
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الباب الثاني في الوضوء
والبحث في
أسبابه وغايته وكيفيته وأحكامه يقع في مطالب أربعة :
المطلب الأول
في الأسباب
، وحيث جرت
عادة الفقهاء (رضوان الله عليهم) بالبحث عن أحكام الخلوة امام الوضوء ، كان الأنسب
تقديمها هنا ، لترتب غالب الأسباب عليها ، وليكون تقديمها ذكرا على نحو تقدمها
خارجا ، وحينئذ فالكلام في هذا المطلب يقع في فصلين :
الفصل الأول
في آداب الخلوة
، ومنها ـ الواجب والمحرم والمستحب والمكروه ، والبحث فيها يقع في موارد أربعة :
المورد الأول
في الآداب
الواجبة ، ومنها ـ ستر العورة على المتخلي حال جلوسه عن ناظر محترم إجماعا فتوى
ورواية. ووجوب ستر العورة وان كان لا اختصاص له بالمتخلي لكن لما كان انكشاف
العورة من لوازم الخلاء ذكروا هذا الحكم فيه بخصوصه.
و (منها) ـ الاستنجاء
من البول بالماء خاصة إجماعا فتوى ورواية ، فلا يجزي المسح بحائط أو تراب أو يد أو
غير ذلك ولو حال الاضطرار ، بل غايته منع التعدي للملاقي كما دلت عليه موثقة ابن
بكير عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط؟ فقال : كل شيء
يابس ذكي».
ويدل على أصل
الحكم قول أبي جعفر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة
من رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اما البول فإنه لا بد من غسله».
وقوله (عليهالسلام) أيضا في رواية بريد بن معاوية : «ولا يجزى من البول إلا الماء».
ويدل عليه أيضا
الأخبار الدالة على وجوب غسل الذكر على من صلى قبل غسل ذكره من غير استفصال.
ومنها ـ صحيحة
عمرو بن أبي نصر قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : أبول وأتوضأ وانسى استنجائي ثم اذكر بعد ما صليت؟
قال : اغسل ذكرك وأعد صلاتك ولا تعد وضوءك».
وصحيحة ابن
أذينة قال : «ذكر أبو مريم الأنصاري : ان الحكم ابن عتيبة بال يوما ولم يغسل ذكره متعمدا ، فذكرت ذلك لأبي عبد
الله (عليهالسلام)
__________________
فقال : بأس ما صنع ، عليه أن يغسل ذكره ويعيد صلاته ، ولا يعيد وضوءه».
وبمضمونها
أخبار أخر سيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى.
واما رواية
سماعة قال : «قلت لأبي الحسن موسى (عليهالسلام) : اني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجيء مني البلل ما
يفسد سراويلي؟ قال : ليس به بأس».
وموثقة حنان قال : «سمعت رجلا سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) فقال : اني ربما بلت فلا أقدر على الماء ويشتد ذلك علي؟
فقال : إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك ، فان وجدت شيئا فقل هذا من ذاك».
فإنهما بحسب
ظاهرهما منافيان لما قدمنا من الاخبار ، لدلالة ظاهر الاولى على الاكتفاء بالتمسح
بالأحجار ، بقرينة نفي البأس عما يفسد سراويله من البلل بعد التمسح ، والثانية على
الاكتفاء بالتمسح بقرينة مسح الذكر.
والجواب عنهما
ـ بعد الإغماض عن المناقشة في السند بعدم المقاومة لما تقدم من الاخبار الصحاح ـ بالطعن
في الدلالة.
(اما الأولى)
فيما أجاب الشيخ (قدسسره) في الاستبصار من انه ليس في الخبر انه قال : يجوز له استباحة الصلاة
بذلك وان لم يغسله ، وإنما قال : ليس به بأس ، يعني بذلك البلل الذي يخرج منه بعد
الاستبراء ، وذلك صحيح ، لأنه المذي ، وهو طاهر.
وأجاب بعض
محققي مشايخنا من متأخري المتأخرين ـ وتبعه والدي (قدسسره) في بعض فوائده لكن نسبه إلى البعد ـ بان وجدان ما يفسد
سراويله من البلل لكثرته ـ مع عدم القطع بخروجه من مخرج البول الباقي على النجاسة
ـ لا بأس به ، لأصالة الطهارة واحتمال كونه من غير المخرج وغير متصل به.
__________________
أقول : ويحتمل
ان يكون مورد الخبر بالنسبة إلى من كان فاقدا للماء وتيمم بعد الاستبراء والتجفيف
بالأحجار ، فإنه لا بأس بالخارج بعد ذلك بمعنى انه لا يكون ناقضا للتيمم وان كان
نجسا باعتبار ملاقاة المحل النجس إلا انه غير واجد للماء ، وربما يستأنس لذلك
بالتمسح بالأحجار. وظني ان هذا الجواب أقرب مما ذكره شيخنا المتقدم.
و (اما الثانية)
فالظاهر منها ان السائل شكى إليه انه ربما بال وليس معه ماء ، ويشتد ذلك عليه بسبب
عرق ذكره بعد ذلك أو بلل يخرج منه ، فيلاقي مخرج البول فينجس به ثوبه وبدنه ،
فعلمه (عليهالسلام) حيلة شرعية يتخلص بها من ذلك ، وهو ان يمسح غير المخرج
من الذكر اعني المواضع الطاهرة منه من بلل ريقه بعد ما ينشف المخرج بشيء ، حتى لو
وجد بللا بعد ذلك لقدر في نفسه انه يجوز ان يكون من بلل ريقه الذي وضعه وليس من
العرق ولا من المخرج ، فلا يتيقن النجاسة من ذلك البلل حينئذ. وبالجملة الحكمة في
الأمر بمسح الذكر بالريق فعل أمر يجوز العقل استناد ما يجده من البلل اليه ، ليحصل
عنده الاشتباه وعدم القطع بحصوله من المخرج أو ملاقاته ، ومع الاشتباه يبنى على
أصالة الطهارة. ف كل شيء طاهر حتى يعلم انه قذر . والناس في سعة ما لم يعلموا .
__________________
وما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم . وهذه حكمة ربانية لدفع الوساوس الشيطانية ، ومثلها في
الأخبار غير عزيز.
وأجاب في
المدارك عن هذه الرواية ـ بعد الطعن في السند ـ بالحمل على التقية ، أو على ان
المراد نفي كون البلل الذي يظهر على المحل ناقضا.
وفيه ان الظاهر
بعد الحمل على التقية ، لأن المسح بالتراب مطهر عند العامة واما الجواب الثاني فسيظهر ما فيه.
تنبيهات
(الأول) ـ تفرد
المحدث الكاشاني (قدسسره) بمسألة ذهب إليها واستند الى هذين الخبرين في الدلالة
عليها ، وهي ان المتنجس بعد ازالة عين النجاسة عنه بالتمسح لا تتعدى نجاسته إلى ما
يلاقيه برطوبة. وقد أشبعنا الكلام معه في جملة
__________________
من فوائدنا ، ولا سيما في رسالتنا قاطعة القال والقيل في نجاسة الماء
القليل ، فانا قد أحطنا فيها بأطراف الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام ، ولنشر هنا
إلى نبذة من ذلك كافلة بتحقيق ما هنالك.
فنقول : قال
الفاضل المذكور في كتاب الوافي ـ بعد نقل موثقة حنان المذكورة وذكر المعنى الذي حملنا عليه الخبر أولا ـ ما صورته : «ويحتمل
الحديث معنى آخر ، وهو ان تكون شكايته من انتقاض وضوئه بالبلل الذي يجده بعد
التمسح لاحتمال كونه بولا كما يستفاد من اخبار الاستبراء. وذكر العجز عن الماء على
هذا التقدير يكون لتعذر ازالة البلل عن ثوبه وسائر بدنه حينئذ ، فإنه قد تعدى من
المخرج إليهما وهذا كما ذكر العجز في حديث محمد السابق في الاستبراء . وعلى هذا لا يحتاج الى تكلف تخصيص التمسح بالريق
بالمواضع الطاهرة ، ولا إلى تكلف تعدي النجاسة من المتنجس ، بل يصير الحديث دليلا
على عدم التعدي منه ، فان التمسح بالريق مما يزيدها تعديا. وهذا المعنى أوفق
بالأخبار الأخر. وهذان الأمران ـ أعني عدم الحكم بالنجاسة إلا بعد التيقن وعدم
تعدي النجاسة من المتنجس ـ بابان من رحمة الله الواسعة فتحهما لعباده رأفة بهم
ونعمة لهم ولكن أكثرهم لا يشكرون. ثم نقل خبر سماعة المتقدم ، وقال بعده : لا يخفى على من فك رقبته من ربقة التقليد
ان هذه الأخبار وما يجري مجراها صريحة في عدم تعدي النجاسة من المتنجس إلى شيء
قبل تطهيره وان كان رطبا إذا أزيل عنه عين النجاسة بالتمسح ونحوه ، وانما المنجس
للشيء عين النجاسة لا غير. على انا لا نحتاج إلى دليل في ذلك. فان عدم الدليل على
وجوب
__________________
الغسل دليل على عدم الوجوب ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان» ونحوه ذكر في
كتاب المفاتيح.
أقول : ما ذكره
(قدسسره) في هذا المقام غير تام ، لتوجه البحث اليه من وجوه : (أحدها)
ـ انه لا دلالة في خبر حنان على هذا الوصف الذي بنى عليه هذه المباني المتعسفة ،
وارتكب فيه هذه الاحتمالات المتكلفة.
و (ثانيها) ـ انه
لو كانت شكاية السائل إنما هي من حيث خوف انتقاض وضوئه بالبلل الخارج من جهة
احتمال كونه بولا ، لكان جوابه بالأمر بالاستبراء بعد البول ، فان حكمة الاستبراء
هو البناء على طهارة ما يخرج بعده وعدم نقضه.
و (ثالثها) ـ انه
لو كان وجه الحكمة في الأمر بوضع الريق على مخرج البول هو عدم انتقاض الطهارة ـ بمعنى
ان ينسب ذلك البلل الذي يجده إلى الريق ليكون غير ناقض ، ولا ينسبه إلى الخروج من
الذكر فيكون ناقضا ـ فأي فرق في ذلك بين الحكم بتعدي النجاسة من المخرج بعد مسحها
وعدم تعديها؟ فان وجه الحكمة يحصل على كلا التقديرين ، فانا لو قلنا بالتعدي ومسح
المخرج بريقه لقصد هذه الحكمة وكون الخارج غير ناقض أمكن وان كان نجسا. وبالجملة
فإنه لا منافاة بين حصول هذه الحكمة وبين القول بتعدي النجاسة.
و (رابعها) ـ ان
ما ادعاه ـ من أوفقية هذا المعنى بالاخبار ـ غير ظاهر ، فان من جملة تلك الأخبار رواية
حكم بن حكيم الصيرفي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : أبول فلا أصيب الماء ، وقد أصاب يدي شيء من البول
فأمسحه بالحائط
__________________
أو التراب ، ثم تعرق يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال : لا
بأس به». وعجز صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) حيث قال فيها : «وسألته عمن مسح ذكره بيده ثم عرقت يده
فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال : لا». ولا دلالة فيهما على كون اصابة الثوب ومسح الوجه
أو بعض الجسد بذلك الموضع النجس ، ولا على كون النجاسة شاملة لليد كملا ، حتى
تستلزم الإصابة ببعض منها ذلك ، بل هما أعم من ذلك. ونفي البأس فيهما إنما وقع
لذلك ، لانه ما لم يعلم وصول النجاسة إلى شيء ومباشرتها له برطوبة فلا يحكم
بالنجاسة. وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.
والحمل على ما
ذكرنا نظيره في الأخبار غير عزيز. فان كثيرا من الأخبار ما يوهم بظاهره ما أوهمه
هذان الخبران مما هو مخالف لما عليه الفرقة الناجية (أنار الله برهانها) ويحتاج في
تطبيقه إلى نوع تأويل.
مثل صحيحة
زرارة قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه ، أيتجفف فيه من غسله؟ فقال : نعم لا
بأس به إلا ان تكون النطفة فيه رطبة ، فإن كانت جافة فلا بأس».
قال الشيخ (قدسسره) : «ان التجفيف المذكور في هذا الخبر محمول على عدم
اصابة محل المني» انتهى.
وربما أشكل ذلك
بأنه لا وجه حينئذ لاستثنائه النطفة الرطبة دون الجافة ، لاشتراكهما في حصول البأس
مع الإصابة لهما وانتفائه مع عدم أصابتهما. ويمكن ان يقال ان الرطوبة مظنة التعدي
في الجملة.
__________________
وصحيحة أبي
أسامة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : تصيبني السماء وعلى ثوب فتبله وأنا جنب ، فيصيب بعض
ما أصاب جسدي من المني ، أفأصلي فيه؟ قال : نعم».
ويمكن تأويله
بأن البلل جاز ان لا يعم الثوب بأسره وتكون اصابة الثوب ببعض منه ليس فيه بلل ،
ويجوز ان يكون البلل قليلا بحيث لا تتعدى معه النجاسة وان كان شاملا للثوب باصرة ،
كذا افاده والدي (قدسسره) في بعض فوائده. ومثل ذلك في الأخبار كثير يقف عليه
المتتبع. والغرض التنبيه على قبول ما استدل به للتأويل كما في نظائره الواردة من
هذا القبيل ، فلا يحتج به إذا على خلاف النهج الواضح السبيل الذي عليه عامة
العلماء جيلا بعد جيل.
و (خامسها) ـ ان
صدر صحيحة العيص المتقدم نقل عجزها ـ حيث قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد
عرق ذكره وفخذاه. قال : يغسل ذكره وفخذيه. الحديث» ـ. واضح الدلالة في إبطال هذه
المقالة ، فإن ظاهر جملة «وقد عرق ذكره. إلخ» انها معطوفة على ما تقدمها ، وحينئذ
فتدل الرواية على ان العرق إنما وقع بعد البول ومسح الذكر ، وقد أمر (عليهالسلام) بغسل الذكر والفخذين لذلك العرق المتعدي من مخرج البول
بعد مسحه ، وهو دليل على تعدي النجاسة بعد المسح.
واما ما توهمه
بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ من ان الرواية المذكورة بطرفيها مما
يمكن ان يستدل به على ما ذهب اليه المحدث الكاشاني ، بأن يقال : الفرق بين الذكر
والفخذ عند عرقهما قبل التطهير الشرعي وبين الثوب عند
__________________
اصابته بعرق اليد الماسحة للذكر قبله ـ بالأمر بغسلهما دونه ـ لا وجه له
ظاهرا سوى الفرق بين ما يلاقي المتنجس وما يلاقي عين النجاسة ، فإن غسلهما إنما هو
لملاقاتهما بالرطوبة للمحل النجس قبل زوال عين النجاسة بالمسح بالحجر ، كما ترشد
اليه وأو الحال وذلك يقتضي تعديها من المحل إلى ما يجاوره ويلاصقه من بقية اجزاء
الذكر والفخذ ، بخلاف الثوب ، فان ملاقاته إنما وقعت بالمتنجس وهي اليد الماسحة
بعد زوال عين النجاسة من الماسح والممسوح ـ فهو ظاهر السقوط ، فان مفاد عطف مسح
الذكر على البول بالفاء التي مقتضاها الترتيب بغير مهلة هو كون المسح وقع عقيب
البول بلا فصل ، ولا يعقل على هذه الحال حصول العرق للذكر والفخذ على وجه يتعدى من
الذكر اليه قبل المسح ، حتى يتم ما ذكره من ان غسلهما إنما هو لملاقاتهما بالرطوبة
للمحل النجس قبل زوال عين النجاسة بالمسح بالحجر. إلخ ، وكذا لا يعقل انه تركه
بغير مسح حتى يتردد في المغدى والمجيء على وجه يعرق ذكره وفخذاه وعين البول باقية
ضمن تلك المدة ، حتى انه بسبب العرق تتعدى نجاسة البول إلى فخذيه مثلا ، بل من
المعلوم انه بمجرد المغدى والمجيء تتعدى النجاسة مع وجود عينها من غير حصول عرق
إلى سائر بدنه وثيابه ، بل الوجه الظاهر البين الظهور ـ ان تنزلنا عن دعوى القطع
الذي ليس بمستبعد ولا منكور ـ ان المراد من الخبر إنما هو السؤال عن انه متى بال
ولم يكن معه ماء فمسح ما بقي على طرف ذكره من البول لئلا يتعدى إلى ثوبه أو بدنه
فينجسه ، ثم انه بعد ذلك حصل عرق في ذكره وفخذيه بحيث علم تعدي العرق من المحل
المتنجس إلى الفخذ وملاقاة أحدهما للآخر برطوبة ، فأجاب (عليهالسلام) بوجوب غسل ذكره وفخذيه لتعدي النجاسة على ما ذكرنا ،
وحينئذ فجملة «وقد عرق» معطوفة كما ذكرنا لا حالية كما ذكره (قدسسره) واما قوله : «بخلاف الثوب فان ملاقاته إنما وقع
بالمتنجس» ففيه ما عرفت آنفا.
و (سادسها) ـ ان
ما ذكره ـ من ان عدم الدليل دليل على العدم ـ مسلم لو لم يكن ثمة دليل. والأدلة
على ما ندعيه ـ بحمد الله ـ واضحة وأعلامها لائحة.
فمن ذلك ـ صحيح
العيص المذكور على ما أوضحناه من الوجه النير الظهور ومن ذلك ـ استفاضة
الأخبار بغسل الأواني والفرش والبسط ونحوها متى تنجس شيء منها ، فان من المعلوم
ان الأمر بغسلها ليس إلا لمنع تعدي نجاستها إلى ما يلاقيها برطوبة مما يشترط فيه
الطهارة. ولو كان مجرد زوال العين كافيا في جواز استعمال تلك الأشياء لما كان
للأمر بالغسل فائدة ، بل ربما كان محض عبث ، لان تلك الأشياء بنفسها لا تستعمل
فيما يشترط فيه الطهارة كالصلاة فيها ونحوه حتى يقال ان الأمر بغسلها لذلك ، فلا
يظهر وجه حسن هذا التكلف. هذا مع بناء الشريعة على السهولة والتخفيف.
ومن ذلك ـ أخبار
نجاسة الدهن والدبس المائعين ونحوهما بموت القارة ونحوها وربما خص بعضهم موضع خلافه في هذه المسألة بالأجسام
الصلبة بعد ازالة عين النجاسة عنها بالتمسح ونحوه ، كما هو مورد الموثقة التي
استند إليها وعول في المقام عليها .
وربما أيد أيضا
بقوله فيما قدمنا نقله عنه : «إذا أزيل عنه عين النجاسة بالتمسح ونحوه. وفيه ان
قوله في تتمة العبارة المذكورة ـ : «وانما المنجس للشيء عين النجاسة لا غير» ـ صريح
في العموم.
ويدل أيضا عليه
بأوضح دلالة ما صرح به في كتاب المفاتيح في مفاتيح النجاسات حيث قال بعد ذكر
النجاسات العشر في مفاتيح متعددة ـ ما صورته : «مفتاح ـ
__________________
كل شيء غير ما ذكر فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة ، للأصل
السالم من المعارض ، وللموثق : «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ... » فان تخصيصه الاستثناء بما يلاقي شيئا من النجاسات خاصة
يدل على ان ما لاقى المتنجس صلبا كان أو مائعا بعد ازالة عين النجاسة فهو داخل في
كلية الطهارة بلا اشكال. وانما أطلنا الكلام وان كان خارجا عن المقام لسريان
الشبهة في أذهان جملة من الاعلام.
(الثاني) ـ اختلف
الأصحاب في أقل ما يجزئ من الماء في الاستنجاء من البول ، فنقل عن الشيخين ـ في
المبسوط والنهاية والمقنعة ـ ان أقل ما يجزئ مثلا ما على رأس الحشفة ، ونقله في
المختلف عن الصدوقين أيضا ، واليه ذهب المحقق في المعتبر والشرائع ، والعلامة في
القواعد والتذكرة ، بل صرح بعض مشايخنا بأنه قول الأكثر. ونقل عن أبي الصلاح ان
أقل ما يجزئ ما أزال العين عن رأس الفرج.
وقال ابن إدريس
في السرائر أقل ما يجزئ من الماء لغسله ما يكون جاريا ويسمى غسلا. والظاهر اتحاد
كلامي أبي الصلاح وابن إدريس ، كما فهمه العلامة في المختلف ومال اليه فيه أيضا
وفي المنتهى ، ونقله عن ظاهر ابن البراج أيضا.
ويدل على القول
الأول رواية نشيط بن صالح عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته كم يجرئ من الماء في الاستنجاء من البول؟
فقال : مثلا ما على الحشفة من البلل».
والرواية مع
ضعف السند معارضة بما رواه أيضا في هذا الباب عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «قال يجزئ من البول ان يغسله بمثله».
وما رواه في
الكافي مرسلا مضمرا انه «يجزئ ان يغسل بمثله من الماء
__________________
إذا كان على رأس الحشفة وغيره».
وما رواه ابن
المغيرة في الحسن عن أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «قلت له : للاستنجاء حد؟ قال : لا حتى ينقى ما
ثمة».
وبإطلاق الأمر
بغسله في جملة من الاخبار الحاصل امتثاله بما يحصل به النقاء ولو بالمثل ، والأصل
عدم التقييد. والمقيد مع ضعف سنده معارض بما عرفت ، بل يمكن الطعن في دلالته بأن
الاجزاء في المثلين لا يقتضي سلب الاجزاء عما دونه والمراد اجزاء الفرد الأكمل.
وبذلك يظهر قوة القول الثاني.
إلا انه يمكن
ان يقال : ان إطلاق الأخبار ـ بالغسل في بعض والصب في آخر والتحديد بالنقاء في
ثالث ـ لا ينافي عند التأمل خبر المثلين ، فان الظاهر ان الغسل لا يصدق إلا بما
يقهر النجاسة ويغلب عليها ، ولا يحصل ذلك بأقل من المثلين ، ومثله الصب بطريق اولى
، وأظهر من ذلك النقاء المستلزم للغلبة البتة. نعم يبقى خبرا المثل مناقضين لذلك ،
وهما لا يبلغان قوة المعارضة ، سيما مع تأيد هذه الأخبار بموافقة الاحتياط.
واما ما أجاب
به الشيخ (رحمهالله) في كتابيه عن خبر المثل ـ حيث اعتمد على خبر المثلين ،
واقتفاه المحدث الحر العاملي (قدسسره) في كتاب الوسائل ، من احتمال رجوع ضمير «مثله» الى
البول الخارج كلا ـ ففيه ان ضميري «يغسله» و «بمثله» لا مرجع لهما إلا لفظ البول
المتقدم ، وتعلق الغسل بالبول الخارج كلا لا معنى له ، بل المغسول إنما هو المتخلف
على المخرج ، وحينئذ فالوجه حمل البول في الرواية على المتخلف ، والمعنى انه يجزئ
من ازالة البول أو من غسل البول ان يغسله بمثله.
ولو قيل : انه
يمكن تصحيح ما ذهب اليه الشيخ بنوع من الاستخدام ، بجعل
__________________
ضمير «يغسله» للبول المتخلف ، وضمير «مثله» لمجموع الخارج.
ففيه (أولا) ـ انه
لا قرينة تدل عليه ، ولا ضرورة توجب المصير اليه.
و (ثانيا) ـ ان
القول بوجوب المثلين دون الأقل منه إنما نشأ من لفظ الاجزاء في الرواية المستدل
بها على ذلك الذي هو عبارة عن الاكتفاء بأقل المراتب ، وحينئذ يلزم ـ بناء على ما
ذكره من التأويل في الرواية الثانية ـ انه لا يكفي أقل من مثل البول الخارج كملا ،
وهو بعيد جدا. والاعتذار بحمل الزائد على المثلين على الاستحباب ـ مع منافاة لفظ
الاجزاء له وكون الزيادة إلى ذلك المقدار ربما تبلغ حد الإسراف ـ أبعد. على ان ذلك
لا يكون حينئذ ضابطا ولا حكما منضبطا ، لزيادة البول الخارج تارة ونقصانه اخرى.
فالظاهر حينئذ هو ما ذكرناه.
(الثالث) ـ هل
المراد بالمثلين في الخبر مجرد الكناية عن الغسلة الواحدة ، لاشتراط الغلبة في
المطهر وهي لا تحصل بالمثل كما قدمنا ذكره ، أو المراد به بيان التعدد ووجوب غسل
مخرج البول مرتين ، والتعبير بالمثلين هنا لبيان أقل ما يجزئ فيه؟ قولان :
أظهرهما الأول
، ويعضده (أولا) ـ ان الرواية لا ظهور لها في كون المثلين دفعة أو دفعتين.
و (ثانيا) ـ ما
قدمنا من حسنة ابن المغيرة ، وإطلاق الاخبار بالغسل والصب المقتضى ذلك للغلبة
والزيادة في الغسلة.
و (ثالثا) ـ ان
جعل المثل غسلة ـ مع اعتبار أغلبية ماء الغسلة على النجاسة واستيلائه عليها كما
عرفت ـ مما لا يرتكبه محصل.
نعم يبقى هنا
شيء وهو انه قد استفاضت الأخبار بوجوب المرتين في إزالة نجاسة
__________________
البول عن الثوب والبدن مع ان ما نحن فيه داخل تحت المسألة ، والاخبار هنا
قد دلت على الاكتفاء بالمرة كما حققناه ، وحينئذ فاما ان يخصص عموم تلك الأخبار
بأخبار الاستنجاء ، فيقال بوجوب المرتين في ما عدا الاستنجاء ، أو يقيد إطلاق هذه
الاخبار بتلك فتجب المرتان هنا ، ولعل الترجيح للأول. ونمنع شمول أخبار المرتين
لموضع النزاع بل ظهورها فيما عداه ، ولأن تقييد المطلق مجاز والأصل عدمه.
(الرابع) ـ هل
الواجب على تقدير التعدد الانفصال الحقيقي ليحصل التعدد عرفا ، أو يكفي الانفصال
التقديري؟ قولان :
اختار أو لهما
شيخنا الشهيد في الذكرى ، مع انه اكتفى في تحقق المرتين في غير الاستنجاء
بالانفصال التقديري ، واعتذر عنه المحقق الشيخ علي (رحمهالله) في شرح القواعد فقال : «وما اعتبره في الذكرى ـ من
اشتراط تخلل الفصل بين المثلين ليتحقق تعدد الغسل ـ حق ، لا لأن التعدد لا يتحقق
إلا بذلك ، بل لأن التعدد المطلوب بالمثلين لا يوجد بدون ذلك ، لان ورود المثلين
دفعة واحدة غسلة واحدة» انتهى.
وتوضيحه ان
التعدد التقديري لا بد في العلم بتحققه من زيادة على الغسلتين ، وهي غير متحققة في
المثلين إذا وقعا دفعة ، بل إنما يعدان كذلك غسلا واحدا. وعلى كل حال فالأحوط
اعتبار الغسل مرتين بل ثلاث مرات ، لما في صحيح زرارة المقطوع «كان يستنجي من البول ثلاث مرات».
والأحوط مع ذلك
أيضا الفصل الحقيقي بين الغسلات.
(الخامس) ـ صرح
جمع ـ منهم : المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى ـ انه لو
لم يجد الماء لغسل البول أو تعذر استعماله لجرح ونحوه وجب التمسح بالحجر ونحوه ،
لان الواجب ازالة العين والأثر ، فلما تعذرت إزالتهما معا لم تسقط ازالة العين.
__________________
ونقل عن بعض
المتأخرين انه فهم من هذا الكلام انهم يرون وجوب تجفيف مطلق النجاسة عند تعذر
إزالتها ، وان ذلك بدل اضطراري للطهارة من النجاسات كبدلية التيمم للطهارة من
الأحداث ، وصرح بالموافقة لهم عليه.
وفيه (أولا) ـ ان
ما ذكروه من وجوب المسح بالحجر ونحوه في هذا المقام لا دليل عليه. وما استندوا
إليه في الدلالة مجرد اعتبار لا دلالة عليه في الاخبار ، إذ غاية ما يستفاد منها
وجوب التطهير بالغسل وصب الماء ، فعند تعذر الماء يسقط التكليف رأسا. وكون الغسل
مثلا مشتملا على الأمرين المذكورين لا يستلزم التكليف بأحدهما عند فقده. ولا ريب
ان ما ذكروه طريق احتياط لمنع تعدي النجاسة الى الثوب والبدن.
و (ثانيا) ـ ان
هذا القائل ان أراد ـ بما فهمه من كلامهم من البدلية ـ ثبوت التطهير بالحجر في حال
الضرورة ، كما يفهم من ظاهر كلامه وتمثيله ببدلية التيمم ، فهو مخالف لما عرفت
آنفا من الإجماع ـ نصا وفتوى ـ على عدم التطهير في الاستنجاء من البول إلا بالماء
أعم من ان يكون حال ضرورة أو سعة ، وعبائر هؤلاء الجماعة الذين قلدهم فيما فهم من
كلامهم ناطقة بذلك ، وان أراد مجرد تجفيف النجاسة حذرا من التعدي ، فقد عرفت انه
لا دليل عليه وان كان الاولى فعله.
(السادس) ـ الظاهر
انه لا يجب الدلك ، لما روى «انه ليس بوسخ فيحتاج ان يدلك» . ولما في الاخبار من الأمر بالصب خاصة ، وفي بعضها بعد الأمر بالصب «فإنما هو ماء». هذا إذا كان رطبا. فلو
كان جافا مترا كما فلا يبعد الوجوب. لعدم تيقن
__________________
الإزالة إلا به ، مع احتمال العدم وقوفا على ظاهر إطلاق الاخبار ، منضما
إلى أصالة البراءة. والاحتياط يقتضي الأول البتة.
(السابع) ـ هل
يجب على الأغلف في الاستنجاء من البول كشف البشرة وتطهير محل النجاسة ، أو يكتفي
بغسل ما ظهر؟ قولان مبنيان على ان ما تحت الغلفة هل هو من الظواهر أو البواطن؟
وبالأول جزم
المحقق الشيخ علي (قدسسره) في شرح القواعد ، ونقل الثاني فيه عن المنتهى والذكرى
، معللين له بإلحاقه بالبواطن فيغسل ما ظهر ، ثم قال : «وللنظر فيه مجال».
أقول : والذي
وقفت عليه في الكتابين المذكورين لا يطابق ما نقل (قدسسره) عنهما ، فإنه صرح في الذكرى بأنه يجب كشف البشرة على
الأغلف ان أمكن ، ولو كان مرتتقا سقط. ومثله في المنتهى فيما إذا كشفها وقت البول
، اما لو لم يكشفها حال البول فهل يجب كشفها لغسل المخرج؟ فإنه استقرب الوجوب هنا
ايضا. ومثله في المعتبر أيضا ، فإنه تردد في هذه الصورة في الوجوب ، ثم اختاره
وجعله الأشبه ، معللا له بأنه يجري مجرى الظاهر. وجزم في التذكرة والتحرير بالحكم
في هذه الصورة من غير تردد. وبالجملة فإني لم أقف فيما حضرني من كتب الفقهاء علي
خلاف في وجوب غسل البشرة في الصورة المذكورة إلا على ما نقله المحقق الشيخ على.
وقد عرفت ما فيه. نعم ظاهر المنتهى والمعتبر التردد في ذلك إلا أنهما اختارا
الوجوب كما عرفت. ومن ذلك يعلم انه لا ينبغي الركون إلى مجرد النقل والاعتماد عليه
بل ينبغي مراجعة المنقول عنه حيث كان وعلى اي نحو كان.
(الثامن) ـ اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيمن صلى ناسيا للاستنجاء ، فالمشهور وجوب الإعادة
وقتا وخارجا. وعن ابن الجنيد تخصيص وجوب
الإعادة بالوقت واختيار الاستحباب خارجه. وعن الصدوق في الفقيه وجوب
الإعادة في البول دون الغائط فلا يعيد ، وزاد في البول اعادة الوضوء ايضا. وعن ابن
أبي عقيل ان الاولى إعادة الوضوء ولم يقيد ببول ولا غائط. وروايات المسألة مختلفة
جدا.
فمما يدل على
المشهور صحيحة زرارة قال : «توضأت يوما ولم اغسل ذكري ثم صليت ، فسألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن ذلك ، فقال اغسل ذكرك وأعد صلاتك». وإنما حملنا
الرواية على ترك الغسل نسيانا لبعد التعمد من مثل زرارة في الصلاة بغير استنجاء.
وصحيحة عمرو بن
أبي نصر المتقدمة في أول المسألة .
وموثقة ابن
بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يبول وينسى ان يغسل ذكره حتى يتوضأ ويصلي؟ قال : يغسل ذكره ويعيد
الصلاة ولا يعيد الوضوء».
ومورد الجميع
نسيان الاستنجاء من البول. وموثقة سماعة قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : إذا دخلت الغائط فقضيت الحاجة فلم تهرق الماء ، ثم
توضأت ونسيت أن تستنجي ، فذكرت بعد ما صليت ، فعليك الإعادة ، وان كنت أهرقت الماء
فنسيت ان تغسل ذكرك حتى صليت فعليك اعادة الوضوء والصلاة وغسل ذكرك ، لان البول
مثل البراز».
وإطلاق هذه
الاخبار يدل على الإعادة وقتا وخارجا.
وبإزائها ما
يدل على عدم الإعادة ، كرواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يتوضأ وينسى ان يغسل ذكره وقد بال؟ فقال : يغسل ذكره ولا يعيد
الصلاة».
ورواية عمرو بن
أبي نصر قال : «قلت لأبي عبد الله : اني صليت
__________________
فذكرت اني لم اغسل ذكري بعد ما صليت ، أفأعيد؟ قال : لا». ومورد الروايتين
نسيان البول.
وموثقة عمار بن
موسى قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : لو ان رجلا نسي ان يستنجى من الغائط حتى يصلي
لم يعد الصلاة».
وصحيحة علي بن
جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل ذكر وهو في صلاته انه لم يستنج من
الخلاء. قال : ينصرف ويستنجي من الخلاء ويعيد الصلاة ، وان ذكر وقد فرغ من صلاته
أجزأه ذلك ولا اعادة عليه».
ومن هذه
الأخبار تعلم أدلة القولين الآخرين :
وجمع الشيخ بين
هذه الأخبار بما لا يخلو من البعد.
وظاهر الأصحاب (رضوان
الله عليهم) جعل هذه المسألة خارجة عن مسألة من صلى في النجاسة ناسيا ، حيث لم
ينقل الخلاف هنا في وجوب الإعادة وقتا وخارجا ، إلا عن ظاهر ابن الجنيد حيث خصص
الوجوب بالوقت ، وعن الصدوق حيث نفى الإعادة في الغائط. واما هناك فأكثر المتقدمين
على الإعادة مطلقا وعن الشيخ في بعض أقواله العدم مطلقا ، وفي كتاب الاستبصار ـ وتبعه
عليه رجل المتأخرين ـ الإعادة في الوقت دون خارجه.
وصريح عبارة
السيد السند في المدارك ان هذه المسألة من جزئيات تلك ، فإن أراد أنها كذلك عند
الأصحاب ، ففيه ما عرفت. وان أراد ان مقتضى الدليل كونها كذلك ، فهو كذلك ، إلا ان
اخبار تلك المسألة ايضا على غاية من الاختلاف. وسيأتي بسط الكلام عليها في محلها
ان شاء الله تعالى.
نعم يبقى
الكلام هنا في الجمع بين اخبار هذه المسألة ، ولعل الترجيح لأخبار
__________________
العدم ، لتأيدها بالأصل ، ويحمل ما يقابلها على الاستحباب جمعا.
واحتمل بعض
المتأخرين حمل أخبار الإعادة على انتقاض الوضوء السابق بخروج بلل مع عدم
الاستبراء. وفيه انه لا قرينة في شيء من تلك الأخبار تؤنس به. الا انه ربما يجوز
ابتناء ذلك على قرينة حالية وان خفيت علينا الآن ، وله نظائر في الاخبار. ولو تم
ما استندوا إليه ـ في الجمع بين أخبار الصلاة في النجاسة نسيانا بالإعادة وقتا لا
خارجا ـ لأمكن الحمل عليه هنا أيضا. الا انه ـ كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى
ـ غير تام. والمسألة لا تخلو عن الاشكال ، لتصادم اخبارها مع صحة الجميع وصراحته.
والجمع بما ذكرناه من الوجوه لا يخلو عن بعد. فالاحتياط فيها لازم.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الصدوق (رحمهالله تعالى) ذهب إلى وجوب اعادة الوضوء في نسيان الاستنجاء
من البول خاصة كما قدمنا ذكره.
وعليه تدل
موثقة سماعة المتقدمة وصحيحة سليمان بن خالد عن أبي جعفر (عليهالسلام) «في الرجل يتوضأ فينسى غسل ذكره؟ قال : يغسل ذكره ثم يعيد الوضوء».
ومثلها موثقة
أبي بصير .
وبإزائها من
الأخبار في ذلك صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يبول فلا يغسل ذكره حتى يتوضأ
وضوء الصلاة. فقال يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه».
وصحيحة عمرو بن
أبي نصر المتقدمة وصحيحة أخرى له ايضا قال :
__________________
«سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يبول فينسى ان يغسل ذكره ويتوضأ قال يغسل
ذكره ولا يعيد وضوءه».
وموثقة ابن
بكير المتقدمة وحسنة ابن أذينة المتقدمة في صدر المسألة وجمع الشيخ (رضى الله عنه) بينها بحمل اعادة الوضوء على
ما إذا لم يتوضأ سابقا وفيه ان لفظ الإعادة في بعضها ينافيه ، مع ذكر الوضوء سابقا
في بعض آخر. وجمع آخرون بحمل الإعادة على الاستحباب. ولا بأس به. إلا ان الأقرب
حمل ذلك على التقية ، إذ هي الأصل التام في اختلاف الاخبار كما تقدم بيانه .
وكيف كان
فالأحوط إعادة الوضوء في الاستنجاء من البول كما هو مورد تلك الأخبار.
و (منها) ـ الاستنجاء
من الغائط. وتحقيق الكلام فيه يقع في مواضع :
(الأول) ـ الظاهر
انه لا خلاف في انه مع التعدي يتعين فيه الماء ومع عدمه يتخير بينه وبين الأحجار
وشبهها.
لكن بيان معنى
التعدي هنا لا يخلو من إجمال واشكال ، حيث ان ما صرح به الأصحاب ـ من انه عبارة عن
تجاوز الغائط المخرج وهو حواشي الدبر وان لم يبلغ الأليتين ـ لا دليل عليه في
اخبار الاستنجاء بالأحجار الواردة من طرقنا بل هي مطلقة نعم روي من طرق العامة عنه
صلىاللهعليهوآله «يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محل العادة» .
__________________
والظاهر ان
مستند أصحابنا في ذلك إنما هو الإجماع كما صرح به جماعة منهم ، ومن ثم توقف فيه
جملة من متأخري متأخريهم.
بل جزم البعض ـ
كالسيد السند في المدارك ـ بأنه ينبغي أن يراد بالتعدي وصول النجاسة إلى محل لا
يعتاد وصولها اليه ، ولا يصدق على إزالتها اسم الاستنجاء.
والظاهر انه
الأقرب (اما أولا) ـ فلعموم الأدلة وعدم المحصص.
و (اما ثانيا)
ـ فلبناء الأحكام الشرعية على ما هو المتعارف المعتاد المتكرر دون النادر القليل
الوقوع ، كما لا يخفى على من تتبع مظانها. ولا يخفى ان المتكرر هو التجاوز مع عدم
التفاحش.
و (اما ثالثا)
ـ فلما صرحوا به في ماء الاستنجاء من الحكم بطهارته ما لم يتفاحش الخارج على وجه
لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء ، وحينئذ فكما بنوا الحكم هناك في طهارة الماء
على ما يزال به المعتاد المتكرر الذي يصدق على إزالته اسم الاستنجاء ، فلو تفاحش
وخرج عن ذلك المصداق لم يحكم بطهارة غسالته ، فكذا يجب البناء عليه ههنا.
و (اما رابعا)
ـ فلانه المناسب لبناء شرعية الأحجار من رفع الحرج والضيق في الشرعية. هذا.
والاحتياط لا يخفى.
__________________
(الثاني) ـ انه
مع التعدي هل يجب غسل الجميع بالماء فلا يطهر بغيره ، أو الواجب غسل ما زاد على
القدر الذي يجزئ فيه الأحجار ، فلو غسله كفى استعمال الأحجار في الباقي؟ لم أقف
على صريح كلام لهم في ذلك إلا ان ظاهر عبارتهم الأول.
(الثالث) ـ الواجب
في الغسل غسل ظاهر المخرج دون باطنه بلا خلاف.
وعليه تدل صحيحة
إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليهالسلام) «قال في الاستنجاء : يغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الأنملة».
وموثقة عمار «إنما عليه ان يغسل ما ظهر منها ـ يعني المقعدة ـ وليس عليه ان يغسل باطنها».
(الرابع) ـ قد
صرح جمع من الأصحاب بأنه يجب في الغسل هنا ازالة العين والأثر. وغاية ما يستفاد من
الأخبار الإنقاء كما في حسنة ابن المغيرة المتقدمة وهو عبارة عن ازالة العين ازالة تامة وان بقيت الريح ،
لقوله في تتمة الرواية المذكورة : «قلت : فإنه ينقى ما ثمة وتبقى الريح؟ قال :
الريح لا ينظر إليها». وإذهاب الغائط كما في موثقة يونس بن يعقوب «يغسل ذكره ويذهب الغائط ...». والغسل كما في ثالث. نعم يستحب المبالغة ، ف
إنها مطهرة للحواشي ومذهبة للبواسير ، كما في صحيحة مسعدة بن زياد أو موثقته .
واما ما ذكروا
بعد العين من الأثر فلم نقف له في الأخبار على عين ولا أثر ، مع اضطراب كلامهم في
تفسيره.
__________________
فقيل بأنه ما
يتخلف على المحل بعد مسح النجاسة وتنشيفها ، وانه غير الرطوبة لأنها من العين.
واعترض عليه
بان هذا المعنى غير متحقق ولا واضح ، وعلى تقدير تحققه فوجوب إزالته إنما يتم مع
عدم صدق النقاء والإذهاب والغسل ، وإلا فلو صدق شيء من ذلك قبله لزم الاكتفاء به
حسبما دلت عليه تلك الأخبار.
وأجاب بعض
محدثي متأخري المتأخرين عن أصل الاعتراض بان المحل يكتسب ملوسة من مجاورة الخارج ،
وهذه الملوسة تدرك بالملامسة عند صب الماء ، فلعل مراده هذه ، فإنها غير الرطوبة
المذكورة. وفيه من التمحل ما لا يخفى.
وقيل انه اللون
، لانه عرض لا يقوم بنفسه ، فلا بد له من محل جوهري يقوم به ، والانتقال على
الاعراض محال ، فوجوده حينئذ دليل على وجود العين.
وفيه (أولا) ـ النقض
بالرائحة ، فإنها تحصل بالمجاورة. ومما يؤيد عدم الاستلزام ايضا حدوث الحرارة في
الماء بالنار والشمس.
و (ثانيا) ـ تصريح
الأصحاب والاخبار بالعفو عن اللون.
و (ثالثا) ـ منع
وجوب الإزالة بعد حصول الإنقاء والإذهاب والغسل كما عرفت ، إذ هو غاية ما يستفاد
وجوبه من الأخبار.
(الخامس) ـ المشهور
ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ انه يكفي في الاستنجاء مع عدم التعدي كل جسم طاهر جاف
قالع للنجاسة. ونقل عن سلار انه لا يجزئ في الاستجمار إلا ما كان أصله الأرض. وعن
ابن الجنيد انه قال : «ان لم تحضر الأحجار تمسح بالكرسف أو ما قام مقامه. ثم قال :
ولا اختار الاستطابة بالآجر والخزف إلا ما ألبسه طين أو تراب يابس» وعن المرتضى
انه قال : «يجوز الاستنجاء بالأحجار أو ما قام مقامها من المدر والخزف».
أقول :
والموجود في النصوص من ذلك ـ الأحجار كما في جملة من الأخبار :
(منها) ـ صحيحة
زرارة «ويجزئك من
الاستنجاء ثلاثة أحجار ...».
والكرسف وهو
القطن ، كما في صحيحة زرارة قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول : كان الحسين (عليهالسلام) يتمسح من الغائط بالكرسف ولا يغسل».
والمدر والخرق
والخزف كما في صحيحة زرارة المضمرة قال : «كان يستنجى من الغائط بالمدر والخرق والخزف». وربما
وجد في بعض نسخ التهذيب بعد المدر «الخزف» بالزاي والفاء خاصة.
ويدل على
التعميم ـ كما هو القول المشهور ـ حسنة ابن المغيرة حيث سأله هل للاستنجاء حد؟ فأجاب (عليهالسلام): «لا حتى ينقى ما ثمة». وجه الدلالة انه (عليهالسلام) نفى الحد وناط ذلك بالنقاء ، واشتراط الإزالة بشيء خاص
نوع من التحديد زائد على الإنقاء المطلق المتحقق بأي مزيل كان إلا ما قام الدليل
على استثنائه.
وموثقة يونس بن
يعقوب المتقدمة المتضمنة لاذهاب الغائط ، فإن ظاهرها الاكتفاء بزوال
العين بأي مزيل إلا ما استثنى.
ويعضد ذلك
الإجماع المدعى في المقام. وللمناقشة في الجميع مجال.
وظاهر شيخنا
صاحب كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل التوقف في الحكم
__________________
المذكور ، لعدم الدليل الواضح على العموم. وهو في محله ، لأن الطهارة حكم
شرعي يتوقف على ما جعله الشارع مطهرا. وإطلاق الروايتين المذكورتين يمكن تقييده
بخصوص الأفراد التي وردت بها النصوص. والإجماع لا يخفى ما فيه. وكيف كان فطريق
الاحتياط الاقتصار على ما وردت به الأخبار.
(السادس) ـ قد
اشترطوا ـ بناء على القول بالتعميم ـ في آلة الاستنجاء شروطا :
منها ـ الطهارة
، وهو المشهور بل ادعى في المنتهى عليه الإجماع ، واستدل عليه بقوله (عليهالسلام) في مرسلة أحمد بن محمد بن عيسى : «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع
بالماء». وبأنه إزالة نجاسة فلا يحصل بالنجاسة كالغسل. ولاشتماله على نقض الغرض
الحاصل من زيادة النجاسة بتعدد نوعها أو شخصها المنافي للحكمة.
وأنت خبير بان
جميع ما ذكروه من التعليلات في المقام إنما ينطبق على ما إذا تعدت نجاسة الحجر
مثلا إلى المحل ، والمدعى أعم من ذلك. واما الخبر فهو على إطلاقه غير معمول عليه
عندهم ، لجواز الاستنجاء بالأحجار المستعملة بعد تطهيرها ، كما لا خلاف فيه بينهم
، فليحمل على الاستحباب في ذلك. كما هو محمول عليه بالنسبة إلى الأتباع بالماء ،
ويبقى جواز الاستنجاء بالحجر النجس إذا لم تتعد نجاسته إلى المحل داخلا تحت إطلاق
الأخبار وسالما من المانع ، وهم لا يقولون به.
ثم انه بناء
على ما ذهبوا اليه من المنع. لو استعمله فهل تبقى الرخصة ، أو يتحتم الماء ، أو
يفرق بين ما نجاسته كنجاسة المحل وغيرها؟ أوجه بل أقوال ، ولعل الأوسط أوسط كما
انه أحوط.
ومنها ـ الجفاف
، صرح به الأكثر ، فلا يجزئ الرطب عندهم ، اما انه
__________________
لا ينشف المحل كما ذكره العلامة في التذكرة ، أو ان البلل الذي عليه ينجس
بإصابة النجاسة وتعود نجاستها على الحجر فتحصل عليه نجاسة أجنبية فيكون قد استعمل
الحجر النجس ، أو ان الرطب لا يزيل النجاسة بل يزيد التلويث والانتشار كما ذكره (قدسسره) في النهاية.
وفي الجميع نظر
(اما الأول) فلان تنشيف المحل من النجاسة سيما في المسحة الثالثة لا ينافي رطوبته
بالحجر حال الاستعمال ، لجريان ذلك في الماء أيضا ، فإنه يكون مطهرا وقالعا
للنجاسة مع رطوبة المحل به.
و (اما الثاني)
فلان نجاسة البلة التي تعود على الحجر انما هي بنجاسة المحل ، وهي غير ضارة ، وإلا
لأدى إلى عدم التطهير بالماء أيضا ، إلا ان يكون مما لا ينفعل بالملاقاة ، أو يقال
بعدم انفعال قليله بها.
وبالجملة
فالأخبار بالنسبة إلى هذين الشرطين مطلقة ، والأدلة التي ذكروها لا تنهض ـ كما
عرفت ـ بالدلالة وان كان الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكروه.
ومنها ـ كونه
قالعا للنجاسة ، بمعنى ان لا يكون صقيلا يزلق عن النجاسة كالزجاج ونحوه ، ولا لزجا
ولا رخوا كالفحم ، لعدم قلع النجاسة. ولا ريب في ذلك مع عدم قلع النجاسة ، اما لو
فرض قلعه النجاسة فالظاهر ـ كما صرح به البعض ـ حصول التطهير به ، لصدق الامتثال
بناء على ثبوت الكلية التي أدعوها خلافا لجمع : منهم ـ العلامة في النهاية.
(السابع) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب في اجزاء الأحجار ونحوها مع عدم التعدي ، والأخبار به
متظافرة ، بل ربما يدعى ضروريته من الدين.
ففي صحيح زرارة
«ويجزئك من
الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة من رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ...».
__________________
وفي صحيحة
المضمر «كان يستنجي من البول ثلاث مرات : ومن الغائط بالمدر والخرق والخزف».
وفي صحيحته
الثالثة «كان الحسين بن علي (عليهماالسلام) يتمسح من الغائط بالكرسف ولا يغسل».
وفي صحيحة
رابعة له أيضا «جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله ...». إلى
غير ذلك من الأخبار.
وحينئذ فما ورد
مما يدل بظاهره على خلاف ذلك يجب ارتكاب التأويل فيه.
كموثقة عمار عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل ينسى ان يغسل دبره بالماء حتى صلى إلا انه قد تمسح بثلاثة أحجار؟
قال : ان كان في وقت تلك الصلاة فليعد الوضوء وليعد الصلاة. وان كان قد مضى وقت
تلك الصلاة التي صلى فقد جازت صلاته ، وليتوضأ لما يستقبل من الصلاة».
وحملها الشيخ
على الاستحباب ، ويمكن الحمل أيضا على حالة التعدي ، ولعله (عليهالسلام) علم ذلك فأجاب بالإعادة ، ومثله في الأخبار غير عزيز.
وكيف كان فهي
قاصرة عما قدمنا من الأخبار ، مع ما في روايات عمار من التهافت ، وفي تتمة هذه
الرواية ما يؤيد ما قلنا من نقض الوضوء بمس باطن الدبر وباطن الإحليل. والعجب من
الصدوق (قدسسره) حيث افتى بمضمون صدر هذه الرواية في المقنع ، كما افتى
بعجزها في الفقيه ، كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ، مع مخالفتها في الموضعين
للأخبار المستفيضة.
__________________
ورواية عيسى بن
عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء».
وضمير بها يعود إلى أداة الاستنجاء المدلول عليها بقوله : «إذا استنجى» ومفهومه
عدم اجزاء الاستنجاء بالأحجار ونحوها مع وجود الماء.
والأظهر حملها
على الاستحباب وأفضلية الماء ، وعلى ذلك أيضا تحمل مرسلة أحمد المرفوعة إلى أبي
عبد الله (عليهالسلام) قال : «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار
ويتبع بالماء».
واحتمل بعض
الحمل على التعدي في الخبرين المذكورين.
(الثامن) ـ الظاهر
انه لا خلاف في وجوب الزيادة على الثلاثة مع عدم النقاء بها كما نقله غير واحد ،
وانما اختلفوا في وجوب التثليث مع حصول النقاء بالأقل ، فظاهر المشهور ذلك وقيل
بالعدم ، وهو المنقول عن المفيد (رحمهالله) واختاره في المختلف.
ويدل على
المشهور ما قدمنا من صحاح زرارة : الاولى والثانية والرابعة : أما الاولى
والرابعة فلتضمنهما للتثليث صريحا ، واما الثانية فباعتبار صيغة الجمع في المدر
وما بعده الذي أقله ثلاثة. وقوله (عليهالسلام) في رواية العجلي : «يجزئ من الغائط المسح بالأحجار ...». وفي مرسلة أحمد
المتقدمة «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ...». وأصالة بقاء المحل على
النجاسة حتى يعلم المزيل.
ويدل على
الثاني ما تقدم من حسنة ابن المغيرة المتضمنة للإنقاء ، وموثقة
__________________
يونس بن يعقوب المتضمنة لاذهاب الغائط. وبهما تزول أصالة البقاء
المذكورة. وعدم دلالة اجزاء عدد خاص أو ما يدل عليه على عدم اجزاء ما دونه. وحكاية
الفعل في صحيحة زرارة المضمرة لا يقتضي الوجوب. والسنة في صحيحة زرارة الاولى ومرسلة
أحمد أعم من الوجوب. والمسألة محل توقف وان كان القول المشهور لا يخلو من رجحان
، لأن الطهارة ـ كما عرفت ـ حكم شرعي يتوقف على ثبوت سببه ، والمتكرر في الاخبار
التثليث وإطلاق روايتي ابن المغيرة ويونس يمكن تقييده بتلك الأخبار ، مع ان مورد رواية يونس
الاستنجاء بالماء والأخرى لا تأبى الحمل عليه أيضا. والاحتياط لا يخفى.
(التاسع) ـ اختلف
الأصحاب ـ بناء على وجوب التثليث ـ في ذي الجهات الثلاث ، هل يجزئ عن الثلاثة أم
لا؟ قولان.
اختار أولهما
العلامة في جملة من كتبه ، ونقله في المختلف عن ابن البراج ، وهو منقول أيضا عن
الشيخ المفيد ، واختاره الشهيد والمحقق الشيخ علي.
وإلى الثاني
ذهب المحقق وجماعة من المتأخرين : منهم ـ الشهيد الثاني. وكلام الشيخ في هذا
المقام لا يخلو من إجمال وإبهام.
احتج العلامة
في المختلف على الاجزاء ، قال : «لنا ان المراد ثلاث مسحات بحجر كما لو قيل اضربه
عشرة أسواط ، فإن المراد عشر ضربات بسوط. ولأن المقصود إزالة النجاسة وقد حصل.
ولأنها لو انفصلت لا جزأت فكذا مع الاتصال ، واي عاقل يفرق بين الحجر متصلا بغيره
ومنفصلا؟ ولأن الثلاثة لو استجمروا بهذا الحجر لا جزأ كل واحد عن حجر واحد» انتهى.
__________________
وزاد آخرون
الاستدلال بقوله (صلىاللهعليهوآله): «إذا جلس أحدكم لحاجته فليمسح ثلاث مسحات» .
وأجيب عن الأول
بأن إرادة المسحات من قولنا : «امسحه بثلاثة أحجار» مجاز البتة ، وهو موقوف على
القرينة ، والتشبيه بما ذكره مردود بالفرق بين قولنا : «اضربه عشرة أسواط» و «اضربه
بعشرة أسواط» فإن قرينة التجوز في الأول بإرادة عشر ضربات ظاهرة بخلافها في الثاني
، فالتشبيه غير موافق.
وعن الثاني
بأنه مصادرة محضة ، فإن المقصود إزالة النجاسة على الوجه المعتبر شرعا ، لان كلا
من النجاسة والطهارة حكم شرعي يجب الوقوف فيه على ما رسمه الشارع وعينه مطهرا
ومنجسا.
وعن الثالث
بأنه قياس مع وجود الفارق وهو النص ، فإنه دل على الجواز حال الانفصال دونه حال
الاتصال ، والغالب ـ كما قيل ـ في أبواب العبادات رعاية جانب التعبد.
وعن الرابع بان
الفرق ـ بين استجمار كل واحد بواحد وبين استجمار الواحد بكل واحد ـ واضح ، لحصول
الامتثال في الأول دون الثاني. على ان في الاستجمار بالحجر الواحد لواحد أو أكثر
لزوم محذور ما تقدم من اشتراط الطهارة في أحجار الاستجمار.
وعن الخامس بان
الخبر عامي ضعيف لا يقوم حجة. على انه مطلق والخبر
__________________
المتضمن للأحجار مقيد ، والمقيد يحكم على المطلق.
واستند بعض
فضلاء متأخري المتأخرين في الاستدلال لهذا القول أيضا بحسنة ابن المغيرة وموثقة
يونس .
ولا يخفى ما
فيه ، فان الكلام في هذه المسألة مبني على وجوب التثليث كما أشرنا إليه آنفا ،
والخبران المذكوران ظاهران في عدمه كما عرفت سابقا ، فالقائل به لا بد له من
ارتكاب التأويل في ذينك الخبرين على وجه يؤولان به إلى اخبار التثليث كما وجهناه
سابقا ، فلا يتم الاستدلال بهما هنا. هذا. والقول بعدم الاجزاء هنا فرع ثبوت
التثليث من تلك الأخبار ، وقد عرفت ما فيه. إلا ان المشهور ثمة كان لا يخلو من
رجحان فهنا كذلك ، وإلى ذلك مال جملة من متأخري المتأخرين.
ثم انه هل
ينسحب الحكم إلى غير الحجر؟ ظاهر المحقق في المعتبر ذلك واستظهر في المدارك القطع
بعدمه تمسكا بالعموم. ولعله الأقرب قصرا للاشتراط ـ ان تم ـ على مورده.
(العاشر) ـ هل
يجب إمرار كل حجر على موضع النجاسة ، أم يجزئ التوزيع ، بمعنى ان يمسح ببعض أدوات
الاستنجاء بعض محل النجاسة وببعض آخر بعضا آخر وهكذا مع حصول النقاء بذلك؟ قولان :
اختار أولهما المحقق في الشرائع ، وثانيهما في المعتبر ، واليه مال السيد في
المدارك ، قائلا : «إذ لا دليل على وجوب استيعاب المحل كله بجميع المسحات» انتهى.
وهذا مبني على
قاعدة أصولية اشتهر البناء عليها في أمثال ذلك ، وهو انه إذا تعلق الطلب بماهية
كلية كفى في الامتثال الإتيان بأي فرد منها ، كما ذكروه في مواضع من أبواب الفقه ،
منها ـ غسل الوجه واليدين في الوضوء وغيره. وهو ـ كما حققه
__________________
بعض محدثي متأخري المتأخرين ـ محل نظر ، قال : «فان بعض الماهيات الكلية
تحته افراد تصلح عند العقلاء لأن يتعلق غرض الشارع ببعضها دون بعض ، كحج البيت
وغسل الوجه في الوضوء ومسح المخرج بثلاثة أحجار ، ويستهجن عندهم الاقدام على فرد
مشكوك فيه من إفرادها من غير سؤال وينسبون فاعله إلى السفه ، وهذا نوع من الإجمال
منشأه نفس المعنى لا اللفظ» انتهى كلامه زيد مقامه. وهو وجيه.
المورد الثاني
في المحرمات
و (منها) ـ استقبال
القبلة واستدبارها بالبول والغائط على المشهور ، ولكن هل يحرم مطلقا أو في الصحراء
خاصة واما في الدور فالأفضل الاجتناب؟ قولان : المشهور الأول ، ونقل الثاني عن
ظاهر سلار.
واما مذهب
الشيخ المفيد في هذه المسألة فقد اختلف كلام الأصحاب في نقله ، فحكى عنه في
المعتبر التحريم في الصحاري والكراهة في البنيان ، وحكى عنه ـ في المنتهى والتذكرة
والدروس ـ التحريم في الصحاري ولم يذكروا الكراهة. وقال في المختلف بعد نقل عبارة
المقنعة : «وهذا الكلام يعطي الكراهة في الصحاري والإباحة في البنيان» انتهى. ولعل
هذا الاختلاف نشأ من اختلاف الأفهام في فهم عبارة المقنعة حيث قال : «ثم ليجلس ولا
يستقبل القبلة بوجهه ولا يستدبرها ، ولكن يجلس على استقبال المشرق ان شاء أو
المغرب ، إلى ان قال بعد كلام خارج في البين : فان دخل الإنسان دارا قد بني فيها
مقعد للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضره الجلوس ، وإنما يكره ذلك في
الصحاري والمواضع التي يتمكن فيها من الانحراف عن القبلة» انتهى. وحيث كان صدر
عبارته محتملا للحمل على التحريم والكراهة ـ ولفظ الكراهة أيضا في عجز عبارته
محتمل لهما ، فإنه كثيرا ما يعبر بالكراهة في مقام
التحريم كما هو شائع في الاخبار ـ وقع هذا الاختلاف في نقل مذهبه ، مع ان
في انطباق النقول المذكورة مع ذلك نوع اشكال.
ونقل عن ابن
الجنيد استحباب ترك الاستقبال في الصحراء ولم يذكر الاستدبار ولا الحكم في
البنيان.
وذهب جملة من
متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك إلى الكراهة مطلقا.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في المسألة رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده عن علي
(عليهالسلام) قال : «قال لي النبي (صلىاللهعليهوآله): إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ،
ولكن شرقوا أو غربوا».
ومرفوعة محمد
في الكافي قال : «سئل أبو الحسن (عليهالسلام) ما حد الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها
ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها».
ومرفوعة عبد
الحميد بن أبي العلاء أو غيره رفعه قال : «سئل الحسن ابن علي (عليهماالسلام) ما حد الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ،
ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «نهى النبي (صلىاللهعليهوآله) عن استقبال القبلة ببول أو غائط».
وروى في الكافي
عن علي مرفوعا قال : «خرج أبو حنيفة من عند ابي عبد الله (عليهالسلام) وأبو الحسن (عليهالسلام) قائم وهو غلام ، فقال له أبو حنيفة :
__________________
يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال : اجتنب أفنية المساجد ، وشطوط
الأنهار ، ومساقط الثمار ، ومنازل النزال ، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول ،
وارفع ثوبك وضع حيث شئت ...».
وروى محمد بن
إسماعيل قال : «دخلت على الرضا (عليهالسلام) وفي منزله كنيف مستقبل القبلة ...» .
وأنت خبير بان
ما عدا الرواية الأخيرة ظاهرة الدلالة على التحريم كما هو القول الأول الذي عليه
المعمول.
وطعن جملة من
متأخري المتأخرين في هذه الاخبار ـ بعد التمسك بأصالة الجواز ـ بضعف السند ،
فحملوها على الاستحباب لذلك ، وزاد بعض منهم الطعن أيضا بضعف الدلالة ، لاقتران ما
ورد من النهي عن الاستقبال والاستدبار بجملة من النواهي المراد بها الكراهة ، وزاد
آخر أيضا ـ بعد الاستدلال على عدم التحريم برواية محمد ابن إسماعيل المذكورة ـ انه
مع قطع النظر عن ذلك فدلالة الأوامر الواردة في أخبارنا على الوجوب والنواهي علي
التحريم ممنوع وان قلنا ان الأمر والنهي حقيقة في الوجوب والتحريم ، لشيوع استعمال
الأول في الاستحباب والثاني في الكراهة على وجه لا يمكن دفعه.
ويرد على الأول
انه لا دليل على التمسك بهذا الأصل من كتاب ولا سنة ، كما بسطنا لك الكلام عليه في
المطلب الأول من المقام الثالث من المقدمة الثالثة .
ويرد على
الثاني ان ضعف السند ليس من القرائن الموجبة لصرف اللفظ عن ظاهره.
__________________
وعلى الثالث ان
الاقتران بما هو محمول على الكراهة لو سلم كونه قرينة فإنما يتم فيما لو انحصر
الدليل فيما هو كذلك ، وهنا قد ورد النهي عن ذلك من غير اقتران بشيء في رواية
الهاشمي وكذا رواية الفقيه ولا يخفى على المتتبع كثرة ورود الأحكام الواجبة من هذا
القبيل.
وعلى الرابع ان
وجود الكنيف في المنزل كذلك لا يستلزم ان يكون فعله (عليهالسلام) لجواز كون البيت ليس له سابقا ، ولا يستلزم أيضا جلوسه
عليه ، ومع تجويز جلوسه فيمكن الانحراف.
وعلى الخامس
انه بمكان من الضعف الشديد ، والمخالفة لآيات الكتاب المجيد كما أوضحناه في
المقدمة السابعة بأتم بيان ، وشددنا منه الجوانب والأركان.
فوائد
(الأولى) ـ الظاهر
ـ كما استظهره جملة من الأصحاب ـ تعلق حكم الاستقبال والاستدبار بالبدن كملا كما
هو المتعارف ، دون مجرد العورة حتى لو حرفها زال المنع خلافا للبعض.
(الثانية) ـ الظاهر
إلحاق حال الاستنجاء بذلك ، لرواية عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له : الرجل يريد ان يستنجي كيف يقعد؟ قال :
كما يقعد للغائط ...».
(الثالثة) ـ انه
على تقدير القول بالتحريم فهل الأمر بالتشريق والتغريب في رواية عيسى بن عبد الله
الهاشمي على الوجوب أو الاستحباب؟ وجهان يلتفتان
__________________
إلى ان المراد بالقبلة هنا هي ما يجب التوجه عند العلم ولو في أثناء الصلاة
إليها ، أو ما لا تجب إعادتها بعد التوجه إليها بناء على ظن كونها قبلة.
وبالثاني صرح
بعض المحققين ، ويخدشه ان الحديث الذي اعتمده دليلا على ذلك ـ وهو قوله (عليهالسلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ـ محمول على الناسي ،
كما يفصح عنه صحيح معاوية بن عمار ، وما ورد أيضا ان «من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالا
للقبلة. الحديث» فان ظاهره يشعر بالاكتفاء بانحراف ما يخرج به عن محاذاتها ،
وحينئذ فيمكن ان يقال : المراد بالتشريق والتغريب الميل عن القبلة ذات اليمين أو
ذات اليسار لا التوجه إلى جهة المشرق والمغرب الاعتداليين.
(الرابعة) ـ انه
على تقدير القول بالتحريم ، لو اشتبهت القبلة قيل : وجب الاجتهاد في تحصيلها من
باب المقدمة ، فإن حصل شيئا من الأمارات بنى عليه وإلا انتفى التحريم أو الكراهة.
واستقرب السيد في المدارك احتمال انتفائهما مطلقا ، للشك في المقتضى والظاهر ان
وجه قربه ان مقتضى صحيحة ابن سنان ـ الدالة على ان «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام
بعينه فتدعه». ونظائرها ـ ذلك.
و (منها) ـ الاستنجاء
بالروث والعظم والمطعوم والمحترم ، ومنه ـ التربة الحسينية على مشرفها أفضل التحية
، والقرآن ، وما كتب فيه شيء من علوم الدين ، كالحديث والفقه ، وههنا مقامان :
__________________
(أحدهما) ـ تحريم
الاستنجاء بهذه الأشياء ، أما الثلاثة الأول منها فظاهر العلامة في المنتهى دعوى
الإجماع على حرمة الاستنجاء بها ، لكنه في التذكرة احتمل الكراهة في الأولين منها
، وبذلك صرح المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب الوسائل ، حيث قال :
«باب كراهة الاستنجاء بالعظم والروث» وفي المعتبر صرح بالإجماع على التحريم فيهما.
ويدل على
التحريم فيهما رواية ليث المرادي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو
العود. فقال : اما العظم والروث فطعام الجن ، وذلك مما اشترطوا على رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقال : لا يصلح بشيء من ذلك».
وقال في الفقيه
: «لا يجوز الاستنجاء بالروث والعظم ، لان وفد الجان جاؤوا إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقالوا : يا رسول الله متعنا ، فأعطاهم الروث والعظم ،
فلذلك لا ينبغي ان يستنجى بهما».
واما الثالث
فالذي ورد منه في الأخبار الخبز ، كما روي في عدة من كتب الاخبار : منها ـ الكافي
، وروى فيه عن عمرو بن شمر قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول في حديث : ان قوما أفرعت عليهم النعمة وهم أهل
الثرثار فعمدوا إلى مخ الحنطة فجعلوه خبزا هجأ ، وجعلوا ينجون
به صبيانهم ،
__________________
حتى اجتمع من ذلك جبل عظيم ، قال : فمر بهم رجل صالح وإذا امرأة وهي تفعل
ذلك بصبي لها ، فقال : ويحكم اتقوا الله ولا تغيروا ما بكم من نعمة ، فقالت له :
كأنك تخوفنا بالجوع ، اما ما دام ثرثارنا يجري فإنا لا نخاف الجوع. قال فأسف الله
وأضعف لهم الثرثار وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض ، فاحتاجوا إلى ذلك الجبل ،
وانه كان ليقسم بينهم بالميزان». ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة بإكرام الخبز
والنهي عن إهانته.
واما ما عداه
من المطعوم فاستدل عليه بان طعام الجن منهي عنه ، فطعام أهل الصلاح بطريق اولى.
ولا يخفى ما فيه.
وظاهر بعض
محدثي متأخري المتأخرين تخصيص التحريم هنا بالخبز خاصة.
نعم يدل على
ذلك ما رواه في كتاب دعائم الإسلام قال : «نهوا (عليهمالسلام) عن الاستنجاء بالعظام والبعر وكل طعام ...». إلا ان
الكتاب المذكور لم يثبت الاعتماد على مصنفه وان كان قد ذكره شيخنا المجلسي (قدسسره) في كتاب البحار ونقل عنه ما تضمنه من الاخبار ، إلا
انه قال ـ بعد ذكر مصنفه وبيان بعض أحواله ـ ما صورته : «واخباره تصلح للتأييد
والتأكيد» انتهى.
واما المحترم
كالتربة المشرفة فلا ريب في وجوب إكرامها وتحريم إهانتها من حيث كونها تربته (عليهالسلام) بل لا يبعد ـ كما ذكره بعض أصحابنا ـ الحكم بكفر
المستعمل لها من تلك الحيثية.
__________________
ومما يؤيد هذا
المقام ـ ويدخل في سلك هذا النظام وان طال به زمام الكلام ، إلا ان فيه ـ زيادة
على ما ذكرنا ـ نشر فضيلة من فضائله (عليهالسلام) ـ ما رواه جملة من مشايخنا عطر الله مراقدهم عن الشيخ (قدسسره) في كتاب الأمالي بسنده فيه عن أبي موسى بن عبد العزيز ، قال : «لقيني
يوحنا بن سراقيون النصراني المتطبب في شارع أبي أحمد ، فاستوقفني وقال لي : بحق
نبيك ودينك من هذا الذي يزور قبره قوم منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ من هو من أصحاب
نبيكم؟ قلت : ليس هو من أصحابه ، هو ابن بنته ، فما دعاك إلى المسألة عنه؟ فقال :
له عندي حديث طريف. فقلت : حدثني به. فقال : وجه إلي سابور الكبير الخادم الرشيدي
في الليل فصرت اليه ، فقال لي : تعال معي ، فمضى وانا معه حتى دخلنا على موسى بن
عيسى الهاشمي ، فوجدناه زائل العقل منكبا على وسادة ، وإذا بين يديه طشت فيه حشو
جوفه ، وكان الرشيد استحضره من الكوفة ، فاقبل سابور على خادم كان من خاصة موسى ،
فقال له : ويحك ما خبره؟ فقال : أخبرك انه كان من ساعة جالسا وحوله ندماؤه وهو من
أصح الناس جسما وأطيبهم نفسا ، إذ جرى ذكر الحسين ابن علي (عليهماالسلام) قال يوحنا : هذا الذي سألتك عنه. فقال موسى : ان
الرافضة لتغلوا فيه حتى انهم ـ فيما عرفت ـ يجعلون تربته دواء يتداوون به. فقال له
رجل من بني هاشم كان حاضرا : قد كانت بي علة غليظة فتعالجت لها بكل علاج فما نفعني
حتى وصف لي ان آخذ من هذه التربة ، فأخذتها فنفعني الله بها وزال عني ما كنت أجده.
قال : فبقي عندك منها شيء؟ قال : نعم. فوجه فجاء بقطعة منها فناولها موسى بن عيسى
، فأخذها موسى فاستدخلها دبره استهزاء بمن يتداوى بها ، واحتقارا وتصغيرا لهذا
الرجل الذي هذه تربته ، يعني الحسين (عليهالسلام) فما هو إلا ان استدخلها دبره حتى صاح : النار النار ،
الطشت الطشت ، فجئناه بالطشت فاخرج فيه
__________________
ما ترى ، فانصرف الندماء وصار المجلس مأتما ، فاقبل علي سابور فقال : انظر
هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعة فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في
الطشت ، فنظرت إلى أمر عظيم ، فقلت : لا أجد إلى هذا صنعا إلا أن يكون عيسى الذي
كان يحيى الموتى. فقال لي سابور : صدقت ولكن كن ههنا في الدار إلى ان يتبين ما
يكون من امره ، فبت عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه ، فمات في وقت السحر. قال
محمد بن موسى : قال لي موسى بن سريع : كان يوحنا يزور قبر الحسين (عليهالسلام) وهو على دينه ، ثم أسلم بعد هذا وحسن إسلامه».
واما القرآن
العزيز وما كتب عليه شيء من أسمائه تعالى ، فلما مر من وجوب صونهما عمن ليس بطاهر
، فعن ملاقاة النجاسة بطريق اولى. ولظاهر قوله تعالى : «فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ» وقوله : «يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ...» .
وما كتب عليه
شيء من علوم الدين فلدخوله في الشعائر المأمور بتعظيمها في قوله تعالى : «وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعائِرَ اللهِ ...» وان لا تحل ، لقوله : «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...» وتردد فيه بعض محققي متأخري المتأخرين وجعل التحريم
احتمالا قويا.
و (ثانيهما) ـ انه
مع الاستنجاء بما ثبت تحريم الاستنجاء به هل يطهر المحل وان أثم بالاستعمال ، أو
لا يطهر؟ قولان ، وإلى الأول ذهب العلامة في المنتهى والمختلف والتذكرة والقواعد ،
وإلى الثاني ذهب الشيخ وابن إدريس والمحقق. وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض
التفصيل في ذلك بين ما يوجب استعماله الحكم بكفر فاعله ، كاستعمال التربة الحسينية
والمكتوب عليه شيء من أسماء الله تعالى ، أو العلم كالحديث والفقه عالما وعامدا ،
فلا يتصور الطهارة به حينئذ ، وبين ما لا يوجب إلا مجرد الإثم كالمطعوم والعظم
والروث ، أو لا يوجب شيئا كاستعمال التربة وما عليه
__________________
شيء من أسماء الله تعالى جهلا ، فيطهر وان اثم في الأول.
احتج الشيخ (رحمهالله) بأن النهي يدل على الفساد. وزاد المحقق التمسك
باستصحاب المنع حتى يثبت رفعه بدليل شرعي.
ورد الأول بأنه
ـ على تقدير تسليمه ـ مخصوص بالعبادات. والثاني بأن الاستصحاب مرتفع بعموم ما دل
على الاكتفاء بالإنقاء.
والمسألة محل
توقف ، ينشأ من ان الطهارة حكم شرعي يتوقف على استعمال ما جعله الشارع مطهرا ،
وهذه الأشياء مما قد نهى الشارع عن الطهارة بها ، وظاهر ذلك عدم وقوع التطهير بها.
وحديث الإنقاء لا عموم فيه على وجه يشمل محل النزاع ، لاحتمال بل ظهور
ان يكون معنى قول السائل : «هل للاستنجاء حد؟» انه هل يتقدر بعدد مخصوص أو كيفية
مخصوصة؟ فقال (عليهالسلام) : «لا بل حده النقاء» بمعنى انه لا يتقدر بشيء من ذلك
، وانما الحد نقاء المحل من النجاسة بأي عدد اتفق وعلى اي كيفية ، واما بيان
المطهر فلا تعرض له فيه بوجه ، فيرجع إلى ما ثبت كونه مطهرا. ولقوله (عليهالسلام) في رواية ليث المتقدمة : «لا يصلح بشيء من ذلك». ومن احتمال بل ظهور كون
النهي عن استعمال هذه الأشياء إنما هو من حيث الاحترام لا من حيث عدم الصلاحية
للتطهير. وحينئذ فلا ينافي حصول التطهير بها وان أثم بالاستعمال.
وتحقيقه ان
النهي في غير العبادات ان توجه لشيء من حيث عدم صلاحية المنهي عنه لترتب الحكم
عليه ، كالنهي عن بيع الخمر ـ مثلا ـ ونجس العين ، والنهي عن نكاح المحارم ونحو
ذلك ، كان موجبا للفساد والبطلان ، وان توجه من حيث أمر خارج عن ترتب الحكم على
المنهي عنه مفارق من زمان مخصوص أو حال مخصوصة
__________________
أو نحو ذلك ، كالنهي عن البيع وقت النداء ، فلا وجه للإبطال بل غاية النهي
التأثيم خاصة. ومن الظاهر ان توجه النهي هنا إنما هو من جهة الاحترام الذي هو أمر
خارج وصفة مفارقة للاستنجاء بتلك الأشياء ، كما يأتي مثله في الاستنجاء بل إزالة
النجاسة مطلقا بالماء المغصوب ، فإنه لا ريب في طهارة المحل به وان اثم من حيث
التصرف ، وما ذاك إلا من حيث كون صفة الغصب أمرا خارجا ، بخلاف الاستنجاء بالنجس
وإزالة النجاسة بالماء النجس ، فإنه من حيث عدم صلاحية تلك الأشياء من حيث هي
للإزالة فلا يطهر المحل بها. وهذا الوجه لا يخلو من قوة لو كان الوارد في النص
مجرد النهي. لكن قوله في رواية ليث : «لا يصلح بشيء من ذلك». ظاهر في عدم الاجزاء.
والرواية وان كانت ضعيفة السند إلا انها مجبورة بعمل الأصحاب ، والأمران اصطلاحيان
، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. واما عندنا فالأمر أهون من ذلك.
(فرع) لا ريب
ان تحريم الاستنجاء بتلك الأشياء المحترمة إنما هو من حيث إهانتها بالإيقاع في
النجاسة ، وحينئذ فيحرم تنجيسها مطلقا ، ومثل ذلك القول في الخبز لحديث أهل الثرثار
، فيحرم تنجيسه أيضا بغير الاستنجاء. ولا يبعد انسحاب ذلك في باقي المطعومات ،
لاستلزام ذلك كفر النعمة وعدم شكرها ، ولفحوى أحاديث استحباب أكل المتساقط من
الخوان ، واخبار استحباب لعق الأصابع بعد الأكل. لكن يبقى الكلام في مثل العظم
والروث على القول بتحريم الاستنجاء بهما ، هل يحرم تنجيسهما أم لا؟ لم أقف في ذلك
لأحد من أصحابنا في الكتب الاستدلالية على كلام إلا لشيخنا البهائي (قدسسره) في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري ، حيث قال ـ بعد
قول السائل : مسألة ـ الفقهاء (رضوان الله عليهم) قالوا : لا تستجمر بالعظم والروث
، فهل يحرم أصابتهما بغير استجمار أم لا؟ ـ ما صورته : «الجواب ـ
__________________
والثقة بالله وحده ـ النهي عن الاستجمار بهما معلل بكونهما طعام الجن وفي خبر آخر عن النبي (صلىاللهعليهوآله) التعليل بأنهما لا يطهران وقد يتراءى من التعليل الأول تحريم تنجيسهما ولو بغير
الاستنجاء ، لكن احتمال كون تحريم الاستنجاء بهما لتحقيرهما التام ـ بإمرارهما على
المخرج مع التنجيس لا لأحدهما فقط ـ يعطي جواز التنجيس بغير الاستنجاء ، سيما مع
انضمام أصالة براءة الذمة من المؤاخذة عليه. وأيضا فلعل النهي عن استعمالهما إنما
هو لمجرد كون طعام الجن غير مطهر لا للاحترام كما يظن ، وإلى هذا يشير التعليل
الثاني ، وهو يعطي جواز التنجيس بغير الاستنجاء وان النهي عن استعمالهما لعدم
إفادتهما التطهير ، إلى ان قال : وقد يستفاد عدم كونهما مطهرين من رواية ليث
المرادي عن الصادق (عليهالسلام) الناطقة بعدم صلاحيتهما للاستنجاء وكيف كان فالأظهر عدم
التوقف في جواز تنجيسهما بغير الاستنجاء كما ان الأظهر أن الاستنجاء بهما لا يفيد
طهارة المحل كما هو مذهب السيد والشيخ والمحقق وان قال مشايخنا المتأخرون بطهارة
المحل بهما. ولتحقيق الكلام محل آخر» انتهى كلامه (قدسسره).
وأقول : ما
نقله (قدسسره) من الخبر عنه (صلىاللهعليهوآله) بأنهما لا يطهران لم أقف عليه بعد التتبع للاخبار. نعم
نقله العلامة في التذكرة ، ولا يبعد ان يكون من طرق المخالفين كما نبه عليه بعض متأخري المتأخرين.
__________________
المورد الثالث
في المستحبات
و (منها) ـ ستر
البدن كملا في الغائط بان يبعد المذهب أو يدخل بيتا أو يلج حفيرة ، تأسيا بالنبي (صلىاللهعليهوآله) فإنه لم ير على غائط قط ، وقال (عليهالسلام): «من اتى الغائط فليستتر». روى ذلك شيخنا الشهيد
الثاني في شرح النفلية وروى البرقي في المحاسن عن حماد بن عثمان أو ابن عيسى عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال لقمان لابنه : إذا سافرت مع قوم ، إلى ان
قال : وإذا أردت قضاء حاجتك فابعد المذهب في الأرض».
و (منها) ـ ارتياد
موضع مناسب للبول لمزيد الاحتياط في التوقي عنه بالجلوس في مكان مرتفع أو ذي تراب
كثير ، فإنه من فقه الرجل ، ففي رواية عبد الله ابن مسكان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أشد الناس توقيا للبول ، حتى انه كان إذا أراد البول
عمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو مكان يكون فيه التراب الكثير كراهية ان ينتضح عليه».
وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : من فقه الرجل ان يرتاد موضعا لبوله». ومثل ذلك في
رواية الجعفري عن الرضا (عليهالسلام) .
و (منها) ـ التسمية
والدعاء عند دخول المخرج والخروج منه بالمأثور ، والدعاء حال النظر إلى ما يخرج
منه ، وحال الغسل.
__________________
ويدل على ذلك رواية معاوية بن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : إذا دخلت المخرج فقل : بسم الله وبالله ، اللهم
إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الرجس النجس الشيطان الرجيم. فإذا خرجت فقل : بسم
الله والحمد لله الذي عافاني من الخبيث المخبث وأماط عني الأذى. وإذا توضأت فقل : اشهد
ان لا إله إلا الله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، والحمد لله
رب العالمين».
ورواية أبي
بصير عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «إذا دخلت الغائط فقل : أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث
الشيطان الرجيم. وإذا فرغت فقل : الحمد لله الذي عافاني من البلاء وأماط عني الأذى».
وصحيحة القداح
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) «انه كان إذا خرج من الخلاء قال : الحمد لله الذي رزقني لذته وأبقى قوته في
جسدي واخرج عني أذاه ، يا لها نعمة : ثلاثا».
وما رواه في
الفقيه مرسلا قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا أراد دخول المتوضأ قال : اللهم إني أعوذ بك من
الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ، اللهم أمط عني الأذى وأعذني من
الشيطان الرجيم. وإذا استوى جالسا للوضوء قال : اللهم أذهب عني القذى والأذى
واجعلني من المتطهرين. وإذا تزحر قال : اللهم كما أطعمتنيه طيبا في عافية فأخرجه
مني خبيثا في عافية. وكان علي (عليهالسلام) يقول : ما من عبد إلا وبه ملك موكل يلوي عنقه حتى ينظر
__________________
إلى حدثه ، ثم يقول له الملك : يا ابن آدم هذا رزقك فانظر من أين أخذته
وإلى ما صار فينبغي للعبد عند ذلك ان يقول : اللهم ارزقني الحلال وجنبني الحرام ،
إلى ان قال : وكان (عليهالسلام) إذا دخل الخلاء يقول : الحمد لله الحافظ المؤدي. فإذا
خرج مسح بطنه وقال : الحمد لله الذي اخرج عني أذاه وأبقى في قوته ، فيا لها من
نعمة لا يقدر القادرون قدرها».
وفي رواية عبد
الرحمن بن كثير في حكاية وضوء أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «ثم استنجى فقال : اللهم حصن فرجي وأعفه واستر
عورتي وحرمني على النار».
و (منها) ـ التقنع
، لما في مرسلة البرقي عن ابن أسباط أو رجل عنه عمن رواه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «انه كان إذا دخل الكنيف يقنع رأسه ويقول سرا في نفسه : بسم الله وبالله.
الحديث». الى آخر ما تقدم في رواية معاوية بن عمار.
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «وكان الصادق (عليهالسلام) إذا دخل الخلاء يقنع رأسه ويقول في نفسه : بسم الله
وبالله ولا إله إلا الله ، رب اخرج عنى الأذى سرحا بغير حساب ، واجعلني لك من
الشاكرين فيما تصرفه عني من الأذى والغم الذي لو حبسته عني هلكت ، لك الحمد ،
اعصمني من شر ما في هذه البقعة وأخرجني منها سالما ، وحل بيني وبين طاعة الشيطان
الرجيم».
وفي كتاب مجالس
الشيخ وفي كتاب المكارم في وصية النبي (صلىاللهعليهوآله) لأبي ذر (رضياللهعنه) قال : «يا أبا ذر استحي من
الله ، فاني ـ والذي
__________________
نفسي بيده ـ لا ظل حين اذهب إلى الغائط متقنعا بثوبي استحياء من الملكين
الذين معي».
و (منها) ـ تغطية
الرأس ، ولم أقف فيه على خصوص خبر سوي اخبار التقنع ، ومن الظاهر مغايرته له. نعم
قال الشيخ المفيد : «وليغط رأسه ان كان مكشوفا ليأمن بذلك من عبث الشيطان ومن وصول
الرائحة الخبيثة إلى دماغه ، وهو سنة من سنن النبي (صلىاللهعليهوآله) وفيه إظهار الحياء من الله لكثرة نعمه على العبد وقلة
الشكر منه» وفيه دلالة على ورود النص به ، وليس ببعيد ان المراد به التقنع ،
لمناسبة التعليل الأخير له ، دون مجرد التغطية. وقال الصدوق في الفقيه : «ينبغي للرجل إذا دخل الخلاء ان يغطى رأسه إقرارا
بأنه غير مبرئ نفسه من العيوب» انتهى وفيه أيضا ما احتملناه في سابقه.
و (منها) ـ تقديم
الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج عكس المسجد. ولم أقف فيه على نص لكن
الصدوق ذكره في الفقيه ، والظاهر ان مثله من أرباب النصوص لا يذكر ذلك إلا عن نص
بلغه فيه. وربما ظهر من بعض الأصحاب اختصاص الحكم بالبنيان ، نظرا إلى ان مسمى
الدخول والخروج لا يصدق في غيره لكن صرح العلامة بأن الأقرب عدم الاختصاص ، فيقدم
اليسرى إذا بلغ موضع جلوسه في الصحراء وإذا فرغ قدم اليمنى. ووافقه الشهيد الثاني
، فقال : «ان الأصح عدم الاختصاص بالبنيان» قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما : «والتحقيق
ان الترجيح هنا موقوف على اعتبار المأخذ ، فإن كان هو التوجيه الذي حكيناه فلا بأس
بعدم الاختصاص» انتهى. وهو كذلك.
و (منها) ـ مسح
البطن بعد الخروج ، كما تقدمت الدلالة عليه في كلام
__________________
الفقيه نقلا عن الأمير (صلوات الله عليه) .
و (منها) ـ التسمية
عند التكشف للبول ، لما رواه في الفقيه مرسلا عن الباقر (عليهالسلام) وفي ثواب الأعمال مسندا عن الصادق عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «إذا انكشف أحدكم لبول أو لغير ذلك فليقل : بسم
الله ، فان الشيطان يغض بصره عنه حتى يفرغ».
و (منها) ـ ان
لا يقطع في الاستجمار [إلا على وتر] بالأحجار وشبهها وان نقي المحل إلا على وتر ،
لقوله (صلىاللهعليهوآله) في رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي المتقدمة : «إذا
استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء» .
قال في المعتبر
: «والرواية من المشاهير» انتهى.
و (منها) ـ الاستبراء
على المشهور ، خلافا لظاهر الشيخ في الاستبصار ، مستندا إلى صحيحة حفص بن البختري
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يبول؟ قال ينتره ثلاثا ، ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي». وحسنة
محمد بن مسلم قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : رجل بال ولم يكن معه ماء؟ قال : يعصر أصل ذكره إلى
طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فان خرج بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من
الحبائل».
وأجيب بمنع
الدلالة على الوجوب ، لعدم ظهور الجملة الخبرية فيه.
__________________
وفيه نظر ، فان
المستفاد من الآيات والأخبار التي قدمناها في المقدمة السابعة انه لا خصوصية في ذلك بصيغة (افعل) بل كل ما دل على
الطلب وارادة الفعل ـ سواء كان بالصيغة المشار إليها أم لا ـ فإنه للوجوب إلا مع
قيام القرينة على خلافه.
وقال شيخنا
البهائي (رحمهالله) في كتاب الحبل المتين بعد نقل صحيحة حفص : «وقوله (عليهالسلام) في الحديث التاسع : ينتره ثلاثا. مما استدل به الشيخ
في الاستبصار على وجوب الاستبراء ، والذي يظهر من آخر الحديث ان غرضه (عليهالسلام) عدم انتقاض الوضوء بما يخرج من البلل بعد الاستبراء لا
بيان كون الاستبراء واجبا» انتهى. لكنه (رحمهالله) كتب ـ في حاشية الكتاب على قوله : مما استدل به الشيخ
ـ ما صورته : «وهو يتوقف على كون المضارع المطلوب به الفعل كالأمر في الوجوب ،
والظاهر انه كذلك» انتهى.
وظاهر المحقق
الشيخ حسن في كتاب المعالم المناقشة في اسناد الوجوب إلى الشيخ مستندا إلى استعمال
الشيخ لفظ الوجوب ـ في غير موضع ـ فيما هو أعم من الواجب والمندوب ، ثم قال : «وكيف
كان فالوجوب لا وجه له».
وأورد عليه ان
هذا الاستعمال غير متعارف ، ولعله كان في تلك المواضع مع القرينة ، ولا قرينة هنا.
ومما يدل
بظاهره على عدم الوجوب صحيحة جميل عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا انقطعت درة البول فصب الماء».
قيل : وأقله
اباحة تعقيب الصب للانقطاع بغير مهلة.
وفيه ان افادة
التعقيب بغير مهلة إنما هو للفاء العاطفة ، واما الفاء الجزائية فالأكثر على عدم
إفادتها ذلك ، لصحة قولنا : ان يسلم زيد فهو يدخل الجنة.
__________________
وحينئذ فلا دلالة في الرواية على التعقيب بغير مهلة.
ورواية داود
الصرمي قال : «رأيت أبا الحسن الثالث (عليهالسلام) يبول غير مرة ويتناول كوزا صغيرا ويصب عليه الماء من
ساعته».
ويمكن ان يقال
: انه لا دلالة فيه على الفورية على وجه ينافي الاستبراء ، إذ لا مدة له ينافيها ،
بل الظاهر ان مراد الراوي هو الاخبار عنه (عليهالسلام) بأنه كان يبادر الى الاستنجاء من البول من ساعته ، ولا
يتركه إلى وقت آخر كسائر الناس في تلك الأوقات ، فإنهم كانوا ينشفون المخرج بتراب
ونحوه إلى وقت الصلاة ، كما يستفاد من الأسئلة المتكاثرة في الأخبار عن نسيان
الاستنجاء ، كما تقدم شطر منها. نعم يظهر ذلك من رواية روح بن عبد الرحيم قال : «بال أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا قائم على رأسه ومعي اداوة أو قال كوز ، فلما
انقطع شخب البول قال بيده هكذا الي فناولته الماء فتوضأ مكانه».
ثم انه قد اختلفت
عبارات القوم في بيان كيفيته ، فقال الشيخ المفيد في المقنعة «انه يمسح بإصبعه
الوسطى تحت أنثييه إلى أصل القضيب مرتين أو ثلاثا ، ثم يضع مسبحته تحت القضيب
وإبهامه فوقه ويمرهما عليه باعتماد قوي من أصله إلى رأس الحشفة مرتين أو ثلاثا ،
ليخرج ما فيه من بقية البول».
وقال الشيخ في
النهاية : «انه يمسح بإصبعه من عند مخرج النجو إلى أصل القضيب ثلاث مرات ، ثم يمر
إصبعه على القضيب وينتره ثلاث مرات».
وقال في
المبسوط ـ على ما نقله عنه في المعتبر ـ : «انه يمسح من عند المقعدة إلى تحت
الأنثيين ثلاثا ، ويمسح القضيب وينتره ثلاثا».
__________________
وعن السيد
المرتضى «انه ينتر الذكر من أصله إلى طرفه ثلاث مرات» وهو المنقول عن ابن الجنيد.
وقال الصدوق في
الفقيه : «ومن أراد الاستنجاء فليمسح بإصبعه من عند المقعدة
إلى الأنثيين ثلاث مرات ، ثم ينتر ذكره ثلاث مرات» وهو المنقول عن أبيه في
الرسالة.
واقتصر المحقق
في المعتبر على نقل قولي الشيخين والسيد ، وقال : «ان كلام الشيخ أبلغ في
الاستظهار» وقال في الشرائع : «وكيفيته ان يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا ،
ومنه إلى رأس الحشفة ثلاثا ، وينتره ثلاثا» ونسب السيد في المدارك هذه الكيفية إلى
كلام الشيخ في المبسوط ، وفي فهمها منه تأمل.
وقال العلامة
في المنتهى : «انه يمسح بيده من عند المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا ثم يمسح القضيب
ثلاثا ، ثم ينتره ثلاثا» ومثله في التذكرة إلا انه زاد فيه التنحنح.
وقال الشهيد في
الدروس «يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثم إلى رأسه ثم عصر الحشفة ثلاثا والتنحنح
ثلاثا».
والذي وقعت
عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ـ زيادة على ما قدمنا نقله ـ رواية عبد الملك بن
عمرو عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يبول ثم يستنجي ثم يجد بعد ذلك بللا؟ قال : إذا بال فخرط ما بين
المقعدة والأنثيين ثلاث مرات وغمز ما بينهما ثم استنجى ، فان سال حتى يبلغ السوق
فلا يبالي».
وأنت خبير بأن
صحيحة حفص إنما تنطبق على مذهب السيد وابن الجنيد
__________________
خاصة ، واما حسنة محمد بن مسلم فليس في شيء من الأقوال ما ينطبق عليها ، لأنها قد
تضمنت العصر من أصل الذكر إلى طرفه ثلاثا ثم النتر ولو مرة ، وليس في هذه الأقوال
ما يطابق ذلك. وكذلك هذه الرواية الثالثة. ولعل من قال بالمسحات الست مع نتر طرف
الذكر استند إلى العمل بمضمون الأخبار الثلاثة جميعا ، لكن تثليث النتر ـ كما
ذكروا ـ ليس في شيء منها.
واما التنحنح
الذي ذكره العلامة والشهيد فلم نقف أيضا فيه على خبر ، بل ولا في كلام القدماء على
اثر ، والعجب من اضطراب عبائرهم في ذلك مع خلو المأخذ مما هنالك.
قيل : وكيف كان
فالزيادات التي ذكروها لا حرج فيها ، لما فيها من مزيد الاستظهار في إخراج ما ربما
يبقى في المخرج وفيه إشكال ، إذ استعمال ذلك باعتقاد انه سنة شرعية لا يخلو من
تشريع. والاستناد إلى التساهل في أدلة السنن تساهل خارج عن السنن.
تنبيهات
(الأول) ـ الظاهر
من كلام أكثر الأصحاب اختصاص الاستبراء بالرجل بل صرح بذلك جملة منهم ، وقيل
بثبوته للأنثى وانها تستبرئ عرضا ، واختاره العلامة في المنتهى ، وقال : «الرجل
والمرأة سواء» ومورد الأخبار المتقدمة ـ كما عرفت ـ إنما هو الرجل ، فالقول
بالتعدية مع عدم الدليل مشكل. ونقل عن ابن الجنيد في مختصره انه قال : «إذا بالت
المرأة تنحنحت بعد بولها» انتهى.
(الثاني) ـ قد
صرح غير واحد من المتأخرين ومتأخريهم بأنه لا يعرف خلافا بين علمائنا في ان البلل
المتجدد بعد الاستبراء لا حكم له. وان الخارج مع عدم
__________________
الاستبراء بحكم البول في وجوب غسله ونقضه للطهارة ، ونقل عن ابن إدريس دعوى
الإجماع على كل من الحكمين.
ويدل على ما
ذكروه من الحكم الأول الأخبار الثلاثة المتقدمة .
واما الحكم
الثاني فاستدلوا عليه بمفهومات الأخبار المتقدمة ، فإن تقييد عدم المبالاة ونفي
كونه من البول بل انه من الحبائل بالاستبراء يدل على حصول المبالاة وكونه من البول
مع عدمه.
وقد يعارض
بإطلاق ما دل من الاخبار على عدم النقض بالخارج بعد البول مطلقا : كصحيحة عبد الله
بن أبي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل بال ثم توضأ وقام إلى الصلاة فوجد بللا. قال :
لا يتوضأ ، إنما ذلك من الحبائل».
وصحيحة حريز قال : «حدثني زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن ابى
عبد الله (عليهالسلام) انه قال : ان سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي فلا
تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء ، إنما ذلك بمنزلة النخامة ، وكل شيء
خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل».
والظاهر تقييد
إطلاق هذين الخبرين بتلك الأخبار جمعا ، ولتصريحهما بكون الخارج بعد الوضوء مطلقا
من الحبائل مع تقييد حسنة محمد بن مسلم الحكم بكونه من الحبائل بكونه بعد الاستبراء ، والمقيد
يحكم على المطلق. ولدلالة جملة من الأخبار
__________________
الواردة في الجنب بالإنزال إذا بال ولم يستبرئ على الأمر بالوضوء :
كقوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا فليس ينقض غسله
ولكن عليه الوضوء ...».
وقوله (عليهالسلام) في موثقة سماعة : «وان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ
ويستنجي».
ومثلهما رواية
معاوية بن ميسرة ومقتضى الجمع حملها على عدم الاستبراء.
ويدل عليه أيضا
قوله (عليهالسلام) ـ في صحيحة ابن سنان الآتية ان شاء الله في المبحث الثالث من الفصل الثاني
من هذا المطلب ـ : «والودي فمنه الوضوء ، لانه يخرج من دريرة البول». بحمله على
الخروج قبل الاستبراء ، كما هو ظاهر الخبر ، وللإجماع ـ نصا وفتوى ـ على عدم سببية
الودي للوضوء كما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى.
ويظهر من بعض
فضلاء متأخري المتأخرين الميل ـ لو لا الإجماع المدعى في المقام ـ الى العمل
بإطلاق الخبرين المذكورين ، وحمل ما عارضهما من مفهوم روايات الاستبراء على الاستحباب
، استضعافا لدلالة المفهوم وعدم ظهورها في الوجوب ، وهكذا صحيحة ابن سنان أيضا
حملها على الاستحباب. ولا يخفى وهنه.
والتحقيق انه
قد تعارض إطلاق صحيحتي عبد الله بن أبي يعفور وحريز بعدم الوضوء بذلك البلل أعم من أن يكون مع الاستبراء
وعدمه ، وإطلاق صحيحة ابن مسلم وروايتي سماعة ومعاوية بوجوب الوضوء بذلك البلل
مطلقا أيضا.
__________________
ووجه الجمع
تقييد الإطلاق الأول بحاله الاستبراء ، كما هو مدلول منطوق اخبار الاستبراء ،
وتقييد الإطلاق الثاني بحالة عدم الاستبراء ، كما هو مفهوم تلك الاخبار ، وعلى ذلك
تجتمع الأخبار.
واما إبقاء
الإطلاق الأول بحاله ـ وحمل الوضوء في الإطلاق الثاني على الاستحباب وكذلك في
المفهوم استضعافا لدلالته ـ
ففيه (أولا) ـ ان
قوله في صحيحة محمد بن مسلم : عليه الوضوء» ظاهر في الوجوب ، وكذا قوله في خبر
معاوية بن ميسرة : «فليتوضأ».
و (ثانيا) ـ ان
المفهوم هنا مفهوم شرط ، وهو ـ مع ذهاب الأكثر إلى حجيته ـ معضود بدلالة الأخبار
عليه أيضا ، كما تقدم في المقدمة الثالثة فلا ضعف في دلالته.
و (ثالثا) ـ ان
ضعف الدليل ليس من قرائن الاستحباب كما تقدمت الإشارة اليه.
واما ما ورد في
رواية يونس ـ قال : «كتب اليه رجل : هل يجب الوضوء مما خرج من
الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب : نعم». ـ فيتعين حمله على التقية ، لموافقته لمذهب
أكثر العامة كما ذكره الشيخ في الاستبصار ، ومخالفته لما عليه كافة
علماء الفرقة الناجية ولاخبارهم.
__________________
هذا. واعلم ان
الظاهر ـ كما عرفت من كلامهم ـ انه كما لا خلاف في نقض هذا البلل المشتبه للوضوء ،
كذلك لا خلاف في وجوب غسله ، وهو يشعر بحكمهم بنجاسته. ويشكل عليهم بمقتضى ما
قرروه في مسألة الإناءين ـ كما تقدم ذكره ـ بأن أقصى ما يستفاد من الأدلة المذكورة النقض خاصة ،
مع اندراج هذا البلل في «كلية : كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر . وما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم ...» مع عدم المخصص. وحصول النقض به لا يستلزم النجاسة. إلا
ان المفهوم من الأخبار ـ كما عرفت في مسألة الإناءين ـ ان الشارع قد اعطى المشتبه بالنجس إذا كان محصورا
والمشتبه بالحرام كذلك حكمهما في وجوب الاجتناب وتحريم الاستعمال فيما يشترط فيه
الطهارة وتعدى حكمه إلى ما يلاقيه ، كما تقدم تحقيق ذلك في مسألة الإناءين ،
فالحكم هنا موافق لما حققناه ثمة ، لكنه مناف لما ذكروه (رضوان الله عليهم) في تلك
المسألة ، فإن المسألتين من باب واحد.
(الثالث) ـ ذكر
العلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى انه يستحب الصبر هنيئة قبل الاستبراء ،
ومستنده غير واضح. قيل : وربما كان ظاهر الأخبار
__________________
خلافه ، كما في صحيحة جميل ورواية داود الصرمي المتقدمتين وفي الدلالة ما عرفت آنفا ، وأظهر منهما رواية روح
المتقدمة .
(الرابع) ـ روى
شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار مضمون حسنة محمد بن مسلم عن كتاب السرائر نقلا من كتاب حريز قال : «قلت لأبي
جعفر (عليهالسلام) : رجل بال. الحديث».
بأدنى تفاوت لا
يخل بالمقصود ، ثم قال (قدسسره) في الكتاب المذكور : «والخبر يحتمل وجوها : (الأول) ـ ان
يكون المراد بالطرف في الموضعين الذكر ، وفي الحديث «نقي الطرفين» . وفسر بالذكر واللسان ، وقال الجوهري : «قال ابن
الأعرابي قولهم : «لا يدري أي طرفيه أطول ، طرفاه : لسانه وذكره» فيكون إشارة إلى عصرين : العصر من المقعدة إلى الذكر
ونتر أصل الذكر ، لكن لا يدل على تثليث الأخير ، ولا يبعد ان يكون التثليث على
الفضل والاستحباب (الثاني) ـ ان يكون المراد بالطرف في الموضعين الجانب ويكون
الضميران راجعين إلى الذكر ، اي يعصر من المقعدة إلى رأس الذكر ، فيكون العصران
داخلين فيه ، والمراد بالأخير عصر رأس الذكر ، فيدل على العصرات الثلاث التي ذكرها
الأصحاب (الثالث) ـ
__________________
ان يكون المراد بالأول عصر الذكر وبالثاني عصر رأس الذكر. ويضعف الأخيرين
ان النتر هو الجذب بقوة لا مطلق العصر ، وهو لا يناسب عصر رأس الذكر ، مع انه لا
يظهر من سائر الأخبار هذا العصر ، قال في النهاية : «فيه إذا بال أحدكم فلينتر
ذكره ثلاث نترات . النتر جذب فيه قوة وجفوة» انتهى .
ثم اعلم ان
الشيخ روى هذا الخبر نقلا من الكافي ، وفيه «يعصر أصل ذكره إلى ذكره» ويروى عن بعض
مشايخنا (رحمهمالله) انه قرأ «ذكره» بضم الذال وسكون الكاف وفسره بطرف الذكر ،
لينطبق على الوجه الثاني من الوجوه المذكورة. ويخدشه ان اللغويين قالوا : «ذكرة
السيف : حدته وصرامته» والظاهر منه ان المراد به المعنى المصدري لا الناتي من
طرفيه.
وبقي هنا اشكال
آخر وهو انه ما الفائدة في التقييد بعدم وجدان الماء؟ والجواب انه مجرب انه مع عدم
الاستنجاء بالماء يتوهم خروج البلل ساعة بعد ساعة ، بل يكون خروج دريرة البول أكثر
، كما ذكر العلامة في المنتهى ان الاستنجاء بالماء يقطع دريرة البول ، ففائدة
الاستبراء هنا انه ان خرج بعده شيء أو توهم خروجه لا يضره ذلك اما من حيث النجاسة
فلأنه غير واجد للماء ، واما من حيث الحدث فلانه لا يحتاج الى تجديد التيمم ولا
قطع الصلاة» انتهى كلامه علا في الفردوس مقامه.
و (منها) ـ تعجيل
الاستنجاء ولو في المبرز خصوصا من البول ، لصحيحة جميل ورواية الصرمي ورواية روح ،
وقد تقدم جميع ذلك .
__________________
و (منها) ـ أن
يكفي على يده قبل إدخالها الإناء ان كان الاستنجاء متوقفا على إدخالها ، ويتبع ذلك
بالتسمية والدعاء. لخبر عبد الرحمن بن كثير في حكاية وضوء أمير المؤمنين (صلوات
الله عليه) حيث قال فيه : «يا محمد ائتني بإناء من ماء أتوضأ
للصلاة ، فأتاه محمد بالماء فأكفأ بيده اليسرى على يده اليمنى ، ثم قال : بسم الله
والحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا. قال ثم استنجى فقال. الحديث».
وان يكون ذلك
مرة من حدث البول ومرتين من الغائط ، لحسنة الحلبي برواية الكافي وصحيحته برواية
التهذيب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل كم يفرغ الرجل على يده قبل ان يدخلها في الإناء؟
قال : واحدة من حدث البول وثنتين من الغائط ...».
وستأتي تتمة
الكلام في ذلك ان شاء الله تعالى.
و (منها) ـ البدأة
في الاستنجاء بالمقعدة قبل الإحليل ، لموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل إذا أراد ان يستنجي بأيما يبدأ :
بالمقعدة أو بالإحليل؟ فقال : بالمقعدة ثم بالإحليل». وعلله بعضهم بأنه لئلا تنجس اليد بالغائط عند الاستبراء.
و (منها) ـ اختيار
الماء حيث تجزئ الأحجار ، ويدل عليه صحيحة جميل ابن دراج أو حسنته عن أبي عبد الله
(عليهالسلام) : «قال في قول الله عزوجل : ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . قال : كان الناس يستنجون بالكرسف
__________________
والأحجار ، ثم أحدث الوضوء وهو خلق كريم ، فأمر به رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وصنعه ، فأنزل الله تعالى في كتابه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)».
وصحيحة هشام بن
الحكم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : يا معشر الأنصار ان الله قد أحسن عليكم الثناء فما
ذا تصنعون؟ قالوا نستنجي بالماء».
وصحيحة مسعدة
بن زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قال لبعض نسائه : مري نساء المؤمنين ان يستنجين بالماء
ويبالغن ، فإنه مطهرة للحواشي ومذهبة للبواسير».
والجمع بين
المطهرين أكمل ، لمرفوعة احمد المتقدمة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار
ويتبع بالماء».
وإطلاق الرواية
يدل على استحباب الجمع فيما يتعين فيه الماء كما في صورة التعدي وفيما تجزئ فيه
الأحجار ، وبذلك صرح في المعتبر ، قال : «لانه جمع بين مطهرين بتقدير أن لا يتعدى
، وإكمال في الاستظهار بتقدير التعدي» وظاهر الشهيد في الذكرى التخصيص بالتعدي.
وكيف كان
فالظاهر تقديم الأحجار ، للتصريح به في الرواية ، ولما فيه من تنزيه اليد عن
مباشرة النجاسة.
وأورد السيد في
المدارك على أصل الحكم اشكالا ، قال (قدسسره) : «وأورد على هذا الحكم ان الإزالة واجبة اما بالماء
أو بالأحجار وجوبا تخييريا ، فكيف يكون أحدهما أفضل من الآخر ، بل قد صرحوا في مثل
ذلك باستحباب
__________________
ذلك الفرد الأفضل ، ومنافاة المستحب المواجب واضحة. وأجيب عنه بان الوجوب
التخييري لا ينافي الاستحباب العيني ، لأن متعلق الوجوب في التخييري ليس امرا
معينا بل الأمر الكلي. فتعلق الاستحباب بواحد منهما لا محذور فيه. وفيه نظر ، فإنه
ان أريد بالاستحباب هنا المعنى العرفي ـ وهو الراجح الذي يجوز تركه لا إلى بدل ـ لم
يمكن تعلقه بشيء من افراد الواجب التخييري ، وان أريد به كون أحد الفردين
الواجبين أكثر ثوابا من الآخر فلا امتناع فيه كما هو ظاهر» انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول : ما ذكره
(قدسسره) من النظر يمكن الجواب عنه بالتزام الشق الأول من
الترديد ، قوله : انه هو الراجح الذي يجوز تركه لا إلى بدل ، وما هنا إنما يجوز
تركه مع الإتيان بمبدله ، قلنا : الاستحباب هنا إنما تعلق بالفرد الكامل من افراد
ذلك الواجب المخير ، وهو من حيث اتصافه بصفة الكمال يجوز تركه لا إلى بدل ، إذ لا
يقوم مقامه في الكمال غيره من تلك الافراد ، واتصاف تلك الأفراد الباقية بالبدلية
عنه إنما هو من حيث أصل الوجوب ، بمعنى ان كلا منها بدل عنه في الوجوب لا في
الاستحباب والكمال ، غاية الأمر ان ذلك الفرد الكامل متصف بالوجوب والاستحباب
باعتبارين ، فإنه باعتبار كونه أحد أفراد الواجب المخير ولا يجوز تركه لا إلى بدل
يكون متصفا بالوجوب ، وباعتبار الخصوصية الكمالية التي لا توجد إلا فيه فيجوز تركه
لا إلى بدل يكون مستحبا.
ويمكن الجواب
أيضا باختيار الشق الثاني وان كان فيه خروج عن المعنى المصطلح إلا انه لا محذور
فيه ، فقد صرح به جملة من أجلاء الأصحاب : منهم ـ جده (قدسسره) في روض الجنان.
وأجاب بعض
فضلاء متأخري المتأخرين بأن الوجوب هنا إنما هو صفة الطبيعة ، وكون خصوص فرد منها
مستحبا لا خفاء في صحته ، قال : «وما عرض له من الشبهة ـ من انه لا يجوز تركه لا
إلى بدل فكيف يكون مستحبا؟ ـ فمندفع بان التحقيق ان
الواجب ما يكون تركه سببا لاستحقاق العقاب لا تركه لا إلى بدل ، لان ما
يكون له بدل ليس بواجب في الحقيقة بل الواجب أحدهما ، فزيادة هذا القيد في تعريف
الواجب اما بناء على ما هو المتراءى في أول الوهلة ، أو غفلة عما هو الحق ، أو
يكون المراد منه ما هو المراد بقولهم بوجه ما في تعريف الواجب لتدخل الواجبات
المشروطة. وعلى هذا لا يكون الفرد واجبا بل الواجب هو الطبيعة ، لأن ترك الفرد ليس
سببا لاستحقاق العقاب ، بل السبب إنما هو ترك الطبيعة ، فيمكن استحبابه».
ويشكل بان
الفرد متحد بالطبيعة خارجا فيكون واجبا بوجوبها فكيف يكون مستحبا؟ بل التحقيق في
الجواب هو ما قدمنا.
و (منها) ـ الاعتماد
على اليسرى ، ذكره جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولم أقف فيه على نص ،
وأسنده في الذكرى إلى رواية عن النبي (صلىاللهعليهوآله) . وقال العلامة في النهاية : «لأنه (عليهالسلام) علم أصحابه الاتكاء على اليسار» وهما اعلم بما قالا.
و (منها) ـ إعداد
الأحجار ، ولم أقف فيه على نص سوى ما نقل في الذكرى انه روي عنه (صلىاللهعليهوآله) «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار ،
فإنها تجزئ» . والظاهر ان الروايتين في هذا الموضع والذي قبله من
طريق الجمهور ، فاني بعد التتبع لكتب الأخبار ـ ولا سيما البحار الجامع لما شذ عن
الكتب
__________________
الأربعة من الأخبار ـ لم أقف عليهما ، وكان أصحابنا ـ لما اشتهر بينهم من
التساهل في أدلة السنن ـ يعتمدون على أمثال ذلك. وهو تساهل خارج عن السنن.
المورد الرابع
في المكروهات
و (منها) ـ التخلي
في أحد هذه الأماكن : شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، والطرق النافذة ، ومواضع
اللعن ، ومنازل النزال ، وأفنية المساجد.
ففي صحيح عاصم
بن حميد عن أبي عبد الله (عليهالسلام) المروي في الكافي قال : «قال رجل لعلي بن الحسين (عليهماالسلام) : أين يتوضأ الغرباء؟ قال : تتقي شطوط الأنهار ،
والطرق النافذة ، وتحت الأشجار المثمرة ، ومواضع اللعن. فقيل له : واين مواضع
اللعن؟ قال : أبواب الدور».
وفي مرفوعة علي
المتقدمة ـ في مسألة الاستقبال والاستدبار بالتخلي ـ الأمر
باجتناب أفنية المساجد وشطوط الأنهار ومساقط الثمار ومنازل النزال.
وفي رواية
السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) : «قال نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان يتغوط على شفير بئر ماء يستعذب منها ، أو نهر
يستعذب ، أو تحت شجرة فيها ثمرتها».
وفي رواية
الكرخي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ثلاثة ملعون من فعلهن : المتغوط في ظل النزال ،
__________________
والمانع الماء المنتاب والساد الطريق المسلوك».
وروى الصدوق في
الخصال بسند معتبر عن الصادق (عليهالسلام) عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) في جملة حديث : «لا تبل على المحجة ولا تتغوط عليها».
وظاهر الأصحاب
سيما المتأخرين الحكم بالكراهة في الجميع ، إلا ان الشيخ المفيد في المقنعة عبر في
هذه المواضع بعدم الجواز ، وابن بابويه في الفقيه عبر بذلك في فيء النزال وتحت
الأشجار المثمرة ، قال شيخنا صاحب كتاب رياض المسائل ـ بعد نقل ذلك عنهما ـ ما
لفظه : «والجزم بالجواز ـ مع ورود النهي والأمر واللعن في البعض مع عدم المعارض
سوى أصالة البراءة ـ مشكل» انتهى. وهو جيد إلا انه كثيرا ما قد تكرر منهم (صلوات
الله عليهم) في المحافظة على الوظائف المسنونة من ضروب التأكيدات في الأوامر
والنواهي ما يكاد يلحقها بالواجبات والمحرمات ، كما لا يخفى على من تتبع الأخبار
وجاس خلال تلك الديار. على ان اللعن هو البعد من رحمة الله وهو كما يحصل بفعل
المحرم يحصل بفعل المكروه ولو في الجملة.
وتقييد الطرق
بالنافذة احتراز عن المرفوعة ، فإنها ملك لأربابها ، فيحرم التخلي فيها قطعا.
وربما كان في ذلك إشعار بالكراهة.
وفي بعض عبائر
الأصحاب ـ كالشهيد في الدروس ـ ذكر الأفنية من غير تقييد بالمساجد ، ولم نقف له
على دليل وراء ما ذكرنا.
واحتمل بعض
المتأخرين في معنى مواضع اللعن انه هو كل موضع يلعن المتغوط بالجلوس فيه ، وحمل
تفسيره (عليهالسلام) على التمثيل ببعض الافراد.
وفسر جماعة من
المتأخرين الأشجار المثمرة في هذا المقام بما من شأنها ذلك وان لم تكن مثمرة
بالفعل بل وان لم تثمر في وقت ما ، استنادا إلى صدق الاسم بناء على انه
__________________
لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق.
وفيه (أولا) ـ ان
صدق هذا المشتق إنما يقتضي جواز إطلاق المثمرة على ما أثمرت في وقت ما وان لم تكن
مثمرة في الحال ، لا إطلاقها على ما من شأنها ذلك لانه لا خلاف في ان إطلاق المشتق
على ما سيتصف بمبدإ الاشتقاق مجاز البتة.
و (ثانيا) ـ ان
المسألة المذكورة وان كان مما طال فيها الجدال وانتشرت فيها الأقوال حتى في تحرير
محل النزاع ، كما فصلنا ذلك في المقدمة التاسعة ـ إلا ان التحقيق انه ان جعل موضع
النزاع ما هو أعم من المشتق أو ما جرى مجراه مع طرو الضد الوجودي وعدمه ، فالحق هو
القول بالاشتراط ، كما هو قول جملة من علماء الأصول ، واختاره المحدث الأمين
الأسترآبادي في تعليقاته على شرح المدارك. حيث قال : الحق عندي أنه لا بد ـ في
بقاء صدق المعنى الحقيقي اللغوي للمشتق على ذات ـ من بقاء الحالة التي هي مناط
حدوث صدقه ، سواء كانت الحالة المذكورة قيام مبدأ الاشتقاق أو ما يحذو حذوه ،
ودليلي على ذلك (أولا) ـ انه من الأمور البينة اشتراط ذلك في كثير من الصور ،
كالبارد والحار والهابط والصاعد والمتحرك والأبيض والأحمر والمملوك والموجود. ومن
القواعد الظاهرة ان قاعدة الوضع اللغوي في كل صنف من أصناف المشتقات واحدة ، ولو
لا البناء على القواعد الظاهرية لبطلت قواعد كثيرة من فنون العربية. و (ثانيا) ـ مقتضى
النظر الدقيق ومذهب المحققين ان معنى المشتقات كالعالم أمر بسيط ، ومقتضى ظاهر
النظر ما اشتهر بين اللغويين من ان معناه شيء قام به العلم ، والوجدان حاكم بأنه
ليس هنا بسيط يصلح سوى لا بشرط مأخذ الاشتقاق ، فلا بد في بقاء معناه من بقائه. ثم
اعلم انه قد يصير بعض الألفاظ المشتقة حقيقة عرفية عامة أو خاصة أو مجازا مشهورا
عند جماعة أو عاما فيما يعم معناه اللغوي وما في حكمه عرفا أو شرعا ، ومنه :
المؤمن والكافر وأشباههما. ومن الأمور العجيبة انه طال التشاجر بينهم في هذه
المسألة من غير فصل
يقطع دابر المنازعة. ثم انه ذكر ان الذي يظهر لي من تتبع رواياتهم (صلوات
الله عليهم) ان المتبادر من الحائض والنفساء في كلامهم ذات حدث الحيض وذات حدث
النفاس لا ذات الدم ، وهذا من باب ارادة ما يعم المعنى اللغوي وما في حكمه شرعا. ثم
استدل بجملة من الأخبار على ذلك.
وان جعل محل
النزاع ما هو أخص ـ كما صرح به المحقق التفتازاني واقتفاه جماعة فيه ـ فما نحن فيه
ليس من موضع النزاع في شيء ، فان المراد بالمشتق في القاعدة المذكورة هو ما جرى
على ما اشتق منه في إرادة الحدوث والتجدد لا ما خرج عنه بإرادة معنى الدوام أو ذي
كذا أو غير ذلك من المعاني ، ألا ترى ان الصفة المشبهة بالفعل وافعل التفضيل واسم
الزمان والمكان حيث لم تجر عليه في ذلك لم تصدق إلا على من هو متصف به حالة
الإطلاق ، وإلا لزم إطلاق حسن الوجه على قبيحة وبالعكس ـ باعتبار ما كان ـ إطلاقا
على جهة الحقيقة ، وكذلك ما كان من صيغ اسم الفاعل مسلوكا به مسلك الصفة المشبهة
ونحوها في عدم ارادة الحدوث ، سواء أريد منه الدوام والاستمرار كالخالق والرازق من
أسمائه ، أو ذي كدا مجردا كالرضيع. والمؤمن والكافر والحائض أو مع الكثرة كاللابن
والتامر. والظاهر ان لفظ (المثمرة) بمعنى ذات الثمرة ، من أثمرت النخلة إذا صار
فيها الثمر ، كاتمرت إذا صار فيها التمر ، وأطعمت أي صار فيها ما يطعم. ويرشد إلى
ما قلنا تعليق عدم الاشتراط على صفة الاشتقاق في قولهم : المشتق لا يشترط في صدقه
بقاء مأخذ الاشتقاق. والتعليق على الوصف يشعر بالعلية والمعنى ان المشتق من حيث
كونه مشتقا لا يشترط. إلخ ، وما نحن فيه لم يبق على حيثية الاشتقاق بل سلك به مسلك
الجوامد ولم يجر مجرى ما اشتق منه.
و (ثالثا) ـ استفاضة
الأخبار عنهم (صلوات الله عليهم) بان مورد النهي في هذا المقام الشجرة المثمرة
بالفعل.
ومن ذلك ما
رواه في الفقيه مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الباقر (عليهالسلام) قال : «ان لله عزوجل ملائكة وكلهم بنبات الأرض من الشجر والنخل ، فليس من
شجرة ولا نخلة إلا ومعها من الله عزوجل ملك يحفظها وما كان منها. ولو لا ان معها من يمنعها
لأكلتها السباع وهو أم الأرض إذا كان فيها ثمرتها ، قال : وإنما نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان يضرب أحد من المسلمين خلاء تحت شجرة أو نخلة قد
أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها. قال : ولذلك يكون الشجر والنخل أنسا إذا كان
فيه حمله ، لأن الملائكة تحضره».
و (رابعا) ـ وهو
الحق ـ عدم بناء الأحكام على مثل هذه القواعد المختلة النظام المنحلة الزمام ، كما
تقدمت الإشارة إليه في المقدمة التاسعة .
و (منها) ـ استقبال
جرم الشمس والقمر ، لرواية الكاهلي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا يبولن أحدكم وفرجه باد للقمر يستقبل به».
ورواية السكوني
عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان يستقبل الرجل الشمس والقمر بفرجه وهو يبول».
وما رواه في
الفقيه في باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلىاللهعليهوآله) عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) عنه (صلىاللهعليهوآله) وفيه انه «نهى ان يبول الرجل وفرجه باد للشمس أو القمر».
__________________
وظاهر هذه
الاخبار التحريم لظاهر النهي فيها إلا ان المشهور بين الأصحاب الحكم بالكراهة.
وظاهر المفيد ـ حيث عبر في المقنعة بعدم الجواز ـ التحريم. ويمكن حمل النهي
المذكور على الكراهة بقرينة خلو مرفوعة علي بن إبراهيم المتقدمة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عن ذلك ، مع
قوله في آخرها : «وضع حيث شئت».
وكذلك مرفوعة
عبد الحميد ومرفوعة محمد المتقدمتان ثمة حيث تضمنتا السؤال عن حد الغائط ولم يذكرا استقبال
الجرمين فيه ، فظاهرهما الخروج من الحد المذكور وأقله عدم التحريم ثم ان ظاهر
الاخبار المذكورة اختصاص الحكم المذكور بالبول دون الغائط ، وظاهر الأكثر التعميم
، وبه صرح الشهيد في الدروس والذكرى ، والعلامة في القواعد والمفيد في المقنعة.
واحتمل بعض محققي متأخري المتأخرين كون الاقتصار على البول في الأخبار لكونه أعم
من الغائط وجودا ، لعدم انفكاكه عنه غالبا ووجوده بدون الغائط كثيرا ، أو للتنبيه
بالأضعف على الأقوى. وفيهما ما لا يخفى.
وكذا ظاهر
الأخبار اختصاص ذلك بالاستقبال دون الاستدبار ، ولذلك خصه بعض الفقهاء بذلك ، بل
نقل عن العلامة في النهاية انه صرح بعدم كراهية الاستدبار ، واستظهره في المدارك.
لكن روى
الكليني مرفوعا مضمرا : «لا تستقبل الشمس ولا القمر». وابن
بابويه في الفقيه كذلك : «لا تستقبل الهلال ولا تستدبره». فيمكن فهم حكم
الغائط من الأولى ، لأن الظاهر انها متعلقة بحد الغائط ، ويفهم من الثانية عدم
اختصاص الحكم بالقمر ، كما هو المصرح به في كلامهم ، لعدم تناوله للهلال ، إذ هو
مخصوص بما قبل الاستدارة والقمر بما بعدها. واستند بعض
__________________
فضلاء متأخري المتأخرين إلى استفادة حكم الاستدبار من هذه الرواية ، وعضدها
بقوله سبحانه : «وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ...» وفيه ما لا يخفى.
و (منها) ـ استقبال
الريح واستدبارها ، لقوله (عليهالسلام) في مرفوعة عبد الحميد المتقدمة بعد السؤال عن حد الغائط : «ولا تستقبل الريح ولا
تستدبرها». ومثلها مرفوعة محمد أيضا. ومورد الخبرين وان كان هو الغائط إلا انه يمكن
فهم حكم البول منه بناء على ان المراد منه المعنى اللغوي بالتقريب الذي ذكروه في
دلالة قوله تعالى : «أَوْ
جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ...» وحينئذ فالتعميم ظاهر ، بل الظاهر ان المفسدة في
استقبال الريح واستدبارها بالبول أشد ، فيندرج من باب مفهوم الموافقة على القول به
والعجب من جماعة حيث خصوا الكراهة بالبول معللين له بخوف الرد ، والرواية ـ كما
ترى ـ إنما وردت في الغائط خالية من التعليل. وخصوا الحكم بالاستقبال أيضا نظرا
إلى التعليل ، مع تصريح الرواية بالاستدبار. والتقريب في الكراهة ما تقدم في
مرفوعة علي بن إبراهيم .
و (منها) ـ السواك
، لما رواه الشيخ في التهذيب مضمرا وفي الفقيه مرسلا عن الكاظم (عليهالسلام) قال : «السواك في الخلاء يورث البخر».
و (منها) ـ طول
الجلوس على الخلاء ، لرواية محمد بن مسلم قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول : «قال لقمان لابنه : طول الجلوس على الخلاء يورث
الناسور ، قال : فكتب هذا على باب الحش». والناسور بالنون والسين المهملة والراء
أخيرا : علة في حوالي المقعدة. وفي بعض النسخ بالباء الموحدة وجمعه بواسير ، وهو
معروف
__________________
و (منها) ـ استصحاب
خاتم فيه اسم الله تعالى أو شيء من القرآن.
ويدل عليه رواية
أبي أيوب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام): ادخل الخلاء وفي يدي خاتم فيه اسم من أسماء الله؟ قال
: لا ولا تجامع فيه».
ورواية أبي
القاسم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له : الرجل يريد الخلاء وعليه خاتم فيه اسم
الله تعالى؟ فقال : ما أحب ذلك. قال : فيكون اسم محمد؟ قال : لا بأس».
وموثقة عمار
الساباطي الآتية حيث قال فيها : «ولا يستنجي وعليه خاتم فيه اسم الله ،
ولا يجامع وهو عليه ، ولا يدخل المخرج وهو عليه».
ورواية علي بن
جعفر المروية في كتاب قرب الاسناد عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يجامع ويدخل الكنيف وعليه
الخاتم فيه ذكر الله أو شيء من القرآن ، أيصلح ذلك؟ قال : لا».
وبعض الأصحاب
عبر في هذا المقام بكراهة استصحاب ما عليه اسم الله ، وهذه الروايات كلها مختصة
بالخاتم ، ولم نقف على غيرها في المسألة.
وقال في الفقيه
: «ولا يجوز للرجل ان يدخل الخلاء ومعه خاتم عليه اسم الله أو مصحف فيه
القرآن ، فان دخل وعليه خاتم عليه اسم الله فليحوله عن يده اليسرى إذا أراد
الاستنجاء» وظاهر كلامه مؤذن بالتحريم كما ترى.
و (منها) ـ استصحاب
دراهم بيض غير مصرورة ، لرواية غياث عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) انه «كره ان يدخل الخلاء ومعه درهم أبيض إلا ان يكون
مصرورا». وقيده بعض الأصحاب بما يكون عليه اسم الله تعالى. وهو حسن.
__________________
و (منها) ـ الكلام
ـ على المشهور ـ إلا ما استثنى مما سيأتي تفصيله. وقال في الفقيه : «لا يجوز الكلام على الخلاء ، لنهي النبي (صلىاللهعليهوآله) عن ذلك»
ويدل على النهي
عن ذلك رواية صفوان عن الرضا (عليهالسلام) قال : «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان يجيب الرجل آخر وهو على الغائط أو يكلمه حتى يفرغ».
وروى الصدوق في
الفقيه مرسلا وفي العلل مسندا عن أبي بصير قال : «قال لي أبو
عبد الله (عليهالسلام) : لا تتكلم على الخلاء ، فان من تكلم على الخلاء لم
تقض له حاجة».
واستثني من ذلك
ذكر الله تعالى وتحميده وقراءة آية الكرسي وحكاية الأذان.
ويدل على الأول
صحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «مكتوب في التوراة التي لم تغير ان موسى (عليهالسلام) سأل ربه فقال : الهي انه يأتي علي مجالس أعزك وأجلك أن
أذكرك فيها. فقال : يا موسى ان ذكري حسن على كل حال». وبمضمونها أخبار أخر أيضا.
وعلى الثاني ما
رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «كان أبي يقول : إذا عطس أحدكم وهو على الخلاء
فليحمد الله في نفسه».
__________________
وعلى الثالث صحيحة
عمر بن يزيد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن التسبيح في المخرج وقراءة القرآن. فقال : لم يرخص
في الكنيف أكثر من آية الكرسي ويحمد الله أو آية الحمد لله رب العالمين» .
والظاهر حمل
عدم الرخصة فيما زاد على ذلك على تأكد الكراهة ، لصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته أتقرأ النفساء ـ والحائض والجنب والرجل
يتغوط ـ القرآن؟ قال : يقرؤون ما شاءوا». ولاخبار الذكر المتقدمة.
وعلى الرابع صحيحة
محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهالسلام) انه قال : «يا ابن مسلم لا تدعن ذكر الله على كل حال ،
ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت على الخلاء فاذكر الله عزوجل وقل كما يقول المؤذن».
رواه الصدوق في
الفقيه والعلل وروى في العلل أيضا مثله عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليهالسلام). وروى فيه أيضا عن سليمان بن مقبل عن أبي الحسن موسى (عليهالسلام) كذلك ، وذكر فيه ان ذلك مستحب ، وان العلة فيه انه
يزيد في الرزق.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام جملة من المتأخرين : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني (رحمهالله) حيث لم يقفوا على النصوص المذكورة ، إذ كان نظرهم
غالبا مقصورا على مراجعة التهذيب ، وهو خال عن ذلك ، فأنكروا وجود النص في المسألة
، ونسبه الشهيد الثاني في الروضة إلى المشهور إيذانا بذلك ، واستشكل في الاستدلال
عليه
__________________
بأحاديث الذكر ، لعدم شمولها الحيعلات إلا ان تبدل بالحولقة ، كما صرح به
في الروض.
وظاهر الرواية
المتقدمة ـ وكذا رواية أبي بصير المشار إليها آنفا حيث قال فيها : «فقل مثل ما يقول المؤذن ، ولا تدع ذكر
الله عزوجل في تلك الحال ، لان ذكر الله حسن على كل حال». ـ كون
مجموع فصول الأذان داخلا في الذكر من الحيعلات وغيرها ، ولعل دخولها تغليبا أو
يحمل الذكر على ما يشملها.
وما اعتذر به
عنه بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من ان مراده من عدم النص في عبارة الروض يعني
بالنسبة إلى الحيعلات ـ فتكلف بعيد.
وزاد الأصحاب
الكلام لحاجة ضرورية استنادا إلى رفع الحرج ، ورد السلام ، والصلاة على النبي (صلىاللهعليهوآله) والحمد بعد العطاس. ووجه الجميع ظاهر. وكأنهم لم يقفوا
على خصوص ما ورد في الأخير مما قدمنا نقله فرجعوا فيه الى الأدلة المطلقة.
و (منها) ـ الاستنجاء
باليمين ، لنهي النبي (صلىاللهعليهوآله) الوارد في مرسلة يونس عن أبي عبد الله (عليهالسلام) وفي رواية السكوني أيضا معللا فيها بكونه من الجفاء ، وكذا رواه الصدوق مرسلا ، ثم قال : «وقد روى انه لا بأس إذا كانت اليسار
معتلة».
و (منها) ـ الاستنجاء
باليسار وفيها خاتم عليه اسم الله ، ويدل على ذلك موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله ،
ولا يستنجي وعليه خاتم فيه اسم الله. الحديث».
__________________
ورواية الحسين
بن خالد عن أبي الحسن الثاني (عليهالسلام) قال : «قلت له : انا روينا في الحديث ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يستنجي وخاتمه في إصبعه ، وكذلك كان يفعل أمير
المؤمنين (عليهالسلام) وكان نقش خاتم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) (محمد رسول الله). قال : صدقوا. قلت : ينبغي لنا ان
نفعل ذلك؟ فقال : ان أولئك كانوا يتختمون في اليد اليمنى وأنتم تتختمون في اليد
اليسرى».
ومثلها روايته
الأخرى المروية في العيون والمجالس وفي آخرها «فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم ...».
ورواية أبي
بصير عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) : من نقش على خاتمه اسم الله فليحوله عن اليد التي
يستنجي بها في المتوضإ».
واما رواية وهب
بن وهب عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كان نقش خاتم أبي (العزة لله جميعا) وكان في
يساره يستنجي بها ، وكان نقش خاتم أمير المؤمنين (عليهالسلام) (الملك لله) وكان في يده اليسرى يستنجى بها». ـ فالظاهر
ردها ، لدلالة روايتي الحسين بن خالد على نفي ذلك وان تختمهم (عليهمالسلام) إنما هو في اليمين. مضافا إلى استفاضة الأخبار
باستحباب التختم باليمين . وراوي الرواية المذكورة عامي خبيث بل من أكذب البرية
على جعفر بن محمد (عليهماالسلام) كما
__________________
صرح به علماء الرجال . ومع التنزل عن ذلك فهي محمولة على التقية .
__________________
واما المناقشة
في عدم صراحة الخبر في كون الخاتم في اليسرى حالة الاستنجاء ـ كما ذكره في رياض
المسائل ـ فظني انه بعيد. وأبعد منه حمل الرواية على الجواز بعد ما عرفت.
والعجب هنا من
المولى الأردبيلي (قدسسره) حيث قال ـ بعد ان استدل على الجواز بهذه الرواية ـ : «ويمكن
استفادة استحباب التختم باليسار ، وعدم تحريم التنجيس أيضا ، إلا ان يكون ذلك
ثابتا بالإجماع ونحوه ، أو يحمل على عدم وصول النجاسة إليه» انتهى. ولا أراك في
ريبة من ضعف هذا الكلام بعد التأمل في المقام.
والحق جملة من
الأصحاب باسمه تعالى هنا أسماء الأنبياء والأئمة (عليهمالسلام) والظاهر ان المستند في ذلك التعظيم. ولا بأس به. لكن
رواية أبي القاسم للتقدمة في حكم استصحاب الخاتم الذي عليه اسم الله في الخلاء
صرحت بنفي البأس في استصحاب خاتم عليه اسم النبي (صلىاللهعليهوآله) وحينئذ فما عداه بطريق اولى ، فالقول بالإلحاق هنا دون
هناك ـ مع الاشتراك في العلة المذكورة ـ مما لا وجه له ، مع ان الصدوق (رحمهالله) في المقنع صرح بنفي البأس عن عدم نزع الخاتم فيه اسم
محمد (صلىاللهعليهوآله) حال الاستنجاء بعد ان نهى عن الاستنجاء وعليه خاتم عليه
اسم الله حتى يحوله.
وقد ذكر
الأصحاب أيضا أن الكراهة إنما هو عند عدم التلوث بالنجاسة ،
__________________
وإلا فيحرم بل يكفر فاعله لو فعله بقصد الإهانة. وهو جيد.
و (منها) ـ الاستنجاء
باليسار وفيها خاتم فصه من حجر زمزم ، ويدل عليه رواية علي بن الحسين ـ وهو ابن عبد ربه على الظاهر وقد صرح به في الكافي ـ قال
: «قلت له : ما تقول في الفص يتخذ من حجارة زمزم؟ قال : لا بأس به ، ولكن إذا أراد
الاستنجاء نزعه». وربما وجد في بعض نسخ الكافي والتهذيب «زمرد» مكان «زمزم» بل
نسبه المحدث الكاشاني في الوافي إلى كثير من النسخ ، ثم قال : «وكأنه الصواب ، إذ
لا تعرف حجارة يؤتى بها من زمزم» انتهى. وقال الشهيد في الذكرى بعد نقل هذه النسخة
: «وسمعناه مذاكرة» وقال شيخنا المحقق في كتاب رياض المسائل بعد نقل مضمون كلام
الوافي : «والظاهر ان الصواب ما عليه أكثر نسخ الكتاب وان النسخة مما أخطأت به
الكتاب ، لا سيما وقد أورده كذلك في كتبهم أعاظم السلف وأكابر الخلف. وعدم معروفية
فصوص تؤخذ من حجر زمزم لا يوجب الخروج عما عليه المعظم» انتهى كلامه رفع في الخلد
مقامه.
و (منها) ـ التخلي
على القبور وبينها ، لصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «من تخلى على قبر أو بال قائما أو بال في ماء ،
إلى ان قال : فأصابه شيء من الشيطان لم يدعه إلا ان يشاء الله. وأسرع ما يكون
الشيطان إلى الإنسان وهو على بعض هذه الحالات ...».
ورواية إبراهيم
بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «ثلاثة يتخوف منها الجنون ، وعد منها التغوط بين
القبور».
__________________
ومثله رواه في
الخصال في وصية النبي (صلىاللهعليهوآله) لعلي (عليهالسلام)
و (منها) ـ مس
الذكر باليمين وقت البول ، رواه الصدوق (قدسسره) في الفقيه مرسلا قال : «وقال أبو جعفر (عليهالسلام) : إذا بال الرجل فلا يمس ذكره بيمينه».
و (منها) ـ البول
قائما ، لما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم وغيرها أيضا ، وفي بعضها انه من الجفاء.
و (منها) ـ البول
مطمحا به ، لرواية السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «نهى النبي (صلىاللهعليهوآله) ان يطمح الرجل ببوله من السطح أو من الشيء المرتفع في
الهواء». ومثلها رواية مسمع عنه (عليهالسلام) .
ولا ينافي ذلك
ما تقدم في استحباب ارتياد مكان للبول كان يكون على مكان مرتفع من الأرض ، إذ
الارتفاع المعتبر هناك هو بقدر ما يؤمن معه من الترشح.
و (منها) ـ البول
في الماء جاريا وراكدا ، وان كان الأول أخف كراهة. وظاهر المفيد في المقنعة
التحريم. ونقل عن ظاهر علي بن بابويه نفيها في الأول.
ومن الاخبار
الواردة في ذلك صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة وصحيحة الفضيل «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ، وكره ان يبول في الماء الراكد».
__________________
وفي مرسلة
الفقيه «ان البول في الماء الراكد يورث النسيان». ومرسلة مسمع انه «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان يبول الرجل في الماء الجاري إلا من ضرورة ، وقال :
ان للماء أهلا». ورواية أبي بصير ومحمد بن مسلم المروية في كتاب الخصال عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «لا يبولن الرجل من سطح في الهواء ، ولا يبولن
في ماء جار ، فان فعل ذلك فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه ، فان للماء أهلا
وللهواء أهلا». وفي رواية عنبسة بن مصعب قال : «لا بأس به إذا كان الماء جاريا». وكذا في موثقة
ابن بكير وعلل هاتين الروايتين مع صحيحة الفضيل المتقدمة مستند
علي بن بابويه فيما نقل عنه ، الا ان رواية مسمع ورواية أبي بصير ومحمد بن مسلم قد
صرحتا بالنهي. والجمع بما ذكرنا من كونه أخف كراهة ومورد الروايات كلها البول خاصة
والحق الأصحاب به الغائط بالطريق الاولى وفيه ما لا يخفى.
و (منها) ـ الأكل
لفحوى مرسلة ابن بابويه في الفقيه عن الباقر (عليهالسلام): «دخل أبو جعفر (عليهالسلام) الخلاء فوجد لقمة خبز في القذر ، فأخذها وغسلها ودفعها
إلى مملوك معه ، فقال : تكون معك لآكلها إذا خرجت ، فلما خرج (عليهالسلام) قال للمملوك : أين اللقمة؟ فقال : أكلتها يا بن رسول
الله فقال : انها ما استقرت في جوف أحد إلا وجبت له الجنة ، فأنت حر ، فإني أكره
أن استخدم رجلا من أهل الجنة». وروى القصة المذكورة في كتاب عيون اخبار الرضا
__________________
بأسانيد ثلاثة عن الرضا (عليهالسلام) عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهمالسلام) ولا تنافي ، لإمكان اتفاق ذلك لكل منهما (عليهماالسلام) والتقريب ان تأخيرهما (عليهماالسلام) أكل اللقمة إلى بعد الخروج ـ مع علمهما بأنها ما
استقرت في جوف أحد إلا وجبت له الجنة وعتقهما المملوك لذلك ـ اشعار بمرجوحية الأكل
في الموضع المذكور. والحق الأصحاب الشرب. ولم أقف له على دليل.
و (منها) ـ مباشرة
الحرة ذلك من زوجها ، لموثقة يونس بن يعقوب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : المرأة تغسل فرج زوجها؟ فقال : ولم من سقم؟ قلت :
لا. قال : ما أحب للحرة ان تفعل ، فأما الأمة فلا يضره».
الفصل الثاني
في الأسباب وهي
البول والغائط والريح والنوم الغالب على الحاستين وبعض أقسام الاستحاضة ، وتحقيق
الكلام فيها يقتضي بسطه في أبحاث.
(الأول) ـ لا
خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في سببية الثلاثة الأول مع الخروج من الموضع
الطبيعي وان لم يحصل الاعتياد ، بل الخروج أول مرة يكون موجبا للوضوء وان تخلف
أثره لفقد شرط كالصغر ، وكذا لو اتفق المخرج من غير الموضع المعتاد خلقة كما ادعى
عليه في المنتهى الإجماع ، وكذا لو انسد الطبيعي وانفتح غيره كما ذكره في المنتهى
مدعيا عليه الإجماع أيضا ، وظاهرهم ان في الجميع لا يشترط الاعتياد. اما لو لم
ينسد الطبيعي وانفتح غيره فأقوال :
أحدها ـ المشهور
وهو عدم النقض إلا مع الاعتياد.
وثانيها ـ ما
نقل عن الشيخ في المبسوط والخلاف من النقض بما يخرج من تحت المعدة دون ما فوقها.
__________________
وثالثها ـ النقض
بخروج هذه الأشياء مطلقا من فوق المعدة أو تحتها مع الاعتياد وعدمه ، واليه ذهب
ابن إدريس.
ورابعها ـ عدم
النقض مطلقا ، وإلى هذا القول صار بعض فضلاء متأخري المتأخرين ويدل على أصل المسألة الأخبار المستفيضة ، كصحيحة زرارة
قال : «قلت لأبي جعفر وأبي عبد الله (عليهماالسلام) : ما ينقض الوضوء؟ فقالا : ما يخرج من طرفيك الأسفلين
من الدبر والذكر : غائط أو بول أو مني أو ريح والنوم حتى بذهب العقل».
وصحيحة سالم
أبي الفضل عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك الأسفلين
الذين أنعم الله عليك بهما».
وصحيحة زرارة
عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك أو النوم».
وصحيحته أيضا
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا يوجب الوضوء إلا غائط أو بول أو ضرطة تسمع
صوتها أو فسوة تجد ريحها».
ورواية زكريا
بن آدم قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن الناسور أينقض الوضوء؟ فقال : إنما ينقض الوضوء
ثلاث : البول والغائط والريح».
الى غير ذلك من
الاخبار والظاهر ان الحصر في هذه الاخبار إضافي بالنظر إلى ما يخرج من الأسفلين
غير هذه الأشياء كالمذي وأشباهه ، وإلى ما لا يخرج منهما كالرعاف والقيء ونحوهما
مما ذهب العامة إلى النقض به ولعل ذلك في مقام الرد عليهم ، والى ذلك تشير رواية
زكريا
__________________
ابن آدم
المتقدمة وموثقة أبي بصير المرادي المروية في كتاب الخصال عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحجامة والقيء وكل دم سائل. فقال :
ليس فيه وضوء ، إنما الوضوء مما خرج من طرفيك الذين أنعم الله بهما عليك». واما
حمل الحصر على معنى ان الأصل في النقض ينحصر في الخارج من السبيلين ـ واما غيره من
النوم ومزيل العقل فإنما هو لكونه مظنة لخروج شيء من تلك النواقض ـ فظني بعده ،
إذ الظاهر ـ كما سيأتي ان شاء الله ـ حدثية النوم بنفسه لا لكونه كذلك.
حجة القول
الأول ـ على ما ذكره الشهيد في الذكرى ـ انه مع العادة يشمله عموم الآية ، وقول
الصادق (عليهالسلام) : «ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك الذين أنعم
الله بهما عليك». لتحقق النعمة بها. واما مع الندور ، فللأصل والخبر ، إذ ليس من
الطرفين.
والظاهر ان
مراده بالآية قوله تعالى : «أَوْ
جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ...» ومورد الآية وان كان التيمم إلا ان ظاهرها يدل على وجوب
التطهير بالماء مع وجوده وان الانتقال إلى التيمم إنما هو لعدمه.
وأورد عليه
بالمنع من شمول الآية لهذا الفرد ظاهرا ، بل هي إما ظاهرة في المتعارف المعتاد
لأكثر الناس وهو التغوط من الموضع المعتاد ، أو مجملة بالنسبة اليه وإلى الأعم منه
ومن المعتاد لبعض ، وعلى التقديرين لا يثبت المدعى. واما شمول الرواية فغير ظاهر
__________________
لأن الأصل في الإضافة العهد وكذا الموصول ، وحينئذ فالظاهر ان يكونا إشارة
إلى الطرفين المتعارفين المعهودين. وأيضا الظاهر ان الأنعام إنما يتحقق في الطرفين
الطبيعيين واما غيرهما فليس من باب النعمة بل النقمة.
وحجة الثاني ـ على
ما نقل عن الشيخ في المبسوط ـ عموم قوله : «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغائِطِ ...» وما يروى من الأخبار ـ ان الغائط ينقض الوضوء ـ يتناول
ذلك ، ولا يلزم ما فوق المعدة ، لأن ذلك لا يسمى غائطا.
وجوابه يعلم
مما سبق. واما قوله : «ان ما فوق المعدة لا يسمى غائطا» فأورد عليه المحقق في
المعتبر انه ضعيف قال : «لأن الغائط اسم للمطمئن من الأرض نقل الى الفضلة المخصوصة
، فعند هضم المعدة الطعام وانتزاع الاجزاء الغذائية منه يبقى الثقل ، فكيف خرج
يتناوله الاسم ولا اعتبار بالمخرج في تسميته».
وأجاب عنه
شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين بان غرض الشيخ (رحمهالله) انه إنما يسمى غائطا بعد انحداره من المعدة إلى
الأمعاء وخلعه الصورة النوعية الكيلوسية التي كان عليها في المعدة ، اما قبل
الانحدار عن المعدة فليس بغائط إنما هو من قبيل القيء ، وليس مراده وقوع المخرج
فيما سفل عن المعدة أو فيما علاها ، إذ لا عبرة بتحتية نفس المخرج وفوقيته ، بل
بخروج الخارج بعد انحداره عن المعدة وصيرورته تحتها أو قبل ذلك ، غايته انه ـ رحمهالله ـ عبر عما يخرج قبل الانحدار عنها بما يخرج من فوقها
وعما يخرج بعده بما يخرج من تحتها ، والأمر فيه سهل. ولا يخفى بعده من كلام الشيخ.
وأنت خبير بأنه
على هذا التوجيه الذي ذكره (قدسسره) يرتفع الخلاف بين الشيخ وبين ابن إدريس ويصير القولان
قولا واحدا.
وحجة القول
الثالث ـ على ما نقل عن قائله ـ عموم الآية والاخبار ، ولعله أشار بالأخبار إلى ما
ورد منها مطلقا بنقض الثلاثة من غير تقييد بالمخرج الطبيعي ،
__________________
كصحيحة زرارة الأخيرة ورواية زكريا بن آدم .
وفي الآية ما
تقدم. واما الاخبار فمن الظاهر البين ان الحكم فيها ليس معلقا على ذات الخارج حتى
يكون الحكم دائرا مدارها ، بل على صفة متعلقة بها وهي الخروج فينصرف إلى المعهود
الغالب ، كما يقال بظهور «حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...» في تحريم الأكل.
وحجة القول
الرابع يعلم من القدح في أدلة الأقوال المتقدمة.
قال شيخنا صاحب
رياض المسائل (رحمهالله تعالى) ـ بعد نقل الأقوال الثلاثة المتقدمة ونفي الوقوف على
دليل يشهد للشيخ ـ ما لفظه : «اما قول ابن إدريس فغير بعيد عن الصواب عند صدق هذه
الأسماء على الخارج عرفا ، لموافقة ظاهر الكتاب «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغائِطِ ...» ولا قائل بالفرق ، وما ورد في بعض الاخبار ـ من التقييد
بالطرفين الأسفلين ونحو ذلك ـ غير صالح لتقييد إطلاق الكتاب ، لكونه خرج مخرج
الغالب» انتهى.
أقول : وتحقيق
المقام ـ بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر عليهم الصلاة والسلام ـ ان
الاستدلال بالآية هنا ـ بعد تسليم صحة الاستدلال بظواهر القرآن بغير ورود نص في
تفسيرها ـ لا يخلو من خفاء ، إذ ما ذكر في توجيه الاستدلال بها نوع تخريج وتخمين
لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي ، واما الروايات فهي دائرة بين مطلق
ناقضية الثلاثة في الجملة وبين حاصر للنقض فيما خرج من الأسفلين ، فيحتمل حينئذ
حمل مطلقها على مقيدها ، فلا دلالة فيها حينئذ على ما ذهبوا اليه من النقض.
إلا انه يقدح
فيه قوة احتمال حمل الحصر على الإضافي ـ كما قدمنا ـ ردا على العامة ويحتمل ـ وهو
الأظهر ـ حملها على ما تقدم من التعبير بالفرد الغالب ، فإنه لا يخفى ـ على
__________________
المتتبع لموارد الأخبار والمتصفح لمضامين الآثار ـ ان الأحكام المودعة فيها
إنما هي مقصورة على ما هو الشائع المتعارف لا على الفروض النادرة ، ومع عدم أظهرية
هذا الاحتمال فلا أقل من الإجمال الموجب لعدم جواز الاعتماد عليها في الاستدلال
وبقاء المسألة في قالب الشك والاشكال ، وحينئذ فالواجب التمسك بيقين الطهارة ،
لقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من
وضوئه ، ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ، ولكن ينقضه بيقين آخر».
وما أجاب به
بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من عدم دلالة الحديث المذكور على مثل هذه الصورة ،
قال : «الذي أفهم من الخبر المذكور عدم حصول الانتقاض بالشك في وجود ما ثبت كونه
حدثا ، ولا يدخل فيه الشك في حدثية ما يتيقن وجوده» وقال في موضع آخر : «ان
المقطوع به من الخبر هو ما ثبت كونه ناقضا لو شك في وجوده وعدمه ، فإنه لا يرفع
يقين الطهارة قبله. واما الشك في فردية بعض الأشياء لما هو ناقض فلا دلالة في
الخبر عليه» ـ فيه ما تقدم في المقدمة الحادية عشرة .
وبما ذكرنا
يظهر لك توجه المناقشة في الفردين الآخرين المدعى عليهما الإجماع أعني ما لو اتفق
المخرج من غير الموضع المعتاد خلقة أو بعد انسداد المعتاد ، فإنه مع إلغاء الإجماع
ـ كما هو الحق الحقيق بالاتباع ـ والرجوع إلى الاخبار مع كون المراد منها ما ذكرنا
من الحمل على الفرد الغالب المتعارف ـ يبقى حكم الفردين المذكورين مغفلا.
قال السيد
السند (قدسسره) في المدارك ـ بعد قول المصنف : «ولو اتفق المخرج في
غير الموضع المعتاد نقض» ـ ما هذا لفظه : «هذا الحكم موضع وفاق ، وفي الاخبار
بإطلاقها ما يدل عليه ، وفي حكمه ما لو انسد المعتاد وانفتح غيره» انتهى.
وفيه انه قبل
هذا الكلام ـ بعد ان نقل كلامي الشيخ وابن إدريس واستدلالهما
__________________
بالآية ـ قال : وهما ضعيفان ، لأن الإطلاق إنما ينصرف إلى المعتاد ، ولما
رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ، وساق الرواية الأولى مما أسلفناه من رواياته ثم أردفها برواية سالم أبي الفضل وحينئذ فإذا كان إطلاق الآية إنما ينصرف إلى المعتاد
فإطلاق الروايات كذلك ان لم يكن اولى ، لما ذكره من الروايات المصرحة بالفرد
المعتاد. نعم صرح المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) انه يمكن إثبات ذلك من باب تنقيح المناط ، قال : «فإن
أحد فرديه مقبول عندنا وهو ما يفيد اليقين ، فان مقتضاه هنا ان الفضلة المعينة إذا
اندفعت نقضت سواء دفعتها الطبيعة من الموضع الطبيعي أو من غيره» وحينئذ فيتجه على
هذا التقدير قولا الشيخ وابن إدريس ، إلا ان ما ادعاه (قدسسره) من الاستدلال بهذا الدليل وافادته اليقين لا يخلو من
اشكال. والاحتياط بالعمل بما ذهب اليه ابن إدريس مما لا ينبغي تركه.
تنبيهات :
(الأول) ـ ما
ذكر من البحث هنا هل يأتي في الدماء الثلاثة والمني؟ اما الأول فلم نقف فيه على
كلام لأحد من الأصحاب واما الثاني فقد صرحوا فيه بما يأتي ذكره في موضعه ان شاء
الله تعالى.
(الثاني) ـ هل
يتمشى الخلاف في خبثية هذا الخارج كما في حدثيته أم لا؟
لم أقف لأحد من
أصحابنا (رضوان الله عليهم) على كلام في المقام سوى شيخنا المحقق صاحب رياض
المسائل (عطر الله مرقده) فإنه قرب فيه الحكم بالخبثية وان لم نقل بالحدثية ، قال
: «لعدم وجود ما يعارض عمومات الأخبار الكثيرة الدالة على وجوب ازالة ما يسمى بولا
وغائطا بالمطهرات من غير تقييد بالخروج من الطرفين» انتهى
(الثالث) ـ وقع
في جملة من الأخبار الواردة بنقض الريح التقييد بسماع صوتها
__________________
أو وجدان ريحها وعلل في بعضها بأن إبليس يجلس بين أليتي الرجل فيشككه. ومقتضاها عدم
النقض بدون أحد الوصفين.
والظاهر حملها
على موضع الشك دون ما إذا تيقن الخروج ، فإنه ينتقض طهره وان لم يجد شيئا من ذلك.
ويدل عليه ما
رواه علي بن جعفر عن أخيه في كتاب المسائل قال : «سألته عن رجل يكون في صلاته فيعلم ان ريحا قد
خرجت ولا يجد ريحها ولا يسمع صوتها. قال : يعيد الوضوء والصلاة ، ولا يعتد بشيء
مما صلى إذا علم ذلك يقينا». وما رواه في كتاب فقه الرضا قال (عليهالسلام): «فان شككت في ريح انها خرجت منك أو لم تخرج فلا تنقض
من أجلها الوضوء إلا ان تسمع صوتها أو تجد ريحها ، وان استيقنت انها خرجت منك فأعد
الوضوء سمعت وقعها أو لم تسمع وشممت ريحها أو لم تشم».
(الرابع) ـ الاعتياد
الذي يتحقق به النقض على القول المشهور هل هو عبارة عن التكرر مرتين فينقض في
الثالثة. أو عن التكرر ثلاث مرات فينقض في الرابعة ، أو يرجع فيه إلى العرف؟
أقوال.
اختار ثالثها
المحقق الثاني في شرح القواعد ، وبه جزم في المدارك. وبالأول صرح الشهيد الثاني في
الروض. وبالثاني صرح بعض أفاضل المتأخرين.
ونقل المحدث
الأمين الأسترآبادي عن الفاضل الشيخ إبراهيم القطيفي في حاشية الإرشاد انه قال : «وهل
ينضبط صدق اسم العادة عرفا في عدد؟ وجهان أقربهما ذلك
__________________
وما هو الأقرب النقض بالرابعة مع عدم تطاول الفصل زمانا في الخروج ، وفي
النقض بالثالثة احتمال قوي ، لصدق العود بالثانية» ثم قال بعد نقله : «قلت :
الظاهر ان تحقق العادة ملزوم للنقض فلا يتوقف النقض على زيادة» انتهى.
(الخامس) ـ المفهوم
من كلام جملة من الأصحاب ـ منهم : العلامة في التحرير ـ جريان ما تقدم من البحث في
الريح من الموافقة للحدثين الآخرين في المواضع المجمع عليها وشرط الاعتياد في محل
الخلاف ، ومن كلام آخرين ـ منهم : العلامة ف التذكرة والمختلف ـ تخصيص البحث
بالحدثين الآخرين ، حيث ذكروا الفروض المذكورة فيهما ولم يتعرضوا للريح بالكلية ،
وجملة من الأصحاب قد صرحوا بنقضها بالخروج من قبل الرجل والمرأة من غير تقييد
بالاعتياد مع التقييد به في الحدثين الآخرين ، وبعض خصه بقبل المرأة ، وعلله بان
له منفذا إلى الجوف فيمكن الخروج من المعدة اليه ، ومن عمم في القبلين كأنه لحظ
إطلاق الاخبار بالانتقاض من الخروج من الطرفين الأسفلين. وبعض منع من النقض بها من
غير الدبر. والمنقول من خلاف الشيخ في المبسوط وابن إدريس في السرائر إنما هو في
الحدثين الآخرين ، بل نقل بعض أفاضل متأخري المتأخرين عن ظاهر ابن إدريس في
السرائر عدم النقض بالريح الخارج من غير الدبر. وأنت خبير ـ بعد الإحاطة بما
قدمناه ـ بالحكم في ذلك.
(البحث الثاني)
ـ المشهور بين الأصحاب وجوب الوضوء بالنوم الغالب على حاستي السمع والبصر على اي
حال كان : مضطجعا أو قاعدا ، منفرجا أو متلاصقا وربما ظهر من كلام علي بن بابويه
في الرسالة وابنه في المقنع عدم النقض به مطلقا ، لحصرهما ما يجب اعادة الوضوء به
وما ينقضه في البول والمني والغائط والريح. وهو بعيد من المذهب إلا ان يحمل
كلامهما على الناقض مما يخرج من الإنسان ، كما يشعر به قوله في المقنع بعد حصر
النقض في الأربعة المذكورة : «وما سوى ذلك ـ من القيء والقلس والقبلة والحجامة
والرعاف والمذي والودي ـ فليس فيه اعادة وضوء».
ويدل على الحكم
المذكور الأخبار المستفيضة ، كقول الصادقين (عليهماالسلام) في صحيحة زرارة حيث سألهما عما ينقض الوضوء فقالا : «ما يخرج من طرفيك
الأسفلين : من الدبر والذكر : غائط أو بول أو مني أو ريح ، والنوم حتى يذهب العقل».
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة عبد الحميد بن عواض : «من نام وهو راكع أو ساجد أو ماش على اي الحالات
فعليه الوضوء».
وقول الرضا (عليهالسلام) في صحيحة ابن المغيرة حين سئل عن الرجل ينام على دابته فقال : «إذا ذهب النوم
بالعقل فليعد الوضوء».
وقول الصادق (عليهالسلام) في حسنة إسحاق بن عبد الله الأشعري : «لا ينقض الوضوء إلا حدث ، والنوم حدث».
وقوله (عليهالسلام) في رواية الكناني حين سأل عن الرجل يخفق وهو في الصلاة فقال : «ان كان لا
يحفظ حدثا منه ـ ان كان ـ فعليه الوضوء واعادة الصلاة وان كان يستيقن انه لم يحدث
فليس عليه وضوء ولا اعادة».
وقول أحدهما (عليهماالسلام) في صحيحة زرارة المضمرة حين قال له : «الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة
والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ،
فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء قلت : فان حرك إلى جنبه شيء ولم يعلم
به؟ قال : لا حتى يستيقن انه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على
يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ، ولكن ينقضه بيقين آخر».
الى غير ذلك من
الأخبار.
__________________
واما ما يدل
بظاهره على خلاف ذلك ـ كموثقة سماعة المضمرة في الفقيه حيث «سأله عن الرجل يخفق رأسه وهو في الصلاة قائما أو
راكعا قال : ليس عليه وضوء».
وما رواه فيه
أيضا مرسلا قال : «سئل موسى بن جعفر (عليهالسلام) عن الرجل يرقد وهو قاعد ، هل عليه وضوء؟ فقال : لا
وضوء عليه ما دام قاعدا ما لم ينفرج».
ورواية عمران
بن حمران انه سمع عبدا صالحا (عليهالسلام) يقول : «من نام وهو جالس لم يتعمد النوم فلا وضوء عليه».
ورواية بكر بن
أبي بكر الحضرمي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) هل ينام الرجل وهو جالس؟ فقال : كان أبي (عليهالسلام) يقول : إذا نام الرجل وهو جالس مجتمع فليس عليه وضوء ،
وإذا نام مضطجعا فعليه الوضوء» ـ.
فالجواب عنه (أولا)
ـ بأن الأخبار السابقة أصح سندا ، وأكثر عددا وأصرح دلالة ، وأشهر عملا ، وأظهر
لمذهب الجمهور مخالفة وللقرآن العزيز موافقة ،
__________________
لما رواه ابن بكير في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : قوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة.» ما يعني بذلك
إذا قمتم إلى الصلاة؟ قال : إذا قمتم من النوم قلت : ينقض النوم الوضوء؟ فقال :
نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت». بل نقل العلامة في المنتهى والشيخ في
التبيان إجماع المفسرين على ذلك ، وحينئذ فيحمل ما ظهر في المخالفة على التقية ،
ولعل في نسبته (عليهالسلام) في الخبر الأخير ذلك إلى أبيه نوع اشعار بذلك ، أو على
ما إذا لم يبلغ إلى ما يوجب ذهاب العقل كما حمله الشيخ
__________________
عليه في التهذيبين ، وذلك هو ظاهر الرواية الأولى. فإن مجرد خفق الرأس سيما
في حال الاشتغال بالصلاة لا يعبر به عن النوم المزيل للعقل بل من السنة المتقدمة
له ، كما تشعر به صحيحة زرارة المتقدمة ويدل عليه ما في الصحاح ، حيث قال : «خفق : حرك رأسه
وهو ناعس».
واما ما نقل عن
الصدوق في الفقيه ـ من عدم النقض بالنوم إلا حالة الانفراج ، بناء على ما رواه فيه
من خبري سماعة وما أرسله عن الكاظم (عليهالسلام) ـ ففيه انه (قدسسره) قد صدر الباب بصحيحة زرارة المذكورة هنا في صدر الروايات الدالة على النقض بالنوم من حيث كونه
مذهبا للعقل ، لتعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية ، واحتمال عمله بالروايات
الأخيرة مخصصة بصحيحة زرارة ـ كما فهمه عنه من نقل عنه القول بذلك في الكتاب
المذكور ـ ليس اولى من عمله بالصحيحة المذكورة ، حيث صدر بها الباب. وحمل ما عداها
من رواية سماعة على ما هو الظاهر منها من النعاس دون النوم كما ذكرنا ، ومن
المرسلة الثانية على التقية. ولا ينافيه ما ذكره في أول كتابه من كونه إنما قصد
إيراد ما يفتي به ويحكم بصحته ، إذ من المحتمل قريبا ان مراده بما يفتي به يعني
يجزم بصحته ووروده عن المعصوم وان كان له نوع تخريج وتأويل ، فيصير عطف الجملة
الثانية في كلامه للتفسير. وحمل مجرد روايته لبعض الأخبار الظاهرة المخالفة للمذهب
كهذه الرواية ورواية الوضوء بماء الورد ونحوهما على كون ذلك مذهبا له ـ سيما مع إيراد المعارض
كما هنا ـ بعيد جدا.
وكيف كان
فالقول بذلك مردود وقائله أعلم به.
ومما يدل على
النقض في خصوص هذا الموضع ـ زيادة على ما تقدم ـ
__________________
صحيحة معمر بن خلاد قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن رجل به علة لا يقدر على الاضطجاع والوضوء يشتد عليه
وهو قاعد مستند بالوسائد ، فربما أغفى وهو قاعد على تلك الحال. قال : يتوضأ. قلت
له : ان الوضوء يشتد عليه لحال علته؟ فقال : إذا خفي عليه الصوت فقد وجب الوضوء
عليه ...».
وصحيحة عبد
الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الخفقة والخفقتين. فقال : ما ادري ما الخفقة
والخفقتان؟ ان الله تعالى يقول : «بَلِ
الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» ان عليا (عليهالسلام) كان يقول : من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب
عليه الوضوء».
فوائد :
(الأولى) ـ ظاهر
الاخبار المتقدمة ان سببية النوم للوضوء إنما هي من حيث كونه حدثا موجبا لذلك ،
وبه جزم بعض أفاضل متأخري المتأخرين ، ونقل ان الظاهر انه هو المشهور بين الأصحاب
، لا باعتبار احتمال الحدث حالته كما ربما يفهمه بعض عبائر الأصحاب ، وهذا هو
المعنى المراد من حسنة إسحاق بن عبد الله الأشعري المتقدمة إذ الظاهر ان غرضه (عليهالسلام) بيان ان ناقضية النوم من حيث انه حدث لا من جهة أنه
مظنة للحدث كما زعمته العامة فيكون الغرض من الخبر الرد عليهم في ذلك. وظني ان ما
توهمه جملة من متأخري أصحابنا ومتأخريهم (رضوان الله عليهم) في معنى الخبر ـ من
الاختلال ولزوم الإشكال في ترتيب الاشكال التي
__________________
يبتني عليها الاستدلال حتى أوسعوا في المخرج عن ذلك دائرة الاحتمال ـ ليس
بذلك المراد في المقام ولا المقصود لهم (عليهمالسلام) إذ لا يخفى على المتتبع لجملة اخبارهم والمتطلع في
أحكامهم وآثارهم ان غرضهم من إلقاء الكلام إنما هو إفادة الأحكام الشرعية وبيان
المعارف الدينية دون التنبيه على الدقائق اللغوية وما لا نفع له في الدين والدنيا
بالكلية وان أباه من توفرت رغبته في العلوم العقلية ، وحينئذ فما ربما يشعر به
ظاهر رواية الكناني المتقدمة ـ من ترتب الوضوء على عدم حفظ الحدث منه الموهم بان نقض
النوم إنما هو لاحتمال الحدث حالته ـ مما يجب ارتكاب التأويل فيه جمعا ، بان يجعل
عدم حفظ الحدث منه ـ ان كان ـ دليلا على غلبة النوم على العقل كعدم سماع الصوت
مثلا.
لكن روى الصدوق
(قدسسره) في العلل والعيون بسند معتبر عن الفضل بن شاذان في العلل التي رواها عن
الرضا (عليهالسلام) قال : «فان قال قائل : فلم وجب الوضوء مما خرج من
الطرفين خاصة ومن النوم دون سائر الأشياء؟ قيل : لان الطرفين هما طريق النجاسة ،
إلى ان قال : واما النوم فإن النائم إذا غلب عليه النوم يفتح كل شيء منه واسترخى
، فكان أغلب الأشياء فيما يخرج منه الريح ، فوجب عليه الوضوء لهذه العلة. الحديث».
وهو ـ كما ترى
ـ صريح في الدلالة على ان نقض النوم انما هو لاحتمال خروج الحدث ، وهو مشكل ، لان
قصارى ما يفيده احتمال خروج الناقض بالنوم ، وهو لا ينقض يقين الطهارة ، لما ثبت
بالأخبار المستفيضة من عدم نقض اليقين بالشك ، ولا سيما موثقة ابن بكير الدالة على المنع من الوضوء حتى يستيقن الحدث.
ولا ريب ان
الترجيح لهذه الأخبار لصحتها سندا ، وصراحتها دلالة ،
__________________
واعتضادها بعمل الفرقة الناجية بها سلفا وخلفا في مواضع عديدة.
والظاهر في
الخبر المذكور ان ذكر احتمال خروج الحدث ليس على جهة العلية في النقض بل لبيان
الحكمة في نقض النوم ، كما في سائر العلل التي نقلها ، فإن أكثر العلل الواردة في
الاخبار اما لتقريب الافهام القاصرة بالنكت البينة الظاهرة ، أو لبيان الداعي إلى
الفعل ، أو لبيان وجه المصلحة ، أو نحو ذلك ، وحينئذ فلا يلزم استناد النقض إلى
احتمال الحدث ليترتب عليه الاشكال المذكور.
(الثانية) ـ قال
في التذكرة : «لو شك في النوم لم تنتقض طهارته ، وكذا لو تخايل له شيء ولم يعلم
انه منام أو حديث النفس ، ولو تحقق أنه رؤيا نقض» انتهى.
وقال في
المدارك بعد نقله : «وهو كذلك» انتهى.
أقول : فينبغي
ان يراد بالشك الذي لا يعارض به اليقين ما هو أعم منه ومن الظن ، لانه المستفاد من
الاخبار :
ومنها ـ صحيحة
زرارة المتقدمة آخر الروايات الاولى.
وموثقة عبد
الله بن بكير قال : «إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ ، وإياك ان تحدث
وضوء ابدا حتى تستيقن انك قد أحدثت».
وصحيحة زرارة
الطويلة وفيها «قلت : فان ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت
فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك
__________________
قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين
بالشك ابدا. الحديث».
وحينئذ فما
يظهر من كلام بعض من إلحاق الظن باليقين ليس بجيد.
ثم ان في قوله
: «ولو تحقق أنه رؤيا نقض» نظرا نبه عليه بعض محققي متأخري المتأخرين ، قال : «إذ
يمكن ان تتحقق الرؤيا مع عدم إبطال السمع والعقل إذا قوي الخيال كما تشهد به
التجربة ، وحينئذ فالحكم بالنقض مشكل» انتهى. وهو جيد.
(الثالثة) ـ روى
الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل هل ينقض وضوؤه إذا نام وهو جالس؟ قال : ان كان يوم الجمعة وهو في
المسجد فلا وضوء عليه ، وذلك انه في حال ضرورة».
وظاهر الخبر ـ كما
ترى ـ لا يخلو من الاشكال ، وحمله الشيخ (رحمهالله) على عدم التمكن من الوضوء وان عليه التيمم ، قال : «لان
ما ينقض الوضوء لا يختص بيوم الجمعة ، والوجه فيه انه يتيمم ويصلي فإذا انفض الجمع
توضأ وأعاد الصلاة ، لأنه ربما لا يقدر على الخروج من الزحمة».
واعترضه المحقق
الشيخ حسن صاحب المنتقى في الكتاب المذكور بان فيما ذكره (رحمهالله) بعدا قال : «ولعل الوجه في ذلك مراعاة التقية بترك
الخروج للوضوء في تلك الحال ، أو عدم تحقق القدر الناقض من النوم مع رجحان احتماله
بحيث لو كان في غير الموضع المفروض لحسن الاحتياط بالإعادة ، وحيث انه في حال
ضرورة فالاحتياط ليس بمطلوب منه» انتهى.
واعترضه أخوه
لأمه الفاضل السيد نور الدين في شرحه على المختصر ، فقال بعد نقل هذا الكلام : «ولا
يخفى ان ما استبعده من حمل الشيخ ليس بأبعد من هذا الحمل على كلا توجيهيه (اما
الأول) فلان تحقق التقية في مثله في غاية الندور ، لانه
__________________
موقوف على انحصار سبب الوضوء في ذلك عند من يتقى منه ، ومتى يحصل هذا الحصر
مع تجويز خلافه من الحدث الذي قد لا يدركه غير صاحبه؟ ولا شك ان الدخول في الصلاة
بغير طهارة كيف كان لم يعهد جوازه في الشرع ولو مع الضرورة ، كما يدل عليه ما رواه
الصدوق (رحمهالله) عن مسعدة بن صدقة ان قائلا قال لجعفر بن محمد (عليهماالسلام): «جعلت فداك إني أمر بقوم ناصبية وقد أقيمت لهم الصلاة
وانا على غير وضوء ، فان لم أدخل معهم في الصلاة قالوا ما شاءوا ان يقولوا ، أفأصلي
معهم ثم أتوضأ وأصلي إذا انصرفت؟ فقال جعفر (عليهالسلام) : سبحان الله اما يخاف من يصلي على غير وضوء ان تأخذه
الأرض خسفا؟». على انه لو تم ذلك فلا يلائم عدم وجوب الإعادة مطلقا ، للاتفاق على
بطلان الصلاة مع فقد الطهارة ، وربما كانت تلك الصلاة واجبة كما هو الظاهر. و (اما
الثاني) ـ فلان حمله على عدم تيقن النقض لا يوافق تقييده بالضرورة ، لأنه على هذا
التقدير لا شبهة في عدم وجوب الوضوء مطلقا ، بل لا يسوغ الاحتياط بفعله ، للنهي عن
نقض اليقين بالشك وانه لا ينقض إلا بيقين آخر ، كما دلت عليه(رواية زرارة المتقدمة
وموثقة بكير بن أعين صريحة في ذلك ، حيث قال في آخرها : إياك ان تحدث وضوء
ابدا حتى تستيقن انك قد أحدثت». انتهى كلامه زيد مقامه.
وفيه (أولا) ـ ان
ما ذكره ـ في التوجيه الأول من معنى التقية ـ الظاهر انه ليس بمراد ذلك القائل ،
بل الظاهر ان مراده إنما هو الخوف الناشئ من التهمة بترك الصلاة لخروجه من المسجد
في أثناء الصلاة ، سيما مع استلزامه التخطي بين الصفوف
__________________
المحظور عندهم ، ولعل في قوله : «في تلك الحال» إشارة إلى هذا المعنى الذي
ذكرناه لا التقية بالنقض بالنوم من حيث انه ليس بناقض عندهم كما توهمه. نعم ينقدح
عليه ما ذكره من لزوم الدخول في الصلاة بغير وضوء مع ورود الخبر المذكور بالمنع
منه وان كان تقية. إلا ان الخبر المشار اليه لا يخلو أيضا من الاشكال الموجب لضعف
الاستدلال و (ثانيا) ـ ان ما طعن به على التوجيه الثاني غير موجه ، وذلك فان
الظاهر ان مراد ذلك القائل ان التقييد بالضرورة إنما هو للاحتياط بالوضوء وعدمه
كما هو صريح آخر كلامه ، فقول المعترض : ـ «لانه على هذا التقدير. إلخ» ـ ليس في
محله.
قوله ـ : «بل
لا يسوغ الاحتياط بفعله. إلخ» ـ مردود (أولا) ـ بعموم اخبار الاحتياط الشاملة لما
نحن فيه.
و (ثانيا) ـ بان
ما استند اليه من الأخبار محمول على الوضوء بقصد الوجوب ، فإنه المستلزم لنقض
اليقين لا مطلقا ، وإلا لانتقض بالوضوء المجدد مع ثبوته إجماعا نصا وفتوى
(الرابعة) ـ المشهور
ـ بل ادعى عليه غير واحد من متأخري أصحابنا الإجماع ـ على عد مزيل العقل من إغماء
وسكر وجنون ونحوها من جملة الأسباب الموجبة للوضوء ، والمذكور في كلام الشيخين في
المقنعة والتهذيب ـ وهو الذي ادعى عليه في التهذيب الإجماع ـ المرض المانع من
الذكر ، كالمرة التي ينغمر بها العقل والإغماء ، والمراد بالمانع من الذكر ـ كما
استظهره بعض الفضلاء من كلامه ـ ان لا يكون الإنسان معه ضابطا لما يكون منه من
حدث.
واما ذكر
الجنون والسكر ـ والاستدلال عليهما بصحيحة معمر بن خلاد التي استدل بها في التهذيب على ما ذكره ـ فهو من زيادات
العلامة والشهيد (رحمهماالله تعالى)
قال في التهذيب
بعد نقل الرواية المذكورة : قوله (عليهالسلام): «إذا خفي عنه
__________________
الصوت فقد وجب الوضوء عليه». يدل على ما ذكره من اعادة الوضوء من الإغماء
والمرة وكل ما يمنع من الذكر. انتهى.
وأورد عليه ان
الإغماء لغة بمعنى النوم. فقوله (عليهالسلام) : «إذا خفي عنه الصوت فقد وجب الوضوء عليه» في قوة
قوله : «إذا خفي عنه الصوت في حال اغفائه فقد وجب عليه الوضوء».
وأجيب بأن
كلامه (عليهالسلام) مطلق فلا يتقيد بالمقدمة الخاصة.
ورد بان المحدث
عنه هو ذلك الرجل الذي غفي وهو قاعد. فلا يكون مطلقا بل مقيدا بالنوم. وحينئذ فلا
دلالة للخبر على المدعى.
وتمحل بعض
متأخري المتأخرين في لفظ الإغفاء ، فاستظهر حمله في الرواية على الإغماء مستندا
إلى دلالة «ربما» على التكثير ، قال : «بل هو الغالب فيها كما صرح به في مغني
اللبيب ، بل ذكر الشيخ الرضي (رحمهالله) ان التكثير صار لها كالمعنى الحقيقي والتقليل كالمعنى
المجازي المحتاج إلى القرينة ، والذي يكثر في حال المرض هو الإغماء دون النوم»
انتهى. ولا يخفى ما فيه.
وكيف كان
فالخبر المذكور أخص من المدعى ، لاختصاصه بما خفي فيه الصوت ، فلا يتناول مثل
الجنون والسكر ونحوهما مع عدم خفاء الصوت.
وربما استدل
أيضا بتعليق نقض النوم بذهاب العقل فيما تقدم من الأخبار ، كقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة عن الصادقين (عليهماالسلام) : «والنوم حتى يذهب العقل ...». وفي صحيحة ابن المغبرة : «إذا ذهب النوم بالعقل ...».
ورد بأن غاية
ما تدل عليه تلك الأخبار هو نقض النوم عند ذهاب العقل وعدم نقضه قبله ، وبمجرد هذا
الدوران لا تثبت العلية ، لجواز أن لا يكون له دخل في العلية
__________________
أصلا ، أو تكون خصوصية النوم شرطا في النقض أيضا ، فلا تثبت العلية له
مجردا.
وصار بعض إلى
الاستدلال على ذلك بما دل على حكم النوم من باب التنبيه والأولوية ، قال : «فإنه
إذا وجب الوضوء بالنوم الذي يجوز معه الحدث كما تدل عليه إناطته بإزالة العقل وجب
بالإغماء والسكر بطريق أولى» انتهى.
وفيه انك قد
عرفت مما سبق ان ظاهر الأخبار كون النوم من حيث هو ناقضا لا من حيث احتمال طرو
الحدث حالته ، وان ما دل على خلاف ذلك فإنه ـ مع عدم الصراحة ـ معارض بما هو أقوى
منه. والأولوية التي ادعاها انما تثبت لو ثبت ان العلة في نقض النوم ما ادعاه.
وظاهر المحدث
الأمين الأسترآبادي (قدسسره) الاستدلال على ذلك بصحيحة معمر بن خلاد وتعدية الحكم إلى ما خفي فيه الصوت من سكر ونحوه ـ لا
في الجنون ولا في كل افراد السكر ـ بطريق تنقيح المناط كما قدمنا الإشارة اليه.
وفيه ما عرفت
من جواز مدخلية خصوص النوم في العلية ، وإلغاؤها ـ ليثبت الحكم كليا كما هو معنى
تنقيح المناط ـ يحتاج إلى دليل. والعجب منه (رحمهالله) في ادعائه فيما تقدم من كلامه قطعية أحد فردي تنقيح
المناط وعده ما هنا وهناك من قبيل ذلك من غير إيراد برهان واضح على ما ادعاه من
القطعية ، بل ولا الإشارة إلى ذلك بالكلية ، مع كونه لا يعتمد على الظن وان كان
مستفادا من الدليل ، بل يمنع من سلوك تلك السبيل وينسب من سلكه إلى الضلال
والتضليل ، كما أطال به في الفوائد المدنية التشنيع والتسجيل.
والتحقيق في
المقام ان يقال : انك إذا رجعت إلى الروايات المتقدمة في المسألة وضممت بعضها إلى
بعض وجدتها متفقة على النقض بالنوم ، لكن ربما حصل الاشكال
__________________
فيما به يتحقق ذلك ، ومن ثم كثر السؤال عنه في الأخبار ، كما يدل عليه
أخبار الخفقة والخفقتين ونحوها ، فجعلوا (عليهمالسلام) له مناطا يعلم به وحدّا يرجع اليه ، وهو غلبته على
العقل تارة وعدم السماع اخرى ، وربما جمعوا بينهما ، وحينئذ فهذه الأشياء لا تصلح
لعلية النقض مطلقا ، لان الشارع إنما جعلها مناطا لاستعلام الناقض ، فتعدية النقض
إليها ـ وإلغاء خصوصية النوم من البين ـ أمر لا أثر له في الأخبار ولا عين.
وبعض فضلاء
متأخري المتأخرين ـ حيث ضاق عليه المجال في المقام بما وقع فيه من النقض والإبرام
ـ تشبث بذيل الإجماع. وأنت خبير بما فيه من المناقشة والنزاع
نعم روى في
كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهمالسلام): «ان الوضوء لا يجب إلا من حدث ، وان المرء إذا توضأ صلى
بوضوئه ذلك ما شاء من الصلوات ما لم يحدث أو ينم أو يجامع أو يغم عليه أو يكون منه
ما يجب منه اعادة الوضوء». إلا ان الكتاب المذكور قد عرفت ما في الاعتماد عليه
فيما سبق .
هذا ما يقتضيه
النظر في أدلة المسألة ، والاحتياط مما لا تهمل المحافظة عليه.
واما بعض أقسام
المستحاضة الذي هو أحد أسباب الوضوء فسيأتي تحقيقه في محله
(البحث الثالث)
ـ الأشهر الأظهر انه لا يوجب الوضوء غير ما قدمنا ذكره وههنا أشياء قد اختلفت فيها
الأخبار ، وبذلك وقع الاختلاف فيها بين علمائنا الأبرار.
(فمنها) ـ المذي
، والمشهور عدم إيجابه الوضوء ، وذهب ابن الجنيد إلى انه متى كان من شهوة أوجب
الوضوء ، وربما أشعر كلام الشيخ في التهذيب بموافقته له فيما إذا كان كثيرا خارجا
عن المعتاد ، لكن الظاهر انه لا يثبت بمجرد ذلك كونه مذهبا له ، فإنه ذكره في مقام
الاحتمال للجمع بين الأخبار ، ومثله لو عد مذهبا له لم تنحصر مذاهبه.
والأخبار
الدالة على القول المشهور متكاثرة :
__________________
و (منها) ـ الأخبار
الدالة على الحصر في الأسباب المتقدمة حسبما قدمنا
و (منها) ـ حسنة
زرارة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي وأنت في
الصلاة ، فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء وان بلغ عقبيك ، فإنما
ذلك بمنزلة النخامة. الحديث».
وعلى هذا
المنوال صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع وحسنة بريد بن معاوية وحسنة محمد بن مسلم وصحيحة زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم وصحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا وفيها تصريح بكون المذي من الشهوة ، وموثقة إسحاق بن
عمار ورواية عمر بن حنظلة ورواية عنبسة بن مصعب ومرسلة ابن رباط وظاهرها تخصيص المذي بما يخرج من الشهوة.
ويدل على ما ذكره
ابن الجنيد روايات : (منها) ـ صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن المذي فأمرني بالوضوء منه ، ثم أعدت عليه في سنة
أخرى فأمرني بالوضوء منه. وقال : ان علي ابن ابى طالب (عليهالسلام) أمر المقداد بن الأسود ان يسأل النبي (صلىاللهعليهوآله) واستحيي أن يسأله ، فقال : فيه الوضوء».
ويرد على
الاستدلال بهذه الرواية (أولا) ـ ان موثقة إسحاق بن عمار المشار إليها آنفا عن
الصادق (عليهالسلام) «تضمنت ان عليا (عليهالسلام) كان رجلا مذاء
__________________
واستحيي أن يسأل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لمكان فاطمة ، فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس ، فسأله
فقال : ليس بشيء». والترجيح لهذه الرواية لاعتضادها بالأخبار المستفيضة المتقدمة.
و (ثانيا) ـ ان
الراوي المشار اليه بعينهروى في الصحيح عن أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن المذي فأمرني بالوضوء منه ، ثم أعدت عليه سنة أخرى ،
فأمرني بالوضوء منه ، وقال : ان عليا (عليهالسلام) أمر المقداد أن يسأل رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) واستحيي أن يسأله ، فقال : فيه الوضوء. قلت : فان
لم أتوضأ؟ قال لا بأس». ومن القواعد المقررة عندهم انه إذا روي الخبر تارة مع
زيادة واخرى بدونها عمل على تلك الزيادة ما لم تكن مغيرة ، وهذا الخبر مما يدل على
ان الأمر بالوضوء فيما تضمنه من تلك الأخبار على الاستحباب.
ثم ان الظاهر
ان هذه الرواية لا تصلح مستندا لما ذهب اليه ابن الجنيد لتخصيصه الناقض من المذي
بما يخرج بشهوة ، وهذه الرواية مطلقة ، وحملها على الخارج بشهوة ليس أولى من الحمل
على الاستحباب لما علمت.
ومما يدل أيضا
على ما ذهب إليه صحيحة علي بن يقطين قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن المذي أينقض الوضوء؟ قال : ان كان من شهوة نقض».
ورواية أبي
بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : المذي يخرج من الرجل؟ قال : أحد لك فيه حدا؟ قال :
قلت : نعم جعلت فداك. قال : ان خرج منك على شهوة فتوضأ ، وان خرج منك على غير ذلك
فليس عليك فيه وضوء».
ونحوهما رواية
الكاهلي .
والاستدلال
بهذه الروايات أيضا لا يخلو من الإشكال :
__________________
(اما أولا) ـ فلان
ظاهر مرسلة ابن رباط المتقدمة ـ حيث قال فيها : «واما المذي فإنه يخرج من الشهوة». ـ اختصاص
المذي بالخارج عن شهوة ، ويؤيده ما ذكره في الفقيه حيث قال : «والمذي ما يخرج قبل المني». وكلام أهل اللغة
أيضا ، حيث خصوه بذلك أيضا ، ولذلك عرفه شيخنا الشهيد الثاني بأنه ماء رقيق لزج
يخرج عقيب الشهوة ، ونظم ذلك بعض متأخري علمائنا فقال :
المذي ماء
رقيق اصفر لزج
|
|
خروجه بعد
تفخيذ وتقبيل
|
وحينئذ فما
اشتملت عليه هذه الأخبار ـ من وجود فرد له ليس عن شهوة ـ مشكل
و (ثانيا) ـ انه
قد روى يعقوب بن يقطين في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرجل يمذي وهو في الصلاة من شهوة أو من غير شهوة. قال
: المذي منه الوضوء». فإنها دالة على ثبوت الوضوء منه وان لم يكن عن شهوة. وحمل
الشيخ (رحمهالله) ـ الخبر المذكور على التعجب والاستفهام الإنكاري ـ لا
يخلو من بعد.
وظاهر جماعة من
متأخري متأخرينا (رضوان الله عليهم) حمل هذه الأخبار كلا على الاستحباب جمعا ،
وأيدوه بصحيحة ابن بزيع الثانية وهو وان احتمل إلا ان الظاهر ان الأقرب الحمل على
التقية :
(أما أولا) ـ فلأنها
ـ كما ذكرنا سابقا ـ هي الأصل في اختلاف الأخبار ، والعامة كلهم إلا الشاذ منهم
على النقض به .
__________________
(لا يقال) :
انهم لا يخصون النقض بالخارج عن الشهوة كما هو ظاهر الأخبار.
(لأنا نقول) :
قد عرفت مما حققناه سابقا انه لا يشترط في الحمل على التقية وجود القائل بذلك ، مع
ان بعض هذه الأخبار المخالفة قد تضمنت النقض بكلا الفردين كما عرفت ، وبعضا به
مطلقا.
و (اما ثانيا)
ـ فلأنها أحد طرق الترجيح عند تعارض الأخبار دون الحمل على الاستحباب والكراهة وان
اشتهر بين أصحابنا الجمع بين الأخبار بذلك وإلغاء تلك واما الرواية أعني صحيحة
محمد بن إسماعيل فيمكن حملها على ان نفي البأس عن عدم الوضوء بسببه مع عدم التقية
، وهو لا ينافي الأمر به تقية ، فتحمل أوامره (عليهالسلام) بالوضوء أولا مع النقل المذكور على التقية ، ونفي
البأس عن عدم الوضوء منه على عدمها. ولعل قرائن الحال في وقت السؤال كانت دالة على
ذلك وان خفي علينا الآن العلم بذلك ومثله في الأخبار غير عزيز.
وربما احتمل
بعض فضلاء متأخري المتأخرين (رضوان الله عليهم) حمل مطلق الأخبار الواردة في
المسألة على مقيدها ، فيجب الوضوء مما خرج بشهوة.
وفيه ان تقييد
المطلق ارتكاب لما هو خلاف الظاهر فيه البتة ، فلو أمكن التأويل في المقيد ولم يكن
في ارتكابه خلاف الظاهر أو كان أقل مرتبة من الخلاف الذي في جانب المطلق ، تعين
التأويل في جانب المقيد ولم يرتكب حمل المطلق عليه. وما نحن فيه
__________________
من قيل الثاني ، لأن المذي ان لم نقل بأنه مخصوص بما يخرج عقيب الشهوة كما
أسلفنا ، وحينئذ فلا يكون من قبيل تعارض المطلق والمقيد ، فلا أقل من ان يكون
الغالب منه هو ما يكون عقيب الشهوة. وحينئذ فحمل تلك الأخبار المستفيضة المتكاثرة
على ما هو الفرد النادر الغير المتعارف أشد خلافا للظاهر البتة من حمل تلك
الروايات المخالفة على التقية كما اخترناه ، أو الاستحباب كما نقلناه.
و (اما ثالثا)
ـ فلأن صحيحة ابن أبي عمير دلت على نفي الوضوء في المذي من الشهوة. وإرسالها غير
ضائر ، لما تقرر عندهم من عد مراسيله في جملة المسانيد ، فلا ينافي إرسالها الصحة
سيما مع كونه رواها عن غير واحد من أصحابنا مما يؤذن باستفاضة الحكم بذلك. هذا ما
اقتضاه النظر. والاحتياط في كل مقام من أعظم المهام.
و (منها) ـ التقبيل
، ومس الفرجين ظاهرا أو باطنا من محلل أو محرم ، والقهقهة ولو في الصلاة ، والحقنة
والدم الخارج من السبيلين المشكوك في مصاحبة الناقض له خلافا لابن الجنيد في الأول
مقيدا بكونه عن شهوة وكونه لمحرم ، وفي الثاني مقيدا له بالباطن في فرجيه وبالباطن
في فرج الغير بشرط الشهوة من المحلل والمحرم ، وللصدوق أيضا في الثاني بالنسبة إلى
الإنسان نفسه في باطن دبره وإحليله ، ولابن الجنيد في الثالث مقيدا له بكونه في
الصلاة متعمدا لنظر أو سماع ما أضحكه ، وفي الرابع والخامس ، مع انه سلم ان الدم
الخارج من السبيلين إذا علم خلوه من النجاسة لا يعد ناقضا.
واحتج على
الأول برواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا قبل الرجل المرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد
الوضوء».
وعلى الثاني
بالرواية المذكورة ، وبموثقة عمار قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره. قال : نقض وضوءه.
وان مس باطن
__________________
إحليله فعليه ان يعيد الوضوء ، وان كان في الصلاة قطع الصلاة ويتوضأ ويعيد
الصلاة ، وان فتح إحليله أعاد الوضوء وأعاد الصلاة».
وبمضمون هذه
الرواية عبر في الفقيه فقال : «وإذا مس الرجل باطن دبره أو باطن إحليله فعليه
ان يعيد الوضوء ، وان كان في الصلاة قطع الصلاة وتوضأ وأعاد الصلاة ، وان فتح
إحليله أعاد الوضوء والصلاة» انتهى.
وعلى الثالث برواية
سماعة قال : «سألته عما ينقض الوضوء. قال : الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه ،
والقرقرة في البطن إلا شيء تصبر عليه ، والضحك في الصلاة ، والقيء».
واما الرابع
فلم نقف له على دليل ، والعلامة في المختلف مع تكلفه نقل الأدلة لما ينقله فيه من
الأقوال نقله ولم يذكر له دليلا ، ويمكن استناده فيه إلى إطلاق بعض الأخبار الدالة
على نقض ما يخرج من السبيلين.
واما الخامس
فنقل في المختلف عنه الاستدلال بأنه بعد خروج الدم المشكوك في ممازجته للنجاسة شاك
في الطهارة. فلا يجوز له الدخول في الصلاة ، لأن المأمور به الدخول بطهارة يقينية.
والجواب عن ذلك
(أولا) ـ بالمعارضة بالأخبار الدالة على حصر الأسباب الموجبة فيما قدمناه مما أسلفنا
ذكره وأوسعنا نشره.
و (ثانيا) ـ اما
عن الأول فبالمعارضة بصحيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن القبلة تنقض الوضوء؟ قال : لا بأس».
__________________
وصحيحة زرارة
عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «ليس في القبلة ولا في المباشرة ولا مس الفرج
وضوء».
ومثلها صحيحة
زرارة الأخرى ورواية عبد الرحمن ابن أبي عبد الله . واما عن الثاني فبالمعارضة بصحيحة زرارة المذكورة وموثقة
سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو قائم
يصلي ، أيعيد وضوءه؟ فقال : لا بأس بذلك ، إنما هو من جسده».
وصحيحة معاوية
بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يعبث بذكره في الصلاة المكتوبة. قال : لا بأس».
ومثلها رواية
عبد الرحمن ابن أبي عبد الله وصحيحة زرارة.
واما عن الرابع
فبعدم الدليل ، وضعف الاستناد إلى ما احتملناه له ظاهرا.
واما عن الخامس
فيما ذكره العلامة في المختلف ، وحاصله ان ذلك يرجع إلى الشك في الحدث مع تيقن
الطهارة.
والتحقيق حمل
ما تمسكوا به من الأخبار على التقية ، حيث ان كثيرا من العامة بل الأكثر ـ كما
يفهم من التذكرة ـ قائلون بمضمون ذلك واما الحمل على الاستحباب
__________________
فظني بعده وان صرح به جملة من الأصحاب واعتمدوه جمعا بين الأخبار في جملة
الأبواب بل صرح بعضهم بترجيح الجمع به بين الأخبار وان أطبق العامة على القول
المخالف ، وهو اجتهاد بحت في مقابلة النصوص ، وتخريج صرف ، بل خروج عن الطريق
المنصوص
__________________
و (منها) ـ القيء
ولو عمدا ، والرعاف ، والحجامة ، والشيء الخارج من غير السبيلين أو منهما غير
مختلط بناقض ، وإنشاد الشعر وان كان باطلا أو فوق الأربعة أبيات ، وغيبة المسلم ،
والأخذ من الشعر أو الظفر ولو بحديد ، ومصافحة الكافر ، ومس الكلب ، وشرب ألبان
الإبل والبقر وأكل لحومهما ، والودي الخارج بعد البول. وما ورد في بعضها محمول على
التقية ، لقول العامة بالنقض بذلك .
__________________
تذنيب
الخارج من
الإحليل خمسة : البول ، والمني كظبي وصبي ، والمذي على المثالين المذكورين ، وزيد
فيه أيضا الكسر مع التخفيف ، قيل : وأشهرها الاولى ثم الثانية ، وقد عرفت معناه ،
والوذي بالمعجمة على المثالين الأولين : ما يخرج بعد إنزال المني ، كما صرح به
جملة من الأصحاب ، ومنهم ـ صاحب كتاب مجمع البحرين فيه. قال : «وذكر الوذي مفقود
في كثير من كتب اللغة» والودي بالمهملة على المثالين المتقدمين أيضا ، وقيل ان
ثانيهما أصح وأفصح : البلل اللزج الذي يخرج من الإحليل بعد البول.
__________________
فاما البول
والمذي فقد عرفت حكمهما ، واما المني فسيأتي ان شاء الله تعالى حكمه في بابه ،
واما الاثنان الباقيان فطهارتهما وعدم انتقاض الوضوء بهما متفق عليه فتوى ، وهو
الأشهر نصا.
ومن الأخبار
المشتملة على تفصيل ذلك مرسلة ابن رباط المشار إليها آنفا عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «يخرج من الإحليل المني والمذي والوذي والودي
فأما المني فهو الذي تسترخي له العظام ويفتر منه الجسد ، وفيه الغسل ، واما المذي
فإنه يخرج من الشهوة ولا شيء فيه ، واما الودي فهو الذي يخرج بعد البول ، واما
الوذي فهو الذي يخرج من الأدواء ، ولا شيء فيه» قوله (عليهالسلام) : «يخرج من الأدواء». جمع داء وهو المرض ، ولعل المعنى
انه يخرج بسبب الأمراض ، ونقل بعض مشايخنا عن بعض نسخ الاستبصار : «الأوداج» بدل «الأدواء»
قال : «وكأنه أريد بها العروق مطلقا وان كان الودج في الأصل عرق العنق» انتهى.
وقال الصدوق في
الفقيه : «وهي أربعة أشياء : المني والمذي والوذي والودي إلى
ان قال : والمذي ما يخرج قبل المني ، والوذي ما يخرج بعد المني على أثره ، والودي
ما يخرج على اثر البول. إلخ».
وإبهام حكم
الودي في الخبر المذكور ـ وعدم التعرض لحكمه ـ غير ضائر بعد إجماع الفرقة المحقة
على طهارته وعدم نقضه ، كما هو صريح كلام شيخنا الصدوق هنا وغيره ، ودلالة ما
قدمنا من الأخبار الحاصرة الدالة على عدم النقض بأمثاله ، لكن روى الشيخ في
الصحيح عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ثلاث يخرجن من الإحليل ، وهن : المني ومنه الغسل
، والودي ومنه الوضوء ، لانه يخرج من دريرة البول ، قال : والمذي ليس فيه وضوء ،
إنما هو بمنزلة ما يخرج من الأنف».
__________________
وحمله الشيخ على ما إذا لم يكن قد استبرأ من البول ، مستدلا بالتعليل
بخروجه من دريرة البول اى محل سيلانه ، وذلك لانه لا يخرج إلا ومعه شيء من البول.
وهو جيد.
فذلكة
ما ذكرنا من
الأحداث المتقدمة قد يعبر عنها بالأسباب تارة باعتبار استلزامها لذاتها الطهارة
وجوبا أو ندبا. فلا يرد حدث الصبي والمجنون والحائض ، فإن حدثهم بحسب ذاته مستلزم
للطهارة وإنما تخلف لعارض ، وهو فقد الشرط في الأولين ووجود المانع في الثالث ،
وتخلف الحكم لفقد شرط أو وجود مانع لا يقدح في السببية ، وقد يعبر عنها بالموجبات
باعتبار إيجابها الطهارة عند المخاطبة بواجب مشروط بالطهارة فيما يجب لغيره على
المشهور ، وعند وجود السبب على القول بالوجوب النفسي ، وقد يعبر عنها بالنواقض
باعتبار نقضها لما تعقبه من الطهارة. والمشهور ان السبب أعم مطلقا ، اما من الناقض
فلاجتماعهما في حدث تعقب طهارة وتخلف السبب فيما عدا ذلك. واما من الموجب فلاجتماعهما
في حال اشتغال الذمة بمشروط بالطهارة ، وانفراد السبب بحال براءة الذمة من ذلك.
والنسبة بين الناقض والموجب العموم من وجه ، لصدق الناقض بدون الموجب في حدث تعقب
طهارة صحيحة مع خلو الذمة من مشروط بها ، وصدق الموجب بدون الناقض في الحدث الحاصل
عقيب التكليف بصلاة واجبة من غير سبق طهارة واعترض بعض المتأخرين على ذلك بان
الجنابة ناقضة للوضوء وليست سببا له ، وكذا وجود الماء بالنسبة إلى التيمم ، فلا
يكون بين الناقض والسبب عموم مطلق بل من وجه.
وأجيب بأن
الكلام إنما هو في أسباب الطهارات وموجباتها ونواقضها ، كما هو المصرح به في بعض
عباراتهم ، فالنقض بالجنابة غير جيد ، لأنها سبب في الطهارة ، ويمكن التزام ذلك في
وجود الماء أيضا ، لأنه معرف لوجوبها.
ثم انه يرد
أيضا ان النقض بالأمرين غير مستقيم ، فان البحث ان كان في أسباب الوضوء ونواقضه
وموجباته فلا يرد الثاني ، وان كان في الأعم فلا يرد الأول.
واستظهر السيد
السند في المدارك ان النسبة بين الثلاثة الترادف ، قال : «فان وجه التسمية لا يجب
اطراده» انتهى. وهو مبني على ان الظاهر من الأسباب ما من شأنه أن يتسبب للوجوب ،
وكذلك الظاهر من الناقض ما من شأنه النقض ، وكذلك الموجب ، وظاهر ما تقدم من
كلامهم اعتبار ذلك في السبب خاصة دون الآخرين ، وهو تحكم
المطلب الثاني
في الغاية ،
وهي قد تكون واجبة تارة فيجب الوضوء لها ، وقد تكون مندوبة أخرى فيكون الوضوء لها
مندوبا ، فالكلام يقع في هذا المطلب في مقصدين :
المقصد الأول
في الغاية
الواجبة ، وفيه مسائل :
(المسألة
الأولى) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الوضوء للصلاة الواجبة
، بل ربما كان من ضروريات الدين.
واستدل عليه
أيضا بقوله تعالى : «...
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...
الآية» فإن صيغة الأمر للوجوب ، وسياق الكلام دال على انه
للصلاة ، لأنه إذا قيل : «إذا لقيت العدو فخذ سلاحك» و «إذا أردت الأمير فالبس
ثيابك» يفهم منه عرفا ان أخذ السلاح ولبس الثياب لأجل لقاء العدو والأمير ، فقد دل
على المدعى بتمامه ويرد عليه ان المروي في تفسير الآية ان المراد بالقيام فيها القيام
من حدث النوم ، كما رواه الشيخ عن ابن بكير في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام)
__________________
قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ) ، ما يعنى بذلك : إذا قمتم إلى الصلاة؟ قال : إذا قمتم
من النوم. الحديث». ونقل العلامة في المنتهى وقبله الشيخ في التبيان إجماع
المفسرين على ذلك ، وحينئذ فلا يتم الاستدلال بها مطلقا ، إلا ان يضم إلى ذلك عدم
القول بالفرق بين الأحداث ، فيتم الاستدلال. وفيه ما فيه.
ويدل عليه أيضا
من الأخبار ما هو متفرق في جملة من موارد الأحكام : ومنها ـ الأخبار الواردة في
المستحاضة
«إذا جاز دمها
الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين والفجر ، والوضوء لكل صلاة».
ومنها ـ الأخبار
الواردة في المتيمم «إذا وجد الماء بعد ما صلى في آخر الوقت فليتوضأ لما
يستقبل».
ومنها ـ الأخبار
الدالة على إعادة الصلاة والوضوء بنسيان شيء من اجزاء الوضوء إلى غير ذلك من الأخبار التي لا حاجة إلى التطويل
بنقلها بعد ثبوت الاتفاق بل الضرورة.
ولا يرد النقض
بصلاة الجنازة ، إذ اسم الصلاة حقيقة إنما يقع على ذات الركوع والسجود ، ويدل عليه
صريحا ما رواه الصدوق في كتاب العلل عن الفضل بن شاذان
__________________
عن الرضا (عليهالسلام) انه قال : «إنما جوزنا الصلاة على الميت بغير وضوء
لانه ليس فيها ركوع ولا سجود ، وإنما يجب الوضوء في الصلاة التي فيها ركوع وسجود.
الحديث».
(المسألة
الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف ـ كما ادعاه جمع من الأصحاب ـ في وجوب الوضوء
للطواف الواجب ، وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أحدهما (عليهماالسلام) عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهور. قال :
يتوضأ ويعيد طوافه ...».
(المسألة
الثالثة) لو وجب مس خط المصحف على المكلف ـ اما بسبب من قبله كالنذر وشبهه أولا من
قبله كإصلاح فيه ونحوه على القول بوجوب ذلك ، فهل يجب الوضوء لذلك أم لا؟ قولان
مبنيان على تحريم المس على المحدث وعدمه.
والمشهور الأول
، ونقل القول بالكراهة عن الشيخ في المبسوط وابن البراج وابن إدريس ، واليه مال
جملة من متأخري المتأخرين.
والظاهر الأول
، ويدل عليه قوله تعالى : «إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» المفسر
في رواية
إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ، ولا تمس
خطه ولا تعلقه ان الله تعالى يقول (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ)».
وفي بعض نسخ
الحديث «خيطه» مكان «خطه» وروى مثله مرسلا في كتاب مجمع البيان عن الباقر (عليهالسلام) حيث قال ـ بعد ذكر احتمال تفسير المطهرين بالملائكة أو
المراد المطهرين من الشرك ـ ما لفظه : «وقيل المطهرون من الأحداث والجنابات ،
وقالوا : لا يجوز للجنب والحائض والمحدث مس المصحف
__________________
عن محمد بن علي الباقر (عليهماالسلام)». انتهى. وعلى هذا فيكون ضمير «يمسه» راجعا إلى القرآن
وان بعد في السياق دون «الكتاب» وان قرب ، بل ظاهره في المجمع كون ذلك مجمعا عليه
، حيث قال : «وعندنا ان الضمير يعود إلى القرآن فلا يجوز لغير الطاهر مس كتابة
القرآن» ومثله نقل عن الشيخ في التبيان.
وحينئذ فلا
يلتفت إلى تفسير صاحب الكشاف ولا غيره ممن حرم فيوض الألطاف ، المعتمدين في
تفاسيرهم على مجرد الآراء ، بل المعولين في جميع أحكامهم على الأهواء ، ولا إلى ما
أطال به بعض متأخري الاعلام من الاحتمالات في المقام ، إظهارا لفضيلة ملكة النقض
والإبرام ، فإن أصحاب البيت أدرى بما فيه ، واعرف بباطنه وخافية ، والتمييز بين
كدره وصافية ، والكتاب عليهم انزل ، وإليهم يرجع فيما فصل منه وأجمل ، فمن مشكاة
علومهم تقتبس أنواره. ومن خزائن فيوضاتهم تدرك إسراره.
ومما يدل أيضا
على الحكم المذكور
موثقة أبي بصير
قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عمن قرأ القرآن وهو على غير وضوء. قال : لا بأس ، ولا
يمس الكتاب».
ومرسلة حريز
عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كان إسماعيل بن أبي عبد الله عنده ، فقال يا بني
اقرأ المصحف. فقال : اني لست على وضوء فقال : لا تمس الكتابة ومس الورق واقرأه».
ويؤيده أيضا رواية
علي بن جعفر بل صحيحته على الظاهر عن أخيه موسى (عليهالسلام) انه «سأله عن الرجل أيحل له ان يكتب القرآن في الألواح
والصحيفة وهو على غير وضوء؟ قال : لا».
وانما جعلنا
هذا الخبر مؤيدا دون ان يكون دليلا لاحتماله بحسب الظاهر لتحريم الكتابة على
المحدث ، ولم أقف على قائل بمضمونه سوى المحدث الكاشاني ، ومعارضته
__________________
بحسنة داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض. قال : نعم لا
بأس. قال وقال : تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها». ومن الظاهر ان التعويذ لا ينفك عن
الآيات القرآنية بقرينة النهي عن اصابة اليد ، فان الظاهر انه إنما وقع لذلك ،
وحينئذ فيجب الجمع بينهما ، اما بحمل رواية علي بن جعفر على الكتابة على وجه
يستلزم المس والثانية على ما ليس كذلك ، أو بحملها على الكراهة كما هو ظاهر
الأكثر.
هذا. ولم أقف
للقائلين بالجواز على دليل سوى التمسك بالأصل ، والطعن في الآية بعدم الدلالة ،
تشبثا بذيل الاحتمالات وردا بضعف السند لما ورد في تفسيرها من الروايات ، وكذلك
جملة ما قدمناه من الاخبار ، لكونه ضعيفا بهذا الاصطلاح الذي عليه المدار ، مع ان
من جملة القواعد المقررة والضوابط المتكررة جبر الضعيف بالشهرة. وقد تقدم الكلام
في المقدمة الثالثة في ضعف الاعتماد على هذا الأصل فليراجع.
فروع :
(الأول) ـ الظاهر
انه لا خلاف هنا في جواز مس الهامش والورق الخالي من الكتابة ، لمرسلة حريز
المتقدمة وكذا حمله وتعليقه ـ كما نقله العلامة في المنتهى ـ على
كراهية ، لما تقدم من النهي في رواية إبراهيم بن عبد الحميد .
(الثاني) ـ الظاهر
اختصاص حرمة المس بالملاقاة بجزء من الجسد ، فلا يتعدى الى الملاقاة بطرف الثوب
ونحوه ، وعلى تقدير الأول فهل يختص بالكف بناء على انه الذي يلمس به غالبا ، أو
يشمل سائر الجسد؟ قولان ، أظهرهما الثاني ، للصدق لغة
__________________
وعرفا ، وهل يختص بما تحله الحياة من البدن أم يشمل ما لا تحله كالشعر
والظفر والسن؟ وجهان بل قولان ، والظاهر ان منشأ الخلاف من صدق المس عرفا على المس
بالظفر ونحوه وعدمه. وربما جعل منشأ ذلك من جهة حلول الحياة وعدمه. وحيث انه كما
لا تتعدى إليه نجاسة موت صاحبه كذلك لا يتعدى اليه حدثه. وفيه انه ان صدق المس بمس
الظفر والشعر ونحوهما دخل في إطلاق الرواية لكونها اجزاء من الجسد البتة ، وإلا
فلا
(الثالث) ـ لو
وضأ بعض أعضائه فقبل الإكمال هل يجوز المس بذلك العضو الذي وضأه أم لا؟ الظاهر
الثاني ، وبه صرح في التحرير ، لان الحدث المشروط زواله بالطهارة ليس مقسما على
الأعضاء ، وانما هو أمر معنوي قائم بالشخص من حيث هو لا يرتفع إلا بإكمال الطهارة.
(الرابع) ـ هل
يختص الحكم بالقرآن من حيث الهيئة الاجتماعية المتعلق بها هذا الاسم ، أم يتعدى
إلى الآيات المكتوبة في الكتب وعلى الدراهم ونحو ذلك؟ وجهان أرجحهما الثاني ، لما
يفهم من حسنة داود بن فرقد وتشعر به صحيحة علي ابن جعفر ولأن الظاهر ان الهيئة الاجتماعية لا مدخل لها في
التحريم ، ضرورة ان المس إنما يقع على البعض ولا يقع على الكل دفعة ، وانضمام
غيرها إليها لا يخرجها عن كونها قرآنا.
(الخامس) ـ الظاهر
شمول التحريم لما نسخ حكمه دون تلاوته ، لبقاء الحرمة من جهة التلاوة ، وصدق
المصحف والقرآن والكتاب عليه ، بخلاف ما نسخت تلاوته وان بقي حكمه ، فإنه لا يحرم
مسه ، لعدم الصدق. ولا اعرف خلافا في ذلك.
(السادس) ـ الظاهر
عدم ثبوت التحريم بالنسبة إلى الصبي ونحوه. لعدم التكليف الموجب لتعلق الخطاب به ،
وهل يجب على الولي منعه؟ الظاهر العدم ، لعدم الدليل ، ونقل عن المعتبر وجوبه على
الولي ، وهو ظاهر التحرير ، ولا يخلو من قوة ،
__________________
نظرا إلى عموم الأدلة الدالة على التحريم. وعدم توجه الخطاب فيها إلى الطفل
لما ذكرناه لا ينافيه التوجيه إلى وليه.
(السابع) ـ هل
يدخل في الكتابة التشديد والمد والهمزة والاعراب؟ احتمالات : ثالثها دخول ما عدا
الأخير ، ومنشأ ذلك الشك في صدق مس الكتاب بمسها وعدمه.
ورجح بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين العدم مطلقا ، قال : «لإطلاق اسم الكتاب
عليه قبل ضبطه بالثلاثة المتقدمة ، كقوله تعالى : «... كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ...» «الْحَمْدُ
لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ...» «حم
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» ونحوها ، وحمله على المجاز باعتبار ما يؤول إليه خلاف
الأصل ، ولأن تحريم المس خلاف الأصل ، فيقتصر منه على موضع اليقين» وهو جيد.
(المسألة
الرابعة) ـ تقييد وجوب الوضوء بالغايات المذكورة ـ بمعنى انه لا يكون واجبا لنفسه
ـ هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل كاد ان يكون إجماعا ، بل ادعى
الإجماع عليه جمع منهم.
ونقل السيد
السند في المدارك عن الشهيد في الذكرى القول بالوجوب النفسي في جميع الطهارات
وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بظن الوفاة ، أو تضيق وقت العبادة المشروطة بها ،
واختاره (قدسسره) واستدل عليه :
قال : «واعلم
ان المعروف من مذهب الأصحاب ان الوضوء إنما يجب بالأصل عند اشتغال الذمة بمشروط به
، فقبله لا يكون إلا مندوبا ، تمسكا بمفهوم قوله تعالى : «... إِذا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... الآية» وليس المراد نفس القيام ، وإلا لزم تأخير الوضوء عن
الصلاة. وهو باطل بالإجماع ، بل المراد ـ والله أعلم ـ إذا أردتم القيام إلى
الصلاة
__________________
إطلاقا لاسم المسبب على السبب ، فإنه مجاز مستفيض ، وقول أبي جعفر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ...».
والمشروط عدم
عند عدم الشرط ويتوجه على الأول ان أقصى ما تدل عليه الآية الشريفة ترتب الأمر
بالغسل والمسح على ارادة القيام إلى الصلاة ، والإرادة تتحقق قبل دخول الوقت وبعده
، إذ لا يعتبر فيها المقارنة للقيام ، وإلا لما كان الوضوء في أول الوقت واجبا
بالنسبة إلى من أراد الصلاة في آخره. وعلى الثاني ان المشروط وجوب الطهور والصلاة
معا ، وانتفاء المجموع يتحقق بانتفاء أحد جزءيه ، فلا يتعين انتفاؤهما معا. وحكى
الشهيد في الذكرى قولا بوجوب الطهارات اجمع بحصول أسبابها وجوبا موسعا لا يتضيق
إلا بظن الوفاة ، أو تضيق وقت العبادة المشروطة بها ، ويشهد له إطلاق الآية وكثير
من الاخبار كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) كان يقول : من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب
عليه الوضوء». وصحيحة زرارة حيث قال فيها : «... فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد
وجب الوضوء ...». وموثقة بكير بن أعين عن أبي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : «إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ ...». وصحيحة
عبد الرحمن بن أبي عبد الله انه «سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ فقال (عليهالسلام):
__________________
إذا فرغ فليغتسل». وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهالسلام) انه قال : «إذا أرادت الحائض ان تغتسل فلتستدخل قطنة ،
فان خرج فيها شيء من الدم فلا تغتسل ، وان لم تر شيئا فلتغتسل». ويؤيده خلو
الأخبار بأسرها من هذا التفصيل مع عموم البلوى به وشدة الحاجة اليه ، ولو قلنا بعدم
اشتراط نية الوجه ـ كما هو الوجه ـ زال الاشكال من أصله. وعندي ان هذا هو السر في
خلو الاخبار من ذلك ، فتأمل» انتهى كلامه رفع مقامه.
ونسج على
منواله ـ كما هو الغالب عليه في كثير من أقواله ـ الفاضل المتأخر ملا محمد باقر
الخراساني في الذخيرة ، بل شيد ما أسسه وذب عنه وحرسه.
وفيه نظر من
وجوه : (الأول) ـ ان عبارة الذكرى وان أوهمت ما نقله لكن كلام شيخنا الشهيد في
قواعده كالصريح في كون القول المذكور للعامة ، حيث قال : «قاعدة ـ لا ريب ان
الطهارة والاستقبال والنية والستر معدودة من الواجبات في الصلاة مع الاتفاق على جواز
فعلها قبل الوقت ، والاتفاق في الأصول على ان غير الواجب لا يجزئ عن الواجب ،
فاتجه هنا سؤال وهو ان يقال : أحد الأمرين لازم ، وهو اما ان يقال بوجوب هذه
الأمور على الإطلاق ، ولم يقل به أحد ، أو يقال باجزاء غير الواجب عن الواجب ، وهو
باطل ، لان الفعل إنما يجزئ عن غيره مع تساويهما في المصلحة المطلقة ، ومحال تساوي
الواجب وغير الواجب في المصلحة. وجوابه انا فد بينا ، ثم أطال في الجواب إلى ان
قال : وهذا الاشكال اليسير هو الذي ألجأ بعض العلماء إلى اعتقاد وجوب الوضوء وغيره
من الطهارات لنفسه ، غير انه يجب وجوبا موسعا قبل الوقت وفي الوقت وجوبا مضيقا عند
آخر الوقت ، ذهب إليه القاضي أبو بكر العنبري ، وحكاه الرازي في التفسير عن جماعة.
وصار بعض الأصحاب إلى وجوب الغسل بهذه المثابة» انتهى وظهوره ـ في ان الخلاف في
المسألة المذكورة انما هو لبعض
__________________
المخالفين ، وخلاف بعض أصحابنا إنما هو في الغسل خاصة ـ مما لا يخفى على ذي
مسكة وأيضا من تأمل في عبارة الذكرى لا يذهب عليه ان المخالف من العامة ، وفي
التعليل إيناس بذلك.
وبالجملة
فالظاهر من عبارات الأصحاب (قدسسرهم) ـ قديما وحديثا ، تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى ـ انه
لا قائل بالوجوب النفسي على الإطلاق ، وهذان الفاضلان قد اغترا بظاهر عبارة الذكرى
، فنقلا القول به في المسألة وشيداه بما ذكرناه.
(الثاني) ـ ان
الآية المذكورة غير مدافعة في الدلالة على الوجوب الغيري ، وذلك من وجهين :
(أحدهما) ـ ان
المفهوم من الآية عرفا ان الوضوء لأجل الصلاة ، كما يقال : «إذا لقيت العدو فخذ
سلاحك» أي لأجل العدو.
وأجاب الفاضل
الخراساني بأنه لا منافاة بين الوجوب لأجل الصلاة وبين وجوبه في نفسه. فيجوز ان
يجتمع الوجوبان.
ويرد عليه (أولا)
ـ ان المدار في الاستدلال على المعاني المتبادرة إلى الذهن في بادئ النظر ،
والمنساقة إليه بمجرد الالتفات إلى ظاهر اللفظ ، ومن ثم تراهم يصرحون ـ سيما في
الأصول في غير موضع ـ بان التبادر امارة الحقيقة ، ولا شك ان المتبادر من ظاهر
الآية ومن المثال المذكور ان الوضوء وأخذ السلاح لأجل الصلاة والحرب ، ومقتضى
تعليق الوجوب على غاية مخصوصة انتفاؤه بانتفائها فتثبت المنافاة بين الوجوب الغيري
والوجوب النفسي البتة.
و (ثانيا) ـ انه
متى ثبت الوجوب الذاتي لشيء ثبت له مع كل أمر مجامع له بوجوب واحد ، والتغاير فيه
اعتبار محض لا يترتب عليه أثر بالكلية ، إذ لا يعقل لهذا الوجوب الغيري بعد ثبوت
الوجوب النفسي معنى بالكلية كما لا يخفى على المتأمل ، وحينئذ فليس هنا وجوبان كما
زعمه (قدسسره).
و (ثانيهما) ـ ان
الآية تدل ـ بمفهوم الشرط الذي هو حجة صريحة ، أما عندهم فلما استدلوا به عليه في
الأصول ، واما عندنا فلما دلت عليه الاخبار من حجيته ـ على عدم وجوب الوضوء عند
عدم ارادة القيام ، فلا يكون واجبا لنفسه.
أجاب الفاضل
المتقدم ذكره بان فيه ان المسلم حجية مفهوم الشرط إذا لم يكن للتعليق بالشرط فائدة
أخرى سوى التخصيص ، وههنا ليس كذلك ، إذ يجوز ان تكون الفائدة ههنا بيان ان الوضوء
واجب لأجل الصلاة وان كان واجبا في نفسه ، فيكون الغرض متعلقا بالوجوب العارض له
حين ارادة الصلاة باعتبار التوصل به إليها وكونه من مصالحها.
ويرد عليه ما
تقدم ، فان مبنى كلامه على تجويز اجتماع الوجوبين ، وقد عرفت ما فيه ، ومن المعلوم
ان الواجب لنفسه لا يحسن بل لا يجوز تعليقه على غيره ، إذ قضية التعليق هو الوجوب
الغيري ، فإنا لا نعني به إلا ترتب وجوب شيء على آخر ، ولو كان واجبا في نفسه لم
يحسن هذا الترتب البتة. وبالجملة انه قد سلم الوجوب الغيري ، وهو يقتضي التعليق
المذكور ، وما يدعيه من الوجوب النفسي الثابت معه فنحن نمنعه ، والمانع مستظهر.
(الثالث) ـ ان
ما أورده (قدسسره) على الآية ـ بقوله : «ان أقصى ما تدل عليه الآية. إلخ»
ـ فالجواب عنه من وجوه :
(أحدها) ـ انه
يكفينا ـ في الاستدلال على ما ادعينا من الوجوب الغيري ونفي الوجوب النفسي ـ ما
ذكرنا من التقرير المتقدم ، ولزوم الوجوب بالإرادة ولو قبل الوقت ـ مع كونه لا
مدخل له في صحة ما اعتمدناه من الاستدلال ـ يكفينا في نفيه الإجماع على عدمه من
الطرفين ، فالتقريب في الآية يتم بضم الإجماع.
و (ثانيها) ـ ما
افاده بعض الاعلام من أن التعبير عن الإرادة بالقيام يعطي المقارنة كما فهمه بعض
المفسرين ، وإذا قام الدليل على عدم اعتبارها حمل على الأقرب
الممكن وهو ما في الوقت. انتهى. وهو جيد يساعده ما تكرر مثل ذلك في الآيات
القرآنية والاخبار المعصومية ، ومنه ـ قوله تعالى : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللهِ ...» ولو لم يحمل على ذلك لزم الخلل في معنى ذلك الكلام
المتعالي عنه كلام الملك العلام وأهل الذكر (عليهمالسلام).
و (ثالثها) ـ انه
قد روى ابن بكير في الموثق بل الصحيح على قول قوى لكونه ممن نقل فيه إجماع العصابة
على تصحيح ما يصح عنه ، قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة ما يعني بذلك :
إذا قمتم إلى الصلاة؟ قال : إذا قمتم من النوم ...». ويؤيده أيضا نقل العلامة في
المنتهى والشيخ في التبيان إجماع المفسرين على ذلك ، وحينئذ فلا حاجة إلى ما ارتكب
من تقدير الإرادة في الآية ، ومعنى الآية حينئذ : إذا قمتم من حدث النوم قاصدين
إلى الصلاة فتوضؤوا. فقد وقع الأمر بالوضوء معلقا على القصد للصلاة بالنسبة إلى من
كان محدثا بحدث النوم ، وهو نص في الوجوب الغيري في هذا المورد ، وهو كاف في صحة
الاستدلال. وان ضم إلى ذلك عدم القول بالفصل بين حدث النوم وغيره من الأحداث تم
الاستدلال بالآية بمعونة المقدمة المذكورة على الوجوب الغيري في جميع الأحداث.
(الرابع) ـ ما
ذكره من الإيراد على الخبر بقوله : «وعلى الثاني ان المشروط وجوب الطهور والصلاة
...» :
فإن فيه (أولا)
ـ انه متى كان المشروط بالدخول وجوب مجموع الأمرين من الطهور والصلاة من حيث
المجموع كما هو ظاهر كلامه ، يلزم ان لا يثبت الوجوب بعد دخول الوقت لشيء من
ماهية الطهور والصلاة من حيث الانفراد ، وهو ظاهر البطلان
و (ثانيا) ـ انه
متى كان انتفاء هذا المجموع لأجل انتفاء الشرط يتحقق
__________________
بانتفاء أحد جزءيه الذي هو الصلاة كما هو مراده ومطرح نظره ، يلزم ان
المعلق إنما هو أحد الجزأين خاصة وهو الذي انتفى بانتفاء الشرط ، وحينئذ فلا معنى
لتعليق الآخر ، كما لا معنى لقولنا : «إذا دخل الوقت وجب الحج والصلاة».
قال الفاضل
المتقدم ذكره ـ بعد نقل إيراد السيد على الخبر كما ذكرنا ـ ما لفظه : «ولعل غرضه
ان المشروط وجوب المجموع على سبيل الاستغراق الأفرادي ، فكأنه قيل : «إذا دخل
الوقت وجب كل واحد من الأمرين» واللازم من ذلك ـ على تقدير حجية مفهوم الشرط ـ رفع
الإيجاب الكلي عند انتفاء الشرط ، لا ان المشروط مجموع الأمرين من حيث هو مجموع ،
إذ ذلك بعيد جدا» انتهى.
وأنت خبير بان
اعتذاره هذا قصاراه الإتيان على الوجه الأول مما ذكر دون الثاني
(الخامس) ـ ان
ما استند اليه من الاخبار التي نقلها فالجواب عنها من وجوه :
(أحدها) ـ ما
أجاب به شيخنا الشهيد في الذكرى من ان صحة إطلاق الوجوب أو الأمر في الصورة
المذكورة إنما نشأت من معلومية الاشتراط ، حتى انه غلب في الاستعمال فصار حقيقة
عرفية.
و (ثانيها) ـ النقض
الإجمالي بورود الاخبار بغسل الثوب والبدن من النجاسات وهي أكثر من ان يأتي المقام
عليها ، مع مساعدة الخصم فيها على الوجوب الغيري.
و (ثالثها) ـ انه
لا نزاع في كون هذه الأسباب التي تضمنتها الاخبار موجبات للوضوء كما عبر به عنها
في محله ، بمعنى ان الوضوء بسببها يكون واجبا ، لكن النزاع في ان هذا الوجوب
الناشئ عنها هل هو نفسي ثابت للوضوء في نفسه أو غيري؟ فههنا شيئان : ما به الوجوب
وهي الأسباب من بول ونحوه ، وما له الوجوب من صلاة ونحوها من الغايات المترتبة على
الوضوء ، والاخبار التي أوردها المستدل إنما تدل على ما به الوجوب ، بمعنى ان هذه
الأشياء يحصل بسببها وجوب الوضوء ، وهذا ليس من محل النزاع في شيء ، واما كون هذا
الوجوب ثابتا للوضوء في نفسه أو لغيره فلا.
و (رابعها) ـ الجواب
عنها تفصيلا : اما عن صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج فالمتبادر منها من لفظ «وجب» معنى لزم وثبت ، وهو أعم
من الوجوب بالمعنى المصطلح ، وكذلك صحيحة زرارة وإلا لزم فيها تعلق التكليف بالنائم ، لأن المتعارف في
كلامهم (عليهمالسلام) إطلاق الفريضة على الواجب بالمعنى المصطلح ، وإطلاق
الواجب على المعنى العرفي أي اللازم الثابت ، ولا شك في ثبوت الوضوء ـ مثلا ـ في
الذمة بمجرد الإتيان بالسبب ، بمعنى جواز فعله بل استحبابه مع عدم وجود مانع من
حين حصول السبب ، وجواز الدخول به في المشروط به. واما موثقة بكير بن أعين ففيها إجمال لاحتمال ورودها على ما هو الغالب من ارادة
الوضوء عند ارادة ما هو مشروط به. واما صحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبد الله فليس المراد بها الوجوب ، وإلا لزم وجوب الفورية. واما
صحيحة محمد بن مسلم ففيها تعليق الأمر بالاغتسال على الإرادة ، فلا دلالة
فيها على الوجوب بالمعنى المصطلح.
ومما يرشد إلى
ما ذكرناه ورود هذه الاخبار اما في مقام بيان الناقض ، أو بيان آداب الاغتسال ، أو
كراهة النوم على الجنابة ، أو نحو ذلك ، لا بيان وقت تعلق التكليف و (خامسها) ـ المعارضة
بالأخبار الكثيرة أيضا :
ومنها ـ صحيحة
زرارة المذكورة في كلامه (قدسسره) وما أورده عليها فقد عرفت ما فيه. وأنت خبير بأنها أوضح
دلالة وأخص مدلولا مما أورده من الاخبار فيتعين تقييدها بها جمعا.
ومنها ـ ما
رواه في الفقيه من العلل التي كتبها الرضا (عليهالسلام) الى محمد بن سنان : «ان علة الوضوء التي من أجلها صار
على العبد غسل الوجه والذراعين
__________________
ومسح الرأس والقدمين ، فلقيامه بين يدي الله. الحديث». وروايات الفقيه وان
ضعف سندها لإرسال أو غيره فهي متلقاة عندهم بالقبول كما صرح به جملة من الفحول.
ومنها ـ ما
رواه في كتاب العيون والعلل من علل الفضل بن شاذان عن الرضا (عليهالسلام) قال : «إنما أمر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا
إذا قام بين يدي الجبار. الحديث».
ولا يخفى ما
فيهما من ظهور الدلالة على الوجوب الغيري ومنها ـ ما رواه في الكافي في باب ان الأرض للإمام (عليهالسلام) عن ابي بصير عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان الامام ـ يا أبا محمد ـ لا يبيت ليلة ولله
في عنقه حق يسأله عنه». مع ما رواه الصدوق في الفقيه عن الصادق (عليهالسلام): «أنا أنام على ذلك ـ يعني حدث الجنابة ـ حتى أصبح ،
وذلك اني أريد أن أعود».
ومنها ـ صحيحة
الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الصائم يتوضأ فيدخل الماء حلقه؟ قال : ان كان وضوؤه لصلاة فريضة فليس
عليه قضاء ، وان كان وضوؤه لصلاة نافلة فعليه القضاء».
ومنها ـ ما
رواه الكليني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في حديث طويل قال : «ان الله فرض على اليدين ان لا
يبطش بهما إلى ما حرم الله وان يبطش بهما إلى ما أمر الله عزوجل ، وفرض عليهما من الصدقة ، وصلة الرحم ، والجهاد في
سبيل الله والطهور للصلوات. الحديث».
__________________
ومنها ـ الأخبار
الواردة في من عليها غسل الجنابة وفجاءها الحيض قبل ان تغتسل من قوله (عليهالسلام) في بعضها : «قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل». وفي آخر «قد أتاها ما هو أعظم من ذلك». وفي جملة منها «تجعله غسلا
واحدا بعد طهرها». وفي بعض «ان شاءت ان تغتسل فعلت ، وان لم تفعل فليس عليها شيء».
ولا يخفى أن
جميع ذلك إنما يتمشى وينطبق على الوجوب الغيري دون الوجوب النفسي إلا بتكلفات
بعيدة وتمحلات غير سديدة.
هذا. وقد عرفت
سابقا دلالة الآية على ذلك أيضا ، فتكون منطبقة على هذه الأخبار ، مرجحة لها لو
ثبتت المعارضة في هذا المضمار.
المقصد الثاني
في الغاية المستحبة
(فمنها) ـ الصلاة
المستحبة ، وربما سبق إلى بعض الأوهام ـ كما نقله بعض الاعلام هنا ـ وجوب الوضوء
لصلاة النافلة ، بناء على ترتب الإثم على فعل النافلة بدون وضوء. وهو خطأ محض ،
فإن الإثم إنما يتوجه إلى الفعل المذكور لأن فعل النافلة من غير وضوء تشريع محرم ،
فالإثم إنما ترتب على ذلك لا على الترك ، وأحدهما غير الآخر.
__________________
وربما أطلق على
هذا النوع من الندب اسم الواجب تجوزا ، لمشابهة الواجب في الشرطية وعدم صحة الفعل
إلا به وان كان في حد ذاته مندوبا ، ويعبر عنه بالوجوب الشرطي إشارة إلى علاقة
التجوز ، ولعله من ذلك سرى الوهم.
والاخبار
الدالة على الوضوء لصلاة النافلة متفرقة في جملة من الصلوات لكن ليس فيها تصريح
بالاستحباب ، ولعل المتمسك في ذلك البناء على ان شرط المستحب مستحب كما ان شرط
الواجب واجب ، والإجماع كما نقله جملة من الأصحاب.
ويدل على
الاشتراط في الجميع عموم قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «لا صلاة إلا بطهور ...».
وقوله (عليهالسلام) في حسنة الحلبي : «الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود».
و (منها) ـ الطواف
المستحب ، وهل الوضوء هنا شرط لصحته كصلاة النافلة أو لوقوعه على الوجه الأكمل ،
فيصح بدونه؟ خلاف سيأتي الكلام عليه ان شاء الله تعالى في موضعه.
و (منها) ـ دخول
المساجد ، لرواية مرازم بن حكيم المروية في كتاب مجالس الصدوق عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «عليكم بإتيان المساجد فإنها بيوت الله في
الأرض ، ومن أتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه ، وكتب من زواره».
وروى الصدوق في
الفقيه مرسلا : «ان في التوراة مكتوبا ان بيوتي في الأرض
__________________
المساجد ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي. الحديث». ولاستحباب
صلاة التحية بعد دخولها الموقوفة على الطهارة.
ويتأكد مع
ارادة الجلوس فيها ، لمرسلة العلاء بن الفضيل عمن رواه عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «إذا دخلت المسجد وأنت تريد ان تجلس فلا تدخله
إلا طاهرا ...».
و (منها) ـ قراءة
القرآن ، لرواية محمد بن الفضيل المروية في كتاب قرب الاسناد قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) : اقرأ المصحف ثم يأخذني البول فأقوم فأبول واستنجي
واغسل يدي ، وأعود إلى المصحف فاقرأ فيه؟ قال : لا حتى تتوضأ للصلاة».
وفي كتاب
الخصال في حديث الأربعمائة «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام): لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهور حتى يتطهر».
وبعض المتأخرين
لما لم يقف على المستند في الحكم المذكور علله بالشهرة والتعظيم.
و (منها) ـ مسه
وحمله ، لموثقة إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة في أدلة تحريم مس خط المصحف على
المحدث .
و (منها) ـ النوم.
لرواية محمد بن كردوس عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من تطهر ثم آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده
...».
ورواه البرقي
في كتاب المحاسن عن حفص بن غياث عنه (عليهالسلام) ،
__________________
وزاد في آخره «فان ذكر انه ليس على وضوء فتيمم من دثاره كائنا ما كان لم
يزل في صلاة ما ذكر الله تعالى».
و (منها) ـ نوم
الجنب ، لصحيحة الحلبي قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل أينبغي له ان ينام وهو جنب؟ قال : يكره ذلك
حتى يتوضأ».
و (منها) ـ صلاة
الجنازة ، لرواية عبد الحميد بن سعيد قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) : الجنازة يخرج بها ولست على وضوء ، فان ذهبت أتوضأ
فاتتني الصلاة. أيجزيني أن أصلي عليها وانا على غير وضوء؟ قال : تكون على طهر أحب
الي».
و (منها) ـ السعي
في حاجة ، لصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول : من طلب حاجة وهو على غير وضوء فلم
تقض فلا يلومن إلا نفسه».
وطعن بعض فضلاء
متأخري المتأخرين في الدلالة ، معللا بان مفاده ان الحاجة بدون الوضوء لا تقضى ،
فينبغي ان يطلب الحاجة فيما إذا توضأ بالوضوء الذي رخص فيه من الشارع ، لأنه عبادة
موقوفة على الاذن ، وليس فيه دلالة على الاذن والرخصة للوضوء في وقت طلب الحاجة ،
كما تشهد به الفطرة السليمة. انتهى.
وفيه نظر ، فان
الظاهر من العبارة كون ذلك كناية عن الحث على الوضوء لأجل ذلك ، كما ورد نظيره في
استحباب التحنك والحث عليه بعد التعمم وعند الخروج في السفر.
__________________
كقوله (عليهالسلام) : «من تعمم ولم يتحنك فاصابه داء لا دواء له فلا يلومن
إلا نفسه».
وفي أخرى «من اعتم ولم يدر العمامة تحت حنكه فاصابه ألم لا دواء له فلا يلومن إلا
نفسه».
وفي موثقة عمار
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «من خرج في سفر ولم يدر العمامة تحت حنكه فاصابه ألم لا دواء له فلا يلومن
إلا نفسه».
فان المتبادر
من ذلك هو استحباب التحنك لأجل الأمرين المذكورين.
و (منها) ـ الجنب
إذا أراد ان يغسل ميتا ولما يغتسل.
و (منها) ـ غاسل
الميت إذا أراد ان يأتي أهله قبل الغسل.
ويدل عليهما حسنة
شهاب بن عبد ربه قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب يغسل الميت ، أو من غسل ميتا ، أيأتي أهله ثم
يغتسل؟ فقال : هما سواء لا بأس بذلك ، إذا كان جنبا غسل يديه وتوضأ وغسل الميت وهو
جنب ، وان غسل ميتا ثم إني أهله توضأ ثم أتى اهله ويجزيه غسل واحد لهما».
و (منها) ـ لمجامع
إذا أراد الجماع مرة أخرى ولما يغتسل ، وهذا الموضع غير مذكور في كتب الأصحاب.
ويدل عليه
رواية الوشاء ، رواها الإربلي في كتاب كشف الغمة من كتاب
__________________
دلائل الحميري عن الوشاء قال : «قال فلان بن محرز بلغنا ان أبا عبد الله (عليهالسلام) كان إذا أراد ان يعاود أهله الجماع توضأ وضوء الصلاة ،
فأحب أن تسأل أبا الحسن الثاني (عليهالسلام) عن ذلك. قال الوشاء : فدخلت عليه فابتدأني من غير ان
أسأله فقال : كان أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا جامع وأراد ان يعاود توضأ للصلاة وإذا أراد أيضا
توضأ للصلاة».
و (منها) ـ التأهب
لصلاة الفريضة ، لما رواه الشهيد في الذكرى من قولهم (عليهمالسلام): «ما وقر الصلاة من أخر الطهارة حتى يدخل الوقت».
ويدل عليه أيضا
ما ورد في الأخبار من الأمر بصلاة الفريضة حين يدخل الوقت.
و (منها) ـ جماع
الحامل ، لما في وصيته (صلىاللهعليهوآله) لعلي (عليهالسلام) قال : «يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلا وأنت
على وضوء ، فإنه ان قضى بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد» رواه الصدوق في
كتاب المجالس والعلل .
و (منها) ـ ما
لا يشترط فيه الطهارة من مناسك الحج ، لما سيأتي في بابه ان شاء الله تعالى.
و (منها) ـ الدخول
من سفر ، لما رواه الصدوق في المقنع قال : «وروى عن الصادق (عليهالسلام) قال من قدم من سفر فدخل على اهله وهو على غير وضوء
ورأى ما يكره فلا يلومن إلا نفسه».
__________________
و (منها) ـ لمن
أراد ان يدخل الميت قبره ، لرواية محمد بن مسلم والحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) في حديث قال : «توضأ إذا أدخلت الميت القبر».
و (منها) ـ الكون
على الطهارة ، لما رواه الديلمي في الإرشاد عنه (صلىاللهعليهوآله) قال : «قال الله تعالى : من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني.
الحديث».
وما رواه
الراوندي في نوادره عن الكاظم عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «كان أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا بالوا توضؤوا أو تيمموا مخافة ان تدركهم الساعة».
و (منها) ـ التجديد
، لرواية أبي بصير ومحمد بن مسلم المروية في الخصال عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين علي (عليهمالسلام) قال : «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهروا». ورواه
في كتاب المحاسن مثله.
ومرسلة سعدان
عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الطهر على الطهر عشر حسنات».
والاخبار بذلك
مستفيضة. ويتأكد لصلاة المغرب والغداة ، لرواية سماعة عن أبي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «من توضأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضى من
ذنوبه في يومه إلا الكبائر ، ومن توضأ للصبح كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه
في ليلته إلا الكبائر».
__________________
ولصلاة العشاء
، لرواية أبي قتادة عن الرضا (عليهالسلام) قال : «تجديد الوضوء لصلاة العشاء يمحو لا والله وبلى
والله».
و (منها) ـ ارادة
وطء جارية بعد وطء اخرى ولما يغتسل ، لمرسل ابن أبي نجران عمن رواه عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) قال : «إذا اتى الرجل جاريته ثم أراد ان يأتي أخرى توضأ».
و (منها) ـ ذكر
الحائض على المشهور ، ونقل في المختلف عن علي بن بابويه القول بالوجوب ، وهو ظاهر
ابنه الصدوق في الفقيه ، حيث نقل ذلك عن أبيه في رسالته اليه بما لفظه : «وقال أبي في رسالته
الي : اعلم الى ان قال : يجب عليها عند حضور كل صلاة ان تتوضأ وضوء الصلاة وتجلس
مستقبلة القبلة» فإن نقله ذلك وجموده عليه يدل على اختياره.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في ذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) وفيها «وعليها ان تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة ثم
تقعد في موضع طاهر فتذكر الله. الحديث».
وحسنة زيد
الشحام عن أبي عبد الله (عليهالسلام) وفيها «ينبغي للحائض أن تتوضأ عند وقت كل صلاة. الحديث».
__________________
ورواية معاوية
بن عمار عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «تتوضأ المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل ، وإذا
كان وقت الصلاة توضأت واستقبلت القبلة. الحديث».
وحسنة محمد بن مسلم
قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحائض تطهر يوم الجمعة وتذكر الله؟ قال : اما
الطهر فلا ، ولكنها تتوضأ في وقت الصلاة ثم تستقبل القبلة. الحديث».
وصحيحة الحلبي
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «وكن نساء النبي (صلىاللهعليهوآله) لا يقضين الصلاة إذا حضن ، ولكن يحتشين حين يدخل وقت
الصلاة ويتوضأن. الحديث».
وفي كتاب الفقه
الرضوي قال (عليهالسلام): «ويجب عليها عند حضور كل صلاة ان تتوضأ وضوء الصلاة
وتجلس. الحديث».
والظاهر ان
عبارة الفقيه مأخوذة من الكتاب المذكور كما قدمنا الإشارة إليه آنفا ، لاتفاق لفظي
العبارة والحديث.
وفي كتاب دعائم
الإسلام عن أبي جعفر (عليهالسلام) انه قال : «انا نأمر نساءنا الحيض ان يتوضأن عند وقت
كل صلاة ، فيسبغن الوضوء ويحتشين بخرق ، ثم يستقبلن القبلة من غير ان يفرضن صلاة ،
إلى ان قال : فقيل لأبي جعفر (عليهالسلام): فإن المغيرة زعم انك قلت يقضين الصلاة فقال : كذب
المغيرة ، ما صلت امرأة من نساء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ولا من نسائنا وهي حائض ، وإنما يؤمرن بذكر الله ـ كما
وصفنا ـ ترغيبا في الفضل واستحبابا له».
هذا ما وقفت
عليه من أخبار المسألة. وظاهر لفظ «عليها» في الرواية الأولى
__________________
الوجوب ، قيل : وظاهر لفظ «ينبغي» في الثانية الاستحباب. وفيه تأمل ، فإنه
وان اشتهر كونه كذلك في عرف الناس ـ وربما وجد في الاخبار بهذا المعنى أيضا ـ الا
ان أكثر استعمال «ينبغي» و «لا ينبغي» في الاخبار بمعنى الوجوب والتحريم ، وقد
حضرني من الاخبار ما يشتمل على خمسة عشر موضعا يتضمن ما ذكرناه. واما الثالثة فقيل
: ان الأمر بالوضوء في صدرها قرينة على استحباب الوضوء للذكر المذكور بعده.
وفيه نظر ،
لعدم الملازمة بينهما المقتضية لذلك ، واشتمال الرواية على الأوامر الوجوبية
والندبية غير عزيز في الاخبار. واما الرابعة فلا ظهور لها في الاستحباب زيادة على
الوجوب ، وكذلك الخامسة. واما السادسة فهي ظاهرة في الوجوب. واما السابعة فظاهرة
في الاستحباب.
وأنت خبير بأنه
لو لم يرجح الوجوب منها على الاستحباب فلا يرجح العكس ، والمسألة محل توقف ،
والشهرة غير مرجحة إلا ان تكون في الصدر الأول. وهي غير معلومة سيما مع مخالفة
هذين العمدتين. وتوقف شيخنا صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل ، ونفى بعد القول
الثاني عن الصواب ، وهو كذلك لما عرفت.
و (منها) ـ وضوء
الميت مضافا إلى غسله على المشهور ، وسيجيء تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى.
و (منها) ـ كتابة
القرآن ، لصحيحة علي بن جعفر المتقدمة في مسألة حكم مس القرآن للمحدث بناء على أحد احتماليها.
وزاد بعض
الأصحاب استحباب الوضوء للجنب إذا أراد ان يأكل ، لصحيحة الحلبي المتضمنة «انه إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى
يتوضأ».
وصحيحة عبد
الرحمن قال : «قلت أيأكل الجنب قبل ان يتوضأ؟ قال : انا لنكسل
، ولكن يغسل يده ، والوضوء أفضل».
__________________
واستظهر بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين حمل الوضوء هنا على غسل اليد ، كما ورد في
حسنة زرارة «الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه ...». ومثلها
رواية السكوني وهو أقرب ، لأن إطلاق الوضوء في الاخبار على ذلك منتشر
، والمفصل يحكم على المجمل ، ويؤيده ان الغسل هو المنسوب إلى الأكل والشرب.
والمشهور أيضا
عد زيارة المقابر ، ولم أقف بعد الفحص على مستنده.
وعد جماع
المحتلم أيضا ، ولم أقف أيضا على دليله ، وما استدلوا به عليه من قوله (صلىاللهعليهوآله) : «يكره ان يغشى الرجل المرأة وقد احتلم حتى يغتسل من
احتلامه. الخبر».
فلا تعرض فيه
للوضوء ـ كما ترى ـ بوجه.
وزاد بعضهم ما
روى فيه الوضوء من الأسباب الزائدة مما قدمنا ذكره ، كالمذي والرعاف ، والقيء ،
وقراءة الشعر الباطل زيادة على أربعة أبيات ، ونحو ذلك. والأظهر ـ كما قدمنا ذكره
ـ حمل تلك الأخبار على التقية .
وزاد بعضهم
أيضا استحباب الوضوء للحاكم إذا جلس للقضاء بين الناس. ولم أقف على دليله.
وزاد بعض آخر
استحباب الوضوء لمن غسل ميتا إذا أراد تكفينه قبل الغسل. فإن أراد به الوضوء
المجامع لغسل المس ـ كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ـ فلا وجه لعده في
هذا المقام ، مع انه لا نص على استحبابه هنا أيضا ، وان أراد ان منشأ الاستحباب هو
تلك الغاية المذكورة ، ففيه انه لا دليل عليه كما اعترف به غير واحد
__________________
فائدتان :
(الأولى) ـ قد
عرفت في جملة ما تقدم استحباب الوضوء للتجديد ، ولا ريب ـ كما هو ظاهر المذهب ـ في شرعيته وان
ترامى مع الفصل بصلاة ولو نافلة ، لإطلاق الآية والرواية عموما وخصوصا. اما بدونه فهل يشرع مطلقا ، أو
لا مطلقا ، أو مع الفصل بمجدد له في الجملة وبدونه فلا؟ احتمالات :
وإطلاق الاخبار
ـ كقولهم (عليهمالسلام) : «الوضوء على الوضوء نور على نور». وقولهم «من جدد وضوءه من غير حدث جدد الله توبته من غير استغفار».
وقولهم : «الطهر على الطهر عشر حسنات». ـ يدل على الأول ، وبه
قطع في التذكرة ، وتوقف في الذكرى في استحبابه لمن لم يصل بالأول ، ورجح فيها عدم
استحبابه لصلاة واحدة أكثر من مرة ، وهو ظاهر الصدوق في الفقيه في مسألة تثنية
الغسل في الوضوء كما سيأتي ، حيث حمل أخبار التثنية على التجديد.
واحتمل بعض
المتأخرين تفصيلا بأنه يمكن ان يقال مع الفصل الكثير الذي يحتمل طرو الحدث بعده
وعدم تذكره ، يتحقق التجديد عرفا ، مع ان فيه نوعا من الاحتياط
ثم ان ظاهر
الأصحاب اختصاص التجديد بطهارة الوضوء بمعنى الوضوء بعد الوضوء ، واما الوضوء بعد
الغسل ، والغسل بعد الغسل ولو مع الفصل بصلاة ، فلم يتعرضوا له ، وربما أيد المنع
ورود الاخبار ببدعية الوضوء مع غسل الجنابة.
واستظهر شيخنا
المجلسي (قدسسره) في كتاب البحار استحباب التجديد في الصورة الأولى إذا
صلى بينهما ، لرواية أبي بصير ومحمد بن مسلم المتقدمة نقلا عن
__________________
كتاب الخصال الدالة على ان «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات». قال : و «المتبادر
من اخبار كونه بدعة إذا وقع بلا فاصلة. ثم قال : ولعل الاحتياط في الترك» انتهى.
ونفى بعض البعد
عن استحباب تجديد الغسل لمرسلة سعدان المتقدمة .
(الثانية) ـ قد
انتشر الخلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في استباحة الصلاة بالوضوء لأحد
الغايات المذكورة ، وسيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل الكلام في المسألة في مبحث
النية.
المطلب الثالث
في الكيفية ،
وهي تشتمل على المندوب والواجب ، فبسط القول في هذا المطلب يقتضي جعله في فصلين :
الفصل الأول
في المندوب ،
وهو أمور :
(منها) ـ وضع
الإناء الذي يتوضأ منه على اليمين ، ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولم نقف له
على مستند في أخبارنا. وبذلك أيضا صرح جمع من أصحابنا واستدل على ذلك ببعض الأمور
الاعتبارية ، والروايات العامية وفيه ما لا يخفى ولا سيما وقد ورد في بعض صحاح زرارة
الواردة في حكاية الوضوء البياني قال : «فدعى بقعب فيه شيء من ماء ثم وضعه بين يديه
...».
هذا إذا كان
الإناء واسع الرأس ، اما إذا كان ضيق الرأس يحتاج إلى الصب
__________________
منه ، فقد ذكر جمع من الأصحاب وضعه على اليسار ليصب منه في اليمين ، ولا
ريب في كونه أيسر إلا اني لم أقف فيه على نص.
و (منها) ـ غسل
اليدين ـ قبل إدخالهما الإناء ان لم يكن غسلهما سابقا حال الاستنجاء أو غيره ـ مرة
من حدث البول ، ومرتين من الغائط ، ومن النوم مرة ، وظاهر المعتبر الإجماع على ذلك
:
ويدل على
الأولين صحيحة الحلبي المتقدمة وعلى الثالث موثقة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) الى ان قال : فإنه استيقظ من نومه ولم يبل ، أيدخل يده
في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال : لا لانه لا يدري حيث باتت يده فيغسلها». ومثلها
رواية أخرى له أيضا .
ومما يدل على
ان الأمر بذلك للاستحباب صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن الرجل يبول ولم يمس يده شيء ، أيغمسها
في الماء؟ قال : نعم وان كان جنبا». والرواية وان كانت مختصة بالبول إلا انه لا
قائل بالفرق.
ويدل على ذلك
أيضا قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة الواردة في الوضوء البياني حين غمس كفه في الماء من غير غسل : «هذا إذا كانت الكف
طاهرة».
__________________
وهو عام ، مضافا إلى أصالة عدم الوجوب .
ونقل بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ان من الأصحاب من استحب المرتين في البول ،
نظرا إلى ظاهر رواية حريز عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «يغسل الرجل يده من النوم مرة ، ومن الغائط
والبول مرتين ، ومن الجنابة ثلاثا».
والظاهر رجحان
ما هو المشهور ، لصحة مستنده ، ويؤيد برواية المشايخ الثلاثة له وتفرد الشيخ بهذه
الرواية ، مع احتمال التأويل فيها باستحباب المرتين من مجموع البول والغائط بناء
على التداخل واندراج الأقل تحت الأكثر مع الاجتماع ، كما صرح به الأصحاب (رضوان
الله عليهم) لا من كل على الانفراد. الا ان الغائط استفيد استحباب المرتين فيه من
الإجماع ومن رواية الحلبي فتبقى رواية المرة في البول بلا معارض.
وحد الأصحاب
اليد المغسولة هنا من الزند.
هذا. والظاهر
من كلام الأصحاب استحباب غسل اليدين معا ، وفهم ذلك من الاخبار لا يخلو من نوع
خفاء ، سيما وقد صرحت رواية عبد الرحمن بن كثير الواردة في حكاية وضوء الأمير (صلوات الله عليه) انه
اكفأ بيده اليسرى على يده اليمنى ، وهو ظاهر في ان المغسولة إنما هي اليمنى خاصة.
وأيضا فإنها هي التي تحتاج إلى وضعها في الإناء للاغتراف.
ثم ان الظاهر
من كلام البعض تخصيص الاستحباب بما إذا كان الوضوء من الإناء
__________________
الواسع الرأس دون الضيق الرأس والكثير والجاري ، بناء على التعليل بالنجاسة
الوهمية في موثقة عبد الكريم المتقدمة والظاهر ـ كما صرح به آخرون ـ التعميم ، نظرا إلى إطلاق
رواية حريز وان الأمر بذلك محض تعبد لا للنجاسة ، مع انحصار مورد
التوهم في حدث النوم خاصة.
والظاهر ـ كما
استظهره شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين ـ عدم اختصاص الحكم
المذكور بالرجل وان اختص مورد الاخبار به ، إذ الظاهر عدم الخصوصية ، بل المراد به
مطلق الشخص فيدخل في الحكم النساء.
و (منها) ـ التسمية
والدعاء عند وضع اليد في الماء ، لما في صحيحة زرارة قال : «إذا وضعت يدك في الماء فقل : بسم الله وبالله ،
اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ...».
وعند الصب
عليها ، لما في رواية عبد الرحمن بن كثير المتقدمة بما فيها من الدعاء.
وروى الصدوق في
الخصال بسند معتبر عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) : لا يتوضأ الرجل حتى يسمى ، يقول قبل ان يمس الماء :
بسم الله وبالله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإذا فرغ من
طهوره قال : اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد ان محمدا عبده
ورسوله. فعندها يستحق المغفرة».
وربما يظهر ـ من
ألفاظ الدعاء في الصحيحة المذكورة والرواية الثالثة ـ كون ذلك في وضع اليد في
الماء للاستنجاء ، لتضمنه طلب الجعل من التوابين والجعل من المتطهرين أو طلب
التوبة والتطهير المومى إلى الآية النازلة في شأن المستنجي بالماء : «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
__________________
التَّوّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» كما تقدم في الاخبار. واما رواية عبد الرحمن فإنها
صريحة في كون ذلك للاستنجاء كما تقدم ذكره وحينئذ يبقى الوضع أو الصب لغير الاستنجاء خاليا من
الدعاء. نعم يمكن ان يحمل ما رواه في الفقيه مرسلا : «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) كان إذا توضأ قال : بسم الله وبالله وخير الأسماء لله
وأكبر الأسماء لله وقاهر لمن في السموات وقاهر لمن في الأرض ، الحمد لله الذي جعل
من الماء كل شيء حي وأحيى قلبي بالإيمان ، اللهم تب علي وطهرني واقض لي بالحسنى
وأرني كل الذي أحب ، وافتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء». على ان ذلك عند
الصب أو الوضع في الوضوء بحمل قوله : «إذا توضأ» على إرادته والشروع فيه كما هو
مجاز شائع.
و (منها) ـ التسمية
على الوضوء ، ففي صحيحة ان أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا سميت في الوضوء طهر جسدك كله ، وإذا لم تسم
لم يطهر من جسدك إلا ما مر عليه الماء». ومثلها رواية أبي بصير .
وفي صحيحة
العيص بن القاسم عنه (عليهالسلام) «من ذكر اسم الله على وضوئه فكأنما اغتسل». إلى غير ذلك من الاخبار.
والظاهر من
الأخبار صدق التسمية بالإتيان بها عند ارادة الاستنجاء كما تقدم في حديث عبد
الرحمن وهكذا فيما بعد ذلك من مستحبات الوضوء.
وفي حسنة زرارة
عن الباقر (عليهالسلام) في حكاية الوضوء البياني قال :
__________________
«ثم غرف ملأها ماء فوضعها على جبينه ثم قال : بسم الله وسد له. الحديث».
وبالجملة
فالظاهر امتداد وقتها من حين الوضع أو الصب للاستنجاء إلى الشروع في غسل الوجه.
وقد صرح
الأصحاب بأنه لو تركها نسيانا جاز تداركها في أثناء الوضوء ، ولو كان عمدا احتمل
ذلك أيضا ، ولو تركها إلى آخر الوضوء فالظاهر صحة الوضوء ، وهو مجمع عليه فتوى
والأشهر نصا.
وروى الشيخ في
التهذيب في الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) قال : «ان رجلا توضأ وصلى. فقال له رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أعد صلاتك ووضوءك ، ففعل فتوضأ وصلى ، فقال له النبي (صلىاللهعليهوآله) : أعد وضوءك وصلاتك ، ففعل فتوضأ وصلى ، فقال له النبي
(صلىاللهعليهوآله) أعد وضوءك وصلاتك ، فأتى أمير المؤمنين (عليهالسلام) وشكى ذلك اليه ، فقال : هل سميت حين توضأت؟ فقال : لا.
قال : فسم على وضوئك فسمى وصلى ، فاتى النبي (صلىاللهعليهوآله) فلم يأمره أن يعيد».
والظاهر ـ كما
صرح به بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ كون ذلك على جهة التأديب والإرشاد ، فإن
لصاحب الشريعة ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ السياسة بمثل ذلك وأعظم منه لئلا يتهاون
الناس بالسنن.
ومن ظاهر الخبر
المذكور استظهر بعض المتأخرين إعادة الوضوء والصلاة لمن ترك التسمية على وضوئه ،
بل ربما يستفاد منه استحباب إعادة العبادة مطلقا بترك بعض سننها ، وفي الاخبار ما
يعضده.
وحمل الشيخ (قدسسره) التسمية في الخبر على النية ، قال : لأن الألفاظ
__________________
ليست بفريضة حتى يعاد من تركها الوضوء ، وإلا لم يطهر مواضع الوضوء بتركها
، لانه لا يكون قد تطهر تاركها.
ورماه بالبعد
جملة من تأخر عنه. وهو كذلك ، فإن إطلاق التسمية اللفظية على النية القلبية غير
معروف ، وعروض النسيان لأصل النية ـ التي هي عبارة عن مطلق القصد إلى الفعل الذي
لا يخلو عنه عاقل في فعل من أفعاله كما سيأتي إيضاحه ـ بعيد جدا نعم يحتمل ـ كما
ذكره بعض محدثي متأخري المتأخرين ـ ان يراد بالنية إخطار أن هذا العمل لله بالبال
لئلا يصدر عنه على الغفلة ، ولا يبعد ان يصدق عليه التسمية ، لتضمنه اسم الله
سبحانه. لكن فيه انه وان أمكن احتماله في أول مرة لكن الظاهر في الدفعة الثانية
بعد أمر الرسول (صلىاللهعليهوآله) بالإعادة عدم إمكانه ، فإنه لم يقصد فيها سوى امتثال
امره (صلىاللهعليهوآله) حيث ان امره أمر الله تعالى وطاعته طاعته.
واحتمل شيخنا
صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل تأويل كلام الشيخ ان مراده ـ بقوله : «ان التسمية
المنسية هي النية الواجبة. إلخ» ـ أن التسمية لها فردان : (أحدهما) ـ مجرد اللفظ
الذي لا يكون وسيلة إلى تحصيل القصد إلى الامتثال المسمى بالنية ، ولا ارتباط له
بها ، كما هو الحاصل لمن له أدنى مسكة بعروة العقل. و (ثانيها) ـ اللفظ الذي يكون
وسيلة إلى تحصيله بحيث لا يمكنه أحكام النية إلا به ، كما نجده عيانا في بعض من
ابتلى بالوسوسة في النية ، ولعل صدر الإسلام لما كان قريب العهد بالجاهلية ، بعيد
الطبع عن قبول الأحكام الشرعية وتعقل الأمور الذهنية ، خصوصا الاعراب منهم ، حلي
لهم اللابس بحلية الملبوس ، وجلي لهم مرآة المعقول بصورة المحسوس فأمروا بالتسمية
اللفظية الدالة على قصد كون الفعل المشروع فيه باسمه ، ليحصل لهم الانتقال منها
إلى المعنى التي هي النية القلبية ، لوجوب فهم المعنى من اللفظ لمن علم بالوضع
انتهى. وهو معنى لطيف إلا ان ملاحظة الشيخ له في غاية البعد.
و (منها) ـ الاغتراف
باليمين لجميع الأعضاء المغسولة. وهو بالنسبة إلى ما عدا غسلها نفسها متجه ومتفقة
عليه الاخبار.
أما بالنسبة
إليها نفسها فهل يغترف لها باليسرى ويغسلها بها ، أو يغترف بها ثم يديره في اليسرى
ويغسل؟
المشهور الثاني
وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم أو ضعيفته ، بناء على تضمن سندها رواية العبيدي عن
يونس عن أبي جعفر (عليهالسلام) في حكاية الوضوء البياني ، حيث قال فيها : «... ثم أخذ
كفا آخر بيمينه فصبه على يساره ثم غسل به ذراعه الأيمن ...».
ومثلها موثقة
الأخوين بعثمان بن عيسى على رواية التهذيب. حيث قال فيها : «... ثم غمس كفه
اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى ...» واما الكافي ففيه «اليسرى».
بدل «اليمنى» أخيرا.
وعلى الأول تدل
صحاح الأخبار كصحيحة زرارة حيث قال فيها : «... ثم أعاد يده اليسرى في الإناء فاسد
لها على يده اليمنى ثم مسح جوانبها ...». ومثلها صحيحته الأخرى وحسنة بكير وصحيحتاهما ومنه يظهر قوة القول الأول.
وقضية الجمع
جواز الأمرين دون أفضلية الاغتراف باليمين لغسلها ، وبذلك يظهر لك ما في كلام ثاني
الشهيدين في الروض ، حيث قال ـ بعد ان صرح باستحباب الاغتراف باليمين مطلقا ـ : «وفي
حديث عن الباقر (عليهالسلام) انه أخذ باليسرى فعسل اليمنى. وهو لبيان الجواز». انتهى.
و (منها) ـ السواك
، والظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في استحبابه مطلقا وخصوصا
للوضوء والصلاة ، لاستفاضة الأخبار بذلك.
__________________
ومما يدل على
الأول موثقة إسحاق بن عمار قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : من أخلاق الأنبياء السواك».
وروايته أيضا
عنه (عليهالسلام) قال : «السواك من سنن المرسلين».
وصحيحة محمد بن
مسلم عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) : ما زال جبرئيل (عليهالسلام) يوصيني بالسواك حتى خفت أن أحفي أو أدرد». واحفى
بالحاء المهملة وادرد بدالين مهملتين عبارة عن إذهاب الأسنان. الى غير ذلك من
الاخبار.
ومما يدل على
الثاني قوله (صلىاللهعليهوآله) في صحيحة معاوية بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) : «وعليك بالسواك عند كل وضوء».
وقول الصادق (عليهالسلام) في رواية المعلى بن خنيس حين سأله عن الاستياك بعد الوضوء قال : «الاستياك قبل
ان يتوضأ. قال : قلت : أرأيت ان نسي حتى يتوضأ؟ قال : يستاك ثم يتمضمض ثلاث مرات».
وفي رواية
الكسونى «التسوك بالإبهام والمسبحة عند الوضوء سواك».
وفي رواية محمد
بن مروان عن أبي جعفر (عليهالسلام) في وصية النبي (صلىاللهعليهوآله) لعلي صلوات الله عليه «عليك بالسواك لكل صلاة».
وعنه (صلىاللهعليهوآله) في رواية القداح «لو لا ان أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة».
أي امرا
إيجابيا وإلا فقد أمر (صلىاللهعليهوآله) لكن استحبابا. الى غير ذلك من الاخبار.
__________________
وذهب البعض ـ من
حيث ورود الأمر به مطلقا ـ إلى انه ليس من مستحبات الوضوء ، ولأمر الحائض والنفساء
به.
وفيه ان
استحبابه مطلقا ولو لمثل الحائض والنفساء لا ينافي استحبابه للوضوء والصلاة زيادة
على ذلك ، فيكون فيهما مؤكدا ، فإن الأخبار الدالة على الأمر به في خصوص الموضعين
ـ سيما حديث خوف المشقة على الأمة ، وقوله (عليهالسلام) فيما رواه في الفقيه مرسلا : «السواك شطر الوضوء». ـ مما يدل على ما قلناه
بأوضح دلالة
و (منها) ـ المضمضة
والاستنشاق على المشهور فتوى والأظهر نصا ، ونقل في المختلف عن ابن أبي عقيل انه
قال : «انهما ليسا عند آل الرسول (عليهمالسلام) بفرض ولا سنة».
والاخبار في
ذلك مختلفة على وجه يعسر جمعها.
ففي رواية عبد
الرحمن بن كثير المروية بطرق المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مضاجعهم) مسندة في الكافي والتهذيب ومرسلة في الفقيه في
حكاية وضوء الأمير (صلوات الله عليه): «... ثم تمضمض فقال ، وذكر الدعاء ، ثم
استنشق فقال. الحديث».
وفي رواية عبد
الله بن سنان قال : «المضمضة والاستنشاق مما سن رسول الله (صلىاللهعليهوآله)».
وفي موثقة أبي
بصير حيث سأله عنهما فقال : «هما من الوضوء ، فان نسيتهما فلا تعد».
__________________
وفي حديث عهد
الأمير (صلوات الله عليه) الذي كتبه إلى محمد بن أبي بكر لما ولاه مصر على ما رواه
الشيخ أبو علي في مجالسه «... وانظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة ، تمضمض ثلاث مرات ، واستنشق
ثلاثا. الحديث ، إلى ان قال : فإني رأيت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يصنع ذلك ، واعلم ان الوضوء نصف الايمان».
ورواية عمرو بن
خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «جلست أتوضأ ، فأقبل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقال لي : تمضمض واستنشق واستن. الحديث».
وفي رواية حكم
بن حكيم بعد السؤال عن المضمضة والاستنشاق من الوضوء هما ، قال
: «لا».
وفي حسنة زرارة
قال : «المضمضة والاستنشاق ليسا من الوضوء».
ورواية أبي
بصير حيث سأله عنهما قال : «ليس هما من الوضوء ، هما من الجوف».
ورواية الحضرمي
قال : «ليس
عليك مضمضة ولا استنشاق ، لأنهما من الجوف».
وموثقة سماعة حيث سأل عنهما فقال : «هما من السنة ، فان نسيتهما لم
يكن عليك اعادة».
ورواية زرارة قال : «ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة ، إنما
عليك ان تغسل ما ظهر».
__________________
ورواية علي بن
جعفر في كتاب قرب الاسناد حيث سأل أخاه (عليهالسلام) عن المضمضة والاستنشاق قال : «ليس بواجب وان تركهما لم
يعد لهما صلاة».
وفي كتاب
الخصال في حديث الأربعمائة قال : «والمضمضة والاستنشاق سنة ،
وطهور للفم والأنف».
هذا ما وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بذلك ، وهي ـ كما ترى ـ على غاية من التدافع والتنافي ،
والجمع بينها ممكن بأحد وجهين :
(الأول) ـ حمل
ما دل على نفي كونهما من الوضوء على معنى انهما ليسا من واجباته وان كانا من سننه
، وبهذا جمع الشيخ (عطر الله مرقده) بين الاخبار ، وعليه أكثر أصحابنا (رضوان الله
عليهم) ويؤيده نفي الوجوب في رواية قرب الاسناد وظاهر لفظ «ليس عليك» المشعر بنفي
الوجوب في رواية الحضرمي.
ويدل على
كونهما من سننه رواية عبد الرحمن بن كثير وحديث العهد ورواية عمرو بن خالد ،
وحينئذ فيحمل ما دل على كونهما سنة بقول مطلق على انهما من سنن الوضوء ومستحباته.
ولا ينافي ذلك
نفي كونهما فريضة أو سنة في رواية زرارة ، إذ الظاهر ان المراد بالفريضة فيها ما
كان وجوبه بالكتاب ، والسنة ما كان وجوبه بالسنة النبوية ، فهي نفي للوجوب بطريقيه
، ويؤيده قوله بعد ذلك : «انما عليك. إلخ» الدال بمفهومه على انه ليس عليه مضمضة
ولا استنشاق المشعر ـ كما عرفت ـ بنفي الوجوب.
ولعل المبالغة
في نفي وجوبهما على وجه يوهم الناظر نفيهما مطلقا هو الرد على العامة ، من حيث
مواظبتهم عليهما بل قول جملة منهم بوجوبهما ، كما نقله في المنتهى عن احمد وإسحاق
وابن أبي ليلى ، وبعض منهم خص الوجوب بالاستنشاق ، وبعض خص
__________________
وجوبهما بالطهارة الكبرى .
(الثاني) ـ حمل
النفي في تلك الاخبار على نفي كونهما من الوضوء مطلقا ، يعني لا من واجباته ولا من
مستحباته ، وحمل ما عدا ذلك مما دل على كونهما سنة على ثبوت استحبابهما في حد
ذاتهما لا لأجل الوضوء.
وإلى هذا جنح
شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل وبالغ في نصرته ، فقال بعد ذكر كلام
في المقام : «والتحقيق ان نقول يجب الجزم بأنهما ليسا من سنن الوضوء المنسوبة إليه
المرتبطة به ، بحيث علم من الرسول (صلىاللهعليهوآله) وأهل بيته (صلوات الله عليهم) قولا أو فعلا أو تقريرا
للواظبة عليهما غالبا عند ارادة الوضوء ، وتوظيفهما في ذلك الوقت من حيث الخصوص
كما هو شأن السنة ، ثم استند إلى خلو الأخبار البيانية عنهما ، ثم طعن في رواية
عبد الرحمن بن كثير بضعف السند ، وفي موثقتي سماعة وأبي بصير الدالة أولاهما على
انهما من السنة ، بأنه أعم من المدعى ،
__________________
وأخراهما على انهما من الوضوء ، بالمعارضة بصحيحة زرارة «انهما ليسا من الوضوء». مع قبولها للتأويل بكونهما من الوضوء اللغوي ،
لأنهما طهور للفم والأنف ، ثم طعن في رواية عمرو بن خالد بضعف السند لاشتماله على
رجال من العامة ، وانها تنادي بالتقية لاشتمالها على الأمر بغسل الرجلين وتخليل
أصابعهما ، ثم قال : فكيف يتجرأ على الفتيا بكون شيء سنة موظفة في شيء مع عدم
ورود ما يصلح لإثبات ذلك ، إلى ان قال : واما كونهما سنة في الجملة فالظاهر ذلك ،
لما ذكرنا من موثقة سماعة ثم ذكر جملة من الأخبار الدالة بظاهرها على الاستحباب
مطلقا.
أقول : وفيه (أولا)
ـ ان خلو اخبار الوضوء البياني عن ذلك لا يدل على نفي الاستحباب في الوضوء ،
لاحتمال تخصيص البيان بما هو الواجب كما صرح به البعض ولخلوها كملا عن الأدعية
الموظفة في الوضوء وعن السواك ، مع ثبوت استحبابهما إجماعا نصا وفتوى ، وخلو كثير
منها عن التسمية.
و (ثانيا) ـ ان
رواية عبد الرحمن وان ضعف سندها بناء على هذا الاصطلاح المحدث الذي لم يقم على
اعتباره دليل ، مع ما في جملة من أحكامه من القال والقيل ، كما شرحنا بعض ذلك في
المقدمة الثانية إلا انها صحيحة بالدستور القديم والنهج القويم الذي
عليه كافة علمائنا المتقدمين من المحدثين والمجتهدين ، سيما الثلاثة المحمدين
الذين هم أساطين الدين ونخبة المعتمدين ، وقد رووها كملا في مسانيدهم ، مع تصريحهم
في أوائل كتبهم بان جميع ما يروونه صحيح مقطوع على صحته ، وقد اعتمد أصحاب هذا
الاصطلاح على كثير من مراسيل الفقيه بناء على ما صرح به في أول كتابه ، كما لا
يخفى على من نظر في الكتب الاستدلالية ، على انهم قد قرروا في جملة اصطلاحاتهم جبر
الضعف بالشهرة ، وشهرة الرواية المذكورة ـ بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) سلفا
وخلفا
__________________
والعمل بما اشتملت عليه ـ مما لا يتجشم إنكاره ، وقد رواها البرقي في
المحاسن أيضا وهو مؤيد لما قلنا.
و (ثالثا) ـ ان
ما ذكره ـ من انه لم يعلم من الرسول (صلىاللهعليهوآله) ولا من أهل بيته (عليهمالسلام) توظيفهما في الوضوء ـ معارض بأنه لم يعلم منهم أيضا
الإتيان بهما في غير حال الوضوء ، فإن التجأ إلى إطلاق الاخبار بأنهما من السنة ،
قلنا : العام لا دلالة له على الخاص. وان قيل : الفرض نفي استحبابهما في الوضوء ،
قلنا : الاستحباب قد ثبت بجملة من الاخبار المذكورة آنفا كرواية عبد الرحمن
المذكورة ورواية العهد ورواية عمرو بن خالد واشتمال آخر الأخيرة على ما يشعر بالتقية لا يقتضي
بطلان الاستدلال بها على ما عدا موضع التقية ، إذ سبيلها فيما لا معارض له سبيل
العام المخصوص في غير موضع التخصيص ، سيما مع الاعتضاد بما ذكرنا من الاخبار ، وهي
موثقة أبي بصير وظاهر موثقة سماعة ، فإن قوله فيها : «هما من السنة» وان كان أعم
من كونه في الوضوء أم لا إلا ان قوله : «فان نسيتهما. إلخ» يعين ما قلناه ، إذ لا
ارتباط بين استحبابهما مطلقا وبين توهم الإعادة لهما.
وحينئذ فما عدا
ما ذكرنا من الأخبار مما كان مطلقا فسبيله الحمل على المقيد رعاية للقاعدة المقررة
، وما كان متضمنا للنفي فوجهه الحمل على نفي الوجوب كما قدمنا. وعلى ذلك تنتظم
الاخبار ويزول عنها غبار الغيار.
وما نقله في
المختلف عن ابن أبي عقيل هو بعينه مضمون رواية زرارة المتقدمة لأن من شأنه (قدسسره) في كتابه ـ بل جملة المتقدمين ـ التعبير بمتون الاخبار
، وحينئذ فيحمل كلامه على ما تحمل عليه الرواية ، وبذلك يتبدل الاختلاف بالائتلاف
كما لا يخفى على من نظر بعين الإنصاف.
__________________
فائدة
قد صرح جمع من
المتأخرين باستحباب المضمضة والاستنشاق بثلاثة أكف ، وانه مع إعواز الماء يكفي
الكف الواحد ، وانه يشترط تقديم المضمضة أولا ، وجوز العلامة في النهاية ان يتمضمض
مرة ويستنشق مرة وهكذا ثلاثا ، سواء كان الجميع بغرفة أو غرفتين أو أزيد.
واعترضهم جمع
من متأخريهم بعدم وجود المستند في شيء من هذه التفاصيل سوى رواية عبد الرحمن بن
كثير فإنها دلت على تقديم المضمضة وعطف الاستنشاق عليه ب «ثم».
أقول : وقد دلت
رواية العهد المتقدمة على التثليث أيضا ، لكن أعم من ان يكون بثلاثة أكف في كل
منهما أو أقل وان كان الظاهر الأول ، فيحصل من كلتا الروايتين استحباب تقديم
المضمضة على الاستنشاق وتثليثهما.
و (منها) ـ الدعاء
حالة المضمضة والاستنشاق بما ورد عن الأمير (صلوات الله عليه) في رواية عبد الرحمن
بن كثير حيث قال : «... ثم تمضمض فقال : اللهم لقني حجتي يوم
ألقاك ، وأطلق لساني بذكرك ، ثم استنشق فقال : اللهم لا تحرم علي ريح الجنة واجعلني
ممن يشم ريحها وروحها وطيبها ...».
و (منها) ـ كون
الوضوء بمد إجماعا نصا وفتوى ، ومن الاخبار في ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر
(عليهالسلام) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يتوضأ بمد من ماء ويغتسل بصاع». ومثله في صحيحة زرارة وزاد فيها «والمد رطل ونصف ، والصاع ستة أرطال».
__________________
ورواية أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الوضوء. فقال : كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع».
وما رواه في
الفقيه مرسلا قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله): الوضوء مد والغسل صاع ، وسيأتي أقوام من بعدي يستقلون
ذلك ، فأولئك على خلاف سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس». الى غير ذلك
من الاخبار.
ومما يدل على
ان ذلك على جهة الاستحباب دون الوجوب إجماع الفرقة الناجية على ذلك أولا ،
واستفاضة الأخبار بإجزاء مثل الدهن ثانيا ، كما سيأتي في موضعه ان شاء الله تعالى.
وهل ماء
الاستنجاء داخل في المذكور؟ ظاهر شيخنا الشهيد في الذكرى ذلك حيث قال : «المد لا
يكاد يبلغه الوضوء ، فيمكن ان يدخل فيه ماء الاستنجاء ، كما تضمنته رواية ابن كثير
عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) ».
واستحسنه في
المدارك ، قال : «وربما كان في صحيحة أبي عبيدة الحذاء اشعار بذلك أيضا ، فإنه قال : «وضأت أبا جعفر (عليهالسلام) بجمع وقد بال ، فناولته ماء فاستنجى ، ثم صببت عليه
كفا فغسل به وجهه. الحديث». ويؤيده دخول ماء الاستنجاء في صاع الغسل على ما سيجيء
بيانه» انتهى.
واعترض في كتاب
الحبل المتين على كلام الذكرى ، فقال : «وظني ان كلامه هنا إنما يتمشى على القول
بعدم استحباب الغسلة الثانية ، وعدم كون المضمضة والاستنشاق من أفعال الوضوء
الكامل ، واما على القول بذلك ـ كما هو مختاره (قدسسره) ـ
__________________
فلا ، فان المد على ما اعتبرناه لا يزيد على ربع المن التبريزي المتعارف في
زماننا هذا بشيء يعتد به ، وهذا المقدار إنما يفي بأصل الوضوء المسبغ ولا يفضل
منه شيء للاستنجاء فان ماء غسل اليدين كف أو كفان ، وماء كل من المضمضة
والاستنشاق والغسلات الواجبة والمندوبة ثلاث أكف ، فهذه ثلاث عشرة أو أربع عشرة
كفا ، وهذا ان اكتفى في غسل كل عضو بكف واحدة ، وإلا زادت على ذلك ، فأين ما يفضل
للاستنجاء؟ وأيضا ففي كلامه (طاب ثراه) بحث آخر ، وهو انه ان أراد بماء الاستنجاء
الذي حسبه من ماء الوضوء ماء الاستنجاء من البول وحده ، فهو شيء قليل حتى قدر
بمثلي ما على الحشفة ، وهو لا يؤثر في الزيادة والنقصان أثرا محسوسا ، وان أراد
ماء الاستنجاء من الغائط أو منهما معا لم يتم استدلاله بالروايتين المذكورتين ، إذ
ليس في شيء منهما دلالة على ذلك ، بل في رواية الحذاء ما يشعر بان الاستنجاء كان من البول وحده ، فلا تغفل»
انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
واما تحقيق قدر
المد فسيأتي ان شاء الله تعالى منقحا في باب غسل الجنابة.
و (منها) ـ ان
يبدأ الرجل في غسل ذراعيه في الوضوء بظاهرهما والمرأة بباطنهما ، لما رواه المشايخ
الثلاثة عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليهالسلام) قال : «فرض الله على النساء في الوضوء ان يبدأن بباطن
أذرعهن وفي الرجال بظاهر الذراع».
ومثله روى
الصدوق في الخصال بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «المرأة تبدأ في الوضوء بباطن الذراع والرجل
بظاهره. الحديث».
والمشهور بين
متأخري الأصحاب التفصيل في ذلك بين الغسلة الاولى والثانية ،
__________________
بأن يبدأ الرجل في الغسلة الأولى بظاهر ذراعيه وفي الثانية بباطنهما
والمرأة بالعكس. ولم أقف له على مستند.
و (منها) ـ فتح
العينين عند الوضوء ، رواه الصدوق (قدسسره) في الفقيه مرسلا وفي كتابي العلل وثواب الأعمال مسندا عن ابن عباس
قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : افتحوا عيونكم عند الوضوء لعلها لا ترى نار جهنم».
وروى الراوندي
في نوادره بإسناده عن الكاظم عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : اشربوا عيونكم للماء ، لعلها لا ترى نارا حامية».
وفي كتاب دعائم
الإسلام مثله.
وعده الشهيد في
الدروس من مستحبات الوضوء ناقلا له عن الصدوق ، ونقل عن الشيخ في الخلاف دعوى
الإجماع منا على عدم وجوبه واستحبابه.
والظاهر ـ كما
استظهره جملة من مشايخنا (قدس الله تعالى أرواحهم) ـ ان المراد باستحباب ذلك مجرد
فتحهما استظهارا لغسل نواحيهما. دون غسلهما ، لما فيه من المشقة والمضرة ، حتى انه
روى ان ابن عمر كان يفعله فعمي لذلك.
واحتمل بعض
مشايخنا حمل الخبرين على التقية لما في سند الأول من جملة من رجال العامة ، حيث ان
الصدوق في الكتابين المتقدمين رواه بسنده إلى السكوني عن ابن جريح عن عطاء عن ابن
عباس ، والثاني ضعيف السند أيضا قال : «والقول بالاستحباب
__________________
منسوب للشافعي » ولا يخلو من قرب.
و (منها) ـ صفق
الوجه بالماء ، نقله جماعة من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) عن علي بن بابويه
في رسالته.
وروى ابنه في
الفقيه مرسلا وفي كتاب العلل مسندا في الموثق عن عبد الله ابن
المغيرة عن رجل ، ومثله في التهذيب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا توضأ الرجل فليصفق وجهه بالماء ، فإنه ان
كان ناعسا فزع واستيقظ ، وان كان البرد فزع فلم يجد البرد». وهو يشعر بموافقته
لأبيه (طاب ثراهما).
لكن روى
الكليني والشيخ عن السكوني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضأتم ، ولكن شنوا
الماء شنا».
وروى الحميري
في كتاب قرب الاسناد بسند صحيح عن أبي جرير الرقاشي
__________________
قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) : كيف أتوضأ للصلاة؟ قال : فقال : لا تعمق في الوضوء ،
ولا تلطم وجهك بالماء لطما ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله. الحديث».
ويمكن الجمع
بينهما بحمل الأول على الناعس والبردان كما هو مورد الخبر ، والأخيرين على ما
عداهما ، أو الأول على الجواز والأخيرين على الكراهة.
واحتمل بعض
الأصحاب انه يجوز ان لا يكون الصفق في الخبر الأول مرادا به غسل الوجه الذي هو جزء
من الوضوء ، بل يكون فعلا آخر سابقا على الوضوء للغرض المذكور في الرواية. وليس
بذلك البعيد.
و (منها) ـ الدعاء
على كل من أفعال الوضوء ، وقد جمعته رواية عبد الرحمن ابن كثير المشار إليها آنفا
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «بينا أمير المؤمنين (عليهالسلام) ذات يوم جالس مع محمد بن الحنفية إذ قال : يا محمد
ائتني بإناء من ماء أتوضأ للصلاة ، فأتاه محمد بالماء ، فأكفأ بيده اليمنى على يده
اليسرى ، ثم قال : بسم الله والحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا ، قال
: ثم استنجى فقال : اللهم حصن فرجي وأعفه واستر عورتي وحرمني على النار ، قال : ثم
تمضمض فقال : اللهم لقني حجتي يوم ألقاك وأطلق لساني بذكرك ، ثم استنشق فقال :
اللهم لا تحرم علي ريح الجنة واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها ، قال : ثم غسل
وجهه فقال : اللهم بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه ، ولا تسود وجهي يوم تبيض فيه
الوجوه ، ثم غسل يده اليمنى فقال : اللهم أعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان
بيساري وحاسبني حسابا يسيرا ، ثم غسل يده اليسرى فقال : اللهم لا تعطني كتابي
بشمالي ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي ، وأعوذ بك من مقطعات النيران ، ثم مسح رأسه
فقال : اللهم غشني برحمتك وبركاتك ، ثم مسح رجليه فقال : اللهم ثبتني على الصراط
يوم تزل فيه الاقدام ، واجعل سعيي فيما
__________________
يرضيك عني ، ثم رفع رأسه فنظر إلى محمد فقال : يا محمد من توضأ مثل وضوئي
وقال مثل قولي خلق الله له من كل قطرة ملكا يقدسه ويسبحه ويكبره فيكتب الله له
ثواب ذلك إلى يوم القيامة».
أقول : لا يخفى
ان كتب الاخبار قد اختلفت في جملة من مواضع هذا الخبر (منها) ـ في تقديم المضمضة
على الاستنشاق ، فان الموجود في الفقيه والتهذيب كما هنا ، والموجود في الكافي ـ وهو الذي اعتمده صاحب الوافي ـ تقديم الاستنشاق.
و (منها) ـ قوله
: «فأكفأ بيده اليمنى على يده اليسرى» فان الموجود في الفقيه والكافي كما هنا ، وفي
التهذيب الموجود بأيدينا «فأكفأ بيده اليسرى على يده اليمنى». وهو الذي نقله بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين عن التهذيب أيضا ، الا ان شيخنا البهائي (عطر
الله تعالى مرقده) في كتاب الأربعين نقل الحديث كما هنا ، وذكر انه نقله من
التهذيب من نسخة معتمدة بخط والده (طاب ثراه) وهي التي قرأها عليه ، ووالده قرأها
على شيخنا الشهيد الثاني (قدس الله تعالى أرواحهم جميعا)
و (منها) ـ قوله
في دعاء الاستنجاء : «وحرمني على النار». ففي الفقيه والتهذيب كما هنا ، وفي
الكافي «وحرمهما». بضمير التثنية ، وعلى ذلك يحتمل عوده الى الفرج والعورة ، نظرا
إلى اختلاف اللفظين. وان قرئ «عورتي» بالتشديد على صيغة التثنية فلا اشكال.
و (منها) ـ في
دعاء المضمضة ، ففي الفقيه والتهذيب كما ذكرنا ، وفي الكافي «اللهم أنطق لساني
بذكرك ، واجعلني ممن ترضى عنه».
و (منها) ـ في
دعاء الاستنشاق ، ففي الفقيه والتهذيب كما هنا ، وفي الكافي «اللهم لا تحرم علي
ريح الجنة واجعلني ممن يشم ريحها وطيبها وريحانها». وفي بعض كتب
__________________
الاخبار ـ كما نقله في كتاب الأربعين ـ «اللهم لا تحرمني طيبات الجنان
واجعلني. إلخ». وفي أخره «ريحانها» بدل «طيبها» ، إلى غير ذلك من المواضع المعدودة
في كتاب الأربعين والبحار.
ونحن قد
اعتمدنا هنا في نقل الخبر المذكور على كلام شيخنا البهائي (رحمهالله) في أربعينه ، فنقلناه من الكتاب المذكور من نسخة
معتمدة مقابلة على شيخنا العلامة أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (طيب
الله تعالى مضجعه).
تتمة
روى شيخنا
المجلسي في كتاب البحار من كتاب الفقه الرضوي قال : «قال (عليهالسلام) : أيما مؤمن قرأ في وضوئه «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ ...» خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه».
وروى شيخنا
المشار إليه ـ في الكتاب المذكور أيضا عن كتاب اختيار السيد ابن الباقي وكتاب البلد الأمين ـ ان
«من قرأ بعد إسباغ الوضوء «إِنّا
أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...» وقال : اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة
وتمام رضوانك وتمام مغفرتك ، لم تمر بذنب قد أذنبه إلا محته».
وروى فيه أيضا عن كتاب الاختيار قال : «قال الباقر (عليهالسلام) : من قرأ على أثر وضوئه آية الكرسي مرة ، أعطاه الله
تعالى ثواب أربعين عاما ، ورفع له أربعين درجة ، وزوجه الله أربعين حوراء.
وقال النبي (صلىاللهعليهوآله): يا علي إذا توضأت فقل : بسم الله اللهم إني أسألك
تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك وتمام مغفرتك ، فهذا زكاة الوضوء».
__________________
أقول : قال في
الفقيه «زكاة الوضوء ان يقول المتوضئ : اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة
وتمام رضوانك والجنة ، فهذا زكاة الوضوء».
ويحتمل أن يكون
إطلاق الزكاة عليه اما باعتبار نمو التطهير فزيادته وكماله بسببه أو باعتبار انه
سبب لقبول الوضوء كما ان الزكاة سبب لقبول الصلاة والصوم.
الفصل الثاني
في كيفية
الوضوء الواجبة ، وهي تعتمد أركانا خمسة :
الركن الأول ـ النية
ولا ريب ان
النية ـ في جملة أفعال العقلاء العارية عن السهو والنسيان ـ مما يجزم بتصورها
بديهة الوجدان ، لارتكازها في الأذهان ، فهي في التحقيق غنية عن البيان ، فعدم
التعرض لها أحرى بالدخول في حيز القبول ، ومن ثم خلا عن التعرض لها كلام متقدمي
علمائنا الفحول ، وطوي البحث عنها في اخبار آل الرسول ، إلا انه لما انتشر الكلام
فيها بين جملة من متأخري الأصحاب ، وكان بعضه لا يخلو من اشكال واضطراب ، أحببنا
الولوج معهم في هذا الباب ، وتنقيح ما هو الحق عندنا والصواب جريا على وتيرتهم (رضوان
الله عليهم) فيما قعدوا فيه وقاموا ، وأسامة لسرح اللحظ حيث اساموا. وقد أحببنا أن
نأتي على جملة ما يتعلق بالنية من الأحكام بل كل ما له ارتباط بها في المقام ونحو
ذلك مما يدخل في سلك هذا النظام على وجه لم يسبق اليه سابق من علمائنا الاعلام
وفضلائنا العظام ، فنقول : البحث فيها يقع في مقامات :
(المقام الأول)
ـ لا ريب في وجوب النية في الوضوء بل في جملة العبادات ، والوجه فيه انه لما كان
الفعل من حيث هو ممكن الوقوع على أنحاء شتى ـ ولا يعقل انصرافه إلى شيء منها إلا
بالقصد إلى ذلك الشيء بخصوصه ، ولا يترتب عليه أثره
__________________
إلا بذلك ، مثلا ـ الدخول تحت الماء من حيث هو صالح لأن يقصد به التبرد أو
التسخن تارة ، وازالة الوسخ اخرى والغسل مثلا ، وإخراج شيء من الماء ونحو ذلك ،
فلا ينصرف إلى واحد من هذه الأشياء أو أزيد إلا بنيته وقصده. ومثل ذلك لطمة اليتيم
تأديبا وظلما وهكذا جميع أفعال العقلاء من عبادات وغيرها لا يمكن تجردها وخلوها من
النية والقصد بالكلية ، وإلى ذلك يشير ما صرح به بعض فضلائنا واستحسنه آخرون ، من
انه لو كلفنا الله العمل بلا نية لكان تكليفا بما لا يطاق ـ فالعبادة لا تكون
عبادة يترتب عليها أثرها ويمتاز بعض أصنافها عن بعض إلا بالقصود والنيات ففي
العبادة الواجبة تكون النية واجبة شرطا أو شطرا ، لعدم تعينها ـ كما عرفت ـ وتشخصها
إلا بها ، وفي المندوبة تكون من شروط صحتها جزء كانت أو خارجة ، كغيرها من الأفعال
التي لا تصح إلا بها. وعدم الاتصاف بالوجوب فيها ـ ولا في غيرها مما هو واجب في
الفريضة وشرط في صحتها ـ انما هو من حيث انه لا يعقل وجوب الشرط أو الجزء مع ندبية
المشروط أو الكل ، وربما عبروا عن مثل ذلك بالوجوب الشرطي.
ويدل على أصل
ما قلناه ما رواه في التهذيب مرسلا عنه (صلىاللهعليهوآله) من قوله : «إنما الأعمال بالنيات». وقوله (صلىاللهعليهوآله): «انما لكل امرئ ما نوى». وقول علي بن الحسين (عليهماالسلام) في حسنة الثمالي : «لا عمل إلا بنية» . فإن الظاهر ان المراد بالنية هنا المعنى اللغوي.
لأصالة عدم النقل ، بمعنى
__________________
إنما الأعمال حاصلة بالقصود والنيات ، وانما لكل امرئ ما قصده ، وانه لا
عمل حاصل إلا متلبسا بقصد ونية. فالأول والثالث صريحا الدلالة في عدم حصول العمل
بالاختيار من النفس إلا بقصدها إلى إصداره ، والثاني صريح في ان المرء لا يستحق من
جزاء عمله الاجزاء ما قصده ، كما يدل عليه السبب فيه ، وينادي به تتمته من قوله (صلىاللهعليهوآله): «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله
ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر
اليه» . ومن هنا يعلم ان مدار الأعمال ـ وجودا وعدما واتحادا وتعددا وجزاءها
ثوابا وعقابا ـ على القصود والنيات.
وبما ذكرنا ثبت
ما ادعيناه من ضرورية النية في جميع الأعمال ، وعدم احتياجها الى تكلف واحتمال ،
ووجوبها في جميع العبادات المترتب صحتها عليها ، فإن الأعمال كالاشباح والقصود لها
كالارواح.
هذا وجملة من
أصحابنا (رضوان الله عليهم) لما حكموا بوجوب النية في جميع العبادات وفسروها
بالمعنى الشرعي ، أشكل عليهم الاستدلال على الوجوب :
فاستدل بعض ـ منهم
: السيد السند في المدارك ـ على ذلك بما قدمنا من الاخبار ، واعترضه آخرون بمنع
ذلك ، قالوا : لان الظاهر من الحصر في حديثي «إنما الأعمال بالنيات». و «لا عمل
إلا بنية» . انتفاء حقيقة العمل عند انتفاء النية ، وهو باطل ،
فلما تعذر الحمل على الحقيقة فلا بد من المصير إلى أقرب المجازات. والتجوز بالحمل
على نفي الصحة ـ كما يدعيه المستدل ـ ليس اولى من الحمل على نفي الثواب. ولو قيل :
__________________
ان الأول أقرب إلى الحقيقة ، عورض بان حملهما عليه يستلزم التخصيص في الأعمال
، فإنها أعم من العبادات التي هي محل الاستدلال ، فيخرج كثير من الأعمال حينئذ من
الحكم.
واما الحديث
الثالث فلا انطباق له على مدعاهم بالكلية ، لما أوضحناه سابقا
مؤيدا بتتمته وعلته .
نعم ربما يستدل
لهم بما رواه الشيخ (رحمهالله) في كتاب الأمالي بسنده فيه عن أبي الصلت عن الرضا عن آبائه (عليهمالسلام) عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : «لا قول إلا بعمل ، ولا قول وعمل إلا بنية ، ولا
قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة».
وما رواه في
كتاب بصائر الدرجات بسنده فيه عن علي (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : لا قول الا بعمل ، ولا عمل إلا بنية ، ولا عمل ونية
إلا بإصابة السنة».
فان الظاهر من
سياق الخبرين ان المراد بالعمل فيهما العبادة ، وحينئذ فالنية عبارة عن المعنى
الشرعي المشترط في صحة العبادة.
(المقام الثاني)
ـ قد عرف جملة من أصحابنا النية شرعا بأنها القصد المقارن للفعل ، قالوا : فلو
تقدمت ولم تقارن سمى ذلك عزما لا نية. وأصل هذا التعريف للمتكلمين ، فإنهم ـ على
ما نقل عنهم ـ عرفوها بأنها الإرادة من الفاعل للفعل بالمقارنة له
وللأصحاب (رضوان
الله عليهم) في بيان المقارنة في نية الصلاة اختلاف فاحش :
قال العلامة (رحمهالله) في التذكرة : «الواجب اقتران النية بالتكبير ، بان
__________________
يأتي بكمال النية قبله ثم يبتدئ بالتكبير بلا فصل ، وهذا تصح صلاته إجماعا»
قال : «ولو ابتدأ بالنية بالقلب حال ابتداء التكبير باللسان ثم فرغ منهما دفعة واحدة
، فالوجه الصحة».
ونقل الشهيد (رحمهالله) عن بعض الأصحاب انه أوجب إيقاع النية بأسرها بين الألف
والراء ، قال : «وهو ـ مع العسر ـ مقتض لحصول أول التكبير بلا نية»
ونقل السيد
السند في المدارك عن العلامة والشهيد انهما أوجبا استحضار النية إلى انتهاء
التكبير ، لان الدخول في الصلاة إنما يتحقق بتمام التكبير.
ورده بلزوم
العسر ، وان الأصل براءة الذمة عن هذا التكليف ، وان الدخول في الصلاة يتحقق
بالشروع في التكبير ، لانه جزء من الصلاة بإجماعنا ، فإذا قارنت النية أوله فقد
قارنت أول الصلاة ، لأن جزء الجزء جزء ، ولا ينافي ذلك توقف التحريم على انتهائه.
انتهى.
وفي البال اني
وقفت منذ مدة على كلام للعلامة (رضياللهعنه) الظاهر انه في أجوبة مسائل السيد
مهنا بن سنان المدني في المقارنة ، قال (رحمهالله) حكاية عن نفسه : «انى أتصور الصلاة من فاتحتها إلى
خاتمتها ثم اقصد إليها ، فاقارن بها النية» والكتاب لا يحضرني الآن لا حكي صورة
عبارته ولكن في البال ان حاصله ذلك.
أقول : لا يخفى
عليك ـ بعد تأمل معنى النية ومعرفة حقيقتها ـ ان جملة هذه الأقوال بعيدة عن جادة
الاعتدال ، فإنها مبنية على ان النية عبارة عن هذا الحديث النفسي والتصوير الفكري
، وهو ما يترجمه قول المصلي ـ مثلا ـ : «أصلي فرض الظهر أداء لوجوبه قربة إلى الله»
والمقارنة بها بان يحضر المكلف عند ارادة الدخول في الصلاة ذلك بباله وينظر اليه
بفكره وخياله ، ثم يأتي ـ بعد الفراغ من تصويره بلا فصل ـ بالتكبير كما هو المجمع
على صحته عندهم ، أو يبسط ذلك على التلفظ بالتكبير ويمده بامتداده كما هو القول
الآخر ، أو يجعله بين الالف والراء كما هو القول الثالث. وكل
ذلك محض تكلف وشطط ، وغفلة عن معنى النية أوقع في الغلط ، فإنه لا يخفى على
المتأمل انه ليست النية بالنسبة إلى الصلاة إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من
قيامه وقعوده واكله وشربه وضربه ومغداه ومجيئه ونحو ذلك. ولا ريب ان كل عاقل غير
غافل ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال إلا مع قصد ونية سابقة عليه ناشئة
من تصور ما يترتب عليه من الأغراض الباعثة والأسباب الحاملة له على ذلك الفعل ، بل
هو أمر طبيعي وخلق جبلي لو أراد الانفكاك عنه لم يتيسر له إلا بتحويل النفس عن تلك
الدواعي الموجبة والأسباب الحاملة ، ولهذا قال بعض من عقل هذا المعنى من الأفاضل ـ
كما قدمنا نقله عنه ـ : «لو كلفنا العمل بغير نية لكان تكليفا بما لا يطلق» ومع
هذا لا نرى المكلف في حال ارادة فعل من هذه الأفعال يحصل له عسر في النية ولا
اشكال ولا وسوسة ولا فكر ولا ملاحظة مقارنة ولا غير ذلك مما اعتبروه في ذلك المجال
، مع ان فعله واقع بنية وقصد مقارن البتة ، فإذا شرع في شيء من العبادات اضطرب في
أمرها وحار في فكرها ، وربما اعتراه في تلك الحال الجنون مع كونه في سائر أفعاله
على غاية من الرزانة والسكون ، وهل فرق بين العبادة وغيرها إلا بقصد القربة
والإخلاص فيها لذي الجلال؟ وهو غير محل البحث عندهم في ذلك المجال ، مع انه أيضا
لا يوجب تشويشا في البال ولا اضطرابا في الخيال.
وان أردت مزيد
إيضاح لما قلناه فانظر إلى نفسك ، إذا كنت جالسا في مجلسك ودخل عليك رجل عزيز حقيق
بالقيام له والتواضع ، ففي حال دخوله قمت له إجلالا وإعظاما كما هو الجاري في رسم
العادة ، فهل يجب عليك أن تتصور في بالك «أقوم تواضعا لفلان لاستحقاقه ذلك قربة
إلى الله»؟ وإلا لكان قيامك له من غير هذا التصور خاليا من النية ، فلا يسمى
تواضعا ولا يترتب عليه ثواب ولا مدح ، أم يكفي مجرد قيامك خاليا من هذا التصور ،
وانه واقع بنية وقصد على جهة الإجلال والإعظام
الموجب للمدح والثواب ، ومن المقطوع به انك لو تكلفت تخيل ذلك بجنانك
وذكرته على لسانك لكنت سخرية لكل سامع ومضحكة في المجامع ، وهذا شأن النية في
الصلاة أيضا ، فإن المكلف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا وهو عالم بوجوب ذلك الفرض
سابقا وعالم بكيفيته وكميته. وكان الغرض الحامل له على الإتيان به الامتثال لأمر
الله سبحانه مثلا ، ثم قام عن مكانه وسارع إلى الوضوء ، ثم توجه إلى مسجده ووقف في
مصلاه مستقبلا ، وأذن وأقام ثم كبر واستمر في صلاته ، فان صلاته صحيحة شرعية
مشتملة على النية والقربة.
وان أردت مزيد
إيضاح لمعنى النية فاعلم ان النية المعتبرة مطلقا إنما هي عبارة عن انبعاث النفس
وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها عاجلا أو آجلا ، وهذا الانبعاث والميل
إذا لم يكن حاصلا لها قبل فلا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرد النطق باللسان أو
تصوير تلك المعاني بالجنان هيهات هيهات ، بل ذلك من جملة الهذيان ، مثلا ـ إذا غلب
على قلب المدرس أو المصلي حب الشهرة وحسن الصيت واستمالة القلوب اليه لكونه صاحب
فضيلة أو كونه ملازم العبادة ، وكان ذلك هو الحامل له على تدريسه أو عبادته ، فإنه
لا يتمكن من التدريس أو الصلاة بنية القربة أصلا وان قال بلسانه أو تصور بجنانه «أصلي
أو أدرس قربة الى الله» وما دام لم يتحول عن تلك الأسباب الأولة وينتقل عن تلك
الدواعي السابقة إلى غيرها مما يقتضي الإخلاص له تعالى ، فلا يتمكن من نية القربة
بالكلية ، وحينئذ فإذا كانت النية إنما هي عبارة عن هذا القصد البسيط الذي لا
تركيب فيه بوجه ، ولا يمكن مفارقته لصاحبه بعد تصور تلك الأسباب الحاملة على الفعل
إلا بعد الدخول في الفعل ، فكيف يتم ما ذكروه من معاني المقارنة المقتضية للتركيب
وحصول الابتداء فيه والانتهاء ، بامتداده بامتداد التكبير وانحصاره بين حاصرين من
الهمزة والراء؟ الى غير ذلك من التخريجات العرية عن الدليل ، والتمحلات الخارجة عن
نهج السبيل ، الموقعة للناس في تيه الحيرة والالتباس والوقوع في شباك الوسواس
الخناس.
(المقام الثالث)
ـ لما كانت النية ـ كما أشرنا آنفا ـ هي المعينة والمشخصة لخصوصية الفعل ـ كما دلت
عليه تلك الأخبار ، وان مدار الأعمال ـ وجودا وعدما واتحادا وتعددا ومدار جزأيها
ثوابا وعقابا ـ على القصود كما بيناه آنفا ، وانها للأعمال كالارواح للاشباح لا
قوام لها بدونها إلا قواما صوريا ، وان المرء لا يستحق من جزاء عمله الاجزاء ما
قصد ، فلا يستحق جزاء ما لم يتعلق به قصد ولا جزاء عمل قصد سواه ـ وجب تصحيح
القصود في الأعمال على وجه يترتب عليه الثواب والنجاة من العقاب ، وهو لا يحصل في
العبادات إلا بقصد الفعل خالصا له سبحانه ، لقوله عز شأنه : «وَما أُمِرُوا إِلّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...» وقوله : «واعبدوا الله مخلصين له الدين» وقوله : «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ
دِينِي» الى غير ذلك من الآيات ، ويتلوها نحوها في ذلك من
الروايات.
وهو يتحقق بأحد
أمور : (منها) ـ قصد طاعة الله تعالى والتقرب اليه. و (منها) ـ قصد رضاه تعالى. و
(منها) ـ قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب أو أحدهما.
ولا خلاف ـ فيما
أعلم ـ في صحة العبادة بهذه القصود إلا في الأخير ، فإن ظاهر المشهور بين الأصحاب
ـ بل ادعى عليه الإجماع ـ بطلان العبادة به.
والذي اختاره
جماعة من متأخري المتأخرين هو الصحة ، وهو المؤيد بالآيات والروايات :
كقوله سبحانه :
«...
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ...» وقوله تعالى : «... وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ...» .
__________________
وما روى في
الحسن عن الصادق (عليهالسلام) قال : «العباد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزوجل خوفا ، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله تبارك
وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الاجراء وقوم عبدوا الله عزوجل حبا له ، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة». فإن
قضية أفعل التفضيل ان العبادة على الوجهين الأولين لا تخلو من فضل أيضا وان نقصت
مرتبته.
وما روى عنهم (عليهمالسلام) بطرق عديدة : «من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمل ذلك العمل
التماس ذلك الثواب أو تيه وان لم يكن الحديث كما بلغه». فإنه يعطى ان ذلك العمل
الحامل على فعله قصد تحصيل الثواب صحيح مثاب عليه.
وما ورد عنهم (عليهمالسلام) من العبادات والأعمال المأمور بها للحاجة أو تحصيل
الولد أو المال أو النكاح أو الشفاء أو الاستخارة أو نحو ذلك من المقاصد الدنيوية.
الى غير ذلك من الوجوه التي يطول بنشرها الكلام.
واما ما ذكروه
من ان قصد الثواب والخلاص من العقاب ينافي الإخلاص له سبحانه ، لأن قاصد ذلك إنما
قصد جلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر.
ففيه (أولا) ان
الإخلاص بذلك المعنى الخاص لا يحصل إلا من خواص الخواص ، وهو درجة من قال : «ما
عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» . وطلب هذه المرتبة من غيرهم (عليهمالسلام) قريب من التكليف بالمحال بل هو محال بلا اشكال.
قال بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : «ومدعى هذه المرتبة إنما يصدق
__________________
في دعواه إذا علم من نفسه انه لو أيقن ان الله يدخله بطاعته النار وبمعصيته
الجنة يختار الطاعة ويترك المعصية تقربا اليه تعالى ، واين عامة الخلق من هذه الدرجة
القصوى والمنزلة العليا؟» انتهى.
و (ثانيا) ـ ان
العبادة الواقعة على ذلك النحو بأمره تعالى ، لما عرفت من الآيات والروايات ،
وطالبها طالب لرضاه وهارب من سخطه ، فهو المقصود بها عند التحقيق.
و (ثالثا) ـ انه
سبحانه قد ندب في غير موضع إلى التجارة عليه ووعد بالجزيل من ثوابه لمن قصد بذلك
اليه.
فقال جل شأنه :
«مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً
كَثِيرَةً»
«وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ
أَجْراً» .
«...
لَئِنْ
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» .
وفي جملة من
الاخبار ان الله تعالى قال : «ان من عبادي من يتصدق بشق تمرة
فأربيها له كما يربي أحدكم فلوه وفصيله ، فيأتي يوم القيامة وهو مثل جبل أحد وأعظم
من أحد».
الى غير ذلك من
الآيات والروايات الدالة على وعده سبحانه بالثواب في مقابلة تلك الأعمال ترغيبا
لهم.
ومن سرح بريد
النظر في الكتاب والسنة وجدهما مملوءين من الترغيب في مقام الطاعات بالجنان
المزخرفة بالحور الحسان والولدان ، والترهيب في مقام المخالفة والعصيان بأهوال
الحساب وشدائد يوم المآب وعذاب النيران ، وسر ذلك انما هو كونهما باعثين على الفعل
وجودا أو عدما ، ومتى كان كذلك كان قصدهما صحيحا
__________________
البتة ، وفي بعض الاخبار «ان العمل الخالص هو الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد سوى الله عزوجل». وهو مؤيد لما قلناه وموضح لما ادعيناه.
(المقام الرابع)
ـ لا ريب ولا إشكال في الإبطال بقصد الرياء والسمعة في نية العبادة ، والوجه فيه
انه لا ريب في ان قصد ذلك لما كان منافيا للإخلاص الذي هو مدار الصحة والبطلان في
العبادة كما عرفت ، وجب الحكم ببطلانها باشتمالها عليه.
وقد استفاضت
الروايات بالنهي عن ذلك ، كقول الصادق (عليهالسلام) لعباد البصري : «ويلك يا عباد إياك والرياء ، فإنه من عمل لغير الله
وكله الله الى من عمل له».
وقول الرضا (عليهالسلام) لمحمد بن عرفة : «ويحك يا ابن عرفة اعملوا لغير رياء ولا سمعة ، فإنه
من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ...».
بل دلت الآيات
على ان ذلك شرك ، كقوله سبحانه : «...
وَلا
يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» .
وفي بعض
الاخبار في تفسير هذه الآية «ومن صلى مراءاة الناس فهو مشرك» .
وفي آخر أيضا «الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس
يشتهي أن يسمع به الناس ، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه ...». ونقل جملة من أصحابنا (رضوان
الله عليهم) عن المرتضى (رضياللهعنه) في الانتصار انه لو نوى الرياء بصلاته لم
تجب إعادتها وان سقط الثواب عليها. ولا يخفى ان هذا الكلام يجري في جميع العبادات
بل في غيرها بطريق أولى.
__________________
ولعل مستنده في
ذلك ان غاية ما يستفاد من الآية والاخبار الواردة في المقام عدم القبول الموجب
لعدم استحقاق الثواب ، وهو غير مناف للصحة بمعنى عدم وجوب الإعادة.
وربما أيد ذلك
بكثير من ظواهر الكتاب والسنة كقوله تعالى : «...
إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)» «...
و
لا
تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ...» .
وكما ورد في
الاخبار الصحيحة : «ان صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل أربعين صباحا أو
أربعين يوما أو ليلة».
مع عدم القول
بفساد شيء من ذلك ووجوب إعادته من تلك الجهة.
وأنت خبير بان
الكلام هنا يرجع إلى بيان معنى الصحة في العبادات ، هل هي عبارة عن موافقة الأمر
وحصول ما يستلزم الثواب ، أو انها عبارة عما يوجب سقوط العقاب وان لم يستلزم
الثواب ، وإنما يستلزمه القبول وهو أمر زائد على الاجزاء والصحة ومرجع ذلك إلى
كونها عبارة عما يسقط القضاء خاصة؟ المشهور الأول والمرتضى على الثاني
والظاهر هو
المشهور من ان الصحة إنما هي عبارة عن موافقة الأمر وامتثاله ، وان ذلك موجب
للقبول وترتب الثواب :
(أما أولا) ـ فلانه
لا خلاف بين كافة العقلاء في ان السيد إذا أمر عبده أمرا إيجابيا بفعل ووعده الأجر
عليه ، فاتى العبد بالفعل حسبما أمر به السيد ، ثم ان السيد رده عليه ولم يقبله
منه ومنعه الأجر الذي وعده ، مع انه لم يخالف شيئا مما امره به فان العقلاء لا
يختلفون في لوم السيد ونسبته إلى خلاف العدل ، سيما إذا كان السيد ممن يصف نفسه
بالعدل ويتمدح بالفضل والكرم.
و (اما ثانيا)
ـ فلان تفسير الصحة بأنها عبارة عما أسقط القضاء مستلزم للقول
__________________
بترتب القضاء على الأداء ، وهو خلاف ما عليه محققو الأصحاب ، وخلاف ما
يستفاد من الأدلة من ان القضاء موقوف على أمر جديد ولا ترتب له على الأداء.
ولو قيل : ان
الاخبار قد صرحت بأن الصلاة لا يقبل منها إلا ما اقبل عليه وربما قبل نصفها وربما
قبل ثلثها وهكذا ، مع انها صحيحة إجماعا ، فالصحة حينئذ غير القبول.
قلنا : فيه ـ بعد
ما عرفت ـ ان الأمر بالإقبال في العبادة انما هو أمر استحبابي وهو ما يوجب امتثاله
مزيد الفضل والأجر ، لا أمر إيجابي ليكون تركه موجبا لترك الأجر بالكلية وعدم
القبول بالمرة ، وحينئذ فتحمل هذه الاخبار على القبول الكامل كما لا يخفى.
على ان ثبوت
الصحة فيما نحن فيه من عبادة الرياء على القول الآخر ممنوع :
(أما أولا) ـ فلان
سقوط ما وجب في الذمة بيقين فرع وجود المسقط يقينا والمسقط هنا غير معلوم حينئذ ،
إذ لا تسقط العبادة بغير جنسها وان تحلى بجنس صورتها ولا تتأدى الطاعة بجعلها
لباسا وقالبا لضرتها.
ويرشد إلى ذلك.
ما رواه أبو بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا.
قال : حسن النية بالطاعة».
ومع هذا فكيف
يمكن ان يقال ان العبادة الواقعة على وجه الرياء صحيحة بمعنى مسقطة للقضاء؟
و (اما ثانيا)
ـ فلأنك قد عرفت ـ مما تقدم من الآيات والاخبار الدالة على جعل مناط الصحة هو
الإخلاص وان الرياء شرك ـ ما هو صريح في البطلان ولزوم العقاب بالمخالفة ، فكيف
يتم القول بالصحة الموجبة لسقوط العقاب؟
واما ما ذكر من
الظواهر فالظاهر ان المراد بعدم القبول فيها يعنى القبول الكامل ، بمعنى عدم ترتب
الثواب المضاعف الموعود به. على انه قد ورد في تفسير الآية الأولى عن أهل
__________________
العصمة (عليهمالسلام) ان المراد بالمتقين الشيعة.
(المقام الخامس)
ـ صرح جملة من أصحابنا بوجوب اشتمال النية ـ سيما في الطهارة والصلاة ـ على جملة
من القيود ، واختلفوا فيها كمية وكيفية ، واستدلوا على ذلك بوجوه عقلية واعتبارات
غير مرضية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، قد نقلها جماعة من متأخري المتأخرين
في كتبهم الاستدلالية وأجابوا عنها ، ولا حاجة بنا إلى الإطالة بنقلها ونقل
أجوبتها ، فإنا قد التزمنا في هذا الكتاب ان لا نطول البحث غالبا إلا فيما أغفلوا
تحقيقه ولم يلجوا مضيقة.
وقصارى ما
يستفاد من الأدلة الشرعية مما يتعلق بأمر النية هو قصد القربة كما تقدم تحقيقه ،
ولولاه لكان الأولى الاعراض عن البحث في ذلك من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه». «وأبهموا
ما أبهم الله» .
نعم لو كان
الفعل المقصود غير متعين في الواقع فلا بد في تعلق قصد المكلف به الى إصداره من
قيد يشخصه لينصرف القصد اليه ، لما عرفت سابقا من انه لا تميز بين افراد الماهية
عند القصد إلى إيجاد بعضها إلا بقصده ، كما لو اشتغلت ذمة المكلف بفائت الظهر مثلا
، فبعد دخول وقت الظهر ـ بناء على القول بالمواسعة المحضة في القضاء ـ لا يتعين ما
يأتي به منها إلا بالقصد اليه بخصوصه ، فلا بد في هذه الصورة من تعيين الأداء ان
قصده والقضاء كذلك.
وما عدا ذلك
فلا يجب فيه التعيين ، لتعينه واقعا وان لم يتعين في نظر المكلف أيضا ، كما لو قصد
إيقاع غسل الجمعة مع تعارض الاخبار عنده في الوجوب والاستحباب وعدم طريق إلى العلم
بذلك ، فإنه لا يتعين عليه قصد أحدهما ، للزوم التكليف بما لا يطاق ، بل ولو امكنه
العلم بذلك أيضا لعدم الدليل عليه وأصالة عدمه ، بل متى علم
__________________
رجحان الفعل شرعا وقصد إلى إيقاعه لوجه الله سبحانه ، كفى من غير تعرض فيه
لقصد وجوب أو استحباب.
(المقام السادس)
ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز تقديم النية في الوضوء والغسل عند
غسل اليدين المستحب ، بل حكم العلامة في المنتهى بالاستحباب ، وجوزه ابن إدريس في
الغسل دون الوضوء ، فخص الجواز فيه بالمضمضة والاستنشاق ، ومنع صاحب البشرى من ذلك
مطلقا ، وأوجب التأخير إلى أول الأفعال الواجبة ، نظرا إلى عدم دخول ما تقدم في
مسمى الوضوء أو الغسل حقيقة ، وأيده بعضهم بأنه كيف ينوي الوجوب ويقارن به ما ليس
بواجب ويجعله داخلا فيه؟ ولهذا لم يجوزوا تقديمها ومقارنتها لسائر المندوبات مثل
السواك والتسمية إجماعا.
أقول : ويؤيده
أيضا انه لو ساغ ذلك لجاز مثله في الصلاة أيضا ، فيقدم النية في أول الإقامة رخصة
مع انهم لا يجوزونه ، والفرق بين الموضعين غير ظاهر.
وبالجملة فحيث
كانت المسألة خالية من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل الاحتياط. وخبر ـ «إنما
الأعمال بالنيات». و «لا عمل إلا بنية» . مع تسليم حمل النية فيه على المعنى الشرعي ، باعتبار
احتمال الباء فيه للمصاحبة فيمتنع التقديم ، أو الملابسة المطلقة فيجوز ، أو
السببية التي هي أعم من الناقصة والتامة فيحتملهما ـ فيه ـ كما ترى ـ من الإجمال
والاحتمال ما يخرج به عن حيز الاستدلال.
وأنت خبير بان
الظاهر ان الأمر في هذه المسألة بناء على ما حققناه من معنى النية هين ، فان القصد
إلى إيقاع الفعل لما كان مما لا يمكن الانفكاك عنه ولا الإصدار بدونه ، وان
المقارنة التي أدعوها لا دليل عليها ، فمن المعلوم ان المكلف متى جلس للوضوء عالما
بكيفيته شرعا والغرض منه ، فلا يكون البتة إلا عن قصد إلى إيقاع هذه الكيفية
متقربا بها ، وحينئذ فلا معنى لتقديم النية وتأخيرها ، أو افراد كل من مستحباته
__________________
وواجباته بنية على حياله. نعم ذلك إنما يتمشى على مذاق القوم من جعل النية
عبارة عن ذلك الحديث النفسي ، ووجوب المقارنة به لأول الأفعال كما ذكروا. وقد عرفت
ما فيه
(المقام السابع)
ـ قد صرح غير واحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) بان من جملة واجبات النية
استدامتها حكما إلى الفراغ ، ووجهه انه لما كانت النية عبارة عن القصد إلى إيقاع
الفعل بعد تصوره وتصور غايته الباعثة على الإتيان به ، وانه بعد التلبس بالفعل على
الوجه المذكور كثيرا ما تحصل الغفلة ويحصل السهو والنسيان الذي هو كالطبيعة
الثانية للإنسان عن ذلك القصد والتصور المذكورين مع الاستمرار على الفعل لكن يكون
بحيث لو رجع إلى نفسه لاستشعر ما قصده وتصوره أولا ، اقتضت الحكمة الربانية
والشريعة السمحة المحمدية الجري على مقتضى النية السابقة ما لم يعرض هناك قصد أخر
ناشىء عن غاية أخرى باعثة عليه مرتبا للفعل عليها ، فان الفعل حينئذ يخرج بذلك
عما هو عليه أولا ، لما عرفت من دوران المغايرة بين الأفعال مدار القصود والنيات.
ولك ان تقول ـ كما
حققه بعض المحققين من متأخري المتأخرين ـ انه لما كانت النية عبارة عن القصد إلى
الفعل بعد تصور الداعي له والحامل عليه ، والضرورة قاضية ـ كما نجده في سائر
أفعالنا ـ بأنه قد يعرض لنا مع الاشتغال بالفعل الغفلة عن ذلك القصد والداعي في
أثناء الفعل ، بحيث انا لو رجعنا إلى وجداننا لرأينا النفس باقية على ذلك القصد
الأول ، ومع ذلك لا نحكم على أنفسنا ولا يحكم علينا غيرنا بان ما فعلناه وقت
الذهول والغفلة بغير قصد ونية ، بل من المعلوم أنه أثر ذلك القصد والداعي السابقين
، كان الحكم في العبادة كذلك ، إذ ليست العبادة إلا كغيرها من الأفعال الاختيارية
للمكلف ، والنية ليست إلا عبارة عما ذكرنا.
ثم قال (قدسسره) : «انه كما يجوز صدور الفعل بالإرادة لغرض مع الذهول
في أثنائه عن تصور الفعل والغرض مفصلا ، فكذلك يمكن صدوره بالإرادة لغرض مع الذهول
عنها مفصلا في ابتداء الفعل أيضا ، إذا تصور الفعل والغرض في زمان سابق
عليه ، وكان ذلك باعثا على صدور الفعل في هذا الزمان ، والضرورة حاكمة أيضا
بوقوع هذا الفرض عند ملاحظة حال الأفعال ، فحينئذ يجوز ان يصدر الوضوء لغرض
الامتثال والقربة باعتبار تصوره وتصور ذلك الغرض في الزمان السابق ، فيلزم أن يكون
ذلك الوضوء صحيحا أيضا ، لما عرفت من عدم لزوم شيء على المكلف زائدا على هذا
المعنى ، فبطل القول بمقارنة النية لأول الأفعال» انتهى.
وهو جيد رشيق ،
وفيه تأكيد اكيد لما قدمناه في المقام الثاني من التحقيق.
وبالجملة فتجدد
الذهول ـ بعد قصد الفعل أولا وتصور داعيه الباعث عليه ـ لا يخرج تلك الأفعال الواقعة
حال الذهول عن كونها بذلك القصد السابق. نعم لو كان أصل الدخول في الفعل بغير قصد
بالكلية سهوا وغفلة فهذا هو الذي لا يعتد به اتفاقا ، لما عرفت غير مرة من ان
الفعل من حيث هو لا ينصرف إلى مادة ولا يحمل على فرد إلا بالقصد اليه.
هذا. وأنت إذا
حققت النظر في المقام وسرحت بريد الفكر فيما ذكره الأقوام وجدت ان البحث في هذه
المسألة ليس مما له مزيد فائدة سيما في الوضوء ، وذلك لأن مجرد النية الثانية لا
يترتب عليها أثر في الإبطال عندهم.
وحينئذ فلا
يخلو اما ان يأتي بشيء من تلك الأفعال بالنية الثانية أولا ، وعلى الثاني فاما ان
يرجع إلى مقتضى النية السابقة قبل فوات الموالاة أولا.
فعلى الأول
يكون بطلان الفعل بما فعله بالنية الثانية ، ويدخل في مسألة من أبطل عمله بأحد
المبطلات ، ولا خصوصية له بهذه المسألة.
وعلى الثالث
يبطل الوضوء لفوات بعض واجباته التي هي الموالاة ، ويرجع ذلك الى مسألة الموالاة.
وعلى الثاني
فإنه لا إشكال في الصحة عندهم ، لعدم ثبوت كون مثل ذلك قادحا فيها ، مع انها
الأصل.
نعم لو اتفق
ذلك في نية الصلاة بأن نوى الخروج أو فعل المنافي ولم يفعل ، فهل يبطل ذلك الصلاة
أم لا؟ قولان :
المشهور الثاني
استنادا إلى أصالة الصحة ، فالإبطال يتوقف على الدليل ، وليس فليس.
وقيل بالأول
استنادا إلى ان الاستمرار على حكم النية السابقة واجب إجماعا ، ومع نية الخروج أو
التردد أو نية فعل المنافي يرتفع الاستمرار.
وأورد عليه ان
وجوب الاستدامة أمر خارج عن حقيقة الصلاة ، فلا يكون فواته مقتضيا لبطلانها ، إذ
المعتبر وقوع الصلاة بأسرها مع النية كيف حصلت ، وقد اعترف الأصحاب بعدم بطلان ما
مضى من الوضوء بنية القطع إذا جدد النية قبل فوات الموالاة ، والحكم في المسألتين
واحد. والفرق بينهما ـ بأن الصلاة عبادة واحدة لا يصح تفريق النية على اجزائها
بخلاف الوضوء ـ ضعيف ، فإنه دعوى مجردة عن الدليل. والمتجه تساويهما في الصحة مع
تجديد النية لما بقي من الأفعال ، لكن يعتبر في الصلاة عدم الإتيان بشيء من
أفعالها الواجبة قبل تجديد النية ، لعدم الاعتداد به ، واستلزام إعادته الزيادة في
الصلاة. هكذا حققه السيد السند (قدسسره) في المدارك.
وأنت خبير بأن
المصلي متى كبر للإحرام ودخل في الصلاة فلا يخرج منها إلا بالتسليم أو التشهد ،
فجميع حالاته ـ من قيامه وقعوده وركوعه وسجوده وتشهده وما بينها حال الانتقال من
أحدها إلى الآخر ـ كله من اجزاء الصلاة ، فمع نية القطع والخروج أو نية فعل
المنافي يلزم ـ البتة ـ وقوع جزء من اجزاء الصلاة بغير نية ، ويلزم الخروج عن
مقتضى النية السابقة. وتجديد النية الأولى ـ بعد مضي شطر من اجزاء الصلاة خاليا
منها بل على نية تنافيها ـ لا يوجب نفعا في المقام ولا دفعا لذلك الإلزام. ومن ذلك
ظهر الفرق بين الصلاة والوضوء ، وبه يظهر رجحان القول الأول.
إلا أن لقائل
أن يقول : ان المفهوم من الاخبار جواز إيقاع بعض الأفعال
الخارجة عن حقيقة الصلاة فيها وان استلزمت التقدم أو التأخر بما لا يستلزم
الاستدبار كغسل دم الرعاف ، وقتل الحية ، وإرضاع الصبي ، ونحوها ، مع القطع بكونها
ليست من أفعال الصلاة ، مع انها لا تبطل الصلاة بها ، فبالأولى ان يكون مجرد ترك
النية ـ وان استلزم ان يكون الحال الذي نوى فيه القطع خاليا عن النية السابقة ـ غير
موجب للبطلان وحينئذ يتوجه المنع إلى ان جميع حالاته من بعد التكبير إلى حين
التسليم من اجزاء الصلاة. الا ان الحكم بعد لا يخلو من شوب الاشكال. وحيث كانت
المسألة خالية من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل الاحتياط.
(المقام الثامن)
ـ اختلف الأصحاب في حكم نية الضمائم اللازمة في النية.
فقيل بالصحة
مطلقا ، والظاهر انه المشهور.
وقيل بالبطلان
مطلقا ، وهو ظاهر جماعة : منهم ـ أول الشهيدين في بيانه ، وثانيهما في روضته ،
والمولى الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وغيرهم.
وقيل بالتفصيل
بين ما إذا كانت راجحة فتصح وإلا فتبطل ، واختاره جماعة : منهم ـ السيد السند في
المدارك ، وادعى انه مع الرجحان لا خلاف في الصحة ، وتبعه على هذه الدعوى بعض ممن
تأخر عنه.
وفيه ان جملة
من عبارات من قدمنا نقل القول بالإبطال عنهم ظاهرة في الحكم بذلك من غير تفصيل
بالرجحان وعدمه ، ولا سيما كلام المولى الأردبيلي (رحمهالله) ، حيث قصر الحكم بالصحة على مجرد كون الفعل لله ، وحكم
بان كل ما يضم اليه من لازم وغيره فهو مناف لذلك.
وقيل بتخصيص
الصحة بما إذا كانت الضميمة راجحة ولا حظ المكلف رجحانها ، وهو الذي اختاره شيخنا
أبو الحسن (قدسسره) في رسالة الصلاة ، وجزم به والدي (قدسسره).
وقيل بالتفصيل
بأنه ان كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ قصد التبرد مثلا
عند الابتداء في الفعل لم يضر ، وان كان العكس أو كان الباعث مجموع الأمرين
، لم يجزئ ، وهذا القول ذكره في الذكرى احتمالا ، واليه ذهب بعض متأخري المتأخرين.
والظاهر ان
مراد مشترط رجحان الضميمة هو ملاحظة رجحانها أيضا وقصده ، نظرا إلى ان التعليق على
الوصف مشعر بالعلية ، فان مجرد رجحانها في الواقع من غير ملاحظة المكلف له لا يخرج
الضميمة عن كونها مرجوحة أو متساوية الطرفين ، فإن العبادة إنما تصير عبادة يترتب
عليها أثرها بنيتها وقصدها ، وحينئذ فيرجع القول الثالث والرابع الى واحد.
احتج من ذهب
إلى الأول بعدم منافاة الضميمة لنية القربة ، وانه كنية الغازي للقربة والغنيمة ،
وانها لكونها لازمة فنيتها لا تزيد على أصل حصولها.
وفيه ان ما
ادعوه من عدم المنافاة فهو أول البحث. والتمثيل بالغازي لا ينهض حجة ، لمنع ذلك
فيه أيضا. وقوله ـ : «ان نيتها لا تزيد على أصل حصولها» ـ ممنوع ، إذ لا يلزم من
حصولها ضرورة جواز نية حصولها ، وهل الكلام إلا فيه؟ مع انه منتقض بالرياء وان
رؤية الناس أيضا لازم ، فيجب ان يكون قصده غير مضر بالعبادة ، والخصم لا يقول به.
واحتج من ذهب
إلى الثاني بمنافاة الضميمة للإخلاص له سبحانه.
وفيه انه مع
عدم رجحان الضميمة مسلم ومع الرجحان ممنوع ، كما سيأتي بيانه.
احتج من ذهب
إلى الثالث بما ورد في الاخبار من قصد الإمام بإظهار تكبيرة الإحرام الاعلام ، وضم
الصائم إلى نية الصوم قصد الحمية ، ومخرج الزكاة علانية ـ بل سائر أفعال الخير ـ اقتداء
الناس به ، ونحو ذلك.
ومن هذه الأدلة
يعلم ان قصد المكلف هذه الضمائم إلى ما ضمت اليه إنما تعلق بها لرجحانها ، وإلا
فلربما تطرق إليها احتمال الإبطال في بعضها من حيث دخوله في الرياء ، كالاعلان
بالزكاة ونحوه.
وهذا القول هو
الأقوى عندي ، لعدم الدليل على ما سواه كما عرفت ، واعتضاده بما عرفت من الأدلة الا ان الظاهر انه لا اختصاص له بالضميمة اللازمة بل
يجري في الخارجة أيضا ، فإن ما ذكر ـ من مثال مخرج الزكاة علانية لاقتداء الغير به
ـ إنما هو من قبيل الضميمة الخارجة دون اللازمة ، إذ لا ملازمة بين إخراج الزكاة
واقتداء الغير. ومثل ذلك أيضا ما ورد من استحباب إطالة الإمام ذكر الركوع لانتظار
الداخل ، وإطالته القيام في صلاة الخوف لانتظار إتمام الفرقة الاولى ودخول الثانية
، وجهر المصلي بصلاة الليل في منزله ليوقظ جاره للصلاة ان كان ممن يعتادها ، ونحو
ذلك.
(المقام التاسع)
ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو نوى ببعض واجبات العبادة
الندب عمدا أو جهلا بطلت ، ولو نوى ببعض مندوباتها الوجوب ، فان اتصف بالكثرة بطلت
أيضا وإلا فلا ، وهو مبني على أمور :
(أحدها) ـ وجوب
قصد الوجه من وجوب أو ندب في أصل العبادة ، وفيما يأتي به من الأفعال الواجبة أو
المندوبة.
و (ثانيها) ـ عدم
تداخل الواجب والندب ، فلا يجزئ أحدهما عن الثاني ، لتغاير الجهتين فيهما ، وحينئذ
فلو خالف بان نوى بالواجب الندب عمدا أو جهلا بطلت الصلاة ، للإخلال بالواجب على
ذلك الوجه اللازم منه عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه ، فلم يطابق فعله ما في
ذمته ، لاختلاف الوجه ، ويمتنع إعادته ، للزوم زيادة أفعال الصلاة عمدا ، فلم يبق
إلا البطلان. ولو نوى بالمندوب الوجوب فان كان ذكرا بطلت أيضا ، للنهي المقتضي
للفساد ، ولانه كلام في الصلاة ليس منها ولا مما استثنى منها ، وان
__________________
كان فعلا كالطمأنينة مثلا ، اعتبر في الحكم بإبطاله الكثرة التي تعتبر في
الفعل الخارج عن الصلاة. واستقرب الشهيد في البيان الصحة في هذا القسم مطلقا ، لأن
نية الوجوب إنما أفادت تأكيد الندب.
و (ثالثها) ـ وجوب
العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها ليقصد الوجه في كل منهما ، وعدم معذورية الجاهل
في ذلك ، بل الواجب عليه العلم بذلك اجتهادا أو تقليدا وبدونه يبطل ما يأتي به من
العبادة ، وانه لا معذورية للجاهل إلا في الموضعين المشهورين هكذا قرروا (رضوان
الله عليهم).
وهو منظور فيه
من وجوه : (أحدها) ـ ما أشرنا إليه آنفا ـ وبه صرح جملة من متأخري أصحابنا (رضوان
الله عليهم) ـ من انه لم يقم لنا دليل يوجب المصير الى ما ذكروه من وجوب قصد الوجه
في العبادة واستحبابه ، والأحكام الشرعية توقيفية لا يجوز الحكم فيها إلا بما قام
الدليل الشرعي عليه ، وإلا كان من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه». و «أبهموا ما
أبهمه الله» كما ورد عنهم (عليهمالسلام) .
وما ذكروه في
مقام الاستدلال على ذلك مجرد اعتبارات عقلية ووجوه تخريجية لا تصلح للاعتماد عليها
في الأحكام الشرعية.
وبذلك يظهر ان
ما ذكروه من البطلان بنية الواجب ندبا ممنوع. قوله : للإخلال بالواجب ـ مردود بعدم
قيام الدليل على وجوب ما أوجبه ، وكذلك قوله : لعدم مطابقة فعله ما في ذمته ، لعدم
قيام الدليل على المطابقة المزبورة على الوجه الذي ذكره.
و (ثانيها) ان
ما ذكر ـ من كون أحدهما لا يجزئ عن الآخر ـ مردود بوقوع ذلك في جملة من الموارد :
__________________
منها ـ صلاة
الاحتياط المقصودة بنية الوجوب ، فإنها بعد ظهور الاستغناء عنها تكون نافلة اتفاقا
نصا وفتوى.
ومنها ـ ما لو
صام يوما قضاء عن شهر رمضان ثم تبين انه اتى به سابقا ، فان الظاهر ترتب الثواب
على ما اتى به.
ومنها ـ ما لو
شرع في نافلة ثم سهى في أثنائها فاتى ببعض الأفعال بقصد الوجوب ظنا منه انه في
فريضة.
هذا في اجزاء
الواجب عن الندب. واما بالعكس :
فمنه ـ ما لو
صام يوم الشك بنية الندب فظهر انه من شهر رمضان.
ومنه ـ ما لو
دخل في الفريضة فسهى في أثنائها واتى ببعض أفعالها على انها نافلة ومنه ـ ما لو
توضأ للتجديد فظهر كونه محدثا.
ومنه ـ ما لو
جلس للاستراحة فلما قام ظهر أنه نسي سجدة ، فإنه يسجد ويقوم الى غير ذلك من
المواضع التي يقف عليها المتتبع.
فان قيل : ان
هذا كله خارج عن صورة العمد. قلنا : المدعى عندهم أعم وبه يلزم المطلوب.
و (ثالثها) ـ ان
ما ذكره ـ من انه يمتنع إعادته للزوم زيادة أفعال الصلاة ـ مردود بان ما اتى به
إنما قصد به الندب ، والعبادة ـ كما عرفت ـ تابعة للقصد ، وحينئذ فليس ما اتى به
من أفعال الصلاة على هذا التقدير ، فيكون الواجب باقيا في ذمته ، فإنه لو قرأ
الفاتحة ـ مثلا ـ بقصد الندب وانها قرآن ، وهو مستثنى عندهم في الصلاة اتفاقا ، أو
اتى بأحد الأذكار الواجبة أيضا بقصد الندب ، مع استثناء ذلك أيضا عندهم في الصلاة
اتفاقا ، ثم اتى بالواجب في الموضعين بقصد الوجوب ، فأي موجب للبطلان هنا؟
و (رابعها) ـ ان
ما ذكره ـ من بطلان الصلاة بنية المندوب واجبا إذا كان
ذكرا ممنوع ، لأن النهي على تقدير تسليمه لم يتعلق بعين الصلاة ولا يجزئها
، فلا يلزم البطلان.
قوله : «ولانه
كلام في الصلاة. إلخ» فيه ان المعلوم كونه مبطلا من الكلام هو ما لم يكن ذكرا ولا
دعاء ، وما نحن فيه ليس كذلك.
ثم حكمه أيضا ـ
بالإبطال في الفعل مع الكثرة ـ فيه انه متى كان الفعل ذكرا ممنوع ، إذ الظاهر من
الدليل هو ما عداه.
و (خامسها) ـ ان
ما ذكره ـ من وجوب العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها عن اجتهاد أو تقليد ، وانه لا
يعذر الجاهل بذلك ـ فيه انه ليس على إطلاقه.
والتحقيق ـ كما
هو اختيار جمع من المحققين من متأخري المتأخرين ـ ان نقول : انه لا إشكال في وجوب
التعلم على الجاهل ، وانه بالإخلال به يأثم ، لكن لو أوقع العبادة والحال كذلك ،
واتفق مطابقتها للواقع حسبما أمر به الشارع وان لم يكن له معرفة بواجباتها ولا
مندوباتها ، فلا نسلم بطلانها ووجوب قضائها كما ذهبوا إليه ، إذ لم يثبت من الشارع
في التكليف بأمثال ذلك أمر وراء الإتيان بما أمر به ، من الكيفية المخصوصة وقصد
التقرب به اليه ، والفرض ان المكلف قد أوقعه كذلك ، ولا ينافي ذلك ما تردد من
أفعالها بين الوجوب والاستحباب باعتبار الخلاف فيه ، لان قصد القربة به لرجحانه
شرعا آت عليه. نعم لو كان الفعل مما تردد بين الوجوب والتحريم مثلا ، فان قصد
القربة لا يأتي عليه ، فلا بد من العلم حينئذ بأحد الأمرين اجتهادا أو تقليدا ،
وإلا فيجب الوقوف حينئذ على صراط الاحتياط ، والمفهوم من الأخبار ـ كما أوضحناه في
درة الجاهل بالأحكام الشرعية من كتاب الدرر النجفية ـ ان الاحتياط في مثل ذلك
بالترك.
واما عدم
معذورية الجاهل بالأحكام الشرعية مطلقا كما ذكروه. فقد عرفت
ما فيه في المقدمة الخامسة .
(المقام العاشر)
ـ لو نوى بوضوئه صلاة نافلة ، فالظاهر انه لا خلاف في الدخول به في الفريضة ، واما
إذا قصد به غير الصلاة ، فإن كان مما لا يستباح إلا به ، كمس خط المصحف على
المشهور ، والطواف المندوب على القول به ، فالمشهور انه كذلك ونقل عن الشيخ في
المبسوط المنع ، وهو ظاهر ابن إدريس أيضا ، وان كان مما يستباح بدونها ، كسائر ما
يستحب له الوضوء مما لا يجامعه حدث أكبر ، فهل يصح الوضوء مطلقا ويرتفع به الحدث
ويجوز الدخول به في الفريضة ، أو لا يرتفع به الحدث مطلقا ، أو يكون كالأول إلا
فيما إذا نوى وضوء مطلقا ، أو التفصيل بين نية ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث
كقراءة القرآن ونية ما يستحب له لا لأجل الحدث كالتجديد ، فيرتفع الحدث به ويجوز
الدخول به في الفريضة على الأول دون الثاني ، أو التفصيل بين ما يستحب له الطهارة
لأجل الحدث ويقصد به الكمال فيصح ، أو لا يستحب له الطهارة أو يستحب ولكن لا مع
قصد الكمال فيبطل ، أو الصحة ان قصد ما الطهارة مكملة له على الوجه الأكمل ، وكذا
ان قصد به الكون على طهارة ، وعدم الصحة في غير هاتين الصورتين؟ أقوال : أظهرها ـ كما
استظهره جماعة من متأخري أصحابنا ـ الأول.
ولنا عليه وجوه
: (الأول) ـ ان الأخبار الواردة مستندا لتلك الوضوءات المعدودة كلها ـ إلا ما شد ـ
بلفظ الطهر أو الطهور أو الطهارة ، ومن الظاهر البين اعتبار معنى الزوال والإزالة
في لازم هذه المادة ومتعديها لغة وشرعا ، فلا معنى لكون الوضوء مطهرا أو طهورا أو
نحوهما إلا كونه مزيلا للحدث الموجود قبله ، وإلا فلا معنى لهذه التسمية بالكلية ،
ومن ثم صرحوا بأن الطهارة لغة : النظافة ، وشرعا حقيقة في رافع
__________________
الحدث. واما الوضوء المجامع للحدث الأكبر فقرينة التجوز فيه ظاهرة ، كإطلاق
الصلاة على صلاة الجنازة.
(الثاني) ـ ان
المفهوم من الأخبار الواردة في بيان علة الوضوء ان أصل مشروعيته انما هو للصلاة
خاصة ، وقضية ذلك انه حيثما أمر به الشارع لا يكون إلا رافعا ـ إلا ما خرج بدليل ـ
تحقيقا للجري على أصل المشروعية ، ويحقق ذلك ويوضحه ان الغاية الكلية للوضوء من
حيث هو إنما هي الرفع ، وهذه الغايات إنما تترتب عليه ، إذ لا يخفى ان المتوضئ
لأحد هذه الغايات لو لم يرتفع حدثه ، للزم اجتماع الطهارة والحدث في حالة واحدة ،
مع انهما متقابلان ، على انه لو قصد في الوضوء لدخول المسجد مثلا عدم رفع الحدث ،
لم نسلم صحته ، ولا ترتب أثره الذي قصد عليه.
وما قيل ـ من
انه يجوز أن يكون الغرض من الوضوء وقوع تلك الغاية المترتبة عليه عقيبه وان لم يقع
رافعا كما في الأغسال المندوبة عند الأكثر ـ فيه (أولا) ـ ما قد عرفت في الوجه الأول والثاني.
و (ثانيا) ـ ان
الإيراد بالأغسال إنما يتم لو اقتضى الدليل كونها كذلك ، ومجرد ذهاب الأكثر اليه ـ
مع كونه خاليا من الدليل بل الدليل قائم على خلافه ـ لا يثمر نقضا كما لا يخفى.
(الثالث) ـ انا
لا نعرف من الوضوء شرعا إلا هذه الأفعال المعهودة ، فمتى اتى بها المكلف متقربا صح
وضوؤه ، ومتى صح وضوؤه جاز له الدخول به في الصلاة ، إذ الشرط فيها طهارة صحيحة
وقد حصلت ، ومدعى الزيادة عليه إثباتها. وهذا كله ـ بحمد الله سبحانه ـ ظاهر لمن
شرب من كأس الأخبار وجاس خلال تلك الديار.
واما ما
استجوده السيد السند في المدارك ـ من الاستدلال بعموم ما دل على ان
__________________
الوضوء لا ينقض إلا بالحدث ـ فقد أورد عليه بان عدم الانتقاض لا يقتضي ترتب
جميع ما يترتب على كل وضوء ، بل يقتضي استصحاب ما ثبت ترتبه على ذلك الوضوء وهو
متجه.
(المقام الحادي
عشر) ـ اختلف الأصحاب (قدس الله أرواحهم) في تداخل الأغسال في النية على أقوال
سيأتي تفصيلها ان شاء الله تعالى ، الا أنا قبل الشروع في ذلك نقدم من مجمل
التحقيق ما يكون طريقا إلى الخروج من ذلك المضيق.
فنقول : الظاهر
ان الحدث ـ الذي هو عبارة عن الحالة المسببة عن أحد الموجبات الممتنع الدخول معها
في الصلاة ـ أمر كلي وان تعددت أسبابه من البول والغائط ونحوهما والجنابة والحيض
ونحوهما ، ولا يتعدد بتعددها ، والمقصود من الطهارة بأنواعها رفع هذه الحالة ،
وملاحظة خصوصية السبب كلا أو بعضا لا مدخل له في ذلك بصحة ولا إبطال فذكره كتركه ،
وان الطهارة ـ وضوء كانت أو غسلا ـ لغاية من الغايات متى كانت خالية من المبطل ،
صح ترتب ما عدا تلك الغاية من سائر الغايات المشاركة لها على تلك الطهارة وان لم
تكن مقصودة حال الفعل ، وهذا في الوضوء واضح كما أسلفنا بيانه في سابق هذا المقام
، واما في الغسل فمبني على أصح القولين ـ وان لم يكن بأشهرهما ـ من رفع ما عدا غسل
الجنابة من الأغسال واجبا كان أو مستحبا وعدم احتياجه إلى الوضوء كما ذهب اليه علم
الهدى من المتقدمين ، ونهج على منواله طائفة من متأخري المتأخرين ، وعليه دلت
أخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم) واما على المشهور فيشكل الحكم ، لعدم الرفع ،
ولهذا يوجب المانعون نية الأسباب في تداخل الأغسال المستحبة ، لعدم اشتراكها في
موجب الرفع ، فلا تداخل بدونه ، وأشكل على بعضهم اندراج غسل الجنابة تحت ما عداه
من الأغسال الواجبة ، لعدم رفعه إلا مع الوضوء ، لو نوى ما عدا الجنابة خاصة ،
وأشكل على جملة منهم الحكم بالتداخل في الواجب والمستحب للتضاد بين وجهي الوجوب
والاستحباب.
والمفهوم من
اخبار التداخل ـ كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ـ هو التداخل مطلقا ، واجباتها
بعضها في بعض ، ومستحباتها كذلك ، وواجباتها ومستحباتها كل في الآخر ، أعم من ان
يقصد شيئا من الأسباب الحاملة والغايات الباعثة أم لا ، بل الظاهر منها انه
بملاحظة بعض تلك الأسباب والغايات يستباح به ما عداه مما لم تلحظ غايته ، وانه لا
فرق في هذا المقام بين الوضوء والغسل.
وتفصيل هذه
الجملة ـ على وجه يحيط بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام ، والتنبيه
على ما زلت به اقدام أقلام بعض الاعلام ـ
هو ان يقال :
الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في عدم الافتقار إلى نية الحدث
المتطهر منه في الوضوء ، أعم من ان يكون متحدا أو متعددا ، اما على تقدير الاكتفاء
بمجرد القربة فظاهر ، واما على تقدير وجوب نية الرفع فالواجب هو قصد رفعه من حيث
هو ، لكن لو قصد رفع حدث بعينه مع تعدد الأسباب ، فقد قطع أكثر الأصحاب بارتفاع
الجميع أيضا ، لأن الحدث أمر كلي وان تعددت أسبابه ، فمن أجل ذلك ثبت لها التداخل
باشتراكها في ذلك الأمر الكلي ، فبارتفاع أحدها يرتفع الجميع ، فمتى نوى أحدها وجب
حصوله ، وحصوله يستلزم حصول الجميع لما عرفت.
وبذلك يظهر
الجواب عما يقال : ان الأحداث لا تتجزأ وليس ثمة إلا أمر واحد كلي ، فمع عدم نيته
لا يرتفع ، ونية خصوصية فرد منه لا تستلزم نيته.
ويمكن أيضا
الجواب بالصحة وان وقع الخطأ في النية ، لصدق الامتثال بذلك ووقوع القيد لغوا.
واعترض آخر
أيضا بمنع تداخل الأحداث عند تعدد أسبابها ، فقال : لم لا يجوز ان يحصل من كل منها
حدث على حدة لا بد لنفيه من دليل؟
أقول : وكأنه
لهذا احتمل العلامة في النهاية رفع ما نواه خاصة ، بناء
على انها أسباب متعددة ، قال : «فإن توضأ ثانيا لرفع آخر صح ، وهكذا إلى
آخر الأحداث» انتهى.
وفيه ـ مع ما
تقدم ـ ان المفهوم من الأخبار الواردة في تداخل الأغسال هو الاكتفاء بغسل واحد مع
تعدد أسبابه كما سيأتي ان شاء الله تعالى. وهو دليل على عدم تعدد الأحداث وان
تعددت الأسباب ، وإلا وجب لكل منها غسل ، والدليل على خلافه. والفرق بين حدثي
الوضوء والغسل في ذلك غير معقول ، مع انه لا قائل به.
وكيف كان
فالخطب عندنا بعد عدم ثبوت نية الرفع سهل. هذا في الوضوء.
واما الغسل فقد
اختلف فيه على أقوال : (أحدها) ـ التداخل مطلقا و (ثانيها) ـ عدمه مطلقا. و (ثالثها)
ـ التداخل مع انضمام الواجب لا بدونه و (رابعها) ـ التداخل لا مع انضمامه ، هكذا
نقل عنهم بعض متأخري المتأخرين من مشايخنا المحققين ، إلا ان الظاهر من تتبع
كلامهم في هذا المجال هو التفصيل في هذه الأقوال كما سنوضحه ـ ان شاء الله تعالى ـ
على وجه يرفع الاشكال.
فنقول : انه مع
اجتماع الأسباب المذكورة فلا يخلو اما ان يكون كلها واجبة أو كلها مستحبة أو
مجتمعة منهما ، فههنا صور ثلاث : (الاولى) ـ ان تكون كلها واجبة ، والأظهر الأشهر
الاكتفاء بغسل واحد مطلقا ، داخلها الجنابة أم لا ، عين الأسباب كلا أو بعضا أم لا
، اقتصر على نية القربة كما هو الأظهر غير الأشهر أو زاد عليها الرفع والاستباحة.
وذهب العلامة
في جملة من كتبه إلى انه مع انضمام الجنابة إلى غيرها ، فان نوى الجنابة أجزأ عنها
وعن غيرها ، وان نوى غيرها فظاهر كلامه في النهاية صحة الغسل ورفعه للحدث الذي
نواه خاصة دون حدث الجنابة ، معللا بان رفع الأدون لا يستلزم رفع الأعلى ، هذا مع
عدم اقترانه بالوضوء ، ومعه احتمل الرفع وعدمه. وظاهر كلامه في التذكرة الاستشكال
في صحة الغسل من أصله ، من جهة عدم ارتفاع ما عدا الجنابة مع بقائها لعدم نيتها
وعدم اندراجها تحت ما عداها ، ومن أنها طهارة قرنت بها
الاستباحة ، فإن صحت قرن بها الوضوء ، وحينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة بها.
ولا يخفى عليك ما في هذه التعليلات العليلة سيما في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة.
(الصورة
الثانية) ـ ان يكون بعضها واجبا وبعضها مستحبا ، والأظهر أيضا ـ كما استظهره جملة
من أصحابنا (قدس الله أرواحهم) ـ هو الاكتفاء فيها بغسل واحد مطلقا حسبما قدمنا من
التفصيل في الإطلاق.
وذهب الشيخ في
خلافه ومبسوطه ـ والظاهر انه هو المشهور بينهم كما صرح به بعض المتأخرين ـ إلى انه
ان نوى الجميع أو الجنابة أجزأ غسل واحد ، وان نوى غسل الجمعة مثلا لم يجزه ، لا
عن غسل الجنابة ، لعدم نيته ، ولا عن الجمعة ، لأن المراد به التنظيف وهو لا يحصل
مع بقاء الحدث.
واعترضه المحقق
في الثاني بأنه يشكل باشتراط نية السبب في الغسل المستحب ، وفي الثالث بأنه يجزئ
عن الجمعة خاصة ، إذ ليس المراد من المندوب رفع الحدث ، فيصح ان يجامعه الحدث كما
يصح غسل الإحرام من الحائض.
وذهب العلامة
في التذكرة إلى انه مع نيتهما معا يبطل الغسل ، ومع نية الجنابة خاصة يصح بالنسبة
إليها خاصة ، وان نوى الجمعة صح عنها خاصة مع بقاء حدث الجنابة ، ولو اغتسل ولم
ينو شيئا بطل. وههنا إشكال سيأتي التنبيه عليه ان شاء الله تعالى.
(الصورة
الثالثة) ـ ان تكون كلها مستحبة ، والأظهر أيضا الصحة حسبما قدمنا وذهب المحقق في
المعتبر إلى الصحة ان نوى الجميع ، واما إذا نوى بعضها اختص بما نواه ، قال : «لأنا
قد بينا ان نية السبب في المندوب مطلوبة ، إذ لا يراد به رفع الحدث ، بخلاف
الأغسال الواجبة ، لأن المراد بها الطهارة فتكفي نيتها وان لم ينو السبب» انتهى.
وهو صريح العلامة في التذكرة وظاهر الشهيد في الذكرى.
وفي المنتهى
قرب الاكتفاء بغسل واحد ولم يفصل ، وفي التحرير والقواعد والإرشاد حكم بعدم
التداخل ولم يفصل ، وهو ظاهر الدروس ، حيث نسب القول
بالتداخل إلى قول مروي.
ونقل عن المحقق
الشيخ علي في شرح القواعد انه رجح عدم التداخل في هذه الصورة ولو مع نية الأسباب ،
متمسكا بعدم الدليل على التداخل.
هذا. والذي يدل
على ما اخترناه ويؤيد ما رجحناه روايات مستفيضة :
(منها) ـ حسنة
زرارة قال : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة
والنحر والحلق والذبح والزيارة ، وإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد ،
ثم قال : وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها
وعيدها».
وهذه الرواية
وان كانت مضمرة في الكافي إلا ان الإضمار الواقع في أخبارنا ، سيما إذا كان المضمر
من أجلاء الرواة وأعيانهم ـ كما حققناه في موضع آخر ، وصرح به جملة من أصحابنا
المتأخرين ـ غير مضر ، مع ان هذه الرواية مسندة في التهذيب عن أحدهما (عليهماالسلام) وان كان في طريقها علي بن السندي وهو مجهول ، وقد
رواها ابن إدريس (رحمهالله) في مستطرفات السرائر ، ونقل انه مما انتزعه من كتاب
حريز ، فرواها عنه عن زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) وكتاب حريز أصل معتمد وكيف كان فالرواية صحيحة ، وهي
صريحة في المطلوب.
و (منها) ـ مرسلة
جميل عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأه ذلك الغسل
من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم».
وفي جملة من
الاخبار ما يدل على التداخل في خصوص بعض الأغسال :
كصحيحة عبد
الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) : قال :
__________________
«سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال : غسل الجنابة
والحيض واحد».
وفي رواية
الخشاب في مثل هذه الصورة «تجعله غسلا واحدا عند طهرها». ومثلها
رواية أبي بصير وغيرها.
وفي صحيحة
زرارة فيمن مات وهو جنب «يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميت ، لأنهما
حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة». الى غير ذلك من الأخبار التي يطول بنقلها المقام.
وأنت خبير بان
ظواهرها تعطي ان حكم الغسل كالوضوء في رفع الأحداث المتعددة واستباحة العبادات
المتعددة ، وهي بإطلاقها دالة على الصحة مع نية الأسباب كلا أو بعضا أو عدم نية شيء
منها مع قصد القربة.
وكما تدل على
تداخل الواجبات الصرفة والمجتمعة مع المندوبة صريحا كذلك تدل على تداخل المستحبات
الصرفة ، إذ من الظاهر البين أن تعداده (عليهالسلام) لجملة تلك الأغسال في حسنة زرارة إنما هو من قبيل التمثيل وبيان للاجتزاء بغسل واحد
لأسباب متعددة ، وحينئذ فذكر الجنابة معها ليس إلا كذكر غيره من سائرها ، ويؤيد
ذلك ويحققه قوله (عليهالسلام): «وإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد». فان
المراد بالحقوق هي الثابتة في الشريعة ولو على وجه الاستحباب ، وانه بملاحظة بعض
الغايات الحاصلة يجزئ عن جملة من الغايات الأخر السابقة على الفعل وان لم تلحظ حال
الفعل.
بل ربما يقال
وعن الغايات المتجددة بعد الفعل ، كما رجحه بعض مشايخنا المحدثين من متأخري
المتأخرين حسبما قررنا في الوضوء.
__________________
كما هو ظاهر
مرسلة جميل المتقدمة ومثلها رواية عثمان بن يزيد ـ واستظهر بعض مشايخنا
المتأخرين انه تصحيف عمر بن يزيد بقرينة رواية ابن عذافر عنه ، فتكون الرواية
صحيحة ـ عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من اغتسل بعد طلوع الفجر كفاه غسله إلى الليل في
كل موضع يجب فيه الغسل ، ومن اغتسل ليلا كفاه غسله الى طلوع الفجر».
فان ظاهرهما
الدلالة على الاجتزاء بالغسل الواقع أول النهار عن كل غسل نهاري ، وهو أعم من ان
تكون غايته حاصلة قبل الفعل أو متجددة بعده. والظاهر ان المراد بالوجوب واللزوم
فيهما مجرد الثبوت ، إذ يبعد الجزم بإرادة المعنى المصطلح عليه بين المتفقهة من
كلامهم (عليهمالسلام) سيما مع وجود القرينة الدالة على ما قلنا من عده (عليهالسلام) في حسنة زرارة في جملة ما يجزئ الغسل عنه بعد الفجر
جملة من الأغسال المستحبة ، بل هي الأكثر ، إذ لم يعد في صدر الرواية من الواجبات
سوى غسل الجنابة مع انك قد عرفت ان الظاهر ان ذلك انما خرج مخرج التمثيل ، على ان
احتمال الواجبة بناء على ما قلنا ـ غير ممكن ، لأن الأغسال الواجبة كغسل الجنابة
ونحوه مسببة عن إحداث خاصة ، ولا يعقل تقدم المسبب على سببه ، وحينئذ فتكون
الروايتان المذكورتان مخصوصتين بالأغسال المستحبة إذا تجددت غاياتها بعد الفعل ،
ولفظ «يجب» و «يلزم» في الروايتين ظاهر في التجدد.
واما ما ظنه
بعض مشايخنا المتأخرين ـ من قوله (عليهالسلام): «إذا اجتمعت لله عليك حقوق. الحديث». حيث انه دال
بمفهوم شرطه على عدم اجزاء الغسل الواحد قبل اجتماع الحقوق عنها ، فيكون منافيا
لظاهر الخبرين الأولين ـ
ففيه (أولا) ـ ان
دلالة الخبرين الأولين على ما ذكرناه ـ بناء على ما حققناه ـ
__________________
بالمنطوق نظرا إلى العموم المستفاد منهما ، ودلالة الخبر المشار اليه
بالمفهوم ، ولا شك في رجحان الأول على الثاني.
و (ثانيا) ـ انه
لا ينحصر المعنى المراد من ترتب الاجزاء على اجتماع الحقوق في انتفائه بانتفائها ،
بل يجوز أن يكون المراد ـ كما هو الظاهر ـ هو اجزاء غسل واحد مع اجتماع الحقوق لا
تعدد الغسل لكل واحد واحد من الحقوق ، ردا على من زعم التعدد. ومفهوم الشرط إنما
يكون حجة ما لم يظهر للترتب معنى آخر غير انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما هو مسلم
في الأصول.
وبما ذكرنا
يظهر دلالة الخبرين ـ كما هو الظاهر من غيرهما من أخبار المسألة أيضا ـ على عدم
وجوب تعيين الوجه والسبب في الغسل ، بل يكفي إيقاع غسل له صلاحية الانصباب على
الأغسال الواقعة في ذلك اليوم وان لم يلحظ تقدم سببها أو تأخره كالغسل الواقع بعد
الفجر ، فإنه لوقوعه بعده يصلح للانصباب على جميع الأغسال المتعلقة بذلك اليوم ،
وكذلك الواقع بعد الغروب بالنسبة إلى الأغسال الليلية.
ومما يدل على
عدم وجوب تعيين الوجه والسبب في الغسل كما قلنا ـ بل يكفي غسل له صلاحية ما ذكرنا
ـ ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا وتلقاه الأصحاب بالقبول : «ان من جامع في شهر
رمضان ونسي الغسل حتى خرج شهر رمضان ان عليه ان يغتسل ويقضي صلاته وصومه إلا أن
يكون قد اغتسل للجمعة ، فإنه يقضي صلاته وصومه إلى ذلك اليوم».
وبما ذكرنا
يظهر ان تداخل هذه الأغسال ـ كما دلت عليه الاخبار فرع اجتماعها في أمر كلي مشترك
بينها وهو الرفع ، ومنه يظهر قوة القول بكون الغسل وان كان مندوبا فإنه يكون رافعا
، ومن اخبار تلك المسألة يظهر قوة ما ذكرنا أيضا ، إذ لو لم تكن مشتركة فيما ذكرنا
ـ مع وجوب كون الأفعال تابعة للقصود والغايات المترتبة عليها كما
__________________
حققناه سابقا ، بل انه لا تحقق لها إلا بها حسبما دلت عليه تلك الأخبار
التي قدمناها في المقام الأول ـ لم يظهر للتداخل وجه بالكلية ، فإنه كما لا تداخل
بين الوضوء والغسل لتغاير الغرضين المترتبين على كل منهما ، فلا تداخل بين الغسلين
المختلفي الغايتين بل يجب لكل منهما غسل على حدة ، ولهذا ذهب البعض ـ كما تقدم
نقله ـ الى عدم التداخل مطلقا ، نظرا إلى اختلاف الأسباب فيجب اختلاف المسببات.
وان كان جملة
من أصحابنا من المتأخرين المانعين من رفع الغسل المستحب ، لما وردت عليهم الأخبار
الدالة على التداخل في الأغسال المستحبة ورأوا انه لا مندوحة عن العمل بها ،
تكلفوا للتفصي عن ذلك بوجوب تعيين الأسباب فيها ، وصرحوا بأنه لو نوى البعض خاصة
اختص صحة الغسل بما نواه. إلا ان الأخبار ـ كما عرفت ـ لا دلالة لها على ذلك بل هي
دالة على عدمه.
ولهذا ان بعضهم
ـ بعد ان اعترف بدلالة الأخبار على ما ذكرناه ـ استشكل فيما لو قصد معينا ، فكيف
يجزئ عما لم يعينه؟ ثم أجاب انه ليس بعيدا من كرم الله تعالى إيصال الثواب بهذا
الفعل الخاص في هذا الوقت المشتمل على شرعية هذه الأغسال مع فعله متقربا ، كما قيل
في حصول ثواب الجماعة للإمام مع عدم شعوره بأن أحدا يصلي وراءه وغير ذلك. انتهى.
وأيضا فإنه لما
وردت عليهم اخبار تداخل الأغسال الواجبة والمستحبة ، أشكل عليهم المخرج منها
باعتبار تضاد وجهي الوجوب والاستحباب ، واعتبار نية السبب ، بل لزوم اتصاف شيء
واحد بمتضادين ، وهو كون غسل واحد واجبا وندبا ، وهو بديهي البطلان
وأجابوا تارة
بعدم وجوب نية الوجه اما مطلقا أو فيما نحن فيه للاخبار ، وتارة باختيار نية
الوجوب ودخول المندوب فيه وسقوط اعتبار السبب هنا بمعنى تأدي إحدى الوظيفتين بفعل
الأخرى ، كما تتأدى صلاة التحية بقضاء الفريضة ، وصيام أيام البيض بصيام الواجب
فيها. وبالجملة فالواقع هو الغسل الواجب خاصة لكن الوظيفة المسنونة تتأدى به
وأنت خبير بان
ما ذكروه من الجواب وان اندفع به الإشكال بالنسبة إلى النية لكن الاشكال باعتبار
لزوم كون شيء واحد في نفس الأمر واجبا وندبا باق على حاله والاشكال المذكور على
هذا لا اختصاص له بنية الجميع كما ذكروا بل نية أحدهما أيضا بأن يقال لو كان الغسل
الواحد مجزئا عن الجميع لكان واجبا ومندوبا ، وهو محال لتضادهما.
وما ذكروه من
تأدي الوظيفة المستحبة بفعل الواجبة لا يحسم مادة الإشكال ، لأن تأدي وظيفة
المستحب ـ بمعنى استحقاق ما يترتب عليه من الثواب بفعل الواجب ـ تقتضي كون ذلك
الغسل مستحبا ، لان ما يكون امتثالا للأمر المذكور يلزم أن يكون ندبا قطعا.
وبالجملة فلما كان الوجوب والندب صفتين متضادتين فكما لا يتأدى الواجب بالإتيان
بالمندوب فكذا العكس.
واما ما ذكر ـ من
مثال صلاة التحية وصيام أيام البيض ـ فيمكن الجواب بان مقصود الشارع ثمة هو إيقاع
العبادة في هذا المكان والزمان المخصوصين من حيث هي أعم من ان يكون بوجه الوجوب أو
الندب ، لا خصوصية المندوب ، بخلاف ما نحن فيه بناء على ما يدعونه من عدم رفع
المندوب ، فإن خصوصية كل واحد ملحوظة على حدة ، لعدم الاشتراك في أمر كلي يجمعهما
حتى يجعل ذلك الأمر الكلي موجبا لاجزاء أحد الفردين عن الآخر واندراجه تحته.
وأجاب بعض
فضلاء متأخري المتأخرين عن الاشكال المذكور ـ بعد الاعتراف بلزوم ما ذكرنا ـ بالتزام
ذلك ومنع استحالته لاختلاف الجهة ، قال : «فان هذا الغسل الواحد من حيث انه فرد
لغسل الجمعة وامتثال للأمر به مستحب ، ومن حيث انه فرد لغسل الجنابة وامتثال للأمر
به واجب».
ولا يخفى ما
فيه أيضا ، فإن الطبيعة انما تكون متعلقة للتكاليف باعتبار اتحادها
مع أفرادها في الخارج ، فمتى تعلق التكليف الاستحبابي كان معناه في الحقيقة
يرجع الى ان ما تصدق عليه هذه الطبيعة يستحب فعله ويجوز تركه ، فلو كان بعض
إفرادها ما لا يجوز تركه لم يكن القدر المشترك بين تلك الأفراد جائز الترك ، فلا
يتعلق به التكليف الاستحبابي ، هذا خلف ، فإذا لا يجوز ان يكون الأمر الذي لا يجوز
تركه فردا للطبيعة المستحبة. نعم يمكن ان يكون أمر واحد فردا للطبيعة المستحبة
وفردا للطبيعة الواجبة فردا يجوز تركه بأن يأتي بفرد آخر لا مطلقا ، وهو خارج عن
محل البحث
وأنت خبير بأنه
إذا رجعت إلى ما قررناه آنفا ـ من ان الاخبار إنما وردت بالتداخل في جميع أقسام
الغسل كما اخترناه ، من حيث اشتراكها في ذلك الأمر الكلي ـ اندفع الاشكال من
المقام بحذافيره ، كما انه لا مجال لهذا الاشكال عندهم في تداخل الأغسال الواجبة
بعضها في بعض ، لاشتراكها في الرفع.
والعجب من جملة
من أصحابنا المرجحين لما اخترناه في مسألتي التداخل ورفع الغسل المندوب ، ضاق
عليهم الخناق في التفصي عن هذا الاشكال ، وأكثروا من الترديد في دفعه والاحتمال.
وسيأتي ـ ان
شاء الله تعالى في بيان المسألة الثانية ـ ما يزيد هذا المقام إيضاحا ويتسع له
الصدر انشراحا.
هذا ما اقتضاه
النظر القاصر باعتبار ما هو مقتضى الدليل ، واستفادة الفكر الفاتر من كلام تراجمة
الوحي والتنزيل. والاحتياط مما لا ينبغي تركه في جميع الأبواب ولا سيما هنا ، بقصد
الغايات المتعددة والأسباب.
(المقام الثاني
عشر) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) بنقل النية في مواضع :
(الأول) ـ ما
إذا اشتغل بلاحقة ثم ذكر سابقة ، سواء كانتا مؤداتين
أو مقضيتين ، أو المعدول عنها حاضرة والمعدول إليها فائتة أو بالعكس بشرط
ضيق الوقت عن الحاضرة.
(الثاني) ـ العدول
من القصر إلى الإتمام وبالعكس. (الثالث) ـ من الائتمام الى الانفراد وبالعكس. (الرابع)
ـ من الائتمام إلى الإمامة ، ومن الائتمام بإمام الى الائتمام بآخر. (الخامس) ـ من
الفرض إلى النفل. (السادس) ـ من النفل الى النفل.
إذا عرفت هذا
فنقول : (اما الموضع الأول) فقد اشتمل على اربع صور ، والمعلوم صحة ما عدا الرابعة
، لاعتضاده بالأخبار بل وعدم الخلاف كما سيأتي تحقيقه في موضعه ان شاء الله تعالى
واما الرابعة فمحل اشكال ، لعدم الوقوف فيها على نص ، وجزم الشهيد في البيان
بالعدول من القضاء إلى الأداء ، وكذا من السابقة إلى اللاحقة مع تضيق الوقت ،
وبالأولى منهما صرح في المفاتيح أيضا.
(الموضع الثاني)
ـ والقول فيه انه لا يخفى ان جواز العدول من أحد هذين الفرضين إلى الآخر انما يكون
في موضع يباح فيه كل منهما ، كالمسافر المريد لنية الإقامة ومن حصل في أحد المواطن
الأربعة ، فإنه لو صلى بقصد أحد الفرضين مع كون الآخر مباحا له ، فإنه يجوز له
العدول إلى الثاني :
وتفصيل القول
في ذلك اما بالنسبة إلى العدول من القصر إلى الإتمام ، فقد ورد في صحيحة علي بن
يقطين عن أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل خرج في سفر ثم تبدو له الإقامة وهو
في صلاته. قال : يتم إذا بدت له الإقامة». ومثلها رواية محمد بن سهل عن أبيه عن
أبي الحسن (عليهالسلام) والحكم هنا مما لا خلاف فيه.
__________________
والظاهر ان
الحكم مثله في المصلى في أحد الأماكن الأربعة لو عدل في أثناء صلاة القصر إلى
التمام وبالعكس أيضا ، عملا بعموم الدليل الدال على التخيير بالنسبة إليه في هذه
الأماكن ، وانه بمجرد دخوله في أحد الفرضين لا يزول حكم التخيير عنه.
وبالتخيير هنا
صرح المحقق في المعتبر واستحسنه جماعة ممن تأخر عنه : منهم ـ السيد السند في
المدارك وشيخنا المجلسي في البحار وغيرهما في غيرهما.
وينبغي تقييده
بما إذا لم يتجاوز محل العدول فيما إذا عدل من التمام إلى القصر ، وما لم يسلم على
الركعتين في العكس ، وإلا لأشكل ذلك فيما لو دخل بنية الإتمام ثم سلم على الركعتين
ساهيا ، أو دخل بنية القصر ثم صلى الركعتين الأخيرتين ساهيا ، فان الحكم بالصحة ـ بناء
على انه مخير في الإتيان بأيهما وقد اتى بأحدهما ـ مشكل ، لان الظاهر ان المكلف
وان كان مخيرا بين الفردين لكن باختياره أحدهما وقصده الامتثال به من غير عدول عنه
يتعين في حقه ويترتب عليه أحكامه من الابطال بزيادة ما زيادته مبطلة ونقصان ما
نقصانه مبطل ، وإلا للزم الحكم بالصحة بناء على استحباب التسليم فيما لو صلى بنية
التمام ثلاث ركعات ثم سلم على الثالثة ساهيا ، فإنه قد أوجد الصلاة المقصورة في ضمن
هذه الثلاث ركعات وان كانت غير مقصودة ، فتكون مجزئة ، بل ولو سلم عامدا أو أحدث
والحال هذه في أثناء الركعتين الأخيرتين أو فعل ما يبطلها ، فإنه تكون صلاته صحيحة
باعتبار اشتمالها على الصلاة المقصورة في الجملة. والحكم بالصحة في أمثال ذلك خارج
عن مقتضى الأصول المقررة والقواعد المعتبرة.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام الأردبيلي (قدسسره) في شرح الإرشاد ، حيث قال : «الظاهر انه لو نوى القصر
ثم تممها نسيانا أو عمدا مع النقل تصح الصلاة وبالعكس» انتهى.
واما بالنسبة
إلى العدول من الإتمام إلى القصر فقد عرفت الكلام فيه بالنسبة
إلى المواضع الأربعة. واما في قاصد الإقامة فهو إنما يتم بالنسبة إلى أول
فريضة يريد إيقاعها بنية التمام ، إذ بعدها لا مجال للعدول. لوجوب الإتمام حينئذ
حتى يقصد المسافة.
وقد اختلف كلام
الأصحاب في هذا المقام ، فالمنقول عن الشيخ في المبسوط وابن الجنيد وأبي الصلاح
وجوب المضي على التمام في تلك الفريضة حتى يخرج مسافرا. وتردد المحقق في المعتبر
والشرائع ، نظرا إلى افتتاح الصلاة على التمام وهي على ما افتتحت عليه ، وإلى عدم
الإتيان بالشرط وهو الصلاة على التمام. وفصل في التذكرة والمختلف والقواعد بتجاوز
محل القصر فلا يرجع ، وبعدم تجاوزه فيرجع ، لانه مع التجاوز يلزم من جواز الرجوع
إبطال العمل المنهي عنه ، ومع عدم تجاوزه يصدق انه لم يصل فريضة على التمام ،
واليه ذهب في البيان والدروس. وأطلق في المنتهى العود إلى التقصير ، لعدم حصول
الشرط ، واختاره السيد السند في المدارك وشيخنا المجلسي في كتاب البحار.
والمسألة غير
منصوصة على الخصوص ، الا انه لما كان فرض المسافر التقصير وانتقال فرضه إلى آخر
يحتاج إلى دليل ـ وغاية ما يستفاد من صحيحة أبي ولاد التي هي مستند هذا الحكم هو صلاة فريضة على التمام بنية
الإقامة. وبالعدول في أثنائها وان تجاوز محل القصر لا يصدق حصول فريضة على التمام
، فينتفي الشرط وبانتفائه ينتفي المشروط ـ كان الأظهر هو القول الأخير. وحينئذ
فمتى كان العدول بعد تحقق الزيادة المبطلة يتعين الإعادة ، لفوات شرط التمام ،
وبطلان المقصورة بما اشتملت عليه من الزيادة ، وإلا صحت صلاته قصرا.
(الموضع الثالث)
ـ وهو العدول من الائتمام إلى الانفراد وبالعكس ، ويشتمل على صورتين :
(إحداهما) ـ العدول
من الائتمام إلى الانفراد ، واستدلوا عليه بصحيحة
__________________
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يكون خلف امام فيطول في التشهد ،
فيأخذه البول أو يخاف على شيء ان يفوت أو يعرض له وجع ، كيف يصنع؟ قال : يسلم
وينصرف ويدع الامام».
وعندي في
الاستدلال بهذه الرواية إشكال ، وذلك لأنها وان دلت على جواز الانصراف مع العذر
لكنها قد دلت على كون محله التشهد ، وانه بسبب تطويل الإمام في التشهد ، والظاهر
ان المراد بتطويله عبارة عن الإتيان بما اشتمل عليه من الأذكار المستحبة في التشهد
وهو التشهد المستحب ، وحينئذ فمن المحتمل قريبا ان الأمر بالانصراف انما هو في ضمن
تلك الأذكار المستحبة بعد الإتيان بالصيغة الواجبة ، وعلى هذا فلا دلالة في هذا
الخبر على المدعى ، لأنهم قد صرحوا بجواز تسليم المأموم قبل الامام وان كان لا
لعذر ، وجعلوها مسألة مستقلة غير ما نحن فيه ، واستدلوا عليها بصحيحة أبي المغراء
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يصلي خلف الامام فيسلم قبل الامام؟ قال : ليس عليه بذلك بأس». واستدلوا
أيضا بالرواية السابقة في تلك المسألة ، وكأنه لفهمهم منها الأولوية لهذه الصورة.
والظاهر عندي ـ
لما عرفت ـ هو الاختصاص بهذه الصورة ، على ان الرواية المذكورة ـ بناء على ما ذكروا
ـ معارضة بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل يكون خلف الامام فيطيل الامام
التشهد. قال : يسلم ويمضي لحاجته ان أحب». فإنها دالة على جواز الانفراد لا لعذر
مع تعين محل المفارقة فيها كتلك الرواية. وعلى ما ذكرنا من تخصيص ذلك بما بعد
التشهد يزول الاشكال عن الجميع مع ان العذر المذكور في صحيحة علي بن جعفر انما وقع
في كلام السائل. هذا مع العذر.
واما مع عدمه
فالمشهور أيضا جواز العدول مع نية الانفراد ، وذهب الشيخ في المبسوط إلى العدم.
وأدلة كل من
الطرفين لا تخلو من دخل ، إلا ان يقين البراءة من التكليف
__________________
الثابت يقينا يعضد ما ذهب إليه في المبسوط.
ويؤيده أيضا صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) انه «سأله عن إمام أحدث فانصرف ولم يقدم أحدا ، ما حال
القوم؟ قال : لا صلاة لهم إلا بإمام ...».
ومن مواضع
العدول في الصورة المذكورة ما لو تبين للمأموم في أثناء الصلاة بطلان صلاة الإمام
، فإنه يعدل إلى الانفراد ، لصحيحة زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن رجل صلى بقوم ركعتين ثم أخبرهم انه ليس
على وضوء. قال : يتم القوم صلاتهم ، فإنه ليس على الامام ضمان».
(الصورة
الثانية) ـ العدول من الانفراد إلى الائتمام وهو قول الشيخ في الخلاف مدعيا عليه
الإجماع ، ونفى عنه البأس العلامة في التذكرة ، واختاره السيد العلامة المحدث نعمة
الله الجزائري (قدسسره) في رسالة التحفة ، ونقل من حجة المنع من ذلك التعويل
على ما روى : «ان الشارع في فريضة ينقلها إلى النفل ويجعلها ركعتين
إذا أحرم إمام الجماعة». فلو ساغ العدول لم يكن ذلك. ثم أجاب بأن القطع والنقل
انما شرعا تحصيلا لصلاة الجماعة من أول الصلاة. انتهى.
والأظهر ـ كما استظهره
جمع من متأخري المتأخرين ـ العدم ، لعدم ثبوت التعبد بمثله ، مؤيدا بما ذكره السيد
المشار اليه. وما أجاب به (قدسسره) عن ذلك منظور فيه ، بأنه لو كان العلة ما ذكره لكان
الأنسب بذلك هو العدول دون النقل ، إذ لا يخفى انه متى كان الغرض إدراك الصلاة من
أولها مع الامام والمسارعة إلى ذلك ، فان العدول أقرب إلى تحصيله ، إذ ربما كان في
النقل إلى النفل ما يفوت به الغرض المذكور
__________________
سيما إذا كان المصلي المنفرد لم يأت بشيء من صلاته سوى تكبيرة الإحرام ،
وبناء صلاة الجماعة على التخفيف فربما يفوته بالنقل الإدراك للركعة الأولى كما لا
يخفى ، ولا سيما إذا جعلنا الموضع الذي يكلف المنفرد بالنقل فيه ما إذا اشتغل
الإمام بشيء من واجبات الصلاة دون ما يقدم من المندوبات ، كما هو أحد القولين في
المسألة. وبالجملة فما ذكره (رحمهالله) في الجواب ليس بذلك المستجاب في هذا الباب.
(الموضع الرابع)
ـ وهو العدول من الائتمام إلى الإمامة ، ومن الائتمام بإمام الى الائتمام بآخر ،
وهو منصوص في مواضع ثلاثة :
(أحدها) ـ ما
إذا أحدث الإمام في أثناء الصلاة ، فإنه يستخلف بعض المأمومين يتم بهم الصلاة.
ويدل عليه
روايات عديدة : منها ـ صحيحة معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يأتي المسجد وهم في الصلاة وقد سبقه الإمام
بركعة أو أكثر. فيعتل الإمام فيأخذ بيده ويكون ادنى القوم اليه فيقدمه. فقال : يتم
صلاة القوم ثم يجلس. الحديث».
وما رواه في
الفقيه مرسلا عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) وفيه : «... ثم لينصرف وليأخذ بيد رجل فليصل مكانه.
الحديث».
و (ثانيها) ـ ما
إذا حدث بالإمام حدث من موت أو إغماء ، فان المأمومين يستخلفون بعضهم ليتم بهم ،
وعليه تدل
صحيحة الحلبي «في رجل أم قوما فصلى بهم ركعة ثم مات؟ قال : يقدمون رجلا آخر ويعتدون
بالركعة. الحديث».
و (ثالثها) ـ ما
لو ائتم المتمم بالمقصر ، فإنه بعد تمام صلاة الإمام يتم بهم بعضهم
__________________
وعليه تدل صحيحة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا يؤم الحضري المسافر ولا المسافر الحضري. فإذا
ابتلى بشيء من ذلك فأم قوما حاضرين ، فإذا أتم الركعتين سلم ثم أخذ بيد بعضهم
فقدمه فأمهم. الحديث». ولا اعلم خلافا في هذه المواضع الثلاثة.
بقي هنا صور
ينبغي التنبيه عليها :
(إحداها) ـ هل
يجوز العدول من الائتمام بإمام في أثناء الصلاة إلى الائتمام بآخر لو حضرت جماعة
أخرى في ذلك المكان؟ قولان ، اختار أولهما العلامة في التذكرة وتبعه المحدث
الكاشاني في المفاتيح. ورد بعدم ثبوت التعبد به. وهو كذلك.
و (ثانيها) ـ لو
صلى الإنسان مأموما وكان مسبوقا ، فبعد فراغ الامام وانفراده بما بقي عليه هل يجوز
الاقتداء به من المأمومين المشاركين له في المسبوقية وغيرهم أو لا؟ الظاهر العدم ،
لأن العبادة توقيفية ، والنص انما ورد في تلك المواضع الثلاثة ، ومجرد الإلحاق بها
قياس.
واستشكل
العلامة في التحرير ، حيث قال : «ولو سبق الامام اثنين ففي ائتمام أحدهما بصاحبه
بعد تسليم الإمام إشكال» انتهى.
وكأن وجه
الاشكال ، من جهة المساواة للموضع الثالث من المواضع المتقدمة فيصح الائتمام ، ومن
حيث عدم النص القاطع على ذلك ، والعبادة توقيفية. والإلحاق لمجرد المساواة قياس.
و (ثالثها) ـ لو
صلى مأموما ثم عدل في أثناء الصلاة إلى نية الإمامة ببعض المأمومين أو غيرهم بعد
نقل نيته إلى الانفراد أو عدمه.
و (رابعها) ـ ان
ينقل الامام نيته في أثناء الصلاة إلى الائتمام ببعض المأمومين والمأموم نيته إلى
الإمامة.
__________________
ولم أقف لأحد
من الأصحاب على تصريح في هاتين الصورتين. ومقتضى ما قلنا سابقا عدم الجواز ، لما
عرفت.
(الموضع الخامس)
ـ العدول من الفرض إلى النفل وقد ورد النص به في مواضع :
(أحدها) ـ لو
دخل الإنسان في الصلاة منفردا فأقيمت الجماعة ، فإنه يعدل بنيته من الفرض إلى
النفل ويتم صلاته ركعتين ثم يلحق بالإمام.
ويدل عليه
روايات : منها ـ صحيحة سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة ، فبينما هو قائم
يصلي إذ أذن المؤذن واقام الصلاة. قال : فليصل ركعتين ثم ليستأنف الصلاة مع الامام
، ولتكن الركعتان تطوعا».
وظاهر الرواية
ان تعلق الحكم بالمصلي ـ من نقل صلاته إلى النافلة ـ متى أقيمت الصلاة ، وهو أحد
القولين في المسألة. وقيل انه لا يتعلق به إلا بعد اشتغال الإمام بشيء من واجبات
الصلاة.
و (ثانيها) ـ لو
نسي قراءة الجمعة والمنافقين في ظهر الجمعة وقرأ غيرهما حتى تجاوز النصف ، فإنه
ينقل الفريضة إلى النافلة ويتمها ركعتين ثم يستأنف الظهر ، كذا نقل عن الصدوق (رحمهالله).
والخبر الذي
وقفت عليه في هذه المسألة إنما تضمن صلاة الجمعة ، وهو صحيحة صباح بن صبيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل أراد ان يصلي الجمعة فقرأ بقل هو الله أحد؟ قال
: يتمها ركعتين ثم يستأنف». ولم أقف بعد التتبع على خبر سواه في المسألة.
__________________
وخص الحكم في
البيان بصلاة الجمعة. ونقل عن ابن إدريس انه أنكر النقل الى النفل هنا.
وعد في
المفاتيح في هذا الموضع أيضا ناسي الأذان والإقامة ، مستندا إلى جواز القطع له
والعدول اولى. وهو عجيب منه (قدسسره).
ثم انه بعد ذلك
استظهر جواز العدول لمطلق طلب الفضيلة ، قال : «لاشتراك العلة الواردة في النصوص
عليه» وهو منه أعجب ، فإن ما استند اليه من الاشتراك في العلة غير خال من العلة ،
إذ الفضيلة التي ظنها مجوزة للعدول بزعمه اما ان يريد بها في المعدول اليه أو في
الفعل المستأنف في الموضع الذي يكون كذلك ، كما في هذا الموضع. وعلى الأول فبطلانه
أوضح من ان يبين ، حيث ان اخبار الموضع الأول إنما تضمنت العدول إلى السابقة لتقدم
اشتغال الذمة بها مع وجوب مراعاة الترتيب. واما اخبار الموضع الثاني فإنما هو
لإباحة كل من الأمرين له ، واما اخبار الموضع الثالث فإنما هو للرخصة بل المعدول
إليها مفضولة ، وأما اخبار الموضع الرابع فإنما هو في فريضة واحدة لإتمامها ، واما
اخبار هذا الموضع فإنما المعدول إليه نافلة وهي مفضولة. واما على الثاني فيما
ذكرنا انما يتمشى له في اخبار هذا الموضع ، ولم نقف في شيء منها على علة منصوصة
فيها حتى يتم له البناء عليها وان أمكن استفادة ذلك منها بحسب المقام ، الا انه
غير مجوز لان يبنى عليه شيء من الأحكام ، بل هو محض القياس المنهي عنه في اخبار
أهل الذكر (عليهمالسلام).
(الموضع السادس)
ـ النقل من النفل إلى النفل ، وقد نقل السيد السند (قدسسره) في المدارك عن الأصحاب التصريح بالجواز إذا شرع في
نافلة لاحقة ثم ذكر السابقة. ولم أقف في ذلك على نص يوجب المصير اليه.
(المقام الثالث
عشر) ـ لو شك في نية الصلاة وقد كبر فالظاهر انه لا خلاف في الصحة والمضي في صلاته
، للأخبار المستفيضة الدالة على انه بالدخول في غير المشكوك
فيه يمضي في صلاته .
ولو سهى عن
النية حتى كبر ، فمقتضى كلام الأصحاب ـ القائلين بوجوب المقارنة في النية. وانها
عبارة عن ذلك الحديث النفسي والتصوير الفكري ـ البطلان.
ومقتضى ما
قدمنا من التحقيق في معنى النية انه ان كان السهو انما عرض له حال التكبير مع
استصحابه لها حال القيام للصلاة والشروع في مستحباته المتقدمة ، فلا وجه للبطلان.
ولو نوى
الفريضة ودخل فيها ثم نوى النافلة سهوا واتى ببعض الركعات أو بالعكس ، فان كان قد
علم حال نفسه عند القيام للصلاة بأنه في الصورة الأولى إنما قام للفريضة وفي
الثانية انما قام للنافلة ، بنى على ما قام له وجدد النية لما بقي وصح ما مضى من
صلاته ، وان لم يعلم حاله ثمة بطلت صلاته. وهكذا لو ذكر القيام للفريضة وانها ظهر
مثلا ، ثم سهى في الأثناء واتى ببعض أفعالها على انها العصر ثم ذكر ، فإنه يجدد
النية لما بقي ويمضي.
ويدل على ذلك
روايات : منها ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن عن عبد الله بن المغيرة قال : «في
كتاب حريز انه قال : اني نسيت انى في صلاة فريضة حتى ركعت وانا أنويها تطوعا؟ قال
: فقال : هي التي قمت فيها : ان كنت قمت وأنت تنوي فريضة ثم دخلك الشك فأنت في
الفريضة ، وان كنت دخلت في نافلة فنويتها فريضة فأنت في النافلة ...».
ورواية عبد
الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل قام في صلاة فريضة فصلى ركعة وهو
ينوي أنها نافلة؟ قال : هي التي قمت
__________________
فيها ولها ، وقال : إذا قمت وأنت تنوي الفريضة فدخلك الشك بعد ، فأنت في
الفريضة على الذي قمت له ، وان كنت دخلت فيها وأنت تنوي نافلة ثم انك تنويها بعد
فريضة فأنت في النافلة ، وانما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أول صلاته».
ورواية معاوية
بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل قام في الصلاة المكتوبة فسهى فظن أنها نافلة ،
أو قام في النافلة فظن أنها مكتوبة. قال : هي على ما افتتح الصلاة عليه».
والظاهر أيضا
ثبوت الحكم المذكور وان لم يذكر إلا بعد الفراغ ، كما هو ظاهر إطلاق الرواية
الأخيرة.
وهل المراد
بالوقت الذي عليه المدار في البناء ، هو حال النهوض والقيام للصلاة من التوجه لها
بالأذان والإقامة ونحوها من الأفعال المتقدمة ، أو حال النية وتكبيرة الإحرام؟
الظاهر من ظاهر
الأخبار الأول ، ويؤيده ما صرح به جماعة من الأصحاب من انه لو لم يعلم ما نواه فإن
الصلاة تبطل ، إلا إذا علم ما قام له فإنه يبني عليه ، عملا بالظاهر من انه نوى ما
في نفسه ان يفعله.
واستدل عليه
بعضهم بهذه الأخبار المنقولة هنا.
ورد بأنها لا
دلالة لها على ذلك ، إذ مدلولها انما هو ما لو نوى شيئا ثم قصد خلافه سهوا. فإنه
يبنى على ما نوى أولا ولا يضره ما فعله بقصد غيره.
وفيه أن الظاهر
من قوله (عليهالسلام) : «هي التي قمت فيها ولها» انه يبنى على ما قصده حين
قيامه وتوجهه للصلاة. أعم من أن يكون نسي ما نواه أولا ولم يعلمه على اليقين ، أو
شك فيه ، أو ذكره ولكن عرض له السهو بان نوى غيره ، إذ خصوص السؤال عن ذلك الفرد
لا يخصص كما قرر في محله ، مع أن هذا المورد صرح بأنه لو علم ما تعين عليه وقام له
ثم عرضه الشك في نيته ، لا يبعد البناء عليه.
__________________
(المقام الرابع
عشر) ـ نقل عن بعض متأخري المتأخرين ان من لم يكن من نيته فعل الصلاة بعد الوضوء
لا يجوز له الوضوء ولو فعله كان باطلا ، بل لو كان من نيته فعل الصلاة ولم يفعلها
تبين بطلانه.
ونقل عن فخر
المحققين (رحمهالله تعالى) ان من كان بالعراق ونوى بوضوئه استباحة الطواف
صح وضوؤه ، ومثله نقل عن الشهيد في البيان.
واستشكله
المحقق الشيخ علي (قدسسره) بأنه نوى امرا ممتنعا فكيف يحصل له؟
وأجيب بأن
المنوي ليس وقوع الطواف بالفعل بل استباحته ، فالمنوى غير ممتنع والممتنع غير
منوي.
وتوضيحه ـ على
ما حققه شيخنا البهائي (قدسسره) في بعض فوائده ـ انه لا ريب ان كون المكلف على حالة
يتمكن معها من الدخول في عبادة مشروطة بالطهارة ـ كالصلاة والطواف مثلا ـ أمر راجح
في نظر الشارع ، فلو توضأ المكلف بقصد صيرورة الصلاة مباحة له ـ اعني حصول تلك
الحالة ـ فينبغي ان تحصل له ، وكونه يأتي بعد ذلك بالصلاة أو لا يأتي أمر خارج عن
القصد المذكور ، فان حصول تلك الحالة أمر مغاير لفعل الصلاة بغير مرية. نعم لو نوى
بالوضوء فعل الصلاة مجردا عن استباحتها ولم يكن من قصده فعلها ، لكان متلاعبا
بنيته. فلا بعد في القول بفساد طهارته حينئذ.
أقول : لا يخفى
ما في كلام البعض المذكور من الضعف والقصور :
(أما أولا) ـ فلعدم
الدليل على ما ذكره ، بل الدليل على خلافه واضح السبيل
و (اما ثانيا)
ـ فلما فيه من الإجمال بل الاختلال ، فإنه ان أراد بذلك ما لو كان في الوقت ، فإنه
لا يخفى ان الواجب عليه هو الوضوء والصلاة ، والإتيان بأحد الواجبين وان لم يأت بالآخر
بعده غير مضر بصحته. فمن اين له انه لا يجوز له الوضوء وهو مخاطب به وواجب عليه؟
غايته انه تجب عليه الصلاة معه ولكن وجوب الصلاة موسع عليه ، وحينئذ فلو توضأ في
أول الوقت لأجل ان يصلي في آخره فلا مانع
من صحته ، ومدعى الابطال عليه الدليل ، وليس فليس. وان أراد في غير الوقت ،
فإنه لا يخفى ان للوضوء غايات متعددة ، وان قصد ايها كان موجب لصحة الوضوء وان لم
يقصد الصلاة ، ومع ذلك فإنه يجوز له الدخول به في الصلاة.
والحق هو ما
ذكره شيخنا المذكور (قدسسره) لما تقدم تحقيقه في المقام العاشر مما حاصله ان من نوى
بوضوئه إحدى الغايات المتقدمة ، فلا ريب في صحة وضوئه وجواز دخوله به في الصلاة
وغيرها مما هو مشروط بالطهارة ، وان التحقيق ان الغاية الحقيقة للوضوء إنما هو قصد
الرفع وان تلك الغايات إنما تترتب عليه.
الا ان قول
شيخنا المشار إليه في آخر كلامه : «نعم لو نوى بالوضوء فعل الصلاة. إلخ» لا يخلو
من مناقشة ، فإنه لا يخفى انه متى كان المكلف عالما بأنه لا يجوز له الدخول في
الصلاة بغير وضوء وقد قصد بوضوئه هذا الإتيان بالصلاة بعده ، فهذا هو معنى
الاستباحة شرعا وان لم يتصور هذا العنوان بخصوصه ولم يخطر بباله ، إذ لا معنى
لاستباحة الصلاة إلا اعتقاد كونها مباحة له بعد الوضوء وانها لا تباح له قبله ،
فقصد الدخول فيها والإتيان بها بهذا الوضوء هو عين قصد الاستباحة. ولعل مبنى كلامه
(قدسسره) على ما هو المشهور من تصور هذا العنوان بخصوصه وإخطاره
بباله ، حيث ان النية عندهم عبارة عن هذا الحديث النفسي والتصوير الفكري ، وإلا
فإن مرجع هذه النية التي فرضها وزعم بطلان الطهارة بها إلى ما ذكره أولا. والله
العالم.
(المقام الخامس
عشر) ـ قال السيد السند (قدسسره) في المدارك ـ بعد ان استدل على وجوب النية في الوضوء
بآية «وَما
أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...» وبالأخبار المتقدمة في المقام الأول ـ ما صورته : «واعلم ان الفرق ـ بين ما تجب فيه النية
من الطهارة ونحوها ، وما لا تجب من إزالة النجاسة وما شابهها ـ ملتبس جدا ، لخلو
الاخبار من هذا البيان. وما قيل ـ من ان النية انما تجب في الأفعال
__________________
دون التروك ـ منقوض بالصوم والإحرام. والجواب بان الترك فيهما كالفعل تحكم.
ولعل ذلك من أقوى الأدلة على سهولة الخطب في النية وان المعتبر فيها تخيل المنوي
بأدنى توجه. وهذا القدر أمر لا ينفك عنه أحد من العقلاء كما يشهد به الوجدان ، ومن
هنا قال بعض الفضلاء : لو كلفنا الله الصلاة وغيرها من العبادات بغير نية كان
تكليف ما لا يطاق. وهو كلام متين لمن تدبره». انتهى.
أقول : الظاهر
ان وجه الإشكال الذي أشار إليه (قدسسره) في ذلك هو ان كلا من الطهارة ونحوها من العبادات
وازالة النجاسة وما شابهها مما قد وقع التكليف به من الشارع ، مع انهم قد أوجبوا
النية في القسم الأول دون الثاني ، ووجه الفرق غير واضح.
وأنت خبير بأنه
اما ان يراد بالنية هنا المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن مجرد القصد إلى الفعل ،
كما يشعر به آخر كلامه من قوله : «وان المعتبر فيها تخيل المنوي. إلخ» أو المعنى
الشرعي الذي هو القصد المخصوص المقرون بالقربة ، كما يشعر به صدر كلامه من
الاستدلال بالآية والأخبار المشار إليها. وعلى الأول يكون الإشكال في إزالة
النجاسة من جهة انه لا يجب في إزالتها القصد إلى ذلك ، بل لو زالت بوقوع الثوب في
الماء أو اصابة المطر له اتفاقا أو نحو ذلك كفى في الحكم بالطهارة. وعلى الثاني
أيضا انه متى كان الأمر كذلك فبالطريق الاولى ان لا يشترط في الإزالة القربة ولا
نية الندب ولا غيرهما من قيود النية الشرعية.
وجملة من
الأصحاب قد أجابوا عن الاشكال المذكور بالفرق بين المقامين ، وان النية إنما تجب
في الأفعال من حيث وقوعها على أنحاء متعددة ، كما تقدم منا بيانه في المقام الأول فلا بد من النية في تميز بعضها عن بعض ، واما التروك
فباعتبار كونها مرادة للشارع لكن لا على وجه مخصوص بل بأي وجه تحققت ، فليس هناك
وجوه متعددة
__________________
لمتعلق التكليف يتوقف الامتثال على تعيين فرد منها بالنية ، بل يكفي في
حصول المطلوب شرعا مجرد الترك وان كان لا عن قصد ، وفي حكمها الأفعال المطلوب بها
ترك شيء آخر كمحل البحث ، فإن إزالة النجاسة لما كان المطلوب بها ترك النجاسة
كانت ملحقة بالتروك
وأورد عليهم
الانتقاض بالصوم والإحرام ، فان كلا منهما مفسر بترك الأشياء المعينة.
أجابوا بأن
الترك هنا كالفعل في وجوب النية ، قالوا : ان متعلق التكليف اما فعل محض أو ترك
كالفعل ، وكل منهما مما تجب فيه النية ، أو ترك محض أو فعل كالترك ، وهما مما لا
تجب فيه النية.
ولا يخفى ما في
الجواب المذكور من القصور ، كما أشار إليه السيد السند (قدسسره) والتحقيق في هذا المقام ما افاده المحدث الأمين
الأسترآبادي في تعليقاته على المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل عبارة الكتاب ـ «قلت :
تحقيق المقام ان المطلوب من العبد قد يكون إيجاد أثر في الخارج ، كالقراءة والركوع
والسجود ، وقد يكون إيجاد أثر في الذهن ، كعزمه ان لا يتعمد شيئا من المفطرات من
طلوع الفجر إلى المغرب بشرط ان لا يقع منه ما ينافيه. وحقيقة الصوم هو هذا العزم
المقيد بالشرط المذكور ، ولذا لو نوى وأخذه النوم إلى المغرب صح صومه ، ولو لم ينو
واجتنب المفطرات لم يصح صومه كما تقرر. فان كانت حقيقة الإحرام عزمه على ان لا
يتعمد شيئا من الأمور المعينة من حين التلبية إلى وقت الحلق والتقصير بشرط الإتيان
بالتلبية ، فهو من الباب الثاني وان كانت حقيقته الحالة المترتبة على نية الحج
والعمرة والإتيان بأول جزء منه وهو التلبية ـ كما هو الظاهر عندي من الروايات ـ فليس
من الباب الثاني ، بل هو من الأحكام المترتبة على مجموع النية والإتيان بجزء من
المنوي ، نظير حرمة منافيات الصلاة على المصلي بسبب نية الصلاة وتكبيرة الإحرام.
وقد يكون وجود حالة كطهارة ثوبه حال صلاته ،
ففي الصورة الأولى تتميز العبادة عن غيرها كاللعب بالنية. وفي الصورة
الثانية العبادة المطلوبة نفس العزم المقيد بقيد ، فلا حاجة لها إلى عزم وارادة
أخرى ، وهو واضح. واما الصورة الثالثة فليس المطلوب فيها إيجاد أثر ، ولذا لو كانت
طهارة الثوب حالة اصلية مستصحبة أو حاصلة بفعل الغير أو بغير فعل أحد كأن يقع في
النهر أو يصيبه السيل ، لكفت. وفي الصورة الأولى لما كان المطلوب إيجاد اثر لم يجز
ان يغسله غيره أو يوضئه ، ومع الاضطرار لا يصح ذلك أيضا إلا بإرادته كما قرر في
موضعه» انتهى كلامه. وهو جيد متين.
الركن الثاني ـ غسل الوجه
وفيه مسائل (الأولى)
ـ هل الواجب في الغسل ما يجري فيه جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو معاون
، أو يرجع فيه إلى العرف ، أو يكفي الدهن؟ وعلى الثالث فهل يخص بالضرورة ، أو
مطلقا؟ أقوال : المشهور الأول ، وبالثاني قال جماعة من متأخري المتأخرين ،
والتخصيص بالضرورة في الثالث نقله في الذكرى عن الشيخين.
ويدل على
اعتبار الجريان في الغسل ـ بأي من المعنيين الأولين ـ انه المتبادر من معنى الغسل
لغة وعرفا.
ومن الأخبار قوله
(عليهالسلام) في حسنة زرارة : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد
أجزأه». ولا قائل بالفرق بين الغسل والوضوء.
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد ان يغسلوه ولا
يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء».
__________________
وقوله (عليهالسلام) في رواية محمد بن مروان : «يأتي على الرجل ستون سنة أو سبعون سنة ما قبل الله
منه صلاة. قلت : وكيف ذلك؟ قال : لانه يغسل ما أمر الله بمسحه».
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان
ذلك هو المفترض ، لم يكن ذلك بوضوء ...».
والتقريب في
هذين الخبرين الأخيرين انه لو لا اعتبار الجريان في مسمى الغسل لما حصل الفرق بينه
وبين المسح المقابل له بظاهر الآية.
ويؤيده أيضا ما
اشتملت عليه اخبار الوضوء البياني من الصب والإفاضة والإسدال والغرفة لكل عضو.
ويدل على
الثالث مطلقا اخبار عديدة : منها ـ قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم : «انما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه
ومن يعصيه ، وان المؤمن لا ينجسه شيء. إنما يكفيه مثل الدهن».
وقوله (عليهالسلام) في رواية محمد بن مسلم : «يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده ، والماء
أوسع من ذلك».
وقوله في صحيحة
زرارة : «... إذا مس جلدك الماء فحسبك ...».
وقوله في الغسل
: «وكل شيء أمسسته الماء فقد أنقيته».
وقوله في الغسل
والوضوء : «يجزي منه ما أجزأ من الدهن الذي يبل الجسد».
__________________
وقوله (عليهالسلام) : «يجزئك في الغسل والاستنجاء ما بلت يدك».
والدهن كما
يحتمل انه من الأدهان اي الإطلاء من الدهن كما هو صريح بعضها ، يحتمل أيضا انه من
دهن المطر الأرض إذا بلها بلا يسيرا ، وعلى التقديرين فلا جريان فيه قطعا على
الأول وظاهرا على الثاني.
وربما تحمل
الأخبار كملا على المعنى الأول ويقيد مطلقها بمقيدها.
والأكثر حملوا
هذه الأخبار على المبالغة في أقل الجريان ، وظواهرها ـ كما ترى ـ لا تقبله.
وأنت خبير بان
ما اشتمل من الأخبار المتقدمة على الجريان صريحا أو مفهوما لا دلالة فيه على
الانحصار في هذا الفرد وعدم اجزاء ما عداه ، ولا في شيء من الأخبار الأخيرة على
الانحصار فيه وعدم جواز ما زاد عليه ، حتى تثبت المنافاة بين اخبار الطرفين ويرتكب
الحمل في أحد الجانبين ، بل ربما دل لفظ الاجزاء في بعض الأخبار الأخيرة على انه
أقل المجزي المستلزم لثبوت مرتبة فوقه.
فلم يبق حينئذ
إلا دعوى اعتبار الجريان في مسمى الغسل.
وفيه ان
المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته ان ذلك غير مفهوم من كلام
أهل اللغة ، قال : «لعدم تصريحهم باشتراط جريان الماء في تحققه ، وان العرف دال
على ما هو أعم منه ، الا انه المعروف من الفقهاء سيما المتأخرين ، والمصرح به في
عباراتهم» انتهى.
ويؤيده ما صرح
به السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد ان نقل القول باشتراط الجريان في مسمى
الغسل ـ ما لفظه : «وفي دلالة العرف على ذلك نظر» ثم قال ـ بعد ان نقل عن الشارح
حمل اخبار الدهن على المبالغة ـ ما صورته : «وقد
__________________
يقال : لا مانع من كونه على سبيل الحقيقة لوروده في الأخبار المعتمدة» ثم
ساق جملة من الأخبار المتقدمة.
وحينئذ فمجرد
شهرة ذلك بينهم ـ من غير دلالة نص عليه من آية أو رواية ، بل وجود الروايات
المستفيضة ـ كما تري ـ بخلافه ـ لا يوجب المصير اليه. وبالجملة فالمسألة لذلك محل
اشكال.
وصار بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ بعد ان صرح بأن المسألة محل تأمل ، ينشأ
من تعارض الظاهرين ، وقبول التأويل من الطرفين ـ إلى تخصيص ذلك بالضرورة وتقديمه
على التراب ، كعوز الماء وانجماده على وجه لا يمكن إذابته ، كما هو المنقول آنفا
عن الشيخين (رحمهماالله) استنادا إلى بعض الأخبار المصرحة بجواز ذلك ضرورة ، كقول
الكاظم (عليهالسلام) في صحيحة أخيه علي حيث «سأله عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ، أيغتسل
منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا
للجنابة ولا مدا للوضوء وهو متفرق؟ فكيف يصنع؟ فقال : إذا كانت يده نظيفة ، إلى ان
قال : فإن خشي ان لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ثم مسح جلده بيده ، وان كان الوضوء
غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه ...».
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة أخيه الثانية حين «سأله عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه
ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا ، أيهما أفضل : أيتيمم أم يتمسح بالثلج؟ قال : الثلج إذا
بل رأسه وجسده أفضل ، فان لم يقدر على ان يغتسل به فليتيمم». ونحوها رواية معاوية
بن شريح .
__________________
وما رواه في
الكافي مرسلا مضمرا : «في رجل كان معه من الماء مقدار كف وحضرت
الصلاة؟ قال : فقال : يقسمه أثلاثا : ثلث للوجه وثلث لليد اليمنى وثلث لليسرى ،
ويمسح بالبلة رأسه ورجليه».
وعد من ذلك
أيضاقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة الحلبي : «أسبغ الوضوء ان وجدت ماء ، وإلا فإنه يكفيك اليسير».
وظني انها ليست منه ، لان مقابلة اليسير بما يحصل به الإسباغ قرينة على وجود ما
يحصل به الجريان ولو في الجملة.
وحينئذ فالأظهر
حمل روايات الدهن على هذه الأخبار دون الحمل على المبالغة. إلا انه بعد لا يخلو من
شوب نظر.
(المسألة
الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف في أن الوجه الواجب غسله في الوضوء هو ما كان من
قصاص الشعر ـ مثلث القاف والضم أعلى ، كما ذكره الجوهري ، وهو حيث ينتهي نبت الشعر
من مقدم الرأس ومؤخره ، والمراد هنا المقدم ـ الى طرف الذقن بالتحريك ، وهو مجمع
اللحيين الذين تنبت عليهما الأسنان السفلى ، طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى
من مستوي الخلقة عرضا ، لما في صحيح زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) حيث قال : «أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ ،
الذي قال الله تعالى. فقال : الوجه الذي أمر الله بغسله ـ الذي لا ينبغي لأحد ان
يزيد عليه ولا ينقص منه ، ان زاد عليه لم يؤجر وان نقص منه اثم ـ ما دارت عليه الوسطى
والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو
من الوجه ، وما سوى ذلك فليس من الوجه. قلت : الصدغ من الوجه؟ قال : لا».
__________________
وأنت خبير بان
تطبيق الرواية المذكورة على مدعى الأصحاب لا يخلو من عسر وما وجهه بعضهم ـ من ان قوله
(عليهالسلام) : «ما دارت عليه الوسطى والإبهام» بيان لعرض الوجه ، وقوله
: «من قصاص شعر الرأس إلى الذقن» لطوله ، وقوله : «ما جرت عليه الإصبعان» كأنه
تأكيد لبيان العرض ـ فلا يخفى ما فيه من التكلف وعدم الارتباط.
وأورد شيخنا
البهائي (عطر الله مرقده) على الأصحاب ـ في استنباط ما ذهبوا اليه من الخبر
المذكور ـ انه متى جعل الحد الطولى من القصاص الذي هو عبارة عن منابت الشعر من
المقدم ـ والحال ان منتهى منابت الشعر يأخذ من كل جانب من الناصية ويرتفع عن
النزعة ثم ينحدر إلى مواضع التحذيف ويمر فوق الصدغ حتى يتصل بالعذار ـ لزم دخول
النزعتين والصدغين في التحديد المذكور مع انهم لا يقولون به ، وخروج العذارين مع
ان بعضهم ادخله ، وكيف يصدر مثل هذا التحديد الظاهر القصور الموجب لهذا الاختلاف
عنهم (عليهمالسلام)؟
ثم وجه للرواية
معنى آخر ، وهو ان كلا من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل عليه الإبهام والوسطى ،
بمعنى ان الخط الواصل من القصاص إلى طرف الذقن وهو مقدار ما بين الإصبعين غالبا ،
إذا فرض إثبات وسطه وأدير على نفسه ليحصل شبه دائرة ، فذلك القدر هو الوجه الذي
يجب غسله ، وذلك لأن الجار والمجرور في قوله (عليهالسلام) : «من قصاص شعر الرأس» اما متعلق بقوله : «دارت» أو
صفة مصدر محذوف ، والمعنى ان الدوران يبتدئ من القصاص منتهيا إلى الذقن ، واما حال
من الموصول الواقع خبرا عن الوجه وهو لفظ «ما» ان جوزنا الحال عن الخبر ، والمعنى
ان الوجه هو القدر الذي دارت عليه الإصبعان حال كونه من القصاص إلى الذقن ، إلى ان
قال : «وبهذا يظهر ان كلا من طول الوجه وعرضه قطر من أقطار تلك الدائرة من غير
تفاوت ، ويتضح خروج النزعتين والصدغين عن الوجه وعدم دخولهما في التحديد
فإن أغلب الناس إذا طبق انفراج الإصبعين على ما بين قصاص الناصية إلى طرف
ذقنه وادارهما على ما قلناه ليحصل شبه دائرة وقعت النزعتان والصدغان خارجة عنهما ،
وكذلك يقع العذران ومواضع التحذيف ، كما يشهد به الاستقراء والتتبع. واما العارضان
فيقع بعضهما داخلا والبعض خارجا ، فيغسل ما دخل ويترك ما خرج على ما يستفاد من
الرواية» انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو بمحل من
القبول ، وقد تلقاه بالتسليم جملة ممن تأخر عنه من الفحول.
الا انه يمكن
الجواب عما أورده على القول المشهور ونسبه اليه من القصور : اما عن دخول النزعتين
فبأنهما وان دخلا في التحديد بالقصاص على ما هو معناه لغة ، إلا أنهما لما كانتا
محاذيتين للناصية التي هي من الرأس قطعا دون الوجه ، وخارجتين عن التسطيح الذي
ينفصل به الوجه عن الرأس ، وداخلتين في التدوير المختص ، وجب حمل القصاص في الخبر
على منتهى الناصية وما يحاذيه من جانبيه كما عليه الأصحاب ، وما هو إلا من قبيل
العام المخصوص أو المطلق المقيد ، وكم مثله في الأخبار.
واما عن
الصدغين فإنهما وان فسرا في كلام أهل اللغة بما بين العين والاذن تارة ، وبالشعر
المتدلي على هذا الموضع اخرى ، كما في عبارة القاموس ونقل أيضا عن الصحاح والنهاية
، الا أن العلامة في المنتهى فسره بالشعر الذي بعد انتهاء العذار المحاذي لرأس
الاذن وينزل عن رأسها قليلا ، وفي الذكرى ما حاذى العذار فوقه ، وحينئذ فيمكن حمل
الصدغ في الخبر على هذا المعنى الثاني ، وهو أحد معنييه لغة أيضا كما عرفت ، ولا
يشمل شيئا منه الإصبعان ، على انه متى حمل على المعنى الأول فلا ريب انه يدخل بعضه
في الإدارة التي اعتبرها (قدسسره) وما ذكره (قدسسره) من خروجه كملا مما تمنعه المشاهدة.
واما العذاران
فالمشهور عندهم خروجه ، فلا يرد الاشكال به إلا عند من أدخله
إذا عرفت هذا
فاعلم أن ههنا مواضع قد وقع الخلاف فيها في البين :
(أحدها) ـ الصدغ
، وقد تقدم معناه. فادخله الراوندي في الوجه ، والمشهور خروجه كما تدل عليه
الرواية ويمكن حمل كلام الراوندي على البعض الذي لا شعر فيه كما
عرفت من كلام أهل اللغة ، وحمل الرواية على ما ذكرناه آنفا ، فترتفع المنافاة.
و (ثانيها) ـ العذار
، وهو الشعر النابت على العظم الذي على سمعت الصماخ ، يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله
بالعارض ، والمشهور بين الأصحاب خروجه ، لعدم شمول الإصبعين له غالبا ، ولاتصاله
بالصدغين. ونقل عن ظاهر كلام الشيخ في المبسوط والخلاف وابن الجنيد دخوله ، وبه
صرح ثاني المحققين وثاني الشهيدين. وجمع بعض المحققين بين القولين بما يكون به
النزاع لفظيا في البين ، فقال : «انه لا نزاع في الحقيقة بل القائلون بالدخول إنما
يريدون به دخول بعضه مما يشمله الإصبعان ، والقائلون بالخروج يريدون خروج البعض
الآخر كما يشعر به تتبع كلماتهم» انتهى.
و (ثالثها) ـ مواضع
التحذيف بالذال المعجمة ، وهي ما بين الصدغ والنزعة ، وفسرها بعضهم بما بين منتهى
العذار والنزعة. وأنت خبير بما فيه ، فان العذار أعلاه يتصل بالصدغ كما تقدم ،
فالصدغ فوقه. وقد قطع العلامة في المنتهى والتذكرة بخروجها وجملة من الأصحاب حكموا
بدخولها احتياطا.
و (رابعها) ـ العارض
، وهو الشعر المنحط عن محاذاة الأذن ، يتصل أسفله بما يقرب من الذقن وأعلاه
بالعذار. وقد قطع العلامة في المنتهى بخروجه والشهيدان بدخوله ، بل ادعى ثانيهما
الإجماع على ذلك. وفصل في النهاية بين ما خرج عن حد الإصبعين فيخرج ، ودخل فيهما
فيدخل. وهو الأقرب ، لما دلت عليه الرواية .
وما أورده
السيد السند في المدارك ـ من ان الاستدلال على الوجوب ببلوغ الإبهام والوسطى ضعيف
، فان ذلك إنما يعتبر في وسط التدوير من الوجه خاصة ، وإلا لوجب غسل ما نالته
الإبهام والوسطى وان تجاوز العارض ، وهو باطل إجماعا ـ
__________________
مردود (أولا) ـ
بأن التخصيص بما ذكره لا دليل عليه.
و (ثانيا) ـ بان
خروج بعض الافراد بدليل خاص لا يقدح في الدلالة على ما لا معارض له ، فان ما تجاوز
العارض خارج عن الوجه بالإجماع.
(المسألة
الثالثة) ـ اختلف الأصحاب (نور الله مراقدهم) في وجوب الابتداء بالأعلى في غسل
الوجه ، فالمشهور الوجوب ، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى جواز النكس ، واختاره جمع
من المتأخرين ومتأخريهم.
ويدل على
المشهور صحيحة زرارة قال : «حكى لنا أبو جعفر (عليهالسلام) وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فدعى بقدح من ماء فادخل يده اليمنى فأخذ كفا من ماء
فأسدله على وجهه من أعلى الوجه. الحديث». وفعله إذا كان بيانا للمجمل وجب اتباعه
فيه.
وأجيب بأنه من
الجائز ان يكون ابتداؤه (عليهالسلام) بالأعلى لكونه أحد جزئيات مطلق الغسل المأمور به لا
لوجوبه بخصوصه ، فان امتثال الأمر الكلي إنما يتحقق بفعل جزئي من جزئياته. وقوله ـ
: «ان فعله إذا وقع بيانا للمجمل وجب اتباعه فيه» ـ مسلم ، الا انه لا إجمال في
غسل الوجه حتى يحتاج إلى البيان ، مع ان أكثر الأخبار الواردة في وصف وضوء رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) خالية من ذلك ، هكذا ذكره السيد السند في مداركه ،
وتبعه فيه جمع ممن تأخر عنه.
وفيه نظر من
وجوه : (الأول) ـ ان الأوامر والأحكام القرآنية كلها إلا ما شذ لا تخلو من إطلاق
أو عموم أو إجمال أو نسخ أو نحو ذلك ، وقد استفاضت الأخبار عن أهل الذكر (صلوات
الله عليهم) بالرجوع إليهم في ذلك والنهي عن القول فيه بغير توقيف منهم ، وقد
نقلنا شطرا وافرا من تلك الأخبار في كتاب الدرر النجفية ، وأظهرنا ما في المسألة
من الكنوز الخفية ، وقد تقدمت الإشارة إلى شطر
__________________
منها في المقدمة الثالثة وحينئذ فإذا بينوا لنا شيئا من ذلك فالواجب قبوله والعمل
عليه.
ومما يؤيد ذلك صحيحة
زرارة ومحمد بن مسلم قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليهالسلام) : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال :
ان الله عزوجل يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) . فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر.
قالا : قلنا له انما قال الله عزوجل : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) ، ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك؟ فقال (عليهالسلام) : أو ليس قد قال الله عزوجل في الصفا والمروة (فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) . ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض لأن الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه (صلىاللهعليهوآله)؟ وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي (صلىاللهعليهوآله) وذكره الله في كتابه. الحديث».
فإنه ـ كما ترى
ـ صريح الدلالة في ان فعله (صلىاللهعليهوآله) لما ذكره الله تعالى في كتابه وان كان غير صريح في
الوجوب كنفي الجناح في الآيتين ، صار موجبا لذلك ، وما نحن فيه كذلك.
وبالجملة فإنا
لو خلينا وظاهر الآية ولم يرد لنا عنه (صلىاللهعليهوآله) كيفية بيان لذلك ، لكان الأمر كما ذهبوا اليه ، واما
بعد ورود كيفية البيان فيجب الوقوف عليها والأخذ بها.
واعترض شيخنا
البهائي (قدسسره) في حبله وأربعينه بأنه لو اقتضى البيان وجوب الابتداء
بالأعلى للزم مثله في إمرار اليد ، لوروده كذلك في مقام البيان.
وفيه ان صحيحة
علي بن جعفر ـ الدالة على الوضوء بالمطر بمجرد تساقطه
__________________
وغسله الأعضاء ـ دليل على عدم وجوب إمرار اليد.
ولو قيل بان ما
ذكرتموه يضعف باشتمال الوضوء البياني على جملة من المستحبات أيضا قلنا : خروج ما
قام الدليل على استحبابه لا يوجب خروج ما لا دليل عليه.
(الثاني) ـ ان
منعه الإجمال في غسل الوجه ممنوع بما ذكره المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في حاشيته على المدارك ، من ان الإجمال قد ينشأ من نفس
المعنى ، وذلك لأن بعض الماهيات الكلية تحته افراد تصلح عرفا لتعلق غرض الشارع
ببعضها دون بعض ، كحج البيت وغسل الوجه في الوضوء ، ويقبح عند العقلاء اقدام مريد
الامتثال على فرد مشكوك فيه من إفرادها من غير دلالة على ان المقصود بالذات هو
الماهية الكلية من حيث هي. انتهى كلامه (زيد مقامه).
ومما يدل على
وقوع الإجمال في الغسل هنا وقوع السؤال عن كيفية غسل اليدين في رواية صفوان ورواية الهيثم الآتيتين في بيان وجوب الابتداء بالمرفق.
(الثالث) ـ ان
خلو أكثر الأخبار الواردة في وصف وضوئه (صلىاللهعليهوآله) عن الابتداء بالأعلى لا يستلزم حمل هذه على الاستحباب
، بل الطريقة الشائعة في مثله حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص ، على ان
بعض الأخبار ظاهر الدلالة في مطابقة هذه الصحيحة :
كصحيحة زرارة الأخرى
عن أبي جعفر (عليهالسلام) في حكاية الوضوء أيضا قال : «ثم غرف فملأها ماء فوضعها
على جبينه ، ثم قال : بسم الله ، وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمر يده على وجهه.
الحديث».
__________________
وروى الحميري
في كتاب قرب الاسناد عن احمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي جرير الرقاشي قال
: «قلت لأبي الحسن موسى (عليهالسلام) : كيف أتوضأ للصلاة؟ الى ان قال : ولا تلطم وجهك
بالماء لطما ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا. الحديث».
والكتاب
المذكور من الأصول المعتبرة المشهورة فلا يضر ضعف الراوي ، وهو صريح في المطلوب ،
للأمر فيه بالغسل من الأعلى ، وهو حقيقة في الوجوب عندهم.
وروى العياشي في
تفسيره عن زرارة وبكير ابني أعين قالا : «سألنا أبا جعفر (عليهالسلام) عن وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فدعا بطشت أو تور فيه ماء فغمس كفه اليمنى فغرف بها
غرفة فصبها على جبهته فغسل وجهه بها. الحديث».
(الرابع) ـ ان
الوضوء على غير هذا الوجه لا أقل ان يكون مشكوكا في صحته ، لوقوعه على خلاف ما
بينه صاحب الشرع ، والشك في صحته يقتضي الشك في رفعه ، ويقين الحدث لا يرتفع إلا
بيقين الطهارة ، للحديث الصحيح المتفق على العمل بمضمونه : «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا».
وما افاده بعض
المحققين من متأخري المتأخرين ـ من ان القدر المعلوم من هذا الخبر إنما هو عدم
النقض بالشك في وجود الناقض ، دون الشك في فردية بعض الافراد للناقض ، بمعنى ان
تيقن الحدث فيما نحن فيه لا يزول بالشك في وجود الرافع ، واما كونه لا يزول بوجود
بعض الافراد المشكوك في فرديتها للرافع فلا دلالة للحديث عليه ـ ففيه ما قدمنا
ذكره في المقدمة الحادية عشرة وحينئذ فالواجب تحصيل يقين البراءة
__________________
من التكليف الثابت بيقين ، وهو لا يتم الا بالغسل من الأعلى.
وما ذكره البعض
ـ من ان تحصيل يقين البراءة إنما هو من الاحتياط المستحب وليس بواجب ـ فليس على
إطلاقه ، وذلك فان تحصيل يقين البراءة اما ان يكون بعد ثبوت الحكم شرعا بإرادة
المطابقة لما هو الحكم واقعا والخروج من جميع الاحتمالات المنافية للمطابقة ، وهذا
هو المستحب ، كالتنزه عن جوائز الظالم ونحوه ، ونكاح من علم ارتضاعها معه لكن لم
يعلم حصول القدر المحرم ولا عدمه ، ونحو ذلك ، واما ان يكون مع عدم ثبوت الحكم
شرعا ، فيكون الغرض من الاحتياط تحصيله ، وهذا هو الواجب ، ولا يخفى ان ما نحن فيه
من قبيل الثاني دون الأول ، فإن عدم ثبوت الحكم ومعلوميته أعم من ان يكون لعدم
الدليل بالكلية ، أو لتعارض الأدلة ، أو لاشتباه الحكم منها ، أو نحو ذلك ، وما
نحن فيه من قبيل الثاني ، لتعارض ظاهر الآية والأخبار. والجمع الذي ذكروه بينهما
لا يتعين المصير اليه ، لاحتمال غيره بل رجحانه عليه ، فيبقى الحكم في قالب
الاشتباه.
وتوهم استحباب
الاحتياط في مثل ذلك مردود بالأخبار المستفيضة الدالة على الأمر بالوقوف على جادة
الاحتياط مع الشك والاشتباه ، كما تقدم لك بيانه في المقدمة الرابعة.
ومن ذلك ما ورد
عن الصادق (عليهالسلام) في جملة من الأخبار في كلامه مع بعض الزنادقة المنكرين
للصانع حيث قال (عليهالسلام): «ان يكن الأمر كما نقول ـ وهو كما نقول ـ فقد نجونا
وهلكتم ، وان يكن الأمر كما تقولون ـ وليس كما تقولون ـ فنحن وأنتم سواء ، ولن
يضرنا ما صلينا وصمنا. الحديث».
وفيه دلالة على
وجوب سلوك ما فيه النجاة ودفع الضرر عند الاشتباه ، وهو بعينه ما ذكروه من الدليل
العقلي على وجوب معرفة الصانع ، من انها لدفع الضرر ، وهو واجب. وكما يجب دفع الضر
المحقق فكذا دفع الضرر المشتبه ، فان من عرض
__________________
عليه طعام محتمل لأن يكون غذاء نافعا ولأن يكون سما قاتلا ، فان المخاطر
بنفسه في أكله خارج عن ربقة العقلاء ، فان كان هذا في الأمور الدنيوية ففي الدينية
بطريق أولى ، لشدة خطرها وزيادة ضررها ، فالاحتياط فيها أوجب ، وحينئذ فالحديث
المذكور دليل نقلي عقلي.
وهذا الدليل
وما قبله مما تلجئ إليه الحاجة في جملة من الأحكام ، فاحتفظ بهما فإنهما أقوى دليل
في مقام الخصام.
(الخامس) ـ ما
افاده المحدث الأمين (قدسسره) في حاشية المدارك أيضا ، من ان الأمر بالوضوء وبالطهور
ورد في اخبار كثيرة ، واللفظان من المجملات ، فلا تبرأ الذمة إلا برعاية الاحتياط
، وهو الإتيان بفرد لم يشك في اجزائه. لا يقال : الآية الشريفة بيان لهما. لأنا
نقول : الآية الشريفة إنما تدل على وجوب كذا وكذا ولا تدل على كفاية ذلك القدر في
الصلاة. لا يقال : لو وجب قيد زائد لذكره سبحانه وتعالى. لأنا نقول : هذا منقوض
بصور كثيرة. وأيضا إنما تتجه تلك المقدمة لو لم يكن البيان مرجوعا اليه وإلى أهل
بيته (صلىاللهعليهوآله).
(السادس) ـ ما
أفاده أيضا (قدسسره) من انا إذا لاحظنا ما روى عن الصادق (عليهالسلام): «الوضوء غسلتان ومسحتان» . وسائر الروايات المتضمنة لمضمونها ، مع صحيحة حماد بن
عثمان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا». تبادر إلى
ذهننا بمعونة قرينة المقام وجود البأس في غسل الوضوء مدبرا.
ثم اعلم ان
شيخنا البهائي (قدسسره) في حبله وأربعينه ـ بعد ان طعن في دليل المشهور بما
قدمنا نقله عن المدارك ـ قال : «وظني انه لو استدل على هذا المطلب بان المطلق
ينصرف إلى الفرد الشائع المتعارف ، والشائع المتعارف في غسل الوجه غسله
__________________
من فوق إلى أسفل ، فينصرف في قوله تعالى : «...
فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ ...» اليه لم يكن بعيدا» انتهى.
وفيه (أولا) ـ انه
لو تم لزم عدم اجزاء غمس الوجه واليد في الماء ، وهو لا يقول به ، وكذا عدم وجوب
غسل الإصبع الزائدة ، مع انهم اتفقوا على الوجوب.
و (ثانيا) ـ ما
حققه بعض المحققين (طيب الله مرقده) من ان المتبادر بحسب التصور والتخيل غير ملزوم
للمتبادر بحسب التصديق بأنه مراد ، كما في إطلاق اللفظ المشترك من غير قرينة.
وتحقق الثاني هنا على وجه بين واضح محل التردد ، والتمسك به مشكل. انتهى.
واما الاستدلال
بما رواه في الفقيه مرسلا ـ من قوله : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا
به». ـ ففيه من الإجمال ـ مضافا إلى ما هو عليه من الإرسال ، وبسط جملة من متأخري
أصحابنا في رده لسان المقال ـ ما يوجب الاعراض عنه في هذا المجال ، مع ان الأدلة ـ
بحمد الله تعالى ـ على ما اخترناه واضحة المنار ساطعة الأنوار ، كما تلوناه عليك
وأوضحناه لديك.
فائدة
قال السيد
السند في المدارك : «واعلم ان أقصى ما يستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب
البدأة بالأعلى ، بمعنى صب الماء على أعلى الوجه ثم اتباعه بغسل الباقي واما ما
تخيله بعض القاصرين ـ من عدم جواز غسل شيء من الأسفل قبل غسل الأعلى وان لم يكن
في سمته ـ فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة» انتهى. ونسج على منواله في
هذه المقالة جملة ممن تأخر عنه.
__________________
ونسبة السيد
السند (قدسسره) ذلك إلى خيال بعض القاصرين ـ مع ان جده من جملة
القائلين ـ غفلة منه ، فإنه صرح في شرح الرسالة بأن المعتبر في غسل الوجه الأعلى
فالأعلى ، لكن لا حقيقة لتعسره أو تعذره بل عرفا ، فلا تعتبر المخالفة اليسيرة
التي لا يخرج بها في العرف عن كونه غسل الأعلى فالأعلى. ثم قال : «وفي الاكتفاء ـ بكون
كل جزء من العضو لا يغسل قبل ما فوقه على خطه وان غسل ذلك الجزء قبل الأعلى من غير
جهته ـ وجه وجيه» انتهى.
بل هو ظاهر
العلامة في مسألة ما لو أغفل لمعة من غسل أعضاء وضوئه ، حيث قال ـ بعد ان نقل عن
ابن الجنيد التفصيل بأنها ان كانت دون سعة الدرهم بلها وصلى ـ ما صورته : «ولا
أوجب غسل جميع ذلك العضو ، بل من الموضع المتروك إلى آخره ان أوجبنا الابتداء من
موضع بعينه ، والموضع خاصة ان سوغنا النكس» انتهى.
وأنت خبير بان
هذا هو الظاهر من الأخبار المشتملة على الوضوء البياني وغيرها
ففي صحيحة
زرارة «ثم غرف فملأها
ماء فوضعها على جبينه ، ثم قال بسم الله وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمر يده على
وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة ، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ، ثم وضعه على
مرفقه اليمنى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ثم ذكر في غسل
اليسرى مثله».
وفي حسنة زرارة
وبكير «فغرف بها غرفة
فأفرغ على ذراعه اليمنى ، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق
، ثم ذكر مثله في غسل اليسرى».
ومثله أيضا في
رواية أخرى لهما أيضا صرح بأنه غسل اليدين من المرفق إلى الكف لا يردها إلى
المرفق.
وفي صحيحة
صفوان المروية في تفسير العياشي «ثم يفضه على المرفق ثم يمسح إلى الكف ...».
وأمثال ذلك.
__________________
وظاهر ذلك ـ كما
ترى ـ انه ـ بعد الابتداء في الوجه بالأعلى وفي اليدين بالمرفقين ـ يستمر في إجراء
الماء المغسول به إلى آخر العضو ، وهو صريح في الترتيب في نفس العضو على الوجه
المذكور في كلام شيخنا الشهيد الثاني. ولزوم الحرج في ذلك ـ كما أورده شيخنا
الشهيد الأول في الذكرى على العلامة بعد نقله عنه ما نقلناه هنا ـ غير واضح. وليس
في شيء من الأخبار ما يدل على ما ذكروه من وقوع غسل بعض الأجزاء السافلة قبل
العالية سواء كانت في سمتها أم لا ، بل غاية بعضها ان يكون مطلقا والبعض الآخر كما
عرفت من الظهور في الترتيب ، والقاعدة تقتضي حمل المطلق على المقيد. وبذلك يظهر
ضعف ما ذهب اليه السيد السند (قدسسره) ومن تبعه.
(المسألة
الرابعة) ـ قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب ـ منهم : العلامة في بعض كتبه ، بل
ربما كان هو أولهم ، وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه ـ إثبات الخلاف في وجوب تخليل
اللحية الخفيفة وعدمه ، فنقلوا عن الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر وجماعة ممن
تبعهما عدم الوجوب ، وعن المرتضى وابن الجنيد وجوب ذلك. واختار العلامة في المنتهى
والإرشاد الأول وفي المختلف والتذكرة الثاني.
والتحقيق عند
التأمل في كلام هؤلاء المنقول عنهم انه لا خلاف في البين ولا نزاع بين الفريقين ،
فان كلام ابن الجنيد ينادي بصريحه على عدم وجوب غسل ما ستره الشعر من البشرة ووجوب
غسل ما لم تستره ، حيث قال : «إذا خرجت اللحية فلم تكثر فتوارى بنباتها البشرة من
الوجه ، فعلى المتوضئ غسل الوجه كما كان قبل ان ينبت الشعر حتى يستيقن وصول الماء
إلى بشرته التي يقع عليها حس البصر اما بالتخليل أو غيره ، لان الشعر إذا ستر
البشرة قام مقامها ، وإذا لم يسترها كان على المتوضئ إيصال الماء إليها» ولا أراك
في شك مما ذكرنا بعد ما تلونا عليك من عبارته ، ونحوها عبارة السيد المرتضى في المسائل
الناصرية ، وكذا في مسائل الخلاف. وقال الشيخ في المبسوط : «لا يجب تخليل شعر
اللحية سواء كانت خفيفة أو كثيفة ، أو بعضها
كثيفة وبعضها خفيفة» وقال المحقق في المعتبر : لا يلزم تخليل شعر اللحية
كثيفا كان الشعر أو خفيفا ، بل لا يستحب ، وأطبق الجمهور على الاستحباب ثم نقل خبرا من طريق الجمهور ، وقال بعده : ولأن الوجه
اسم لما ظهر فلا يتبع المغابن ، ثم استدل بصحيحة زرارة الدالة على نفي وجوب طلب ما أحاط به الشعر. انتهى.
وأنت خبير بأن
عبارة الشيخ وان أوهمت ما ادعوه إلا ان عبارة المحقق ـ بمعونة التعليلين المذكورين
ـ ظاهرة في وجوب غسل ما ظهر وعدم وجوب غسل ما ستره الشعر ، لتخصيص الوجه بما ظهر
ودخول ما ستر الشعر في المغابن ، ولنفي وجوب طلب ما أحاط به الشعر.
وبالجملة فمن
لاحظ معنى التخليل ـ وانه عبارة عن إيصال الماء إلى البشرة المستورة ، إذ الظاهر
ان إيصاله إلى الظاهرة لا يسمى تخليلا ، فمعنى عدم وجوب التخليل هو بعينه ما صرحت
به صحيحة زرارة من نفي وجوب الطلب والبحث عما أحاط به الشعر ، وصحيحة
محمد بن مسلم من نفي وجوب التبطين ـ لا يرتاب في اشتراك القولين في
الدلالة على عدم وجوب إيصال الماء إلى البشرة المستورة بالشعر من كل اللحية كانت
أو من بعضها. وبه يظهر ان ما ذكره البعض ـ من ان مطرح النزاع وجوب غسل ما ستره
الشعر من اللحية الخفيفة وعدمه ـ ليس في محله ، كذلك لا يرتاب أيضا في اشتراكهما
في وجوب إيصاله إلى البشرة الظاهرة التي يقع عليها حس البصر في مجلس التخاطب. وبه
يظهر أيضا ضعف قول من عكس فجعل محل النزاع وجوب غسل البشرة الظاهرة دون المستورة ،
مدعيا الاتفاق على عدم غسل المستورة.
__________________
الركن الثالث ـ غسل اليدين
والكلام فيه
يقع في مواضع (الأول) ـ اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) في وجوب الابتداء
بالمرفق كمنبر ومجلس : المفصل ، وهو عبارة عن رأس عظمي الذراع والعضد كما هو
المشهور ، أو مجمع عظمي الذراع والعضد ، فعلى هذا شيء منه داخل في العضد وشيء
منه في الذراع :
فالمشهور وجوبه
، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى الاستحباب وجواز النكس على كراهية ، تمسكا بإطلاق
الآية وإلى هذا القول مال أولئك الفضلاء المشار إليهم في المسألة الثالثة من
الركن المتقدم.
والأظهر هو
القول المشهور ، لما عرفت من الأدلة السابقة وانهم (صلوات الله عليهم) قد غسلوا
كذلك ، فيقين البراءة لا يحصل إلا بمتابعتهم والعمل بما عملوه ، وخلاف ذلك ان لم
يكن مرجوح الصحة فلا أقل من ان يكون مشكوكا فيها وموجبا لاحتمال البقاء تحت
العهدة. والأخبار هنا قد اشتملت ـ الا النادر منها ـ على الابتداء بالمرفق :
و (منها) ـ صحيحة
زرارة عن الباقر (عليهالسلام) في حكاية الوضوء البياني ، قال فيها : «ثم غمس يده
اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه اليمنى ، وأمر كفه على ساعده حتى جرى
الماء على أطراف أصابعه ، ثم غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى وأمر كفه
على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ...».
و (منها) ـ ما
رواه العياشي في تفسيره عن صفوان قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن قول الله :
(فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ
__________________
وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فقال : قد سأل رجل أبا الحسن عن ذلك فقال : ستكفيك ـ أو
كفتك ـ سورة المائدة ، إلى ان قال : قلت : فإنه قال اغسلوا أيديكم إلى المرافق ،
فكيف الغسل؟ قال : هكذا ان يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبه في اليسرى ثم يفضه على
المرفق ثم يمسح إلى الكف. قلت له : مرة واحدة؟ فقال : كان يفعل ذلك مرتين. قلت له
: يرد الشعر؟ قال : إذا كان عنده آخر فعل وإلا فلا». وحسنة زرارة وبكير وروايتهما أيضا .
ورواية الهيثم
بن عروة التميمي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قول الله عزوجل (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فقلت : هكذا ، ومسحت من ظهر كفي إلى المرفق؟ فقال : ليس
هكذا تنزيلها. انما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق ، ثم أمر يده من مرفقه
إلى أصابعه».
وأنت خبير بان
ظاهر هذه الرواية كون التحديد للغسل دون المغسول ، لأن السائل لما توهم كون «الى»
في الآية لانتهاء الغسل فمسح من ظفر كفه إلى المرفق ، لم يرد عليه الامام (عليهالسلام) إلا بأنه ليس هكذا تنزيلها ، وظاهره تقريره على ما ذهب
اليه من معنى الآية ، بأنه لو كان تنزيلها كما ذكرت لكان كذلك لكن تنزيلها إنما هو
من المرافق بمن الابتدائية المقتضية لابتداء الغسل من المرفق ، ثم أمر يده (عليهالسلام) تعليما له وتأكيدا لما قرره بقوله. هذا هو ظاهر
الرواية المشار إليها وان حصل المخالفة فيها من جهة أخرى.
وكيف كان فهو
ظاهر في الوجوب البتة. وكذلك سؤال صفوان في رواية العياشي عن كيفية الغسل ، وبيانه
(عليهالسلام) على ذلك الوجه ، وقوله في آخر
__________________
الرواية : «قلت : يرد. إلخ» فإن الظاهر ان رد الشعر عبارة عن الغسل منكوسا
، وقوله : «إذا كان عنده آخر» الظاهر ان المراد ممن يتقيه ، فظاهر الخبر انه لا
يغسل منكوسا إلا في مقام التقية. وكذلك حكاية غسله (عليهالسلام) في حسنة زرارة وبكير وروايتهما الأخرى ـ من كونه ابتدأ في غسله من المرفق لا يردها اليه ـ صريح
في الوجوب.
وما يتناقل في
أمثال هذه المقامات ـ من انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ـ فكلام شعري جدلي لا
يعتمد عليه عند التحقيق ، فان مدار الاستدلال في جميع الموارد مع عدم النص على
الظواهر. نعم ربما يخرج عنه إلى التأويل لضرورة الجمع بين الأدلة متى تعارضت على
وجه لا يمكن تطبيقها إلا بارتكاب جادة التأويل.
واما إطلاق
الآية هنا فهو مخصوص بهذه الأخبار ، كما هو القضية الجارية في جميع إطلاقات الكتاب
وعموماته ومجملاته ، على انه لو ورد ما يخالف هذه الأخبار لوجب حمله على التقية ،
لأن عمل المخالفين على الابتداء من الأصابع .
(الثاني) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في وجوب غسل المرفق هنا ، انما
الخلاف في كونه أصالة أو من باب المقدمة ، وتظهر الفائدة في وجوب غسل جزء من العضد
لو قطعت اليد من المرفق ، كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.
وأنت خبير بان
الظاهر انه لا دلالة في الآية هنا على شيء من الدخول وعدمه ، لوقوع الخلاف في
الغاية دخولا وخروجا وتفصيلا.
__________________
والتحقيق ـ كما
حققه بعض الفضلاء ـ ان كلا من الغاية الابتدائية والانتهائية قد تكون داخلة تارة ،
كما في قوله سبحانه : «... من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ...» وقولك : «حفظت
القرآن من أوله إلى آخره» وقد تكون خارجة ، كقوله سبحانه : «...
ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ...» وقوله : «...
فَنَظِرَةٌ
إِلى مَيْسَرَةٍ ...» .
وما ذكره الشيخ
(رحمهالله) ـ من ان «الى» في الآية بمعنى مع ، مدعيا في الخلاف
ثبوت ذلك عن الأئمة (عليهمالسلام) ـ
ففيه ان
المفهوم من حسنة زرارة وبكير المشار إليها آنفا ، حيث قال (عليهالسلام) فيها : «وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له ان
يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلا غسله ، لان الله تعالى يقول (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرافِقِ) . الحديث». فان قوله (عليهالسلام) : «فليس له ان يدع» صريح في ان «إلى» في الآية غاية
للمغسول ، فان التحديد له ، لأن «الى» في كلامه (عليهالسلام) غاية لليد بلا اشكال وإيراده الآية مستدلا بها على ذلك
يقتضي كون «الى» فيها مثلها في كلامه.
ويؤيده أيضا ان
اليد لما كانت تطلق بإطلاقات متعددة ـ فإنها لغة وعرفا من الكتف إلى أطراف الأصابع
، وفي التيمم إلى الزند ، وفي قطع السرقة إلى أصول الأصابع ، وفي الوضوء إلى
المرفق ـ كان الأهم في المقام والاولى لدفع الإيهام الحمل على التحديد وبيان
الغاية.
وممن نص على
عدم دلالة الآية على الدخول الشيخ الطبرسي (قدسسره) في جامع الجوامع ، حيث قال : «لا دليل في الآية على
دخول المرافق في الوضوء ، إلا أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسلها ، وهو مذهب
أهل البيت (عليهمالسلام) انتهى
__________________
وبما حققناه
يظهر ان من استدل من أصحابنا ـ على وجوب غسل المرفق بظاهر الأخبار التي قدمناها في
الوضوء البياني واستند إلى ان ذلك أصالة ـ يرد عليه ما أورده على وجوب الابتداء
بالأعلى في غسل الوجه ، فلا يتم له ذلك.
(الثالث) ـ مقطوع
اليد اما ان يكون من تحت المرفق أو من فوقه أو منه.
فعلى الأول
الظاهر انه لا خلاف في وجوب غسل الباقي ، ولعله الحجة وإلا فالأخبار المستدل بها
في المقام لا تخلو من إجمال وإبهام.
فمما استدل به
على ذلك صحيحة رفاعة برواية الشيخ عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال :
يغسل ذلك المكان الذي قطع منه».
وحسنته برواية
الكليني قال «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الأقطع قال : يغسل ما قطع منه».
واحتمل بعض
المحققين من متأخري المتأخرين أنهما واحد وان التغيير نشأ من النقل بالمعنى.
وصريح الاولى ـ
كما ترى ـ غسل محل القطع خاصة ، مع عدم تعيين ذلك المحل فيها بأنه من المرفق أو من
تحته أو فوقه ، والموصول في الثانية يحتمل وقوعه على المكان فتصير كالأولى ،
وحينئذ ف «قطع» خال عن الضمير ونائب الفاعل هو الجار والمجرور ويحتمل وقوعه على
العضو ، فيكون المعنى يغسل العضو الذي وقع القطع منه. وكيف كان فمحل القطع أيضا
غير معلوم. ولعل الاستدلال بهما بناء على ان الأمر بالغسل ملزوم لكون القطع من تحت
المرفق ، لعدم وجوب غسل ما فوقه. لكن يبقى فيه احتمال كونه من المرفق ، فإنه ـ كما
سيأتي ـ يجب غسل الباقي.
__________________
ومما استدل به
أيضا ان غسل الجميع واجب فقطع بعضه لا يسقط وجوب غسل الباقي.
وفيه ان هذا
راجع إلى استصحاب الحكم السابق على القطع ، وهو ممنوع فيما نحن فيه ، فإنه انما
يكون حجة عند القائل به فيما إذا لم تتجدد هناك حالة أخرى مغايرة لحالة تعلق الحكم
، كما صرحوا به في محله. ولا يخفى ان الأوامر الواردة بغسل اليد انما تعلقت
بالمجموع من حيث هو مجموع لا باعتبار كل جزء جزء منها ، فبزوال الأمر المجموعي
بالقطع يحتاج في غسل الجزء الباقي إلى دليل على حدة.
وعلى الثاني
فالظاهر هو سقوط غسل الباقي وجوبا واستحبابا ، خلافا لجمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة
في المنتهى والشهيد في الذكرى ، حيث صرحوا باستحباب غسله. وما استندوا إليه في
الاستحباب ـ من صحيحة علي بن جعفر الآتية ـ فليس في محله كما سيأتي تحقيقه ان شاء
الله تعالى. نعم ربما يمكن الاستدلال لهم بصحيحة رفاعة وحسنته السابقتين لشمول إطلاقهما لهذه الصورة.
ونقل عن الشيخ
في المبسوط والعلامة في التذكرة استحباب مسح الباقي. ولم أقف لهما على مستند ان
أريد بالمسح معناه حقيقة ، وان أريد به الغسل مجازا فيمكن الاستدلال عليه بما عرفت
من روايتي رفاعة.
وعلى الثالث
فالظاهر وجوب غسل الباقي من المرفق ، لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل قطعت يده من المرفق. قال يغسل ما
بقي من عضده». بجعل الموصول للعهد أي الباقي من موضع الفرض ، و «من عضده» اما ظرف
مستقر على انه حال مؤكدة ، أو لغو متعلق ب «يغسل» ومن ابتدائية أو تبعيضية.
وبما ذكرنا
يظهر كون وجوب غسل المرفق أصالة لا من باب المقدمة. ويظهر
__________________
انه لا حاجة إلى ما تكلفه شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ بعد حمله الرواية
على القطع من نفس المرفق وحكمه بوجوب غسل الباقي ـ من التجوز بإطلاق العضد على رأس
العضد وانه لا ضرورة أيضا إلى الحمل على الندب واستحباب غسل العضد كملا ، بحمل
الرواية على القطع من أعلى المرفق ، كما هو صريح الذكرى ، حتى انه لذلك ذهب إلى ان
في الرواية إشارة إلى استحباب غسل العضد مع اليد ، ثم قال : «وبه استدلوا على مسح
المقطوع باقي العضد» كما ذهب اليه جمع : منهم ـ السيد السند في المدارك والعلامة
في المنتهى ، بحمل الموصول في كلا الفرضين على الاستغراق و «من» على البيانية ،
فإنه لا ضرورة تلجئ اليه ، مع كون ما ذكرناه معنى صحيحا لا غبار عليه.
هذا. وعبارات
الأصحاب في هذا المقام مختلفة النظام بعيدة الالتئام ، فعن الشيخ في المبسوط انه
يغسل ما بقي ، والمحقق في المعتبر «سقط عنه غسلهما ويستحب مسح موضع القطع بالماء»
وفي الشرائع ذكر سقوط فرض الغسل ولم يذكر استحباب المسح ، وابن الجنيد «غسل ما بقي
من عضده» والعلامة في المنتهى «سقط غسلها لفوات محل الغسل» وفي التذكرة «فقد بقي
من محل الفرض بقية وهو طرف عظم العضد ، لانه من جملة المرفق ، فان المرفق مجمع عظم
العضد وعظم الذراع» وهذه العبارات المنقولة كلها جمل جزائية لشرط القطع من المرفق.
والعلامة في المنتهى بعد ان ذكر ما نقلناه عنه نقل عن أصح وجهي الشافعي الوجوب ،
لان غسل العظمين المتلاقيين من العضد والمرفق واجب ، فإذا زال أحدهما غسل الآخر.
ثم رده بأنا إنما نوجب غسل طرف العضد توصلا إلى غسل المرفق ، ومع سقوط الأصل انتفى
الوجوب. وهذا الكلام يشعر بان وجوب غسل المرفق عنده انما هو من باب المقدمة ، وهو
خلاف ما عرفت من كلامه في التذكرة ، فإنه صريح في كون غسل المرفق عنده أصالة. ثم
اعترض على نفسه في المنتهى بصحيحة علي بن جعفر المذكورة وردها بأنها مخالفة للإجماع ، فان
__________________
أحدا لم يوجب غسل العضد ، فتحمل على الاستحباب. وتبعه على ذلك السيد السند.
ومنشأ الوهم حمل الموصول على الاستغراق و «من» على انها بيانية كما تقدم. ولا يخفى
ان عبارة ابن الجنيد مطابقة لعبارة الرواية ، فتحمل على ما حملنا عليه الرواية ،
فلا يكون من مخالفة الإجماع المشار إليه في المنتهى في شيء.
(الرابع) ـ الظاهر
انه لا خلاف في وجوب غسل ما تحت المرفق مما زاد على أصل الخلقة من يد ولحم زائد
وجلد متدل وإصبع زائدة ، نظرا إلى كونها اجزاء من اليد المأمور بغسلها كما علله
البعض ، أو كالأجزاء كما في كلام آخر ، أو داخلة في محل الفرض فتكون تابعة له كما
في كلام ثالث.
وكذا ما فوقه
من يد غير متميزة عن الأصلية ، لدخولها في مفهوم اليد وصدق اليد عليهما بالسوية ،
فتخصيص إحداهما بالغسل ترجيح من غير مرجح ، فوجب غسل الكل أصالة في إحداهما ومن
باب المقدمة في الأخرى تحصيلا للامتثال.
وللمناقشة في الأول
منهما مجال ، لمنع كون ما زاد على أصل الخلقة اجزاء حقيقية تنصرف إليها الأحكام
الشرعية ، واولى بالمنع تعليلها بكونها كالأجزاء ، إذ ترتب الأحكام الشرعية لا
يكفي فيه مجرد المشابهة لما ثبت تعلق الحكم به ، وأشد أولوية بالمنع التعليل
الثالث. وبالجملة فظاهر الآية كون الإضافة في قوله سبحانه : «وَأَيْدِيَكُمْ» عهدية فيتعلق الحكم باليد المعهودة وما اشتملت عليه من
الاجزاء المعهودة.
وحينئذ
فالمعتمد في الاستدلال هو الوقوف على جادة الاحتياط وتحصيل اليقين في مقام الشك ،
مؤيدا ذلك بالاتفاق المنقول.
اما اليد
المتميزة فوق المرفق فقيل بوجوب غسلها ، لصدق اليد عليها ، وقيل بالعدم للأصل وعدم
دليل مخرج عنه ، ويؤيده ما أشرنا إليه سابقا من ان الظاهر ان اضافة «وَأَيْدِيَكُمْ» عهدية ، فيتعلق الحكم بالمعهودة. ولو حملت الإضافة على
العموم اندفع ما أوردناه سابقا ووجب غسل اليد المذكورة.
قال بعض
المحققين : «ولو لم يكن لليد الزائدة مرفق لم يجب غسلها قطعا» وهو جيد. إلا ان
ظاهر عبارته بان ذلك محل وفاق وان محل الخلاف ما لو كان لها مرفق ، والظاهر من فرض
الأصحاب اليد الزائدة فيما فوق المرفق المشعر باتحاد المرفق ان تميزها مع عدم وجود
المرفق لها ، إذ لو كان لها مرفق لكانت دونه ووجب غسلها البتة ، إما لدخولها في
حكم اليد فيما دون المرفق ، أو عدم امتيازها حينئذ عن الأصلية.
وبالجملة
فالتحقيق في ذلك ان يقال : ان هذه اليد المفروضة اما ان تكون ذات مرفق أم لا ،
وعلى الأول فاما ان تكون كالاصلية على وجه لا امتياز لها عنها أم لا.
والظاهر انه لا
ريب في وجوب الغسل في الصورة الأولى ، لكونها يدا ذات مرفق مشتبهة باليد الأصلية.
وفي الصورة الثانية توقف ، لان مجرد كون لها مرفق ـ مع تميزها عن الأصلية ، لضعف
البطش بها مثلا ، أو نقص أصابعها ، ونحو ذلك ـ لا يوجب غسلها ، سيما مع اعتبار
العهدية في الإضافة. وفي الصورة الثالثة الظاهر عدم وجوب الغسل ، حيث ان الشارع
أمر بغسل اليد إلى المرفق ، وهذه لا مرفق لها. الا انه بموجب ذلك يلزم انه لو لم
يكن له إلا يد واحدة لا مرفق لها فلا يجب غسلها حينئذ ، الا ان يتمسك بالإجماع هنا
على وجوب الغسل.
(الخامس) ـ الظاهر
انه لا خلاف في انه يجب تحريك ما يمنع وصول الماء إلى المغسول من دملج وسوار وخاتم
ونحوها ، أو نزعه.
ويدل عليه صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) حيث «سأله عن المرأة يكون عليها السوار والدملج في بعض
ذراعها ، لا تدري يجري الماء تحته أم لا ، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال :
تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه ...».
وحسنة ابن أبي
العلاء عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الخاتم
__________________
إذا اغتسلت. قال : حوله من مكانه ، وقال في الوضوء تديره ...».
وصرح جملة من
الأصحاب بأنه يجب تخليل الشعر النابت في اليد وان كثف لغسل ما تحته ، نظرا إلى أن
المأمور به غسل اليد التي هي عبارة عن العضو المخصوص ، بخلاف النابت في الوجه ،
لدخوله في مسماه ، فان الوجه اسم لما يواجه به ، والمواجهة تحصل بالشعر ، فيكفي
غسله عما تحته.
وربما يناقش في
الحكم المذكور بقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد ان يطلبوه ولا
يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء». فإنه بعمومه شامل لما نحن فيه.
وربما يجاب
بحمل الف ولام «الشعر» على العهد إشارة إلى شعر الوجه ، لتقدمه في صدر الرواية ،
كما رواه في الفقيه .
وفيه ان الظاهر
انها رواية مستقلة مصدرة بقوله : «أرأيت ما أحاط به الشعر. إلخ» كما ذكره الشيخ في
التهذيب وذكر صاحب الفقيه لها ـ على أثر صحيحة زرارة الواردة في
تحديد الوجه ، كما هي عادته في سبك الأخبار ، بل جعل كلامه تارة بينها حتى يظن انه
من جملة الخبر ـ لا يدل على انها من جملتها ، ولهذا انه في الوافي نقلها عن الفقيه منفصلة. وتخصيصها بالإجماع والأخبار على
وجوب غسل البشرة في الغسل يوجب الاقتصار على ما خرج بالدليل ، وكيف كان فالعمل على
ما عليه ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم).
ثم ان ظاهر
المشهور وجوب غسل الشعر هنا ، لدخوله في محل الفرض كما علله البعض ، أو انه من
توابع اليد كما علله آخر. وقد عرفت ما فيه ، ومن ثم استظهر بعض
__________________
محققي متأخري المتأخرين العدم هنا للأصل ان لم يكن إجماع. الا ان الحكم هنا
ربما كان أقرب ، لعدم انفكاك اليد غالبا عن الشعر ، فيدخل في خطاب الحكم المتعلق
بها ، بخلاف ذلك لندوره ، فلا ينصرف إليه الإطلاق. نعم لو قيل بعدم وجوب إيصال
الماء إلى ما تحته انتقل حكم الوجوب اليه.
(السادس) ـ الظاهر
انه لا خلاف في وجوب غسل الأظفار ما لم تخرج عن حد اليد. واما معه فقيل بالوجوب
أيضا ، لجزئيتها من اليد عرفا ، وبالعدم كمسترسل اللحية ، للأصل وعدم دليل صالح
للخروج عنه.
وكيف كان
فالمشهور وجوب نزع ما تحتها من الوسخ متى كان مانعا من وصول الماء ، لكونه في حد
الظاهر. واحتمل في المنتهى عدم الوجوب ، لكونه ساترا عادة وأيده المحدث الثقة
الأمين الأسترآبادي (نور الله رمسه) بالروايات المتضمنة استحباب إطالة المرأة
أظفار يديها ، قال : «فان فيها دلالة على عدم إخلال وسخها بالوضوء والغسل وجه
الدلالة ان الإطالة مظنة اجتماع الوسخ وكان ما تحتها من البواطن. وأيضا اجتماع
الوسخ عادي ومع ذلك لم يرد بإزالته قول أو فعل ، وهذا قرينة على عدم وجوب إزالته.
والله أعلم» انتهى. وما ذكره (قدسسره) لا يخلو من قرب إلا ان الاحتياط في الإزالة.
وأيده بعض أيضا
بصدق غسل اليد بدونه ، وعدم ثبوت أمر النبي (صلىاللهعليهوآله) أعراب البادية وأمثالهم بذلك ، مع ان الظاهر عدم
انفكاكهم عن ذلك.
وقيده بعض آخر
بالوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة الظاهرة ، قال : «اما المانع من بشرة
مستورة تحت الظفر بحيث لا تظهر للحس لو لا الوسخ ، فالظاهر عدم الوجوب».
هذا. والمفهوم
من عبائر الأصحاب (رحمهمالله) في المقام ـ حيث صرحوا بوجوب إزالة الوسخ المذكور
متى كان مانعا من وصول الماء ، فلو لم يمنع استحب إزالته
ـ ان مجرد وصول الماء إلى ما تحت الوسخ كاف في صحة الغسل ، وهو مناف لما
فسروا به الغسل من اشتراط الجريان في تحققه ، لان ما تحت الوسخ من جملة ما يجب
غسله الذي لا يتحقق إلا بإجراء الماء عليه.
نعم يظهر من
شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في بعض تحقيقاته الاكتفاء بذلك في تطهير ما تحت الوسخ
من النجاسة الخبيثة ، بل ظاهره نقل الاتفاق على ذلك ، حيث أسنده إلى ظاهر النصوص
والفتاوى ، قال (قدسسره) ـ بعد تقرير المسألة بأن دخول الماء في الوسخ الكائن
تحت الظفر هل يكفي في طهارته إذا كان نجسا؟ من حيث انه لم يدخل فيه بقوة وجريان بل
على وجه الترشح والسريان ـ ما لفظه : «الظاهر من النصوص والفتاوى طهارة ما أصابه
الماء من ذلك وأمثاله وان لم يصل إليه بقوة ، بل يكفي مطلق وصوله اليه ونفوذ الماء
في الاجزاء النجسة ، وعموم الأوامر بالغسل وإطلاقها يشمله ، والإجماع واقع على
طهارة الثوب والجلد والحشايا التي تدخل النجاسة إلى أجزائها الداخلة بوصول الماء
إليها ، مع عصر ما يمكن عصره كالثوب ، ودق الحشايا وتغميزها لإخراج الغسالة
الداخلة في أعماقها. ولا شبهة في ان دخول الماء إلى هذه الأشياء انما هو على وجه
الترشح والنفوذ اللطيف» ثم أطال في الاستدلال على ذلك بذكر النظائر لما ذكره ، ثم
اعترض على الأصحاب فيما أطلقوه مما قدمنا نقله عن ظاهر كلامهم ، وقال بعد نقل شطر
من عبائرهم في ذلك : «وظاهر هذه العبارات ـ كما ترى ـ الاكتفاء بمطلق وصول الماء
إلى البشرة ، لكن لما عهد من الشارع في غسل الوضوء والغسل اعتبار الجريان ، فليكن
هناك كذلك ، إلى ان قال : ولو فرض انهم يكتفون بمطلق وصول الماء فالأظهر عندنا انه
لا يكفي ذلك ، لعدم الدليل على سقوط ما وجب فيه. ثم قال : وعلى هذا يحصل الفرق بين
طهارة ما تحت الوسخ من الخبث ومن الحدث ، إذ المعتبر في طهارة الخبث مجرد وصول
الماء إلى ما ذكر مع انفصال ما يمكن انفصاله عنه ، وفي الحدث الجريان على نفس
البشرة» انتهى كلامه زيد إكرامه.
وما ذكره (قدسسره) ـ من الاكتفاء في طهارة الوسخ المذكور بمجرد وصول
الماء إلى اجزاء الوسخ ولو على جهة الترشح والسريان ـ لا يخلو من قوة ، لما ذكره
من الأدلة. إلا ان ما ذكره أخيرا ـ من الفرق في طهارة ما تحته من الخبث والحدث
بالاكتفاء بمجرد وصول الماء في الأول ، واعتبار الجريان في الثاني ـ ليس بموجه ،
فان الغسل متى اعتبر بالنسبة إلى البدن ونحوه من الأجسام الصلبة ، كان عبارة عندهم
عما يدخل الجريان في مسماه ولا يتحقق بدونه ، سواء كان لازالة خبث أو حدث ، ومتى
اعتبر بالنسبة إلى الثوب والحشايا ونحوها من الأجسام المنطبعة ، كان عبارة عن
استيعاب المحل النجس مع انفصاله عنه ، ولهذا قابلوه في الأول بالمسح الذي لا يشترط
فيه الجريان عندهم ، وفي الثاني بالرش والصب الذي لا يشترط فيه الكثرة ولا
الانفصال ، وحينئذ فالغسل متى اعتبر في البدن لارالة حدث أو خبث ، فلا بد في تحققه
وصدق اسمه عليه من الجريان عندهم ، إذ الواجب الغسل ، وهو شرعا بالنسبة إلى البدن
ونحوه عبارة عن جري جزء من الماء على جزئين من البشرة بنفسه أو بمعاون ، واعتبار
الاكتفاء بمجرد الوصول إلى اجزاء المتنجس ـ ولو على جهة الترشح والنفوذ ـ انما قام
بالنسبة إلى غير البدن من الأجسام المنطبعة ، كما عرفت مما حققه هو وغيره في محله
، وحينئذ فحق الكلام بالنسبة إلى تطهير الوسخ تحت الظفر ـ بمقتضى قواعدهم
وتحقيقاتهم ـ هو طهارة الوسخ بمجرد نفوذ الماء فيه ، وتوقف تطهير ما تحته على
الجريان المعتبر في حقيقة الغسل عندهم متى تعلق بالبدن ونحوه. وانما أطلنا الكلام
في هذا المقام لقلة دوران المسألة في كلام علمائنا الأعلام.
الركن الرابع ـ مسح الرأس
وتحقيق الحكم
فيه يتوقف على أمور :
(الأول) ـ اختصاص
المسح بمقدم الرأس ـ بشرة أو شعرا مختصا به ـ مما
انعقد عليه الإجماع فتوى ، وهو الأشهر رواية :
فمن الأخبار في
ذلك قوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «مسح الرأس على مقدمه».
وقوله في حسنته
بل صحيحته أيضا : «امسح على مقدم رأسك ...».
وقوله في صحيح
زرارة : «... وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ...».
الى غير ذلك من
الأخبار.
وظاهر الآية
وأكثر الأخبار وان تضمن مسح الرأس بقول مطلق إلا ان الواجب تقييده بالمقدم ، لما
ذكرنا من الإجماع والأخبار ، حملا للمطلق على المقيد. وما دل على خلاف ذلك من
الأخبار ـ كحسنتي الحسين بن أبي العلاء ورواية أبي بصير حيث تضمنت مسح المقدم والمؤخر ـ فخارج مخرج التقية . وما ذكره بعض من الاحتياط بمسح المؤخر ضعيف.
__________________
ثم انه قد ذكر
جملة من الأصحاب انه يشترط في شعر المقدم الذي يمسح عليه ان لا يخرج بمده عن حد
المقدم ، فلو خرج عن الحد المذكور لم يجز المسح على الزائد ، لخروجه عن محل الفرض
، بل يمسح على أصوله وما زاد ما لم يخرج عن الحد المذكور.
بقي هنا شيء
أغفل الأصحاب (رضوان الله عليهم) تحقيقه ولم يلجوا مضيقة ، وهو ان المقدم الوارد
في هذه الأخبار هل هو عبارة عما هو المتبادر من ظاهر اللفظ ، وهو ما كان من قبة
الرأس إلى القصاص مما يلي الجبهة ، الذي هو كذلك إلى القصاص من خلف ، فبأي جزء من
هذه المسافة مسح تأدى به الواجب ، أو هو عبارة عن الناصية وهي ما بين النزعتين كما
فسرها به جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في التذكرة وغيره في غيره ، وحينئذ
فيكون المقدم عبارة عما ارتفع من القصاص إلى ان يساوي أعلى النزعتين؟
لم أقف بعد
التتبع على من كشف عن ذلك نقاب الإبهام بكلام صريح في المقام إلا ان عباراتهم عند
التأمل في مضامينها ترجع إلى الأول.
وقد وقفت على
رسالة لشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (نور الله تعالى
ضريحه بأنوار جوده السبحاني) نقل فيها المعنى الأول عن بعض معاصريه من الفضلاء
العظام. والظاهر انه الوالد (قدس الله نفسه ونور رمسه) ونقل عنه دعوى إجماع
الطائفة عليه وعدم الخلاف ، ثم نسبه في دعوى ذلك إلى الوهم ، وقال : انه لم يصرح
بهذه الدعوى الغريبة غير شيخنا الشهيد الثاني في الروضة البهية في شرح اللمعة
الدمشقية ، وهو ظاهر كلامه في غيرها ، وربما يستفاد من إطلاق فحاوي كلام غيرهما
أيضا ، لكن أكثر عبارات الأصحاب والأخبار وأهل اللغة ظاهرة بل صريحة في ان المقدم
هو قصاص الشعر والناصية ، والمستفاد منها ان ذلك هو محل الفرض ، ويكفي مسماه ،
وأفضله مقدار ثلاث أصابع مضمومة من قصاص الشعر إلى ما بلغت لا أزيد ، وانه لو مسح
ما فوق ذلك
بدون مسح الناصية لم يكفه وكان الوضوء باطلا ، لعدم الدليل الثابت على جواز
التعبد به.
ثم أورد (قدسسره) مقامات ثلاثة تتضمن الاستدلال على ما ذهب اليه : ذكر
في أولها الأخبار الواردة في المسألة ، وفي ثانيها كلام أهل اللغة في ذلك. وفي
ثالثها عبارات الأصحاب الدالة على ما ذكره.
وحيث ان
المسألة غير مكشوف عنها نقاب الإبهام في كلام علمائنا الاعلام مع كونها من المهام
العظام ، فلا بد من إرخاء عنان القلم في تنقيحها وتمييز باطلها من صحيحها وبيان ما
هو المستفاد من كلام الأصحاب في المقام واخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) :
فنقول : الظاهر
ان ما ذكره شيخنا المشار اليه ـ وادعى انه المفهوم من كلام أكثر علمائنا الأبرار ،
وأخبار الأئمة الأطهار ، وكلام أهل اللغة الذي عليه المدار ـ ليس بذلك المقدار ،
ومنشأ الشبهة عنده هي حسنة زرارة الدالة على المسح على الناصية خاصة وها نحن نتكلم على
المقامات الثلاثة بما يقشع غمام الإبهام ونشير إلى ما أورده (قدسسره) على الخصوص في كل مقام ، ليتبين للناظر ما هو الأوفق
باخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) والاربط بكلام علمائنا الأعلام :
فنقول : اما
الأخبار الواردة في هذه المسألة فقد تضمن شطر منها ـ وهو أكثرها ـ المسح على الرأس
، وجلها في الوضوء البياني ، وشطر منها تضمن المسح على مقدم الرأس وشطر تضمن المسح
على الناصية ، وهو صحيحة زرارة المتقدمة خاصة .
والكلام في
المعنى المراد من الأخبار انما يتضح بعد الوقوف على كلام الأصحاب وما ذكره أهل
اللغة في هذا الباب :
فاما كلام
الأصحاب فمنه ـ ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية بعد قول المصنف : «الرابع
ـ مسح مقدم شعر الرأس» حيث قال في ضبطه : «المقدم بضم الميم وتشديد الدال المفتوحة
نقيض المؤخر بالتشديد» انتهى. وصراحة العبارة
__________________
في المراد أظهر من ان يعتريها الإيراد.
وقال في الروض
بعد قول المصنف : «ويجب مسح مقدم بشرة الرأس» ما لفظه : «دون وسطه أو خلفه أو أحد
جانبيه».
وقريب منها
عبارة الفاضل الخراساني في الذخيرة ، حيث قال بعد عبارة المصنف : «دون سائر جوانبه».
وقال المحقق
الخوانساري في شرح الدروس بعد تقسيم ذكره سابقا : «وثانيها ـ اختصاصه بالمقدم ،
فلو مسح المؤخر أو الوسط أو أحد جانبيه لم يجز».
وأنت خبير بان مقابلة
الاختصاص بالمقدم في هذه العبائر ونحوها بهذه المواضع الثلاثة ـ من مؤخر الرأس
ووسطه وجانبيه ـ تعطى انحصار المقدم فيما بين القصاص إلى الوسط ، وإلا لبقي فرد
آخر مغفل في الكلام ، فلا يدل التفريع على الانحصار ، إذ لا يخفى ان الغرض من
المقابلة ـ في أمثال هذه المقامات بعد إثبات الحكم لبعض الافراد بنفيه عن الافراد
الأخر ـ إنما هو الحصر في ذلك الفرد ، كما لا يخفى على الفطن اللبيب العارف
بالأساليب.
وقال المولى
المحقق الأردبيلي (رحمهالله) : «ان ظاهر الآية وبعض الأخبار يدل على اجزاء مسح اي
جزء كان من الرأس. ولعل الإجماع ـ مؤيدا بالوضوء البياني ، وبصحيحة محمد بن مسلم قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : امسح الرأس على مقدمه». وبحسنة زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) «وتمسح ببلة يمناك ناصيتك». ـ دال على ان المراد جزء من مقدم الرأس لا اي
جزء كان ، ولعل المراد بالناصية في الخبر هو مقدم الرأس ، لأنه أقرب إلى الناصية
المشهورة أو اسم له حقيقة» انتهى.
وحاصل كلامه ان
ظاهر الآية وبعض الأخبار دل على اجزاء مسح اي جزء
__________________
من الرأس ، ولما عارضه الإجماع والأخبار الدالة على خصوص مسح المقدم دل على
تخصيص الرأس بالمقدم ، لكن لما كان من تلك الأخبار المخصصة حسنة زرارة الدالة على
الناصية التي هي أخص من المقدم ، أراد الجمع بينها وبين اخبار المقدم بحمل الناصية
على المقدم ، مجازا لقرينة المجاورة ، أو حقيقة شرعية.
ثم ان أكثر
عبائر الأصحاب في هذا المقام قد اشتملت على التعبير بالمقدم مفردا أو مضافا إلى
الرأس ، ومن الظاهر البين ان كل أحد لا يفهم من لفظ المقدم المضاف إلى الرأس أو
غيره متى أطلق إلا ما قابل المؤخر ، وسيأتي لك أيضا ما يعضده من كلام أهل اللغة.
وبذلك يعلم أيضا انه لا يطلق مجردا عن القرينة الأعلى ذلك المعنى.
وبذلك أيضا
اعترف شيخنا المذكور في آخر رسالته حيث قال : «لا يقال : ان إطلاق الدليل من الآية
يقتضي جواز المسح على الرأس ، وحيث قد جاءت السنة مخصصة له بالمقدم وهو يطلق على
ضد المؤخر ، كانت مقيدة لإطلاق الكتاب ، فيبقى ما صدق عليه المقدم سالما من
التقييد ، فيكون كله صالحا للمسح. لأنا نقول : الأمر كما ذكرتم لكن نحن لا نسلم
إطلاق المقدم هنا على ما ادعيتموه بعد تفسير أهل اللغة له بالناصية وورود الحديث
الصحيح بكون الباء للتبعيض ، فهو وان سلمنا ما هو أعم منها فلا أقل ان يكون من باب
حمل المطلق على المقيد» انتهى.
وسيظهر لك
الجواب عما أورده هنا. وبذلك يظهر لك ما في استدلاله بعبارات جملة من الأصحاب ،
فإن جلها من هذا الباب :
فمما نقله (قدسسره) كلام الصدوق (رحمهالله) في الفقيه حيث قال : «وحد مسح الرأس ان تمسح بثلاث
أصابع مضمومة من مقدم الرأس» ومثله عبارته في الهداية إلا انه قال : «أربع أصابع».
وأنت لا يخفى
عليك بعد الإحاطة بما حررناه انه لا دلالة فيها على شيء مما ادعاه لانه حكم بوجوب
مسح هذا المقدار المعين من المقدم ، وقد عرفت المعنى المتبادر من المقدم
وسيأتي أيضا ما يؤكده ، فيكون معناه وجوب مسح هذا المقدار من اي جزء من
اجزاء هذه المسافة ، واي دليل له في ذلك؟ بل هو بالدلالة على خلاف مدعاه ـ بتقريب
ما حققناه ـ أشبه.
ثم نقل عن
الشيخ المفيد في المقنعة انه قال : «يمسح من مقدم رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة من
ناصيته إلى قصاص شعره مرة واحدة» وعبارة الشيخ في النهاية «ثم يمسح بباقي نداوة
يده من قصاص شعر رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة» وهاتان العبارتان وان دلتا على كون
المسح في هذا المكان الذي يدعيه. لكن لا دلالة لهما على الانحصار فيه وعدم اجزاء
ما سواه كما هو المدعى. وصدر عبارة الشيخ المفيد ظاهر الدلالة على ان مقدم الرأس
عبارة عما ادعيناه.
ثم نقل كلام
السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، فقال : «قال الناصر في المسائل الناصرية :
فرض المسح متيقن بمقدم الرأس والعامة إلى الناصية. فكتب السيد المرتضى (رضياللهعنه)
في جوابه : هذا صحيح وهو مذهبنا ، وبعض الفقهاء يخالفون في ذلك ويجوزون المسح على
اي بعض كان من الرأس. والدليل على صحة مذهبنا الإجماع المتقدم ذكره. وأيضا فلا
خلاف بين الفقهاء في ان من مسح على مقدم الرأس فقد ادى الفرض ، وليس كذلك من مسح
مؤخر الرأس ، فما عليه الإجماع أولى» انتهى والعجب منه (قدسسره) في إيراد هذه العبارة واستناده إليها وهي ـ كما ترى ـ صريحة
الدلالة في خلاف مدعاه ، اما في كلام الناصر فظاهر ، واما في كلام السيد (رحمهالله) فلجوابه بأنه مذهبنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وكأنه
(قدسسره) أوردها بطريق الاستعجال أو مع تشويش في البال.
ثم أورد عبارة
المرتضى (رضياللهعنه) في الانتصار ، وهو قوله : «ومما انفردت به الإمامية القول
بان الفرض مسح مقدم الرأس دون سائر أبعاضه ، والفقهاء
كلهم مخالفون في هذه الكيفية ولا يوجبونها ، ولا شبهة في ان الفرض عند
الإمامية متعلق بمقدم الرأس دون سائر أبعاضه» انتهى.
ثم نقل شطرا من
عبائر المتأخرين المشتلمة على التعبير بمقدم الرأس.
وأنت خبير بعد
الإحاطة بما أسلفناه انه لا اشعار فيها بما ذكره ولا إيناس ، بل هي في الدلالة على
خلاف ما يدعيه عارية عن الإبهام والالتباس ، وحينئذ فما ذكره (رحمهالله) بعد ذلك ـ من قوله : «فان كان مراد هؤلاء المتأخرين
بالمقدم الناصية ، وبالناصية قصاص الشعر وما فوقه بيسير وهو ما بين النزعتين فلا
كلام ، وان كان المراد ما هو أعم فالبحث أيضا جار معهم ، لانه خلاف فتوى المتقدمين
من الأصحاب والنصوص واللغة» انتهى ـ فهو تطويل بغير طائل. واعادة الكلام عليه بعد
تحقيق ما أسلفناه تحصيل الحاصل.
واما كلام أهل
اللغة فمما استند اليه وأورده كلام القاموس ، حيث قال : «... ومقدمة الجيش ـ وعن
ثعلب فتح دالة ـ متقدموه ، وكذا قادمته وقداماه ، ومن الإبل أول ما ينتج ويلقح ،
ومن كل شيء اوله ، والناصية ، والجبهة» ثم قال (قدسسره) بعده «وهو صريح في كون المقدم هو الناصية» انتهى.
وأنت خبير بان
الظاهر من هذه العبارة بالنسبة إلى ما نحن فيه إطلاق المقدم على ثلاثة معان : (أحدها)
ـ أول الشيء ، فإذا أضيف المقدم إلى الرأس يكون بمعنى اوله. و (الثاني) ـ الناصية.
و (الثالث) ـ الجبهة.
والأول منها هو
الذي اتفقت عليه كلمة أهل العرف ، وعليه أيضا اتفقت كلمة أهل اللغة :
فمنها ـ ما
ذكره هنا ، فان المراد من الأول في عبارته ما قابل الآخر ، كما ذكره في مادة (أخر)
حيث قال : «والآخر خلاف الأول» ومن المعلوم ان الأول بالنسبة إلى الرأس هو المقدم
كما ان الآخر هو المؤخر.
ومن ذلك ـ ما
صرح به في كتاب مجمع البحرين حيث قال : «والمقدم بفتح الدال والتشديد نقيض المؤخر
، ومنه مسح مقدم رأسه» انتهى. وفيه دلالة واضحة على انه المراد شرعا.
وقال في الصحاح
: «ومؤخر الشيء نقيض مقدمه».
وقال في
المصباح : «ومؤخر كل شيء بالتثقيل والفتح خلاف مقدمه».
واما المعنى
الثاني وهو إطلاقه على الناصية فلا دليل فيه على ما ادعاه (طاب ثراه) فإن الناصية
عند أهل اللغة إنما هي عبارة عن القصاص الذي هو لغة وشرعا آخر منابت شعر الرأس ،
قال في القاموس : «الناصية قصاص الشعر» ومثله في المصباح. وفي مجمع البحرين : «الناصية
قصاص الشعر فوق الجبهة» والناصية عند الفقهاء ـ كما تقدم في كلام العلامة في
التذكرة ، وهو الذي يدعيه شيخنا المزبور ويخص موضع المسح به ـ هو ما ارتفع عن
القصاص حتى يسامت أعلى النزعتين ، وحينئذ فإطلاق المقدم على الناصية في عبارة
القاموس ـ مع ما عرفت من معناها لغة ـ لا دليل فيه على ما ادعاه. ومع تسليم ان
المراد بها ما ادعاه ، ففيه انه قد أطلق فيه أيضا على ما ادعيناه ، وهو المعنى
الأول فالتخصيص بما ادعاه ترجيح من غير مرجح ، بل المرجح في جانب المعنى الذي
ادعيناه حيث انه مما اتفقت عليه كلمة العرف واللغة كما عرفت ، فحمل الأخبار عليه
أظهر البتة. على ان هذا المعنى الذي ذكره لم نجده في شيء من كتب اللغة بعد الفحص
سوى القاموس. وكيف كان فلا ريب في رجحان مقابله.
ومما نقله أيضا
في رسالته عبارة المصباح المنير ، حيث قال فيه : «الناصية قصاص الشعر وجمعها
النواصي. ونصوت فلانا نصوا من باب قتل : قبضت على ناصيته. وقول أهل اللغة ـ :
النزعتان هما البياضان اللذان يكتنفان الناصية ، والقفا مؤخر الرأس والجانبان ما
بين النزعتين والقفا ، والوسط ما أحاط به ذلك. وتسميتهم كل موضع باسم يخصه ـ كالصريح
في ان الناصية مقدم الرأس ، فكيف يستقيم على هذا تقدير الناصية بربع
الرأس؟ وكيف يصح إثباته بالاستدلال؟ والأمور النقلية إنما نثبت بالسماع لا
بالاستدلال ومن كلامهم «جز ناصيته» «وأخذ بناصيته» ومعلوم انه لا يتقدر ، لأنهم
قالوا : الطرة هي الناصية. واما الحديث «ومسح بناصيته» فهو دال على هيئة ، ولا
يلزم نفي ما سواها. وان قلنا : الباء للتبعيض ارتفع النزاع» انتهى. ثم قال (رحمهالله) بعدها : «وهو نص على ما امليناه وشاهد صدق على ما
ادعيناه» انتهى.
أقول : والذي
يلوح للفكر القاصر ان مراد صاحب المصباح من سوق هذا الكلام ـ حيث انه شافعي المذهب
ـ الرد على أبي حنيفة فيما ذهب اليه من وجوب المسح على ربع الرأس مدعيا أنه
الناصية ، مستندا إلى رواية المغيرة بن شعبة عن النبي (صلىاللهعليهوآله) بأنه مسح على ناصيته ، قال : «والناصية تقرب من ربع
الرأس» . فقال صاحب الكتاب بعد تفسير الناصية بما فسيرها به
غيره من أهل اللغة بقصاص الشعر : ان تخصيص أهل اللغة كلا من هذه المواضع من اجزاء
الرأس باسم على حدة ـ ولم يعينوا اسما للمسافة التي من القصاص مما يلي الوجه إلى
قمة الرأس ـ يعطي أن الناصية في كلامهم اسم لمقدم الرأس الذي هو عبارة عن هذه
المسافة ، وحينئذ فاما ان تكون الناصية عبارة عن القصاص كما هو المشهور في كلامهم
، أو عن مجموع المقدم كما هو المستفاد من هذا التقسيم ، فالقول بكونها عبارة عن
ربع الرأس لا مجال له. ثم اعترض عليه بأنه كيف يثبت بالاستدلال ، إشارة إلى
الاستدلال بالرواية المذكورة ، وساق الكلام في الرد على أبي حنيفة وتأويل الحديث
الذي استند اليه. هذا ما يفهم من العبارة المذكورة. وقوله ـ : «كالصريح في ان
الناصية مقدم الرأس» بحمل المقدم على الناصية دون العكس ـ يرشد إلى ما ادعيناه ،
وحينئذ فالعبارة في الدلالة على ما ندعيه أظهر.
__________________
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان جل الأخبار قد اشتمل على وجوب المسح على الرأس وجملة منها قد اشتمل على
وجوب مسح مقدمه ، فيجب حمل مطلقها على مقيدها كما هو القاعدة المطردة.
بقي في المقام
صحيحة زرارة المشتملة على مسح الناصية ويمكن الجمع بينها وبين اخبار المقدم بوجوه :
(أحدها) ـ بما
تقدم في كلام المحقق المولى الأردبيلي (رحمهالله) من حمل الناصية على المقدم ، مجازا لقرينة القرب
والمجاورة ، أو حقيقة شرعية. ويؤيده ما صرح به الشيخ الطبرسي (رحمهالله) في كتاب مجمع البيان في تفسير قوله سبحانه : «...
فَيُؤْخَذُ
بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ)» حيث قال : «والناصية شعر مقدم الرأس».
و (ثانيها) ـ كون
الأمر بالمسح بالناصية لكونها أحد أجزاء الموضع الممسوح ولا دلالة فيه على
الاختصاص ونفى ما سوى هذا الموضع وانه لا يجزئ المسح عليه ، كما ورد في جملة من
الأخبار المسح بإصبع ، فإنه لا دلالة فيه على تعيين هذا القدر لا في الماسح ولا في
الممسوح ، ويؤيد ذلك ما ورد في الأخبار ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ من ان
المرأة لا تمسح بالرأس كما تمسح الرجال ، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع
الخمار عنها ، وإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها ، فان ظاهره ـ
كما ترى ـ ان مسح رأسها في الصبح بعد وضع الخمار عنها في غير موضع الناصية أو
زيادة عليها ، بخلاف باقي الصلوات مع بقاء الخمار عليها فإنها تدخل يدها تحته
وتمسح على الناصية خاصة.
و (ثالثها) ـ حمل
المسح ببلة اليمنى على الدخول في حيز الاجزاء ، بعطف قوله : «وتمسح» بإضمار «ان»
على قوله : «ثلاث غرفات» كما سيأتي تحقيقه ،
__________________
فيصير مسح الناصية داخلا تحت الأجزاء الذي هو أقل مراتب الواجب ، فيسقط
الاستدلال بها رأسا.
وذيل الكلام في
المقام واسع الأطراف إلا أنا اقتصرنا على ما فيه كفاية للمتأمل بعين الإنصاف.
وبما حققناه في
المقام وكشفنا عنه نقاب الإبهام ، ظهر لك ان ما نقله شيخنا المشار إليه في رسالته
عن الوالد الماجد (نور الله تعالى تربتهما) من الإجماع صحيح لا غبار عليه ، ولا
يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه وليته كان حيا فاهدى هذا التحقيق اليه ،
ويتبين أيضا ان هذا القول ليس مخصوصا بشيخنا الشهيد الثاني في الروضة أو غيرها من
كتبه ، وان الوالد قلده في ذلك فأغرب بدعوى الإجماع على ما هنالك ، كما بسط به ذلك
الفاضل لسان التشنيع وسجل به من القول الفظيع.
(الثاني) ـ اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في قدر واجب المسح من الرأس :
فالمشهور ـ كما
نقله جمع : منهم ـ السيد السند في المدارك ـ الاكتفاء بالمسمى ، ولو بجزء من إصبع
ممرا له على الممسوح ، ولا يجزئ مجرد الوضع ، لعدم صدق المسح بذلك.
ونقل الشهيد في
الذكرى عن القطب الراوندي في أحكام القرآن انه لا يجزئ أقل من إصبع.
وظاهر المفيد
في المقنعة ذلك ، قال : «ويجزئ الإنسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار إصبع
يضعها عليه عرضا من الشعر إلى قصاصه ، وان مسح منه مقدار ثلاث أصابع مضمومة بالعرض
كان قد أسبغ» انتهى. فان المتبادر من لفظ الاجزاء ان يراد به أقل الواجب.
وهو الظاهر
أيضا من كلام الشيخ في التهذيب حيث قال بعد نقل العبارة المذكورة : «يدل على ذلك
قوله تعالى : «...
وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ...» ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم
ويسمى ماسحا ، ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع ، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا
بجواز ذلك لكن السنة منعت منه» انتهى.
ويظهر من
العلامة في المختلف اختيار ذلك أيضا ، بل نسبه فيه إلى المشهور ولم ينقل القول
بالمسمى فيه أصلا ، حيث قال : «المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس
والرجلين بإصبع واحدة» ثم نقله عن الشيخ في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وابن الجنيد
وسلار وأبي الصلاح وابن البراج وابن إدريس ، ثم نقل جملة من عبائر الأصحاب
المشتملة على المسح بثلاث أصابع.
وبذلك أيضا صرح
الشهيد في الدروس حيث قال : «ثم مسح مقدم الرأس بمسماه ولا يحصل بأقل من إصبع»
وقال بعد ذلك : «والزائد عن إصبع من الثلاث مستحب»
وهو ظاهره في
البيان ، حيث قال : «والواجب مسماه ولو بإصبع» ثم نقل الثلاث عن النهاية وحمله على
الاستحباب.
بل هو ظاهره في
الذكرى حيث قال : «الثانية ـ الواجب في المقدم مسمى المسح ، لإطلاق الأمر بالمسح
الكلي ، فلا يتقيد بجزئي بعينه. ثم قال : الثالثة ـ لا يجزئ أقل من إصبع ، قاله
الراوندي في أحكام القرآن» ثم نقل عن المختلف ان المشهور الاكتفاء به ، ثم نقل
العبارات المتعلقة بالثلاث.
فان ظاهر هذا
الكلام بمعونة صريح الدروس وظاهر البيان هو القول بالمسمى وحمله على الإصبع ، ولا
ينافي ذلك نقله له عن الراوندي.
وهو ظاهره أيضا
في الرسالة ، حيث قال : «الرابع ـ مسح مقدم الرأس
__________________
حقيقة أو حكما ببقية البلل ولو بإصبع» نظرا إلى جعله الإصبع المرتبة الدنيا
للاجزاء مبالغة.
وشيخنا الشهيد
الثاني في شرحها تمحل في صرفها عن ظاهرها ، فقال بعد ذكر العبارة : «يعني الاكتفاء
بكون الإصبع آلة للمسح بحيث يحصل بها مسماه لا كونه بقدر الإصبع عرضا» انتهى. بل
تمحل ذلك في شرح الإرشاد بإجراء هذا التأويل في جملة العبارات المشتملة على
التحديد بالإصبع.
وأنت خبير بعدم
انطباق هذا التأويل على عبارة الدروس ، فإنها صريحة في ان المراد وجوب مقدار
الإصبع. وأصرح منها كلام الشيخ في التهذيب. وتكلفه فيما عداهما على غاية من البعد.
وقال الصدوق في
الفقيه : «وحد مسح الرأس أن تمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس».
وبه صرح الشيخ
في النهاية لكن خصه بحال الاختيار ، فقال : «لا يجوز أقل من ثلاث أصابع مضمومة مع
الاختيار ، فان خاف البرد من كشف الرأس أجزأه مقدار إصبع واحدة».
ونسب ذلك أيضا
إلى المرتضى في مسائل الخلاف ، وإلى هذا القول يميل كلام المحدث الأمين
الأسترآبادي ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتاب الوسائل ، حيث
قال : «باب أقل ما يجزئ من المسح» ثم أورد روايات الإصبع وروايات الثلاث أصابع.
ويدل على الأول
ظاهر الآية لإطلاق الأمر فيها بالمسح فلا يتقيد بجزئي بعينه ،
والباء فيها للتبعيض بدلالة النص الصحيح .
__________________
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة الأخوين : «... وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ...».
وفي صحيحة أخرى
لهما أيضا «... فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من رجليه ...».
ويدل على
الثاني صحيحة حماد عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهماالسلام) «في الرجل يتوضأ وعليه العمامة؟ قال : يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه.
فيمسح على مقدم رأسه».
ورواية الحسين
بن عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يمسح رأسه من خلفه ـ وعليه عمامة ـ بإصبعه ، أيجزيه
ذلك؟ فقال : نعم».
ويدل على القول
الثالث صحيحة زرارة قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث
أصابع ولا تلقى عنها خمارها».
فان لفظ
الاجزاء إنما يستعمل في أقل الواجب.
وما رواه الكشي
في رجاله عن محمد بن نصير عن محمد بن عيسى عن يونس قال : «قلت لحريز يوما : يا أبا عبد الله كم يجزيك ان
تمسح من شعر رأسك في وضوئك للصلاة؟ قال : بقدر ثلاث أصابع ، وأومأ بالسبابة
والوسطى والثالثة ، وكان يونس يذكر عنه فقها كثيرا». وظاهره ان حريز كان يرى المسح
بقدر ثلاث.
ورواية معمر بن
عمر عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «يجزئ من المسح
__________________
على الرأس موضع ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل».
ونقل في الذكرى
عن ابن الجنيد تخصيص اعتبار الثلاث بالمرأة دون الرجل ، وتخصيص الرجل بالإصبع
الواحدة ، حيث قال : «يجزئ الرجل في المقدم إصبع والمرأة ثلاث أصابع» ولعله استند
إلى صحيحة زرارة المتقدمة ، ولعل من استند إليها مطلقا بنى على عدم وجود القائل
بالفرق ولم يعتبر بخلاف ابن الجنيد ، مؤيدا ذلك برواية معمر بن عمر.
ثم انه لا يخفى
عليك ان أقصى ما يستفاد من أدلة القول الأول وجوب مسح بعض من الرأس بمقتضى الآية
وشيء منه بمقتضى الأخبار ، ومن الظاهر المتفق عليه انه ليس المراد بعضا ما من
الأبعاض ولا شيئا ما من الأشياء ، بل بعضا معينا من أبعاض الرأس وشيئا معينا من
اجزائه. فلا بد من الرجوع إلى دليل معين لذلك البعض المراد ، وليس إلا هذه الأخبار
الدالة على الإصبع أو الثلاث ، فكما انه بالنسبة إلى تعيين محل المسح من إطلاق
الآية والأخبار المطلقة ، أوجبوا الرجوع إلى أخبار المقدم فخصوا إطلاقها به ، ولم
يجوزوا المسح على غير المقدم من اجزاء الرأس ، فكذلك يجب ان يكون بالنسبة إلى
مقدار المسح ، فيجب الرجوع إلى ما دل عليه من الأخبار ، وتخصيص الآية وجملة
الأخبار الموافقة لها في الإطلاق به.
وبالجملة
فالروايات في هذه المسألة ما بين مطلق ومقيد أو مجمل ومفصل ، والمقيد يحكم على
المطلق والمفصل على المجمل ، فالعمل بالمفصل والمقيد متعين ما لم يظهر خلافه.
ورجح السيد
السند في المدارك حمل الأخبار المقيدة على الاستحباب كما هو المشهور ، بعد ان
احتمل ما ذكرناه من تقييد مطلق أخبار المسألة بمقيدها.
وأنت خبير بما
فيه بعد ما ذكرناه ، فإنها عند التحقيق غير دالة على ما ذكروه من المسمى كما عرفت.
نعم يبقى
الكلام في التوفيق بين روايات الإصبع والثلاث ، ويمكن ذلك بأحد وجوه :
(منها) ـ حمل
روايات الإصبع ـ حيث انها قد اتفقت على المسح بها تحت العمامة ـ على الضرورة ، لما
في رواية حماد عن الحسين قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل توضأ وهو معتم فثقل عليه نزع العمامة لمكان
البرد؟ فقال ليدخل إصبعه». وهذا هو ظاهر الشيخ في النهاية كما سلف في عبارته.
و (منها) ـ حمل
الإصبع على أقل الواجب والثلاث على الاستحباب ، كما هو ظاهر المقنعة ، وصريح
الدروس ، وظاهر غيره أيضا كما مر.
و (منها) ـ حمل
روايات الثلاث على مسح هذا المقدار في عرض الرأس والإصبع الواحدة على كونه في
الطول ، فان ظاهر روايات الثلاث اعتبار مسح هذا المقدار لا وجوب كونه بثلاث أصابع
، وان كان ظاهر عبارة الصدوق تعين كونه بثلاث أصابع ، الا انه خلاف ظاهر الأخبار ،
فيجب تأويله ورده إليها.
وأكثر الأصحاب
حملوا روايات الإصبع والثلاث على هذا الوجه ، لكن القائلين منهم بالاكتفاء بالمسمى
ولو بجزء من إصبع يجعلون ذلك على جهة الاستحباب ، قال شيخنا المحقق الثاني في شرح
القواعد : «اعلم ان المراد بمقدار ثلاث أصابع في عرض الرأس ، اما في طوله فمقداره
ما يسمى ماسحا ، ويتأدى الفضل بمسح المقدار المذكور ولو بإصبع» انتهى.
واما ما احتمله
بعض متأخري المتأخرين من جواز ان يكون الأمر بإدخال الإصبع في تلك الأخبار لأن
يكون آلة للمسح ـ بناء على ما قدمناه من كلام شيخنا الشهيد الثاني ـ فبعيد جدا.
وما ذكره بعض
مشايخنا المحققين ـ من ان استناد الشيخ في وجوب مسح
__________________
مقدار الثلاث إلى صحيحة زرارة ورواية معمر المتقدمتين ضعيف ، إذ لا يلزم من اجزاء قدر عدم اجزاء ما دونه إلا
بالمفهوم الضعيف ، ولو سلم دلالته عرفا فلا يعارض ظاهر الكتاب ومنطوق الخبر الصحيح
ـ
ففيه ان
الاستدلال بهما ليس باعتبار دلالة مفهوم اللقب الضعيف ، وانما هو باعتبار الدلالة
العرفية المسلمة بينهم في غير موضع كما ذكره هو وغيره ، واما ما ذكره من معارضة
الكتاب والنص الصحيح فليس بشيء بعد ما عرفت ، لعدم المعارضة بين المطلق والمقيد
والمجمل والمبين ، إذ يجب بمقتضى القاعدة المسلمة فيما بينهم في غير موضع حمل
الأول منهما على الثاني.
ثم اعلم ان
الروايات بمسح قدر الثلاث والمسح بإصبع ليس في شيء منها تقييد بكونه في جهة العرض
أو الطول. لكن جملة من الأصحاب ـ كما عرفت ـ قيدوا روايات الثلاث بكون ذلك المقدار
في جهة العرض كما تقدم في كلام ثاني المحققين ، ومثله أيضا كلام ثاني الشهيدين في
شرح الشرائع ، حيث قال ـ بعد قول المصنف : «والمندوب مقدار ثلاث أصابع عرضا» ـ ما
لفظه : «عرضا حال من الأصابع أو بنزع الخافض ، والمراد مرور الماسح على الرأس بهذا
المقدار وان كان بإصبع لا كون آلة المسح ثلاث أصابع» انتهى.
والمفهوم من
عبارة الشيخ المفيد المتقدمة ان أقل الواجب مقدار إصبع يضعها عليه عرضا. فان كان
مستنده (رحمهالله) حمل روايات الإصبع على مقدارها عرضا وإلا فهو خال من
المستند مع كون حمل تلك الروايات على ذلك في غاية البعد من حاق لفظها فإنها ظاهرة
الصراحة في كون المسح بالإصبع ، فهو في التحقيق خال عن المستند. اللهم الا ان تحمل
اخبار قدر الثلاث على كونه طولا ، وهي تقرب من الواحدة عرضا ، وإلى هذا الحمل مال
المحقق المحدث الأسترآبادي (قدسسره) حيث قال ـ بعد نقل كلام ثاني
__________________
المحققين وثاني الشهيدين المتقدم الدال على حمل روايات قدر الثلاث على كونه
في جهة العرض ـ ما هذا لفظه : «الظاهر من الروايات ان يكون الممسوح من عرض الرأس
بقدر طول إصبع ومن طوله بقدر ثلاث أصابع مضمومة. ومن الروايات المشار إليها صحيحة
زرارة المشتملة على قوله (عليهالسلام): «وتمسح ببلة يمناك ناصيتك». لان المتبادر منها مسح
كلها ، وصحيحته الأخرى قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) : المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث
أصابع ولا تلقى عنها خمارها». ورواية معمر عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «يجزئ من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع ،
وكذلك الرجل». والناصية في غالب الناس عرضها قدر طول إصبع وطولها قدر ثلاث أصابع
مضمومة» انتهى.
وقال صاحب رياض
المسائل وحياض الدلائل بعد كلام في المقام : «والحاصل انا لم نظفر بما تضمن المسح
بالثلاث ، بل المسح بالإصبع ، أو مسح موضع الثلاث ومقدارها ، من غير تقييد المسح
بكونه في طول الرأس أو عرضه ، ولا لموضع الثلاث بكونه مأخوذا من أحدهما أو كليهما
حالة وضع الثلاث على الرأس ، منطبقا كل من خطيها الطولي والعرضي على مثله من خطئه
أو على مقابله ، فالإعراض عنه ـ من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه» . اولى» انتهى.
وفيه ان الظاهر
من الأخبار ـ بعد ضم بعضها إلى بعض ـ هو ما ذكره المحدث الأمين (قدسسره).
(الثالث) ـ المفهوم
من كلام القائلين بالمسمى أو الإصبع ان غاية ما يستحب الزيادة عليه بلوغ قدر ثلاث
أصابع مضمومة ، واما ما زاد على ذلك المقدار ، فهل يكون
__________________
محرما أو جائزا ، أو يفرق فيه بين استيعاب الرأس وعدمه؟ أقوال :
قال شيخنا
الشهيد الثاني في شرح الرسالة : «وغاية المؤكد ثلاث أصابع ، ويجوز الزيادة عليها
ما لم يستوعب جميع الرأس ، فيكره على الأصح ، الا ان يعتقد شرعيته فيأثم خاصة.
وقيل يبطل المسح. وقد أغرب الشارح المحقق (رحمة الله) حيث جعل الزائد على الثلاث
أصابع غير مشروع» انتهى.
وممن صرح
بكراهة الاستيعاب الشهيد في الذكرى والدروس ، معللا له في الذكرى بأنه تكلف ما لا
يحتاج اليه. وفيه ضعف.
ونقل عن ابن
حمزة تحريمه. لانه مخالف للمشروع. وظاهره عدم الفرق بين اعتقاد المشروعية وعدمه.
وفي الخلاف
ادعى الإجماع على بدعيته فيجب نفيه.
وابن الجنيد
حرمه مع اعتقاد المشروعية ، وأبطل به الوضوء. ورده جملة من المحققين باشتمال مسح
الرأس على الواجب فلا يؤثر الاعتقاد في الزائد. نعم يأثم بذلك.
وأبو الصلاح
أبطل الوضوء لو تدين بالزيادة في الغسل أو المسح. ورد بما رد به سابقه.
أقول : والذي
يقرب عندي انه متى مسح أو غسل ما زاد على القدر الموظف شرعا ، فان كان مع عدم
اعتقاد المشروعية فالظاهر انه لا تحريم ولا كراهة ، لعدم الدليل على ذلك ، وان كان
مع اعتقاد المشروعية فالظاهر بطلان الوضوء لوجوه :
(أما أولا) ـ فلان
العبادات تابعة للقصود والنيات صحة وإبطالا ، بل وجودا وعدما كما تقدم تحقيقه ،
ومجرد حصول المأمور به شرعا ـ مع عدم كونه مقصودا بخصوصه كما أمر به الشارع ـ لا
يعتد به ، لأنه في الحقيقة واقع بغير نية ، وإلا لصحت صلاة من أتم عالما عامدا في
السفر بناء على استحباب التسليم ، فإنها قد اشتملت على الواجب واقعا ، مع ان
الإجماع نصا وفتوى على خلافه. واولى منه صحة صلاة التمام
في مواضع التخيير ثم أحدث عمدا أو قطع الصلاة بأحد القواطع في أثناء
الركعتين الأخيرتين ، بناء على استحباب التسليم ، وعدم قصد العدول إلى المقصورة ،
فإنه لا يجب عليه الإعادة ، لاشتمال صلاته هذه على الصلاة المقصورة التي هي أحد
الفردين في هذا المقام
و (اما ثانيا)
ـ فلانه تشريع وإدخال في العبادة ما ليس منها فيكون مبطلا.
و (اما ثالثا)
ـ فلان جملة من المحققين صرحوا في مسألة الفرق بين الغسل والمسح بأن النسبة بينهما
العموم من وجه وجوزوا المسح بما اشتمل على الجريان بشرط قصد المسح به ، وهو دال ـ كما
هو الواقع ـ على ان القصد مما له مدخل في الصحة والابطال ، وإلا فلو اجرى المكلف
الماء بيده على رجله كلها ورأسه كملا مع اعتقاده الغسل به ، لزم صحة وضوئه ،
لاشتماله على المسح شرعا بناء على ذلك القول وان كان غير مقصود له ، وعدم الضرر
باعتقاده كون ذلك غسلا ، وزيادته على ما هو الواجب واقعا. والآية والنصوص ترده.
و (اما رابعا)
ـ فلأنهم صرحوا ـ الا الشاذ منهم ـ بتحريم الغسلة الثالثة في الوضوء. واما الإبطال
بها فهو مذهب أبي الصلاح وظاهر الكليني والصدوق ، وهو أحد الأقوال في المسألة ،
وهو أظهرها دليلا :
لقول الصادق (عليهالسلام) في حديث داود الرقي المروي في كتاب رجال الكشي «... ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له».
وقوله (عليهالسلام) في الحديث المذكور لداود بن زربي : «توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه ، فإنك
ان زدت عليه ، فلا صلاة لك».
وما رواه في
الفقيه مرسلا في باب صفة وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : «قال (عليهالسلام) : من تعدى في وضوئه كان كناقضه». وسيأتي تحقيق ذلك في
محله.
__________________
(الرابع) ـ المفهوم
من ظاهر كلام الصدوق في الفقيه ، والشيخين في المقنعة والمبسوط والنهاية ، انه يجب
على المرأة وضع القناع في الصبح والمغرب لأجل المسح.
وصرح في
المقنعة بأنها تمسح هنا بثلاث أصابع من رأسها حتى تكون مسبغة ، وانه يرخص لها في
باقي الصلوات المسح تحت الخمار ، بان تكتفي بإدخال إصبع تحت خمارها ، قال في
المقنعة : «وتدخل إصبعها تحت قناعها فتمسح على شعرها ولو كان ذلك مقدار أنملة».
وصرح المحقق
والعلامة وجملة من المحققين باستحباب وضع الخمار مطلقا ، وتأكده في صلاة الغداة
والمغرب.
وبعضهم اقتصر
على الغداة خاصة ، لعدم وقوفه على نص يتضمن اضافة المغرب إليها في ذلك.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة رواية الحسين بن زيد بن علي ابن الحسين (عليهماالسلام) عن أبيه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال ، إنما
المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها ، فإذا كان الظهر والعصر والمغرب
والعشاء تمسح بناصيتها».
وما رواه
الصدوق في الخصال بسنده فيه عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «المرأة لا تمسح كما يمسح الرجال ، بل عليها ان
تلقي الخمار عن موضع مسح رأسها في صلاة الغداة والمغرب وتمسح عليه ، وفي سائر
الصلوات تدخل إصبعها فتمسح على رأسها من غير ان تلقي عنها خمارها».
وطعن بعض
متأخري المتأخرين بعد ذكر الرواية الأولى فيها بضعف السند والدلالة.
وفيه ان ضعف
سندها باصطلاح متأخري أصحابنا لا يقوم حجة على من لم يقل
__________________
بذلك الاصطلاح سيما المتقدمين. والاولى من الروايتين دالة على وجوب وضع
الخمار بالجملة الخبرية الظاهرة في الوجوب كالأمر ، وان كان جملة من متأخري
متأخرينا يمنعونه في الأمر فضلا عنها. والرواية الثانية دالة على ذلك بقوله : «عليها
ان تلقي» الدال بظاهره على وجوب الإلقاء وتحتمه.
والرواية
الثانية قد تضمنت اضافة المغرب إلى الصبح في وضع الخمار ، فما اعترض به جملة من
متأخري المتأخرين على المشايخ المتقدمين في إضافة المغرب في عبائرهم ناشىء عن
قصور التتبع. وكم وقع لهم مثله في غير موضع.
ثم ان ظاهر هذه
الرخصة للمرأة في المسح تحت القناع ـ بإدخال الإصبع ومسح ما نالته من رأسها ولو
بقدر الأنملة ، كما في كلام الشيخ المفيد ، وانها ليست كالرجال في ذلك ـ اختصاص
هذا الحكم بها في ذلك الوقت المخصوص ، وعدم اجزائه لها في غيره وعدم اجزائه للرجال
أيضا ، وهو مما يبطل القول بالمسمى كما هو المشهور ، ويؤيد ما ذهب اليه المشايخ
الثلاثة (نور الله تعالى مضاجعهم) من وجوب المقدار الذي تقدم تحقيقه في هذا البحث.
لكن قد تقدم في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) انه قال : «المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه
قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها». وهو مناف لما دلت عليه هاتان الروايتان ،
من تخصيص المسح بقدر ثلاث أصابع ببعض الصلوات والأوقات ، ومن وجوب إلقاء الخمار أو
استحبابه في موضع المسح لان ظاهر قوله : «ولا تلقى عنها خمارها» اما نهى على بعض
اللغات ، أو خبر في معنى النهي. ويمكن الجواب عن الأول بأن إطلاقها مخصوص بذينك
الخبرين. وعن الثاني بأن قوله : «ولا تلقى» بالنصب عطف على «تمسح» وحاصل المعنى
حينئذ انه يجزيها المسح بمقدار ثلاث أصابع ، وعدم إلقاء الخمار في ذلك الوقت الذي
يجب أو يستحب فيه الإلقاء ، وهو رخصة لها ، إذ الظاهر ان حكمة إلقاء الخمار في
موضع الأمر به في تلك
__________________
الأخبار إنما هو لأجل الاستظهار في المسح بذلك المقدار ، فهي مكلفة في ذلك
الوقت بشيئين : المسح بقدر الثلاث ، والإلقاء ، وهذه الرواية دلت على اجزاء أحدهما
، وهو الأهم والمقصود بالذات الذي هو المسح بالثلاث دون الإلقاء. ويمكن أن يستنبط
منه بمعونة ما ذكرنا ان ما يستحب أو يجب مسحه من موضع المسح ثلاث أصابع ليس في عرض
الرأس بعرض الأصابع ، لعدم توقف ذلك على إلقاء الخمار.
(الخامس) ـ لا
ريب انه إذا اقتصر المكلف على الفرد الأنقص من المسح فقد تأدى الواجب به ، ولو اتى
بالفرد الأكمل فقد صرحوا بان ما زاد منه على القدر المجزئ مستحب عينا اتفاقا ، لكن
هل يوصف مع ذلك بالوجوب أم لا؟ قولان :
اختار أولهما
المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، قال : «ولا يضر ترك الزائد ، لأن الواجب هو
الكلي ، وأفراده مختلفة بالشدة والضعف ، فأي فرد اتى به تحقق الامتثال به ، لان
الواجب يتحقق به» انتهى.
واختار ثانيهما
العلامة ، نظرا إلى انه يجوز تركه لا إلى بدل ولا شيء من الواجب كذلك ، فلا شيء
من الزائد واجب. وبان الكلي قد وجد فخرج به المكلف عن العهدة ولم يبق شيء مطلوب
منه حتى يوصف بالوجوب.
وفيه ان جواز
تركه هنا انما هو إلى بدل ، وهو الفرد الناقص الذي اتى به في ضمن هذا المسح ،
وحينئذ فيكون من قبيل افراد الواجبات الكلية كأفراد الواجب المخير ، بمعنى ان
مقولية الواجب هنا على هذا الفرد الزائد والناقص كمقولية الكلي على أفراده
المختلفة قوة وضعفا ، وحصول البراءة بالفرد الناقص لا من حيث هو جزء الزائد ، بل
من حيث انه أحد أفراد الكلي وان كان ناقصا.
هذا كله مع
وقوع المسح دفعة واحدة ، اما إذا وقع تدريجا فقد صرح الشهيدان في الذكرى والروض
بأن الزائد مستحب قطعا ، قال في الروض بعد نقل كلام
الذكرى المتضمن للتفصيل بين الدفعة والتدريج : «وهذا التفصيل حسن ، لانه مع
التدريج يتأدى الواجب بمسح جزء فيحتاج إيجاب الباقي إلى دليل ، والأصل يقتضي عدم
الوجوب ، بخلاف ما لو مسحه دفعة ، إذ لم يتحقق فعل الفرد الواجب إلا بالجميع»
انتهى والسيد السند في المدارك جعل مطرح الخلاف في المسألة هو المسح تدريجا.
ولا يخفى ـ على
المتأمل بعين التحقيق والناظر بالفكر الصائب الدقيق ـ ان كلام الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في هذه المسألة ونظائرها على غاية من الإجمال.
وتحقيق المقام
ـ بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهمالسلام) ـ ان يقال : لا ريب ان منشأ التخيير في هذا المقام هو
إطلاق الأمر بالمسح الصادق بجزء من إصبع ـ مثلا ـ الى بلوغ قدر ثلاث أصابع مضمومة
التي هي أعلى المراتب ، فالواجب الكلي هو المسح المطلق وأفراده هي كل مسحة قصدها
المكلف وأوقعها ، قليلة كانت أو كثيرة ، فكل فرد منها اتى به تأدى به الواجب ، وكل
فرد ناقص منها فهو مفضول بالنسبة إلى ما هو أزيد منه ، وكل واحد من الافراد
المشتملة على الزيادة يوصف في حد ذاته بالوجوب لكونه أحد أفراد الواجب الكلي ،
وبالاستحباب لكونه أكمل مما دونه ، وهذا معنى قولهم في الفرد الأكمل من افراد
الواجب التخييري : انه مستحب ذاتي واجب تخييري ، وحينئذ فمتى مسح المكلف القدر
الأكمل دفعة أو تدريجا ، بمعنى انه قطع على جزء في أثناء مسحه ثم تجاوزه ، فان كان
قصده ونيته الامتثال بذلك القدر الأكمل ، فمن الظاهر ان الزائد على القدر المجزئ ـ
وهو المسمى ، أو القدر الذي قطع عليه أولا ـ واجب. إذ الواجب هو مجموع ما قصده ،
وما اتى به من القدر المجزئ ضمن هذا المسح أو قطع عليه لا يخرج به عن العهدة ،
لعدم قصد الامتثال به خاصة بل به وما زاد ، إلا ان يعدل إلى قصده ، ولو أجزأ من
غير قصد يتعلق به للزم إجزاء عبادة من غير نية ، وقد عرفت غير مرة ان الأفعال عبادة
وغيرها لا تميز لها وجودا وعدما ـ ولا اثر يترتب عليها صحة وبطلانا وثوابا وعقابا
ـ إلا بالقصود والنيات ،
فكما ان الركعتين في صورة التخيير غير مجزئة ما دام القصد متعلقا بالإتمام
فيجب ضم الأخيرتين ، كذلك هنا لا يجزئ ذلك القدر الأقل ما لم يقصد الامتثال به. وان
كان قصده الامتثال بالقدر الذي قطع عليه في صورة التدريج أو أقل ما يحصل به المسمى
، فالظاهر ان الزائد عليه لا يتصف بوجوب ولا باستحباب ، اما عدم الوجوب فلان
الواجب الكلي قد حصل في ضمن هذا الفرد الذي تعلق به القصد ، واما عدم الاستحباب
فلعدم الدليل عليه ، ولأن الاستحباب الملحوظ في هذا المقام انما هو باعتبار أفضلية
أحد أفراد الواجب التخييري على غيره من سائر الافراد ، وهو غير حاصل هنا. وأيضا
فهو ملازم لوصف الوجوب كما عرفت ، فبانتفاء الوجوب عنه ينتفي الاستحباب ، ولا دليل
على الاستحباب بغير هذا المعنى ، بل الظاهر دخوله حينئذ في التكرار المنهي عنه في
المسح نعم لو أريد بالزائد في كلامهم يعنى فردا أكمل من هذا الفرد الذي تعلق به
قصد المكلف لا بمعنى الباقي الذي هو ظاهر مطرح الكلام ، فإنه يتصف بالوجوب
والاستحباب في حد ذاته كما قدمنا بيانه ، فان اختيار المكلف فردا ناقصا من افراد
الواجب التخييري لا ينفي وصف الوجوب والاستحباب عن الفرد الأكمل منها في حد ذاته.
واما ان الباقي من المسافة الممسوحة بعد قصد الامتثال بجزء منها خاصة يتصف مسحه
بالاستحباب ويترتب ثواب المستحب عليه كما هو أحد القولين ، أو الوجوب كما هو القول
الآخر كما هو ظاهر كلامهم ، فلا اعرف له وجها. فإنه كما ان المكلف لو قصد الصلاة
المقصورة في موضع التخيير ثم صلى والحال كذلك أربعا. فإن الركعتين الأخيرتين ان لم
تكن مبطلة للصلاة لا أقل ان تكون باطلة ، ولا يصح وصفها بالاستحباب فضلا عن الوجوب
وقاصد التسبيح بأربع تسبيحات في الركعتين الأخيرتين ثم تجاوزها إلى بعض الصور
الزائدة من غير عدول إليها. فإنه لا يتصف بالاستحباب من حيث التوظيف في هذا المقام
وان احتمل الاستحباب من حيث كونه ذكرا. فكذلك فيما نحن فيه ، على انه يلزم هنا خلو
ذلك الزائد من النية والقصد ، فكيف يتصف بوجوب أو استحباب مع كونه خاليا
من النية والقصد بالكلية؟ فإن المكلف إنما قصد أداء الواجب بذلك الجزء الذي
ذكرناه وبالجملة فالاستحباب الذاتي
اللازم للوجوب
التخييري في هذا المقام انما يتعلق بمجموع الصورة الكاملة لا بهذا الجزء الزائد ،
وكلام الأصحاب في جميع صور هذه المسألة في غاية الإجمال كما ذكرنا ، وذلك فإنهم في
جميع صور هذه المسألة يجعلون محل الخلاف ما زاد على الفرد الناقص بعد تأدى الواجب
بذلك الفرد الناقص ، وانه هل يصف بالوجوب أو الاستحباب؟ وهو ظاهر في كون المراد به
ما بين الفرد الذي قصده وتأدى به الواجب إلى نهاية ما اقتصر عليه من الفرد الكامل
، ثم انهم في مقام الاستدلال على وجوبه ودفع القول بالاستحباب يقولون انه أحد
أفراد الواجب الكلي وانها قابلة للشدة والضعف ، فهذا الزائد مستحب لكونه أكمل
الافراد ، وهو واجب لكونه أحد أفراد الواجب الكلى. وجواز تركه انما جاز إلى بدل وهو
الفرد الأنقص وأنت خبير بان هذه التعليلات انما تنطبق على نفس الفرد الأكمل لا على
ذلك البعض الذي عرفته. وأيضا فإنهم ـ على تقدير القول بالوجوب في ذلك الزائد الذي
جعلوه مطرح النزاع ـ أوردوا إشكالا في انه يلزم اتصاف شيء واحد بالوجوب
والاستحباب ، ثم أجابوا عنه بأن إطلاق الاستحباب على الفرد الزائد محمول على
استحبابه عينا ، بمعنى انه أفضل الفردين الواجبين ، وذلك لا ينافي وجوبه تخييرا من
جهة تأدي الواجب به وحصول الامتثال ، كذا قرره في الروض في مسألة التسبيح في
الأخيرتين. وهذا الجواب ـ كما ترى ـ لا ينطبق الأعلى نفس الفرد الأكمل ، كما هو
صريح العبارة حيث أطلق عليه الفرد الزائد ، لا على نفس الزيادة خاصة كما هو مورد
الاشكال. وربما كان مبنى كلام القوم على اعتبار الأمر الكلي من حيث هو من غير
ملاحظة شيء من الخصوصيتين فيكون من قبيل الماهية لا بشرط شيء ، فإنه يتجه حينئذ
صدق أداء الواجب بالمسمى ويصح وصف الزائد ـ من حيث كونه جزء من هذا المجموع ـ بكل
من وصفي الوجوب والاستحباب ، لاتصاف المجموع بهما حسبما قررنا آنفا ، لكن يبقى
الإشكال في صورة
القطع ، لصدق أداء الواجب بما قطع عليه وانتفاء المجموعية الموجبة للوصف
بالوجوب والاستحباب للزائد. والاستحباب بغير المعنى المذكور آنفا لا مجال له في
هذا المقام. والله العالم.
(السادس) ـ الظاهر
ـ كما هو المشهور ـ جواز النكس هنا ، لإطلاق الآية وخصوص صحيحة حماد بن عثمان عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا».
خلافا للمرتضى
والشيخ في النهاية والخلاف وظاهر ابن بابويه ، محتجا عليه في الخلاف ـ ومثله في
الانتصار ـ بان مسح الرأس من غير استقبال رافع للحدث إجماعا بخلاف مسح الرأس
مستقبلا ، فيجب فعل المتيقن. ونقل أيضا عن الشيخ في كتابي الأخبار ذلك ، نظرا إلى
تخصيص الصحيحة المشار إليها بفحوى قول أبي الحسن (عليهالسلام) في رواية يونس : «الأمر في مسح الرجلين موسع ...». ولا يخفى ما في هذه
الأدلة من الوهن.
والعجب من
السيد (رحمهالله) في تجويزه النكس في الوجه واليدين لإطلاق الآية ،
ومنعه هنا ، مع جريان دليله فيه ، واعتضاده بالرواية.
وذكر جماعة من
الأصحاب كراهية النكس هنا ، وعلله في المعتبر بالتفصي من الخلاف.
ورد بأن
المقتضي للكراهة ينبغي أن يكون دليل المخالف لا نفس الخلاف وهو كذلك.
(السابع) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في وجوب المسح بنداوة الوضوء ما
وجد بللها في اليد ، والمشهور انه مع جفاف اليد يأخذ من شعر لحيته أو حاجبيه ، ومع
جفاف الجميع ، فان كان لضرورة إفراط الحر
__________________
أو قلة الماء جاز الاستئناف وإلا أعاد الوضوء.
وظاهر الشيخ في
الخلاف ـ حيث نسب وجوب المسح بنداوة الوضوء إلى الأكثر ـ وجود المخالف في المسألة
، ولعله ابن الجنيد على ما نقله عنه العلامة في المختلف ، فإنه قال : «إذا كان بيد
المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه ، مسح بيمينه رأسه ورجله اليمنى وبنداوة
اليسرى رجله اليسرى ، وان لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا لرأسه ورجليه» وهو بإطلاقه
شامل لما لو كان عدم الاستبقاء لعدم إمكانه أو لتفريط من المكلف ، ولما لو فقد
النداوة من الوجه وعدمه وبذلك يظهر لك ما في كلام بعض الأصحاب ، حيث خص خلافه
بجفاف جميع الأعضاء وقال : ان لفظ اليد في كلامه انما هو على سبيل التمثيل ، فيكون
موافقا للمشهور ويرتفع الخلاف. فإنه على غاية من البعد عن سوق العبارة المذكورة.
ومما يدل على
المشهور روايات الوضوء البياني ، فإنها قد اشتملت جميعا على المسح بالبلة. وما
ذكره جملة من متأخري المتأخرين ـ من المناقشة فيها مما تقدم ذكره في وجوب الابتداء
بأعلى الوجه والابتداء بالمرفقين ـ فقد مر ما فيه مما يكشف عن ضعف باطنه وخافية ،
سيما حسنة الأخوين المتضمنة انه «مسح رأسه وقدميه ببل كفه لم يحدث لهما
ماء جديدا». وصحيحة زرارة «... ثم مسح بما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء».
ويدل عليه أيضا
الأخبار المستفيضة بأنه من ذكر انه لم يمسح حتى انصرف
__________________
من وضوئه يأخذ من بلل وجهه ، وفي بعضها انه مع تعذر البلل في وجهه يعيد
وضوءه.
فمن ذلك رواية
مالك بن أعين عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من نسي مسح رأسه ثم ذكر انه لم يمسح رأسه ، فإن
كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه ، وان لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد
الوضوء».
ورواية خلف بن
حماد عمن أخبره عنه (عليهالسلام) قال : «قلت له الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة؟ قال
: ان كان في لحيته بلل فليمسح به. قلت : فان لم يكن له لحية؟ قال : يمسح من حاجبيه
أو من أشفار عينيه».
وما رواه ابن
بابويه في الفقيه عن أبي بصير عنه (عليهالسلام) «في رجل نسي مسح رأسه؟ قال : فليمسح. قال : لم يذكره
حتى دخل في الصلاة؟ قال فليمسح رأسه من بلل لحيته».
وروى فيه أيضا مرسلا عنه (عليهالسلام) قال : «ان نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلة
وضوئك ، فان لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شيء فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح
به رأسك ورجليك ، وان لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك
ورجليك ، وان لم يبق من بلة وضوئك شيء أعدت الوضوء». ومثلها رواية زرارة .
وهذه الروايات
وان اشتركت في ضعف السند بناء على هذا الاصطلاح المحدث بين متأخري أصحابنا ، إلا
انها معتضدة بالشهرة بينهم ، وهي من المرجحات عندهم ، مع ان فيها ما هو من مرويات
الفقيه المضمون صحة ما تضمنه من مصنفه ، كما اعتمدوا عليها لذلك في غير موضع من
كلامهم ، بل ورد مثل ذلك في حسنة الحلبي عن أبي عبد الله
__________________
(عليهالسلام) قال : «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من
وضوئك المفروض عليك ، فانصرف وأتم الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك ، ويكفيك من مسح
رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدم رأسك».
ومورد الأسئلة
في هذه الأخبار وان كان النسيان ، إلا انه لا قائل بالفرق ، مع ان خصوص السؤال لا
يخصص الجواب كما هو مقرر عندهم.
وكيف كان فلا
يخفى على المتأمل المصنف انه إذا كان جملة الأخبار البيانية الواردة في مقام
التعليم على تعددها انما اشتملت على المسح بالبلة ، واخبار النسيان كذلك وزيادة
انه مع فقدها يعيد الوضوء ، فكيف يبقى مع هذا قوة للتمسك بإطلاق الآية؟ على انه لو
ورد خبر بلفظ الأمر بالمسح بالبلة أو بلفظ النهي عن التجديد ، لسارعوا إلى حمله
على الاستحباب والكراهة ، محتجين بعدم الجزم بدلالة الأمر على الوجوب والنهي على
التحريم ، لشيوعهما في خلاف ذلك ، وهو اجتهاد محض وتخريج صرف.
والعجب من جملة
من مشايخنا المحققين وعلمائنا المدققين من متأخري المتأخرين ، حيث انهم جعلوا مذهب
ابن الجنيد بمجرد دلالة إطلاق الآية عليه في غاية القوة والجزالة وأخذوا في المناقشات
فيما ذكرنا من الروايات ، وارتكاب جادة التأويلات البعيدة والتمحلات الغير السديدة
، مما لا يصح النظر اليه ولا العروج عليه ، فبعض منهم إنما اعتمد على انعقاد
الإجماع بعد ابن الجنيد ، وبعض منهم بعد الاستشكال إنما التجأ إلى الاحتياط. على
انه لو تم إبطال الاستدلال بمجرد الاحتمال في المقام. لانسد هذا الباب في جملة
الأحكام ، إذ لا دليل إلا وهو قابل للاحتمال ، ولا قول إلا وللقائل فيه مجال. هذا.
ومما استدل به
على المشهور أيضا قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة :
__________________
«... فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ،
وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلة يمناك تمسح به ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح
ببلة يسراك ظهر قدمك اليسرى». فإن الجملة الخبرية بمعنى الأمر الذي هو حقيقة في
الوجوب.
ورد بأنه يجوز
ان يكون قوله (عليهالسلام) : و «تمسح» معطوفا على قوله : «ثلاث غرفات» بتقدير «ان»
فيكون داخلا في حيز الاجزاء لا جملة مستقلة مرادا بها الأمر.
وقد يناقش في
ذلك بان المرتضى قد نقل في كتاب (الغرر والدرر) عن ابن الأنباري انه يشترط في
إضمار «أن» كذلك كون المعطوف عليه مصدرا لا اسما جامدا والجواب ان المعطوف عليه في
الحقيقة مصدر للمرات ، مع إمكان المناقشة فيما ذكره ابن الأنباري ، لعدم الدليل
عليه.
واستدل في
المختلف لابن الجنيد بموثقة أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن مسح الرأس ، قلت : امسح بما في يدي من الندى رأسي؟
قال : لا بل تضع يدك في الماء ثم تمسح».
وصحيحة معمر بن
خلاد قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) أيجزئ الرجل ان يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه؟ :
لا. فقلت أبماء جديد؟ فقال برأسه : نعم».
أقول : ومثلهما
أيضا رواية أبي عمارة الحارثي قال : «سألت جعفر بن محمد (عليهماالسلام) امسح رأسي ببلل يدي؟ قال : خذ لرأسك ماء جديدا».
وأنت خبير بان
مدلول هذه الروايات هو وجوب الاستئناف مع وجود البلة ، وهذا لا ينطبق على مذهب ابن
الجنيد ، لتخصيصه ذلك بفقد البلة من اليد كما عرفت من عبارته.
__________________
وكيف كان فهذه
الأخبار محمولة على التقية كما صرح به جملة من أصحابنا.
واستشكل السيد
في المدارك هذا الحمل في صحيحة معمر بأنها لا تنطبق عليه ، لأنها متضمنة لمسح
الرجلين وهم لا يقولون به.
ثم أجاب بأنهم
يعترفون بصحة إطلاق اسم المسح على الغسل بزعمهم الفاسد ، وهو كاف في تأدي التقية.
واعترض هذا
الجواب شيخنا البهائي (قدسسره) في الحبل المتين بان ما تضمنه الحديث من المسح بفضل
الرأس يأبى عنه هذا التنزيل ، ثم قال (قدسسره) : «فلو نزل على مسح الخفين كان اولى» ثم رجح (قدسسره) ان إيماءه (عليهالسلام) برأسه نهى لمعمر عن السؤال لئلا يسمعه المخالفون ، فظن
معمر انه (عليهالسلام) انما نهاه عن المسح ببقية البلل ، فقال : «أبماء جديد؟»
فسمعه الحاضرون ، فقال (عليهالسلام) : «نعم».
أقول : ويمكن
الجواب ـ عما اعترض به من إباء المسح بفضل الرأس هذا
__________________
التنزيل ـ بأنه من المحتمل انه بعد ان سأله عن المسح بفضل رأسه فقال : «لا»
سأله ثانيا أيمسح بماء جديد؟ كناية عن الغسل وانه يقدر الغسل دون المسح ، بمعنى «أيغسل
بماء جديد؟» فاجازه (عليهالسلام) تقية.
هذا. والظاهر
انه لا ورود لأصل الإشكال فلا يحتاج إلى ما تمحله كل من هذين العلمين من الاحتمال
، وذلك فان المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى نقلا القول بجواز المسح عن
الحسن البصري وابن جرير الطبري وأبي علي الجبائي ، وتعين المسح فقط عن الشعبي وأبي
العالية وعكرمة وانس بن مالك ، ونقله الشيخ في الاستبصار عن بعض الفقهاء من غير
تعيين. ونقل والدي (قدسسره) في بعض حواشيه الجواز أيضا عن احمد والأوزاعي والثوري
، وان الإنسان عندهم مخير بين الغسل والمسح ، وحينئذ فيتم الحمل على التقية من غير
اشكال ، وعلى تقديره فالمراد مسح الرجل كلها بطنا وظهرا كما هو المنقول عنهم.
ومما يمكن ان
يستدل به لابن الجنيد حسنة منصور قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عمن نسي أن يمسح رأسه حتى قام في الصلاة قال : ينصرف
ويمسح رأسه ورجليه».
ورواية الكناني
قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل توضأ فنسي أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة؟
قال : فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد الصلاة».
ورواية أبي
بصير عنه (عليهالسلام) «في رجل نسي أن يمسح رأسه فذكر وهو في الصلاة؟ فقال : ان كان استيقن ذلك
انصرف فمسح على رأسه وعلى رجليه واستقبل الصلاة ، وان شك فلم يدر مسح أو لم يمسح
فليتناول من لحيته ان كانت مبتلة وليمسح على رأسه ، وان كان امامه ماء فليتناول
منه فليمسح به رأسه».
__________________
وهذه الأخبار
قد اشتركت بحسب ظاهرها في الدلالة على الأمر بالاستيناف متى ذكر نسيان المسح في
صلاته.
والجواب عنها (أولا)
ـ انها أخص من المدعى فلا تنهض حجة.
و (ثانيا) ـ انه
يحتمل حمل الأمر بالمسح بعد الانصراف ـ بمعنى قطع الصلاة ـ على المسح من بلة شعره
بناء على ان ثمة بلة حسبما تضمنته الروايات المتقدمة ، وهذا الاحتمال في رواية أبي
بصير أقرب منه في غيرها. واما الأمر بالمسح فيها من بلل لحيته مع الشك فمحمول على
الاستحباب استظهارا. واما الأمر بتناول الماء ان كان امامه في صورة الشك فلعله
مخصوص بهذه الصورة.
و (ثالثا) ـ
بحمل قوله (عليهالسلام) : «يمسح رأسه ورجليه» على انه كناية عن اعادة الوضوء
بسبب فوات الموالاة ، فإن التعبير بمثله مجاز شائع في الأخبار ، ومنه ما تقدم في
حسنة الحلبي حيث قال : «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من
وضوئك المفروض ، فانصرف وأتم الذي نسيته ...». فإنه لا يستقيم على إطلاقه إلا بحمل
الإتمام على اعادة الوضوء ، إذ لو جف السابق على العضو المنسي المقتضي لفوات
الموالاة ، لم يكف الإتمام البتة بل تجب الإعادة.
و (رابعا) ـ بأن
بإزائها من الأخبار المتقدمة ما هو صريح في ان الحكم في هذه الصورة هو الأخذ من
بلة ما في الوجه وإلا فإعادة الوضوء ، ويدل أيضا على الإعادة ـ زيادة على ما تقدم
ـ موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من نسي مسح رأسه أو قدميه أو شيئا من الوضوء
الذي ذكره الله في القرآن ، كان عليه اعادة الوضوء والصلاة». وحينئذ فلا بد من
النظر في الترجيح ، ولا ريب انه في الروايات المتقدمة لموافقتها للمجمع عليه كما
هو أحد المرجحات المنصوصة ، ولمخالفة ما عليه العامة الذي هو
__________________
كذلك ، والاحتياط الذي هو معدود منها أيضا ، واعتضادها باخبار الوضوء
البياني ، فيتعين حمل هذه الأخبار على أحد المحامل المذكورة آنفا ، أو الحمل على
التقية .
فائدة
اعلم ان جملة
من محققي متأخري المتأخرين صرحوا بأن الأخذ من بلة الوجه لا يتقيد بفقد البلة من
اليد ، بل يجوز وان كان فيها بلة تجزئ للمسح ، قالوا : والتعليق في عبارات الأصحاب
انما خرج مخرج الغالب ، وانه لا يختص الأخذ من هذه المواضع بل يجوز من جميع محال
الوضوء ، وتخصيص الشعر لكونه مظنة البلل.
ولا يخفى ان
الحكم الأول لا يخلو من شوب الاشكال ، لعدم الدليل على ذلك إذ المستفاد من اخبار
الأخذ من بلة الوجه تقييد ذلك بحال النسيان والدخول في الصلاة التي هي مظنة جفاف
اليد كما لا يخفى ، واخبار الوضوء البياني ـ على تعددها وكثرتها ـ انما اشتملت على
المسح بنداوة اليد ولم يتضمن شيء منها الأخذ من بلة الوجه ، فمن المحتمل قريبا ان
يكون الأخذ من بلة الوجه انما هو لضرورة جفاف اليد حينئذ وبدونه فلا يجوز ،
والاحتياط تركه إلا مع الجفاف.
(الثامن) ـ قد
ذكر جملة من أصحابنا انه لا يجوز المسح بغير اليد اتفاقا ، وان الظاهر تعينه
بالباطن لانه المتيقن ، الا ان يتعذر فيجوز بالظاهر ، وان الاولى كونه في الناصية
باليد اليمنى ، وانه يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى والرجل اليسرى باليسرى.
ولا يخفى عليك
ان المسح باليمنى في الموضعين الأولين واليسرى في الأخير وان كان مما ظاهرهم
الاتفاق على استحبابه. الا انه لا يخلو من شوب الاشكال ، لما عرفت في مسألة
الابتداء بالأعلى ، الا ان يحمل «وتمسح» على الدخول في حيز الاجزاء بعطف «وتمسح»
على «ثلاث غرفات» كما عرفت ، فيضعف الاشكال على ما ذكرنا
__________________
وكذلك الاستحباب على ما ذكروا.
وذكروا أيضا ان
الواجب كونه بالأصابع. ولو تعذر المسح بالكف فقد صرح في الذكرى بالمسح بالذراع.
وفيه اشكال.
وهل يشترط
تأثير المسح في الممسوح؟ قولان ، أظهرهما وأحوطهما الأول وفاقا للعلامة في التذكرة
والسيد السند في المدارك.
الركن الخامس ـ مسح الرجلين
والكلام فيه
يقع في موارد :
(الأول) ـ وجوب
مسح الرجلين دون غسلهما مما انعقد عليه إجماع الإمامية (أنار الله برهانهم) فتوى
ودليلا كتابا وسنة ، ووافقنا عليه بعض متقدمي العامة ، وآخرون خيروا بينه وبين
الغسل ، وبعض جمعوا بينهما ، واستقر فتوى الفقهاء الأربعة على وجوب الغسل خاصة .
__________________
والكلام في
دلالة الآية على وجوب المسح ونفى الغسل مما تكفل به مطولات أصحابنا (جزاهم
الله تعالى عنا خير الجزاء).
لكن روى الشيخ (رحمهالله) في التهذيب عن غالب بن الهذيل قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن قول الله عزوجل (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) على الخفض هي أم على النصب؟ قال : بل هي على الخفض». ولا
يخفى انه على تقدير النصب يدل على المسح أيضا بالعطف على محل الرؤوس ، كما تقول : مررت
بزيد وعمرا. الا انه ربما يفهم من هذه الرواية ان قراءة أهل البيت (عليهمالسلام) انما هي على الخفض وان كان النصب مما يقرأون به في ذلك
الوقت ، كما هو أحد القراءات السبع المشهورة الآن ، فانا قد حققنا في كتاب المسائل
ـ وسيأتي ان شاء الله تعالى في هذا الكتاب التنبيه عليه في محله ـ ان هذه القراءات
السبع فضلا عن العشر وان ادعى بعض علمائنا (رضوان الله عليهم) تواترها عن النبي (صلىاللهعليهوآله) إلا ان الثابت في أخبارنا ـ وعليه جملة من أصحابنا ـ خلافه
وان صرحت أخبارنا بالرخصة لنا في القراءة بها حتى صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه).
وليس بالبعيد
ان هذه القراءة كغيرها من المحدثات في القرآن العزيز ، لثبوت
__________________
التغيير والتبديل فيه عندنا زيادة ونقصانا. وان كان بعض أصحابنا ادعى
الإجماع على نفي الأول ، إلا ان في أخبارنا ما يرده ، كما انهم تصرفوا في قوله
تعالى في آية الغار لدفع العار عن شيخ الفجار ، حيث ان الوارد في أخبارنا أنها
نزلت : «... فانزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها ...» فخذفوا لفظ «رسوله» وجعلوا محله الضمير. ويقرب بالبال ـ
كما ذكره أيضا بعض علمائنا الأبدال ـ إن توسيط آية «...
إِنَّما
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... الآية» في خطاب الأزواج من ذلك القبيل.
هذا ، وما يدل
على وجوب المسح ونفى الغسل من أخبارنا فمستفيض ، بل الظاهر انه من ضروريات مذهبنا.
واما ما في
موثقة عمار ـ عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يتوضأ الوضوء كله إلا رجليه ثم يخوض بهما الماء خوضا؟ قال :
أجزأه ذلك». ـ فمحمول على التقية
وصحيحة أيوب بن
نوح ـ قال : «كتبت إلى ابي الحسن (عليهالسلام) اسأله عن المسح على القدمين. فقال : الوضوء بالمسح ولا
يجب فيه إلا ذلك ، ومن غسل فلا بأس». ـ فيحتمل الحمل على التقية أيضا ، فإن منهم
من قال بالتخيير كما تقدم والحمل على التنظيف كما احتمله الشيخ في التهذيب مستدلا
عليه بصحيحة أبي همام عن أبي الحسن (عليهالسلام) «في وضوء الفريضة في كتاب الله المسح ، والغسل في الوضوء للتنظيف».
وروى زرارة
مضمرا في الصحيح قال قال لي : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم
أضمرت ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء ، ثم قال : ابدأ بالمسح على الرجلين ،
فان بدا لك غسل فغسلت فامسح بعده ليكون آخر ذلك المفترض».
__________________
قال المحدث
الكاشاني في الوافي بعد ذكر هذه الرواية : «لعل المراد بالحديث انه ان كنت
في موضع تقية فابدأ أولا بالمسح ليتم وضوؤك ثم اغسل رجليك ، فان بدا لك أولا في
الغسل فغسلت ولم يتيسر لك المسح ، فامسح بعد الغسل حتى تكون قد أتيت بالفرض في آخر
أمرك» انتهى.
وقال شيخنا
الشهيد في الذكرى : «ولو أراد التنظيف قدم غسل الرجلين على الوضوء ، ولو غسلهما
بعد الوضوء لنجاسة مسح بعد ذلك ، وكذا لو غسلهما للتنظيف ، وفي خبر زرارة قال : ان
بدا لك فغسلت فامسح بعده ليكون آخر ذلك المفترض» انتهى.
(الثاني) ـ المشهور
ـ بل ادعى عليه في الانتصار الإجماع ، وهو ظاهر العلامة في المنتهى حيث نسبه إلى
علمائنا اجمع ، وفي التذكرة حيث قال : انه إجماع فقهاء أهل البيت (عليهمالسلام) ـ وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين طولا ولو بمسماه عرضا
، استنادا إلى ظاهر الكتاب بجعل «إلى» غاية للمسح ، وجملة من الأخبار البيانية
المشتملة على كون مسحهم (عليهمالسلام) الى الكعبين.
ويدل عليه أيضا
صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه
على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم. الحديث».
وتردد المحقق
في المعتبر ثم رجح وجوب الاستيعاب لظاهر الآية. واحتمل في الذكرى عدم الوجوب ، وبه
جزم المحدث الكاشاني في المفاتيح ، ونفى عنه البعد صاحب رياض المسائل وحياض
الدلائل.
ولا يخفى انه
لو ثبت جعل «الى» هنا غاية للمسح كما ذكروه ، لقوي الاعتماد على المشهور ، لكن
ثبوت جواز النكس ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ مما يمنع ذلك
__________________
فالأظهر جعلها غاية للممسوح ، ويؤيد ذلك أيضا قرينة السياق ، فإنها في
المرفقين غاية للمغسول اتفاقا.
واما الاستناد
إلى بعض اخبار الوضوء البياني في الوجوب فمحل اشكال ، لعدم الصراحة في ذلك ،
لاشتمال بعضها على مسح الرجلين وبعض على ظهر القدمين الصادق عرفا بمسح البعض ،
كاشتمالها على مسح الرأس في بعض والمقدم في آخر مع الاتفاق على عدم الاستيعاب فيه
، فكذا فيهما.
ومما يدل على
هذا القول أيضا الأخبار الدالة على عدم استبطان الشراكين حال المسح كما في حسنة
الأخوين عن الباقر (عليهالسلام) حيث قال (عليهالسلام): «... ولا يدخل أصابعه تحت الشراك ...».
وحسنة زرارة
عنه (عليهالسلام) : «ان عليا (عليهالسلام) مسح على النعلين ولم يستبطن الشراكين».
وضعيفته أيضا : «ان عليا (عليهالسلام) توضأ ثم مسح على نعليه ولم يدخل يده تحت الشراك».
ورواية جعفر بن
سليمان قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليهالسلام) فقلت : جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقا فيدخل يده فيمسح
ظهر قدمه ، أيجزيه ذلك؟ قال : نعم».
ويؤيده أيضا قوله
(عليهالسلام) في صحيحة الأخوين : «قال الله تعالى :
__________________
(وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ). فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من رجليه قدميه ما بين
الكعبين إلى آخر أطراف الأصابع فقد أجزأه ...».
وقال في
حسنتهما أيضا : «ثم قال (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين
الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ...».
وفي صحيحتهما
الأخرى «انه قال في المسح : تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت
بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك».
وهي ظاهرة ـ كما
ترى ـ في كون التحديد في الآية للممسوح لا للمسح ، حيث ان «إلى» في كلامه (عليهالسلام) قرنت بالأصابع دون الكعبين عقيب الاستدلال بالآية في
الروايتين الأولتين ، فهو كالتفريع عليها والتفسير لها ، قال شيخنا صاحب رياض
المسائل (رحمهالله) : و «ما» في «ما بين الكعبين» كما تحتمل الموصولية
المفيدة للعموم والأبدال من «شيء» فيفيد بمفهوم الشرط توقف الاجزاء على مسح مجموع
المسافة الكائنة بينهما وهو يستلزم الوجوب ، فكذا تحتمل الموصوفية مع الأبدال منه
، وكلاهما مع كون «ما» واقعة على المكان منتصبة انتصاب الظرف ، والعامل فيه ما عمل
في الجار والمجرور الواقع صفة ل «شيء» من الكون ، أو بدلا من قدميه أو من رجليه
المبدل منه قدميه بدلا بعد بدل أو بدلا من البدل ، فيفيد بالمنطوق دون المفهوم
الاجتزاء بمسح جزء من المسافة المذكورة. والاحتمالات الأخيرة ـ مع تعددها وانحصار
مخالفها في فرد
__________________
وأظهريتها أقل تخصيصا وأوفق بالأصل ، فوجب المصير إلى ما اشتركت في الدلالة
عليه إلا أن يثبت الإجماع على خلافه. انتهى. وهو جيد وجيه.
وبالجملة فإنه
لا ظهور في شيء من الآية والروايات المتعلقة بالمسألة في الدلالة على القول
المشهور سوى صحيحة البزنطي المتقدمة مع معارضتها بما ذكرنا من الأخبار المذكورة ، الا ان
الاحتياط في الوقوف على المشهور ، وحينئذ فتحمل صحيحة البزنطي المتقدمة على
الاستحباب.
هذا بالنسبة
إلى الاستيعاب الطولى. واما العرضي فقد نقلوا الإجماع على عدمه ومنهم العلامة في
التذكرة والمنتهى ، الا انه في التذكرة ـ بعد ان ذكر ما قدمنا نقله عنه آنفا بأسطر
يسيرة ـ قال : «ويستحب أن يكون بثلاث أصابع مضمومة ، وقال بعض علمائنا يجب» انتهى.
وفي المختلف نسبه إلى المشهور مؤذنا بالخلاف فيه.
ويدل على
المشهور ما تقدم من صحيحتي الأخوين وحسنتهما وروايات عدم استبطان
الشراكين في المسح مع اعتضادها بالأصل.
وعلى الثاني
ظاهر الآية وصحيحة البزنطي المتقدمة حيث قال الراوي بعد نقل ما تقدم منها : «قلت : جعلت
فداك لو ان رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا؟ فقال : لا إلا بكفه كلها». ولا يخفى
ما فيها من المبالغة في الاستيعاب ، حيث انه مفهوم أولا من قوله : «فمسحها» ثم من
النهي الصريح.
ويؤيده قوية
عبد الأعلى قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع
بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ). امسح عليه».
__________________
ورواية معمر بن
عمر عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «يجزئ من المسح على الرأس ثلاث أصابع ، وكذلك
الرجل».
والمسألة لا
تخلو من اشكال ، ولو لا اخبار المسح وعدم استبطان الشراكين ، لكان القول بمضمون
هذه الروايات في غاية القوة ، فإن ما عداها قابل للتأويل والتقييد بهذه الأخبار.
وحمل هذه الأخبار على الاستحباب ـ كما هو المشهور ـ ليس اولى مما قلناه ، فإن
صراحة صحيحة البزنطي فيما دلت عليه ـ كما قدمنا الإشارة اليه ، مع الاعتضاد بظاهر
الآية والروايتين المذكورتين. وإجمال الشيء في روايات الأخوين ـ مما يرشد اليه
ويحمل عليه. واعتضاد تلك بدعوى الإجماع ـ كما قيل ـ ممنوع بعد وجود الخلاف كما
عرفت ، مع ما في الإجماع المدعى في أمثال هذه المقامات من المناقشة الظاهرة ،
ولهذا قال السيد السند في المدارك ـ بعد نقل الإجماع على الاكتفاء بالمسمى ولو
بإصبع واحدة عن المعتبر والتذكرة ، والاستدلال بصحيحة زرارة ـ ما لفظه : «ولولا ذلك لأمكن القول بوجوب المسح بالكف
كلها. لصحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر » ثم ساق الرواية وقال : «فان المقيد يحكم على المطلق.
ومع ذلك فالاحتياط هنا مما لا ينبغي تركه ، لصحة الخبر وصراحته وإجمال ما ينافيه»
انتهى وهو جيد
ثم انه على
تقدير وجوب الاستيعاب طولا فهل يجب إدخال الكعبين في المسح أم لا؟ وجهان بل قولان
مبنيان على ما سبق في المرفقين. الا ان ظاهر صحيحتي الأخوين واخبار عدم استبطان
الشراكين العدم هنا. والاحتياط في أمثال هذه المقامات مما ينبغي
المحافظة عليه.
(الثالث) ـ هل
الكعبان هما قبتا القدمين ما بين المفصل والمشط ، كما هو
__________________
المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه جمع منهم الإجماع. أو ملتقى الساق والقدم
المعبر عنه بالمفصل بين الساق والقدم ، كما عليه العلامة وجمع ممن تأخر عنه ،
كالشهيد الأول في الرسالة وان بالغ في التشنيع عليه في الذكرى ، وصاحب الكنز ، وشيخنا
البهائي ، والمحدث الكاشاني ، والمحدث الحر العاملي ، وجمع من متأخري المتأخرين؟
إشكال ينشأ من تعارض كلام أهل اللغة في هذا المقام ، وتدافع اخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) مع دخول التأويل في اخبار كل من الطرفين وقبول
الانطباق على كل من الجانبين
وتفصيل هذه الجملة
على وجه الاختصار انه قد نقل أول الشهيدين في الذكرى وثاني المحققين في شرح
القواعد ، ان لغوية العامة مختلفون في ذلك ، واما لغوية الخاصة فهم متفقون على انه
بمعنى المشهور.
ونقل شيخنا
البهائي في كتاب الحبل المتين ان الكعب يطلق على معان أربعة : (الأول) ـ العظم
المرتفع في ظهر القدم الواقع بين المفصل والمشط. (الثاني) ـ المفصل بين الساق
والقدم (الثالث) ـ عظم مائل إلى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم له زائدتان
في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب ،
وهو نأت في وسط ظهر القدم اعني وسطه العرضي ولكن نتوه غير ظاهر لحس البصر لارتكاز
أعلاه في حفرتي الساق ، وقد يعبر عنه بالمفصل ، لمجاورته له أو من قبيل تسمية
الحال باسم المحل. (الرابع) ـ أحد الناتيين عن يمين القدم وشماله.
وأقول : المعنى
الأول هو الذي عليه جمهور الأصحاب ، والثالث هو الذي نسبه (قدسسره) للعلامة وان عبر عنه بالمفصل مجازا كما ذكره ، وعلى
هذا فالثاني يرجع إلى الثالث ، والرابع هو الذي عليه العامة.
ثم نقل (قدسسره) جملة من كلام العامة كالفخر الرازي في تفسيره الكبير ،
فإنه قال : «قالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح : ان الكعب عبارة عن عظم
مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل
الساق والقدم ، وهو قول محمد بن الحسن ، وكان الأصمعي يختار هذا القول ، ثم
قال : حجة الإمامية ان اسم الكعب يطلق على العظم المخصوص الموجود في ارجل جميع
الحيوانات ، فوجب ان يكون في حق الإنسان كذلك» ومثله كلام صاحب الكشف وكلام
النيشابوري ، ثم نقل جملة من كلام علماء التشريح.
وعورض بان ابن
الأثير قال ـ بعد ذكر الكعب بالمعنى الذي عليه العامة ـ ما لفظه : «وذهب قوم إلى
أنهما العظمان اللذان في ظهر القدم ، وهو مذهب الشيعة ، ومنه قول يحيى بن الحرث :
رأيت القتلى يوم زيد بن علي فرأيت الكعاب في وسط القدم» ومثل ذلك نقل عن صاحب لباب
التأويل ، ونقل الشهيد في الذكرى عن العلامة اللغوي عميد الرؤساء انه صنف كتابا في
تحقيق معنى الكعب وأكثر فيه من الشواهد على ان الكعب هو الناشز في ظهر القدم امام
الساق حيث يقع معقد الشراك من النعل ، ويظهر من الصحاح ان ذلك قول أكثر الناس ،
حيث قال : «وأنكر الأصمعي قول الناس انه في ظهر القدم» وقال في الذكرى أيضا : «ومن
أحسن ما ورد في ذلك ما ذكره أبو عمرو الزاهد في كتاب فائت الجمهرة ، قال : اختلف
الناس في الكعب ، فأخبرني أبو نصر عن الأصمعي انه الناتي في أسفل الساق عن يمين
وشمال ، وأخبرني سلمة عن الفراء قال هو في مشط الرجل وقال هكذا برجله ، قال أبو
العباس فهذا الذي يسميه الأصمعي الكعب هو عند العرب المنجم ، قال : وأخبرني سلمة
عن الفراء عن الكسائي قال قعد محمد بن علي بن الحسين (عليهمالسلام) في مجلس كان له وقال : ههنا الكعبان قال فقالوا هكذا
فقال : ليس هو هكذا ولكنه هكذا وأشار إلى مشط رجله ، فقالوا له : ان الناس يقولون
هكذا فقال : لا ، هذا قول الخاصة وذاك قول العامة». انتهى.
وأنت خبير بان
المعنى الثالث ـ من المعاني التي ذكرها شيخنا البهائي وهو الذي ادعى انه مراد
العلامة ـ لم يذكر في كلام أحد من أهل اللغة وان ذكره جملة من علماء العامة ونسبوه
إلى الشيعة كما نقله ، وذكره علماء التشريح أيضا. وما توهمه من عبارة
القاموس ـ حيث قال ـ بعد تفسيره بالمفصل والعظم الناشز فوق القدم والناشزين
من جانبي القدم ـ ما لفظه : «والذي يلعب به كالكعبة» ـ فغير صريح في المعنى الذي
أراده ، لاحتمال حمله على كعب النرد كما ذكره في النهاية ، حيث قال : «الكعاب فصوص
النرد واحدها كعب وكعبة ، واللعب بها حرام» انتهى ، بل هذا المعنى أظهر. هذا ما
يتعلق بذلك من كلام أهل اللغة.
واما كلام
علمائنا (رضوان الله عليهم) في هذا المقام فأكثر عباراتهم ـ تصريحا في بعض وتلويحا
في آخر ـ انما ينصب على القول المشهور سيما عبارة الشيخ المفيد ، فإنها في ذلك على
غاية من الظهور حيث قال : «الكعبان هما قبتا القدمين امام الساقين ما بين المفصل
والمشط» وظاهر الشيخ في التهذيب ـ بعد نقل العبارة المذكورة ـ القول بذلك بل دعوى
الإجماع على ان الكعب هو ذلك ، حيث قال : «ويدل عليه إجماع الأمة ، فإنهم بين قائل
بوجوب المسح دون غيره ويقطع على ان المراد بالكعبين ما ذكرنا ، وقائل بوجوب الغسل
عينا أو تخييرا بينه وبين المسح ويقول الكعبان هما العظمان الناتيان خلف الساق ،
ولا قول ثالث ، فإذا ثبت بالدليل الذي قدمنا ذكره وجوب مسح الرجلين وانه لا يجوز
غيره ثبت ما قلناه من ماهية الكعبين» انتهى. ولا يخفى عليك ما فيه من الصراحة في
المعنى المشهور.
وجملة من
عبارات الأصحاب ـ كابن أبي عقيل والسيد المرتضى وأبي الصلاح والشيخ في أكثر كتبه
وابن إدريس والمحقق ـ قد اشتركت في وصف الكعبين بأوصاف متلازمة ، من وصفه بالنتو
في ظهر القدم عند معقد الشراك في بعض ، وكونه في ظهر القدم في أخرى ، وكونه معقد
الشراك في ثالثة. والنتو في وسط القدم في رابعة ، وكونهما في ظهر القدم عند معقد
الشراك في خامسة ، وانهما معقدا الشراك في سادسة ، وكونهما قبتي القدم في سابعة.
والعلامة (رحمهالله) قد ادعى انصباب هذه العبارات على ما ذهب اليه وادعى
اشتباهها على غير المحصل ، وشيخنا البهائي (طاب ثراه) أوضح هذه الدعوى بان هذه
العبارات لا تأبى الانطباق على ما ذهب إليه العلامة من المعنى الثالث من معاني
الكعب المتقدمة ، لأن غاية ما يتوهم منه المنافاة وصفه بالنتو في وسط القدم ،
والعلامة قد فسره في التذكرة والمنتهى بذلك لكنه يقول ليس هو العظم الواقع امام
الساق بين المفصل والمشط بل هو العظم الواقع في ملتقى الساق والقدم ، وهو الذي
ذكره المشرحون ، وهو ـ كما تقدم ـ نأت في وسط ظهر القدم اعني وسطه العرضي ولكن
نتوه غير ظاهر لحس البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق ، وربما عبر عنه في بعض
كتبه بحد المفصل وفي بعضها بمجمع الساق والقدم وفي بعضها بالناتي في وسط القدم وفي
بعضها بالمفصل. انتهى
أقول : وأنت
إذا أعطيت التأمل حقه من الإنصاف وجدت ان تنزيل عبائر الأصحاب على ما ذكره (رحمهالله) في غاية الاعتساف ، فان المتبادر من الوسط هو ما كان
في الطول والعرض ومن الارتفاع والنتو هو ما كان محسوسا مشاهدا ، ولو كان المراد
بالكعب هذا المعنى الذي لا يفهمه إلا علماء التشريح دون سائر العلماء فضلا عن
المتعلمين لا وضحوه بعبارات جلية وبينوه بكلمات واضحة غير خفية ، ولما اقتصروا في
وصفه على مجرد النتو والارتفاع الغير المحسوس الذي هو من قبيل تعريف المجهول بما
هو أخفى نعم في عبارة ابن الجنيد ما يوهم ذلك ، حيث قال : «الكعب في ظهر القدم دون
عظم الساق ، وهو المفصل الذي هو قدام العرقوب» ويحتمل رجوع ضمير «هو» الى عظم
الساق ويكون المراد انه عند عظم الساق ، بقرينة سابق كلامه من قوله : «الكعب في
ظهر القدم» هذا خلاصة ما يتعلق بكلام الأصحاب.
واما الأخبار
الواردة في هذا المضمار (فمنها) ـ صحيحة الأخوين حيث قال فيها : «فقلنا اين الكعبان؟ قال : ههنا يعني
المفصل دون عظم الساق. فقلنا : هذا
__________________
ما هو؟ قال : هذا عظم الساق والكعب أسفل من ذلك» وقوله : «والكعب أسفل من
ذلك».
في رواية
الكافي دون التهذيب. وهذا الحديث هو عمدة أدلة العلامة ومن تابعه ، وهو ظاهر فيما
ادعوه ، إلا ان للمجيب ان يقول ـ بناء على ظهور غيره من الأخبار في المعنى المشهور
وظهور عبارات الأصحاب في خلافه ـ كما عرفت ـ غاية الظهور ـ :
(أولا) ـ بأنه
وان ظهر ذلك بالنسبة إلى رواية التهذيب إلا انه بالنظر إلى الزيادة التي في الكافي
من قوله : «والكعب أسفل من ذلك» لا يخلو من اشكال ، فإنه اما أن يكون المشار إليه
ـ في قوله : «هذا من عظم الساق» على ما في الكافي أو «هذا عظم الساق» على ما في
التهذيب ـ المنجم أو منتهى عظم الساق ، فان كان الأول فهو عند المفصل كما قال في
النهاية : «الكعبان : العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم من الجنبين» وحينئذ
فحكمه (عليهالسلام) بان الكعب أسفل من ذلك ظاهر في انه المعنى المعروف عند
القوم ، وان كان الثاني فالأمر أوضح ، فعلى هذا يجب حمل قوله : «ههنا يعنى المفصل»
على انه قريب إلى المفصل لئلا يلزم التناقض.
فان قيل : انه
يمكن حمل قوله : «أسفل من ذلك» على التحتية كما يدعيه شيخنا البهائي (قدسسره) فلا يلزم التناقض.
قلنا : ان لم يكن
ما ذكرنا من حمل الاسفلية على الكعب المشهور أظهر لظهور ذلك لكل ناظر وتبادره لكل
سامع ، فلا أقل من المساواة ، وبه ينتفي ظهور الرواية في المدعى فضلا عن أظهريتها.
و (ثانيا) ـ بأنها
معارضة بما سيأتي من الأخبار فيجب ارتكاب التجوز فيها جمعا
ومن تلك
الأخبار صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه
على الأصابع
__________________
فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ...».
وهذا مما استدل
به العلامة أيضا على ما ذهب اليه ، وجملة من الأصحاب نقلوا الخبر بلفظ «ظهر» بدل «ظاهر»
وعلى أيهما كان فقوله «الى ظاهر» أو «ظهر» بدل من قوله : «الى الكعبين» وهو محتمل
للمعنى المشهور بناء على ان الظاهر يقال لغة لما ارتفع ، قال في القاموس : «والظواهر
أشراف الأرض» وقال في مادة شرف : «الشرف محركة : العلو ، والمكان العالي» انتهى
والظهر أيضا يقال لما ارتفع وغلظ من الأرض كما في القاموس أيضا ، وعلى كل من
النسختين فانطباقه على المشهور ظاهر ويحتمل حمل الظهر والظاهر على ما قابل البطن
والباطن كما استدل به للقول الآخر ، ولكن لا بد من تتميمه بحمل الظهر أو الظاهر
على الاستيعاب طولا لعدم قرينة البعضية ، فيكون المراد به نهايته المتصلة بالساق.
ويمكن الجواب بالحمل على الاستحباب بقرينة ان ما اشتملت عليه الرواية سوى أصل
المسح ـ من الاستيعاب الطولي بناء على ما أسلفنا تحقيقه ، والعرضي كما أوضحناه
أيضا ، والابتداء بالأصابع ـ كله مستحب.
و (منها) ـ حسنة
ميسر عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «الوضوء واحد ، ووصف الكعب في ظهر القدم». وأورد
في التهذيب هذه الرواية في موضع بهذه الكيفية وفي موضع آخر بهذا السند والمتن لكن
بلفظ «واحدة» بدل «واحد» ولفظ «ميسرة» بدل «ميسر» كما هو في الكافي كذلك.
وروايته الأخرى
أيضا عنه (عليهالسلام) في حكاية الوضوء البياني ، قال فيها : «ثم مسح رأسه
وقدميه ثم وضع يده على ظهر القدم ثم قال : هذا هو الكعب ، قال وأومأ بيده إلى أسفل
العرقوب ثم قال : ان هذا هو الظنبوب».
وهاتان
الروايتان مما استدل به القائلون بالقول المشهور من حيث تضمنهما ان
__________________
الكعب في ظهر القدم ، والمتبادر من ذلك ـ كما عرفت ـ هو ما ظهر في وسطه
الطولى المعبر عنه فيما تقدم من كلامهم بالناتي في وسط القدم والناتي في ظهر القدم
أي ما كان نتوه ظاهرا محسوسا.
واما القائلون
بالقول الآخر فتأولوا كونه في الظهر بمعنى كونه واقعا فيه وان كان في منتهاه وخفي
على الحس.
قال في الوافي
ـ بعد نقل أول هذين الخبرين ـ ما لفظه : «ووصف الكعب في ظهر القدم لا ينافي كونه
المفصل ، لأنه في ظهرها ومنتهاها. وانما قال ذلك ردا على المخالفين حيث جعلوهما في
طرفي القدم وجانبيها» انتهى.
وقال شيخنا
البهائي : «على ان قول ميسر ـ في الحديث الثالث : ان الباقر وصف الكعب في ظهر
القدم ـ يعطي ان الامام (عليهالسلام) ذكر للكعب أوصافا ليعرفه الراوي بها ، ولو كان الكعب
هذا الارتفاع المحسوس المشاهد لم يحتج إلى الوصف بل كان ينبغي أن يقول : هو ذا ،
وقس عليه قوله (عليهالسلام) في الحديث الأول : «ههنا» بالإشارة إلى مكانه دون
الإشارة إليه» انتهى.
أقول : قد قال
في رواية ميسر الثانية «هو هذا» فان كان ذلك يكفي في الدلالة على المعنى المشهور
فينبغي ان يوافق عليه شيخنا المذكور.
وبالجملة فإنه
لما كان الكعب يطلق على كل من المعنيين المذكورين فحمل الروايات جملة على أحدهما
دون الآخر يحتاج إلى دلالة بينة واضحة وقرينة مفصحة راجحة ، وقد عرفت ان
الاحتمالات قائمة من الطرفين ومتصادمة من الجانبين وان ادعى كل من القائلين رجحان
ما ذهب اليه وقوة ما اعتمد عليه ، إلا ان الحق ان ذلك مما يدخل تلك الأخبار في حيز
المشتبهات ويوجب العمل بالاحتياط في المسألة.
ويقوى عندي ما
ذهب اليه بعض الفضلاء من متأخري المتأخرين في هذا المقام وان كان خلاف ما عليه
جملة من متأخري علمائنا الاعلام ، حيث قال بعد نقل جملة من كلام القوم
على العلامة وما أوقعوه به من الشناعة والملامة : «هذا ملخص ما شنعوا به
عليه ، وعند إمعان النظر في كلام العلامة وملاحظة ما أورده في غير المختلف يعلم
انه لمن يخرج بقوله عن المشهور بل هو عينه إلا انه بسبب قصده لتطبيق النص عليه خرج
في بعض عباراته عن المعهود من كلامهم ، وبيان ذلك انه (رحمهالله) قال في التذكرة : «ومحل المسح ظهر القدمين من رؤوس
الأصابع إلى الكعبين ، وهما العظمان الناتيان في وسط القدم ، وهما معقد الشراك
اعني مجمع الساق والقدم ، ذهب إليه علماؤنا اجمع ، وبه قال محمد بن الحسن الشيباني
لأنه مأخوذ من «كعب ثدي المرأة إذا ارتفع» «ولقول الباقر (عليهالسلام) وقد سئل فأين الكعبان؟ : ههنا يعني المفصل دون عظم الساق».
وقال في المنتهى : «ذهب علماؤنا إلى ان الكعبين هما العظمان الناتيان في وسط القدم
، وهما معقدا الشراك ، وبه قال محمد بن الحسن من الجمهور ، وخالف الباقون فيه
وقالوا ان الكعبين هما الناتيان في جانبي الساق ، وهما المسميان بالظنابيب» ثم أخذ
في الاستدلال وأورد صحيحة زرارة وبكير ابني أعين المذكورة وروايتي ميسر المتقدمتين إلى أن قال : فروع (الأول) ـ قد تشتبه عبارة علمائنا
على بعض من لا مزيد تحصيل له في معنى الكعب. والضابط فيه ما رواه زرارة ، وأورد
الرواية ، في القواعد عرف الكعبين بأنهما حد المفصل بين الساق والقدم ، وفي
الإرشاد أنهما مجمع القدم وأصل الساق. والمفهوم من خلال هذه العبارات انه أطلق
المفصل على العظمين الناتيين تارة وأطلق عليهما الحد والمجمع تارة أخرى ، وكلامه
في التذكرة صريح في ذلك ، حيث فسر العظمين الناتيين بأنهما معقدا الشراك وفسر معقد
الشراك بأنه مجمع الساق والقدم ، وفي المنتهى قريب منه ولما كان مدلول رواية زرارة
وأخيه يقتضي ان الكعبين هما المفصل حيث فسر الامام (عليهالسلام) فيهما الكعبين بأنهما المفصل دون عظم الساق ورأى
علماءنا أطبقوا على انهما العظمان الناتيان ، أراد الجمع بين الكلامين فحمل المفصل
على ذلك باعتبار كون
__________________
طرفي ذينك العظمين مما يلي الساق حد المفصل والساق لأن عظم الساق متصل بهما
، فأطلق عليهما المفصل من جهة كونهما حدا له وبداية لحصوله ، فيكون تعريفهما
بالمفصل باعتبار نهايتهما ، وغاية الأمر ان ذلك على طريق التجوز لعلاقة المجاورة ،
وليس في كلامه ما ينفي إرادة المعنى المشهور بوجه من الوجوه ، بل مقتضى نقله اتفاق
علمائنا اجمع عليه انه لا يحتمل ارادة غيره ، وبسبب انه مخالف لظاهر الرواية كما
ذكرنا نبه عليه بأنه اشتباه على غير المحصل وان المحصل يعرف ان المراد بالكعبين هو
المفصل باعتبار كونه حدا ونهاية لهما ولذلك أطلق عليهما ، وربما كانت الحكمة في
هذا الإطلاق من الامام (عليهالسلام) ارادة إيصال المسح إلى نهاية الكعب ، ولا يليق حمل
كلام العلامة على ما فهموه منه ، لانه يلزم من ذلك مناقضة أول كلامه لآخره والخروج
عن نقل الإجماع عليه وعدم فهمه المعنى الظاهر من عبارات الأصحاب ، وذلك لا ينسب لا
دون الناس وابلدهم فضلا عن مثل جلالة قدر العلامة (رحمهالله) ومما يؤكد ذلك ان المحقق في المعتبر استدل على كون
الكعبين هما العظمان الناتيان بهذه الرواية ، فلو لا ان المراد بالمفصل ما أشرنا
اليه لم يتجه له الاستدلال بها على ذلك» انتهى كلامه زيد مقامه. وانما نقلناه
بطوله ليظهر لك حسنه وجودة محصوله.
وأقول : ربما
يتسارع الناظر ـ لالفة ذهنه بما زعمه القوم في هذه المسألة من التحقيق ـ إلى إنكار
ما ذكره هذا الفاضل من التلفيق ، وعند التأمل الصادق يجده أقرب مما ذكره شيخنا
البهائي (قدسسره) فإنه (طاب ثراه) وان دقق النظر في المقام وأيده بكلام
أولئك الأقوام ، كما هو مقتضى فهمه الثاقب ونظره الصائب في استجلاء أبكار الأحكام
، الا ان حمل هذه العبارات من العلامة وغيره من الأصحاب على ما ذكره من هذا المعنى
الخفي ـ كحمل النتو على النتو في بطن الظهر وان لم يظهر للحس ، والتوسط على التوسط
العرضي في آخر القدم. وحمل معقد الشراك على كونه في المفصل مع ان كل أحد يعلم انه
قدام المفصل ، مع عدم الإشارة إلى شيء من ذلك في تلك
العبارات سيما عبارات العلامة (عطر الله مرقده) الذي هو مخترع هذا القول
على تعددها فإن غاية ما يخرج به عن كلام القوم التعبير بالمفصل دون هذا العظم
الخفي الذي ذكره ـ يكاد يقطع العقل ببعده.
وعمدة ما يدور
عليه كلامه (قدسسره) ـ في الاستدلال على هذا القول ويشجعه على انه مراد
العلامة ـ شيئان :
(أحدهما) ـ نسبة
الفخر الرازي ومن تبعه ذلك إلى الشيعة وفيه ان الفخر الرازي قد نقل ذلك أيضا عن
الأصمعي كما قدمنا نقله عنه ، مع انك قد عرفت ـ مما نقله شيخنا الشهيد في الذكرى
عن أبي عمرو الزاهد ـ ان مذهب الأصمعي في الكعب انما هو مذهب العامة ، وبذلك أيضا
صرح احمد بن محمد الفيومي في المصباح المنير ، وحينئذ فإذا احتمل تطرق الاختلال
إلى نقله عن علماء مذهبه فبالطريق الاولى إلى مذهب الشيعة ، ويؤيده ما قدمنا نقله
عن ابن الأثير من ان مذهب الشيعة انهما العظمان اللذان في ظهر القدم ، وما صرح به
في المصباح المنير أيضا ، حيث قال : «وذهبت الشيعة إلى ان الكعب في ظهر القدم
وأنكره أئمة اللغة كالاصمعي وغيره».
و (ثانيهما) ـ صحيح
زرارة وأخيه المتقدم ذكره وهو ـ بعد ما عرفت من ظهور هذا المعنى من كلام الأصحاب
سيما كلام الشيخين في المقنعة والتهذيب وظهوره أيضا من تلك الأخبار المتقدمة ـ يجب
إرجاعه إلى ما عليه الأصحاب سيما مع عدم الصراحة لما عرفت من تطرق الاحتمال إلى
المعنى الذي اعتمدوه منه ، وجملة المتقدمين من الأصحاب لم يفهموا منه المخالفة لما
قرروه في عبائرهم من معنى الكعب المشهور ، ولهذا ان الشيخ في التهذيب ـ بعد ذكر ما
قدمنا نقله عنه مما هو صريح في المعنى المشهور ـ نظم هذه الرواية في سلك الأدلة
على ذلك ولم يجعلها في قالب المخالف ، والمحقق في المعتبر كذلك بعد ما عرف الكعب
بأنه قبة القدم ، وما ذاك كله إلا لفهمهم منها الانطباق على المعنى
__________________
المشهور وان احتيج إلى ارتكاب نوع من المجاز.
وبالجملة
فتأويل كلام العلامة (رضوان الله عليه) بما يرجع إلى المشهور ـ وان اعتراه في بعض
عبائره نوع من القصور ـ أهون وأقرب مما تكلفه (قدسسره) وحينئذ فينحصر الخلاف في شيخنا البهائي (رحمهالله) ومن تبعه على تلك المقالة. والاحتياط بإيصال المسح إلى
المفصل بل إلى عظم الساق مما ينبغي المحافظة عليه. والله الهادي.
(الرابع) ـ الظاهر
جواز النكس هنا كالرأس. وفاقا للمشهور وخلافا لظاهري المرتضى وابن بابويه وابن
إدريس فيما قطع به ، بل نقل عنه في المختلف كراهية الاستقبال لما تقدم من الأدلة.
ويزيده تأكيدا
هنا رواية يونس قال : «أخبرني من رأى أبا الحسن (عليهالسلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن
الكعب إلى أعلى القدم ويقول : الأمر في مسح الرجلين موسع : من شاء مسح مقبلا ومن
شاء مسح مدبرا ، فإنه من الأمر الموسع ان شاء الله».
وصحيحة حماد عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا».
واستدل للقول
الآخر بالآية بناء على أن «الى» فيها لانتهاء المسح. وفيه انها محتملة لكل من غاية
المسح والممسوح فالحمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بغير مرجح بل ظاهر الأخبار
المتقدمة في المورد الأول من هذا البحث كونها غاية للممسوح كما تقدمت الإشارة إليه
ثمة.
وبالوضوء
البياني. وفيه انه محمول على الاستحباب جمعا بين الأخبار.
وبصحيحة
البزنطي حيث قال فيها : «... فوضع كفه على الأصابع فمسحها
__________________
إلى الكعبين ...». وفيه أيضا ما في سابقه.
وبيقين
البراءة. وفيه انه يرجع إلى الاحتياط ، وهو هنا مستحب لا واجب كما تقدمت الإشارة
إليه.
(الخامس) ـ قد
تقدم في سابق هذا البحث الكلام في وجوب المسح بالبلة وعدم جواز استئناف ماء جديد
للمسح. لكن بقي الكلام هنا في موضعين :
(أحدهما) ـ انه
لو كانت البلة الباقية مشتملة على ما يتحقق به الجريان لو مسح فهل يمسح بها والحال
كذلك ، أو يجب التجفيف حذرا من وقوع الغسل المقابل للمسح المنهي عنه في الأخبار
فلا يحصل الامتثال؟ وجهان بل قولان يلتفتان إلى ان النسبة بين الغسل والمسح
التباين أو العموم من وجه ، فيجتمعان في إمرار اليد مع الجريان وينفرد الأول
بالثاني خاصة والثاني بالأول ، والأول ظاهر المشهور ، وإلى الثاني مال جملة من
محققي متأخري المتأخرين ، ولعله الأظهر ، وسيأتي مزيد تحقيق للمسألة.
و (ثانيهما) ـ انه
مع وجود بلة على الممسوح خارجة عن ماء الوضوء ، فهل يجوز المسح والحال كذلك ، أم
يجب التجفيف حذرا من لزوم المسح بماء جديد؟ قولان وبالثاني صرح العلامة في المختلف
ونقله فيه وفي المنتهى عن والده أيضا.
وعلى الأول فهل
يجوز مع وجود الرطوبة مطلقا ، أو يشترط غلبة ماء الوضوء عليها؟ قولان ، وبالثاني
صرح الشهيد في الدروس ، وبالأول صرح المحقق وابن إدريس وابن الجنيد ، قال ابن الجنيد
: «من تطهر إلا رجليه فدهمه أمر يحتاج معه إلى ان يخوض بهما نهرا مسح عليهما يده
وهو في النهر ان تطاول خوضه وخاف جفاف ما وضأ من أعضائه ، وان لم يخف كان مسحه بعد
خروجه أحب الي وأحوط» وقال ابن إدريس : «إذا
كان قائما في الماء وتوضأ ثم اخرج رجليه من الماء ومسح عليهما من غير ان يدخل يده
في الماء فلا حرج عليه ، لانه ماسح إجماعا ، والظاهر من الآيات والأخبار متناول له»
وقال في المعتبر : «لو كان في ماء وغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ورجليه جاز ، لان
يديه لا تنفك من ماء الوضوء ولم يضره ما كان على القدمين من الماء» وظاهره
جواز المسح في الماء كما في كلام ابن الجنيد ، مع احتمال الحمل على خروج الرجل كما
في كلام ابن إدريس.
احتج العلامة
في المختلف على ما ذهب اليه والده ورجحه هو فيه ـ بان المسح يجب بنداوة الوضوء
ويحرم التجديد. ومع رطوبة الرجلين يحصل المسح بماء جديد.
والأظهر ـ كما
استظهره جملة من المحققين ـ القول بالجواز مطلقا ، لأصالة الجواز وصدق الامتثال ،
وتناول إطلاق الآية والأخبار لذلك ، وعدم الدليل على المنع ، ومنع صدق التجديد لو
حصل الجريان باجتماع البلتين بل ولو ببلة الممسوح منفردة عند عدم القصد إلى الغسل
وان صدق اسم الغسل ، ويؤيده صحيحة زرارة : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان
ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء ...». الدالة على جواز غسل الممسوح لا بذلك القصد
، وبذلك يظهر أظهرية ما استظهرناه في المسألة السابقة.
إلا انه يمكن
ان يقال ان ظاهر عبارات المجوزين ان البلة الباقية في اليد من ماء الوضوء وان قلت
لا تزول بملاقاتها للماء الذي على الرجل الممسوحة وان كثر ، فالمسح يحصل بها وان
شاركها غيرها ، والاستناد إلى ظواهر الأدلة انما هو من هذه الجهة ، بمعنى انه يصدق
المسح المأمور به شرعا والحال كذلك ، وهو عندي محل اشكال وخفاء ولا سيما في المسح
داخل الماء كما ذكره ابن الجنيد ، فإنه لا ريب ان غلبة الماء الذي على الممسوح على
البلة الباقية في اليد على وجه تضمحل به في جنبه توجب حصول التجديد في المسح ، كما
انه لو كان على هذه اليد الماسحة ـ مثلا ـ بول فإنه بوضعها في الماء يجب الحكم
بطهارتها ، لزوال نجاسة البول منها بغلبة الماء ، فبالطريق الاولى هنا ، أو كان
عليها ماء مضاف فإنه يجب الحكم بزواله عنها في الصورة المذكورة ، وهكذا يجري
بالنسبة إلى ما لو لم يكن
__________________
في الماء ولكن أخرجها من الماء ـ كما ذكره ابن إدريس ـ وعليها ماء كثير
والبلة التي على اليد قليلة جدا ، فإنها تضمحل في جانب ذلك الماء ويحكم عرفا بل
شرعا بزوالها بملاقاة ذلك الماء لاضمحلالها في جنبه ، ومن الظاهر ان بناء قاعدة
التطهير من نحو البول باستنجاء أو غيره على غلبة المطهر انما هو من حيث ان النجاسة
تزول وتضمحل في جنبه ، ولو كانت باقية لما حصل التطهير ، فكذا ما نحن فيه ، وحينئذ
فمتى كانت الرطوبة التي على ظهر الرجل مما تغلب على البلة وتضمحل البلة في جنبها
فإنه يحصل المسح بالماء الجديد.
وبالجملة
فالمسألة عندي محل توقف لعدم النص ، وما ادعوه من الدخول تحت العمومات ليس بمطرد
في جميع ما ذكروه ، فالواجب عندي هو الوقوف على جادة الاحتياط ، وان يراعى عدم
غلبة الماء الذي على ظاهر العضو الممسوح على البلة الباقية والاحتياط ـ بتجفيف
الرجل ونفض اليدين من البلة المستلزمة للجريان ـ مما ينبغي المحافظة عليه.
(السادس) ـ لا
يجوز المسح في كل من الرأس والرجلين على حائل اختيارا إجماعا منا فتوى ورواية ،
ومن الحائل الشعر في الرجل على المعروف من مذهب الأصحاب فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) «انه سئل عن المسح على الخفين وعلى العمامة. فقال : لا تمسح عليهما».
ومرفوعة محمد
بن يحيى عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الذي يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال : لا يجوز حتى يصيب
بشرة رأسه بالماء».
وما رواه علي
بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرأة هل يصلح لها ان تمسح على الخمار؟
قال : لا يصلح حتى تمسح على رأسها». إلى غير ذلك من الأخبار.
__________________
اما مع الضرورة
كالتقية والبرد الشديد ونحوهما فظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على الجواز.
ويدل عليه
بالنسبة إلى الرجلين رواية أبي الورد قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : ان أبا ظبيان حدثني انه رأى عليا (عليهالسلام) أراق الماء ثم مسح على الخفين؟ فقال : كذب أبو ظبيان ،
أما بلغكم قول علي (عليهالسلام) فيكم : سبق الكتاب الخفين؟ قلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال
: لا ، إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك».
والرواية وان
كانت ضعيفة السند باصطلاح متأخري أصحابنا إلا انها مجبورة بعمل الأصحاب واتفاقهم
على الحكم المذكور ، على ان أبا الورد وان كان غير مذكور في كتب الرجال بمدح ولا
قدح إلا انه قد روى في الكافي ما يشعر بمدحه ، ولهذا عده شيخنا المجلسي في وجيزته
في الممدوحين ، وشيخنا أبو الحسن في بلغته قال روى مدحه مع ان الراوي عنه هنا
بواسطة حماد بن عثمان ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، والرواية
بناء على ظاهر هذه العبارة صحيحة ، وكيف كان فهي ـ باعتبار مجموع ما ذكرنا من
المرجحات مضافا إلى الاتفاق على الحكم ـ مما يقوى الاعتماد عليها واما
ما رواه في
الكافي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عمر الأعجمي
قال : «قال لي أبو عبد الله (عليهالسلام) : يا أبا عمر ان تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين
لمن لا تقية له ، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين». فالظاهر
حمله عليهم (صلوات الله عليهم) دون غيرهم ، كما يشير اليه ما رواه حريز عن زرارة
في الصحيح قال : «قلت له : هل في مسح الخفين تقية؟ فقال : ثلاثة
__________________
لا اتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج. قال زرارة : ولم
يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا». وقد حمله الشيخ في التهذيبين على اختصاص
نفي التقية بنفسه كما اوله زرارة. وبالجملة فإن أخبار وجوب التقية عامه ومنها
الخبر المذكور المتضمن لهذا الإطلاق الظاهر في المنافاة ، فالواجب حمله على ما
ذكرناه جمعا بين الأخبار. ومثل خبر زرارة المذكور أيضا ما رواه في الكافي أيضا في
الصحيح عن زرارة عن غير واحد قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : في المسح على الخفين تقية؟ قال : لا يتقى في ثلاث.
قلت : وما هن؟ قال شرب الخمر أو قال شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج». والتقريب
فيه ما تقدم.
ورواية عبد
الأعلى مولى آل سام قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام):
عثرت فانقطع
ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب
الله تعالى : قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...
امسح عليه».
ويدل عليه
بالنسبة إلى الرأس صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ثم يتوضأ للصلاة؟ فقال : لا بأس بأن
يمسح رأسه والحناء عليه». فان الظاهر حملها على ضرورة التداوي كما ذكره في المنتقى
نعم ربما احتمل على بعد الحمل على عدم استيعاب الحناء لموضع المسح. واما حمله على
المسح على لون الحناء فلا ينطبق عليه لفظ الطلاء كما لا يخفى.
وصحيحة عمر بن
يزيد عنه (عليهالسلام) «عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال : يمسح فوق الحناء».
والتقريب ما تقدم. ويمكن حمل هذه
__________________
الرواية على بعد على الخضاب بماء الحناء فيكون المسح على لونه ،
ويؤيد ذلك أيضا
إطلاق جملة من اخبار الجبائر ، لدلالتها على المسح على الجبيرة متى تضرر بنزعها
أعم من ان يكون في موضع الغسل أو المسح ، مثل حسنة كليب الأسدي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال : ان
كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل». وقوله (عليهالسلام) في حسنة الحلبي بعد ان سأله عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو
ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بخرقة ويتوضأ : «ان كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة
...». ويؤيده أيضا أدلة نفي الحرج في الدين.
وبذلك يظهر لك
ما في مناقشة جمع من متأخري أصحابنا : منهم ـ السيد السند في المدارك في هذا الحكم
حيث اقتصروا في الاستدلال عليه على رواية أبي الورد وردوها بضعف السند ، واحتملوا
الانتقال إلى التيمم لتعذر الوضوء بتعذر جزئه. وأنت خبير بعد الإحاطة بجميع ما
ذكرنا ان الظاهر انه لا مجال للتردد في الحكم المذكور ، وأيضا فإن التيمم معلوم
الاشتراط بشرط غير معلوم التحقق هنا ، والشك في وجود الشرط يستلزم الشك في وجود
المشروط ، فلا يتم الانتقال إلى التيمم.
ثم ان ظاهر
كلمة الأصحاب الاتفاق على ان من الحائل الذي لا يجوز المسح عليه اختيارا الشعر على
الرجل ، حيث صرحوا في الرأس بالمسح على البشرة أو الشعر المختص وفي الرجل بالبشرة.
قال بعض
المحققين من متأخري المتأخرين بعد نقل ذلك عنهم : «وهذا الحكم مما لم أقف فيه على
تصريح في كلام القوم غير انهم اقحموا لفظ البشرة في هذا الموضع ويمكن أن يكون
مرادهم الاحتراز عن الخف ونحوه لا الشعر كما هو الظاهر بحسب النظر لان المسح على
الرجلين انما يصدق عرفا على المسح على شعرها» انتهى.
__________________
أقول : بل
الظاهر ان الوجه في ذلك عندهم ما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة ،
حيث قال ـ بعد نقل عبارة المصنف المتضمنة للمسح على بشرة الرجلين ـ ما لفظه : «ويستفاد
ـ من حصره المسح في بشرة الرجلين مع تخييره في الرأس بين مسح مقدم شعره وبشرته ـ انه
لا يجزئ المسح على الشعر في الرجلين وان اختص بالظهر بل يتحتم البشرة. والأمر فيه
كذلك ، والفارق النص الدال بإطلاقه على وجوب مسح الرجلين ، إذ الشعر لا يسمى رجلا ولا
جزء منها ، مع التصريح في بعض الأخبار بجواز المسح على شعر الرأس ، وانما لم يصرح
الأصحاب بالمنع من المسح على الشعر في الرجلين لندور الشعر الحائل فيهما القاطع
لخط المسح ، فاكتفوا باستفادته من لفظ البشرة ، فإنها كالصريح ان لم تكنه» انتهى.
ويرد عليه (أولا)
ـ انه قد صرح هو (قدسسره) وجملة من الأصحاب بوجوب غسل الشعر النابت على اليد كما
تقدم ، معللين له تارة بأنه في محل الفرض واخرى بأنه من توابع اليد. والفرق بينه
وبين ما هنا غير ظاهر ، بل تلك التعليلات ان صحت فهي جارية هنا وإلا فلا في
الموضعين.
و (ثانيا) ـ ان
الظاهر من خلو الأخبار عن ذكره مع عدم انفكاك الرجل عنه غالبا جواز المسح عليه.
(السابع) ـ اختلف
الأصحاب في استمرار رفع الوضوء الضروري ـ بمسح على الخفين أو الجبائر أو غسل أو
نحو ذلك ـ بعد زوال الضرورة وعدم النقض بأحد الأسباب المعدودة ، فظاهر المشهور
بقاء الإباحة وجواز الدخول به في العبادة. ونقل عن الشيخ في المبسوط ـ وبه صرح
المحقق في المعتبر ـ تقدير الإباحة بحال الضرورة ، وقربه العلامة في التذكرة ،
وعللوه بأنها طهارة مشروطة بالضرورة فتزول بزوالها وتتقدر بقدرها. واعترض عليه
بأنه ان أريد بتقدير الطهارة بقدر الضرورة عدم جواز الطهارة كذلك بعد زوال الضرورة
فحق ولكنه غير ما نحن فيه ، وان أريد عدم إباحتها فهو محل النزاع.
وأنت خبير بأن
المسألة خالية من النص الدال على ذلك نفيا وإثباتا ، إلا انه يمكن الاستدلال على
القول المشهور بأنه لا ريب ان الوضوء المذكور رافع للحدث. ومن حكم الوضوء الرافع
أن لا يزول رفعه إلا بأحد النواقض ، وزوال الضرورة ليس من جملتها ، فيجب استصحاب
الحكم إلى ان يحصل أحد النواقض المقررة. وفيه ان الاستصحاب المقطوع بحجيته ـ كما
تقدم تحقيقه ـ هو ما إذا دل الدليل على ثبوت الحكم مطلقا ، بمعنى عدم الاختصاص بوقت
مخصوص أو حالة مخصوصة ، فإنه يجب البقاء على مقتضى ما دل عليه حتى يثبت الرافع ،
كالحكم باستمرار الطهارة والنجاسة فيما علما فيه وصحة البيوع والأنكحة ونحو ذلك
بعد وقوع العقد الصحيح حتى يثبت الرافع ، اما إذا كانت دلالته مخصوصة بحالة معينة
أو زمان مخصوص فاجراؤها في الحالة الثانية والزمان الآخر يتوقف على الدليل. وأنت
خبير بان ما نحن فيه انما هو من قبيل الثاني ، فإن الدليل الدال على صحة هذا
الوضوء ورفعه انما دل باعتبار حال الضرورة وعدم التمكن من المسح الواجب أو الغسل
الواجب مثلا كما هو المفروض ، فعند زوال تلك الحال وتجدد حال أخرى مغايرة لها
يحتاج في إجراء الحكم في الحالة الأخرى إلى دليل وليس فليس. ولعل في تشبيه الشيخ
له بالتيمم ـ حيث نقل عنه انه علل ذلك بأنها طهارة ضرورية فتتقدر بقدر الضرورة
كالتيمم ـ إشارة إلى ذلك ، فان وجه المشابهة ظاهر ، فان الماسح على حائل من خف أو
جبيرة والمتيمم شريكان في ترك العضو الممسوح وكون الترك فيهما لعذر شرعي ، فتزول
الرخصة فيهما بزواله ، وحينئذ فكما ان المتيمم ينتقض تيممه ولو في الصلاة بزوال
الحالة الموجبة له لعدم اقتضاء دليله الاستمرار في جميع الأحوال على الأصح ، كذلك
هذا المتوضئ ينتقض وضوؤه بزوال الحالة الموجبة له لعين ما ذكر.
قال بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : «ويتفرع على ذلك انه لو زال العذر في
المسح على الحائل قبل كمال الوضوء أو بعده وقبل الجفاف والدخول في
الصلاة ، فهل يجب عليه نزع الحائل والمسح بالبلة قبل الدخول فيها أم يباح
له الدخول فيها به؟ لم أقف لأحد من أصحابنا فيه على صريح كلام ، ولعل الأول أقرب ،
لبقاء وقت الخطاب بالطهارة المأمور فيها بغسل المغسول ومسح الممسوح ـ وهو وقت
ارادة القيام إلى الصلاة ـ الى وقت زوال العذر وهو متمكن من إيقاعها فيه فيجب ،
والعدول عن المأمور به لوجود مانع لا يمنع العود اليه بعد زواله ، بل يجب العود
اليه لوجود السبب ومنشأ الخطأ عدم الفرق بين انتفاء الحكم لفقد السبب أو لوجود
المانع» انتهى. وبذلك يظهر قوة القول بالنقض.
(الثامن) ـ صرح
جملة من الأصحاب بأنه لو تأدت التقية بالغسل عوضا عن المسح على الخفين تعين ولم
يجز غيره ، وكذا لو تأدت بغسل موضع المسح في الرجل لم يجب الاستيعاب ، وانه لو مسح
في موضع الغسل تقية بطل وضوؤه للنهي المقتضي للفساد في العبادة ، وعلل الأول بأن
الغسل أقرب إلى المفروض بالأصل ، للإلصاق بالبشرة وكونه مشتملا على المسح مع زيادة
، بخلاف المسح على الخفين ، لعدم الإلصاق. وهو لا يخلو من شوب النظر. وفي التذكرة
جعله اولى ولم يجزم بتعينه ، ولعله الاولى. واحتمل بعضهم في الثاني الصحة لأن
النهي لوصف خارج عن العبادة.
(التاسع) ـ هل
يشترط في العمل بالتقية في هذا الموضع وغيره عدم المندوحة أم لا؟ قولان ، اختار
ثانيهما ثاني الشهيدين في روض الجنان ، وبه صرح أولهما أيضا في مسألة مسح الرجلين
من البيان وثاني المحققين من شرح القواعد. واختار الأول السيد في المدارك معللا له
بانتفاء الضرر مع وجود المندوحة فيزول المقتضي.
أقول : ويؤيده
أيضا ان المكلف لا يخرج عن عهدة التكليف يقينا إلا بالإتيان بما كلف به شرعا ، خرج
ما إذا استلزم فعله ضرر التقية ونحوها ، فيجوز له الخروج عن الأول إلى ما يندفع به
الضرر ، وإلى هذا مال بعض أفاضل متأخري المتأخرين.
الا ان المفهوم
من الأخبار الواردة في استحباب الجماعة مع المخالفين ـ والحث
العظيم عليها ، والثواب الموعود عليها ، حتى ان من صلى معهم كان كمن صلى مع
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) مع استلزام ذلك ترك بعض الواجبات أحيانا ـ مما يؤيد
القول بالجواز مع المندوحة كما هو خيرة الشهيدين.
وقد صرح المحقق
الشيخ علي (رحمهالله) في بعض فوائده بالتفصيل بين ما إذا كان المأمور به في
التقية بطريق الخصوص فيصح وان كان ثمة مندوحة ، أو بطريق العموم فلا يجزى إلا مع
عدم المندوحة ، وظاهر كلامه (قدسسره) يعطي ان وجه الفرق حيث ان الشارع في الأول بسبب نصه
على ذلك الحكم بخصوصه اقامه مقام المأمور به حين التقية بخلاف الثاني.
(العاشر) مجز
بلا خلاف ، لكن الخلاف في انه لو تمكن في العبادة قبل خروج وقتها من الإتيان بها
على وجهها هل تجب الإعادة أم لا؟
صرح المحقق
الشيخ علي (رحمهالله) بتفريع ذلك على ما قدمنا نقله عنه من التفصيل بأنه ان
كان متعلق التقية مأذونا فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء والتكتف في الصلاة ،
فإنه إذا فعل على الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزئا وان كان للمكلف مندوحة من
فعله ، التفاتا إلى ان الشارع اقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقية كما
تقدمت الإشارة إليه ، فكان الإتيان به امتثالا فيقتضي الإجزاء ، قال : «وعلى هذا
فلا تجب الإعادة ولو تمكن منها على غير وجه التقية قبل خروج الوقت ، ولا أعلم في
ذلك خلافا من الأصحاب» وبملخص هذا الكلام صرح في شرح القواعد ثم قال : «واما إذا
كان متعلقها لم يرد فيه نص على الخصوص كفعل الصلاة إلى غير القبلة ، والوضوء بالنبيذ
، ومع الإخلال بالموالاة فيجف أعضاء الوضوء كما يراه بعض العامة فإن المكلف يجب
عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه إظهار الموافقة لهم ثم ان أمكن
الإعادة في الوقت بعد الإتيان به لوفق التقية وجبت ، ولو خرج الوقت نظر
في دليل يدل على وجوب القضاء ، فان حصل الظفر به أوجبناه وإلا فلا ، لان
القضاء انما يجب بأمر جديد. ونقل عن بعض أصحابنا القول بعدم الإعادة مطلقا ، نظرا
إلى كون المأتي به شرعيا فيكون مجزئا على كل تقدير. ورد بأن الاذن في التقية من
جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة» انتهى. وأنت خبير بأنه ان
اشترط في جواز العمل بالتقية عدم المندوحة ، يلزم على قوله انه مع المندوحة تجب
الإعادة وقتا وخارجا.
ثم لا يخفى
عليك ان المسألة لخلوها عن النص الصريح لا تخلو عن الاشكال وما ذكره من التعليل في
المقام عليل. إلا ان الذي يقرب إلى الفهم العليل والذهن الكليل ـ من اخبار حفظة
التنزيل الدالة على الأمر بمخالطة العامة ومعاشرتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم.
حتى ورد «ان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا» . والتأكيد على الصلاة معهم ونحو ذلك مع استلزام ذلك
المخالفة في بعض الأفعال البتة ـ هو صحة ما أوجبته التقية مطلقا ، سواء كان مأمورا
به بطريق الخصوص أو العموم ، له مندوحة عن الإتيان به تقية أم لا ، فان المفهوم من
تلك الأخبار ان الغرض من ذلك هو تأليف القلوب واجتماعها لدفع الضرر والطعن على
المذهب واهله كما يشعر به قول الصادق (عليهالسلام) بعد الأمر بما قدمنا ذكره : «فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا
هؤلاء الجعفرية رحم الله جعفرا ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا
فعل الله بجعفر ما كان اسوأ ما يؤدب أصحابه». لا ان الغرض إظهار الموافقة لهم في
ذلك الجزئي الخاص لدفع الضرر المترتب عليه خاصة ، على انه في صورة ما إذا كان
مستند التقية الأخبار المطلقة ، فمتى اقتضت ضرورة التقية الموافقة لهم وكان ذلك هو
الواجب عليه شرعا فاتى به ـ وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء ـ فالإعادة وقتا وخارجا
يحتاج إلى دليل من غير فرق بين المقامين ، لان هذه المسألة في التحقيق فرد من
افراد مسألة
__________________
ذوي الأعذار ، الأظهر والأشهر فيها عدم الإعادة. وتعليل وجوب الإعادة في
الوقت دون الخارج ـ بأن إطلاق الإذن في التقية لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع
الحاجة ـ فيه انه ان كان ما فعله إظهارا للموافقة هو فرضه في تلك الحال شرعا فقد
مضى بعد فعله على الصحة فاعادته مع عدم الدليل لا وجه لها ، وإلا فالواجب الإعادة
في المقامين وقتا وخارجا وهو لا يقول به.
(الحادي عشر) ـ
المشهور بين الأصحاب كراهة التكرار في المسح ، وعن ظاهر الخلاف والمبسوط التحريم ،
وهو ظاهر المقنعة ، وعن ابن حمزة انه عده من التروك المحرمة ، وعن ابن إدريس انه
جعله بدعة ، واحتمل في الذكرى ان يكون مرادهم التكرار مع اعتقاد شرعيته.
ويدل على
الوحدة في المسح اخبار الوضوء البياني ومرفوعة أبي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «مسح الرأس واحدة ...». وعدم الدليل على الزائد
لأنه حكم شرعي وإثباته يحتاج إلى دليل ، وربما ظهر من الانتصار دعوى الإجماع على
ذلك.
لكن نقل شيخنا
الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد انه قال في بيان كيفية الوضوء : «وفي مسح الرجلين
يبسط كفه اليمنى على قدمه الأيمن ويجذبها من أصابع رجله إلى الكعب ومن الكعب إلى
أطراف أصابعه ، فمهما اصابه المسح من ذلك أجزأه وان لم يقع على جميعه ، ثم يفعل
ذلك بيده اليسرى على رجله اليسرى» انتهى.
وما ربما يتوهم
ـ من تناول ظواهر أخبار التثنية كقولهم : «الوضوء مثنى مثنى». لذلك ـ مردود بما سيجيء
تحقيقه ان شاء الله تعالى ، ورواية يونس قال :
__________________
«أخبرني من رأى أبا الحسن (عليهالسلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن
الكعب إلى أعلى القدم». ـ مردود بما في تتمتها من قول الراوي : «ويقول : الأمر في
مسح الرجلين موسع : من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا فإنه من الأمر الموسع ان
شاء الله» لان الظاهر ان قوله (عليهالسلام) ذلك تعليل لما فعله من الإقبال تارة والأدبار اخرى.
وربما كان مستند ابن الجنيد فيما قدمنا نقله عنه إلى صدر هذه الرواية اما بقطعها
عن عجزها أو بحمل العجز على عدم الارتباط بالصدر.
المطلب الرابع
في الأحكام
وتفصيل القول
فيها يقع في مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب استحباب التثنية في الغسل ،
وتحقيق البحث في هذه المسألة يقع في مواضع :
(الأول) ـ اعلم
انه قد اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) ـ بعد الاتفاق على عدم تقدير
الوجوب بعدد معين ، بمعنى انه لو لم يكف الكف الأول للغسل الواجب وجب الثاني
والثالث وهكذا حتى يتأدى الواجب كما نقله في المختلف ـ في الغسلة الثانية :
فالمشهور بين
الأصحاب الاستحباب ، بل نقل عن ابن إدريس دعوى الإجماع عليه ، وكأنه لعدم الاعتداد
بخلاف معلوم النسب كما صرح به ، حيث قال بعد دعوى الإجماع : «ولا يعتد بخلاف من
خالف من الأصحاب بأنه لا يجوز الثانية ، لمعروفية نسبه» وظاهره وجود القائل
بالتحريم أيضا ، وهو صريح الشيخ في الخلاف ، حيث قال : «مسألة ـ الفرض في غسل
الأعضاء مرة واحدة والثانية سنة والثالثة بدعة ، وفي أصحابنا من قال : الثانية
بدعة. وليس بمعول عليه ، ومنهم من قال : ان الثانية تكلف ولم يقل بأنها بدعة.
والصحيح الأول» انتهى. ومنه يفهم أيضا قول ثالث
في المسألة وهو الجواز ، ولكنه غير ظاهر الجواز.
ونقل جمع من
الأصحاب (رضياللهعنهم) ـ عن الصدوق في الفقيه ، حيث قال : «الوضوء مرة مرة ومن توضأ مرتين لم يؤجر ومن توضأ
ثلاثا فقد أبدع». وعن البزنطي حيث نقل عنه في مستطرفات السرائر انه قال : «واعلم ان الفضل في واحدة واحدة ومن زاد على اثنتين
لم يؤجر». ـ عدم استحباب الثانية.
الا ان الذي
يقرب عندي من هذا الكلام هو التحريم :
(اما أولا) ـ فإنه
متى انتفى الأجر عليها لزم زيادتها وعدم كونها من الوضوء فتكون محرمة لعدم تصور
المباح في العبادة ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض.
و (اما ثانيا)
ـ فلان هذا هو الذي يدور عليه كلام الصدوق في غير هذا الموضع من الفقيه ، حيث قال
في موضع آخر ـ بعد ان روى عن الصادق (عليهالسلام): «والله ما كان وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إلا مرة مرة». ـ ما هذا لفظه : فأما الأخبار التي رويت
في ان الوضوء مرتين مرتين فأحدها بإسناد منقطع يرويه أبو جعفر الأحول ذكره عمن
رواه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «فرض الله الوضوء واحدة واحدة ، ووضع رسول الله (صلىاللهعليهوآله) للناس اثنتين اثنتين». وهذا على جهة الإنكار لا على
جهة الأخبار ، كأنه (عليهالسلام) يقول : حد الله حدا فتجاوزه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وتعداه؟ وقد قال الله عزوجل : «وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وقد روي «ان الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه
ومن يعصيه وان المؤمن لا ينجسه شيء وانما يكفيه مثل الدهن» . وقال الصادق (عليهالسلام)
__________________
«من تعدى في وضوئه كان كناقضه» . ثم ذكر حديث ابن أبي المقدام الآتي وتأوله بحمل «اثنتين اثنتين» فيه على التجديد ، ثم حمل
أيضا حديث «من زاد على مرتين لم يؤجر» . وكذلك ما روى في المرتين «أنه إسباغ» على التجديد أيضا ، إلى أن قال
: وقد فوض الله (عزوجل) الى نبيه (عليهالسلام) أمر دينه ، ولم يفوض اليه تعدي حدوده. وقول الصادق (عليهالسلام): «من توضأ مرتين لم يؤجر» . يعني به انه اتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا
يستحق الأجر ، وكذلك كل أجير إذا فعل غير الذي استؤجر عليه لم تكن له اجرة. انتهى.
وهذا الكلام ـ كما
ترى ـ صريح في إنكاره الثانية وقوله ببدعيتها ، حيث انه جعل الحد المفروض من الله
تعالى في الوضوء واحدة واحدة ، وان ما زاد تعد للحد ، وان من يتعد حدود الله فقد
ظلم نفسه ، وفسر عدم الأجر في قوله (عليهالسلام): «من توضأ مرتين لم يؤجر» . بأنه اتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا يستحق
الأجر ، وملخصه أن التثنية تعد للحد وانه لا يستحق المثنى ـ على أصل وضوئه لكونه
مخالفا متعديا للحد فضلا عن التثنية ـ أجرا كما لا يستحق الأجير ـ إذا فعل غير ما
استؤجر عليه ـ اجرا.
ونقل أيضا
القول بعدم الاستحباب عن ثقة الإسلام في الكافي ، والذي يظهر لي من عبارته أيضا هو
القول بالتحريم ، حيث قال ـ بعد نقل حديث عبد الكريم الآتي الدال على انه ما كان وضوء علي (عليهالسلام) إلا مرة مرة ـ ما لفظه «هذا دليل على ان الوضوء انما
هو مرة مرة ، لأنه (عليهالسلام) كان إذا ورد عليه أمران كلاهما لله طاعة أخذ بأحوطهما
وأشدهما على بدنه ، وان الذي جاء عنهم (عليهمالسلام) انه قال : «الوضوء مرتان» إنما هو لمن لم تقنعه مرة
فاستزاده فقال مرتان
__________________
ثم قال : «ومن زاد على مرتين لم يؤجر» وهو أقصى غاية الحد في الوضوء الذي
من تجاوزه اثم ولم يكن له وضوء ، وكان كمن صلى الظهر خمس ركعات ، ولو لم يطلق (عليهالسلام) في المرتين لكان سبيلهما سبيل الثلاث» انتهى.
والمفهوم من
هذا الكلام ان مراده الجمع بين أخبار المرة والمرتين والثلاث ، بحمل أخبار المرة
على انه الوضوء الشرعي المأمور به ، واخبار المرتين على من أراد سنة الإسباغ ولم
تقنعه المرة لذلك ، وإلا فاجزاء المرة ـ للقدر الواجب الذي كالدهن حقيقة أو مجازا
ـ مما لا ريب فيه ، فيغسل حينئذ بالمرتين ، وهو أقصى الحد في الوضوء ومنتهى الرخصة
في الزيادة فيه ، واخبار الثلاث الدالة على عدم الأجر بعد تجاوز الثنتين على من
تجاوز هذا الحد إلى الغسل بثالثة ، فإنه يأثم وليس له وضوء. ويمكن توجيهه بأن
الثالثة ـ بعد غسل العضو غسلا مسبغا بالثنتين ـ لا مدخل لها في أداء الواجب بل هي
زائدة من تلك الجهة ، كزيادة الركعة الخامسة بعد الإتيان بالواجب التي هي الأربع ،
ولا دليل هنا على استحباب التكرار بعد أداء الواجب المتصف بكمال سنة الإسباغ ،
والضمير في قوله : «وهو أقصى غاية الحد» راجع إلى ما تقدم من الوضوء مرتين ، ومحصل
الكلام ان الوضوء الشرعي انما هو مرة مرة ، واخبار المرتين انما هي لمن لم تقنعه
المرة في أداء الواجب كاملا ، وهذا غاية الحد في الوضوء ، فمن زاد على ذلك اثم
وبطل وضوؤه ، وهو المراد من عدم الأجر كما أشرنا إليه آنفا ، ولعل منشأ ما ذكروه
توهم عود الضمير المذكور إلى قوله : «ومن زاد على مرتين» بمعنى ان الزيادة على
المرتين أقصى غاية الحد ، وهو توهم ظاهر البطلان ، لان جعل الزيادة على المرتين
الذي هو عبارة عن التثنية أقصى غاية الوضوء يدل على دخول تلك الزيادة في الوضوء
الشرعي وانها جزء منه ، فتكون الثانية بعد تمام الغسل بالمرتين من جملة الوضوء
واجزائه ، وان الإثم وعدم الوضوء انما ينصرف حينئذ إلى من تجاوزها ، ويصير حديث
التمثيل بمن صلى الظهر خمس ركعات انما هو لمن زاد عليها ، فكيف يصح حينئذ نفي
الأجر عنها بقوله :
«ومن زاد على مرتين لم يؤجر» والغرض ان المرتين ـ كما عرفت ـ انما هي عبارة
عن غسلة واحدة ، ما هذا إلا تناقض ظاهر لا يصدر عن مثل هذا العالم الماهر. ويؤكد
ما قلناه قوله أخيرا : «ولو لم يطلق. إلخ» فإن معناه انه لو لم يرخص لمن استزاده
في المرتين لكان سبيلهما في الإثم وبطلان الوضوء سبيل الثلاث في الإثم وبطلان
الوضوء بها كما ذكره ، وهو دليل على ما قلناه من أن غاية الحد المرخص فيه هي المرتان
المشتركتان في أداء الواجب ، وان الزيادة المنفي عنها الأجر في كلامه هي المشار
إليها هنا بالثلاث ، وهي التي تكون موجبة للإثم ومبطلة للوضوء عنده.
وأنت إذا تأملت
فيما تلوناه ظهر لك ان هذا عين ما ذكره الصدوق (قدسسره) من تعدى الحد بالتثنية ، وعدم استحقاق الأجر على أصل
الوضوء المشعر ببطلانه فضلا عن التثنية كما عرفته مما تقدم ، والعجب من أولئك
الفضلاء المحققين في عدم إمعان النظر في كلام الشيخين المذكورين ، حيث نقلوا عنهما
في الكتابين المذكورين القول بعدم استحباب الثانية ، بل صرح البعض منهم بصراحة
كلام الكافي في عدم الحرمة والبدعية وقال انه ظاهر الصدوق ، ونحن إنما أطلنا البحث
بنقل العبارتين وبيان ما هو المفهوم منهما ليظهر لك جلية الحال مما ذكره أولئك
الأبدال ، وبذلك يظهر ان الظاهر ان نقل القول بالتحريم في كلام الشيخ وابن إدريس
إشارة إلى ما حررناه من كلام هذين الشيخين
(الثاني) ـ اعلم
ان الأخبار الواردة عن العترة الأطهار (صلوات الله عليهم) أكثرها دال على الوحدة :
فمنها ـ اخبار
الوضوء البياني فإنها على تعددها إنما تضمنت الغسل بكف كف لكل من
الأعضاء المغسولة.
ومنها ـ قول
الباقر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «ان الله وتر يحب
__________________
الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ...».
وقوله (عليهالسلام) في حديث ميسرة : «الوضوء واحدة واحدة ...».
وقول الصادق (عليهالسلام) في جواب يونس بن عمار حيث سأله عن الوضوء للصلاة فقال : «مرة مرة».
وقول الباقر (عليهالسلام) للأخوين في صحيحتهما عنه بعد ان حكى لهما وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وبعد أن قالا له : أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزئ
للوجه وغرفة للذراع؟ فقال : «نعم إذا بالغت فيها ، والثنتان تأتيان على ذلك كله».
وقول الصادق (عليهالسلام) في موثقة عبد الكريم : «ما كان وضوء علي (عليهالسلام) الا مرة مرة».
وقوله (عليهالسلام) فيما رواه في الفقيه مرسلا مضمرا «من توضأ مرتين لم يؤجر».
وقول الصادق (عليهالسلام) فيما أرسله عنه في الفقيه : «والله ما كان وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إلا مرة مرة ، وتوضأ النبي (صلىاللهعليهوآله) مرة مرة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به».
وقوله : «وتوضأ النبي (صلىاللهعليهوآله) الى آخره». يحتمل أن يكون من مقول قول الصادق (عليهالسلام) وان يكون من كلام صاحب الفقيه ، فيكون خبرا مقطوعا ،
وهو الظاهر الذي فهمه جملة من الأصحاب.
واما ما
يعارضها ظاهرا من الأخبار فمنه ـ قول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة
__________________
معاوية بن وهب : «الوضوء مثنى مثنى». وقوله (عليهالسلام) في صحيحة صفوان : «الوضوء مثنى مثنى». وقوله في رواية زرارة : «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه». وقوله في
موثقة يونس : «يغسل ذكره ويذهب الغائط ثم يتوضأ مرتين مرتين».
وقول الرضا (عليهالسلام) فيما رواه في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي : «ان الفضل في واحدة ومن زاد على اثنتين لم يؤجر».
وقول الصادق (عليهالسلام) في مرسلة مؤمن الطاق : «فرض الله الوضوء واحدة واحدة ووضع رسول الله للناس
اثنتين اثنتين».
وقوله (عليهالسلام) في مرسلة عمرو بن أبي المقدام : «إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اثنتين اثنتين».
وما رواه في
الفقيه مضمرا مرسلا «روى في المرتين أنه إسباغ».
وقول الصادق (عليهالسلام) في مرسلة ابن أبي عمير : «الوضوء واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة».
وقوله (عليهالسلام) في رواية ابن بكير : «من لم يستيقن أن الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر
على الثنتين».
وقوله (عليهالسلام) في حسنة داود بن زربي : «توضأ ثلاثا ثلاثا ، قال
__________________
ثم قال لي : أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت بلى ...».
وروى الصفار في
كتاب بصائر الدرجات بسنده فيه عن عثمان بن زياد «انه دخل على أبي عبد الله (عليهالسلام) فقال له رجل : إني سألت أباك عن الوضوء فقال مرة مرة
فما تقول أنت؟ فقال : انك لم تسألني عن هذه المسألة إلا وأنت ترى أني أخالف أبي ،
توضأ ثلاثا ثلاثا وخلل أصابعك».
وروى في كتاب
عيون اخبار الرضا بسنده فيه إلى الفضل بن شاذان مما كتبه الرضا (عليهالسلام) للمأمون من محض الإسلام قال فيه : «ثم الوضوء كما أمر
الله في كتابه : غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين مرة واحدة».
ورواه في موضع
آخر مثله إلا انه قال : «ان الوضوء مرة فريضة واثنتان إسباغ».
وروى محمد بن
عمر بن عبد العزيز الكشي في كتاب الرجال بسنده فيه عن داود الرقي قال : «دخلت على أبي عبد الله (عليهالسلام) فقلت له : جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ فقال : اما ما
أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له
، انا معه في ذا حتى جاء داود بن زربي فسأله عن عدة الطهارة فقال له : ثلاثا ثلاثا
من نقص عنه فلا صلاة له. قال : فارتعدت فرائصي وكاد ان يدخلني الشيطان فأبصر أبو
عبد الله (عليهالسلام) إلي وقد تغير لوني فقال : اسكن يا داود هذا هو الكفر
أو ضرب الأعناق. قال : فخرجنا من عنده وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر
المنصور وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي وانه رافضي يختلف إلى جعفر بن
محمد ، فقال أبو جعفر المنصور اني مطلع إلى طهارته فان هو توضأ وضوء جعفر بن محمد
ـ فإني لأعرف طهارته ـ حققت عليه القول وقتلته ، فاطلع وداود يتهيأ
__________________
للصلاة من حيث لا يراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو
عبد الله (عليهالسلام) فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه ،
قال : فقال داود : فلما ان دخلت عليه رحب بي وقال : يا داود قد قيل فيك شيء باطل
وما أنت كذلك ، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة فاجعلني في حل ،
وأمر له بمائة ألف درهم ، قال : فقال داود الرقي : التقيت انا وداود بن زربي عند
أبي عبد الله (عليهالسلام) فقال له داود بن زربي : جعلت فداك حقنت دماءنا في دار
الدنيا ونرجو ان ندخل بيمنك وبركتك الجنة. فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين. فقال
أبو عبد الله (عليهالسلام) لداود بن زربي : حدث داود الرقي بما مر عليك حتى تسكن
روعته. قال فحدثه بالأمر كله ، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام): لذا أفتيته لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو
، ثم قال يا داود بن زربي : توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه وانك ان زدت عليه فلا
صلاة لك».
وروى الشيخ
المفيد في الإرشاد بسنده إلى علي بن يقطين : «انه كتب إلى أبي الحسن (عليهالسلام) يسأله عن الوضوء ، فكتب إليه أبو الحسن (عليهالسلام) فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به
في ذلك ان تتمضمض ثلاثا وتستنشق ثلاثا وتغسل وجهك ثلاثا وتخلل شعر لحيتك وتغسل
يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثا وتمسح رأسك كله وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما
وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ، ولا تخالف ذلك إلى غيره. فلما وصل الكتاب إلى علي
بن يقطين تعجب مما رسم فيه مما جميع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما
قال وانا امتثل امره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ويخالف ما عليه جميع
الشيعة امتثالا لأمر أبي الحسن (عليهالسلام) وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقيل له انه رافضي ،
فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر فلما نظر إلى وضوئه ناداه كذب يا علي بن يقطين من
زعم انك من الرافضة
__________________
وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن : ابتداء من الآن يا علي بن
يقطين توضأ كما أمر الله : اغسل وجهك مرة فريضة واخرى إسباغا ، واغسل يديك من
المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما
كنا نخاف منه عليك ، والسلام».
هذه جملة ما
وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، وأصحابنا (رضوان الله عليهم) في
مطولاتهم الاستدلالية لم يذكروا منها إلا اليسير ، وقد اختلفت كلمتهم (طيب الله
تعالى مراقدهم) في الجمع بينها على أقوال :
(أحدها) ـ ما
هو المشهور من حمل أخبار التثنية والمرتين على التثنية في الغسل وحمل الثانية على
الاستحباب بعد الغسل كاملا بالأولى ، وحمل نفي الأمر في الثانية على ما إذا اعتقد
وجوبها.
وفيه ان
الأخبار الكثيرة المستفيضة بالوضوء البياني خالية منه بل كلها مشتملة على الوحدة
في الغسل ، ويبعد غاية البعد الاستحباب على الوجه المذكور مع عدم اشتمال شيء منها
عليه.
وربما أجيب عن
ذلك بان تلك الأحاديث إنما وردت في مقام بيان الواجب من الوضوء خاصة.
ويرد عليه (أولا)
ـ انها دعوى خالية من الدليل ، بل المتبادر منه ما كان يفعله (صلىاللهعليهوآله) في وضوئه غالبا ، وهو مشتمل على الواجب والمستحب لا
المفترض خاصة ، وإلا لكان الأنسب في السؤال أو الحكاية ابتداء أن يسأل عن المفترض
أو يقال : إلا أحكي لكم ما افترضه الله من الوضوء.
و (ثانيا) ـ ان
جملة من اخبار حكاية وضوئهم (عليهمالسلام) كخبر عبد الرحمن بن كثير الهاشمي الوارد في صفة وضوء مولانا أمير المؤمنين (عليهالسلام)
__________________
مع اشتماله على جملة المستحبات ، فإنه ليس فيه تصريح بشيء من ذلك ، بل هو
ظاهر الدلالة على العدم ، وصحيحتي أبي عبيدة الحذاء وحماد بن عثمان في وصف وضوء الباقر والصادق (عليهماالسلام) سيما مع أردف بعض أخبار الوحدة بالقسم كما تقدم.
(وثالثا) ـ انه
قد روى زرارة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال قال : «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه ،
وحكى لنا وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : فغسل وجهه مرة واحدة وذراعيه مرة واحدة ومسح رأسه
بفضل وضوئه ورجليه». وأنت خبير بأنه مع حمل التثنية في الخبر على ما هو المشهور من
استحباب غرفة ثانية والغسل مرة ثانية ينافي ما حكاه عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من المرة الواحدة ، فيحصل التدافع بين صدر الخبر
وعجزه.
(الثاني) ـ ما
ذهب اليه الصدوق (طاب ثراه) في الفقيه من حمل المرتين في تلك الأخبار على التجديد
تارة وعلى الغسلتين اخرى كما قدمنا من كلامه ، ففي مثل حديث مؤمن الطاق حمل «اثنتين اثنتين» فيه على غسلتين غسلتين ولكن تأوله
بالحمل على الإنكار دون الأخبار ، مستندا إلى ما عرفته ثمة من أن «الوضوء حد من
حدود الله وانه لا يجوز ان يحد الله حدا ويتجاوزه رسوله ، وأنه تعالى فوض إلى نبيه
أمر دينه ولم يفوض اليه تعدي حدوده» وكذا فيما رواه من قول الصادق (عليهالسلام) «من توضأ مرتين لم يؤجر». حمله على الغسلتين وأوضح نفى الأجر فيه بما تقدم
في كلامه ، وحمل حديث ابن أبي المقدام على التجديد ، وعلى ذلك أيضا حملما رواه مرسلا من «أن المرتين إسباغ». قال : «والخبر الذي روى «أن من
زاد على مرتين لم يؤجر ،.
__________________
يؤكد ما ذكرته ، ومعناه أن تجديده بعد التجديد لا أجر له كالأذان ، من صلى
الظهر والعصر بأذان وإقامتين أجزأه ، ومن أذن للعصر كان أفضل ، والأذان الثالث
بدعة لا أجر له» انتهى.
ولا يخفى عليك
ما فيه من التكلف الظاهر والنظر الغير الخفي على الماهر :
(أما أولا) ـ فلأن
ما تأول به رواية مؤمن الطاق من الحمل على الإنكار دون الأخبار مدخول بان صدر
رواية الكشي المتقدمة قد تضمن أن الثانية اضافة من رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) على وجه لا يقبل التأويل.
و (أما ثانيا)
ـ فلأن ما استند اليه من أن «الوضوء حد من حدود الله. إلخ» مهدوم بما رواه هو
وغيره من الأخبار الدالة على أن الذي فرضه الله تعالى من الصلاة إنما هو ركعتان
فأضاف رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إلى الثلاثية منها ركعة وإلى الرباعية اثنتين وفي بعض الأخبار «وفوض الله إلى محمد فزاد وهي سنة»
و (أما ثالثا)
ـ فلأن التجديد لا ينحصر في دفعتين خاصة حتى يمكن حمل حديث «مثنى مثنى» و «مرتين
مرتين» أو نحوهما عليه ، كما توهمه (قدسسره) وتبعه جمع من الفضلاء عليه ، إذ الظاهر من الأدلة
وكلام الأصحاب في هذا الباب هو استحباب التجديد وان ترامى مع الفصل ولو بنافلة ،
وعموم الأدلة ـ مثل قولهم (عليهمالسلام): «الوضوء على الوضوء نور على نور» . وقولهم : «من جدد وضوءه من غير حدث جدد الله توبته من
غير استغفار» . وقولهم : «الطهر على الطهر عشر حسنات» . وغير ذلك ـ شاهد على ما ذكرنا من الزيادة على الدفعتين
والثلاث والأزيد. وأما ما تكلفه (ره) ـ في معنى «من زاد على مرتين لم يؤجر». من
قوله : «ومعناه
__________________
أن تجديده بعد التجديد لا أجر له. إلخ» ـ ففيه انه إن أراد التجديد من غير
تخلل زمان أو صلاة أو نحوهما فالتجديد الأول أيضا لا أجر له ، بل هو ليس بتجديد
لأن الوضوء جديد ، وإن أراد به التجديد مع التخلل كما في مثال الأذان الذي أورده
فقوله : «لا أجر له» ممنوع ، كيف وهو نفسه روى في هذا المقام عن النبي (صلىاللهعليهوآله): «انه كان يجدد الوضوء لكل فريضة ولكل صلاة» .
و (أما رابعا)
ـ فلأن حمل الإسباغ على التجديد فيما رواه من «أن المرتين إسباغ». مما لا يكاد يشم له رائحة من
الأخبار ولا من كلام أحد من الأصحاب ، إذ الظاهر المتبادر من الإسباغ هو الإكثار
من ماء الوضوء لا تكراره ، والعجب من جمع من محققي متأخري المتأخرين حيث تبعوه في
هذا التأويل وجعلوا عليه المدار والتعويل من غير إعطاء التأمل حقه في ذلك ولا
إمعان النظر فيما هنالك.
(الثالث) ـ ما
ذهب اليه الشيخ حسن في المنتقى قال (قدسسره) ـ بعد نقل الخبر الدال على قوله : «مثنى مثنى» ـ : «والمتجه
حمله على التقية ، لأن العامة تنكر الوحدة وتروي في أخبارهم التثنية» انتهى.
__________________
أقول : وقد نقل
القول بذلك في المعتبر عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ، ونقل من رواياتهم في ذلك ما
رواه عن ابن عمر انه قال : «توضأ رسول الله (صلىاللهعليهوآله) مرة مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ،
ثم توضأ مرتين وقال : من ضاعف وضوءه ضاعف الله له الأجر ، ثم توضأ ثالثة وقال :
هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي».
ثم لا يخفى
عليك أن ما ذكره من الحمل وإن كان لا بأس به بحسب الظاهر ، إلا أنه مما لا تجتمع
عليه روايات المسألة كملا ، لما عرفت في قصتي داود بن زربي وعلي بن يقطين ورواية
بصائر الدرجات من أن التقية انما كانت في الغسلات الثلاث وانهم (عليهمالسلام) أمروا داود وعلي بن يقطين بعد زوال المحذور بالتثنية ،
وقد تضمن صدر رواية داود تعليل الأمر بإضافة الرسول (صلىاللهعليهوآله) الثانية بأنها لضعف
__________________
الناس ، وتضمنت رواية علي بن يقطين تعليلها بالإسباغ ، وعاضدها في ذلك أيضا
ما عرفت من بعض الأخبار.
وقال بعض فضلاء
متأخري المتأخرين بعد نقل كلام المنتقى ما صورته : «وهو بعيد ، لأن معظم العامة
ورواياتهم المعتمدة على التثليث فلا تتأدى التقية بالمرتين» انتهى.
وشيخنا البهائي
(طاب ثراه) في كتاب الحبل المتين بعد أن نقل حسنة داود ابن زربي احتمل فيها أن المراد بالتثليث فيها تثليث الأعضاء
المغسولة بمعنى زيادة إدخال الرجلين في الغسل ، ثم قال : «ويكون الأمر بالتقية في
غسل الرجلين كما ورد مثله من أمر الكاظم (عليهالسلام) علي بن يقطين بغسل الرجلين تقية للرشيد ، والقصة
مشهورة أوردها المفيد في الإرشاد وغيره ، ويؤيد هذا الحمل ان هذا هو الفعل الذي
اشتهر بين العامة انه الفصل المميز بينهم وبين الخاصة ، وأما قولنا بوحدة الغسلات
أو تثنيتها وكون الزائد على ذلك بدعة عندنا ، فالظاهر انه لم يشتهر بينهم ولم يصل
إلى حد يكون دليلا على مذهب فاعله حتى يحتاج إلى التقية فيه ، على أن الغسلة
الثالثة ليست عندهم واجبة وربما تركوها» انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو قوي بالنظر
إلى إجمال تلك الرواية التي نقلها ، أما بالنظر إلى ما اشتملت عليه روايتا الكشي
والمفيد من قصتي داود وعلي بن يقطين فغير تام ، فإنهما صريحان
في كون التثليث إنما هو في الغسلات كما لا يخفى ، وما ذكره (طاب ثراه) ـ من أن غسل
الرجلين هو الذي اشتهر كونه فصلا مميزا بين الخاصة والعامة دون التثليث ـ جيد إلا
أن المفهوم من تتبع الأخبار ومطالعة السير ان مذاهب العامة خذلهم الله ليس لها حد
__________________
ولا انضباط في الصدر الأول ، فربما اشتهر القول بينهم في عصر من الأعصار
على وجه لا يتمكن أحد من العمل بخلافه وندر في عصر آخر ، لأن المدار في شيوع تلك
المذاهب على ما اعتنت به سلاطين الجور وائمة الضلال من نصب قضاة من جهتهم وحمل
الناس على العمل بما يفتون به ، ولا ريب ان عمل كل من قضاتهم وفقهائهم إنما هو على
ما تستحسنه عقولهم وتقتضيه قياساتهم ، فلا قاعدة لهم مربوطة ولا سنة لهم مضبوطة ،
واشتهار هذه المذاهب الأربعة إنما وقع أخيرا كما صرح به جملة من علمائنا وعلمائهم
، وحينئذ فمن الجائز اشتهار التثليث في الغسل في ذلك الوقت وإن ندر في وقت آخر ،
ومن ذلك يعلم أيضا قرب احتمال التقية في أخبار التثنية كما احتمله في المنتقى ،
على أن الذي رأيته فيما حضرني من كتبهم الفروعية ذكر التثليث في مستحبات الوضوء
مصرحين بأن الأولى فرض والثانية سنة والثالثة كمال السنة ، ولعل اشتهار التثليث
عندهم ـ وملازمتهم عليه على وجه يتهمون من تركه بكونه رافضيا ، كما سمعته من قصتي
داود وعلي بن يقطين ـ أن الشيعة لما أنكرته تمام الإنكار بل أبطلوا به الوضوء كما
دلت عليه نصوصهم ردا على العامة ، شدد العامة الأمر فيه أيضا ردا على الشيعة
ولازموا عليه تمام الملازمة عنادا لهم ، ويؤيده انهم قد تركوا كثيرا من السنن مع
اعترافهم بكونها كذلك عنادا للشيعة لملازمتهم عليها ، كما أوضحنا جملة من ذلك في
بعض رسائلنا ، فجعلوا كل من لم يعمل بالتثليث رافضيا. والعجب من شيخنا البهائي (طاب
ثراه) حيث استند إلى قصة علي بن يقطين في دلالتها على الأمر بغسل الرجلين تقية
وحمل التثليث على ضم غسل الرجلين إلى غسل العضوين الآخرين ، وغفل عما دلت عليه
صريحا من الأمر بغسل كل من تلك الأعضاء ثلاثا ثلاثا ، ولعله (قدسسره) لم يلاحظ الرواية وقت التصنيف.
(الرابع) ـ ما
ذهب اليه شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين من حمل التثنية على الغسل والمسح ،
قال في الكتاب المذكور : «ولا يخفى احتمال تلك الأخبار لمعنى آخر طالما يختلج
بالبال ، وهو أن يكون (عليهالسلام) أراد بقوله : «الوضوء مثنى
مثنى». ان الوضوء الذي فرضه الله إنما هو غسلتان ومسحتان لا كما يزعمه المخالفون
من أنه ثلاث غسلات ومسحة واحدة ، وقد اشتهر عن ابن عباس انه كان يقول : «الوضوء
غسلتان ومسحتان نقله الشيخ في التهذيب وغيره ، ومما يؤيد هذا الحمل ما
تضمنه الحديث العاشر أعني حديث يونس بن يعقوب من قول الصادق (عليهالسلام) في جواب اذلسؤال عن الوضوء الذي افترضه الله على
العباد : «يتوضأ مرتين مرتين».
فان المراد
بالمرتين فيه الغسلتان والمسحتان لا تثنية الغسلات ، فإنها ليست مما افترضه الله
على العباد» انتهى.
وما ذكره (رحمهالله) وإن أمكن احتماله بالنسبة إلى صحيحتي معاوية بن وهب و
صفوان الدالتين على أن «الوضوء مثنى مثنى». لإجمالهما وكذا
حديث يونس بن يعقوب إلا أنه لا يجري في غيرهما مما يدل على التثنية من الأخبار
المتقدمة ، فلا يحسم مادة الإشكال.
(الخامس) ـ ما
ذهب اليه بعض من الأصحاب من حمل تلك الأخبار على بيان نهاية الجواز ، وإلى هذا
يميل كلام السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل كلام المشايخ الثلاثة
المتقدم ـ ما لفظه : «ومقتضى كلام المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) أفضلية
المرة الواحدة ، وهو الظاهر من النصوص ، وعلى هذا فيمكن حمل الأخبار المتضمنة
للمرتين على أن المراد بها بيان نهاية الجواز ، ثم استشهد بقوله (عليهالسلام)
__________________
في صحيحة الأخوين المتقدمة «والثنتان تأتيان على ذلك كله». ثم قال : وأعلم أن المستفاد من كلام
الأصحاب أن المستحب هو الغسل الثاني الواقع بعد إكمال الغسل الواجب ، وانه لو وقع
الغسل الواحد بغرفات متعددة لم يوصف باستحباب ولا تحريم ، والأخبار إنما تدل ـ بعد
التسليم ـ على أن المستحب كون الغسل الواجب بغرفتين ، والفرق بين الأمرين ظاهر»
انتهى.
والظاهر أنه
جنح هنا إلى القول الثالث الذي قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف وحمل عليه كلام
المشايخ الثلاثة ، متمسكا بنفي الأجر على الثانية. وفيه ما قد عرفته سابقا في ذيل
كلام ذينك الشيخين الأعظمين ، وهو (قدسسره) لم ينقل من كلام الصدوق إلا ما قدمنا نقله عنه أولا من قوله : «الوضوء مرة مرة ، ومن توضأ مرتين مرتين لم
يؤجر ، ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع» دون الكلام الأخير الذي هو ظاهر الدلالة بل
صريحها فيما ادعيناه ، ثم ان قوله (طاب ثراه) : «واعلم أن المستفاد. إلخ» ظاهر
الدلالة في الرجوع عما ذكره أولا ، إذ ظاهر الكلام الأول ان الثانية التي هي نهاية
الجواز إنما هي بعد تمام الغسل الواجب ، وكلامه الأخير ظاهر المخالفة لذلك ، ولعل
في قوله أولا : «وعلى هذا فيمكن. إلخ» إشارة إلى ذلك. ثم إنه مع الإغماض عما ذكرنا
فهذا الحمل لا تنطبق عليه أخبار المسألة كملا على وجه يحسم مادة النزاع. لعدم
جريانه في الأخبار الدالة على أن الثانية إسباغ كما هو ظاهر.
(السادس) ـ ما
ذكره المحدث الكاشاني (قدسسره) في الوافي من حمل أحاديث الوحدة على الغسلة وأحاديث
التثنية على الغرفة ، قال : «وبهذا تكاد تتوافق جميع الأخبار وينكشف عنها الغبار ،
كما يطهر بعد التأمل في كل كل ، وإن كان أيضا لا يخلو من تكلف إلا أنه أقل تكلفا
مما ذكروه ، فيصير معنى حديث مؤمن الطاق
__________________
«ان الفرض في الوضوء إنما هو غسلة واحدة ، ووضع رسول الله (صلىاللهعليهوآله) للناس غرفتين لتلك الغسلة» فهو تحديد منه لما لم يرد
له من الله تحديد ليس بتعد من حد ، وأما الثنتان في قوله : «واثنتان لا يؤجر» فالمراد بهما الغسلتان ، والمراد بالواحدة والثنتين في
قوله : «من لم يستيقن أن الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين» الغرفة
والغرفتان ، والدليل على هذا التأويل ما مضى في حديث زرارة وبكير : «فقلنا أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة
الذراع؟ فقال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله». انتهى.
وظني أن هذا
الاحتمال أقرب من تلك الاحتمالات إلى الروايات ، لكن لا على ما يفهم من كلامه (رحمهالله) من حمل لفظ الواحدة والمرة على الغسلة كائنا ما كان ،
بل على ما تقتضيه القرائن الحالية وتساعده المقامات المقالية ، ومن أن الغسلة
المفروضة يستحب ان تكون بغرفتين دائما ، كما ذكره في توجيه رواية مؤمن الطاق من حمل الوحدة على الغسلة والتثنية على الغرفة ، وان
ذلك تحديد منه (صلىاللهعليهوآله) لما فرضه الله تعالى ، فإنه خلاف ما استفاض عنه (صلىاللهعليهوآله) في حكاية وضوئه وعن أبنائه (عليهمالسلام) في الحكاية عنهم من أن الوضوء غرفة غرفة ، إذ لو كان
قد وضع الغرفتين حدا لتلك الغسلة بمعنى أنه سن ان تكون الغسلة بغرفتين ، لكان هو (صلىاللهعليهوآله) أولى من لازم عليه كما ندب اليه ، وأبناؤه (عليهمالسلام) اولى من أحيى سنته ونهج طريقته ، بل الظاهر أن المراد
منها أن الفرض الذي أوجبه الله تعالى في الوضوء الغسل ولو كالدهن ، وهو يحصل
بالغرفة المتعارفة الغير المبالغ فيها ،
__________________
وزاد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) غرفة أخرى ليحصل بالجميع سنة الإسباغ ، وعلى هذا ينطبق
كل من هذه الرواية ورواية الكشي .
(السابع) ـ ما
خطر بالبال العليل والفكر الكليل ، وبيانه أن الواجب من الغسل هو ما يحصل به مسمى
الجريان اتفاقا ، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة إن حملنا أخبار الدهن على المبالغة ،
وإلا فقد عرفت مما سبق أن العمل بها على ظاهرها لا يخلو من قوة ورجحان ، وحينئذ
نقول هنا : ان بعضا من تلك الأخبار المتقدمة تضمنت أن التثنية من الإسباغ المستحب
في الوضوء كما استفاض في جملة من الأخبار ، ومعنى الإسباغ هو الغسل الواجب بماء
كثير يتيقن استيعابه للعضو ، ولا يستلزم تعدد الغرفات بل قد يكون بغرفة واحدة
مملوءة ، فالإسباغ حينئذ يحصل إما بملء الكف من الماء مرة واحدة ، كما حكاه حماد
بن عثمان في صحيحته عن الصادق (عليهالسلام) في حكاية وضوئه (عليهالسلام) حيث قال : «فدعا بماء فملأ به كفه فعم به وجهه ، ثم
ملأ كفه فعم به يده اليمنى ، ثم ملأ كفه فعم به يده اليسرى. الحديث». وكما حكاه
زرارة في صحيحته عن أبي جعفر (عليهالسلام) في حكايته وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فان ذلك مبني على سنة الإسباغ ، إذ الغسل الواجب يحصل
بما هو كالدهن ، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة كما لا يخفى ، أو بالمرتين الغير
المملوءتين ، كما هو الظاهر من أحاديث التثنية بقرينة ما دل منها على ان الثانية
إسباغ حملا لمطلقها على مقيدها ، وقد استفيد كلا الفردين من صحيحة الأخوين حيث قالا له : «فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة
للذراع؟ فقال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله». فان ذلك كله
مبني على سنة الإسباغ البتة ، وبعين ذلك يقال
__________________
في رواية مؤمن الطاق وما في معناها مما دل على ان الفريضة واحدة وزاد رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) الثانية لسنة الإسباغ فيغسل بمجموعهما العضو لأجل
الإسباغ ، والظاهر ان معنى قوله في رواية داود الرقي المنقولة عن الكشي : «وأضاف إليها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الثانية لضعف الناس». اي ضعف عقولهم بسبب عدم مقاومة
الوساوس الشيطانية بالشك في وصول الماء إلى جميع العضو عند الاكتفاء بغرفة ، فسن (صلىاللهعليهوآله) الثانية ليحصل الجزم والاطمئنان باستيعاب العضو
بالغسل.
(لا يقال) : ان
زيادة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الغرفة الثانية لسنة الإسباغ ينافيه الحصر في المرة في
قوله (عليهالسلام) في موثقة عبد الكريم : «ما كان وضوء علي (عليهالسلام) إلا مرة مرة». والقسم في قوله (عليهالسلام) في مرسلة الصدوق : «والله ما كان وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إلا مرة مرة».
(لأنا نقول) :
قد عرفت ان الإسباغ يحصل بأحد فردين : اما بالغرفة المبالغ فيها كما عرفت من ذينك
الحديثين المتقدمين أو الثنتين الغير المبالغ فيهما ، وهذان الخبران
محمولان على الأول.
وبالجملة فإن
بعض الأخبار تضمن أن الغرفة الثانية لسنة الإسباغ ، وبعض الأخبار تضمن الغرفة
المملوءة والمبالغ فيها ، ومن الظاهر البين أن المبالغة فيها وملأ الكف بها انما
هو لتحصيل سنة الإسباغ كما عرفت ، وبعض الأخبار جمعهما معا ، وبعض تضمن الغرفة أو
المرة من غير ذكر المبالغة والملأ مع كونه مما يجب حمله على الوجه الأكمل ، وبعضها
تضمن الثنتين من غير ذكر الإسباغ ، فالواجب حمل ما تضمن من الأخبار المرة أو
الغرفة عاريا عن القيد على مقيدها ليكون واقعا على الوجه الأكمل ، وما تضمن
التثنية
__________________
عاريا عن ذلك القيد أيضا على مقيدها بذلك القيد ، وعليه تجتمع الأخبار ،
على أنه يمكن أيضا أن يقال : انه يجوز أن تكون التثنية مخصوصة بغيرهم (صلوات الله
عليهم) ممن بضعف عقله عن الاكتفاء بالواحدة ، كما يستفاد من ظاهر حديث الكشي
المتقدم ويؤيده ما تقدم من كلام ثقة الإسلام : «ان الذي جاء
عنهم (عليهمالسلام) انه قال : «الوضوء مرتان». إنما هو لمن لم تقنعه المرة
واستزاده» ثم إنه حيث كالت سنة الإسباغ ـ كما عرفت ـ تحصل بالغرفة الثانية متى
أضيفت إلى الأولى وغسل العضو بمجموعهما ، فالغرفة الثالثة حينئذ تكون بعد تمام
الغسل فتوصف بالبدعة وعدم الأجر ، وهذا معنى ما رواه في مستطرفات السرائر عن الرضا
(عليهالسلام) من «ان الفضل في واحدة واحدة ومن زاد على اثنتين لا
يؤجر». اي الفضل في واحدة واحدة مملوءة لأن فيه سنة الإسباغ الذي فيه الفضل أو
اثنتين غير مملوءتين كما هو المستفاد مما قدمناه ، وهو مطوي هنا في الكلام ومثله
كثير ، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر. وهذا هو الذي صرح به ثقة الإسلام والصدوق (قدسسرهما) فيما قدمنا في تحقيق كلامهما.
وأما قوله في
مرسلة ابن أبي المقدام : «إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اثنتين اثنتين». مع استفاضة الأخبار البيانية بان
وضوءه (صلىاللهعليهوآله) ما كان إلا بغرفة غرفة ، فلعل المعنى فيه ـ والله سبحانه
وقائله أعلم ـ انه كما واظب على الغرفة المملوءة في الأكثر كذلك توضأ في بعض
الأوقات بغرفتين خفيفتين ، كما أمر به فيما نقله عنه أبناؤه (سلام الله عليهم) من
انه زاد الثانية لسنة الإسباغ ، والامام (عليهالسلام) هنا تعجب ممن رغب عن هذه السنة التي سنها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) والحال انه قد اتى بها في بعض وضوءاته
__________________
وأما ما تضمنته
رواية ابن بكير من ان «من لم يستيقن أن الواحدة تجزيه لم يؤجر على
الثنتين». فلعل معناه انه لما كانت الواحدة هي الفرض من الله سبحانه وان الواجب
المفروض يتأدى بمثل الدهن كما استفاضت به الأخبار ، فمن لم يعتقد اجزاءها بل اعتقد
فرض الثنتين كان مبدعا مشرعا في وضوئه ، لاعتقاده وجوب ما ليس بواجب وهو الثانية
فلا يؤجر على وضوئه ، وهو عين ما ذكره الصدوق مما قدمنا نقله عنه.
واما ما تضمنته
مرسلة ابن أبي عمير ـ وهي مضمون عبارة الصدوق المتقدمة أولا من أن «الوضوء
واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة». ـ فيحتمل بمعونة ما ذكرناه في رواية
ابن بكير أن الواحدة والاثنتين بمعنى الغرفة وان عدم الأجر على الثنتين مع عدم
اعتقاد اجزاء الواحدة التي هي الفرض ، وأما الثالثة فهي بدعة لأنها زيادة على ما
جاءت به السنة ، بخلاف الثانية ، فإنها سنة للاسباغ بها كما عرفت ، ولعل في
التعبير بعدم الأجر إشارة إلى ذلك. ويحتمل حمل الواحدة والاثنتين على الغسلة
والغسلتين ، ومعناه حينئذ أن الغسلة الواحدة فرض والغسلتان لا يؤجر. وقد عرفت ان
معنى هذا اللفظ الكناية عن البدعية والتحريم ، وحينئذ فيكون المراد بلفظ البدعة في
الثالثة بمعنى المبتدع المخترع لا ما قابل السنة ، وإلا فقد عرفت ان الثانية بدعة
بذلك المعنى ، فمرجع عدم الأجر في الثانية والبدعية في الثالثة إلى أمر واحد.
وأما ما ذكره
جملة من محققي متأخري متأخرينا ـ من عدم تحريم الغسلة الثانية بل عدم الكراهة ،
مستندين إلى عدم الدليل على ذلك وان لفظ «لا يؤجر» في الأخبار غاية ما يفهم منه
عدم الأولوية ـ ففيه ما عرفت في تحقيق كلام الشيخين المتقدمين ، ويزيده هنا انها
مع زيادتها وعدم كونها جزء من العبادة ـ كما يعترفون به ـ فاما ان يعتقد المكلف في
حال استعماله لها شرعيتها واستحبابها ، وهذا مما لا يستراب في تحريمه
__________________
وتشريعه بناء على ما اعترفوا به كما قدمنا الإشارة اليه ، واما ان لا يعتقد
ذلك بل يكون عابثا لاعبا ، وهذا لا اختصاص له بهذا المقام ليخص بالذكر في أخبارهم (عليهمالسلام) بل يجري مثله في الثالثة ، مع انهم لا يخالفون في
بدعيتها وتحريمها ، وان هذا اللفظ قد ورد في رواية زرارة المتقدمة في تعداد الروايات المعارضة بعد قوله : «مثنى مثنى» ومن
الظاهر بل المعلوم ان المراد به التحريم اتفاقا أعم من ان تجعل التثنية في الغسل
كما هو المشهور أو في الغرفة كما ذكرنا ، لأن الزيادة هنا بمعنى التثليث ، وهو مما
لا اشكال عندهم في تحريمه. ومما يدل أيضا على ان اللفظ إنما خرج كناية عن التحريم قول
الصادق (عليهالسلام) في صحيحة داود بن فرقد المروية في الكافي : «إن أبي كان يقول ان للوضوء حدا من تعداه لم يؤجر
...». مع قول الباقر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم : «إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه
ومن يعصيه ...». فان نفي الأجر في الأول عبارة عن كونه معصية كما في الثاني كما لا
يخفى.
(الثالث) ـ قال
في كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل ـ بعد البحث في المسألة ، والجمع بين الأخبار
بحمل بعضها على التجديد وبعضها على التقية وبعض على الغسلتين والمسحتين ـ ما لفظه
: «بقي هنا شيء ، وهو أنه لا خلاف في أنه إذا لم تكف الغرفة الأولى في غسل العضو
وجبت الثانية وهكذا ، لعدم الخروج عن العهدة ، كما صرح به العلامة في المختلف
وغيره ، كما انه لا خلاف في وقوع الخلاف في الثانية إذا كمل غسل العضو بالأولى.
وأما لو لم يكمل غسل العضو بالأولى مع إمكان شمولها إياه واختار غسل العضو بغرفتين
موزعتين عليه ، فهل يجري في الثانية الخلاف السابق أم لا؟ لم أقف للأصحاب فيه على
صريح كلام ، وكلامهم فيه قابل للأمرين ، الى أن
__________________
قال : والظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها ومراجعة ما حررناه إن استئناف
الغرفة الثانية غير مأجور عليه ، وان الاقتصار على الغرفة مع إمكان شمولها العضو
ولو بالمبالغة فيها كما أو كيفا هو الأولى ، وانها ليست بمحرمة بل هي غاية الحد في
الوضوء الذي لا يجوز تعديه ، من زاد عليه فقد أبدع» انتهى كلامه زيد مقامه.
وعندي فيه تأمل
من وجوه : (أحدها) ـ ان الظاهر ـ من الأخبار الدالة على إجزاء ما يحصل به مسمى
الغسل ولو كالدهن ، وبه قال الأصحاب أيضا ـ الاكتفاء في غسل العضو بالغرفة اليسيرة
جدا ، وحينئذ فالظاهر من قول العلامة في المختلف ـ أنه مع عدم كفاية الكف الأول في
غسل العضو يجب الثاني ولو لم يكفيا وجب الثالث وهكذا ـ انما هو من قبيل الفرض في
المسألة لا أنه كذلك حقيقة ، حتى يصح جعل ما لو اختار غسل العضو بغرفتين موزعتين
مع إمكان شمول الأولى له مطرحا لخلاف آخر في المسألة أيضا.
(ثانيها) ـ انك
قد عرفت ان جملة من الأخبار دلت على كون الثانية إسباغا ، وأنه (صلىاللهعليهوآله) قد سنها لذلك ، ولا مجال لحملها على الغسلة ، لما فيه
من المنافاة لأخبار الوحدة ، كما عرفت وحققه هو أيضا (قدسسره) في أول كلامه ، فتحمل على الغرفة ، ومن الظاهر حينئذ
انها أعم من أن تكون الأولى تأتي على العضو كملا ولم يغسل بها أم لا ، وبذلك يظهر
لك ما في دعواه (قدسسره) في آخر كلامه : أن الظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها
ان استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه ، فإنه غفلة زائدة عن ملاحظة هذه
الأخبار ولا سيما روايتي الكشي وعلي بن يقطين إلا أن عذره فيهما ظاهر ، حيث لم يتعرض لنقلهما في
الكتاب المذكور ، ولعله (طاب ثراه) لم يطلع عليهما أو لم يخطرا بباله حال التصنيف.
__________________
(ثالثها) ـ ان
صحيحة الأخوين ـ كما عرفت ـ دلت على أن الثنتين تأتيان على ذلك كله
بعد حكمه فيها بأن الغرفة المبالغ فيها مجزئة لذلك أيضا ، وقد عرفت شرح القول في
معناها ، وهو أعم من إتيان الأولى على مجموع العضو وعدمه. وأما ما احتمله (طاب
ثراه) في ضمن كلامه أولا في الرواية المذكورة ـ من كون لام الثنتين عهدية إشارة
إلى الغرفتين المذكورتين أولا للوجه واليدين ، بمعنى أن الغرفة الواحدة للوجه
والغرفة الواحدة للذراع مع المبالغة فيهما تأتيان على الوجه والذراع بحيث لا يحتاج
إلى تثنية الغسلات ـ ففيه من التكلف بل البعد عن ساحة الإمكان ما لا يحتاج إلى
الإيضاح والبيان.
(رابعها) ـ ان
الظاهر أنه لا معنى لوصف الغرفة بالوجوب أو الاستحباب أو البدعية إلا باعتبار
الغسل بها ، فالوصف انما يرجع إلى الغسل بها لا إليها نفسها ، فلا يتحقق كل من
الأوصاف الثلاثة إلا بعد الغسل ، فإذا غسل بالأولى ـ وإن كانت تأتي على مجموع
العضو ـ بعضه خاصة ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب غسل بقية العضو ولو بغرفة
يمكن إتيانها عليه كملا ، وحينئذ فكيف يصح اجراء الخلاف فيها بعد الغسل بها؟ وكيف
يصح مع هذا ان استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه؟ نعم ربما احتمل اجراء كلامه
في الثالثة ، حيث ان الثنتين المخففتين وان كان كل منهما يقوم بالغسل الواجب الذي
هو ولو كالدهن ، إلا أنه لتحصيل سنة الإسباغ يستحب الغسل بهما معا ، فمع تفريقه
لهما على شطر العضو وعدم غسله بهما معا مع إتيانهما عليه وأخذه ثالثة ، ربما تطرق
إليها احتمال الدخول تحت أخبار بدعية الثالثة بحملها على ما هو أعم من ان يغسل بها
بعد كمال الغسل بالثنتين أو قبله مع حصول الإسباغ بالثنتين وتقصيره في الغسل بهما
، الا أنه بعد لا يخلو من شوب الاشكال.
(خامسها) ـ قوله
أخيرا في الغرفة الثانية : انها ليست بمحرمة ، وهو
__________________
بناء منه (قدسسره) على ما فهمه من أخبار عدم الأجر على الثانية بحمل
الثانية على الغرفة وعدم الأجر على الجواز وعدم الاستحباب ، كما قدمنا نقله عن
جملة من الأصحاب. وقد حققنا لك ما فيه وكشفنا عن باطنه وخافية.
(الرابع) ـ المشهور
بين الأصحاب تحريم الغسلة الثالثة ، وقد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الصدوق
والشيخ في الخلاف فيما تقدم من عبارتيهما ببدعيتها ، ونقل عن المبسوط والنهاية
أيضا. ونقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل القول بعدم التحريم ، لكن الذي في المختلف
عن ابن أبي عقيل التعبير عن ذلك بنفي الأجر ، كما هو مضمون رواية زرارة المتقدمة وقد عرفت ما في هذا اللفظ. والشيخ المفيد (رحمهالله) في المقنعة اثبت التحريم فيما زاد على الثلاث وجعل
الثالثة كلفة.
والأظهر
المشهور ، ويدل عليه التصريح بالبدعية في مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة ونفي الأجر الذي هو ظاهر في التحريم أيضا كما أشرنا
إليه آنفا ، ولأنها عبادة والإتيان بها بدون الاذن تشريع محرم.
وما يقال ـ من
انه مع اعتقاد المشروعية فلا ريب في ذلك ولكن مجرد الإتيان بها لا يستلزمه ، وهب
انه يستلزمه وانه اعتقد الاستحباب فغاية ما يلزم منه تحريم اعتقاد ندبيتها لافعلها
بدون ذلك الاعتقاد بل مع ذلك الاعتقاد أيضا ، والكلام انما هو في حرمة الفعل لا
الاعتقاد كما هو الظاهر. ثم ان حرمة ذلك الاعتقاد أيضا ممنوعة ، لأن الاعتقاد لو
كان ناشئا من الاجتهاد أو التقليد فلا وجه لحرمته. غاية الأمر أن يكون خطأ ولا اثم
على الخطأ كما تقرر عندهم ، كذا قرره بعض محققي متأخري المتأخرين ـ
ففيه نظر من
وجوه : (أحدها) ـ ان ظاهر ما دل على البدعية والتحريم من الأخبار وكلام الأصحاب
كون ذلك ناشئا عن اعتقاد المشروعية ، ردا على المخالفين القائلين باستحبابها
والمؤكدين على المواظبة عليها ، حتى خرجت الأخبار بالأمر للشيعة بذلك تقية
__________________
منهم كما عرفت سابقا ، والمناقشة بجواز الإتيان بها لا بهذا الاعتقاد أمر
خارج عن محل البحث ولا خصوصية له بهذا المقام بل هي مسألة على حيالها ، فان إدخال
الأفعال الأجنبية في العبادة لا بقصد كونها منها بل لغرض آخر أو خالية من الغرض ان
توجه له المنع من جهة أخرى غير جهة فعله امتنع من تلك الجهة وإلا فلا ، الا ترى ان
الصلاة التي هي عبادة متصلة قد جوز الشارع اشتمالها على بعض الأفعال الأجنبية
لأغراض خاصة وحرم بعضا آخر لمنافاته لها ، فالوضوء الذي هو عبادة منفصل بعضها عن
بعض أجدر بالجواز ، الا انه ينقدح الاشكال فيما نحن فيه من وجه آخر ، وهو وجوب
المسح ببلة الوضوء على الأشهر الأظهر ، والحال ان بلة الثالثة ليست منه اتفاقا من
المحرمين والمجوزين ، لا من مجرد الإتيان بها ، والا فلو تمضمض أربعا أو زاد في
غسل الوجه واليدين على الحدود المقررة شرعا لا بقصد العبادة في شيء من ذلك ، فإنه
لا ضرر فيه ، لما عرفت آنفا من ان الأفعال تابعة للقصود والنيات في تميز بعضها عن
بعض وترتب آثارها عليها.
(ثانيها) ـ ما
ذكره ـ من انه مع اعتقاد استحبابها فغاية ما يلزم منه تحريم الاعتقاد لا الفعل ـ ظاهر
البطلان ، كيف والأفعال ـ كما عرفت ـ تابعة للقصود والنيات صحة وبطلانا وثوابا
وعقابا ، ومما لا ريب فيه ان هذا الفعل منهي عنه عموما لدخوله في البدع المحرمة في
الدين ، وخصوصا لما في مرسلة ابن أبي عمير ورواية زرارة السالفتين ولا معنى للمحرم إلا ما نهى الشارع عنه نهيا توجب مخالفته
الإثم ، وهو هنا كذلك.
(ثالثها) ـ انه
لو تم ما رتبه من الغاية المذكورة لجرى فيما لو زاد ركعة في صلاته عامدا معتقدا
وجوبها فضلا عن استحبابها ، فإن غاية الأمر تحريم اعتقاد وجوبها ولا يلزم منه
تحريمها ، بل يلزم في كل مبدع في الدين ان يكون ما يأتي به من البدع جائزا غير
محرم وان حرم قصده واعتقاده جواز ذلك فيأثم على مجرد هذا القصد والاعتقاد ،
__________________
ما هذه إلا سفسطة ظاهرة وكلمات متنافرة.
(رابعها) ـ ان
ما ذكره ـ من منع حرمة ذلك الاعتقاد لو كان ناشئا عن اجتهاد أو تقليد ـ على إطلاقه
ممنوع ، بل الوجه فيه انه إذا كان هذا الاجتهاد مقتضى ما ادى اليه فهمه من أدلة
الكتاب والسنة بعد الفحص والتتبع للأدلة حسب الجهد والطاقة فهو كذلك ، ومن المعلوم
ان ما نحن فيه ليس منه ، وإلا فهو مخطئ آثم في اعتقاده ومحتمل لإثم من قلده في ذلك
، كما هو مقتضى الآيات القرآنية والسنة المحمدية ، وان أباه جملة من الأصحاب تبعا
لما قرره العامة في هذا الباب كما حققناه في محل آخر.
(الخامس) ـ انه
على تقدير تحريم الثالثة وبدعيتها فهل يبطل الوضوء بمجرد فعلها ، أو لا يبطل ، أو
يبطل ان مسح بمائها مطلقا ، أو بخصوص ما إذا كانت الغسلة في اليد اليسرى؟ أقوال :
أولها لأبي الصلاح ، وثانيها للمحقق في المعتبر ، وثالثها ظاهر الدروس والذكرى ،
بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين ، ورابعها للعلامة في النهاية.
والأظهر عندي
من هذه الأقوال الأول ، وهو مقتضى كلام الشيخين الأقدمين (الصدوق وثقة الإسلام)
كما قدمنا بيانه وشيدنا بنيانه.
ويدل عليه من
الأخبار رواية الكشي حيث قال في أولها : «ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له»
وفي آخرها : «توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه ، وانك ان زدت عليه فلا صلاة لك».
وما رواه في
الفقيه مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من تعدى في وضوئه كان كناقضه».
ويؤيده ما رواه
في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم
__________________
عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «انما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من
يطيعه ومن يعصيه ...». فإنه صريح ـ كما ترى ـ في عصيان من زاد على الوضوء المحدود
، ومن الظاهر ان العصيان انما نشأ هنا من مخالفة الأمر في العبادة المستلزمة
للإبطال.
ثم لا يخفى انه
لو أمكن المناقشة في بعض هذه الأدلة أو في كل منها إلا انه بالنظر إلى مجموعها ـ مع
عدم المنافي لها من الأخبار ، مع ان بعضها من مرويات الفقيه الذي ضمن مصنفه فيه
صحة ما يرويه ، كما اعتمدوا على ذلك في غير موضع من كلامهم ، مضافا إلى قول
الشيخين المعتمدين بذلك ـ لا يبقى لتطرق الشك في الحكم المذكور وجه ، وقد مر أيضا
ما يؤكده ويزيده تأييدا.
(المسألة
الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (نور الله تعالى مراقدهم) في وجوب
الموالاة كما ادعاه جماعة ، إنما الخلاف في معناها ، فقيل إنها مراعاة الجفاف
بمعنى انه لا يؤخر بعض الأعضاء عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدمه ، وقيل انها عبارة
عن المتابعة اختيارا ومراعاة الجفاف اضطرارا.
وهل الإخلال
بالمتابعة المذكورة هنا موجب للإثم خاصة أو للبطلان أيضا؟ قولان لأصحاب هذا القول
، والمشهور عندهم الأول ، وبه صرح العلامة في جملة من كتبه والمحقق في المعتبر ،
وظاهر المبسوط الثاني ، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة.
وظاهر المحقق
الشيخ علي في شرح القواعد إنكار القول الثالث ، فإنه بعد ان نقل القولين ونقل عن
بعض حواشي الشهيد قولا ثالثا جامعا بين التفسيرين قال : «وعندي ان هذا هو القول
الأول ، لأن القائل به لا يحكم بالبطلان بمجرد الإخلال بالمتابعة ما لم يجف البلل
، فلم يبق لوجوب المتابعة معنى إلا ترتب الإثم على فواتها ، ولا يعقل تأثيم المكلف
بفواتها إلا إذا كان مختارا ، لامتناع التكليف بغير المقدور» انتهى ويظهر ذلك أيضا
من المختلف حيث لم ينقل فيه إلا القول بمراعاة الجفاف والقول بالمتابعة من غير
تعرض لكلام المبسوط. وأنت خبير بأن عبارة الشيخ في المبسوط
ـ حيث قال : «الموالاة واجبة في الوضوء ، وهو ان يتابع بين الأعضاء مع
الاختيار وان خالف لم يجزه» ـ ظاهرة الدلالة على الابطال مع المخالفة اختيارا كما
نسبه اليه جمع من المتأخرين.
ونقل الصدوق في
الفقيه عن أبيه في رسالته إليه انه قال : «ان فرغت من بعض
وضوئك وانقطع بك الماء من قبل ان تتمه فأتيت بالماء ، فتمم وضوءك ان كان ما غسلته
رطبا ، وان كان قد جف فأعد وضوءك ، فان جف بعض وضوئك قبل أن تتم الوضوء من غير ان
ينقطع عنك الماء ، فاغسل ما بقي جف وضوؤك أو لم يجف» انتهى. ويظهر منه ان اي
الفردين من مراعاة الجفاف والتتابع خصل فهو كاف في صحة الوضوء ، فلو تابع بين
أعضاء الوضوء واتفق الجفاف لضرورة كان أم لا صح وضوؤه ، ولو لم يتابع بل فرق بين
الأعضاء لعذر كان أم لا روعي الجفاف وعدمه ، فان حصل بطل وضوؤه وإلا فلا.
وإلى هذا القول
مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : منهم ـ المحدث الشيخ محمد ابن الحسن الحر
العاملي في كتاب البداية وكتاب الوسائل ، حيث خص الابطال بجفاف السابق بصورة
التراخي والتفريق وبذلك يصير المسألة قول رابع. ثم ان ظاهر القول بكون
الموالاة أحد واجبات الوضوء ترتب الإثم على تركها ، وبذلك صرح أصحاب القولين
المذكورين ، وان القائلين بمراعاة الجفاف صرحوا بأنه مع التفريق بين الأعضاء حتى
يجف السابق يأثم ويبطل الوضوء ، بل صرح الشهيد منهم في الدروس والبيان بأنه يأثم
مع التفريق إذا أفرط في التأخير عن المعتاد وان لم يبطل الا مع الجفاف ، والقائلون
بالمتابعة صرحوا بالإثم مع الإخلال بها وعدم البطلان الا بالجفاف ، وبعضهم ـ كما
تقدم ـ قال بالإثم والابطال مع الإخلال بها. وفي ثبوت الإثم المذكور من الأدلة
إشكال ، لعدم ما يدل عليه ولو في الجملة ، ومن ثم ذهب بعض من محققي متأخري
المتأخرين إلى شرطية الموالاة في الوضوء بمعنى توقف صحته عليها ، فغاية
__________________
ما يلزم من فواتها بطلانه دون الوجوب المستلزم لاستحقاق الذم بالمخالفة ،
اللهم إلا ان يثبت إجماع على الوجوب أو على حرمة إبطال العمل ، وربما كان الظاهر
من كلام علي بن بابويه ذلك ، ومنه ربما ينتج بلوغ الخلاف في المسألة إلى أقوال
خمسة.
ويدل على القول
بمراعاة الجفاف من الأخبار صحيحة معاوية بن عمار قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ربما توضأت فنفد الماء فدعوت الجارية فأبطأت علي
بالماء فيجف وضوئي؟ فقال : أعد».
وموثقة أبي
بصير قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : إذا توضأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى تنشف وضوؤك
فأعد وضوءك. فان الوضوء لا يبعض».
واستدل بعض
الأصحاب على ذلك أيضا برواية مالك بن أعين ومرسلة الصدوق المتقدمتين في الأمر
السابع من البحث الثالث في مسح الرأس لدلالتهما على اعادة الوضوء لمن نسي مسح رأسه وفقد
البلة من أعضاء وضوئه.
وعندي في الدلالة
نظر ، إذ من الجائز أن يكون استناد وجوب الإعادة المستلزم لبطلان الوضوء السابق
انما هو للإخلال ببعض اجزاء الوضوء الذي هو المسح ، لعدم جوازه إلا ببلة الوضوء ،
مع تعذرها كما هو المفروض ، دون الجفاف.
وأنت خبير بأن
غاية ما يفهم من الروايتين الأولتين اللتين هما مستند القول المذكور الأمر
بالإعادة الدال على بطلان ما فعله سابقا ولا دلالة فيه على الذم والإثم بوجه ، بل
ربما كان في سكوته (عليهالسلام) عن الذم والإنكار بالتأخير حتى يجف الوضوء نوع إيماء
إلى العدم ، وبذلك يظهر قوة القول بالشرطية خاصة. وما ربما يتوهم ـ من قوله في
موثقة أبي بصير : «فان الوضوء لا يبعض». بناء على ان الجملة الخبرية هنا في معنى
الإنشاء وان المعنى حينئذ انه لا يجوز تبعيضه ـ فمردود بأنه يجوز ان يكون
__________________
المراد ان الوضوء الشرعي ليس بقابل للتبعيض ، بل تبعيضه يوجب الإتيان بوضوء
غير مبعض ، لعدم الخروج عن العهدة ، فهو خبر أريد به خبر آخر هو لازمه وهو عدم صحة
المبعض ، ووجوب إعادته من قبيل الكناية ، أو أريد به الإنشاء وهو الأمر بالإعادة.
وشيء منهما لا يدل على الإثم ، ويرشد إلى هذا انه وقع تعليلا للأمر بالإعادة مع
الجفاف في مادة عروض الحاجة إلى الماء.
ثم ان مضمون
الروايتين المشار إليهما أيضا حصول الابطال بالجفاف الناشي عن التفريق ، اما لو
اتفق الجفاف لا مع التفريق فلا دلالة للخبرين المذكورين على الابطال ، وليس غيرهما
في الباب.
وبه يظهر قوة
ما ذهب اليه الصدوقان ومن تبعهما من انه لو تابع بين أعضاء الوضوء صح وضوؤه وان
اتفق الجفاف ، لعذر كان من حرارة ونحوها أم لا ، وضعف ما ذكره شيخنا الشهيد في
الذكرى والدروس من انه لو والى وجف بطل وضوؤه إلا مع إفراط الحر وشبهه ، وقال في
الذكرى : «ظاهر ابني بابويه ان الجفاف لا يضر مع الولاء والأخبار الكثيرة بخلافه ،
مع إمكان حمله على الضرورة» انتهى. وما ذكره من الأخبار الكثيرة الدالة على
الابطال مع الجفاف في الصورة المذكورة لم نعثر منها في هذا الباب على غير ما
قدمناه.
ويدل أيضا على
ما ذكرناه ما ذكره في كتاب فقه الرضا حيث قال (عليهالسلام): «إياك ان تبعض الوضوء ، وتابع بينه كما قال الله
تعالى : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم بالمسح على الرأس والقدمين ، فان فرغت من بعض
وضوئك وانقطع بك الماء من قبل ان تتمه ثم أوتيت بالماء ، فاتمم وضوءك إذا كان ما
غسلته رطبا ، فان كان قد جف فأعد الوضوء ، وان جف بعض وضوئك قبل ان تتم الوضوء من
غير ان ينقطع عنك الماء ، فامض على ما بقي جف وضوؤك أم لم يجف». وقوله : وان
فرغت
__________________
إلى آخره هو عين ما نقله الصدوق عن والده (قدسسرهما) وهو مؤيد لما صرحنا به في تتمة المقدمة الثانية من
مقدمات الكتاب من اعتماد الصدوقين على الأخذ من الكتاب المذكور ونقلهما عبائره
بعينها ، ويزيده تأييدا ان صدر عبارة الكتاب المذكور إلى قوله «فان فرغت» وان لم
ينقله في الفقيه لكن نقله في الذكرى عن علي بن بابويه متصلا بما نقله في الفقيه ،
وبذلك يظهر لك ان ما ذكره في الذكرى بعد نقل كلام علي بن بابويه المتقدم ـ من انه
لعله عول على ما رواه حريز عن أبي عبد الله (عليهالسلام) كما أسنده ولده في كتاب مدينة العلم ، وفي التهذيب وقفه
على حريز ، قال : «قلت : ان جف الأول من الوضوء قبل ان اغسل الذي يليه؟ قال : جف
أو لم يجف اغسل ما بقي ...». ـ ليس على ما ظنه (قدسسره) بل انما عول على ما قدمنا ذكره ، وهذه الرواية حملها
في التهذيب على الجفاف بالريح الشديدة والحر العظيم أو التقية ، والأخير أقرب كما
ذكره في البحار ، لأن في تمام الخبر «قلت : وكذلك غسل الجنابة؟ قال : هو بتلك
المنزلة ، وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. قلت : وان كان بعض يوم؟ قال : نعم»
إذ ظاهره هنا المساواة بين الوضوء والغسل ، فكما ان الغسل لا يعتبر فيه الريح
الشديدة والحر كذلك الوضوء.
واستدل
القائلون بالقول الثاني بوجوه نذكر ما هو أمتنها دلالة عندهم :
(فمنها) ـ قوله
(عليهالسلام) في صحيح زرارة : «تابع بين الوضوء كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه
ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين ...». وقوله في رواية حكم ابن حكيم : «ان الوضوء يتبع بعضه بعضا». وقوله (عليهالسلام) في حسنة الحلبي : «... اتبع وضوءك بعضه بعضا».
__________________
والجواب ان
ظاهر الأخبار المذكورة ان المراد بالمتابعة فيها هو الترتيب بين الأعضاء بتقديم ما
حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير ، فالمراد من المتابعة فيها من باب تبع فلان
فلانا إذا مشى خلفه لا المتابعة بمعنى اللحوق والقرب والدنو كما هو المدعى ،
بقرينة قوله في الرواية الأولى : «كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه. إلخ» على وجه
التفسير والأبدال والتعليل ، وقوله في الثالثة قبل هذا الكلام : «إذا نسي الرجل ان
يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح
رأسه ورجليه ، وان كان انما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعتد على ما كان توضأ ،
وقال : اتبع. إلخ» وقوله في الثانية بعد ان سأله الراوي عن رجل نسي من الوضوء
الذراع والرأس قال : «يعيد الوضوء ، ان الوضوء. إلخ» على انه لو تم ما ادعوه منها
لوجب الحكم بالبطلان دون مجرد الإثم بالمخالفة ، لعدم الإتيان بالفعل على الوجه
المأمور به شرعا وأكثرهم لا يقول به كما عرفت وما ذكرناه في معاني الأخبار
المذكورة ان لم يكن متعينا لما ذكرنا من قرائن سياقها فلا أقل ان يكون هو الأظهر ،
وبذلك يبطل الاستناد إليها فيما ذكروا ، ومنه يعلم ضعف الاعتماد عليها في ثبوت
الإثم لمن أخل بالمتابعة كما يدعونه ، فضلا عن حصول الابطال معه كما ادعاه في
المبسوط.
و (منها) ـ اخبار
الوضوء البياني فإنها مبينة للأمر المجمل في الوضوء.
والجواب انه
وان كان كذلك كما حققناه آنفا ، الا انه انما يحتج به مع عدم دليل من خارج يقتضي
تقييد مطلقه وتبيين مجمله ، والأخبار الدالة على تخصيص الابطال بالجفاف في صورة
التفريق مخصصة ، على انه يمكن منع دلالة الوضوء البياني هنا على الوجوب بالحمل على
ان ذلك مقتضى العادة في مثله. وجريان مثل ذلك في أعلى الوجه ومرفقي اليدين ممنوع ،
والغسل في كل منهما مجمل والوضوء البياني مبين له.
و (منها) ـ موثقة
أبي بصير عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان
__________________
نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعك بعد الوجه ...». وجه
الاستدلال بها انه أمر بإعادة غسل الوجه الدال على فعله أولا ، وليس ذلك إلا
لبطلان الوضوء بفوات المتابعة بين أعضاء الطهارة ، لا لفوات الترتيب ، لأنه يحصل بإعادة
غسل الذراع خاصة.
والجواب انه لو
كان الأمر كذلك لحصل المنافاة بين صدر هذه الرواية وعجزها حيث قال بعد ما قدمنا
ذكره منها : «فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ،
وان نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك» فإنه لو كان الأمر
بإعادة غسل الوجه في صدرها انما هو لترك المتابعة ، لكان ينبغي الأمر بإعادة غسل
الوجه في الفرضين الأخيرين ، مع انه اقتصر فيهما على اعادة ما أخر تقديمه نسيانا
ثم اعادة ما قدمه عليه ليحصل الترتيب بين اجزاء الوضوء. نعم يرد الاشكال فيها من
جهة أخرى وهو ان تحصيل الترتيب ممكن بدون اعادة غسل ما أخره نسيانا ، بان يعيد غسل
ما قدمه عليه خاصة ثم ما بعده ، وهذه مسألة على حيالها قد تعارضت فيها الأخبار ،
وسيجيء تحقيقها ان شاء الله تعالى ، على ان ظاهر الرواية ـ بناء على ما يدعيه
المستدل ـ الابطال بترك الموالاة ولو نسيانا ، وهم لا يقولون به ، بل غاية ما
يدعونه حصول الإثم مع العمد دون النسيان ، والشيخ في المبسوط وان قال بالإبطال إلا
ان الظاهر انه يخصه بصورة العمد أيضا ، وحينئذ فلا انطباق للرواية على ما يدعونه
منها.
و (منها) ـ
قوله في موثقة أبي بصير المتقدمة : «فإن الوضوء لا يبعض». وهو صادق مع الجفاف وعدمه.
والجواب انك قد
عرفت آنفا من معنى هذا اللفظ ان المراد به حيث وقع تعليلا للإعادة مع الجفاف بطلان
المبعض وعدم صحته ، وحينئذ فلو أريد بالتبعيض فيه مجرد
__________________
التفريق كما يدعيه المستدل ، للزم القول ببطلان الوضوء بمجرد التفريق وان
لم يحصل الجفاف ، وهو لا يقول به ، فالظاهر ان المراد بالتعليل ان الوضوء لا يبعض
بان يصير بعضه رطبا وبعضه يابسا بالتفريق ، بمعنى انه لا يفرق على وجه يلزم منه
يبس السابق.
و (منها) ـ رواية
حكم بن حكيم المتقدمة وجه الاستدلال بها ان المتابعة لو لم تكن واجبة لما حكم
(عليهالسلام) بإعادة الوضوء ، مؤيدا ذلك بالتعليل : «ان الوضوء يتبع
بعضه بعضا». فإنه يدل على ان المراد بالمتابعة عدم الفصل لا الترتيب ، لان حصول
الترتيب لا يتوقف على اعادة الوضوء بل يكفي فيه الإتيان على العضو المنسي وما
بعده.
والجواب ان
روايات نسيان بعض اجزاء الوضوء قد اتفقت على ان الحكم في ذلك الإتيان بالجزء المنسي
وما بعده ما لم يحصل الجفاف دون الابطال ، وهي مستفيضة ولا سيما الروايات الدالة
على المسح بالبلة الباقية في أعضاء الوضوء لمن نسي مسح رأسه أو رجليه المتضمن جملة منها لعدم ذكر ان ذلك الا بعد الدخول في
الصلاة ، على انهم ـ كما عرفت آنفا ـ لا يقولون بالإعادة إلا في حال الجفاف ،
وانما غاية ما يدعونه حصول الإثم مع التخصيص بصورة العمد ، وإلا لوردت عليهم
الأخبار المذكورة ، وحينئذ فالواجب حمل هذه الرواية على اعادة الوضوء بالجفاف
الموجب لفوات الموالاة ويحتمل أيضا حمل اعادة الوضوء على الإتيان بما نسي منه وما
بعده وهو الأنسب بالتعليل واما على تقدير المعنى الأول فالأظهر في معنى التعليل
المذكور حمله على ما تقدم في معنى قوله : «فان الوضوء لا يبعض» والمعنى حينئذ انه
يعيد الوضوء لبطلان السابق بالجفاف ، فان الوضوء يتبع بعضه بعضا ولا يفرق على وجه
يجف السابق ، وعليه
__________________
فتكون الرواية ثالثة لموثقة أبي بصير وصحيحة معاوية بن عمار المتقدمتين في
الدلالة على البطلان مع الجفاف بالتفريق.
وأنت خبير بان
ملخص ما ظهر ـ من مطاوي هذا البحث بعد استقصاء النظر في أدلته ـ أن الموالاة التي
هي عبارة عن مراعاة الجفاف شرط في صحة الوضوء مع التفريق واما مع المتابعة فلا يضر
جفاف ما سبق لعذر كان من حرارة هواء ونحوها أم لا كما لا يخفى ، والاحتياط
بالمتابعة مما لا ينبغي تركه.
تنبيهات : (الأول)
ـ هل المبطل على تقدير القول بمراعاة الجفاف هو جفاف جميع الأعضاء المتقدمة. أو
جفاف عضو في الجملة ، أو العضو السابق على ما هو فيه؟ أقوال ثلاثة : أولها ظاهر
المشهور ، وثانيها صريح ابن الجنيد على ما نقل عنه من اشتراط بقاء البلل في جميع
ما تقدم إلا لضرورة ، وثالثها ظاهر السيد المرتضى وابن إدريس.
والظاهر هو
القول المشهور ، لأصالة صحة الوضوء فيقتصر في بطلانه على القدر المتيقن وهو جفاف
الجميع ، ولأن الروايتين الدالتين على الابطال مع الجفاف ان لم تكونا ظاهرتين في
ترتب الابطال على جفاف الجميع فلا ظهور لهما في جفاف البعض.
ومما استدل به
على ذلك أيضا الأخبار الدالة على الأخذ من بلة الوضوء لمن نسي مسح رأسه أو رجليه ويضعف باحتمال اختصاص الحكم بالناسي كما هو مورد تلك
الأخبار أو الضرورة كما يقوله ابن الجنيد.
(الثاني) ـ وقع
في عبائر كثير من الأصحاب التقييد في الجفاف بالهواء المعتدل ، وظاهره ان تعجيل
الجفاف في الهواء الشديد الحرارة وتأخيره في الهواء الشديد الرطوبة لا اعتبار به
بل الاعتبار بحكم الهواء المتوسط بينهما فيحمل عليه كل من الطرفين ، الا ان شيخنا
الشهيد في الذكرى قال : «لو كان الهواء رطبا جدا بحيث لو اعتدل جف البلل لم يضر
لوجود البلل حسا ، وتقييد الأصحاب بالهواء المعتدل
__________________
ليخرج طرف الإفراط في الحرارة» انتهى. وهو جيد ، لأن الإعادة إنما علقت في
الخبرين المتقدمين على الجفاف ، وهو غير صادق هنا لا لغة ولا عرفا ، والجفاف
التقديري لا دليل عليه ، لكن يبقى الإشكال أيضا في طرف الإفراط بالجفاف بالحرارة
الشديدة من حيث ان الحكم معلق في الأخبار على الجفاف وقد تحقق كما هو المفروض
والتقدير أيضا لا وجه له ، وتقييد النص بحال الاعتدال من غير دليل محل إشكال إلا
ان يتمسك بالضرورة. وفيه انه يندفع بالتيمم أو الاستئناف.
(الثالث) ـ صرح
جمع من الأصحاب بأنه لو تعذرت الموالاة فلم تبق بلة على اليد للمسح جاز الاستئناف
للمسح ، للضرورة ، وصدق الامتثال ، واختصاص المسح بالبلة بحال الإمكان. ويحتمل
الانتقال إلى التيمم. ولم أقف على نص في ذلك ، والاحتياط يقتضي التعجيل في الوضوء
، فان لم تبق بلة جمع بين الاستئناف والتيمم.
(المسألة
الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الترتيب
بين أعضاء الوضوء فيما عدا الرجلين إحداهما على الأخرى ، ووجوب الإعادة على ما
يحصل معه مع مخالفته عمدا أو نسيانا قبل الجفاف ، وشرح الكلام في هذه المسألة
ينتظم في فوائد :
(الأولى) ـ القول
بوجوب الترتيب ـ بأن يبدأ بالوجه ثم باليد اليمنى ثم باليسرى ثم بالرأس ثم
بالرجلين ـ مما انعقد عليه إجماعنا فتوى ورواية :
فمن الأخبار
الواردة بذلك صحيحة زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «تابع بين الوضوء كما قال الله عزوجل : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين. ولا
تقدمن شيئا بين يدي شيء تخالف ما أمرت به ، فان غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ
بالوجه وأعد على الذراع ، وان مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم
أعد على الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به». وهي صريحة
__________________
في تقديم الوجه على مجموع اليدين ، وهما على مجموع الرأس والرجلين ، وتقديم
مسح الرأس على الرجلين.
وصحيحة منصور
بن حازم عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين؟ قال يغسل اليمين ويعيد اليسار».
وهي دالة على الترتيب بين اليدين.
وموثقة أبي
بصير عنه (عليهالسلام) قال : «ان نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم
اغسل ذراعك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم
اغسل اليسار ، وان نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك». وهذه
الرواية قد استجمعت الترتيب بين الأعضاء ما عدا الرجلين ، إلى غير ذلك من الأخبار.
بقي الكلام
فيما لو توضأ بالمطر المتقاطر عليه ، كما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر
حتى يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه ، هل يجزيه ذلك من الوضوء؟ قال : ان غسله
فان ذلك يجزيه». أو في الماء ، فالظاهر ان المرجع في وجوب تقديم ما يجب تقديمه
وتأخير ما يجب تأخيره إلى القصد ، فلا عبرة بحصول الغسل في شيء من تلك الأعضاء من
غير اقترانه بالقصد المذكور ، وحينئذ فلو قدم في قصده عمدا أو سهوا بعض ما يجب
تأخيره أبطل ووجبت الإعادة على ما يحصل به الترتيب.
(الثانية) ـ اختلف
الأصحاب في وجوب الترتيب بين الرجلين وعدمه على أقوال ثلاثة : (أحدها) ـ الوجوب
بتقديم اليمنى على اليسرى ، نقله في المختلف عن الصدوقين وابن الجنيد وسلار ،
واختاره جملة من المتأخرين. و (ثانيها) ـ ما هو
__________________
المشهور من سقوط الوجوب فيجوز مسحهما دفعة واحدة بالكفين وتقديم اليمنى على
اليسرى وبالعكس. و (ثالثها) ـ التخيير بين المقارنة وتقديم اليمنى دون العكس ،
نقله في الذكرى عن بعضهم ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في البداية
والوسائل واختاره بعض فضلاء متأخري المتأخرين.
والظاهر منها
هو الأول ، ويدل عليه حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «امسح على القدمين وابدأ بالشق الأيمن».
وما رواه
النجاشي في كتاب الرجال بإسناده عن عبد الله بن أبي رافع وكان كاتب أمير
المؤمنين (عليهالسلام) انه كان يقول : «إذا توضأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين
قبل الشمال من جسده».
وما استند اليه
أصحاب القول المشهور ـ من إطلاق الأوامر وصدق الامتثال الذي هو غاية ما اعتمدوا
عليه ـ ففيه انه يجب تقييد مطلق تلك الأوامر بما ذكرنا من الأخبار ، وصدق الامتثال
مع ما ذكرنا ممنوع.
والجواب ـ بحمل
الأخبار على الاستحباب وان كان الأمر من حيث هو حقيقة في الوجوب كما برهن عليه في
الأصول ، معللا بكثرة الأوامر في الشريعة للندب ، فلا وثوق في الاحتجاج بها على
الوجوب الموجب لاشتغال الذمة ، كما اعتمد عليه جملة من فضلاء متأخري المتأخرين
وردوا لأجله الأوامر في جملة من الأحكام ـ مردود بأنه تخريص في الدين وجرأة على
سيد المرسلين ، فإنه كما ان الأصل براءة الذمة كما تعلقوا به وردوا لأجله تلك
الأوامر فلا يثبت اشتغالها إلا بدليل ، كذلك الأصل في الأمر الوجوب كما هو المسلم
فلا يخرج عنه إلا بدليل ، وكثرة ورود الأخبار للندب ـ معتضدا أكثرها بالقرائن
الحالية والمقالية على ذلك ـ لا يقتضي حمل ما ليس كذلك عليه ،
__________________
والتحرز عن الوقوع في اشتغال الذمة ليس اولى من التحرز عن الوقوع في مخالفة
الأمر الموجبة للإثم ، والتمسك بأصالة البراءة انما يتم قبل ورود الأمر أو بعده مع
ظهور الدلالة على عدم الوجوب ، والتفصي عن المخالفة بالحمل على الاستحباب لا يسمن
ولا يغني من جوع في هذا الباب ، إذ متى كان الحكم واجبا شرعا وقد أمر به حافظ
الشريعة لذلك فحمل امره على الاستحباب المؤذن بجواز الترك تخرصا عين المخالفة
لمقتضى امره والرد لنافذ حكمه. هذا ، وقد تقدم الجواب عن ذلك مستوفى في المقدمة
السابعة ويدل على القول الثالث
ما رواه
الطبرسي (قدسسره) في كتاب الاحتجاج من التوقيع الخارج من الناحية المحروسة في جملة أجوبة
مسائل الحميري ، حيث سأل عن المسح على الرجلين : يبدأ باليمين أو يمسح عليهما
جميعا؟ فخرج التوقيع «يمسح عليهما جميعا معا ، فان بدأ بإحداهما قبل الأخرى فلا
يبدأ إلا باليمين».
وأنكر جملة من
محققي متأخري المتأخرين وجود دليل لهذا القول لعدم الوقوف على الرواية المذكورة
حتى تكلف بعضهم الاستدلال عليه بما لا يخلو من شيء.
(الثالثة) ـ لو
خالف مقتضى الترتيب المذكور عمدا أو نسيانا ، فإنه تجب عليه الإعادة على ما يحصل
به الترتيب مع عدم الجفاف ومعه فتجب الإعادة من رأس ، وظاهر العلامة في التحرير
الإعادة مع العمد من رأس وان لم يجف ، وفي التذكرة عكسه وهو الإعادة مع النسيان من
رأس وان لم يجف ، والتفصيل بالجفاف وعدمه مع العمد ، وهو غريب.
ثم انه هل يكفي
في الإعادة مع عدم الجفاف اعادة ما قدم مما حقه التأخير دون ما أخر مما حقه
التقديم لصحته ، إذ لا مانع من صحته إلا تقديم ما حقه التأخير عليه ، وهو غير صالح
للمانعية لفساده ، أو يجب اعادة الجميع ، نظرا إلى انه كما بطل الأول لتقديمه في
غير موضعه كذلك بطل الثاني لترتيبه عليه ووضعه أيضا في غير موضعه؟
__________________
وجهان ، صرح بأولهما المحقق في المعتبر وجماعة ممن تأخر عنه.
والأخبار في
ذلك مختلفة. فمما يدل على الأول ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من
كتاب نوادر البزنطي عنه عن عبد الكريم بن عمرو عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثم
استيقنت بعد أنك بدأت بها غسلت يسارك ثم مسحت رأسك ورجليك».
وعلى الثاني
موثقة أبي بصير المتقدمة وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في حديث تقديم السعي على الطواف ، قال : «ألا ترى انك
إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك ان تعيد على يمينك».
وقال الصدوق في
الفقيه : «روي في من بدأ بغسل يساره قبل يمينه انه يعيد على
يمينه ثم يعيد على يساره. وقد روي انه يعيد على يساره». انتهى. والرواية الأولى
منهما مما ينتظم في أدلة القول الثاني والثانية في أدلة القول الأول.
واما قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة المتقدمة : «... فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد
على الذراع ، وان مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على
الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به». فالظاهر منها بقرينة اختصاص لفظ الإعادة بالذراع
والرجل وقوع التذكر قبل غسل الوجه في الأول وقبل مسح الرأس. فأمره بالبدأة بغسل
الوجه ثم الإعادة على الذراع والبدأة بمسح الرأس ثم الإعادة على الرجل ، ومثلها
صحيحة منصور بن حارم المتقدمة في صدر المقالة وعلى ذلك فلا دلالة في شيء منهما على ما نحن فيه.
__________________
ويمكن الجمع
بين الأخبار المذكورة بحمل موثقة أبي بصير وصحيحة منصور ونحوهما على ما دلت عليه
صحيحة زرارة وصحيحة منصور الأخرى من التذكر قبل غسل العضو الأخير أو مسحه ، وحينئذ
فيحمل لفظ الإعادة فيها على أصل الغسل مشاكلة لما بعده ، ويحتمل أيضا ـ كما ذكره
بعض ـ حمل الموثقة المذكورة وأمثالها على ما إذا كان قد غسل العضو الأخير بقصد انه
مأمور به على هذا الوجه. فإنه تجب الإعادة عليه لكون ذلك تشريعا محرما ، والروايات
الأخر على ما إذا غسله لا من هذه الحيثية بل من حيث انه جزء من الوضوء وان كان
بالقصد الحكمي المستمر كما في سائر الأجزاء ، ولا يخفى ما فيه من البعد. والجمع
بين الأخبار بالتخيير لا يخلو من قرب ، وربما كان ذلك هو الظاهر من كلام الفقيه
حيث نقل الخبرين المذكورين مع ظهورهما في التنافي ولم يجمع بينهما وقد ذكر بعض
مشايخنا المتأخرين ان هذا دأبه فيما إذا لم يجمع بين الخبرين المتنافيين.
(المسألة
الرابعة) ـ وجوب المباشرة مع الإمكان ـ وعدم جواز التولية في كل من الطهارات
الثلاث ـ هو المشهور بين الأصحاب ، بل ادعى عليه في الانتصار الإجماع ونقل عن ابن
الجنيد انه قال : «يستحب ان لا يشرك الإنسان في وضوئه غيره بان يوضئه أو يعينه
عليه» ولا ريب في ضعفه ، لان المتبادر من الأوامر الدالة على الغسل والمسح كتابا
وسنة مباشرة المتوضئ ذلك ، لان إسناد الفعل إلى فاعله هو الحقيقة وغيره مجاز لا
يحمل عليه إلا مع الصارف عن الأول.
ويدل على ذلك رواية
الوشاء قال : «دخلت على الرضا (عليهالسلام) وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة ، فدنوت
لأصب عليه فأبى ذلك وقال : مه يا حسن ، فقلت له : لم تنهاني أن أصب عليك ، تكره ان
أوجر؟ قال : تؤجر أنت وأوزر أنا. فقلت له وكيف ذلك؟ فقال : أما سمعت الله يقول : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ
__________________
رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» وها انا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني
فيها أحد». وجه الاستدلال بها وقوع النهي عن الصب الذي هو حقيقة في التحريم ،
مردفا له بما يزيده تأكيدا من ان قبول ذلك موجب للوزر والإثم الذي لا يكون إلا على
ارتكاب محرم ، معللا لذلك بدخوله تحت النهي عن الشرك بعبادة ربه وكونه جزئيا من
جزئيات ما نهى عنه سبحانه في هذه الآية التي لا مجال لإنكار كون النهي فيها
للتحريم ، فيستلزم تحريم قبول الصب عليه ، ولما فيه من الجمع بينه وبين صحيحة أبي
عبيدة الحذاء قال : «وضأت أبا جعفر (عليهالسلام) بجمع وقد بال فناولته ماء فاستنجى ثم صببت عليه كفا
فغسل به وجهه وكفا غسل به ذراعه الأيمن وكفا غسل به ذراعه الأيسر. الحديث». ورواه
الشيخ أيضا في موضع آخر بلفظ : «ثم أخذ كفا فغسل به وجهه. إلخ» بدل قوله : «ثم
صببت» الا ان قول الراوي : «وضأت» إنما يلائم الأول كما لا يخفى ، وبذلك يظهر لك
صحة الاستدلال بالرواية على تحريم التولية ، بحمل الصب فيها على الصب على أعضاء
الطهارة ، دون الحمل على الاستعانة كما عليه الجمهور من أصحابنا ، وجعلها دليلا
على كراهتها ، حملا للصب المنهي عنه على الصب في اليد وحمل الوزر على الكراهة
بقرينة قوله في آخر الخبر : «فأكره» وتكلف الجمع بينها وبين صحيحة الحذاء المتقدمة
بحمل الصحيحة المذكورة على الضرورة أو بيان الجواز. وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ ان
استعمال الكراهة في المعنى المذكور اصطلاح أصولي طارئ والمفهوم من الأخبار
استعمالها في التحريم كثيرا فلا يتقيد به النهي المتأصل في التحريم المؤكد المعلل
بما أوضحنا بيانه وشيدنا أركانه.
ومثل رواية
الوشاء فيما ذكرناه ما رواه الصدوق (رحمهالله تعالى) في الفقيه
__________________
مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الصادق (عليهالسلام) «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) كان لا يدعهم يصبون الماء عليه ويقول لا أحب ان أشرك
في صلاتي أحدا». والطعن بكون «لا أحب» ظاهرا في الكراهة مردود بما في الأخبار من
كثرة ورودها في مقام التحريم ، كما لا يخفى على من خاض في تيار عبابها وذاق صافي
لبابها.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان المراد بالتولية المحرمة هي ان يتولى الغير غسل أعضائه أو مشاركته فيها ،
واما مجرد صب الماء في اليد فليس منها بل هو من الاستعانة كما ذكره الأصحاب ، واما
طلب إحضار الماء للطهارة فقد ذكر جمع من الأصحاب : منهم ـ السيد السند انه من
الاستعانة المكروهة. وعندي في أصل الحكم بكراهة الاستعانة ـ وان كان مشهورا بين
الأصحاب ـ إشكال ، لعدم الدليل عليه بل قيام الدليل على العدم ، وذلك فإنهم إنما
استدلوا على الحكم المذكور برواية الوشاء ومرسلة الفقيه المتقدمتين ، وقد عرفت
الحال فيهما ، فيبقى الحكم بناء على ما ذكرناه عاريا عن الدليل وصحيحة الحذاء ـ كما
عرفت ـ قد دلت على الصب في يده (عليهالسلام) ولا معارض لها بناء على ما اخترناه ، فتأويلها ـ بالحمل
على الضرورة أو بيان الجواز من غير معارض ـ مشكل ، وطلب إحضار الماء للطهارة قد
وقع في عدة من اخبار الوضوء البياني وغيرها كحسنة زرارة قال : «حكى لنا أبو جعفر (عليهالسلام) وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فدعا بقدح من ماء ...». وفي أخرى «فدعا بقعب من ماء». وفي
ثالثة «فدعا بطشت أو تور». وحديث وضوء علي (عليهالسلام) وقول علي (عليهالسلام) لابنه محمد بن الحنفية «ائتني بإناء من ماء أتوضأ
للصلاة». الى غير ذلك. وارتكاب الحمل في الجميع من غير معارض سفسطة ظاهرة.
وبالجملة فإني لم أقف على دليل على ذلك زائدا على مجرد الشهرة.
__________________
ثم ان ما
ذكرناه من تحريم التولية مخصوص بحال الاختيار ، فلو اضطر إلى ذلك لمرض أو تقية أو
غيرهما جاز اتفاقا ، ولنفي الحرج في الدين وسعة الحنيفية ، وعلى ذلك ينبغي حمل ما
رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده فيه عن عبد الرزاق قال : «جعلت جارية لعلي بن
الحسين (عليهالسلام) تسكب الماء عليه وهو يتوضأ فسقط الإبريق من يد الجارية
على وجهه فشجه. الحديث». فإنه ظاهر في التولية وغسل الأعضاء ، فالواجب حمله على
الضرورة لمرض ونحوه ، ولو حمل على صب الماء في اليد ـ وان بعد عن ظاهره ـ فسبيله
سبيل الأخبار المتقدمة الدالة على جواز الاستعانة من غير معارض ، ولا ضرورة إلى
حمله حينئذ على الضرورة ، لعدم الدليل على الكراهة كما عرفت.
(المسألة
الخامسة) لا يجوز الغسل مكان المسح ولا العكس ، وهذا الحكم ثابت عندنا إجماعا فتوى
ودليلا ، آية ورواية ، إذ مقتضى الآية الشريفة الواردة في الوضوء غسل بعض ومسح بعض ، فالواجب الإتيان بكل منهما فيما عين
فيه ، وإلا لبقي تحت العهدة ، لعدم الإتيان بالمأمور به ، وبذلك استفاضت الأخبار :
ففي صحيح زرارة
المضمر قال : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت
ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء».
وفي رواية محمد
بن مروان : «يأتي على الرجل ستون أو سبعون سنة ما قبل الله منه
صلاة. قال : قلت : وكيف ذلك؟ قال : لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه».
وربما يبني
القول بذلك على تباين حقيقتي الغسل والمسح باشتراط الجريان في الأول ومجرد إمرار
اليد في الثاني كما هو أحد القولين ، الا ان الظاهر ـ كما
__________________
استظهره جملة من محققي أصحابنا (رضوان الله عليهم) ـ ان النسبة بينهما
العموم من وجه فيجتمعان في المسح باليد مع الجريان ، فعلى هذا لو مسح في الوضوء
بنداوة زائدة يحصل بها الجريان مع قصده المسح دون الغسل ، فالظاهر الخروج من
العهدة ، وصدق الغسل عليه ـ باعتبار الجريان وان لم يكن مقصودا ـ غير مضر ، لحصول
الامتثال بما ذكرنا ، ولأن المتوضئ سيما المسبغ في وضوئه لا تخلو يده بعد الفراغ
من بلة زائدة يحصل بها الجريان ولو أقله كما نشاهده في أنفسنا ، مع انه لم يرد
عنهم (عليهمالسلام) نفض أيديهم بعد الغسل لأجل المسح ولا الأمر بذلك ،
فالتكيف بالنفض والتجفيف حينئذ يحتاج إلى دليل ، وليس فليس. وربما يستأنس لذلك
بصحيح زرارة المتقدم الدال بمفهومه على ان حصول الغسل مع عدم نيته وقصده لا يبطل
الوضوء ، وحينئذ فالظاهر تخصيص الأخبار المانعة من الغسل والإجماع المدعى في
المقام بالغسل المشتمل على الجريان من غير إمرار اليد أو معه بقصد كونه غسلا لا
مسحا ، فان الظاهر خروج تلك الأخبار في مقام التعريض بالعامة الموجبين للغسل بأحد
الفردين.
وما يقال ـ من
ان وقوع المقابلة بين الغسل والمسح في الآية يقتضي مخالفة حقيقة أحدهما لحقيقة
الآخر وإلا فلا معنى للتقابل ـ ففيه انه ان أريد بالمخالفة التباين الكلي فالتقابل
بهذا المعنى ممنوع ، وان أريد ما هو أعم فمسلم ، وهي متحققة في العموم من وجه ، إذ
يصدق الغسل بدون المسح على مجرد الصب ونحوه من غير إمرار اليد ، والعكس على
الإمرار بدون الجريان ، وهذا كاف في صحة التقابل وان اجتمعا في إمرار اليد مع
الجريان. ولك ان تقول بمعونة صحيحة زرارة المتقدمة ان الغسل حقيقة فيما يحصل معه
الجريان لا مع إمرار اليد أو معه بقصد كونه غسلا ، ويقابله المسح بإمرار اليد لا
مع الجريان أو معه بقصد كونه مسحا ، وحينئذ فالنسبة بينهما التباين ، وعدم جواز كل
منهما مكان الآخر ظاهر لما بينهما من التباين ، وإمرار اليد بما يستلزم الجريان في
موضع المسح مع قصد كونه مسحا كما انه كذلك مع قصد كونه غسلا لا ينافي التباين
حينئذ ، فإن كان
مراد المعترض وغيره ممن عبر بعدم جواز الغسل مكان المسح وبالعكس ما ذكرناه
من الغسل المجرد عن إمرار اليد أو معه مع قصد كونه غسلا فمرحبا بالوفاق ، وإلا فهو
محل نظر لما عرفت.
(المسألة
السادسة) ـ الظاهر انه لا خلاف في ان من أخل بالترتيب بترك بعض الأعضاء نسيانا ،
أعاد متى ذكر على ما يحصل به الترتيب ان ذكر قبل جفاف السابق ، وإلا فمن رأس ، ولو
كان في الصلاة قطعها وأعادها بعد الوضوء مرتبا ، والأخبار به مستفيضة :
ففي حسنة
الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك ، فانصرف
وأتم الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك». والإتمام هنا اما محمول على عدم فوات
الموالاة أو انه كناية عن اعادة الوضوء.
وحسنته الأخرى
عنه (عليهالسلام) قال : «إذا نسي الرجل ان يغسل يمينه فغسل شماله ومسح
رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وان كان انما نسي
شماله فليغسل الشمال ولا يعيد على ما كان توضأ». والمراد من قوله : «ولا يعيد على
ما كان توضأ» أي غسل ، والوضوء هنا بمعنى الغسل ، يعني لا يعيد ما غسله سابقا ،
فلا ينافي وجوب مسح الرجل بعد غسل الشمال ، وعلى ذلك أيضا تحمل صحيحة علي بن جعفر
عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل توضأ ونسي غسل يساره. فقال : يغسل
يساره وحدها ولا يعيد وضوء شيء غيرها». وحمله الشيخ (رحمهالله) على معنى لا يعيد وضوء شيء غيرها مما تقدم دون ما
تأخر ولا ضرورة إليه ، فإن الوضوء هنا ـ كما عرفت ـ بمعنى الغسل ، فينصرف إلى ما
تقدم
__________________
من غير تكلف الحمل على ذلك.
ورواية زرارة
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل ينسى مسح رأسه حتى يدخل في الصلاة؟ قال : ان كان في لحيته بلل
بقدر ما يمسح رأسه ورجليه فليفعل ذلك وليصل. قال : وان نسي شيئا من الوضوء المفروض
فعليه أن يبدأ بما نسي ويعيد ما بقي لتمام الوضوء».
ورواية أبي
بصير عنه (عليهالسلام) «في رجل نسي أن يمسح على رأسه فذكر وهو في الصلاة؟ فقال : ان كان استيقن
ذلك انصرف فمسح على رأسه ورجليه واستقبل الصلاة».
واما ما ورد في
بعض الأخبار ـ في من نسي مسح رأسه مما ظاهره الاقتصار عليه ، كرواية الكناني قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل توضأ فنسي أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة.
قال : فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد الصلاة». ونحوها رواية المفضل بن صالح وزيد
الشحام ـ فمحمول على ما تقدم من الروايات الدالة على انه يأتي
بالمنسي وما بعده تحقيقا للترتيب.
ولا فرق في
ظاهر الأصحاب بين كون المنسي عضوا كاملا أو بعضا منه ولو لمعة. فإنه يجب غسله
وترتيب ما تأخر عليه ، الا انه نقل في المختلف عن ابن الجنيد انه إذا كان المنسي
لمعة دون سعة الدرهم ، فإنه يكفي بلها من غير اعادة على ما بعد ذلك العضو ، ولم
نقف له دليل إلا انه نقل فيه أيضا عن ابن الجنيد انه قال : «وقد روى توقيت الدرهم
ابن سعيد عن زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) وابن منصور عن زيد ابن علي ، ومنه حديث أبي أمامة عن
النبي (صلىاللهعليهوآله)» انتهى. وهو أعرف
__________________
بما نقل. لكن روى الصدوق (رضياللهعنه) في الفقيه مرسلا عن الكاظم (عليهالسلام) وفي كتاب عيون الأخبار مسندا عن الرضا (عليهالسلام) انه «سئل عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه
الماء. فقال يجزئه ان يبله من جسده». وهو وان لم يكن واضح الدلالة على ما ذكره ابن
الجنيد إلا انه مناف بظاهره لما عليه الأصحاب ، والحمل على الإتيان بما بعده وان
كان بعيدا عن ظاهر اللفظ إلا انه لا مندوحة عن المصير اليه.
وربما ظهر من
الصدوق العمل بظاهر الرواية المذكورة ، حيث نقلها ولم يتعرض لتأويلها ولا ردها ،
وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد الحر في كتاب البداية. وجرى عليه أيضا في كتاب الوسائل
، حيث قال : «باب من نسي بعض العضو أجزأه ان يبله من بعض جسده» ثم نقل الرواية
المذكورة بطريقي الفقيه والعيون.
وأنت خبير بأن
إثبات الحكم المذكور ـ مع مخالفته لظواهر الأخبار المتعددة والقواعد الممهدة بمجرد
هذه الرواية مع ضعف سندها وقبولها للتأويل ـ مشكل. وربما حملت أيضا على ما إذا لم
يتيقن عدم اصابة الماء بل وجده جافا.
هذا. ومقتضى ما
هو المعروف من كلام الأصحاب انه بعد غسل اللمعة المذكورة يرتب عليها ما تأخر عن
ذلك العضو من الأعضاء ، واما انه يرتب أولا ما تأخر عن تلك اللمعة من العضو الذي
هي فيه عليها أيضا فالمفهوم من كلام العلامة في المختلف بعد نقل كلام ابن الجنيد
المتقدم تفريع ذلك على وجوب الابتداء من موضع بعينه وعدمه حيث قال : «ولا أوجب غسل
جميع العضو بل من الموضع المتروك إلى آخره ان أوجبنا الابتداء من موضع بعينه ،
والموضع خاصة ان سوغنا العكس» انتهى. وتحقيق الكلام في ذلك قد تقدم.
__________________
(المسألة
السابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف في تحريم الوضوء بالماء النجس ، ويدل عليه أيضا ما
رواه الشيخ محمد الحر في كتاب الوسائل عن المرتضى (رضياللهعنه) في رسالة المحكم والمتشابه
نقلا من تفسير النعماني بإسناده عن علي (عليهالسلام) قال : «واما الرخصة التي هي الإطلاق بعد النهي ، فان
الله تعالى فرض الوضوء على عباده بالماء الطاهر ، وكذلك الغسل من الجنابة. الحديث».
ويدل عليه أيضا جملة من الأخبار الواردة بالنهي عن الوضوء بالماء النجس .
وانما الخلاف
في المعنى المراد من التحريم في هذا المقام ، فقيل المراد به المعنى المتعارف وهو
ما يترتب الإثم على فعله مع بطلانه ، وقيل انه عبارة عن مجرد البطلان والأول
اختيار جماعة : منهم ـ المحقق الثاني في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في الروض ،
وسبطه السيد السند في المدارك ، وعللوه بان استعماله فيما يسمى طهارة في نظر
الشارع يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما ، إذ المراد التحريم على
تقدير استعماله والاعتداد به في الصلاة. والقول الثاني اختاره العلامة في النهاية.
والأول أقرب لأن اعتقاد الطهارة بما نهى الشارع عن الطهارة به تشريع البتة ،
فيترتب عليه الإثم بلا اشكال.
ثم ان الابطال
ـ ووجوب الإعادة وقتا وخارجا إذا كان عن عمد ـ مما لا خلاف ولا اشكال فيه ،
والظاهر من كلامهم ان الطهارة به نسيانا في حكم العمد أيضا من حيث وجوب التحفظ
عليه ، واما الطهارة به جهلا بالنجاسة فظاهر المشهور بين المتأخرين انه كذلك أيضا
، والمفهوم من كلام الشيخ في المبسوط وجوب الإعادة في الوقت دون الخارج ، وبذلك
صرح ابن البراج. وهو ظاهر كلام ابن الجنيد ، وعبائر جل متقدمي علمائنا (رضوان الله
عليهم) مطلقة في وجوب الإعادة من غير تفصيل بين الأفراد المذكورة.
__________________
وقال العلامة
في المختلف بعد نقل جملة من عبارات الأصحاب الواردة في هذا الباب : «والوجه عندي
إعادة الصلاة والوضوء والغسل ان وقعا بالماء النجس ، سواء كان الوقت باقيا أولا ،
سبقه العلم أو لا» وعلى منواله حذا جملة من المتأخرين ، واستدل على ما ذهب إليه في
المختلف بورود الأخبار بالنهي عن الوضوء بالماء النجس ، مثل صحيحة حريز الدالة على انه «إذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ
منه». وصحيحة البقباق الدالة على السؤال عن أشياء حتى انتهى إلى الكلب فقال (عليهالسلام): «رحس نجس لا تتوضأ بفضله ...». قال : «والنهي يدل على
الفساد ، فيبقى في عهدة التكليف. لعدم الإتيان بالمأمور به» ثم قال : «لا يقال :
هذا لا يدل على المطلوب لاختصاصه بالعالم ، فإن النهي مختص به. لأنا نقول : لا
نسلم الاختصاص ، فإنه إذا كان نجسا لم يكن مطهرا لغيره» ثم استدل أيضا بما رواه
معاوية في الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما
وقع في البئر إلا ان ينتن. فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة». قال : «وهذا مطلق
سواء سبقه العلم أو لا».
وقال الشهيد في
الذكرى : «يحرم استعمال الماء النجس والمشتبه في الطهارة مطلقا ، لعدم التقرب
بالنجاسة ، فيعيدها مطلقا وما صلاه ولو خرج الوقت ، لبقاء الحدث ، وعموم «من فاتته
صلاة فليقضها» يقتضي وجوب القضاء» انتهى.
وللنظر فيما
ذكراه (قدسسرهما) مجال : اما ما ذكره العلامة (رحمهالله) من الاستدلال بالأخبار الدالة على النهي عن الوضوء
بالماء النجس ، من حيث ان النهى
__________________
يدل على الفساد فيبقى في عهدة التكليف ، فمسلم بالنسبة إلى العامد والناسي
، واما بالنسبة إلى الجاهل فممنوع لعدم توجه النهي إليه كما ذكروا في غير موضع ،
معللين له بقبح تكليف الغافل ، كما صرحوا به في مسألة الصلاة في الثوب المغصوب
جاهلا والمكان المغصوب ، فإنه لا خلاف بينهم في الصحة ، وحجتهم على ذلك ما أشرنا
إليه من عدم توجه النهي إلى الجاهل لقبح تكليف الغافل ، على ان الأظهر ـ كما هو
المستفاد من الأخبار ، وعليه جملة من محققي علمائنا الأبرار ـ هو معذورية جاهل
الحكم فضلا عن جاهل الأصل إلا ما خرج بدليل ، كما تقدم تحقيقه في المقدمة الخامسة.
وما ذكره أخيرا ـ من منع اختصاص النهي بالعالم معللا بأنه إذا كان نجسا لم يكن
مطهرا لغيره ـ ففيه انه ان كان المراد به ما كان نجسا في نظر المكلف فمسلم ولكنه
ليس محل البحث ، وان أراد به ما كان كذلك واقعا وان لم يكن معلوما للمكلف حال
الاستعمال فهو أول المسألة وكذلك ما ذكره في الذكرى من تعليله عدم ارتفاع الحدث به
بأنه نجس ولا تحصل به الطهارة إلى آخر ما ذكره ، وتوضيحه ان التكاليف الواردة من
الشارع انما جعلت منوطة بالظاهر في نظر المكلف دون الواقع ، والشارع لم يلتفت في
ذلك إلى نفس الأمر ولم يكلف بالنظر اليه ، للزوم تكليف ما لا يطاق ، ولا نقول ان
التكليف انما هو بالنظر إلى الواقع وان سقط الإثم بالمخالفة دفعا للحرج المذكور ،
فلا بد في الصحة من مطابقته كما هو ظاهر الجماعة ، لقولهم (عليهمالسلام): «كل ماء طاهر حتى تعلم انه قذر» . و «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر
...» . فإنه ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة على الحكم على كل ماء وكل شيء بالطهارة
والنظافة إلى وقت العلم بالقذارة ، وبعد العلم بالقذارة يحكم بأنه قذر ، فصفة
النجاسة لا تثبت له شرعا إلا بعد
__________________
العلم ، ويؤيده قوله : «الناس في سعة ما لم يعلموا» . وقوله : «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم» . الى غير ذلك من الأخبار ، وحينئذ فالمكلف إذا توضأ
بهذا الماء الطاهر في اعتقاده وان لاقته نجاسة واقعا ، فطهارته شرعية مجزئة ،
وصلاته بتلك الطهارة شرعية مجزئة إجماعا. فبعد ثبوت النجاسة في ماء وضوئه وانكشاف
الأمر لديه فوجوب قضاء تلك العبادة التي مضت على الصحة من وضوء وصلاة وإعادتها
يحتاج إلى دليل ، وليس فليس. وصدق الفوات على مثل هذه العبادة ـ كما ادعاه في
الذكرى ـ ممنوع ، كيف وقد فعل المأمور به شرعا ، وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء
والصحة كما حقق في محله.
والتحقيق في
هذا المقام ـ وان استدعى مزيد بسط في الكلام ، فإن المسألة مما لم يحم حول حريم
تحقيقها أحد من الأقوام مع كونها كالأصل لابتناء جملة من الأحكام ـ ان يقال :
الخلاف في هذه المسألة مبني على مسألتين أخريين : إحداهما ـ معذورية الجاهل وعدمها
، وثانيتهما ـ ان النجس شرعا هل هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا خاصة أو عما علم
المكلف بملاقاة النجاسة له ، والمشهور بين الأصحاب في المسألة الاولى هو عدم
معذورية الجاهل إلا في مواضع مخصوصة ، والمشهور من الأخبار ـ كما أسلفنا بيانه في
المقدمة المشار إليها آنفا ـ هو المعذورية إلا في مواضع خاصة ، والمستفاد من
كلامهم في المسألة الثانية ان النجس شرعا هو ما لاقته النجاسة وان لم يعلم به
المكلف ، غاية الأمر انه مع عدم العلم ترتفع عنه المؤاخذة ، فعلى هذا لو صلى في
النجاسة أو توضأ بماء متنجس كان كل من صلاته ووضوئه باطلا في الواقع وان ارتفع
الإثم عنه في ظاهر الأمر ، نقل ذلك عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة في
الفصل الثالث في المنافيات
__________________
للصلاة ، حيث قال المصنف : «الأول ـ نواقض الطهارة مطلقا ومبطلاتها
كالطهارة بالماء النجس» قال الشارح : «سواء علم بالنجاسة أم لا حتى لو استمر الجهل
به حتى مات ، فإن الصلاة باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها ، لامتناع تكليف الغافل ،
هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة وكلام الجماعة» انتهى. وحينئذ فيتجه القول
بالبطلان. والمستفاد من الأخبار ان النجس ليس عبارة عما ذكروا بل هو عبارة عما علم
المكلف بملاقاة النجاسة له ، كما ان الطاهر ليس عبارة عما لم تلاقه النجاسة بل عما
لم يعلم ملاقاتها له ، وقد تقدم تحقيق المسألة في المقدمة الحادية عشرة ويزيده هنا ما عرفت من الخبرين المتقدمين الدالين على
ان «كل ماء طاهر ، وكل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر» فإنهما كما
دلا على ان الماء وغيره من الأشياء على أصل الطهارة من حيث عدم العلم بملاقاة
النجاسة له وان حصل ذلك واقعا كذلك دلا على ان النجس الذي هو مقابل له بالمباينة
هو ما علم ملاقاة النجاسة له تحقيقا للمباينة. وبذلك يظهر لك ما في كلامهم (رضوان
الله عليهم) من الغفلة والمسامحة في الأصل المذكور وما يبتني عليه. هذا مقتضى ما
ادى اليه الدليل بالنظر إلى هذا الفكر الكليل والذهن العليل والاحتياط يقتضي
الوقوف على كلام الأصحاب (نور الله مراقدهم).
ولم أر من تنبه
لما ذكرناه واختار ما حققناه سوى العلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري في
رسالته التحفة ، والشيخ جواد الكاظمي في شرح الرسالة الجعفرية ، اما الأول منهما
فإنه صرح بان الطاهر والنجس ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته ، فالطاهر ليس هو
الواقع في نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس ، وليس له واقع سوى حكم
الشارع بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين ، صرح بذلك (قدسسره) في جواب شبهة بعض معاصريه من علماء العراق ممن اعتقد
وجوب عزل السؤر عن الناس بزعم انهم نجسون قطعا أو ظنا. واما الثاني فإنه في الكتاب
__________________
المذكور ـ بعد ان نقل ما قدمنا من عبارة الذكرى ـ قال : «وفيه نظر ، فانا
لا نسلم بقاء حدثه ، قولك : النجس لا تحصل به الطهارة قلنا النجس في نفس الأمر أو
النجس في علم المكلف ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، ويؤيده انا مكلفون مع عدم
العلم بالنجاسة لا مع العلم بعدمها ، لاستلزام ذلك الحرج المنفي بالآي والأخبار ،
وعلى هذا فكون صلاته فاسدة ممنوع ، وصدق الفوات بالنسبة إليه غير ظاهر ، كيف وهو
قد فعل المأمور به شرعا وامتثال الأمر يوجب الاجزاء والصحة ، اما الأول فلأنه
مأمور بالطهارة بماء محكوم بطهارته شرعا اي ما كان طاهرا في الظاهر لا في نفس
الأمر ، لأن الشارع لم يلتفت إلى نفس الأمر لتعذره ، واما الثاني فلما ثبت في
الأصول» انتهى.
وهذه المسألة
من جملة ما أشبعنا الكلام في تحقيقها في كتاب المسائل ، إلا انا بعد لم نقف على
كلام هذين الفاضلين. وبعض المعاصرين استبعد ما ذهبنا اليه لمخالفته ما هو المشهور
، حيث ان طبيعة الناس جبلت على متابعة المشهورات وان أنكروا بظاهرهم تقليد الأموات
، وقد وفق الله سبحانه للوقوف على كلام الفاضلين المذكورين فأثبتناه هنا لا
للاستعانة على قوة ما ذهبنا اليه بل لكسر سورة نزاع من ذكرناه من المعاصرين ، لعدم
قبولهم إلا لكلام المتقدمين.
(المسألة
الثامنة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في بطلان الطهارة بالماء
المغصوب عالما عامدا ، وهو لا اشكال فيه. اما مع الجهل فظاهرهم هنا الاتفاق على
عدم التحريم والابطال ، لعدم توجه النهي اليه. واما نسيان الغصب فهل يكون حكمه حكم
العمد كما ذكروا في ناسي النجاسة. فيتوجه إليه النهي ، لأن النسيان انما عرض له
بقلة التكرار الموجب للتذكار ، أو حكم الجاهل لامتناع تكليف الغافل؟ قولان : اختار
أولهما العلامة في القواعد ، وثانيهما أول الشهيدين في الرسالة ، وثانيهما في
شرحها ، وثاني المحققين في شرح الرسالة المذكورة وفي رسالته الجعفرية ، وشارحاها
في شرحيهما ، وهو الأظهر لما حققناه آنفا.
ثم ان الفرق
بين جاهل الغصب والنجاسة كما ذكروا ـ معللين له بان مانع النجاسة ذاتي فلا يضره
الجهل ، بخلاف الغصب ، فإنه عرضي بسبب النهي عن التصرف في مال الغير ، ومع الجهل
والنسيان لا يتحقق النهي لعدم التكليف ، فينتفي المانع ـ محل نظر يظهر مما حققناه
آنفا. هذا في جاهل الغصب وناسية.
اما جاهل حكم
الغصب وناسية فهو عندهم في حكم العمد ، لوجوب التعلم عليهما وضمهما الجهل إلى
التقصير فلا يعد تقصيرهما عذرا. وأنت خبير بما فيه من الوهن والضعف. لما أشرنا
إليه آنفا من قيام دليلي العقل والنقل على معذورية الجاهل ، أعم من ان يكون جاهلا
بالأصل أو الحكم ، وتقصيره في التعلم غاية ما يوجبه حصول الإثم لإخلاله بذلك على
ما ذكرناه في كتاب الدرر النجفية ، حيث حققنا هناك المقام بمزيد بسط في الكلام لا
يحوم حوله نقض ولا إبرام.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الغصب ـ على ما عرفوه ـ عبارة عن إثبات اليد على حق الغير عدوانا وظلما.
واحترزوا بقيد العدوان عن إثبات الوكيل يده على مال الموكل ، ونحوه المرتهن والولي
والمستأجر والمستعير ، وظاهرهم عدم الاكتفاء بشاهد الحال اعني ظن رضا المالك في
الخروج عن الغصب ، وبذلك ينقدح الاشكال ويقع الداء العضال في مثل هذه المسألة ،
فإنه متى سافر الإنسان من بلد إلى أخرى مسيرة شهر أو أزيد أو انقص ، يجب عليه
حينئذ حمل ماء مملوك معه إلى ان يتمكن من تحصيل ماء مباح أو مأذون أو مشتري ، ولا
يجوز له الأخذ من المياه التي يمر بها في الطرق لدخولها في باب الغصب ، وفيه من
المشقة والحرج والعسر المنفي بالآية والرواية ما لا يخفى ، ولعله لذلك صرح جمع : منهم ـ الشهيدان
بجواز الشرب والوضوء والغسل من نحو القناة المملوكة والدالية والدولاب مطلقا عملا
بشاهد الحال إلا ان يغلب على الظن الكراهة ، ونفى عنه البعد في الكفاية ، وهو جيد
، وحينئذ لا فرق بين كون ذلك الماء مملوكا
__________________
أو مغصوبا ، لان شاهد الحال حاصل على التقديرين على حد ما يأتي بيانه ان
شاء الله تعالى في المكان.
(المسألة
التاسعة) ـ هل يشترط طهارة أعضاء الوضوء أولا من النجاسة لو كان ثمة نجاسة ثم
اجراء ماء الوضوء عليها. أو يكفي ماء واحد لازالة الخبث والحدث؟ قولان : المشهور
الأول ، وسيأتي تحقيق المقام في فصل غسل الجنابة ان شاء الله تعالى.
(المسألة
العاشرة) ـ المشهور بين متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) اشتراط الإباحة في مكان
الطهارة ، فلو توضأ في مكان مغصوب عالما عامدا بطلت طهارته للنهي عن الكون الذي هو
من ضروريات الفعل ، وقطع المحقق في المعتبر بالعدم مع اختياره الاشتراط في الصلاة
، واليه جنح السيد في المدارك ، وتحقيق المسألة حسبما يقتضيه النظر سيأتي ان شاء
الله تعالى في مبحث المكان من كتاب الصلاة.
(المسألة
الحادية عشرة) ـ ظاهر كلام فقهائنا (رضوان الله عليهم) الاتفاق على ان من كان على
أعضاء طهارته جبائر ـ وهي في الأصل تقال للعيدان والخرقة التي تشد على العظام
المكسورة ، والظاهر من كلام الفقهاء إطلاقها على ما يشد على القروح والجروح أيضا ،
لاشتراك الجميع في الحكم الوارد في الروايات التي هي المستند في هذا الباب ـ فإنه
يجب عليه مع الإمكان نزع الجبائر أولا ، أو تكرار الماء عليها على وجه يصل إلى
البشرة ويحصل منه الغسل المعتبر شرعا ، وظاهرهم التخيير في ذلك مع الإمكان بعدم
التضرر بالنزع وعدم التضرر بتطهير ما تحت الجبيرة لو كان نجسا ، ولو تعذر النزع
وأمكن إيصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب أيضا ، وإلا فيجب المسح عليها ، واحتمل
العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا ، وهو بعيد. ولو كانت الجبيرة نجسة ولم
يكن تطهيرها ثم المسح عليها قالوا يضع عليها خرقة طاهرة ثم يمسح عليها ، واحتمل في
الذكرى الاكتفاء بغسل ما حولها. وصرح بعضهم بان القرح والجرح لو كان خاليا من
الجبيرة مسح عليه ان أمكن وإلا وضع عليه شيئا طاهرا ومسح عليه.
هذا إذا كانت الجبيرة في موضع الغسل ، اما إذا كانت في موضع المسح ، فان لم
تستوعب محل المسح بحيث يبقى ما يتأدى به الفرض فلا اشكال ، وان استوعبت فإن أمكن
نزعها والمسح على البشرة مع طهارتها أو أمكن تطهيرها وجب ذلك ، وإلا مسح على
الجبيرة مع طهارتها ، ولا يكفي هنا تكرار الماء عليها بحيث يصل إلى البشرة ، لأن
المسح انما يتحقق بإيصال اليد إلى البشرة فيجب مع الإمكان ولا يكفي إمرار الماء ،
ومع نجاسة الجبيرة يضع عليها خرقة طاهرة ويمسح. هذا ما يستفاد من متفرقات كلماتهم
في بحث الوضوء. ثم انهم في بحث التيمم جعلوا من جملة موجباته الخوف من استعمال
الماء بسبب القروح والجروح من غير تقييد بتعذر وضع شيء عليها والمسح عليه ،
وكلامهم في هذا المقام لا يخلو من إجمال يحصل به الاشكال.
وها نحن نسوق
جملة ما وفقنا الله تعالى للوقوف عليه من الأخبار ، ونتكلم بعدها بما رزقنا سبحانه
فهمه من تلك الآثار ، معتصمين بحبل توفيقه من العثار :
فمن ذلك صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا إبراهيم (عليهالسلام) عن الكسير تكون عليه الجبائر أو تكون به الجراحة كيف
يصنع بالوضوء أو عند غسل الجنابة وعند غسل الجمعة؟ قال يغسل ما وصل اليه الغسل مما
ظهر مما ليس عليه الجبائر ، ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله ، ولا ينزع
الجبائر ولا يعبث بجراحته» ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان مثله
إلا انه أسقط قوله : «أو تكون به الجراحة» .
وروى العياشي
في تفسيره عن علي بن أبي طالب (عليهالسلام) قال : «سألت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ
__________________
صاحبها ، وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال : يجزيه المسح عليها في الجنابة
والوضوء. قلت : فان كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول
الله (صلىاللهعليهوآله): (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)» .
ورواية عبد
الله بن سنان أو صحيحته عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال : يغسل
ما حوله».
وقال في الفقيه
: «وقد روي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : يغسل ما حولها».
وحسنة الحلبي
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) انه «سأل عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك
من موضع الوضوء ، فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ. فقال : ان كان
يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة ، وان كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها
قال : وسألته عن الجرح كيف اصنع به في غسله؟ قال : اغسل ما حوله».
ورواية عبد
الأعلى قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع
بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى : قال الله تعالى : «وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» امسح عليه».
ورواية كليب
الأسدي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
__________________
إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال : ان كان يتخوف على نفسه فليمسح على
جبائره وليصل».
وحسنة الوشاء قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الدواء إذا كان على يدي الرجل أيجزيه ان يمسح على
طلي الدواء؟ قال : نعم يجزيه ان يمسح عليه».
ورواية جعفر بن
إبراهيم الجعفري عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) ذكر له ان رجلا أصابته جنابة على جرح كان به فأمر
بالغسل فاغتسل فكز فمات. فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : قتلوه قتلهم الله. الحديث».
وصحيحة داود بن
سرحان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ فقال
: لا يغتسل ويتيمم».
وحسنة محمد بن
مسكين وغيره عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قيل له : ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه
فمات؟ فقال : قتلوه ، ألا سألوا ألا يمموه ، ان شفاء العي السؤال». وقال في الكافي
عقيب نقل هذه الرواية : «وروى ذلك ذلك في الكسير والمبطون يتيمم ولا يغتسل».
وحسنة ابن أبي
عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات. فقال
: قتلوه ، ألا سألوا فإن دواء العي السؤال».
وصحيحة محمد بن
مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الرجل يكون به القرح والجراحة يجنب. قال : لا بأس
بان لا يغتسل ، يتيمم».
ورواه في
الفقيه
__________________
بلفظ القروح والجراحات .
وموثقة محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) «في الرجل تكون به القروح في جسده فتصيبه الجنابة؟ قال : يتيمم».
وصحيحة ابن أبي
عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ييمم المجدور والكسير إذا أصابتهما الجنابة».
وموثقة عمار قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز ان يجعل عليه علكا؟ قال :
لا ولا يجعل عليه إلا ما يقدر على أخذه عنه عند الوضوء ، ولا يجعل عليه ما لا يصل
اليه الماء».
وموثقته الأخرى
«في الرجل
ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر ان يمسح عليه لحال الجبر إذا جبر ،
كيف يصنع؟ قال : إذا أراد ان يتوضأ فليضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبر في الماء
حتى يصل الماء إلى جلده. وقد أجزأه ذلك من غير ان يحله». ورواه الشيخ في موضع آخر
عن إسحاق بن عمار مثله.
هذا ما وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، والكلام فيها يقع في مواضع :
(الأول) ـ ان
ما دلت عليه حسنة الحلبي ـ من المسح على الخرقة إذا كان يؤذيه الماء ، ورواية عبد
الأعلى من المسح على المرارة لاستلزام رفعها المشقة والحرج ورواية كليب من الأمر
بالمسح على الجبائر مقيدا بالخوف على نفسه ـ هو مستند الأصحاب فيما ذكروه من وجوب
المسح على الجبيرة متى تعذر إيصال الماء إلى ما تحتها ، وإطلاق بعض الأخبار ـ الدالة
على اجزاء المسح على الجبيرة من غير تعرض لتعذر إيصال الماء إلى ما تحتها كرواية
العياشي وحسنة الوشاء ـ مقيد بهذه الأخبار.
__________________
وناقش جملة من
المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك في وجوب المسح على الجبيرة قائلا بأنه لو لا
الإجماع على وجوب مسح الجبيرة لأمكن القول بالاستحباب والاكتفاء بغسل ما حولها ،
واحتج على ذلك بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج.
وأنت خبير بان
المراد من قوله (عليهالسلام) في الصحيحة المشار إليها : «ويدع ما سوى ذلك مما لا
يستطيع غسله». يعني يدع غسل ما لا يستطيع غسله من الجبائر ، كما يدل عليه أيضا
قوله أخيرا : «ولا ينزع الجبائر ولا يعبث بجراحته». وليس فيها نفي أو نهي عن المسح
بل هي مطلقة بالنسبة اليه ، ولا ضرر فيه ، لاستفادة الحكم من تلك الأخبار المذكورة
مؤيدا بدعوى الإجماع في المسألة ، فيكون إطلاق هذه الرواية مقيدا بتلك الروايات
فلا منافاة ، واما ما عدا هذه الرواية مما دل على غسل ما حول الجرح فالظاهر منه ان
الجرح خال من الجبيرة ، كما هو ظاهر الشهيد في الدروس ، فإنه بعد ان ذكر التفصيل
في الجبائر وما في حكمها قال : «والمجروح يغسل ما حوله» وصريحه في الذكرى.
وبالجملة فالرواية التي استند إليها فيما ذكره لا تنهض حجة في ذلك. نعم ربما كان
الظاهر من كلام الصدوق في الفقيه هنا التخيير بين المسح على الجبيرة والاكتفاء
بغسل ما حولها ، حيث قال : «ومن كان به في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة
أو جراحة أو دماميل ولم يؤذه حلها فليحلها وليغسلها ، وان أضربه حلها فليمسح يده
على الجبائر والقروح ولا يحلها ولا يعبث بجراحته ، وقد روى في الجبائر عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) انه قال : يغسل ما حولها». انتهى ، وهذا بعينه ما ذكره
في كتاب فقه الرضا حيث قال (عليهالسلام) : «ان كان بك في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة أو
دماميل ولم تؤذك فحلها واغسلها ، وان اضرك حلها فامسح يدك على الجبائر والقروح ولا
تحلها ولا تعبث بجراحك ،. وقد نروي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : يغسل ما حولها».
__________________
(الثاني) ـ المستفاد
من ظاهر رواية عبد الله بن سنان وحسنة الحلبي ان القروح والجروح الخالية من
الجبيرة إذا تضررت بالغسل يكتفى بغسل ما حولها ، واما ما ذكره الأصحاب (رضوان الله
عليهم) ـ من انه مع تعذر الغسل يمسح عليها ومع تعذر المسح يضع عليها ما يمسح عليه
فوقها ـ فلم أقف له على دليل في الأخبار ، وقد اعترف أيضا بذلك بعض متأخري علمائنا
الأبرار ، وما علل به ـ من ان فيه تحصيلا لشبه الغسل عند تعذر حقيقته إذا كان
الجرح في محل الغسل ، أو انه وسيلة إلى المسح الواجب في موضع المسح ـ فلا محصل له
، مع عدم الدليل الشرعي على ذلك ، وكذلك ما ذكروه من وضع خرقة على الجبيرة لو كانت
نجسة وتعذر غسلها ، فإنه لا اشعار به في تلك الروايات بوجه ، والجبيرة إنما رخص في
المسح عليها عند تعذر إيصال الماء إلى ما تحتها ، لصيرورتها بسبب ضرورة التداوي
بها ولصوقها بالجسد كأنها منه ، وهذا بخلاف وضع الخرقة على هذا الوجه الذي ذكروه ،
ولا بأس بالعمل بما ذهبوا إليه ، إذ لعلهم اطلعوا على ما لم نطلع عليه.
(الثالث) ـ ما
دلت عليه رواية عبد الأعلى من المسح على المرارة التي على ظفره دليل ما ذكره
الأصحاب من المسح على الجبيرة وان كانت في موضع المسح أيضا ، وعليه يدل أيضا إطلاق
رواية كليب الأسدي وظاهر حسنة الحلبي. وهل يجب التخليل مع إمكانه وعدم إمكان النزع
للتوصل إلى إيصال الماء للبشرة هنا ، كما لو كانت الجبيرة في موضع الغسل ، أو
الواجب المسح على الجبيرة خاصة؟ ظاهر الأصحاب الثاني لما قدمنا نقله ، والمفهوم من
كلام شيخنا صاحب رياض المسائل فيه الأول حيث قال : «ويجب التخليل مع إمكانه ولو في
موضع المسح وان حصل الجريان عليه على الظاهر ، اما على تقدير عدم صدق الغسل المنهي
عنه عرفا عليه فظاهر ، واما بتقدير الصدق فلانه ليس باعتقاد انه المفروض دون المسح
بل باعتقاد أنه مقدمة ما أستطيع الإتيان به من المسح المأمور به وهو إيصال الماء
إلى البشرة مع تعذره إلا مع الجريان وعدم المماسة
ولتصريح جمع من الأصحاب ـ كما هو الأقوى ـ بتعين الغسل على الرجلين لو تأدت
التقية به وبالمسح على الخفين ، لكونه أقرب للامتثال ، وتعلقه بأعضاء الطهارة لا
بأمر خارج عنها بل عن المتطهر ، كما يدل عليه فحوى ما رواه ابن بابويه في الفقيه عن عائشة انه (صلىاللهعليهوآله) قال : «أشد الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على
جلد غيره». ولظاهر إطلاق رواية إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) في الرجل ينكسر ساعده. الحديث كما تقدم . انتهى كلامه (قدسسره) وهو قوي وان أمكن المناقشة في بعض ما ذكره.
(الرابع) ـ ان
ما دلت عليه موثقة عمار الاولى في من انقطع ظفره ـ من انه لا يجعل عليه إلا ما
يمكن أخذه عنه عند الوضوء ، ولا يجعل عليه ما لا يصل اليه الماء ـ مما ينافي
بظاهره الأدلة العقلية والنقلية. من وجوب دفع الضرر ، ورفع الحرج ، وسعة الحنيفية
، وخصوص جملة مما تلوناه من اخبار الجبيرة الدالة على جواز استعمالها وانه يمسح
عليها مع تعذر إيصال الماء ، ولا سيما رواية عبد الأعلى الدالة على خصوص الظفر.
ويمكن حملها
على عدم انحصار العلاج بذلك حتى ان بعض محققي متأخري المتأخرين جعل من مستحبات
الوضوء ان لا يضع على أعضاء طهارته عند الحاجة إلى العلاج ما لا يقدر على أخذه عند
الوضوء أو ما لا يصل اليه الماء إلا مع انحصار العلاج فيه ، ثم قال : «وفي حرمته
تأمل ، ينشأ من عموم الرخصة ، ومن خصوص الموثقة المذكورة».
وفيه ما لا
يخفى ، فان العمل بظاهر الرواية المذكورة ممنوع بما ذكرنا لك من الأدلة ، فطرحها
رأسا لما ذكرنا ليس بذلك البعيد ، لا سيما والراوي عمار المتفرد برواية الغرائب ،
كما طعن به عليه المحدث الكاشاني في مواضع من كتاب الوافي.
وحملها الشيخ
في التهذيب على انه لا يجوز ذلك مع الاختيار ، فاما مع الضرورة
__________________
فلا بأس به ، قيل : «وهو مجمل محتمل لأن يراد بالاختيار المقابل بالضرورة
ارتفاع الضرورة والحاجة مطلقا ، وارتفاع الضرورة الخاصة الداعية إلى العلاج الخاص
مما لا يمكن نزعه عند الوضوء وما لا يصل اليه الماء ، وربما كان المتبادر من كلامه
الأول» انتهى
وبالجملة فإن
أمكن حملها على وجه تنتظم به مع تلك الأخبار وإلا فطرحها متعين ، فما وقع فيه بعض
متأخري متأخرينا بسببها من الاشكال ليس بذلك القريب الاحتمال.
(الخامس) ـ ان
ما دلت عليه موثقة عمار المروية في موضع آخر عن إسحاق ابن عمار ـ في من انكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر
ان يمسح على موضع الكسر لمحل الجبر ، من انه يضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبيرة
فيه على وجه يصل إلى البشرة ـ لعله مستند الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما قدمنا
نقله عنهم من انه لو تعذر النزع وأمكن إيصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب مقدما
على المسح على الجبيرة. والشيخ (رضوان الله عليه) حمل الرواية المذكورة على
الاستحباب. قائلا انه مع الإمكان وعدم التضرر يستحب له ذلك. وفيه انه انما صير إلى
المسح لتعذر الغسل فمع إمكانه على الوجه المذكور يكون واجبا لا مستحبا ، وحينئذ
فالخبر محمول على إمكان إيصال الماء وان كان مطلقا في ذلك ، للإجماع ظاهرا ، ولزوم
الحرج والمشقة المنفيين عقلا ونقلا ، والروايات المتقدمة.
(السادس) ـ ظاهر
الروايات الدالة على المسح على الجبيرة استيعاب الجبيرة بالمسح ، وهو ظاهر المشهور
، وجعله الشيخ في المبسوط أحوط ، وحسنه في الذكرى مستشكلا في وجوب الاستيعاب بصدق
المسح عليها بالمسح على جزء منها كصدق المسح على الرجلين والخفين عند الضرورة.
ولقائل أن يقول ان تبعيض المسح في الرجلين انما هو لمكان الباء في المعطوف عليه
وفي الخفين لتبعيته حينئذ لهما. واستدل أيضا في المعتبر على وجوب الاستيعاب بان
المسح بدل من الغسل فكما يجب الاستيعاب في الغسل يجب في بدله. وصريح الأخبار
__________________
المذكورة عدم وجوب اجراء الماء على الجبيرة وان أمكن فلا يجب حينئذ لعدم
ورود الأمر به ، واحتمل العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا. وهو بعيد.
(السابع) ـ ان
ما دل عليه جملة من تلك الأخبار من الأمر بالتيمم لذي القروح والجروح مناف لما دل
عليه الجملة الأخرى من المسح على الجبيرة وغسل ما حول الخالي عنها ، وقد اختلف
كلام الأصحاب في وجه الجمع بينها على وجوه لا يخلو أكثرها من الإيراد والبعد عن
المراد ، والذي يقوى في البال حمل روايات التيمم على التخصيص بالبدلية من الغسل ،
سيما فيما إذا كانت القروح والجروح كثيرة متعددة في البدن ، وقوفا على ظواهر ألفاظها
، فإنها إنما وردت بالنسبة إلى الغسل خاصة ، ووقوع السؤال فيها عن القروح والجروح
بلفظ الجمع ، ومن الغالب لزوم الحميات لذلك ، وبكشف البدن لأجل الغسل ربما أضر به
ملاقاة الهواء لذلك ، كما تدل عليه رواية جعفر بن إبراهيم الجعفري ، فإنها تضمنت
انه بعد الغسل كز فمات ، والكزاز كغراب داء يتولد من شدة البرد. وهو قرينة ما
قلناه من لزوم الحميات للقروح والجروح وتضرر البدن لذلك بكشفه في الهواء ، ومثلها
ظاهر روايتي محمد بن مسكين وابن أبي عمير وظاهر رواية العياشي ، فإنها صرحت أولا
بأنه يجزيه المسح على الجبائر في الوضوء والغسل حيث لا يخاف على نفسه ، ومع الخوف
على نفسه بإفراغ الماء على جسده فإنه ينتقل إلى التيمم ، لان قراءته (صلىاللهعليهوآله) الآية المذكورة يريد المنع من الغسل والانتقال إلى
بدله من التيمم.
وبالجملة
فروايات التيمم مشعرة بكون السبب في العدول اليه هو التضرر بكشف البدن للغسل من
أجل ما فيه من القروح والجروح ، بخلاف روايات المسح على الجبيرة والغسل لما حول
الجرح ، فإنها اما صريحة في الوضوء بخصوصه كحسنة الحلبي ورواية عبد الأعلى وحسنة
الوشاء واما فيه وفي الغسل لكن لا على الوجه الذي أشرنا إليه كصحيحة عبد الرحمن وصدر
رواية العياشي واما عامة لهما كرواية عبد الله بن سنان
ورواية كليب الأسدي ، وحينئذ فالتيمم في هذه المسألة مخصوص بالبدلية عن
الغسل على ذلك الوجه ، والمسح على الجبيرة والغسل لما حول الجرح والقرح مخصوص
بالوضوء والغسل على غير ذلك الوجه وعلى ذلك تنتظم الأخبار على وجه واضح المنار ،
والاحتياط لا يخفى.
(المسألة
الثانية عشرة) ـ قد صرح أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان صاحب السلس ـ وهو
الذي لا يمسك بوله ـ يتوضأ لكل صلاة ويغتفر حدثه بعده ، نظرا إلى أنه بتجدد البول
يصير محدثا فتجب عليه الطهارة ويمنع من المشروط بها إلا ان ذلك لما امتنع اعتباره
مطلقا لتعذره وجب عليه الوضوء لكل صلاة مراعاة لمقتضى الحدث حسب الإمكان.
ونقل عن الشيخ
في المبسوط جواز الجمع بين صلوات كثيرة بوضوء واحد ، محتجا بأنه لا دليل على تجديد
الوضوء وحمله على الاستحاضة قياس لا نقول به. وهذا الكلام محتمل لوجهين : (أحدهما)
ـ عدم جعل البول بالنسبة إليه حدثا وحصر احداثه فيما عداه. و (ثانيهما) ـ عدم جعل
ما يخرج بالتقاطر حدثا واما الذي يخرج بالطريق المعهود فيكون حدثا.
وذهب العلامة
في المنتهى إلى جواز الجمع بين كل من الظهرين والعشاءين بوضوء واحد واختصاص الصبح
بوضوء واحد واما ما عداها فيجب الوضوء لكل صلاة ، واحتج على ذلك بصحيحة حريز عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : «إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم ، إذا
كان حين الصلاة اتخذ كيسا وجعل فيه قطنا ، ثم علقه عليه وادخل ذكره فيه ، ثم صلى :
يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر يؤخر الظهر ويعجل العصر بأذان وإقامتين ، ويؤخر
المغرب ويعجل العشاء بأذان وإقامتين ، ويفعل ذلك في الصبح». واما وجوب الوضوء لكل
صلاة فيما عدا ما ذكر فوجهه ما تقدم من
__________________
دليل القول الأول كما صرح به في المنتهى.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة صحيحة حريز المتقدمة.
وحسنة منصور بن
حازم قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الرجل يعتريه البول ولا يقدر على حبسه؟ قال : فقال
لي : إذا لم يقدر على حبسه فالله اولى بالعذر يجعل خريطة».
ورواية الحلبي
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل عن تقطير البول. قال يجعل خريطة إذا صلى».
وموثقة سماعة قال : «سألته عن رجل أخذه تقطير من فرجه اما دم واما
غيره قال فليصنع خريطة وليتوضأ وليصل ، فان ذلك بلاء ابتلى به فلا يعيدن إلا من
الحدث الذي يتوضأ منه».
وأنت خبير بان
ما عدا صحيحة حريز من الروايات المذكورة لا تعرض فيها للوضوء بكونه لكل صلاة ولا
لكل صلاتين بل هي مطلقة في ذلك ، وقصارى ما تدل عليه جواز الدخول في الصلاة في تلك
الحال مع وجوب التحفظ من النجاسة بحسب الإمكان دفعا للحرج والمشقة المفهومين من
أولوية الله سبحانه بالعذر وانه بلاء ابتلى به ، وان الخريطة بالنسبة إليه كجزء من
بدنه لا ينقض من النجاسة إلا ما خرج منها دون ما بقي فيها ، ومقتضى القاعدة حمل
مطلق الأخبار على مقيدها ، وبه يظهر قوة ما ذهب إليه في المنتهى ورجحه السيد في
المدارك أيضا. واما ما عدا الفرائض اليومية فيشكل الوجه فيه لعدم الدليل الناص على
حكمه. والاحتياط في المقام بوضع الخريطة المحشوة بالقطن والوضوء لكل صلاة في
اليومية وغيرها. وقوله (عليهالسلام) في آخر موثقة سماعة : «فلا يعيدن إلا من الحدث الذي
يتوضأ منه». محتمل للمعنيين المتقدمين في كلام الشيخ
__________________
في المبسوط ، وكيف كان فهي ظاهرة في كون التقطير ليس حدثا بالنسبة إليه.
ثم انهم صرحوا
بأنه متى كان للسلس فترة ينقطع فيها التقطير تسع الطهارة والصلاة وجب انتظارها ،
لزوال الضرورة التي هي مناط التخفيف. ولا ريب في أولويته ورجحانه. وذكر البعض أيضا
وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء ، وهو كذلك.
واما المبطون
وهو من به داء البطن بخروج غائط أو ريح لا يتمكن من حبسه ، فقد ذكر جمع من الأصحاب
(رضوان الله عليهم) أنه يتوضأ لكل صلاة.
والعلامة في
المنتهى مع تصريحه بجمع ذي السلس بين الصلاتين صرح هنا بوجوب الوضوء لكل صلاة ومنع
من الجمع ، معللا بان الغائط حدث فلا يستباح معه الصلاة إلا مع الضرورة وهي متحققة
في الواحدة دون غيرها. ولا يخفى ان ما ذكره جار في السلس أيضا لكن كأنه قال بجواز
الجمع هناك للصحيحة المتقدمة المختصة به.
وصرح الأكثر
بأنه متى تطهر ودخل في الصلاة ثم فاجأه الحدث فيها تطهر وبنى.
وذهب العلامة
في المختلف إلى وجوب استئناف الطهارة والصلاة مع إمكان التحفظ بقدر زمانهما وإلا
بنى بغير طهارة ، لأن الحدث المذكور لو نقض الطهارة لا بطل الصلاة ، لان من شروط
الصلاة استمرار الطهارة ورد بان ما ذكره من التعليل مصادرة على المطلوب. وأجيب
بمنع المصادرة بل هو احتجاج على هذه المقدمة بالإجماع. وفيه ما لا يخفى لمنع الاتفاق
على الشرطية بالمعنى المدعى في موضع النزاع.
وذكر جمع من
المتأخرين في ذلك تفصيلا وهو انه لا يخلو اما ان يكون له فترة تسع الطهارة والصلاة
أم لا ، وعلى الثاني فلا يخلو اما ان يستمر حدثه بحيث لا يتمكن من الدخول في
الصلاة على طهارة أم لا ، فعلى الأول يجب عليه انتظار حصول الفترة ، وعلى الأول من
الثاني يتوضأ لكل صلاة ويغتفر حدثه الواقع بعد الوضوء ولو في أثناء الصلاة دفعا
للحرج ، وعلى الثاني فالمشهور انه متى فاجأه في الصلاة فإنه يتوضأ ويبنى ، وقيل
بالتفصيل الذي تقدم عن المختلف. ومحل الخلاف في المسألة غير منقح في كلامهم.
والذي وقفت
عليه من الأخبار في المسألة موثقة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن المبطون. فقال : يبنى على صلاته».
وموثقته الأخرى
عنه (عليهالسلام) قال : «صاحب البطن يتوضأ ثم يرجع في صلاته فيتم ما بقي».
وصحيحته
المروية في الفقيه عنه (عليهالسلام) قال : «صاحب البطن الغالب يتوضأ ويبنى على صلاته».
وهذه الروايات
ـ كما ترى ـ مطلقة لا دلالة فيها على خصوص فرد من تلك الأفراد المفصلة ، والمفهوم
من كلام بعضهم حملها على ما إذا كان ثمة فترة تسع الصلاة أو بعضها فتوضأ ودخل في
الصلاة ثم فاجأه الحدث ، ومن كلام بعض آخر على ما إذا دخل في الصلاة متطهرا مطلقا
أعم من ان تكون فترة تسع الصلاة كلا أو بعضا أو بمقدار الطهارة خاصة كما هو
المفهوم من التفصيل المتقدم.
والتحقيق في
المقام ان الروايات المذكورة مطلقة إلا انه ان كان الحدث المذكور متكررا بحيث يؤدي
إعادة الوضوء بعد الدخول في الصلاة إلى العسر والحرج ويلزم منه الكثرة الموجبة
لبطلان الصلاة ، فالظاهر وجوب الاستمرار في الصلاة وعدم إيجابه الوضوء عملا باخبار
سهولة الحنيفية وسعة الشريعة ورفع الحرج في الدين ، وإلا فالظاهر دخوله تحت
الأخبار ووجوب الوضوء والبناء. ويحتمل قريبا ان معنى الرواية الاولى والثالثة ان
المبطون يبني على صلاته يعني لا يقطعها بالحدث الواقع في أثنائها ، وقوله في
الأخيرة يتوضأ يعني قبل الدخول في الصلاة. إذ ليس فيها دلالة بل ولا إشارة إلى
دخوله في الصلاة خاليا من الحدث ، بل ربما أشعر قوله في الأخيرة : «صاحب البطن
الغالب ...» باستمرار خروج الحدث ، وحينئذ فتكون الروايتان دليلا لما ذكرناه
__________________
في الشق الأول ، واما الرواية الوسطى فهي صريحة في كون الوضوء في أثناء
الصلاة للفظ الرجوع وإتمام ما بقي فتجعل دليلا لما ذكرناه في الشق الثاني ، قال في
الذكرى : «والظاهر انه لو كان في السلس فترات والبطن تواتر ، أمكن نقل حكم كل
منهما إلى الآخر» انتهى.
ثم لا يخفى ان
الروايات الواردة في السلس تضمنت انه بعد وضع الخريطة يصلي وان كان قد دخل في
الصلاة بطهارة من الحدث والخبث ، فاجأه الحدث في أثنائها أم لا وروايات المبطون
تضمنت اعادة الوضوء والبناء ، ولعل الوجه فيه ما أشرنا إليه آنفا من ان الخريطة
المذكورة تكون كالجزء من بدنه ، والاحتياط في المقام بل وفي كل مقام من أعظم
المهام.
(المسألة
الثالثة عشرة) ـ ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو شك في شيء من أفعال
الوضوء فان كان على حاله اتى به وبما بعده ما لم يجف السابق وإلا أعاد ، وان انتقل
إلى حال اخرى مضى ولم يلتفت.
وتحقيق هذا
القول يقع في موارد : (الأول) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في وجوب الإتيان
بالمشكوك فيه متى كان على حال الوضوء اي مشتغلا بأفعاله وان كان في آخره وقد شك في
شيء من اوله.
لما رواه زرارة
في الصحيح عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «إذا كنت قاعدا على وضوئك ولم تدر أغسلت ذراعيك
أم لا؟ فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما
دمت في حال الوضوء. فإذا قمت من الوضوء وفرغت وقد صرت إلى حال أخرى في صلاة أو غير
صلاة وشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوء فلا شيء عليك ، وان
شككت في مسح رأسك وأصبت في لحيتك بلة فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك ، وان لم تصب
بلة فلا تنقض الوضوء بالشك وامض في صلاتك ، وان تيقنت انك لم تتم
__________________
وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء». وهو ـ كما ترى ـ ظاهر
الدلالة على انه ما لم يفرغ من وضوئه فإنه يتلافى ما شك فيه.
وروى عبد الله
بن أبي يعفور في الموثق عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره
فليس شكك بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه».
وضمير غيره كما
يحتمل رجوعه إلى الوضوء فيكون الحديث المذكور دالا على ما دلت عليه الصحيحة
المذكورة كذلك يحتمل رجوعه إلى شيء ، والظاهر انه الأقرب بحسب السياق ، وفيه
حينئذ دلالة على عدم الرجوع إلى فعل مع الشك فيه بعد الدخول فيما يليه ، ولا نعلم
به قائلا من الأصحاب في هذا المقام ، وعلى ذلك فيكون منافيا للصحيحة المتقدمة.
وأظهر منه في المنافاة بذلك قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس شيء». وقوله
(عليهالسلام) في موثقة محمد بن مسلم : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو». وقوله في
رواية أبي بصير : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض
عليه». لصدق الشيئية على كل فعل من أفعال الوضوء وصدق الغيرية على كل منها بالنسبة
إلى ما سواه ، وقصر معنى الشيء في جميع هذه الأخبار على الوضوء مما لا يرام تجشمه
، وبذلك يظهر المنافاة بين جملة هذه الأخبار وبين الصحيحة المتقدمة.
وربما يجاب
بقصر الأخبار الثلاثة الأخيرة على موردها وهو الصلاة كما تضمنه صدر كل منها من
تعداد السؤال عن جملة من أفعال الصلاة ، أو عمومها وتخصيصها بالصحيحة المتقدمة ،
ولعله أظهر لاستنادهم إلى العمل بالكلية المنصوصة فيها في مواضع عديدة غير الصلاة
، واما موثقة ابن أبي يعفور فيتعين حملها على المعنى الأول ،
__________________
ولا مندوحة عن ارتكاب التأويل في الروايات المذكورة وحمل الموثقة على ما
ذكرنا لإطباق الأصحاب على ان محل الرجوع مدة كونه على وضوئه كما هو مقتضى الصحيحة
المذكورة.
(الثاني) ـ هل
الحال الذي يتلافى المشكوك فيها عبارة عن حالة الاشتغال بالوضوء فلو فرغ منه وان
بقي في محله لا يلتفت حينئذ وان التقييد بالقيام والصيرورة إلى حال اخرى ـ كما
اشتملت عليه صحيحة زرارة المتقدمة ـ إنما خرج مخرج الغالب من ان المتوضئ إذا فرغ من
وضوئه فالغالب انه يقوم من محله أو يتشاغل بحالة أخرى ، أو انه عبارة عن البقاء في
موضع وضوئه إلى ان يقوم أو يتشاغل بأمر آخر ما لم يطل القعود حملا لتلك الألفاظ
المذكورة على ظاهرها؟ قولان : ظاهر الذكرى والدروس الثاني ، وبالأول صرح جمع من
المتأخرين : منهم ـ ثاني المحققين وثاني الشهيدين في شرح القواعد والروض وشرح
الرسالة والسيد السند في المدارك ، بل الظاهر انه المشهور في كلام المتأخرين ،
واستظهره في كتاب رياض المسائل وحمل الصحيحة المتقدمة وما أشبهها من عبائر متقدمي
الأصحاب على الخروج مخرج الغالب. وظاهر المولى الأردبيلي (قدسسره) في شرح الإرشاد التوقف في ذلك بعد نسبته ذلك إلى ظاهر
الأصحاب ، حيث قال بعد كلام في المسألة : «ولكن هنا خفاء في ان المراد بعدم
الالتفات بعد الانصراف ما هو؟ ظاهر الأصحاب ان مجرد الفراغ يوجب ذلك ، وفي بعض
الأخبار قيد بقوله : إذا فرغ وانتقل ودخل في شيء آخر مثل الصلاة وغيره ، فهو محل
تأمل وان كان ظاهر بعض الأدلة ما ذكره الأصحاب» انتهى. ولعله أشار بظاهر بعض
الأدلة الدال على ما ذكره الأصحاب إلى حسنة بكير قال : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال هو حين
يتوضأ اذكر منه حين يشك». فإنها صريحة في عدم الالتفات إلى الشك بعد إكمال الوضوء
وان لم يحصل الانتقال إلى حالة اخرى ، وموثقة ابن أبي يعفور المتقدمة حيث قال
__________________
في آخرها : «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه». يعني إنما الشك الموجب
للعمل بمقتضاه من الانيان بالمشكوك فيه إذا كنت في شيء لم تخرج عنه ولم تجزه ،
وحينئذ فالمراد بقوله في صدرها : «وقد دخلت في غيره» كناية عن مجرد الفراغ ،
والترجيح في المقام لا يخلو عن اشكال وان كان القول المشهور لا يخلو من قوة.
لكن يبقى في
المقام إشكال أشار إليه السيد السند في المدارك فيما إذا تعلق الشك بالعضو الأخير
، لعدم تحقق الإكمال الموجب لإلغاء الشك. وربما يدفع بان الظاهر تحقق الإكمال
والفراغ بمجرد ان يجد نفسه غير مشتغل بأفعال الوضوء بعد تيقن التلبس به فحينئذ لو
طرأ الشك لم يعتد به.
وكيف كان فالأحوط
بناء على هذا القول التدارك ما لم يحصل القيام أو ما في حكمه ، وبعض الأصحاب صار
إلى القول الأول احتياطا ، ولا ريب انه أحوط.
(الثالث) ـ قد
عرفت مما أشرنا إليه آنفا اشتراط الأصحاب في الاكتفاء بالإتيان بالمشكوك وما بعده
عدم جفاف ما تقدم ، وإلا فالواجب عندهم الإعادة تحصيلا للموالاة الواجبة. وأنت
خبير بان الظاهر من الرواية المتقدمة التي هي مستند هذا الحكم الإعادة على العضو المشكوك
مطلقا بدون تقييد بعدم الجفاف. وما تقدم من الروايات الدالة على تفسير الموالاة
بمراعاة الجفاف لا عموم فيه على وجه يشمل ما نحن فيه حتى يخصص به هذا الإطلاق ، إذ
ليس إلا صحيحة معاوية بن عمار وموثقة أبي بصير كما حققناه سابقا وموردهما خاص بنفاد الماء وعروض الحاجة ، ولعله إلى هذا
يشير كلام المحدث الحر (قدسسره) في كتاب الوسائل حيث قال : «باب ان من شك في شيء من
أفعال الوضوء قبل الانصراف وجب ان يأتي بما شك فيه وبما بعده ، ومن شك بعد
الانصراف لم يجب عليه شيء ...» فإنه ظاهر في مراعاة الترتيب بالإتيان بما شك فيه
وما بعده أعم من ان يجف ما قبله أم لا ، مع تخصيصه في كتاب البداية فيما تقدم
__________________
الابطال بالجفاف بالتراخي والتفريق كما أوضحناه هناك ، والحق ان الكلام
معهم (رضوان الله عليهم) يرجع إلى أصل المسألة. فإنهم حيث ذهبوا في تفسير الموالاة
التي هي أحد واجبات الوضوء عندهم إلى مراعاة الجفاف مطلقا أو في صورة خاصة ، بناء
على الخلاف المتقدم ، اتجه لهم تمشية ذلك في جملة فروع المسألة ، واما على ما
حققناه آنفا من التخصيص فلا ، فالكلام هنا يتفرع على ذلك. وكيف كان فالأحوط هو
الوقوف على ما قرروه شكر الله تعالى اجتهادهم وأجزل اسعادهم.
(الرابع) ـ صرح
جمع : منهم ـ الشهيد في الذكرى بأنه لو كثر شكه فالأقرب إلحاقه بحكم كثير الشك في
الصلاة دفعا للعسر والحرج ، وأيده السيد السند في المدارك بقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة وأبي بصير الواردة في من كثر شكه في الصلاة بعد ان أمر بالمضي في
الشك : «لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطيعوه ، فان الشيطان خبيث معتاد
لما عود». قال : «فان ذلك بمنزلة التعليل لوجوب المضي في الصلاة فيتعدى إلى غير
المسؤول عنه» انتهى.
أقول : ويؤيده
أيضا ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له رجل مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل
عاقل؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : واي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له وكيف يطيع
الشيطان؟ فقال : سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو ، فإنه يقول لك من عمل الشيطان».
فان الظاهر ان ابتلاءه بذلك باعتبار كثرة الشك في أفعالهما. واما حمله على ما يشمل
الوسواس في النية ـ كما ذكره الشارح المازندراني في شرح أصول الكافي ـ فظني انه
بعيد غاية البعد ، لأن النية في الصدر السابق ليست على ما يتراءى الآن من صعوبة
الإتيان بها ولهذا لم يجر لها ذكر في كلام السلف ولا في الأخبار كما أوضحناه سابقا
على وجه واضح
__________________
المنار ساطع الأنوار ، والوسواس فيها انما حدث بما أحدثه متأخر وأصحابنا (رضوان
الله عليهم) من البحث فيها وفي قيودها والمقارنة بها ونحو ذلك.
(الخامس) ـ الظاهر
ـ كما صرح به بعض محققي المتأخرين ـ ان عدم الالتفات إلى ما شك فيه وتركه رخصة لا
انه يحرم فعله ، وكذا في صورة تيقن الطهارة والشك في الحدث ، لعموم الاحتياط
الموجب المشي على الصراط الذي هو عبارة عن الإتيان بما يتيقن به الخروج عن العهدة
على جميع الاحتمالات. ويحتمل الثاني لعموم قوله (عليهالسلام) في موثقة بكير : «إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ ، وإياك ان تحدث وضوء
ابدا حتى تستيقن انك قد أحدثت». والظاهر حمل الخبر المذكور على المنع عن احداث
الوضوء على سبيل الوجوب والحتم ، لعدم العمل به على ظاهره إجماعا نصا وفتوى.
(المسألة
الرابعة عشرة) ـ لو شك في الطهارة مع تيقن الحدث أو تيقنها مع الشك فيه ، بنى على
يقينه في الموضعين إجماعا نصا وفتوى.
ومن الأخبار
الواردة في ذلك موثقة بكير المتقدمة ، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) في حديث قال فيه : «قلت : فان حرك إلى جنبه شيء ولم
يعلم به؟
قال : لا حتى
يستيقن انه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا
ينقض اليقين ابدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر».
إذا عرفت ذلك
ففي المقام فوائد ثلاث : (الاولى) ـ المفهوم من كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم)
استثناء صورة واحدة من هذه القاعدة ، وهو ما إذا بال ولم يستبرئ ثم خرج بلل مشتبه
، فإنهم صرحوا بوجوب الوضوء في الصورة المذكورة بلا خلاف ، بل عن ابن إدريس دعوى
الإجماع عليه ، ويدل عليه مفهوم قول الصادق (عليهالسلام)
__________________
في صحيحة ابن البختري : «ينتره ثلاثا ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبال». وقول
الباقر (عليهالسلام) في حسنة محمد بن مسلم : «يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فان
خرج بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من الحبائل». وصريح صحيحة محمد بن مسلم عن
الباقر (عليهالسلام) الواردة في غسل الجنابة حيث قال فيها : «وان كان بال ثم
اغتسل ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء». ومضمرة سماعة : «وان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ
ويستنجى». وهاتان الروايتان وان أطلقتا الوضوء بخروج البلل وان كان مع الاستبراء
إلا أنهما مقيدتان بالأخبار المتقدمة مضافة إلى الإجماع على عدم الوضوء مع
الاستبراء ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا الأوحد في كتاب رياض المسائل ، حيث
قال بعد نفل الاحتجاج على الحكم المذكور بمفهوم الروايتين المتقدمتين : «وهو ان لم
يكن إجماعا محل تأمل» انتهى.
(الثانية) ـ قد
أورد في المقام اشكال ، وهو ان الشك المتعلق بأحد النقيضين متى كان عبارة عن تساوي
اعتقادي الوجود والعدم نافى اليقين المتعلق بالنقيض الآخر البتة ، لاقتضاء اليقين
بوجود أحد النقيضين نفي النقيض الآخر ، فكيف يمكن اجتماع الشك في الحدث مع تيقن
الطهارة وبالعكس؟
وأجاب شيخنا
الشهيد في الذكرى بان قولنا : اليقين لا يرفعه الشك لا نعني به اجتماع اليقين
والشك في الزمان الواحد لامتناع ذلك ، ضرورة ان الشك في أحد النقيضين يرفع يقين
الآخر ، بل المعنى به ان اليقين الذي كان في الزمن الأول لا يخرج عن حكمه
__________________
بالشك في الزمن الثاني لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظن والشك
في الزمن الواحد فيرجح الظن عليه كما هو مطرد في العبارات. انتهى ، وحاصل كلامه (قدسسره) تغاير زماني الشك واليقين ، كأن يتيقن في الماضي كونه
متطهرا ثم يشك في المستقبل في كونه محدثا ، فهذا الشك لا يرفع حكم اليقين السابق
بل يستصحب ذلك الحكم السابق ويظن بقاءه إلى ان يتحقق الناقل.
وهو جيد إلا ان
قوله : فيؤول إلى اجتماع الظن والشك. إلخ» محل بحث ، إذ عند ملاحظة ذلك الاستصحاب
ينقلب أحد طرفي الشك ظنا والطرف الآخر وهما ، فلم يجتمع الظن والشك في الزمان
الواحد ، كيف والشك في أحد النقيضين يرفع ظن الآخر كما يرفع يقينه ، كذا أورده بعض
محققي المتأخرين عليه.
وأجيب بأن
المراد بالشك في هذا المقام ما قابل اليقين ، كما تفهمه جملة الاستدراك في قوله في
صحيحة زرارة المتقدمة : «ولكن ينقضه بيقين آخر» بل هذا المعنى هو الموافق لنص أهل
اللغة ، واما إطلاقه على تساوي الاعتقادين فهو اصطلاح بعض أهل المعقول وحينئذ
فالشك بالمعنى المذكور ـ وهو مطلق التجويز لكل من طرفي النسبة ـ لا انقلاب فيه عند
ملاحظة ذلك الاستصحاب ولا يرفع يقينه ، ألا ترى انه قال : «فيؤول إلى اجتماع الظن
والشك» أي إلى اجتماع ظن طرفي النسبة وتجويز مخالفه ، ولم يعبر بلفظ الانقلاب
المؤدي إلى الانقلاب كما وقع في كلام المعترض. وهو جيد متين إلا ان فيه مناقشة من
جهة أخرى سيأتي بيانها ان شاء الله تعالى.
وأجاب السيد
السند في المدارك بحمل الحدث هنا على ما تترتب عليه الطهارة أعني نفس السبب لا
الأثر الحاصل من ذلك ، قال : «وتيقن حصوله بهذا المعنى لا ينافي الشك في وقوع
الطهارة بعده وان اتحد وقتهما» انتهى. وأنت خبير بان مجرد الحمل على نفس السبب لا
يحسم مادة الإشكال ما لم يعتبر تعدد زماني الشك واليقين أو تعدد زمان متعلقيهما.
والأظهر في وجه
الجواب ان يقال بجواز التزام اجتماع الشك واليقين في زمان واحد مع تعدد زمان
متعلقيهما ، كأن يتيقن الآن حصول الحدث في زمان ماض أعم من ان يراد بالحدث نفس
السبب أو الأثر المترتب عليه ثم يشك أيضا في ذلك الآن في وقوع طهارة سابقة متأخرة
عن ذلك الحدث ، سواء أريد بالطهارة نفس الوضوء أو أثره المترتب عليه ، ولا شك ان
اجتماع اليقين والشك هنا في زمن واحد مما لا شك فيه ولا خلل يعتريه ، لعدم تناقض
متعلقيهما لاختلاف زمانيهما كمن تيقن عند الظهر وقوع التطهر صبحا وهو شاك في
انقطاعه ، وحينئذ لا يحتاج إلى تكلف التخصيص بالسبب مع ما عرفت فيه. ولا حمل
اليقين على الظن.
(الثالثة) ـ هل
الظن المقابل لليقين حكمه حكم الشك في وجوب إطراحه بمعارضة اليقين أم لا؟ المشهور
ذلك. وظاهر شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين المخالفة في ذلك ، حيث قال ـ بعد
ان صرح أولا بان ما ذكروه من ان اليقين لا يرتفع بالشك يرجع إلى استصحاب الحال إلى
ان يعلم الزوال ، فان العاقل إذا التفت إلى ما حصل بيقين ولم يعلم ولم يظن طرو ما
بزيله حصل له الظن ببقائه ـ ما صورته : «ثم لا يخفى ان الظن الحاصل بالاستصحاب في
من تيقن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدة شيئا
فشيئا بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان بل ربما يصير الطرف الراجح مرجوحا ، كما
إذا توضأ عند الصبح ـ مثلا ـ وذهل عن التحفظ ثم شك عند الغروب في صدور الحدث منه
ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت ، والحاصل ان المدار على الظن
، فما دام باقيا فالعمل عليه وان ضعف» ثم نقل عن العلامة في المنتهى ان من ظن
الحدث وتيقن الطهارة لا يلتفت ، لان الظن انما يعتبر مع اعتبار الشارع له ، ولأن
في ذلك رجوعا عن المتيقن إلى المظنون ، وقال بعده : «انتهى وفيه نظر لا يخفى على
المتأمل فيما تلوناه» هذا كلامه (قدسسره).
وبعض محققي
متأخري المتأخرين بعد ان جزم بموافقة المشهور في صورة الشك
في الحدث مع يقين الطهارة لدلالة ما قدمنا من الأخبار على ذلك استشكل في
صورة العكس لعدم الدليل ، قائلا في توجيه الإشكال : «لأن صحيحة زرارة المتقدمة كما
يمكن ان يستدل بها على عدم اعتبار الظن نظرا الى مفهوم «ولكن ينقضه بيقين آخر»
كذلك يمكن ان يستدل بها على اعتباره بمفهوم «لا ينقض اليقين بالشك» مع ان الأصل
براءة الذمة» انتهى.
أقول : وفيه ان
ظاهر قضية الاستدراك يوجب عدم اعتبار الظن بل مساوقته للشك ثم ، وهو المفهوم من
جملة الأخبار الواردة في عدم معارضة الشك باليقين ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره الى قوله : فان
ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت؟ قال : تغسله
ولا تعيد الصلاة. قلت ولم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس
ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». ومن المعلوم ان المراد بالشك هنا ما يشمل
الظن ، ومثله في الأخبار غير عزيز يقف عليه المتتبع.
ثم أقول : أنت
خبير بأن الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) لما بنوا الأحكام الشرعية على ما في
الواقع ونفس الأمر وحملوا العلم واليقين في الأخبار المتعلقة بتلك الأحكام على ما
هو المطابق للواقع ، أشكل عليهم المخرج في موارد كثيرة تقف عليها في أثناء مباحث
هذا الكتاب ان شاء الله تعالى ، وأنت إذا تأملت بعين التحقيق والإنصاف علمت ان
الله سبحانه لم يجعل شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس الأمر دفعا للحرج
ولزوم تكليف ما لا يطاق ، فان يقين الطهارة من النجاسة الذي أوجب الشارع البناء
عليه ودفع الشك به في لباس المصلي وبدنه وماء طهارته ونحوها
__________________
ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة لا العلم بالعدم ، فكذلك أيضا
يقين الطهارة للصلاة من وضوء وغسل وتيمم ليس إلا عبارة عن فعلها مع عدم العلم
بناقض لها لا مع العلم بالعدم ، وحينئذ فالمراد بهذا اليقين المذكور في الأخبار ما
هو أعم من اليقين الواقعي أعني العلم بالعدم والظن باصطلاحهم ، وليس له فرد يقابله
إلا الشك خاصة الذي هو عبارة عن تجويز المخالفة واحتمالها ، والحمل على الشك الذي
هو عبارة عن المعنى المشهور بينهم اصطلاح متأخر مخالف لكلام أهل اللغة ، حيث نص في
القاموس والصحاح على ان الشك خلاف اليقين ، مع انهم قد قرروا في غير موضع وجوب حمل
الألفاظ الواردة في كلام حافظ الشريعة مع عدم الحقيقة الشرعية أو العرفية الخاصة
على المعنى اللغوي ، وحينئذ فالشك في الحدث مع تيقن الطهارة ـ مثلا ـ ليس إلا
عبارة عن تيقن فعل الطهارة مع عدم العلم بالناقض لها ثم يحصل له بسبب عروض بعض
الأشياء شك في انتقاض طهارته يعني احتمال وتجويز انتقاضها ، أعم من ان يكون ذلك
الاحتمال والتجويز قويا كما ربما عبر عنه في الأخبار بالظن أو ضعيفا يعبر عنه
بالوهم أو الشك ، واما لو توضأ صبحا ثم انه شك في آخر النهار بسبب طول المدة في
انه هل أحدث أم لا وان كان من عادته في سائر الأيام الحدث في أثناء النهار وعدم
الوضوء فهذا لا يخرج عما ذكرنا أيضا ، فالعمل على هذا الشك خيال نفساني بل وسواس
شيطاني وان قوى حتى يبلغ مرتبة الظن ، بل هذا بمقتضى ما ذكرنا من الأخبار متطهر
يقينا يعمل على يقين طهارته وبذلك يظهر لك ما في كلام هؤلاء الفضلاء (نور الله
تعالى تربتهم وأعلى رتبتهم) ولا سيما كلام شيخنا البهائي. هذا هو التحقيق في
المقام والله سبحانه الهادي إلى سواء الطريق في جملة الأحكام.
(المسألة
الخامسة عشرة) ـ لو تيقن الطهارة والحدث معا وشك في المتأخر فقد أطلق الأكثر سيما
المتقدمين وجوب الوضوء ، لعموم الأوامر الدالة على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة
من الكتاب والسنة ، خرج منه متيقن الطهارة ، ويدل عليه
خصوص ما ذكره في كتاب فقه الرضا قال (عليهالسلام): «وان كنت على يقين من الوضوء والحدث ولا تدري أيهما
سبق فتوضأ». وبهذه العبارة صرح في الفقيه من غير اسناد إلى امام كما هي عادته
غالبا من كون ما ينقله فيه عاريا عن النسبة مأخوذا من هذا الكتاب كما أشرنا إليه
آنفا ، ولانه من المعلوم المقطوع إيجاب الشارع الدخول في الصلاة بطهارة يقينية
والمنع من الدخول بالحدث ، وهذان اليقينان هنا قد تصادما ، ولم يعلم من الشارع
ترجيح لأحدهما ، فالعمل على أحدهما ترجيح من غير مرجح ، فيجب إلغاؤهما معا والرجوع
إلى حكم الأصل من البقاء على الحدث الذي لا ينفك الإنسان عنه في سائر أحواله. ومع
المناقشة فيما ذكرنا لا أقل ان يكون ذلك من قبيل الشبهات المأمور فيها بالاحتياط
كما استفاض عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) ولا ريب ان الاحتياط في الطهارة (لا
يقال) : ان الاحتياط ليس بدليل شرعي كما يتداوله جملة من المتأخرين ومتأخريهم (لأنا
نقول) : قد قدمنا لك في المقدمة الرابعة ما يدل على كونه في مثل هذا المقام دليلا
شرعيا.
وفي المسألة
قولان آخران : (أحدهما) ـ لثاني المحققين صريحا وأولهما ظاهرا ، وهو انه ينظر إلى
حاله قبل الطهارة والحدث المفروضين فان جهلها تطهر وان علمها أخذ بضد ما علمه ،
واحتج عليه في المعتبر بأنه ان كان سابقا محدثا فقد تيقن رفع ذلك الحدث بالطهارة
المتيقنة مع الحدث الآخر ، لأنها ان كانت بعد الحدثين أو بينهما فقد ارتفعت
الأحداث السابقة بها ، وانتقاضها بالحدث الآخر غير معلوم للشك في تأخره ، فيكون
متيقنا للطهارة شاكا في الحدث ، وان كان متطهرا فقد تيقن انه نقض تلك الطهارة
بالحدث المتيقن مع الطهارة ، ورفعه بالطهارة الأخرى غير معلوم لجواز تقدمها عليه
تجديدا للطهارة السابقة أو مع الذهول عنها ، فيكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة.
وضعفه ظاهر ، لأن الأحداث السابقة في الصورة الاولى وان ارتفعت بالطهارة المجامعة
__________________
للحدث الأخير ، وكذلك الطهارة السابقة في الصورة الثانية وان ارتفعت بالحدث
المجامع لتلك الطهارة الأخيرة ، لكن يبقى الشك في رفع ذلك الحدث الأخير بالطهارة
المجامعة له ونقضها له من حيث الشك في تقدم أيهما على الآخر ، وغاية ما يفيده
كلامه رفع الحالة السابقة من طهارة أو حدث واما محل الاشكال فهو باق على الاشتباه
والاحتمال.
و (ثانيهما) ـ ما
نقل عن المختلف ، حيث قال ـ بعد ان نقل عن الأصحاب إطلاق القول بإعادة الطهارة في
المسألة ـ ما صورته : «ونحن فصلنا ذلك في أكثر كتبنا وقلنا ان كان في الزمن السابق
على زمان تصادم الاحتمالين محدثا وجب عليه الطهارة ، وان كان متطهرا لم يجب ،
ومثاله انه إذا تيقن عند الزوال انه نقض طهارة وتوضأ عن حدث وشك في السابق فإنه
يستصحب الحال السابق على الزوال ، فان كان في تلك الحال متطهرا فهو على طهارته ،
لانه تيقن انه نقض تلك الطهارة وتوضأ ولا يمكن ان يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك
الطهارة ، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك ، وان كان قبل
الزوال محدثا فهو الآن محدث ، لانه تيقن انه انتقل عنه إلى طهارة ثم نقضها
والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها» انتهى. وفيه ان ما ذكره يشعر بان طهارته لا تقع
إلا رافعة وحدثه لا يكون إلا ناقضا ، والظاهر ان هذا بعينه ما ذكره في القواعد من
قوله : «ولو تيقنهما متحدين متعاقبين وشك في المتأخر فان لم يعلم حاله قبل زمانهما
تطهر وإلا استصحب» ومراده بالاتحاد تساوي اعداد الطهارات والأحداث وبالتعاقب وقوع
الطهارة بعد الحدث وبالعكس ، ومثله في التذكرة أيضا ، وبذلك تخرج المسألة عن باب
الشك إلا ان يحمل على انه باعتبار أول الأمر وفي عبارته في المختلف مناقشات رأينا
الإغماض عن التطويل بالتعرض لها أولى.
(المسألة
السادسة عشرة) ـ من تيقن بعد الصلاة بطهارتين ترك عضو من إحداهما أو وقوع حدث بعد
إحداهما ففيه صور :
(الاولى) ـ من
توضأ ثم أحدث وضوء آخر ثم صلى ثم ذكر الإخلال بعضو
من احدى الطهارتين ، فهذان الوضوء ان اما ان يكونا معا واجبين أو مندوبين
أو الأول واجبا والثاني مندوبا أو بالعكس ، وعلى التقادير الأربعة اما ان تعتبر
القربة خاصة أو يضم إليها الوجه فقط أو يضم إلى ذلك أحد الأمرين من الرفع
والاستباحة ، وحيث انه لا دليل عندنا على زيادة شيء وراء القربة فالصلاة المذكورة
صحيحة ، لأن الإخلال ان كان من الأولى فالثانية صحيحة عندنا ، وان كان من الثانية
فالأولى صحيحة اتفاقا ، فلا حاجة إلى إعادتها ولا إعادة الطهارة ، واما على تقدير
ضم شيء آخر إلى القربة ففيه تفاصيل يلزم في بعضها اعادة كل من الوضوء والصلاة ،
ولا ثمرة مهمة عندنا في تطويل الكلام بالبحث عن تلك الشقوق ، مع ضرورة صرف الوقت
فيما هو أهم من ذلك ، ومن أحب الوقوف عليها فليرجع إلى مطولات أصحابنا (شكر الله
تعالى سعيهم) وأيضا فإنا قررنا في هذا الكتاب ان لا نطول البحث إلا في موضع أغفلوا
تحقيقه ، الا ان الشهيد في البيان نقل عن السيد جمال الدين ابن طاوس (قدسسره) عدم الالتفات إلى هذا الشك مطلقا لاندراجه تحت الشك في
الوضوء بعد الفراغ ، واستوجهه أيضا ، وقواه العلامة في المنتهى ، قال في المدارك
بعد نقل ذلك تبعا لما لخصه في الذكرى : «ويمكن الفرق بين الصورتين بان اليقين هنا
حاصل بالترك وانما حصل الشك في موضعه بخلاف الشك بعد الفراغ ، فإنه لا يقين فيه
بوجه ، والمتبادر من الأخبار المتضمنة لعدم الالتفات إلى الشك في الوضوء بعد
الفراغ الوضوء المتحد الذي حصل الشك فيه بعد الفراغ منه» انتهى. وفيه ان يقين حصول
الترك انما حصل بالنظر إلى الوضوءين معا اما بالنظر إلى كل واحد على حدة فإنه غير
متيقن الترك بل مشكوكة ، لأصالة الصحة واحتمال كون الترك من الآخر ، نظير ما قرره (قدسسره) في مسألة الإناءين المتيقن وقوع النجاسة في أحدهما من
ان كل واحد متيقن الطهارة مشكوك النجاسة.
(الصورة
الثانية) ـ وهي الأولى بعينها ولكنه صلى بالوضوء الأول فرضا وبالثاني فرضا آخر من
غير تخلل حدث ، وقد صرح الشيخ في المبسوط بوجوب إعادة
الصلاة المتوسطة بين الطهارتين لاحتمال ان يكون الخلل واقعا من الطهارة
الاولى ، واما الفريضة الأخيرة فصحيحة. وهذا واضح مع الحكم بصحة الوضوء الثاني كما
اخترناه ، فإن الأخيرة حينئذ واقعة بوضوء صحيح اما الأول أو الثاني ، واما على
تقدير العدم فيعيدهما معا ، وبه صرح ابن إدريس بناء على ان الوضوء الثاني عندهم لم
يحصل به رفع ولا استباحة ، واختاره في المختلف لاشتراطه ذلك في النية أيضا. ويأتي
على ما ذهب اليه جمال الدين والعلامة في المنتهى واختاره بعض محققي متأخري
المتأخرين أيضا عدم إعادة شيء من الصلاتين. ثم انه يأتي على القول الأول والثالث
عدم اعادة الوضوء لحصول طهارة صحيحة عنده على الأول وصحتهما لعدم تأثير الشك في شيء
منهما على الثالث ، وعلى الثاني تجب الإعادة لعدم صحة شيء منهما ، اما الأولى
فباعتبار احتمال ترك العضو منها ، والثانية غير رافعة ولا مبيحة.
واستشكل بعض
مشايخنا المحققين في وجوب إعادة الصلاة المتخللة كما هو قول المبسوط أو كلتا
الصلاتين كما هو القول الآخر ، قائلا بأنه انما تجب إعادة الصلاة بعد الفراغ منها
على تقدير تعين فسادها ، وهو انما يحصل على تقدير حصول كل احتمال ممكن الوقوع ،
وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن أحد الاحتمالين الممكنين هنا كون الإخلال من الثانية
فتصح الصلاتان على القولين ، فوجوب إعادتهما يستلزم نقض اليقين بالشك المنهي عنه
عموما ، والخروج عن القاعدة المجمع عليها المندرج ما نحن فيه تحتها عموما من ان
الشك بعد الفراغ لا يلتفت اليه ، وليس عدم تعين الصحة كافيا في الوجوب ، وادعاء ان
الشك في الصحة كالشك في أصل الإيقاع ـ والأصل بقاء شغل الذمة بها حتى يعلم المزيل
ـ دعوى عارية عن الدليل ، وان تمت فإنما تتم مع بقاء الوقت ، لان الشك في الإيقاع
بعد الفوت لا يوجب القضاء ، لعدم كون وجوب الأداء كافيا في سببية وجوبه إذ هو بأمر
جديد ، والأمر الجديد ب «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته»
__________________
لا يتناوله ، لعدم حصول ما علق عليه ، ولقول الصادق (عليهالسلام) في حسنة زرارة والفضيل : «ومتى استيقنت أو شككت في وقت فريضة انك لم تصلها أو
في وقت فوتها انك لم تصلها صليتها ، وان شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل
فلا اعادة عليك من شك حتى تستيقن ...». وليس فساد احدى الطهارتين بمقتض ليقين فساد
احدى الصلاتين ، لجواز كون الفاسدة واقعا هي الثانية وفسادها لا يقتضي فساد
إحداهما بل يقتضي صحتهما ، فظهر ان وجوب إعادة الطهارة ـ لما يستقبل من الصلاة على
تقدير القول به كما هو مقتضى كلام الفاضلين ـ لا يقتضي وجوب إعادة شيء من
الصلاتين ، لان وجه وجوب إعادتهما عند يقين حدث سابق على الطهارتين الاندراج في
حكم الشك في الطهارتين مع يقين الحدث ، باعتبار ان الشك في حصول الطهارة المبيحة
أو الرافعة شك في أصلها وهو لا يعارض يقين الحدث ، وذلك لا يوجب إعادة الصلاة ،
لأن الشك في الطهارة مع يقين الحدث انما يبطل من الصلوات ما وقع بعده بلا طهارة لا
ما سبقه لمضيه على الصحة. ولم أقف لأحد من أصحابنا في هذا المقام على إيماء لما
أشرنا اليه إلا ان الأدلة تدل عليه ، انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه.
وقد تلخص مما
ذكرنا في هذه الصورة أقوال أربعة : (أحدها) ـ وجوب إعادة الصلاة المتوسطة وعدم
اعادة الوضوء كما هو مقتضى كلام المبسوط. و (ثانيها) ـ وجوب اعادة الوضوء
والصلاتين معا كما هو قول ابن إدريس والمختلف. و (ثالثها) ـ عدم إعادة شيء من
الوضوء والصلاة كما هو مقتضى كلام السيد جمال الدين (قدسسره) و (رابعها) ـ صحة الصلاتين واعادة الوضوء كما يشعر به
آخر هذا الكلام الأخير ، الا ان يحمل آخر كلامه على التنزل والمجاراة دون الاختيار
لذلك ، وإلا فيرد عليه ان
__________________
جل ما ذكره من التعليلات في عدم إعادة الصلاة يجري في الوضوء أيضا كما لا
يخفى.
(الصورة
الثالثة) ـ هي الثانية بعينها ولكن مع تخلل الحدث بعد الصلاة المتوسطة ، والظاهر
انه لا ريب في إعادة الوضوء حينئذ ، لأنه ـ بالحدث السابق على الطهارة الاولى
والحدث المتوسط مع احتمال كون العضو المتروك من كل من الطهارتين ـ يكون متيقنا
للحدث شاكا في الطهارة ، ولا ريب أيضا في بطلان احدى الصلاتين لبطلان احدى
الطهارتين ، لكن هل يجب حينئذ اعادة الفرضين معا لتوقف الخروج من العهدة يقينا
عليه ، أم يخص ذلك بما إذا اختلفا عددا وإلا فيكفي الإتيان بفريضة واحدة مرددة في
نيتها؟ الأكثر على الثاني ، وإلى الأول ذهب الشيخ في المبسوط بل أوجب أيضا بناء
على ذلك قضاء الخمس لو صلاها بخمس طهارات ثم ذكر الإخلال المذكور في إحدى الطهارات
مع تخلل الحدث بين كل طهارة وصلاة منها ، وتبعه أبو الصلاح وابن زهرة ، وربما لزم
على تقدير ما ذهب اليه السيد جمال الدين عدم وجوب إعادة شيء من الوضوء والصلاتين
، لصدق انه شك بعد الفراغ ، والظاهر انه لا يلتزمه.
ويدل على قول
الأكثر ورود النص في من فاتته صلاة من الخمس مشتبهة انه يكتفي باثنتين وثلاث واربع
مرددة إما لكون العلة في الجميع واحدة ، أو لكون المتنازع فيه داخلا في موضوع
الخبر ، بان يقال ان بطلان الصلاة ببطلان شرطها المتوقف صحتها عليه فوت يدخل في
عموم «من فاتته. الخبر» ويؤيد ذلك أيضا قول ابي جعفر (عليهالسلام) في حسنة زرارة : «... وان نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وأنت في
الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاولى ثم صل العصر ، فإنما هي أربع مكان اربع ...». لكن
يشكل من حيث اختلاف هيئتي الجهرية والإخفاتية جهرا وإخفاتا
__________________
وان ذكروا انه مخير بين الجهر والإخفات في صورة اجتماعهما في الفرض المردد.
وأورد عليه أيضا وجوب الجزم في النية مع الإمكان فلا تجزئ النية المرددة ، وهذا
لازم على المورد في صورة مورد الخبر المتقدم.
(الصورة
الرابعة) ـ ان يتوضأ وضوءين ويصلي بكل منهما فرضا ثم يذكر الحدث عقيب واحد منهما
غير معين ، فان قلنا بالاكتفاء بالقربة فالطهارتان صحيحتان وانما يقع الشك في
فريضة واحدة باعتبار احتمال كون الحدث عقيب الطهارة الأولى فتبطل الصلاة الأولى
خاصة واحتمال كونه عقيب الثانية فتبطل الصلاة الثانية خاصة ، فيرجع الكلام حينئذ
إلى ما تقدم من وجوب إعادتهما معا ان اختلفتا عددا تحصيلا ليقين البراءة ، وإلا
فذلك العدد مرددا في النية ، ومقتضى ما نقل عن الشيخ آنفا اعادة الجميع مطلقا ،
لكن لم أر من تصدى لنقل مذهبه هنا ، وان لم نقل بالاكتفاء بالقربة ـ حسبما تقدم في
الصورة الاولى من التفصيل ـ وجب اعادة الجميع ، لاحتمال كون الحدث عقيب الاولى
فتبطل الصلاة الواقعة بعدها ، والوضوء الثاني انما وقع بنية التجديد وهو غير مبيح
ولا رافع فتبطل الصلاة الواقعة بعده ، وعلى كل تقدير فيجب إعادة الطهارة هنا
لاحتمال وقوع الحدث بعد الطهارة الثانية فيلزم بطلانها مع سابقتها بخلاف صورة
الإخلال فإنه إنما تبطل الطهارة التي وقع فيها خاصة فتسلم له الأخرى.
(المسألة
السابعة عشرة) ـ يكره الوضوء بجملة من المياه : منها ـ الماء المشمس في الآنية على
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل نقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه لكنه
اشترط في الحكم القصد إلى ذلك ، وصرح في المبسوط بالتعميم وأطلق في النهاية ، وهو
الذي عليه جمهور الأصحاب.
والأصل في هذه
المسألة رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : الماء الذي تسخنه الشمس لا تتوضؤوا به
__________________
ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به ، فإنه يورث البرص».
وما رواه
الصدوق (رضياللهعنه) في كتاب العلل بسنده إلى ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : خمس تورث البرص. وعد منها التوضؤ والاغتسال بالماء
الذي تسخنه الشمس».
وموثقة إبراهيم
بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «دخل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس ، فقال يا حميراء
ما هذا؟ قالت : اغسل رأسي وجسدي. قال : لا تعودي فإنه يورث البرص».
وحمل النهي على
الكراهة لمرسلة محمد بن سنان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بأن يتوضأ بالماء الذي يوضع في الشمس».
وربما علل
الحمل على الكراهة بضعف سند الروايات المذكورة كما هو طريقة جملة من المتأخرين
ومتأخريهم. وفيه ما تقدم في مقدمات الكتاب من ان ضعف السند ليس من جملة قرائن
المجاز الصارفة عن الحمل على الحقيقة ، ولو علل بذكر وجه الحكمة في الخبر لكان
أقرب.
تنبيهات :
(الأول) ـ ظاهر
الخبر الأول والثاني ثبوت الكراهة ، سواء كان في آنية أو غيرها من حوض وساقية ،
وسواء كانت الآنية منطبعة أم لا ، وسواء قصد إلى تسخينه أو تسخن من قبل نفسه ،
وسواء كانت البلاد حارة أو معتدلة ، وبهذا الإطلاق حكم جملة من الأصحاب ، الا ان
ظاهرهم نفى الكراهة في غير الآنية ، بل نقل عن العلامة في النهاية والتذكرة
الإجماع عليه ، وظاهر العلامة في النهاية اشتراط كونه في الأواني المنطبعة غير
الذهب والفضة ، قال : «لان الشمس إذا أثرت فيها استخرجت
__________________
منها زهومة تعلو الماء ومنها يتولد المحذور» وفيه ان العلة المذكورة لبيان
وجه الحكمة فلا يجب اطرادها ، وعلل الشرع ـ كما صرحوا به ـ معرفات لا علل حقيقة
يدور المعلول مدارها وجودا وعدما.
(الثاني) ـ الحق
جماعة من الأصحاب بالطهارة سائر وجوه الاستعمالات ، واقتصر جماعة : منهم ـ الشهيد
في الذكرى على العجين وفاقا للصدوق ووقوفا على ظاهر النص
(الثالث) ـ هل
يشترط القلة في الماء؟ قولان.
(الرابع) ـ الظاهر
ترتب الأثر المذكور على المداومة دون مجرد المرة أو المرتين ولعل في قوله (صلىاللهعليهوآله) في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد ـ : «لا تعودي» من
الاعتياد أو تعودي من العود ـ إيماء إلى ذلك.
(الخامس) ـ هل
تبقى الكراهة وان زال التشميس أم لا؟ قولان ، قطع بأولهما الشهيد في الذكرى وتبعه
جمع من المتأخرين ، تمسكا بالاستصحاب ، وبقاء التعليل وصدق الاسم بناء على ان
المشتق لا يشترط في صدقه بقاء مأخذ الاشتقاق. ويرد على الأول عدم ثبوت حجية
الاستصحاب في مثل هذا المقام ، إذ الاستصحاب الذي يستفاد من الأخبار جواز الاعتماد
عليه هو ما إذا دل الدليل على حكم من غير تقييد بزمان ولا كيفية ولا حالة مخصوصة ،
فإنه يستصحب الحكم المذكور في جميع الأزمان والحالات عملا بعموم الدليل كما تقدم
تحقيقه في المقدمة الثالثة الا انه ربما يقال هنا ان مقتضى الدليل الدال على كراهة
الوضوء بالمتسخن بالشمس عموم ذلك لما بعد زوال السخونة ، وقد مر نظيره في المسألة
الرابعة من الفصل الثاني من الباب الأول وتكلمنا في ذلك بما اقتضاه المقام. وعلى الثاني ما تقدم
هنا. وعلى الثالث (أولا) ـ عدم الدليل على صحة الاعتماد على هذه القاعدة كما تقدم
تحقيقه في المقدمة التاسعة. و (ثانيا) ـ منع صدق الاسم ، فان صدق المشتق مع عدم
بقاء مأخذ الاشتقاق لو سلم فهو مخصوص بما إذا لم يطرأ على المحل
__________________
وصف وجودي يضاده ، وهنا ليس كذلك لطرو وصف البرودة المضاد لوصف السخونة وما
أجاب به في المعالم وتبعه بعض أفاضل متأخري المتأخرين ـ من ان الاشتقاق هنا من
التسخين لا من السخونة ، وحينئذ ولو طرأ الوصف الوجودي لكنه لا يضاد الأول لاشتراط
وحدة الفاعل في التضاد ـ ففيه ان الحكم منوط بالتسخن كما هو المشهور لا بالتسخين
وان ذهب اليه الشيخ كما تقدم ذكره ، وحينئذ فالتضاد حاصل كما حققنا ذلك في كتاب
الدرر النجفية.
(السادس) ـ صرح
جملة من الأصحاب بأن الحكم بالكراهة مخصوص بما إذا وجد ماء غيره للطهارة ، إذ مع
عدم وجدان غيره يتعين استعماله عينا وهو مناف لتعلق النهي به. واعترض عليه بأنه لا
منافاة بين الوجوب عينا والكراهة في الصلاة ونحوها على بعض الوجوه ، واللازم من
ذلك عدم زوال الكراهة بفقد غيره ، لبقاء العلة وعدم منافاة وجوب الاستعمال لها.
أقول :
والتحقيق انه ان فسرت الكراهة بالمعنى المصطلح الأصولي وهو ما يترجح تركه على فعله
فالمنافاة حاصلة سواء وجد ماء غيره أو لم يوجد ، فإنه كما لا ريب في منافاة تعلق
الأمر الإيجابي العيني بشيء مع النهي التنزيهي ، كذلك يأتي مثله في الأمر
الإيجابي التخييري مع النهي التنزيهي ، إذ كما يكون الأمر بالشيء امرا إيجابيا
عينيا مانعا من تعلق النهي به المقتضى لمرجوحيته ، كذلك الأمر به امرا تخييريا
المقتضى لرجحانه يمنع من تعلق النهي المقتضي لمرجوحيته ، وسيأتي تحقيق المسألة ان
شاء الله تعالى.
و (منها) ـ الماء
الآجن ، لحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الماء الآجن؟ يتوضأ منه إلا ان يجد غيره فيتنزه عنه».
و (منها) ـ الماء
الذي مات فيه عقرب ، لموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه
__________________
السلام) وفيها «وان كان عقربا فارق الماء وتوضأ من ماء غيره». ومثلها
موثقة أبي بصير عن أبي جعفر (عليهالسلام) .
و (منها) ـ سؤر
الحائض ، لموثقة الحسين ـ والظاهر انه ابن أبي العلاء الخفاف ـ قال : «سألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن الحائض يشرب من سؤرها قال : نعم ، ولا يتوضأ منه». وقيدها
جملة من المتأخرين بالمتهمة ، ويدل على التقييد المذكور موثقة علي بن يقطين وربما ظهر من التهذيب والاستبصار التحريم لظاهر النهي.
وتحقيق المسألة قد تقدم في بحث الأسآر.
(المسألة
الثامنة عشرة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب بكراهة الوضوء في المسجد من حدث البول
والغائط ، لصحيحة رفاعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الوضوء في المسجد فكرهه من البول والغائط». وقال
الشيخ في النهاية وتبعه ابن إدريس : «لا يجوز التوضؤ من الغائط والبول في المساجد
ولا بأس بالوضوء فيها من غير ذلك» وسوى ابن إدريس بين المنع من الوضوء من الغائط
والمنع من إزالة النجاسة فيها ، وفي المبسوط «لا يجوز إزالة النجاسة في المساجد
ولا الاستنجاء من البول والغائط فيها ، وغسل الأعضاء في الوضوء لا بأس به فيها»
ويحتمل قريبا ـ بل لعله الأقرب ـ حمل كلام الشيخ في النهاية على الاستنجاء وحمل
الرواية المتقدمة أيضا على ذلك ، فان استعمال الوضوء بمعنى الاستنجاء ـ بل بمعنى
مطلق الغسل ، والكراهة بمعنى التحريم ـ شائع في الأخبار وكلام المتقدمين.
وروى بكير في
الحسن عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «إذا كان الحدث في المسجد فلا بأس بالوضوء في
المسجد». ولعل المراد بالحدث في المسجد مثل النوم
__________________
والريح مثلا ، ومفهوم الرواية على ما ذكرنا انه لو كان النوم في غير المسجد
كره الوضوء له في المسجد ، ولا ينافي ذلك مفهوم الرواية الأولى بناء على حمل
الوضوء فيها على الرافع للحدث ، لان ذلك مفهوم لقب.
ثم انه لو اتفق
حصول البول أو الغائط في المسجد اختيارا أو اضطرارا فهل يتصف الوضوء له في المسجد
بالكراهة أم لا؟ ظاهر الرواية الأولى ـ بناء على كون الوضوء فيها بمعنى الرافع ـ ذلك
، ولكن ينافيه ظاهر الرواية الثانية ، الا ان تخص بما ذكرنا أو تحمل على ان وقوع
حدث البول والغائط في المسجد لما كان نادرا أطلق الحكم بعدم البأس في المسجد من
الحدث الواقع فيه. ويحتمل عدم الكراهة عملا بإطلاق الرواية الثانية وعمومها ، وحمل
الاولى على ان البول والغائط لما كان حدوثهما في المسجد نادرا فلذا أطلق عليهما
كراهة الوضوء لهما في المسجد ، ويعضده أصالة البراءة من الكراهة. والله العالم.
(المسألة
التاسعة عشرة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كراهة التمندل بعد الوضوء
، وقيل بعدم الكراهة ، ونقله في المدارك عن ظاهر المرتضى في شرح الرسالة وأحد قولي
الشيخ.
ويدل على
الكراهة ما روي بعدة طرق في الكافي وثواب الأعمال والمحاسن عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من توضأ وتمندل كتبت له حسنة ، ومن توضأ ولم
يتمندل حتى يجف وضوؤه كتبت له ثلاثون حسنة».
ويدل على
الجواز روايات كثيرة : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم : «قال سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن التمسح بالمنديل قبل ان يجف. قال لا بأس به».
ورواية الحضرمي
عنه (عليهالسلام) قال : «لا بأس بمسح الرجل وجهه بالثوب إذا توضأ إذا كان
الثوب نظيفا».
وموثقة إسماعيل
بن الفضل قال : «رأيت أبا عبد الله (عليهالسلام) توضأ
__________________
للصلاة ثم مسح وجهه بأسفل قميصه ، ثم قال : يا إسماعيل افعل هكذا فاني هكذا
افعل.
وصحيحة منصور
بن حازم قال : «رأيت أبا عبد الله (عليهالسلام) وقد توضأ وهو محرم ثم أخذ منديلا فمسح به وجهه».
وصحيحته
المروية في المحاسن قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يمسح وجهه بالمنديل. قال : لا بأس به».
ومرسلة عبد
الله بن سنان المروية فيه أيضا قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن التمندل بعد الوضوء. فقال : كان لعلي (عليهالسلام) خرقة في المسجد ليس الا للوجه يتمندل بها». وروى مثله
مسندا في الصحيح عن عبد الله بن سنان .
وبذلك الإسناد
أيضا قال : «كانت لعلي (عليهالسلام) خرقة يعلقها في مسجد بيته لوجهه إذا توضأ تمندل بها».
وروى فيه أيضا
عن محمد بن سنان عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كانت لأمير المؤمنين (عليهالسلام) خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ للصلاة ثم يعلقها على وتد
ولا يمسها غيره».
وأنت خبير بانا
لو خلينا وظاهر هذه الأخبار لكان المستفاد منها استحباب ذلك لظاهر حديث إسماعيل بن
الفضل الدال بظاهره على مداومته (عليهالسلام) على ذلك وكذلك اخبار المحاسن عن علي (عليهالسلام) كما لا يخفى على المتأمل فيها ، فإنها ظاهرة في
مداومته (عليهالسلام) على ذلك ، ومن البعيد مداومته على ذلك الأمر المكروه ،
والحديث الأول يضعف عن معارضتها لوحدته وتعددها. والجمع بين الأخبار بما ذكره
المحدث الكاشاني في الوافي ـ بحمل الخبر الأول على الأفضل والاولى وحمل خبر
الحضرمي وصحيحة محمد بن مسلم على الرخصة والجواز وحمل خبر إسماعيل بن الفضل على
الضرورة من برد وخوف شين وشقاق ـ وان احتمل بالنسبة إلى الأخبار التي ذكرها إلا ان
اخبار فعل علي (عليهالسلام) الدالة بظاهرها على المداومة على ذلك لا تقبل الحمل
على
__________________
الضرورة ولا على مجرد الجواز كما لا يخفى ولعل الأقرب الحمل على التقية الا ان
__________________
فيه أيضا ما لا يخفى ، قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار
بعد نقل جملة من هذه الأخبار : «والذي يظهر لي انه لما اشتهر بين بعض العامة كأبي
حنيفة وجماعة منهم نجاسة غسالة الوضوء وكانوا يعدون لذلك منديلا يجففون به أعضاء
الوضوء ويغسلون المنديل ، فلذا نهوا عن ذلك وكانوا يتمسحون بأثوابهم ردا عليهم ،
كما روى عن مروان بن مسلم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : توضأ. ثم نقل حديث إسماعيل بن الفضل إلى ان قال
: فيمكن حمل تلك الأخبار على التقية أو انه لم يكن بقصد الاجتناب عن الغسالة أو
انه كان لبيان الجواز» انتهى. ولا يخفى ما فيه. والحكم لا يخلو من شوب الاشكال.
ثم انه هل يختص
الحكم بالمسح بالمنديل فلا يلحق به غيره ، أو يشمل الذيل
__________________
والكم ونحوهما ، أو المنديل والذيل خاصة ، أو يلحق به التجفيف بالنار
والشمس أيضا؟ أقوال ، ولعل الأظهر منها الاقتصار على المنديل وقوفا فيما خالف
الأصل على موضع الوفاق ، ولاشتمال أكثر الأخبار المتقدمة عليه خاصة.
فائدة
لا يخفى ان
المكروه في اصطلاح الأصوليين والفقهاء عبارة عما يكون عدمه راجحا على وجوده ، وهذا
المعنى لما لم يتم إجراؤه في العبادات في المواضع التي ورد النهي عنها لرجحان
الإتيان بها على عدمه ، فسروا الكراهة فيها بمعنى آخر وهو باعتبار اقلية الثواب
فيها بالنسبة إلى عبادة أخرى.
وأورد عليه بان
ذلك منتقض بكثير من المستحبات والواجبات التي بعض أفرادها أقل ثوابا من الآخر مع
ان الأقل ثوابا منها بالنسبة إلى الأكثر لا يطلق عليه الكراهة.
وربما أجيب بأن
المراد أقل ثوابا من مثله اي فرد أخر من نوعه.
وفيه أيضا ما
تقدم ، فإن الصلاة في أحد المساجد أقل ثوابا بالنسبة إلى الصلاة في المسجد الحرام
بل بعض المساجد بالنسبة إلى آخر مع انه لا يوسم الأقل منها بالنسبة إلى الأكثر
بالكراهة ، وأيضا فإن صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء ليس أقل ثوابا من صوم آخر مع
انه مكروه.
قيل : «والحق
ان يقال المراد ان ضده أفضل منه ، مثلا ـ الدعاء يوم عرفة أفضل من الصوم المضعف
عنه فمكروه العبادة انما يكون في صورة تكون فيها عبادتان متضادتان» انتهى أقول :
أنت خبير بان مكروه العبادة ـ على ما عرفت ـ هو ما تعلق به النهي التنزيهي أعم من
ان يكون معه عبادة أخرى مضادة أم لا ، فإن الصلاة في الحمام ونحوه ـ من الأماكن
المنهي عنها في الأخبار والوضوء في المسجد وبالماء المشمس ونحوها ـ ليس لها عبادة
أخرى مضادة لها.
والتحقيق في
الجواب ان المراد بمكروه العبادة ما كان أقل ثوابا منها نفسها لو لم تكن كذلك بل
كانت متصفة بأصل الإباحة ، ويدل على ذلك ما تقدم من حديث «من توضأ وتمندل كتبت له
حسنة ومن توضأ ولم يتمندل كتبت له ثلاثون حسنة». وتوضيح ذلك ان يقال : ان العبادة
قد تكون بحيث لا يتعلق بها أمر ولا نهي غير الأمر الذي تعلق بأصل فعلها ، وبهذا
المعنى تتصف بالإباحة كالصلاة في البيت البعيد عن المسجد أو حال المطر ، وقد يتعلق
بها أمر زائد على الأول باعتبار اتصافها أو اشتمالها على أمر راجح به كالصلاة في
المسجد مثلا إلا مع عذر مسقط ، وربما انتهى إلى حد الوجوب كما إذا نذر إيقاعها فيه
، وقد يتعلق بها نهي بالاعتبار المذكور مع المرجوحية كالصلاة في الحمام ، وربما
انتهى إلى حد التحريم كصلاة الحائض والصلاة في الدار المغصوبة على أشهر القولين ،
وحينئذ فمكروه العبادة هو ما كان أقل ثوابا بالاعتبار المذكور آنفا منها نفسها لو
لم تكن كذلك بل كانت متصفة بصفة الإباحة المذكورة ، فالصلاة في الحمام مكروهة
بمعنى أنها أقل ثوابا منها في البيت مثلا لا في المسجد ، فلا يرد حينئذ ما أورد
سابقا من ان الكراهة بمعنى اقلية الثواب توجب كون الصلاة في جميع المساجد مكروهة
لكونها أقل ثوابا من الصلاة في المسجد الحرام ، فان المعتبر ـ كما عرفت ـ في
المفضل عليه بالأقلية هو المتصف بأصل الإباحة ، وهكذا بالنسبة إلى ما لم يوجد فيه
أمر زائد على الأول. والله العالم.
تم الجزء
الثاني من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ويتلوه الجزء الثالث في
الغسل. والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعترته
الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
فهرس الجزء الثاني
من كتاب الحدائق
الناضرة
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
وجوب ستر
العورة
|
٢
|
هل يجب إزالة
الأثر في غسل مخرج الغائط؟
|
٢٨
|
تعريف العورة
|
٥
|
تحديد آلة
الاستنجاء
|
٢٩
|
وجوب
الاستنجاء من البول بالماء
|
٧
|
شروط آلة
الاستنجاء
|
٣١
|
تنجيس المتنجس
|
١٠
|
اجزاء
الاحجار ونحوها في غسل مخرج الغائط مع عدم التعدي
|
٣٢
|
أقل ما يجزئ
من الماء في الاستنجاء من البول
|
١٧
|
وجوب الزيادة
على الثلاثة مع عدم النقاء بها
|
٣٤
|
المراد
بالمثلين الغسلة الواحدة أو الغسلتان
|
١٩
|
هل يجزئ ذو
الجهات الثلاث؟
|
٣٥
|
هل يعتبر
الانفصال الحقيقي على تقدير التعدد؟
|
٢٠
|
هل يجب امرار
كل حجر على موضع النجاسة أو يكفى التوزيع؟
|
٣٧
|
هل يجب
التمسح بالحجر عند عدم الماء للتطهير من البول؟
|
٢٠
|
استقبال
القبلة واستدبارها بالبول والغائط.
|
٣٨
|
هل يجب الدلك
في الاستنجاء من البول؟
|
٢١
|
تعلق حكم
الاستقبال والاستدبار بالبدن أو العورة
|
٤١
|
هل يجب الدلك
في الاستنجاء من البول؟
|
٢٢
|
لحوق حال
الاستنجاء بحال التخلي في الحكم
|
٤١
|
من صلى ناسياً
للاستنجاء
|
٢٢
|
التشريق
والتغريب بالبول والغائط
|
٤١
|
تعين الماء
في غسل مخرج الغائط مع التعدي
|
٢٦
|
اشتباه
القبلة
|
٤٢
|
وجوب غسل
الجميع بالماء مع التعدي
|
٢٨
|
ما يحرم
الاستنجاء به
|
٤٢
|
عدم وجوب غسل
باطن المخرج
|
٢٨
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
وجوب اكرام
التربة المشرفة وحرمة اهانتها
|
٤٤
|
بن مسلم
|
٦٣
|
هل يطهر
المحل بالاستنجاء بما يحرم الاستنجاء به؟
|
٤٦
|
استحباب
تعجيل الاستنجاء
|
٦٤
|
هل يحرم
تنجيس العظم والروث؟
|
٤٨
|
استحباب
الأكفاء على اليد قبل ادخالها الاناء
|
٦٥
|
استحباب ستر
البدن كملا في الغائط
|
٥٠
|
استحباب
البداة في الاستنجاء بالمقعدة
|
٦٥
|
استحباب
ارتياد موضع مناسب للبول
|
٥٠
|
استحباب
اختيار الماء
|
٦٥
|
التسمية
والدعاء عند دخول المخرج والخروج منه
|
٥٠
|
أفضلية الجمع
بين المطهرين
|
٦٦
|
استحباب
التقنع في بيت الخلاء
|
٥٢
|
اشكال صاحب
المدارك في المقام وجوابه
|
٦٦
|
استحباب
تغطية الرأس في بيت الخلاء
|
٥٣
|
هل يستحب
الاعتماد على اليسرى في بيت الخلاء؟
|
٦٨
|
استحباب
تقديم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج
|
٥٣
|
هل يستحب
اعداد الاحجار؟
|
٦٨
|
استحباب مسح
البطن بعد الخروج
|
٥٣
|
المواضع التي
يكره التخلي فيها.
|
٦٩
|
استحباب
التسمية عند التكشف للبول
|
٥٤
|
كلام حول
الأشجار المثمرة.
|
٧٠
|
استحباب ان
لا يقطع في الاستجمار إلا على وتر
|
٥٤
|
استقبال
الشمس والقمر بالبول
|
٧٣
|
استحباب
الاستبراء
|
٥٤
|
استقبال
الشمس والقمر بالغائط
|
٧٤
|
كيفية
الاستبراء
|
٥٦
|
استدبار
الشمس والقمر
|
٧٤
|
هل يختص
الاستبراء بالرجل؟
|
٥٨
|
استقبال
الريح واستدبارها
|
٧٥
|
البلل
المشتبه
|
٥٨
|
كراهة السواك
في الخلاء
|
٧٥
|
هل يستحب
الصبر هنيئة قبل الاستبراء؟
|
٦٢
|
كراهة طول
الجلوس على الخلاء
|
٧٥
|
كلام المجلسي
(قده) في حسنة محمد
|
|
كراهة استصحاب
خاتم فيه اسم الله أو شئ من القرآن
|
٧٦
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
كراهة
استصحاب دراهم بيض غير مصرورة
|
٧٦
|
الفرق بين
السبب والموجب والناقض
|
١١٩
|
كراهة الكلام
حال التخلي
|
٧٧
|
وجوب الوضوء
للصلاة الواجبة
|
١٢٠
|
كراهة
الاستنجاء باليمين
|
٧٩
|
وجوب الوضوء
للطواف الواجب
|
١٢٢
|
كراهة
الاستنجاء باليمين
|
٧٩
|
حرمة مس
المصحف على المحدث
|
١٢٢
|
كراهة
الاستنجاء باليسار وفيها خاتم فصه من حجر زمزم
|
٨٣
|
وجوب الوضوء
غيري لا نفسي
|
١٢٦
|
كراهة التخلي
على القبور وبينها
|
٨٣
|
غايات الوضوء
المستحبة
|
١٣٥
|
كراهة مس
الذكر باليمين وقت البول
|
٨٤
|
تجديد الوضوء
بلا فصل بصلاة
|
١٤٦
|
كراهة البول
قائماً
|
٨٤
|
استحباب وضع
اناء الوضوء على اليمين
|
١٤٧
|
كراهة البول
قائماً
|
٨٤
|
استحباب غسل
اليدين قبل ادخالهما الاناء
|
١٤٨
|
كراهة البول
في الماء
|
٨٤
|
استحباب
التسمية والدعاء عند وضع اليد في الماء
|
١٥٠
|
كراهة الاكل
حال التخلي
|
٨٥
|
استحباب التسمية
على الوضوء
|
١٥١
|
كراهة غسل
الحرة فرج زوجها
|
٨٦
|
استحباب
الاغتراف باليمين
|
١٥٤
|
انتقاض
الوضوء بالبول والغائط
|
٨٦
|
استحباب
السواك
|
١٥٤
|
انتقاض
الوضوء بالنوم
|
٩٤
|
استحباب
المضمضة والاستنشاق
|
١٥٦
|
انتقاض
الوضوء بما يزيل العقل
|
١٠٤
|
الدعاء حالة
المضمضة والاستنشاق
|
١٦٢
|
عدم انتقاض
الوضوء بالمذي
|
١٠٧
|
استحباب ان
يكون ماء الوضوء مداً
|
١٦٢
|
عدم انتقاض
الوضوء بالتقبيل ومس الفرجين والقهقهة والحقنة والدم الخارج من السبيلين
|
١١٢
|
استحباب ان
يبدأ الرجل في غسل الذراع بالظاهر والمرأة بالباطن
|
١٦٤
|
أقسام البلل
الخارج من الاحليل
|
١١٧
|
استحباب فتح
العينين عند الوضوء
|
١٦٥
|
|
|
استحباب صفق
الوجه بالماء
|
١٦٦
|
|
|
الدعاء على
كل من أفعال الوضوء
|
١٦٧
|
|
|
استحباب
قراءة سورة القدر حال
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الوضوء وآية
الكرسي على اثره
|
١٦٩
|
كلام صاحب
المدارك في المقام
|
٢٣٦
|
وجوب النية
في الوضوء
|
١٧٠
|
هل يجب تخليل
اللحية الخفيفة؟
|
٢٣٨
|
محل النية
|
١٧٣
|
غسل اليدين ـ
وجوب الابتداء بالمرفق
|
٢٤٠
|
اعتبار
الخلوص في النية
|
١٧٧
|
هل المرفق
داخل في الحد؟
|
٢٤٢
|
بطلان
العبادة بقصد الرياء والسمعة
|
١٨٠
|
حكم مقطوع
اليد
|
٢٤٤
|
عدم اعتبار
أزيد من تعيين الفعل وقصد القربة في النية؟
|
١٨٣
|
حكم مقطوع
اليد
|
٢٤٧
|
هل يجوز
تقديم النية
|
١٨٤
|
وجوب تحريك
ما يمنع وصول الماء إلى المغسول
|
٢٤٨
|
وجوب استدامة
النية إلى الفراغ
|
١٨٥
|
هل يجب إزالة
ما تحت الأظفار من الوسخ؟
|
٢٥٠
|
حكم الضميمة
في النية
|
١٨٨
|
مسح الرأس ـ اختصاص
الوجوب بمقدم الرأس
|
٢٥٢
|
قصد الندب
بواجبات العبادة وبالعكس
|
١٩٠
|
المقدار
الواجب من مسح الرأس
|
٢٦٣
|
الوضوء الذي
يصح الدخول به في الفريضة
|
١٩٤
|
المقدار
المشروع من الزائد على الواجب
|
٢٧٠
|
تداخل
الأغسال
|
١٩٦
|
كيفية مسح
المرأة من حيث وضع الخمار وعدمه
|
٢٧٣
|
مواضع العدول
في النية
|
٢٠٦
|
هل يتصف
الزائد على القدر المجزئ من الفرد الاكل بالوجوب؟
|
٢٧٥
|
الشك في
النية
|
٢١٥
|
هل يجوز
النكس في مسح الرأس؟
|
٢٧٩
|
حكم الوضوء
مع عدم نية فعل الصلاة بعده
|
٢١٨
|
وجوب كون
المسح بنداوة الوضوء
|
٢٧٩
|
! الفارق بين
رفع الحدث وإزالة الخبث في وجوب النية وعدمه
|
٢١٩
|
هل يختص اخذ
البلة من الوجه بجفاف اليد؟
|
٢٨٧
|
غسل الوجه ـ حقيقة
الغسل
|
٢٢٢
|
|
|
ما يجب غسله
من الوجه
|
٢٢٦
|
|
|
وجوب
الابتداء بالاعلى في غسل الوجه
|
٢٣٠
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
ما يمسح به
وجوبا واستحبابا
|
٢٨٨
|
إذا لم يكمل
غسل العضو بالأولى مع امكان شمولها إياه؟
|
٣٤٢
|
وجوب المسح
في الرجلين دون الغسل
|
٢٨٨
|
الغسلة
الثالثة
|
٣٤٥
|
هل يجب
الاستيعاب طولا في مسح الرجلين؟
|
٢٩١
|
حكم الوضوء
على تقدير حرمة الغسلة الثالثة
|
٣٤٧
|
تعريف الكعب
|
٢٩٥
|
معنى
الموالاة في الوضوء وحكمها
|
٣٤٨
|
هل يجوز
النكس في مسح الرجلين؟
|
٣٠٦
|
ما هو المبطل
على القول بمرعادة الجفاف
|
٣٥٦
|
هل يجب تقليل
البلة لو كانت مشتملة على ما يتحقق به الجريان عند المسح؟
|
٣٠٧
|
المعتبر هو
الجفاف الفعلي أو التقديري
|
٣٥٦
|
هل يجب تجفيف
الممسوح لو كانت عليه بلة خارجة عن ماء الوضوء؟
|
٣٠٧
|
الوظيفة عند
تعذر الموالاة
|
٣٥٧
|
عدم جواز
المسح في الرأس والرجلين على الحائل
|
٣٠٩
|
وجوب الترتيب
بين أعضاء الوضوء؟
|
٣٥٧
|
حكم الوضوء
الضروري بعد زوال الضرورة
|
٣١٣
|
هل يجب
الترتيب بين الرجلين؟
|
٣٥٨
|
تعين الغسل
لو تأدت التقية به عوضاً عن المسح على الخفين
|
٣١٥
|
الوظيفة عند
مخالفة الترتيب
|
٣٦٠
|
هل يعتبر عدم
المندوحة في العمل بالتقية
|
٣١٥
|
وجوب
المباشرة في أفعال الوضوء مع الامكان.
|
٣٦٢
|
هل تجب إعادة
العبادة الموافقة للتقية؟ في الوقت عند التمكن منها
|
٣١٦
|
جواز التولية
في الوضوء عند الضرورة
|
٣٦٥
|
التكرار في
المسح
|
٣١٨
|
عدم جواز
الغسل مكان المسح وبالعكس
|
٣٦٥
|
التثنية في
الغسل ـ الأقوال في المسألة
|
٣١٩
|
حكم الاخلال
بالترتيب
|
٣٦٧
|
الاخبار الواردة
في المسألة
|
٣٢٣
|
الوضوء
بالماء النجس
|
٣٧٠
|
وجوه الجمع
بين الاخبار المذكورة
|
٣٢٨
|
الوضوء
بالماء المغصوب
|
٣٧٥
|
هل يجري
الخلاف في الغسلة الثانية
|
|
هل يكفي ماء
واحد لا زالة الخبث والحدث في أعضاء الوضوء؟
|
٣٧٧
|
|
|
هل تعتبر
الإباحة في مكان الوضوء؟
|
٣٧٧
|
|
|
حكم ذي الجبيرة
|
٣٧٧
|
|
|
هل يجب المسح
على الجبيرة عند تعذر
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
ايصال الماء
إلى ما تحتها؟
|
٣٨١
|
عدم الالتفات
إلى ما شك فيه في مورده رخصة أو عزيمة؟
|
٣٩٦
|
حكم القروح
والجروح الخالية من الجبيرة
|
٣٨٣
|
الشك في
الطهارة مع يقين الحدث وعكسه
|
٣٩٦
|
هل يجب
التخليل في المسح على الجبيرة الكائنة في موضع المسح؟
|
٣٨٣
|
من خرج منه
بلل مشتبه قبل الاستبراء
|
٣٩٦
|
تحقيق حول
موثقة عمار الواردة في من انقطع ظفره
|
٣٨٤
|
الاشكال في
امكان اجتماع اليقين والشك وجوابه
|
٣٩٧
|
كلام في مفاد
موثقة عمار الواردة في من انكسر ساعده
|
٣٨٥
|
اليقين
بالطهارة والحدث والشك في المتأخر منهما
|
٤٠١
|
هل يجب
الاستيعاب في المسح على الجبيرة؟
|
٣٨٥
|
من صلى بعد
وضوءين ثم ذكر الاخلال بعضو من أحدهما
|
٤٠٣
|
الجمع بين
الاخبار الامرة بالتيمم لذي القروح والجروح والامرة بالمسح على الجبيرة وغسل ما
حول الخالي منها
|
٣٨٦
|
من توضأ
وضوءين وصلى بعد كل منهما ثم ذكر الاخلال من غير تخلل حدث
|
٤٠٤
|
حكم سلس
البول
|
٣٨٧
|
من توضأ
وضوءين وصلى بعد كل منهما ثم ذكر الاخلال مع تخلل الحدث بعد الصلاة المتوسطة
|
٤٠٧
|
حكم المبطون
|
٣٨٩
|
من توضأ
وضوءين وصلى بعد كل منهما ثم ذكر الحدث عقيب واحد منهما غير معين
|
٤٠٨
|
الشك في
أفعال الوضوء ـ وجوب الاتيان بالمشكوك فيه إذا كان المكلف على حال الوضوء
|
٣٩١
|
المياه التي
يكره الوضوء بها
|
٤٠٨
|
المراد
بالحال التي يتلافى المشكوك فيه فيها
|
٣٩٣
|
الوضوء في
المسجد
|
٤١٢
|
اعتبار عدم
الجفاف فيما تقدم في الاكتفاء بالاتيان بالمشكوك فيه وما بعده
|
٣٩٤
|
التمندل بعد
الوضوء
|
٤١٣
|
حكم كثير
الشك
|
٣٩٥
|
الكراهة في
العبادة
|
٤١٧
|
|