا تقول : " أزيدا ضرب" ،
وأنت تريد : " زيدا ضرب نفسه" ولا" أزيد ضربه" وأنت تريد أن
توقع فعل" زيد" على" الهاء" ، و" الهاء" لزيد ؛
فلذلك لم يعمل في" زيد".
قال أبو سعيد :
أعلم أن الأخفش ذكر هاتين المسألتين ، وبناهما على أصول النحويين وتحتاج إلى شرح
وإيضاح ، وأنا أذكر ذلك مشروحا إن شاء الله تعالى.
اعلم أن
الأفعال المؤثرة إذا وقعت من الفاعل بنفسه لم يجز أن تتعدى ضميره المتصل إلى ضميره
المنفصل كقولك : " ضربتني" ، ولا" ضربتك" ، ولا ما أشبه ذلك ،
وإنما يقال : " ضربت نفسي" و" شتمت نفسي" ، و" أكرمت
نفسي" وما أشبه ذلك.
وإنما لم يجز
هذا من قبل أن أكثر العادة الجارية من الفاعلين ، أنهم يقصدون إلى إيقاع الفعل
بغيرهم ، فجرت الألفاظ على ذلك ، والذي يوقعون به الفعل غيرهم.
وأفعال الإنسان
بنفسه هي الأفعال التي لا تتعدى نحو : " قام" ، و" ذهب" ،
و" انطلق" ، وما أشبه ذلك ، فإذا أوقع الإنسان فعلا بنفسه على سبيل ما
يفعله بغيره أجرى
لفظه على لفظ غيره فلم يعدّه إلى ضميره ، وأتى بلفظ النفس فصار بمنزلة قولك
:" ضربت غلامي".
وكان أبو
العباس المبرد يقول : " إنما لم يجز ذلك ؛ لأن الفاعل بالكلية لا يكون مفعولا
بالكلية".
قال أبو سعيد :
وهذا قول يضمحل ، ويبطل ؛ لأنه لا خلاف بينهم أنه يجوز أن تقول : " ما ضربني
إلا أنا" ، وضمير الفاعل هو ضمير المفعول ، فلو كان الأول غير جائز ؛ لأن
الفاعل لا يكون مفعولا ، لما جاز هذا ؛ لأن الفاعل هو المفعول ، وإن كان الضمير
منفصلا.
وكان الزّجّاج
يقول : إنهم استغنوا بالنفس عن الضمير ، كما استغنوا بكليهما عن"
أجمعين" ، ألا ترى أنك تقول : " قام الزيدون أجمعون" ، و" قام
الزيدون كلهم" ، وتقول : " قام الزيدان كلاهما" ، ولا تقول :
" قام الزيدان أجمعان" فكذلك استغنوا ب" ضربت نفسي" عن
قولهم" ضربتني" ، والقول الذي بدأنا به أحسن.
ويجوز تعدي
ضمير الفاعل إلى ضميره في الأفعال الملغاة وهي : " ظننت" و"
حسبت" ، و" خلت" ، و" علمت" ، و" رأيت" من
رؤية القلب ، و" وجدت" من وجود القلب ، و" زعمت" ، تقول :
" رأيتني وادّا لك" ، و" وجدتك غنيا فطغيت". وإنما يتعدى ضمير
الفاعل في هذه الأفعال إلى ضميره الذي هو المفعول الأول دون المفعول الثاني ؛ لأنك
إذا قلت : " ظننتك منطلقا" ، " فالتاء" : الفاعل ، و"
الكاف" : المفعول الأول ، و" منطلقا" : المفعول الثاني ، وجاز ذلك
في هذه الأفعال واختير من قبل أن تأثير هذه الأفعال في المفعول الثاني ، لا في
المفعول الأول ، والدليل على ذلك أنك إذا قلت : " ظننت زيدا منطلقا" ،
فالشك لم يقع في" زيد" ، الذي هو المفعول الأول ، وإنما الشك في انطلاقه
، فصار المفعول الأول كاللغو في التحصيل.
وقد حكى الفراء
: أن العرب تقول : " عدمتني" ، و" فقدتني" ، فأجروهما مجرى
الأفعال الملغاة ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن فقدان الرجل نفسه وعدمه نفسه ليس مما يصح ،
ولا يتأتى ؛ لأنه محال أن يعدمه في التحصيل ، ألا ترى أنك إذا عدمت شيئا فمعناه
أنك تعلمه غير موجود ، ومحال أن تعلم أنك غير موجود ؛ لأنه إذا صح منك العلم فأنت
موجود ، فهذان الفعلان مستعاران ، والمعنى : عدمت غيري وفقدت غيري وإن كان الفعل
منقولا إلى لفظه. واعلم أنه لا يجوز أن يتعدى ضمير فعل إلى ظاهر نفسه في
الأفعال كلها ، ولا ظاهره إلى ضمير نفسه في هذه الأفعال المؤثرة. لا يجوز أن تقول
: " زيدا ضرب" ، فتنصب" زيدا" بضرب. وتجعل في" ضرب"
ضميرا من" زيد" وأوقع الفعل بظاهره ، ولا" الزيدين ضربا"
ولا" الهندات ضربن". ولا يجوز مثل هذا في الأفعال الملغاة ، لا تقول :
" زيدا ظن منطلقا" ولا" أخويك ظنّا منطلقين". ولا يجوز أيضا
أن تقول : " ضربه زيد" تريد : ضرب نفسه ، كما تقول : " ضرب غلامه
زيد" ويجوز هذا في باب الملغى ؛ تقول : " ظنه زيد منطلقا" ،
و" ظنهما الزيدان منطلقين".
وإنما لم
يجز" زيدا ضرب" ولا" الزيدين ضربا" ؛ لأنا لو أجزنا ذلك ، ثم
حذفنا المفعول بطل الكلام ، والمفعول فضلة في الكلام ، ولا يجوز أن تكون الفضلة لازمة
لا يجوز إلغاؤها.
وإذا كان
الضمير منفصلا كان بمنزلة الأجنبي ، وجاز فيه ما أبطلناه في غيره من الضمير المتصل
، تقول : " ما ضربني إلا أنا" ، و" ما ضربت إلا إياي" و"
ما ضرب زيدا إلا هو" ، وصار بمنزلة قولك : " ما ضربني إلا زيد" ،
و" ما ضرب زيدا إلا عمرو".
ثم نعود إلى
كلام الأخفش. قوله : " أزيدا لم يضربه إلا هو" ، لا يكون فيه إلا النصب
، وإن كانا جميعا من سببه ؛ يعني أن" زيدا" يعود إليه عائدان ؛ الهاء
التي في" يضربه" وهي منصوبة ، و" هو" التي بعد"
إلا" وهي مرفوعة ، ولا يجوز حمل" زيد" إلا على المنصوب ، وذلك أن
يحمل عليه الأول ، كأنا نقيم الأول مقامه ونحذفه ، فلو جعلناه مكان الهاء في"
يضربه" فالتقدير في الهاء أنها محذوفة فتصير كقولك : " أزيدا لم يضرب
إلا هو". وهذا كلام مستقيم جائز ؛ لأن الفاعل ضمير منفصل ، فكأنا قلنا :
" أزيدا لم يضرب إلا عمرو؟ ".
ولو حملناه على
الضمير المنفصل فرفعناه صار تقديره : " أزيد لم يضربه؟ " ولو قلنا ذلك
لفسد الكلام ؛ لأن ضمير الفاعل حينئذ كان يتعدى إلى ضميره ، وقد بيّنا أن ذلك لا
يجوز.
قال :
وكذلك" أزيد لم يضرب إلا إيّاه" ، لا يكون في" زيد" إلا الرفع
حملا على ضميره الذي في" يضرب" ؛ لأنا إذا فعلنا ذلك ، ثم حذفنا ذلك
الضمير ووضعنا" زيدا" موضعه صار التقدير : " لم يضرب زيد إلا
إياه" ، وهذا مستقيم ؛ لأن الظاهر يتعدى إلى
ضميره المنفصل ، وهو كالأجنبي.
ولو حملناه
على" إياه" ، فقلنا : " أزيدا لم يضرب إلا إياه" ، ثم حذفنا
الذي حملنا" زيدا" عليه لبقي" أزيدا لم يضرب" ، وهذا غير جائز
كما لم يجز" زيدا ضرب" ، وقد جعلت في" ضرب" ضميرا فاعلا
ل" زيد".
قال الأخفش :
فإن قيل : " آلخوان أكل عليه اللحم" ، فتنصب" الخوان" ، وأنت
لا تقول : " آلخوان أكل اللحم" ؛ فلأن" اللحم" اسم منفصل ،
والأسماء المنفصلة يعمل فعلها في الأول ، فجرت كلها على ذلك كما تقول : " الدرهم
أعطيه زيد".
قال أبو سعيد :
اعلم أن هذا الكلام قد اضطرب فيه النحويون ، ولم يتكلم فيه أحد منهم بكلام محصل.
وذلك أنه ليس في ظاهره ما يصله بما قبله ، فهو في الظاهر كالمنقطع مما قبله.
والوجه فيه عندي أنه متصل بالكلام الذي قبله ، وذلك أنا قد قدّمنا أن الاسم الذي
بعد حرف الاستفهام إنما يحمل على سببه ، أو ضميره في الفعل الذي بعده ؛ إذا كنا
متى ألغينا الضمير وصل الفعل إليه ؛ لأنه قال : " أزيدا لم يضربه إلا
هو" ، تنصب" زيدا" ؛ لأنك لو ألغيت الهاء التي في"
تضربه" ، لقلت : " أزيدا لم يضرب إلا هو" فقال له قائل : فأنت تقول
: " آلخوان أكل عليه اللحم" ، وأنت لو حذفت الضمير العائد إلى"
الخوان" ، فقلت : " آلخوان أكل اللحم" ، لبطل الكلام ، فلا ينبغي
أن نعتبر الأول بحذف ضميره ، وقد اعتبرت نصب" زيد" بحذف ضميره الذي
في" تضربه" ، ففصّل الأخفش فقال : " إذا قلنا : " آلخوان أكل
اللحم" لم يجز ؛ لأن" الخوان" لا يتعدى الفعل إليه إلا بحرف جر ،
كما لا يجوز أن نقول : " مررت زيدا" ، وقد يكون في الفعل ما يتعدى بغير
حرف جر كقولك : " لقيت زيدا" و" جزت زيدا" ، فالمعنى الذي
أفسد" آلخوان أكل اللحم" ، غير المعنى الذي أفسد قولنا : " أزيد لم
يضربه إلا هو" ؛ لأن المعنى الذي أفسد : " أزيد لم يضربه إلا هو" ،
هو أنّا لو حذفنا الاسم الذي حملنا رفع" زيد" عليه ، لبقي" أزيد لم
يضربه" ، ونحن إذا قلنا هذا ، صار الضمير متعديا إلى ضميره ، وقد بينا فساد
هذا في كل فعل.
وهذا الوجه
الآخر في" آلخوان أكل اللحم" إنما يفسد ؛ لحذف حرف الجر ، كما يفسد :
" مررت زيدا". والأسماء التي تتعدى أفعالها بغير حرف جر والتي تتعدى
بحرف تستوي أحكامها فيما يختار من نصب الأول ؛ ألا ترى أنك تقول : " أزيدا
مررت به" ، كما تقول : " أزيدا رأيت" فقال الأخفش : " اللحم"
في قولنا : " الخوان أكل عليه اللحم" اسم
منفصل ،
والأسماء المنفصلة لا يمتنع تعدي فعلها إلى كل شيء من الأسماء. وقولنا : أزيدا لم
يضربه إلا هو" ، و" أزيد لم يضرب إلا إياه" ، لو غيّرنا فقلنا :
" أزيد لم يضرب إلا هو" حملا على" هو" و" أزيدا لم يضرب
إلا إياه" ، حملا على" إياه" لصار تقدير الأول : " أزيد لم
تضربه" ، وصار تقدير الثاني : " أزيدا لم يضرب" ، فيكون الأول :
يتعدى ظاهره إلى ضميره ، والثاني يتعدى ضميره إلى ظاهره وكلاهما فاسد على ما
بيّناه. و" اللحم" اسم منفصل غريب أجنبي عن الأول.
ثم قال :
والأسماء المنفصلة يعمل فعلها في الأول ، فجرت كلها على ذلك ، كما تقول : " الدرهم
أعطيه زيد" ، يريد : أن الأسماء المنقطعة الأجنبية من المفعول ، الغريبة منه
، يعمل فعلها في المفعول إذا تقدم ، سواء تعدّت أفعالها بحرف ، أو بغير حرف ،
فيكون" آلخوان أكل عليه اللحم" ، بمنزلة قوله : " آلدرهم أعطيه
زيد" ، وإن كان" أكل" إنما قد تعدى إلى ضمير" الخوان"
بحرف ، و" أعطي" قد تعدّى إلى ضمير" الدرهم" بغير حرف ، كما
أن قولك : " أزيدا مررت به" ، بمنزلة قولك : " أزيدا لقيته" ،
وإن كان" المرور" متعديا بحرف ، و" اللقاء" بغير حرف.
قال : " فاللحم"
اسم منفصل ، إلا أنه لا يقع على" الخوان" إلا بحرف جر ، والأسماء غير
المنفصلة لم تجر مجراها ، لأن المنفصلة إن كان فيها ما لا يجوز أن يلفظ به ، فقد
يكون من المنفصلة ما يلفظ به كثيرا ، على أن يعمل أحدهما في الآخر ، فشبهت ما لا
يحسن في التقديم بهذا الذي يحسن ، وأما غير المنفصلة فلم يكن فيها شيء يشّبّه به.
قوله
: (والأسماء غير المنفصلة لم تجر مجراها).
يعني : الأسماء
المنفصلة الغريبة الأجنبية في التعدي إلى المفعول الذي هو غيرها ، لم تجر مجرى
تعدي الأسماء إلى ضميرها ، وقد بينا هذا.
وقوله : لأن المنفصلة
إن كان فيها ما لا يجوز أن يلفظ به ، فقد يكون من المنفصلة ما يلفظ به كثيرا ، على
أن يعمل أحدهما في الآخر.
يعني : أن
قولنا : " آلخوان أكل عليه اللحم" ، و" أزيدا مررت به" ، وما
أشبه ذلك من الأفعال التي تتعدى بحرف ، وفاعلها منفصل من مفعولها : إن كان لا يجوز
أن يلفظ به بحذف حرف الجدر ، ففي الأفعال ما يتعدى بغير حرف كقولك : " آلخوان
ألزم اللحم" ، و" أزيدا لقي عمرو".
وقوله
: (فشبهت ما لا يحسن في التقديم بهذا الذي يحسن).
يعني
فشبهت" آلخوان أكل عليه اللحم" ، و" أزيدا مررت به" ب"
آلخوان ألزم اللحم" ، و" أزيدا لقي عمرو".
وقوله
: (وأما غير المنفصلة فلم يكن فيها شيء تشبه به).
يعني : قولبك :
" أزيدا لم يضرب" ، إذا جعلت في" يضرب" ضميرا من"
زيد" ، وعديته إلى" زيد" ، وقولك : " لم يضربه زيد" ،
إذا عديت فعل" زيد" إلى ضميره وليس شيء يشبّه به من الأفعال ؛ لأن
الأفعال كلها لا يجوز فيها ذلك.
(ومما
يقبح بعده ابتداء الأسماء ، ويكون الاسم بعده إذا أوقعت الفعل على شيء من سببه
نصبا في القياس : " إذا" ، و" حيث" ، تقول : " إذا عبد
الله تلقاه فأكرمه" ، و" حيث زيدا تجده فأكرمه ؛ لأنهما يكونان في معنى
حروف المجازاة).
قال أبو سعيد :
قد قدمنا أن الحرف إذا كان بالفعل أولى ، فوليه اسم بعده فعل واقع عليه بضميره ،
فالاختيار إضمار فعل ينصب الاسم. و" إذا" فيها معنى المجازاة التي لا
تكون إلا بفعل ، فالاختيار إضمار فعل بعدها ، فقولك : " إذا عبد الله تلقاه
فأكرمه" ، تقديره : " إذا تلقى عبد الله تلقاه" ، وكذلك"
حيث" قد تجري مجرى" إذا" ، في قولك : " حيث زيدا تجده
فأكرمه" ، على تقدير : " حيث تجد زيدا تجده" وفيهما معنى المجازاة
؛ لأن قولك : " إذا عبد الله تلقاه" ، يوجب الأوقات المستقبلة كلها ،
ولا يخص وقتا دون وقت ، فهو بمنزلة قولك : " متى تلق عبد الله فأكرمه" ،
و" حيث تجد زيدا فأكرمه" ، يوجب الأماكن كلها ، لا يخص مكانا دون مكان ،
فهو بمنزلة" أين" فكأنك قلت : " أين تجد زيدا فأكرمه" ، غير
أن" متى" ، و" أين" يجزمان ، و" إذا" و"
حيث" لا يجزمان عند البصريين إلا في ضرورة الشعر وسترى ذلك إن شاء الله.
قال
: (ويقبح إن ابتدأت الاسم بعدهما إذا كان بعده الفعل لو قلنا : " اجلس حيث
زيد جلس" ، و" أو جلس"" إذا زيد يجلس" ، و" إذا زيد
جلس" كان أقبح من قولك : " إذا جلس زيد" ، و" إذا يجلس"
، " وحيث يجلس" ، و" حيث جلس").
يعني : أن
تقديم الفعل أولى ؛ لأنهما أحق بالفعل ، كما قبح" هل زيد جلس" و"
أين زيد جلس".
قال
: (والرفع بعدهما جائز ؛ لأنك قد تبتدئ بالاسم بعدهما فتقول : " اجلس حيث
عبد
الله جالس" ، و" اجلس إذا عبد الله جلس").
قال أبو سعيد :
اعلم أن سيبويه قدر حالة الرفع بعدهما على الابتداء بهذا الكلام الذي ذكرناه.
فأما" حيث"
: فلا شك في جواز ذلك فيها ؛ لأنها قد تخرج عن معنى المجازاة إلى أن يكون ما بعدها
مبتدأ وخبرا كقولك : " لقيته حيث زيد جالس" ، فيكون نظيرها من
الزمان" إذ" ، كقولك : " لقيته إذ زيد جالس".
وأما"
إذا" : فلا تقع إلا للمستقبل ، ولا تنفك عن معنى المجازاة ، فقال قائلون :
متى ما وليها الاسم ، فلا بد من أن يكون الفعل بعدها مقدرا ، فإذا قلت : " اجلس
إذا عبد الله جلس" فتقديره : " اجلس إذا جلس عبد الله جلس" كما أنا
إذا قلنا : " اجلس إن عبد الله جلس" ، فتقديره" اجلس إن جلس عبد
الله.
والبصريون
يقولون في قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) إن" أحد" يرتفع بفعل مضمر لا بالابتداء ،
كأنا قلنا : " وإن استجارك أحد من المشركين استجارك" ، فالظاهر تفسير
للمضمر قالوا :
ومما يقوى
أن" إذا" لا بد من فعل بعدها ، أنك لا تقول : " اجلس إذا عبد الله
جالس" كما تقول : " اجلس حيث عبد الله جالس" ، فقد بان الفصل
بينهما.
وللمحتج عن
سيبويه أن يقول : لما كانت" إذا" غير عاملة في الفعل كعمل"
إن" ، جاز أن يكون الواقع بعدها مرفوعا بالابتداء ، ويكون معنى المجازاة يصح
لها بالفعل الذي بعد المبتدأ ، كما أن" لو" هي بالفعل أولى ، وفيها معنى
المجازاة. فإذا قلت : " لو أنك جئتنا لأكرمناك" ، ف" إنك
جئتنا" في موضع اسم مبتدأ ، وجاز لأن الفعل الذي هو خبر" أن" يصحح
لها معنى المجازاة.
وللقائل الأول
أن يقول : قولك : " لو أنك جئتنا لأكرمناك" يرتفع أن بفعل مضمر ؛
لأن" أن" ، وما بعدها بمنزلة المصدر ، فيكون تقديره : " لو وقع أنك
جئتنا" على معنى : لو وقع مجيئك.
وللمحتج عن
سيبويه أن يقول : لو كان الأمر كذلك لجاز : " لو أن زيدا قائم
__________________
أتيناك" ، على معنى لو وقع هذا.
قال
سيبويه : (ول" إذا" موضع آخر يحسن فيه ابتداء الاسم بعدها فيه تقول : "
نظرت فإذا زيد يضربه عمرو" ؛ لأنك لو قلت : " نظرت فإذا زيد يذهب"
لحسن).
اعلم أن"
إذا" تقع في الجواب والمفاجأة ، ويليها المبتدأ والخبر ، فتكون هي وما بعدها
بمعنى الفعل ، فإذا قلت : " نظرت فإذا زيد يضربه عمرو" ، تقديره : نظرت
فأبصرت زيدا يضربه عمرو. وقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ، كأنه قال : قنطوا ف" إذا" وما بعدها بمنزلة
فعل ، غير أن الذي قصده سيبويه في هذا الموضع أن" إذا" لما كان حكمها أن
يليها الاسم لا الفعل ، ثم أتى بعد الاسم الذي وليها فعل واقع على ضميره لم تنصب
الاسم الأول بإضمار فعل بعد" إذا" ؛ لأن" إذا" في هذا الموضع
بالاسم أولى ، وليست بمعنى المجازاة ، فيختار الفعل بعدها. ألا ترى أنك تقول :
" نظرت فإذا زيد قائم" ، وقد كان بعض النحويين البصريين : يجعل"
إذا" بمنزلة الحضرة والمكان. فإذا قلت : " خرجت فإذا زيد قائم" ،
كأنه قال : " فحضرتي زيد قائم" ، و" زيد" مرفوع بالابتداء
و" قائم" خبره ، و" حضرتي" في موضع نصب ب" قائم" ،
كما تنتصب ظروف المكان. قال : ويجوز أن تقول : " خرجت فإذا زيد" ،
فتجعل" زيدا" مبتدأ ، و" إذا" خبره ، كأنه قال : " بحضرتي
زيد". ويجوز على ذلك أن تقول : " خرجت فإذا زيد قائما" ،
فتجعل" إذا" خبر" زيد" ، وينصب" قائما" على الحال.
ومن جعل"
إذا" حرفا ، وجعل ما بعدها مبتدأ وخبرا ، فإنه يقول : " خرجت فإذا
زيد" الخبر محذوف ، كأنه قال : " فإذا زيد بحضرتي". و"
الفاء" إذا كانت جوابا فالحذف فيها شائع ، كقولك : " إن تأتنا
فمحسن" تريد : فأنت محسن ، وجملة الحذف أنه متى فهم الكلام معه جاز ولا سيما
مع استعمال العرب لذلك.
قال
: (وأما" إذ" ، فيحسن ابتداء الاسم بعدها تقول : " جئت إذ عبد الله
قائم" و" جئت إذ عبد الله يقوم" ، إلا أنها في" فعل"
قبيحة تقول : " جئت إذ عبد الله قام" ، ولكن" إذ" إنما تقع في
الكلام الواجب ، فاجتمع فيها هذا ، وأنك قد تبتدئ الاسم بعدها ، فحسن الرفع).
__________________
يقول :
إن" إذ" ليس فيها معنى المجازاة والذي يليها الجمل. قال : فإذا
قلت" جئت إذ عبد الله أكرمه" ، كان الاختيار رفع" عبد الله" ؛
لأن" إذ" ليست بالفعل أولى ، كما كانت" إذا" ؛ لأن معناها
الماضي ، وهي لوقت مبهم ، يفسّر بالجملة التي بعدها ، والجملة التي بعدها مبتدأ
وخبر ، وفعل وفاعل ماضيا كان الفعل أو مستقبلا ، كقولك : " جئت إذ قام
زيد" ، و" إذ يقوم زيد" ، و" جئت إذ زيد قائم" ، و"
إذ زيد يقوم". فإذا قلت : " جئت إذ زيد قام" ، قبح أن يكون خبر
المبتدأ الذي بعدها فعلا ماضيا.
فإن قال قائل :
وكيف حسن" جئتك إذ قام زيد" ، ولم يحسن" جئتك إذ زيد قام"؟ قيل
له : لأن" قام" في قولك : " زيد قام" ، موضعها رفع بخبر
الابتداء ، وخبر الابتداء حكمه أن يكون الاسم أو ما يضارعه ، والفعل الماضي
مضارعته ليست بتامة ، وليس بالكلام حاجة إلى لفظ المضي ؛ لأن" إذا" قد
دلت على المضي. وإذا قلت : " جئتك إذ قام زيد" ، فليس" قام"
في موضع اسم.
فإن قال قائل :
فأنت تجيز" زيد قام" ولا تستقبحه ، و" قام" في موضع خبره ،
فلم استقبحت ذلك في" إذ"؟
قيل له : من أن
قولنا : " زيد قام" ، لو قلنا مكان" قام"" يقوم" ،
لتغير معنى الفعل ؛ لأن لفظ الفعل هو الذي يدل على الماضي والمستقبل ، وفي"
إذ" ، قد دل على الماضي ، فلا حاجة بالكلام إلى لفظ الماضي بعد الذي يدل على
المبتدأ. ثم قوى سيبويه الفرق بين" إذ" ، و" إذا" بأن :
قال
: (إن" إذ" إنما تقع في الكلام الواجب).
يعني : الماضي
، وارتفع الاسم المبتدأ والخبر بعدها ، ليرى أنها بعيدة من معنى المجازاة ، وأن
الرفع حسن في نحو قولك : " جئتك إذ زيد أكرمه".
قال
: (ومما ينتصب أوله ؛ لأن آخره ملتبس بالأول قولك : " أزيدا ضربت عمرا
وأخاه" ، و" أزيدا ضربت رجلا يحبه" ، و" أزيدا ضربت جاريتين
يحبهما" ، فإنما نصبت هذا الأول ؛ لأن الآخر ملتبس به إذ كانت صفته ملتبسة به).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الجملة إذا كان فيها ضمير اسم متقدم فهي من سبب ذلك الاسم ، وإن كان في
الجملة اسم ليس فيه ضمير ولا تبالي في أي موضع من الجملة وقع ذلك الضمير ؛ فإذا
قلت : " أزيدا ضربت عمرا وأخاه" ، ف" عمرو" منصوب ب"
ضربت" ،
و" أخاه" عطف عليه ، ف" عمرو" و" الأخ" منصوبان
ب" ضربت" متصلان به داخلان في جملته ، فصار بمنزلة قولك : " أزيدا
ضربت أخاه" ، ولو قلت : " أزيدا ضربت عمرا في داره" ، لكان الوجه
أيضا النصب ؛ لأن قولك : " في داره" ظرف وقع فيه الضرب فهو في
جملة" ضربت" ، وكذلك إذا قلت : " أزيدا ضربت رجلا يحبه" ،
ف" يحبه" نعت لرجل ، والنعت والمنعوت يتسلط عليهما عامل واحد. ف"
يحبه" في جملة" ضربت" فصار الاسم المنصوب ب" ضربت" من
سبب الاسم الأول ؛ إذ كان في جملته عائد إليه ، لو كان الذي يلي الاسم جملة ليس
فيها ذكر له ، ثم جئت بجملة أخرى ، فعطفتها على الجملة الأولى ، وفيها ذكر للاسم
لم يجز ، وذلك قولك : " أزيدا ضربت عمرا وضربت أباه" ، لأن قولك : "
وضربت أباه" جملة أخرى ، والجملة الأولى قد مضت بلا ذكر.
قال
: (وإذا أردت أن تعلم التباسه به ، فأدخله في الباب الذي تقدم فيه الصفة ، فما حسن
تقديم صفته فهو ملتبس بالأول ، وما لا يحسن فليس ملتبسا به).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الجملة قد تكون نعتا للنكرة وقد ينعت الاسم بفعل سببه ، فيجري النعت على
إعراب الأول ، ويرتفع سببه بفعله ، وذلك قولك : " مررت برجل أبوه قائم"
، " فأبوه قائم" نعت لرجل ، وفيها ذكر يعود إليه ، والقيام للأب ، فيجوز
تقديم القيام وإجراؤه على" رجل" ورفع" الأب" به ، فتقول :
" مررت برجل قائم أبوه" ، وكذلك" مررت برجل عمرو قائم في
داره" ؛ لأن" عمرو قائم في داره" جملة فيها ذكر يعود إليه ، فتقول
على هذا : " مررت برجل قائم في داره عمرو" ، ولو قلت : " مررت برجل
عمرو قائم" لم يجز أن يكون نعتا لرجل ، إنما يكون على أنك قطعت الكلام وخبّرت
بخبر ثان ، فلو قلت : " مررت برجل قائم عمرو" لم يجز.
فقال
سيبويه : (إذا أردت أن تعلم الملتبس ، فتقدم فعل الثاني ، فإن صلح أن يكون نعتا
للأول ، فهو ملتبس به ، وإن لم يصلح ، فليس بملتبس به).
ثم قال : (ألا
ترى أنك تقول : " مررت برجل منطلقة جاريتان يحبهما" ، و" مررت برجل
منطلق زيد وأخوه").
"
فمنطلقة" : نعت ل" رجل" ، والفعل للجاريتين ؛ لأن في"
يحبهما" ضميرا مرفوعا يرجع إلى الرجل ، و" مررت برجل منطلق زيد
وأخوه" ، فتصف الرجل بانطلاق زيد وأخيه ؛ لأنهما مرفوعان بفعل واحد.
قال
: (ولو قلت : " أزيدا ضربت عمرا وضربت أخاه" ، لم يجز) لأنك تقول : "
مررت برجل منطلق زيد وأخوه" ، ولو قلت : " مررت برجل منطلق زيد ومنطلق
أخوه" ، لم يجز ؛ لأنك إذا قلت ذلك فقد نعت" رجلا" بقولك : " منطلق
زيد" ، و" منطلق" هذا الأول لم يتصل به ما فيه ضمير لرجل ؛
لأن" أخاه" إنما ارتفع ب" المنطلق" الثاني ؛ فقط نعت"
رجلا" بفعل ليس فيه ما يعود إليه وذلك لا يجوز.
وإذا قلت :
" مررت برجل منطلق زيد وأخوه" ، فقد رفعت" الأخ" بمنطلق ، كما
رفعت به" زيدا" فلا عليك أقدمت أم أخرت.
وهذه مسائل
متصلة تشاكل : " أزيدا لم يضربه إلا هو" وتقول : " أأخواك ظناهما
منطلقين" ، فللأخوين هاهنا سببان مرفوع ومنصوب ، وهما جميعا غير منفصلين ،
فحملت الأول على المرفوع من قبل أن الظاهر يتعدى فعله في هذا الباب إلى مضمره نحو
: " ظنهما أخواك ذاهبين" ، ولا يتعدى فعل المضمر إلى الظاهر في هذا الباب
، ولكن يتعدى فعل المضمر إلى المضمر مثل قولك : " أظنني ذاهبا" ،
و" ظننتني ذاهبا" ، كما قد ذكرنا فيما تقدم أن الأفعال الملغاة التي
هي" ظننت" ، وأخواتها ، يتعدى ضميرها إلى ضميرها كقولك :
" أظني
منطلقا" و" ظننتني منطلقا" ، وظاهرها إلى ضميرها كقولك : " ظننته
زيدا منطلقا" ، ولا يتعدى ضميرها إلى ظاهرها كقولك : " الزيدين ظنا
منطلقين" فإذا قلت : " أأخواك ظناهما منطلقين" فللأخوين ضمير مرفوع
وهو الألف في" ظنّا" ، وضمير منصوب وهو" هما" ، فتحمله على
ضمير المرفوع ، لأنك إذا فعلت ذلك فجعلت" هما" مكان الضمير المرفوع ، صار"
أظنهما أخواك منطلقين" ، وهذا جائز سائغ كما ذكرنا وبيّنا ، ولو حملتهما على
ضميرها المنصوب فقلت : " أأخويك ظناهما منطلقين" لم يجز ؛ لأنك لو حذفت
ضميرها المنصوب لقلت : " أخويك ظنّا منطلقين" فكنت تنصب الظاهر بضميره
المضمر وقد بيّنا أن المضمر لا يتعدى إلى الظاهر.
قال
: (وتقول : " إياهما ظنّا منطلقين" لأنك تقول : " إياهما ظن أخواك
منطلقين" ، إذا كانا ظنّا أنفسهما ، فيتعدى فعل المضمر المرفوع إلى المضمر
المنصوب في هذا الباب في الشك والعلم).
يعني : أن قولك
: " إياهما ظنّا منطلقين" جائز ، كما يجوز : " ظننتني منطلقا"
، وإن
كان" إياهما" ضميرا منفصلا ؛ لأن الضمير المنفصل أقوى من الضمير
المتصل في تعدي الفعل إليه ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : " ظننتني منطلقا" ،
ثم قدّمت لقلت : " إياي ظننت منطلقا" إذ كان لا يمكن اتصال الضمير وهو
قبل الفعل.
قال : وتقول :
" أأنت حسبتك منطلقا" ، و" أإياك حسبتك منطلقا" فتحمل الضمير
الأول إن شئت على التاء في" حسبتك" ، فتقول : " أأنت" وإن شئت
على الكاف ، فتقول : " أإياك".
قال
: (وتقول : " عبد الله أخوك يضربه" كما فعلت في قولك : " أأنت زيدا
ضربته" ؛ لأن الاسم ها هنا بمنزلة مبتدأ ليس قبله شيء).
يعني : أنك لا
تنصب" الأخ" ، وإن كانت الهاء في" تضربه" تعود إليه.
وعلى مذهب
الأخفش" أعبد الله أخاه يضربه" ، على تقدير : أتضرب عبد الله أخاه تضربه
، وقد مضى الكلام في هذا.
قال
: (فإن نصبته على قولك : " زيدا ضربته" ، قلت : " أزيدا أخاه
تضربه").
يعني من قال :
" ضرب زيدا ضربه" في الابتداء ، وإن كان الاختيار غيره ، قال هاهنا : "
أزيدا أخاه تضربه" ؛ لأن" الأخ" بمنزلة مبتدأ إذ كان"
زيد" قد حال بينه وبين ألف الاستفهام.
قال
: (فأما قولك : " أزيدا مررت به" ، فبمنزلة قولك : " أزيدا
ضربته". والرفع في هذا أقوى منه في قولك : " أعبد الله ضربته" وهو
أيضا قد يجوز ، إذا جاز هذا ، كما كان ذلك فيما قبله من الابتداء ، وفيما جاء بعد
ما بني على الفعل ، وذلك لأنه ابتدأ" عبد الله" ، وجعل الفعل في موضع
المبني عليه كأنه قال : " أعبد الله أخوك").
أما قوله :
" أزيدا مررت به" ، بمنزلة قولك : " أزيدا ضربته" ، وقد بيّنا
ذلك ، وإن كنا ننصب" زيدا" في قولنا : " أزيدا مررت به"
بإضمار فعل يتعدى بغير حرف ، كأنا قلنا : " أجزت زيدا مررت به".
وقوله
: (والرفع في هذا أقوى منه في : " أعبد الله ضربته").
يعني : أن قولك
: " أزيد مررت به" ، أقوى من قولك : " أزيد ضربته" ؛ لأن
الفعل لم يصل إلى ضميره في" مررت" إلا بحرف ، وفي" ضربت" قد
وصل بغير حرف ، فبعد الاسم الأول في المرور أكثر من بعده في الضرب وقد بيّنا هذا.
وقوله
: (وهو أيضا قد يجوز).
يعني أن قولك :
(أعبد الله ضربته) جائز ، وإن كان الرفع في الآخر أقوى.
وقوله
: (كما كان ذلك في الابتداء).
يعني : كما كان
ذلك في قولك : " أعبد الله ضربته" ، وفيما جاء بعد ما بني على الفعل ،
وهو قولك : " كلمت عمرا وزيد ضربته".
وقوله
: (وذلك لأنه ابتدأ" عبد الله" وجعل الفعل في موضع المبني عليه).
يعني : أنك إذا
قلت : " أعبد الله ضربته" ، فقد جعلت" عبد الله" مبتدأ ،
و" ضربته" في موضع خبره كأنك قلت : " أعبد الله أخوه".
قال
: (ومن زعم أنه إذا قال : " أزيدا مررت به" ، فإنما نصبه بهذا الفعل ،
فهو ينبغي له أن يجره لأنه لا يصل إلا بحرف إضافة).
يعني : أن
قائلا إذا قال في قولنا : " أزيدا مررت به" ، إنما انتصب"
زيدا" بإضمار" مررت" ، كأنه قال : " أمررت زيدا مررت به".
يلزمه ألا ينصب" زيدا" ؛ لأن" مررت" لا يتعدى إلا بحرف جر ،
ويلزمه أن يقول : " أبزيد مررت به" ، فأبطل سيبويه قول من يقول : إنا
نقدر" أمررت زيدا مررت به".
ثم
قال : (وإذا أعملت العرب شيئا مضمرا ، لم تصرفه عن عمله مظهرا كالجر الرفع والنصب).
يعني : أن
العرب لا تقول : " مررت زيدا" مظهرا ، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن تقدر :
" أمررت زيدا مررت به" ثم أكد ذلك :
فقال
: (تقول : " وبلد" تريد : ورب بلد ، وتقول : " زيدا" ، تريد :
عليك زيدا ، وتقول : " الهلال" تريد : هذا الهلال ، فكله يعمل عمله
مظهرا).
فأراك أن ما
يعمل عمله مضمرا جرا ، أو رفعا ، أو نصبا ، فإنه يعمل مثله مظهرا ، ليعلم أن"
مررت" لو كان يتعدى بغير حرف جر مضمرا لتعدى مظهرا.
هذا باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين
والمفعولين مجرى الفعل ، كما يجري في غيره مجرى الفعل
اعلم أن أسماء
الفاعلين الجارية على أفعالهم ، نحو : ضارب ، وقاتل ، ومضارب ،
ومكسّر ، ومستغفر ، وما أشبه ذلك ، إذ كانت جارية على : ضرب ، وقاتل ، وكسر
، واستغفر ؛ وأسماء المفعولين : نحو : معطى ، ومكسوّ ، ومعرّف ، ومعلم إذا كانت
جارية على : أعطى ، وكسي ، وعرّف ، وأعلم ، تعمل عمل الفعل الذي جرت عليه ، إذا
كان الفعل للحال ، أو المستقبل ، وتتصرف تصرفه ، تقول : " هذا ضارب
زيدا" ، كقولك : " هذا يضرب زيدا" ، " وهو مكسوّ جبة" ،
و" معرّف زيدا" ، كما تقول : " هذا يضرب زيدا" ، و"
يعرّف زيدا" ؛ وإن شئت قلت : " هذا زيدا ضارب" ، و" هذا زيدا
معرف" ، كما تقول : " هذا زيدا يضرب" ، و" هذا زيدا
يعرف" ، فيجري مجرى الفعل ويعمل عمله.
فإن قال قائل :
لم أعملتم هذه الأشياء ، وهي أسماء عندكم؟
قيل له : حمل
الأسماء على الأفعال إذا كانت بينهما مشاكلة ، وحمل الأفعال على الأسماء جائز ،
فمن ذلك أنّا قد حملنا الأفعال المضارعة التي في أوائلها الزوائد الأربع على
الأسماء ، فأعربناها للمضارعة التي بينها وبين الأسماء ، وقد ذكرنا تلك المضارعة ،
ولم تكن في الأصل معربة ، ولا مستحقة للإعراب ، فبالمضارعة التي حملنا بها الأفعال
على الأسماء ، وأعربناها حملنا أيضا الأسماء على الأفعال فأعملناها ؛ لأن العمل في
الأصل للأفعال.
فإذا كان الاسم
في معنى فعل ماض لم تعمله ؛ لأن ذلك الفعل الذي الاسم في معناه لم يضارع الاسم
مضارعة تامة ، فيحمل عليه في إعرابه ، وكذلك الاسم لم يضارعه فيحمل عليه في عمله ،
لا تقول : " زيد ضارب عمرا أمس" ، ولا" وحشيّ قاتل حمزة يوم
أحد" ، لأنه في معنى : ضرب ، وقتل ، وليس بينهما مضارعة ، بل تضيفه إليه
فتقول : " زيد ضارب عمرو أمس" ، و" وحشيّ قاتل حمزة". وهذا
قول النحويين إلا الكسائي ، وقد مضت الحجة فيه.
فإذا قلت :
" هذا معطي زيد درهما أمس" ، " وهذا ظان زيد منطلقا أمس"
فكثير من أصحابنا يزعمون أن الثاني ينتصب بإضمار فعل آخر ، كأنه قال : " هذا
معطي زيد أعطاه درهما أمس" ، و" هذا ظان زيد ظنه منطلقا أمس".
والأجود عندي أن يكون منصوبا بهذا الفعل بعينه ، وذلك لأن الفعل الماضي فيه بعض
المضارعة ، ولذلك بني على حركة ، فبذلك الجزء من المضارعة يعمل الاسم الجاري عليه
عملا ما ، دون عمل الاسم الجاري على الفعل المضارع ، فعمل في الاسم الثاني لمّا لم
يمكن إضافته إليه ، لأنه لا يضاف إلى اسمين ، فأضيف إلى الاسم الذي قبله ، وصارت
إضافته بمنزلة التنوين له ، وعمل في الباقي
بما فيه من معنى الفعل والتنوين.
قال سيبويه
عقيب ذكر هذا : (وذلك
قولك : " أزيدا أنت ضاربه" ، " وأ زيدا أنت ضارب له" ،
و" أعمرا أنت مكرم أخاه" ، و" أزيدا أنت نازل عليه". كأنك قلت
: " (أزيدا) " أنت ضارب" ، " وأنت مكرم" ، و" أنت نازل"
، كما كان ذلك في الفعل ؛ لأنه يجري مجراه ، ويعمل في المعرفة كلها ، والنكرة
مقدما ومؤخرا ، ومظهرا ومضمرا).
يعني أن قولنا
: " أزيدا أنت ضاربه" بمنزلة قولك : " أزيدا أنت تضربه" وقد
بينا أن اسم الفاعل يجري مجرى الفعل ، ويعمل عمله.
فإن قال قائل :
فأنت إذا قلت : " أزيدا أنت ضاربه" ، الهاء في موضع جر ، فكيف نصبت زيدا
، وضميره مجرور؟
قيل له : جر
ضميره لا يمنع أن يكون" ضارب" في معنى الفعل ، كما كان ذلك في قولك :
" أزيد مررت به" ؛ لأن ضميره مجرور ، وإنما الجر في اللفظ ، والنية نية
التنوين في" ضاربه" ، كأنك قلت : " ضارب له".
وقوله
: (ويعمل في المعرفة والنكرة ، مقدما ومؤخرا ، ومظهرا ومضمرا).
يعني : اسم
الفاعل ، تقول : " هذا ضارب زيدا" ، و" قاتل رجلا" ، و"
هذا زيدا ضارب" ، و" هذا أباك قاصد" ، فذكر سيبويه هذا ؛ ليثبت أنه
يعمل عمل الفعل ويجري مجراه.
قال
: (وكذلك" آلدار أنت نازل فيها" وتقول : " أعمرا أنت واجد
عليه" ، و" أخالد أنت عالم به" ، و" أزيدا أنت راغب فيه"
؛ لأنك لو ألقيت" عليه" و" فيه" و" به" مما ها هنا
لتعتبر ، لم يكن ليكون إلا مما ينتصب ، كأنه قال : " أعبد الله أنت ترغب
فيه" ، و" أعبد الله أنت تعلم به" ، و" أعبد الله أنت تجد
عليه" ، فإنما استفهمته عن علمه به ، وعن رغبته فيه في حال مسألتك).
يعني : أن اسم
الفاعل إذا كان متعديا بحرف جر ، فليس يمنعه ذلك من أن يجري مجرى الفعل ، وينصب
الاسم الأول بإضمار فعل. فإذا قلت : " أعبد الله أنت راغب فيه" صار
بمنزلة قولك : " أعبد الله أنت ترغب فيه" ، إذا كان راغبا فيه ، فتنصب
كما نصبت في قولك : " أعبد الله أنت مررت به" وقد بينا هذا. وإنما
تنصب" عبد الله" في قولك : " عبد الله أنت راغب فيه" إذا كان
راغبا في معنى" يرغب" لا في معنى" رغبت".
وهذا معنى قول
سيبويه : (فإنما
استفهمته عن علمه به ، ورغبته فيه في حال مسألتك).
لأن الذي يعمل
عمل الفعل من أسماء الفاعلين ما كان في معنى الفعل المضارع ، وقد بيّنا ذلك.
قال
: (ولو قال : " آلدار أنت نازل فيها" ، فجعل" نازلا" اسما رفع
، كأنه قال : " آلدار أنت رجل فيها").
يعني : أن اسم
الفاعل قد يجوز ألا يذهب به مذهب الفعل ؛ لأنه اسم ، ويجري مجرى الأسماء التي لم
تؤخذ من الأفعال. فإذا فعلت ذلك لم تنصب الاسم الأول ؛ لأنه ليس بعده فعل ، ولا
شيء جعل في معنى الفعل ، ووقع على ضميره.
فإن قال قائل :
فإذا قلت : " آلدار أنت نازل فيها" ، فجعلته بمنزلة قولك : " آلدار
أنت رجل فيها" ، فما موضع" فيها" من الإعراب؟ وما العامل فيها؟
قيل له : أما
قولنا : " آلدار أنت رجل فيها" ، فموضعها رفع" باستقر" ، وهي
في موضع النعت لرجل ، كقولك : " مررت برجل في الدار" ، و" مررت
برجل خلفك" ، وأما قولك : " آلدار أنت نازل فيها" ، فقد يكون على
هذا الوجه ، وقد يكون أيضا على معنى الفعل الماضي ، ويكون عاملا في الظرف الذي
هو" فيها" بمعناها لا بلفظها ، وقد تعمل المعاني في الظروف ، ولا تعمل
في الأسماء. ألا ترى أنك تقول : " زيد غلامك اليوم" ، و"
غلام" ليس باسم فاعل ، ولا مأخوذ من الفعل.
قال
: (ولو قال : " أزيد أنت ضاربه" فجعله بمنزلة : " أزيد أنت
أخوه" ، جاز).
يعني : أنه لا
يجريه مجرى الفعل ، فيكون اسم الفاعل المضاف ، فإذا لم يجر مجرى الفعل كان
بمنزلة" أخوه" ، فإذا لم يكن مضافا ، كان بمنزلة" رجل".
قال
: (" ومثل" ذلك في النصب : " أزيدا أنت محبوس عليه" ، و"
أزيدا أنت مكابر عليه").
يعني : أنك إذا
قلت : " أزيدا أنت محبوس عليه" ، فعلى موضعه نصب ، وقد اتصل به
ضمير" زيد" ، فوجب أن ينصب" زيد" بإضمار فعل ، وكذلك في :
" أزيدا أنت مكابر عليه" ، كأنك قلت : " أتنتظر زيدا أنت محبوس
عليه" ، " واستلبت زيدا أنت مكابر عليه" ، وفي" محبوس"
و" مكابر" ضمير يقوم مقام الفاعل ؛ لأن معناه : أنت" تحبس عليه ،
وتكابر
عليه" ، وهذا من أسماء المفعولين التي تجري مجرى الفعل.
قال
: (وإن لم يرد به الفعل ، وأراد به وجه الاسم رفع).
يريد أن"
محبوسا" ، و" مكابرا" ، إذا ذهبت به مذهب" رجل" في
المسألة الأولى ، قلت : " أزيد أنت محبوس عليه" ، و" أزيد أنت
مكابر عليه".
قال
: (" وكذلك جميع هنا" فمفعول مثل يفعل ، وفاعل مثل يفعل).
يريد أن"
مفعول" مثل" محبوس" و" مكابر" وما أشبهه" يجري
مجرى" يحبس" ، و" يكابر" والأفعال التي لم تسم فاعلوها.
و" ضارب ، وشاتم ، ومقاتل ، ومكسّر" ، يجري مجرى" يضرب ، ويشتم ،
ويقاتل ، ويكسر". والأفعال التي تسمى فاعلوها.
قال
: (ومما يجرى مجرى فاعل من أسماء الفاعلين" فواعل" أجروه مجرى"
فاعله" ، حيث كان جمعه وكسّروه عليه ، كما فعلوا ذلك بفاعلين ، وفاعلات).
قال أبو سعيد :
قد قدمنا أن اسم الفاعل الجاري على فعله يعمل عمل الفعل على الشرط الذي شرطنا ،
وقد علمت أن الفاعل يثنى ويجمع على حسب ما يكون له من الفعل ، فيكون تثنية الفاعل
وجمعه جاريا مجرى الفعل ، وأحق الجموع بذلك الجموع السالمة ؛ لأنها تطرد على
الواحد اطرادا لا ينكسر ويسلم فيه لفظ الواحد ، وطريقته طريقة واحدة وذلك قولك :
" الزيدان ضاربان عمرا" ، و" الزيدون ضاربون عمرا" ، وتقدم
فتقول : " الزيدان عمرا ضاربان" ، و" الزيدون عمرا ضاربون" ،
و" الهندات ضاربات عمرا" و" عمرا ضاربات" ، ثم أجروا الجمع
المكسر على الجمع السالم ؛ إذ كانا جميعا جمعين ، وكان القصد فيهما إلى معنى واحد
، وإن كانت وجوه الجمع المكسر كثيرة ، فقالوا : " الزيدون ضراب عمرا ، وعمرا
ضراب" و" الهندات ضوارب عمرا ، وعمرا ضوارب" ثم أجروا اسم الفاعل
الذي فيه معنى المبالغة مجرى الفعل الذي فيه معنى المبالغة في العمل ، وإن لم يكن
جاريا عليه في اللفظ ، فقالوا : " زيد ضراب عبيده" ، و" قتاال
أعداءه" ، كما قالوا : " يضرب ، ويقتل" إذ أكثر ذلك منهم ،
فكان" قتّال ، وضرّاب" بمنزلة : قاتل ، وضارب ، كما كان" يضرّب
ويقتّل" بمنزلة يضرب ويقتل.
قال
: (فمن ذلك قولهم : " هنّ حواجّ بيت الله) وفي حواج نية التنوين ، كأنك قلت : " هنّ حواجّ بيت
الله" جمع" حاجة" وسقط التنوين ؛ لأنه لا ينصرف ، وتجوز إضافته
فتقول : " هن حواج بيت الله" ، ويسقط التنوين للإضافة لا لمنع الصرف.
قال أبو كبير
الهذلي :
ممّن حملن به
وهنّ عواقد
|
|
حبك النّطاق
فشبّ غير مهبّل
|
فصرف"
عواقد" للضرورة ، ونصب" حبك" ، ويروى" مما حملن به"
والهاء في" به" تعود إلى" ما" و" من".
(وقال العجاج :
أو الفا مكة من ورق الحمى)
فصرف" أو
الفا" ، ونصب" مكة" وقد ذكرنا في أول الكتاب الكلام في الحمى.
قال
: (وقد جعل بعضهم" فعّالا" بمنزلة" فواعل" ، فقالوا : " قطّان
مكة" و" سكان البلد الحرام" ، لأنه جمع" كفواعل").
قال أبو سعيد :
قد بينا أن الجمع المكسر ـ وإن كانت له وجوه ـ يجري مجرى الجمع السالم ، غير أن
بعض الجمع المكسر أشدّ اطرادا من بعض. فأشده اطرادا" فواعل" ، وذلك أنه
تكسير جمع الفاعل والفاعلة على القياس الذي لا ينكسر ؛ لأن قياس تكسير الاسم الذي
على أربعة أحرف أن تدخل ألف الجمع ثالثة ، ويفتح أوله ويكسر ما بعد الألف ، فلما
جمعت" فاعلة" أدخلت بعد ألف" فاعلة" ألفا للجمع ، وقلبت
ألف" فاعلة" واوا ، لاجتماع الساكنين ثم حملوا" فعّالا" عليه.
قال
: (وأجروا اسم الفاعل ، إذا أرادوا أن يبالغوا في الأمر ، مجراه إذا كان على
بناء" فاعل" ؛ لأنه يريد به ما أراد بفاعل من إيقاع الفعل ، إلا أنه
يريد أن يحدّث عن المبالغة ، فمما هو الأصل الذي عليه أكثر هذا المعنى : فعول ،
وفعّال ، ومفعال ، وفعل. وقد جاء" فعيل" : كرحيم ، وسميع ، وعليم ،
وقدير ، وبصير ، يجوز فيهن ما جاز في" فاعل" من التقديم والتأخير ،
والإضمار والإظهار).
قال أبو سعيد :
وقد بينا أن اسم الفاعل الذي فيه معنى المبالغة نحو قتّال ، وضرّاب ، يجري مجرى
اسم الفاعل ، كما كان : " يضرّب ، ويقتّل" ، يجري مجرى : يقتل ، ويضرب ،
فجمع سيبويه الأبنية التي تكون للمبالغة ، فقال : فعول ، وفعال مفعال وفعل ، وفعيل
،
__________________
كقولك : " ضروب زيدا" ، و" ضرّاب أخاه ، و" منحار
إبله" ، و" حذر أمرك" ، و" رحيم أباه" ، والتقديم في ذلك
كله والتأخير ، والإضمار والإظهار جائز.
قال
: (لو قلت : " هذا ضروب رؤوس الرجال" ، وسوق الإبل على : وضروب سوق
الإبل ، جاز ، كما تقول : " هذا ضارب زيد وعمرا" تضمر : " وضارب
عمرا").
ومثل هذا في
الفعل : " مررت بزيد وعمر" ، تخفض الأول ثم تضمر فعلا في معناه تعديه
إلى الثاني بغير حرف ، فكأنك قلت : " مررت بزيد ولقيت عمرا".
قال
: (ومما جاء فيه مقدما مؤخرا على نحو ما جاء في فاعل قول ذي الرمة :
هجوم عليها
نفسه غير أنه
|
|
متى يرم في
عينيه بالشّبح ينهض)
|
فعدى"
هجوم" إلى" نفسه" ، كأنه قال : " يهجم نفسه عليها". يصف
ظليما طرح نفسه على البيض ما لم ير إنسانا ، فإذا رأى إنسانا ، قام فتنحى حتى لا
يهتدي للبيض.
(وقال أبو ذؤيب
الهذلي :
قلى دينه
واهتاج للشّوق إنّها
|
|
على الشّوق
إخوان العزاء هيوج)
|
هذا البيت
منسوب إلى أبي ذؤيب في نسخة كتاب سيبويه ، وهو غلط وإنما هو للراعي يريد : أن
المرأة هيوج إخوان العزاء ، أي تهيجهم ، وتشوقهم ، وإخوان العزاء : ذوو الصبر ،
فإذا كانت تهيج ذوي البصائر والصبر فهي لغيرهم أهيج ؛ يصف امرأة ، وأنها لو تراءت
لراهب قلى دينه ، وذلك في بيت تاليه ، هذا البيت وهو قوله :
ليالي سعدى
لو تراءت لراهب
|
|
برومة بحر
عنده وحجيج
|
وقال القلاخ :
أخا الحرب
لباسا إليها جلالها
|
|
وليس بولاج
الخوالف أعقلا
|
أراد : لباسا
جلالها.
قال
: (وسمعت من العرب من يقول : " أما العسل فأنا شرّاب").
__________________
فنصب"
العسل"." بشراب" ، كما يقول : " أما العسل فأنا شارب ، أو أنا
أشرب".
قال :
(بكيت أخا اللأواء يحمد يومه
|
|
كريم ، رؤوس
الدّارعين ضروب)
|
أراد : ضروب
رؤوس الدارعين ، فقدم كما يقدّم في" ضارب".
وقال
: (أبو طالب ابن عبد المطلب):
ضروب بنصل
السّيف سوق سمانها
|
|
إذا عدموا
زادا فإنّك عاقر)
|
أراد : ضروب
سوق سمانها بنصل السيف.
وقال
: (وقد جاء في" فعل" وليس في كثرة ذلك. قال الشاعر :
أو مسحل شنج
عضادة سمحج
|
|
بسراته ندب
لها وكلوم)
|
قال أبو سعيد :
اعلم أن النحويين قد خالفوا سيبويه في تعدي" فعل ، وفعيل" ، وجريهما
مجرى الأفعال ، فقالوا : لا تتعدى ، ولا تعمل عمل الفعل. فلا يقال : " رجل
حذر عمرا" ، ولا" زيد رحيم أخاه". وقالوا من قبل أن" فعيل ،
وفعل" هما اسمان يبنيان للذات ، لا لأن يجريا مجرى الفعل ، فيكون كقولك :
" رجل كريم ونبيل" و" رجل عجل ، ومغث ، ولقس" ، إذا كان ذلك
في طبعه ، وأنشد سيبويه بيتين في تعدي" فعل" ، وبيتا في تعدي"
فعيل".
وقد أنكر
مخالفوه احتجاجه بالأبيات :
فأما البيت
الأول ، فقوله : أو مسحل شنج عضادة سمحج ـ وهو للبيد ـ وموضع الاحتجاج : نصب"
عضادة" ب" شنج" ـ فقال النحويون : انتصاب" عضادة" على
الظرف ، لا على المفعول به ، ومعنى" عضادة" : القوائم ، "
وشنج" لازم ، و" مسحل" : هو العير ، و" سمحج" : هي
الأتان ، كأنه قال على مذهب النحويين : أو حمار لازم يمنة أتان ، أو يسرة أتان ،
أو ناحية أتان على تقدير : لازم في ناحية أتان.
وقال المحتج عن
سيبويه : شنج : في معنى لازم والعضادة : هي القوائم ، وهي لا تكون
__________________
ظرفا ؛ كأنه قال : هو لازم قوائم سمحج. كما قال الآخر :
قالت سليمى
لست بالحادي المدلّ
|
|
ما لك لا
تملك أعضاد الإبل
|
" فأعضاد" بمنزلة"
عضادة" ، وقد نصبها" بتلزم". وشنج في معنى ذلك. والبيت الثاني
في" فعل" قوله :
حذر أمورا لا
تضير وآمن
|
|
ما ليس منجيه
من الأقدار
|
فنصب"
أمورا"" بحذر".
قال النحويون :
هذا بيت لا يصح عن العرب ، ورووا عن أبي عثمان المازني عن اللاحقي عن الأخفش أنه
قال : سألني سيبويه عن شاهد في تعدي" حذر" ، فعملت له هذا البيت. ويروى
أيضا : أن البيت لابن المقفع.
وأما الشاهد في
فعيل فقول ساعدة بن جؤيّة :
حتّى شآها كليل
موهنا عمل
|
|
باتت طرابا
وبات الليل لم ينم
|
فعدّى"
كليل" إلى" موهن".
فقال النحويون
: هذا غلط من سيبويه بيّن ، وذلك أن" الكليل" هو البرق ، ومعناه : البرق
الضعيف : وكذا" رجل كليل" إذا كان ضعيفا ، وفعله لا يتعدى كقولك : كلّ.
يكلّ ، ولا تقول : " كلّ زيد عمرا". و" الموهن" : الساعة من
الليل ، فهو ينتصب على الظرف ، وإنما يصف حمارا وأتانا. و" شآها" : في
معنى : شاقها ، يعني شاق هذه الحمير هذا البرق الضعيف في هذه الساعة من الليل ؛
حين نقلها من الموضع الذي كانت فيه ، إلى الموضع الذي كان منه البرق. و"
عمل" : تعب كليل ، ومعناه : أن هذا البرق الضعيف كان يبدو مرة بعد مرة ، فذلك
البدوّ عمل. وباتت الأتن طرابا وقد استخفها الشوق ، وبات الحمار لم ينم من الشوق
أيضا ، والنزاع إلى الموطن.
وقد خرج
لسيبويه أن" كليل" في معنى" مكل" ، ووزنه" مفعل" ،
و" فعيل" في معنى الفعل المتعدي مثل" عذاب أليم" و" داء
وجيع" ، إذا وضع بمعنى المؤلم والموجع ، والمؤلم
__________________
والموجع يتعديان ، فيصير كأنه : مكلّ موهنا بدوامه عليه ، كما يقال :
" أتعبت يومك" ، ونحو ذلك من المجاز والاتساع.
وكان الجرمي
يجيز تعدي" فعل" على مذهب سيبويه ، قال : لأنه جاء على وزن الفعل ،
فأشبه أن يكون جاريا مجراه وليس بكثير.
قال
سيبويه : (ويقال إنه لمنحار بوائكها).
يعني : سمانها
وأقناها ، الواحد بائك." ومنحار" : مفعال وقد ذكرناه.
قال
: (وفعل أقل من فعيل بكثير).
يعني : أن اسم
الفاعل على" فعيل" أكثر منه على" فعل". وقد ذكرنا مذهبه ومذهب
من يخالفه في تعدي" فعيل ، وفعل".
قال
: (وأجروه حين بنوه للجمع يعني فعولا كما كان أجرى في الواحد ؛ ليكون"
كفواعل" حين أجرى مجرى مثل" فاعل" ، من ذلك قول طرفة :
ثمّ زادوا
أنّهم في قومهم
|
|
غفر ذنبهم
غير فجر)
|
ويروى : فخر
يعني : أنهم أجروا جمع" فعول" ، و" فعيل" ، وما كان للمبالغة
في باب التعدي مجرى جمع" فاعل" في التعدي ، و" غفر" جمع :
غفور ، وقد عدوّه إلى ذنبهم ، كما عدوا غفور. وقال الكميت : وليس بحجة عند الأصمعي
:
شمّ مهاوين
أبدان الجزور مخا
|
|
ميض العشيّات
لا خور ولا قزم
|
فعدى"
مهاوين" إلى أبدان الجزور ، وهي جمع" مهوان" ، مثل : منحار ومعناه
: أنه يهين اللحم إذا نحر الجزور ، ويعطي.
قال
: (ومنه قدير ، وعليم ، ورحيم ، لأنه يريد المبالغة في الفعل ، وليس هذا بمنزلة
قولك : حسن وجه الأخ ؛ لأن هذا لا يقلب ولا يضمر ، وإنما حده أن يتكلم به في الألف
واللام ، أو نكرة ولا يعني أنك أوقعت فعلا سلف منك إلى أحد ، ولا يحسن أن تفصل
بينهما ، فتقول : " هو كريم" فيها حسب الأب).
يعني : أن
قديرا وعليما يتعدى كتعدي الفعل ، ويقدم المفعول عليه ويؤخر ويضمر
__________________
" عليم" ، فيعمل مضمرا وقد ذكرنا ذلك في اسم الفاعل ، وليس كذلك
الصفة المشبهة ، وهو : باب" حسن الوجه" ، إذا قلت : " هذا حسن
الوجه" لم يحسن أن تقول : " هذا الوجه حسن" ، كما تقول : " هذا
زيدا ضارب" فهذا هو معنى قوله : لأن هذا لا يقلب أي لا يقدم. وإذا قلت :
" هذا حسن الوجه والعين" لم يصلح أن تنصب العين بإضمار" وحسن
العين" كما تقول : " هذا ضارب زيد وعمرو" ثم تقول : " هذا
ضارب زيد وعمرا" ، على إضمار" وضارب عمرا" ، فاسم الفاعل يتصرف ،
ويجري مجرى الفعل ، وليس بمنزلة الصفة المشبهة.
وقوله
: (وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام لا يعني أنك إذا أوقعت فعلا سلف منك إلى
أحد).
يعني :
باب" حسن الوجه" ، وذلك أن" حسن الوجه" ليس بجار على فعله.
ألا ترى أنك لا تقول : " زيد يحسن الوجه ، ولا" زيد حسن الوجه" ،
وإنما شبه" حسن" بالفاعل ، والاختيار عندهم أن يكون في الوجه الألف
واللام ، وأن يضاف فيقال : " حسن الوجه" ، ولا يحسن أن تفصل بين"
حسن" وما يعمل فيه ، فتقول : " هو حسن في الدار الوجه" ، و"
كريم فيها الأب" ، كما تقول : " هو ضارب في الدار زيدا" ، وأنا
أستقصي الكلام في" حسن الوجه" إذا انتهيت إليه ، وأبين علله إن شاء الله
تعالى.
قال
: (ومما أجري مجرى الفعل من المصدر قوله :
يمرون
بالدّهنا خفافا عيابهم
|
|
ويخرجن من
دارين بجر الحقائب
|
على حين ألهى
الناس جلّ أمورهم
|
|
فندلا زريق
المال ندل الثّعالب)
|
قال أبو سعيد :
اعلم أن المصادر تعمل عمل الأفعال التي أخذت منها ، كما عملت أسماء الفاعلين عمل
الأفعال التي جرت عليها ، وذلك أن الفعل متوسط بين المصدر واسم الفاعل لأنه مأخوذ
من المصدر ، واسم الفاعل مأخوذ منه ، وقد تقدم ذلك. غير أن المصدر يضاف إلى الفاعل
والمفعول به ، لأنه متعلق بهما ، وهو غيرهما ، كقولك : " هذا بناء
الحائط" ، و" هذا بناء زيد". واسم الفاعل لا يضاف إلى الفاعل كما
يضاف إلى المفعول به ، لا تقول : " هذا ضارب زيد" ، والضارب هو"
زيد" لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، واسم
__________________
الفاعل قد يتقدم عليه المفعول ، والمصدر لا يتقدم عليه مفعوله ، تقول :
" هذا زيدا ضارب" على تقدير : " هذا ضارب زيدا" ، ولا يجوز :
" هذا زيدا ضربك" على تقدير : " هذا ضربك زيدا" ؛ لأن المصدر
مقدر" بأن" والفعل بعدها ، وما بعد" أن" لا يعمل فيما قبلها ،
لا يجوز أن تقول : " زيدا أن أضرب خير له" ، على تقدير : " أن أضرب
زيدا خير له" ، والمصدر يعمل في المفعول ، ماضيا كان أو مستقبلا ، واسم
الفاعل لا يعمل إلا في المستقبل والحال ، والفرق بينهما : أن المصدر وإن كان في
معنى الماضي فلا بد أن يقدر فيه" أن" والفعل ، فليس بمنزلة الفعل المحض
فصار محله كمحل الألف واللام إذا كانتا بمعنى الذي ، وهي تعمل في الماضي والمستقبل
، تقول : " أعجبني الضارب زيدا" في معنى : الذي يضرب زيدا ، ويعجبني :
" الضارب زيدا" بمعنى : " الذي يضرب زيدا" ، فيعمل في الماضي
والمستقبل إذا كان تقديره : تقدير الذي ضرب ، والذي يضرب. وكذلك المصدر ، تقديره :
أن ضرب ، وأن يضرب ، فقد خالف المصدر اسم الفاعل من ثلاثة أوجه :
أولهما :
الإضافة إلى الفاعل.
الثاني : أن
مفعوله لا يتقدم عليه.
الثالث : أنه
يعمل في الماضي والمستقبل ، واسم الفاعل لا يجوز فيه شيء من ذلك.
واعلم أنك إذا
أضفت المصدر جررت الذي تضيفه إليه بالإضافة ، وأجريت ما بعد المضاف إليه على حكم
إعرابه ، إن كان فاعلا رفعته ، إن كان مفعولا به نصبته ، كقولك : " أعجبني
قطع اللصّ الأمير" ، و" أعجبني دقّ الثوب القصّار" وإن شئت : "
أعجبني دق القصار الثوب" و" قطع الأمير اللص" ، وإن نونت وأدخلت
الألف واللام أجريت كل واحد منهما على حكمه ، فقلت : " أعجبني ضرب زيد
عمرا" ، و" أعجبني القطع اللص الأمير" ؛ لأنك أبطلت الإضافة بدخول
الألف واللام والتنوين.
وأما قوله : (فندلا زريق المال
ندل الثعالب) فظاهر كلام سيبويه أنه ينصب" المال" ب" ندلا" ، وأنا
أبين حقيقة ذلك :
اعلم أنك إذا
قلت : " ضربا زيدا" ، فتقديره : " اضرب ضربا زيدا" فضرب منصوب
بالفعل المضمر ، فينبغي أن يكون" زيد" منصوبا بذلك الفعل أيضا ، وقد جرت
عادة النحويين في هذا بأن يقولوا : إن" زيدا" منصوب بالضرب ، وحقيقته ما
ذكرته لك. غير أنهم توسعوا لما ناب المصدر عن الفعل الذي هو عامل أن يقولوا : إنه
عامل ، ولو أضمرنا
في قولنا : " ضربا زيدا" فعلا غير أضرب ، كقولنا : " أوقع
ضربا زيدا" ، و" افعل ضربا زيدا" ، حتى يكون الضرب مفعولا لذلك
الفعل المضمر لا مصدرا ، لانتصب" زيدا" ب" ضربا" ، فكان يصير
بمنزلة قولك : " رأيت ضربا زيدا" ، فعلى هذا قوله : " فندلا رزيق
المال" هو على وجهين :
إما أن يكون
على قولك : " اندل ندلا المال" ، فيكون" المال" منصوبا باندل
على الحقيقة و" ندلا" نائب عنه ، وإما أن يكون" ندلا"
منصوبا" بأوقع" أو" أفعل" ، فيكون" المال" منصوبا
ب" ندلا".
(وقال
المرار الأسدي :
أعلاقة أم
الوليد بعد ما
|
|
أفنان رأسك
كالثّغام المخلس)
|
قال : فالقول
في : " أعلاقة أم الوليد" ، كالقول في : " ندلا رزيق المال".
وقوله : "
بعد ما أفنان رأسك كالثّغام المخلس" : " أفنان" مبتدأ ،
وخبره" كالثغام" و" ما" وما بعدها من الابتداء والخبر بمعنى
المصدر ، كما تكون هي وما بعدها من الفعل بمعنى المصدر ، وكما تكون"
أنّ" المشددة وما بعدها من الاسم والخبر بمعنى المصدر ، فيكون تقديره :
" بعد إشباه رأسك الثغام" ، كما لو قلت : " بعد ما أشبه رأسك
الثغام" كان تقديره : " بعد إشباه رأسك"
(وقال
الشاعر :
بضرب
بالسّيوف رؤوس قوم
|
|
أزلنا هامهنّ
عن المقيل)
|
نصب"
رؤوسا" ب" ضرب" ، لما نونه.
قال
: (وتقول : " أعبد الله أنت رسول له" و" رسوله" ، لأنك لا
تريد" بفعول" ها هنا ، ما تريد به في" ضروب" ؛ لأنك لا تريد
أن توقع منه فعلا عليه ، فإنما هو بمنزلة قولك : " أعبد الله أنت عجوز له).
يعني :
أن" رسولا" لا يجري مجرى الفعل ، كما جرى" ضروب" مجرى الفعل ،
ألا ترى أنك لا تقول : " هذا رسول زيدا" ، كما تقول : " هذا ضروب
زيدا" ، وذلك أن
__________________
" الرسول" ، اسم للمرسل لا للمرسل عند مبالغة فعله ، فهو بمنزلة
عجوز التي لا تجري على الفعل ، فلذلك لا تنصب" عبد الله" ، الذي يلي حرف
الاستفهام ؛ لأنه ليس بعده فعل واقع به ولا اسم.
وتقول
: (" أعبد الله أنت عديل له" ، و" أعبد الله أنت له جليس" ؛
لأنك لا تريد مبالغة في فعل ، ولم تقل : مجالس ، فيكون" كفاعل" ، وإنما
هذا اسم بمنزلة قولك : " أزيد أنت وصيف له" أو" غلام له" ،
وكذلك : " البصرة أنت عليها أمير").
يعني :
أن" جليسا" و" أميرا" لا يجريان مجرى الفعل ، فلا ينصب الاسم
الأول. وإنما" جليس" ، بمنزلة" وصيف" ، وبمنزلة"
غلام" ، وكذلك" الأمير" ، وكذلك لو قلت : " أعبد الله أنت
مجالس له" لنصبت" عبد الله" ؛ لأن" مجالس" يجري على"
يجالس" فكأنك قلت : " أعبد الله أنت تجالسه" على تقدير : " أتجالس
عبد الله أنت تجالسه".
وقوله
: (لأنك لم ترد به مبالغة في الفعل).
يعني :
أن" جليس" ليس للمبالغة ، كما كان" رحيم". لا تقول : " هذا
جليس زيدا" ، كما تقول : هذا رحيم زيدا ، إذا كثرت منه الرحمة ؛ لأن"
الجليس" و" الأمير" قد يقال لهما في أول جلسة وأول إمارة.
قال
: (فأما الأصل الأكثر الذي يجري مجرى الفعل من الأسماء" ففاعل". وإنما
جاز في التي بنيت للمبالغة ؛ لأنها بنيت للفاعل من لفظه).
يعني : أن اسم
الفاعل الذي يعمل عمل الفعل ، ما جرى على الفعل ، كضارب من" ضرب" ومجالس
من" جالس" ، وما كان من مبالغة الفاعل" فضروب" و"
ضرّاب" و" جليس" و" أمير" على غير هذين الوجهين.
قال
: (وليست هي بالأبنية التي هي في الأصل أن تجري مجرى الفاعل ، يدلك على ذلك أنها
قليلة. فإذا لم يكن فيها مبالغة الفعل ، فإنما هي بمنزلة" غلام" و"
عبد" ؛ لأن الاسم على" فعل ويفعل" فاعل ، وعلى فعل ويفعل : مفعول).
يعني : أن
فعيلا ليست من الأبنية التي تجري مجرى الفعل في الأصل ، ومع ذلك فهي قليلة وإنما
يحتج بذلك كله ؛ ليرى أن" جليسا" لا يتعدى إذا لم يكن جاريا على الفعل ،
وإذا لم يكن فيها مبالغة الفعل ، ولم تكن للمبالغة. والاسم الجاري على الفعل أن
يكون من" فعل يفعل"" فاعل" نحو : " ضرب يضرب ضارب".
وفاعل يفاعل فهو مفاعل نحو :
" جالس يجالس فهو مجالس" وعلى" فعل يفعل" فهو"
مفعول" نحو : " كسي يكسى فهو مكسو". و" جولس يجالس فهو
مجالس". وجملة ذلك أن الاسم الجاري على الفعل في الفعل الثلاثي ، ما كان على
لفظ فاعل كقولك : " ضرب يضرب فهو ضارب" ، " وقتل فهو قاتل" ،
و" علم فهو عالم" ، و" سمع فهو سامع". وما كان على أكثر من
ثلاثة أحرف ، فإن اسم الفاعل الجاري عليه لفظ مستقبله وعدة حروفه ، إلا أن الحرف
الأول منه ميم" مضمومة" مكان حرف الاستقبال ، وما قبل آخره مكسور نحو
قولك : " قاتل فهو مقاتل" ، و" جالس فهو مجالس" ، و"
استغفر فهو مستغفر" ، و" تعشى فهو متعشّ" ، و" كسرّ فهو
مكسّر" ، و" دحرج فهو مدحرج" ؛ لأنك تقول : " يقاتل ، ويجالس
، ويستغفر ، ويتعشى ، ويكسر ، ويدحرج".
والمفعول من
الفعل الثلاثي على لفظ المفعول كقولك : " ضرب فهو مضروب" ، و" كسي
فهو مكسوّ". وإذا كان على أكثر من ثلاثة أحرف فهو على لفظ فعله المستقبل
كقولك : " قوتل فهو مقاتل ، وأعطي فهو معطى ، وكسّر فهو مكسر" لأنك تقول
: يعطى ، ويقاتل ، ويكسّر.
والأفعال التي
للمبالغة ، ولم تجر مجرى الفعل هي ما قدمناه ، وذلك خمسة أسماء : فعول ، وفعّال ،
ومفعال ، وفعل ، وفعيل على قول سيبويه.
قال
: (وتقول : " أكلّ يوم أنت فيه أمير" ، ترفعه لأنه ليس بفاعل ، وقد
خرج" كل" من أن يكون ظرفا ، فصار بمنزلة" عبد الله" ، ألا ترى
أنك تقول : " أكلّ يوم ينطلق فيه" صار كقولك : " أزيد يذهب
به").
يعني : أن قولك
: " أكلّ يوم أنت فيه أمير" ، يرتفع" كلّ" ، ولا يجوز نصبه
فيه ، وذلك لأن" أمير" ليس في معنى فعل ، فيضمر فعل" ينصب""
كل".
فإن قال قائل :
فإن الأسماء التي لا تجري مجرى الفعل ، تعمل في الظروف ، و" كل يوم" هو
ظرف ، فهلا أضمرت فعلا ينصبه ، ويكون" أمير" هذا الذي يفسر ذاك الفعل ،
كما كان" أمير" ينصب الظرف ، إذا قلنا : " زيد أمير يوم
الجمعة" ، " وزيد يوم الجمعة غلامك"؟
قيل له :
المعاني وإن كانت تعمل في الظروف ؛ فإنها لا تبلغ من قوتها أن تكون تفسيرا لفعل مضمر
إذا كانت هي لا تجري مجرى الأفعال ، ولا تكون لها تلك القوة.
ولو قلت :
" أكلّ يوم أنت أمير" نصبت ، وصار" كل" ظرفا للأمير ، فإذا
قلت : " أكلّ يوم أنت فيه أمير" فقد صارت" فيه" هو الظرف
للأمير ، وارتفع" كلّ" بالابتداء.
وكذلك إذا قلت
: " أكلّ يوم ينطلق فيه" وجعلت" فيه" في موضع رفع ، وأقمتها
مقام الفاعل في" ينطلق" ، ورفعت" كل" بالابتداء ، وفي هذا وجه
آخر وهو : أن تجعل في" ينطلق" ضمير مصدر تقيمه مقام الفاعل ،
فيصير" فيه" موضعه نصب ، فينتصب" كلا" ؛ لأن ضميره اتصل
بمنصوب على تقدير : أكلّ يوم ينطلق الانطلاق فيه ، ويكون الناصب" لكل
يوم" فعلا مبهما كأنك قلت : " أينطلق الانطلاق كلّ يوم ينطلق الانطلاق
فيه".
قال
: (ولو جاز أن تنصب" كل يوم" وأنت تريد بالأمير الاسم لقلت : " أعبد
الله عليه ثوب" ؛ لأنك تقول : " أكلّ يوم لك فيه ثوب").
يعني أن"
الأمير" ليس يجري مجرى الفعل ، فهو بمنزلة" الثوب" ولا ينصب الاسم
الأول ، وإن كان في الكلام ضمير يعود إليه متصل بمنصوب ؛ لأن ذلك المنصوب نصبه
كنصب الظرف بمعنى استقر ، فإذا قلت : " أعبد الله عليه ثوب" ، فتقديره :
أعبد الله استقر عليه ثوب كما تقول : " أعبد الله خلفه ثوب" ، ولو أظهرت
الاستقرار لنصبت" عبد الله" ، كقولك : " أعبد الله استقر عليه
ثوب" ، وقولك : " أكلّ يوم لك ثوب" تنصب" كل يوم" بالظرف
، والعامل فيه" لك" بمعنى الاستقرار ، فإذا شغلت الظرف بضمير"
اليوم" ، خرج" اليوم" من أن يكون ظرفا ، ورفعته بالابتداء فقلت :
" أكلّ يوم لك فيه ثوب" ، ولا تنصب" اليوم" ؛ لأنه لم يظهر
فعل ولا اسم فاعل.
قال
: (ولو جاز أن تقول : " أكلّ يوم لك فيه ثوب" ، لجاز أن تقول : " أعبد
الله عليه ثوب" ؛ لأن" عليه" في موضع نصب مثل : " فيه".
وهذا لا يجوز فيهما جميعا ، لأنك لم تأت بفعل).
هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغى
(وهي
ظننت ، وحسبت ، وخلت ، ورأيت ، وزعمت ، وما يتصرف من أفعالهن كأحسب وتظن).
قال أبو سعيد :
أعلم أن هذه الأفعال تدخل على جمل ، هي أسماء وأخبار قد كانت قائمة بنفسها فيحدث
الشك أو اليقين في أخبارها ، فلذلك لم يجز الاقتصار على أحد المفعولين دون الآخر ،
وذلك أنك إذا قلت : " حسبت زيدا منطلقا" ، فالمحسبة وقعت منك
على انطلاق زيد ، فلم يجز أن تقول : " حسبت زيدا" وتسكت ؛ لأن
المحسبة لم تقع على زيد فلا يجوز أن تأتي بما لم تقع عليه المحسبة ، وتترك ما وقعت
عليه المحسبة ولا يجوز أن تقول : حسبت منطلقا وتسكت ؛ لأن الانطلاق الواقع عليه
المحسبة إذا لم يكن مسندا إلى صاحب فلا فائدة فيه ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيد
منطلق" ، تكون الفائدة للمخاطب في الانطلاق ؛ لأن المخاطب قد عرف"
زيدا" ، ولا يجوز مع هذا أن تفرد أحدهما من دون الآخر ، فتقول : " زيد"
أو تقول : " منطلق" ؛ لأنك إذا قلت : " زيد" فلا فائدة فيه إذ
لم تخبر عنه بخبر. وإذا قلت : " منطلق" فلا فائدة فيه ؛ إذا لم تذكر
الذي له الانطلاق.
فهذه الأفعال
إنما دخلت على مبتدإ وخبر ، فلم يجز الاقتصار على أحدهما ، كما لم يجز الاقتصار
على المبتدإ ، ولا على الخبر. ويجوز ترك المفعولين جميعا والاقتصار على الفاعل
كقولك : " ظننت" ، و" حسبت" ؛ لأنك لم تأت باسم يحتاج إلى خبر
، ولا خبر يحتاج إلى صاحب ، وإنما جئت بالفعل والفاعل فكان الفعل خبرا عن الفاعل ،
وتم الكلام.
وفي بعض أمثال
العرب : " من يسمع يخل" ، فلم يأت" ليخل" بمفعول.
فإن قال قائل :
فما الفائدة في قولنا : " ظننت ، وخلت" ، إذا لم تأت بالمفعولين؟
قيل له :
الفائدة فيه : أنه وقع منه ظن ، ومخيلة ، كما تقول : أكلت ، وشربت" ، فتكون
الفائدة أنه وقع منه أكل ، ولا تذكر منه المأكول والمشروب.
وجميع الأفعال
التي تجري هذا المجرى أربعة عشر فعلا : منها سبعة أفعال قد سميّ فاعلوها ، وسبعة
أفعال لم يسمّ فاعلوها.
فأما السبعة
الأفعال التي سمي فاعلوها فهي : " ظننت ، وحسبت ، وخلت ، ورأيت من رؤية القلب
ـ ، ووجدت ـ من وجود القلب ـ وعلمت وزعمت ...".
وأما السبعة
التي لم يسم فاعلوها فهي : " أعلمت ، وأريت ، ونبئت ، وأنبئت ، وخبّرت ،
وأخبرت ، وحدّثت".
فأما ظننت
وحسبت وخلت فمعناها واحد ، وهو أن تتصور الشيء من غير استثبات ولا دليل عليه ، وقد
يكون ل" ظننت" فقط ، من هذه الثلاثة الأفعال مذهب يتعدى فيه إلى مفعول
واحد ، وهو أن تقول : " ظننت زيدا" ، بمعنى : اتهمت زيدا ، ومنه
" رجل ظنين" ، أي متهم قال الله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي بمتهم. وقد يكون بمعنى العلم كما قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي : يعلمون. وإنما يقع الظن بمعنى العلم في كل ما لم
تدركه الحواس ، وعلم من طريق الاستدلال ، فقلت : " ظننت الحائط مبنيا" ،
وأنت قد شاهدته ، لم يجز ذلك.
وأما"
رأيت" : فإنه من رؤية العين ، يتعدى إلى مفعول واحد كقولك : " رأيت
زيدا" أي : أبصرته ، وإن قلت : " رأيت زيدا قائما" من رؤية العين
فإنما ينصب" قائما" على الحال. ورؤية القلب لا يجوز فيها الاقتصار على
أحد المفعولين ولها مذهبان : مذهب العلم ، ومذهب الظن ، قال الله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً.
وَنَراهُ قَرِيباً) ، معناه : أنهم يظنونه بعيدا ، ونعلمه قريبا.
وأما"
وجدت" من وجود القلب ، فإنه بمعنى العلم يقال : " وجدت زيدا قائما
وجودا" بمعنى : علمته قائما ، قال الله تعالى : (وَجَدْناهُ صابِراً) أي : علمناه صابرا. وإذا كان" وجدت" في غير
معنى العلم ، فليس مصدره" وجودا" ، ولا يتعدى إلى مفعولين ، وذلك قولك :
" وجدت الضالة وجدانا" ، بمعنى : أصبتها و" وجدت على زيد
موجدة" ، إذا عتبت عليه ، وغير ذلك من وجوهها.
وأما : " علمت"
: فإن له مذهبين : إن أردت به معرفة الاسم ولم تكن عارفا به من قبل تعدّى إلى
مفعول واحد ، وصار بمنزلة" عرفت" فإذا قلت : " علمت زيدا
اليوم" ، فمعناه : عرفته اليوم ، ولم تكن عارفا به من قبل ، قال الله تعالى :
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أي : عرفتموهم ، ولم تكونوا عارفين بهم ، وكذلك قوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).
والمذهب الآخر
من مذهبيه : أن يكون العلم واقعا بالثاني ، كقولك : " علمت زيدا
__________________
منطلقا اليوم" ، وقد كنت عارفا بزيد من قبل ، غير أنك لم تكن عارفا
بانطلاقه ، فحدث لك العلم اليوم بانطلاقه.
وأما"
زعمت" فإنه قول يقترن به اعتقاد ومذهب ، وقد يصح ذلك وقد لا يصح.
ولو كان الزعم
في معنى القول المحض لحكي ما بعده ولم ينصب ، كما يفعل ذلك بعد القول ، إذا قلت :
" قال زيد عمرو قائم".
وأما السبعة
التي لم يسم فاعلوها : فهي متعدية إلى ثلاثة مفعولين ، إذا سمّي فاعلوها وأنا
أبينها في باب : " ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين".
فإذا تقدمت هذه
الأفعال عملت النصب في المفعولين جميعا ، ولا يجوز إلغاؤها كقولك : " علمت
زيدا منطلقا" ، و" علمت أباك ذاهبا" فهي في تقدمها بمنزلة : "
ضربت ، وأعطيت" في الإعمال. والمفعول الثاني منها خبر للمفعول الأول ، فهو
ينقسم أقسام الأخبار ، يجوز أن يكون اسما هو الأول كقولك : " حسبت زيدا
منطلقا" ، ويجوز أن يكون فعلا له ماضيا ، ومستقبلا كقولك : " حسبت زيدا
قام" ، و" حسبت زيدا يقوم" ، وظرفا له كقولك : " حسبت زيدا
عندك" وجملة فيها ذكر يعود إليه كقولك : " حسبت زيدا أبوه قائم" ،
و" حسبت زيدا إن تأته يأتك".
وإذا توسطت هذه
الأفعال ، أو تأخرت جاز إلغاؤها وإعمالها كقولك : " زيد حسبت منطلق" ،
و" زيدا حسبت منطلقا" ، و" زيد منطلق حسبت" و" زيدا
منطلقا حسبت".
وإنما جاز
إلغاؤها ؛ لأنها دخلت على جملة قائمة بنفسها ، فإذا تقدمت الجملة ، أو تقدم شيء
منها حصل لفظ الخبر ، ولم يكن في الكلام لفظ شك ، فحملت الجملة على منهاجها ولفظها
قبل دخول الشك ، وصير موضع الشك واليقين في تقدير ظرف له. فإذا قلت : " زيد
منطلق ظننت" ، أو" زيد ظننت منطلق" ، فكأنك قلت : " زيد منطلق
في ظني". وإذا تقدم الفعل ، حصل فعل الشك واليقين قبل ورود الاسم فعمل ؛ لأن
الاسم ورد وقد تقدم الشك في خبره ، فمنعه ذلك التقدم من أن يجري على لفظه الأول
قبل دخول الشك واليقين.
قال
سيبويه : (فإذا جاءت مستعملة فهي بمنزلة" رأيت" يعني : رؤية العين
و" ضربت ، وأعطيت" في الإعمال والبناء على الأول في الخبر والاستفهام ،
وفي كل
شيء).
يعني أنك إذا
أعملته ، فقد صيرته بمنزلة" رأيت ، وضربت ، وأعطيت" ، فينبغي أن تجرى
مجراه في البناء على الأول في الخبر والاستفهام وفي كل شيء.
أما البناء على
الأول في الخبر ، فقولك : " عبد الله حسبته منطلقا" ، كما تقول : "
عبد الله أعطيته درهما" ، تختار الرفع في هذا كما اخترته في" عبد الله
أعطيته درهما" ويجوز النصب فيه ، كما جاز في" عبد الله أعطيته
درهما". وأما الاستفهام فقولك : " أعبد الله حسبته منطلقا" ، يختار
النصب في هذا على تقدير : أتوهمت عبد الله حسبته منطلقا ، كما اخترت النصب
في" عبد الله أعطيته درهما" على تقدير : أعطيت عبد الله أعطيته درهما ،
ويجوز الرفع فيهما جميعا بالابتداء.
وقوله
: (وفي كل شيء).
يعني : في سائر
الأفعال التي تختار فيها النصب بعد الاستفهام ، كقولك : " أظنّ عبد الله
منطلقا" ، و" بكرا أظنه خارجا" ، كما تقول : " ضربت زيدا ،
وعمرا ضربته" ، وإن شئت قلت : " وبكر أظنه خارجا" ، كما تقول :
" ضربت زيدا وعمرا ضربته".
قال
: (فإن ألغيت قلت : " عبد الله أظنّ ذاهب" ، و" هذا أخال
أخوك" ، و" فيها أرى أبوك).
يعني :
أن" أرى" قد توسط بين الاسم والخبر ؛ لأن الاسم المبتدأ هو الأب ،
و" فيها" خبره ، و" أرى" كالفضلة ؛ لأنه شيء هجين في نفسه ،
فأشبه باب القول في الحكاية ، وضعف الفعل فيه إذا توسط ، أو تأخر.
وإذا تأخر كان
الإلغاء فيه أحسن منه إذا توسط ؛ لبعد الفعل من الأول. وكل عربي صحيح جيد. قال
اللعين المنقري :
أبالأراجيز
يابن اللّؤم توعدني
|
|
وفي الأراجيز
خلت اللوم والخور
|
" فاللؤم" مرفوع
بالابتداء ، و" الخور" عطف عليه ، " وفي الأراجيز" هو الخبر ،
و" خلت" ملغي ، فهو بمنزلة" فيها أرى أبوك".
قال
: (وإنما كان التأخير أقوى ؛ لأنه إنما يجيء بالشك بعد ما يمضي كلامه على
__________________
اليقين
، أو بعد ما يبتدئ ، وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك ، كما تقول : " عبد الله
صاحب ذاك بلغني" ، وكما قال : " من يقول ذاك تدري" ، فأخر ما لم
يعمل في أول كلامه. وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعد ما مضى كلامه على اليقين).
يعني : " زيد
قائم ظننت".
وقوله
: (وبعد ما يبتدئ وهو يريد اليقين).
يعني : " زيد
ظننت قائم".
وقوله
: (ثم يدركه الشك).
يكون هذا على
أحد وجهين : إما أن يبتدئ كلامه وليس في قلبه منه مخالجة شك ، فإذا مضى كله أو
بعضه على لفظ اليقين يعني : " زيد قائم ظننت" لحقه فيه الشك ، كما تقول
: " عبد الله أمير" ، على طريق الإخبار بذلك ، و" عبد الله صاحب
ذاك" ، وأنت لم تشاهده ، وإنما خبرت به ، فيجب أن تستظهر في خبرك ، فتقول :
" بلغني" أي : هذا الذي قلته فيما بلغني ، لا فيما شاهدته. ولو
قدمت" بلغني" لم يجز أن تقول : " بلغني عبد الله أمير" ؛
لأن" بلغني" فعل ولا بد له من فاعل ، و" عبد الله أمير" جملة
، ولا تكون فاعله ، ولكن تقول : " بلغني إمارة عبد الله" ، و"
بلغني أن عبد الله أمير". وإذا قلت : " عبد الله صاحب ذاك بلغني" ،
ففاعل" بلغني" مضمر فيه ، كأنك قلت : " بلغني ذاك الأمر ، أو ذاك
البلاغ" ، كما تقول : " من يقول ذاك بلغني" ، كما تقول : " من
يقول ذاك تدري؟ " مستفهما ، فيرتفع بالابتداء ، " ويقول" خبره ،
و" تدري" ملغي ، ولو قدمته لعمل" تدري" في" من" ،
وصارت" من" بمعنى الذي ، وخرجت عن الاستفهام.
وقد يقول
القائل : " زيد ظننت قائم" ، و" زيد قائم ظننت" ، وهو في أول
كلامه شاك ، غير أنه لا يعمل الشك ، كما يقول القائل : " زيد أمير" ،
وهو يضمر" عندي" أو" في ظني" ، فإذا جاز هذا ، جاز أن يظهر ما
أضمر ، ويكون الكلام على حاله ، كما قال الله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) ، فقال المسؤول : " لبثت يوما أو بعض يوم"
على ما كان عنده الأغلب.
قال
: (فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل الفعل قدم أو أخّر ، كما
__________________
قال
: " زيدا رأيت ، ورأيت زيدا" ، وكلما طال الكلام ضعف التأخير إذا أعملت).
يعني : إذا
ابتدأ الاسم وفي نيته أن يأتي بفعل الشك ، نصب ، كما يفعل ذلك في" ضرب"
وإذا طال الكلام ضعف التأخير الإعمال ، إذا قلت : " زيدا منطلقا اليوم
أظن" ، كان أضعف من قولك : زيدا أظن منطلقا و" زيدا منطلقا أظن" ،
أضعف من قولك : " زيدا أظن منطلقا" قال : كما يضعف" زيدا قائما
ضربت" ؛ لأن الوجه أن تقول : " ضربت زيدا قائما" ، و" زيدسا
قائما ضربت" أضعف من" زيدا ضربت قائما" ، ولا يجوز في"
ضربت" إلا النصب.
قال
: (ومما جاء في الشعر معملا في زعمت قول أبي ذؤيب :
فإن تزعميني
كنت أجهل فيكم
|
|
فإني شريت
الحلم بعدك بالجهل)
|
أعمل الزعم في
النون والياء ، وهي المفعول الأول ، و" كنت أجهل فيكم" جملة في موضع
المفعول الثاني :
(وقال
النابغة الجعدي :
عددت قشيرا
إذ عددت فلم أسأ
|
|
بذاك ولم
أزعمك عن ذاك معزلا)
|
فالمفعول الأول
: " الكاف" في" أزعمك" ، وهو في موضع نصب والثاني : معزلا.
والتقدير : فلم
أزعمك معزلا عن ذاك.
قال
: (وتقول : " أين ترى عبد الله قائما" ، و" هل ترى زيدا
ذاهبا" ؛ لأن" هل" ، و" أين" ، كأنك لم تذكرهما ، لأن ما
بعدهما ابتداء فكأنك قلت : " أترى عبد الله قائما" و" أنظن عمرا
منطلقا").
يعني : أنك إذا
جعلت" قائما" هو المفعول الثاني ، فقد تقدم الفعل المفعولين جميعا ،
فوجب النصب فيهما ، ويكون" أين" ظرفا ملغي في صلة قائم.
قال
: (فإن قلت : " أين" ، وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة" فيها" إذا
استغنى بها الابتداء ، قلت : " أين ترى زيدا ، وأين ترى زيد").
يعني : أنك إذا
جعلت" أين" خبرا لقولك : " أين زيد" ، و" في الدار
زيد" ، ثم جئت بالظن بعد" أين" ، جاز الإعمال والإلغاء ، فتصيره
بمنزلة قولك : " قائما ظننت زيدا ، وقائم ظننت زيد" ، ويجوز أن تقول :
" أين ترى زيد قائما" ، على أنك تجعل" أين" خبر"
زيد" وتلغي" ترى" ، وتنصب" قائما" على الحال.
قال
: (واعلم أنّ" قلت" ، إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكي بها ، وإنما
يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا نحو قولك : " قلت زيد منطلق" ،
لأنه يحسن أن تقول : " زيد منطلق" ، ولا تدخل" قلت" ، وما لم
يكن هكذا أسقطنا القول عليه).
قال أبو سعيد :
اعلم أن" قلت" ، و" قال" ، و" تقول" ، وما تصرف منه
أفعال لا بد لها من فاعلين ، وهي بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى من وجه ، وبمنزلة الفعل
الذي يتعدى إلى مفعول من وجه.
فأما شبهها
بالفعل الذي لا يتعدى ، فلأنها لا مفعول لها تصل إليه تنصبه غير مصدرها والظرف
والحال فيها. لا تقول : " قال زيد عمرا" ، كما لا تقول : " قام زيد
عمرا" ، ولكن تقول : " قال زيد قولا يوم الجمعة منطلقا خلفك" ، كما
تقول : " قام زيد قيامك خلفك يوم الجمعة ضاحكا".
وأما شبهها
بالفعل الذي يتعدى إلى مفعول فهو أن الجمل تقع بعدها على لفظ اللافظ بها ، فتكون
الجمل التي تقع بعدها بمنزلة المفعول ، وذلك قولك : " قال زيد عمرو
منطلق" ، و" قال زيد قام أخوك ، وقال زيد" إن عمرا منطلق (فقوله):
" عمرو منطلق" ، و" قام أخوك" جملة وقع عليها القول فلم
يغيرها ، وحكيت بعدها على لفظ اللافظ بها ، وصارت في موضع المفعول المنصوب فيما
يتعدى من الأفعال إلى مفعول وهو قولك : " ضرب زيد عمرا".
وأما
قوله : (وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما).
يعني : ما كان
جملة قد عمل بعضها في بعض.
وقوله
: (لا قولا).
يعني : لا
مصدرا له ؛ لأنه يعمل في مصدره ، كقولك : " قال زيد قولا حسنا" و"
قال كلاما حسنا" لأنه في معنى : " قال قولا جيدا" ، وقال
خيرا" ، " وقال حقا" ؛ لأنه يراد : " قال قولا خيرا ، وقال
قولا حقا".
وقوله
: (ولا تدخل" قلت").
يعني : أن
الجمل التي يقع عليها القول يجوز أن تلفظ بها ، ولا يدخل القول ؛ لأنك إذا قلت :
" قال زيد عمرو منطلق" جاز أن تقول : " عمرو منطلق" ، من غير
أن تقول : " قال زيد".
وقوله
: (وما لم يكن هكذا سقط القول عليه).
يعني : ما لم
تكن جملة نحو المصدر والظرف والحال سقط القول عليه وعمل فيه.
قال
سيبويه : (وتقول : " قال زيد إن عمرا خير الناس" ، وتصديق ذلك قول الله
تعالى : (وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) ولو
لا ذلك لقال" أن" (الله)).
يعني :
أن" أنّ" إنما تكسر إذا وقعت مبتدأة ، ولم يعمل فيها ما قبلها كقولك :
" إن زيدا قائم" ، فإذا عمل فيها ما قبلها فتحت كقولك : " بلغني أن
زيدا قائم" ، و" ظننت أن زيدا قائم" ، فلما قال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ... إِنَّ
اللهَ ... ،) علمنا أن القول لم يعمل فيها ، وأن الجملة حكيت على لفظها
قبل أن يدخل القول ، ولو عمل القول لقال" أنّ" على ما بينا في الظن.
قال
: (وكذلك" جميع" ما تصرف من فعله. إلا" تقول" وحدها في
الاستفهام. شبهوها في الاستفهام ب" تظن" ، ولم يجعلوها ك"
يظن" ، و" أظن" في الاستفهام ؛ لأنه لا يكاد يستفهم المخاطب عن ظنّ
لغيره ، ولا يستفهم (هو) إلا عن ظنه ، فإنما جعلت ك" تظن" ، كما
أن" ما" ك" ليس" في لغة أهل الحجاز ما دامت في معناها. فإذا
تغيرت عن ذلك أو قدم الخبر رجعت إلى القياس ، وصارت اللغات فيها كلغة بني تميم).
قال أبو سعيد :
أعلم أن القول قد يستعمل في معنى الظن والاعتقاد وذلك أن القول والظن يدخلان على
جملة ، فتصورها في القلب هو الظن أو العلم ، والعبارة عنها باللسان هو القول ومن
ذلك قول القائل : " هذا قول فلان" ، و" مذهب فلان".
ومن العرب من
يعمل القول إعمال الظن على كل حال ، فيقول : " قلت زيدا منطلقا" ، كما
تقول : " علمت زيدا منطلقا" ، و" ظننت زيدا منطلقا" ، وفيهم
من يجعله بمنزلة الظن إذا استفهم المخاطب خاصة ، فيقول : " أقلت زيدا
منطلقا" ، و" أتقول زيدا منطلقا" ، على معنى : " أظننت زيدا
منطلقا" ، و" أتظنّ زيدا منطلقا" ، وإنما يفعل ذلك في المخاطب إذا
استفهم عن ظنه ؛ لأن أكثر ما يقول الإنسان لمخاطبه : " أتقول كذا وكذا في كذا
، أو ما تقول في كذا" إنما يريد به ما يعتقد إلى أي شيء يذهب. ألا ترى أنك لو
قلت
__________________
لفقيه : " ما تقول في تحريم المسكر؟ " فقال لك : " أنا أذهب
إلى تحليل القليل منه" لكان معناه : أنا أعتقد هذا وأذهب إليه ، وكثر هذا
المعنى فأجروه مجرى الظن. فإذا قالوا للمخاطب : " أتقول زيد عمرو منطلق"
حكوا ؛ لأنه لم يكن أن يستفهم المخاطب عن ظن غيره ، فجعله سيبويه بمنزلة تشبيه أهل
الحجاز" ما"" بليس" إذا لم يقع استثناء ولم يقدم الخبر ، فإذا
وقع الاستثناء أو قدم الخبر رجع إلى القياس ، لأنها لم تقو أن تعمل مع التغيير
عمل" ليس" كما لم يقو القول في غير استفهام المخاطب عمل الظن ؛ لأنه لم
يكثر كثرته فيه فرجع إلى القياس.
قال
: (ولم تجعل" قلت"" كظننت").
يعني :
أن" قلت" في غير الاستفهام ، لم تجعل كظننت في نصب المفعولين بعدها ،
لأن الأصل فيها أن يكون ما بعدها محكيا ، فلم تحمل على" ظننت" في
مواضعها كلها ، كما أن" ما" لم تحمل على" ليس" في مواضعها
كلها ، والأصل فيها أن يكون ما بعدها مبتدأ ، كما كان الأصل في" قلت" أن
يكون ما بعدها مبتدأ.
قال
: (وسأفسر لك ـ إن شاء الله ـ ما يكون بمنزلة الحرف في شيء ، ثم لا يكون معه على
أكثر أحواله ، وقد بيّن بعضه فيما مضى).
يعني : أن
الأشياء التي قد يشبّه بها الشيء في حال ، ويفارقه في أحوال كثيرة منها ما قد مضى
في أول الكتاب ، نحو تشبيه الفعل بالاسم في حال ، وتشبيه" ما"" بليس"
، وغير ذلك.
ومنها ما يأتي
من بعده ، ثم مثل الاستفهام في : تقول.
فقال
: (وذلك نحو قولك : " متى تقول زيدا منطلقا" ، و" أتقول عمرا
ذاهبا" ، و" أكلّ يوم تقول عمرا منطلقا" ، لا يفصل بها كما لم يفصل
بها في : " أكلّ يوم زيدا تضربه").
يريد : " متى
تظن زيدا" ، و" ألا تظن عمرا".
وقوله
: (ولا يفصل بها).
يعني : أنك إذا
قلت : " أكلّ يوم تقول عمرا منطلقا" فالاستفهام قد وقع على"
تقول". فلذلك جعلته في مذهب" تظن" ، و" كل يوم" لم يفصل
بها بين ألف الاستفهام وبين" تقول" ، كما لم يفصل في قولك : " أكلّ
يوم زيدا تضربه" ، وكأنك قلت : " أزيدا
تضربه كل يوم" ، فكذلك ها هنا ، كأنك قلت : " أتقول عمرا منطلقا
كل يوم".
قال
: (وتقول : " أأنت تقول زيد منطلق" رفعت ؛ لأنه فصل بينه وبين حرف
الاستفهام ، كما فصل في قولك : " أأنت زيد مررت به" فصارت بمنزلة
أخواتها ، وصارت على الأصل).
قال أبو سعيد :
يعني : أنّ" أنت" ، فصلت بين الاستفهام وبين" تقول" ،
فخرجت" تقول" عن الاستفهام ، فعادت إلى حكمها وحكاية ما بعدها ، كما أنك
إذا قلت : " أأنت زيد مررت به" فصلت" أنت" بين ألف الاستفهام
وبين" زيد" ، فرفع" زيد" كحكمه في الابتداء. قال الكميت شاهدا
لجعل" تقول" في مذهب" تظن" في الاستفهام :
أجهّالا تقول
بني لؤيّ
|
|
لعمر أبيك أم
متجاهلينا
|
وقال عمر بن
أبي ربيعة :
أما الرّحيل
فدون بعد غد
|
|
فمتى تقول
الدّار تجمعنا
|
قال
: (وإن شئت رفعت بما نصبت فجعلته حكاية).
يعني : إن شئت
حكيت بعد القول في الاستفهام ، ولم تجعله في مذهب" تظن" فقلت : " أتقول
زيد منطلق".
قال أبو عثمان
: غلط سيبويه في قوله : وإن شئت رفعت بما نصبت ؛ لأن الرفع بالحكاية ، والنصب
بإعمال الفعل.
يريد أبو عثمان
: أنك إذا قلت : " أتقول : زيد منطلق" ، " فزيد" مرفوع
بالابتداء ، وإذا قلت : " أتقول زيدا منطلقا" ، فهو منصوب بالفعل.
فقال المجيب عن
سيبويه : إن هذا لا يذهب على من هو دون سيبويه ولم يغز سيبويه هذا المغزى ، إنما
أراد : وإن شئت رفعت في الموضع الذي نصبت ، ولم يعرض لذكر العامل كما تقول :
" زيد بالبصرة" ، وإنما تريد : " في البصرة".
وقد يجوز أن
يكون المعنى : وإن شئت رفعت ما نصبت ، والباء زائدة كما قال تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي : تنبت الدّهن وكما قال الشاعر :
__________________
هن الحرائر
لا ربّات أحمرة
|
|
سود المحاجر
لا يقرأن بالسّور
|
يريد : لا
يقرأن السور.
(وزعم
أبو الخطاب وسألته عنه غير مرة : أن أناسا من العرب يوثق بعربيتهم ، وهم بنو سليم
يجعلون باب" قلت" أجمع مثل" ظننت").
وقد ذكرنا هذا
فيما مضى.
قال
سيبويه : (واعلم أن المصدر قد يلغى كما يلغى الفعل وذلك قولك : " متى زيد ظنك
ذاهب" ، و" زيد ظني أخوك" ، و" زيد ذاهب" ظني").
ف"
زيد" يرتفع بالابتداء ، وخبره" ذاهب" ، و" متى" ظرف
للذهاب" وظنك" منصوب بفعل مضمر ملغي ، كأنك قلت : " متى زيد تظن
ظنك ذاهب" ، وجاز إلغاؤه ؛ لأنه بين الاسم والخبر وليس بمتقدم.
قال
: (فإن ابتدأت فقلت : " ظني زيد ذاهب" ، كان قبيحا ضعيفا ، كما
قبح" أظن زيد ذاهب").
يعني : أن قولك
: " ظني زيد ذاهب" ـ لما قدمت" ظني" ـ صار بمنزلة قولك : "
أظن ظني زيد ذاهب" ، وأنت لا تقول : " أظن زيد ذاهب".
قال
: (وهو في" أين ، ومتى" أحسن إذا قلت : " متى ظنك زيد ذاهب".
و" متى تظن زيد منطلق" ؛ لأن قبله كلاما ، وإنما يضعف هذا في الابتداء
كما ضعف" غير ذي شك زيد ذاهب" ، و" حقا عمرو منطلق").
قال أبو سعيد :
اعلم أن سيبويه قد أجاز في هذا الموضع إلغاء الظن ، وقد تقدم الفعل المفعولين ،
إذا كان قبل الظن شيء متصل بالمفعول الثاني. وذلك أنه أجاز" متى تظن عمرو
منطلق" ، وعمر : مبتدأ ومنطلق : خبره ، و" متى" ظرف للانطلاق ،
و" متى ظنك زيد ذاهب" ، ف" زيد" : مبتدأ و" ذاهب" :
خبره ، و" متى" : ظرف للذهاب ، وقد رد عليه ذلك أبو العباس وغيره ،
وقالوا : هذا نقض للباب ، وذلك أنه شرط : متى ما تقدم الفعل لم يلغ ، وأعمل ، فوجب
أن يعمل ها هنا.
__________________
فقال المحتج
عنه : إنما شرط سيبويه أن يتقدم الفعل ، وليس قبله شيء في صلة ما بعده.
قال
: (إذا تقدم شيء مما بعده ، قبل أن يأتي بفعل الشك ، فقد مضى ذلك اللفظ على غير
الشك والظن جاز فيه الإلغاء ، كما جاز في" أين تظن زيدا" إذا تقدم الخبر).
وقوله
: (وإنما يضعف هذا في الابتداء كما ضعف : " غير ذي شك زيد ذاهب" ،
و" حقا زيد منطلق").
قال أبو سعيد :
واعلم أن" حقا ، وغير ذي شك" ، وما جرى مجراهما يؤكد به الجمل وتحقق ،
ولا تأتين مبتدأ ، إذا أردت ذلك المعنى لأنك إذا قلت : " زيد منطلق حقا"
فقد وكدت إخبارك بانطلاقه ، كأنك قلت : حق ذلك حقا ؛ لأن قولك : " زيد
منطلق" ظاهره يدل على أنك تخبر بما تحقه وما هو صحيح عندك ، فلا تقدم هذا
التأكيد ، ويؤتى بالجمل بعده فضعف تقديم الظن كضعف تقديم هذا لأنه نقيضه وذلك أن
قولك : " زيد منطلق حقا" في باب التحقيق كقولك : " زيد منطلق
ظنا" في باب الظن.
قال
: (وإن شئت قلت : " متى ظنّك زيدا أميرا" كقولك : " متى ضربك
عمرا".
يعني : أنك
تجعل" ظنك" : مبتدأ ، و" متى" : خبره ، و" زيدا
أميرا" مفعولي الظن.
قال
: (" وقد" يجوز أن تقول : " عبد الله أظنه منطلق" تجعل هذه
الهاء على ذاك ، كأنك قلت : " زيد منطلق أظن ذاك").
قال أبو سعيد :
إذا قلت : " عبد الله أظنه منطلق" فهذه الهاء" للظن" لا"
لعبد الله" ، و" أظنه" ملغي وليس بالقوي في الكلام ، وذلك أن هذه
الهاء إذا جعلتها للظن الذي هو المصدر ، فقد أكدت" أظن" بذكر الظن ،
وأنت قد ألغيت" أظن" برفعك" عبد الله" و" زيدا" ،
فالأجود أن هذه الهاء إذا جعلتها للظن الذي هو المصدر أن تقول : " عبد الله
أظن منطلق" وإذا قلت : " عبد الله أظنه منطلق" فهو أجود من أن تقول
: " عبد الله أظن ظنا منطلق" و" أظن ظني منطلق ؛ لأنك إذا قلت :
" أظنه" ، فليس فيه لفظ الظن ، وإنما هو كناية عنه ، والظن أبلغ في
التأكيد ؛ لأنه من لفظ" أظن" ، وكأنه أعيد لفظه تاكيدا.
وكذلك إذا قلت
: " عبد الله أظنّ ذاك منطلق" وجعلت" ذاك" إشارة إلى المصدر ،
كان أجود من أن تقول : " عبد الله أظنّ الظن منطلق" ؛ لأنه أبعد من لفظ
التأكيد ، وإن جعلت هذه الهاء لعبد الله لم يجز إلا نصب" منطلقا" ؛ لأنه
يكون" عبد الله" مبتدأ ، والهاء
في" أظنه" المفعول الأول ، و" منطلقا" المفعول الثاني.
وقد تقدم الظنّ
المفعولين ، فلا يجوز الإلغاء ، ويجوز أن تقول في الابتداء : " أظنه عبد الله
منطلق" ، وأظنه عبد الله منطلقا" ، على مذهبين مختلفين.
أما إذا قلت :
" أظنه عبد الله منطلق" ، جعلت الهاء للأمر والشأن وجعلتها للمفعول
الأول ، وجعلت الجملة التي هي مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني ، كما تقول :
" إنه زيد قائم" ، و" كان زيد قائم" ، وإن نصبتها جعلت"
الهاء" ضمير الظن ، وصارت تأكيدا للفعل ، فكأنك قلت : " أظن ظني عيد
الله منطلقا".
قال
: (وإنما يضعف هذا إذا ألغيت ؛ لأن الظن يلغى في مواضع" أظن" ، حتى يكون
بدلا من اللفظ به ، فكره المصدر هنا ، كما قبح أن يظهر ما أنتصب عليه سقيا ، وسترى
ذلك ـ إن شاء الله ـ مبنيا ولفظك بذاك أحسن من لفظك بظني).
يعني : إنما
يضعف" عبد الله أظنه منطلق" لأن" أظن" قد ألغى والمصدر تأكيد
، فكره أن يؤتى بتأكيد شيء قد ألغى.
فإن قال قائل :
فأنت قد تقول : " عبد الله ظنك منطلق" وتجيء بالمصدر ، وقد ألغيت.
قيل : المصدر
هاهنا بمنزلة الفعل ؛ لأنك لم تأت بالفعل وجعلت المصدر بدلا من اللفظ به ، فكأنك
لفظت بالفعل بلا مصدر.
وقوله
: (كما قبح أن يظهر ما انتصب عليه" سقيا").
يعني : قبح أن
تقول : " عبد الله أظن ظني منطلق" ، فتجمع بين الفعل والمصدر ، كما قبح
أن تقول : " سقاك الله سقيا لك" ؛ لأن الكلام" سقاك الله" ،
أو" سقيا" ، ولا يجمع بينهما.
قال
: (ولفظك بذاك أحسن من لفظك" بظني"). وقد مر هذا.
قال
: (ألا ترى أنك لو قلت : " زيد ظنّي منطلق" لم يحسن ولم يجز أن تضع ذاك
موضع" ظني").
يريد :
أن" ظني" أدل على" أظن" من ذاك. فلذلك صار" ذاك"
أبعد من التأكيد. ألا ترى أنك تقول : " زيد ظني منطلق" ولا تقول :
" زيد ذاك منطلق".
قال
: (وترك ذاك في" أظن" إذا كان لغوا أقوى منه إذا وقع على المصدر).
يعني : أن قولنا
: " زيد أظن منطلق" أقوى من قولنا : " زيد أظن ذاك منطلق" ،
لأن" ذاك" إشارة إلى المصدر الذي هو تأكيد.
قال
: (وأما" ظننت أنه منطلق" فاستغنى بخبر" أنّ" ، تقول : "
أظن أنه فاعل كذا وكذا ، فتستغنى. فإنما يقتصر على هذا إذا علم أنه مستغن
بخبر" أن").
قال أبو سعيد :
اعلم أن" أنّ" المشددة وما بعدها من الاسم والخبر يكون بمعنى المصدر
ويقع في موضع الفاعل ، والمفعول ، والمجرور :
فوقوعها في
موضع الفاعل قولك : " بلغني أنك منطلق" أي : " بلغني انطلاقك".
ووقوعها في
موضع المفعول قولك : " عرفت أنك منطلق" أي : عرفت انطلاقك.
ووقوعها مجرورة
قولك : " أخبرت بأنك منطلق" أي : بانطلاقك.
وإذا وقعت في
موضع مفعول فهي تقع موقع المفعول الواحد ، وتنوب عنه في الفعل الذي يتعدى إلى
مفعول واحد كما ذكرنا في : " عرفت أنك منطلق". وموقع المفعولين في الفعل
الذي يتعدى إلى مفعولين وتنوب عنهما وهو قولك : " ظننت أنك منطلق" ،
و" حسبت أن بكرا خارج" ، فنابت" أن" وما بعدها عن مفعولي
المحسبة ، كما أنك إذا قلت : " علمت لزيد منطلق" نابت الجملة ، وإن كانت
هي غير عاملة فيها عن المفعولين.
ولو أظهرت
المصدر الذي في معناه" أن" ، فقلت : " حسبت انطلاقك" لاحتجت
إلى مفعول ثان ؛ لأن" أن" قد وجد بعدها اسم وخبر لو حذفتهما واقتصرت
عليهما ، كانا مفعولي الظن ، والمصدر ليس فيه شيء من ذلك.
وكان بعض
البصريين يقول : إن المفعول الثاني مضمر فإذا قلنا : " حسبت أن زيدا
منطلق" فتقديره : " حسبت أن زيدا منطلق واقعا" ، كأنا قلنا :
" حسبت انطلاق زيد واقعا". والقول ما قاله سيبويه ؛ لأن هذا المضمر لا
يجوز إظهاره ولا مانع له من الإظهار لو كان مضمرا ، ولأنا إذا قلنا : " حسبت
زيدا منطلقا" ، أو" حسبت أن زيدا منطلقا" كان الأمر فيهما واحد من
جهة المعنى.
قال
: (ويجوز أن تقول : " ظننت (زيدا) " إذا قال : " من تظن؟ " أي
من تتهم؟ فتقول : " ظننت زيدا" كأنه قال : " اتهمت زيدا" وعلى
هذا قيل : " ظنين" أي متهم).
يعني :
أن" ظننت" ، يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى" اتهمت" وقد
ذكرنا هذا.
قال
: (ولم يجعلوها ذلك في : " حسبت ، وخلت ، وأرى" ؛ لأن من كلامهم أن يدخلوا
المعنى في الشيء لا يدخل في مثله).
يعني : أنهم لم
يقتصروا في" حسبت وأرى وخلت على مفعول واحد كما فعلوا ذلك في الظن ، واتسعوا
في" ظننت" ؛ لأنها أكثر دورا في ألسنتهم وهم لها أكثر استعمالا ، وقد
ذكرنا ما يكون له حكم في كلام العرب لا يكون لنظائره ، وسيأتي من بعد إن شاء الله
تعالى.
قال
: (وسألته عن أيهم ؛ لم لم يقولوا : أيهم مررت به؟ فقال : لأن" أيهم" هو
حرف الاستفهام ، ولا تدخل عليه الألف ، وإنما تركت الألف استغناء فصارت بمنزلة
الابتداء ، ألا ترى أن حد الكلام أن يؤخر الفعل فتقول : " أيهم رأيت" ،
كما تفعل ذلك في أما ، فهي نفسها بمنزلة الابتداء).
قال أبو سعيد :
أمّا قوله : (وسألته).
يعني : الخليل
وكذلك كل ما كان مثله في الكتاب إذا لم يتقدم ذكر إنسان.
وأما قوله : (أيهم مررت به).
فالاختيار أن
تقول : " أيهم مررت به" و" أيهم ضربته". فقال قائل : لم لم
يجز النصب وهو استفهام ، كما اختير في قولك : " أزيدا ضربته"؟
فقال : لأنا
إذا قلنا : " أزيدا ضربته" ، فحرف الاستفهام منفصل من زيد وهو أولى
بالفعل ، فأضمرنا بينه وبين" زيد" فعلا ينصبه. و" أيهم" لم
يدخل عليها حرف ، وإنما صيغ له لفظه الاستفهام ولم يكن فيه حرف هو أولى (بالفعل)
فصار بمنزلة" زيد ضربته" في الاختيار. ومن قال : " زيدا
ضربته" على إضمار" ضربت زيدا ضربته" ، قال : " أيهم مررت
به" و" أيهم ضربته" على تقدير : " أيهم لاقيت مررت به"
و" أيّهم ضربت ضربته" فتضمر بعده فعلا ينصبه ؛ لأنه استفهام.
وأما قوله : (وتركت الألف استغناء).
يعني : لم تدخل
ألف الاستفهام على" أي" في حال الاستفهام بها ونظيرها" من"
و" ما" و" كيف" وسائر الأسماء التي يستفهم بها ، وكان حكمها
عند سيبويه أن تدخل ألف
الاستفهام عليها ؛ لمعنى الاستفهام أي : على" أيّ" في حال
الاستفهام بها لأنها أسماء وللأسماء دلالة على معانيها التي وضعت لها ، من مكان
وزمان وإنسان وحيوان ، وحروف الاستفهام تدل على الاستفهام فيها.
غير أنهم طرحوا
حرف الاستفهام ؛ لأنهم لم يستعملوا هذه الأسماء في جميع المواضع ، كما يستعملون
سائر الأسماء الصحاح ، فاكتفوا بدلالتها على الاسم المستفهم عنه أن يأتوا لها بحرف
الاستفهام ، وكذلك إذا استعملت هذه الأسماء في المجازاة ، اكتفوا بها عن حروف
الجزاء.
قال
: (فإن قلت : " أيهم زيدا ضرب" ، قبح ، كما يقبح في" متى"
ونحوها ، وصار أن يليها الفعل هو الأصل ؛ لأنها من حروف الاستفهام ولا يحتاج إلى
الألف فصارت ك" أين").
يعني : أن
الاختيار أن تقول : " أيهم ضرب زيدا" ، و" متى ضرب زيد عمرا"
، وذلك أنك إذا قلت : " أيهم" ، فقد جئت باسم الاستفهام ، وحصل فالواجب
أن تأتي بالفعل بعده ، وصار تقدم" أي" ، كتقدم الألف في اختيار الفعل
بعده.
قال
: (وكذلك" من" ، و" ما" لأنهما يجريان معها ولا يفارقانها
تقول : " من أمة الله ضربها" ، و" ما أمة الله أتاها" ، نصب
في كل ذا لأنه أن يلي هذه الحروف الفعل أولى ، كما أنه لو اضطر شاعر في"
متى" وأخواتها نصب ، فقال : " متى زيدا رأيته").
قوله
: " من" و" ما".
يعني : حكمها
كحكم" أي" ؛ لأنهما يجريان مع" أي" ، ولا يفارقانها في
الاستفهام والجزاء ، فإذا قلت : " من أمة الله ضربها" ، فالاختيار أن
تنصب" أمة الله" بإضمار فعل ، وكذلك : " ما أمة الله أتاها" ،
كأنك قلت : " من ضرب أمة الله ضربها" ، و" ما أتى أمة الله
أتاها" ؛ لأن" من" و" ما" لما تقدمتا صارتا بمنزلة ألف
الاستفهام وهي بالفعل أولى ، وكان الاختيار أن يكون لفظ الفعل متقدما في"
من" و" ما" و" متى" و" أي".
وهذه الحروف لا
يليها الاسم البتة ، فيقال : " من ضرب أمة الله" وألا يقال : " من
أمة الله ضربها" ؛ لأنها أضعف من ألف الاستفهام وليس لها تصرف ألف الاستفهام
، فإذا اضطر
شاعر أو تكلم متكلم على قبح ، فقدّم الاسم ، وشغل الفعل بضميره ، نصب
بإضمار فعل كما ذكرنا. فقال : " متى زيدا رأيته" على تقدير : متى رأيت
زيدا رأيته. وأقبح من هذا أن تقول : " متى زيد رأيته" و" من أمة
الله ضربها" كما تقول : " متى زيد منطلق" و" من أمة الله
جاريته" ، والاختيار ما ذكرناه.
هذا باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا ؛ لأنك
تبتدئه ؛ لتنبه المخاطب
ثم تستفهم بعد ذلك
(وذلك
قولك : " زيد كم مرة رأيته" ، و" عبد الله هل لقيته" ،
و" عمرو هلا لقيته" ، وكذلك سائر حروف الاستفهام ، فالعامل فيه الابتداء
، كما أنك لو قلت : " أرأيت زيدا هل لقيته" كان" أرأيت" هو
العامل ، وكذلك إذا قلت : " قد علمت زيدا كم لقيته" ، كان"
علمت" هو العامل ، فكذلك هذا فما بعد المبتدإ من هذا الكلام في موضع خبره).
قال أبو سعيد :
أما قوله : " زيد كم مرة رأيته" ، فالرفع لا غير في زيد من قبل أنه
مبتدأ و" كم مرة رأيته" ، في موضع الخبر له ، ولا يصلح نصبه بإضمار فعل
آخر ؛ لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يكون مفسرا لفعل قبله ، كما لا يكون عاملا في
اسم قبله الاستفهام. وتفسيره أنك لو نزعت ضمير" زيد" من"
رأيته" ، لم يجز أن تنصب" زيدا" ب" رأيت" فتقول : "
زيدا كم مرة رأيت" ؛ لأن الاستفهام هو صدر الكلام فلا يجوز أن يعمل الفعل
الذي بعده في اسم قبله ؛ لأنه إذا عمل فيه صار الاسم في صلة الفعل ، ووجب حينئذ
تأخيره عن حرف الاستفهام ، فيقال : " كم مرة رأيت زيدا" ، و" كم
مرة زيدا رأيت" فلما لم يجز" زيدا كم مرة رأيت" لما ذكرنا لم
يجز" زيدا كم مرة رأيته" ، على تقديره : رأيت زيدكم مرة رأيته ؛ لأن
الفعل الذي بعد" كم" لا يفسّر ما قبله ، كما لا يعمل فيه.
ثم استدل على
أن قولك : " زيد كم مرة رأيته" ، إنما يعمل فيه الابتداء لا غير ، أنك
قد تدخل عليه ما يدخل على المبتدأ ، ثم تجيء بالاستفهام من بعد فتجعله في موضع
خبره ، وذلك قولك : " أرأيت زيدا هل لقيته" ، و" قد علمت
زيدا كم لقيته" ، فلو لم يكن" أرأيت" ، و" قد علمت" ،
كنت تقول : " زيد هل لقيته" ، و" زيدكم لقيته" ثم انتصب
ب" رأيت" و" قد علمت" كما انتصب المبتدأ ، إذا دخل عليه ذلك.
قال
: (فإن قلت : " زيد كم مرة رأيت" فهو ضعيف ، إلا أن تدخل الهاء ، كما
ضعف في قوله : " كله لم أصنع").
يعني :
أن" زيدا" مبتدأ ، و" كم مرة رأيت" في موضع خبره ، ولا بد من
ضمير يعود إليه ، فإذا حذفت الضمير قبح ، فلا بد من تقديره كما أن قوله :
(... كله لم
أصنع)
على تقدير :
كله لم أصنعه ؛ لأن" كلّ" مبتدأ ولا بد من ضمير يعود إليه.
قال
: (ولا يجوز أن تقول : " زيدا هل رأيت" ؛ إلا أن تريد معنى الهاء مع
ضعفه فترفع لأنك قد فصلت بين المبتدإ ، وبين الفعل ، فصار الاسم مبتدأ والفعل بعد
حرف الاستفهام).
يعني : أن
نصب" زيد" لا يجوز بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام على وجه من الوجوه ،
وقد ذكرنا هذا.
وقوله
: (إلا أن تريد معنى الهاء فترفع مع ضعفه).
يعني قولك :
" زيد كم مرة رأيت" وأنت تريد : " رأيته" ، ولم يكن هذا
بمنزلة قولك : " زيد رأيته" ؛ لأنك لم تأت بعد المبتدأ بشيء يحول بينه
وبين الفعل ، وهو الاستفهام.
قال
: (ولو حسن هذا أو جاز لقلت : " أرأيت زيد كم مرة ضرب" ، على الفعل
الآخر. فكما لا تجد بدا من إعمال الفعل الأول فكذلك لا تجد بدا من إعمال الابتداء
؛ لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعد ما تفرغ من الابتداء).
يريد : أن قولك
: " زيد كم رأيته" ، لو جاز أن تحمله على الفعل الآخر لاتصال ذلك الفعل
بضميره المنصوب ، فتنصبه ، ولا يرفعه بالابتداء ، لجاز أن تقول : " أرأيت زيد
كم ضرب" فيحمل" زيد" على ضميره المرفوع في" ضرب" الذي
بعد" كم"
ولا تنصبه بأرأيت ، فلما لم يجز ذلك وجب نصبه" بأرأيت" ، لأن
الفعل الذي بعد الاستفهام لا يحمل عليه ، وجب رفعه بالابتداء ؛ لأن الفعل الذي بعد
الاستفهام لا يتسلط عليه.
وقوله
: (لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعد ما تفرغ من الابتداء).
يعني : أن
الاستفهام في موضع خبر الابتداء ؛ لأنه جملة قائمة بنفسها جعلت في موضع الخبر.
قال
: (ولو أرادوا الإعمال لما ابتدأوا بالاسم ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيد هذا أعمرو
ضربه أم بشر" ولا تقول : " عمرا أضربت" ، فكما لا يجوز هذا لا يجوز
ذلك).
يعني : أنهم لو
أرادوا إعمال الفعل في الاسم ، لما قدموا الاسم على حرف الاستفهام ، ولأخّروه ،
فقالوا : " كم مرة زيدا ضربت" ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيد عمرو
ضربته أم بشر" ، إذا أردت أن تجعل" زيدا" مبتدأ. وإن أردت أن تعمل
فيه الفعل ، قلت : " أعمرا ضربت زيدا أم بشر".
وتقول : "
أعمرا ضربت" ، ولا تقول : " عمرا أضربت" ، فكما لا يجوز عمرا أضربت
لم تجز المسائل التي ذكرناها أولا ، وهي : " أزيدا كم مرة رأيته" ،
و" أرأيت زيدا كم ضرب".
قال
: (فحرف الاستفهام لا يفصل به بين العامل والمعمول فيه ، ثم يكون على حاله إذا
جاءت الألف أولا ، وإنما يدخل على الخبر).
يعني أن ألف
الاستفهام إذا كانت أولا نصبت الاسم ، فقلت : " أزيدا ضربته" ، فإذا
قدمت" زيدا" على الألف لم يجز أن تنصب" زيدا" ؛ لأن الألف
حالت بينه وبين الفعل ولكن ترفعه بالابتداء ، وتجعل الألف وما بعدها في موضع
الخبر.
قال
: (ومما لا يكون إلا رفعا قولك : " أأخواك اللذان رأيت" لأن"
رأيت" صلة" اللذين" وبه يتم اسما ، فكأنك قلت : " أأخواك
صاحبانا").
يعني :
أن" الأخوين" ، لا يجوز نصبهما حملا على الفعل الذي بعد"
اللذين" ؛ لأن
الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول ولا تفسره أيضا ؛ ألا ترى أنك لا تقول :
" زيد أخاه الذي ضربت" على حد قولك : " زيد الذي ضربت أخاه".
قال
: (ولو كان شيء من هذا ينصب شيئا في الاستفهام ، لقلت في الخبر : " زيدا الذي
رأيت" ، فتنصب كما تقول : " رأيت زيدا").
يعني : أن
الاستفهام ليس بعامل في شيء فلو جاز أن ينصب شيئا في الاستفهام بعامل ما لنصبناه
في غير الاستفهام بذلك العامل. فلو جاز أن يقال : " أأخويك اللذين رأيت"
، و" أزيدا الذي رأيت" ، لجاز أن تقول في غير الاستفهام : " أخويك
اللذين رأيت" ، و" زيدا الذي رأيت". وهذا محال.
قال
: (وإذا كان الفعل في موضع الصفة ، فهو كذلك ، وذلك قولك : أزيد أنت رجل تضربه).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ؛ لأنها من تمام الموصوف كالصلة من
الموصول. وكذلك لا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف ؛ لأنه من تمام المضاف. وتقول
: " هذا رجل ضارب زيدا" ، ولا يجوز أن تقول : " هذا زيد رجل
ضارب" ؛ لأن" زيدا" : منصوب ب" ضارب" و" ضارب"
: صفة لرجل ، ولكن يجوز أن تقول : " هذا رجل زيدا ضارب" ؛ لأنك لم
تقدم" زيدا" على الموصوف وتقول : " هذا غلام ضارب زيدا" ،
فتنصب" زيدا"" بضارب". ولا يجوز أن تقول : " هذا زيدا
غلام ضارب".
وقد أجاز
النحويون ، أو بعضهم : " هذا زيدا غير ضارب" ، فنصبوا" زيدا""
بضارب" وقدموه على المضاف ، وهو" غير" وذلك لأن" غير"
معناها معنى" لا" ، فكأنك قلت : " هذا زيدا لا ضارب" ، وهذا
جائز جيد. فإذا قلت : " أزيدا أنت رجل تضربه"" فتضربه" في
موضع النعت" لرجل" فلا يجوز أن تنصب" زيدا" ، حملا على ضميره
في" تضربه" وهو قبل الموصوف.
قال
: (وإذا كان وصفا ، فأحسنه أن يكون فيه الهاء ، لأنه ليس في موضع الإعمال ، ولكنه
يجوز فيه كما جاز في الوصل ؛ لأنه في موضع ما يكون من
الاسم).
قال أبو سعيد :
قد كنا ذكرنا أن الهاء التي هي ضمير تحذف في الصفة ، والصلة ، والخبر.
فالصلة"
الذي رأيت" زيد" تريد : " الذي رأيته".
والصفة :
" الناس رجلان ، رجل أكرمت ورجل أهنت" ، تريد : رجل أكرمته ، ورجل
أهنته.
والخبر :
" زيد أكرمت" ، أي أكرمته.
وأن حذفها في
الصلة ، أحسن من حذفها في الصفة ، وحذفها في الخبر قبيح جدا.
فقول
سيبويه : (فإذا كان وصفا فأحسنه أن تكون فيه الهاء).
يعني : " أزيد
أنت رجل تضربه" وما شاكل ذلك أحسن من أن تقول : " أزيد أنت رجل
تضرب".
وقوله
: (لأنه ليس موضع الإعمال).
يعني : لأنك
إذا حذفت الهاء فليس يصل الفعل إلى شيء قبله كما أنك إذا قلت :
" زيد
ضربته" ، ثم حذفت الهاء ، قلت : " زيدا ضربت". فلما لم يكن كذلك لم
يحسن حذف الهاء.
وقوله
: (ولكنه يجوز كما جاز في الوصل ؛ لأنه في موضع ما يكون من الاسم).
يعني : حذف
الهاء جائز في الصفة ، كما جاز في الوصل ، وهو يعني صلة" الذي" وما جرى
مجراها.
وقوله
: (لأنه في موضع ما يكون من الاسم).
يعني : لأن
الوصف من الاسم الموصوف كبعضه ؛ لأنهما كشيء واحد يقعان موقع اسم واحد.
قال
: (ولم تكن لتقول : " أزيدا أنت رجل تضربه" ، وأنت إذا جعلته وصفا
للمفعول لم تنصبه ؛ لأنه ليس مبنيا على الفعل).
يعني : أنه غير
جائز أن تنصب" زيدا" في قولك : " أزيدا أنت رجل تضربه" ؛
لوقوع
الضرب على ضميره ، وأنت لا تنصب" رجلا" بالفعل إذا جعلته وصفا له
، فلما لم يجز أن تنصب الموصوف بالفعل الذي هو وصفه كان ما قبله أبعد من ذلك.
وقوله
: (لأنه ليس مبنيا على الفعل).
معناه : ليس
الموصوف مبنيا على الفعل الذي هو صفته.
(ولكن
الفعل في موضع الوصف ، كما كان في موضع الخبر).
يعني : إذا لم
تقدر تقدم الفعل ، حتى يكون عاملا فيه ويكون الوصف بمنزلة الخبر ، ألا ترى أنك إذا
قلت : " إن زيدا ضربت" ، فأنت لا تجد بدا من أن تجعل" ضربت"
في موضع الخبر" لزيد" ؛ لأنك قد نصبت" زيدا" ب" إن"
ولا يجوز أن تعمل" ضربت" في" زيد" ؛ لأنه في موضع خبره ، وإن
كان حذف الهاء منه قبيحا ، ثم أنشد في ذلك وهو وقوع الفعل نعتا قول بعض الرجاز :
أكلّ عام نعم
تحوونه
|
|
يلقحه قوم
وتنتجونه
|
فجعل"
تحوونه" نعتا للنعم ، ولم يجز أن ينصب" النعم" به وقد جعله نعتا
له. ولو نصب على غير هذا الوجه لجاز ألا يجعله نعتا ، كأنه يقول : أكلّ عام تحوون
نعما ويكون" تحوونه" تفسيرا للفعل المضمر.
(وقال
زيد الخيل :
أفي كلّ عام
مأتم تبعثونه
|
|
على محمر
ثوّبتموه وما رضا)
|
فإن قال قائل :
إذا كان لا يجوز" زيد يوم الجمعة" ولا" زيد في يوم الجمعة" ؛
لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا للجثث ، فكيف جاز أكلّ عام نعم تحوونه ، و"
نعم" : مرفوع بالابتداء ، وهو جثة؟
قيل له :
التقدير فيه : " أكل عام حدوث نعم" وذلك أنه أراد أن كل عام تحوون نعما
، وتأخذونه وكأنه قال : " في كل عام نعم حادث" ، فصار كقولك : " الليلة
الهلال"
__________________
والمعنى : الليلة حدوث الهلال ، فناب عن المصدر ؛ لعلم المخاطب أنه يراد به
حدوثه ؛ لأنه مما يتحدد في الأوقات المعلومة. وقوله : " محمر" يريد :
فرسا في أخلاق الحمير. و" مارضا" يريد : وما رضي ، فقلب الياء ألفا ،
وهو لغة ؛ لأن الألف أخف من الياء إلا فيما يلتبس ، لا يقولون في" قاضي""
قاضا" ، كما قالوا في" صحاري"" صحارا" لأنك إذا قلت : "
قاضا" التبس بفاعل من القضاء ، وهو قاضي ، يقاضي ، مقاضاة.
(وقال
جرير فيما ليست فيه الهاء :
أبحت حمى
تهامة بعد نجد
|
|
وما شيء حميت
بمستباح)
|
فجعل : " حميت"
نعتا ل" شيء" و" شيء" اسم" ما" ؛ فلذلك أدخل الباء
في" مستباح" ، ولو نصبت شيئا ب" حميت" لبطل الكلام ، ولم يكن
ليجوز دخول الباء في" مستباح" ؛ لأن الباء إنما تدخل في الأخبار ، فإذا
نصبت" شيء" صار تقديره : وما حميت شيئا بمستباح. و" مستباح"
نعت" لشيء" فهذا غير جائز كما لا يجوز" ما رأيت رجلا بقائم" ،
ولو حذفت الباء أيضا مع نصب" شيء" لكان ضعيفا ناقص المعنى ، وذلك أنك
إذا قلت : " وما حميت شيئا مستباحا" ، فقد أوجب أن الذي حماه لم يكن
مستباحا إذ حمى ما لم يكن مستباحا فحمايته كلا حماية ، لأنه حمى شيئا محميا.
(وقال
آخر :
فما أدري أغيّرهم
تناء
|
|
وطول العهد
أم مال أصابوا)
|
فجعل : " أصابوا"
نعتا للمال ، ولم ينصب" المال" به ، ولا يجوز ذلك لأنه لو نصب صار
التقدير : أم أصابوا مالا. وأم من حروف العطف ، ولا يعطف" أصابوا" ، وهو
فعل على" تناء" وهو اسم.
قال
سيبويه : (ومما لا يكون فيه إلا الرفع قوله : " أعبد الله أنت الضاربه"
، لأنك إنما تريد معنى : أنت الذي ضربه ، وهذا لا يجري مجرى" يفعل" ،
ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : " ما زيدا أنا الضارب" ولا" زيدا
أنت الضارب" وإنما تقول : " الضارب زيدا"
__________________
على
مثل قولك : " الحسن وجها" ، ألا ترى أنك لا تقول : " أنت المائة
الواهب" كما تقول : " أنت زيدا ضارب").
يعني : أن
الألف واللام بمعنى الذي فغير جائز أن تعمل" ما" في صلة الألف واللام ـ فيما
قبلهما ـ كما كان ذلك في" الذي" إذا كانت تجري مجراها.
فإن قال قائل :
فقد قال الله تعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) ، فجعل" فيه" من تمام الزاهدين وهي قبلهم ،
وتقديره : وكانوا فيه من الذين زهدوا.
قيل له : في
ذلك جوابان غير الذي ظننت :
أحدهما :
أن" يكون" على تقدير : " وكانوا فيه زهادا من الزاهدين" فيكون
العامل في" فيه" زهادا ، ونابت" من الزاهدين" عنهم ودلت
عليهم.
والوجه الثاني
: أن يكون" فيه" على التبيين كأنه قال : أعني فيه ، فالعامل فيه"
أعني" ، لا" الزاهدين" ، ومثله لبعض العرب :
تقول وصكّت
وجهها بيمينها
|
|
أبعلي هذا
بالرّحى المتقاعس
|
فلم يعمل"
المتقاعس" في الباء التي في قوله : " بالرحى" ؛ لأن"
المتقاعس" في صلة الألف واللام ، ولكنه على التبيين ، كأنه قال : " أبعلي
هذا المتقاعس" ، ثم بيّن بأي شيء تقاعس ، فقال : أعني بالرحى.
ومن النحويين
من يجعل الألف واللام في معنى الطرح ، فإذا جعلهما كذلك عمل ما بعدهما فيما قبلهما
، ولا يجعلهما في معنى" الذي". والوجه على ما عرّفتك.
ثم وصل سيبويه
بكلامه ـ ما أراد به الفرق ـ بين ما فيه الألف واللام وبين ما ليستا فيه فقال :
(وتقول
: " هذا ضارب" ، كما ترى ، فيجيء على معنى" هو يضرب" ، وهو
يعمل في حال حديثك. وتقول : " هذا ضارب" فيجيء على معنى" هذا
سيضرب" ، فإذا قلت :
__________________
"
هذا الضارب" ، فإنما تعرفه على معنى الذي ضرب).
يعني أن"
ضارب" ، إذا كان عاملا فهو في معنى الفعل المحض إما مستقبلا ، وإما حالا ،
وكذلك جاز أن تعمل في الاسم مقدما ومؤخرا وإذا قلت : " الضارب" فهو على
معنى : " الذي ضرب" ، أو" الذي يضرب" ، فلا يعمل فيما قبله.
قال
: (فلا يكون إلا رفعا ، كما أنك لو قلت : " أزيد أنت ضاربه" ، إذا لم
ترد ب" ضاربه" الفعل وصار معرفة رفعت ، فكذلك : " هذا الذي
ضرب" ، لا يجيء إلا على هذا المعنى).
يعني : أنك إذا
أردت" بضاربه" الفعل الماضي تعرّف بإضافته إلى الهاء وخرج من أن يكون
عاملا على حسب ما بيّنا أن الاسم الذي في معنى الفعل الماضي لا يعمل ، وإذا لم
يعمل كان الاسم الذي قبله مرفوعا في قولك : " أزيد أنت ضاربه" ، وأنت
تعني به الفعل الماضي ، وقد بيّنا هذا فكذلك الذي والألف واللام ، لأنها لا تكون
إلا معرفة ، فكان رفع ما قبلها في قولك : " أزيد أنت الضاربه" ، كرفع
قولك : " أزيد أنت ضاربه" ، إذا أردت الماضي ، بل الألف واللام في ذلك
أقوى.
قال
: (وإنما يكون بمنزلة الفعل نكرة ، وأصل وقوع الفعل صفة لنكرة ، كما لا يكون الاسم
كالفعل إلا نكرة).
يعني : أن
الفعل في الأصل نكرة ، ومعنى قولنا : " نكرة" أنه ينعت به النكرات ،
كقولك : " مررت برجل يضرب زيدا" ، و" رأيت رجلا يضرب زيدا" ،
وكذلك سائر الجمل كالابتداء والخبر ، والشرط والجزاء ، كقولك : " مررت برجل
أبوه قائم" ، و" مررت برجل إن تأته يكرمك" ، وإنما صارت هذه الجمل
تقع نكرات ، وينعت بها النكرات من قبل أن كل جملة تقع بها فائدة ، فوقوع الفائدة
بها دليل على أنها لم تكن معلومة من قبل. فلذلك لم يعمل من أسماء الفاعلين المشتقة
من الأفعال إلا ما كان منكورا ، وما كان للحال والاستقبال وهو معنى قوله :
(كما
لا يكون الاسم كالفعل إلا نكرة).
أي : كما لا
يعمل الاسم عمل الفعل إلا نكرة.
ثم
قال : (ألا ترى أنك لو قلت : " أكل يوم زيدا تضربه" ، لم يكن إلا نصبا ؛
لأنه ليس بوصف. فإذا كان وصفا فليس بمبني عليه الأول ، كما أنه لا يكون الاسم
مبنيا عليه في الخبر ، فلا يكون" ضارب" ، بمنزلة" يفعل ،
ويفعل" إلا نكرة).
يعني : أنك إذا
قلت : " أكلّ يوم زيدا تضربه" ، فلا يصلح أن يكون" تضربه"
نعتا" لزيد" ؛ لأن" زيدا" معرفة فتنصبه بإضمار فعل هذا تفسيره
وكان ذلك الاختيار. ولو كان مكان" زيد"" رجل" لرفعته ، إذا جعلت"
تضربه" نعتا له ، فقلت : " أكل يوم رجل تضربه" ، كما قال :
أكلّ عام نعم
تحوونه
ومعنى
قوله : (فإذا كان وصفا ، فليس بمبني عليه الأول).
يعني : أنك إذا
قلت : " أكلّ يوم رجل تضرب أو تضربه" وجعلت" تضرب" نعتا ، لم
يصلح أن تنصب" رجلا" ، فتبنيه على" الضرب" وقد جعلته في موضع
نعته ، كما أنك إذا قلت : " زيد ضربت" ، فجعلت" ضربت" خبرا ،
لم تنصب" زيدا" به ، ولو نصبته به بطل أن يكون خبرا ، وقوله :
(ولا
يكون ضارب بمنزلة" يفعل ويفعل" إلا نكرة).
يعني : أن اسم
الفاعل والمفعول إنما يعمل عمل الفعل إذا كان نكرة. فالفاعل بمنزلة"
يفعل" نحو : " ضارب" ، و" قاتل" ، تقول : " هذا
زيدا ضارب وزيدا قاتل" ، واسم المفعول بمنزلة" يفعل" ، كقولك :
" هذا جبه مكسوّ" و" هذا درهما معطى" ، كما تقول : " هذا
جبة يكسي" ، و" درهما يعطي".
قال
: (وتقول : " أذكر أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى"؟ ، كأنه قال : "
أذكر نتاجها أحب إليك أم أنثى؟ " ف" أن تلد" : اسم ، و"
تلد" به يتم الاسم ، كما يتم" الذي" بالفعل ، فلا عمل له (هنا) كما
لا يكون لصلة" الذي" عمل).
تقدير هذا
الكلام على وجهين :
أحدهما : أن
يكون" أذكر أن تلده ناقتك (أحب) أم أنثى" ، كأنه قال : "
أذكر ولادة ناقتك إياه أحب إليك أم
أنثى". ف" ذكر" : ابتداء ، و" أن تلد" : ابتداء ثان ،
و" أحب
إليك" : خبر الابتداء الثاني والجملة في موضع خبر الابتداء الأول ،
والعائد إلى الابتداء الأول" الهاء" التي قدرناها في" تلده".
وإنما جاز حذفها وحسن ؛ لأنها في صلة" أن" ، و" أن" وما بعدها
من الفعل بمنزلة اسم واحد ، فأشبهت" الذي" فحسن حذفها ، و"
أنثى" : معطوفة على" ذكر" بأم.
والوجه الثاني
: أن تجعل" أن تلد" : بدلا من" الذكر" ، فكأنك قلت : " أأن
تلد ناقتك ذكرا أحب إليك أم أن تلد أنثى؟ " ثم حذفت ، وإنما أراد سيبويه أنك
لا تنصب" ذكرا" بالفعل الذي بعد" أن" ، لأن ما بعد"
أن" لا يعمل فيما قبلها ، فلم يتسلط الفعل على ما قبلها كما لم يتسلط على ما
قبل" الذي" إذا كان في صلة" الذي".
قال
: (وتقول : " أزيد أن يضربه عمرو أمثل أم بشر" كأنه قال : " أزيد
ضرب عمرو إياه أمثل أم بشر" ، فالمصدر : مبتدأ ، " وأمثل" : مبني
عليه ، ولم ينزل منزلة" يفعل" ، فكأنه قال : " أزيد ضاربه عمرو خير
أم بشر").
وهذا على
التقدير الذي قدرناه بدءا أنه يجعل" أن" مبتدأ ثانيا ويجعل الجملة في
موضع خبر المبتدأ الأول ، ويجعل الاسم الذي بعد" أم" معطوفا على الاسم
الأول.
قال
: (وذلك لأنك ابتدأته ، وبنيت عليه فجعلته اسما ، ولم يلتبس" زيد"
بالفعل إذ كان" ضارب" اسما كما لم يلتبس به" الضاربه" ، حين
قلت : " أزيد أنت الضاربه" ؛ لأن" الضاربه" في معنى الذي ضربه
، والفعل تمام هذه الأسماء).
قوله
: (وذلك لأنك ابتدأته وبنيت عليه).
يعني : أنك إذا
قلت : " أزيد ضاربه خير أم بشر" جعلت" ضاربه" مبتدأ وبنيت
عليه" خير" ، فجعلته خبرا ، فخرج من أن يكون في معنى الفعل الذي يعمل في
زيد ، وصار بمنزلة ما فيه الألف واللام إذا قلت : " زيد أنت الضاربه" ،
وما فيه الألف واللام ، فهو بمعنى" الذي" فلا يعمل فيما قبله.
قال
: (وتقول : " أأن تلد ناقتك ذكرا أحب إليك أم أنثى"؟ ، لأنك حملته على
الفعل الذي هو صلة" أن" فصار في صلته ، وصار كقولك : " الذي رأيت
أخاه زيد" ، ولا يجوز أن يبتدأ" بالأخ" قبل" الذي" وتعمل
فيه" رأيت أخاه زيد" فكذلك لا يجوز
النصب
في" قولك : " أذكر أن تلد ناقتك أحبّ إليك أم أنثى").
يعني :
أن" ذكرا" إذا كان بعد" أن" وقع عليه" تلد" ، فنصبه
كما ينصب الفعل الذي في صلة الذي الاسم الذي بعده كقولك : " الذي رأيت أخاه
زيد" ، وإن قدمت ذلك الاسم على" الذي" ، لم يجز ؛ لأنه لا يجوز أن
تقول : " زيد أخاه الذي رأيت" ، كما جاز" زيد الذي رأيت أخاه"
، فكذلك لا يجوز" أذكرا أن تلد ناقتك" كما جاز" أن تلد ناقتك
ذكرا".
قال
سيبويه : (ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعا ، قولك : " أعبد الله أنت أكرم
عليه أم زيد" ، و" أعبد الله أنت أصدق له أم بشر" ، كأنك قلت :
" أعبد الله أنت أخوه أم بشر" ؛ لأن" أفعل" ليس بفعل ولا اسم
يجري مجرى الفعل ، وإنما هو بمنزلة" حسن ، وشديد" ، ونحو ذلك. ومثل ذلك
: " أعبد الله أنت خير له أم بشر").
قال أبو سعيد :
اعلم أن" أفعل" لا يعمل في شيء من الأسماء إلا في المنكور على جهة
التمييز كقولك : " زيد أكثر مالا وأنظف ثوبا" ، والمنكور الذي يعمل فيه
على جهة التمييز لا يجوز تقديمه ، لا يجوز أن تقول : " زيد مالا أكثر
منك" ، ولا" ثوبا أنظف منك" ، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن
تنصب" عبد الله" في قولك : " أعبد الله أنت أكرم عليه" من
وجهين :
أحدهما :
أن" عبد الله" ليس مما يعمل فيه" أكرم" وبابه بوجه من الوجوه.
والثاني : أنه
لو كان منكورا يعمل فيه" أكرم" وبابه بوجه ما جاز تقديمه عليه.
قال
: (وتقول : " أزيد أنت له أشد ضربا أم عمرو" ، فإنما انتصاب"
الضرب" كانتصاب" زيد" في قولك : " ما أحسن زيدا" ،
وانتصاب" وجه" في قولك : " حسن وجه الأخ" ؛ فالمصدر هاهنا
كغيره من الأسماء ، كقولك : " أزيد أنت له أطلق وجها أم فلان" ، وليس له
سبيل إلى الإعمال وليس له وجه في ذلك).
يعني :
أن" ضربا" انتصب على التمييز بأشد ونصبه ل" ضربا" ، لا يوجب
له من القوة ما يعمل به فيما قبله ، كما أن قولك : " ما أحسن زيدا" ، لا
يكون فيه أن تقول : " ما زيدا أحسن" ، ولا في قولك : " حسن وجه
الأخ" أن تقول : " وجه الأخ حسن" ؛ لأنها
عوامل تضعف عما قبلها.
قال
سيبويه : (ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعا قولك : " عبد الله إن تره
تضربه" ، وكذلك إن طرحت" الهاء" مع قبحه فقلت : " ا عبد الله
إن تر تضرب" ، فليس للآخر سبيل على الاسم ؛ لأنه مجزوم).
يعني : أن ما
بعد حرف الشرط لا يجوز أن يعمل فيما قبله ؛ لأنك لا تقول : " أزيدا إن تأت
يكرمك" على معنى : إن تأت زيدا يكرمك. ولا يجوز أيضا أن يعمل جواب الشرط إذا
كان الجواب مجزوما ، لا تقول : " أخاك إن تأتنا نصادق" ، على معنى"
إن تأتنا نصادق أخاك ، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن تقول : " أعبد الله إن تره
تضربه" ، فتنصب" عبد الله" بإضمار فعل يفسره" تره" ،
أو" تضربه" ؛ لأن ما بعد" إن" ، وجوابها المجزوم لا يكونان
تفسيرا لما قبل" إن" ، كما لا يكونان عاملين فيما قبلهما.
وإن طرحت"
الهاء" من الشرط والجواب لم يعمل أيضا فيه واحد منهما على ما ذكرنا أنه لا
يعمل ما بعد" إن" من الشرط والجواب فيما قبلهما.
قال
: (وليس للفعل الأول سبيل ؛ لأنه مع" إن" ، بمنزلة قولك : " أعبد
الله حين يأتي تضرب" ، فليس" لعبد الله" في" يأتي" حظ ؛
لأنه بمنزلة قولك : " أعبد الله يوم الجمعة أضرب").
قال أبو سعيد :
اعلم أن ما قبل المضاف لا يعمل فيه المضاف إليه إذا قلت : " هذا غلام ضارب
زيدا" ، لم يجز أن تقدم" زيدا" على المضاف فتقول : " هذا زيدا
غلام ضارب" ، وكذلك إذا قلت : " حين تأتي زيدا يكرمك" ، لم يجز أن
تقول : " زيدا حين تأتي يكرمك" ؛ لأنك أضفت" حين" إلى"
تأتي" ، وأسماء الأوقات تكون مضافة إلى الأفعال المضاف إليه وكذلك إذا قلت :
" أعبد الله حين تأتي تضرب" تنصب" عبد الله" ب"
تضرب" لأن التقدير : أتضرب عبد الله حين يأتي ، ولا ترفع" عبد
الله" حملا على ضميره المرفوع في" يأتي" فلم يجز أن تعمل"
تأتي" فيما قبل الحين ولا يحمل عليه ما قبل الحين كما لا يعمل فيه.
فقال
سيبويه : (ما بعد : " إن" الجزاء بمنزلة ما بعد" الحين" في
أنه لا يحمل عليه
ما
قبله).
وقوله
: (لأنه بمنزلة قولك : " أعبد الله يوم الجمعة أضرب").
نصب" عبد
الله"" بأضرب" ، وجعل" الجمعة" بمنزلة" حين
يأتي" وجعل" يوم" بمنزلة" حين" ليريك أن"
يأتي" مضاف إليه" الحين" ، وأنه لا تسلط له على ما قبله.
قال
سيبويه : (ومثل ذلك : " زيد حين أضرب يأتيني" ؛ لأن المعتمد على"
زيد" آخر الكلام وهو" يأتيني").
يعني : أنك لا
تنصب" زيدا" ب" أضرب" ؛ لأن" حين" مضافة إلى"
أضرب" ، ولكنك ترفعه بالابتداء ، وحملا على" يأتيني".
قال
: (وكذلك إذا قلت : " زيدا إذا أتاني أضرب" إنما هي بمنزلة"
حين").
يعني أن"
إذا" ، من أسماء الأوقات المستقبلة وهي مضافة إلى الفعل الذي بعدها.
فغير جائز أن
ترفع" زيدا" ، حملا على الفعل الذي أضيفت إليه" إذا"
وهو" أتاني" ، بل تنصبه" بأضرب" ، والتقدير : " أضرب
زيدا إذا أتاني".
قال
: (وإن لم تجزم الأخير نصبت ، وذلك قولك : " أزيدا إن رأيت تضرب" ،
وأحسنه أن تدخل في" رأيت"" الهاء" لأنه غير مستعمل).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الفعل الذي هو جواب الشرط إذا رفع فله مذهبان على قول سيبويه :
أحدهما : ينوى
به التقديم.
والآخر : أن
يرفع على إضمار الهاء ، وذلك نحو قولك : " إن تأتني أكرمك" فيجوز أن
يكون على معنى : " أكرمك إن تأتني" ، ويجوز أن يكون على معنى : " إن
تأتني فأكرمك" ، كما تقول : " إن تأتني فأنا مكرم لك".
وقد كان أبو
العباس محمد بن يزيد لا يجيز إلا على إضمار الفاء. والاحتجاج لهذا القول يأتي من
بعد هذا مستقصى إن شاء الله تعالى.
فإذا قدرنا
الفاء في هذا الفعل المرفوع لم يجز أن تنصب به ما قبله ، ولا يجوز أن تقول :
" أزيدا إن تره فتضرب" على معنى : " إن تر زيدا فتضرب زيدا"
ولا على معنى : إن
تر فتضرب زيدا ، كما لا يجوز أن تقول : " أخاك إن تأتني أكرم"
على معنى : " إن تأتني فأكرم أخاك" ؛ لأن الفعل الذي بعد الفاء لا ينوى
به التقديم على حرف الشرط ، وإذا كان النية في الفعل التقديم جاز أن تنصب به الاسم
الذي قبل حرف الشرط ، وهو الذي قاله سيبويه : (" أزيدا إن رأيت تضرب") لأن التقدير فيه : أتضرب زيدا إن رأيت وأحسنه أن تقول :
" أزيدا إن رأيته تضرب" ؛ لأن التقدير فيه : " أتضرب زيدا إن
رأيت" فيشتغل الفعل بضمير الأول ؛ لأنك لم تعمله في شيء ، وهو فعل متعد وقد
ذكر مفعوله. وعلى قياس قول أبي العباس : لا يجوز نصب" زيد" ب"
تضرب" ؛ لأن النية فيه الفاء ، ولا يجوز عمل ما بعدها فيما قبلها.
قال
سيبويه : (فصارت حروف الجزاء في هذا بمنزلة قولك : " زيد كم مرة رأيته").
يعني : أن حروف
الجزاء في هذا بمنزلة : " زيد كم مرة رأيته" ، يعني : إذا جعلت ما بعدها
شرطا وجوابا له رفعت الأسماء التي قبلها ولم يكن لما بعدها سبيل على ما قبلها ،
كما لم يكن لما بعد حروف الاستفهام سبيل على ما قبله ، ولا يكون تفسيرا له.
قال
: (فإذا قلت : " إن زيدا تضرب" ، فليس إلا هذا).
يعني :
ينصب" زيدا" ب" ترى" وصار بمنزلة قولك : " حين ترى زيدا
يأتيك".
لأن"
زيدا" وقع بعد الفعل فعمل فيه الفعل ، ولم يقع قبل" أن" و"
حين" ، فيمتنع عمل ما بعدهما فيه.
قال
: (وصار" زيد" في موضع المضمر حين قلت : " زيد حين تضربه يكون كذا
وكذا").
يعني : أن
الهاء في" تضربه" ، في موضع نصب ، فإذا جعلت" زيدا" مكانها
ولم تذكره في أول الكلام نصبته.
قال
سيبويه : (ولو جاز أن تحمل" زيدا" مبتدأ على هذا الفعل لقلت : " القتال
زيدا حين تأتي" ، تريد : القتال حين تأتي زيدا).
يعني : أنه لو
جاز أن يبتدأ بلفظ" زيد" ، فتحمله على الفعل الذي بعد" أن" ،
لجاز
أن يبتدأ بلفظه فتحمله على الفعل الذي بعد" حين" فتقول : " القتال
زيدا حين تأتي" ، أو" زيدا حين تأتي القتال". تريد : " حين
تأتي زيدا القتال" وقد بيّنا فساد هذا ، و" إن" و" حين"
مشتركان في ألا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما.
قال
: (وتقول في الجزاء وغيره : " إن زيدا تره تضرب" تنصب" زيدا"
؛ لأن الفعل أن يلي" إن" أولى كما كان ذلك في حروف الاستفهام ، وهي أبعد
من الرفع ؛ لأنه لا يبنى الاسم فيها على مبتدأ).
يعني : أنك إذا
قلت : " إن زيدا تره" ، نبت" زيدا" بإضمار فعل ؛ لأنك شغلت
الفعل الذي بعده بضميره فتقدر : إن تر زيدا تره ، والاختيار نصبه بإضمار الفعل ،
كما كان الاختيار في الاستفهام ، بل النصب أوجب في" إن" وذلك أن"
إن" وحروف الجزاء لا بد فيها من الأفعال ؛ لأن الشرط لا يكون إلا فعلا ، ولا
يصلح أن يليها مبتدأ أو خبر من غير الفعل ، فتقول : " إن زيد قائم أقم".
وقد يجوز في الاستفهام أن تقول : " أزيد قائم"؟ ، فقد علمت أن حرف
الجزاء أحق بالفعل ، وإضماره فيه ونصب الاسم به أوجب.
قال
سيبويه : (وإنما أجازوا تقديم الاسم في" إن" ؛ لأنها أم حروف الجزاء ولا
تزال عنه ، فصار ذلك فيها كما صار في ألف الاستفهام ما لم يجز في الحروف الأخر).
قال أبو سعيد :
اعلم أن الحروف التي تشترك في معنى واحد قد يكون بعضها أقوى من بعض في ذلك المعنى
، وأكثر تصرفا ، وأشد ثباتا. فمن ذلك ألف الاستفهام يشاركها في الاستفهام"
هل" ، و" أين" ، و" كيف" و" من" ، وما أشبه
ذلك ، غير أن الألف أقواها كلها في باب الاستفهام ؛ لأنها تدخل في مواضع الاستفهام
(كلها) وغيرها له موضع خاص.
ف"
من" : سؤال عمّن يعقل.
و"
كيف" : سؤال عن الحال.
و"
أين" : سؤال عن المكان.
و"
هل" : لا يسأل بها في جميع المواضع.
ألا ترى أنك لو
قلت : " أزيد عندك أم عمرو" على معنى : " أيهما عندك" ، لم
يجز في ذلك المعنى أن تقول : " هل زيد عندك أم عمرو". وإذا قلت : "
رأيت زيدا" ، فقال لك قائل مستثبتا : " أزيد منه؟ " و" أزيدا"
، على حكاية كلامك ، لم يجز مكانها" هل"
فلما كانت الألف هكذا حسن فيها من التقديم والتأخير ما لم يحسن في غيرها ،
فحسن أن تقول : " أزيدا ضربته" ، و" أزيدا ضربت" ، ولا يحسن (في
متى ، وهل) أن تقول : " هل زيدا ضربت" و" متى زيدا ضربت".
وإنما تقول : " هل ضربت زيدا" ، و" متى ضربت زيدا".
و"
إن" في باب الجزاء بمنزلة الألف في باب الاستفهام ، وذلك أنها تدخل في مواضع
الجزاء كلها ، وسائر حروف الجزاء ، نحو : " من" ، و" ما" ،
و" متى" لها مواضع مخصوصة ، فلذلك حسن أن يليها الاسم في اللفظ ، ويقدر
له عامل.
وكذلك إن كان
مرفوعا كقولك : " إن زيد أتاني أتيته". قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) على معنى : وإن استجارك أحد من المشركين استجارك.
لم أنشد (قول
النمر بن تولب :
لا تجزعي إن
منفسا أهلكته
|
|
وإذا هلكت
فعند ذلك فاجزعي)
|
نصب"
منفسا" بعد" إن" على إضمار : أهلكت منفسا أهلكته.
ويجوز : "
إن منفس أهلكته" على معنى : إن هلك منفس أهلكته ، فلا بد من تقدير فعل كيفما
تصرفت به الحال.
قال
: (وإن اضطر شاعر فأجرى" إذا" مجرى" إن" فجازى بها فقال :
" أزيد إذا تر تضرب" ، إن جعل" تضرب" جوابا. وإن رفع"
تضرب" نصبه ؛ لأنه لم يجعلها جوابا).
قال أبو سعيد :
واعلم أن" إذا" عند سيبويه وأصحابه لا يجازي بها لفظا فتجزم شرطها
وجوابها كما يفعل ذلك بحروف الجزاء ، كما قال الشاعر : أي لذي الرمة :
تصغي إذا
شدّها بالرّحل جامحة
|
|
حتّى إذا ما
استوى في غرزها تثب
|
فرفع"
تثب" ، ومع هذا ففيها معنى الجزاء.
__________________
فإذا اضطر شاعر
جاز أن يجريها مجرى حروف الجزاء كما قال (الشاعر) :
ترفع لي خندف
والله يرفع لي
|
|
نارا إذا ما
خبت نيرانهم تقد
|
فإذا اضطر شاعر
، فقال : " أزيد إذا تر تضرب" ، امتنع النصب في" زيد" ؛ لأنه
لا يجوز أن يقدر" يضرب" قبل" إذا" ، وقد جزمناها بالجواب ،
كما فعلنا ذلك في" إن". وإن رفعنا" تضرب" ونوينا به التقديم
نصبنا" زيدا" وصار تقديره : " أتضرب زيدا إذا تر" ، كما فعلنا
ذلك في" إن".
وفيه وجه آخر ،
وهو أن ترفع فتنوي الفاء التي تكون جوابا ، فإذا قدّرت ذلك بطل النصب في"
زيد" ؛ لأنه لا يكون في نية التقديم حينئذ ، وقد ذكرنا ذلك في" إن".
قال
: (وترفع الجواب حين يذهب الجزم من الأول في اللفظ والاسم مبتدأ هنا إذا جزمت ،
نحو قولك : " أيهم يأتك تضرب" ، إذا جزمت ؛ لأنك جئت ب" تضرب"
مجزوما ، بعد أن عمل الابتداء في" أيهم ولا سبيل له عليه ، وكذلك هذا حيث جئت
به مجزوما ، بعد أن عمل فيه الابتداء ، وأما الفعل الأول فصار مع ما قبله
بمنزلة" حين" وسائر الظروف).
يعني : أنك إذا
قلت : " إذا ترى" ، فرفعت فعل الشرط في" إذا" رفعت الجواب ؛
لأن" إذا" إنما يشبهها الشاعر" بإن" ، فإذا رفع شرطها لم يجز
أن يجزم الجواب ؛ لأنه قد أخرجها برفع الشرط من شبه" إن" ، فوجب أن يرفع
الجواب.
وقوله
: (الاسم مبتدأ هنا إذا جزمت).
يعني : إذا
جزمت جواب إذا كان الاسم الذي قبل" إذا" مرفوعا بالابتداء ، كقولهم : "
أيهم يأتك تضرب" ، لما جزمت" تضرب" بالجواب لم يكن له تسلط على نصب
أيهم ، ولو لم يكن مجزوما قلت : " أيهم تضرب" كما قلت : " أزيدا
إذا تر تضرب".
وقوله
: (لأنك جئت ب" تضرب" مجزوما بعد أن عمل الابتداء في" أيهم"
ولا سبيل له عليه).
يعني لا سبيل
للمجزوم على الاسم الذي قبل" إذا" كما لم يكن للمجزوم الذي في
__________________
جواب" أيهم" سبيل عليه.
وقوله
: (وأما الفعل الأول فصار مع ما قبله بمنزلة" حين" وسائر الظروف).
يعني : أن فعل
الشرط الذي بعد" إذا" ، وهو" تر" ، رفعته أو جزمته لا يعمل
فيما قبل" إذا" ؛ لأنه و" إذا" كشيء واحد بمنزلة الحين ولا
يصلح تقديمه ، فلم يصلح على كل حال أن يعمل فيما قبل" إذا".
قال
: (وإن قلت : " زيد إذا يأتيني أضرب" ، تريد : معنى الهاء ولا تريد :
" زيدا أضرب إذا يأتيني" ، ولكنك تضع" أضرب" هنا مثل"
أضرب" إذا جزمت ، وإن لم يكن مجزوما).
يعني : أنك
تجعل" أضرب" ، جوابا ل" يأتيني" على أحد الوجهين :
إما أن يكون
على نية الفاء ، وإما أن يكون على طريق جواب" إن" المجزوم وإن لم يكن
هذا مجزوما ؛ وذلك أنّ وضع الكلام وترتيبه لا يختلف من طريق الشرط والجواب وإنما
يختلف في جزم" إن" ما بعدها وامتناع" إذا" من ذلك ووضع الكلام
وترتيبه على حال واحدة ، ومعنى المجازاة قائم في" إذا" غير أنه يقبح إذا
لم يرجع إلى زيد ، وهو مبتدأ وخبره ضمير ، ولم تنو ب" أضرب" التقديم
فتنصب به" زيدا".
قال
: (وكذلك" حين" ، إذا قلت : " أزيد حين يأتيك تضرب").
يعني : إذا
جعلت" تضرب" جوابا ؛ لأن قولك : " حين يأتيك" ، فيه معنى
المجازاة ، وهو بمنزلة" إذا" ، وفي" تضرب" الوجهان الأولان ،
وفيه القبح الذي ذكرناه من جهة حذف العائد إلى" زيد".
قال
: (وإنما رفعت الأول في هذا كله حين جعلت" تضرب" و" اضرب"
جوابا ، فصار كأنه من صلته إذ كان من تمامه).
يعني : صار
الجواب في" إذا" ، و" حين" كأنهما من صلة" إذا" ،
و" حين" فلم يعمل فيما قبلهما.
قال
: (ولم يرجع إلى الأول. وإنما تردّه إلى الأول إذا لم يكن جوابا فيمن قال : "
إن تأتني آتيك" وهو قبيح ، وإنما يجوز في الشعر وإذا قلت : " أزيد إن
يأتك تضربه"
فليس
تكون الهاء إلا" لزيد" ، ويكون الفعل الآخر جوابا للأول ، ويدلل على
أنها لا تكون إلا" لزيد" ، أنك لو قلت : " أزيد إن تأتك أمة الله
تضربها" لم يجز ، لأنك ابتدأت" زيدا" ولا بد من خبره ، ولا يكون ما
بعده خبرا له حتى يكون فيه ضميره).
أما قوله : (وإنما ترده إلى
الأول فيمن قال : " إن تأتني آتيك").
على التقدير ،
كأنه قال : " آتيك إن تأتني". يعني : إنما تقول : " زيدا إذا
يأتيني أضرب" تنصب" زيدا" ب" أضرب" ، إذا نويت ب"
أضرب" التقديم ، كما أن من يقول : " إن تأتني آتيك" على التقديم ،
كأنه قال : آتيك إن تأتني وهو قبيح في غير" إن" ، وإنما يجيء في الشعر.
وقبحه : أن الجواب موقعه بعد الشرط. فإذا وجد في موضعه لم يحسن أن ينوي به غير
موضعه. وللكلام في هذا موضع آخر.
وأما قوله :
" أزيد إن يأتك تضربه" ، أن الهاء لا تكون فيه إلا لزيد وقد ردّ ذلك
عليه وذلك لأنا نقول : " أزيد إن يأتك تضرب عمرا" فيقع موقع الهاء
الأجنبي وإنما أنكر عليه ذلك من أنكر من قبل أن" زيدا" قد عاد إليه
الضمير الذي في" يأتك" ، فإذا عاد الضمير إليه من الجملة في شيء واحد ،
صح الكلام ففي ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أن
الذي قاله سيبويه : " أزيد إن يأتك تضربه" ، ولا تكون الهاء في هذا
إلا" لزيد" ؛ لأنا إن جعلناها لغير" زيد" لم يعد إلى"
زيد" شيء من جملة الكلام.
والوجه الثاني
: أن سيبويه أراد : أن" زيدا" ، إن أخلى ضميره من جملة الكلام ، بطل
رفعه وعبّر بالهاء عنها وعن الضمير المرفوع الذي في" يأتك" لأنهما شيء
واحد.
والوجه الثالث
: وهو ما قاله أبو إسحق الزجاج : إن هذا ليس من كلام سيبويه.
قال
: (وإذا قلت : " زيدا لم أضرب" ، و" زيدا لن أضرب" ، لم يكن
فيه إلا النصب ؛ لأنك لم توقع بعد" لم" ، و" لن" شيئا يجوز لك
أن تقدمه قبلهما ، فيكون على غير حاله بعدهما كما كان ذلك في الجزاء ، و" لن
أضرب" نفي لقوله : " سأضرب" ، كما أن" لا تضرب" نفي
لقوله : " أضرب" و" لم أضرب" ، نفي لقوله : " ضربت").
قال أبو سعيد :
اعلم أن" لن" ، و" لم" يعمل ما بعدهما فيما قبلهما وذلك
أن" لن" نقيض" سوف" ، و" سوف" يعمل ما بعدها فيما
قبلها ، كقولك : " زيدا سوف أضرب" لأن
" سوف" والفعل كشيء واحد. و" لم" مثل" لن" ؛
لأنها وما بعدها من الفعل كشيء واحد نقيض الفعل الماضي ، والفعل الماضي يجوز أن
يتقدم مفعوله ونقيض الشيء يقع موقعه وعلى حسب لفظه.
فإن قال قائل :
فلم لا يجوز : " زيدا ما ضربت" ، كما جاز : " زيدا لم أضرب"؟
قيل له : ليس طريق" ما" طريق" لم" ؛ لأن" لم" تدخل
على الأفعال فقط ، وهي والفعل بمنزلة شيء واحد ، كما كانت" سوف" مع
الفعل كشيء واحد.
و"
ما" تدخل على الجمل وهي نقيضه" إن" ، يقال : " إن زيدا
قائم" فتقول : " ما زيد قائم" ، ألا ترى أن" ما" تكون
جوابا للقسم في النفي ، كما تكون" إن" جوابا في الإيجاب ، فلما صارت
بمنزلة" إن" لم يعمل ما بعدها فيما قبلها.
قال
: (وتقول : " كل رجل يأتيك فاضرب" نصب لأن" يأتيك" صفة ها هنا
، فكأنك قلت : " كل رجل صالح أضرب").
نصب"
كلا" بالفعل الذي بعد الفاء ؛ لأن الفاء في الأمر يعمل ما بعدها فيما قبلها ،
كقولك : " زيدا فاضرب" ، و" بزيد فأمرر". وله علة نذكرها في
موضعها إن شاء الله و" يأتيك" صفة لرجل.
(وإذا
قلت : " أيهم جاءك فاضرب" ، رفعته : لأنه جعل" جاءك" في موضع
الخبر ، وذلك لأن قولك : " فاضرب" في موضع الجواب و" أي" من
حروف المجازاة ، و" كل رجل" ليست من حروف المجازاة).
يعني : أن ما
بعد الفاء في قولك : " أيهم جاءك فاضرب" ، لا يعمل في" أيهم"
؛ لأنه في موضع الجواب ، والجواب لا يعمل في الاسم الأول. والدليل على أنه جواب
أنك لا تقول : " أيهم جاءك اضرب" إلا بتقدير الفاء على قبح ولو قلت :
" كل رجل جاءك اضرب" ، لكان حسنا على تقدير : " اضرب كل رجل
جاءك". ولو جعلت" أي" بمعنى" الذي" جاز أن تنصب ، فتقول
: " أيهم جاءك فاضرب" ، كما تقول : " الرجل الذي جاءك فاضرب".
على ما بيّنا في الأمر إذا قلت : " زيدا فاضرب" ، إذ ما بعد الفاء يعمل
ما بعدها في الأمر ، ومثله : " زيد إن أتاك فاضرب" إن جعلت الفاء جوابا
رفعت" زيدا" لا غير ، وإن لم تجعله جوابا ، فقدرت : " زيدا فاضرب
إن أتاك" نصبت. وكذلك : " أيهم يأتيك تضرب"
إذا كانت بمنزلة" الذي" ، كأنك قلت : " تضرب أيّهم
يأتيك".
قال
: (وتقول : " زيدا إذا أتاك فاضرب". فإن وضعته في موضع : " زيد إن
يأتك تضرب" رفعت ، فارفع إذا كانت" تضرب" جوابا ليأتك).
يعني : أنك إذا
قدرت الفاء قبل" إذا" نصبت ، كأنك قلت : " زيدا فاضرب إذا
أتاك" ، وإن قدرتها جوابا لم يصلح إلا رفع" زيد" ، ولكن ينبغي أن
يؤتى بضميره ؛ ليعود إليه.
فيقال : "
زيد إذا أتاك فاضربه" ، ويكون بمنزلة : " زيد إن يأتك تضرب" في أنه
لا يكون إلا مرفوعا ، وكذلك : " زيد حين يأتيك فاضرب" إذا جعلت"
فاضرب" جوابا رفعته ، وجعلت فيه الهاء ، وترك الهاء قبيح والأحسن النصب على
نية التقديم ، وإنما كان النصب أحسن لضعف ترك الهاء العائدة إلى الابتداء ، كما لا
يحسن أن تقول : " زيد ضربت".
ثم قال بعقب
هذا الكلام : (والنصب"
في زيد" أحسن إذا كانت الهاء يضعف تركها ويقبح ، كما أن الفعل يقبح إذا لم
تكن معه الهاء ، أو غيرها من المضمر المفعول أو المظهر فاعمله في الأول).
يعني : أنك إذا
رفعت" زيدا" ، ولم يعد إليه من الجملة التي بعده ضمير كان قبيحا ، كما
أنك إذا رفعت الاسم ، ثم جئت بفعل ، فلا يحسن أن يتعرى ذلك الفعل من ضميره ، أو من
ظاهره فضميره" أنت ضربتك" ، و" زيد ضربته".
وظاهره :
" زيد ضربت زيدا" ، كما قال :
(لا أرى الموت يسبق الموت شيء)
أي يسبقه ، وهو
قبيح أن تقول : " زيد ضربت" وكذلك يقبح أن تقول : " زيدا إذا أتاك
فاضرب".
وفي الكتاب بعد
هذا الفصل (وليس هذا بالقياس).
يعني : إذا لم
تجزم بها.
لأنها تكون
بمنزلة" حين".
يعني : أن
القياس إذا لم تجزم" بإذا" فتجعلها بمنزلة" إن" ، فحكم الفعل
أن يعمل فيما قبل" إذا" ، إذا حسن تقديمه نحو قولك : " زيدا إذا
أتاك فاضرب" ، و" زيدا إذا يأتيك فأكرم" ، و" زيدا إذا يأتيك
اضرب" ؛ لأنه يحسن أن تقول : " زيدا فاضرب إذا يأتيك" ، و"
زيدا اضرب إذا يأتيك" ولا شيء يمنع هذا الفعل من التقديم ونصب الاسم به ،
فالقياس أن ينصب به في الكلام.
قال
: (و" إذا" ، و" حين" لا تكون واحدة منهما خبرا لزيد ، ألا
ترى أنك لا تقول : " زيد حين يأتيني" ؛ لأن" حين" لا تكون
ظرفا" لزيد").
يعني : أنك إذا
قلت : " زيدا حين يأتيني أضرب" ، أو" زيدا إذ يأتيني أضرب" ،
فكأنك قلت : " زيدا أضرب" ، فالأجود أن تنصب" زيدا" ؛
لأن" حين" ، و" إذا" كاللغو ، إذا كانا غير خبرين ، ولا
يستغنى بهما" زيد" ، ولو جاز أن يكونا خبرين لحسن الرفع في"
زيد" ، كقولك : " زيد في الدار اضرب" ، فرفع" زيد" في
هذا الموضع أحسن ؛ لأنه قد تم الكلام بالظرف وهو غير محتاج إلى الفعل ،
فيكون" أضرب" على كلام آخر ، ولم تكن" بزيد" حاجة إليه.
قال
: (وتقول : " الحرّ حين تأتيني" ، فيكون ظرفا لما كان فيه من معنى الفعل).
ولا تقول :
" زيد حين يأتيني" وذلك أن" الحر" مصدر ، والمصادر كلها يجوز
أن تكون ظروف الزمان أخبارا لها ، كقولك : " القتال يوم الجمعة" ،
و" أكلنا عشيا" و" رحيلنا في غد". ولا يجوز أن تكون ظروفا
للجثث ، لا تقول : " زيد يوم الجمعة" و" لا أنت غدا" ، والفرق
بينهما أن المصادر أشياء حادثة والأزمنة أيضا حوادث لا تبقى فإذا قلنا : " القتال
يوم الجمعة" فإنما جعلنا" يوم الجمعة" وقتا لحدوثه ، وإذا قلنا :
" زيد يوم الجمعة" ، فلسنا نعني أنه يحدث في" يوم الجمعة" ،
ولا أن" يوم الجمعة" وقت له دون سائر الموجودات ، كما أن قولك : " زيد
خلفك" اختصاص مكان" زيد" دون سائر من ليس خلفك.
قال
: (فإن قلت : " زيدا يوم الجمعة أضرب" لم يكن فيه إلا النصب ؛ لأنه ليس
ها هنا معنى جزاء ، ولا يجوز الرفع إلا على قوله :
...
كله لم أصنع).
يعني أن"
يوم الجمعة" لغو ، كأنك قلت : " زيدا أضرب" إلا أن تحذف الهاء على
الوجه القبيح الذي ذكرناه في" زيد ضربت" و" كله لم أصنع" قال
: ولا يجوز أن يكون" أضرب" جوابا" ليوم الجمعة" ؛ إذ ليس فيه
معنى جزاء.
والدليل على
أنه ليس فيه معنى جزاء
(أنك
لو قلت : " زيد يوم الجمعة فأنا أضربه" ، لم يجز ، فهذا يدلك أنه يكون
على غير قولك : " زيدا فاضرب حين يأتيك").
تحصيل هذا
الكلام أنك إذا قلت : " زيدا إذا أتاك فأضرب" ، كان الاختيار النصب ،
وجاز فيه الرفع من وجهين :
أحدهما : أن
تجعل" اضرب" جوابا ، فيستحيل النصب في" زيد".
والثاني : ألا
تجعله جوابا وتضمر الهاء على قول من قال : " زيد ضربت" وإذا قلت : "
زيدا يوم الجمعة أضرب" ، فالنصب الوجه ، ويجوز الرفع من وجه واحد ، وهو على
قول من قال : " زيد ضربت" إذا كان لا يجوز فيه الجواب.
وقوله
: (فهذا يدلك على أنه يكون على غير قولك : " زيدا فأضرب حين يأتيك").
يعني : أنه لما
جاز أن تقول : " زيد حين يأتيك فأنا أضربه" ، و" زيد إذا يأتيك
فأنا أضربه" فتجعل الفاء جوابا ، ولا يجوز" زيد يوم الجمعة فأنا
أضربه" على جعل الفاء جوابا. فدلك ذلك على أن قولك : " زيد حين يأتيك
فاضرب" ، قد يكون على غير قولك : " زيدا فأضرب حين يأتيك".
وفي آخر هذا
الباب قول لست أدري لمن ، وهو : وهذا عندنا غير جائز إلا أن يكون الأول مجزوما في
اللفظ.
يعني : أنك لا
ترفع" زيدا" ، إذا قلت : " زيدا إذا يأتيني أضرب" ، إذا كان
قولك : " إذا" يأتيني" بمنزلة" يوم الجمعة" حين لم تجزم
الفعل ، فإذا جزمت الفعل فقلت : " زيد إذا يأتيني أضرب" رفعت"
زيدا" إذا أحللت" إذا" محل" إن" ، وسيبويه يحلها
محل" إن" ، وإن كان ما بعدها مرفوعا ؛ لأن فيها معنى الجزاء بالدلالة
التي ذكرنا.
هذا باب الأمر والنهي
" الأمر
والنهي يختار فيهما النصب ، في الاسم الذي يبنى عليه الفعل ، ويبنى على
الفعل".
قال أبو سعيد :
اعلم أن الأمر والنهي هما بالفعل فقط ؛ لأنك إنما تأمر بإيقاع فعل ، وتنهى عن
إيقاع فعل ، وربما أمرت باسم هو في المعنى واقع موقع الفعل كقولك : " عندك
زيدا" و" دونك زيدا" في معنى : خذ زيدا ، وكقولك : " حذار
زيدا" في معنى : احذر زيدا.
فإذا كان الأمر
على هذا ، ثم أتيت باسم ، قد بني الفعل بعده على ضميره نصبته ، لإضمار فعل ، على
نحو ما ذكرنا في الاستفهام ، فقلت : " زيدا اضربه" ، على تقدير : اضرب
زيدا اضربه ، و" زيدا لا تشتمه" على تقدير : لا تشتم زيدا لا تشتمه.
وكان النصب في
الأمر والنهي أولى وأقوى من الاستفهام ؛ من قبل أن الأمر والنهي لا يكون إلا بفعل
على ما ذكرنا ، وقد يكون الاستفهام بغير فعل ، كقولك : " أزيد أخوك" ، و" أعبد الله عندك".
ومن ذلك أيضا :
" أمّا زيدا فاقتله" و" أمّا عمرا فاشتر له ثوبا" ، و"
أمّا خالدا فلا تشتم أباه" ، و" أمّا بكرا فلا تمرر به" ، وذلك أن
ما بعد" أمّا" كالكلام المستأنف ، فنصبته على ما ذكرنا من النصب في
الأمر ، ولم تقدّر الفعل بعد" أمّا" ؛ لأنها لا يليها الفعل ، ولكن
تقدّر الفعل بعد الاسم بلا ضمير ، وتعدّيه إلى الاسم وتحذفه ، ثم تأتي بالفعل
الواقع على الضمير ، فتفسر به الفعل المحذوف ، فيكون تقديره : " أمّا زيدا
فاقتل قاتله" وأمّا بكرا فلا تلق فلا تمرر به ، وأما خالدا فلا تهن فلا تشتم
أباه ، ولا بد من الفاء بعد" أمّا".
ومنه : " زيدا
ليضربه عمرو" ، و" بشرا ليقتل أباه خالد" ؛ لأنه أمر للغائب فهو
كالمخاطب في باب الأمر ، وقد يجوز فيه الرفع ، وذلك قولك : " عبد الله
اضربه" و" أمّا زيد فاقتله" ، وذلك أن الأمر فعل ومعه فاعله ، فهو
جملة ، فجئت بالاسم مبتدأ ، وجعلت الجملة في موضع خبره ، وأدخلت الفاء بعد"
أمّا" ، ولم تدخلها إذا بدأت بالاسم ؛ لأنك جعلت الأمر في موضع الخبر ، فإذا
قلت : " زيدا اضربه" كان كقولك : " زيد منطلق" ولو قلت :
" زيد فاضربه" صار بمنزلة قولك : " زيد فمنطلق" ، وهذا
لا يجوز ، كما لا يجوز" فمنطلق" ويجوز" أمّا زيد فاضربه" كما
يجوز" أمّا زيد فمنطلق".
وإذا لم تجعل
في الفعل ضميرا من الاسم ، وقدمت الاسم وأخّرت الفعل ، كنت في إدخال الفاء بالخيار
، إن شئت أدخلتها وهي بمنزلتها في جواب" أمّا" ، وإن شئت أخرجتها وذلك
قولك" زيدا اضرب" ، و" زيدا فاضرب" ، فإذا قلت : " زيدا
اضرب" فتقديره : اضرب زيدا ، وإذا أدخلت الفاء ؛ فلأن حكم الأمر أن يكون
الفعل فيه مقدّما ، فلما قدمت الاسم أضمرت فعلا ، وجعلت الفاء جوابا له ، وأعملت
ما بعد الفاء في الاسم ؛ لأنك قدمت الاسم عوضا من الفعل المحذوف ، الذي ينبغي أن
يكون مصدّرا به في الأمر. وتقدير الكلام : تأهب فاضرب زيدا ، أو تعمد فاضرب زيدا ،
وما أشبه ذلك ، فلما حذفت" تأهب" قدمت" زيدا" ليكون عوضا من
المحذوف ، وأعملت فيه ما بعد الفاء ، كما أعملت ما بعد الفاء في جواب"
أمّا" فيما قبلها ، وقدمت الاسم على الفاء في جواب" أمّا" عوضا من
الفعل المحذوف الذي قامت أمّا مقامه ، وهو قولك : " مهما يكن من شيء فقد ضربت
زيدا" فإذا نقلته إلى" أمّا" قلت : " أما زيدا فقد ضربت".
والدليل على ما
ذكرنا من عمل ما بعد الفاء فيما قبلها في الأمر ، قولك : " بزيد فامرر"
، فلو لا أنّ ما بعد الفاء عمل فيما قبلها ، ما دخلت الباء على زيد ؛ لأن الباء في
صلة المرور ، ولا يصلح أن تضمر مرورا آخر ؛ لأن ما كان من الفعل متعديا بحرف جر لا
يضمر ، ولا تشبه الفاء في هذا الفاء في قولك : " عبد الله فاضرب" ؛ لأن
قولك : " عبد الله" مبتدأ ، ولا يصلح أن تكون الفاء في خبره.
فإذا قلت :
" زيدا فاضربه" فهو على تقديرين : أحدهما اضرب زيدا فاضربه ، وعليك زيدا
فاضربه ؛ لأنك قد تقول : " زيدا" ، في معنى : عليك زيدا ، أو تعمد زيدا.
قال
: (وقد يحسن ويستقيم أن تقول : " عبد الله فاضربه" إذا كان مبنيا على
مبتدأ مظهر أو مضمر ، فأما في المظهر فقولك : " هذا زيد فاضربه" ، وإن
شئت لم تظهر هذا ، وعمل كعمله إذا أظهرته كقولك : " الهلال والله فانظر
إليه" تريد هذا الهلال والله).
يعني أنك إذا
جئت بمبتدأ وخبر ، جاز إدخال الفاء بعدهما ؛ لأن المبتدأ والخبر جملة.
والفاء تدخل لجواب الجملة ؛ لأنها قد أفادت معنى ، كقولك : " زيد قائم
فقم إليه" ، وإن شئت أدخلت الفاء ؛ لعطف جملة على جملة ،
وقال الشاعر :
وقائلة :
خولان فانكح فتاتهم
|
|
وأكرومة الحيين
خلو كما هيا
|
أراد هذه خولان
؛ فلذلك أدخل الفاء ، ومعنى قوله : " وأكرومة الحيين خلو كما هيا" من
قول القائلة ، أرادت أن هذه الفتاة التي أشارت عليه بتزويجها ، هي خلو كما كانت لم
تتزوج ، وإنما قال : حيين ؛ لأن" خولان" قد اشتملت على حيين ، وعلى أحياء
، ويجوز نصب" خولان" كما في أول الباب.
قال
: (وتقول" هذا الرجل فاضربه" ، إذا جعلته وصفا).
يعني إذا
جعلت" الرجل" وصفا لهذا ، وكذلك" هذا زيدا فاضربه" إذا
جعلت" زيدا" بدلا من" هذا" أو عطف بيان ، وهو كالنعت ، وإنما
نصبته لأن الوصف والموصوف ، والبدل والمبدل منه ، كاسم واحد ، ولو جعلته خبرا لقلت
: " هذا زيد فاضربه" فجعلت الفاء جوابا للجملة ، أو عطف جملة على جملة
كما ذكرنا.
قال
: (وتقول : " اللذين يأتيانك فاضربهما" تنصبه كما تنصب زيدا ، وإن شئت
رفعته على أن يكون مبنيا على مظهر أو مضمر ، وإن شئت كان مبتدأ ؛ لأنه يستقيم أن
تجعل خبره من غير الأفعال بالفاء ، ألا ترى أنك لو قلت : " الذي يأتيني فله
درهم" ، " والذي يأتيني فمكرم محمول" كان حسنا ، ولو قلت : " زيد
فله درهم" لم يجز).
قال أبو سعيد :
قد تقدم من قول سيبويه أنه لا يجوز أن تقول : " زيد فاضربه" ، كما لا
يجوز أن تقول : " زيد فمنطلق"" وزيد فله درهم" والذي أبطل هذا
أنّ دخول الفاء لا معنى له هاهنا ، فإذا كان اسم موصول لفعل ما ، ولم يقصد به إلى
شخص بعينه ، كان الفعل مستقبلا أو في معنى الاستقبال ، وإن كان لفظه ماضيا جاز أن
تدخل الفاء في خبره ، وتذهب بالاسم الأول مع صلته مذهب المجازاة ، وذلك قولك :
" الذي يأتيني فله درهم" إذا لم يكن قاصدا إلى واحد بعينه ، وكان
استحقاقه للدرهم بسبب إتيانه ،
__________________
فيصير هذا بمنزلة قولك : " من يأتيني فله درهم" ؛ لأن الدرهم
يستحق بالإتيان ، فإن قصدت" بالذي" وصلته إلى اسم بعينه ، لم يجز دخول
الفاء في خبره ، وجرى مجرى" زيد" ، فقلت : " الذي يأتيني له
درهم" ، كأنك أردت : زيد الذي يأتيني له درهم ، إذا قدرت أنه يأتيك ، أو وعدك
بذلك ولا يستحق الدرهم من أجل إتيانه فيجري مجرى" زيد" إذا قلت : "
زيد له درهم".
ومما يجري مجرى
الذي" كل رجل يأتيني فله درهم" ؛ لأنك إنما توجب الدرهم بسبب إتيانه ،
فتضمر معنى المجازاة ، فدخلت الفاء من أجلها.
فنقول الآن :
إن قوله : " اللذين يأتيانك فاضربهما" يجوز فيه الرفع والنصب ، فإن
جعلت" اللذين" بمنزلة" زيد" ، ولم تضمر مبتدأ ولا خبرا ، كان
الاختيار النصب ، ولم تكن الفاء داخلة لجواب المجازاة ، ولكنها دخلت كما دخلت في
الأمر حين قلنا : " زيدا فاضرب" فيكون التقدير : اضرب اللذين يأتيانك
فاضربهما ، كما تقول : " زيدا فاضربه".
ويجوز الرفع من
وجهين :
أحدهما : أن
تضمر مبتدأ وخبرا ، وتجعل الفاء جوابا للجملة ، كأنك قدرت : هذان اللذان يأتيانك ،
واللذان يأتيانك صاحباك فاضربهما.
والوجه الثاني
: ألا تقصد إلى اثنين بأعيانهما ، وتجعل الضرب مستحقّا بالإتيان ، فكل اثنين أتياه
وجب ضربهما. كما قال تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ فَآذُوهُما) فوجب الأذى على كل اثنين يأتيان الفاحشة ، وعنى
بالاثنين الذكر والأنثى ، ولم يكن الحكم جاريا على اثنين بأعيانهما دون غيرهما ،
ويكون قوله" فاضربهما" خبرا ، ودخلت الفاء للجواب لا للأمر.
ولا يجوز
سقوطها على هذا الوجه ، ويجوز سقوطها في النصب ؛ لأنك لم ترد هذا المعنى ، وإن
قصدت" باللذين" إلى اثنين بأعيانهما ، لم يجز أن ترفع ، وتدخل الفاء
فتقول : " اللذان يأتيانك فاضربهما" وأنت تعني زيدا وعمرا ، كما لم يجز
أن تقول : " زيد فاضربه"
__________________
إلا بإضمار مبتدأ وخبر على ما بيّنّا.
قال وأما قول
عدي بن زيد :
أروّاح مودّع
أم بكور
|
|
أنت فانظر
لأيّ ذاك تصير
|
ويروى : "
لك" فانظر لأيّ حال تصير" ولا شاهد فيه ، وإنما جاء سيبويه بهذا البيت
لقوله : " أنت فانظر" ، وهو يشبه : " زيد فاضربه" ، وقد قال :
" زيد فاضربه" لا يجوز إلا على إضمار ؛ بسبب دخول الفاء ، وقد دخلت
الفاء في قوله : " فانظر" فتأول ذلك على وجوه أراد بها تصحيح دخول الفاء
، وأنها علي غير الوجه الذي أفسد دخولها فيه ، وجملة تأوله ثلاثة أوجه ، وعندي وجه
رابع قريب التأويل.
فأما الوجوه
التي ذكرها سيبويه ، فأن ترفع" أنت" بفعل مضمر يفسره الفعل المظهر الذي
فيه ضميره ، كأنك قلت : انظر أنت فانظر ، كما تقول : " أزيد ضرب عمرا"
و" أزيد ضرب غلامه عمرو" ، فرفعت بفعل مضمر ؛ إذ كان الظاهر فيه ضمير
مرفوع.
والوجه الثاني
: أن تجعل" أنت" مبتدأ ، وتضمر له خبرا ، وتجعل الفاء جوابا للجملة كأنه
قال : أنت الراحل ، كما تقول : أنت الهالك ، ثم تحذف فتقول : " أنت" ؛
لدلالة الحال عليه ، كما قال : " إذا ذكر إنسان لشيء قال الناس : أنت ، وقد
قال الناس زيد" وهذا في كلام الناس مشهور كثير ، وهو كقولك لمن تخاطب إذا
وصفته بالشجاعة : إذا ذكر الناس والشجاعة قال الناس : أنت ، وإذا ذكر النحو قال
الناس : الخليل ، أي أنت شجاع ، والخليل نحويّ.
والوجه الثالث
: أن تجعل" أنت" خبرا ، كأنك قلت : نويت الراحل أنت ، وجعلت في نيّتك
المبتدأ ، وقال سيبويه في هذا الوجه الثالث : " وهذا على قولك : شاهداك ، أي
ما يثبت لك شاهداك".
ومعنى هذا أن
يتقدم رجلان إلى حاكم أو غيره فيدعي أحدهما على الآخر شيئا فينكره ، فيقول الحاكم
: " شاهديك" وإن شاء قال : " شاهداك" فإن قال شاهديك فمعناه
أحضر شاهديك ، أو هات شاهديك ، وإن قال : " شاهداك" فمعناه الشيء الذي
يثبت
__________________
ويصح شاهداك ؛ لأن الدعوى لا تثبت مجرّدة ، وحقيقة هذا الكلام ما يثبت
شاهده شاهديك ، لأن معنى قولك : يثبت شاهداك أي تثبت شهادة شاهديك ، ومنه قول
الناس : " أثبت فلان في الديوان" ، أي أثبت اسمه ..
قال
: (ولا يجوز أن تضمر هذا ؛ لأن المتكلم لا يشير إلى نفسه ، ولا يشار للمخاطب إلى
نفسه).
لا تقول :
"وهذا أنت" ، ولا "هذا أنا" ، فلذلك لم تضمر هذا أنت
فانظر"
وقد قال سيبويه
في غير هذا الموضع : (ها أنا ذا وها أنت ذا في معنى هذا أنا ، وهذا أنت" ،
فهو يخالف الذي ذكره هاهنا في الظاهر وإذا صرنا إليه فسّرناه هناك إن شاء الله
تعالى. وذكر قوله تعالى : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) فخرجه على الوجهين : إضمار المبتدأ ، وإضمار الخبر ،
فإضمار الابتداء كأنه قال : أمري طاعة ، وإضمار الخبر قوله : " طاعة وقول
معروف أمري").
والوجه الرابع
الذي عندي : أن ترفع" أنت" بيكون ؛ لأن المصادر تعمل عمل الأفعال ،
فكأنك قلت : أن تروح أنت أم تبكر أنت ، كما قال تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً) على تقدير أو أن يطعم يتيما ، فكذلك هذا" أم أن
تبكر أنت".
وفيه وجه خامس :
وهو أن تجعل البكور في معنى باكر ، كما تقول : " زيد إقبال وإدبار" أي
مقبل ومدبر.
ويجوز فيه وجه
سادس : وهو أن تحذف المضاف ، وتقيم المضاف إليه مقامه ، كأنك قلت : أم صاحب بكور ،
حذفت الصاحب كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
وفي البيت :
" أرواح مودّع" ، والرواح لا يودّع ، قال الأصمعي : يودّع فيه ، كما قال
__________________
تعالى : (وَالنَّهارَ
مُبْصِراً) أي يبصر فيه ، وتحقيقه من جهة النحو : أرواح ذو توديع ،
فبني له من المصدر الذي يقع فيه اسم فاعل ، وإن لم يكن جاريا على الفعل ، كما
قالوا : " رجل رامح وناشب" على معنى ذو رمح ونشّاب.
قال أبو الحسن
: تقول : " زيدا فاضرب" وبعده كلام قد أتينا عليه.
قال
سيبويه : (واعلم أن الدعاء بمنزلة الأمر والنهي ، وإنما قيل دعاء ؛ لأنه استعظم أن
يقال أمر ونهي ، وذلك قولك : اللهم زيدا فاغفر ذنبه ، وزيدا فأصلح شأنه ، وعمرا
ليجزه الله خيرا. قال أبو الأسود الدؤلي :
أميران كانا
آخياني كلاهما
|
|
فلا جزاه
الله عنّ بما فعل)
|
اعلم أن جمهور
النحويين لا يسمون مسألة من هو فوقك أمرا وإنما يسمونها مسألة أو دعاء ، وينكرون
تسمية ذلك أمرا ، وللأخفش بعينه احتجاج طويل ، ورأيت بعض أهل النظر يسميه أمرا ،
ويزعم أن ذلك جائز في الكلام والشعر وأنشدنا فيه بيتا يروى لعمرو بن العاص ، يخاطب
فيه معاوية :
أمرتك أمرا
جازما فعصيتني
|
|
وكان من
التوفيق فقدان هاشم
|
فزعم عمرو أنه
أمر" معاوية" ، ومعاوية فوقه ، قيل له : يجوز أن يكون عمرو رأى نفسه من
طريق المشورة ، وحاجة معاوية إليه في رأيه أنه فوقه في هذا الباب ، واحتج أيضا
بقول الله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) وزعم أن الطاعة إنما تكون للآمر ، وليس أحد في القيامة
يسأل غير الله تعالى ، وليس لهم في هذا حجة ؛ لأن نفي الطاعة لا يدل على أن ثمّ
آمرا لم يطع ، وإنما المعنى أنهم لا يؤمرون ، وأنه لا أمر فيطاع ، كما قال : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ) ، وليس ثمّ شفاعة لهم ، وإنما المعنى لا شفاعة لهم
فتنفع ، مثله قول أبي ذؤيب :
__________________
متفلّق
أنساؤها عن قاني
|
|
كالقرط صاو غبره
لا يرضع
|
والغبر : بقيّة
اللّبن ، أي ليس بها لبن فترضع.
والدعاء وإن
كان لا يسمى أمرا على ما ذكرنا فسبيله سبيل الأمر في الإعراب من كل وجه ، وهو أيضا
في المعنى مثل الأمر ، وذلك أن الداعي ملتمس من المدعو إيقاع ما يدعوه به ، كما أن
الآمر مريد من المأمور إيقاع ما يأمره به.
ويدخل في الأمر
: " أما زيدا فجدعا له" ؛ لأنك تريد فجدعه الله ، وإذا كان الدعاء بغير
فعل لم ينصب الاسم الأول ، وذلك قولك : " أما زيد فسلام عليه" ، و"
أما الكافر فلعنة الله عليه" ؛ لأنه لم يظهر فعل فتجعله تفسيرا لما ينصب.
قال
: وأما قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما).
فهذا عند
سيبويه مبني على ما قبله ، كأنه قال : ومما نقص عليكم السارق والسارقة ، والزانية
والزاني ، فقد تم الكلام ، ثم قال : فاجلدوا ، فجعل الفاء جوابا للجملة.
قال
: ومثله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ).
فمثل الجنة اسم
مرفوع ، وتمامه محذوف ، كأنه قال : ومما نقصّ عليك مثل الجنة ، فقد تم الكلام
بهذا.
ثم قال من بعد
: (فِيها أَنْهارٌ ،) بعد تمام الجملة الأولى كما قال تعالى : (فَاجْلِدُوا) بعد الجملة الأولى.
قال
: " وإنما وضع المثل للحديث الذي بعده".
يعني أنه لما
قال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ـ وقد قلنا : إن التقدير فيه ومما نقصّ عليكم مثل
__________________
الجنة ـ توقع السامع الذي وعد بقصصه عليه فقال : (فِيها أَنْهارٌ) وتوقع أيضا حكم الزاني والزانية الذي وعد بقصصه وذكره ،
فقال : (فَاجْلِدُوا).
وقال الفراء
وأبو العباس المبرد : إن الفاء دخلت للجزاء ، وإنها خبر ، والزانية ترتفع على
الابتداء في قول أبي العباس ، و" فاجلدوا" خبره ، وعند الفراء (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يرتفعان بما عاد من ذكرهما ، ودخلت الفاء ؛ لأن الزانية
والزاني ، في معنى التي تزني والذي يزني ، وقد ذكرت هذا في قوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ
فَآذُوهُما).
قال سيبويه
مستشهدا على ما قال : لمّا
قال الله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها) قال
في الفرائض : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) ثم
جاء" فاجلدوا" فجاء بالفعل بعد أن مضى فيهما الرفع كما قال :
وقائلة : خولان فانكح فتاتهم
وقد مضى الكلام
في هذا.
قال
: (وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء أو توصي).
يعني أنك تقول
: " زيد فأحسن إليه" إذا أردت : زيد فيمن أوصى به فأحسن إليه ، فيكون
بمنزلة (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) وتكون الفاء جوابا للجملة.
قال
: (وقد قرأ أناس" والسارق والسارقة" و" الزانية والزاني" وهو
في العربية على ما ذكرت لك من القوة)
وهذه القراءة
تروى عن عيسى بن عمر ، وهو على : اجلدوا الزانية والزاني ، كما ذكرنا في
قولنا" زيدا فاضربه" وهو قوي في العربية ولكن القراءة سنّة منقولة.
قال
: (وإنما كان الوجه في الأمر والنهي النصب ؛ لأن حد الكلام تقديم الفعل ، وهو فيه
أوجب ؛ إذا كان ذلك يكون في ألف الاستفهام).
__________________
يعني لما كان
الاختيار في ألف الاستفهام نصب الاسم على ما شرطنا كان نصبه أولى في الأمر والنهي
؛ لأنهما لا يكونان إلا بفعل ، وقد ذكرنا هذا.
قال
: " وقبح تقديم الاسم في سائر الحروف ؛ لأنها حروف تحدث قبل الفعل ، ويصير
معنى حديثهن إلى الجزاء ، والجزاء لا يكون إلا خبرا ، وقد يكون فيهن الجزاء في
الخبر ، وهي غير واجبة كحروف الجزاء فأجريت مجراها ، فالأمر ليس يحدث له حرف سوى
الفعل ، فيضارع حروف الجزاء ، فيقبح حذف الفعل منه ، كما يقبح حذف الفعل بعد حروف
الجزاء".
قال
: " وإنما قبح حذف الفعل وإضماره بعد حروف الاستفهام لمضارعتها حروف الجزاء ،
وإنما قلت : " زيدا اضربه" مشغولة بالهاء والمأمور لا بد له من أمر ؛
لأن الأمر والنهي لا يكونان إلا بالفعل فلا يستغنى عن الإضمار إذا لم يظهر".
وأما
قوله : " وقبح تقديم الاسم في سائر الحروف".
يعني سائر حروف
الاستفهام سوى الألف ، كقولك : "أين زيدا ضربته" و"أين زيدا
ضربت" ؛ لأن الوجه تقديم الفعل حتى يكون هو الذي يليها ، كقولها : "أين
ضربت زيدا" وقد ذكرنا هذا فاحتج بأن قال : "إنها حروف تحدث قبل الفعل".
يعني حروف
الاستفهام "ويصير
معنى حديثهن إلى الجزاء".
يعني أن حروف
الاستفهام في المعنى إلى حروف الجزاء ، ومصيرها إلى الجزاء أنها غير واجبة ، كما
أن حروف الجزاء غير واجبة وأراد بالجزاء هاهنا حروف شرط الجزاء ؛ لأن قولك :
"أين تقوم" غير واجب ، و"هل زيد قائم" ليس بواجب كما أنك تقول
: "أين يقوم زيد فأكرمه" فقيام زيد ليس بواجب.
وقوله
: "والجزاء لا يكون إلا خبرا".
يعني جواب
الشرط إذا قلت : " إن تأتني أكرمك" ؛ لأنه يصح أن يقال : صدق أو كذب.
وقوله
: "وقد يكون فيهن الجزاء في الخبر".
يعني يكون في
حروف الاستفهام مثل جواب الشرط كقولك : أين زيد أكرمه؟
فقد يصح له في هذا أيضا صدق أو كذب ، وإنما أراد سيبويه التسوية بين حروف
الجزاء وحروف الاستفهام ، وأرى أنها حروف بالفعل أولى ، وأن وليّ الأسماء إياها
قبيح ، إلا في الألف وأن يفرق بينهما وبين الأمر،وذلك أن الأمر لا يقبح تقديم
الاسم فيه إذا قلت :
"زيدا
اضربه" ؛ لأنه ليس قبله حرف هو بالفعل أولى ، فيحتاج إلى إيلائه الاسم فاعرفه
إن شاء الله تعالى.
فهرس المحتويات
مقدمة.......................................................................... ٣
باب "علم ما
الكلم من العربية".................................................... ٩
باب مجاري أواخر الكلم
من العربية............................................... ٢٠
باب المسند والمسند
إليه........................................................ ١٧٣
باب اللفظ للمعاني............................................................ ١٧٦
باب ما يكون في اللفظ
من الأعراض............................................ ١٧٩
باب الاستقامة من
الكلام والإحالة.............................................. ١٨٥
باب ما يحتمل الشّعر.......................................................... ١٨٨
باب الحذف................................................................. ٢٠٥
باب البدل................................................................... ٢٢٥
باب التقديم والتأخير.......................................................... ٢٣٩
باب تغيير الإعراب عن
وجهه................................................... ٢٤٧
باب تأنيث المذكر وتذكير المؤنث............................................... ٢٥١
باب الفاعل الذي لم يتعدّه إلى مفعول ... الخ.................................... ٢٥٧
باب الفاعل الذي لم
يتعدّه فعله إلى مفعول ... إلخ................................ ٢٦٠
باب الفاعل الذي
يتعدّاه فعله إلى مفعول......................................... ٢٦٢
باب الفاعل الذي
يتعدّاه فعله إلى مفعولين....................................... ٢٧٤
باب الفاعل الذي
يتعدّاه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحد المفعولين... ٢٨٠
باب الفاعل الذي
يتعدّى فعله إلى ثلاثة مفعولين.................................. ٢٨٥
باب المفعول الذي
تعداه فعله إلى مفعول......................................... ٢٨٨
باب المفعول الذي
يتعدّاه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر ٢٩١
باب ما يعمل فيه الفعل
فينتصب وهو حال وقع فيه الفعل وليس بمفعول............. ٢٩٢
باب الفعل الذي يتعدّى
اسم الفاعل إلى اسم المفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد ٢٩٥
باب ما يخبر فيه عن
النكرة بالنكرة.............................................. ٣١٧
باب ما أجري مجرى ليس...................................................... ٣٢٢
باب ما يجرى على الموضع
لا على الاسم الذي قبله............................... ٣٤٥
باب الإضمار في"
ليس" و" كان" كالإضمار في" إنّ"............................. ٣٤٨
باب ما عمل عمل الفعل
فلم يجر مجراه ولم يتمكّن
تمكنه............................ ٣٥٤
باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به
وما كان نحو ذلك ٣٥٩
باب ما يكون الاسم فيه
مبنيا على الفعل قدّم أو أخّر وما يكون الفعل فيه مبنيا على الاسم ٣٧٢
باب ما يجري مما يكون
ظرفا هذا المجرى.......................................... ٣٧٧
باب ما يختار فيه
إعمال الفعل مما يكون في المبتدإ مبنيا عليه الفعل................... ٣٨٤
باب ما يحمل فيه الاسم
على اسم بني عليه الفعل مرة ويحمل مرة أخرى على اسم مبني على الفعل ٣٨٩
باب ما يختار فيه
النصب ، وليس قبله منصوب بني على الفعل وهو باب الاستفهام... ٤٠٣
باب ما ينتصب في الألف..................................................... ٤١١
باب ما جرى في
الاستفهام من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل ، كما يجري في غيره مجرى الفعل ٤٣٥
باب الأفعال التي
تستعمل وتلغى................................................ ٤٥٠
باب من الاستفهام يكون
الاسم فيه رفعا ؛ لأنك تبتدئه ؛ لتنبه المخاطب ثم تستفهم بعد ذلك ٤٦٧
باب الأمر والنهي............................................................. ٤٩١
فهرس المحتويات............................................................... ٥٠٢
|