

سورة النّمل
مكية وآياتها ٩٣.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هدى وبشرى المؤمنين الآة ١ ـ
٥ :
(طس تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ
فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))
اللغة :
العمى للبصر ،
والعمه للبصيرة.
الإعراب :
تلك آيات مبتدأ
وخبر. وهدى وبشرى مصدر في موضع الحال من القرآن أي هاديا ومبشرا ، والعامل بالحال
معنى الاشارة. وهم بالآخرة هم يوقنون الجملة حال ، وهم الثانية تأكيد لهم الأولى.
المعنى :
(طس) تقدم الكلام عن مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ
مُبِينٍ). تلك إشارة إلى هذه السورة ، والقرآن والكتاب بمعنى واحد ،
والاختلاف بينهما بالوصف لا بالذات ، وبالعرض لا بالجوهر ، فهو قرآن لأنه مقروء ،
وهو كتاب لأنه مكتوب ، وهو مبين لأنه واضح ، وهو أيضا (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يرشد من طلب الهداية إلى الحق ، ويبشره بالجنة ان آمن به
وعمل (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). ليس الإيمان بشيء عند الله إلا إذا ظهرت آثاره ومقتضياته
للعيان ، ومن أهمها الصلاة والزكاة. وبالاختصار ليس الإيمان الحق فكرة في الرأس ،
ولا كلاما يدور على اللسان ، وإنما هو سلوك وعمل.
وتسأل : ان مقيمي
الصلاة ومؤدي الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، فما هو الوجه لقوله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)؟.
الجواب : المراد
أنهم يؤمنون بالآخرة إيمانا لا ريب فيه ، تماما كمن قد رآها.
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ). عميت قلوبهم عن أعمالهم وما فيها من فساد وضلال ،
فاقترفوها دون خوف من حساب وعقاب.
وتسأل : أسند
سبحانه هنا التزيين الى نفسه حيث قال : (زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمالَهُمْ) وفي الآية ٦٣ من سورة النحل أسند التزيين إلى الشيطان حيث
قال : (فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ). فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.
الجواب : أسند
التزيين في آية سورة النحل إلى الشيطان بالنظر إلى أنه هو الذي يغري ويوسوس ،
وأسنده اليه تعالى هنا بالنظر إلى أن سنّة الله ومشيئته قضت بأن يعمى عن سوء
أعماله من لا يؤمن باليوم الآخر ، تماما كما قضت مشيئته تعالى بالموت والهلاك على
من يسلك الطريق المؤدية اليه ، وبتعبير ثان ان من لا يؤمن بالآخرة يفعل الحرام ،
وهو يرى انه حلال ، لأن الله جعل عدم الايمان سببا للجهل بالحرام .. وإذا قال قائل
: إن هذا شيء طبيعي قلنا في جوابه :
إن جميع الأشياء
الطبيعية والأسباب الكونية تنتهي اليه تعالى لأنه هو الذي أوجد الطبيعة والكون.
(أُوْلئِكَ الَّذِينَ
لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ). خسروا الدنيا لأنهم فارقوها ، وخسروا في الآخرة الثواب ،
وحلّ بهم العقاب ، وذلك هو الخسران المبين.
موسى الآة
٦ ـ ١٤ :
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي
آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي
النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى
إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ
إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً
قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ
ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))
اللغة :
تلقى القرآن
تعطاه. وآنست أبصرت. وشهاب شعلة. وقبس قطعة من نار. وتصطلون تستدفئون. ولم يعقّب
لم يرجع. ومبصرة واضحة.
الإعراب :
إذ في محل نصب
باذكر المحذوف. وأن بورك (ان) بمعنى أي مفسرة للنداء. وسبحان منصوب على المصدر.
ورب العالمين بدل من الله. وضمير انه للشأن. وانا الله مبتدأ وخبر ، والجملة خبر
ان. وجملة تهتز حال من عصاك. ومدبرا حال من الضمير المستتر في ولّى. وبيضاء حال من
يدك. وإلى فرعون متعلق بحال محذوف أي مرسلا إلى فرعون. ومبصرة حال من آياتنا.
وظلما مفعول من أجله لجحدوا. وكيف خبر كان ، وعاقبة اسمها.
المعنى :
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ). الخطاب لرسول الله (ص) ، والمعنى ان الله هو الذي أعطاك
القرآن يا محمد ، وما هو من عندك كما يزعم الجاحدون (إِذْ قالَ مُوسى
لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ
بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ). تقدم مثله مع التفسير في الآية ١٠ من سورة طه.
(فَلَمَّا جاءَها
نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ). المراد بالنار هنا النور ، ومن فيها قدرة الله ، ومن
حولها موسى ، والمعنى ان الذي رأيته يا موسى وظننته نارا هو نور مبارك أوجده الله
بقدرته ، وأنت الذي تقف من حول هذا النور مبارك أيضا ، لأني قد اخترتك لرسالتي
تبشر وتنذر وتنشر البركة في الأرض .. هذا ما فهمناه من الآية بعد التتبع والتأمل ،
فإن كان هو المراد فذاك ، وإلا فإنه صحيح في ذاته.
(يا مُوسى إِنَّهُ
أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). كشف سبحانه ان الذي يناديه ويخاطبه
هو رب العزة ليسمع
ويطيع (وَأَلْقِ عَصاكَ
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا
مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ). المراد بالجان هنا الحية بدليل قوله تعالى : (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ـ ٢٠ طه. وقوله : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ) ـ ١٠٦ الأعراف ..
ان موسى إنسان ، ومن طبيعة الإنسان الخوف .. ومن الذي لا يخاف إذا تحول القميص
الذي على بدنه إلى حيوان مفترس ، والخاتم الذي في إصبعه الى عقرب ، والعصا التي في
يده الى ثعبان؟. خاف موسى لأنه إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فأمنه الله
سبحانه ، وقال له : أنت رسولي ، وجميع رسلي في أمان وسلام.
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ
ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). إن الأنبياء لا خوف عليهم لأنهم لا يظلمون أنفسهم ولا
غيرهم ، وانما الذي يجب أن يخاف هو من ظلم الله بالكفر والشرك ، أو ظلم نفسه
بالمعصية ، أو غيره بالاعتداء إلا من تاب بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ،
ويشمله بعفوه ورحمته. (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) تقدم مثله في
الآية ١٠٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٧٥ والآية ٢٢ من سورة طه والآية ٣٣ من سورة الشعراء.
(فِي تِسْعِ آياتٍ
إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ). تقدم في الآية ١٠١ من سورة الإسراء.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). مبصرة أي يبصر الإنسان الحق إذا رأى تلك الآيات التسع
التي جاء بها موسى ، وقد أبصر فرعون وقومه الحق حين رأوا هذه الآيات ، ولكنهم
كابروا وعاندوا ، وكذبوا على الله وعلى أنفسهم في قولهم : انها سحر مبين ، ولذا
قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا). أيقنت قلوبهم وعقولهم بصدق موسى وآياته ، ولكنهم أنكروها
بألسنتهم خوفا على منافعهم وحرصا على مناصبهم ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (ظُلْماً وَعُلُوًّا). (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بالكفر والظلم والفساد.
سليمان الآة
١٥ ـ ١٩ :
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ
وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ
مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا
النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا
لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ
النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ
ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))
اللغة :
الوازع المانع ،
ويوزعون يمنعون من الفوضى ويسيرون سيرا منظما. وأوزعني ألهمني.
الإعراب :
لا يحطمنكم في
موضع الجزم جوابا للأمر وهو ادخلوا. وضاحكا حال مؤكدة.
المعنى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) يهتديان به إلى طاعة الله ومنفعة الناس ، ولم
يتطاولا به على
عباد الله وعياله ، أو يخترعا به أسلحة الفناء والدمار ليستعبدا الضعفاء ، ويسيطرا
على أقواتهم ومقدّراتهم ، بل أطاعا الله في أمره ونهيه ، وشكراه على نعمة العلم
التي لا يعادلها شيء (وَقالا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ). المراد بالفضيلة هنا فضيلة العلم النافع ، وبالكثير من
المؤمنين من لم يكن في مكانتهما من العلم .. وفيه إيماء إلى أن في المؤمنين من هو
أفضل من داود وسليمان .. وهذا هو الواقع ، بل ان الأفضل أكثر بكثير من المفضول
بالنسبة اليهما .. ومهما يكن فإن الفضل عند الله لا يقاس بالعلم ، ولا بتسخير
الرياح ، ولا بإلانة الحديد ، ولا بشيء إلا بمنفعة الناس وصلاحهم بجهة من الجهات.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ). داود من نسل يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم ، وقد كرمه الله
بالنبوة ، وأنزل عليه الزبور ، وجعله خليفة في الأرض ، وخصه بأجمل الأصوات ، وألان
له الحديد ، وهو ثاني ملك لدولة اليهود ، ويطلق عليه لقب الملك داود ، أما الملك
الأول فهو طالوت كما في الآية ٢٤٧ من سورة البقرة : (إِنَّ اللهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً). وكان ابنه سليمان نبيا أيضا ، وخصه الله بكثير من النعم ،
منها وراثة الملك عن أبيه ، ويقول التاريخ : ان ملكهما امتد سبعين سنة. وكان ذلك
من حوالى ثلاثة آلاف سنة ، وبعد موت سليمان انقسم اليهود الى دولتين متحاربتين :
دولة إسرائيل ، ودولة يهوذا ، ولما جاء بخت نصر قضى عليهما ، ولم تقم لليهود بعدئذ
قائمة حتى تعاون الاستعمار الانكلوا أمريكي على إنشاء قاعدة عسكرية تحفظ مصالحه في
الشرق الأوسط ، فأنشأوها باسم دولة إسرائيل على أرض فلسطين سنة ١٩٤٨.
ويقول اليهود عن
ملكهم داود : انه كان يخطف النساء ، ويقتل أزواجهن ، وان ابنه سليمان كان من
الجبابرة الطغاة ، والمسرفين المبذرين.
وقال بعض المفسرين
: المراد بقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) ان سليمان ورث العلم فقط عن أبيه .. والصحيح ان الآية تعني
وراثة الملك ، كما حدث ذلك بالفعل ، أما العلم فلا يكون بالوراثة بل بالجد
والاجتهاد ، أو بالوحي من الله .. وحديث : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، محل خلاف
بين المسلمين ، فأثبتته طائفة ، ونفته أخرى.
(وَقالَ
ـ سليمان ـ
يا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ). أقر الإسلام فكرة المعجزة الخارقة على أيدي الأنبياء ،
ومن أنكرها فليس بمسلم ، لأن هذا الإنكار تكذيب لله ورسوله ، وبالمعجزة وحدها نفسر
معرفة سليمان بلغة بعض الطيور .. إن الله سبحانه خصّ كل نبي بنوع خاص من المعجزات
، فكان نصيب سليمان تسخير الريح له وبعض الجن ، ومعرفته بلغة بعض الطيور والحشرات
كالنمل (وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ). المراد بكل هنا الكثرة دون الشمول والاستغراق ، تماما كما
تقول : فلان يملك كل شيء كناية عن كثرة أملاكه وتنوعها. وتدل الآية على ان للطيور
إدراكا ولغة تتفاهم بها ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ـ ٣٨ الأنعام.
(وَحُشِرَ
لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ). و (من) هنا للتبعيض ، أي بعض الجن والانس والطير .. وقلنا
مرارا : اننا نؤمن بوجود الجن لأن القرآن يثبته والعقل لا ينفيه ، وقد كان لسليمان
جيش من الجن والانس والطير ، وكان لكل صنف من هذه الأصناف الثلاثة قادة ومراقبون
يحافظون على النظام في السير وغيره ، وهذا هو معنى يوزعون.
العظات والعبر في نملة سليمان :
(حَتَّى إِذا أَتَوْا
عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). اختلف المفسرون في مكان هذا الوادي ، فمن قائل : انه في
الطائف ، وقائل هو بالشام ، ومهما يكن فإن الآية تدل على ان للنمل إدراكا ولغة
ونظاما ، وهذا ما أثبته العلم ، أما معرفة سليمان بلغة النمل فلا تفسير لها إلا
بالمعجزة الخارقة.
وتسأل : كيف سمع
سليمان كلام النملة ، وبينه وبينها من البعد ما الله أعلم به ، مع ان أحدنا لو
أدخل النملة إلى أذنه لا يسمع لها صوتا؟.
وجاء في بعض
الروايات ان الريح حملت لسليمان كلام النملة. ويؤيد هذه الرواية قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
بِأَمْرِهِ) ـ ٣٦ ص.
(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً
مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ). حين طلب سليمان من ربه أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من
بعده أراد بالملك تسخير الرياح والجن والطير ونحوه ، لأن التمكين في الأرض قد منحه
الله إلى كثيرين ، ولما أتى سليمان على وادي النمل ، وحملت له الريح قول النملة
وفهم معناه أدرك بأن هذا مما لا يكون لأحد من بعده ، فاغتبط بهذه النعمة ، وأدى
حقها بالشكر لله ، ومجرد الشعور بأن هذه النعمة من الله هو نوع من الشكر ، وأعظم
أنواعه هو عمل الخير لوجه الخير.
وكما دلت الآية
على ان لسليمان دولته وجنوده ، وان الله سبحانه قد ألهمه العلم بلغة النملة
ومنطقها فقد دلت أيضا على ان للنملة دولتها ورعيتها ، وان الله قد ألهمها العلم
ببعض الآدميين وأسمائهم ، وإلا فمن أين لها العلم بأن هذا القادم العظيم بموكبه
وجنوده هو سليمان بن داود؟ .. انها عظيمة في عالمها تماما كسليمان في عالمه ،
وانها تعدل في الرعية ، وترفق بها ، وتسهر على مصالحها ، وتؤدي حق الولاية كاملة ،
كما يفعل سليمان وغيره من ولاة الحق والعدل.
ومن تأمل وتدبر
حادث النملة مع سليمان ينتهي إلى العبر والعظات التالية :
١ ـ ان النظام
والتقدير يعم ويشمل جميع الكائنات من أصغر صغير كالنملة إلى أكبر كبير كالمجرّات :
ولا تفسير لهذا النظام الدقيق ، والتدبير العجيب إلا بوجود قادر عليم : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان.
٢ ـ ان المشاركة
الوجدانية والشعور بالمسؤولية نحو الآخرين لا يختص بالإنسان ، بل يعم ويشمل
الحيوانات والطيور والحشرات .. فهذه الذرة التي لا تكاد ترى بالعين حين أحست
بالخطر على جماعتها ، وأبناء جنسها وقفت تحذرهم وتقول : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ). وقد أورد أهل الاختصاص العديد من الشواهد على هذه الحقيقة
من حياة الحيوان.
٣ ـ ان الله
سبحانه إذا أنعم على عبد من عباده بنعمة كالعلم أو السلطان وغيره فعليه أن يشكر
الله ويتواضع له وللناس ، ولا يأخذه الخيلاء والعجب ، ويتطاول بنعمة الله على
الآخرين ، وأن يكون على يقين بأن هذه النعمة قد أنعم
الله بمثلها وبخير
منها على أضعف الكائنات ، وان الإنسان ليس هو الكائن المدلل الذي خصه الله بفضله
ورحمته دون الخلق أجمعين .. وقد أثبتت الكشوف العلمية ان هناك أكوانا أعظم من هذا
الكون الذي نراه ، وانه لا أحد يستطيع معرفة حقيقتها إلا خالق الكائنات ، وان
الإنسان بالنسبة اليها ليس شيئا مذكورا .. ويومئ إلى ذلك قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٥٧ غافر.
وعلى هذا فإن
الآيات التي تقول : (تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشاءُ) .. (يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) .. (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ـ ٢٤ فاطر. إن هذه
الآيات وأمثالها تعم وتشمل الإنسان وغير الإنسان .. وتجدر الاشارة إلى أن الله
سبحانه قد أطلق كلمة الأمة على غير البشر كما في الآية ٣٨ من سورة الأنعام : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ).
مالي لا ارى الهدهد الآة ٢٠
ـ ٢٦ :
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ
تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))
اللغة :
تفقد تعهد ، هذا
هو المتبادر إلى الأذهان ، وتقتضيه العناية بأمور الملك ، وقيل : معنى تفقد فقده
عند غيبته. وسبأ اسم رجل تنسب اليه قبائل باليمن. والفرق بين النبأ والخبر ان
النبأ للخبر الذي له شأن ، والخبر لكل خبر حتى التافه.
والخبء المخبوء.
الإعراب :
ما لي مبتدأ وخبر.
وام هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. والّا بالتشديد كلمتان ان ولا ، والمصدر مفعول
من أجله لزيّن أو لصدهم أي زيّن لهم الشيطان أعمالهم لعدم السجود ، أو صدهم عن
السبيل لذلك.
المعنى :
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). كان لسليمان أصناف من الطيور تأتمر بأمره ، وهي مطلقة غير
مسجونة في قفص وشبهه ، وفي ذات يوم تعهد الطيور ، كما يتعهد القائد جنوده ، فلم
يجد الهدهد من بينها ، ولم يكن قد أذن له بالغياب ، فتهدده ـ على مسمع من الطيور ـ
بالعذاب كالسجن ونحوه ، أو بالإعدام إذا لم يدل بحجة واضحة تبرر غيابه.
(فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ). لم يمض أمد قصير على تهديد سليمان حتى جاء الهدهد ، وقال
له : اكتشفت شيئا هاما لا تعرفه أنت على سعة علمك (وَجِئْتُكَ مِنْ
سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ). المراد بسبإ القوم الذين ينتسبون إلى سبأ بن يشجب بن يعرب
بن قحطان ، والمرأة هي بلقيس بنت شراحيل ، وكان من الملوك ، وورثت ابنته بلقيس
السلطان منه ، وكانت تملك جميع مظاهر الثراء
والترف في زمانها
، وكانت تجلس على سرير ضخم وثمين مرصع بقلوب المساكين ، ومطلي بعرقهم ودمائهم .. وطريف
قول بعض المفسرين : انه كان مسقوفا ، وان مساحته ثمانون ذراعا مربعا ، وأيضا علوه
ثمانون.
(وَجَدْتُها
وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ). وتسأل : ان الطيور والحيوانات والحشرات تعرف بغريزتها
مأكلها ومشربها وما يضرها وينفعها ، ويعرف الذكر منها الأنثى من نوعه ، والأنثى
تعرف الذكر من نوعها ، تعرف ذلك وما إليه لأنه من مقومات وجودها ، وحافظ لحياتها
واستمرار بقائها ، اما ان تميز بين الذكر والأنثى من الآدميين ، وتعرف ان اسم هذه
القبيلة سبأ وتلك ثمود ـ مثلا ـ وان هؤلاء القوم يؤمنون بالله ، وأولئك يكفرون به
، أما هذا وما إليه فلا يتصل بحياتها من قريب أو بعيد كي تعرفه بالفطرة والغريزة
.. اذن فمن أين جاء العلم للهدهد باسم القبيلة ، وبالمرأة التي تملكهم ، وبأنهم
يعبدون الشمس ، مع أننا نحن الآدميين لا نميز بمجرد النظر الذكر من الأنثى في أكثر
أنواع الطيور ، وفي جميع الحشرات والأسماك؟.
الجواب : ان الآية
أثبتت هذه الأوصاف لهدهد سليمان فقط ، وثبوتها له لا يستدعي ثبوتها لكل طير أو لكل
هدهد تماما كما لا تستدعي معرفة فلان باللغة الانكليزية أن يعرفها كل الناس .. أما
معرفة هدهد سليمان بما أخبره به فلا تفسير له عندنا إلا بمشيئة الله.
(أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما
تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ). المراد بالخبء هنا خيرات الكون ، والله سبحانه يخرجها
لعباده بالأسباب الطبيعية كالنبات يخرجه من الأرض بسبب المطر ، والتوالد بسبب
التلقيح ، أو بالوسائل العلمية كالمعادن وما اليها يخرجها الله بأيدي العلماء
وأدواتهم الفنية ، وقد عبّر سبحانه عن هذه الوسائل والأسباب بأيدي الله حيث قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) ـ ٧١ يس. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي لا يقاس بملكه ملك ، ولا بعظمته عظمة.
اذهب بكتابي هذا الآة ٢٧
ـ ٣٥ :
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا
قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))
اللغة :
تولّ تنحّ. ما ذا
يرجعون ما ذا يدور بينهم. والملأ أشراف القوم. ومسلمين منقادين. أفتوني أشيروا
عليّ. وتشهدون تحضرون.
الإعراب :
ما ذا يجوز أن
تكون كلمة واحدة للاستفهام ، ومحلها النصب بيرجعون ، وان تكون كلمتين ما للاستفهام
مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر ، وجملة يرجعون صلة الموصول. ألّا بالتشديد كلمتان ان
المفسرة لكتاب ولا الناهية. ومسلمين حال من واو ائتوني. أمرا مفعول قاطعة. وتشهدون
منصوب بأن بعد حتى ، والنون للوقاية لأن الأصل تشهدونني.
المعنى :
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ). أخبر الهدهد سليمان عن قوم سبأ ، فقال له : سنختبر مقالتك
لنعرف مكانها من الصدق (اذْهَبْ بِكِتابِي
هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ). كتب سليمان إلى القوم يدعوهم إلى طاعته ، وأعطى الكتاب
للهدهد ، وقال له : أوصله إليهم بطريق من الطرق ، وتنح عنهم إلى مكان تراقبهم منه
، وتسمع ما يقولون وما يتفقون عليه ، وترجع إليّ بخبرهم.
(قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ). حمل الهدهد الكتاب الى القوم ، وألقاه في مكان من قصر
الملكة ، بحيث ترى الكتاب ، ولا تعلم من جاء به ، كما تشعر كلمة ألقي بصيغة
المجهول ، ثم تنحى الهدهد إلى مكان قريب يسجل حركات القوم وأقوالهم ، تماما
كالموظف في الاستخبارات ، ولما رأت الملكة الكتاب وعلمت ما فيه جمعت الوزراء
والمستشارين ، وعرضته عليهم ، ووصفته بالكريم لأن صاحبه عظيم الجاه والسلطان ..
والبسملة جزء من كتاب سليمان الذي اقتصر فيه على الدعوة إلى الطاعة من غير مقدمات
وزيادة كلام .. وهذا هو شأن الأنبياء في رسائلهم ، يقتصرون فيها على الهدف المطلوب
، وكان الرسول الأعظم (ص) يقتصر في رسائله إلى الملوك على قوله : «اسلم تسلم» بعد
البسملة والحمد.
(قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ). أشيروا عليّ ، فلا أبتّ بشيء حتى استظهر برأيكم ، وفيه
إيماء إلى أن ديمقراطية الحكم لها جذور في التاريخ البعيد ، ثم تطورت بمرور الزمن
إلى ما هي عليه الآن. (قالُوا نَحْنُ
أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ). قالوا هذا على طريقة الساسة في الإعلان عن قوتهم وحزمهم
وصلابتهم ، وفي الاحتفاظ أيضا نحط الرجعة حيث ألقوا بالمسؤولية كلها على عاتق
الملكة حتى إذا ساءت العاقبة كانوا منها في حل.
هل الفساد طبيعة في الملوك؟
(قالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها
أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ). تطلق القرية على المدينة وعلى بلدة ريفية ، وشرح بعض
المفسرين الجدد هذه الآية بقوله : فهي تعرف ان من طبيعة الملوك إذا دخلوا قرية
أشاعوا فيها الفساد ، وحطموا الرؤساء وجعلوهم أذلة ، وهذا هو دأبهم الذي يفعلونه.
والحق ان الفساد
ينتشر في الأرض بمقدار ما للمجرمين من قوة ، ويتضاعف كلما تضاعفت مقدرتهم عليه
ملوكا كانوا أو غير ملوك ، وإنما خصت الآية الملوك بالذكر لأنهم أقوى وأقدر من
غيرهم .. إن شخصية المجرم تختفي وراء ضعفه ، وتظهر مع قوته .. فمن الخطأ أن نحدد
شخصية الضعيف من خلال تصرفاته .. فقد اشتهر البعض في زماننا بالتقى والصلاح قبل أن
يتولى الرئاسة ، ولما أخذ نصيبه منها التصقت به تهم لا تمحوها الأيام .. نسأل الله
الهداية لنا وله.
وبهذا يتبين معنا
ان صفة الفساد لا تختص بالملوك ، ولا هي من طبيعتهم ، وإلا استحال وجود العدل
والصلاح فيهم ، وانما هي من طبيعة القوي المجرم ، سواء أجاءت قوته من المال أو
الجسم أو العقل أو من منصب زمني أو ديني : ولا رادع للمجرم القوي إلا الدين. قال
الإمام علي (ع) : قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ، ودونه مانع من أمر الله ونهيه
، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين.
الحوّل القلّب هو البصير بتحويل الأمور وتقلّبها ، والحريجة التحرز من الإثم.
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ). أرجع الوزراء والمستشارون الى الملكة أمر السلم والحرب ،
وقبل أن تبت بشيء رأت أن ترسل الى سليمان هدية ، فيها كل غال وثمين ، ثم تنظر هل
يقبلها أو يرفضها؟ فإن قبلها فهو طالب دنيا ، لا طالب دين ، يمكن مصانعته بالمال ،
وان رفض الهدية وأصر على أن نأتيه مسلمين فهو من أصحاب المبادئ والرسالات الذين لا
يساومون
على عقيدتهم ،
ويضحّون من أجلها بكل عزيز ، ومثلهم لا تجوز محاربتهم ، وتصعب مقاومتهم.
عرش بلقيس الآة ٣٦ ـ
٤٠:
(فَلَمَّا جاءَ
سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ
بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ
فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها
أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ
يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ
مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي
عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ
أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))
اللغة :
لا قبل لهم لا
طاقة لهم. والعرش سرير الملك. العفريت الداهية الماكر.
الإعراب :
فلما جاء فاعل (جاء)
محذوف يدل عليه قول الملكة : وإني مرسلة إليهم ،
والتقدير فلما جاء
الرسول سليمان. فما آتاني (ما) مبتدأ وخير خبر. وأذلة حال من ضمير الغائب في
لنخرجنهم ، وجملة هم صاغرون حال.
المعنى :
(فَلَمَّا جاءَ
ـ الرسول ـ
سُلَيْمانَ
قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ). حمل وفد الملكة الهدية إلى سليمان ، وفيها كل نفيس وثمين
، ولما رآها قال للذين جاءوا بها : دعوتكم إلى الله ، فأتيتموني بالمال ، وعندي
منه الشيء الكثير كما رأيتم ، بل أنعم الله عليّ بما هو أعظم من المال ، أنعم علي
بالنبوة والعلم ، وتسخير الرياح والجن والطير .. أتقيسونني بأنفسكم في عبادة المال
وتعظيمه؟
ويذكرنا هذا بقريش
حين فاوضوا رسول الله (ص) ، وقالوا له : ان كنت تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من
أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا. ولما استيأسوا
منه لجأوا إلى عمه أبي طالب ليقنع ابن أخيه بالملك والمال ، وإلا فالبطش والحرب.
فقال رسول الله (ص) مقالته الشائعة الذائعة : والله يا عماه لو وضعوا الشمس في
يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما
تركته.
(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ
فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها
أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ). الخطاب في ارجع لرئيس الوفد الذين جاءوا بالهدية ،
والمعنى ارجع أنت ومن معك بما جئتم به ، وبلّغ قومك اني سأغزوهم بجيش من الانس
والجن والطير لا طاقة لهم ولا لغيرهم بمقاومته والصمود له. وكان الهدهد قد نقل
لسليمان قول الملكة لقومها : (إِنَّ الْمُلُوكَ
إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً). فأكد سليمان ذلك بقوله للرسول : (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها
ـ من
بلادهم ـ أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ).
(قالَ يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). لما رجع الوفد من عند سليمان إلى الملكة ، وأخبرها بما
سمع ورأى لم تر بدا من السمع والطاعة ،
فتوجهت اليه مع
حاشيتها ، وتركت عرشها العظيم يحفظه الجنود والحراس ، وحين علم سليمان بقدوم بلقيس
أحب أن يريها آية تدل على نبوته وعظمته ، وان تكون هذه الآية والمعجزة أخذ عرشها
الذي هو مظهر عزها وملكها ، فسأل من كان بين يديه : أيكم يأتيني به؟
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ). سخر الله سبحانه لسليمان الريح تجري بأمره ، وهذه معجزة
خارقة ما في ذلك ريب ، وسخر له الطير يأتمر بأمره ، وهذه أيضا معجزة ، وأيضا خصه
الله ببعض الجنود من الإنس والجن يأتون بعجائب الأعمال بالنسبة إلى عصرهم ، وكانوا
يرافقون جند سليمان يستعين بهم للتغلب على العدو تماما كالفنيين وأهل الاختصاص
الذين يحتاج اليهم الجيش المحارب في هذا العصر ، ويومئ إلى ذلك طلب سليمان منهم أن
ينقلوا اليه عرش بلقيس في لحظات ، وهو يعلم ما بينه وبين مكان العرش من البعد ،
فقال له بعض الجن : أنا آتيك به سالما كما هو ، وأنت في مجلسك هذا و (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ
الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فكان النصر لهذا حيث استطاع بسلطان ما عنده من العلم أن
يأتي بالعرش المطلوب في لحظة لا في لحظات.
هذا ما دل عليه
ظاهر الآية ، أما التساؤل : من هو هذا الذي عنده علم من الكتاب؟. هل هو من
الملائكة أو الخضر أو عبد صالح من الإنس اسمه آصف ابن برخيا ، وانه كان يعلم اسم
الله الأعظم؟. وأي نوع من العلم استخدمه في نقل العرش هل هو اسم الله الأعظم أو
غيره ، أما هذا التساؤل وما اليه من التساؤلات الكثيرة فجوابها عند ربي ، لأن
الآية لم تصرح ، والحديث الصحيح لم يثبت ، فمن أين يأتي العلم باسم من نقل هذا
السرير ، وبنوع العلم الذي كان عنده؟ وأقرب الاحتمالات انه لم يكن من الجن لأن
النصر كان له على عفريت من الجن كما صرحت الآية السابقة ، وانه نقل العرش بمعجزة
خارقة حيث أتى به قبل أن يرتد الطرف .. والمعجزة كما تظهر على أيدي الأنبياء فإنها
تظهر أيضا على أيدي الذين يصطفيهم الأنبياء بأمر الله تعالى.
ومحل العبرة
والعظة في هذا الحادث ان بلقيس صاحبة الملك والنعيم قد خضعت
صاغرة لسليمان ،
واستلبها عرشها العظيم في طرفة عين ، وهو مظهر مجدها وعظمتها.
(فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ
أَكْفُرُ). المراد بالكفر هنا كفران النعم ، لا الكفر بالله ،
وسليمان لا يجحد نعمة ربه ، ومحال أن يجحدها لأنه نبي معصوم ، ولكن قال ذلك تمهيدا
لقوله : (وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ). وفي معناه (إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ـ ٧ الإسراء.
نكروا لها عرشها الآة ٤١
ـ ٤٤ :
(قالَ نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا
جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ
اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ
صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))
اللغة :
تنكير الشيء
تغييره من حال إلى حال. والصرح كل بناء عال. واللجة معظم الماء. والممرّد المملس.
والقوارير الزجاج.
الإعراب :
ننظر مجزوم بجواب
نكروا. وما كانت (ما) فاعل صدّها. ورب العالمين بدل من كلمة الجلالة.
المعنى :
(قالَ نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ). قال سليمان لبعض رجاله : غيروا شيئا من عرش بلقيس لنرى هل
تدرك انه هو أو يخفى عليها؟. (فَلَمَّا جاءَتْ
قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) نكروا لها عرشها وسألوها عنه (قالَتْ كَأَنَّهُ
هُوَ) لم تنف ولم تثبت .. لم تنف لأن وجه الشبه قوي ، ولم تثبت
لأنها تركت عرشها في القصر ، ودونه الجنود والحراس. هذا ، إلى أن الساسة والحكام
يحتفظون بخط الرجعة في أكثر كلامهم وأجوبتهم.
(وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ). هذا من كلام سليمان وقومه ، ومعناه انهم عرفوا الحق ،
وآمنوا به قبل بلقيس (وَصَدَّها ما كانَتْ
تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ). أي ان الذي منع بلقيس عن معرفة الحق والايمان به هو شركها
وعبادتها الشمس من دون الله.
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي
الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ
إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ). المراد بالصرح هنا القصر ، واللجة كثرة الماء ، والممرد
المملّس ، والقوارير الزجاج ، ويدل ظاهر الآية أنه كان لسليمان قصر من زجاج شفاف ،
وان الماء كان يجري من تحته ، وان بلقيس لما دخلت القصر لم تتبين الزجاج من شدة
صفائه ، ولذا كشفت عن ساقيها لتخوض الماء ، فقال لها سليمان : هذا زجاج صاف ،
والماء يجري من تحته (قالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). ظلمت نفسها بالكفر ، ثم تابت وأسلمت ، وحسن إسلامها.
صالح الآة
٤٥ ـ ٥٣ :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ
يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا
اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))
اللغة :
المراد بالسيئة
هنا العذاب ، وبالحسنة الرحمة. اطيرنا تشاءمنا. والرهط من ثلاثة رجال الى تسعة.
وخاوية خالية.
الإعراب :
صالحا بدل من (أخاهم).
وإذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ وخبر. وتقاسموا فعل أمر أي قال بعضهم لبعض :
احلفوا. وكيف خبر كان وعاقبة اسمها. والمصدر من انّا دمرناهم بدل من عاقبة.
المعنى :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ). تقدم في الآية ٧٣ من سورة الأعراف والآية ٦١ من سورة هود (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) فريق آمن بالحق ، وفريق كذّب به ، لأنه يصطدم مع منافعهم
وأغراضهم ، ومن هنا وقع الخصام بين الفريقين ، ولولاها لقال الفريق الثاني للأول :
لكم دينكم ولي دين.
(قالَ يا قَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). أنذر صالح المكذبين بالعذاب ان أصروا على الضلال والعناد
، فقالوا ساخرين : ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين كما في الآية ٧٧ من سورة
الأعراف ، فقال لهم بعطف ولين : علام تستعجلون نقمة الله ، وهو سبحانه لم يعاجلكم
بها ، وأمهلكم طويلا لترجعوا عن غيكم .. فخير لكم أن تتوبوا اليه ، وتطلبوا منه
الرحمة ، وهو كريم وغفور رحيم يقبل منكم التوبة ، ويشملكم بعفوه ورحمته.
(قالُوا اطَّيَّرْنا
بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ). التطير التشاؤم .. بعد أن دعاهم صالح إلى الله ، وأعرضوا
عن دعوته أصابهم المرض والجدب ، فتشاءموا به ، وبدعوته وبمن أمن به وبها. (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ). ان الذي نزل بكم من البلاء هو بارادة الله التي تنتهي
اليها جميع الأسباب ، وتقدم نظيره في الآية ١٣١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٨٤. وكان
النبي (ص) يحب الفأل لأن فيه الأمل والثقة بالله ، ويكره الطيرة لأن فيها التوقع
للبلاء ، وفي الحديث : إذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) تختبرون بالسراء والضراء لتظهر أفعالكم التي تستحقون بها
الثواب والعقاب.
(وَكانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ). كانوا من المترفين يتطاولون على الناس بثرائهم ، ويتخذون
منه أداة للاستبداد والإفساد في الأرض ، ويقاومون كل مصلح ومحب للخير ، ولم يكن
فيهم جهة تذم وجهة تمدح ، بل كل ما فيهم قبيح ومذموم ، وهذا هو المراد بقوله تعالى
: ولا يصلحون. (قالُوا تَقاسَمُوا
بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا
مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ). ضمير تقاسموا يعود للتسعة المفسدين ، وضمير لنبيتنه وأهله
ووليه يعود لصالح
، والمعنى ان هؤلاء التسعة قال بعضهم لبعض : احلفوا بالله ان نباغت صالحا وأهله
ليلا ونقتلهم جميعا ، ثم نقول لأرحامه وأولياء دمه : ما قتلناهم ، ولا نعرف من
قتلهم ، ونحن صادقون فيما نقول.
(وَمَكَرُوا مَكْراً
وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). أما مكر التسعة فهو تدبيرهم ان يباغتوا صالحا بياتا ،
ويقتلوه وأهله دون أن يشعر أحد بذلك ، وأما مكره تعالى فهو انه تعالى عجل بأخذهم
وهلاكهم قبل أن يصلوا إلى صالح من حيث لا يشعرون. انظر تفسير الآية ٥٤ من سورة آل
عمران ج ٢ ص ٨٦ فقرة : (اللهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ) (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ). أرادوا أن يهلكوا صالحا فأهلكهم الله ، وفي ذلك عبرة وعظة
لمن يبيت الاساءة للآخرين (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أنفسهم. لأن الله حذرهم وأمهلهم ، فأصروا على الفساد
والضلال (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) المراد بالعلم هنا المقرون بالعمل والاعتبار ، أما العلم
المجرد عن العمل فإن الجهل خير منه لأنه وبال على صاحبه (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ). هذا على عادة القرآن الكريم إذا ذكر الظالمين وعقابهم ذكر
المتقين وثوابهم ، والقصد الترهيب والترغيب.
لوط الآة
٥٤ ـ ٥٨ :
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ
لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ
إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ
مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))
حكاية الخبر
بالمعنى :
تقدم نظير هذه
الآيات في سورة الأعراف الآية ٨٠ ـ ٨٤ ج ٣ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤. ولا فرق إلا في بعض
التعابير ، ففي سورة الأعراف حكى الله سبحانه عن لوط انه قال لقومه : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ
بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ). وحكى عنه هنا انه قال لهم : (أَتَأْتُونَ
الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وكلاهما ذم وتوبيخ. وقال هناك : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وقال هنا : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) وكل من الإسراف والجهالة تجاوز للحد. وقال تعالى هنا : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ
مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) وقال هناك : (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي أنظر سوء عاقبتهم.
ومثله كثير في
كتاب الله ، فهو يحكي كلام الأنبياء وغيرهم بلفظ آخر في آية ثانية ، وبثالث في آية
ثالثة ، وفيه دلالة على ان للإنسان ان ينقل كلام الآخرين بنصه الحرفي وبمعناه أيضا
دون لفظه على شريطة أن لا يقلّم أو لا يطعّم.
الجزء العشرون
سلام على عبادة الدين اصطفى الآة ٥٩
ـ ٦٤ :
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها
رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ
مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ
اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))
اللغة :
ذات بهجة أي ذات
منظر حسن يبتهج به من يراه. والمراد بيعدلون هنا يحيدون عن الحق لأنهم جعلوا لله
عديلا ومثيلا ، وخلالها بين أماكنها. والرواسي الجبال.
الإعراب :
آلله الأصل أألله
والهمزة للاستفهام والله خير مبتدأ وخبر. وأمّا كلمتان أم العاطفة المتصلة وما
بمعنى الذي أي أم الذي يشركون. وأمّن كلمتان أم المنقطعة بمعنى بل والهمزة ومن اسم
موصول ، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف أي بل الذي خلق السموات والأرض
خير. وكذا ما بعدها من نظائرها. والمصدر من أن تنبتوا اسم كان. وإله مبتدأ والخبر
محذوف أي أإله تثبتون مع الله. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف وما زائدة إعرابا أي
تذكرون تذكرا قليلا.
الصلاة والسلام على المتقين :
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى). بعد أن ذكر سبحانه بعض الأنبياء وما خصهم به من الآيات
والمعجزات أمر نبيه الكريم أن يحمد الله على ما خصه به من النعم ، وان يسلم على
جميع الأنبياء الذين اصطفاهم لرسالته ، وقرن السلام عليهم بالحمد له تنبيها الى
منزلتهم وتعظيما لشأنهم ، وكل من اتقى الله وعمل بسنّة رسول الله (ص) يجوز السلام
والصلاة عليه حيا وميتا ، نبيا أو غير نبي ، وبالخصوص إذا كان من أهل بيت محمد (ص)
وجاهد من أجل الإسلام وانتشار دعوته وعلوّ كلمته ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلائِكَتُهُ) ـ ٤٣ الأحزاب. وفي
صحيح البخاري وغيره ، قالوا : كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال : قولوا اللهم صلّ
على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد
وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد.
وقد جرت عادة
المسلمين من عهد الرسول الأعظم (ص) أن يفتتحوا كتبهم وخطبهم بالبسملة والحمد
والصلاة على محمد وعلى من استن بسنته من أهل بيته وصحابته ، ومصدر ذلك هذه الآية
الكريمة : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
(آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ). المراد بهذه الآية وما بعدها توبيخ المشركين والرد
عليهم بصيغة
الاستفهام وبأسئلة لا جواب لها إلا الإذعان والتسليم ، وهي :
١ ـ (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)؟ أيهما خير وأعظم ، الله جلت كلمته أم الأوثان وما اليها
مما تعبدون؟
الجواب : الله ،
ما في ذلك ريب حتى عند المشركين ، لأنهم لا بنكرون وجود الخالق ، وانما يدعون معه
إلها آخر.
٢ ـ (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بنظامهما وترتيبهما الدقيق العجيب الذي يدل على ارادة عليم
حكيم (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) ينزل المطر من السماء بأسبابه الطبيعية ، وأيضا تنبت الأرض
من كل زوج بهيج بالأسباب الطبيعية ، وبما ان الله سبحانه هو الذي خلق الطبيعة بكل
ما فيها صح إسناد المطر والانبات وغيرهما اليه تعالى (ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها) بل ولا أن تعرفوا مصدر الحياة في النبات وغيره إلا إذا
فسرتموه بوجود إله قادر يقول للشيء (كُنْ فَيَكُونُ) ومثله قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ـ ٦٤ الواقعة. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) تزعمون انه أعانه على خلق السموات والأرض ، وإنزال الغيث ،
وإنبات الحدائق؟ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ) عن الحق لأنهم يساوون بين الله وغيره.
٣ ـ (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي مستقرة على ما هي عليه في شكلها وحجمها وعناصرها
ومركزها ، وما الى ذلك مما لا يكون الا بتصميم من خبير عليم (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) ينتفع بها الخلائق (وَجَعَلَ لَها
رَواسِيَ) كيلا تميد بكم (وَجَعَلَ بَيْنَ
الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) المراد بالبحرين الماء المالح والماء العذب ، وبالحاجز
انخفاض مكان الأول عن مكان الثاني ، ولو انعكس الأمر لفسد الماء العذب. أنظر ما
قلناه في تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) ـ ٥٥ الفرقان. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) شاركه في ذلك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) أما غير الأكثر فإنهم يعلمون ، ولكنهم يكابرون ويعاندون
خوفا على مكاسبهم.
٤ ـ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا
دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ). إن الله سبحانه يمد بالعون والتوفيق من يلجأ اليه ،
ويتوكل عليه ، فيهيئ له الأسباب التي يبلغ بها
حاجته ، وتكشف عنه
البأساء والضراء إذا سعى لها سعيها المألوف .. ومن قبع في مكانه ، وهو قادر على
السعي ، فقد ظلم نفسه (وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفاءَ الْأَرْضِ) يخلف الجيل اللاحق الجيل السابق في ملك الأرض وعمارتها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) المراد بالتذكر هنا العمل بالدلائل ، والانتفاع بالنذر ،
والاتعاظ بالعبر.
٥ ـ (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بواسطة الجبال والكواكب والآلات ، وما الى ذلك مما يدخل في
قوله تعالى : (وَعَلاماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ـ ١٦ النحل. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ). تقدم في الآية ٥٥ من سورة الأعراف والآية ٥٠ من سورة
الفرقان (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ،
تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ويفترون بنسبة الشريك والولد اليه تعالى.
٦ ـ (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ). يدل التدبير والإحكام في الخلق على أنه فيض من مدبر حكيم
، ومتى ثبت ابتداء الخلق منه تعالى ثبتت إعادته إذا أخبر هو بذلك لأن الاعادة أهون
من الابتداء على حد تعبير الآية ٢٧ من سورة الروم. (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بإنزال الغيث من الأولى ، وإخراج النبات من الثانية (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ان لله شريكا أو ولدا.
والخلاصة ان الله
سبحانه أورد العديد من الأدلة والبراهين على وجوده ووحدانيته ، وأوضحها بكل أسلوب
، فليأت الجاحد أو المشرك بدليل واحد على جحوده أو شركه .. وهذا الأسلوب في جدال
الخصوم ودعوتهم إلى حكم العقل دليل قاطع على ان الإسلام يرتكز على فطرة الله التي
فطر الناس ، ومن أجل ذلك وصفه تعالى بالدين القيم.
عالم الغيب والبعث الآة ٦٥
ـ ٧٥ :
(قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ
هُمْ
فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا
كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ
وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ
لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))
اللغة :
ادّارك تتابع
وتلاحق. وعمون جمع عم ، وهو أعمى القلب والبصيرة. وأساطير خرافات. وردف فعل ماض
بمعنى لحق وتبع. وتكنّ تستر وتخفي.
الإعراب :
أيان ظرف زمان
يتضمن معنى الاستفهام ، وهو مبني على الفتح في محل نصب بيبعثون. وادارك فعل ماض
وأصله تدارك. وأئذا كلمتان همزة الاستفهام وإذا وهي متعلقة بفعل محذوف أي أنخرج من
القبور إذا كنا ترابا. وهذا إشارة إلى الإخراج وهي مفعول ثان لوعدنا. والمصدر من
أن يكون اسم عسى. واسم يكون ضمير الشأن ، وردف فعل ماض ، ولكم اللام زائدة إعرابا
والأصل ردفكم أي لحقكم.
المعنى :
(قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). طلب الجاحدون من الرسول الأعظم (ص) ان يحدد لهم أمد البعث
، فقال له العلي الأعلى : قل لهم : لا أحد من الانس والجن والملائكة يعلم الغيب
وأمد البعث الا الله ، وانهم يحشرون من حيث لا يشعرون (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي
الْآخِرَةِ). ادارك تتابع ، والمعنى ان الأنبياء أخبروا المشركين
بالآخرة ، فلم يصدقوا ، ولما بعثوا ورأوا الآخرة رأي العين علموا ان إخبار
الأنبياء كان حقا وصدقا ، فالتتابع المقصود هنا ان علم المشركين بالآخرة حصل بعد
إخبار الأنبياء بها وبعد رؤيتها (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْها) أي كيف يسألون عن وقت الآخرة ، وهم غير مؤمنين بها؟ (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بل عميت قلوبهم عن الآخرة لضلالهم وعنادهم حتى استحال أن
يروها.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا
هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). تقدم مثله في الآية ٥ من سورة الرعد والآية ٣٦ و ٨٤ من
سورة المؤمنون.
(قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ). هذا تهديد لمن كذب بنبوة محمد (ص) أن يصيبهم من الهلاك ما
أصاب غيرهم من الأمم السابقة الذين كذبوا أنبياءهم. وتقدم نظيره في الآية ١٣٧ من
سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٩.
(وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ). تقدم بنصه في الآية ١٢٧ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٦٥.
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). حذّر الرسول الأعظم (ص) قريشا من عاقبة تكذيبهم وتمردهم ،
فقالوا له ساخرين : ومتى يكون ذلك؟ وكل نبي كان يسمع هذا الجواب الساخر من قومه
إذا أنذرهم وحذرهم (قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) ربما كان العذاب وراءكم ، وأنتم لا تشعرون ، وفي هذا
المعنى الآية ٥١ من سورة الإسراء : (وَيَقُولُونَ مَتى
هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).
(وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ). انه تعالى يتفضل عليهم بالإمهال وتأخير العذاب ليتوبوا
ويرجعوا عن غيهم ، وكان عليهم ان يشكروا الله على ذلك ، ولكنهم استعجلوا العذاب
ساخرين مستهزئين (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ). أعلنوا الشرك بالله ، وأضمروا الكيد والشر لرسول الله ،
والله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، وانه مجازيهم لا محالة على هذا وذاك بما يستحقون
(وَما مِنْ غائِبَةٍ
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). لا يغيب شيء عن علمه تعالى ، ما في ذلك ريب ، والقصد من
هذا الإخبار تهديد الخونة والعملاء الذين يتسترون بثوب النفاق والرياء.
ان هذا القرأن
يقص الآة
٧٦ ـ ٨٥ :
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
(٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ
يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا
بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً
مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ
بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥))
اللغة :
الفوج الجماعة.
ويوزعون يمنعون.
الإعراب :
بهادي الباء زائدة
وهادي خبر أنت على لغة تميم ، وخبر (ما) على لغة أهل الحجاز. والمصدر من ان الناس
مجرور بالباء المحذوفة أي تكلمهم بكون الناس غير موقنين بآياتنا.
شعار إسرائيل سمعنا وعصينا :
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ). تحدث القرآن عن غرائب بني إسرائيل ، وكرر الحديث عنها
وعنهم ، تحدث عن خصائصهم وشعارهم ، وعما اختلفوا فيه على عهد موسى وبعده ، ويتلخص
شعارهم الذي يدينون به ولا يحيدون عنه ، يتلخص بقولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، كما جاء في الآية ٩٤ من سورة البقرة والآية ٤٥ من سورة
النساء. أي سمعنا من الله وأنبيائه وعصينا الله والأنبياء ، وقد التزموا هذا
الشعار في عهد موسى نفسه حتى شكاهم إلى ربه ، ووصفهم بالفاسقين ، وهو يقول بحسرة
ولوعة : (رَبِّ إِنِّي لا
أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ) ـ ٢٥ المائدة ،
وفي آية ثانية وصفهم بالسفهاء : (قالَ رَبِّ لَوْ
شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
السُّفَهاءُ مِنَّا) ـ ١٥٥ الأعراف.
وما زالوا على هذا الشعار والمبدأ إلى يومنا هذا ، ففي سنة ١٩٦٧ قررت هيئة الأمم
المتحدة التي تمثل شعوب الأرض شرقها وغربها ، قررت انسحاب إسرائيل من القدس ، فما
كان جواب مندوبها إلا أن قال : الأمم المتحدة تنكة زبالة كما نشرت الصحف.
أما الذي اختلفوا
فيه فهو العمل بالتوراة على عهد موسى حتى رفع الله الجبل فوقهم وهددهم بالهلاك : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا
قالُوا
سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ـ ٩٣ البقرة. و ( اختلفوا في الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى ، ومنهم السيد
المسيح (ع) ، ففريقا كذبوا ، وفريقا يقتلون كما في الآية ٨٧ من سورة البقرة. وأيضا
اختلفوا في نبوة محمد (ص) ، وما آمن به إلا قليل .. ولو كانوا طلاب حق لاتفقوا على
الأخذ بالقرآن الذي قامت الدلائل والبراهين على صدقه (وَإِنَّهُ لَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). هدى لمن طلب الهداية ، ورحمة لمن عمل بأحكامه وتعاليمه.
(إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ). يقضي يوم القيامة حيث تزاح الأباطيل وتضمحل العلل ، يحكم
ويفصل الله بين بني إسرائيل وغيرهم فيما اختلفوا ويختلفون فيه من شئون الدين
والدنيا (فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) فمن التجأ اليه فهو في كهف حريز ، ومانع عزيز (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) والمحقّ لا يبالي بما قيل ويقال عنه.
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما
أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ). هذه الجمل تهدف الى شيء واحد ، وهو ان هناك صفات تميت
القلب ، وتدفع بالإنسان أن يصر على الكفر والنفاق والضلال ، وتجعله والموتى سواء
لا تجدي معه عظة ولا إنذار ، ومن أهم هذه الصفات الطمع والحرص على المكاسب
والمناصب .. وقد تكرر هذا المعنى بأساليب شتى ، منها قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ـ ١٧٩ الأعراف. ج
٣ ص ٤٢٥ ، وقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ
كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ـ ٤٣ يونس ج ٤ ص
١٦٢ (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا
مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ). ان الذي يسمع منك ويطيعك يا محمد هو الذي يطلب الحق لوجه
الحق بحيث إذا قام عليه الدليل آمن به وانقاد له ، أما أرباب المطامع والمصالح
فيولون عنك مدبرين.
__________________
(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ). وقع أي ثبت ولزم ، والمراد بالقول هنا ما وعد الله به من
قيام الساعة ، وبالناس الكافرون ، أما الدابة فقد كثر الكلام فيها ، والله سبحانه
لم يبيّن لنا ما هي. والحديث عن المعصوم في بيانها لم يثبت ، حتى ولو صح سنده لم
نعمل به لأنه خبر واحد ، وهو حجة في الأحكام الفرعية ، لا في الموضوعات وأصول
العقيدة ، والقول بغير علم حرام ، فلم يبق إلا الأخذ بظاهر الآية الذي يدل على ان
الله سبحانه عند ما يحشر الناس للحساب يخرج من الأرض مخلوقا يعلن ان الكافرين
جحدوا الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته ، ونبوة رسله.
وتسأل : لما ذا لم
يبين سبحانه حقيقة هذه الدابة ، وترك الناس في حيرة من أمرها ، حتى قال من قال
فيها بالجهل والوهم؟
الجواب : ان الغرض
من ذكرها هو مجرد التشهير بالكافرين ، وانهم يحشرون غدا أذلاء مفضوحين على رؤوس
الاشهاد ، وهذا الغرض يحصل بمجرد الاشارة إلى الدابة ، وان لم تعرف باسمها
وحقيقتها. فهذه الآية أشبه بقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ـ ١٠٦ آل عمران.
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا). ممن يكذب (من) هنا بيانية ، وليست للتبعيض ، مثلها في
قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي كل الأوثان لا بعضها ، والمعنى ان في الأمم مصدقين
بآيات الله ومكذبين بها ، والله سبحانه يحشر غدا للحساب والجزاء جميع المكذبين دون
استثناء ، ومعلوم ان الله سبحانه يحشر المصدقين والمكذبين ، ولكن الغرض من ذكر
المكذبين التهديد والوعيد (فَهُمْ يُوزَعُونَ) تمنعهم الملائكة من الذهاب يمنة ويسرة ، وتسوقهم إلى
الموقف سوق النعاج إلى الذبح.
(حَتَّى إِذا جاؤُ
قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ). إذا وقف الجاحدون بين يدي الله غدا للحساب يقول لهم موبخا
ومقرعا : لما ذا كذبتم رسلي ، ولم تستجيبوا لدعوتهم؟ وإذا كنتم جاهلين بصدقهم فلما
ذا أعرضتم عن أدلتهم التي توجب العلم ، ولم تنظروا اليها نظرة من يطلب الحق ويبحث
عنه
لوجه الحق؟. وأي
شيء أولى وأهم من ذلك؟ وقد اتفق العلماء قولا واحدا على ان العقل يحكم بوجوب النظر
إلى معجزة مدعي النبوة دفعا للضرر المحتمل ، وقالوا : ان العقل لا يعذر الجاهل بما
يجب عليه إذا كان قادرا على البحث وتحصيل المعرفة ، وفي الحديث : يقال للعبد يوم
القيامة : هلا علمت؟ فان قال : نعم. قيل له : هلا عملت؟ وان قال : ما علمت. قيل له
: هلا تعلمت حتى تعمل (وَوَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) حلّ بهم غضب الله وعذابه بسبب كفرهم وتقصيرهم في البحث
والسؤال (فَهُمْ لا
يَنْطِقُونَ) لانقطاع حجتهم ، وأيضا لدهشتهم من شدة الهول.
تمرالجبال مرالسحاب الآة ٨٦
ـ ٩٣ :
(أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ
أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ
مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ
فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ
كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما
أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ
(٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))
اللغة :
داخرين أذلاء
صاغرين. والمراد بالبلدة هنا مكة.
الإعراب :
داخرين حال من
فاعل أتوه. وصنع منصوب على المصدرية أي صنع الله ذلك صنعا. ويومئذ متعلق بآمنون
والتنوين عوض عن جملة محذوفة أي يوم إذ جاء بالحسنة. وجملة هل تجزون مفعول لقول
محذوف أي يقال لهم : هل تجزون. والذي حرمها بدل من رب. والمصدر من ان اعبد مجرور
بالباء المحذوفة ومثله ما بعده. وبغافل الباء زائدة اعرابا وغافل خبر لربك.
المعنى :
(أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). تقدم مع التفسير في الآية ٦٧ من سورة يونس ج ٤ ص ١٧٧ (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). ينفخ في الصور إيذانا بقيام الساعة ، فتنخلع قلوب الخلائق
من هذا النفخ خوفا وهلعا الا قلوب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين
استثناهم سبحانه بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) وأشارت اليهم الآية ٦٩ من سورة النساء : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).
وفي بعض التفاسير
ان النفخات في الصور ثلاث : نفخة الفزع ، ونفخة موت الجميع ، ونفخة البعث ، ويدل
على النفخة الأولى الآية التي نفسرها ، أما الثانية والثالثة فيدل عليهما قوله
تعالى : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ـ ٦٨ الزمر. (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي ان الخائفين يحشرون الى ربهم صاغرين.
الجبال وحركة الأرض :
(وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ). موضوع هذه الآية والتي قبلها واحد ، وهو الحديث عن يوم
القيامة وأهواله ، وعليه يكون المعنى ان الله سبحانه يقتلع الجبال من أماكنها
ويسيّرها في الفضاء تماما كما تسير السحاب ، ولكن يخيل للرائي انها ثابتة ، ذلك ان
الجرم الكبير إذا سار في سمت واحد وخط مستقيم فلا تدرك الأبصار حركاته لضخامته وبعد
أطرافه ، وبالخصوص إذا كان الرائي بعيدا عنه.
وبهذا يتبين معنا
خطأ من استدل بهذه الآية على ان القرآن قد أشار إلى حركة الأرض ، وهناك آيات كثيرة
تؤكد ان المراد بمرور الجبال في هذه الآية هو تسييرها في الفضاء يوم القيامة ، من
تلك الآيات قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ) ـ ٤٧ الكهف. وقوله
: (وَسُيِّرَتِ
الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) ـ ٢٠ النبأ. وقوله
: (يَوْمَ تَمُورُ
السَّماءُ ـ أي تضطرب ـ
مَوْراً
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ـ ٩ الطور. وكلام
القرآن واحد يشهد بعضه على بعض ، وينطق بعضه ببعض.
أجل ، ان أهل بيت
النبي (ص) الذين عندهم علم الكتاب والسنة قد صرحوا بحركة الأرض قبل «كوبرنيكوس»
بحوالى الف عام ، قال الإمام علي (ع) في نهج البلاغة : وبسط الأرض على الهواء ...
وأرساها على قرار ... ورفعها بغير دعائم ... وعدّل حركتها بالراسيات. وقال حفيده
الإمام جعفر الصادق (ع) : «ان تدل الأشياء على حدوثها من دوران الفلك بما فيه هي
سبعة أفلاك : تحرك الأرض الخ».
(صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) من أكبر كبير إلى أصغر صغير ، وهذا الإتقان والترتيب والنظام
من أقوى الشواهد على وجود الله ووحدانيته وعظيم قدرته (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ). والذي خلق الإنسان ، وأتقن صنعه يعلم ما يفعل من خير أو
شر ، وما توسوس به نفسه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ـ ١٦ ق.
(مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وأوضح تفسير لقول الله هذا هو قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) ـ ١٦٠ الأنعام ج ٣
ص ٢٩٠.
(إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). المراد بالبلدة مكة المكرمة ، وخصها بالذكر مع انه رب
العالمين لينبه قريشا الى نعمته عليهم بسببها ، فلقد كانوا يستمدون سيادتهم على
العرب من تعظيمها وجعلها حرما آمنا يحرم فيه القتل والقتال ، والصيد وقطع الأشجار
، وما إلى ذلك مما يدل على شرفها ومكانتها ، ومع هذا عبدت قريش الأصنام ، ودنست
بها الكعبة ، فأشركت برب هذه البلدة المكرمة المعظمة الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من
خوف .. وقول الرسول الأعظم (ص) : (إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) .. (وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو تعريض بقريش وعبادتها الأصنام ، وان الواجب عليها أن
تترك عبادة الأصنام التي لا تملك شيئا ، وتعبد رب هذه البلدة الذي له الخلق والملك
والأمر ، وهو على كل شيء قدير ، وقد تفضل على قريش بالكثير من عطائه وآلائه.
(وَأَنْ أَتْلُوَا
الْقُرْآنَ). المراد بتلاوة القرآن هنا الدعوة إلى الايمان به ، والسير
على منهجه (فَمَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ). دعا الرسول الأعظم (ص) الى الهدى ، فمن سمع وأطاع فقد
أحسن لنفسه ، وسلك بها سبيل الخير والنجاة ، ومن أعرض وتولى فقد أساء اليها
وأوردها موارد الشر والهلاك .. والنبي (ص) غير مسؤول عما يحل بأهل الغي والضلال
بعد أن نصح لهم وأبلغهم رسالات ربه (وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) على ما وفقني اليه من تبليغ رسالاته
إلى عباده كما أحب
وأراد (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَتَعْرِفُونَها). لقد أراهم سبحانه آياته ودلائله في أنفسهم وفي الآفاق
فأنكروها .. فقال لهم : تنكرونها الآن ، وتعترفون بها غدا حيث لا ينفعكم الاعتراف
والإذعان (وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). هذا تهديد ووعيد على إعراضهم وانكارهم آيات الله وبيناته.
سورة القصص
قال الطبرسي : هي
مكية ، وآياتها ٨٨ آية.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
آيات الكتاب الآة ١ ـ ٦ :
(طسم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ
بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))
اللغة :
شيعا فرقا مختلفة
متناحرة.
الإعراب :
بالحق متعلق
بمحذوف حالا من فاعل نتلو أي متكلمين بالحق. وضمير منهم يعود الى الذين استضعفوا.
المعنى :
(طسم) تقدم الكلام
على مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ). تلك إشارة الى هذه السورة ، والكتاب القرآن ، والمبين
الواضح في تمييز الغي من الرشد (نَتْلُوا عَلَيْكَ
مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). لقد تلا سبحانه هذا النبأ على نبيه الكريم مرات ومرات ،
وأوضحنا الغاية من تكراره عند تفسير الآية ٩ من سورة طه ، فقرة : «تكرار قصة موسى».
(إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً). طغى وبغى ، وتكبر وتجبر ، وقسم أهل مملكته إلى فئات
متطاحنة ليدوم له الملك ، يعطي فئة ، ويمنع أخرى (يَسْتَضْعِفُ
طائِفَةً ـ أي بني إسرائيل ـ
مِنْهُمْ
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ). تقدم مثله في الآية ٤٩ من سورة البقرة ج ١ ص ٩٩ والآية
١٢٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٨٢.
لما ذا اضطهد فرعون بني إسرائيل؟
قال بعض المفسرين
الجدد في ظلاله : «اضطهد فرعون بني إسرائيل لأن لهم عقيدة غير عقيدته ، فهم يدينون
بدين جدهم ابراهيم ويعقوب ، ومهما وقع في عقيدتهم من الانحراف فقد بقي لها أصل
الاعتقاد بإله واحد». ونحن نسأل هذا المفسر الجديد : من أين جاءك العلم ان اليهود
كانوا في عهد فرعون على دين ابراهيم (ع) ، وأنه قد بقي لهم الاعتقاد بإله واحد؟ هل
جاءك هذا العلم من قولهم : (يا مُوسَى اجْعَلْ
لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، أو من قولهم له : (أَرِنَا اللهَ
جَهْرَةً) ، أو من عبادتهم العجل ، أو من قتلهم الأنبياء؟ وإذا كان
فرعون قد اضطهدهم لأنهم على دين ابراهيم فلما ذا وصفهم نبيهم ومخلّصهم موسى
بالفاسقين كما في الآية ٢٥ من سورة المائدة ؛ وبالسفهاء في الآية ١٥٥ ، وبالمبطلين
في الآية ١٧٣ ، وبالجهل في الآية ١٣٨ من سورة الأعراف ، كما وصفهم الله سبحانه في
العديد من آياته بالفساد وبكل جريمة ورذيلة؟.
لقد ذكر القرآن ان
فرعون اضطهد بني إسرائيل ، وانه تعدى الحدود في
ظلمه ، ولكنه لم
يشر الى السبب ، ولذا اختلف الفقهاء في تحديده ، فمن قائل : ان كاهنا قال لفرعون :
يولد مولود في بني إسرائيل ينتزع منه الملك. وقائل : ان الأنبياء الذين كانوا قبل
موسى بشّروا بمجيئه ، ولما علم فرعون بذلك خاف وذبح أبناء إسرائيل .. وما رأيت
أحدا من المفسرين أو غيرهم قال : ان فرعون اضطهد اليهود لأنهم على دين ابراهيم.
وإذا نظرنا الى
سيرة بني إسرائيل مع نبيهم ومخلّصهم موسى ، ومع غيره من أنبيائهم الذين جاءوا بعد
موسى حيث كانوا يكذبون فريقا وفريقا يقتلون ، ونظرنا الى سيرتهم وأعمالهم في كل
بلد يحلّون فيه من اثارة الفتن ، وتدبير المؤامرات ، ومحاولة السيطرة على وسائل
الانتاج والدعاية وغيرها من المرافق العامة ، إذا نظرنا الى ذلك كله تبين لنا صحة
ما قاله الشيخ المراغي في تفسيره : ان فرعون انما اضطهد بني إسرائيل لأنه كان
يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات وبأيديهم زمام المال ، فإذا طال بهم
الأمد استولوا على المرافق العامة ، وغلبوا عليها المصريين ، والغلب الاقتصادي أشد
وقعا من الغلب الاستعماري.
أجل ، ان فرعون
طغى وبغى ، وتجاوز الحد في ذبح الأبناء واسترقاق النساء ، ولكن هذا التعدي
والطغيان كان سببه اليهود ، فالتبعة تقع على الاثنين معا : على اليهود لحقدهم وسوء
تصرفهم وأهدافهم ، وعلى فرعون لأنه أخذ البريء بجرم المذنب.
متى يمن الله على المستضعفين؟
(وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ). المستضعفون في الأرض هم الذين يضطهدهم الأقوياء ،
ويتسلطون على أقواتهم ومقدراتهم ظلما وعدوانا ، والله سبحانه يمن عليهم بالحرية
والخلاص من الاضطهاد إذا جاهدوا وثابروا واستماتوا من أجل حياتهم وكرامتهم تماما
كما يمن سبحانه على المريض بالشفاء إذا استعمل العلاج الصحيح ، وعلى الفلاح بالثمر
إذا عمل واتقن .. ان لله سنة في خلقه ، وهي ان تجري الأمور على أسبابها ، والغايات
على وسائلها ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .. أبدا. كل من سار على الدرب وصل مؤمنا
كان أو كافرا .. أما جزاء الكفر
والايمان ففي يوم
القيامة ، وليس في هذه الحياة ، فمن ركع للظالم خذله الله ، وأوكله الى من ظلمه
حتى ولو صلى وصام وحج الى بيت الله الحرام ، لأنه خذل الحق ، ونصر الباطل ، وما له
في الآخرة من خلاق.
ومن ثار على الظلم
وأهله ، واستمات من أجل كرامته نصره الله سبحانه على الظالمين الطغاة ، وان كان
كافرا ، لأنه التقى مع ارادة الله وأمره بهذا الجهاد والنضال .. ولا نرجع إلى
التاريخ القديم لنستمد منه الشواهد على هذه الحقيقة ، فإن صمود الشعب الفيتنامي
الأعزل أمام أعتى قوى الشر والفساد لدليل قاطع على ان الله مع المظلوم المجاهد
الصابر كائنا من كان.
والخلاصة ان الله
لا يقاتل من أجل المستضعفين ، ولكنه يقف معهم ويمدهم بعونه إذا قاتلوا وناضلوا
مستهدفين الحق والعدل ، والتحرر من البغي والاستغلال ، ان الله مع هؤلاء لأنه مع
كل مجاهد وعامل من أجل الحياة. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ـ ١١ الرعد ج ٤ ص
٣٨٦.
وتسأل : ان الله
سبحانه أغرق فرعون وقومه ، ونجّى بني إسرائيل من عذابهم واضطهادهم ، ومعنى هذا ان
الله يقاتل عن المستضعفين ، بل جاء في الآية ٣٨ من سورة الحج : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا)؟
الجواب : انه تعالى
أغرق فرعون وقومه لشركهم وتكذيبهم الرسول ، وليس انتصارا لبني إسرائيل تماما كما
أهلك قوم نوح وغيرهم من المشركين ، فترتب على ذلك خلاص المظلومين والمضطهدين من
بني إسرائيل وغير بني إسرائيل ، أما آية سورة الحج فالمراد بالذين آمنوا المجاهدون
، أما الكسالى فهم على دين من قال لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).
(وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً) أي نجعل منهم أنبياء (وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) يجعلهم الله أحرارا بعد أن استعبدهم فرعون أمدا طويلا (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ضمير منهم يعود على بني إسرائيل ، والمعنى ان فرعون وملأه
خافوا أن يذهب سلطانهم على يد رجل من بني إسرائيل ، فاحتاطوا لذلك ولكن الله
سبحانه أوقعهم فيما كانوا يحذرون.
ام موسى الآة
٧ ـ ١٣ :
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى
فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها
لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ
عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ
قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ
لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا
تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (١٣))
اللغة :
أوحينا ألهمنا.
واليمّ البحر والمراد هنا تهر النيل. وقرة عين فرح وسرور. وفارغا أي لا شيء فيه
إلا الاهتمام بموسى. وربطنا ثبتنا. وقصّيه تتبعي خبره. وعن جنب أي جانب كأنه غير
مقصود بالذات كما تقول : هذا شيء جانبي ، وقيل : المراد بالجنب هنا البعد.
الإعراب :
ان أرضعيه (ان)
بمعنى أي مفسرة لأوحينا. وليكون اللام للعاقبة مثل : لدوا للموت وابنوا للخراب ،
والمصدر المنسبك من ان المضمرة وما دخلت عليه متعلق بالتقطه. وقرة خبر لمبتدأ
محذوف أي هو قرة عين. وعسى تامة والمصدر من أن ينفعنا فاعل. وان كادت (ان) مخففة
واسمها محذوف أي انها كادت. والمصدر من ان ربطنا مبتدأ وخبره محذوف ، وأيضا جواب
لولا محذوف أي لولا ربطنا على قلبها حاصل لأبدت به. وعن جنب متعلق بمحذوف حالا من
فاعل بصرت أي بصرت به بعيدة.
المعنى :
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ). المراد بالوحي هنا الإلهام مثل قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ـ ٦٨ النحل.
ونقلنا في ج ٣ ص ٣٧٣ عن كتاب «قصص القرآن» ان اسم أم موسى يوكابد ، ثم قرأنا في
التوراة ان هذا هو اسمها ، وانه قد تزوجها ابن أخيها عمرام أبو موسى ، وفي قاموس
الكتاب المقدس ان معنى يوكابد في العبرانية «يهوه مجد» وان موسى كان أصغر أولاد
أبيه ، وثالث ثلاثة : مريم البكر ، وهرون الثاني. (فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ). إذا خافت عليه من الذبح تلقيه بيدها في لجة البحر! .. كيف؟
وأي عاقل يستجير من الرمضاء بالنار؟ (وَلا تَخافِي وَلا
تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). ولا تخافي عليه : ان الله هو الحافظ له والوكيل ، فالذي
جعل النار بردا وسلاما على ابراهيم يجعل البحر أمانا لموسى ، أخبرها سبحانه بسلامة
وليدها ، وانها ستربيه وتحضنه ، وبشرها بأنه قد اختاره لرسالته ، وخصه برحمته.
وتقدم نظيره في الآية ٣٩ من سورة طه.
(فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً). التقطوه وربوه لينفعهم أو يتخذوه ولدا ، فكان عاقبة أمره
ان صار عدوا لعقيدتهم وعاداتهم ، يدخل الهم والحزن على قلوبهم ، وفي النهاية كان
مصرعهم وذهاب ملكهم على يده (إِنَ
فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) ضالين في جميع أعمالهم وتصرفاتهم ، وبخاصة قتلهم ألوف
الصبيان ليتخلصوا من موسى ، فكانت النتيجة ان خلصوه هو من الموت ليقضي عليهم. وفي
قاموس الكتاب المقدس ان حياة موسى في بيت فرعون مجهولة التفاصيل ، وان العلماء
المؤرخين اختلفوا في زمانه ، فقال بعضهم : انه كان في أيام أمون (١٤٣٦ ـ ١٤١١ ق.
م.). وقال آخرون : انه كان في أيام رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٣ ق. م.) وقال ثالث :
كان في أيام منفتاح (١٢٢٣ ـ ١٢١١ ق. م.).
(وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). امرأة فرعون هي آسية بنت مزاحم ، وقد أثنى الله عليها في
الآية ١١ من سورة التحريم : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وفي الحديث : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ،
وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد» .. ولما نظر
فرعون الى موسى ثار وقال : كيف سلم هذا الصبي العبري من الذبح؟ هل خفي أمره على
العيون والجواسيس ، أو أخفوه عني؟ .. فتلطفت به امرأته ، وحبّبته بالصبي ليكون قرة
عين لهم ، فكان قذى في عيونهم ، وشجى لقلوبهم.
(وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). ألقت وليدها في البحر ، وهي تأمل أن يلتقطه من يحفظه من
فرعون ، وإذا بالقدر يخرجه من البحر الى بيت فرعون .. ولما أتاها الخبر انه وقع في
يد الجلاد توقعت هلاكه ، فجزعت جزعا شديدا ، ونسيت نفسها ، وما كان قد وعدها الله
به من رده اليها ، وكادت تظهر جزعها ، وتهتف باسم عزيزها ، ولكن الله شملها بلطفه
وعنايته ، فثبتها لتكون من المؤمنين بوعده ،
__________________
وهو قوله سبحانه :
(إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ) فصبرت وتمالكت (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ
قُصِّيهِ) اذهبي وتلمسي خبره ، فذهبت فرأت أخاها عند آل فرعون (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ). نظرته نظرة جانبية كأنها لا تريده بالذات ، وآل فرعون لا
يعلمون قصدها وانها أخت هذا الصبي الذي التقطوه من اليمّ.
(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ). استمع فرعون لامرأته وأبقى الصبي بعد أن ألقى الله محبته
في قلبه ، وأمر بالبحث عن مرضعة تكفله وترعاه ، وسيقت اليه المراضع من هنا وهناك ،
وكل واحدة تود لو يقبل ثديها لتنال المنزلة عند فرعون ، ولكنه عاف الجميع ونفر
منهن قبل مجيء أمه (فَقالَتْ هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ). لما رأت أخت موسى حيرة آل فرعون في أمر الصبي عرضت عليهم
أن ترشدهم الى من يقبل ثديها من دون النساء ، وتهتم بشأنه ، ولا تقصر في رعايته.
وتقدم مثله في الآية ٤٠ من سورة طه (فَرَدَدْناهُ إِلى
أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أيضا تقدم في الآية ٤٠ من سورة طه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ). ضمير تعلم يعود إلى أم موسى ، والمراد بوعده تعالى قوله
لها : (إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وليس لما وعد الله مترك (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لطائف تدبيره تعالى ، وغوامض حكمه.
ولما بلغ أشده الآة ١٤
ـ ١٩ :
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها
فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ
فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ
مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ
إِنَّهُ
هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ
ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا
الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ
عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً
بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما
تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))
اللغة :
بلغ أشده استكمل
قوته جسما وعقلا. وعلى حين غفلة أي دخل موسى المدينة والناس ذاهلون عنه. وظهيرا
معينا. ويترقب ينتظر. واستنصره طلب نصره. ويستصرخه يطلب غوثه ومعونته. والغوي
الضال.
الإعراب :
على حين غفلة
متعلق بمحذوف حالا من فاعل دخل. وهذا من شيعته وهذا من عدوه بدل مفصل من مجمل.
وبما أنعمت الباء للقسم وما مصدرية أي بانعامك عليّ. وجملة يترقب حال من فاعل
أصبح. فلما ان أراد (ان) زائدة إعرابا. والمصدر من ان يبطش مفعول أراد. وان تريد (ان)
نافية.
المعنى :
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ). تقدم
بنصه الحرفي في
الآية ٢٢ من سورة يوسف. وجاء هناك وصفا ليوسف ، وهنا وصفا لموسى.
(وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ). المراد بالمدينة هنا مصر .. وفي ذات يوم دخل موسى بعض
شوارعها دون أن يشعر أحد به ، فرأى رجلين يتشاجران ويقتتلان : أحدهما قبطي من
أتباع فرعون ، والآخر اسرائيلي من جماعة موسى ، وكان الأقباط بوجه العموم يضطهدون
الاسرائيليين ، ويحسبونهم خدما لهم وعبيدا ، فاستنجد الاسرائيلي بموسى ، فوكز موسى
القبطي بيده أو بعصاه بقصد التأديب والردع عن البغي ، لا بقصد القتل ، فوقع جثة
هامدة ، ويسمى هذا بقتل الخطأ (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ). هذا اشارة إلى الشجار والقتال الذي وقع بين القبطي
والاسرائيلي ، لا إلى الوكز أو القتل غير المقصود ، والمعنى ان القتال بين الاثنين
مصدره وسوسة الشيطان واغراؤه بالمعاصي والذنوب.
(قالَ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). كل تقصير في حق الله تعالى ينسبه الأنبياء والأولياء إلى
أنفسهم فهو دعاء وخشوع لله سبحانه ، ولا دلالة فيه على الذنب والتقصير ، لأن
العارف بالله حقا يتهم نفسه بالتقصير في طاعة الله وعبادته ، ومن أجل هذا يسأله
العفو والصفح عن الذنب ، وقديما قيل : سيئات الأبرار حسنات الأشرار. انظر ما قلناه
بعنوان التوبة والفطرة ج ٢ ص ٢٧٥ (قالَ رَبِّ بِما
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ). سأل موسى ربه العفو ، وأعطاه عهدا على نفسه أن يكون حربا
على الطغاة المجرمين كفرعون وجنوده ، وعونا لكل مؤمن صالح.
(فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ). خاف موسى ان يطالب بدم القبطي ، وتوقع الشر من فرعون
وقومه .. وبينما هو كذلك (فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يطلب النصر من موسى بصياح وصراخ (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ). ما شأنك تشتبك كل يوم مع قبطي؟ وتسبب لنا المتاعب والمشاكل؟
ألا ترعوي عن غيك وضلالك؟.
(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما). أراد موسى أن يبطش بالقبطي لأن الأقباط هم الذين كانوا
يعتدون على الاسرائيليين ويعاملونهم معاملة العبيد كما أشرنا ، وقد ظن القبطي أن
موسى يريد قتله ، ولذا (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ
أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ). بالأمس قتلت رجلا ، واليوم تريد قتلي ، هل أنت من
الجبارين ، أم المصلحين؟ ويومئ هذا إلى أن موسى كان معروفا بالصلاح وحسن السلوك ،
وان القتل لا يتفق مع سيرته ومسلكه.
ان الملأ يأتمرون بك الآة ٢٠
ـ ٢٨ :
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها
خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ
السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ
النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما
خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ
(٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى
اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ
خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ
(٢٨))
اللغة :
أقصى المدينة
آخرها. ويسعى يسرع في المشي. وتلقاء مدين حذاءها وجهتها. وسواء السبيل وسط الطريق.
تذودان تمنعان غنمهما عن ورود الماء. ما خطبكما؟ ما شأنكما؟ حتى يصدر الرعاء حتى
ينصرف الرعاء ، والرعاء والرعاة والرعيان بمعنى واحد. والاستحياء شدة الحياء.
والقصص الحديث المقصوص. والحجج جمع حجة ، وهي السنة.
الإعراب :
ليقتلوك منصوب بأن
مضمرة والمصدر متعلق بيأتمرون. وخائفا حال من فاعل خرج. وجملة يترقب حال ثانية.
وتلقاء ظرف مكان. وجملة تذودان صفة لامرأتين. وفقير خبر ان ، ولما أنزلت متعلق
بفقير. وعلى استحياء في موضع الحال أي مستحية. والقوي الأمين خبر ان. وهاتين عطف
بيان من ابنتيّ. وعلى ان تأجرني في موضع الحال أي مشروطا عليك. وثماني ظرف لأنها
مضافة اليه وعشر أيضا ظرف لأن المعنى فإن أتممت العمل في عشر سنين. فمن عندك متعلق
بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فالتمام كائن من عندك. وذلك مبتدأ وبيني وبينك خبر
أي بيننا. أيما
كلمتان (اي) الشرطية و (ما) الزائدة ، ومحل أي نصب بقضيت. فلا عدوان جواب الشرط.
المعنى :
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ). علم فرعون وحاشيته بما كان من موسى مع القبطي الأول الذي
قتله خطأ ، والثاني الذي قال له : (أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي) فتشاوروا في أمر موسى ، وصمموا على قتله ، ولما علم أحد
المؤمنين بذلك أسرع إلى موسى ، وأخبره بما دبروا له ، وأشار عليه بالفرار من القوم
الظالمين ، وقال كثير من المفسرين : ان هذا المؤمن هو الذي أشارت اليه الآية ٢٨ من
سورة غافر : (وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ)؟.
(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً
يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). قبل موسى النصح من المؤمن ، وخرج من مصر بلا زاد وماء
وظهر ورفيق ، وهو خائف يترقب أن تلحق به جلاوزة فرعون ، وفوق هذا لا يدري أين يتجه؟
فالتجأ الى ربه ، وسلم اليه أمره ، وسأله الهداية والنجاة من فرعون وقومه (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ
قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ). سار موسى دون أن يقصد بلدا معينا ، وهو على يقين من ربه ،
وانه سيرشده إلى الطريق القويم الذي يؤدي به إلى النجاح والفلاح ، وأخذ سبحانه
بيده ، واتجه به إلى مدين بلد شعيب ، وبين مصر وبينها صحراء واسعة الأطراف ، ممتدة
الأبعاد ، يقطعها المسافر مشيا في ثمانية ايام ، فاجتازها موسى برعاية الله
وتوفيقه ، وكان يأكل من نبات الأرض .. وبالأمس القريب كان في قصر فرعون يتمتع بما
لذ وطاب ، ولكن حشائش الأرض والخوف خير الف مرة عند المخلصين الأحرار من النعمى مع
الظلمة الطغاة كما قال الإمام الحسين (ع) : والله لا أرى الموت إلا سعادة والحياة
مع الظالمين إلا برما.
(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ
تَذُودانِ
قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ
كَبِيرٌ فَسَقى لَهُما) موسى .. فقد انتهى به السير إلى بئر ، فوجد عنده جماعة من
الرعاء يستقون منها لماشيتهم ، ورأى امرأتين في ناحية عن جماعة الرعاء ، ومعهما
غنيمات تحاول أن ترد الماء ، والمرأتان تصرفانها عنه .. أثار هذا المنظر انتباه
موسى ، وقال لهما : لما ذا تمنعان غنمكما عن الماء ، وهي عطاشى؟ فقالتا : نحن نسوة
ضعاف ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، وأبونا شيخ كبير يعجز عن الرعي والسقي ،
فننتظر حتى يفرغ الرعاء فنستقي ، فتحركت في نفس موسى نخوة الدين والانسانية وسقى
لهما.
ولا عجب إذا أنجد
موسى نسوة ضعافا ، فقد ينجد المرأة الضعيفة الكافر والشقي ، وأيضا لا عجب أن يعيش
شعيب وبناته من كد اليمين وعرق الجبين ، فهذه هي سيرة الأنبياء وخلفائهم الأتقياء
من قبل ومن بعد ، وإنما العجب أن لا يكون لهذه الروح القرآنية أي أثر في نفوسنا
نحن الذين ندعي العلم بالله وكتابه وسيرة أنبيائه .. وأعجب العجب أن نتسابق
ونتنافس في طلب الدنيا ومظاهرها.
(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى
الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). سقى موسى غنم الفتاتين ، وذهب الى شجرة يتفيأ ظلالها ،
وكان قد أنهكه وأعياه التعب والجوع ، فسأل الله من فضله وكرمه ، ولم يبالغ ويلح في
المسألة لأن المطلوب سد الخلة وكفى ، ولو طلب الآخرة لبالغ وألح ، وفي نهج البلاغة
: والله ما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، وقد كانت خضرة البقل
ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. الصفاق الجلد الأسفل ، والتشذب انهضام
اللحم.
(فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ
أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا). رجعت الفتاتان إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما كان ، فقال
لواحدة منهما : اذهبي وادعيه لنجزيه على إحسانه ، فجاءته الفتاة يكسوها الحياء
والخجل ، والطهر والعفاف ، وقالت له ما قال أبوها (فَلَمَّا جاءَهُ
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). استجاب موسى للدعوة ، ورحب به الشيخ وشكره على صنيعه ،
ولما طابت نفس موسى واطمأنت الى الشيخ حدثه بما جرى
له مع فرعون وقومه
فقال له الشيخ : لا تخف .. انك عندنا في مكان حصين أمين ، لا سلطان عليك فيه
لفرعون ولا لغيره من الظالمين.
واختلف المفسرون في
هذا الشيخ من هو؟ فأكثرهم على أنه شعيب ، وقال فريق منهم : انه غيره .. ولا مستند
لهؤلاء وأولئك إلا مرجحات لا تغني عن الحق شيئا .. ولسنا نهتم بمثل هذه الاختلافات
، ما دامت لا تمت الى العقيدة والحياة بسبب .. وقد اخترنا اسم شعيب لهذه الشخصية
لمجرد التعبير عنها ، ولأن هذا الاسم هو الشائع بين الأكثرية كما شاع بين طلاب
النجف وعلمائها : ليس النزاع في التسمية من دأب المحصلين.
(قالت إحداهما)
وهي التي استدعته الى أبيها كما يشعر وصفها له بالقوي الأمين (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). وما شهدت إلا بما رأت من قوته وهو يسقي لها ولأختها ، ومن
عفته حين توجهت اليه بالدعوة إلى أبيها (قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ
حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). موسى الشريد الطريد والفقير الذي لا يملك شيئا ، والذي
عاش أياما على نبات الأرض حتى سأل الله لقمة يقيم بها الأود ، هذا الجائع اللاجئ
يعرض عليه شيخ جليل احدى ابنتيه ، ويدع له الخيار في أيتهما يريد .. اذن ، لا بد
أن يكون هناك سر .. أجل ، هناك سر ، وهو يكمن في شخصية موسى وعظمته التي لمسها
الشيخ في صنعه مع ابنتيه ، وفي حديثه وسيرته مع فرعون وقومه التي قصها عليه ،
فأدرك الشيخ بفطرته النقية الصافية ان هذه الشخصية سيكون لها ابعد الآثار لأن
الأعمال التي تصدر عن الإنسان تكون في الغالب من نوع واحد .. فالشيخ ـ اذن ـ هو
الفائز الرابح بهذه المصاهرة ، وأي ربح أعظم من مصاهرة الأنبياء والأتقياء؟.
الشريعة الاسلامية نسخت جميع الشرائع :
وتكلم الفقهاء
كثيرا حول هذه الآية ، واستدلوا بها على ان لولي المرأة أن يعرض
زواجها على الرجل
.. والحق ان العرض من الرجل والمرأة نفسها فضلا عن وليها جائز بحسب الأصل ، ولا
يحتاج إلى النص عليه ، وقال الإمامية والشافعية : ان الزواج لا ينعقد إلا بلفظ
التزويج والانكاح ، هذا بعد أن عطفوا على هذه الآية قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها) ـ ٣٧ الأحزاب.
وقال المالكية والحنابلة : ينعقد الزواج أيضا بلفظ الهبة لقوله تعالى : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَها لِلنَّبِيِ) ـ ٥٠ الأحزاب.
وقال الحنفية : ينعقد بكل لفظ يدل على إرادة الزواج.
وقال كثير من
الفقهاء : ان الرعي مدة الثماني الحجج أو العشر ليس مهرا للزواج ، ولا هو جزء منه
، بل المهر مستقل تماما عن الرعي ، وان قول الشيخ : «على ان تأجرني الخ» معناه ان
رعيت عندي بأجر زوّجتك احدى ابنتي بمهر ، تماما كما تقول : ان فعلت كذا فعلت أنا
كذا ، وهذا هو المعنى الصحيح للآية.
وعلى أية حال فانه
لا حجة في هذه الآية على شيء مما قاله الفقهاء ، لأنها حكاية عن شريعة سابقة ،
ونحن على يقين ان الشريعة الاسلامية نسخت جميع الشرائع السابقة ، ولا يجوز العمل
بحكم من أحكامها إلا بدليل خاص أو عام من الكتاب أو السنة ، وعليه يكون العمل بهما
لا بها ، أما الذين قالوا باستصحاب أحكام الشرائع المتقدمة فنرد عليهم بقوله تعالى
: (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ـ ٣٨ الأنعام
وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ـ ٨٩ النحل أي لكل
شيء من أصول الإسلام وشريعته ، وقال الرسول الأعظم (ص) : ما من شيء يقربكم إلى
الجنة إلا أمرتكم به وما من شيء يبعدكم عن النار إلا نهيتكم عنه.
(قالَ ذلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى
ما نَقُولُ وَكِيلٌ). هذا من كلام موسى ، والأجل الأول الثماني الحجج ، والثاني
العشر ، والمعنى ان موسى قال للشيخ : قبلت ورضيت بالزواج والرعي ، والخيار لي في
قضاء الثماني أو العشر ، فأيهما اخترت فلا حجة لك عليّ ، والله شهيد على ما أوجبته
أنت على نفسك ، وما أوجبته أنا على نفسي. وفي الحديث : ان موسى
قضى أبرّ الأجلين
أي العشر ، وفي كثير من التفاسير انه اختار الصغرى ، وهي التي قالت له: ان أبي
يدعوك ، وقالت لأبيها : انه القوي الأمين.
قضى موسى الأجل الآة ٢٩
ـ ٣٢ :
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ
مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا
مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا
رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى
أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))
المعنى :
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ
مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ). بعد أن أتم موسى المدة التي اتفق عليها مع أبي زوجته جمع
أشتات متاعه ، وسافر قاصدا مصر مع أهله ، وفي قاموس الكتاب المقدس : ذهب موسى إلى
مصر مع زوجته وابنيه. ولما وصل إلى الصحراء ضل الطريق في ليلة مظلمة
باردة كما يشعر
قوله : لعلكم تصطلون. وبينا هو حائر في أمره رأى نارا تضيء ، فقال لأهله : انتظروا
مكانكم ، فأنا ذاهب إلى النار لآتيكم بخبر عن الطريق ، أو بقطعة من النار تستدفئون
بها. وتقدم في الآية ١٠ من سورة طه والآية ٧ من سورة النمل.
(فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي الجانب المحاذي ليمين موسى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ
الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). البقعة القطعة من الأرض ، وهي مباركة لكثرة أنبيائها
وكثرة خيراتها ، وقوله : (من الشجرة) يشعر بأن الله سبحانه خلق الكلام في الشجرة ،
وقد استدل بهذه الآية من قال ان كلام الله حادث وليس بقديم. وتقدم في الآية ٥٢ من
سورة مريم والآية ١٢ من سورة طه.
(وَأَنْ أَلْقِ
ـ إلى
قوله ـ الْآمِنِينَ) تقدم في الآية ١٠ من سورة النمل (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ
بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً
فاسِقِينَ). اسلك يدك في جيبك أدخلها فيه ، والجيب فتحة القميص. ومن
الرهب أي إذا وضعت يدك على صدرك يذهب ما بك من الخوف. وتقدم في الآية ١٠٧ من سورة
الأعراف ج ٣ ص ٣٧٥ والآية ٢٢ من سورة طه والآية ٣٣ من سورة الشعراء والآية ١٢ من
سورة النمل.
فأخاف ان يقتلون الآة ٣٣
ـ ٣٧ :
(قالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا
ما
هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ
لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))
اللغة :
الردء بكسر الراء
المعين. والمراد بالسلطان هنا القوة.
الإعراب :
ردءا حال من الهاء
في أرسله.
المعنى :
(قالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) تقدم في الآية ١٤ من سورة الشعراء (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ). ردءا معينا لي على بث الدعوة ، وفيه إيماء إلى انه لا بد
لكل دعوة من أنصار ، وان العلم وحده لا يكفي لاثبات الدفاع عن الحق ما لم تقترن
الحجة بطلاقة اللسان وفصاحة البيان ، وأيضا تدل الآية على ان القرآن يبارك وسائل
الدعاية كالصحف والاذاعات وغيرها على شريطة أن تتجه إلى احقاق الحق والانتصار لأهله
، وإبطال الباطل والتشهير بأعوانه ، تماما كما استعمل هرون علمه وفصاحته ضد
الطاغية فرعون.
وقيل : ان هرون
أكبر من موسى بثلاث سنين .. ولا ندري كيف نجا من الذبح ، وغير بعيد ان هرون ولد
قبل أن يأمر فرعون بذبح كل مولود يولد لبني إسرائيل. وفي التوراة الاصحاح ٣٢ من
سفر الخروج ان هرون هو الذي
صنع العجل لبني
إسرائيل ، وبنى له مذبحا ، وليس السامري كما جاء في الآية ٩٦ من سورة طه.
(قالَ سَنَشُدُّ
عَضُدَكَ بِأَخِيكَ). سأل موسى ربه أن يشد أزره بأخيه هرون ، فاستجاب له ،
وآتاه سؤله ، أما قول موسى : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) فقد أجابه عنه تعالى بقوله : (وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ). في الآية ٤٦ من سورة طه : (قالَ لا تَخافا
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى). وقال هنا : اني سلحتكما بسلاح يرهب فرعون وجنوده ،
ويمتنعون بسببه عنكما وعن الذين يؤمنون بكما ، وهذا السلاح أو السلطان هو الآيات
والمعجزات من انقلاب العصاحية وتحوّل اليد البيضاء إلى الجراد ، والقمل ، والضفادع
، وغير ذلك.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا
بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ). تقدم في الآية ١١٠ من سورة الأعراف والآية ٦٣ من سورة طه (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ
جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). كذبوا موسى وقالوا له : أنت ساحر ، فأجابهم جواب من لا
يكترث بتكذيبهم وعنادهم ثقة منه بالله ووعده ، ويتلخص الجواب بأن الله يعلم اني
على الحق والهدى ، وانكم على الباطل والضلال ، وأيضا يعلم ان العاقبة الحميدة لي
ولمن اتبعني ، ولكم عقبى الهلاك في الدنيا ، وعذاب النار في لآخرة.
ما علمت لكم من إله غيري الآة ٣٨
ـ ٤٣ :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ
فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١)
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))
اللغة :
هامان وزير فرعون.
وصرحا بناء عاليا. وأطّلع اصعد. فنبذناهم طرحناهم. واللعنة البعد عن رحمة الله.
والمقبوحين المخزيين المهلكين.
الإعراب :
من إله (من) زائدة
إعرابا وإله مفعول علمت ، وغيري صفة له. وبصائر حال من الكتاب وهدى ورحمة عطف على
بصائر.
المعنى :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي). قال هذا لأنه وجد من يصدقه .. وحفظت مثالا أيام الطفولة ،
وما زلت على ذكر منه ، وهو «قيل لفرعون : من الذي فرعنك؟ قال : ما وجدت أحدا
يردعني» وأكثر الناس «يتفرعنون» لولا القوة الرادعة. انظر تفسير الآية ٢٤ من سورة
النازعات : (فَقالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى). وفي قاموس الكتاب المقدس ان فرعون كلمة مصرية ، ومعناها
البيت الكبير ، وهي لقب لملوك مصر.
(فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ). عجز فرعون عن مقابلة الحجة بالحجة ، وخاف من موسى وعصاه ،
فحاول أن يخفي خوفه وعجزه بالتمويه على شعبه العريق في السذاجة ، فأظهر الشك في
وجود إله سواه ، وانه سينظر ويبحث عن هذا الإله .. فإن وجده طلبه للبراز .. وإلا ـ
وهذا هو المظنون عند فرعون ـ كان موسى من الكاذبين .. وليؤكد هذا التمويه على أعين
الرعاع الذين عبدوه قال لوزيره هامان : أوقد النار ، واصنع الآجر لبناء صرح رفيع
أصعد منه إلى السماء ، لأبحث عن إله موسى .. ولم يبن هامان الصرح ـ كما نظن ـ لأنه
على يقين من مكر فرعون وتدليسه ، وأي عاقل يحاول البناء إلى ما لا نهاية ، ويتوهم
انه بالخشب والآجر يبلغ السموات العلى ، ويعلم من فيها وعليها؟.
(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ
وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا
يُرْجَعُونَ). تعاظموا وتعالوا على الناس ، وأخذتهم العزة بالإثم ،
وعاثوا في الأرض شرا وفسادا ، والسبب الأول والأخير انهم لا يؤمنون بالله واليوم
الآخر ، ولا بمبدإ وضمير ، ولا بشيء إلا بأنفسهم ومنافعهم ، ولذا أخذهم جل وعز أخذ
عزيز مقتدر (فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ). ألقت أم موسى وليدها في اليم خوفا من فرعون ، فالتقطه هذا
العدو لله ولموسى لينتفع به أو يتخذه ولدا. ولما شبّ موسى وكبر حاول جهده أن ينفع
فرعون وينقذه من الهلاك والعذاب ، ولكنه نفر وتكبر ، فكان عاقبة أمره ان أهلكه
سبحانه في نفس اليم الذي ألقي فيه موسى ، والتقطه منه آل فرعون .. وان في ذلك
لعبرة لأولي الأبصار .. ولكن أين هم؟.
(وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ). ضمير جعلناهم يعود إلى فرعون وجنوده ، والمعنى انهم في
الدنيا ضالون ومضلون ، وانهم في الآخرة هم الأخسرون ، ومعنى جعلناهم ان الله
سبحانه قضى وقدر أن من يسلك طريق الضلال فهو ضال ، تماما كما قضى وقدر أن من يسلك
طريق الهلاك فهو هالك ، وبيّنا ذلك فيما تقدم أكثر من مرة. وعن الإمام جعفر الصادق
(ع) ان الأئمة في كتاب الله نوعان : أئمة الهدى ، وهم الذين أشار سبحانه اليهم
بقوله : («وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ـ ٧٣ الأنبياء»
فيقدمون أمر الله قبل أمرهم ،
وحكمه قبل حكمهم ،
وأئمة يدعون إلى النار ، يقدمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكمه ، ويأخذون
بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله.
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ). عليهم في الدنيا لعنة الله ولعنة اللاعنين ، ولهم في
الآخرة عذاب الجحيم (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). أنزل سبحانه التوراة على موسى بعد أن أهلك قوم نوح وعاد
وثمود ، والغرض من انزالها أن يتعظ الناس بها ، ويعملوا بأحكامها لأنها كانت قبل
التحريف نورا وهدى ورحمة ، أما توراة اليوم فإنها تقول لبني إسرائيل : اقتلوا
الرجال والأطفال والنساء إلا الأبكار منهن ، أبقوهن للذاتكم وشهواتكم .. وانهبوا
البهائم والمواشي والأملاك .. واحرقوا المدن والمساكن والحصون كما في الإصحاح ٣٢
من سفر العدد. فهل بعد هذا يقال : لما ذا أحرقت إسرائيل المسجد الأقصى؟. ان عقيدة
اليهود عقيدة شريرة تعادي جميع الأديان والشرائع والقيم الانسانية.
محمد وأنباء الغابرين الآة ٤٤
ـ ٥١ :
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
(٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ
ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
(٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا
قالُوا
لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى
مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما
يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً
مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ
وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١))
اللغة :
قرون جمع قرن ،
والمراد به أهل عصر من العصور فإذا انقضى أكثرهم قيل : انقضى القرن. فتطاول عليهم
العمر أي طال عليهم الأمد الذي بينهم وبين القرون الماضية. وثاويا مقيما. وصّلناه
بيّناه آية بعد آية.
الإعراب :
إذ ظرف متعلق بما
تعلق به بجانب الغربي أي وما كنت موجودا إذ قضينا. وجملة تتلو حال من اسم كنت.
ورحمة مفعول من أجله لفعل محذوف أي أوحينا اليك رحمة. ولولا ان تصيبهم (لولا) تدل
على امتناع شيء لوجود غيره. والمصدر من أن تصيبهم مبتدأ وخبره محذوف أي لولا
إصابتهم المصيبة كائنة ، وجواب لولا محذوف أيضا تقديره لم نحتج إلى إرسال الرسل.
فيقولوا بالنصب عطفا على أن تصيبهم. ولولا أرسلت (لولا) بمعنى هلا. فنتبع منصوب بأن
مضمرة بعد الفاء لتقدّم الطلب وهو لولا. ونكون عطف على فنتبع. وسحران خبر مبتدأ
محذوف أي هما سحران. وبغير هدى في موضع الحال أي غير مهتد.
المعنى :
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ). الخطاب لمحمد (ص) ، والمراد بجانب الغربي المكان الواقع
غربي الجبل ، كما في تفسير الطبري ، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى ، أما
الجانب الأيمن الذي ورد في الآية ٥٢ من سورة مريم فالمراد به الجانب الذي يلي يمين
موسى ، والمراد بالأمر الذي قضاه الى موسى اختياره للرسالة والنبوة ، والمعنى ان
إخبار محمد (ص) عما حدث لموسى في غربي جبل الطور هو دليل قاطع على أنه وحي من الله
، والا فمن أين لمحمد العلم بتلك الحقائق والدقائق ، ولم يقرأها في كتاب ، ولا
سمعها من أحد ، ولا شاهدها بنفسه.
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا
قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ). المراد بالقرون الأمم التي مرت وانقرضت بين عهد موسى وعهد
محمد ، وبين هذين العهدين حوالى ألفي عام. انظر ما نقلناه عن قاموس الكتاب المقدس
عند تفسير الآية ٧ من هذه السورة ، والمعنى ان الأمم التي أنشأها الله بين العهدين
المذكورين لم يبق منها أحد يخبّر عنها ، وهذا دليل واضح على ان علم محمد (ص) بها
انما هو بوحي من الله ، هذا الى ان الناس قد طال الأمد بينهم وبين الأنبياء ،
وأصبحوا في جاهلية جهلاء ، واحتاجوا الى نبي يرشدهم ويهديهم الى سواء السبيل ،
فأرسل الله محمدا بشيرا ونذيرا ، وأخبر الناس عن أحوال الأمم الماضية وأنبيائهم
بوحي منه تعالى للدلالة على نبوته من جهة ، وليتعظوا بمن كان قبلهم من جهة ثانية.
(وَما كُنْتَ ثاوِياً
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ). مدين بلد شعيب ، وقد أخبر محمد (ص) عنه وعن قومه أهل مدين
، تماما كما لو أخبر شعيب نفسه الذي كان يتلو على قومه آيات الله مع ان محمدا لم
يكن نبيا لأهل مدين يتلو عليهم الآيات ويأتيهم بالمعجزات ، ولكن الله هو الذي
أخبره بذلك لأنه رسول الله الى عباده وأمينه على وحيه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ
نادَيْنا) أي لم تكن حاضرا يا محمد حين نادى الله موسى بجانب الطور.
وتسأل : لا فرق بين قوله تعالى : وما كنت بجانب الطور ، وبين قوله في الآية
السابقة : وما كنت بجانب الغربي ، فما هو القصد من هذا التكرار في كلام واحد؟.
الجواب : ان الله
سبحانه كلم موسى وناداه بجانب الطور أكثر من مرة ، فمن الجائز أن تكون الآية
الأولى اشارة إلى النداء الأول ، والآية الثانية الى النداء الثاني ، هذا الى ان
التكرار طريقة متبعة في القرآن. انظر ما كتبناه بعنوان : «التكرار في القرآن ج ١ ص
٩٦ وج ٢ ص ٤٤٠.
(وَلكِنْ رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). أرسل الله محمدا رحمة للعالمين ينذر ويبشر الناس ليسلكوا
الطريق الذي يؤدي بهم الى سعادة الدارين.
وتسأل : كيف تجمع
بين قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، وبين الآية ٢٤ من سورة فاطر : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ)؟.
الجواب : ذكرنا
أكثر من مرة ان آيات القرآن يفسر بعضها بعضا لأن مصدره واحد ، وقد جاء في الآية ١٩
من سورة المائدة : (قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي بعد انقطاع الوحي فترة من الزمن ، وعليه فليس المراد
بقوله : (ما أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ان الله لم يرسل اليهم رسولا قبل محمد على الإطلاق ، بل
المراد انه لم يرسل رسولا في فترة معينة من الزمن.
(وَلَوْ لا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). المراد بالمصيبة عذاب الله في الدنيا ، والمعنى ان الله
سبحانه أرسل الرسل لكيلا يكون للناس على الله الحجة إذا حل بهم العذاب بسبب كفرهم
وطغيانهم. وتقدم مثله في الآية ١٦٥ من سورة النساء ج ٢ ص ٤٩٥ والآية ١٩ من سورة
المائدة ج ٣ ص ٤٠.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى). إذا لم يأتهم الرسول قالوا : لو جاء لاتبعناه ، وإذا جاء
الرسول تعللوا بالأباطيل .. ولا يختص هذا التمحك والروغان بالذين كذبوا محمدا (ص)
وقالوا له : لو جئت بعصا كعصا موسى ، ويد كيده البيضاء لآمنا بك. كلا ، انه دأب
المترفين الطغاة في كل زمان ومكان ، دأب الذين لا يؤمنون إلا بمنافعهم ومصالحهم ،
ومن أجلها يتلونون بكل لون ، ويتحالفون مع الشيطان ضد كل صلاح ومصلحة.
(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا
بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ). طلبوا من رسول الله (ص) أن
يأتيهم بمثل ما
جاء به موسى من المعجزات ، فأجابهم سبحانه بأن من طلب الحق لوجه الحق يستجيب له ،
ويؤمن به متى استبانت حجته وظهرت دلائله أيا كان نوعها وشكلها ، أما الذين لا
يؤمنون إلا بأهوائهم ، ويتخذونها قائدا ودليلا في جميع تصرفاتهم ـ أما هؤلاء فلا
تغني معهم الدلائل والمعجزات ، سواء أتى بها موسى ، أم أتى بها محمد ، أم الأنبياء
مجتمعين .. ودليل هذه الحقيقة ان الطغاة كفروا بما جاء به موسى تماما كفر الطغاة
من قريش بما جاء به محمد ، ولو كان محمد بمعجزاته مكان موسى ، وكان موسى بمعجزاته
مكان محمد لقالت قريش : لولا أوتي موسى مثل ما أوتي محمد .. وهذا هو شأن المبطلين
في كل زمان ومكان.
(قالُوا سِحْرانِ
تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ). المراد بالسحرين هنا التوراة والقرآن ، وتظاهرا أي ان كلا
منهما يصدق الآخر ، والمعنى الجملي ان قريشا قالت : التوراة سحر ، وموسى الذي جاء
بها ساحر ، وأيضا القرآن سحر ، ومحمد الذي جاء به ساحر ، ونحن نكفر بهما وبسحرهما.
(قُلْ فَأْتُوا
بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ). قالوا : التوراة سحر ، ومثلها القرآن .. فقال سبحانه
لنبيه الكريم : قل لهم : ان كان لديكم كتاب هو خير للانسانية من التوراة والقرآن
فأتوا به ، وأنا على أتم الاستعداد لاتباعه والعمل به ، وهذا مثل قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ـ ٨١ الزخرف.
(فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ). لقد تحدى القرآن أهل الفصاحة والبلاغة بفصاحته وبلاغته ،
وتحدى البشرية كلها بمبادئه وتعاليمه ، وقال : انها تهدي الإنسان للتي هي أقوم في
عقيدته وشريعته ، وهذا هو بين أيدي الناقدين والدارسين فليأتوا بما هو أهدى منه
للناس ، أو بمثله ويدعوا من شاءوا وما شاءوا ، فإن عجزوا ولم يؤمنوا فلا دليل لهم
الا العمى والضلال يقودهم الى كل سوء ، وهذا هو المعنى المراد بقوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ
بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد أن جنوا على أنفسهم ، وسلكوا بها سبيل الهلاك والضلال.
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). المراد بالقول هنا القرآن الذي أعذر بما أنذر ، والمعنى
ان الله سبحانه أرشد العباد الى ما لهم وما عليهم ليطيعوا ويعملوا ، فمن عمل وأصلح
فهو في أمن وأمان ، والعذاب على من كذب وتولى.
يؤتون أجرهم مرتين الآة ٥٢
ـ ٥٤ :
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما
صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ
(٥٥))
اللغة :
مسلمين منقادين.
يدرءون يدفعون. اللغو ما لا فائدة فيه. لا نبتغي الجاهلين لا نخالطهم.
الإعراب :
الذين مبتدأ أول
وهم مبتدأ ثان وجملة يؤمنون خبر الثاني ، وجملة الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.
مرتين قائمة مقام المفعول المطلق.
المعنى :
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ). ضمير قبله وبه يعودان
إلى القرآن بدليل
قوله تعالى بلا فاصل : (وَإِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ) .. وقد ثبت بالتواتر ان كثيرا من النصارى وبعض اليهود
آمنوا بمحمد (ص) لأن التوراة والإنجيل قد نصّتا على أوصافه قبل تحريفهما : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ـ ١٥٧ الأعراف ،
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة الآية ١٢١ ج ١ ص ١٩٣ والآية ١٩٩ من سورة آل
عمران ج ٢ ص ٢٣٦.
(وَإِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ). قرأ العلماء من أهل الكتاب أوصاف الرسول الأعظم (ص)
والقرآن الكريم في التوراة والإنجيل ، قرأوا ذلك قبل أن يبعث محمد (ص) ، ولما بعث
تلي عليهم القرآن فعرفوه وعرفوا محمدا بأوصافهما كما هي في الكتابين تماما كما
عرفوا أبناءهم : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ـ ١٤٦ البقرة.
فآمن فريق منهم ، وفريق كتموا الحق وهم يعلمون ، حرصا على المناصب والمكاسب.
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) : مرة على إخلاصهم في دينهم الذي أمرهم باتباع محمد
والقرآن ، ومرة (بِما صَبَرُوا) على أذى السفهاء من الكافرين لأن إسلامهم كان حجة دامغة
على من أصر على الكفر والعناد.
الصبر حكمة وبطولة :
(وَيَدْرَؤُنَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ). لاقى المسلمون الأولون الكثير من الأذى والتنكيل حتى محمد
(ص) كان إذا مر في الطريق يصيح به السفهاء : «مجنون .. كذاب .. ساحر» فصبروا
وتحملوا في غير شكاة ، وقد عبّر سبحانه عن صبرهم بالحسنة ، وعن اساءة المشركين
واذايتهم بالسيئة ، وفي هذا التعبير إيماء الى أن السلاح الوحيد للضعيف هو الصبر ،
وان الجزع وانهيار الأعصاب ضرب من الجنون ، وان المقاومة بغير سلاح موت وانتحار ..
فصبر الضعيف عقل وحكمة ، وشجاعة وبطولة ، على شريطة أن يسعى ويعمل جاهدا لازالة
الضعف وأسبابه ، ومن تقاعس وتكاسل فقد هانت عليه نفسه ، ورضي لها الذل والهوان ..
وبكلمة : ان الضعيف كالمريض ، عليه أن يسعى للشفاء ، ولا يصبر على الدواء الا بعد
العجز واليأس.
(وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يدرءون شر المسيء بالصبر عليه ، وأيضا يحسنون اليه وإلى
غيره بالإنفاق والعطاء إذا رزقهم الله من فضله ، قال الإمام علي (ع) : عاتب أخاك
بالإحسان إليه ، واردد شره بالإنعام عليه (وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ). تعرض الكافرون بالسب والشتم للذين أسلموا وآمنوا بالله
ورسوله ، فتحملوا وتجاهلوا (وَقالُوا لَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أنتم راضون بما عندكم من الباطل ، ونحن راضون بما عندنا من
الحق (سلام عليكم) قال المفسرون : هذا سلام الاحتمال من الجاهلين ، وليس بسلام
تحية ، تماما كما تقول لمن تريد البعد عنه : اذهب عني بسلام (لا نبتغي الجاهلين)
لا نخالطهم ولا نتخلق بأخلاقهم.
انك لا تهتدي من أحببت الآة ٥٦
ـ ٦١ :
(إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ
كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ
تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما
كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ
(٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما
عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ
وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا
ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))
اللغة :
نتخطف من التخطف ،
وهو أخذ الشيء على وجه الاستيلاء. والبطر الطغيان عند النعمة. والمراد بأمها هنا
أكبرها أو عاصمتها. ومن المحضرين أي ان الله سبحانه يحشرهم غدا للحساب والجزاء.
الإعراب :
رزقا مفعول من
أجله ليجبى ، أو مفعول مطلق لأنّ يجبى يتضمن معنى الرزق ، فيكون مثل قمت وقوفا.
ومن لدنا متعلق بمحذوف صفة للرزق. وكم خبرية في محل نصب بأهلكنا. ومن قرية تمييز.
ومعيشتها منصوب بنزع الخافض أي بطرت في معيشتها ، ويجوز أن يكون بطرت بمعنى كفرت
ومعيشتها مفعول. فتلك مساكنهم مبتدأ وخبر ، وجملة لم تسكن حال من مساكنهم. وقليلا
صفة لمحذوف أي زمنا قليلا. وما أوتيتم (ما) اسم شرط مبتدأ. فمتاع خبر لمبتدأ محذوف
أي فهو متاع. وما عند الله (ما) اسم موصول مبتدأ ، وخير خبر.
أبو طالب والإسلام :
(إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ). اختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال أكثر المفسرين من
أهل السنة : انها نزلت في عم النبي أبي طالب. وقال الشيعة : لم تنص الآية على أبي
طالب ولا غيره ، والنبي (ص) يحب الهداية لكل الناس الأقربين والأبعدين ، وكلمة (من)
من صيغ العموم ، وتفسيرها بأبي طالب وحده تصرف في كلام الله بغير دليل ، أما
الروايات القائلة : ان الآية نزلت في أبي طالب فلم تثبت صحتها عندنا ، وعليه تكون
الآية مرادفة لقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي
الْعُمْيَ) ـ ٤٣ يونس.
وقد أطال صاحب
الظلال أو في الظلال ، أطال الحديث حول هذه الآية ،
ثم انتهى إلى
الأخذ بمذهب الآباء والأجداد ، واعتمد أدلة الأقدمين دون محاكمة وتمحيص ، مع انها
تناقض الفطرة تناقضا بينا ، وقد كرر صاحب الظلال مرات ومرات ان القرآن يخاطب
الفطرة في أعماقها ، ونحن نحاكم أقواله محاكمة فطرية وموضوعية ، لا مذهبية تعصبية
، ونرجو القارئ أن ينظر إلى أقوالنا نظرة العالم المنصف.
قال صاحب الظلال
ما نصه بالحرف : «هذا عم رسول الله (ص) وكافله وحاميه والذائد عنه لا يكتب الله له
الأيمان على شدة حبه لرسول الله وشدة حب رسول الله له ، لا يكتب الله له أن يؤمن».
ومعنى هذا ان الله كره أن يقول أبو طالب : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ،
ولكن رسول الله أحب هذا القول من عمه ، وأصر عليه.
ونسأل : هل يصح في
حكم العقل والفطرة أن يحب رسول الله شيئا يكرهه الله ويمقته؟ اذن ، كيف قرن الله
طاعة رسوله بطاعته في العديد من الآيات؟ وإذا كره الله الإسلام من أبي طالب ولم
يكتبه له على حد تعبير صاحب الظلال فعلى أي شيء يعاقبه ويضعه في «ضحضاح» من نار
كما روى المفترون؟ وهل يجوز للقوي أن يأخذ الضعيف بما لم يفعل؟ كيف وهو القائل : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)؟ ولما ذا أحب الله الإسلام من أبي سفيان وكرهه من أبي طالب؟
ألأن أبا سفيان كان أشد الناس بغضا لرسول الله ، ولذا حشد له الجيوش ، وشن عليه
الحروب ، ولأن أبا طالب أحب رسول الله حبا شديدا وحضنه وحماه وذاد عنه على حد
تعبير صاحب الظلال ، أو لأن أبا سفيان هو والد معاوية ، وأبا طالب والد علي؟
وتجدر الاشارة إلى
ان كل ما جاء في هذه التساؤلات فهو جائز على الله عند القائلين بكفر أبي طالب
لأنهم يؤمنون بأن الله لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء ، وان له ان يعاقب
الأبرياء ، ويحسن إلى سفاكي الدماء .. ولا أدري : هل أراد صاحب الظلال هذا المعنى
من الفطرة التي يخاطبها القرآن في أعماقها؟. وبعد ، فان كتابة التفسير وغير
التفسير تتأثر بعقيدة الكاتب وميوله ، وثقافته وبيئته ، وظروفه ووراثته ، وهذا
ناموس طبيعي لا يشذ عنه كبير ولا صغير ..
ولكن ليس معناه ان
جميع العقائد والميول لا تتفق مع الحق والواقع ، والا استحال قول العدل والصدق ..
وما على الإنسان إلا ان يجدّ ويجتهد في طلب الحق من مصدره ، لا من الميول
والتقاليد .. وهذا ما نحاوله ونهدف اليه ، والله من وراء القصد. ونعطف هذه الأسطر
على الصفحات التي كتبناها في هذا الموضوع عند تفسير الآية ١١٣ من سورة التوبة ج ٤
ص ١٠٧.
(وَقالُوا إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا). في رواية ان رسول الله (ص) قال : «والذي نفسي بيده لأدعون
إلى هذا الأمر الأسود والأبيض ، ومن على رؤوس الجبال ، وفي لجج البحار ، ولأدعون
أهل فارس والروم» ، ولما سمع ذلك عتاة قريش استعظموه ، وقالوا لرسول الله (ص) : «كيف
نتبعك وأنت على نيتك هذه ، ولو استجبنا لك لاجتمع الناس بما فيهم فارس والروم ،
وتظاهروا على اخراجنا من ديارنا ، وهدموا الكعبة حجرا حجرا». وسواء أصحت هذه
الرواية أم لم تصح سندا فان مضمونها يصلح تفسيرا لهذه الآية ، فلقد دعا رسول الله
الأسود والأبيض ، وأصر على دعوته ، وحاربه عتاة قريش من أجلها ، بالاضافة إلى ان
هذه الرواية تنفق تماما مع قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ
لَدُنَّا). كيف تخافون يا أهل مكة من الناس ، والله سبحانه قد منع
بلدكم هذا وصانه من القتل والسبي والنهب منذ يومه الأول ، وجعل أفئدة من الناس
تحمل اليه من كل الثمرات والطيبات؟ (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله سبحانه خص بلدهم بهذه المنقبة دون سائر البلدان.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ). قالوا للرسول (ص) : نخشى الناس ان اتبعناك. فأجابهم
سبحانه في الآية السابقة : أتخافون من الناس وقد جعل الله بلدكم حرما آمنا؟ .. ثم
قال لهم في هذه الآية : أتخافون من الناس ولا تخافون من الله؟ ألا تعتبرون بالأمم
الماضية التي طغت وكفرت بأنعم الله ، فأهلكها لكفرها به وبأنعمه ، وترك مساكنها
خاوية على عروشها إلا من البقية الباقية ، أما أكثرها فلا وارث لها إلا وارث الأرض
ومن عليها واليه المصير. وتقدم مثله في الآية ١٢٨ من سورة طه.
(وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ). الله عادل وحكيم لا يعذب أحدا إلا بعد التذكير والتحذير.
وتسأل : الظاهر من
الآية ان الله لا يبعث رسولا في البلد الصغير ، أو إذا بعث فيه رسولا ، ولم يستجب
أهله لدعوته فلا يعذبهم ، لأن المراد بالأم في الآية البلد الكبير أو العاصمة ..
ولا يتفق هذا مع مبدأ المساواة في التكليف ووجوب الطاعة بين عموم الناس؟.
الجواب : ان الآية
واردة مورد الغالب ، فان أكثر الأنبياء بعثوا في البلد الكبير ، وكل نبي كان يبعث
مرشدا من قبله إلى البلد الصغير. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام الآية ٦ ج
٣ ص ١٦٢ وفي سورة هود الآية ١١٨ ج ٤ ص ٢٧٨.
(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ
وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ). المذموم من متاع الحياة ما يطغى معه الإنسان ، ويعثو في
الأرض فسادا بسببه ، وإلا فلا يحرم زينة الله والطيبات من الرزق إلا جاهل بدين
الله. وتقدم مثله في الآية ١٠٣ من سورة البقرة ج ١ ص ١٦٢ والآية ٧٧ من سورة النساء
ج ٢ ص ٣٨٣.
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ
وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا
ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ). وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها
الأنهار ، والله منجز وعده لا محالة ، وليس من شك ان الذي يتنعم في جنة الخلد لا
يقاس به من يتنعم أياما في هذه الحياة ، ثم يساق قهرا إلى عذاب الجحيم.
اين شركائي الآة ٦٢
ـ ٧٠ :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ
حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما
غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ
ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ
يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ
(٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))
اللغة :
حق عليهم وجب
عليهم. والمراد بالقول هنا العذاب. والغواية الضلال. فعميت خفيت. والمراد بالأنباء
الأجوبة والاعذار. والخيرة الاختيار.
الاعراب :
هؤلاء مبتدأ
والذين أغوينا صفة ، وأغويناهم كما غوينا خبر. وإيانا مفعول مقدم ليعبدون.
المعنى :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ). يحشر سبحانه غدا
عبدة الأوثان
والجاه والحطام ، ويسألهم للتوبيخ والتشهير : أين الذي كنتم تعملون من أجله ،
وتخلصون له من دون الله؟.
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما
غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) المراد بالذين حق عليهم القول قادة الشرك والضلال ،
والمراد بالقول كلمة العذاب التي جاءت في الآية ٧٩ من سورة الزمر : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ
عَلَى الْكافِرِينَ) وهؤلاء اشارة إلى الأتباع الضعفاء ، والمعنى ان الله
سبحانه حين يسأل المشركين : أين شركائي يجيبه الضعفاء : ربنا انّا اطعنا سادتنا
وكبراءنا فأضلونا السبيل ، فيقول السادة الأدعياء : كلا ، لم نكره هؤلاء الأتباع
على الشرك والغواية ، ولكن دعوناهم الى ذلك فاستجابوا مختارين ، تماما كما استجبنا
نحن لاهوائنا طائعين ، وانّا نبرأ منهم ومن أعمالهم ، وما كانوا يعبدوننا وانما
كانوا يعبدون الأصنام والشيطان .. وهكذا يفعل أرباب المصالح والأغراض يخدعون البسطاء
ويغررون بهم ، ويتخذونهم أداة لأهوائهم حتى إذا جد الجد ، ودارت دائرة السوء على
رؤوس التابعين والمتبوعين ـ قال هؤلاء لأولئك ما يقوله الشيطان غدا لأتباعه : ما
كان لي عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ..
اني بريء منكم .. اني أخاف الله والله شديد العقاب.
(وَقِيلَ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ) يقال غدا لأعوان الظلمة وأذنابهم : أين الذين كنتم تعبدون
من دون الله؟ ادعوهم لينقذوكم من العذاب (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ضعف الطالب والمطلوب (وَرَأَوُا الْعَذابَ
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) علموا ان العذاب واقع لا محالة ، فتمنوا لو كانوا مؤمنين (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا
أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ). مرة ثانية يسألهم سبحانه بقصد التوبيخ والتأنيب : لقد
أرسلت إليكم رسلي ، وتلوا عليكم آياتي وانذروكم لقاء يومكم هذا ، فما ذا فعلتم؟ هل
استجبتم وأطعتم ، أو أعرضتم وتمردتم؟.
(فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) خرسوا عن الجواب لعجزهم عنه ، ولما بهم من الدهشة والهوان (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا فيما ينجيهم من العذاب ، كيف وقد يئسوا
من كل شيء (فَأَمَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ). هذا على عادة القرآن ، يقرن ذكر من أطاع وثوابه بذكر
من عصى وعقابه ،
وبالعكس ، وعسى في كلام المخلوق تدل على الترجي في المحبوب ، والإشفاق في المكروه
، وتدل في كلام الخالق على الوجوب ، وعليه فالتائب الصالح من المفلحين المرضيين
عند الله بالقطع واليقين.
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ). الله هو الخالق المالك ، ولا أحد يملك معه شيئا ، وكل أفعاله
حكمة وخير وصواب ، وما لأحد أن يرد ويعترض ، فكيف ينسبون اليه الشركاء (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) وأيضا هو عالم الغيب والشهادة ، والشركاء المزعومون لا
يعلمون شيئا (وَهُوَ اللهُ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده المستحق للعبادة (لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ) الحمد لله في الدنيا على فضله وآلائه ، وفي الآخرة على
ثوابه وجزائه (وَلَهُ الْحُكْمُ) النافذ في كل شيء بكلمة «كن». (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولا مناص لأحد من هذا المرجع ، والسعيد من ثبتت حجته ،
وقبلت معذرته.
الحكمة من الليل والنهار الآة ٧١
ـ ٧٥ :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ
(٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤)
وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا
أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))
اللغة :
أرأيتم أخبروني.
وسرمدا دائما. ونزعنا أخرجنا.
الإعراب :
غير الله صفة
لإله. وفي مغني ابن هشام ان جماعة من النحاة ، منهم الأخفش والكسائي قالوا : ان
لعل تأتي بمعنى كي مثل لعلكم تشكرون. وهاتوا اسم فعل بمعنى قدموا.
المعنى :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ). لا بد للإنسان من العمل والراحة بالنوم ، والعمل يحتاج
إلى ضياء ، والنوم في الظلام أعمق وأصح للجسم ، فخلق سبحانه النهار للعمل ، والليل
للراحة ، وقد ذكّر ، جلت حكمته ، عباده بنعمة الليل والنهار ، وانه لو استمر الليل
بلا صباح ، أو النهار بلا ليل لكانت الحياة إلى بوار.
وقال سبحانه عند
ذكر الليل : أفلا تسمعون. وعند ذكر النهار : أفلا تبصرون لأن الليل يناسبه السمع ،
والنهار يناسبه الإبصار. وقلنا فيما تقدم : ان تعاقب الليل والنهار يستند مباشرة
إلى أسبابه الكونية ، واليه تعالى بالواسطة لأنه خالق الكون ومدبره بعلمه وحكمته.
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي جعل الليل لتسكنوا فيه ، وجعل النهار لتبتغوا فيه الخ.
وتقدم مثله في الآية ٦٧ من سورة يونس ج ٤ ص ١٧٧ والآية ١٢ من سورة الإسراء ج ٥ ص
٢٦ والآية ٤٧ من سورة الفرقان.
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ). تقدم بنصه الحرفي في الآية ٦٢ من هذه السورة ، ولا نعرف
وجها لهذا التكرار إلا التثبيت والتأكيد (وَنَزَعْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) يأتي الله غدا من كل أمة بنبيّهم ، فيشهد عليهم بتبليغ
الرسالة وبما قابلوها من التكذيب والإعراض بعد اقامة الحجج عليهم وقطع جميع
الأعذار. وعندئذ يقول سبحانه للجاحدين : لقد أدلى الرسول بما عنده ، فهاتوا ما
عندكم من تبرير موقفكم معه وتكذيبكم رسالته تماما كما هو شأن القاضي ، يستمع أولا
من المدعي ، ثم يستوجب المدعى عليه ، فيخرس المبطلون عن الجواب ، ويحيق بهم
العذاب. وتقدم مثله في الآية ١٤٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٢٥ والآية ٨٩ من سورة
النحل ج ٤ ص ٥٤٣ (فَعَلِمُوا أَنَّ
الْحَقَّ لِلَّهِ) أي علموا ان الحجة لله عليهم ، ولا حجة لهم على الله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) على الله بوجود الشريك ، وعلى الطيبين بالاشاعات الكاذبة.
قارون الآة
٧٦ ـ ٨٢ :
(إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا
تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ
عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ
لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ
وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ
وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ
بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا
وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))
اللغة :
مفاتح جمع مفتح ،
ومفاتيح جمع مفتاح ، والمعنى واحد ، وهو ما يفتح به. وتنوء تثقل. والعصبة الجماعة
يتعصب بعضهم لبعض. ويقدر بسكون القاف يضيق.
الإعراب :
ما انّ مفاتحه (ما)
اسم موصول ، وهي مفعول ثان لآتيناه ، ومفاتحه اسم ان ولتنوء خبرها ، وأولي القوة
صفة للعصبة. وإذ قال (إذ) متعلقة بمحذوف أي اظهر التفاخر إذ قال له قومه ـ كما في
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ـ وقوة وجمعا تمييز. وويل يجوز إفرادها واضافتها
تقول ويل له وويله ، فإذا أضفت وجب النصب بفعل محذوف أي ألزمه ويلا أي عذابا ،
وإذا أفردت جاز الرفع على الابتداء وله خبر ، وجاز النصب بفعل محذوف أيضا. ووي
كلمة تعجب ولا محل لها من الاعراب.
قارون والرأسمالية المستبدة :
(إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ). كان قارون من بني إسرائيل ، لأنه من قوم موسى ، وقيل :
ابن عمه ، وهو واضع أسس الرأسمالية المستبدة أو ممثلها ، لأنه احتكر المال ، وتسلط
على قومه مبررا ذلك بقوله : «انما أوتيته على علم عندي» وهذا هو المذهب الاقتصادي
القائل : الفرد أولا والمجتمع ثانيا ، وأيضا تومئ اليه الآية التي نفسرها حيث جمعت
بين البغي وكنز المال .. وأي بغي أعظم من أن تكون مقدرات الخلائق رهنا بمشيئة
الأفراد أو الفئات؟ وقد حاول قوم قارون أن يردعوه عن البغي بالحسنى ، ويثيروا فيه
روح الخير والصلاح.
(إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ). مالك تكثر فرحا بالمال وتغتر به ، وتتخذه وسيلة للبغي
والعدوان ، والترف والإسراف ، وحولك الألوف يموتون جوعا؟ أتختال وتفاخر بقدرتك على
المآثم والرذائل؟ ان الله لا يحب كلّ مختال فخور.
(وَابْتَغِ فِيما
آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ). جد واجتهد واعمل لوجه الله في كل ما أعطاك من مال وصحة
وعقل ، فان المرء مسؤول أمام الله عن جسمه فيم أبلاه ، وعن عمره فيم أفناه ، وعن
ماله ممّ اكتسبه وفيم أنفقه.
(وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) لا تترك ما أنت في حاجه اليه لحياتك ومتعتك ، فكل ما شئت
من الطيبات ، والبس ما أردت من فاخر الثياب ، واسكن ما أحببت من الدور ، ولكن على
حساب جهدك وكدك ، لا على حساب الآخرين ، فإنك بهذا تجمع بين الحظين معا ، وتملك
الزادين جميعا : زاد الدنيا وزاد الآخرة.
(وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ). اتق الله فيما أنعم به عليك ، واشكره على ذلك بالإحسان
الى عباده وعياله ، وتعاون معهم على ما فيه خيرك وخيرهم.
(وَلا تَبْغِ
الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بالجور والخيانة ، والتكبر والتجبر ، والعيش في الإسراف
والبذخ ، وحولك الجياع والعراة .. ان هذا هو الفساد بالذات (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وأعد لهم عذابا أليما.
(قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي). هذا المال من علمه هو .. من موهبته ومهارته .. وللإنسان
أن يستغل علمه وموهبته في السلب والنهب ، والتقتيل والتشريد ، وفي كل ما يهوى
ويريد .. وليس قارون بدعا في هذا المنطق .. فقد وضعت الولايات المتحدة الأمريكية
مخططا لشراء العقول والمواهب من مختلف أنحاء العالم ، وأغرت العلماء والخبراء
بالهجرة اليها ، وأسمت هذا المخطط «برين درين» أي استنزاف العقول ، والقصد منه أن
تستخدم المواهب الانسانية في نهب ثروات البلاد وأقوات العباد في شرق الأرض وغربها.
(أَوَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً)؟ وكيف يعلم وقد أطغاه المال والجاه ، وأعماه عن عاقبة
الظلم والبغي ، وأنساه ما سمع عن القرون الأولى ، وانها كانت أكثر منه مالا وأعز
نفرا ، ولما طغت وبغت أذاقها الله عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة
أشد وأخزى .. وضرب المفسرون مثلا بقوم نوح وعاد وثمود ، ولو كنت في عصرهم لم أعد
أمثلتهم ، ولو كانوا في عصري لاكتفوا بما حدث في «ليبيا» في هذا الشهر الذي أكتب
فيه كلماتي هذه ، وهو شهر أيلول من سنة ١٩٦٩ حيث قامت مجموعة من الشباب الليبي ،
وعزلت الملك السابق ، وهو أقوى وأغنى من قارون ، ومن ورائه الصهيونية والاستعمار
.. واستولى على الحكم الذين يمثلون الشعب الليبي ، ويعبّرون عن أمانيه ، وهم الذين
نكّل بهم الملك المخلوع واضطهدهم بالحبس والتشريد ومصادرة الأملاك.
(وَلا يُسْئَلُ عَنْ
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي ان الله يعذبهم بغير حساب. وتسأل : كيف تجمع بين هذه
الآية ، وبين الآية ٩٣ من سورة الحجر : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) وفي معناها كثير من الآيات؟
الجواب : المراد
بالمجرمين هنا الذين يعتدون على حقوق الناس وحرياتهم ، ويثيرون الفتن والحروب من
أجل مصالحهم ومنافعهم ، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بغير حساب حتى ولو هللوا
وكبروا ، وعليه يكون قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ، مخصّصا لقوله لنسألنهم أجمعين أي لو جمعنا بين القولين
لكان المعنى لنسألنهم أجمعين إلا من اعتدى على حقوق الناس فإنه يدخل النار من غير
سؤال.
(فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ). حذره قومه من عاقبة البغي والفساد ، فنفخ الشيطان في أنفه
، وأخذته العزة بالإثم ، وجمع خدمه وحشمه ، وركب في موكب فخم يعرض على الناس ثراءه
وكبرياءه تحديا للذين وعظوه وحذروه من سكرات الترف والبغي.
(قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ
لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). نظر ضعفاء العقول الى المال والزينة ، وذهلوا عن عاقبة
البغي والكبرياء فتمنوا أن يكون لهم مثل ترف قارون وأبهته ليغرقوا في الملذات
والشهوات ، ولو نظروا بعين البصيرة لقالوا كما قال أولو العلم.
(وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ). ضمير يلقاها يعود إلى المثوبة والمنزلة عند الله التي دل
عليها سياق الكلام ، والمعنى ان أهل العلم بالله قالوا لضعفاء العقول : لقد نطق
الشيطان على ألسنتكم .. ان ما عند الله خير وأبقى ، وما اعتز أحد بغيره تعالى إلا
أذله وأخزاه ، قال الإمام علي : رب مغبوط في أول الليل قامت بواكيه في آخره. وقال
: ما قال الناس لشيء طوبى له إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء.
(فَخَسَفْنا بِهِ
وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ
وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ). ولا ينجو ظالم من الخسف في الدنيا قبل الآخرة ، وليس من
الضروري أن يكون الخسف بالأرض فقط ، فيكون أيضا بالخزي واللعن على ألسنة الخلائق ،
وبأيدي المظلومين والمحقين .. وقد دلتنا التجارب ان الظالم إذا نزل به القصاص
والعقاب تخلى عنه وتبرأ منه كل الناس حتى أعوانه وأرحامه ، وحسبه هذا خسفا ونكالا.
(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ
تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا
لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ). بالأمس قال الضعفاء : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون لأنهم
نظروا الى الدنيا وزينتها ، وذهلوا عن عاقبة البغي والكبرياء ، أما اليوم ، وقد
شاهدوا دائرة السوء تدور على رأس الطاغية قارون ، فقد أدركوا الحقيقة وحمدوا الله
الذي لم يؤتهم مثل ما أوتي الطغاة. وفي نهج البلاغة : فكم من منقوص رابح ، ومزيد
خاسر .. ومن هنا قيل : الأمور بخواتيمها.
لرادك الى معاد الآة ٨٣
ـ ٨٨ :
(تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ
إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا
يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى
رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً
آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))
اللغة :
فرض أوجب. والمراد
بمعاد هنا بلدة الرسول الأعظم (ص) وهي مكة. وظهيرا معينا.
المعنى :
(تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). العلو في الأرض التعالي والتعاظم ، وارادة التسلط على
الناس بغير حق ، والفساد الظلم والعدوان ، والفسق والفجور ، والمعنى ان من تعالى
وتعاظم على الناس ، أو اعتدى على شيء من حقوقهم فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه
جهنم وساءت مصيرا (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ). تقدم مثله في الآية ١٦٠ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٩٠.
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ). يقول سبحانه لنبيه الكريم : ان الذي أوجب عليك العمل
بالقرآن هو الذي سيعود بك إلى مكة التي أخرجك منها قومك. وقيل : ان النبي (ص) حين
هاجر من مكة إلى المدينة اشتاق الى وطنه ، وهو في أثناء الطريق ، فنزلت هذه الآية
تبشره بالعودة اليه (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). أعلم هنا بمعنى يعلم ، أي قل يا محمد لمن لا ترجو الهداية
منه ، ويصر على انه هو المهتدي وأنت الضال ، قل لهذا العنود : الله ولا أحد سواه
يميز بين المهتدي والضال ، والطيب والخبيث ، ويجزي كلا بما يستحق.
(وَما كُنْتَ تَرْجُوا
أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). الاستثناء هنا منقطع أي لكن الله رحمك وتفضل عليك ، وهذا
رد على من قال لرسول الله : لست مرسلا من عند الله ، بل تفتري عليه ، وبيان الرد :
كيف يقولون عنك يا محمد : انك تفتري على الله بادعاء الرسالة مع انها لم تمر
بخاطرك من قبل ، ولا تطلعت اليها وحلمت بها في يوم من الأيام ، ولكن الله سبحانه
هو الذي أنعم عليك بها ، واصطفاك لها دون خلقه.
إخبار الغيب عن العملاء والخونة :
(فَلا تَكُونَنَّ
ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ
إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ
مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). لقد اختارك الله يا محمد لتكون حربا على الكافرين ، لا
عونا لهم ، ولتبلغ رسالته الى عباده ، ولا يأخذك في تبليغها لومة لائم ، ولتخلص
لله وحده في جميع أقوالك وأعمالك.
وفيما تقدم قلنا ،
ونحن نفسر هذا النوع من الآيات التي تخاطب المعصوم بالنهي عن المعصية ، قلنا : ان
للأعلى ان ينهى من هو دونه بأي شكل أراد ، وعن
أي شيء يختار ،
بالاضافة الى ان النهي عن الشيء لا يتوقف على إمكان وقوعه من المخاطب به ، أما
الآن ، ونحن نفسر هذه الآية ، فقد استوحينا منها معنى آخر ، وهو ان كل ما جاء في
هذا الباب من الآيات فهو إخبار بالغيب وتعريض بما عليه اليوم وقبل اليوم بعض أرباب
العمائم والقلانس الذين يتظاهرون بالدين والصلاح ، وهم جنود وأعوان للكفرة الفجرة
.. وخصصنا البعض منهم بالذات مع ان العملاء والخونة يكونون منهم ومن كل نوع وصنف
لأن الآيات تخاطب من يدعو الى الله وشريعته.
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). هذا تهديد ووعيد لكل خائن وعميل يتآمر على دينه ووطنه مع
أعداء الله والانسانية ، وانه بحكم المشرك الذي قامت عليه الحجة ، ومع ذلك يجحد
ويعاند إذ لا فرق أبدا عند الله بين من يدعو مع الله إلها آخر ، ومن يوالي الظلمة
الطغاة ، ويدافع عنهم ويبرر أعمالهم ، ويدعو الى موالاتهم ومؤازرنهم.
وتسأل : هل معنى
هذا ان العملاء والخونة يجب ان نعاملهم معاملة المشرك من النجاسة وعدم التوريث
والتزويج والدفن في مقابر المسلمين؟
الجواب : علينا أن
نعامل كل من قال : أشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ـ معاملة المسلم
مهما كان عمله ، بل ومهما انطوى عليه قلبه .. ذلك ان لهذه الشهادة آثارها
الموضوعية التي لا تنفك عنها بحال ، وهي الطهارة والتوريث والتزويج والدفن في
مقابر المسلمين ، أما الآخرة فهي لله وحده ، ولا شأن فيها لأحد سواه ، وقد دل ظاهر
العديد من الآيات ان الظالم يوم القيامة هو والمشرك سواء. أنظر ما قلناه عند تفسير
الآية ٥٥ من سورة الفرقان ، فقرة «الظالم كافر».
سورة العنكبوت
قيل : هي مكية ،
وآياتها ٦٩.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الايمان جهاد وصبر الآة ١ ـ
٩ :
(الم (١) أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ
فِي الصَّالِحِينَ (٩))
اللغة :
لا يفتنون لا
يمتحنون. يرجو لقاء الله يؤمن بحسابه وجزائه بعد الموت. وأجل الله الوقت المعين
عند الله لهذا اللقاء. جاهداك حرضاك مجتهدين.
الإعراب :
حسب تحتاج إلى
مفعولين ، والمصدر من ان يتركوا سادّ مسدهما. والمصدر من ان يقولوا بدل من مصدر أن
يتركوا. فليعلمن تحتاج إلى مفعول واحد لأنها بمعنى ليميزن واللام للقسم. ساء ما
يحكمون (ساء) بمعنى قبح و (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك فاعل ساء أي قبح حكمهم.
وحسنا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ووصيناه إيصاء حسنا. وما ليس (ما) اسم موصول مفعول
لتشرك.
المعنى :
(الم) تقدم تفسيره
في أول سورة البقرة (أَحَسِبَ النَّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ). ليس الايمان كلمة تقال ، بل لا بد من الابتلاء والامتحان
بأنواع من السراء والضراء ، فمن صبر عند هذه ولم يخرج عن دينه ، وشكر وتواضع عند
تلك ولم يطغه الجاه والمال فهو المؤمن حقا ، والا فما هو من الايمان في شيء .. هذا
ما دل عليه ظاهر الآية ، وإذا عطفنا عليها بقية الآيات الواردة في هذا الباب
نستخلص منها ان للايمان ظاهرة لا تنفك عنه بحال ، وهي أن يستجيب المؤمن لدعوة الله
تعالى استجابة عملية ، لا لفظية مهما كانت النتائج ، أي ان يحرص أشد الحرص على
طاعة الله في أمره ونهيه ، ويطبقها في عمله وسلوكه ، وإذا ابتلي بالخطوب والمحن
لأنه أخلص لله فما يزيده ذلك إلا ايمانا وتسليما.
أنظر ج ١ ص ٢٤٢
فقرة «ثمن الجنة» ، وص ٣١٤ فقرة «لا ايمان بلا تقوى» ، وج ٢ ص ٤٥٧ فقرة «بين الدين
وأهل الدين».
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). اختبرنا بالشدائد أتباع الأنبياء من الأمم
السابقة ، فصبروا
صبر الأحرار ، وازدادوا تمسكا بدينهم وإخلاصا لربهم وأنبيائهم ، وأوضح تفسير لهذه
الآية قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ـ ١٤٦ آل عمران ج
٢ ص ١٧٤. (فَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ). يمتحن سبحانه عبده بإقبال الدنيا عليه وادبارها عنه لتظهر
أفعاله التي يستحق عليها الثواب والعقاب ، لأنه ، جلت حكمته ، لا يحاسب الإنسان
على ما فيه من قابلية واستعداد للخير والشر ، وانما يحاسبه على أعماله التي تظهر
للعيان.
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا). أيحسب المسيئون ان الله عاجز عن طلبهم؟ كيف وهو على كل
شيء قدير؟ وبمن يمتنعون عنه ولا ضد يعانده ولا شريك يساويه؟ (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بأنهم يفلتون من سلطان الله وحكمه.
(مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) بعد أن ذكر سبحانه من كفر باليوم الآخر ذكر من آمن به وقال
لهذا المؤمن : اثبت على إيمانك ، فان الساعة آتية لا ريب فيها ، فاعمل لها (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). يسمع ما تقول ، ويعلم ما تضمر وتفعل ، ويجزيك بما أسلفت (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ
لِنَفْسِهِ) وتفسيره : (فَمَنْ أَبْصَرَ
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) ـ ١٠٤ الأنعام ج ٣
ص ٢٣٨. (إِنَّ اللهَ
لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا تضره معصية من عصى.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ). من آمن بعد ما كفر ، وأصلح بعد ما أفسد فإن الله يغفر له
ويعفو عما مضى ، وفوق ذلك يثيبه تفضلا منه على إيمانه وإصلاحه تماما كمن لا ذنب له
.. وفي هذا المبدأ الخير كل الخير للانسانية لأنه يفتح باب الأمل للمذنبين
والمجرمين ، ويدفع بهم إلى التوبة والاقلاع ، ولا سبيل أجدى من هذا السبيل لتطهير
المجتمع من المظالم والمفاسد.
أيضا البر بالوالدين :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ). أمر سبحانه بالإحسان إلى الوالدين وإطاعتهما في كل شيء
إلا فيما لا يرضيه تعالى ، حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وتكلمنا عن ذلك
مفصلا عند تفسير الآية ٢٣ من سورة الإسراء ، فقرة «البر بالوالدين» ج ٥ ص ٣٥. وفي
كتب الحديث قصة تدل على ان البر بالوالدين ينفع عند الشدائد ، وأيضا تدل على أن
أفضل دعاء يتجه به الإنسان الى الله عند المحنة هو العمل الصالح.
روي عن النبي (ص)
ان ثلاثة رجال لجأوا الى غار في الطريق يبيتون فيه ليلتهم ، فسقطت صخرة ضخمة من
الجبل وسدت عليهم باب الغار ، وبعد التفكير طويلا لم يجدوا إلا التوجه بالدعاء إلى
الله وحده أن ينجيهم من هذا الهلاك ، ثم ذكر كل واحد منهم عملا صالحا كان قد صنعه
.. فذكر الأول بره بوالديه وتوفير الراحة لهما ، فانفرجت الصخرة قليلا. وذكر
الثاني انه صرف نفسه عن عمل فاحش مع امرأة كانت في حاجة تضطرها الى ذلك ، فكفاها
هذه الحاجة ووفرها لها ، فانفرجت الصخرة قليلا أيضا. وقال الثالث : ان أجيرا كان
يعمل عنده ، فترك أجره ورحل عنه ، فاحتفظ له بأجره ونمّاه له ، فلما عاد اليه ،
وقد كثر الأجر وأصبح قطيعا كبيرا من الأنعام ، أعطاه إياه ، فانفرجت الصخرة تماما
، وخرجوا من الغار.
وسواء أصحت هذه
الرواية ، أم لم تصح فان القصة تعبّر عن الإسلام في حقيقته وجوهره لأنه يحصر طريق
النجاح في الدنيا والآخرة بالأعمال الصالحة ، لا بالأقوال والمظاهر.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ). وتسأل : ما الفرق بين قوله تعالى هنا : لندخلنهم في
الصالحين وقوله في الآية السابقة : (لَنُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)؟
الجواب : ان
الإدخال في زمرة الصالحين كالشهداء والأولياء أرفع بكثير من
العفو والجزاء ،
فهو أشبه بقولك لمن أساء ثم أصلح وأخلص : لقد عفوت عنك ، وأحسن اليك بكذا ، وفوق
ذلك أجعلك في عداد المصطفين الأخيار.
ومن الناس من يقول أمنا الآة ١٠
ـ ١٥ :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا
مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ
خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ
عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))
اللغة :
المراد بفتنة
الناس أذاهم. والأثقال جمع ثقل والمراد بالأثقال هنا الأوزار لقوله تعالى في الآية
٢٥ من سورة النحل : (لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ).
الإعراب :
لنحمل اللام للأمر
ولذا جزم الفعل. وبحاملين الباء زائدة. ومن خطاياهم (من) للتبعيض. ومن شيء (من)
زائدة وشيء مفعول حاملين ، ومن خطاياهم متعلق بمحذوف حال مقدما من شيء ، والأصل
وما هم حاملين شيئا من خطاياهم. وألف سنة ظرف زمان منصوب بلبث. وخمسين منصوب على
الاستثناء. وعاما تمييز.
ايمان او سراب؟
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذابِ اللهِ). هذه الآية صورة حقيقية لبعض الناس الذين نعرفهم ونعايشهم
.. لقد زين الشيطان لهذا البعض انه من أهل التقى والايمان ، فانطلت عليه الحيلة
وصدّق الشيطان في وساوسه وأحابيله ، وانه من المتقين ، وهو في حقيقته وواقعه لا
يعتقد بشيء ولا يرى إلا منافعه ومصالحه الخاصة ، ولا شيء أدل على ان إيمانه وهم
وسراب من تنكره للحق أو تجاهله إياه حين يخاف الناس على أدنى شيء من أشيائه ..
يخافهم إذا ناصر الحق والعدل بفعل أو قول تماما كما يخاف الأولياء والأتقياء من
الله إذا لم يعملوا بأمره ونهيه ، وتقدمت الاشارة الى هذا الفريق في الآية ٧٧ من
سورة النساء : (فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ
أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً). وقلنا فيما تقدم : ما من أحد اتبع الحق الا ودفع ثمنه من
نفسه وأشيائه ، وإلا لم يكن لأهل الحق وأنصاره أية فضيلة. أنظر تفسير الآية ١٥٥ من
سورة البقرة ج ١ ص ٢٤٢ ، فقرة «ثمن الجنة». وفي الحديث : من خاف الله خوّف الله
منه كل شيء ، ومن لم يخف الله خوّفه من كل شيء.
(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ
مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ). هم مع الدين إذا كان متجرا رابحا ، وهم أعداء الدين إذا
سألهم البذل والتضحية ولو باليسير ، وأبلغ كلمة في هذا المعنى قول سيد الشهداء
الحسين بن علي (ع) : «الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت
معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون».
وتقدم مثله في
الآية ١٤١ من سورة النساء ج ٢ ص ٤٦٦ (أَوَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ). هل تريدون ان تخدعوا الله وتحتالوا عليه ، وهو العليم بما
تخفون وما تعلنون؟
(وَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ). تقدم مثله في الآية ٣ من هذه السورة ، والآية ١٥٤ من سورة
آل عمران ج ٢ ص ١٨٢. (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ). قال مشركو قريش للذين استجابوا لدعوة رسول الله (ص) : كيف
تتبعون محمدا وتتحملون الكثير من أجله؟ دعوه وعودوا إلى ديننا ، وإذا كنتم تخافون
عذاب الله بعد الموت كما خوّفكم محمد فنحن نتحمله عنكم .. قالوا هذا ، وهم يريدون
به ان البعث حديث خرافة (وَما هُمْ
بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لأن كل انسان مجزي بأعماله ، لا يحمل وزر غيره ، أو يسأل
عنه : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ـ ٢٥ سبأ.
(وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ). كل من أضل غيره يحمل وزر نفسه ، ووزر من غرر به ، حيث
تسبب في وجود الضلال وانتشاره ، أما من يتبع المضل فإنه يحمل وزر نفسه كاملا ، ولا
ينقص منه شيء لأنه استجاب الى دعوة الضلال بسوء اختياره ، وبكلمة للمضل عقوبتان :
إحداهما على ضلاله ، والثانية على إضلاله ، وللتابع عقوبة واحدة على عمله بالضلال
مختارا (وَلَيُسْئَلُنَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) بادعائهم الشريك لله ، وقولهم عن الرسول الأعظم (ص) : انه
ساحر وقولهم للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ، وغير ذلك.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ
وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ). يدل ظاهر الآية بوضوح ان نوحا عاش ٩٥٠ عاما ، والعقل لا
يأبى ذلك ، فوجب التصديق أما التعليل بأن عدد البشرية كان قليلا يومذاك ، والنسل
كان محددا ، وانه كلما قل العدد والنسل طالت الأعمار ، كما قال بعض المفسرين الجدد
، أما هذا التعليل ونحوه فلا يصح الركون اليه في تفسير الوحي أو توجيهه .. وفي
قاموس الكتاب
المقدس ان نوحا
اسم ساميّ ، ومعناه «راحة» وأبوه هو الذي سماه بذلك.
ويلاحظ ان السامية
هي نسبة إلى سام بن نوح فكيف نسب الوالد الى الولد؟ وفي ص ٤٤٨ من هذا القاموس ان
ساما ولد لنوح وعمره ٥٠٠ سنة. ولم يشر القاموس المذكور الى تاريخ العهد الذي كان
فيه نوح ، وربما لعدم المصادر. وتقدم الكلام عن نوح في العديد من الآيات ، منها
سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٤ وما بعدها ، ومنها في سورة هود ج ٤ ص ٢٢٢ وما بعدها.
ابراهم الآة ١٦
ـ ١٨ :
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما
عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))
المعنى :
ان دعوة ابراهيم (ع)
هي دعوة كل نبي : الإخلاص لله في كل شيء ، ونبذ الشرك بشتى صوره وأشكاله ،
والايمان بأن الله هو المبدئ والمعيد ، بيده الضر والنفع ، ومن كذب وتولى عن هذه
الدعوة فقد ظلم نفسه.
وفي قاموس الكتاب
المقدس ان ابراهيم هو ابن تارح من نسل سام بن نوح ، وانه من بلاد ما بين النهرين
أي دجلة والفرات ، وأنه أقام فيها ٧٥ عاما ، ثم رحل مع زوجته ولوط الى أرض كنعان ،
وقال مؤلفو القاموس المذكور : «لا
يمكن أن نعيّن على
وجه التحديد التاريخ الذي عاش فيه ابراهيم ، ولكنه ولد وفقا للتاريخ الذي حدده «اشر»
حوالى سنة ١٩٩٦ ق. م.». وتقدم الكلام عن ابراهيم في سورة الأنعام الآية ٧٤ ـ ٨٤ ج
٣ ص ٢١١ ـ ٢١٩ وسورة مريم الآية ٤١ ـ ٥٠ ، وسورة الأنبياء الآية ٥٢ ـ ٧٢.
الله المبدئ
والمعيد الآة
١٩ ـ ٢٧ :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ
(١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ
يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ
وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ
فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا
فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))
اللغة :
الإنشاء الإيجاد.
وتقلبون ترجعون.
الإعراب :
بمعجزين الباء
زائدة ومعجزين خبر أنتم أي ما أنتم معجزين. ومن ولي (من) زائدة وولي مبتدأ ولكم
خبر. والمصدر من ان قالوا خبر كان. وأوثانا مفعول أول لاتخذتم والمفعول الثاني
محذوف أي اتخذتم من دون الله أوثانا آلهة. ومودة مفعول من أجله لاتخذتم.
المعنى :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أو لم يروا أو لم يعلموا ، ويتلخص معنى الآية بقول الإمام
علي (ع) : «عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى». ووجه الملازمة
بين النشأتين اتحادهما في العلة ، وهي قدرة الموجد ، فإن من قدر على إيجاد الشيء
من لا شيء يقدر على جميع أجزائه بعد تفرقها ، بل الجمع أهون وأيسر من الإيجاد ..
نقول هذا مع العلم بأنه لا شيء على الله أهون من شيء ، وأنه يوجد الخطير والحقير
بكلمة «كن». وكررنا ذلك بتكرار الآيات. انظر ج ١ ص ٧٧ وج ٢ ص ٣٩٦ وج ٤ ص ٣٧٩.
القرآن والفكر :
(قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). نهى القرآن عن التقليد ، ونعى على المقلدين ، وأمر بالبحث
والنظر ، وأثنى على العلماء والمجتهدين في العديد من آياته .. ولا شك ان البحث
والنظر علامة من علامات الحياة ، وطريق الى نموها وتقدمها وحلّ
مشاكلها إذا كان
مع البحث والنظر صبر وتصميم على بلوغ الهدف مهما كانت العقبات .. فبالصبر والايمان
تقهر كل القوى ، فلقد صمم انسان هذا العصر أن يصل الى القمر ، فاجتهد وثابر حتى
وطئ أرضه بأقدامه ، وغدا أو بعد غد يطأ المريخ وغيره من الكواكب .. اذن ، فليس
هناك قوة لا يتغلب عليها الإنسان إلا قوة خالق الإنسان ، ومن هنا قيل : ما فوق
الإنسان غير خالقه ، ولو سألني سائل : ما هو حد الإنسان؟ لقلت له : حده ان لا حد
لطاقاته واستعداده ، والجهل والتقليد هو الذي يحول بين الإنسان وقابليته ، ويفصله
عن نفسه وواقعه ، ومن أجل هذا حرم القرآن التقليد ، وأمر بالنظر واتباع العقل في
جميع أحكامه ، وأطلق عليه كلمة النور والهدى والبرهان.
وتسأل : صحيح ان
القرآن نهى عن التقليد ، وأمر بالبحث والنظر ، وأثنى على العلماء ، ولكن السياق أو
السبب الموجب لنزول الآيات الواردة في هذا الباب يدل على ان العلماء الذين أثنى
عليهم هم أهل العلم بالله وحلاله وحرامه ، وانه أمر بالنظر والتفكر في خلق
الكائنات لينتهي الإنسان من ذلك الى الايمان بالله واليوم الآخر ، ويفوز بالجنة
ونعيمها ، وينجو من النار وجحيمها : وأوضح مثال على ذلك قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) ـ ٦٥ الواقعة أي
تعجبون. وأي عاقل يقول : ان هذه الآية تحث على علم الزراعة؟ ومثلها بقية الآيات
التي أمرت بالنظر والتفكر.
الجواب أولا : ان
هناك آيات باركت وأثنت على كل ما ينفع الناس كقوله تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً
وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ـ ١٧ الرعد. ولا
شيء ينفع الناس كالعلم ، بل لا حياة بدونه في هذا العصر ، هذا بالاضافة الى عشرات
الآيات التي حثت على الأعمال الصالحة ، واعتبرت أهلها خير البرية ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ـ ٧ البينة ،
والعلم في طليعة الأعمال الصالحة.
ثانيا : صحيح ان
السبب الموجب لنزول الآيات التي أمرت بالبحث والنظر أو أكثرها هو الرد على من كفر
بالله واليوم الآخر ، ولكن سبب النزول لا يخصص عموم اللفظ.
ثالثا : ان العلم
النافع حسن بذاته في نظر العقل ، وحكم العقل لا يقبل التخصص والاستثناء ، أجل
للعلم منازل ومراتب تقاس بما يترتب عليه من فوائد ومنافع ، والعلم بالله وشريعته
أنفع العلوم دنيا وآخرة ، أما دنيا فلأنه يتجه بكل شيء إلى خير الناس ومصالحهم ،
وأما في الآخرة فلأنه سبيل النجاة من غضب الله وعذابه ، ومن هنا أطلق المسلمون
كلمة عالم بلا قيد على رجل العلم بالدين ، ومع القيد على غيره من أهل العلوم
الدنيوية.
رابعا : اتفق
فقهاء المسلمين قولا واحدا على ان كل علم لا يستغنى عنه في الحياة فهو فرض كفاية ،
وفي الحديث : ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان
له به صدقة. وفيه أيضا : اطلبوا العلم من مظانه أي من مصادره الدينية والدنيوية ،
اطلبوا العلم ولو في الصين. وبداهة ان علم الدين يطلب من كتاب الله وسنة نبيه ،
وليس من الصين ، إلى غير ذلك من الأحاديث.
(يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) ممن يستحق العذاب (وَيَرْحَمُ مَنْ
يَشاءُ) ممن يستحق الرحمة ، لأن الله عادل وحكيم يجزي كل نفس بما
كسبت (وَإِلَيْهِ
تُقْلَبُونَ) ترجعون يوم القيامة للحساب والجزاء (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، أي ولا من في السماء بمعجزين ، وفي نهج البلاغة : لا
يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب (وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لا مرد لحكمه ، ولا ملجأ منه إلا اليه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ
وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). اليأس من رحمة الله نتيجة حتمية للكفر به وباليوم الآخر ،
وجزاء من يئس من رحمة الله وثوابه كفرا وجحودا هو أن يذوق عذاب الحريق.
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ
النَّارِ). عاد الحديث الى ابراهيم (ع) وسيرته مع قومه الذين حاولوا
التخلص منه ومن دعوته بالقتل أو الإحراق .. وهذا هو منطق الجبابرة الطغاة في كل
زمان ومكان .. تدمغهم الحجة الواضحة ، فترتعد منها فرائصهم ، ويخافون على مناصبهم
، ولا يملكون إلا الظلم والطغيان ، فيصدرون الأوامر : اسجنوا .. عذبوا .. صادروا
الأملاك .. اهدموا
البيوت .. اشنقوا .. احرقوا .. وهنا تتدخل العناية الإلهية ، إما بنجاة المظلوم من
أيدي الظالمين ، وإما بأخذهم أخذ عزيز مقتدر بيده أو بيد الأحرار من عبيده ، وتقدم
مثله في الآية ٦٨ من سورة الأنبياء (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ينتفعون بالنذر ، ويتعظون بالعبر ، ويبحثون عن الحق لوجه
الحق ليؤمنوا به ويعملوا مخلصين.
(وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا). قال ابراهيم لقومه : عبدتم هذه الأوثان ، وأنتم على يقين
بأنها لا تنفع ولا تضر ، ولكن عظمتموها تقليدا لمن تودونهم وتحبونهم في هذه الحياة
، وستنقلب هذه المودة الى عداوة وبغضاء (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). قال الإمام علي (ع) : يتبرأ التابع من المتبوع ، والقائد
من المقود ، فيتزايلون بالبغضاء ـ أي يتفارقون ـ ويتلاعنون عند اللقاء (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ). هذه نهاية من كفر بالحق تابعا كان أو متبوعا.
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ
وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). لوط هو ابن أخي ابراهيم ، وقال جماعة من المفسرين : لم
يهتد أحد من قوم ابراهيم ويؤمن إلا لوط ، وليس هذا ببعيد ، لأن هذه الآية تومئ إلى
ذلك بالإضافة الى ما جاء في كثير من الكتب ان ابراهيم هاجر هو وزوجته وابن أخيه
لوط فقط. وفي الاصحاح التاسع عشر ان ابنتي لوط سقتا أباهما خمرا ، فاضطجع معهما ،
وحملتا منه ، فولدت الكبرى ذكرا أسمته موآب ، وأيضا حملت الصغرى ذكرا أسمته بن
عمي.
(وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ
وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ). ضمير له يعود الى ابراهيم (ع) ، وفي هذه الآية دلالة
واضحة على ان الله سبحانه لم يبعث نبيا بعده إلا من صلبه ، وإذا عطفنا على هذه
الآية حديث «هذا الأمر في قريش .. الناس تبع لقريش .. الأئمة من قريش ..» إذا
فعلنا ذلك كانت النتيجة ان جميع الأنبياء والأئمة من سلالة ابراهيم (ع) لأن نسب
قريش ينتهي اليه. وتقدم مثله في الآية ٤٩ من سورة مريم و ٧٢ من سورة الأنبياء.
لوط الآة
٢٨ ـ ٣٥ :
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ
إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩)
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا
إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ
أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ
الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ
بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ
هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ
تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))
المعنى :
أرسل الله لوطا
الى مجتمع ما عرف التاريخ القديم له مثيلا في انحلاله وبشاعته .. يأتون الرجال
شهوة من دون النساء ، ويقطعون الطريق على المارة بالأذى ضربا وسلبا واغتصابا ، أما
أنديتهم ومجالسهم فلا تعرف إلا الفحش والمنكر والآثام .. فحذرهم لوط ، وأنذرهم
بعذاب الله .. وهذا كل ما يملكه ويقدر
عليه ، فسخروا منه
، وقالوا : أرنا هذا العذاب لنؤمن بك .. فالتجأ الى الله يستنصره على القوم
المفسدين.
فاستجاب سبحانه
الى تضرعه ، وأمده بملائكة غلاظ شداد ، مروا في طريقهم بإبراهيم ، وبشّروه بغلام
عليم من امرأته العجوز العقيم ، وأطلعوه على حكم الله في قوم لوط. قال : كيف وفيهم
العبد الصالح لوط؟ قالوا : هو ومن اتبعه في أمان إلا امرأته التي تظاهرت وتآمرت مع
القوم الكافرين.
ودخل الملائكة على
لوط بوجوه وضاءة ناضرة ، فأوجس في نفسه خيفة عليهم من قومه الأشرار ، فكشفوا له
عما قصدوا اليه .. وتمت كلمة العذاب على المفسدين ، وأصبحوا أثرا بعد عين ، وعبرة
لأولي الأبصار.
وبعد ألوف السنين
يعيد تاريخ اللواط والفساد نفسه في مجلس العموم البريطاني حيث أقرّ واستحلت هذه
الفاحشة التي تنفر منها طباع الوحوش والحشرات .. ونحن على يقين بأن نوعا من العذاب
سيحل على هذا المجتمع وأمثاله عاجلا أم آجلا تماما كما حل على الذين من قبلهم.
وفي قاموس الكتاب
المقدس : «ونعلم من الكشوف الجيولوجية ان المنطقة الواقعة جنوب البحر الميت قد
اكتست بالملح ، وربما كان سبب هذا انفجار تحت سطح الأرض حدث بفعل إلهي». وتقدمت
هذه الآيات في سورة الأعراف الآية ٨٠ ـ ٨٤ ج ٣ ص ٣٥٢ ، وفي سورة هود الآية ٧٧ ـ ٨٣
ج ٤ ص ٢٤٧ ـ ٢٥٦.
شعيب الآة
٣٦ ـ ٤٠ :
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً
وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ
وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا
مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى
بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩)
فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))
اللغة :
الرجفة الحركة
والاضطراب. والجثوم البروك على الركبة والمراد به هنا الهلاك. والحاصب من الرمي
بالحصباء أي الحجارة الصغيرة.
الإعراب :
أخاهم مفعول لفعل
محذوف أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم. وشعيبا بدل من أخاهم. وعادا وثمود مفعول لفعل
محذوف أي وأهلكنا. وفاعل تبين ضمير مستتر يعود الى هلاكهم المفهوم من سياق الكلام.
والمصدر من ليظلمهم متعلق بمحذوف خبرا لكان ، أي ما كان الله مريدا لظلمهم.
المعنى :
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ
الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). شعيب عربي كهود وصالح ، وأهل مدين عرب ، وهي من أطراف
الشام ، ولا وجود لهذا الاسم في قاموس التوراة والأناجيل الأربعة
والذي فيه ان
يثرون اسم مدياني ، وهو كاهن مديان حمو موسى أي أبو زوجته ويدعى أيضا رعوئيل.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأعراف الآية ٨٥ ج ٣ ص ٣٥٦.
(فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). تقدم في الآية ٧٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥١.
(وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي يملكون التبصر والعقل الذي يهتدون به الى سبيل الحق ،
ولكنهم اتبعوا الشيطان فكانوا من المهلكين ، وأنتم أيها المشركون عقلاء كعاد وثمود
، وقد رأيتم من الدلائل على هلاكهم ما فيه عظة وعبرة ، أفلا تتعظون وتنتهون عن
متابعة الشيطان في خطواته وهمزاته؟
(وَقارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ). أي ناجين من عذاب الله كما ينجو السابق ، وقارون هو الذي
كان له «من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة». وفرعون هو القائل :
أنا ربكم الأعلى ، وهامان وزيره .. هؤلاء جاءهم موسى بالدلائل والبصائر ، فأخذتهم
العزة بالإثم ، فأهلكهم من له العزة جميعا (فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) كقوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ
خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وهامان (وَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). ولما ذا يظلم الله الناس؟ ألأنه في حاجة الى الظلم وهو
غني عن العالمين؟ وكيف يظلم عباده وهو القائل : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ ٤٤ الأعراف.
ان أوهن البيوت العنكبوت الآة ٤١
ـ ٤٥ :
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)
خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ
الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))
الإعراب :
جواب لو محذوف أي
لو كانوا يعلمون ان هذا مثلهم. يعلم ما تدعون (ما) اسم موصول مفعولا ليعلم أي يعلم
الذين يدعون ، وقيل (ما) استفهام ومحلها النصب بيدعون ، ويعلم معلقة عن العمل.
المعنى :
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ). علينا أولا أن نحدد من هم الذين اتخذوا من دون الله
أولياء؟ هل هم عبدة الأحجار والأوثان فقط أو انهم أعم وأشمل؟ وقبل أن نجيب عن هذا السؤال
نذكر قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ـ ١٠ فاطر. وقوله
: (أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ـ ١٣٩ النساء.
ومعنى هذا انه لا عزة ولا قوة لمال أو علم أو سلطان أو لأي شيء إلا إذا قام على
أساس من تقوى الله ومرضاته ، وكان مظهرا لطاعته وارادته .. فالعلم قوة وخير وايمان
بالله والانسانية إذا كان دعامة للحق والعدل ، ووسيلة لنمو الحياة وازدهارها ،
والعلم ضعف وشر وكفر بالله وبالانسانية إذا كان وسيلة للبغي والعدوان ، وللخراب
والدمار ، وكذا المال والسلطان وغيرهما.
إذا تمهد هذا
عرفنا ان الذين اتخذوا من دون الله أولياءهم عبدة الأوثان ، ومن أعرض عن الله
مغترا بمال أو علم وفهم أو سلطان ، ومن بغى وسعى في الأرض فسادا .. وقد شبه سبحانه
قوة هؤلاء ببيت العنكبوت الذي يبقى إذا سكنت الرياح ، ولم يعترضه أي عارض ، وإذا
هبت الريح أو اعترضه أدنى شيء يصبح هباء لا عين له ولا أثر .. وبكلام آخر ان كل من
أعرض عن الله سبحانه معتمدا على وثن أو علم أو مال أو سلطان فهو من الذين اتخذوا
من دون الله أولياء ، ومن يتخذ من دون الله وليا فهو من الخاسرين.
وفي كتاب الحيوان
للجاحظ «ان ولد العنكبوت يقوم على النسج ساعة يولد ، ومادة نسيجه من الخارج لا من
جسده ، وانه لما عرف عجزه عما يقوى عليه الليث احتال بخيوطة على صيد الذباب من أجل
قوته». وعلى كل عاقل أن يسأل نفسه وعقله : من الذي ألهم العنكبوت فن النسج ودله
ساعة يولد على المادة التي تصلح لنسجه؟ وأي مهندس وضع له تصميم هذا البيت على شكل
مصيدة للذباب؟ وهل جاء هذا بالصدفة؟ وإذا تكررت الصدفة مرتين أو ثلاثا فهل تتكرر
في كل عنكبوت ولد ويولد إلى ما لا يبلغه عد ، ولا حصر؟ تعالى الله عما يقول
المفترون .. كلا ، انه خلق فسوّى ، وقدّر فهدى.
(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من الأوثان وغيرها مما يعتمدون عليه من دون الله كالمال
والسلطان ، والمعنى انه تعالى يعلم حقيقة هذه الأشياء التي يعتزون بها وانها لا
تغني عن الله شيئا (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ). عزيز بقدرته ، حكيم بتدبيره.
(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). تلك إشارة الى مثل العنكبوت ونظائره ، وأنه تعالى ينبه
الناس بها الى وحدانيته وعظمته ، ولكن لا يفهم هذه الأمثال وغيرها من آيات الله
إلا أهل العقول والبصائر.
(خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي على وجه الحكمة والمصلحة ، ولم يخلقها عبثا ولهوا ،
والحكمة من خلقها أن تسكنها الخلائق ، وينتفعوا بها ، ويستدلوا بصنعها وعجائبها
على وحدانية الله وعظمته (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ).
ذلك إشارة الى
الإتقان والنظام في خلق السموات والأرض .. وهذا الإتقان دليل قاطع على وحدانية
الله وعظمته عند المنصفين الذين يبتغون الحق ، ويؤمنون به لوجه الحق.
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر :
(اتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ). اقرأ يا محمد هذه الأمثال التي ضربناها للناس في القرآن
لعلهم يفقهون ويتقون (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). وتسأل : ظاهر الآية يدل على ان المصلين ينتهون عن الفحشاء
والمنكر ، ولا يفعلون منهما شيئا مع ان أكثرهم فاسقون ، بل ان البعض منهم أسوأ
سيرة من بعض الملحدين والمشركين؟
الجواب : كلا ، ان
ظاهر الآية يدل بوضوح على ان الصلاة تنهى المصلي عن الفحشاء والمنكر ، تنهاه
بالقول والإرشاد ، ولا دلالة فيها على ان المصلي ينتهي بسببها عن الفحشاء والمنكر
، والفرق بين النهي والانتهاء كبير وواضح .. وليس من شك ان كل كلمة من كلمات
الصلاة وحركة من حركاتها تنهى عن معصية الله ، وتأمر بطاعته ، وبكلمة ان الصلاة
كالقرآن تأمر وتنهى تشريعا لا تكوينا. انظر ج ١ ص ٧٢ فقرة : «التشريع والتكوين».
ولابن عربي في
الفتوحات المكية كلمة غامضة ومعقدة حول هذه الآية ، ولكنها دقيقة المعنى ،
وتوضيحها ان المصلي يحرم عليه حين الصلاة أن يتفوه بكلمة أو يتحرك بحركة تناقض
طبيعة الصلاة وتبطلها ، ولا يحرم عليه ان يقول ويفعل شيئا يتلاءم مع الصلاة وصحتها
، كما لو زاد في التسبيح والتحميد حين الركوع والسجود ، أو تصدق لوجه الله في
أثناء الصلاة دون أن يخل بشيء منها ، كما فعل علي أمير المؤمنين (ع) حين تصدق
بخامته ، وهو راكع. وعلى هذا يكون المراد بالفحشاء والمنكر كل قول أو فعل يبطل
الصلاة ، أن اي الصلاة تقول للمصلي : حافظ عليّ ولا تأت بشيء يبطلني ويخرجني عن
هويتي وحقيقتي.
(وَلَذِكْرُ اللهِ
أَكْبَرُ). ليس المراد ان ذكر الله أكبر من الصلاة ، لأن الصلاة ذكر
الله ، والشيء لا يكون أكبر من نفسه ، وانما المراد ان الله أكبر ذاكر لعباده
باللطف والرحمة ، وبكلام أوضح ان الله ذاكر ومذكور ، هو ذاكر لأنه يذكر عباده
بلطفه ورحمته ، وهو مذكور لأن عباده يذكرونه بقلوبهم ايمانا وإخلاصا وبألسنتهم
تهليلا وتسبيحا ، وبأفعالهم ركوعا وسجودا ، وهو أكبر الذاكرين والمذكورين لأنه رب
العالمين (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تَصْنَعُونَ) من خير وشر ، ويجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.
الجزء الحادي والعشرون
الجدال بالتي هي أحسن الآة ٤٦
ـ ٤٩ :
(وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ
الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي
صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ
الظَّالِمُونَ (٤٩))
اللغة :
الجدل الحجاج
والمناظرة مأخوذ من جدل الحبل أي فتله ، والمناظر يفتل خصمه عن رأيه ، ومسلمون
مستسلمون ومطيعون. والارتياب الشك.
الإعراب :
الذين ظلموا في
محل نصب على الاستثناء المتصل ، إذا حرف جواب لكلام محذوف أي لو خططته بيمينك إذا
لارتاب المبطلون ، واللام في ارتاب لام القسم.
المنهج الجدلي في القرآن :
(وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). المراد بأهل الكتاب اليهود
والنصارى. والجدال
بالحسنى أن يكون بالحجة والدليل في أسلوب مبشّر غير منفر ، وواضح لا تعقيد فيه ولا
تكلف مع إنصاف المناظر في الاستماع الى ما يريد ، والاعتراف له بما هو محق فيه ،
سواء أكان من أهل الكتاب ، أم من غيرهم ، وأوضح مثال على ذلك قوله تعالى للمشركين
الذين قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) ـ ٢٤ الزخرف. فهذا
الرفق والتلطف في قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدى) يدعم الحجة ويشفع لها عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو
شهيد .. وانما خص سبحانه أهل الكتاب بالذكر لأن المفروض فيهم أن يتقبلوا الحق أكثر
من المشركين لايمانهم بالله وملائكته ، وكتبه وأنبيائه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين عاندوا
الحق ، وأصروا على الضلال لا يرتدعون بحال ، فعليكم أن تدعوا هذا النوع من أهل
الكتاب ، ولا تجادلوهم في الدين على الإطلاق.
ومن تتبع آي الذكر
الحكيم التي جادلت المنكرين والمبطلين يرى ان المنهج الجدلي في القرآن يقوم على
حرية العقل وإطلاقه في جميع الآفاق والميادين .. وتتجلى هذه الحرية حين يقدم
القرآن الدليل القاطع على صحة دعوته ووجوب الايمان بها : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ ٥٣ فصلت. وأيضا
تظهر هذه الحرية حين يطالب القرآن المنكرين ان يبرروا موقفهم بالدليل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) ـ ١١١ البقرة. (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا
أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ٤ الأحقاف. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا
جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ـ ٣٣ الفرقان.
هذا هو الجدل
القرآني في حقيقته وواقعه : اقامة الحجة على الدعوى بما تستدعيه طبيعتها في نظر
العقل ، وطلب الحجة ممن جحد وعاند ، ورده بحجة أبلغ وأقوى ان كان لديه اثارة من
شبهه أو دليل ، وقد ظهر هذا المنهج القرآني في أساليب شتى :
«منها» : الاكتفاء
ببيان حقيقة الشيء وتحليل معناه ، وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب للرد على عبدة
الأصنام ونفي الربوبية عنها ، حيث أوضح انها عاجزة عن أتفه الأشياء : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ـ ٧٣ الحج». كيف
يعبد الإنسان من قعد به الضعف والعجز حتى عن الذباب! وأيضا استعمل القرآن هذا
الأسلوب في الرد على من ألّه السيد المسيح (ع) : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ـ ٧٥ المائدة. ومن
يأكل الطعام فهو مفتقر اليه ، والإله يفتقر اليه كل شيء ، ولا يفتقر هو إلى شيء.
انظر ج ٣ ص ١٠٥.
و «منها» :
الاستدلال بوجود حادث على وجود علته بحيث يستلزم العلم بوجوده العلم بوجودها ، وقد
استعمل القرآن هذا الأسلوب للدلالة على وجود الله في العديد من الآيات ، منها ـ على
سبيل المثال ـ (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) ـ ٥ ق». ومحال أن
يكون هذا البناء المحكم وتزيينه بالكواكب من باب الصدفة ، فتعين وجود القدير
الحكيم. وأيضا استعمل القرآن هذا الأسلوب للدلالة على الوحدانية : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) ـ ٢٢ الأنبياء لأن
تعدد الآلهة يستدعي فساد الكون ، وحيث لا فساد فلا تعدد. وبتعبير أهل المنطق أن
نفي اللازم وهو فساد الكون يدل على نفي الملزوم وهو تعدد الآلهة.
و «منها»
الاستدلال بالأولية ، وقد استعمل سبحانه هذا الأسلوب للدلالة على إمكان المعاد لأن
العلم بوقوعه تابع للعلم بامكانه : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ـ ٢٧ الروم أي ان
من قدر على إيجاد الشيء من لا شيء فبالأولى أن يقدر على جمع أجزائه بعد تفرقها.
وهذه الأمثلة
برهان قاطع على ان الجدل القرآني يقوم على أساس العقل وحريته ، وان الهدف منه
اظهار الحق للايمان والعمل به ، أو لإفحام من جحد وعاند بأسلوب يقنع من طلب الحق
لوجه الحق.
(وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). الخطاب للمسلمين ، والمعنى : كما يجب عليكم أيها المسلمون
ان تجادلوا من ترجون هدايته من أهل الكتاب فعليكم أن تدعوا جدال المعاندين منهم
بالحسنى أيضا أي لا تظهروا لهم العداء ، بل خالطوهم وقولوا لهم : ان معبودنا
ومعبودكم
واحد ، ونحن مؤمنون
به ، وبالتوراة التي أنزلت على موسى ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى ، تماما كما
نؤمن بالقرآن الذي نزل على محمد. وبكلمة ، كونوا للإسلام زينا ، ولا تكونوا عليه
شينا.
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ). الخطاب لرسول الله (ص) ، والمراد بالكتاب القرآن ،
والمعنى كما أنزلنا التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى من قبلك أنزلنا عليك
القرآن (فَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هذا إشارة الى الذين أسلموا من اليهود والنصارى (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) إشارة الى الذين أسلموا من مشركي العرب آنذاك.
(وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ). وتسأل : الجحود هو الكفر ، وعليه يكون المعنى لا يكفر إلا
الكافرون ، تماما مثل لا يقعد إلا القاعدون ، والقرآن منزه عن هذا؟
الجواب : المراد
ان دلائل الصدق على القرآن قد بلغت من الوضوح مبلغا لا ينكره إلا من اتخذ الباطل
دينا ، والكفر عقيدة لا يحيد عنها حتى ولو ظهر بطلانها ظهور الشمس في رائعة النهار
، كما هو شأن اليهود الذين قال بعضهم لبعض : (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ـ ٧٣ آل عمران.
(وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ). اتفق المؤرخون على أن محمدا (ص) لم يختلف إلى معلم صغيرا
ولا كبيرا ، ومع هذا جاء بالقرآن معجزة المعجزات في عقيدته وشريعته وجميع مبادئه
وتعاليمه وفي إخباره عن الأنبياء السابقين وغير ذلك ، وهذا دليل كاف واف على أنه
وحي من الله ، لا من صنع البشر ، ولو كان النبي (ص) يحسن القراءة والكتابة ، أو
اختلف إلى معلم لقال المفترون : القرآن من صنع محمد ، لا من وحي الله .. وقال من
قال : أخذ محمد القرآن من راهب نصراني بالشام ، ولا نعرف مصدرا لهذا الزعم ..
اللهم إلا قول القرآن : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ـ ٧٣ المائدة
وقوله : (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ـ ٣١ التوبة. انظر
ج ٢ ص ٥٠٠ فقرة : القرآن والمبشرون بالتثليث.
(بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا
إِلَّا الظَّالِمُونَ). كلا ، ليس القرآن من صنع محمد (ص) بل هو وحي من الله يؤمن
به ويركن اليه الذين يطلبون العلم للإيمان بالحق وبه يعملون ، أما الذين يتخذون
العلم متجرا وحانوتا فيكفرون به ، لأنه حرب على النفاق والاستغلال.
انما الأات عندالله
الآة
٥٠ ـ ٥٥ :
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ
وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(٥٥))
الإعراب :
لولا أنزل هلا
انزل. والمصدر من أنا أنزلنا فاعل يكفهم. وجملة يتلى حال من الكتاب أي متلوا
عليهم. وبالله الباء زائدة والله فاعل كفى. وشهيدا تمييز. وليأتينهم اللام جواب
قسم محذوف أي والله ليأتينهم. وبغتة مصدر في موضع الحال من العذاب. ويوم متعلق
بمحيطة.
المعنى :
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ). تقدم مثله في الآية ١١٩ من سورة البقرة ج ١ ص ١٨٩ والآية
٣٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٨٤ والآية ٢٠ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٢ وغيرها.
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) وكل ما فيه يشهد بأنه من عند الله ، وقد تحداهم أن يأتوا
بسورة من مثله فعجزوا ، وكشف لهم عن الكثير مما أضمروا وخبأوا ، وقص عليهم قصص
الماضين ، وشهد بصدقه المنصفون من أهل الكتاب ، وفي ذلك حجة كافية شافية لمن يطلب
الحق من معدنه ، والمشركون الذين كابروا وعاندوا رسالة محمد (ص) على يقين من ذلك ،
وما منعهم من اتباع الحق إلا المطامع والمنافع (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). ذلك اشارة الى القرآن ، وهو رحمة ونعمة لمن يعمل به ،
وتذكير وموعظة لمن يصدقه ويؤمن بشريعته وآياته.
(قُلْ كَفى بِاللهِ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) يشهد ويعلم اني قد بلّغت رسالته ، وانكم كذبتم وأعرضتم ،
وأيضا (يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا تخفى عليه خافية ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) كل ما نهى الله عنه فهو باطل ، وكل من عصى الله فهو كافر
أو فاسق ، وكل منهما باء بغضب الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ). دعا رسول الله (ص) قريشا إلى التوحيد والعدل ، وحذرهم
عاقبة الشرك والظلم ، فقالوا تعصبا لباطلهم : ائتنا بعذاب أليم .. وكان في قريش من
يفضل الهلاك على الخضوع لمحمد (ص) كرها له وحقدا عليه ، وقد شاهدنا كثيرا من الناس
ينكصون عن دعوة الحق كرها بالداعي لا بالحق .. فأجاب سبحانه المستعجلين بأن الله
قضى وقدر أمدا معينا لعذابهم ، ولولاه لأتاهم العذاب في الحال (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ). العذاب يأتيهم لا محالة ، ولكن فجأة ومن غير إشعار
ليزدادوا ألما على ألم ، ألم الدهشة ، وألم الحريق.
(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ). يتعجلون عذاب الدنيا ، وما دروا أنهم في حصار من عذاب أشد
وأعظم ، وانه سيطبق عليهم ، وهم في غفلة معرضون (يَوْمَ يَغْشاهُمُ
الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). هذا اليوم حق لا ريب ، والحق كائن ومتحقق بالفعل ، أو
يكون ويتحقق في العاجل أو الآجل والا لم يكن حقا ، أما نيران هذا اليوم فنعوذ
بالله من لجبها وكلبها .. تحيط بالمغضوب عليه من جميع جهاته ، وتلتحم بلحمه وعظمه
حتى إذا صار هباء عادت اليه الحياة من جديد ، وعادت النيران الى سيرتها الأولى ..
وهكذا الى ما شاء الله .. اللهم اني أعوذ برحمتك من غضبك وأستشفع اليك بما انطوى
عليه قلبي من النصح وحب الخير لجميع عبادك ، وأنت أعلم بالسرائر.
وكأين من دابة لا تحمل رزقها الآة ٥٦
ـ ٦٣ :
(يا عِبادِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا
تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣))
اللغة :
يؤفكون يصرفون عن
الحق. ويقدر يضيق.
الإعراب :
فإياي فاعبدون (اياي)
مفعول لفعل محذوف يفسره الفعل الموجود ، وفاعبدون الأصل فاعبدوني. غرفا مفعول ثان
لنبوئنهم ، وخالدين حال من المفعول الأول. ونعم أجر العاملين فعل وفاعل ، والمخصوص
بالمدح محذوف أي أجرهم ، وهو مبتدأ وخبره جملة نعم أجر العاملين أو أجرهم خبر
لمبتدأ محذوف أي هو أجرهم. الذين صبروا صفة للعاملين. وكأين بمعنى كم ومحلها الرفع
بالابتداء. وجملة لا تحمل رزقها صفة للدابة ، وجملة الله يرزقها خبر كأين. وأنّى
مفعول مطلق أي أيّ إفك يؤفكون.
المعنى :
(يا عِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ). اتفق الفقهاء على ان المسلم لا يجوز له أن يقيم في بلد
إذا تعذر عليه أن يقيم فيه الواجبات الدينية كالصلاة ونحوها حتى ولو كان هذا البلد
وطنه ، وان عليه ان يهاجر منه الى غيره حيث يستطيع ذلك. وتكلمنا عن هذا الموضوع
مفصلا عند تفسير الآية ٩٧ من سورة النساء ج ٢ ص ٤١٩ فقرة «الفقهاء ووجوب الهجرة».
(كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ). بعد ان أوجب سبحانه الهجرة من البلد المذكور قال : ومن
خاف أن يموت في هجرته فان الموت لا ينجو منه
مقيم ولا ظاعن ،
وبعد الموت يبعث ويسأل عما ترك من الواجبات ، وفعل من المحرمات ، ومنها الاقامة في
بلد يضطر فيه الى ترك العبادات وشرب المسكرات.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها). من يخرج من بيته مهاجرا الى الله عوّضه تعالى خيرا منه
غرفا وأشجارا وأنهارا في دار السلام والمقام (نِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، وأي أجر أعظم من الجنة؟ ولأنها عظيمة كان ثمنها غاليا
وعظيما ، وهو ان يرفض مبتغيها الاستسلام لأعداء الله ، والخوف إلا من الله ، وان
يخلص لله وحده ، ويصبر من أجل ذلك على الخطوب والأحداث أيا كان نوعها.
الرزق والثقة بالمخلوق دون الخالق :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ). ان كثيرا من الناس يؤمنون ـ نظريا ـ بالله ، وان أرزاق
الخلائق بيده وحده ، وان خزائنه لا نفاد لها ولا نهاية ، وانه كريم لا يخيب من
توكل عليه ، ووثق به ، يؤمن بهذا نظريا ، ولكنه يكفر بالله ـ عمليا ـ ويثق
بالمخلوق دون الخالق ، ويتقرب اليه بما فيه ذهاب دينه وضميره طامعا بما في يده من
جاه ومال ، ويبتعد عن الله يائسا منه ومن جوده وخزائنه .. وهذه الآية تقريع وتهديد
لهذا المؤمن الكافر.
ان الله سبحانه هو
خالق الكون بما فيه ، وأسباب الرزق بشتى أنواعها تنتهي اليه ، وهي مهيأة لكل طالب
وراغب إذا سعى لها سعيها ، وان تعذر منها سبب تهيأ للراغب ما هو خير وأجدى من حيث
لا يحتسب بشهادة الحس والعيان ، بل ان كثيرا من الكائنات الحية لا تعمل للرزق ولا
تحمله ، ومع هذا يأتيها رغدا عند حاجتها اليه .. وفي هذا عظة للخائنين العملاء ،
ولكل من باع دينه للشيطان ، واتخذ من معصية الله ذريعة للرزق ولقمة العيش ، وحاشا
لله أن ينهى عن شيء ويحصر سبب الرزق فيه ، كيف ودينه دين الحياة! قال الإمام علي (ع)
:
«ان الذي أمرتم به
أوسع من الذي نهيتم عنه ، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم ، فذروا ما قلّ لما كثر
، وما ضاق لما اتسع ـ وقال ـ ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق
الله ، وانهما لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق».
وأوضحنا فيما تقدم
الفرق بين الايمان الحق والايمان الموهوم ، وان الايمان الصادق هو الذي يثبت في
القلب ، ويتمثل في الخوف من الله والاهتمام بطاعته ومرضاته قولا وعملا ، أما
الايمان الموهوم فلا قرار له في القلب ، وانما هو لعق على اللسان ، ويعرض على
الوهم والخيال تماما كما تعرض الأطياف والأحلام ، وأصدق شاهد على هذا الايمان
المزيف ان يؤمن صاحبه بالله ـ قولا ـ وهو يرجو المخلوق ويخافه ـ عملا ـ من دون
الخالق.
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
لَيَقُولُنَّ اللهُ). ضمير سألتهم يعود إلى المترفين العتاة الذين عاندوا رسالة
محمد (ص). وتسأل : إذا اعترفوا صراحة بأن الله هو خالق الكون فأين سبب الخلاف
والتضاد بينهم وبين الأنبياء؟
الجواب : انهم
يعترفون بالله على أساس انه تعالى قد خصهم بالمال والسلطان ، وانه اختار لغيرهم
الفقر والعبودية ، وان من أنكر هذا فهو في ضلال مبين ، هذا هو اعترافهم بالله ،
وليس من شك ان من كفر بالله وآمن بأن له ما للناس ، وعليه ما عليهم أفضل عند الله
من هذا الظالم الآثم ، أما الدليل على انهم يعترفون بالله على هذا الأساس فقوله
تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ
مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ـ ٤٧ يس. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) تصرفون عن الحق بافترائكم ان الله خصكم بالمال والسلطان
دون الناس أجمعين.
(اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ). تقدم مثله في الآية ٢٦ من سورة الرعد ج ٤ ص ٤٠١ فقرة «الإنسان
والرزق» (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ). إن سئلوا عن خالق الكون أجابوا معترفين بالله ، على شرطهم
، وإن سئلوا عن الذي نزل الماء وأحيا به الأرض ، وهو السبب المباشر لما في أيديهم
من
رزق وثراء ،
أجابوا أيضا معترفين بأنه الله وحده .. وقد ناقضوا بهذا الاعتراف أنفسهم بأنفسهم ،
لأن أسباب الرزق إذا كانت من صنع الله لا من صنعهم فكيف تكون لهم وحدهم من دون
الناس أجمعين؟ ان الله للجميع ، فكذلك خيراته وبركاته (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي أظهر الحق حتى على ألسنة أعدائه المفترين (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) انهم كاذبون مفترون يناقضون أنفسهم بأنفسهم.
الدنيا لهو ولعب الآة ٦٤
ـ ٦٩ :
(وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ
يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ
يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ
كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ
(٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ (٦٩))
اللغة :
الحيوان بفتح
الياء مصدر كالحياة ، وقيل : الحياة التي لا موت فيها. والمثوى المكان والمقر.
الإعراب :
مخلصين حال من
فاعل دعوا. ليكفروا وليتمتعوا : اللام للأمر
ويجوز أن تكون
للعاقبة ، مثل لدوا للموت ... وكذبا مفعول مطلق لا فترى.
المعنى :
(وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ). المراد بالدنيا هنا دنيا القصور والفجور والليالي الحمراء
، والبذخ والإسراف على حساب الضعفاء ، ودنيا المستعمرين والصهاينة صانعي الموت
والمؤامرات العدوانية والانقلابات الرجعية ، ودنيا شركات الاحتكار والاستغلال
والخيانة والعمالة والاتجار بالدين والوطنية ، ودنيا الصحافة المأجورة لتسميم
الأفكار وتشويه الحقائق والاشاعات الكاذبة .. هذه هي دنيا العبث والفساد والشر
والضلال التي يمقتها الله وأعد لأهلها عذاب الحريق ، أما دنيا الطيبين والأحرار
المناضلين والشرفاء الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون فهي دنيا الحق والخير والهدى
والفلاح التي يحرز بها رضا الله والفوز بنعيمه وجناته (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ونفسره بقول الإمام علي (ع) : كل نعيم دون الجنة محقور ،
وكل بلاء دون النار عافية ، وقوله في وصف الجنة : لا ينقطع نعيمها ، ولا يظعن
مقيمها ، ولا يهرم خالدها ، ولا يبأس ساكنها.
(فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ). قيل : ان أهل الجاهلية كانوا إذا ركبوا البحر حملوا معهم
الأصنام ، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها فيه ، وقالوا : يا رب يا رب. وليس هذا
ببعيد فقد كان بعضهم يصنع صنما من التمر ، فإذا جاع أكله. وتقدم مثله مع التفسير
في الآية ٢٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٧. ومن المفيد هنا الرجوع الى ما كتبناه في ج ٣
ص ١٨٨ فقرة : «الله والفطرة».
(لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي ليفكروا بما أنعم الله عليهم من النجاة وغيره وليتمتعوا
الآن بكرمه وحلمه ، فسيرون ما يحل بهم غدا من الخزي والعذاب (أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا
حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). ضمير
يروا يعود الى
مشركي مكة المكرمة الذين حاربوا رسول الله (ص) بقرينة قوله تعالى : «حرما آمنا».
وقد ذكرهم سبحانه بما خصهم به دون الناس من الإقامة في بلد الأمن والأمان على
الأنفس والأموال ، والناس من حولهم في قلق وخوف على حياتهم وأشيائهم. وتقدم مثله
في الآية ١٢٥ من سورة البقرة والآية ٩٧ من سورة آل عمران ، والآية ٥٧ من سورة
القصص (أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ). كل من خضع للباطل ، ورضي بغير الحق طمعا في الدنيا
وحطامها فهو من الذين آمنوا بالباطل وكفروا بفضل الله وإحسانه.
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). للجهاد في الله مظاهر ، منها طلب العلم لله ، وطلب العيش
بكد اليمين ، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأفضلها جميعا الجهاد
لتطهير الأرض من الظالمين والمفسدين .. والله سبحانه يهدي الى الحق والرشد كل من
أخلص في نيته ، وأحسن في عمله ، ولا يهدي من هو مسرف كذاب.
سورة الرّوم
مكيّة وآياتها ٦٠
ما عدا ١٧ آية فإنها مدنية كما قيل.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
غلبت الروم الآة ١ ـ
٧ :
(الم (١) غُلِبَتِ
الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
(٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ
الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))
اللغة :
المراد بأدنى
الأرض هنا أقربها الى العرب. والبضع العدد ما بين الثلاثة والعشرة. وظاهر الحياة
الدنيا ما يدرك منها بالحواس كالغنى والفقر وما اليهما.
الإعراب :
من قبل ومن بعد
مبنيان على الضم. ويومئذ منصوب بيفرح. وعد الله منصوب على المصدرية أي وعد الله
وعدا. وهم الثانية تأكيد للأولى.
المعنى :
(الم) تقدم الكلام
عنه في أول سورة البقرة (غُلِبَتِ الرُّومُ
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ
سِنِينَ). فيما تقدم ذكرنا وجوها لاعجاز القرآن الكريم ، منها تحدي
المنكرين بأن يأتوا بسورة من مثله ، ومنها عقيدته الإلهية ، وهدايته الى بواعث
التقدم وأسبابه ، وشريعته الانسانية التي تفي بحاجات الناس في كل زمان ومكان ،
وتقر من الشرائع الوضعية كل ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات ، مع العلم بأن الذي
بلّغ القرآن لم يختلف الى معلم ، ومنها ان كلام القرآن يحمل وجوها كثيرة دون كلام
الناس ، وقد اهتدينا ، ونحن نفسر آياته ، الى ان السر في ذلك يكمن في عظمة المتكلم
وعلمه الذي لا يحد بشيء.
انظر ما قلناه عند
تفسير الآية ٥٥ من سورة النور ، فقرة : وجه آخر لاعجاز القرآن.
ومن مظاهر إعجاز
القرآن إخباره عما لا يطلع عليه إلا علّام الغيوب ، كالإخبار عما كان يضمره
المنافقون في قلوبهم ، وعن انتصار النبي على أعدائه ، وظهور الإسلام على الدين كله
، وعن رجوع النبي إلى مكة منتصرا بعد إخراجه منها ، وعما يحدثه أصحابه من بعده ،
وعن اليهود وطبيعتهم ، وعن انتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين من انتصار الفرس
على الروم ، والآيات التي نحن بصددها تشير إلى هذه الحادثة التي أجمع عليها الرواة
والمفسرون.
وملخصها ان فارس
كانت على دين المجوسية ، لا كتاب لها كالمشركين ، وكانت الروم على دين النصارى ،
والنصارى أهل كتاب كالمسلمين ، وفي عهد رسول الله (ص) وقعت الحرب بين فارس والروم
بأذرعات وبصرى من أرض الشام ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم
في الشرك سواء ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأن الطائفتين من أهل
الكتاب ، وجاءت الأخبار بانتصار الفرس على الروم ، فشق ذلك على المسلمين ، وفرح
المشركون ، وقالوا للمسلمين : ان الفرس الذين لا كتاب لهم غلبوا الروم أصحاب
الكتاب ، وأنتم تزعمون انكم ستغلبون بالكتاب الذي انزل على نبيكم ، فنحن لا كتاب
لنا ، وسنغلبكم كما غلب الفرس الروم ، فنزلت هذه الآيات ، وما
مضت تسع سنين حتى
أظهر الله الروم على الفرس ، ففرح المسلمون ، وحزن المشركون.
وهنا يكمن سر
الاعجاز حيث أخبر القرآن الكريم بشكل قاطع جازم عن استئناف الحرب بين الروم وفارس
، وحدد وقتها في بضع سنين ، وانها تنتهي بانتصار الروم على فارس ، فكان كما قال.
وهذا الغيب المحجوب لا يعلمه إلا الله وحده.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) قبل النصر وبعده ، واليه وحده ترجع الأمور (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ اللهِ). يفرح المسلمون يوم تظهر الروم على فارس (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ). إذا تقاتل اثنان ينتصر من يملك أسباب النصر على الذي لا
يملكها محقا كان أو مبطلا ، وأسند سبحانه النصر اليه لأن جميع الأسباب الكونية
تنتهي اليه تعالى بالنظر إلى انه خالق الكون وما فيه (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) ينتقم من الظالم ، ويرحم المظلوم.
(وَعْدَ اللهِ لا
يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بعد أن أخبر سبحانه عن الغيب المحجوب ، وهو انتصار الروم
على فارس أكد بأن ذلك واقع لا محالة ، ولكن من لا يؤمن بالله كيف يؤمن بوعده؟ وهذا
التأكيد القاطع أصدق شاهد على ان القرآن وحي من الذي يتساوى لديه عالم الغيب
والشهادة ، ولو حصل الخلف بالوعد لاتخذ منه أعداء الرسول الأعظم (ص) ذريعة للطعن
بصدقه ورسالته (يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ). الدنيا وأحوالها من عالم الشهادة ، والآخرة وأهوالها من
عالم الغيب ، وبداهة ان عالم الشهادة يدرك بالحواس ، أما عالم الغيب فلا يدرك إلا
بطريق الوحي ، وهم لا يؤمنون به ، فمن أين يأتيهم العلم بالآخرة؟
أو لم يتفكروا في أنفسهم الآة ٨ ـ
١٦ :
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ
بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ
لَكافِرُونَ (٨)
أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها
أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ
اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ
عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها
يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي
الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))
اللغة :
أثاروا الأرض
حرثوها وأصلحوها للزراعة. وعمروها من العمران. والسوأى الحالة السيئة وهي تأنيث
الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن. والإبلاس اليأس من الخير. والروضة الأرض ذات النبات
والماء. ويحبرون يسرون.
الإعراب :
ما خلق (ما)
نافية. وأجل معطوف على الحق. وكيف خبر كان وعاقبة اسمها. وقوة تمييز وأكثر صفة
لمفعول مطلق محذوف ، والمصدر من ليظلمهم
متعلق بمحذوف خبرا
لكان أي ما كان الله مريدا لظلمهم. والسوأى اسم كان أي كان السوأى عاقبة الذين
أساءوا ، ومن رفع عاقبة فهي الاسم والسوأى الخبر. والمصدر من ان كذبوا مفعول من
أجله. ويومئذ بدل من يوم تقوم الساعة.
المعنى :
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى). الله حكيم لا يخلق شيئا إلا بالحق ، والعبث في حقه محال ،
وهو قادر على اعادة الإنسان إلى الحياة بعد انتهاء أجله المحدد له. ومن تدبر عظمة
الكون يدرك حكمة الله في خلقه ، ويدرك قدرته على إحياء الموتى لأن خلق السموات
والأرض أعظم من إعادة الإنسان بعد الموت : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ـ ٣٣ الأحقاف. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) بأنه قادر على الاعادة جهلا منهم بأن القادر على الإبداء
قادر أيضا على الاعادة لأن السبب فيهما واحد ، إمكانا وامتناعا.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً). تقدم مثله في الآية ١٣٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٩ (وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها
أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ
اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). كانت الأمم السابقة أكثر حضارة وتقدما من العرب في
الزراعة والعمران ، ولما ظلموا أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم الرسل أخذهم الله بالعذاب
والهلاك .. ألا يخشى الذين كذبوا محمدا أن يصيبهم ما أصاب الذين كانوا أقوى وأرقى.
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها
يَسْتَهْزِؤُنَ). جاءتهم رسلهم بالبينات لينقذوهم من الضلالة والغواية ،
فأمعنوا في الإساءة اليهم تكذيبا واستهزاء ، فكان جزاؤهم سوء العذاب وبئس المصير (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تقدم في الآية ١٩ من سورة العنكبوت وغيرها.
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ). في هذا اليوم يعلم المجرمون انه لا أمل ولا حيلة لمن أسلف
المعصية ، وسوّف التوبة ، فتذهلهم مرارة اليأس لأنهم أمعنوا في الضلالة وأصروا
عليها (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ). كان لهم شركاء في الدنيا يتبعونهم في الضلال والفساد جهلا
وتقليدا ، ويرجون نفعهم وشفاعتهم يوم القيامة حتى إذا برزوا لله جميعا ورأوا
العذاب وأيقنوا ان لا شريك ولا شفيع تبرأ المتبوع من التابع ، والقائد من المقود.
وتقدم مثله في الآية ١٦٦ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥٥.
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) ضمير يتفرقون يعود إلى أهل الجنة وأهل النار ، أي انهم
كانوا في الدنيا يلتقون ويجتمعون في الأندية والأسواق والمعاهد والمعابد وغيرها ،
أما يوم القيامة فلا اجتماع بينهم ولا لقاء (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي
الْعَذابِ مُحْضَرُونَ). يخرج الله الخلائق غدا من الأجداث ويجمعهم لما يريد من
مسألتهم ، ثم يجعلهم فريقين : أهل الشر وأهل الخير ، فينعم على هؤلاء بمقام كريم
وجنة نعيم ، وينتقم من أولئك بنزل من حميم وتصلية جحيم.
من مشاهد الكون وخلق الانسان الآة ١٧
ـ ٢٥ :
(فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا
أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))
اللغة :
تظهرون تدخلون في
وقت الظهيرة تماما مثل تمسون وتصبحون. ومن أنفسكم من جنسكم. لتسكنوا اليها
لتطمئنوا اليها ، فسكن اليه من سكون الروح ، وسكن عنده من سكون الجسم.
الإعراب :
فسبحان الله منصوب
على المصدرية ، ومعناه الأمر أي سبحوا وحين منصوب به ، وعشيا عطف على حين. وله
الحمد مبتدأ وخبر والجملة معترضة. والمصدر من ان خلقكم مبتدأ ومن آياته خبر. وإذا
أنتم (إذا) للمفاجأة. والمصدر من لتسكنوا متعلق بخلق لكم وهو بمعنى المفعول من
أجله. ومن آياته يريكم البرق (يريكم) فعل مضارع في موضع المصدر وهو مبتدأ وخبره من
آياته أي من آياته إراءته إياكم البرق. وخوفا وطمعا مفعول لأجله.
المعنى :
(فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ). بعد أن ذكر سبحانه أهل الجنة وأهل النار أمر بتنزيهه وتمجيده
في الإصباح والإمساء والاظهار من أوقات النهار ، وفي الليل أيضا ، فإنه تعالى هو
المحمود في السماء والأرض. وفي بعض الروايات ان سليمان بن داود مر بحراث ، فقال :
لقد أوتي ابن داود ملكا عظيما. فقال له سليمان : ان تسبيحة واحدة يقبلها الله خير
ما أوتي آل داود. وفي نهج البلاغة جعل الله الحمد مفتاحا لذكره ، وسببا للمزيد من
فضله ، ودليلا على آلائه وعظمته.
(يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها). يقول الماديون : ان المادة هي التي تنشئ الحياة والاسماع
والأفئدة .. ولو صح هذا لكانت كل مادة تبصر وتسمع وتعقل ، لأن خصائص الشيء ملازمة
له حيث كان ويكون ، ولما رأينا الحياة في بعض الكائنات دون بعض علمنا ان هناك قوة
وراء المادة تهب الحياة لمن تشاء وتمنعها عمن تشاء (وَكَذلِكَ
تُخْرَجُونَ) كما أخرج الله النبات الحي من الأرض الميتة يخرج الإنسان
حيا من قبره ، وكما أحياه ، ولم يكن شيئا مذكورا يحييه تارة أخرى بعد أن يصبح
ترابا وعظاما ، فأين مكان الغرابة؟ انظر ج ٣ ص ٢٣١ فقرة : «من أين جاءت الحياة» ،
وج ٤ ص ٣٧٩ ، فقرة «الماديون والحياة بعد الموت».
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ). خلق الله الإنسان الأول من تراب ، وجميع البشر ينتهون
اليه ، وأيضا غذاؤهم الذي فيه قوام حياتهم ينتهي الى التراب ـ إذن ـ فالتراب هو
سبب كيان الإنسان ووجوده ، وسبب بقائه واستمراره .. كيف صار التراب إنسانا ، له
سمع وبصر وعقل وبيان وارادة وطاقات تفعل العجائب ، وتخلق الحضارات؟ هل هذا من فعل
الصدفة أو من صنع المادة؟ وليفرض الجاحدون ما شاءت لهم الفروض فإن العقل لا يؤمن
إلا بمن ليس كمثله شيء ، وهو العليم الحكيم.
الزواج القرآني :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). من أنفسكم أي من جنسكم وعلى شكلكم تبادلكم عطفا بعطف
واطمئنانا باطمئنان ، وقديما قيل : كل شكل إلى شكله ألف ، ولو كانت الزوجة من غير
جنس الزوج لتعذر التفاهم والمشاركة ولنظر كل الى الآخر على أنه غريب وبعيد عن طبعه
وأخلاقه .. انظر ج ٢ ص ٢٨٣ ، فقرة : «الزواج مبادلة روح بروح» وطريف قول بعض
المفسرين : ان المراد بالمودة المجامعة ، وبالرحمة الولد .. وان دل هذا التفسير
على شيء فإنما يدل على تغليب الجنس عند المفسر ، وانه ينظر الى المرأة على انها
مجرد آلة لإنجاب الأطفال.
ان القرآن الكريم
يحدد الغاية من الزواج بالتآلف والتراحم ، والعدل والمساواة ، لا بين الزوجين فقط
، بل بين أفراد الأسرة بكاملها ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ـ ١ النساء.
والغرض من الأمر بالتقوى في هذه الآية أن يؤدي كل فرد من أبناء الأسرة حق الآخر ،
ويتعاونوا يدا واحدة على ما فيه خير الجميع لتحيا الأسرة حياة صالحة لا مشاكل فيها
ولا تعقيد ، ومعلوم ان الأسرة الصالحة هي أساس المجتمع الصالح.
وبهذه المناسبة
نشير إلى أن الخطبة تستحب عند طلب الزواج ، وعند اجراء العقد أيضا تأسيا بالنبي
وأهل بيته (ص) ، وهي حمد الله تعالى والشهادتان ، والصلاة على النبي وآله ،
والوصية بالتقوى ، والدعاء للزوجين ، وعن الإمام زين العابدين (ع) : من حمد الله
فقد خطب .. ويستحب للتيمن والتبرك تلاوة آية من كتاب الله ، وحديث من سنّة نبيه
الكريم ، وعلى هذا جرت عادة السلف والكثير من الخلف ، فإنهم يتلون قبل العقد من
كتاب الله قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) الخ. ومن السنّة النبوية : تناكحوا تناسلوا تكثروا ، فإني
أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط.
وقلنا : يتلى هذا
الحديث وما إليه للتبرك لأنه من الخطأ أن يظن ان الخلق الكريم
والتهذيب القرآني
يتم بتلاوة الأحاديث والآيات .. كلا ، ان هذا التهذيب لا يكون إلا بتربية الأبناء
منذ الصغر تربية قرآنية تؤدي بهم الى تفهم الغاية التي أرادها الله من الزواج ،
وانها انسانية خالصة من كل شائبة تجارية أو سياسية ، أما ان نربي أولادنا على حب
التكاثر والتفاخر والمظاهر الفارغة ، فتقول الأم لبنتها : أسعدك الله بزوج ثري ،
وينصح الوالد ولده أن يتزوج بنت الوزير والتاجر الكبير ، أما هذه التربية فلا تغني
عنها الآيات والأحاديث.
أما حديث تناكحوا
.. تناسلوا فلا شك في صحته ، ولكن سيد الأنبياء (ص) يباهي بالمؤمنين الأتقياء ،
والمجاهدين الأحرار .. وأيضا بالسقط .. ويتبرأ من أهل الفسق والفجور ، من الشابات
والشباب الذين لا يردعهم من الدين رادع ، ولا يزجرهم من الأخلاق زاجر ، ويتبرأ
أيضا من أهل الخيانة والعمالة لأعداء الله والانسانية .. وفي الحديث : «ليأتين على
الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا ان يفر من شاهق الى شاهق. قالوا : ومتى ذلك
يا رسول الله؟ قال : إذا لم ينل المعيشة إلا بمعاصي الله ، فعند ذلك تحل العزوبة».
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أن الغرض من الزواج هو السكن والمودة والرحمة ، وان الزواج
التجاري والسياسي كثيرا ما يؤدي الى شقاء الأسرة ، ويعرّضها للزوال وتشريد
الأطفال.
(وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). يكرر سبحانه آية خلق الكون لأنه بما فيه من عجائب وأسرار
أظهر الأدلة على وجود الله وعظمته ، وأيضا للتذكير بفضله تعالى وآلائه (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوانِكُمْ). اختلاف القوميات باللغة ، وأهل الأقطار بالألوان ،
واختلاف الأفراد بالملامح والأصوات وبصمة الإبهام وما اليها ، والحكمة من ذلك ان
يتميز الناس بعضهم عن بعض ، فيعرف الوالد ولده ، والرجل زوجته ، والغريم غريمه ،
ومحال أن تكون هذه الحكمة البالغة من صنع الطبيعة والصدفة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي دلائل واضحة على وجود المقدر والمدبر.
(وَمِنْ آياتِهِ
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ). وتقدير الكلام منامكم ليلا ونهارا لأن الإنسان قد ينام في
النهار ـ القيلولة ـ (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) أيضا
ليلا ونهارا لأن
الإنسان قد يسعى لرزقه في الليل ، أما قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ـ ١١ النبأ فانه
محمول على الغالب ، ومهما يكن فان الغرض هو التذكير بحكمته تعالى من تقسيم حياة
الإنسان الى الكدح والراحة ، حيث لا تنتظم الحياة إلا بهما (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) دعوة الله فيستجيبون لها ، ومواعظه فيتعظون بها.
(وَمِنْ آياتِهِ
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). تقدم مثله في الآية ١٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٨٨ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ). كل موجود يفتقر إلى عناية الله في بقائه واستمراره ،
تماما كما يفتقر اليه تعالى في أصل الخلق والإيجاد ، وما تخلت عناية الله عن شيء
إلا صار هباء هو وجاذبيته ودعائمه (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ). ان دعوة الله في الدنيا هي دعوة نصح وإرشاد يستجيب لها
المتقون ، ويعرض عنها المجرمون ، أما دعوته في الآخرة فإنها دعوة التكوين والتنفيذ
لا مفر منها للمدعو إلا الى الداعي عظمت قدرته. وتقدم مثله في الآية ٥٢ من سورة الإسراء
ج ٥ ص ٥٣.
كل له قانتون الآة ٢٦
ـ ٢٩ :
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ
(٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ
يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))
اللغة :
قانتون طائعون
منقادون. والمثل الأعلى الصفة العليا. ومما ملكت أيمانكم العبيد والمماليك.
الإعراب :
لكم مما ملكت متعلق
بمحذوف خبرا مقدما لشركاء ، ومن زائدة إعرابا. ومثله وما لهم من ناصرين.
المعنى :
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ). الكون بمن فيه وما فيه ملك لله وطوع ارادته وحده حتى
الذين يعصون أمره ونهيه يتصرف فيهم بلا معارض ومعاند (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). خلق سبحانه الكون فأحكم خلقه ، ثم يفنيه ويعيده تارة أخرى
، والمراد بأهون هيّن ، مثل الله أكبر أي كبير لأن الذي ليس كمثله شيء ، وتتساوى
في قدرته جميع الأشياء ، لا يصح القول بالنسبة اليه : انه أكبر من غيره ، ولا هذا
أيسر عليه من سواه (وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). المراد بالمثل الأعلى الصفة العليا التي لا يشاركه فيها
أحد ، وهي انه لا إله إلا هو ، والعزيز هو الذي لا يغلب ، والحكيم هو الذي لا
يعبث.
(ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ). هذا المثل ضربه الله سبحانه للمترفين الطغاة
الذين يملكون
العبيد والمال ، ويزعمون ان لله شركاء في خلقه. وتوضيحه : انظروا أيها المشركون
المترفون : ان لكم عبيدا ومماليك لا تشاركونهم في أموالكم ، ولا تقبلون أن يتصرفوا
فيها إلا بإذنكم ، ولا تهابونهم حين تتصرفون أنتم فيها كما تهابون شركاءكم الأحرار
، مع العلم بأن الذين استعبدتموهم ليسوا مملوكين لكم حقيقة ـ إذن ـ كيف جعلتم
المملوكين لله حقيقة وواقعا ، جعلتموهم شركاء لله في ملكه وخلقه؟ كيف نسبتم إلى
الله ما لا ترضونه لأنفسكم؟ أتأنفون أنتم من شراكة ما تزعمون أنهم عبيد ، وهم
مخلوقون لله مثلكم ، ولا يأنف الله من شراكة مخلوقاته؟. ويلكم كيف تحكمون؟ وهذا
تماما كقولهم : لله البنات ولنا البنون : (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ـ ٥٧ النحل. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ). ان هذا المثل واضح تمام الوضوح في أن الله لا شريك له ،
ولا يعمى عنه إلا أرباب المنافع والأهواء.
(بَلِ اتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) حيث خيل اليهم ان الحق فيما يهوون ، والعدل فيما يشتهون ..
وهذا هو الجهل القاتل والضلال المبين (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ
أَضَلَّ اللهُ). أضلهم الله لأنهم سلكوا طريق الضلال ، وكل من سار على
الدرب وصل سواء أكان دربا للخير أم للشر ، للنجاة أم الهلاك (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) كيف وقد سلكوا سبيل الهلاك بسوء اختيارهم ، ولم يرتدعوا
عنه برادع ولا زاجر؟
ذلك الدين القيم الآة ٣٠
ـ ٣٢ :
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا
شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))
اللغة :
أقم وجهك للدين
أخلص له. وحنيفا مائلا إلى الدين. والقيم المستقيم. والشيع الفرق.
الإعراب :
حنيفا حال من
الضمير في أقم. وفطرة الله مفعول لفعل محذوف أي الزموا فطرة الله. ومنيبين حال من
الناس. ومن الذين فرقوا بدل من المشركين مع إعادة حرف الجر.
دين الله والفطرة :
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ). هذه الآية تدور كثيرا على ألسنة الخطباء وأقلام الكاتبين
، ومنهم من يستشهد بها وكفى ، ومنهم من يطلق حولها كلمات رنانة عامة ويقول : هذا
هو الدين الصحيح الضخم الهائل الخ.
وليس من شك ان هذه
الآية تقرر أصلا هاما يرتكز عليه الإسلام عقيدة وشريعة ، وهو يدل دلالة واضحة ان
تعاليم هذا الدين من ألفه إلى يائه تهدي الى الرشد والوفاء بمطالب الحياة ونموها
وتقدمها إذا فهم الإسلام على أساس فطرة الله التي فطر الناس عليها. ونبدأ أولا
بتفسير المفردات الواردة في الآية ، ثم نذكر المعنى المراد من مجموعها.
وتعني كلمة الفطرة
عند تعميمها وإطلاقها غريزة في داخل الإنسان تقبل الخير حين تعلم أنه خير وتلتزمه
لا لشيء إلا لأن الخير يجب أن يقبل ويلتزم ، وترفض الشر حين تعلم انه شر أيضا لا
لشيء إلا لأن الشر يجب أن يرفض ويجتنب .. هذا إذا خلي الإنسان وفطرته التي فطره
الله عليها ، ولم تدنسها العادات والتقاليد ، وتلوثها الأهواء والأغراض ، وقد ضرب
العلامة الحليّ مثالا لهذه الغريزة بقوله :
«لو خير العاقل
بين ان يصدق ويعطى دينارا ، وبين ان يكذب ويعطى دينارا لتخير الصدق على الكذب»
وهذه الغريزة التي تختار الصدق على الكذب هي التي خاطبها الله أو خاطب أربابها
بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) ـ ١٧٢ الأعراف»
وعناها الحديث المشهور عن الرسول الأعظم (ص) : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون
أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصّرانه. أما كلمة حنيف هنا فإنها تعني من استقام
على فطرة الله التي فطر الناس عليها مبتعدا عما يدنسها من الأهواء والأغراض.
والمراد بقوله تعالى : لا تبديل لخلق الله ، ان الدين عند الله قائم وثابت على
أساس هذه الفطرة لا يحول عنها ولا يزول. وذلك اشارة الى ما أوجب الله على العباد أن
يلتزموه قولا وعملا لأنه هو الدين المستقيم الذي لا ترى فيه عوجا ولا أمتا.
أما الآية
بمجموعها فإنها تدل على ان الدين يرتبط بالفطرة ، ولكن ليس معنى هذا ان الفطرة هي
المشرع والآمر الناهي ، وان وظيفة الدين هي الكشف والتعبير عن أحكامها .. كلا ،
فان الله الذي خلق الدين والفطرة هو المشرع الأول ، وله وحده الأمر والنهي ، وانما
القصد من الآية هو تحديد المقياس الذي نقيس به دين الله ، وانه بما فيه من عقيدة
وشريعة وأخلاق ينسجم مع فطرة الناس ومصالحهم ، وانه سبحانه لم يشرع حكما لعباده
منافيا لمصلحة الفرد أو الجماعة .. هذا هو الضابط والفاصل بين أحكام الله وأحكام
غيره ، بين شريعة الحق وشريعة الباطل ، أما أقوال العلماء من الفقهاء والمفسرين
والفلاسفة فما هي بأصل من أصول الإسلام ، ولا يصح الاعتماد عليها كدليل شرعي لأنها تعكس اجتهادهم وفهمهم لدين الله وأحكامه ، ولا تعكس
الدين كما هو في حقيقته وواقعه.
ونخلص من هذا إلى
ان الإسلام لا يرفض بقية الأديان والمذاهب بكل ما فيها ، بل ينظر اليها نظرة
المدقق المنصف ، فيقر منها ما يتفق مع فطرة الله ، ويرفض ما عدا ذلك.
(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ) ارجعوا إلى هذا الدين ، وأطيعوا جميع أحكامه (وَأَقِيمُوا
__________________
الصَّلاةَ) فإنها تذكركم بالله (وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) أخلصوا له وحده في جميع أقوالكم وأفعالكم (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). تقدم مثله في الآية ١٥٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٩٠ والآية
٥٣ من سورة المؤمنون.
واذا مس الناس ضر الأة ٣٣ ـ ٤٠ :
(وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا
بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ
فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ
ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))
اللغة :
منيبين اليه أي
راجعين اليه. والمراد بالسلطان هنا الحجة أو الكتاب. ويقدر يضيق. وابن السبيل هو
الذي سافر في غير معصية ، وانقطع عن ماله وأهله. والربا الزيادة. والمضعفون الذين
يضاعف لهم الأجر والثواب.
الإعراب :
منيبين حال من واو
دعوا. إذا فريق (إذا) للمفاجأة. وما آتيتم (ما) في محل نصب بآتيتم.
المعنى :
(وَإِذا مَسَّ
النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). تقدم مثله في الآية ١٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٩ والآية ٦٧
من سورة الإسراء (لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). تقدم مثله في الآية ٦٦ من سورة العنكبوت.
(أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ). أم هنا بمعنى بل وهمزة الاستفهام. والمراد بالسلطان
البرهان ، والمعنى هل يشهد لكم شيء من الوحي أو العقل بأن الذي أنتم عليه من الشرك
حق وصواب ، والقصد من ذلك الاستنكار والتهديد.
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ). هذا هو الإنسان ، ان مسه الخير فهو فرح فخور ، وان مسه
الشر فيئوس كفور. وتقدم مثله في الآية ٩ من سورة هود ج ٤ ص ٢١٢ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). تقدم في الآية ٢٦ من سورة الرعد ج ٤ ص ٤٠١ والآية ٣٠ من
سورة الإسراء ج ٥ ص ٤٢.
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ). للقريب الفقير حق على قريبه الغني ، وهو الإنفاق عليه بما
يسد الخلة. وقال الشافعية والإمامية : تجب نفقة الأقارب إذا كانوا من الآباء وان
علوا ، والأبناء وان نزلوا. وقال المالكية : لا تجب إلا نفقة الأبوين والأبناء
الأدنين دون آباء الآباء وأبناء الأبناء. وقال الحنابلة : تجب نفقة القريب بشرط أن
يكون المنفق وارثا للمنفق عليه. أما الحنفية فيرون الشرط الأساسي أن تكون القرابة
موجبة لحرمة الزواج. والتوضيح في كتابنا : «الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة».
أما المسكين وابن
السبيل فقد تقدم الكلام عنهما عند تفسير الآية ٦٠ من سورة التوبة ج ٤ ص ٥٩ (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ
وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ذلك إشارة إلى الإعطاء ، وانه يجب أن يكون لوجه الله ،
كما هو شأن أهل الصلاح والفلاح (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ). قال جماعة من المفسرين : المراد بالربا هنا الربا المحرم.
وقال آخرون : بل المراد به الربا الحلال ، ومثاله أن يهدي الرجل غنيا من الأغنياء
ليرد الهدية أضعافا. والأولى حمل الآية على الاثنين ، وان كلا من آكل الربا المحرم
والمهدي بقصد الربح لا ثواب له عند الله ، سوى ان الأول عليه عقاب ، والثاني لا
ثواب له ، ولا عقاب عليه.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ
زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي يضاعف لهم الثواب والجزاء ، والمعنى الجملي أن من ينفق
لوجه الله تعالى يزيد الله في ماله بالدنيا ، وفي ثوابه بالآخرة. قال الإمام علي (ع)
: إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقات. وهذا مأخوذ من قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ـ ٢٤٥ البقرة ج ١
ص ٣٧٥.
(اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أتبخلون بما آتاكم
الله ، وتبتغون الرزق من غيره ، وهو الذي أوجدكم بعد العدم ، وأفاض عليكم من
بركاته الواسعة ، وهو الذي يميتكم ثم يحييكم ، ثم يبعثكم للحساب والجزاء؟ فهل من
أحد ممن ترجون فضله وتأملون نفعه يحيي ويميت؟ وإذا قدر على إعطاء بعض الفتات في
هذه الحياة فهل يقدر
غدا على النفع
والضر (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ). وفي الحديث : الشرك أخفى من دبيب النمل ، وفيه إيماء إلى
ان الشرك على أنواع ، ومنها الثقة بالمخلوق دون الخالق.
ظهر الفساد في البر والبحر الأة ٤١ ـ ٤٥ :
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ
كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ
(٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))
اللغة :
يصدّعون أصلها
يتصدعون من التصدع ، والمراد هنا التفرقة ، يقال تصدع القوم أي تفرقوا. ويمهدون من
مهد بمعنى وطّأ وهيأ.
الإعراب :
ليذيقهم اللام
بمعنى كي ، وان مضمرة بعدها ، والمصدر المجرور متعلق بظهر. والمصدر من ليجزي متعلق
بيصدعون.
المعنى :
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). قال جماعة من المفسرين : المراد بالبحر هنا البلاد
القريبة من البحر ، وبالبر البلاد البعيدة عنه ، وقال آخرون : المراد بالبحر
المدينة لكثرة سكانها ، وبالبر القرية لقلتهم .. والذي نفهمه نحن ان البر والبحر
كناية عن كثرة الفساد وانتشاره .. وكل ما حرمه الله ونهى عنه فارتكابه جريمة وفساد
في الأرض ، كالحرب والبغي والإسراف والخلاعة والفجور والخمر والميسر والاستخفاف
بفرائض الله وعبادته ، وما إلى ذلك.
وإذا وصف سبحانه
عصر الجاهلية بظهور الفساد برا وبحرا حيث لا أسلحة كيماوية ولا قنابل نووية ، ولا
شركات للاستغلال والاحتكار ، ولا كازينوهات وخلاعات فبأي شيء نصف عالم اليوم الذي
يهدده الفناء والدمار الشامل في كل لحظة ، يهدده الفناء والهلاك لا بفعل الله ،
ولا بكوارث الطبيعة ، بل بفعل الناس الذين يملكون أبشع أسلحة الافناء والإهلاك ..
ولا سبيل لأمن البشرية وصيانتها من هذا الخطر إلا أن تدمر هذه الأسلحة تدميرا
كاملا ، أما هيئة الأمم ومعاهدة التجارب الذرية الجزئية فإنها لم تحقّق للبشرية ما
تثق به وتطمئن اليه.
(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). الفساد في الأرض نتيجة طبيعية للإعراض عن الله ، وعدم
الالتزام بأمره ونهيه ، وكلمة «بعض» في الآية تشير إلى عذاب الدنيا ، ولعذاب
الآخرة أشق وأخزى. وفي الدعاء المأثور : اللهم اني أعوذ بك من الذنوب التي تغير
النعم وتنزل النقم ، وقال سيد المرسلين (ص) : «اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات»
، وكفى شاهدا على ذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرى
أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) ـ ٦٠ الكهف ، وقوله
: (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ). تقدم مثله في الآية ١٣٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٩
والآية ١١ من سورة الأنعام و ٦٩ من سورة النمل.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ
اللهِ) وهو يوم الحساب والجزاء الذي لا مفر منه ، والسعيد من أخلص
لله في أعماله
ومقاصده وحاسب
نفسه قبل أن تحاسب (يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ) يتفرقون إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ومر
مثله في الآية ١٤ من هذه السورة.
(مَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). مهّد الفراش بسطه وسهّله ، وأصحاب الأعمال الصالحات
يفرشون قبورهم ويجهزونها بما يحتاجونه لأمنهم وراحتهم قبل أن ينقلوا اليها تماما
كما يجهز البيت في الحياة الدنيا قبل سكناه ، وعن الإمام جعفر الصادق (ع) : ان
العمل الصالح يسبق صاحبه ليمهد له كما يمهد الخادم لسيده. وتقدم مثل هذه الآية في
سورة البقرة الآية ٢٨٦ ج ١ ص ٢٥٥.
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ). ليجزي متعلق بيصدعون ، والمعنى ان الله يجعل الناس يوم
القيامة فريقين ليكافئ المؤمنين على أعمالهم بالجنة لأنه يحبهم ويحب ما عملوا من
الصالحات ، أما الكافرون فإن الله يكرههم ويجزيهم بما يستحقون. وفي نهج البلاغة : «ان
الله يحب العبد ، ويبغض عمله ، ويحب العمل ، ويبغض بدنه» أي يحب المؤمن لإيمانه ،
ويبغض ما يأتيه من السيئات ، ويبغض الكافر لكفره ، ويحب ما يفعله من حسنات.
من الأات الکوفة
الأة ٤٦ ـ ٥١ :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا
نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨)
وَإِنْ
كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩)
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ
أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ
(٥١))
اللغة :
كسفا جمع كسفة ،
وهي القطعة من الشيء. والودق المطر. ومبلسين جمع مبلس ، وهو المتحسر الآيس.
الإعراب :
مبشرات حال من
الرياح. وليذيقكم عطف على معنى مبشرات أي ليبشركم وليذيقكم. وحقا خبر كان ، ونصر
اسمها. وكيف مفعول مطلق وتقديره أيّ مشيئة يشاء ، ومثله كيف يحيي الأرض. وان كانوا
(ان) مخففة واسمها محذوف أي انهم كانوا. واللام في مبلسين اللام الفارقة ومبلسين
خبر كانوا وجملة كانوا مع خبرها خبر ان. واللام في لئن لام التوطئة للقسم. واللام
في لظلوا واقعة في جواب القسم ، وظلوا فعل سد مسد جواب القسم والشرط معا.
المعنى :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). كل شيء يترتب على وجوده حكمة لا غنى عنها فهو دليل قاطع
على نفي الصدفة ووجود القصد والارادة ، وهذا الدليل هو المراد بآية
الله الدالة على
وجوده. وللرياح فوائد كثيرة ، فهي ـ اذن ـ آية دالة على وحدانية الله وقدرته ، ومن
فوائدها اثارة السحاب الذي يبشر الناس بالخير ، وجريان السفن على متن الماء تحمل
الأقوات من بلد إلى بلد ، وغير ذلك مما أشار اليه الامام جعفر الصادق بقوله : «لو
كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن ، لأن الريح بمنزلة المروحة
تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه فهي بمنزلة الروح إذا خرجت من البدن نتن وتغير
.. فتبارك الله أحسن الخالقين». (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي تتقون معاصي الله في السر والعلانية. وأشرنا فيما تقدم
أكثر من مرة ان الله يجري الأشياء على أسبابها ، ويسندها اليه لأنه السبب الأول
الذي تنتهي اليه جميع الأسباب.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا
مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). أرسل الله محمدا (ص) بالحجة الوافية ، كما أرسل من قبله
بالحجج الواضحة ابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ، فكذّب بهم كثير ، وآمن
بهم قليل ، فأخذ الله المكذبين بعذاب يوم عظيم ، ونصر الله الأنبياء ومن معهم ،
وهذا النصر واجب على الله ، وهو الذي أوجبه وكتبه على نفسه تماما كما كتب عليها
الرحمة .. ومحال ان تضيع عند الله ظلامة مظلوم وإلا كان الظالم أحسن حالا من
المظلوم عند الله. انظر ج ٤ ص ١٣٢ فقرة : «الحساب والجزاء حتم». والغرض من هذه
الآية تهديد الذين كذبوا محمدا (ص) ان يصيبهم مثل ما أصاب الذين كذبوا أنبياءهم من
قبل.
(اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ
بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ). هذا توضيح للآية السابقة ، وهي : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ
مُبَشِّراتٍ) ويتلخص المعنى بأن الله سبحانه يرسل الرياح ، فتحرك السحاب
، وتنشره في السماء ، ثم تقسمه بأمره إلى قطع ، وتدفع بكل قطعة إلى البلد الذي
أراده الله ، فإذا وصلت اليه خرج الماء من السحابة وتساقط على البلد المقصود ،
فيفرح أهله ، ويبشر بعضهم بعضا بالخير ، ومن قبل كانوا قانطين يائسين. وتقدم مثله
في الآية ٥٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٢.
العقل
وفكرة البعث :
(فَانْظُرْ إِلى آثارِ
رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ
الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). المراد برحمة الله هنا المطر ، وبآثاره إحياء الأرض بعد
موتها ، وهذا الإحياء ثابت بالعيان ، وهو دليل قاطع ومحسوس على ان فكرة البعث
والإحياء بعد الموت من حيث هي صحيحة لا تقبل الشك ، لأن العاقل إذا تنبه وتدبر
إحياء الأرض بعد موتها لا بد أن يسلم ويؤمن بفكرة البعث كفكرة ، وإلا كان من الذين
يجمعون بين الايمان بوجود الشيء والايمان بعدمه في آن واحد .. وبداهة ان هذا الجمع
ممتنع بذاته وطبعه .. وهنا يكمن السر في تكرار الآيات التي تنبه العقول إلى إحياء
الأرض بعد موتها كدليل على إمكان البعث ، ومن هذه الآية قوله تعالى : (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) ـ ٩ فاطر ، وقوله
: (وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) ـ ٣٩ فصلت. وغيرها
كثير.
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ). الهاء في رأوه تعود إلى الزرع المفهوم من سياق الكلام ،
ومصفرا صفة له ، لا للريح ، والمعنى إذا أرسل الله ريحا يصفر منها زرعهم بعد خضرته
يئسوا من رحمة الله ، واعترضوا على حكمته ، وكفروا به وبنعمته ، وان دل هذا على
شيء فإنما يدل على ان إيمانهم بالله وهم وخيال ، ولو كان مستقرا في القلوب لثبتوا
عليه في السراء والضراء. قال الإمام علي (ع) : «من الايمان ما يكون ثابتا مستقرا
في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم» .. ان المؤمن
يتألم ويحزن كإنسان إذا أصيب في نفسه أو ولده أو ماله ، ولكنه لا يخرج عن دينه. قال
الرسول الأعظم (ص) عند وفاة ولده ابراهيم : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول
ما يسخط الرب.
خلقكم من ضعف الأية ٥٢ ـ ٦٠ :
(فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
(٥٢)
وَما
أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ
بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ
جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً
وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ
كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ
لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ
وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ
لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ
يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))
الإعراب :
الله الذي خلقكم
مبتدأ وخبر. وما لبثوا جواب القسم. ولئن اللام للتوطئة. وليقولن اللام في جواب
القسم ، ويقولن يسد مسد جواب الشرط والقسم.
المعنى :
(فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ
يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ). تقدم بالنص
الحرفي في سورة
النمل الآية ٨٠ و ٨١.
(اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ). لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ثم كان ، وانتقل في العديد من
الأطوار ، فمن التراب إلى النطفة والجنين ، ومنه إلى الرضيع والفطيم ، ومن الصبي
والشاب إلى الكهل والشيخ الفاني ، والضعف الأول الذي أشارت اليه الآية هو ضعف
البنية والإدراك في الطفل ، وقيل : بل ضعف النطفة ، والمراد بالقوة قوة الشباب ،
أما الضعف الثاني فهو ضعف الهرم والكبر باتفاق المفسرين ، ومن أجل هذا قلنا : ان
المراد بالضعف الأول الطفولة لأنها أنسب إلى الهرم من النطفة. وعلى أية حال فان
القصد من الاشارة إلى تغيير الإنسان من حال الى حال هو أن يدرك انه في قبضة الله
يتصرف به كيف يشاء إحياء وإماتة وإضعافا وتقوية ، ثم اليه المنقلب والمصير. وتقدم
مثله في الآية ٧٠ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٣٠.
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ). المراد بالساعة يوم القيامة ، وبقوله : ما لبثوا غير ساعة
الجزء من الزمن في الحياة الدنيا ، والمعنى ان المجرمين حين ينسلون الى ربهم من
الأجداث يحلفون بالله من الدهشة ما لبثوا في قبورهم إلا قليلا. وتقدم ذلك مفصلا في
الآية ١٠٢ من سورة طه ج ٥ ص ٢٤٤ ، وجمعنا هناك بين ثلاث آيات : الأولى : يتخافتون
بينهم ان لبثتم إلا عشرا. والثانية : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. والثالثة الآية
التي نحن بصددها. (كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا حيث كانوا يحلفون :
لا بعث ولا حساب. وفي الآخرة أيضا حيث حلفوا ما لبثوا غير ساعة.
(وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ
الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ). قال المجرمون ما قالوا عن أمد مكثهم ، فقال لهم أهل
الايمان بالله وحسابه وثوابه : لقد لبثتم ما شاء الله أن تلبثوا ، والأمد الذي
قضيتموه في قبوركم الى هذا اليوم ثابت في علمه تعالى ، ولا يعلمه أحد سواه .. وأية
جدوى من قسمكم وحديثكم عن أمد المكث في القبور وقد أنكرتم من قبل هذا اليوم الذي
ترون شدائده
وأهواله؟ (وَلكِنَّكُمْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنكم في عمى وضلال مبين.
(فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). المراد بالاستعتاب هنا الاقالة أي ان المجرمين يستقيلون
ربهم فلا يقيلهم ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ـ ٢٤ فصلت وعليه
يكون المعنى لا عذر ولا إقالة لمجرم في ذلك اليوم بعد أن حذّر وأنذر فأبى إلا
كفورا.
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ). تقدم في الآية ٥٤ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٣٩.
(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ
بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ). يقولون عن الأنبياء والمصلحين وعن الأحرار والمجاهدين :
انهم مبطلون .. وعن الخونة المنافقين والعملاء المأجورين : انهم محقون .. ولا بدع
فان الطغاة المجرمين يقيسون الحق والباطل بمنافعهم وأهوائهم ، فما وافقها فهو حق
وان كان شرا وفسادا ، وما خالفها فهو باطل وان كان خيرا وصلاحا.
(كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). طبع الله على قلوبهم لأنهم سلكوا باختيارهم السبيل
المؤدية إلى ذلك حتما .. فالعمى عن الحق نتيجة الجهل ، والبغي والطغيان نتيجة
الانحراف عن طريق الهداية ، أما نسبة ذلك اليه تعالى فمعناها ان هذه النتيجة تلزم
مقدماتها وأسبابها ولا تنفك عنها بحال (فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ). اصبر يا محمد وامض في دعوتك ، وتحمل الأذى في سبيلها ،
فما هي الا أيام حتى تنتشر رسالتك في شرق الأرض وغربها ، ويقترن اسمك باسم الله
تعالى وبالصلوات والتحيات .. والحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلى الله عليه واله
نبي الرحمة وقائد الانسانية الى الخير ، فارزقنا شفاعته يا مبدل السيئات بأضعافها
من الحسنات.
سورة لقمان
مكية إلا بعض آيات
، وآيها ٣٤.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هذا
خلق الله الأة ١ ـ ١١ :
(الم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ
اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ
فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))
اللغة :
المراد بلهو
الحديث هنا كل ما يصد عن الحق الذي عبّر عنه سبحانه في نفس الآية بسبيل الله.
والوقر الصمم. والرواسي الجبال. وبث فرق. وزوج كريم صنف حسن.
الإعراب :
تلك آيات الكتاب
مبتدأ وخبر. وهدى ورحمة حال من الآيات والعامل معنى الاشارة في تلك. ومن الناس خبر
مقدم ، ومن يشتري مبتدأ مؤخر. ويتخذها عطف على ليضل. وبغير علم متعلق بمحذوف حالا
من فاعل يضل أي جاهلا. ومستكبرا حال. وكأن ، أصله كأنه. وخالدين حال من الضمير في
لهم. وعد الله منصوب على المصدرية أي وعد الله وعدا حقا ، وحقا صفة للوعد المحذوف.
وما ذا بمنزلة الكلمة الواحدة ومحلها النصب بخلق والتقدير أيّ شيء خلق.
المعنى :
(الم) تقدم مثله
في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ). تلك إشارة إلى آيات هذه السورة ، وانها من كتاب الله ،
ووصفه سبحانه بالحكيم لأن فيه الحكمة البالغة (هُدىً وَرَحْمَةً
لِلْمُحْسِنِينَ) وهم الذين يطلبون الحق ويعملون به لأنه حق ، ولا ريب ان
القرآن هدى ورحمة لكل من أخلص لله وللحق ، أما الذين أعمت المطامع قلوبهم فهم
الداء الذي لا دواء له إلا الاستئصال (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) يداومون عليها (وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) لمن يستحقها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ) ولا يشكون انهم مسؤولون أمام الله عن أقوالهم وأفعالهم (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فميزان الهداية والفلاح عند الله أن تخلص للحق قولا وعملا
، ولا تعبد إلا الله ، ولا تبخل بما آتاك من فضله. وتقدمت هذه الآيات في أول سورة
البقرة.
الاتجار بالدين والضمير :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً). قال صاحب مجمع البيان : «أكثر المفسرين على ان المراد
بلهو الحديث الغناء .. وعن الإمام جعفر الصادق (ع) انه الطعن بالحق والاستهزاء به».
وهذا التفسير أقرب
الى الواقع ، وأليق بالسياق ، فإن الله سبحانه بعد أن ذكر المؤمنين المفلحين ذكر
المجرمين الذين يشترون الذمم من الذين يتاجرون بالدين والضمير ليضللوا الناس عن
الحق ، ويصرفوهم عنه بالأوهام والأباطيل .. وأوضح مثال على ذلك ما تلجأ اليه قوى
الشر والاستغلال في هذا العصر لتدعيم مكانتها وبث دعايتها ، حيث تنفق الملايين على
الصحف المأجورة لتنشر الأكاذيب والافتراءات ، وتروّج للخونة والعملاء ، وتشكك
بالمخلصين الأحرار ، وفوق هذا ان تلك الأجهزة الشريرة ألبست عملاءها ثياب أهل
الدين ليلصقوا به البدع ويفسروه بما شاء لها البغي والاستغلال ، ويبثوا الفتن
والشقاق بين الطوائف وأهل الأديان .. وبعد حرب الشرق الأوسط سنة ١٩٦٧ شاهدنا
ألوانا من الاشاعات الكاذبة والحرب النفسية في الصحف المأجورة ، أما نشاط الدخلاء
فقد بلغ الغاية في الجرأة على الله ورسوله .. ولكن الأيام كشفت الحقائق ، وفضحت
الدخلاء والعملاء ، وأوان التصفية آت لا محالة (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ) لأنهم باعوا دينهم للشيطان ، وتآمروا معه على الحق وأهله.
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). المؤمن المخلص يستمع للحق ، ويتصامم عن الباطل ، والخبيث
المجرم صاحب الغايات والأهداف يصغي للباطل ، ويتصامم عن الحق .. ولا جزاء له إلا
عذاب أليم ، قال الرازي : «العاقل يطلب الحكمة بأي ثمن ، وهم ما كانوا يطلبونها ،
وإذا جاءتهم مجانا ما كانوا يسمعونها» (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ). لمّا بيّن سبحانه جزاء من أعرض عن آياته وانه عذاب أليم
بيّن جزاء من آمن وعمل بها وانه جنات النعيم (خالِدِينَ فِيها) ولهم ما يشتهون (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) لأنه واقع لا محالة (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) عزيز بقدرته التي لا تغلب ، حكيم بتدبيره الذي لا ينكره
إلا جاهل أو مكابر.
(خَلَقَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا
فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). تقدم في الآية ٢ وما بعدها من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣ (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا
خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). كل ما في الكون يشهد لله على قدرته ووحدانيته ، فأين
الدليل أيها المشركون على ان معبودكم شريك لله في صفة من صفاته؟ (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). وكل من جحد الحق ، أي حق ، بعد أن تظهر دلائله فهو ظالم
آثم.
وتسأل : من يتتبع
الآيات الكريمة يرى ان الله سبحانه كثيرا ما يؤكد البديهات والواضحات فيما يعود
إلى أبطال الشرك مثل قوله للمشركين : فأروني ما ذا خلق الذين من دونه. وقوله : لن
يخلقوا ذبابا ، فما هو السر؟
الجواب : السر أن
يكشف سبحانه ان الفئة الباغية لا تؤمن إلا بمصلحتها ، وانها تنكر من أجل مصلحتها
الشخصية كل حقيقة حتى ولو كانت من الوضوح على مثل ضوء الشمس. وهذه الصفة من أقبح
الصفات وأخطرها ، ولا دواء لها إلا القوة الرادعة.
لقمان الأة ١٢ ـ ١٩ :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ
لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا
مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ
إِلَيَّ
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا
بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ
أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))
اللغة :
الوهن الضعف.
والفصال الفطام. وجاهداك بذلا الجهد. وأناب رجع. ولا تصعر خدك لا تمل بوجهك وهو
كناية عن التكبر. ومختال من الخيلاء ، وهي العجب والتكبر. واقصد في مشيك من القصد
، وهو وسط بين الافراط والتفريط.
الإعراب :
ان اشكر (ان)
مفسرة بمعنى أي. وجملة حملته حال على تقدير قد حملته. وهنا مصدر في موضع الحال من
أمه أي موهونة. ومعروفا صفة لمحذوف أي مصاحبا معروفا بمعنى مصاحبة معروفة كما في
مجمع البيان. والضمير في انها يعود إلى فعلة الإنسان من خير وشر. وتك ، أصلها تكون
فحذفت الواو لالتقاء الساكنين والنون للتخفيف ، واسم تك ضمير مستتر يعود إلى
الفعلة ومثقال خبرها.
ومن خردل متعلق
بمحذوف صفة لحبة. فتكن عطف على تك. ويأت جواب ان الشرطية. ومرحا مصدر في موضع
الحال أي متكبرا.
المعنى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ). تطلق الحكمة على معان ، منها العلم بالله وصفاته ، ومنها
وضع الشيء في محله ، ومنها الكلمة الواعظة ، ومنها طاعة الله ، وفي الحديث : «رأس
الحكمة مخافة الله». وكان لقمان من أهل العلم بالله وطاعته والدعاة اليه تعالى
بأسلوب هادئ ورزين ، وواضح ومقنع (وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). تقدم في الآية ٤٠ من سورة النمل.
واختلفوا : هل كان
لقمان نبيا أو عبدا صالحا وكفى. ولا يمت هذا الاختلاف بسبب الى العقيدة والحياة ،
والذي يجب الايمان به هو ما نص عليه القرآن الكريم من ان الله سبحانه منّ على
لقمان بالحكمة التي هي العلم بالله وطاعته والدعوة الى سبيله بالموعظة الحسنة.
وذكر المفسرون وأهل السير الكثير من حكم لقمان وفطنته ، من ذلك انه كان عبدا
مملوكا ، وكان أهون مملوك على سيده ، وفي ذات يوم بعثه مع غيره من مماليكه الى
بستان له ليأتوه بشيء من ثمره ، ولما وصلوا إلى البستان أكلوا ثمره ما عدا لقمان
.. فتآمروا عليه لأنه لم يشاركهم في الجريمة ، وكادوا له عند سيدهم حيث قالوا له :
ان لقمان أكل الثمر ولم يبق منه شيئا .. ولما سأل لقمان قال له : اسقنا جميعا دواء
نتقيأ به ما في بطوننا وعندئذ تظهر لك الحقيقة ، وهكذا كان .. تقيأوا الفاكهة دون
لقمان ، وحاق المكر السيئ بمن أساء.
ومن ذلك أيضا ان
سيده سكر يوما ، وراهن قوما على مال كثير ان يشرب بحيرة هناك ، ولما أفاق ندم وعلم
انهم اصطادوه من حيث لا يشعر ، فالتجأ إلى لقمان وقال له : هذا يومك. فقال لقمان
للقوم : ان للبحيرة أنهرا تصب فيها ، فاحبسوها عن البحيرة كي يشرب ماءها. قالوا لا
نستطيع ذلك. فقال لهم لقمان : انه راهن على شربها ، ولم يراهن على مواردها
ومصادرها.
وسواء أصحت هذه
الرواية ، أم لم تصح فإنها أوضح مثال على ان الله سبحانه قد منح لقمان الحكمة
والمعرفة ، ويظهر من أقوال المفسرين وأهل السير انه كان معاصرا للنبي داود. انظر
تفسير الآية ٨٠ من الأنبياء.
(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ). بعد ان ذكر سبحانه انه قد منّ على لقمان بالحكمة ذكر طرفا
من مواعظه لابنه رفقا به وشفقة عليه ، وقد أوصى الإمام علي ولده الإمام الحسن (ع)
بوصية طويلة جاء في مقدمتها : «وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك
أصابني ، وكأن الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي». قال
لقمان :
١ ـ (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). يرى بعض المفسرين ان هذا القول من لقمان لابنه يشعر بأن
ابنه كان مشركا. والحق ان النهي عن الشيء لا يدل على صدوره من المخاطب ، فقد خاطب
سبحانه خليله ابراهيم (ع) بقوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً) ـ ٢٦ الحج ، وقال
لحبيبه محمد (ص) : (فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ) ـ ٥٢ الفرقان.
وقال الإمام علي (ع) للإمام الحسن (ع) : اعتصم بالله .. وليكن له تعبدك .. ولو كان
لربك شريك لأتتك رسله.
٢ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ). هذه الآية والتي بعدها استطراد في سياق وصية لقمان لابنه
.. والوهن الضعف والجهد ، وكلما نما الجنين في بطن أمه زادها ضعفا وجهدا (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ). ترضع الأم ولديها عامين ، ثم تفطمه عن الرضاع ، وتقاسي
خلالهما الشدائد بالاضافة إلى ما قاسته أيام الحمل وعند الوضع. وتقدم الكلام مفصلا
عن مدة الرضاع عند تفسير الآية ٢٣٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٥٦ وما بعدها (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فأسالك يومئذ : هل كنت من أهل الشكر والطاعة أو العقوق
والمعصية لي ولوالديك (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) بخفض الصوت وطيب الكلام ولين العريكة ، والحرص على ما
يرغبان. وتقدم الكلام عن البر بالوالدين مفصلا عند تفسير الآية ٢٣ من سورة الإسراء
ج ٥ ص ٣٥ وتفسير الآية ٨ من سورة العنكبوت.
(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنابَ). بعد أن أمر سبحانه بالشكر له وللوالدين أمر بطاعة الله في
كل شيء ، لا في بر الوالدين فقط ، وعبّر عن ذلك بمتابعة الصالحين الذين أطاعوا الله
في أوامره ونواهيه. قال الإمام زين العابدين (ع) : اللهم ألحقني بصالح من مضى ،
واجعلني من صالح من بقي ، وخذ بي سبيل الصالحين (ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). هذا تهديد ووعيد لمن يعصي الله والوالدين.
الصخرة وقرن الثور :
٣ ـ (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي
الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ). عاد الكلام الى وصية لقمان لابنه .. وضمير انها يعود على
الفعلة من الحسنات والسيئات ، ولفظ الفعلة وان لم يذكر في الكلام ، ولكن السياق
يدل عليها و «مثقال حبة من خردل» كناية عن الفعلة الصغيرة ، و (فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ
فِي الْأَرْضِ) كناية عن السر والخفاء ، والمعنى الجملي ان الله سبحانه
يعلم مقاصد الإنسان وأقواله وأفعاله ما خفي منها وما ظهر ، لا يغادر منها صغيرة
ولا كبيرة إلا أحصاها وحاسب عليها .. والقصد من سياق هذا الكلام هو إنذار الضالين
المضلين الذين يعيشون مع الناس بألسنتهم ، ومع أعداء الله والانسانية بقلوبهم ،
وان يعلموا ان مصيرهم الى الخزي والوبال.
وتساءل بعض
المفسرين وقال : كيف ذكر الله السموات والأرض بعد أن ذكر الصخرة مع العلم بأن
الصخرة لا بد أن تكون في الأرض ، لا في السماء. وأجابه آخر بأن هذه الصخرة ليست في
السماء ولا في الأرض ، وانما هي تحت سبع أرضين ، وبالضبط هي نفس الصخرة التي يقف
الثور عليها وهو يحمل الأرض على قرنه ، وقال قائل : كلا ، ان هذه الصخرة قائمة في
الهواء بمحض خلق الله تعالى. وقال ثالث : هي خضراء اللون. (انظر تفسير الطبري
والرازي).
والقرآن الذي وصفه
الله بالنور والهدى وفصل الخطاب منزه عن هذه التأويلات التي يتخذ العدو منها وسيلة
للطعن والاستهزاء بالدين .. وان دلت هذه التفاسير وما اليها على شيء فإنما تدل على
ان أصحابها لا يعرفون حكمة الله في إرسال رسله
وانزال كتبه ،
ويجهلون ان الإسلام هو دين الفطرة والحياة ، وان أساس دعوته الايمان والإخلاص ،
وضوءها العلم والعدل ، وطريقها الجد والعمل ، وهدفها السعادة والهناء.
٤ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) لأنها تذكرك بالله وتنزهك عن الكبر (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ). ومن أمر بالمعروف شد أزر المؤمنين ، وأرغم أنوف المنافقين
(وَاصْبِرْ عَلى ما
أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) والمراد بعزم الأمور قوة الارادة الخيرة ، والثبات على
الحق .. والأمر بالصبر بعد الأمر بالمعروف يومئ الى ان من دعا دعوة الحق لاقى في
ذات الله ما يلاقيه كل مجاهد مخلص من سرّ المبطلين والانتهازيين.
(وَلا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمل بوجهك عنهم تكبرا ، بل أقبل عليهم ، وتواضع لهم ..
وفي نهج البلاغة : لا وحدة أوحش من العجب ، ولا حسب كالتواضع (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً
إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) .. بعد أن نهى عن مشي المرح بيّن معناه بأنه المشي باختيال
وفخر ، والاختيال هو الزهو ، والفخر هو المباهاة ، ولا شيء أدل على الجهل والنقص
من هذه الصفات.
(وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ) لا تبطئ ، ولا تسرع ، واتخذ بين ذلك سبيلا (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). وأنكرها أوحشها وأقبحها ، وفيه إيماء الى ان رفع الصوت
أكثر مما تدعو الحاجة اليه ـ يدل على البلادة ، ومثله الإخفات المخل ، ومن أخذ
بالقصد والاعتدال فقد عرف السبيل ، وانما يحسن الكلام مع القصد في الصوت إذا كان
في موضعه ، والا فالسكوت أجمل وأكمل ، ومما جاء في وصف لقمان انه كان يسمع كثيرا ويتكلم
قليلا ، فإذا تكلم جاءت كلمته كالدرة بين الحصى. وإلى مثلها ينبغي السكوت والإصغاء
، وفي بعض الروايات : ان الصمت باب من أبواب الحكمة. أي من الحكمة السكوت والإصغاء
للحكمة ، أما قول من قال : إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب فمعناه السكوت عن
الباطل والفضول ، وإلا فان كلمة الحق نور وجهاد بخاصة إذا كانت ضد الظلم والجور ،
وفي الحديث : الساكت عن الحق شيطان أخرس.
فقد استمسك بالعروة الوثقى الأة ٢٠ ـ ٢٨ :
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ
نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ
الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ
إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى
اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ
(٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ
أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))
اللغة :
أسبغ أتم. ويسلم
وجهه لله كناية عن الإخلاص له. والعروة من الدلو ما
يمسك به القابض ،
ومن الثوب مدخل الزر. والوثقى مؤنث الأوثق ، وهو الأشد والأحكم. وذات الصدور
القلوب والضمائر.
الإعراب :
ظاهرة وباطنة حال
من نعم الله. أولو الهمزة للإنكار والواو للعطف ولو للامتناع ، وجوابها محذوف
والتقدير لاتبعوهم ، وضمير الجمع يعود للآباء. وجملة وهو محسن حال ، وجملة فقد
استمسك خبر من يسلم. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي تمتعا قليلا.
المعنى :
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً). ان نعم الله كما وصفها سبحانه بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها) ـ ٣٤ ابراهيم ج ٤
ص ٤٤٨. ومن يحصي ويحيط بما في السموات والأرض غير خالق السموات والأرض؟ ومثّل
المفسرون للنعم الظاهرة بما تدركه الحواس ، وللباطنة بقوى النفس وغرائزها. وقال
الملا صدرا في المجلد الثالث من أسفاره :
«ان أفاضل البشر
عاجزون عن إدراك الأمور السماوية والأرضية على وجهها ، وعن الاحاطة بما فيها من
الحكمة والعناية ، بل الأكثرون لا يعرفون حقيقة النفس التي هي ذات الشخص وتفاصيل
أحوالها ، وما خفي على ذوي الاختصاص أكثر مما ظهر لهم ، وإذا كانت احاطة الإنسان
بنفسه وبدنه متعذرة فكيف يحيط بالعالم الجسماني والروحاني ، وما لنا مع هذا العجز إلا
أن نتأمل ونتفكر في عجائب الخلقة وبدائع الفطرة».
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ). جمعت هذه الآية على إيجازها بين أسباب المعرفة الثلاثة :
الأول الحس والتجربة ، وإليه الاشارة بالعلم ، والثاني العقل ، وهو المراد من
الهدى ، والثالث الوحي الذي
عبر عنه ، جلت
عظمته ، بالكتاب المنير. وتقدمت هذه الآية بنصها الحرفي في سورة الحج الآية ٣ و ٨ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ
الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). تقدم في الآية ١٧٠ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥٩.
من هو المستمسك بالعروة الوثقى؟
(وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى
وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). العروة الوثقى الطرف القوي الذي لا ينقطع ، وهو كناية عن
القرآن وعن حبل الله ومرضاته ، وما إلى ذلك مما يكون معه الإنسان آمنا من عذاب
الله وغضبه .. وكل من اجتمع له وصفان فقد أخذ بهذا الطرف القوي الأمين : الأول أن
يؤمن بالله ، ويفعل ما أمره به من العبادة كالصوم والصلاة ، ويترك ما نهاه عنه
كالزنا والكذب والخمر. الثاني : أن يكون محسنا ، والمحسن هو الذي يتعدى إحسانه إلى
الآخرين ، ولا يقف عند الإحسان لنفسه وذويه ، فيشارك الناس في آلامهم ، ويعمل
لخلاص المظلومين والمحرومين ، ومن أجل الحق والعدل أينما كان ويكون ، وبالايجاز ان
المحسن تماما كالماء الطهور طاهر بنفسه ، مطهر لغيره.
وبهذا يتبين معنا
ان الآمنين من غضب الله وعذابه هم المؤمنون المحسنون ، أما من آمن بالله وتعبد له
ولم يحسن الى الآخرين بالتعاون معهم على ما فيه خير الجميع ، أو أحسن ولم يؤمن
بالله ، أما هذا وذاك فلا أمان لهما من عذاب الله وغضبه لأنهما لم يستمسكا بالعروة
الوثقى .. وفي ذلك كثير من الأحاديث منها : «من لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم
.. لا يصدق ايمان العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .. أحب الناس الى الله أنفعهم
للناس». وكفى بقول الرسول الأعظم (ص) : «اني بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وقوله:
«أنا رحمة مهداة» كفى بهذا شاهدا على ان رسالة الإسلام هي رسالة الانسانية .. ومن
خلالها حدد بعض العارفين المسلم بأنه «انسان ممتد بمنافعه في معناه الاجتماعي حول
أمته كلها لا انسان ضيق حول نفسه بهذه المنافع».
(وَمَنْ كَفَرَ فَلا
يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ
اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). علام تحزن وتتألم يا محمد لكفر من كفر ، وقد بلّغت وأنذرت
وأديت الرسالة كاملة؟ فدع المجرمين ودنياهم ، فنحن أعلم بهم ، إلينا مصيرهم وعلينا
حسابهم (نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ما هي إلا أيام يلعبون بها وتلعب بهم ، ثم يحيط بهم العذاب
الشديد من حيث لا يشعرون. وتقدم في مثله أكثر من آية ، منها الآية ١٧٦ من سورة آل
عمران ج ٢ ص ٢٠٩.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). تقدم مثله في الآية ٨٤ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٨٣ والآية
٦١ من سورة العنكبوت (لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) له وحده الملك والحمد ، ولا غني إلا من استغنى به.
(وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). سبعة أبحر كناية عن الكثرة ، والمراد بكلمات الله قدرته
تعالى على إيجاد الكائنات متى شاء ، والمعنى لو فرض ان البحر مداد ، والأشجار
أقلام تكتب قدرة الله على إيجاد ما يشاء لانتهت البحار والأقلام وبقيت قدرة الله
الى ما لا نهاية .. وبكلمة ان الحد لقدرة الله ان لا حد لها. وتقدم مثله في الآية
١١٠ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٦٦.
وقال ابن عربي في
المجلد الرابع من الفتوحات المكية : «البحار والأقلام من جملة الكلمات ، فلو كانت
البحار مدادا ما انكتب بها سوى عينها ، وبقيت الأقلام والكلمات الحاصلة في الوجود
ما لها ما تكتب به مع تناهيها بدخولها في الوجود ، فكيف بما لم يحصره الوجود من
شخصيات الممكنات». يريد لو كانت البحار حبرا ، وأردنا أن نكتب عن العجائب والأسرار
التي أودعها الله في البحار فقط لنفدت البحار بنفاد الكتابة عن عجائبها وأسرارها ،
وإذا نفد الحبر بنفاد البحار تعطلت الأقلام عن الكتابة ، وعليه تظل بقية الكائنات
الموجودة بلا كتابة عنها .. هذا بالنسبة الى ما هو موجود بالفعل ، فكيف بما يدخل
تحت قدرة الله من الكائنات التي يوجدها بكلمة «كن» متى يشاء؟
(ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). كل قادر غير
الله يقدر على شيء
، ويعجز عن أشياء ، والشيء الذي يقدر عليه منه ما لا يحتاج إلى جهد ، ومنه ما
يحتاج إلى جهد يسير ، ومنه ما يحتاج إلى جهد كثير ..
والله قادر على كل
شيء ، ويتساوى عند قدرته الخطير والحقير ، وعليه يكون خلق الناس جميعا تماما كخلق
واحد منهم ، وكذلك بعثهم للحساب والجزاء. قال الإمام علي (ع): «لا شيء إلا الواحد
القهار الذي اليه مصير جميع الأمور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع
منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع دام بقاؤها ، لم يتكاءده ـ أي لم يشق
عليه ـ صنع شيء منها إذ صنعه ، ولم يؤده ـ أي لم يثقله ـ منها خلق ما خلقه وبرأه».
يولج الليل في النهار الأة ٢٩ ـ ٣٢ :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ
ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
(٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ
لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))
اللغة :
الظلل جمع ظلة ،
وهي ما يظللك ويعلوك من كل شيء ، والمراد هنا ان الموج ارتفع فوق من في السفينة.
والختّار الغدّار مبالغة في الغدر.
الاعراب :
مخلصين حال من
فاعل دعوا. ونقل ابن هشام في كتاب المغني عن ابن مالك ان (لمّا) هنا بمعنى إذا ،
بدليل دخول الفاء على جوابها.
المعنى :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ). تقدم في الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ والآية ٦١ من
سورة الحج (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ). تقدم في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ). تقدم بالحرف الواحد في الآية ٦٢ من سورة الحج.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ). من نعم الله تيسير المواصلات ، ومن وسائلها الفلك ، وهي
تحتاج الى الماء والريح والسماء ، وهذه الأسباب وما اليها تنتهي اليه تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ) يصبر على التأمل والنظر إلى عجائب الله في خلقه ، ويشكره
على آلائه.
(وَإِذا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ
خَتَّارٍ كَفُورٍ). قال بعض المفسرين : المراد بالمقتصد هنا من أضمر الكفر.
وقال الرازي : هو من اقتصد في الكفر. والصواب ان المراد به المعتدل الذي لم يظلم
نفسه بتعريضها لعذاب الله وغضبه ، ولم يكن من السابقين إلى الخيرات. قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) ـ ٣٢ فاطر. أما
الختار فهو شديد الغدر ، والمراد به هنا من نقض عهد الفطرة التي ولد عليها كل
مولود. وتقدم مثله في الآية ٢٢ من سورة يونس ج ٢ ص ١٤٧ والآية ٦٥ من سورة
العنكبوت.
ان الله عنده علم الساعة الأة ٣٣ ـ ٣٤ :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣)
إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي
الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))
اللغة :
جاز مغن. وكل ما
غرك فهو غرور إنسانا كان أو غير انسان.
الإعراب :
يوما مفعول به لا
خشوا. ولا مولود عطف على والد ، ويجوز أن يكون مبتدأ أول «وهو» مبتدأ ثان وجاز خبر
الثاني والثاني وخبره خبر الأول. وشيئا مفعول جاز.
المعنى :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). أمر سبحانه بالتقوى لأنها سبيل النجاة من يوم يفر فيه
المرء من بنيه وأمه وأبيه .. وهذا اليوم آت لا محالة ، والمخدوع من اغتر بالأباطيل
والأكاذيب.
لماذا خلق الله الإنسان؟
قرأت لكاتب يقول :
«من الأسئلة التي لا جواب لها هذا السؤال : لما ذا خلق الله الإنسان؟». وما من شك
ان كل واحد يتمنى لو عرف الجواب عن هذا السؤال لأنه يرتبط ارتباطا طبيعيا ومباشرا
بوجوده وحقيقته ، ولا أخفي سرا كان في نفسي ، وهو اني قرأت أجوبة كثيرة عن هذا
السؤال للفلاسفة وعلماء الكلام وغيرهم من القدامى والجدد ، ولكني لم اقتنع بشيء
منها بيني وبين نفسي .. مع ان هذا السؤال قد وجه إليّ أكثر من مرة ، وأجبت عنه بما
أجابوا لا لشيء إلا لأني لا أملك غير ما قالوا ، والا لأني أريد أن أجيب.
وحين باشرت بتفسير
آي الذكر الحكيم نسيت السؤال وما كنت أحفظ من جوابهم لأن «التفسير الكاشف» أفقدني
كل شيء حتى ذاكرتي ، ولم يدع لي إلا البصيرة التي أهتدي بها إلى معاني كتاب الله
وأهدافه وربطها بواقع الحياة .. وما مضيت في التفسير إلا قليلا حتى وجدت الجواب في
آيات الله واضحا لا يقبل الشك والتأويل .. ولا بدع فان خالق الشيء هو أعلم بما
أراد من خلقه .. وجدت في كتاب الله آيات تدل دلالة واضحة على ان الإنسان خلق
للآخرة لا للدنيا ، لحياة طيبة لا مشاكل فيها ولا تعقيد.
ولكن شاءت حكمة
الخالق ان يربط بين الحياة الطيبة في الآخرة التي خلق الإنسان من أجلها ؛ وبين صدق
الايمان بالحق والإخلاص له والعمل لحمايته ، كما قضت حكمته تعالى ان من لا يؤمن
بهذا الارتباط ، أو يؤمن به نظريا ولا يعمل له ـ أن يحاسبه حسابا عسيرا ، ويعذبه
عذابا أليما لأنه جهل أو تجاهل الغاية التي من أجلها وجد ، وتنكب عن الطريق السوي
بسوء اختياره بعد أن أرشده الله اليه ، وأمره بسلوكه .. وبكلام آخر ان حياة
الإنسان في واقعها باقية ببقاء خالقها ، وإنما وضعه تعالى في دار الدنيا مؤقتا
والى حين ، ثم ينتقل به إلى دار القرار ، وأمره أن يعمل للدارين معا ، ويحتاط لما
يمكن أن يقع له في الدار الأولى ، ولما هو واقع لا محالة في الدار الثانية ، فإن
امتثل وأطاع فقد اختار لنفسه الأمن والفلاح تماما كمن سافر ، وهو مزوّد بما يحتاج
اليه في سفره ، ومن أعرض
وتولى فقد اختار
لها شر العواقب كمن سافر إلى بلد بعيد وغريب على غير زاد ، وشيء من الاستعداد .
والآن نذكر طرفا
من الآيات التي دلت على ان الغاية من خلق الإنسان هي الحياة الثانية ، وهذه الآيات
على أنواع :
«منها» ما تصف
الدنيا باللهو واللعب ومتاع الغرور ، وبالزوال والفناء ، وبالهشيم والتفاخر
والتكاثر ، وتصف الآخرة بدار الله والخير والحيوان والرضوان ، فكيف يخلق سبحانه
الإنسان ، ويودع فيه من الأسرار والطاقات ما يخلق الحضارات ، ويغير تاريخ الإنسان
والأرض والسماء ، كيف يخلق هذا الكائن العجيب للهو ومتاع الغرور ولحياة أشبه
بالأحلام ، وهو القائل : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ) ـ ٧٠ الإسراء. ولا
شيء يناسب الكرامة الانسانية ، والحكمة الإلهية إلا الحياة الباقية ببقاء خالقها.
و «منها» الآيات
الدالة على ان الله سبحانه يبتلي الإنسان ويمتحنه ـ وهو أعلم به ـ ليكشف الستار عن
دخيلته وحقيقته ، وتظهر أفعاله التي يستحق بها الثواب والعقاب في الآخرة ، ومن هذه
الآيات قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ
ـ أي
لإبليس ـ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ـ ٢١ سبأ وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ
زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ـ ٧ الكهف. وليس
القصد مجرد الإعلان والاظهار .. كلا ، بل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ـ ٣١ النجم. وبما
ان هذا الجزاء لم يتحقق في الدنيا فتعين أن يكون في اليوم الآخر ، وإلا كان وعد
الله تهويلا .. تعالى الله عما يقول الجاهلون.
و «منها» الآيات
الدالة على خلود من آمن وأحسن في الجنة ، وخلود من كفر وأساء في النار.
وتسأل : وما ذا
تصنع بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ـ ٥٦ الذاريات حيث
دل بصراحة على ان الغاية من خلق الإنسان ان يعبد الله
__________________
في الحياة الدنيا
، لا أن يحيا حياة طيبة دائمة في الآخرة؟
الجواب : المراد
بالعبادة هنا كل عمل يرضي الله تعالى ، ويتقرب به اليه ، وليس من شك ان مرضاة الله
هي السبيل الوحيد للحياة الطيبة الدائمة ، وعليه يكون المعنى ما خلقت الجن والانس
إلا ليعملوا عملا صالحا يحيون بسببه حياة طيبة دائمة في الآخرة ، وبكلام آخر ان
قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) يرادف قوله : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ـ ٢٣ الإسراء
وقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ـ ٥ البينة.
ونتيجة الإخلاص في الدين حياة دائمة ، وجنة قائمة.
أما الآيات التي
أناطت نعيم الآخرة بعمل الخير والصلاح في الحياة الدنيا ، وأناطت عذاب الآخرة بعمل
الشر والفساد في الأرض فهي تعد بالعشرات ، منها الآية ٧٢ من سورة الإسراء : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ
فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ومنها الآية ١٤٢ من سورة آل عمران : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ). والمراد بالجهاد هنا الجهاد لحماية الحق وأهله ،
والاستشهاد في سبيل الله ، والمراد بالصبر الثبات ضد المبطلين والمعتدين .. لا صبر
الذين يستسلمون لقوى الشر والبغي ، وعلى الذل والفقر.
ومتى تبين معنا ان
الغاية من خلق الإنسان هي الحياة الباقية ، وان نعيمها منوط بعمل الخير والصلاح في
الحياة الدنيا ، وجحيمها منوط بعمل الشر والفساد في الأرض ، إذا تبين معنا هذا
أدركنا ان أي تفسير للغاية من خلق الإنسان لا يعكس هذه الحقيقة فهو بعيد عن الصواب
والواقع ، وكفى دليلا على ذلك قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ـ ١١٥ المؤمنون أي
لو لم يخلق الله الإنسان للآخرة لكان الله عابثا جلت حكمته.
علم الساعة والغيث وما في الأرحام :
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما
تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). وتسأل : ان معلومات الله سبحانه لا يبلغها الإحصاء ، كما
قال في الآية ٣ من سورة سبأ :
(عالِمِ الْغَيْبِ لا
يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) والآية : (وَيَعْلَمُ ما فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ
فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ـ ٥٩ الانعام وقال
الإمام علي (ع) : ان الله يعلم مسقط القطرة ومقرها ومسحب الذرة ومجرّها ، وما يكفي
البعوضة من قوتها. فلما ذا خص سبحانه هذه الأشياء بالذكر؟
وقيل في الجواب :
ان سائلا سأل النبي (ص) عن هذه الأشياء فنزلت الآية. وقال الرازي : لما ذكر سبحانه
يوم القيامة ناسب أن يذكر هذه الأشياء. وقلنا نحن أكثر من مرة : ان القرآن كتاب
دين وهداية ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن. قال الإمام جعفر الصادق (ع) : ان الآية
يكون أولها في شيء وآخرها في شيء آخر ، وهو كلام متصل ينصرف بعضه إلى وجوه ..
ومهما يكن فقد تضمنت الآية خمسة أشياء ، وهي :
١ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)
(لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ـ ١٨٦ الأعراف ،
والحكمة في ذلك أن يكون الناس على حذر وتوقع دائم فيحتاطوا لمواجهة الاحتمالات.
٢ ـ (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) قال كثير من المفسرين : ان المراد ب «ينزل الغيث» ان العلم
بنزوله مختص بالله وحده .. والصواب ان تؤخذ كلمة «ينزل» على ظاهرها أي ان القدرة
على انزال الغيث تختص بالله لأن أسبابه الكونية تنتهي اليه تعالى .. وهذا لا يمنع
أبدا ان يعلم الإنسان وقت نزول المطر عند ظهور دلائله .. ولو سلمنا ـ جدلا ـ بأن
المراد من «ينزل» العلم فنقول : ان الإنسان يعلم وقت نزول المطر حين تظهر دلائله
وعلاماته ، ولكن لا يعلم متى تظهر هذه الدلائل والعلامات إلا الله وحده.
وتسأل : ان
العلماء ينزلون المطر الصناعي ، وعليه فلا يختص إنزاله بالله وحده؟ الجواب : ان
العلماء يحولون السحاب الموجود إلى مطر ، والله يكوّن السحاب ويوجده ، ثم يسوقه من
بلد الى البلد الذي يشاء ، والفرق بعيد بين إيجاد الشيء وبين تحويل الشيء الموجود
الى شيء آخر.
٣ ـ (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ). وتسأل : ان العلم الحديث يعلم أيضا بواسطة الأشعة ما في
الأرحام من ذكر أو أنثى؟
الجواب : ان
الأشعة تعكس المادة الموجودة بالفعل ، أما غيرها من الصفات
والغرائز التي
سيكون عليها الحمل في المستقبل كالحسن أو القبح ، والذكاء أو البلادة ، وما إلى
ذلك ، أما هذه فعلمها عند الله وحده ، قال الإمام علي (ع) : «يعلم سبحانه ما في
الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو حسن ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون
في النار حطبا ، أو في الجنان للنبيين مرافقا».
٤ ـ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ
غَداً) لأن كل يوم هو في شأن ، وقد أثبتت الأيام نظرية الفيلسوف
اليوناني هرقليطس الذي قال : «انك لا تنزل النهر الواحد مرتين» يشير الى ان جميع
المظاهر الكونية والاجتماعية تتغير بين لحظة ولحظة من حال إلى حال ، وعليه يتعذر
العلم بما يحدث للإنسان في مستقبله.
٥ ـ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ولا بأي زمن أيضا لأن الموت لا ضابط له ، فقد يأخذ الطفل
الصغير والشاب المعافى ، ويترك العليل والشيخ الكبير.
سورة السّجدة
عدد آياتها ٣٠ ،
قال صاحب مجمع البيان : هي مكيّة ما خلا ثلاث آيات فإنها مدينية ، ابتداء من قوله
تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون : إلى تمام الآيات الثلاث.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الذي أحسن كل شيء خلقه الأة ١ ـ ٩ :
(الم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ
بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ
مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))
اللغة :
يعرج يصعد. ومهين
ضعيف والمراد به المني.
الإعراب :
تنزيل خبر لمبتدأ
محذوف أي هذا تنزيل ، وقال أبو حيان الأندلسي : تنزيل مبتدأ ، ومن رب العالمين خبر
، ولا ريب فيه جملة معترضة. أم يقولون (أم) منقطعة بمعنى بل والهمزة. ومن ربك
والمصدر من لتنذر يتعلقان بمحذوف حالا من الحق. من ولي (من) زائدة اعرابا وولي
مبتدأ ومن دونه حال من ولي ولكم خبر لولي. والذي أحسن خبر بعد خبر لذلك أو خبر
لمبتدأ محذوف أي هو الذي أحسن. وخلقه الجملة صفة لكل شيء. وقليلا صفة لمفعول مطلق
محذوف وما زائدة أي شكرا قليلا تشكرون.
المعنى :
(الم) أنظر أول
سورة البقرة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ
لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). لا شك في صدق القرآن وانه من وحي السماء لا من صنع
الإنسان .. وقدمنا على ذلك العديد من الشواهد. أنظر ج ١ ص ٦٥ وج ٢ ص ٣٨٩ وج ٥
تفسير الآية ٥٥ من سورة النور.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). قال المترفون المستغلون من عتاة قريش : القرآن من نسج
محمد (ص) .. فقال سبحانه ردا عليهم : كلا ، انه من وحي الله ، وقد أتاكم بما لم
يأتكم به أحد من قبل ولا يأتكم به أحد من بعد ، جاءكم بخير الدنيا والآخرة ،
ونهاكم عما أنتم فيه من البغي والفساد لتتعظوا وتنتهوا قبل أن تدور على رؤوسكم
دائرة السوء ، وكان المفروض أن تشكروا محمدا (ص) على هذا الفضل بدل أن تضمروا له
العداء ، وتنسبوه إلى الكذب والافتراء.
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ). ستة أيام كناية عن الدفعات أو الأطوار ، والمراد بالعرش
الاستيلاء. وتقدم مثله في الآية ٥٤ من سورة الأعراف و ٣ من سورة يونس و ٥٩ من سورة
الفرقان. وفي ج ٣ ص ٣٣٨ ذكرنا الأقوال حول الأيام الستة ورأينا فيها.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). المراد ب «يدبر الأمر» ان الله سبحانه خلق الكون ، ومنح
كل مخلوق من الصفات ما تستدعيه الحكمة والعناية الإلهية ، وأوجب على من منحه
القدرة والإدراك ان يلتزم الطريق الذي أرشده اليه. والمراد ب (يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ) ان أعمال الخلائق ترفع اليه يوم القيامة. وألف سنة كناية
عن تطاول الزمن ، والمعنى ان الخلائق مشمولة بتدبير الله وعنايته ، فهو سبحانه
أوجدها وأتقنها (الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ـ ٥٠ طه وهو
يفنيها ويعيدها ، واليه ترفع الأعمال في يوم هو أطول وأثقل يوم على العصاة
والمجرمين.
(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). ان خالق كل شيء ، والقائم على كل شيء هو العالم بما كان
ويكون كبيرا أو صغيرا ، ظاهرا للعيان أو خفيا عنها ، والعزيز بقدرته وسلطانه ،
والرحيم بخلقه وعباده (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ). كل مخلوق وجد على النظام الأتم فهو حسن ومتقن يدل على
قدرة الصانع وعظمته ، وما من شيء في الوجود إلا وترى فيه النظام والتناسق الذي يدل
على العليم الحكيم : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) ـ ٤ الملك.
(وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ). المراد بالإنسان هنا أبو البشر آدم (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ). نسله ذريته ، وسلالة لانسلاله من صلبه ، والماء المهين
المنيّ (ثم سواه) في أحسن تقويم (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ) هذا كناية عن الحياة. وتقدم مثله في الآية ٢ من سورة
الأنعام ج ٣ ص ١٥٨ والآية ١٢ من سورة «المؤمنون». (وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). تقدم في الآية ٧٨ من سورة «المؤمنون». ولا تقلّ نعمة
البيان عن نعمة السمع
والبصر والإدراك ،
أما شهوة الغذاء فهي لحفظ الحياة ، وشهوة الجنس لبقاء النوع ، وما من غريزة في
الإنسان إلا ولها فائدة وحكمة.
المجرمون ناكسو رؤوسهم الأة ١٠ ـ ١٤ :
(وَقالُوا أَإِذا
ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ
كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا
رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ
صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها
وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))
اللغة :
للضلال معان ،
منها ضد الهداية ، والموت ، والغياب ، وهو المراد بضللنا في الأرض أي غبنا فيها.
والنكس قلب الشيء على رأسه وجعل أعلاه أسفله. ونسيناكم أهملناكم.
الإعراب :
نقل أبو حيان
الأندلسي عن سيبويه ان (لو) في قوله تعالى (وَلَوْ تَرى)
هي لوقوع شيء في
المستقبل عند وقوع شيء آخر. وأجمعين توكيد للناس. وجملة فذوقوا مفعول لقول محذوف
أي يقال لهم : فذوقوا. وهذا عطف بيان من يومكم.
المعنى :
(وَقالُوا أَإِذا
ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). هذا مثل قولهم : (أَإِذا كُنَّا
تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ـ ٥ الرعد ج ٤ ص
٣٧٨ (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ
رَبِّهِمْ كافِرُونَ).
وتسأل : لقد أعلن
المشركون كفرهم بلقاء الله صراحة ، فما هو وجه الاضراب في قوله تعالى : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ)؟ وهل هو إلا كقولنا : أنت كافر لمن أعلن الكفر؟
الجواب : المراد
انهم لم يكفروا باليوم الآخر عن علم ، بل عن جهل وتقليد ، فهو تماما كقولنا لمن
أعلن الكفر : أنت جاهل.
(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). قل يا محمد للذين كفروا باليوم الآخر : أنتم ميتون ما في
ذلك ريب ، وبعد الموت تنكشف لكم الحقيقة ، وتعلمون ان الساعة آتية لا ريب ، وان
الله يبعث من في القبور.
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). أنكروا البعث ، وسخروا ممن آمن به ودعاهم إلى العمل له ،
وحذرهم من عواقبه .. ولما بعثوا ووقفوا بين يدي الله للحساب طأطئوا رؤوسهم حياء
وندما وقالوا : (رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ). تقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٧٨ والآية
١٠٠ من سورة «المؤمنون».
(وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها). قال الرازي : «هذا صريح في ان مذهبنا صحيح حيث نقول : ان
الله ما أراد الايمان من الكافر ، وما شاء منه إلا الكفر».
ونقول للرازي :
إذا كان الله هو الذي أراد الكفر من الكافر ولا رادّ لمشيئته فعلى أي شيء يعذبه
ويعاقبه؟ كيف وهو القائل : (وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ـ ٧٦ الزخرف.
والصحيح ان المراد بمشيئة الله هنا المشيئة التكوينية التي هي عبارة عن كلمة «كن».
وعليه يكون المعنى لو أراد الله إلجاءهم الى الهداية لاهتدوا .. ولو فعل ذلك لبطل
الثواب والعقاب ، ولم تلزم الأسماء معانيها. وتقدم ذلك أكثر من مرة. انظر ج ٣ ص
٦٩.
(وَلكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). لقد حق القول من الله تعالى أن يملأ جهنم من الذين أفسدوا
وتمادوا في الغي بملء اختيارهم وإرادتهم ، أما الذين استجابوا لربهم فلهم مغفرة
وأجر كريم. وفي الحديث القدسي : خلقت الجنة لمن أطاعني ولو كان عبدا حبشيا ،
والنار لمن عصاني ولو كان سيدا قرشيا.
(فَذُوقُوا بِما
نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ما انقاد أحد لأهوائه وشهواته إلا ونسي الله والحساب ،
وكفر بالحق والضمير .. وغدا تقول ملائكة العذاب لهذا المجرم : سكرت بحلاوة الدنيا
فذق الآن مرارة الآخرة. وتقدم مثله في الآية ٥١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٦ والآية
٦٧ من سورة التوبة ج ٤ ص ٦٧.
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا الأة ١٥ ـ ٢٢ :
(إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ
كانَ
فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا
الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ
الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ
(٢٢))
اللغة :
تتجافى تبتعد من
الجفاء. والمضاجع جمع مضجع وهو فراش النوم. والمأوى ما تأوي اليه. والمراد بالنزل
هنا العطاء. والمراد بالعذاب الأدنى عذاب الدنيا ، وبالعذاب الأكبر عذاب الآخرة.
الإعراب :
سجّدا حال من فاعل
خرّوا. وخوفا وطمعا وجزاء مفعول من أجله. أفمن (من) مبتدأ وكمن خبر. ولا يستوون
الجملة مستأنفة. ونزلا حال أو مفعول مطلق.
المعنى :
(إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ). المراد بالمؤمنين هنا الذين يعرفون الحق ، ويعملون به ،
ويضحون من أجله ،
ويعبدون الله في
ليلهم ونهارهم ثقة به وإخلاصا له وحده لا شريك له ، أما التسبيح والركوع والسجود
بدافع الكسب والتجارة بالدين فهو نفاق لا عبادة ، وزندقة لا ايمان (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ان المؤمنين يرحبون بالحق ، ويتخلون من أجله عن مصالحهم
الشخصية لأنه هو دينهم ومصلحتهم. ويجب أن يسجد لله من قرأ هذه الآية أو استمع
اليها ، وقيل : من سمعها أيضا من غير قصد.
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً). المضاجع كناية عن النوم. وإذا عطفنا هذه الآية على قوله
تعالى : (رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) ـ ٣٧ النور وجمعنا
الآيتين في كلام واحد يكون المعنى ان المؤمنين لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا نوم عن
عبادة الله التي تعكس خوفهم من عذابه ، وطمعهم بثوابه. وهذه العبادة هي التي عناها
الله بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وفي الحديث : «ان قيام العبد قربة إلى الله ، ومنهاة عن
الإثم ، وتكفير للسيئات ، ومطردة للداء عن الجسد». أما صلاة التجار المراءين ،
فإنها تأمر بالفحشاء والمنكر لأن السيئة تقود إلى مثلها ، وكذلك الحسنة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) عبدوا الله بالقلوب والأجسام والأموال.
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). المراد بالنفس أية نفس كانت وتكون في الأرض أو في السماء
، والمعنى لا أحد يعلم حقيقة ما أعد الله للمؤمنين العاملين من الأجر والثواب الذي
يغتبطون به ويفرحون. وفي الحديث الصحيح : «يقول الله تعالى : أعددت لعبادي
الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما اطلعتكم
عليه ، اقرأوا ان شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين».
(أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ). جاء في كثير من التفاسير ، منها جامع البيان للطبري ،
والبحر المحيط للأندلسي ، وروح البيان لحقي : ان هذه الآية نزلت بالمدينة في علي
بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ونختار النص الذي جاء في تفسير الطبري
: «كان بين الوليد وبين علي كلام ، فقال الوليد : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك
سنانا ، وأرد منك لكتيبة. فقال علي : اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله فيهما (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ
فاسِقاً
لا
يَسْتَوُونَ) .. لا والله ، ما استووا في الدنيا ، ولا عند الموت ، ولا
في الآخرة».
(أَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ). هذا بيان للفرق بين المؤمنين الأتقياء والمجرمين الأشقياء
، وانه تماما كالفرق بين الطيب والخبيث ، والخير والشر ، والجنة التي أعدها الله
للمتقين ، والنار التي أعدها للمجرمين (وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها
أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ) للمؤمنين جنات النعيم ، وللفاسقين نار الجحيم ، وتقدم مثله
في الآية ٢٢ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٢٠.
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). المراد بالعذاب الأدنى عذاب الدنيا كالقحط والوباء وما
اليهما ، ينذر الله به وبالحجج البالغة الغافلين والمتشاغلين بالباطل عن الحق
ليتعظوا ويرتدعوا ، وإلا أخذهم بالعذاب الأكبر : (جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) ـ ٦٨ التوبة. وتجدر
الاشارة إلى ان القادة والولاة هم المصدر الأول للفساد والشقاء ، وفي بعض الروايات
: إذا كذب الولاة حبس المطر ، وإذا جار السلطان هانت الدولة.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ). من رأى العظة ولم يتعظ فهو أعظم جرما من كل مجرم ، وقد
وعظهم الله سبحانه بلسان أنبيائه ، ثم بالبأساء والضراء ، فقست قلوبهم وتمادوا في
الظلم والفساد ، فانتقم الله منهم ، والله عزيز ذو انتقام.
فلا تكن في مرية من لقائه الأة ٢٣ ـ ٣٠ :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا
لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما
كانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا
يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ
الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا
يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))
اللغة :
الأرض الجرز هي
اليابسة التي لا نبات فيها من العطش. ويوم الفتح هو يوم الفصل والحكم بالحق ،
والمراد به يوم القيامة ، قال تعالى : (قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) ـ ٢٦ سبأ أي يحكم
بيننا بالحق.
الإعراب :
فاعل يهد محذوف أي
أو لم يهد الله لهم. ومحل كم النصب بأهلكنا. والزرع مصدر والمراد به اسم المفعول
أي مزروع.
المعنى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ). قال كثير من المفسرين : ان الهاء في لقائه يعود إلى موسى
، وان محمدا
يلتقي به في
السماء ليلة المعراج .. والصواب ان الهاء تعود إلى القرآن وان النبي يتلقاه من
الله لا من سواه ، قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) ـ ٦ النمل. وفي
كتب اللغة : تلقى الشيء بمعنى لقيه ، واستقبله ، وعليه يكون معنى الآية لقد أنزلنا
اليك القرآن يا محمد كما أنزلنا التوراة على موسى ، ولا ينبغي الشك في ذلك منك ولا
من غيرك. أما نهي النبي عن الشك فقد تكلمنا عنه مرارا. انظر ج ٢ ص ٧٥.
(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ). المراد بالأئمة هنا أنبياء بني إسرائيل كموسى وعيسى الذي
ينتهي نسب أمه الى داود .. وكل نبي اسرائيلي كان يلاقي من قومه ألوانا من الأذى
والعناء ، بل قتل الاسرائيليون العديد من أنبيائهم : (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ـ ٦١ البقرة. ومع
هذا صبروا واستمروا في تأدية رسالتهم ، فاصبر أنت يا محمد على أذى قومك ، واستمر
في دعوتك (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). تقدم في الآية ١١٣ من سورة البقرة والآية ٩٣ من سورة يونس
والآية ١٢٤ من سورة النحل.
(أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ). تقدم مثله في الآية ١٢٨ من سورة طه ج ٥ ص ٢٥٣ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ
الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ
ـ اليابسة ـ
فَنُخْرِجُ
بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) كيف أحيا الله الأرض بعد موتها ، وأنبت فيها من كل زوج
بهيج يأكل منه الناس والانعام؟ كذلك يحيي الله الموتى بعد أن تصبح ترابا وعظاما ..
وتقدم هذا المعنى في العديد من الآيات. انظر تفسير الآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص
٣١١.
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). هذا مثل : (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ٣٨ الأنبياء لأن
المراد بالفتح هنا اليوم الذي يحكم فيه بالحق ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) وعاندوا الحق في الحياة الدنيا (ايمانهم) في الآخرة حين
يرون العذاب لأن هذا فرار من حريق الجحيم ، وليس إيمانا من القلب وإيقانا من العقل
(وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) لا يمهلهم الله يوم القيامة لأنه أمهلهم في الدنيا طويلا
فلم يبادروا الى التوبة ويغتنموا الفرصة قبل فواتها (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ). انهم يتربصون بك يا محمد ريب المنون .. فدعهم وشأنهم ،
واصبر قليلا لترى حكم الله فيك وفيهم .. انه ناصرك ومخزيهم : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ) ـ ٣٣ التوبة.
سورة الأحزاب
مدنية وآياتها ٧٣.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أيها النبي اتق الله الأة ١ ـ ٣ :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ
اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً (٣))
المعنى :
أمر سبحانه في هذه
الآيات نبيه الكريم ، أمره بالتقوى والتوكل عليه والعمل بما أوحاه اليه ، ونهاه عن
طاعة الكافرين والمنافقين .. وتساءل المفسرون : ان النبي معصوم ، فما هو المبرر
لأمره بالطاعة ، ونهيه عن المعصية؟
وأجاب بعضهم بأن
هذا تأكيد لما عليه النبي (ص) من الطاعة والانقياد. وقال آخر : ان أبا سفيان طلب
من رسول الله (ص) أن يكف عن سب الأصنام التي تعبدها قريش ، وكان مع أبي سفيان
جماعة من الكافرين والمنافقين ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) وقلنا نحن فيما تقدم : ان للأعلى أن يأمر بالطاعة ، وينهى
عن المعصية من هو دونه حتى ولو كان معصوما ؛ والآن نعطف على قولنا هذا ما يلي :
لا شيء أثقل على
من لا يخشى الله من كلمة : «اتق الله» ولا عدو له أعدى وألد من قائلها .. نقل عن
عبد الملك بن مروان انه حين تولى الملك قال في خطبة العرش : «من قال لي بعد اليوم
: اتق الله ضربت عنقه». أما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فهي عنده كلمة
الحب والإشفاق ، ويتمنى لو سمعها في كل حين ، حتى ولو كان معصوما من الخطايا
والذنوب ، بل ان حبه لها ولسماعها من عصمته وعظمته .. ان العظيم يتهم نفسه
بالتقصير مهما اجتهد .. اذن ، لا داعي للتأويل والتخريج .. هذا الى ان في أمر سيد
الكونين بالتقوى حكمة بالغة ودرسا عظيما لأصحاب الجاه والسلطان ، وانهم مهما بلغوا
من السمو والرفعة فليسوا فوق أن يؤمروا بالعدل والتقوى ، وفي نهج البلاغة : من
استثقل الحق أن يقال له ، أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل.
ما جعل الله لرجل من قلبين الأة ٤ ـ ٥:
(ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
(٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا
آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً (٥))
اللغة :
يقال : ظاهر من
امرأته وتظاهر منها إذا قال لها : أنت عليّ كظهر أمي
ويأتي التفصيل في
سورة المجادلة. وادعياء جمع دعيّ وهو الذي يتبناه الإنسان. والمراد بالسبيل هنا
طريق الحق. واقسط أعدل.
الإعراب :
اللائي صفة
لأزواجكم ، وهي جمع التي. ذلكم أي دعاءكم. وما تعمدت عطف على فيما أخطأتم أي ولكن
فيما تعمدت.
قلب واحد وايمان واحد :
(ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ). والمرأة أيضا مثل الرجل ، وخص سبحانه الرجل بالذكر لأنه
أمر نبيه الكريم بتقوى الله ، فناسب ان يعقب بعد هذا الأمر بأن الرجل لا يملك
قلبين يتقي الله بأحدهما ، والناس بالآخر ، والغرض من ذلك أن يبين سبحانه ان
الإنسان لا يستطيع أن يؤمن في وقت واحد بشيئين متناقضين ، فيؤمن ـ مثلا ـ بدين
يحرم الظلم والعدوان كالاسلام والمسيحية ، وفي نفس الوقت يستحل الظلم والعدوان إلا
إذا كان له قلبان ووجهان ولسانان كأبناء الولايات المتحدة الأمريكية التي ينص
قانونها الجديد على أن للأمريكي من رعاياها أن يتجنس بالجنسية الاسرائيلية ،
ويقاتل العرب باسم إسرائيل ، وهو يحتفظ بجنسيته الأمريكية .. اللهم الا ان تكون
إسرائيل قاعدة استعمارية عدوانية للولايات المتحدة ، وان الجنسية الاسرائيلية اسم
بلا مسمى حتى الجنسية التي يحملها الحاكمون في إسرائيل ، لأنهم مجندون كمرتزقة
لحماية الاستعمار والاحتكار. قال رجل للإمام علي (ع) : اني أحبك وأحب معاوية. فقال
له الإمام : أنت أعور ، فإما أن تعمى ، وإما أن تشفى من العور.
وتسأل : ما رأيك
فيمن يقول : أنا من الوجهة الدينية ألتزم بعقيدة الإسلام أو المسيحية ، ومن الوجهة
السياسية ألتزم بسياسة الكتلة الشرقية أو الغربية ، فهل يمكن الجمع بين هذين
الالتزامين؟
الجواب : ان أي
انسان يؤمن بالحق عن صدق واخلاص يجوز له بل يجب
عليه أن يؤيد كل
من يقف موقفا يناصر فيه الحق والعدالة ، سواء أكان شرقيا أم غربيا ، ولا يجوز له
بحال أن يؤيد أحدا ـ كائنا من كان ـ تأييدا مطلقا ومن غير قيد حتى ولو كان مبطلا ،
لأن الجمع بين الايمان بالحق وتأييد الباطل وأهله جمع بين المتناقضين ، وهو محال
بطبعه ، وعليه فلا يمكن الجمع بين الالتزام بعقيدة الإسلام وبين الالتزام بأية
سياسة أو أي مبدأ التزاما مطلقا وعلى كل حال.
هذا فيما يعود إلى
الإسلام ، أما فيما يعود إلى العقيدة المسيحية فندع الكلام للقساوسة الأحرار الذين
عبروا عن غضبهم لرفض البابا الاجتماع بهم واجتماعه في الوقت نفسه برواد الفضاء
الأمريكيين ، فقد قالوا في احتجاجهم : ان اجتماع البابا بهؤلاء الرواد هو دليل
واضح على الصلة الوثيقة الموجودة بين الكنيسة كمؤسسة دينية ، وبين السلطة السياسية
والاقتصادية التي تقوم بعمليات الاضطهاد والظلم ضد الأغلبية من البشر ، وهي الصلة التي
أعلن هؤلاء القساوسة انهم يكافحون من أجل القضاء عليها» .
(وَما جَعَلَ
أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ). كان الرجل في الجاهلية يطلّق امرأته بقوله : أنت عليّ
كظهر أمي. فنهى الإسلام عن ذلك لأن الزوجة لا تصير أما بهذا القول ، وأوجب الكفارة
على قائله إذا توافرت الشروط التي يأتي بيانها في سورة المجادلة.
(وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ). كان الرجل في الجاهلية يتبنى المولود من غيره ، ويلحقه
بنسبه ، ويجري عليه أحكام الابن الحقيقي في كل شيء ، وكان الناس يدعون هذا المولود
باسم الذي تبناه دون اسم أبيه ، فحرم الله التبني بهذه الآية (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) والقول لا يغير الواقع (وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ). والقول الحق والسبيل القويم ان المتبنى لا يصير ابنا
بالتبني ، ولا الزوجة أما بالمظاهرة (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ) الذين ولدوهم لا للذين تبنوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ). ضمير «هو» يعود الى المصدر المتصيد من أدعوهم أي دعاؤكم
إياهم لآبائهم أعدل عند الله.
(فَإِنْ لَمْ
تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ). يطلق المولى على المنعم
__________________
والمنعم عليه ،
وعلى القريب نسبا أو مودة ، والمعنى ان جهلتم أبا المتبنى فقولوا : هذا أخي في
الدين أو مولاي إشارة الى المودة ، أو مولى فلان ان كان رقا وأعتقه. وقال المفسرون
وأهل السير : ان زيد بن حارثة سبي صغيرا ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت
خويلد ، ولما تزوجها رسول الله (ص) وهبته له ، وبعد نزول الوحي على النبي (ص) دعاه
إلى الإسلام فأسلم ، وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب. وجاء حارثة أبو زيد
الى رسول الله (ص) وقال له : إما ان تبيع ابني زيدا ، واما ان تعتقه ، فأعتقه
الرسول ، وقال له : اذهب حيث شئت ، فأبى أن يفارق رسول الله ، وكان الناس يدعونه
ابن محمد (ص) إلى أن نزل القرآن بإبطال التبني.
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً). من دعا إنسانا إلى غير أبيه ، وهو يرى انه أبوه فلا بأس
عليه ، وإنما الإثم على من علم وتعمد. قال رسول الله (ص) : «رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا عليه» شريطة
أن لا يقع ذلك عن تقصير وإهمال.
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم الأة ٦ ـ ٨ :
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ
ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ
صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))
الإعراب :
أمهاتهم على حذف
مضاف ، أي مثل أمهاتهم. وأولو الأرحام مبتدأ وبعضهم مبتدأ ثان وأولى خبره والجملة
خبر المبتدأ الأول. والمصدر من أن تفعلوا مبتدأ وخبره محذوف والجملة في محل نصب
على الاستثناء المنقطع ، والتقدير ولكن فعلكم الى أوليائكم معروفا جائز.
هل النبي حاكم بأمره؟
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ). للولاية معان تختلف باختلاف من تنسب اليه ، فولاية الله
سبحانه معناها السلطة والقوة التي لا تغلب ، ومعنى ولاية النبي الطاعة من غير
اعتراض ، وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).
وتسأل : أليس معنى
هذا ان النبي حاكم بأمره ، ولا حرية معه لفرد أو جماعة؟ وكيف تجمع بين هذا وبين
مبدأ الحرية التي هي حق طبيعي لكل انسان؟
الجواب : نجمع
بينهما كما نجمع بين حرية الإنسان وطاعته لله .. ان النبي لسان الله وبيانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ـ ٤ النجم. وصحّ
الحديث عن رسول الله (ص) : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».
فالتبعية والطاعة لما جاء به من عند الله لا من عند نفسه .. هذا إلى أن الحر هو
الذي يلتزم الطريق القويم ، ويعمل بالحق ويتحمل مسؤوليته بإرادته ، ويدافع عنه حسب
طاقته ، أما من يندفع وراء الرغبات غير مكترث بحسيب ورقيب فهو عبد الأهواء
والشهوات. قال فيلسوف شهير : «الحرية ليست فضيلة داخلية تسمح بأن نفصل أنفسنا عن
المواقف الملحة ، وانما هي القدرة على بناء مستقبل أفضل».
(وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ). ان لأزواج النبي (ص) من الاحترام وحرمة الزواج بهن من
بعده تماما ما للأمهات ، وما عدا ذلك فهن والأجنبيات سواء (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ). تقدم في
الآية ٧٥ من سورة
الأنفال ج ٣ ص ٥١٦ (إِلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً). المراد بالمعروف هنا الوصية ، وبالأولياء الأصدقاء
والمعتقون والأقارب غير الوارثين. والمعنى ان الميراث هو لأقرب الناس إلى الميت ،
أما الوصية فهي للموصى له قريبا كان أم بعيدا (كانَ ذلِكَ فِي
الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي ان هذا الحكم ثابت عند الله ومن عصاه فهو من الهالكين.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ). الخطاب في «منك» لمحمد (ص) ، والمراد بالميثاق تبليغ
رسالة الله على أكملها ، والصبر على ما يصيبهم في سبيلها .. وخص سبحانه بالذكر
نوحا وابراهيم وموسى وعيسى ومحمدا بعد أن ذكر النبيين على وجه العموم ، ذكرهم
بالخصوص لأنهم أفضل الأنبياء ، وقدم محمدا لأنه أفضل الخمسة ، وفي الآية ٣٥ من
سورة الأحقاف اشارة الى انهم من اولي العزم ، وسبب هذه التسمية كما في بعض
الروايات ان كل نبي بعد نوح كان تابعا لشريعته ، ثم نسخت شريعة نوح بشريعة ابراهيم
، ونسخت هذه بشريعة موسى ، وشريعته بشريعة عيسى ، ثم نسختها شريعة محمد (ص) التي
لا تنسخ الى يوم القيامة حيث لا نبي بعده.
(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً). هذا الميثاق هو الأول بالذات ، وأعاده سبحانه ليصفه
بالمتانة والقوة ، وقد وصف الميثاق بالغليظ في مواضع ثلاثة من كتابه العزيز : الأول
ميثاق الزواج : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) ـ ٢١ النساء.
الثاني الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) ـ ١٥٤ النساء. الثالث
الميثاق الذي أخذه على النبيين. وقد ذهل الشيخ محمود شلتوت عن ذلك حيث قال : «ان
وصف الميثاق بالغليظ لم يرد في موضع من مواضعه ـ أي مواضع القرآن ـ إلا في عقد
الزواج». والعصمة لله.
(لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ). أرسل سبحانه الأنبياء وأخذ عليهم ميثاق التبليغ كي يسأل
الصادقين : ما ذا أرادوا بالصدق؟ هل أرادوا به وجه الله ، أو ليقول الناس : انهم
صادقون وما إلى ذلك من الأغراض الشخصية؟ قال الإمام جعفر الصادق (ع) : «إذا سأل
الله الإنسان عن صدقه على أي وجه قاله ، فيجازى بحسبه ، فكيف حال الكاذب؟». (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً
أَلِيماً).
لما ذكر سبحانه
الرسل قال : من كفر به فله عذاب أليم ، وبالمقابل من آمن وعمل صالحا فله جنات
النعيم.
الأحزاب الأة ٩ ـ ١٥ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً
شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ
مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ
إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها
ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤)
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ
عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥))
اللغة :
زاغت الأبصار
وبلغت القلوب الحناجر كناية عن شدة الخوف. وابتلي المؤمنون اختبروا وامتحنوا.
وزلزلوا اضطربوا من الفزع. والمراد بالذين في قلوبهم مرض
ضعفاء العقل
والايمان الذين ينعقون مع كل ناعق. ويثرب من أسماء المدينة المنورة ومن أسمائها
أيضا طيبة. وبيوتنا عورة أي منكشفة للعدو والسارق.
الإعراب :
قال أبو البقاء :
كتبت الظنونا بالألف في المصاحف لتناسب الآيات ، ومثله الرسولا والسبيلا. وهنالك
للبعيد ، وهنا للقريب ، وهناك للمتوسط. ويثرب لا تنصرف للعلمية ووزن الفعل. ويسيرا
صفة لظرف زمان محذوف أي الا زمنا يسيرا. ولا يولون جواب عاهدوا لأنه بمعنى أقسموا.
ملخص قصة الأحزاب :
هذه الآيات وما
بعدها إلى الآية ٢٧ نزلت في غزوة الأحزاب ، وتسمى أيضا وقعة الخندق ، وخلاصتها ان
نفرا من زعماء اليهود استحثوا قريشا وغيرها من قبائل العرب على حرب رسول الله (ص)
، ورصدوا لذلك كثيرا من المال ، واستطاعوا أن يحزبوا الأحزاب ، ويؤلفوا جيشا ضخما
لا عهد للجزيرة العربية بمثله من قبل ، وزحف الجيش الهائل على المدينة بقيادة أبي
سفيان.
ولما علم الرسول
الأعظم (ص) بقصدهم أمر بحفر الخندق بإشارة من سلمان الفارسي ، وعمل الرسول فيه
بيده ، وعمل معه المسلمون المخلصون ، وكان سلمان يلهبهم حماسا بحديثه عما أعد الله
للعاملين والمجاهدين ، ولكن المنافقين كانوا يثبطون عزم رسول الله ويتسللون بغير
علمه.
وانتهى حفر الخندق
على أية حال ، وأقبلت الأحزاب بألوفها المؤلفة ، ولما رآهم المسلمون سيطر الخوف
على كثير منهم ، واشتد عليهم البلاء ، وأخذوا يظنون بالله الظنون ، وزاد من فزعهم
وهلعهم ان بني قريظة ، وهم قبيلة من اليهود ، كانوا يساكنون رسول الله (ص)
بالمدينة ، وكان بينه وبينهم عهد وميثاق أن لا يعينوا عليه عدوا ، وظلوا قائمين
على العهد حتى جاء جيش الأحزاب ، فنقضوا العهد وأعلنوا الحرب في أصعب الظروف
وأشقها على المسلمين .. وهذا
هو شأن اليهود في
كل زمان ومكان ، يتذللون كالكلاب حينما لا تساعدهم الفرصة؟؟؟
على البغي
والعدوان ، فإذا سنحت عقروا وغدروا .. وبعث الرسول (ص) سعد ابن معاذ وجماعة من
الصحابة إلى بني قريظة في محاولة لبقائهم على العهد ، فأصروا على الغدر ، فوقع
المسلمون في حصار شديد يحيط بهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم.
وفي فقه السيرة
للشيخ الغزالي : «أقبل عمرو بن ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب حتى رأوا
مكانا ضيقا من الخندق ، فضربوا خيلهم فاقتحمته ، وأحس المسلمون بالخطر الداهم ،
فأسرع فرسانهم يسدّون الثغر يقودهم علي بن أبي طالب ، وقال علي لعمرو بن ود ، وهو
فارس شجاع معلم : يا عمرو انك عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا
أخذتها منه. قال : أجل. قال له علي : أدعوك إلى الله ، إلى الإسلام. قال عمرو : لا
حاجة لي بذلك. قال علي : أدعوك إلى النزال. فأجابه عمرو : ولم يا ابن أخي فوالله
ما أحب أن أقتلك ـ استصغارا لشأنه ـ فقال له علي : لكني والله أحب أن أقتلك ..
فحمي عمرو واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتنازلا وتجالدا ،
فقتله علي ، وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمة حتى اقتحمته هاربة».
ولما شعر جيش
الأحزاب انه لا سبيل إلى اقتحام الخندق أخذوا يصوبون سهامهم على المسلمين ، فأصاب
سهم منها أكحل سعد بن معاذ وجرحه جرحا بليغا ، فأمر النبي (ص) ان يحمل إلى امرأة
بالمدينة تدعى رفيدة كانت تداوي جرحى المسلمين لوجه الله. فقال سعد ، وقد رأى جرحه
المميت : اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا ، فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي
أن أجاهدهم من قوم آذوا رسول الله وكذبوه وأخرجوه ، وان كنت قد وضعت الحرب بيننا
وبينهم فاجعله لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من قريظة. وقد استجاب الله
دعاءه ، حيث حكّمه في بني قريظة ، فعاقب رجالهم بالقتل ، ونساءهم بالسبي. ويأتي
التفصيل عند تفسير الآية ٢٦ : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً).
ودام الحصار بضعا
وعشرين ليلة ليس فيها إلا الترامي بالنبل والحجارة. وفجأة
هبت ريح عاتية دكت
معسكر الأحزاب ، واقتلعت خيامهم ، وأفسدت كل شيء ، فانسحبوا مخذولين بقيادة أبي
سفيان ، وأيّد الله نبيه بنصره ، وهتف يقول : لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ،
ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده.
واتفق الرواة على
أن هذه الغزوة كانت في السنة الخامسة من الهجرة ، واختلفوا في تعيين الشهر ، فمن
قائل : انه ذو القعدة ، وقائل : انه شوال. هذا مجمل غزوة الأحزاب ، والتفصيل فيما
يلي من شرح الآيات :
المعنى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً). اذكروا أيها المؤمنون الذين كنتم مع رسول الله (ص) في
غزوة الخندق تحيط بكم الأعداء من كل جانب ، اذكروا ذلك واشكروا إنعام الله عليكم
بالخلاص والنصر حيث أرسل على أعدائكم ريحا عاتية (وَجُنُوداً لَمْ
تَرَوْها) قال المفسرون : انها الملائكة. ويجوز أن تكون كناية عما ألقاه
سبحانه في قلوب الأحزاب من الخوف والهلع.
وفي البحر المحيط
لأبي حيان الأندلسي : كان جيش الأحزاب يتألف من خمسة عشر ألفا ، والمسلمون ثلاثة
آلاف ، واتفق أهل التفاسير والسير ان صخرة ظهرت في بطن الخندق ، فكسرت حديدهم
وشقّت عليهم ، فأخذ رسول الله (ص) المعول من سلمان ، وضرب به الصخرة ضربة صدعها ،
ولمعت من تحت المعول برقة ، ثم ضربها ثانية ، فلمعت برقة أخرى ، وثالثة فلمعت
ثالثة. فقال رسول الله (ص) : رأيت في البرقة الأولى مدائن كسرى ، وفي الثانية قصور
قيصر ، وفي الثالثة قصور صنعاء ، وأخبرني جبريل ان أمتي ظاهرة عليها جميعا
فأبشروا. وتحقق كل ما قاله سيد الكونين (ص).
(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ). المراد ان جيش الأحزاب حاصر عسكر المسلمين ولم يدع له
منفذا ، وقال جماعة من أهل التفسير : جاءت غطفان
وبنو قريظة وبنو
النضير من اليهود من قبل المشرق ، وجاءت قريش وبنو كنانة وأهل تهامة من قبل المغرب
(وَإِذْ زاغَتِ
الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ). هذا كناية عن شدة الخوف والفزع (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا). ظن بعض من آمن ان الله لن ينصر دينه ونبيه ، وقال بعض
المنافقين : وعدنا محمد بكنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه ان يذهب
الى حاجته .. وليس من شك انه لا عذر أبدا للمنافق ، أما من آمن ثم تساءل بحرقة
وقال : لما ذا لم يخسف الله الأرض بالظالمين ، أو ينزل عليهم صاعقة من السماء ،
أما هذا فلا نستبعد انه معذور عند الله ما دام مؤمنا به في قرارة نفسه.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً). لا تظهر كوامن النفس على حقيقتها إلا عند الشدائد
والامتحان بالمخاوف والمكاره .. وكانت وقعة الخندق امتحانا قاسيا للمؤمن والمنافق
على السواء حيث ظهر كل على حقيقته (وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ) وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الايمان (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم أصحاب الايمان الضعيف الذين صدّقوا المنافقين من غير
روية. قال هؤلاء وأولئك : (ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً). هم لا يؤمنون بالله ولا برسوله لأن المؤمن لا ينطق بمثل
هذا الكفر ، وانما قالوا هذا ليشككوا البسطاء وضعاف العقول.
(وَإِذْ قالَتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا). حين باشر النبي والصحابة بحفر الخندق قال جماعة من المنافقين
: وما جدوى الخندق؟ انه لا يغني عن الحرب شيئا ، قالوا هذا قبل أن تأتي الأحزاب ،
ولما جاءت قالوا للمقاتلين : لا طاقة لكم بهذا الجيش الجرار ، ولا نجاة منه إلا
بالفرار والاستسلام .. تذكرت وأنا أفسر هذه الآية عملاء الصهيونية والاستعمار
الذين ينشرون في هذه الأيام الهلع والفزع من قوة إسرائيل ، تذكرتهم حيث علمت ان
لهم أشباها ونظائر في الزمان القديم ، وان للحرب النفسية جذورا عميقة في التاريخ ،
وما هي من بدع الصهيونية والاستعمار ، بل شيء بال وعتيق لا ينخدع به إلا ساذج
العقل وقاصر النظر.
(وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ). كان بعض المنافقين
يخلقون المعاذير
للتهرب من عسكر رسول الله (ص) ، ويقولون له : ان بيوتنا منكشفة للصوص ، فأذن لنا
بحمايتها ، فأكذبهم الله وكشف عن نفاقهم بقوله : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ
إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) من الجهاد ونصرة الحق.
(وَلَوْ دُخِلَتْ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما
تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً). ضمير عليهم يعود إلى المنافقين ، وإلى أصحاب الايمان
المستودع الذي لا قرار له ، وضمير أقطارها إلى المدينة ، والمراد بالفتنة هنا
الارتداد عن الدين. والمعنى لو دخلت جيوش الشرك المدينة وأحاطت بها من كل جانب ،
وقال المشركون للمنافقين ولمرضى القلوب : ارتدوا عن الإسلام وأعلنوا الشرك
لاستجابوا على الفور من غير تردد ، أو ترددوا قليلا ، ثم استسلموا للقوة ..
وبالبداهة ان المؤمن الحق لا يرتد عن عقيدته ، بل يقتل عليها ، وهو يعلم ان السعيد
من سلم له دينه مهما كانت النتائج ، كما هو شأن شهداء العقيدة الذين لا يبالون
بسيف الجلاد.
(وَلَقَدْ كانُوا
عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ). تذرعوا بالأكاذيب للفرار من عسكر رسول الله (ص) بعد أن
أعطوه العهود والمواثيق على أن يثبتوا في الجهاد بين يديه حتى الموت. وفي تفسير
الطبري : «ان بني حارثة وبني سلمة همّوا بالفشل يوم أحد ، ثم عاهدوا الله على أن
لا يعودوا لمثلها أبدا ، فذكّرهم الله الآن بهذا العهد الذي أعطوه من أنفسهم».
أنظر تفسير قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) ـ ١٢٢ آل عمران ج
٢ ص ١٤٩ (وَكانَ عَهْدُ اللهِ
مَسْؤُلاً) يوم القيامة عن الوفاء به : (فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ـ ١٠ الفتح.
لن ينفعكم الفرار الأة ١٦ ـ ٢٠ :
(قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ
إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً
(١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ
هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً
عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا
لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ
كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))
اللغة :
المعوقين
المثبطين. والمراد بالبأس هنا القتال والجهاد. وأشحة جمع شحيح ، والمراد به من
يبخل بالتضحية بالنفس والمال لنصرة الحق. سلقوكم آذوكم. ألسنة حداد قادرة على
الكلام. لو انهم بادون أي لو أنهم من أهل البادية. والأعراب هم أهل البادية من
العرب.
الإعراب :
لا تمتعون إلا
قليلا أي إلا زمنا قليلا. وهلم اسم فعل بمعنى أقبل وتعال عند أهل الحجاز ، وتقال
بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. وأشحة حال في الموضعين. كالذي
الكاف بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف أي تدور أعينهم دورانا مثل عين الذي يغشى عليه.
الأحزاب مفعول أول ليحسبون وجملة لم يذهبوا مفعول ثان. وبادون جمع باد.
المعنى :
(قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ). فروا من الجهاد خوفا من الموت ، وما ينجو من الموت من
خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه (وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً). وان سلمتم من القتل في ساحة الوغى فستلاقون حتفكم بعد
قليل ، ثم الى عذاب السعير ، أما الشهداء فإلى جنات النعيم. قال الإمام علي (ع) : «والذي
نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش».
(قُلْ مَنْ ذَا
الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ
رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً). ونفسره بقوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ
لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) ـ ١١ الفتح. وتقدم
مثله في الآية ١١ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٨٦ (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا
يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً). الله سبحانه يعلم المنافقين ، وانهم يثبطون الناس ، ويقول
بعضهم لبعض : تعالوا إلى الراحة والدعة ، مالنا وللقتال؟ وان ينكشف أمرهم وتظهر
دخيلتهم يمشوا الى القتال كالذي يساق الى الموت ، ويقاتلوا لماما ، وهم مضطربون
متثاقلون .. ولهؤلاء أشباه ونظائر في كل عصر.
(أشحة عليكم)
بالمال ونصرة الحق .. وكل بخل يعفو الله عنه إلا البخل بحق الجهاد والمال (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ). تعكس هذه الآية جبن المنافقين وخورهم عند القتال ،
وجرأتهم على الذنوب والآثام وهم آمنون مطمئنون ترتعش منهم القلوب ، وتدور العيون
في رؤوسهم فزعا وهلعا في ساحة الوغى وعند السلم والأمن يطلقون ألسنتهم السلاط تنهش
المؤمنين والمجاهدين. وفي نهج البلاغة : «ان المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا
يدري ما ذا له وما ذا عليه». وقد قال رسول الله (ص) : «لا يستقيم ايمان عبد حتى
يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
(أشحة على الخير).
المراد بالخير هنا الغنيمة أي انهم عند البأس جبناء ، أما عند توزيع الغنيمة فتعلو
أصواتهم بالاحتجاج ، وانهم أحق بها من الجميع (أُولئِكَ لَمْ
يُؤْمِنُوا) بل أظهروا الايمان ، وأضمروا الكفر ، وقاتلوا معكم نفاقا
ورياء (فَأَحْبَطَ اللهُ
أَعْمالَهُمْ) أي أبطل قتالهم معكم لأنه لغير وجه الله ، وفي الحديث : من
كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا
يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه (وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيراً). ذلك إشارة الى إحباط قتالهم ، وهو يسير على الله تعالى
لأنه لا جور فيه ولا ظلم ما داموا منافقين مرائين.
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ
لَمْ يَذْهَبُوا) .. ذهبت الأحزاب إلى غير رجعة ، ومع هذا يأبى المنافقون أن
يصدقوا ، لا لشيء إلا لأنهم يتمنون أن تقضي الأحزاب على النبي والصحابة ، وقد
صوّرت لهم أمنيتهم هذه ان الأحزاب ما زالت تحاصر المدينة ، وانها ستقضي على
المسلمين غدا أو بعد غد (وَإِنْ يَأْتِ
الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ
أَنْبائِكُمْ). وإذا تأكد المنافقون من هزيمة الأحزاب ، ثم عادت إلى
المدينة كرة ثانية تمنى المنافقون لو كانوا بعيدين عنها يقيمون في البادية مع
أهلها يسألون كل قادم عما جرى على المسلمين (وَلَوْ كانُوا
فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً). هذا مثل قوله تعالى في الآية السابقة من هذا المقطع : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا
قَلِيلاً).
في رسول الله اسوة حسنة الآة
٢١ ـ ٢٧ :
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ
قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما
زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا
ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))
اللغة :
أسوة بضم الألف
وكسرها قدوة. وقال صاحب مجمع البيان : «قضى نحبه أي مات أو قتل في سبيل الله».
وظاهروهم عاونوهم. والصياصي جمع صيصة ، وهي كل ما يمتنع به كالحصن ونحوه ، ويقال
لقرون البقر والظباء صياصي.
الإعراب :
لمن كان يرجو
متعلق بحسنة. وكثيرا صفة لمصدر محذوف أي ذكرا كثيرا. وفاعل زادهم ضمير مستتر يعود
الى البلاء. وما عاهدوا الله (ما) اسم موصول في محل نصب بنزع الخافض أي صدقوا فيما
عاهدوا الله عليه. وكفى هنا تتعدى الى مفعولين مثل كفاك الله شر الأعداء ،
والمؤمنين مفعول أول ، والقتال مفعول ثان.
المسلم على قسمين :
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). المراد بالاسوة الحسنة هنا الاقتداء برسول الله (ص). و (يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي يأمل ثواب الله ونعيم الآخرة. و (ذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) كناية عن إقامة الفرائض الخمس. والخطاب في «لكم» للذين
انصرفوا عن رسول الله (ص) في وقعة الأحزاب ، والقصد منه التوبيخ والتقريع لأنهم
تركوا الرسول (ص) في ساعة العسرة ، وهم يتظاهرون بالإسلام ، فيصلّون مع المسلمين ،
ويدّعون الايمان بالله واليوم الآخر ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا
يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ـ ١٢٠ التوبة ج ٤
ص ١١٦.
وتومئ الآية الى
أن المسلم الحق هو الذي يقتدي بنبيه ولا يعصي له أمرا. وتسأل : لقد اتفق الفقهاء
على ان من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، يعامل معاملة المسلم ، سواء
أطاع أم عصى؟
الجواب : أجل ،
انه يعامل معاملة المسلم في الحياة الدنيا من حيث الزواج والإرث وما اليهما ، ولكن
معاملته في هذه الحياة كمسلم شيء ، واعتباره مسلما عند الله وفي يوم الحساب شيء
آخر. وبكلمة أوضح ، ان المسلم على قسمين : مسلم عند الناس لا عند الله ، وهو الذي
يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ويعصي الله والرسول ، وهذا يعامل معاملة
المسلم في الدنيا فقط ، ومسلم يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ويطيع الله
والرسول ، وهذا يعامل معاملة المسلم في الدنيا والآخرة. قال الإمام علي (ع) :
الفقر والغنى بعد العرض على الله.
(وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً). ذكر المفسرون القدامى لهذه الآية معنيين ، أرجحهما ان
النبي (ص) كان قد وعد المسلمين من قبل بأنهم سيلاقون ألوانا من المحن والشدائد ،
وان أهل الكفر والشرك سيتظاهرون على حربهم واستئصالهم ، وقد جاء هذا الوعد في
الآية ٢١٤ من سورة البقرة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) ج ١ ص ٣١٩.
ولما رأى المؤمنون
جيش الأحزاب يحاصرهم من كل جانب : «قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله
ورسوله» وازدادوا ايمانا على ايمان ، وطاعة على طاعة لله وللرسول حيث رأوا بالعيان
صدق الوعد والنبوءة ، أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فقد ازدادوا نفاقا
وعنادا وقالوا : (ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الجهاد والثبات عند لقاء العدو حتى الموت (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) قبل وقعة الأحزاب كالذين استشهدوا يوم بدر وأحد (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة أو النصر (وَما بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً). وأيضا المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما بدلوا بل ماتوا
على النفاق. وقال المفسرون : ان انس بن النضر غاب عن بدر ، فشق ذلك عليه ، وقال : لقد
غبت عن أول مشهد شهده رسول الله (ص) ، ولئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله (ص)
فيما بعد ليرينّ ما أصنع ، فشهد يوم أحد ، فاستقبله سعد ابن معاذ ، فقال له : يا
أبا عمرو إلى أين؟ قال : واها لريح الجنة ، والله اني لأجدها دون أحد .. فقاتل حتى
قتل رضوان الله عليه ، وقد وجد في جسده الشريف بضع وثمانون ضربة وطعنة ورمية.
(لِيَجْزِيَ اللهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وعادلا وحكيما ، لا لغو ولا عبث في مشيئته وأفعاله ، فهو
يثيب من يستحق الثواب كأهل الصدق والايمان ، ان استمروا على صدقهم وايمانهم ،
ويعذب أهل الكفر والنفاق ان أصروا على الكفر والضلال ؛ وان تابوا شملهم برحمته ،
وغفر لهم ما سلف ، فقوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) معناه انه يشاء تعذيبهم ان لم يتوبوا ، والدليل على ذلك
قوله : (أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي ان تابوا تاب عليهم وغفر لهم وشملهم برحمته.
(وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) وهم الأحزاب الذين تجمعوا لقتل النبي (ص) بقيادة أبي سفيان
(لَمْ يَنالُوا
خَيْراً) أي ما زعمته الأحزاب انه خير ، وهو الظفر بالنبي ومن آمن
معه (وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً).
قال أبو حيان
الأندلسي في تفسيره البحر المحيط : «كفاهم القتال بإرسال الرياح والجنود ، وهم
الملائكة ، وقيل : المراد علي بن أبي طالب ومن معه ، برزوا للقتال ، وقتل علي عمرو
بن ود». وفي الحديث : «لضربة علي يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين». وفي رواية
ثانية : «لمبارزة علي لعمرو أفضل من عمل أمتي الى يوم القيامة». نقل هذه الرواية
الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ٣٢. (السيد محسن الأمين ، أعيان الشيعة ج ٢ والشيخ
المظفر ، دلائل الصدق ج ٢).
ملخص قصة بني قريظة :
(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيراً). المراد بأهل الكتاب هنا بنو قريظة خاصة. وضمير «هم» في
قوله تعالى «ظاهروهم» يعود الى الأحزاب ، وصياصيهم حصون بني قريظة. أما قوله تعالى
: (وَأَرْضاً لَمْ
تَطَؤُها) فهو بشارة بالفتوح الاسلامية.
قلنا فيما تقدم :
ان بني قريظة ، وهم قبيلة من اليهود ، كانوا يساكنون النبي (ص) بالمدينة أو
بضواحيها ، وانه كان بينه وبينهم عهد أن لا يعينوا عليه عدوا ، ولما حاصرت الأحزاب
المدينة نقضوا العهد وأعلنوا الحرب ، كما هو شأن اليهود قديما وحديثا .. وهاتان
الآيتان اللتان نحن بصددهما تشيران الى ما حدث لبني قريظة بعد نقضهم العهد وهزيمة
الأحزاب ، وخلاصته :
لما كفى الله
المؤمنين قتال الأحزاب نادى منادي رسول الله بالخروج الى بني قريظة ، ولما وصل
اليهم جيش المسلمين أغلقوا عليهم الحصن ، فعرض النبي (ص) عليهم الإسلام على أن
يكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم ، وإلا حاصروهم حتى يستسلموا أو يحاربوا ،
فأشار عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يسلموا ويؤمنوا بمحمد (ص) ، وقال : فوالله لقد
تبين لكم أنه نبي مرسل وانه الذي تجدونه في التوراة ، فأبوا وقالوا : لا نفارق
ديننا.
وامتد الحصار خمسا
وعشرين ليلة حتى أوشكوا على الهلاك من الجهد والخوف ، وعندئذ طلبوا من النبي (ص)
باختيارهم وملء إرادتهم أن ينزلوا على حكم سعد ابن معاذ ، وهو رئيس الأوس ، وكان
بنو قريظة حلفاء لهم ، فاستجاب النبي لطلبهم ، واستدعى سعدا ، وقال له : ان هؤلاء
قد نزلوا على حكمك مختارين ، فاحكم بما شئت. قال سعد : وحكمي نافذ عليهم؟ قال النبي
(ص) : نعم. فحكم سعد أن تقتل رجالهم المقاتلون ، وان تقسم أموالهم ، وتسبى ذراريهم
ونساؤهم ، وان تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار ، لأن للأنصار ديارا ، ولا ديار
للمهاجرين.
فأمر النبي (ص)
بقتل الرجال الذين كانوا يحملون السلاح ، ومن حث بني قريظة على نقض العهد ودبر
المعركة ضد المسلمين كحيي بن أخطب زعيم بني النضير ، ثم قسمت الأموال ، وسبيت
الذراري والنساء كما حكم سعد الذي اختاره بنو قريظة حكما. والى هذا يشير قوله
تعالى : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً). وقدمنا ان سهما من أسهم الأحزاب أصاب أكحل سعد ، وانه طلب
من الله ان لا يميته حتى يقر عينيه من بني قريظة .. وبعد أن نفّذ فيهم حكمه انفجر
الجرح وانتقل إلى رحمة الله ورضوانه ، وهو قرير العين بالشهادة واستجابة الدعاء.
هل ظلم محمد (ص) بني قريظة :
وتسأل : كيف أقر
النبي (ص) حكم سعد ، وفيه ما فيه من العنف والقسوة حتى اتخذ منه أعداء الإسلام
وسيلة للطعن والتشهير؟
الجواب : ان محمدا
لم يظلم بني قريظة ، وانما أنفسهم كانوا يظلمون لأنهم اختاروا لها هذا المصير بملء
ارادتهم ، ويشهد لذلك :
أولا : انهم
عاهدوا النبي ونكثوا العهد في أحرج الأوقات ، كما هو دأب اليهود منذ القديم قال
تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا
عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ـ أي الرؤساء ـ ١٠٠
البقرة.
ثانيا : ان النبي (ص)
عرض عليهم أن يدعهم وشأنهم شريطة أن يقولوا :
لا إله إلا الله
محمد رسول الله ، ونصحهم رئيسهم كعب بن أسد أن يستجيبوا وينطقوا بكلمة الشهادة
فرفضوا.
ثالثا : ان بني
قريظة أبوا النزول على حكم رسول الله (ص) ، وقبلوا حكم سعد من تلقاء أنفسهم.
رابعا : ان سعدا
حكم بشريعتهم التي يدينون بها ، ويحكمون على الناس بموجبها. قال العقاد : «انما
دانهم سعد بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء في التثنية : «حين تقرب من مدينة
لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح ، وفتحت لك فكل الشعب
الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها
، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك ، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء
والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمة تغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك
التي أعطاك إلهك .. اصحاح ١٠ إلى ١٥ تثنية». (كتاب العبقريات الاسلامية ص ٢١٩ طبعة
دار الفتوح بالقاهرة).
وهذا النص موجود
في التوراة اصحاح ٢٠ من التثنية ، لا اصحاح ١٠ إلى ١٥ كما جاء في العبقريات
الاسلامية ، وهو يدل بوضوح على أكثر مما حكم به سعد ابن معاذ على بني قريظة ، لأنه
يقول صراحة : ان استجابت المدينة إلى الصلح فجميع أهلها عبيد مسخرون ، وان أبت وجب
ذبح جميع الذكور بحد السيف المقاتلين منهم وغير المقاتلين ، ونهب الأموال وسبي
النساء والأطفال.
وهناك نص آخر في
التوراة لم يذكره العقاد ، وهو أعظم جورا من النص الذي ذكره ، لأنه يأمر بقتل جميع
السكان ، ولا يستثني النساء والأطفال ، ثم إحراق المدينة بجميع ما فيها بحيث لا
يمكن بناؤها وتجديدها إلى الأبد .. فقد جاء في الاصحاح الثالث عشر من التثنية ما
نصه بالحرف الواحد : «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف ، وتحرّمها بكل ما
فيها مع بهائمها بحد السيف ، وتجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها ، وتحرق بالنار
المدينة ، وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك ، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد».
فهل بعد هذا يقال
: ان محمدا (ص) ظلم يهود بني قريظة ، وان سعدا جار في حكمه عليهم؟ .. فمن القضاء
العدل أن تلزم كل انسان بما ألزم به نفسه ،
وتحكم عليه بما
يدين ويعتقد ، واليهود يعتقدون دينا ، ويطبقون عملا ذبح الذكور ، ونهب الأموال ،
وسبي النساء والأطفال ، وهدم البيوت وإحراق القرى والمدن من كل شعب من الشعوب دون
أن يعلن عليهم حربا أو ينكث لهم عهدا أو يسيء اليهم بحرف تماما كما تفعل الآن
إسرائيل مع شعب فلسطين .. فهل يعد ظالما من يحكم عليهم بتوراتهم ، ويعاملهم بما
عاملوا به الناس؟ مع العلم بأن النبي (ص) قتل المقاتلين منهم بعد أن نكثوا عهده
وأعلنوا عليه الحرب ، وهم يقتلون ويحرقون لا لشيء إلا لأن القتل والحرق والفساد
دين لهم وطبيعة .. ولو حكم عليهم بالقتل والنهب والسبي دون أن ينكثوا العهد
ويعلنوا الحرب لكان الحكم حقا وعدلا ، لأنه حكم بما يدينون ويفعلون .. واتفقت جميع
الشرائع السماوية والوضعية على ان من دان بدين لزمته أحكامه ، وهنا يكمن السر في
قول الرسول الأعظم (ص) لسعد : «حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». جمع رقيع
وهو اسم السماء.
يا أيها النبي قل لأزواجك الأة
٢٨ ـ ٣٠ :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))
اللغة :
أسرحكن سراحا
جميلا أطلقكن طلاقا بلا ضرر وخصومة. والمراد
بالفاحشة هنا
المعصية. وضعف الشيء مثله في المقدار ، أو مثله وزيادة غير محصورة.
المعنى :
شكا أزواج النبي (ص)
له من قلة النفقة والزينة ، وطلبن ان يوسع عليهن مما أفاء الله عليه من الأنفال
والغنائم ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً). أمر الله نبيه الكريم أن يقول لهن : اخترن واحدا من اثنين
: إما الطلاق مع المتعة ان أردتن ما تريده النساء من الدنيا ، والمتعة هي عبارة عن
منحة يقدمها المطلّق لمطلقته ، ويراعى فيها حال الرجل يسرا وعسرا. انظر ج ١ ص ٣٦٦.
وإما الحياة مع رسول الله (ص) على ان تصبرن على مكابدة الفقر والعوز في الدنيا ،
وجزاؤكن عند الله في الآخرة الأجر العظيم. فاختارت نساء النبي (ص) الله والرسول
والدار الآخرة على الدنيا وزينتها ، وتسمى هذه الآية آية التخيير.
النبي وكثرة الأزواج :
وآية التخيير دليل
قاطع على تكذيب ما زعمه المتقولون من ان النبي (ص) استكثر من النساء لأهواء نفسية
، لأن الحريص على الاستمتاع بالمرأة ـ كما قال مصطفى صادق الرافعي ـ لا يخيرها بين
الحياة معه على ان تكابد الفقر والعوز الى آخر يوم ، وبين الابتعاد عنه ان أرادت
الحياة وزينتها ، بل يخاطب عاطفتها ويقرب لها كل بعيد يشبع رغبتها من الزينة
والمظاهر .. وفي الأمثال : «فرشة العرس عالية».
وقال العقاد في
كتاب العبقريات الاسلامية : «لو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد
وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات ان يجمع اليه تسعا من الفتيات اللاتي
اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة
العربية ، فيسرعن
اليه راضيات فخورات ، وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا
تعلوها مصاهرة».
ثم ذكر العقاد
زوجات النبي (ص) واحدة فواحدة ، وبيّن السبب الموجب لزواجه بها ، وقال : «الا ان
المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية ، ونسوا أن محمدا
اتسم بالطهر والعفة في شبابه ، وانه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتعسف في طلب
الحلال ، وهو ميسر له تيسره لكل فتى وسيم حسيب ، ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن
كان زواجه بسيدة في نحو الأربعين ، وانه اختار أحسابا في حاجة الى التآلف أو الرعاية
، ولم يختر جمالا مطلوبا للمتاع ، ونسوا ان الرجل الذي وصفوه بلذات الحس لم يكن
يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير ، نسوا كل هذا ، وهو ثابت في التاريخ ، نسوه
لأنهم أرادوا أن يعيبوا ويقولوا وينحرفوا عن الحقيقة».
(يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). المراد بالفاحشة هنا المعصية من أي نوع تكون ، ومبينة
واضحة .. ولنساء النبي منزلة كريمة عند الله والناس لصلتهن بالرسول الأعظم (ص) ،
فمن أقدمت منهن على المعصية فقد خاطرت بمكانتها ، واستحقت من العذاب مثلي ما
تستحقه غيرها ، لأن الله سبحانه يحاسب الناس على قدر منازلهم ، كما يحاسبهم على
قدر عقولهم ، وقد عاتب الأنبياء بما لا يعاتب به أحدا غيرهم.
الجزء الثّاني والعشرون
طهارة أهل البيت الآة
٣١ ـ ٣٤ :
(وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ
الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ
اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))
اللغة :
القنوت الطاعة.
وفي قلبه مرض أي ريبة. وقولا معروفا بعيدا عن الريبة. وقرن من الاستقرار. والتبرج
اظهار الزينة. والمراد بالرجس هنا الذنب والمعصية.
الإعراب :
مرتين نائب مناب
المفعول المطلق لأنه بمعنى مثلين. وقال كأحد ولم يقل كواحدة لأن (أحد) هنا بمعنى
غير ، أي لستن كغيركن من النساء. والمصدر من ، ليذهب متعلق بيريد. وأهل البيت
منادى أي يا أهل البيت.
المعنى :
(وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنا لَها
رِزْقاً
كَرِيماً). كما ان العذاب يضاعف لمن تتجرأ على معاصي الله من نساء
النبي فإن الثواب يضاعف لمن تخافه وتتقيه (يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ). يقول سبحانه لنساء النبي : أنتن فوق النساء كرامة وشرفا
برسول الله ان اتقيتن معصية الله في القول والفعل ، وإلا انقطعت كل صلة بينكن وبين
الرسول .. وقال الحافظ محمد بن أحمد الكلبي في التسهيل : «حصل لهن التفضيل بالتقوى
على النساء إلا فاطمة بنت محمد (ص) ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم».
(فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى). كان عصر النبي (ص) خير العصور ، ومع هذا حذر سبحانه نساء
النبي من لين الكلام مع الرجال ، والخروج من البيوت حاسرات متبرجات ، كيلا يثرن
الطمع في القلوب الفاسقة الفاجرة .. هذا ، وهن من العفة والصون فوق كل ريبة وشبهة
، فكيف بعصرنا الذي قفزت فيه الأنثى من البيت الى المسابح والمسارح ، وكشفت عن
أنوثتها بأسلوب جنسي محموم؟ (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) لأنها تنهى عن التبرج والتخنث وغيرهما من المحرمات (وَآتِينَ الزَّكاةَ) فهي تطهر الأموال كما تطهر الصلاة النفوس (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل شيء ، لا في خصوص الصلاة والزكاة ، ولا في ترك
التبرج والخضوع بالقول فحسب.
أهل البيت :
(إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). المراد بالرجس هنا الذنوب. وقد استدل الشيعة بهذه الآية
على عصمة أهل البيت ، وقالوا : انما أداة حصر تدل على ثبوت الطهارة من الذنوب لأهل
البيت دون غيرهم ، ولا معنى للعصمة إلا الطهارة من الذنوب.
وفي صحيح مسلم
القسم الثاني من الجزء الثاني ص ١١٦ طبعة ١٣٤٨ ه ما نصه بالحرف : «قالت عائشة خرج
النبي (ص) غداة وعليه مرط مرحل ـ برد من
برود اليمن ـ من
شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة
فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). ومثله سندا ودلالة ما رواه الترمذي في صحيحه والإمام أحمد
في مسنده وغيرهما من أئمة الحديث من أهل السنة.
وفي تفسير الطبري
عن أبي سعيد الخدري الصحابي الجليل وأم سلمة زوجة الرسول (ص) : «قالت : لما نزلت
آية إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة
وحسنا وحسينا ، ووضع عليهم كساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة : ألست منهم؟ قال : أنت إلى خير». ومثله في
تفسير البحر المحيط للأندلسي والتسهيل للحافظ والدر المنثور للسيوطي وغيرها من
التفاسير.
وفي ج ١ ص ٨٨
نقلنا ما قاله محيي الدين بن عربي حول هذه الآية في الجزء الأول والثاني من
الفتوحات المكية ، وننقل الآن ما قاله عن أهل البيت في الجزء الرابع ص ١٣٩ طبعة
دار الكتب العربية الكبرى بمصر ، قال : «ان النبي (ص) وأهل بيته على السواء في
مودتنا فيهم ، فمن كره أهل بيته فقد كره النبي (ص) ، فإنه واحد من أهل بيته ، فمن
خانهم فقد خان رسول الله (ص).
(وَاذْكُرْنَ ما
يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ
لَطِيفاً خَبِيراً). المراد بالحكمة هنا السنة النبوية لاقترانها بكتاب الله
وآياته ، والمعنى اشكرن يا نساء النبي إنعام الله عليكن حيث جعلكن في بيوت تسمعن
فيها تلاوة كتاب الله وسنة نبيه ، وهي نور للعقول ، وربيع للقلوب.
وتسأل : ان سياق
الآيات يدل على ان المراد بآية التطهير نساء النبي (ص) ، فكيف أخرجهن عنها من نقلت
عنهم من المفسرين والمحدثين؟
الجواب أولا : ان
صاحب تفسير المنار نقل عن أستاذه الشيخ محمد عبده في ج ٢ ص ٤٥١ طبعة ثانية : «ان
من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن آخر ، ثم يعود الى مباحث المقصد
الواحد المرة بعد المرة». وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : ان الآية من القرآن يكون
أولها في شيء ، وآخرها في شيء آخر .. وعلى هذا فلا يصح الاعتماد على دلالة السياق
لآي الذكر الحكيم كقاعدة كلية.
ثانيا : لو سلمنا ـ
جدلا ـ بصحة الاعتماد على دلالة السياق للآيات فإن قوله تعالى : «ليذهب عنكم ..
ويطهركم» بضمير المذكر دون ضمير المؤنث هو نص صريح على اخراجهن من الآية. وليس من
شك ان دلالة النص مقدمة على دلالة السياق لأنها أقوى وأظهر.
ثالثا : ان
المفسرين والمحدثين الذين ذكرناهم قد اعتمدوا في اخراجهن على الحديث الصحيح عن
الرسول الأعظم (ص) ، وقد اتفقت كلمة المسلمين على ان السنة النبوية تفسير وبيان
لكتاب الله.
والحافظون لحدود الله والحافظات الآة
٣٥ :
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ
وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))
المعنى :
الإسلام اقرار لله
بالوحدانية ، ولمحمد بالرسالة ، والايمان اقرار باللسان وعقد في الجنان وعمل
بالأركان ، وتدل الآية ١٤ من سورة الحجرات على الفرق بين الإسلام والايمان : «قالت
الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم».
والمراد بالقنوت هنا القيام بالطاعة والدوام عليها ، وبالصدق الإخلاص ، وبالصبر
تحمّل الصعاب والشدائد من أجل الحق ونصرته ،
وبالخشوع التواضع
، وبالتصدق الإنفاق في سبيل الله ، والصيام معلوم ، وكذلك حفظ الفرج عن الحرام ،
أما ذكر الله كثيرا فهو كناية عن المواظبة على الصلوات الخمس .. ومن جمع هذه
الصفات فله عند الله مقام كريم ، وأجر عظيم ذكرا كان أم أنثى. أنظر ج ١ ص ٣٤٣ وج ٢
ص ٤٤٦ فقرة «بين الرجل والمرأة».
قصة زينب بنت جحش الأة
٢٦ ـ ٤٠ :
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ
وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ
حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ
اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))
اللغة :
قال أبو حيان
الأندلسي : الخيرة مصدر من تخير على غير قياس كالطيرة من تطير. والوطر الحاجة.
والمراد بالحرج هنا البأس. وقدرا مقدورا أي قضاء مقضيا.
الإعراب :
قال سبحانه : «لهم
الخيرة من أمرهم» ولم يقل لهما لأن كلا من مؤمن ومؤمنة وقع نكرة في سياق النفي ،
وهي تفيد العموم. والمصدر من أن تخشاه مجرور بباء محذوفة أي أحق بالخشية. وسنة
منصوب على المصدرية أي سن الله سنة. والذين يبلغون صفة للذين خلوا ، والمراد بهم
الأنبياء السابقون ، وجملة وكان أمر الله معترضة. وحسيبا تمييز. ورسول الله خبر
كان محذوفة أي ولكن كان محمد رسول الله.
هل اشتهى النبي زينب بنت جحش؟
كثر الكلام حول
هذه الآيات من أنصار الإسلام وأعدائه .. طعن هؤلاء بعفة الرسول ونزاهته ، وقالوا :
اشتهى زينب بنت جحش الأسدية ابنة عمته أميمة ، ومال اليها ، وهي زوجة مولاه زيد بن
حارثة ، وأخفى ذلك خوفا من الناس لا خوفا من الله ، وتشبثوا بقوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). ورد عليهم أنصار الإسلام بالحق والمنطق السليم ، وان كان
البعض منهم سلك في التأويل مسلكا يضعه موضع التهمة بالدفاع عن دينه وعقيدته ..
ونحن كأي مسلم يؤمن بعصمة نبيه ، ويذهب عنها بدافع من دينه وعقيدته .. ولكن مع ذلك
سنقف من هذه الآيات وتفسيرها موقفا محايدا ، نلتزم فيه بظاهر اللفظ ، لا نؤوّل ولا
نخرج عن دلالة الآيات ، وندع الحكم للقارئ المنصف .. وقبل أن نشرع بالتفسير نمهد
بما يلي :
كان زيد بن حارثة
عبدا مملوكا لرسول الله (ص) .. وفي ذات يوم جاء أبوه
إلى الرسول ، وطلب
أن يعتق ابنه أو يبيعه له بأي ثمن شاء ، فأعتقه نبي الرحمة لوجه الله وخيّره بين
البقاء معه والذهاب مع أبيه ، فآثر زيد النبي على أبيه ، وعندئذ قال أبوه حارثة :
يا معشر قريش اشهدوا انه ليس ابني. فقال النبي (ص) : اشهدوا انه ابني .. فظن الناس
ان النبي قد تبنى زيدا ، ودعوه بعد ذلك بزيد ابن محمد.
وكان العرب قبل
الإسلام يجرون أحكام الابن الحقيقي على الابن الدعي حتى في استحقاق الإرث ، وحرمة
النسب .. ومن المتفق عليه عند العقلاء الأخيار منهم والأشرار ان العادات الموروثة
عن الآباء والأجداد هي بمنزلة القانون والديانة لا يجوز لأحد أن يخالفها كائنا من
كان.
وشاءت حكمته تعالى
أن يلغي هذه العادة ، وينهى عنها بالفعل لا بالقول ، وذلك بأن يتزوج زيد بن حارثة
الذي كان بالأمس عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، أن يتزوج من امرأة لها شأنها نسبا
وجمالا ، ولا يطمع في أمثالها إلا السادة الأشراف ، وهي زينب بنت جحش ابنة أميمة
بنت عبد المطلب جد الرسول الأعظم (ص) ، وأن يقضي منها زيد حاجته ، ثم يطلقها ،
وبعد انقضاء عدتها يتزوجها رسول الله (ص) ، لأن ذلك أقوى وأبلغ في النهي عن هذه
العادة من جهة ، وكيلا يأنف الأشراف من الزواج بمطلقات الموالي والمستضعفين من جهة
ثانية ، ومع هذا وذاك أن لا تأنف كريمة النسب أو وليها من الزواج بمن هو دونها
حسبا ونسبا .. قضى الله بذلك وقدره كما نص عليه سبحانه بقوله : «وكان أمر الله
مفعولا .. وكان أمر الله قدرا مقدورا». وأوحى سبحانه الى نبيه الكريم بهذا القضاء
والقدر ، وأمره أن يزوج زيدا من زينب ، وما كان لنبي إذا قضى الله أمرا أن تكون له
الخيرة من أمره.
فتقدم النبي الى
زينب ، وخطبها لمولاه زيد ، وأخفى في نفسه ما أوحى الله به اليه من أنه قد قضى
وقدر أن يتزوجها هو بعد زيد ، أخفى النبي هذا الوحي لأنه ثقيل على الناس لبعده عن
طباعهم وتقاليدهم ، والى هذا الإخفاء أشار سبحانه بقوله : «وتخفي في نفسك ما الله
مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه» .. خطب النبي (ص) ابنة عمته لمولاه زيد ،
فأبى أخوها عبد الله أن تتزوج أخته من
غير كفؤ ، وشاركته
هي هذا الإباء ، فنزل قوله تعالى : «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم». فخضعت زينب وأخوها لقضاء الله ورسوله ، وتم
الزواج.
وبعد حين من الدهر
فترت العلاقة بين الزوجين ، فذهب زيد الى رسول الله يريد طلاق زينب ، فنهاه وأمره
بالصبر ، ولكن أمر الله كان مفعولا ، فتم الطلاق ، وبعد العدة تزوجها الرسول ،
وتحطم نظام التبني وزالت آثاره .. ومن غير الرسول الأعظم يتحدى المجتمع في عاداته
وتقاليده التي نشأ عليها وورثها أبا عن جد! .. اذن ، مسألة زواج النبي (ص) من زينب
ليست مسألة شهوة وغرام وانما هي مسألة أمر الله وقضائه وقدره بنص الآيات الواضحات
التي حاول المفترون تحريفها وتأويلها على أهوائهم .. وهذا هو النص ينطق بصراحة : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً). (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
قَدَراً مَقْدُوراً). «وتخفي في نفسك ما الله مبديه». والمراد بالأمر المفعول
والمقدور وبالذي يعلنه الله ويبديه شيء واحد ، وهو زواج النبي من زينب الذي أعلنه
سبحانه وأبداه صراحة بقوله : «زوجناكها». ولو كان النبي قد أضمر شهوتها في نفسه
كما يقول المفترون لأظهر الله ذلك وأبداه لقوله : «ما الله مبديه» ولا شيء في
الآيات يشير من قريب أو بعيد الى الشهوة التي ابتدعها المتقولون .. هذا ، إلى ان
زينب كانت في قبضة النبي (ص) وأطوع اليه من بنانه ، ولو كانت المسألة مسألة شهوة
وغرام لما زوّجها من مولاه زيد ليقضي منها وطره ، ثم يتزوجها من بعده .. حاشا سيد
الكونين من الشهوات والأهواء ، وتعالى عنها علوا كبيرا.
وبعد ، فإن هذه
الآيات قد تواردت بأجمعها على موضوع واحد ، فهي متشابكة متماسكة ، ولا يمكن بحال
تجزئتها والأخذ ببعضها دون بعض ، فإما أن تؤخذ جملة ، وإما أن تترك جملة ، ومن أخذ
بقوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ككلام مستقل ، وتجاهل قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
قَدَراً مَقْدُوراً) وقوله : «ما الله مبديه» فهو من الذين زاغ بهم الباطل عن
جادة الحق عنادا له ولأهله .. وقد وضح بهذا التمهيد معنى الآيات ، وعرف المقصود
منها ، لذلك نمر بها مرا سريعا نشير فيه إلى تطبيق الآيات على مراحل القصة من
الزواج الأول إلى الزواج الثاني.
المعنى :
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). نزلت هذه الآية حين خطب النبي زينب بنت جحش لمولاه زيد
ابن حارثة ، وأنفت من الاقتران به هي وأخوها عبد الله لأن زيدا ليس لها بكفؤ ،
والمعنى ان هذا الزواج بأمر الله ورسوله ، ولا ارادة لأحد من المؤمنين مع الله
والرسول ، ومن أبى فهو من الضالين الهالكين .. وعندئذ نزلت زينب وأخوها على حكم
الله والرسول ، وتم الزواج.
(وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) وهو زيد بن حارثة ، أنعم الله عليه بالإسلام وصحبة الرسول
، وأنعم الرسول عليه بالعتق (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ). بعد حين من الزواج فترت العلاقة الزوجية بين زينب وزيد ،
وقال للنبي (ص) : أريد طلاقها. فأوصاه بإمساكها وبتقوى الله في جميع أحواله ..
ولكن النبي (ص) كان على يقين بأن زيدا سيطلق زينب ، وانه سيتزوجها من بعده ، إلا
انه لم يبد ذلك خوفا من لوم اللائمين ، فستره بقوله لزيد : أمسك عليك زوجك ، وعلى
هذا عاتبه الله بقوله :
(وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). المراد ب (مَا اللهُ مُبْدِيهِ) زواج النبي من زينب بعد طلاقها من زيد ، وقد أبداه الله في
الحال وفي نفس الآية ، أبداه وأظهره بقوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها). هذا ما أخفاه محمد وأبداه الله فأين هي الشهوة التي
أخفاها محمد في نفسه؟ ولما ذا سكت الله بعد أن قال : «ما الله مبديه»؟ .. أخفى
النبي (ص) علمه بأن زيدا سيطلق زينب ، وانها ستكون حليلة له بعد الطلاق ، وعلى هذا
الإخفاء عاتبه الله وقال له تلويحا لا تصريحا : من كان له مقامك عند الله فلا يهتم
بلوم اللائمين وأقوال المتقولين.
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً). تزوج زيد من زينب وقضى منها حاجته ، ثم طلقها وبعد العدة
تزوجها الرسول (ص). وكان
زواج النبي منها
بيانا من الله للمؤمنين وللناس أجمعين لرفع الإثم عنهم إذا تزوجوا حلائل أدعيائهم
الذين قضوا حاجتهم منهن (ما كانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ). لقد أمر سبحانه نبيه الكريم أن يتزوج حليلة ابنه الدعي
ليبطل بذلك عادة الجاهلية ، فاستجاب النبي لأمر الله ، وما على النبي ولا على غيره
من غضاضة في زواج حليلة ابن التبني وان عابه الناس ما دام الله قد أحل ذلك.
(سُنَّةَ اللهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ
وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً). المراد بالذين خلوا وبالذين يبلغون رسالات الله ـ الأنبياء
السابقون ، والمعنى ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أرسله الله داعيا الى الحق
وناهيا عن الباطل ، ومنه العادات والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد
بلغ الرسول رسالات ربه بأمانة واخلاص ، وما هادن ولا داهن ، ولم يخش إلا الله ،
وتحمّل من أجل ذلك الكثير من العناء والبلاء ، ولك يا محمد فيمن مضى من إخوانك
الأنبياء أسوة وعزاء. وعلى الله وحده حساب المكذبين والمعاندين.
(ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) بالنسب والولادة كي تحرم مطلقة زيد ابن حارثة عليه ..
وبالمناسبة : ولد لرسول الله (ص) أربعة ذكور ثلاثة من خديجة ، وهم القاسم والطيب
والطاهر ، وقيل : ولدان لأن الطاهر هو الطيب. وواحد من مارية القبطية وهو ابراهيم
، وماتوا جميعا في سن الطفولة ، أما الحسن والحسين فهما ولدا ابنته فاطمة من علي (ع)
، ولكن الرسول قد اعتبرهما ولدين له حيث قال : ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا ،
وقال أيضا : كل بني بنت ينتسبون إلى أبيهم إلا أولاد فاطمة فإني أنا أبوهم. انظر ج
٣ ص ٢١٩.
(وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ) والرسول غير الأب ، وان كان أشد حرصا على المؤمنين وأكثر
رحمة بهم من آبائهم وأمهاتهم (وَخاتَمَ
النَّبِيِّينَ) فلا نبي بعد محمد (ص) ، ولا شريعة بعد شريعة الإسلام (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومنه علمه تعالى
حيث يجعل رسالته ، وحيث يختمها بمحمد (ص).
لما ذا ختمت النبوة بمحمد؟
اتفق المسلمون
قولا واحدا على انه لا وحي إلى أحد بعد محمد (ص) ، ومن أنكر ذلك فما هو بمسلم ،
ومن ادعى النبوة بعد محمد وجب قتله ، ومن طلب الدليل على نبوة هذا الدعي محتملا
الصدق في قوله فهو كافر ، وفي تفسير إسماعيل حقي «روح البيان» : «لو جاء بعد رسول
الله (ص) نبي لجاء علي بن أبي طالب لأنه كان منه بمنزلة هرون من موسى».
وتسأل : لما ذا
ختمت النبوة بمحمد؟
الجواب : ان
الغاية الأولى والأخيرة من بعثة النبي هي أن يبلغ قوله تعالى إلى عباده ، وما من
شيء يريد الله سبحانه أن يبلغه إلى عباده إلا وهو موجود في القرآن الكريم ، قال
تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ـ ٨٩ النحل. وقال
: (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ـ ٣٨ الانعام. أي
من شيء يتصل بوظيفة الأنبياء واختصاصهم في هداية الخلق وإرشادهم الى مصالحهم التي
تضمن لهم سعادة الدارين.
ولا وسيلة لإثبات
هذه الحقيقة إلا بالتجربة التي لا تقبل الشك والجدال ، ونعني بها أن يدرس أهل
الاختصاص القرآن دراسة علمية شاملة من ألفه إلى يائه ، ثم يقارنوا بينه وبين غيره
من كتب الأديان .. ونحن على يقين بأنهم ينتهون من ذلك إلى أمرين : الأول ان القرآن
ببلاغته وعقيدته وشريعته يفوق جميع كتب الأديان. الثاني انهم يجدون في القرآن جميع
الأصول والمبادئ التي تتجاوب مع حاجات الناس ومصالحهم وتقدمهم إلى قيام الساعة.
فما من نهضة علمية أو ثورة تحررية إلا ويدعو اليها القرآن ويباركها ، وما من تشريع
يحتاج اليه الناس في دور من أدوار التاريخ إلا ويستطيع أهل العلم والاجتهاد أن
يستخرجوه من أحد أصول القرآن ومبادئه ، وقد أذن الله ورسوله لمن له الأهلية
والكفاءة ، أن يفرّع على أصول القرآن ، ويستخرج منها الأحكام التي فيها خير وصلاح
للناس بجهة من الجهات ، ومعنى هذا ان حكم المجتهد العادل هو حكم القرآن والرسول ،
ولذا جاء في بعض الروايات ان الراد على حكمه كالراد على الله. ومعنى هذا أيضا ان
النبي موجود
بوجود القرآن الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وقد أجاد ابن عربي في قوله: «من حفظ
القرآن فقد أدرج النبوة بين جنبيه». طبعا على شرط التدبر والإيمان الخالص.
وبعد ، فان محمدا
بشر يوحى اليه كنوح وابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ، ولكن الله سبحانه
قد خص محمدا بما لم يخص به أحدا من الأنبياء ، مع العلم بأنه تعالى قد منح كل نبي
جميع الفضائل ، لأن النبوة أم الفضائل كلها .. ولكن للفضل مراتب ، فهناك فاضل
وأفضل ، وكامل وأكمل تماما مثل عالم وأعلم ، وكريم وأكرم : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) ـ ٥٥ الإسراء. وقد
خص الله محمدا (ص) بأسمى المراتب وأكمل صفات الكمال بحيث لا شيء فوقها إلا الله
وصفات الله .. ومن ذلك إكمال الوحي الذي أنزل اليه ، إكماله من جميع الجهات ،
والدليل هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء مما يدخل في وظيفة رسل الله ، فأين هي
كتب الأنبياء؟ فليأت الجاحدون بواحد منها فيه تبيان كل شيء ، أو يجرأ على القول :
إنه ما فرط فيه من شيء .. وإلى هذا أشار خاتم النبيين وسيد المرسلين حيث قال : «ان
مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وجمّله إلا موضع لبنة ،
فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة ،
وأنا خاتم النبيين».
ونختم الجواب بما
قلناه في كتاب «إمامة علي والعقل» : وإذا قال قائل : لما ذا كان محمد (ص) خاتم
الأنبياء؟ أجبناه بأن محمدا ودين محمد قد استوفيا جميع صفات الكمال ، وبلغا الغاية
منها والنهاية ، تماما كما بلغت الشمس الحد الأعلى من النور ، فلا كوكب ولا كهرباء
يمتلئ الكون بنورهما بعد كوكب الشمس .. كذلك لا نبي يأتي بجديد لخير الانسانية بعد
محمد (ص)». ويتصل بهذا الموضوع ما كتبناه بعنوان «الدين والدعوة إلى الحياة» في ج
٣ ص ٤٦٥ وعند تفسير الآية ٩ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٢٣ والآية ٣٠ من سورة الروم.
هو الذي يصلي عليكم الأة
٤١ ـ ٤٩ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥)
وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى
بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ
مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً
(٤٩))
اللغة :
الصلاة من الله
المغفرة والرحمة ، والمراد بالنكاح هنا عقد الزواج ، وبالمس الدخول ، وبالمتعة
العطية.
الإعراب :
وملائكته عطف على
الضمير المستتر في يصلي. وشاهدا حال. ومن عدة (من) زائدة إعرابا وعدة مبتدأ مؤخر ،
ولكم خبر مقدم. وجملة تعتدونها صفة لعدة.
المعنى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً). هذا أمر بالمواظبة على الصلوات الخمس ، وذكر الله أحسن
الذكر في سائر الأحوال (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ). الصلاة من الله على المؤمن معناها المغفرة والرحمة ، ومن
غيره معناها الدعاء بالمغفرة والرحمة ، وعلى هذا فلكل انسان أن يصلي ويسلّم على كل
من آمن وعمل صالحا. وتجدر الاشارة إلى ان السنّة إذا ذكروا صحابيا جليلا أو إماما
عظيما من أئمة المسلمين قالوا ـ في الغالب ـ : رضي الله عنه ، أما الشيعة فيقولون
: عليه السلام ، ومصدر القولين واحد ، وهو القرآن ، قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ـ ١٢٠ المائدة».
وقال : (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ) ـ ١٣٠ الصافات.
وقال أيضا : «هو الذي يصلي عليكم وملائكته». وفي تفسير روح البيان «قال بنو
إسرائيل لموسى : أيصلي ربنا؟ فكبر ذلك عليه». وليس هذا ببعيد على إسرائيل ..
وبالخصوص إذا أمرت بالصلاة.
(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). المراد بالظلمات هنا ظلمات الجحيم ، وبالنور نور النعيم
أي ان الله وملائكته يصلّون على المؤمنين ليبعدوا عن عذاب السعير ، ويدخلوا في روح
وريحان. وقيل : المراد بالظلمات ظلمات الكفر ، وبالنور نور الايمان. ولا يتفق هذا
مع قوله تعالى : (وَكانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وأيضا لا يصلي الله وملائكته على الكافرين ليخرجهم إلى
الايمان.
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً). تقدم في الآية ١٠ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٧ والآية ٢٣ من
سورة ابراهيم.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى
اللهِ بِإِذْنِهِ). أرسل الله محمدا (ص) داعيا إلى الحق ، وزوده بالحجج
الكافية الوافية مبشرا من أطاع بالجنة ، ومنذرا من عصى بعذاب أليم .. وسيشهد غدا
على هذا بأنه أعرض وتولى ، ولذاك بأنه سمع وأطاع. وفي نهج البلاغة : أرسله داعيا
إلى الحق وشاهدا على الخلق ، فبلّغ رسالات ربه غير وان ولا مقصر ، وجاهد في الله
أعداءه غير
واهن ولا معذّر ـ أي
لم يدع لأحد عذرا ـ امام من اتقى ، وبصر من اهتدى (وَسِراجاً مُنِيراً) يهتدي به التائهون الى شاطئ السلام والأمان.
(وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) تقدم بالحرف في أول هذه السورة مع التفسير والسؤال عن وجه
النهي وجوابه (ودع أذاهم). النبي (ص) لم يؤذهم ، ولكن المشركين هم الذين آذوه حتى
قال : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت. وعليه يكون المعنى أعرض عنهم ، ولا تهتم بجهلهم
وسفههم (وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). في نهج البلاغة : من توكل على الله كفاه ، ومن سأله أعطاه
، ومن أقرضه قضاه ، ومن شكره جزاه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً). المتعة بضم الميم وكسرها اسم للتمتع في اللغة ، وفي الشرع
هي عبارة عن منحة يقدمها المطلق لمطلقته بحسب حاله يسرا وعسرا .. ولا عدة للمطلقة
قبل الدخول ، وأيضا لا تجب لها المتعة على المطلق ان استحقت عليه نصف المهر ، وإلا
وجبت المتعة. انظر ج ١ ص ٣٦٦.
يا ايها النبي انا أحللنا لك أزواجك الأية ٥٠ ـ ٥٢ :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ
عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي
مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ
وَتُؤْوِي
إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ
تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما
مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))
اللغة :
أجورهن مهورهن.
وما ملكت يمينك سهمك من الغنائم. وترجي تبعد وتعزل. وتؤوي تضم.
الإعراب :
وامرأة عطف على
أزواجك أي وأحللنا لك امرأة. وخالصة حال من الضمير المستتر بوهبت. ولكيلا متعلق
بخالصة. والمصدر من ان تقر مجرور بإلى محذوفة والمصدر المجرور متعلق بأدنى. وكلهن
تأكيد لنون يرضين.
المعنى :
ذكر سبحانه في هذه
الآيات أنواع النساء التي تحل للنبي (ص) ، وترك له الخيار في أن يهجر من يشاء منهن
، ويعاشر من يشاء ، ثم حرم عليه أن يزيد على اللاتي عنده أو يبدل امرأة مكان امرأة
، وكان في عصمته حينذاك تسع ، والتفصيل فيما يلي :
١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ). المراد بالأجور هنا المهور ، والإيتاء يكون بأداء المهر ،
ويكون بالالتزام به في الذمة ، وتومئ الآية إلى أن للنبي أن يتزوج بأي عدد شاء ،
وهذا من خصائصه.
وتسأل : ان عقد الزواج
يصح حتى ولو لم يذكر فيه المهر ، فلما ذا قيد سبحانه التحليل بالمهر؟
الجواب : ان القيد
هنا هو الالتزام بأداء ما تستحقه الزوجة من المهر ، لا بذكر المهر في متن العقد ،
والتي لم يسمّ لها مهر في العقد تستحق مهر أمثالها ان دخل بها الزوج .. وكان مهر
نساء النبي (ص) خمسمائة درهم ، وقدّر ب ٢٥ ليرة ذهبية.
٢ ـ (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ
اللهُ عَلَيْكَ). من الفيء السبايا اللاتي كان يغنمها المسلمون بالحرب مع
المشركين ، وتسمى السراري ، وقد أباحها الله للنبي الكريم ولأمته بغير عدد.
٣ ـ (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ
وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ). وتسأل : ان بنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات يدخلن
في النوع الأول من النساء ، فما هو الغرض من ذكرهن بالخصوص؟
الجواب : غير بعيد
أن يكون ذكرهن بالخصوص للتنبيه الى ان الأليق بمقام الرسول أن يتزوج من القرشيات
اللاتي هاجرن من دار الكفر الى دار الإسلام ، أما المؤمنات منهن غير المهاجرات
فالأولى ترك الزواج بهن.
سؤال ثان : ذكر
أهل السير ان للنبي (ص) عشرة أعمام ، وهم : العباس وحمزة وعبد الله وأبو طالب
والزبير والحارث وحجلا والمقوم وضرار وأبو لهب ، وست عمات ، وهن صفية وأم حكيم
البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة (السيرة النبوية لابن هشام). وقالوا : ان النبي (ص)
لم يكن له خال ولا خالة لأن أمه آمنة بنت وهب (ع) لا أخ لها ولا أخت. (تفسير روح
البيان). اذن ، ما هو الوجه لقوله تعالى : (وَبَناتِ خالِكَ
وَبَناتِ خالاتِكَ)؟
الجواب : المراد
بأخوال النبي (ص) وخالاته عشيرة أمه بنو زهرة ، وكانوا يقولون : نحن أخوال النبي.
٤ ـ (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ). من خصائص النبي (ص) ان يتزوج امرأة ـ ان شاء ـ وهبت له
نفسها بلا مهر شريطة أن تكون مؤمنة .. أجل ، يجوز لغيره أن يتزوج بمهر ، ثم تهبه
الزوجة مهرها كما يهب أي انسان لمن يشاء ما يشاء من المال.
(قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا
يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). حدد سبحانه للمؤمنين عدد الأزواج الأحرار ، واعتبر شروطا
خاصة في نكاح الجواري ، وحرم عليهم من وهبت لهم نفسها بلا مهر ، وأطلق ذلك للرسول
لكيلا يكون عليه حرج فيما أراد من النساء ، وللدلالة أيضا على عظيم منزلته ومكافأة
له على جهوده ، والله سبحانه أعلم بما يصلح الناس ، وغفور للمؤمنين ، ورحيم بهم.
(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ). في الآية السابقة أطلق سبحانه لنبيه الكريم الحرية في عدد
الزوجات ، وفي هذه الآية جعل له الخيار في هجر من يشاء ومعاشرة من أراد منهن (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ
فَلا جُناحَ عَلَيْكَ). وله أيضا أن يعود إلى معاشرة من هجرها ، ويهجر من عاشرها
، وبتعبير بعض المتفاصحين له أن يقلب المقدم مؤخرا ، والمؤخر مقدما.
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ
تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ). ذلك اشارة الى تفويض الأمر الى مشيئة النبي (ص) ، والمعنى
انهن متى علمن ان الأمر اليك لا إليهن في التسوية بينهن رضيت كل واحدة بما تعطيها
من المعاشرة قليلا كان أو كثيرا لعلمها بأن ذلك تفضل منك ، وليس بواجب عليك .. ومع
هذا فقد كان النبي يساوي بين أزواجه (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل الى بعض الزوجات دون بعض ، والله سبحانه لا يؤاخذ
على ما في القلوب من حب أو بغض ، وانما يؤاخذ على العمل الذي لا يرتضيه ، وهذا
المعنى هو المراد بقوله : (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَلِيماً).
(لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ). ذكر المفسرون لهذه الآية ثلاثة معان أقربها الى دلالة
الظاهر ان الله سبحانه بعد أن أباح للنبي أنواع النساء التي أشار اليها في الآية
السابقة أوجب عليه
في هذه الآية
الاكتفاء بمن في عصمته فعلا ، وكنّ تسعا ، وحرم عليه أن يطلق واحدة منهن ويتزوج
مكانها أخرى حتى ولو أعجبته ، وقوله تعالى : «ولو أعجبك حسنهن» يدل على ان للرجل
أن ينظر الى من يريد زواجها ، وقد أفتى بذلك الفقهاء استنادا الى هذه الآية والى
أحاديث عن الرسول الأعظم (ص). (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) مما أفاء الله عليك من المسبيات (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
رَقِيباً) حتى على السرائر والضمائر : (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ـ ٤ الحديد.
فاذا طعمتم فانتشروا الأة
٥٣ ـ ٥٥ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا
أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ
اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا
أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ
أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))
اللغة :
غير ناظرين أي غير
منتظرين. وإناه بالقصر ، ويجوز فيه المد ، تقول : إناه واناؤه ، والمراد به هنا
الطعام الذي يوضع في الإناء بعد نضجه. وطعمتم أكلتم. فانتشروا انصرفوا. ولا
مستأنسين لحديث أي لا تمكثوا بعد الطعام للسمر والحديث والمراد بالمتاع هنا ما في
البيت من أثاث وأدوات.
الإعراب :
المصدر من أن يؤذن
لكم في موضع الحال أي إلا مأذونا لكم. وإلى طعام متعلق بيؤذن. وغير ناظرين حال من
فاعل تدخلوا. ولا مستأنسين عطف على غير ناظرين أي غير ناظرين ولا مستأنسين. ان
ذلكم كان يؤذي النبي «ذلكم» إشارة الى المكوث. وذلكم أطهر ، اشارة إلى سؤال المتاع
من وراء حجاب. وان ذلكم كان عند الله عظيما ، «ذلكم» إشارة الى نكاح أزواج النبي
من بعده.
المعنى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ). أي لا تمكثوا بعد الطعام إطلاقا ، لا للاستئناس بالحديث
ولا لغيره ، وإنما ذكر سبحانه الاستئناس بالحديث لأن المكوث في الغالب يكون لهذه
للغاية .. ويومئ ظاهر الآية إلى ان بعض الصحابة كان يدخل بيوت النبي (ص) من غير
اذن جريا على عادة الجاهلية ، وانه كان إذا رأى طعاما يوقد عليه في بيت النبي
ينتظره للأكل ، وانه كان يجلس بعد الطعام للحديث والسمر .. وليس من شك ان هذا
النوع من التطفل وسوء الأدب يؤذي كل انسان نبيا كان أو غير نبي ، ومن أجل هذا أدّب
النبي الصحابة وغيرهم بأن لا يدخلوا أي بيت من البيوت إلا بعد الإذن من أهله ـ وتقدمت
الاشارة الى ذلك في الآية ٢٨ من سورة النور ـ
وأن لا يقصدوه من
أجل الطعام إلا بعد الدعوة على أن يأتوه بعد إعداد الطعام ، ولا يتخلفوا بعد الانتهاء
منه .. ولا يختص ذلك ببيت النبي وحده ، وإنما ذكره سبحانه لأنه السبب الموجب لنزول
الآية ، وقلنا أكثر من مرة : ان سبب النزول لا يخصص عموم الآية.
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ). المراد بالحق الذي استحيا منه النبي (ص) حقه الشخصي ، وهو
إخراج الثقلاء والمتطفلين من بيته ، سكت النبي عنه حياء منهم ، فنبه سبحانه الى ان
بقاءهم بعد العام يؤذي النبي ، وكذلك دخولهم على بيته من غير اذن ، وفي الحديث :
الحياء شعبة من الإيمان ، ومن لا حياء له لا إيمان له. وفي حديث آخر : لم يبق من
أمثال الأنبياء إلا قول الناس : إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقد جاء في وصف النبي :
انه كان أشد حياء من العذراء في خدرها ، وفي نهج البلاغة : لا إيمان كالحياء
والصبر ، وكان العرب يمدحون العظيم بالحياء ، قال الفرزدق في مدح الإمام زين
العابدين (ع) :
يغضي حياء ويغضى
من مهابته
|
|
فلا يكلم إلا
حين يبتسم
|
ومن الطريف ما جاء
في محاضرات الأدباء للأصفهاني : ان طفيليا عوتب على تطفله ، فقال : لقد تطفل بنو
إسرائيل على الله ، ألا نتطفل نحن على الناس؟.
(وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ). ضمير «هن» يعود لأزواج النبي (ص) ، أما ذكر المتاع فهو من
باب المثال ، لا من باب التخصيص به ونفي الحكم عن غيره ، ويدل على ذلك قوله تعالى
: (ذلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) حيث يشعر بأن الاختلاط وإزالة الحجاب بين النساء والرجال
يؤدي الى الفساد والفتنة ، ومعنى هذا ان الاختلاط محرم ، أو ان الأولى تركه ـ على
الأقل ـ وبهذا يتبين معنا ان الاختلاط سبب لاثارة الغريزة الجنسية ، وليس سببا
لتهذيبها وكبح جماحها كما يدعي من يقول : قال الله وأقول! ... «ومن أصدق من الله
حديثا».
(وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَداً
إِنَّ
ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً). هذا الحكم من خصائص الرسول الأعظم (ص) وحده لأن أزواجه
بمنزلة الأمهات للمؤمنين. وفي تفسير الرازي ، وروح البيان لإسماعيل حقي : «ان هذه
الآية نزلت حين قال طلحة بن عبيد الله التيمي : لئن مات محمد (ص) لأتزوجن عائشة»
.. ويؤيد ذلك قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا
شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً). فإنه تهديد ووعيد لمن أعلن أو أضمر الزواج بنساء النبي (ص)
من بعده.
(لا جُناحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ
إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً). بعد أن أمر سبحانه الرجال أن يخاطبوا النساء من وراء حجاب
حين يسألونهن متاعا استثنى الآباء والأبناء والاخوة وأبناءهم وأبناء الأخوات
والعبيد والنساء لأن المرأة لا يجب عليها أن تحتجب عن مثلها ، وقال سبحانه : (نسائهن)
لأن غير المؤمنات يصفن المؤمنات لرجالهن ، وتقدم نظير ذلك في الآية ٣١ من سورة
النور ج ٥ ص ٤١٧.
صلوا عليه وسلموا تسليما الأة
٥٦ ـ ٥٨ :
(إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ
عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))
المعنى :
(إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً). صلاة الله على النبي معناها الرضا والرحمة والثناء عليه
بكل خير ، والصلاة عليه من الملائكة معناها التزكية ، ومن المؤمنين الدعاء بعلو
المنزلة. فقد سئل الإمام الرضا (ع) عن معنى صلاة الله والملائكة والمؤمنين على
النبي؟ فقال : الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة التزكية ، ومن المؤمنين
الدعاء .. ولا تنحصر الصلاة على النبي بالله والملائكة والمؤمنين برسالة محمد (ص)
، فكل انسان يعمل بشيء من سنته أو يدرسها أو يستدل بها أو يدوّنها ، أو يذكر فضيلة
من فضائله فقد صلى عليه مؤمنا كان أم غير مؤمن ، أراد ذلك أم لم يرد.
وقال الإمام جعفر
الصادق (ع) : ان صلاة الرجل على محمد مثل قوله : سبحان الله والحمد لله ولا إله
إلا الله والله أكبر. يريد الإمام ان ثواب الصلاة على محمد تماما كثواب التسبيح
والتحميد والتهليل والتكبير. وعن الرسول الأعظم (ص) انه قال : البخيل حقا من ذكرت
عنده فلم يصلّ عليّ. اللهم صلّ على محمد وآل محمد.
كيف نصلي عليك يا رسول الله؟
في صحيح البخاري ج
٨ باب «الصلاة على محمد» ، وتفسير الطبري والرازي والمراغي وغيرهم من المفسرين ،
وفي كتب المحدثين أيضا : قيل : يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال : قولوا اللهم صلّ
على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إنك حميد مجيد ،
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد
مجيد.
وفي تفسير «روح
البيان» لإسماعيل حقي : «ينبغي أن يقول المصلي : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد
بإعادة كلمة «على» فإن أهل السنة التزموا إدخال «على» على الآل ردا على الشيعة
فإنهم منعوا ذكر «على» بين النبي وآله». ونحن لا نجد أي فرق بين قول من قال :
اللهم صلّ على محمد وآل محمد ، وقول من قال : وعلى آل محمد ، أما حديث : «من فصل
بيني وبين آلي لم تنله شفاعتي» فالله أعلم بصحته. وقال الإمام الشافعي :
يا أهل بيت رسول
الله حبكم
|
|
فرض من الله في
القرآن أنزله
|
كفاكم من عظيم
القدر انكم
|
|
من لا يصلّي
عليكم لا صلاة له
|
(إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً). المراد بإيذاء الله تعالى غضبه ونقمته ، والسبب الموجب
لغضبه الجحود ونسبة الشريك أو الولد اليه أو معصية حكم من أحكامه ، وإيذاء الرسول
يكون بإنكار رسالته أو إهمال سنته ، أما اللعنة من الله فهي الطرد والابعاد من
رحمته ، ومن الناس الشتم والدعاء بالسوء ، وفي نهج البلاغة لعن الله الآمرين
بالمعروف التاركين له ، والناهين عن المنكر العاملين به.
(وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). بغير ما اكتسبوا أي بغير جناية يستحقون بها الإيذاء ،
ويكون الإيذاء بالغيبة والكيد والافتراء وما اليه ، وفي الحديث : «المسلم من سلم
الناس من يده ولسانه .. عز المؤمن بكفّ الأذى عن الناس .. وأذلّ الناس من أهان
الناس». وقال الإمام علي (ع) : أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنه ، ولم يثق
به أحد لسوء فعله.
وجوب الحجاب الأية ٥٩ ـ ٦٢ :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠)
مَلْعُونِينَ
أَيْنَما
ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))
اللغة :
جلابيب جمع جلباب
، وفي معناه أقوال ، منها انه رداء يغطي المرأة من رأسها الى قدميها ، ومنها انه
الخمار الذي يغطي رأسها ووجهها ، وعلى هذا صاحب مجمع البيان. ويدنين يسدلن.
والمرجفون هم الذين يلفّقون الأكاذيب ، وينشرون الأباطيل ، ويعرفون اليوم بالذين
يثيرون الحرب النفسية. والإغراء بالشيء التحريض عليه ، والمراد هنا بنغرينك بهم
نأمرك بقتلهم. وثقفوا وجدوا. وخلوا مضوا.
الإعراب :
جملة يدنين مفعول
قل. وذلك أدنى مبتدأ وخبر ، والمصدر من ان يعرفن مجرور بمن محذوفة. ولنغرينك اللام
واقعة في جواب قسم محذوف. ثم لا يجاورونك عطف على لنغرينك. إلا قليلا صفة لمحذوف
أي الا زمنا قليلا. وملعونين حال من فاعل يجاورونك ، أو منصوب على الذم والشتم أي
اشتم وأذم. وأينما في محل نصب بثقفوا ، وهي تجزم فعلين الأول ثقفوا والثاني أخذوا.
وسنة الله منصوبة على المصدر أي سن الله ذلك سنة في الأمم الماضية.
المعنى :
مرّ معنا آيتان
تدلان على وجوب الحجاب على النساء : الأولى قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا
لبعولتهن الآية ٣١ من سورة النور ج ٥ ص ٤١٥. الثانية قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا
فاسألوهن من وراء حجاب الآية ٥٣ من سورة
الأحزاب ، وأوضح
من هاتين الآيتين قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) فإن قوله تعالى : «يدنين عليهن من جلابيبهن» عام يشمل
الستر والحجاب لجميع أجزاء البدن بما فيه الرأس والوجه ، ويؤيد هذا الشمول قوله
سبحانه : «ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين». فقد كانت المسلمات في أول الإسلام يخرجن
من بيوتهن سافرات متبذلات على عادة الجاهلية ، فطلب سبحانه من نبيه الكريم في هذه
الآية أن يأمرهن بالستر والحجاب ، والأمر يدل على الوجوب فيكون الحجاب واجبا ..
أجل ، لقد خرج من هذا العموم الوجه والكفان لقوله تعالى : «ولا يبدين زينتهن إلا
ما ظهر».
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ) بالعفة والصون ، فإن الحجاب يحجز بين المرأة المتحجبة وبين
طمع أهل الفسق والريب (فلا يؤذين) بالمعاكسات والنظرات الفاسقة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر عما سلف ، ويرحم من تاب وأناب.
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا
قَلِيلاً). المنافقون هم الذين أضمروا الكفر وأظهروا الايمان ،
والمرجفون قوم من المنافقين كانوا ينشرون الدعايات المضللة ضد النبي (ص) والصحابة
، ويشككون ضعاف الايمان الذين عبّر عنهم سبحانه بقوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). والآية تهديد ووعيد بالقتل والنفي لأهل النفاق والإرجاف
ومن يستمع اليهم إذا لم يكفوا عما هم عليه من الإضلال والإفساد.
الحرب النفسية :
وفي عصرنا يسمى
الإرجاف بالحرب النفسية ، وقد تفننت فيها قوى الشر ، وبلغت الغاية من بث الأكاذيب
والأباطيل بكل وسيلة ، بالصحف والاذاعة والتلفزيون وأفلام السينما والخطب
والمنشورات والمدارس والجامعات والكتب والقصص وغيرها ، وكررت هذه الأجهزة الأكذوبة
الواحدة على مسامع الناس في كل يوم مرات ومرات حتى لا تجد الحقيقة مكانا لها عند
الطيبين والمخلصين إلا إذا كانوا على وعي تام وعلم مسبق بدعايات الاستعمار
والصهيونية وأساليبهما المضللة.
قرأت في جريدة «أخبار
اليوم» المصرية عدد ١٣ ـ ١٢ ـ ٦٩ : «ان للدعاية الاسرائيلية ٨٩٠ صحيفة في العالم
لنشر الأخبار الكاذبة ، بالاضافة الى سيطرة الصهيونية على كثير من أجهزة الاعلام
بطريقة غير مباشرة كالتلفزيون والراديو والاعلانات .. الخ». ولا أدري : هل يدخل في
هذا الإحصاء الصحف البيروتية التي لها صلة وثيقة بالاستعمار والصهيونية أم لا؟
ومهما يكن فقد بدأت إسرائيل ـ ولله الحمد ـ تحس بعنف الضربات القاسية من الأيدي
العربية .. وانها لكفيلة بالقضاء على الدعايات التي تلفقها أمريكا وربيبتها
إسرائيل ، ويذيعها العملاء بعد أن يقبضوا الثمن.
(مَلْعُونِينَ
أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً). ملعونون على كل لسان لأن دينهم الدرهم والدينار ، وعملهم
الغش والكذب والخداع .. ولا دواء لهم إلا القتل أينما كانوا لأنهم كالعضو الفاسد
يفسد الجسم بكامله إذا لم يقطع منه (سُنَّةَ اللهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). المراد بسنّة الله هنا حكم الله سبحانه في الضالّ المضل ،
وهو القتل الذي شرعه ، جلت حكمته ، منذ الأزل ، وسيبقى هذا الحكم الى الأبد من غير
تبديل وتعديل.
يسألك الناس عن الساعة الآية
٦٣ ـ ٦٩ :
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ
عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا
أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ
مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا
وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩))
اللغة :
الساعة يوم
القيامة. وما يدريك أي شيء جعلك داريا وعالما. وضعفين مثلين.
الإعراب :
وما يدريك (ما)
استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها النفي ، وجملة يدريك خبر وفاعل الفعل
محذوف أي وما يدريك بها أحد. وقريبا صفة لمحذوف أي زمنا قريبا. وخالدين حال من الكافرين.
ويوم متعلق بلا يجدون. يا ليتنا (يا) لمجرد التنبيه وقيل : المنادى محذوف أي يا
هؤلاء. والسبيلا مفعول ثان لأضلونا لمكان همزة التعدية ، ويجوز أن يكون السبيل
منصوبا بنزع الخافض أي عن السبيل.
المعنى :
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ
عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً). تقدم مثله في الآية ١٨٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٣١.
(إِنَّ اللهَ لَعَنَ
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا
لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا). يساق الكافرون والعصاة غدا الى عذاب الحريق ، ولا ناصر
لهم ولا عاذر ، فيعضون يد الندامة على ما فرطوا من معصية الله والرسول .. ولكن «ندم
البغاة ولات ساعة مندم». وتقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٦٤.
(وَقالُوا رَبَّنا
إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ
ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً). المراد بالسادة والكبراء زعماء الدين والدنيا ، وباللعن
الخزي .. وقد أحال الضعفاء الذنب على القادة من الطرفين ، وطلبوا من الله ان يضاعف
لهم العذاب .. ومن دقق التاريخ رأى ان الأمة الجاهلة يقودها ـ في الغالب ـ الطغاة
والعتاة ، أما أهل الوعي والمعرفة فإنهم لا يأتمنون على مصالحهم إلا الأمناء
المخلصين. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٢٦.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ
مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً). الذين آذوا موسى (ع) هم بنو إسرائيل ، ما في ذلك ريب ،
حيث وصفوه بما يتنزه عنه الأنبياء .. وتشير الآية إلى أن بعض الصحابة قد آذى
الرسول الأعظم (ص) ونسبه الى ما هو بريء منه ، فنهى سبحانه المسلمين عن ذلك. وفي
بعض الروايات : ان رسول الله (ص) قسم ذات يوم قسما ، فقال له رجل من الأنصار : ان
هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، فاحمر وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى ، فقد
أوذي بأكثر من هذا فصبر.
انا عرضنا الأمانة الأة
٧٠ ـ ٧٣ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ
عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها
وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢)
لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))
اللغة :
القول السديد هو
قول الحق والصدق. وتقول عرضت الشيء له أي أظهرته له ، وعرضته عليه أريته إياه.
وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال كناية عن عظيم شأنها.
الإعراب :
يصلح مضارع مجزوم
بجواب قولوا. وأشفقن منها على حذف مضاف أي من حملها. واللام في ليعذب لام العاقبة
مثل : لدوا للموت ، لأن الإنسان لم يحمل الأمانة كي يعذّب ، بل كان نتيجة الحمل
المعصية التي هي سبب العذاب.
المعنى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). القول السديد أن تقول الحق والصدق ، ولا تكتم منه شيئا
ولو كان على نفسك ، والمراد به هنا ما ينفع الناس بقرينة قوله تعالى : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) حيث جعل سبحانه القول السديد سببا لصلاح الأعمال ، ومثال
ذلك ان ترشد ضالا إلى طريق الخير والأمان ، أو تنصر مظلوما بكلمة العدل ، أو تقول
كلاما تصلح به بين اثنين ، وما إلى ذلك من القول الذي ينفع الناس بجهة من الجهات (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
فازَ فَوْزاً عَظِيماً). يفوز في الدنيا بالنجاح وحسن السيرة ، وفي الآخرة بمرضاة
الله وثوابه.
(إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ). اختلف المفسرون في معنى الأمانة ، فمن قائل : انها
التكليف والطاعة ، وقائل : انها كلمة «لا إله إلا الله» ، وقال ثالث : هي أعضاء
الإنسان كسمعه وبصره ويده ورجله ، وان عليه ان يستعملها فيما خلقت من أجله ، وذهب
رابع الى انها الأمانة في الأموال .. والذي نراه نحن انها التضحية بالمصلحة
الفردية لصالح الجماعة ، لا لشيء إلا لوجه الله والانسانية ، لأن هذه التضحية قد
بلغت من الثقل والضخامة مبلغا لو عرضت على أقوى مخلوق كالسماوات والأرض والجبال
لأشفق منها على فرض أنه يحسّ ويشعر.
فالغرض من ذكر
السموات والأرض والجبال هو الاشارة الى عظمة هذه التضحية وتبعتها ، وان الإنسان هو
المخلوق الوحيد من بين الكائنات الذي يستطيع أن يجاهد نفسه الأمّارة وشهواتها ،
ويقاوم أهواءها ونزعاتها ، أما قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً
جَهُولاً) فمعناه ان الإنسان يظلم نفسه وغيره إذا خان هذه الأمانة ،
ويجهل العواقب السيئة التي تترتب على خيانته.
(لِيُعَذِّبَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) الذين يتظاهرون بأداء الأمانة ، وهم خائنون (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) يعذبهم الله لأن جريمة الشرك لا يكفّرها شيء حتى البذل
والتضحية (وَيَتُوبَ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إذا تلافوا ما بدر منهم من تقصير (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي يغفر للتائبين ، ويرحم المستضعفين.
وصلّ اللهم على
محمد وآله صلاة تشفع لنا يوم الفاقة اليك.
سورة سبأ
مكيّة ، وآياتها
٥٤.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمدلله الذي له ما في السموات الأة
١ ـ ٦ :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ
الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))
اللغة :
الولوج الدخول.
والعروج الصعود. ولا يعزب عنه لا يغيب عنه. ومعاجزين من عاجزه أي سابقه ليظهر
عجزه. والمراد بالرجز هنا أسوأ العذاب ، ومن بيانية.
الإعراب :
الحمد لله مبتدأ
وخبر. والذي عطف بيان من لفظ الجلالة. وعالم الغيب صفة لربي. ولا أصغر ولا أكبر
عطف على مثقال ذرة. والمصدر من ليجزي متعلق بلا يعزب عنه. والذين سعوا مبتدأ أول
وأولئك مبتدأ ثان ولهم وعذاب خبر والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.
ومعاجزين حال من فاعل سعوا. والذي أنزل اليك مفعول أول ليرى الذين أوتوا العلم ،
والحق مفعول ثان ، و «هو» ضمير الفصل ، ويهدي عطف على الحق لأن الفعل هنا
بمعنى الاسم أي
والهدى إلى صراط العزيز الحميد.
المعنى :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). الله سبحانه هو المستحق للحمد في الدارين ، ومالك الكون
ومدبره بما فيه على مقتضى علمه وحكمته. وفي نهج البلاغة : نحمده على عظيم إحسانه ،
ونير برهانه ، ونوامي فضله وامتنانه ، حمدا يكون لحقّه قضاء ، ولشكره أداء ، وإلى
ثوابه مقربا ، ولحسن مزيده موجبا.
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ
فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ
فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ). تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ٥٩ من
سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٠٠ والآية ٦١ من سورة يونس ج ٤ ص ١٧٤ ، وملخصه ان الله بكل
شيء عليم.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ). تقدم مثله في
الآية ٥٣ من سورة
يونس ج ٤ ص ١٦٨ (عالِمِ الْغَيْبِ لا
يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا
أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). الكتاب المبين كناية عن الحفظ ، والمعنى ان علم الساعة
عند الله لا يجلّيها لوقتها إلا هو. أنظر تفسير الآية ١٨٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص
٤٣١.
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ). هذا بيان للحكمة من البعث ، وهي أن يجزي الله الذين
أحسنوا بالحسنى ، والذين أساءوا بما كانوا يعملون. أنظر ج ٤ ص ١٣٢ فقرة «الحساب
والجزاء حتم».
(وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ
وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). المراد بالذين أوتوا العلم كل عالم منصف في كل زمان ومكان
، والمراد بالذي انزل اليك القرآن ، والمعنى ان أي عالم يدرس القرآن دراسة صحيحة
لا بد أن ينتهي الى انه حق من عند الله ، لأنه يهدي للتي هي أقوم في عقيدته
وشريعته وجميع تعاليمه.
الكافرون باليوم الأخر الأية ٧ ـ ٩ :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ
بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ
وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ
أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))
اللغة :
التمزيق التقطيع
والتفريق ، يقال : مزقهم الله كل ممزق أي فرقهم وشتتهم ، والمراد بمزقتم في الآية
بليتم في القبور. والمراد بالخلق الجديد البعث. والجنة الجنون. وكسفا جمع كسفة وهي
القطعة. ومنيب راجع.
الإعراب :
إذا تتعلق بفعل
محذوف أي إذا مزقتم بعثتم ، ولا يجوز أن تتعلق بينبئكم لأن النبأ كان قبل التمزيق
لا بعده ولا حينه. وكل ممزق مفعول مطلق. وجملة انكم لفي خلق جديد مفعول ينبئكم.
وافترى على الله أصلها أافترى فلما دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل أسقطتها.
المعنى :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ
جِنَّةٌ). هكذا قال المشركون : محمد كاذب أو مجنون ـ نعوذ بالله ـ ولما
ذا نطقوا بكلمة الكفر؟ .. لأن النبي قال : ان الإنسان بعد الموت يبعث حيا .. ولا
دليل على انكارهم هذا إلا التعجب والاستغراب تماما كقولهم : «أجعل الآلهة إلها
واحدا ان هذا لشيء عجاب». وهو ، كما ترى ، مستمد من ذاتهم وتصورهم ، ومعنى هذا
انهم ينفون الواقع بالفكرة والتصور ، مع العلم ان الفكرة لا تكون صادقة إلا إذا
كانت انعكاسا عن الواقع ومن صلبه ، وان على من يعتنق نظرية ما أن يبرهن على صدقها
بوجود الواقع المعبر عنها ، وليس له أن ينفي الواقع بفكرة مسبقة لا تقوم على أساس
.. والى هذا يشير الإمام علي (ع) بقوله : «يعرف الرجال بالحق ، ولا يعرف الحق
بالرجال». (بَلِ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ). هم في الجهل والضلال لأنهم قاسوا الحق والواقع بأفكارهم
وأوهامهم ، والعكس
هو الصحيح أي كان
عليهم أن يقيسوا أفكارهم بالحق والواقع.
(أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). يقول سبحانه للمكذبين : وأي عجب من بعثكم بعد الموت : «أوليس
الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم» ألا يدل هذا الخلق على وحدانيته
وكمال قدرته ، ومنها الاعادة الى الحياة بعد الموت؟ وتكلمنا عن ذلك مرارا. أنظر ج
١ ص ٧٧ وج ٢ ص ٣٩٦ وج ٤ ص ١٣٢.
(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ
بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ). ذلك اشارة الى خلق السموات والأرض ، فإنه يدل على عظمة
الله وقدرته على إحياء العظاء وهي رميم عند من يرجع الى عقله وضميره ، أما قوله
تعالى : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ
بِهِمُ الْأَرْضَ) فهو تهديد ووعيد لمن جحد وكفر بالآخرة أن تبتلعه الأرض ،
أو ترميه السماء بقطع من نار فتحرقه.
داود وسليمان الأية ١٠ ـ ١٤ :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا
صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها
شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ
وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ
الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى
مَوْتِهِ
إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ
أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ
(١٤))
اللغة :
الأوب الرجوع ،
والتأويب الترجيع بالتسبيح ، والمراد بأوّبي هنا سبّحي. وسابغات وسوابغ جمع سابغ ،
وهو التام من اللباس ، والمراد بسابغات هنا دروع تامات كاملات. وقدّر عدّل. والسرد
التتابع ، وسرد الحديد نظمه. وغدوها سيرها بالغداة ، ورواحها سيرها بالعشي. والقطر
بكسر القاف النحاس أو الحديد أو الرصاص. ومن يزغ من يعدل. ومحاريب جمع محراب ، وهو
المعبد. وتماثيل جمع تمثال ، وهو صورة الشيء. والجفان جمع جفنة ، وهي القصعة. والجوابي
جمع جابية ، وهي الحوض الكبير. وقدور جمع قدر. وراسيات ثابتات. والمنسأة العصا
الكبيرة.
الإعراب :
يا جبال أوّبي أي
قلنا يا جبال أوبي. والطير بالنصب لأنه معطوف على محل الجبال. والمصدر من أن اعمل
مفعول من أجله لألنا أي ألنا له الحديد لأجل عمل الدروع ، وقيل : ان مفسرة بمعنى
أي. والريح مفعول لفعل محذوف اي وسخرنا لسليمان الريح. وغدوها شهر مبتدأ وخبر ،
والجملة حال من الريح. ومن الجن من يعمل «من» مفعول لفعل محذوف أي وسخرنا له من
الجن من يعمل. وآل داود أي يا آل داود ، ومفعول اعملوا محذوف ، وشكرا مفعول من
أجله أي اعملوا الخيرات شكرا لله. وقليل خبر مقدم والشكور مبتدأ مؤخر. وان لو
كانوا «ان» مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، أي انهم ، والمصدر المنسبك بدل
اشتمال من الجن أي ظهرت الجن جهلهم والمعنى ظهر جهل الجن.
المعنى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ). قال سبحانه في الآية ١٥ من سورة النمل : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ
عِلْماً). وفي الآية ١٦٢ من سورة النساء : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً). وفي الآية التي نحن بصددها ذكر سبحانه انه أسبغ على داود
نعمة الصوت الرخيم الذي تكاد تتجاوب الجبال والطير مع صفائه. وفي الآية ٧٨ من سورة
الأنبياء قلنا يجوز ان يكون تسبيح الجبال والطير على نحو الحقيقة مع داود لأن الله
على كل شيء قدير ، وقال قائل : المراد بتسبيح الجبال والطير معه انها كانت توحي اليه
بالتسبيح ، فإذا رآها قال مرددا : سبحان من خلق وصوّر .. وايضا أنعم الله على داود
بأن جعل الحديد طوع ارادته يعمل منه ما يشاء دون ان يحميه بالنار ، او يضربه
بالمطرقة .. ومن الجائز ان الله سبحانه ألهمه الأسباب والوسائل التي تجعل الحديد
لينا.
(أَنِ اعْمَلْ
سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ). يقول تعالى لداود : اعمل من الحديد دروعا ، وأحكم صنعها
بحيث تقي المقاتل السيف والسهم والسنان ، ولا تمنعه من الحركة كما يريد (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). الخطاب لداود وآله ، يأمرهم الله فيه بصالح الأعمال ،
ويعدهم عليها بالأجر والثواب. وتقدم نظير هاتين الآيتين في سورة الأنبياء الآية ٧٩
و ٨٠ ج ٥ ص ٢٩٢.
(وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ). يدل ظاهر الآية على ان الريح كانت تحمل سليمان بأمر الله
الى ما يشاء ، وانها كانت تقطع بالغداة مسيرة شهر كامل على الجمال أو الأقدام ،
وكذلك بالمساء (وَأَسَلْنا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ).
القطر النحاس او
الحديد ، والاسالة الاذابة ، والمعنى انه تعالى أذاب الصلب لسليمان تماما كما
ألانه لأبيه داود .. ويجوز ان الله أرشده الى سبب الاسالة والاذابة.
(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ
وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ). تقدم مع التفسير في الآية ٨٢ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٩٣
(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ). ذكر ابن عريي هذه الآية الكريمة في الجزء الرابع من
الفتوحات ، وقال : الشكر ان ترى النعمة من الله ، لا من سواه ، فقد أوحى سبحانه
الى موسى : اشكرني حق الشكر.
فقال موسى : ومن
يقدر على ذلك يا رب؟ فقال له : إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني.
(فَلَمَّا قَضَيْنا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ). ضمير عليه يعود الى سليمان ، ودابة الأرض هي الأرضة التي
تأكل الخشب ، والمنسأة العصا ، والمعنى ان سليمان وافاه الأجل ، وهو متكئ على عصاه
، وانه بقي بعد الموت كذلك الى ما شاء الله ، وان الانس والجن كانوا ينظرون اليه ،
ويحسبونه حيا ، الى ان دبت الأرضة في عصاه ، وأكلت جوفها ، فانكسرت وسقط سليمان ،
وعلم الجميع بموته ، وظهر للانس ان الجن لا يعلمون الغيب ، لأنهم لو علموه ما
لبثوا في أسر سليمان وخدمته ، وهو ميت.
وإذا كان بعض ما
في هذه الآيات ممتنع الوقوع عادة فإنه جائز في نظر العقل ، ومن أجل هذا نصدقه
ونسلم به كمؤمنين بمبدإ الوحي من الله الى نبيه الكريم. انظر ج ٢ ص ٦١ فقرة «الممتنع
عقلا والممتنع عادة».
نقد الفكر الديني :
ولمناسبة ما جاء
في هذه الآيات من ذكر الجن وخوارق العادات نشير الى كتاب صدر في هذه الأيام ، اسمه
«نقد الفكر الديني» ـ نحن الآن في تشرين الثاني سنة ١٩٦٩ ـ وقد كثر الكلام حوله
وحول صاحبه. ومن قرأ الكتاب يحكم ـ من النظرة الأولى ـ على مؤلفه بأنه يقف موقف
الشك والريب من جميع الأديان ، وقد اعترف المؤلف بذلك صراحة في الصفحة ٢٩ و ٧٧
وغيرهما.
ولكن من يستقرئ
الكتاب ويأخذ بالظاهر دون الباطن يرى ان الباعث الأول على هذا الشك والريب أمور :
الأول : محاولة
بعض المؤمنين ان يلائم بين نصوص القرآن الكريم ومستكشفات العلم الحديث ، وغلوهم في
التأويل الى أبعد مما يحتمله اللفظ ، وأورد المؤلف على ذلك العديد من الشواهد ،
منها ما نقله عن البعض في صفحة ٣٧ : من ان اكتشاف نواميس الضوء يدل دلالة قاطعة
على وجود الملائكة والجن .. وعلق المؤلف على هذا بقوله : لا أدري ما هي طبيعة
العلاقة بين نظرية الضوء من ناحية ، ووجود الجن والملائكة من ناحية اخرى.
الأمر الثاني :
الطقوس والشعائر الجامدة التي لا تناسب حضارة القرن العشرين على حد تعبيره.
الأمر الثالث :
مساندة بعض رجال الدين للاقطاع والاستعمار باسم الإسلام والمسيحية .. والكتاب متخم
بالشواهد على ذلك ، منها قوله في صفحة ٢٣ : «كان الدين في اوروبا حليف التنظيم
الاقطاعي ولا يزال على هذه الحال في معظم البلاد المتخلفة ، وخاصة في الوطن العربي
.. فقد أصبح الدين الايديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي
وخارجه .. والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد الذي تقوده أميركا».
وقد أفاض المؤلف
في نقد كتاب «المسيحية والإسلام في لبنان» وهو مجموعة محاضرات الندوة اللبنانية
لسنة ١٩٦٥ ، ألقاها أربعة من رجال الدين : سني وشيعي واثنان من المسيحيين ، وأربعة
علمانيون ، ولكنهم تكلموا باسم الدين ، وعاهدوا الله جميعا على السعي الدائب
لازالة الحواجز المفتعلة بين الإسلام والمسيحية.
وقال المؤلف فيما
قال ردا على هؤلاء المحاضرين المتعاهدين في صفحة ٦٤ : ان الهدف الأول لهذه
المحاضرات والمعاهدة هو حرص المسيحيين على النظام القائم بلبنان باعتبارهم
المنتفعين منه اكثر من المسلمين الذين ينتمون بغزارة الى الفئة الفقيرة الكادحة ،
وتجاوب مع المسيحيين فئة من المسلمين ، وروجت باسم الدين للنظام القائم بلبنان بكل
مضامينه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، فعلت ذلك لا لشيء إلا لأن هذا النظام
يدر عليها وعلى المسيحيين الأرباح والمنافع .. وحتى تحوّل الأنظار عن ويلات النظام
القائم وسيئاته ـ حملت هذه الفئة المسلمة مع المسيحيين شعارات التفاهم والاخوة
والمحبة ومصلحة لبنان العليا.
أما الدليل القاطع
على ان هذا هو هدف المحاضرين المتعاهدين في الندوة اللبنانية سنة ١٩٦٥ فيقدمه
المؤلف في صفحة ٦٠ بقوله : ان الإسلام لا يعترف بالإنجيل ولا بالتثليث ، ولا
بالخطيئة والفداء ، ولا بصلب السيد المسيح ودفنه وخروجه من القبر ، وما إلى ذلك
مما يؤمن به المسيحيون ، كما انهم ينكرون القرآن ونبوة محمد (ص) .. فبأي شيء يزيل
المحاضرون المتعاهدون هذه الحواجز؟. فالأصلح والأنسب ـ ما زال الكلام للمؤلف ـ ان
يتم التفاهم والحوار بين اللبنانيين على صعيد وطني ، وأساس المصلحة المشتركة ، أما
الدين فليترك لاختيار الفرد وفقا لمزاجه وقناعته.
ومن أقوال المؤلف
هذه وغيرها كثير في كتاب «نقد الفكر الديني» يتبين معنا ان السر لنقده فيما يظهر
يكمن ـ كما أشرنا ـ في تعسف الذين حاولوا التوفيق بين النصوص الدينية والعلم
الحديث ، وفي الطقوس الجامدة ، وانحراف الذين وهبوا أنفسهم للاقطاع والاستعمار ،
وبرروا الظلم والاستغلال باسم الدين .. ولو ان جميع رجال الدين أخلصوا له ، وفهموه
فهما صحيحا ، وبينوه للناس كما نزل على عيسى ومحمد ، ولم يشتروا به ثمنا قليلا ـ لما
وجد ناقد أو مأجور منفذا للطعن والريب بالإسلام ولا بالمسيحية .. ولكن مما يدمي
القلب أسفا ان قوما انتحلوا اسم الدين زورا وتطفلا ، وآخرين وقفوا أنفسهم لتخريبه
وتشويه حقائقه بعد ان قبضوا الثمن من أعداء الله والانسانية .. فكانت ردة الفعل من
مؤلف «نقد الفكر الديني» وغيره وقيل : ان هذا المؤلف أيضا مأجور.
ولكن أي ذنب للدين
إذا استغله الانتهازيون ، واتسم به المتطفلون؟. وكان الأولى بالمؤلف أن ينظر الى
الدين كقوة تتجه بالإنسان الى حياة أفضل ، وانه منزه عن كل ما يأباه العقل ،
ويتصادم مع حقيقة من حقائق الحياة ، ولو شاء هذا لوجد الكثير من الشواهد في كتاب
الله وسنة نبيه ، وتاريخ الإسلام والمسلمين ، وقد اعترف بهذه الحقيقة العشرات من
علماء الشرق والغرب غير المسلمين.
أنظر ج ١ ص ٣٨
فقرة «القرآن والعلم الحديث» وج ٣ ص ٤٦٥ فقرة «الدين والدعوة إلى الحياة» وج ٥ ص
٢٣ فقرة «الإسلام دين الفطرة».
سبا الأية ١٥ ـ ٢١ :
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦)
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨)
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ
هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))
اللغة :
سبأ قبيلة من
العرب سميت باسم الأب الذي تناسلت منه. والعرم بكسر الراء قيل : هو السد يمسك
الماء فيرتفع ويسقي الزرع. الأكل الثمر المأكول. والخمط شجر الأراك. والأثل
الطرفاء.
الإعراب :
آية اسم كان ،
ولسبأ خبرها وفي مسكنهم متعلق بما تعلق به لسبأ. وجنتان بدل من آية. وعن يمين
وشمال صفة لجنتين. وكلوا أي يقال لهم كلوا. وبلدة طيبة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه
بلدة طيبة. وجنتين مفعول ثان لبدلناهم. وذواتي صفة لجنتين. وخمط بدل من أكل. وأثل
عطف على أكل. وذلك قائم مقام المفعول المطلق لجزيناهم أي ذلك الجزاء جزيناهم.
وسيروا أي يقال لهم : سيروا. وكل ممزق مفعول مطلق. وظنه مفعول صدق. ومن سلطان «من»
زائدة اعرابا وسلطان اسم كان ، وله عليهم خبرها.
ملخص القصة :
جاء في تاريخ
المسعودي ما يتلخص بأن أول ملوك اليمن هو سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ، وكان
اسمه عبد شمس ، وسمي سبأ لسبيه السبايا ، وكانت أرض سبأ أخصب أرض اليمن وأثراها
وأغدقها ، وقبل ذلك كان يركبها السيل ويهلك الزرع ويهدم البناء ، فجمع ملك القوم
أهل العلم في ذلك الزمان ، وشاورهم في أمر السيل ، فأجمع رأيهم على ان يقيموا سدا
بين جبلين ، وأخذ الملك بقولهم ، وجعلوا للسد أبوابا تفتح وتغلق ليتحكموا بالماء
وفق حاجتهم ، وقد عرف هذا السد باسم مدينة مأرب القريبة من السد ، ثم عمل الماء
بالسد ، وأضعفه مرّ السنين عليه ، فخرب وتدافع الماء منه وأغرق الديار والجنان ،
فهاجر السكان وتفرقوا في العديد من أنحاء الأرض ، ومن هنا قيل في الأمثال : تفرقوا
أيدي سبأ.
وفي تفسير الطبري
ومجمع البيان : ان سائلا سأل رسول الله (ص) عن سبأ؟ فقال : كان رجلا من العرب ، له
عشرة أولاد : فتيمن منهم ستة ، وتشاءم أربعة ، فأما الذين تيمنوا فكندة وحمير
والأزد والأشعريون ومذحج وأنمار الذين منهم خثعم وبجيلة ، واما الذين تشاءموا
فعاملة وجذام ولخم وغسان.
وفي تفسير المراغي
: كان الباحثون في العصر الحديث يشكون في أمر هذا السد حتى تمكن المستشرق الفرنسي «ارنو»
من الوصول الى مأرب سنة ١٨٤٣
وشاهد آثاره ،
ورسم له صورا نشرها في المجلة الفرنسية سنة ١٨٧٤ ، ثم زار مأرب بعده «هاليفي» و «غلازر»
ووافقاه فيما قال ووصف.
المعنى :
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ). آية أي دلالة وعلامة على نعم الله الوافرة في تلك الأرض.
وجنتان عن يمين وشمال كناية عن الخصب والازدهار في كل جزء من أجزاء البلاد ، وان
المار بأرض سبأ كان انّى اتجه يرى الخيرات عن يمينه وشماله .. وقد أمر سبحانه قوم
سبأ أهل تلك الأرض الطيبة ، أمرهم بلسان أنبيائه ورسله أن يتنعموا في خيراته
ويشكروه ويوحدوه (فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ). استعانوا بنعمة الله على معصيته ، واستغنوا بفضله عن
عبادته ، فحذرهم وأنذرهم على لسان رسله ، فلم ينتفعوا بالنذر ، ويتعظوا بالعبر ،
فأرسل عليهم سيلا عظيما خرّب السد وأهلك الزرع والضرع ، وأبدلهم الله بالحدائق
الغناء والبساتين الفيحاء أشجارا لا تسمن ولا تغني من جوع كالطرفاء والسدر وما
إليه مما ينبت في الصحراء ، ولا يستسيغه إلا حيوان جائع أو إنسان أضناه الفقر
والعوز.
(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ). جزاهم بالفقر ، وهو أفظع الجزاء .. وفي رواية : الفقر
الموت الأحمر. وفي ثانية : كاد الفقر يكون كفرا. وفي ثالثة : الفقر سواد الوجه في
الدارين. وقال الإمام علي (ع) لولده محمد بن الحنفية : ان الفقر منقصة للدّين ـ أي
يحمل الإنسان على معصية الله ـ مدهشة للعقل ، داعية للمقت.
(وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا
فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ). ضمير بينهم يعود الى قوم سبأ ، والمراد بالقرى قرى الشام ـ
كما قال المفسرون ـ وبارك الله فيها بالماء والأشجار ، والخصب والثمار ، وظاهرة أي
ان القرى كانت قريبة يظهر بعضها لبعض ، وقدّرنا في السير
قسّمنا مراحل
السفر بين القرية والقرية بحيث يصبح المسافر في واحدة منها ، ويمسي في أخرى ..
والآية تصف قوم سبأ قبل خراب السد ، ومعناها ان من نعم الله وفضله عليهم ان أحدهم
كان إذا قصد سفرا يسافر وهو في أمن وأمان من كل شيء ، لا يخشى أحدا على نفسه وماله
، ولا يحمل زادا ، ولا يخاف جوعا ولا عطشا.
ولكن غلبت عليهم
شقوتهم ، وبطروا النعمة ، وملوا العافية (فَقالُوا رَبَّنا
باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) اجعل بيننا وبين القرى فلوات ومفاوز لنركب الرواحل ونحمل
الزاد في الأسفار ، تماما كما فعل بنو إسرائيل حيث ملوا نعمة المن والسلوى ،
وقالوا لموسى : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها
وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ) ـ ٦١ البقرة. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالطغيان وكفران النعم (فَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ). شتتهم سبحانه ووزعهم في أقطار الأرض حتى صاروا أحدوثة
للأجيال ، وعبرة لمن صبر على الضراء ، وشكر عند السراء.
(وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ). أغراهم الشيطان بمعصية الله ، فسمع له وأطاع من كفر وبغى
، وعصاه من آمن واتقى. وتشير هذه الآية الى قول إبليس في الآية ٣٩ من سورة الحجر :
(وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ج ٤ ص ٤٧٨.
(إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ان الله سبحانه أعلم بعباده من أنفسهم ، ولكنه يبتليهم
بالسراء والضراء ، وبالشهوات والأهواء لتظهر إلى عالم الوجود والعيان مقاصدهم
وأفعالهم التي يستحقون عليها الثواب والعقاب.
وتكرر هذا المعنى
مرات ومرات ، منها في الآية ١٤٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٦٤ (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ). لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وفي
الحديث : اتق الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قل ادعوا الذين زعمتم الأية ٢٢ ـ ٣٠ :
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ
أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ
قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا
بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ
أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ
ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))
اللغة :
المراد بالشرك هنا
النصيب. وظهير معين. وفزّع عن قلوبهم بتشديد الزاي ذهب الفزع عن قلوبهم. وأجرمنا
أذنبنا. ويفتح يحكم. والفتاح الحاكم.
الإعراب :
زعمتم تتعدى الى
مفعولين ، وهما هنا ضميران محذوفان أي زعمتموهم آلهة من
دون الله. ومن شرك
«من» زائدة إعرابا وشرك مبتدأ والخبر «لهم فيهما» ومثله من ظهير. وإلا لمن اذن له
استثناء مفرغ أي لا تنفع الشفاعة عنده لأحد إلا لمن أذن له. الله مبتدأ والخبر
محذوف أي قل الله يرزقكم. أو إياكم معطوف على اسم ان. وأروني تتعدى الى ثلاثة
لمكان همزة التعدية ، وياء المتكلم المفعول الأول والذين الثاني ، وشركاء الثالث.
وكافة حال من كاف أرسلناك ، وفي البحر المحيط ان كافة بمعنى عامة لا تكون إلا حالا
ولا يتصرف فيها بغير ذلك ، والتاء في كافة للمبالغة مثل تاء علامة أي ما أرسلناك
إلا حال كونك عاما جميع الناس في التبليغ. وللناس متعلق بكافة. وبشيرا حال بعد
حال.
المعنى :
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ). عبد المشركون الملائكة والأصنام ، فنهاهم النبي (ص) فلم
ينتهوا ، فقال لهم بأمر من الله : أين الدليل على ألوهية من جعلتموهم شركاء لله؟
ادعوهم للنفع أو الضر ، ثم انظروا : هل يسمعون ويستجيبون؟ والغرض من هذا الطلب هو
إقامة الحجة عليهم بالتحدي والتعجيز ، ومثله قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) ـ ٥٦ الاسراء ج ٥
ص ٥٥.
(لا يَمْلِكُونَ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ
شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ). ضمير لا يملكون ولهم ومنهم يعود الى الشركاء المزعومين
وضمير له اليه تعالى ، وضمير فيهما الى السموات والأرض ، ومثقال ذرة كناية عن أحقر
الأشياء وأدناها ، والشرك النصيب ، والظهير المعين ، والمعنى لا شريك لله ولا معين
، ولا أحد يملك معه شيئا (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ). هذا رد على قول المشركين : (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ٣ ـ الزمر. انظر ج ١ ص ٩٧ فقرة : «الشفاعة».
(حتى إذا فزّع ـ أي
ذهب الفزع ـ عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير). اختلف
المفسرون في ضمير قلوبهم الى من يعود؟
ومن هو السائل
والمسئول؟ والأرجح ان الضمير يعود بقرينة السياق الى من في السموات والأرض وان هذا
الفزع يحصل للجميع عند قيام الساعة إلا من شاء الله ، كما جاء في الآية ٨٧ من سورة
النمل : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). وقلنا أكثر من مرة : ان آيات القرآن يفسر بعضها بعضا ،
وعليه يكون المعنى انه عند قيام الساعة ينقسم أهل السماء والأرض فريقين : فريق
يأخذه الفزع الأكبر ، وفريق من فزع يومئذ آمنون ، والى هؤلاء أشار سبحانه بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فإذا هدأ روع الفريق الأول قليلا سأل الفريق الثاني : ما
ذا قال ربكم؟ أي ما هو مصيرنا ومآلنا؟ فيجيب الفريق المسئول : ان الله قال الحق
وهو العلي الكبير. وهذا الجواب على اجماله يومئ الى أنه لا شريك ولا معين لله ولا
شفاعة عنده إلا بإذنه.
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). الخطاب في قل لرسول الله (ص) وفي يرزقكم للمشركين ، أما
رزق السماء فهو المطر والضياء ، ورزق الأرض النبات والزرع (قل الله) لا الأصنام
ولا الملائكة ولا عيسى وعزير ، ولما كان هذا هو الجواب الوحيد أمر سبحانه نبيه
الكريم أن يجيب به عن المسئولين.
(وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). النبي على يقين انه على هدى ، وان المشركين على ضلال ،
ولكن لما أبوا الإذعان للهدى والحق خاطبهم بهذا الأسلوب الحكيم ، وقال لهم : ان
أحدنا محق والآخر مبطل ، فارجعوا إلى عقولكم واسألوها : أينا على صواب؟ وهذا من
أسلوب نبي الهدى والرحمة ، بالاضافة إلى ان المحق يثق من نفسه حتى ولو خالفه أهل الأرض
أجمعون.
(قُلْ لا تُسْئَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ). هذا مثل قوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ـ ٤١ يونس ج ٤ ص
١٦٢ (قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ). لليوم الآخر أسماء ، منها يوم الجمع ، قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ
ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) ـ ٩ التغابن
والفتح الحكم والفصل ، والمعنى ان الله سبحانه سيجمعنا وإياكم لنقاش الحساب
والجزاء والأعمال ، وعندئذ
ينكشف الغطاء
وتعلمون أي الحزبين أهدى سبيلا؟
(قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ). ضمير به يعود اليه تعالى ، وفي الكلام حذف أي أروني
الدليل على ان الأصنام شركاء الله في خلقه ، أو يقربونكم اليه زلفى (كلا) لا شريك
ولا معين لله ولا شفاعة لديه إلا بإذنه (بَلْ هُوَ اللهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لا عز ولا قوة إلا لله وبالله ، أما دلائل حكمته وعظمته
فإنها تتجلى في خلق الكون وعجائبه.
(وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ). ان الله سبحانه أرسل محمدا (ص) لجميع الناس في كل زمان
ومكان. انظر تفسير الآية ٩٢ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٢٥ والآية ٤٠ من سورة الأحزاب.
فقرة «لما ذا ختمت النبوة بمحمد» (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). تقدم بنصه الحرفي في الآية ٤٨ من سورة يونس ج ٤ ص ١٦٦ (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا
تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ). لأنه تعالى قد وعد بالبعث والحساب والجزاء ، وهو منجز
وعده لا محالة ، ولكن في الوقت الذي حدده ، جلت حكمته ، لا يتقدم عليه ، ولا يتأخر
عنه ، فلا يغرنكم أيها المشركون ما أنتم فيه ، فإنما هو الى حين طال أم قصر ، ثم
الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون.
ان يؤمنوا بالقرآن
الأة ٣١
ـ ٣٣ :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ
تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ
لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ
كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا
بَلْ
مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ
وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ
وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))
اللغة :
رجّع في صوته ردده
، والرجيع من الكلام المردود الى صاحبه ، والمراد بيرجع بعضهم الى بعض القول ان
كلا من الفريقين يحيل الخطأ على الآخر.
الإعراب :
مفعول ترى محذوف
وكذلك جواب لو أي ولو ترى الظالمين آنذاك لرأيت عجبا. ومكر فاعل لفعل محذوف أي
صدنا عن الحق مكركم بنا في الليل والنهار. وأضاف المكر إلى الليل والنهار على سبيل
المجاز. وإذ تأمروننا «إذ» في محل نصب بمكر. والمصدر من أن نكفر مجرور بباء محذوفة
أي تأمروننا بالكفر بالله.
المعنى :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل. والذين قالوا هذا هم مشركو العرب
بدليل الآية ٣٠ من سورة الفرقان : «وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن
مهجورا». هجروا القرآن وكفروا به لأنه ساوى بين الأبيض والأسود ، وقال لهم : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى
أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ
خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ـ ١١ الحجرات.
وكفروا بنبوة محمد (ص) لأنه أراد أن يخرجهم من الجهل والتخلف الى العلم والحضارة
.. قال
المستشرق المعاصر «جاك
ريزلر» صاحب كتاب «يقظة الإسلام» ، وكتاب «الحضارة العربية» الذي طبع في فرنسا سنة
١٩٦٢ ، قال :
«بظهور الدين
الاسلامي بدأت أولى مراحل الحضارة العربية ، ويعزى نجاح قيام هذه الحضارة
وانتشارها إلى عدة أسباب : أهمها ارتفاع الروح المعنوية لدى المسلمين بفضل الدين
الجديد ، الأمر الذي أكسبهم جرأة جعلتهم يستهينون بالموت في سبيل الله».
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ
الْقَوْلَ). بعد أن يئس الرسول الأعظم (ص) من ايمان المشركين قال له
المولى ، جلت عظمته ، مسليا : سوف ترى غدا حال هؤلاء المكذبين وما هم فيه من الخزي
والهوان حين يقفون للحساب بين يدي الله كيف يتلاوم التابع والمتبوع ، ويخطئ كل
منهما الآخر (يَقُولُ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ). المستضعفون هم الأتباع ، والمستكبرون هم القادة (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ
جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ). تماما : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ
إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ـ ١٦ ـ الحشر.
وغير بعيد أن يكون هذا الشيطان في الآية الكريمة كناية عن القادة الضالين المضلين.
(وَقالَ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً). لما يئس التابعون والمتبعون من النجاة تلاوموا وتبادلوا
التهم ، وأحال كل فريق الذنب على صاحبه ، تماما كاللصوص يتفقون حين اقتراف الجريمة
حتى إذا أخذوا بها لعن بعضهم بعضا .. وقد كانت الغلبة في النهاية للمستضعفين حيث
جابهوا المستكبرين بما كانوا يمكرون بهم ليلا ونهارا ، ويغرونهم بالكفر والشرك
بشتى الأساليب ، وان كان هذا لا يعفيهم من العذاب ، ولا يخففه عنهم ما داموا عقلاء
مختارين : («قالَتْ أُخْراهُمْ
لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ
قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ـ ٣٨ الأعراف ج ٣
ص ٣٢٦.
(وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ) وهم التابعون والمتبعون (لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ) وكل من
قصّر وفرّط فمصيره
العذاب والندامة والكآبة (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ
فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من القادة وأتباعهم (هَلْ يُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كلا ، فإن المرء مجزي بما أسلف ، ومقدم على ما قدّم (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
المترفون الأة
٣٤ ـ ٤٢ :
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ
أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ
(٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ
الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا
عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))
اللغة :
المترفون هم الذين
يتنعمون في الملذات كما يشاءون. ويقدر يضيق. وزلفى قربى. ومعاجزين جمع معاجز أي
سابقه ليظهر عجزه.
الإعراب :
كافرون اسم انّا ،
وبما أرسلتم متعلق بكافرين ، وبه متعلق بأرسلتم. وأموالا وأولادا تمييز. وبمعذبين
الباء زائدة إعرابا ، ومعذبين خبر نحن. وزلفى مفعول مطلق لتقربكم. إلا من آمن وعمل
صالحا على الاستثناء المنقطع أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله الصالح
يقربانه من الله زلفى. فأولئك مبتدأ أول وجزاء مبتدأ ثان والضعف مجرور بالإضافة من
إضافة المصدر الى مفعوله أي فأولئك نضاعف لهم الجزاء ، ولهم خبر الثاني ، والجملة
من الثاني وخبره خبر الأول ، وهؤلاء مبتدأ وإياكم مفعول يعبدون وجملة يعبدون خبر
كان وجملة كان واسمها وخبرها خبر هؤلاء.
المعنى :
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ). هذا هو تفكير المترفين ، وهذه هي لغتهم .. المال هو الأول
والأخير ، هو السيد وهم العبيد ، ومن أجله يحملون لواء الشر والاعتداء على الناس ،
ويتحكمون بالأسواق والأقوات ، ويثيرون الحروب الحامية والباردة ، ويسيطرون بكل
أسلوب على مختلف مستويات الحياة ، ويربطون كل شيء بمكاسبهم وأرباحهم ، فالعلم ليس
بشيء إلا إذا زاد من ثرواتهم ، والدين أداة هدم وتخريب إلا إذا كان حارسا لهم
ولمصالحهم ، والسلم هو ان يسلبوا وينهبوا ولا يزجرهم زاجر أو يسألهم سائل .. انظر
تفسير الآية ١٦ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٣٠ فقرة «المترفون» والآية ٩٠ من نفس السورة
والمجلد ص ٨٥.
(قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ). تقدم في الآية ٢٦ من سورة الرعد ج ٤ ص ٤٠١ فقرة : «الإنسان
والرزق» (وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ). ان الله سبحانه لا يقيس الخير والفضيلة بالأموال والأولاد
، ولا بالمناصب والأنساب ، بل بالإيمان والعمل الصالح ، فبهما يكون العبد مرضيا
عند الله راضيا بثوابه وفضله. قال الإمام علي (ع) : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك
، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك ، وان تباهي الناس بعبادة ربك ، فإن أحسنت
حمدت الله ، وان أسأت استغفرت الله ، ولا خير في الدنيا إلا لرجلين : رجل أذنب
ذنوبا فهو يتداركها بالتوبة ، ورجل يسارع في الخيرات.
(وَالَّذِينَ
يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ). تقدم مثله في سورة الحج الآية ٥١ ج ٥ ص ٣٣٨ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ). وتسأل : لما ذا كرر سبحانه هذه الآية مع العلم بأنه لا
فاصل بينها وبين الأولى سوى آيتين؟
وأجاب المفسرون
بأن الآية الأولى تختص بالكافرين ، والثانية بالمؤمنين ، قال الرازي : «والدليل
على ذلك انه تعالى ذكر في الآية الثانية «من عباده» دون الأولى ، والعبد المضاف
اليه تعالى يراد به المؤمن» وغير بعيد أن يكون التكرار للوعظ والتمهيد للحض على
الإنفاق الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). وعن الرسول الأعظم (ص) انه قال : ينادي مناد كل ليلة :
اللهم هب لكل منفق خلفا ، وينادي مناد آخر : اللهم هب لكل ممسك تلفا. وفي نهج
البلاغة : استنزلوا الرزق بالصدقة.
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ). القصد من توجيه هذا السؤال للملائكة هو تقريع المشركين
وتوبيخهم ، وتدل الآية ان بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ، وفي الآية ٤٠ من سورة
الإسراء إيماء إلى ذلك : (أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) ومن نسب الولد اليه تعالى فقد جعل له شبيها وفي العز شريكا
(قالُوا سُبْحانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ)
أي أنت سيدنا وهم
أعداء لنا ، ونحن نبرأ منهم اليك (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ). قال جماعة من المفسرين : المراد بالجن هنا الشياطين ،
وانهم زينوا للمشركين عبادة الملائكة وغيرهم من دون الله. وقال آخرون : ان عبادة
الجن كانت معروفة عند العرب ، وعليه تكون الآية على ظاهرها ، ولا داعي للتأويل ..
وسواء أكان الجن هم المعبودين عند العرب ، أم كان المعبود غيرهم بتزيين الشياطين
فإن القصد الأول من الآية نفي الشريك لله ، والشفيع لديه إلا بإذنه ، وانه لا ملجأ
منه إلا اليه.
ومن أجل هذا عقب
سبحانه بقوله : (فَالْيَوْمَ لا
يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا). فلا الملائكة ولا الانس والجن يملكون لأنفسهم شيئا عند
نقاش الحساب فكيف يملكونه لغيرهم؟ له وحده الملك والحمد ، وهو على كل شيء قدير (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا
عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ). قالوا : لا جنة ولا نار ، ولا نؤمن حتى نراهما جهرة ،
فأحرقهم الله بعذابها استجابة لطلبهم .. وذكرتني هذه الآية بمن يقول : لا علم ولا
معرفة إلا عن طريق المشاهدة والتجربة حتى في غير المنظور والمحسوس.
انما أعطكم بواحدة الأة
٤٣ ـ ٥٠ :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ
مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما
بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى
وَفُرادى
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
(٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ
الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما
أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))
اللغة :
النكير الإنكار ،
والمراد به هنا الهلاك. مثنى وفرادى أي اثنين اثنين وواحدا واحدا. والجنة الجنون.
والقذف الرمي والمراد به هنا الوحي إلى النبي (ص). بدأ الشيء فعله ابتداء ، وأعاده
كرره ، والمراد هنا ان الباطل لا أثر له على الإطلاق.
الإعراب :
كيف خبر كان ونكير
اسمها وأصلها نكيري. والمصدر من أن تقوموا بدل من واحدة. ومثنى وفرادى حال من فاعل
تقوموا. بين يدي ظرف منصوب بنذير. ما سألتكم «ما» اسم موصول مبتدأ ، وجملة فهو لكم
خبر والعائد على الموصول محذوف أي ما سألتكموه. وعلام الغيوب خبر مبتدأ محذوف أي
هو. فبما يوحي متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فاهتدائي كائن بالوحي إليّ.
المعنى :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا
كانَ
يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). ضمير عليهم وقالوا يعود الى مشركي العرب ، ومرادهم بالرجل
محمد (ص) وقد وصفوه بالافتراء والسحر والجنون لأنه دعاهم الى نبذ الوثنية
وتقاليدهم الجاهلية والكف عن المحارم والفواحش واراقة الدماء والتحكم بالضعفاء ،
وإلى العمل بالعلم والعدل .. هذا هو ذنب الرسول الأعظم عندهم ، وهو ـ كما ترى ـ ذنب
العالم المخلص عند الجاهل الخائن ، والطبيب الناصح عند العليل الذي يرى نفسه سليما
معافى .. وصدق من قال : يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه.
(وَما آتَيْناهُمْ
مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ). أشركوا بالله ، وكل شيء يدل على انه واحد ، وقلدوا الآباء
والأجداد ، ولا حجة لهم من وحي منزل أو نبي مرسل أو أثارة من علم. أنظر تفسير
الآية ٣ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٠٨ فقرة «جدال الجهل والضلال» (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ). لقد أشرك قبلكم كثير من الأمم ، وكذبوا الرسل كما كذبتم
رسولكم ، وكانوا أكثر منكم قوة وحضارة ، ومع ذلك أخذهم الله بظلمهم وتمردهم .. ألا
تعتبرون بهم ، وتخافون أن يصيبكم ما أصابهم؟ وتقدم مثله في الآية ٦٩ و ٧٠ من سورة
التوبة ج ٤ ص ٦٧.
(قُلْ إِنَّما
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ). أعظكم أدعوكم ، وواحدة خصلة واحدة ، ان تقوموا لله أن
تتجردوا للحق بعيدين عن التقاليد والأهواء ، ومثنى ان يراجع أحدكم الآخر وتتدارسوا
دعوتي ورسالتي. وفرادى ان يرجع كل منكم الى عقله وضميره وينعم الفكر فيما جئتكم به
.. والمعنى قل يا محمد للذين كذبوك : أنا لا أطلب منكم إلا شيئا واحدا ، هو العدل
والانصاف ، هو ان تفكروا مجتمعين ومنفردين في دعوتي بوعي وإخلاص ، ثم تنظروا : هل
أنا مفتر أو ساحر أو مجنون كما تزعمون ، أم أنا بشير ونذير ، وناصح بصير؟ .. وقد
دعا النبي الكريم أهل الكتاب الى مثل هذه الدعوة : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) ـ ٦٤ آل عمران ولا
شيء أصدق في الدلالة على صدق رسول الله (ص) في كل ما جاء به من
دعوة خصومه الى
منهج الحق والعدل.
روي عن ابن عباس
ان النبي (ص) صعد الصفا ذات يوم ، وقال : يا صباحاه ـ كلمة يقولها المستغيث عند
حدوث أمر عظيم ـ فاجتمعت قريش ، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم ان العدو يصبحكم أو
يمسيكم ، اما كنتم تصدقوني؟ قالوا : بلى. قال : اني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فأجابه أبو لهب بكلمة الكفر .. ولكن ما مضت الأيام حتى استسلموا أذلاء صاغرين.
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ). المراد ب (فَهُوَ لَكُمْ) نفي سؤال الأجر من الأساس مثل : («فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ـ ٧٢ يونس» ج ٤ ص
١٨٠ (قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي يوحي بالحق الى أنبيائه ، وهو أعلم به ، وبأهلية من
أوحى اليه للرسالة العظمى.
(قُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ). المراد بالحق هنا رسالة محمد (ص) وبالباطل الشرك ، وما
يبدئ ويعيد كناية عن إزهاق الباطل وانتهاء أمره وعدم ظهور أثره في الجزيرة العربية
إطلاقا بعد الرسالة المحمدية (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) وضرر ضلالي عليّ وحدي ، ولا شيء عليكم منه (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي) واليه وحده الفضل في هدايتي ولا أملك منها ولا من غيرها
إلا ما ملكني (إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ) ان قلتم سمع ، وان أضمرتم أو فعلتم علم لأنه أقرب إليكم من
حبل الوريد.
واني لهم التناوش الأة
٥١ ـ ٥٢ :
(وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ
وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ
قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا
فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))
اللغة :
إذ فزعوا إذ
خافوا. فلا فوت فلا مهرب. ويقذفون يرجمون. والتناوش التناول. والمراد بالأشياع هنا
الأمثال والأشباه.
الإعراب :
جواب لو محذوف أي
لرأيت عجبا. وفوت اسم لا وخبرها محذوف أي لهم. والتناوش مبتدأ ، وانّى لهم أي من
أين لهم وهو متعلق بمحذوف خبرا للتناوش.
المعنى :
(وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ). الخطاب لرسول الله (ص) وأخذوا من مكان قريب كناية عن انهم
في متناول قدرة الله تعالى ، والمعنى لو رأيت غدا يا محمد ما يصيب المكذبين بنبوتك
من الذعر والعذاب الذي لا مفر لهم منه لرأيت عجبا. والغرض من هذا الخطاب تهديد
المشركين والتخفيف عن سيد المرسلين.
(وَقالُوا آمَنَّا
بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). ضمير به يعود الى رسول الله (ص) لأن ذكره قد مر في الآية
السابقة ٤٦ : «ما بصاحبكم من جنة» والتناوش التناول ، والمعنى ان المكذبين بمحمد
يقولون حين يرون العذاب : آمنا به ، ولكن من أين ينالون هذا الايمان ، أو يجديهم
نفعا ، وهو أبعد ما يكون عنهم لأن يوم القيامة هو يوم حساب وجزاء ، لا يوم ايمان
وعمل. قال الإمام علي (ع) : اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .. عباد الله
زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وحاسبوها قبل أن تحاسبوا.
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ
مِنْ قَبْلُ) فوات الفرصة ، وحيث ينفعهم الايمان (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ
بَعِيدٍ). يقذفون بالغيب أي يتكلمون من غير علم ، ومن مكان بعيد
كناية عن بعد أقوالهم وايمانهم عن الحق والواقع ، والمعنى انهم كانوا يقولون : محمد
مفتر وساحر ومجنون ، ولا جنة ولا نار جهلا ومن غير دليل.
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ). اشتهوا النجاة والإفلات من عذاب جهنم ، فلجئوا إلى
الايمان والتوبة ، ولكن بعد فوات الأوان ، فازدادوا حسرة وألما (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ). فلقد كان لهم أشباه ونظائر من الأمم البائدة ، أعرضوا عن
ربهم في الحياة الدنيا ، وفزعوا اليه في الآخرة ، فقال لهم : («اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ـ ١٠٨ المؤمنون» (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) من البعث والنشور ، وشك مريب مثل عجب عجيب ، وظل ظليل ،
لأن الشك والريب بمعنى واحد.
سورة فاطر
مكية ، وآيها ٤٥.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمدلله فاطر السموات والأرض الأة
١ ـ ٣ :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها
وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))
اللغة :
فاطر السموات
والأرض خالقهما على غير مثال سابق. ومثنى وثلاث ورباع معدولة عن اثنين اثنين
وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، ولم يسمع فيما زاد عن هذه الأعداد مثل مخمس. والمراد
بما يفتح هنا ما يعطي. وتؤفكون تصرفون عن الحق إلى الضلال.
الإعراب :
فاطر السموات صفة
لله. وجاعل صفة ثانية ، وقيل : انه يعمل عمل الفعل لأنه مضاف فأشبه المقرون باللام
، وعليه يكون مضافا الى المفعول الأول وهو الملائكة ، ورسلا مفعول ثان. وأولي
أجنحة بدل من رسل ، ومثنى وما بعدها صفات للملائكة. وما يفتح «ما» شرطية في محل
نصب بيفتح. فأنّى تؤفكون أي فإلى أين ، والمجرور متعلق بتؤفكون.
المعنى :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ). حمد الله نفسه ليعلّمنا كيف نحمده ونشكره .. وتدل الآية
على ان من الملائكة من له جناحان ، ومنهم له ثلاثة ، ومنهم له أربعة ، وانه تعالى
يزيد لآخرين في الأجنحة ما يشاء .. وهذا وما اليه يتفق مع قدرة الله وعظمته ،
والعقل لا يأباه ، هذا ما نعلمه ، وما عداه نتركه إلى علم الله سبحانه لأنّا غير
مسؤولين عنه ، ولا يمت إلى حياتنا بسبب ، ولا دليل عليه من آية أو رواية متواترة.
وأخشى أن يقول أنصار تأويل النصوص الدينية بالعلم الحديث ، أن يقولوا : ان مثنى
اشارة الى الطائرة ذات المحركين ، وثلاث الى المحركات الثلاثة ، ورباعا الى ذات
الأربعة ، أما قوله تعالى : يزيد في الخلق ما يشاء فهو إشارة الى طائرات المستقبل
ذات المحركات العديدة.
(ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). الفتح العطاء ، والإمساك المنع ، والإرسال الإطلاق بعد
المنع. وليس المراد بالرحمة هنا مجرد المال كما قال بعض المفسرين ، ولا هو مع
الصحة والجاه والعلم كما قال آخرون .. كلا ، فإن المال قد يؤدي الى الطغيان
والاستغلال ، فقد رأينا الكثير من أصحاب الملايين حولوا الشعوب الضعيفة الى شركات
مساهمة يملكون أسهمها ، ويتحكمون بأهلها ويحيلونهم الى عبيد مستخدمين أو لاجئين
مشردين .. وقد تؤدي الصحة بصاحبها الى المغامرة والأخطار ، أما
الجاه فهو ـ في
الأعم الأغلب ـ أداة للبغي والعدوان. ورب علم الجهل خير منه كالعلم الذي أنتج
القنبلة الذرية ، وما اليها من الأسلحة الجهنمية .. كلا ، ليس المراد برحمته تعالى
في هذه الآية المال وحده ولا الصحة وحدها ، ولا مجرد الجاه والعلم ، وإنما المراد
بها لطف الله وهدايته الى الخير ، ووقايته من الشر.
قال الإمام علي (ع)
: «عند تناهي الشدة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء» وقد شاهدنا
أيسر المشاكل تزداد تعقيدا كلما اجتهد أصحابها في حلها ، ورأينا أعسرها تحل بسهولة
ويسر أو تلقائيا ، ولا سر لذلك إلا إرادة الله ورحمته ، وصدق من قال : «ينام
الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد ، وينام على الحرير بدون هذه الرحمة
فإذا هو شوك القتاد».
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). هذا التذكير بنعمة الله وبأنه وحده الخالق الرازق انما هو
تأكيد للآية السابقة : «ما يفتح الله للناس الخ» وفي نهج البلاغة : «فكم خصكم الله
بنعمته ، وتدارككم برحمته ، أعورتم له ـ أي ظهرت له عوراتكم ـ فستركم ، وتعرضتم
لأخذه ـ أي لهلاكه ـ فأمهلكم .. فاستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته ،
والمجانبة لمعصيته ، فإن غدا من اليوم قريب».
فقد كذبت رسل من قبلك الأة
٤ ـ ٨ :
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ
الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ
آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما
يَصْنَعُونَ (٨))
الإعراب :
أفمن زيّن له «من»
مبتدأ والخبر محذوف أي كمن لم يزين له. وحسرات مفعول من أجله لتذهب ، وعليهم متعلق
بتذهب لا بحسرات لأنها مصدر ، والمصدر لا يقدم معموله عليه. هكذا قال النحاة.
المعنى :
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيثيب المؤمن الصابر في جهاده ، ويعاقب من كذب الحق على
تكذيبه ، والغرض التخفيف عن الرسول الأعظم (ص) ، وتهديد خصومه وأعدائه. وتقدم مثله
في الآية ١٨٤ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٢٢ والآية ٤٢ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣٥.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). المراد بوعد الله هنا الحساب والجزاء بعد الموت ، ومغريات
الدنيا المال والجاه والنساء والبنون ، والغرور الشيطان. وتقدم مثله في الآية ٣٣
من سورة لقمان (إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). أعلن الشيطان صراحة عداوته لبني آدم بقوله : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ـ ٣٩ الحجر. وحزبه
هم أتباعه الذين يستمعون إلى وسوسته واغرائه. وقد حذرنا سبحانه من طاعته لأنه يدعو
إلى الفساد والهلاك ، والله يدعو إلى الخير والرحمة.
(الَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرّة ، فعاقبة من كفر وأفسد جهنم
وساءت مصيرا ، وعاقبة من آمن وأصلح جنة قائمة ، وراحة دائمة.
زين له سوء عمله :
(أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً). لا أحد من الناس يعيش بلا فلسفة ومثل أعلى له ، حتى الذين
يرفضون الفلسفات والمثل العليا فقد جعلوا هذا الرفض فلسفة لهم ومثلا أعلى .. ومن
هنا قيل : من نفى الفلسفة فقد تفلسف .. أجل ، لكل انسان فلسفة ، والفرق ان بعض
الناس يبني فلسفته وأحكامه على التجربة والتحليل ، ومنهم من يبنيها على العقل أو
على الدين ، ومنهم من يحكم على الأشياء من خلال ذاته وميوله الخاصة معرضا عن كل ما
عداها لا يبحث ولا يفكر ولا يحلل ، لأنه لا يؤمن بعلم ولا عقل ولا دين ، لا بشيء
إلا بما يراه ويهواه .. انه ينظر الى نفسه على انها المقياس الوحيد للحق والخير
والصواب ، وانها في عصمة من النقص والخطأ .. والكلام عن هذا لا يدخل في أي بحث من
البحوث إلا كشاهد على السفاهة والغرور القاتل ، وقد أشار سبحانه إليه في العديد من
الآيات منها هذه الآية ، ومنها : (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ـ ١٠٣ الكهف ج ٥ ص
١٦٣ ومنها : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) ـ ١٢ البقرة.
(فَإِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ). هذا تعليل لقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي ان الله قد كتب عليه الضلال وسوء المصير لأنه سلك
الطريق المؤدية الى ذلك تماما كما كتب الموت على من شرب السم ، والغرق على من رمى
نفسه في البحر ، وهو جاهل بفن السباحة. وتقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة الرعد
والآية ٤ من سورة ابراهيم والآية ٩٣ من سورة النحل.
(فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ). لا تأسف ولا تحزن يا محمد على الذين لم يستجيبوا لدعوتك
ما داموا قد سلكوا طريق الضلال
والهلاك بسوء
اختيارهم ، وقد أحصى الله عليهم كل صغيرة وكبيرة ، وسوف يعاملهم بما يستحقون.
وتقدم مثله في الآية ٦ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٠٢.
والعمل الصالح يرفعه الأة
٩ ـ ١١ :
(وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ
يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما
تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (١١))
اللغة :
يبور من البوار
وهو الهلاك. وأزواجا أصنافا بيضا وسودا وذكورا وإناثا. والمعمر من طال عمره.
الإعراب :
جميعا حال من
العزة. ومكر مبتدأ وهو ضمير فصل ، وجملة يبور خبر. ومن معمر «من» زائدة إعرابا
ومعمر نائب فاعل ليعمّر. ونائب فاعل لا ينقص محذوف أي لا ينقص شيء من عمره. وفي
كتاب متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي الا هو كائن في كتاب.
المعنى :
(وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ). تقدم نظيره في الآية ٥٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٢.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). العزة لله ولدين الله بالذات ، وبهما يكون الإنسان عزيزا
، ومن اعتز بغير الله ذل ، قال ابن عربي في الفتوحات : عزة الحق لذاته إذ لا إله
إلا هو ، وعزة رسوله بالله ، وعزة المؤمنين بالله وبرسوله .. فعزة هؤلاء بإعزاز
الله ، فثبت للفرع ما ثبت للأصل. وما ذل المسلمون في هذا العصر إلا لأنهم اعتزوا
بغير الإسلام ، وقد كانوا من قبل أقل من اليوم عددا ، ولكن كانوا كثيرين بالإسلام
عزيزين بالاجتماع ووحدة الكلمة ضد عدو الله وعدوهم.
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). صعود الكلام ورفع العمل اليه تعالى كناية عن قبولهما
والاثابة عليهما ، والكلام الطيب ما نفع ، ومثله العمل الصالح ، وتومئ الآية الى
ان سبب العزة والرفعة عند الله تعالى هو ما ينفع الناس من الأقوال والأفعال (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ). يمكرون السيئات أي يدبرون الأذى والاساءة الى المؤمنين
والطيبين ، ولكن هذا المكر والخداع الى بوار وهباء ، وفي معنى ذلك قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إِلَّا بِأَهْلِهِ) ـ ٤٣ فاطر.
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ). تقدم في الآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١٠ (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أصنافا أسود وأبيض وذكرا وأنثى (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ
إِلَّا بِعِلْمِهِ) لأنه بكل شيء محيط (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ). المعمر طويل العمر. ولا ينقص من عمره كناية عن قصر العمر
، وفي كتاب أي في علم الله ، والمعنى الأعمار بيده تعالى. وفي نهج البلاغة : «لا
تنالون من الدنيا نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم
آخر من أجله». انظر ج ٢ ص ١٧١ فقرة : «الأجل محتوم».
وما يستوي البحران الأة
١٢ ـ ١٨ :
(وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى
اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ
بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ
مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))
اللغة :
عذب حلو لذيذ.
والسائغ سهل المرور في الحلق. وملح أجاج شديد الملوحة. ومواخر جمع ماخرة ، يقال :
مخرت السفينة إذا جرت. وقطمير قشر رقيق على نوى التمر كاللفافة لها. والوزر الذنب.
والمثقلة النفس التي أثقلتها الذنوب.
الإعراب :
شرابه فاعل سائغ.
وجملة تلبسونها صفة لحلية. والمصدر من لتبتغوا متعلق بمواخر. ذلكم مبتدأ والله خبر
أول وربكم خبر ثان ، وله الملك مبتدأ وخبر والجملة خبر ثالث. ومن دونه متعلق
بمحذوف حالا من مفعول تدعون المحذوف أي والذين تدعونهم كائنين من دونه. وكل من
وازرة وأخرى ومثقلة صفة لنفس محذوفة أي ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى. ولو كان
ذا قربى «لو» للوصل واسم كان محذوف أي ولو كان المدعو ذا قربى.
المعنى :
(وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ). هذه الآية من الآيات الكونية ، وهي تشير إلى تنوع الماء
عذوبة وملوحة ، وهذا التنوع وان استند مباشرة إلى أسبابه الطبيعية فإنها تنتهي الى
خالق الطبيعة ومبدعها. وتقدم مثله في الآية ٥٣ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٧٦ (ومن كل)
واحد من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً
طَرِيًّا) كالسمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). تقدم بالنص الحرفي في الآية ١٣ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٠٢.
(يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ). تتحرك الأفلاك ويدور بعضها حول بعض ، فتتعدد الفصول ،
ويأخذ الليل من النهار في فصل ، والنهار من الليل في فصل آخر ، وهذا التنظيم
الدقيق المطرد في كل عام مدى الملايين من القرون ـ يدل دلالة قاطعة على وجود
المدبر الحكيم لهذا الكون ، تماما كما تدل الآلة التي تؤدي الغرض المطلوب منها ـ على
صانعها ومنظمها ، والصدفة باطلة بحكم التكرار. وتقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة آل
عمران ج ٢ ص ٣٧ (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). تقدم بنصه الحرفي في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣.
(ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ).
القطمير كناية عن
أحقر الأشياء وأتفهها ، والمعنى ان ما ترونه من مظاهر الكون وعجائبه فهو من صنع
الله الذي لا إله سواه ، أما الذين تعبدون وترجون فإنهم لا يملكون مع الله شيئا (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا
دُعاءَكُمْ) ان كانوا بلا احساس وشعور كالأحجار والأشجار والكواكب (وَلَوْ سَمِعُوا) ان كانوا من الإنس أو الجن أو الملائكة (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فكيف يملكون ذلك
لغيرهم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). يبرءون منكم ويوبخونكم على الشرك والضلال (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) بمصير هؤلاء المكذبين بنبوتك يا محمد وغيرهم من العصاة
والطغاة.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). ان افتقار المخلوق الى خالقه لا ينقطع أبدا تماما كافتقار
المعلول الى علته ، والمسبب الى سببه ، قال ابن عربي في الفتوحات : للإنسان وجهان
: وجه مفتقر الى الله ، ووجه غني عن العالم ، فهو فقير ذليل أبدا بالنسبة اليه
تعالى ، وغني عزيز بالنسبة الى من استغنى عنه.
(إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ). ذلك اشارة الى إفناء العاصين ، وإيجاد المطيعين مكانهم ،
ولو أراد ذلك سبحانه لكان ما أراد ، لأنه على كل شيء قدير. وتقدم في الآية ١٩ من
سورة ابراهيم بالنص الحرفي ج ٤ ص ٤٣٦ ، وبالمعنى في الآية ١٣٢ من سورة النساء ج ٢
ص ٤٥٦ والآية ١٣٣ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٦٦.
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) كل مذنب يحاسب ويعاقب على ذنبه فقط ، والعكس في التوراة
سفر العدد اصحاح ٢٤ : «الرب طويل الروح .. ولكنه لا يبرئ بل يجعل ذنب الآباء على
الأبناء». وتقدمت الآية بنصها الحرفي في سورة الأنعام الآية ١٦٤ ج ٣ ص ٢٩٣ (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها
لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى). مثقلة أي نفس تحمل حملا ثقيلا من الأوزار ، والمعنى لا
يجدي في ذلك اليوم تضرع وخضوع ولا طلب العون والغوث من قريب وحبيب لأن لكل انسان
من نفسه شاغلا عن غيره : (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ـ ٣٧ عبس.
(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ). انما يستجيب لدعوتك يا محمد الذين يخافون الله ، ويرجون
ثوابه ، أما الذين لا يؤمنون به ولا باليوم الآخر فلا يجدي معهم نصح ولا إنذار (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ). هذا مثل قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ٤٦ فصلت. وفي نهج البلاغة : حاسب نفسك لنفسك ، فإن غيرها
من الأنفس لها حسيب غيرك (وَإِلَى اللهِ
الْمَصِيرُ) فيثيب من آمن وأصلح ، ويعاقب من أفسد وأساء.
وما يستوي الأعمى والبصير الأة
١٩ ـ ٢٨ :
(وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ
وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ
يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ
أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ
وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ
مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))
اللغة :
استوى هذا وذاك أي
هما سواء أو على سوية. والظّل الفيء والظلال ما أظلك. والحرور الريح الحارة
والمحرور من داخلته حرارة الغيظ ونحوه. والجدد بضم الجيم جمع جدة بالضم أيضا ، وهي
الطريق والجادة من الألوان المختلفة. وغرابيب جمع غربيب الشديد السواد، وفي البحر
المحيط يقال : اسود حلكوك واسود غربيب.
الإعراب :
ان نافية ، ومن
زائدة اعرابا ، وأمة مبتدأ ، وجملة خلا خبر. ومختلفا صفة لثمرات وألوانها فاعل
مختلف. ومن الجبال جدد مبتدأ وخبر ، وبيض وحمر صفة لجدد. ومختلف ألوانها صفة لحمر.
وبيض موصوفة بمختلف محذوف ، وهو من باب حذف الأول لدلالة الثاني عليه ، والمعنى ان
الجدد البيض تختلف في البياض شدة وضعفا ، والجدد الحمر تختلف في الحمرة كذلك. ومن
الناس وما بعده متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، ومختلف ألوانه صفة للمبتدإ
المحذوف اي جنس مختلف ألوانه. وكذلك الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف اي
اختلافا مثل ذلك.
المعنى :
(وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ). المراد بالأعمى من انحرف عن طريق الحق والهداية ، وضده
البصير ، والظلمات كناية عن الجهل والضلال والنور كناية عن العلم والهدى ، والظل
يومئ إلى النعيم والحرور الى الجحيم ، أما الأحياء فهم أصحاب القلوب الحية الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وضدهم الأموات ، والمعنى ليس سواء عند الله وفي
الواقع من آمن وأصلح ومن كفر وأفسد ، بل ان الفرق بينهما تماما كالفرق بين العمى والبصر
، والنور والظلام ، والجحيم والنعيم ، والموت والحياة.
(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ
مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا
نَذِيرٌ). ان كلامه تعالى يؤثر ويعمل عمله في نفوس الذين يطلبون
الحق لوجه الحق ، ويستمعون اليه رغبة في العمل به ، أما الذين لا يحركهم شيء إلا
المصالح الخاصة ولا يعملون إلا بوحي منها فإنهم لا يستمعون إلى كلامه تعالى ، ولا
هو ، جلت حكمته ، يلجئهم إلى الهداية وإلا بطل الثواب والعقاب. وتقدم مثله في
الآية ٤٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٦٢ والآية ٨٠ من سورة النمل.
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً). أرسل الله محمدا (ص) بالحجج الكافية الوافية داعيا إلى
الحق ، وشاهدا على الخلق ، فبلّغ رسالات ربه على أكمل وجه ، وكان رحمة للعالمين
بعامة ، وللعرب بخاصة حيث نقلهم من الجاهلية الجهلاء الى نور الإسلام وكرامته.
وتقدم بنصبه الحرفي الآية ١١٩ من سورة البقرة ج ١ ص ١٩٠.
لكل أمة رسول :
في القرآن الكريم
آيات تدل صراحة على ان الله سبحانه أرسل لكل أمة رسولا ، منها هذه الآية : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ») ومنها : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) ـ ٤١ النساء ج ٢ ص
٣٢٧ ، ومنها : (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) ـ ٣٦ النحل ج ٤ ص
٥١٢ ، ومنها : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولٌ) ـ ٤٧ يونس ج ٤ ص
١٦٥. بالاضافة الى قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٢ الحجر ،
وقوله : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ـ ٣٦ القيامة ونحو
ذلك.
وغير بعيد أن يكون
المراد بالرسول والنذير والشهيد كل ما تقوم به الحجة ، وتقطع به المعذرة من نبي
مرسل أو كتاب منزل أو مرشد مصلح أو حكم من أحكام العقل البديهية التي لا ينبغي ان
يختلف فيها اثنان من ذوي العقول السليمة وفطرة الله التي فطر عليها الناس ، كقبح
الظلم والخيانة ، وحسن العدل والأمانة ، وما إلى ذاك. ولا نعرف أمة من الأمم عاشت
فوضى وبلا نظام ، تدع كل واحد من أفرادها وما يشاء لا تحاسبه على قول أو فعل.
وتسأل : ألا
يتنافى قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) مع
قوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ
مِنْ نَذِيرٍ) ـ ٤٤ سبأ حيث أثبت
في الآية الأولى النذير لكل قوم ، ونفاه في الثانية عن قوم محمد (ص) قبل بعثته؟
الجواب : النذير
في الآية الأولى يشمل كل نذير نبيا كان أم غير نبي ، أما النذير في الآية الثانية
فالمراد به النبي بالخصوص ، وعليه فلا تضاد بين الآيتين لأن المعنى ان قوم محمد (ص)
لم يأتهم نبي مرسل قبل البعثة ، ولكن أتاهم نذير من العقل والفطرة ، وهو كاف واف
لالقاء الحجة عليهم بخاصة في عبادتهم الأحجار ومن أجل هذا كان الرسول الأعظم (ص)
يجادلهم فيها بمنطق العقل ويقول لهم : (أَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ـ ٧٦ المائدة.
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ). الزبر الكتب ، والمراد بها هنا الحكم والمواعظ ، والكتاب
المنير التوراة التي نزلت على موسى ، والإنجيل الذي نزل على عيسى ، وغيرهما من
الكتب المنزلة قبل بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين. وتقدم في الآية ١٨٤ من سورة آل
عمران ج ٢ ص ٢٢٢ (ثُمَّ أَخَذْتُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ). المراد بالنكير العذاب أي ان الله سبحانه أنكر عليهم
بالفعل لا بالقول. وتقدم في الآية ٤٤ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣٧ والآية ٤٥ من سورة
سبأ.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُها) وطعمها وروائحها ، وليس من شك ان هذا الاختلاف يستند
مباشرة إلى أسبابه الطبيعية ، ولكن هذه الأسباب تنتهي الى خالق الطبيعة. وتقدم
مثله في الآية ٤ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٥ و ٢٧٦ فقرة «السيد الأفغاني والدهريون».
(وَمِنَ الْجِبالِ
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ). يقول ، عز من قائل : انه جعل في الجبال طرقا ، بعضها طرق
بيض ، وبعضها طرق حمر ، وبعضها طرق سود ، وكل صنف من هذه الطرق الثلاث يختلف في
لونه شدة وضعفا ، والعبرة في هذا الاختلاف هي الدلالة على قدرة الله وارادته تعالى
تماما كدلالة اختلاف الثمار (وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ). وعطف الانعام على الدواب من باب عطف الخاص على العام لأن
المراد بالدواب الحيوانات التي تدب على الأرض ، ومنها الانعام التي تطلق على الإبل
والبقر والغنم
والماعز ، والمعنى
ان اختلاف ألوان الناس واختلاف ألوان الدواب يدلان على قدرة الله تماما كما دل
اختلاف الثمرات والطرق.
(إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ). المراد بالعلماء هنا الذين آمنوا بالله عن علم لا عن
تقليد ، وعرفوا عظمته بالأدلة والبراهين ، وما من شك ان العالم بقدرة من لا يقهره
شيء ولا يفوته شيء ـ لا ينفك أبدا عن الخوف منه ، ومن ثم كان العلماء بالله أشد
الناس خوفا من غضب الله وسطوته ، وأكثرهم رجاء لفضله وعفوه .. ونحن من الذين
يؤمنون بأنه لا إيمان حقا بلا تقوى ، ولا تقوى بلا وعي ، ومن أجل ذلك قال الرسول
الأعظم (ص) : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على النجوم» واشتهر
عنه (ص) : نوم العالم خير من عبادة الجاهل (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ). عزيز في انتقامه ممن طغى وبغى ، غفور لمن تاب وأناب.
ظالم نفسه ومقتصد وسابق بالخيرات الأة
٢٩ ـ ٣٥ :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ
سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ
أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ
(٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ
وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))
اللغة :
العدن الاقامة.
والحزن بفتحتين من الأرض ضد السهل ، ومن النفس ضد الفرح. ودار المقامة دار الخلود
، وهي الجنة. والنصب تعب الجسم. واللغوب تعب النفس الناشئ عن تعب الجسم.
الإعراب :
سرا قائم مقام
المفعول المطلق أي إنفاقا سرا مثل قمت طويلا أي قياما طويلا. وجملة يرجون خبر إنّ.
والمصدر من ليوفينهم متعلق بيرجون أي يهدفون من أعمالهم الصالحة إلى أجر الله
وفضله. هو ضمير الفصل لا محل له من الإعراب والحق خبر الذي ، ومصدقا حال. جنات عدن
خبر لمبتدأ محذوف أي ثوابهم جنات عدن. وجملة يدخلونها حال ، ومثلها جملة يحلّون ،
ومن أساور متعلق بيحلون. ولؤلؤا عطف على محل أساور لأن كل مجرور لفظا هو منصوب
محلا أو مفعول لفعل محذوف أي ويحلون فيها لؤلؤا. ودار الاقامة مفعول ثان لأحلنا و
«نا» مفعول أول. وجملة لا يمسنا حال من «نا».
المعنى :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ
سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ). المراد بكتاب الله القرآن الكريم ، وبالتلاوة التدبر
والعمل ، لأن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) الخ بعد قوله :
(إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) يومئ الى ان المراد من «يتلون» ما قلناه ، وفي نهج البلاغة
: ليس في ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه ـ أي
اروج ـ إذا حرف عن مواضعه .. فقد دل السياق على ان المراد بحق التلاوة العمل. ومعنى
الآية ان الذين يتدبرون القرآن ويعملون بأحكامه قاصدين وجه الله فقد ربحت تجارتهم
، وكانوا هم الفائزين. وفي نهج البلاغة : باع المؤمنون قليلا من الدنيا لا يبقى
بكثير من الآخرة لا يفنى (لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ). آمنوا وعملوا وأخلصوا طلبا لمرضاة الله ومثوبته ، وعفوه
ورحمته فنالوا ما يبتغون. وتقدم مثله في الآية ٢٧٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٢٨
والآية ٢٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٩٨.
(وَالَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ). المراد بالكتاب القرآن ، وهو يحمل معه الأدلة والبراهين
على صدقه وحقيقته ، وهي أحكامه وتعاليمه التي تعطي الأولية للايمان بعدل الله
ووحدانيته ، وبكرامة الإنسان وحريته (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب والشرائع التي تقوم على هذا الأساس ، أساس
الايمان بالله وبالإنسان (إِنَّ اللهَ
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) بما يصلحهم وما يفسدهم ، فينهاهم عن هذا ، ويأمرهم بذاك.
ولكن المسلمين تركوا ما امر به القرآن ، وفعلوا ما نهى عنه ، وصدق عليهم قول
الرسول الأعظم : يأتي على أمتي زمان ينهون فيه عن المعروف ، ويأمرون بالمنكر .. فلا
بدع إذا تسلط عليهم شرار خلق الله.
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا). المراد بالكتاب القرآن ، ما في ذلك ريب ، واختلف المفسرون
في المراد بالمصطفين ، فذهب أكثرهم أو الكثير منهم الى انهم أمة محمد (ص). والذي
نراه نحن انهم محمد (ص) وأهل بيته وصحابته وعلماء أمته الذين ساروا بسيرته ،
وعملوا بسنته لأن كلمة اصطفينا معناها اخترنا ، والله سبحانه لا يختار إلا المتقين
الأبرار ، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الاصطفاء بهذا المعنى في العديد من
الآيات ، منها : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ
وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) ـ ٣٣ آل عمران.
ومنها : (وَلَقَدِ
اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ـ ١٣٠ البقرة. أما
ضمير «منهم» في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) أما هذا الضمير فإنه يعود الى «عبادنا» لأنهم أقرب من «الذين
اصطفينا».
والظالم لنفسه من
رجحت سيئاته على حسناته ، والسابق بالخيرات من رجحت حسناته على سيئاته ، وبالأولى
من لا سيئات له ، والمقتصد بينهما أي الذي استوت حسناته وسيئاته.
(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ). ذلك اشارة الى الميراث والاصطفاء ، وجنات عدن الخ. بيان وتفسير
لفضل الله الكبير الذي جعله جزاء للذين اصطفى ، والذهب واللؤلؤ والحرير تعبير ثان
عن قوله تعالى : (وَفِيها ما
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ـ ٧١ الزخرف وفي
الحديث ان أعرابيا قال : يا رسول الله هل في الجنة سماع أي غناء؟ قال : نعم يا أعرابي.
(وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا
يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ). حمدوا الله وشكروه على الخلاص من الخوف والاضطراب ،
والنجاة من الجحيم والعذاب ، والتحرر من الأتعاب والأرزاء ، وعلى الخلود في النعيم
والهناء.
لا يقضي عليهم الأة
٣٦ ـ ٣٩ :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ
مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها
رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))
اللغة :
يصطرخون يصيحون
مستغيثين. نعمركم نمهلكم. وخلائف جمع خليفة وهو الذي يخلف من قبله.
الاعراب :
فيموتوا منصوب بأن
مضمرة لأن الفعل وقع جوابا للنفي ، والمصدر المنسبك فاعل لفعل محذوف أي فيحصل لهم
الموت. وصالحا صفة لمفعول محذوف أي عملا صالحا. وما يتذكر «ما» مصدرية ظرفية أي
ألم نعمركم أمدا كافيا للتذكر. ومقتا وخسارا تمييز.
المعنى :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ
مِنْ عَذابِها). ذكر سبحانه صورا لعذاب العصاة الطغاة ، منها هذه الصورة ،
وهي أليم العذاب وشدته ، ودوامه واستمراره ، فلا موت ينتهي به العذاب ، ولا سبب
يوجب التخفيف (كَذلِكَ نَجْزِي
كُلَّ كَفُورٍ) جزاء وفاقا لجرمه وجريرته وتقدم مثله في الآية ٥٦ ج ٢ ص
٣٥٣ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). صاحوا واستغاثوا ولا مغيث ، وتضرعوا وتابوا ولكن بعد فوات
الأوان. وتقدم مثله في الآية ١٠٠ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٨٨ والآية ١٠٧ ص ٣٩٠ من
نفس السورة والمجلد. وقال سبحانه في الآية
٢٨ من سورة
الأنعام : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ج ٣ ص ١٧٩.
(أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ). طلبوا من الله ان يعيدهم الى الدنيا ثانية ليستدركوا ما
فات من الايمان وصالح الأعمال ، فأجابهم سبحانه : لقد كنتم في الدنيا من قبل ،
ومكثتم فيها أمدا غير قصير ، وجاءكم البشير والنذير ، ودللتم الى سبيل الرشد
والهداية ، فأبيتم إلا البغي والضلال (فذوقوا) العذاب الآن بما كنتم تكفرون (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) لأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم ، لأن الله
أعذر اليهم بالحجج والبينات.
(إِنَّ اللهَ عالِمُ
غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). يعلم السرائر والضمائر ، وما يغيب في الأرض والسماء عن
الأبصار والبصائر ، ولا يخفى عليه من شيء كان ويكون (هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً). خلق سبحانه الأرض في تكوينها وإمكانياتها معاشا وحياة
للناس ، يرثونها جيلا بعد جيل ، ومنحهم العقل والقدرة على التحكم بها وبخيراتها
كما يشاءون ، وأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحدد لهم حدودا ، ونهاهم أن
يعتدوها .. فمن سمع واتقى فله أجر كريم ، ومن أعرض ونأى فله عذاب الجحيم يتضاعف
ويزداد كلما ازدادوا عتوا وطغيانا : (إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ـ ١٧٨ آل عمران ج
٢ ص ٢١٠.
يمسك السموات والأرض الأة
٤٠ ـ ٤٣ :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ
عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ
غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي
الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ
بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))
اللغة :
أرأيتم أخبروني.
جهد أيمانهم بالغوا فيها واجتهدوا.
الإعراب :
شركاءكم مفعول أول
لأرأيتم. والذين بدل من شركائكم. وأروني تأكيد لأرأيتم لأن كلا منهما بمعنى
أخبروني. ومضمون الاستفهام من «ما ذا خلقوا» مفعول ثان. وبعضهم بدل بعض من
الظالمين. والمصدر من ان تزولا مفعول من أجله ليمسك. وجهد مفعول مطلق لأقسموا لأنه
مضاف إلى الايمان. واستكبارا مفعول من أجله ، ومكر السيء معطوف عليه.
المعنى :
احتج سبحانه في
الآية الأولى على المشركين بأمور ثلاثة :
١ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ).
أخبروني أيها
المشركون : ما الذي دعاكم ان تجعلوا لله أندادا وأضدادا؟ فهل من شيء في الأرض يدل
صنعه على تعدد الصانع والأنداد؟ .. كلا ، فإن جميع الكائنات ينطق وجودها بوحدانية
الله ، ويشهد إحكامها بعظمته وحكمته.
٢ ـ (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ). المراد بالشرك هنا النصيب ، والمعنى أم لمعبود المشركين
أثر في السماء يدل على انهم شركاء لله في خلقه؟
٣ ـ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْهُ). ضمير «هم» يعود الى المشركين لا الى الشركاء ، وضمير «منه»
يعود الى الكتاب ، والمعنى أم جعلتم شركاء لله في العبادة وغيرها اعتمادا على كتاب
منزل أو نبي مرسل؟ وبالإجمال لا عذر للمشركين من العقل أو النقل فيما يشركون ، بل
هم في سكرتهم يعمهون.
(بَلْ إِنْ يَعِدُ
الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً). المراد بالغرور هنا الباطل ، وقد كان رؤساء الشرك والضلال
يقولون للضعفاء والأتباع : ان الأصنام يشفعون لكم غدا .. وليس من شك ان هذا الوعد
والقول كذب وافتراء ، وإغراء بالباطل (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً). أمسك سبحانه الكواكب بنظام الجاذبية ، تماما كما أمسك
الطير في السماء بجناحيه ، وأسند تعالى الإمساك اليه لأنه خالق الكون ومسبب
الأسباب. وتقدم مثله في الآية ٦٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٤٦.
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى
الْأُمَمِ). ضمير أقسموا يعود إلى مشركي قريش ، واحدى الأمم أي أية
أمة من الأمم ، وفي البحر المحيط يقال : إحدى الأمم ، تفضيلا لها على غيرها أي لا
نظير لها .. وقد كانت قريش تنكر على اليهود انحرافهم عن دينهم وقتلهم أنبياءهم ،
وتحلف الأيمان المغلظة لئن جاءها رسول من الله لتكونن أطوع اليه من بنانه (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ
إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ). وأخيرا جاءهم رسول من عند الله بالهدى والبينات .. ولكنهم
كذبوه ونفروا منه وتعالوا عليه وعلى دعوته ، ومكروا به وبأتباعه ، وصدوا الناس عن
الايمان بنبوته .. ولكن في النهاية نصره الله عليهم واستسلموا لأمره أذلاء صاغرين.
(وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). المكر السيء أن تضمر الشر لأخيك ،
وتدبره له في
الخفاء ليقع فيه من حيث لا يشعر .. وإذا جهل المسكين ما أضمرت ودبرت فإن الله به
عليم ، وهو مجازيك عليه لا محالة جزاء الكاذب المخادع ، ويعود عليك وبال كيدك
ومكرك (فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً). سنة الأولين أي سنة الله في الأولين ، وهي هلاك من كذّب
أنبياء الله ورسله ، والمعنى ألا يعلم الذين كذّبوا رسولنا محمدا ان الله قد أهلك
قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم ممن كذّبوا الرسل ، وان هذه هي عادته في كل مكذّب
بأنبياء الله ورسله ، وانها لا تتبدل ولا تتحول؟ أفلا يعتبرون بالغير ، ويتعظون
بالعبر؟
ما ترك على ظهرها من دابة الأة
٤٤ ـ ٤٥ :
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ
يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ
كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))
اللغة :
المراد بالدابة
هنا كل ما دب ويدب على الأرض حتى بني آدم.
الإعراب :
قوة تمييز. واللام
في ليعجزه لمجرد تأكيد النفي. ومن زائدة إعرابا وشيء فاعل يعجزه. والضمير في ظهرها
يعود الى الأرض التي دل عليها سياق الكلام. ومن زائدة ودابة مفعول ترك.
المعنى :
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً). هذه الآية ترتبط بالتي قبلها ، فتلك تقول : ان سنّة الله
فيمن مضى من مكذبي الرسل هي الإهلاك والاستئصال ، وتقول هذه لمن كذّب محمدا (ص) :
تلك آثار المكذبين قبلكم وديارهم ظاهرة للعيان ، وما هي منكم ببعيد ، فاضربوا في
الأرض قليلا وشاهدوها لعلكم تذكّرون وتتعظون. وتقدم في الآية ٤٦ من سورة الحج ج ٥
ص ٣٣٧.
(وَما كانَ اللهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ
عَلِيماً قَدِيراً) لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب ، فكل شيء خاضع لقدرته
، وخاشع لعظمته. وفي بعض التفاسير : ان جميع المخلوقات خصماء المذنبين حتى الدواب
والوحوش والذر والطيور ، لأن الله ينزل العذاب عليهم ، وإذا نزل العذاب عمّ كما
قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ـ ٢٥ الأنفال ج ٣
ص ٤٦٨.
(وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِعِبادِهِ بَصِيراً). وأدل شيء على عقوق الإنسان لخالقه انه يأكل رزقه ، ويعبد
غيره .. وهذا وحده كاف واف للعقاب والمؤاخذة ، ولكن لكل شيء عند الله مدة وأجلا
مسمى.
سورة يس
مكية إلا آية
واحدة ، وعدد الآيات ٨٣.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
انك لمن المرسلين الأة
١ ـ ١٢ :
(يس (١) وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ
غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ
مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ
كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))
اللغة :
المقمح الذي يغض
بصره بعد أن يرفع رأسه ، يقال : قمح البعير رأسه إذا رفعه بعد شرب الماء.
فأغشيناهم جعلنا على أبصارهم غشاوة.
الإعراب :
على صراط متعلق
بالمرسلين. تنزيل نصب على المصدرية. والمصدر لتنذر متعلق بتنزيل. وما نافية وجملة
ما انذر صفة لقوم. وسواء مبتدأ وجملة أنذرتهم خبر ، والهمزة هنا للتسوية لا
للاستفهام.
المعنى :
(يس) أكثر
المفسرين على ان هذه الكلمة مثل (الم) وتقدم الكلام عنها في أول سورة البقرة ، أما
قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ) فإن المراد بيس هنا الياس (وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). أقسم سبحانه بالقرآن الحكيم ان محمدا (ص) على الدين
القويم ، وقسم الله بالقرآن مع وصفه بالحكمة يومئ إلى شرف القرآن وعظمته ، وانه من
أقوى الأدلة على صدق محمد (ص) في دعوته ، أما وصفه سبحانه لنفسه بالعزة والرحمة في
قوله : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ) فهو اشارة إلى ان الله يأخذ العصاة المتمردين أخذ عزيز
مقتدر ، ويرحم المؤمنين والمنيبين ، قال الإمام علي (ع) : لا يشغله غضب عن رحمة ،
ولا تلهه رحمة عن عقاب.
الموسيقى الباطنية في القرآن :
في سنة ١٩٥٩ ألّف
الأديب المصري المعروف مصطفى محمود كتاب «الله والإنسان» ، وأنكر فيه وجود الخالق
، وألفت في الرد عليه كتاب «الله والعقل» ، ثم تتبعته في مقالاته ومؤلفاته ..
فقرأت له في مجلة «روز اليوسف» تاريخ ١٠ ـ ٤ ـ ١٩٦٧ مقالا أقر فيه بالبعث والحياة
بعد الموت ، وأشرت الى ذلك في بعض حواشي المجلد الأول من هذا التفسير ص ٧٧.
ومصطفى محمود أديب
بطبعه ، غني بذكائه الفطري الذي يكشف الدقيق الغامض من أسرار اللغة ، وخير شاهد
على هذه الحقيقة ما كتبه عن القرآن الكريم بمجلة
«صباح الخير»
تاريخ ١ ـ ١ ـ ١٩٧٠ بعنوان «المعمار القرآني» نقتطف منه ما يلي :
«اني أحار في وصف
الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن .. فكانت كلماته تسعى الى نفسي وكأنها
مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة .. وقد اكتشفت دون أن أدري حكاية الموسيقى
الداخلية الباطنية في العبارة القرآنية ، وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب
القرآني .. انه ليس بالشعر ولا بالنثر ولا بالكلام المسجوع ، وإنما هو بيان خاص من
الألفاظ صيغت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنية فيها .. ان الموسيقى المألوفة تأتي
من الخارج ، وتصل الى الاذن من خارج العبارة ، وليس من داخلها ، بل من البحر
والوزن والقافية ، أما موسيقى القرآن فتخلو من القافية والوزن والتشطير ومع ذلك
فهي تقطر من كل حرف .. من أين؟ وكيف؟ هذا سر من أسرار القرآن لا يشاركه فيه أي
تركيب أدبي .. انه محير لا ندري كيف يتم .. انه نسيج وحده بين كل ما كتب باللغة
العربية سابقا ولاحقا. وتقليده محال».
أجل ، ان تقليده
محال .. وهنا يكمن سر الاعجاز .. وبعد أن قدم الكاتب العديد من الشواهد على هذه الحقيقة
من كلمات الله وآياته قال :
«وليست الموسيقى
الباطنية هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية ، بل ان مع هذه الموسيقى صفة أخرى
تشعرك بأنها من صنع الخالق لا من صنع المخلوق .. اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية
بين رجل وامرأة بكلمة رقيقة مهذبة لا تجد لها مثيلا ولا بديلا في أية لغة : («فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً) ـ ١٨٩ الأعراف. هذه
الكلمة تغشاها .. تغشاها .. يمتزج الذكر والأنثى كما يمتزج ظلان ، وكما تذوب
الألوان بعضها في بعض .. هذا اللفظ العجيب يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين
اثنين هو ذروة في التعبير .. لقد انفرد القرآن بخاصة عجيبة تحدث الخشوع في النفس ،
وتؤثر في الوجدان والقلب بمجرد أن تلامس كلماته الأذن ، وقبل أن يبدأ العقل في
العمل ، فإذا بدأ يحلل ويتأمل اكتشف أشياء جديدة تزيده خشوعا ، ولكنها مرحلة ثانية
قد تحدث وقد لا تحدث ، قد تكشف الآية عن سرها وقد لا تكشف ، قد تؤتي البصيرة وقد
لا تؤتي ، ولكن الخشوع ثابت ومستقر».
وهذه أيضا إحدى
ظواهر الإعجاز في القرآن .. وختم الكاتب صاحب كتاب «الله والإنسان» مقاله الطويل
بقوله : «ان القرآن لفظا ومعنى من الله الذي أحاط بكل شيء علما».
(لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ). بعد أن ذكر سبحانه ان محمدا (ص) هو رسول الله حقا ، وان
القرآن تنزيل من العزيز الرحيم ـ بيّن مهمة القرآن وانه يهتف بالزواجر عن محارم
الله في إسماع العرب الغافلين عن الله والحق دون ان ينذرهم منذر قبل رسول الله (ص).
وعند تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ـ ٢٤ فاطر قلنا :
ان المراد بالنذير في هذه الآية كل ما تقوم به الحجة من العقل والنقل ، وان المراد
بالنذير في الآية التي نحن بصددها هو النبي بالخصوص.
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ
عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). المراد بالقول هنا الوعيد بالعذاب ، وضمير أكثرهم يعود
الى الآباء في قوله تعالى : (ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ) أي آباء العرب الذين كانوا في عهد رسول الله (ص) حيث مات
أكثرهم على الشرك ، والقليل القليل منهم كانوا على دين التوحيد. أنظر تفسير الآية
١٠٧ من سورة الإسراء ، فقرة «الحنفاء» ج ٥ ص ٩٦.
(إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ). الأغلال جمع غل وهو الطوق من الحديد ، والأذقان جمع ذقن
وهو مجتمع اللّحيين .. وإذا شدت الأيدي بالأغلال الى الأعناق ارتفع الرأس إلى فوق
، واستحال على المغلول ان يلتفت يمنة ويسرة أو ينظر الى الأمام فهو أبدا ينظر الى
السماء ، وهذا هو المقمح (وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). يجعلهم الله يوم القيامة بين سدّين من نار : واحد من
أمامهم وآخر من خلفهم لا يجدون متقدّما عنهما ولا متأخرا ولا يبصرون سماء ولا
غيرها لأن السدين قد أعميا أبصارهم .. وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن أليم العذاب
وشدته ، ومهما يكن فإن هذا العذاب وما اليه لا يختص بالمشركين ، بل يعم كل مجرم
وظالم ، قال الإمام علي (ع) : «أما أهل معصيته فأنزلهم شر دار ، وغل الأيدي الى
الأذقان ، وقرن النواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ، ومقطعات
النيران ، وباب قد
أطبق على أهله في نار لها كلب ولجب». وتقدم مثله في الآية ٥ من سورة الرعد و ٣٣ من
سورة سبأ.
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). سيان عندهم يا محمد وعظت أم لم تعظ فإنهم لا يتحركون إلا
بوحي من أهوائهم ومصالحهم. وتقدم مثله في الآية ٧ من سورة البقرة (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ
كَرِيمٍ). انما يستمع اليك ويقبل منك من طلب الحق لوجه الحق ، ويمضي
عليه مهما تكن النتائج. وتقدم مثله في الآية ١٨ من سورة فاطر.(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ
مُبِينٍ). الإمام المبين كناية عن علمه تعالى ، والمعنى ان الله
يبعث الناس غدا من قبورهم ، وقد أحصى عليهم ما فعلوا من خير وشر ، وما تركوا من
آثار نافعة أو ضارة ، وانه يجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.
رسولان عززهما الله بثالث الأة
١٣ ـ ٢٧ :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا
إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما
أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا
رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ
(١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ
(٢١)
وَما
لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ
شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي
آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
(٢٧))
اللغة :
عز عليّ اشتد عليّ
، وعزني في الخطاب غلبني في حجاجه ، وعززني بكذا قوّاني به ، وهذا المعنى هو
المراد بقوله : فعززنا بثالث. وتطيرنا تشاءمنا ، وطائركم شؤمكم. وأقصى أبعد.
الإعراب :
اضرب بمعنى اجعل ،
وأصحاب القرية مفعول أول ، ومثلا مفعول ثان. وإذ الثانية بدل من إذ الأولى. ومفعول
عززنا محذوف أي فعززناهما. وجواب أئن ذكرتم محذوف أي أئن ذكرتم تطيرتم. ولا ينقذون
الأصل ينقذونني. فاسمعون النون للوقاية والأصل فاسمعوا قولي ثم حذف المضاف وهو
القول للتخفيف فصار الفعل فاسمعوني ثم حذفت الياء للوقف. يا ليت «يا» للتنبيه.
المعنى :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ). الخطاب في اضرب لمحمد (ص) وضمير «لهم» لمشركي العرب ، أما
القرية فقال أكثر المفسرين : انها مدينة انطاكية ، ولكن الله سبحانه لم يحدد لأن
القصد من ضرب المثل الاتعاظ والاعتبار ..
وهذا لا يتصل باسم
القرية وموضعها .. ويغلب على الظن ان المفسرين اعتمدوا على كتب النصارى حيث جاء في
الاصحاح الحادي عشر من أعمال الرسل : ان برنابا وشاول ذهبا إلى انطاكية وعلّما
جمعا غفيرا. والرسل هم التلاميذ الاثنا عشر الذين اختارهم السيد المسيح (ع)
ليعاينوا حوادث حياته على الأرض ويروه بعد قيامه من القبر ، ويخبروا العالم بذلك.
إنجيل متى وأعمال الرسل. أما برنابا فهو قبرصي اعتنق المسيحية في زمن الرسل ،
وأصبح داعية اليها. (قاموس الكتاب المقدس).
(إِذْ جاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا
بِثالِثٍ). في كثير من التفاسير ان هؤلاء الرسل كانوا من حواريي عيسى
(ع) وتلاميذه ، وانه هو الذي أرسل الى القرية اثنين ، ثم شد ازرهما بثالث .. ولكن
كلمة المرسلين مع إسنادها اليه تعالى في قوله : أرسلنا .. فعززنا تدل على انهم
أرسلوا بأمر الله مباشرة لا بأمر عيسى (ع) .. ومهما يكن فإن العبرة بالمسميات لا
بالأسماء .. هذا ، الى اننا غير مسؤولين عنها أمام الله ، ولا صلة لها بحياتنا من
قريب أو بعيد. والمعنى واضح ، وهو ان الله سبحانه أرسل لأهل تلك القرية ثلاثة
يدعونهم الى الحق.
(فَقالُوا إِنَّا
إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ
الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ). أبدا ماركة مسجلة : كلما جاء أمة رسولها قالوا ما أنت إلا
بشر مثلنا وما كان لك علينا من فضل حتى يختارك من دوننا ، وما نحن لك بمؤمنين ..
انظر الآية ١٠ من سورة ابراهيم والآية ٩٤ من سورة الإسراء والآية ٢٤ من سورة
المؤمنون والآية ٣ من سورة الأنبياء والآية ١٥٤ من سورة الشعراء (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). بعد أن أقام الرسل الحجة البالغة على صدقهم قالوا
للمكذبين : لقد أرسلنا الله إليكم ، وزودنا بما رأيتم من البينات ، وأدينا رسالته
على وجهها ، وما علينا من حسابكم من شيء وما حسابنا عليكم وانما ذلك على الله وحده
، وكفى به عليما وحسيبا.
(قالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). طائركم معكم أي لا واقع للطيرة ، وإنما هي من وحي أوهامكم
، وفي الحديث المشهور : لا عدوى ولا طيرة ولا هامة. والهامة نوع من البوم يألف
القبور والخرائب. وقال الإمام الصادق (ع) : الطيرة
على ما تجعلها أنت
، فإن هونتها تهونت ، وان شددتها تشددت ، وان لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا. أي ان
الطيرة لا شيء في ذاتها ، ولا أثر لها على الإنسان إطلاقا ، وإنما تؤثر على نفسه
وأعصابه لأنه قد توهم انها تبصر وتؤثر تماما كالطفل نحال الشبح وحشا يفترسه.
والمعنى ان
المكذبين قالوا للرسل : لقد تشاءمنا من دعوتكم ، ونحن نخاف ان تعود علينا بتفريق
الكلمة ، وانقسامنا الى فئتين معكم وعليكم ، فسكوتكم خير لنا ولكم وإلا أسكتناكم
بالرجم وشدة العذاب ، فقال لهم الرسل : لا مصدر لهذا الخوف والتشاؤم إلا أنفسكم
التي توسوس إليكم بأن دعوتنا شؤم وشر والشر بأنفسكم وفيما أنتم عليه من الشرك
والجهل والفساد.
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) لم يشر سبحانه الى اسم الرجل ومع هذا قال المفسرون أو
أكثرهم : اسمه حبيب النجار ، وان بيته كان في أطراف المدينة ، وانه كان قد آمن
بالله ، ولما سمع ان قومه يهمون بقتل الرسل أسرع إلى مناصرتهم والدفاع عنهم بلسانه
.. ولا أدري من أين جاء المفسرون بهذا الاسم؟ وقد بحثت عنه في فهرست الكتاب المقدس
وقاموسه أيضا ، فلم أعثر على اسم حبيب. ونقله الطبري عن ابن عباس وكعب الأحبار ،
وأيا كان فلا علاقة لنا باسم الرجل ، ولا يعنينا منه إلا بقدر ما تدل عليه الآيات
، وقد وصفته بالايمان والصلاح لأنه (قالَ يا قَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ
مُهْتَدُونَ). نصح لقومه أن يقبلوا دعوة الرسل ، ولا ينكصوا عنها لأنها
لخيرهم وصلاحهم ، والداعون للحق لا يطلبون أجرا ولا شكورا ، ولا علوا ولا فسادا في
الأرض.
(وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). هذه حكاية لقول المؤمن الناصح ، ومعناه أي مانع يمنعني عن
عبادة الذي أوجدني من العدم ، ثم يبعثنا جميعا بعد الموت للحساب والجزاء؟ وفي هذا
تعريض بقومه لتركهم عبادة الواحد الأحد ، وهو يمضي في هذا التقريع ويقول : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ
يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا
يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). كيف أعبد أصناما لا تضر ولا تنفع ، ولا تنقذ ولا تشفع ..
لقد ضللت اذن ، وما أنا من المهتدين .. كلا (إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ). لا يجابه بهذه الكلمة قوى الشر والفساد إلا من لا يبالي
بالموت في سبيل الحق ونصرته .. وفي بعض
الروايات : انه
لما جابه قومه بهذه الحقيقة قتلوه رميا بالحجارة وما وجد من يدافع عنه .. وليس هذا
ببعيد عن سيرة الطغاة وأهل الفساد ، والذي يؤيد صدق هذه الرواية قول المشركين
للرسل : «لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم». وفي تفسير الزمخشري
والثعلبي : ان سباقي الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين : علي بن أبي طالب ، وصاحب
يس ، ومؤمن آل فرعون.
(قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ) باع نفسه لله ، فكانت الجنة هي الثمن ، وكفى بالجنة ثوابا
ونوالا (قالَ يا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). لم يقل هذا تشفيا من قومه برغم انهم كذبوه وآذوه .. حاشا
الأصفياء الأخيار .. بل قاله حبا بالخير وتحسرا على ما فاتهم منه متمنيا لو علموا
انه كان لهم من الناصحين ، وان تطيرهم به وبالمرسلين كان وهما وجهلا.
الجزء الثّالث والعشرون
يا حسرة على العباد الأة
٢٨ ـ ٣٦ :
(وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً
عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ
(٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ
إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ
(٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها
حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا
يَعْلَمُونَ (٣٦))
اللغة :
القرون جمع قرن ،
وهو القوم المقترنون في زمن واحد. والأزواج الأصناف.
الإعراب :
اسم كانت محذوف أي
ان كانت الصيحة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. وحسرة منادى أي احضري يا حسرة فهذا
وقتك ونصبت لأن على العباد يتعلق بها. وكم خبرية ومحلها النصب بأهلكنا. والمصدر من
انهم اليهم لا يرجعون مفعول لفعل محذوف أي قضينا انهم لا يرجعون ، وقيل : ان هذا
المصدر بدل من
أهلكنا ، ويلاحظ
بأن البدل على نية التكرار ، ولا يقال : كم كونهم لا يرجعون. وان نافية وكل مبتدأ
ولمّا بمعنى الا ، وقال صاحب البحر المحيط : ان «لمّا» لا تستعمل في الاستثناء إلا
في المسموع فقط ، فلا يقال قام القوم لمّا زيدا. والأرض مبتدأ والميتة صفة لها ،
وآيه خبر أي والأرض الميتة آية لهم. وما عملته «ما» عطف على ثمره أي ويأكلون من
الذي عملته أيديهم.
المعنى :
(وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ
كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ). ضمير قومه يعود إلى المؤمن الذي قال : اتبعوا المرسلين
الخ. والمراد بجند السماء الملائكة ، والصيحة هي صيحة العذاب ، وخامدون ميتون.
والمعنى ان إهلاك المكذبين علينا سهل يسير ، فإذا أردناه فلا نرسل عليهم ملائكة
العذاب ، بل ما هي إلا صيحة يسمعونها من السماء حتى تصبح بيوتهم قبورا لأجسامهم.
(يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). هذا بيان وتفسير للسبب الموجب للحسرة ، وهو إصرار
المشركين على تكذيب الرسل ، واتخاذهم سخريا وهزوا. وتسأل : من هو المتحسر ، مع
العلم بأن الله سبحانه لا يتحسر على أحد؟
الجواب : لا متحسر
في الدنيا على الإطلاق ، لأن الحسرة هنا كناية عن سوء مصيرهم وعاقبتهم الوخيمة
التي يتحسرون معها حين يرون عذاب جهنم ، ويندمون على اضاعة الفرصة في الحياة
الدنيا.
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ). يتحسرون ويندمون في الآخرة لأنهم لم يتعظوا في الدنيا
بالأمم الماضية الذين أهلكهم الله لما كذبوا الرسل (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ
لا يَرْجِعُونَ). قال أكثر المفسرين القدامى والجدد ، ومنهم المراغي وصاحب
الظلال ، قالوا في معنى هذه الجملة الكريمة : ألم ير المكذبون ان الأمم الذين
أهلكناهم لا يعودون إلى الدنيا ثانية! .. وفي هذا التفسير نظر ، لأن عدم عودة
الأموات إلى الدنيا حجة للمكذبين بالبعث ، وليس حجة عليهم .. والمعنى الصحيح
ـ كما نظن ـ ألم
ير المكذبون ان الله قد أهلك الماضين بقضهم وقضيضهم ، ولم يبق منهم أحد يرجع الى
المكذبين اللاحقين ينبئهم بخبر المكذبين السابقين ، وانما دل على إهلاكهم المعالم
والآثار : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ـ ٥٢ النمل فهذه
الجملة أشبه بقوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) ـ ٥٠ يس. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ).
كل الناس موقوفون
غدا بين يدي الله لنقاش الحساب وجزاء الأعمال. كان على ربك حتما مقضيا.
(وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها
مِنَ الْعُيُونِ). تقدم مثله في الآية ٩٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٣٤ والآية
٤ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٦ والآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١١.
(لِيَأْكُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعم الله التي لا تعد ولا تحصى. وقوله : «ما عملته أيديهم»
فيه إيماء الى أن النعمة حقا هو المال الحلال المكتسب من كد اليمين وعرق الجبين ،
أما المال الحرام فهو نار وجحيم : (إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ ناراً) ـ ١٠ النساء : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا
النَّارَ) ١٧٤ البقرة.
(سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ). تنزه عن الشريك ، وتعالى علوا كبيرا الذي خلق الأنواع
والأصناف في الحيوانات والطيور ، وفي النباتات والإنسان ، وفيما لا نعلم من أقطار
السماء وتخوم الأرض ، وكل صنف من هذه الأصناف يختلف لونا وحجما ، وفي بعضها طعم
كالنبات ، وفي آخر أخلاق كالإنسان. ويقول أهل الاختصاص : ان المادة الجامدة مؤلفة
من شيئين أيضا : سالب وموجب ، ولولاهما لما وجد كائن .. ولا مصدر لذلك إلا العليم
الحكيم ، أما الصدفة فلا يلجأ اليها إلا قاصر أو مكابر.
وفي كل شيء له أة
الآية
٣٧ ـ ٤٤ :
(وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ
تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ
لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ
مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها
أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ
نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ
رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))
اللغة :
نسلخ منه النهار
أي نزيل النهار ونضع الليل مكانه. ومظلمون داخلون في الظلام. والعرجون على وزن
فعلول من الانعراج أي الاعوجاج ، وهو غصن النخلة شبه به القمر إذا انتهى في
نقصانه. فلا صريخ فلا مغيث.
الإعراب :
الليل مبتدأ مؤخر
وآية خبر مقدم. ذلك تقدير العزيز كلام مستأنف مبتدأ وخبر. والقمر على حذف مضاف
والعامل به فعل محذوف أيضا دل عليه الموجود أي وقدرنا دوران القمر قدرناه. ومنازل
منصوب على الظرفية أي في منازل مثل دخلت الدار أي في الدار خلافا لصاحب مجمع
البيان. وكل مبتدأ وفي فلك متعلق بيسبحون والجملة خبر ، والجمع باعتبار المنازل ،
وتدل يسبحون على ان واو الجمع تطلق بعض الأحيان على غير العقلاء ، وقال قائل : ان
الشمس والقمر من العقلاء. والمصدر من انّا حملنا مبتدأ مؤخر ، وآية لهم خبر مقدم
أي حملنا ذريتهم في الفلك آية لهم. ورحمة مفعول من أجله ومتاعا عطف على رحمة.
المعنى :
ذكر سبحانه هنا
آيات كونية تدل على قدرته وعظمته ، وهي :
١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ). يتعاقب الليل والنهار نتيجة لكروية الأرض ودورانها حول
نفسها تماما كدوران الرحى ، وجانب الأرض الذي يحاذي الشمس حين الدوران يصير نهارا
، وغير المحاذي يصير ليلا ، فإذا تجاوز عن الشمس ما كان محاذيا لها بسبب الدوران
وحلّ محله الجانب الآخر الذي كان ليلا ، إذا كان كذلك ينعكس الأمر ، فيصير ما كان
ليلا نهارا ، وما كان نهارا يصير ليلا ، وهكذا دواليك ، وقد عبّر سبحانه عن هذا
بالانسلاخ ، وأسنده اليه لأنه خالق الكون وسبب الأسباب ، وتقدم مثله في الآية ٢٧
من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ والآية ١٢ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٢٦.
٢ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). اختلف المفسرون في المراد من مستقرها على أقوال أنهاها
الرازي الى أربعة ، وكلها بعيدة عن الافهام ، والصواب ان مستقرها كناية عن سيرها
بنظام محكم ودقيق ، ويومئ الى هذا قوله تعالى : ذلك تقدير العزيز العليم. ونقل
مؤلف كتاب القرآن والعلم الحديث عن كبار علماء الفلك المعاصرين : «ان الشمس تجري
بسرعة ١٢ ميلا في الثانية غير دورانها حول نفسها ، وانها تختلف عن حال دوران الأرض».
وتقدم ما يتصل بذلك في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣.
(وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ). وهذه المنازل لا تبدل بغيرها ، ولا تتحول من مكانها ، ولا
القمر يضل عنها. وقال الفلكيون : انها ٢٨ ينزل كل ليلة في واحد منها ، ويستتر في
ليلتين إذا كان الشهر ٣٠ يوما ، وفي ليلة واحدة إذا كان ٢٩ ، وعندئذ يصير كغصن
النخلة في الدقة والانحناء ، وهذا هو المراد بالعرجون. وتقدم ما يتعلق بذلك في
الآية ٣٦ من سورة التوبة ج ٤ ص ٢٩ فقرة الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية.
(لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). لكل كوكب فلكه الخاص يدور فيه بنظام ، ويجري في منازل
مقدرة إلى أن يطويها الله طي السجل للكتاب. وفي نهج البلاغة : «وجعل شمسها ـ أي
شمس الكواكب ـ آية
مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوة من ليلها ـ أي ان ضوء القمر يطغى على ضوء بقية
الكواكب ـ فأجراهما ، وقدر سيرهما في مدارج درجهما ليميز بين الليل والنهار بهما ،
وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما .. ومما قرأته في هذا الباب حديث قدسيّ ذكره
صاحب الأسفار في المجلد الثالث ، ومعناه ان الله سبحانه قال : لو وضعت الشمس في
جانب خاص من الكون لرفع الغني بناءه وحجب نور الشمس عن الفقير ، ولكن وضعتها في
أفق تدور فيه وتسير حتى يجد الفقير نصيبه من ضوئها تماما كما يجد الغني.
٣ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ). ضمير «لهم» وذريتهم يعود إلى أبناء آدم .. يذكرهم الله
سبحانه بأنعمه العظام عليهم ، ومنها حملهم في السفن مملوءة بهم وبمتاعهم تنقلهم من
بلد الى بلد. وتقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٤٨ والآية ٦٦ من سورة
الإسراء ج ٥ ص ٦٥.
٤ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما
يَرْكَبُونَ). ضمير مثله يعود إلى الفلك ، وقال المفسرون القدامى :
المراد بمثله الإبل والخيل والبغال والحمير. قالوا هذا حيث لا طائرة ولا سيارة ولا
مركبة فضاء (وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ) ولو كانوا في المدرعات وحاملات الطائرات. والغرض هو أن
يذكرهم سبحانه بنعمة النجاة من الغرق ، وانه لولا رحمته وعنايته لكانوا من
الهالكين (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) من الغرق مهما استغاثوا واستجاروا (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى
حِينٍ) إلا أن يتداركهم الله برحمته من أهوال البحر ، ويؤخرهم الى
أجل مسمى وفقا لعلمه وحكمته.
اتقوا ما بين ايديكم الآية
٤٥ ـ ٥٤ :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ
لَوْ
يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ
إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا
يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا
وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ
لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا
تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))
الإعراب :
جواب وإذا قيل لهم
اتقوا محذوف أي أعرضوا بدلالة قوله : معرضين في الآية التالية. وويلنا منادى أي يا
ولينا احضر هذا أوانك. هذا ما وعدنا الرحمن مبتدأ وخبر والكلام مستأنف.
المعنى :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). ضمير «لهم» يعود الى مشركي العرب. والمراد بما بين أيديهم
معاصي الله ومحارمه ، وبما خلفهم العقاب عليها. وفي نهج البلاغة : «ان الساعة
تحدوكم من خلفكم». والمعنى ان رسول الله نهاهم عن المعاصي ، وأنذرهم بنقمة الله
وعذابه ان عصوا ، وبشرهم برحمته وثوابه ان أطاعوا ، ولكنهم انقلبوا على أعقابهم
مدبرين. (وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ). كلما جاءهم الرسول بمعجزة
ظاهرة أو بيّنة
واضحة كذّبوا بها تمردا وعنادا. وتقدم مثله في الآية ٥ من سورة الشعراء ج ٥ ص ٤٨٨.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ
مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) للمترفين مبدأ واحد ودين واحد ، وهو الحرص على ثرائهم
ومصالحهم ، فإذا تكلموا أو فعلوا فبوحي منه يقولون ويفعلون ، وإذا نظروا فمن خلاله
ينظرون ، وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : انما نحن مصلحون ، وإذا قيل
لهم : آمنوا كما آمن الناس. قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء؟ وإذا قيل لهم : اسجدوا
للرحمن قالوا : وما الرحمن؟ بل نسجد للدرهم والدينار. وإذا أمرهم آمر أن ينفقوا
على المحاويج قالوا : قضى الله عليهم بالفقر ، وقدر لنا الغنى .. وجهلوا أو
تجاهلوا ان الفقر من صنع الأرض لا من صنع السماء ، من فساد الأوضاع وجور أنظمة
السلب والنهب واستغلال الضعفاء.
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وإذا حذرهم الله والرسول من سوء العاقبة وبئس المصير.
قالوا ساخرين : ومتى هذا المصير؟ وتقدم مثله في العديد من الآيات (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي يتنازعون في شئون دنياهم ، ومثله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) ـ ٩٥ الأعراف.
(فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ). إذا جاءت صيحة العذاب فلا يمهل أحد منهم ليوصي أهله بما
أهمه ، وان كان غائبا عنهم لا يملك الرجوع اليهم (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ). تقدم مثله في الآية ١٠٠ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٦٢.
(قالُوا يا وَيْلَنا
مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا). تعجبوا من إحيائهم بعد الموت ، وكانوا من قبل يسخرون ممن
يعدهم به ، ويأمرهم بالاستعداد له ، وبعد أن شاهدوه قالوا : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ) بأن الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً
فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ). فالخلق والموت والبعث لديه تعالى سواء .. كل واحد منها
يكون بكلمة واحدة
: (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ ٢٨ لقمان. وتقدم
مثله في الآية ٣٢ من هذه السورة (فَالْيَوْمَ لا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وفي معناه : (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ـ ١٧ غافر.
أصحاب الجنة وأصحاب النار الآية
٥٥ ـ ٦٨ :
(إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ
عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ
(٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا
تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى
أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى
مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))
اللغة :
فاكهون مرحون من
الفكاهة لا من الفاكهة. وظلال جمع ظل وهو الفيء.
والأرائك جمع
أريكة وهي السرير. وما يدعون ما يطلبون. وامتازوا انفردوا وابتعدوا عن أهل الخير
والصلاح. جبّلا كثيرا خلقا كثيرا. اصلوها قاسوا حرها والزموا العذاب بها. والطمس
المحو والمراد به هنا العمى أي لأعميناهم. فاستبقوا من الاستباق أي بادروا
وانطلقوا. ونكس الشيء هو جعل أسفله أعلاه.
الإعراب :
في شغل خبر ان
وفاكهون خبر ثان. وهم مبتدأ وأزواجهم عطف عليه ، وفي ظلال خبر ، ومتكئون خبر ثان
وعلى الأرائك متعلق به. وسلام بدل من ما يدعون. وقولا منصوب على المصدرية. أن لا
تعبدوا «أن» مفسرة للعهد. وان اعبدوني عطف على أن لا تعبدوا الشيطان.
المعنى :
(إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى
الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ). ان أغلى أمنية للإنسان الصحة والأمان وراحة البال من
المشاغل والمتاعب ، وان يتوفر له ما لذ وطاب من مأكل ومشرب ومسكن وملبس ومتعة
بالنساء والأشجار والأنهار ، وكل ذلك وما إليه متوفر لأهل الجنة ، وفوق كل شيء (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) وسلام الله أمان ورحمة ، ورضوانه منتهى السعادة والنعمة ..
ومن هنا قال الإمام علي (ع) : كل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار
عافية.
(وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ). كان المجرمون في الحياة الدنيا يتظاهرون بالصلاح ويلبسون
مسوح الرهبان ، ويختلطون مع أهل التقى والخير .. ويخفى حالهم على الكثير من الناس
، أما في يوم الفصل والجزاء فيباعد الله بينهم وبين الصالحين ، ويقول لهم : ادخلوا
النار مع الداخلين (يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ـ ٤١ الرحمن.
(أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). حذّر سبحانه العباد من الشيطان ووسوسته ، ونهاهم عن طاعته
، وأرشدهم إلى طريق الخير والهداية ، فأطاع الكثير منهم الشيطان وعصوا الرحمن ،
وإلى هذا أشار بقوله :
(وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ). الجبلّ الخلق ، وكل من سلك مسلك الهالكين بعد أن حذّر
وأنذر فهو في عمى عن نور العقل وهدايته ، ولا جزاء لمثله إلا العذاب الذي أشار
اليه سبحانه بقوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها على ألسنة الرسل ، وتسخرون منها ومنهم (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ). وهذا مصير كل من ضيع وفرط.
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ). كل جارحة للعصاة الطغاة ينطقها الله غدا لتشهد على صاحبها
بما اجترح من السيئات ، فاليد تشهد عليه بما ضرب وسرق وكتب وأشار ، والرّجل بما
سعى ، والعين بما نظر .. وهكذا.
وتسأل : كيف تجمع
بين قوله تعالى هنا : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ) وقوله في الآية ٢٤ من سورة النور : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ) فقد أثبت لهم النطق هنا ونفاه هناك؟
الجواب : ان
للعباد غدا مواقف لا موقفا واحدا ، يؤذن لهم بالكلام في بعضها دون بعض ، قال تعالى
: (يَوْمَ يَأْتِ لا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ـ ١٠٥ هود.
(وَلَوْ نَشاءُ
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا
يَرْجِعُونَ). لو أراد سبحانه أن يعاقب المجرمين في الدنيا لأعمى
أبصارهم فلا يهتدون إلى شيء ، ولمسخهم تماثيل جامدة لا حراك فيها ولا حياة (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي
الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ). نكس الشيء هو جعل أسفله أعلاه ، وكلما تقدم الإنسان في
السن تقهقر إلى الوراء ، فيخرف بعد الإدراك ، ويضعف بعد القوة .. والغرض من هذا
البيان هو الاشارة إلى أن الله سبحانه قد أمدّ الإنسان بحياة كافية وافية لأن
يهتدي فيها ويعمل صالحا ، وانه لو عمّر أكثر من المعتاد لأقعده العجز والمرض ،
وكان
طول العمر عليه
شرا ووبالا : (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ـ ٣٧ فاطر.
وما علمناه الشعر الآية
٦٩ ـ ٧٠ :
(وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))
حاول أعداء الله
والحق تكذيب محمد (ص) بشتى الوسائل ، من ذلك قولهم : انه مجنون. فقال قائل منهم ،
وهو الوليد بن المغيرة الذي عاش ومات على الكفر ، قال : «كلا ، ان لقوله ـ يريد
القرآن ـ لحلاوة ، وان عليه لطلاوة ، وان أعلاه لمثمر ، وان أسفله لمغدق ، وانه
يعلو ولا يعلى عليه». فعدلوا عن رمي رسول الله بالجنون الى القول : (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) ـ ٤ ص. ولما
استبان انهم هم الكاذبون قالوا : كاهن يخطئ ويصيب أو شاعر حلو الكلام خصب القريحة
والخيال.
وتجدر الاشارة الى
ان اتهامهم الرسول الأعظم (ص) بالشعر يدل على ان الشعر عند العرب لا يحده الوزن
والقافية ، بل هو أوسع وأشمل .. انه التعبير الفني وجماله موزونا كان أم غير موزون
، وكذلك هو عند الفلاسفة القدامى ، قال صاحب تفسير روح البيان : «الشعر عند
الحكماء القدماء ليس على وزن وقافية ، ولا هما ركن من أركانه عندهم» .. وشاعت هذه
الفكرة اليوم في الدراسات الأدبية والنقدية ، وآمن بها كثير من أساتذة الأدب
الحديث.
وقد رد سبحانه
اتهام نبيه الكريم بالشعر والكهانة في العديد من الآيات ، منها : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما
هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) ـ ٤٠ الحاقة. ومنها : (فَما أَنْتَ
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا
مَجْنُونٍ
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) ـ ٢٩ الطور. ومنها
ما حكاه سبحانه عن المشركين : (أَإِنَّا لَتارِكُوا
آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ـ ٣٦ الصافات.
ومنها : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) ـ ٥ الأنبياء.
ومنها الآية التي
نحن بصددها (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ
مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ). المراد بالحي هنا من أحيا عقله بالتدبر والتأمل ، وتفتّح
قلبه للحق والخير ، وبالقول كلمة العذاب تماما كقوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ
عَلَى الْكافِرِينَ) ـ ٧١ الزمر .. قال
المشركون : القرآن الذي جاء به محمد (ص) ما هو إلا شعر يعبر عن تفكيره وخياله ،
وليس بوحي من عند الله .. فردّ عليهم سبحانه بأن الشعر يرتكز على عاطفة الشاعر
وميوله وأهوائه ، يناصر يحب وان كان مبطلا ، ويقاوم من يكره وان كان محقا ،
والقرآن هو القول الجد والفصل ، وما هو بالهوى والهزل ، هو كتاب عقيدة وشريعة ،
وأخلاق وعظات ، وفيه علم وفكر ، وأين الشعر من ذلك؟.
ولو كان القرآن من
صنع محمد (ص) لبث فيه آلامه وأحزانه وحياته وأزماته ، تماما كما هو شأن الشعراء ..
مع العلم بأن القرآن في معزل عن مشاكل محمد (ص) ومشاغله.
بقي أن نشير الى
ان النبي (ص) كان يقدر الشعر ويحترمه كفن له أثر ايجابي في التعبير عن رغبات
الجماهير وأمانيها .. وقد اشتهر انه قال : «ان من البيان لسحرا ، وان من الشعر
لحكمة». وكان يدعو بالتوفيق والتسديد للشعراء الذين ناصروا الحق وأهله .. وخلع
بردته على كعب بن زهير تكريما له حين مدحه بقصيدته الشائعة الذائعة المعروفة
بقصيدة البردة ، ومطلعها :
بانت سعاد فقلبي
اليوم متبول
|
|
متيم أثرها لم
يفد مكبول
|
ومنها :
ان الرسول لنور
يستضاء به
|
|
وصارم من سيوف
الله مسلول
|
أنظر تفسير الآية
٤ من السورة التي نحن بصددها ، فقرة «الموسيقى الباطنية في القرآن» ، وتفسير الآية
٢٢٤ من سورة الشعراء ج ٥ ص ٥٢٤.
أيدي الله هي سنن الكون والطبيعة الآية
٧١ ـ ٧٦ :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها
مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ
(٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ
إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))
اللغة :
ركوبهم بفتح الراء
، والمراد به هنا المركوب مثل حلوب أي المحلوب.
المعنى :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ
وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها
مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ). المراد بالانعام الإبل والبقر والغنم ، وهي نعمة من الله
على عباده يأكلون من لحومها ، ويشربون من ألبانها ، ويتخذون من جلودها وأصوافها
وأوبارها بيوتا وأثاثا ولباسا ، وتحملهم وأثقالهم إلى بلد ما كانوا بالغيه إلا بشق
الأنفس .. وكرر سبحانه ذلك في العديد من الآيات ، منها الآية ١٤٢ من سورة الانعام
ج ٣ ص ٢٧٣ والآية ٧ من سورة النحل ج ٤ ص ٤٩٨. والغرض من ذلك هو الحث على شكر الله
وطاعته ، وقد أشار سبحانه الى ذلك بقوله : (أَفَلا يَشْكُرُونَ). وفي نهج البلاغة : لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب
أن لا يعصى شكرا لنعمه.
والمراد بقوله
تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا) الأسباب الطبيعية لأن الله ليس بجسم
حتى يكون له أيد
حقيقة ، قال ابن عربي في الفتوحات : ان أهل الله يقسمون المخلوقات الى نوعين : نوع
يوجده سبحانه بكلمة «كن». ويعبرون عن هذا بعالم الأمر ، لأن قوله «كن» أمر ، ونوع
يوجده بأيدي الأسباب ، ويعبرون عنه بعالم الخلق. وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا في
المجلد الأول من هذا التفسير ص ٣٩٢ فقرة «الله وسنن الطبيعة».
(وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ
لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ). غريب ، ولا شك ، أن يعبد العاقل أحجارا لا تضر ولا تنفع
ولكن الأغرب أن يحرسها ويقوم على حمايتها من السرقة أو التحطيم ، وفي الوقت نفسه
يرجو أن تنصره في الشدائد ، وتقرّبه من الله زلفى (لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ) أي ان الأصنام أعجز وأحقر من أن تنصر نفسها فكيف تنصر
غيرها؟ (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ). ضمير «هم» للمشركين ، وضمير «لهم» للأصنام ، ومحضرون
حاضرون أو قائمون ، والمعنى ان الأصنام لا تجدي المشركين نفعا ، ومع ذلك يتجندون
ويتطوعون للذب عنها كل حين .. وهنا مكان الغرابة.
وفوق هذا كله قال
عبدة الأصنام عن النبي (ص) : مجنون .. ولما ذا؟ لأنه لا يعبد الأحجار ، وهم
العقلاء لأنهم يعبدون ما ينحتون (فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ) يا محمد : إنك مجنون أو شاعر أو كاهن (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ). أضمروا الحقد والضغينة على النبي (ص) ، وأعلنوا الطعن به
وبدعوته .. وليس من شك ان الله بذلك عليم وقدير على حسابهم وعذابهم .. اذن ، لما
ذا الحزن والألم؟.
قال من يحيى العظام الآية
٧٧ ـ ٨٣ :
(أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً
فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ
الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٨٣))
اللغة :
ملكوت مبالغة في
ملك الله وسلطانه.
الإعراب :
أول مرة نصب على
الظرفية ، والعامل فيه أنشأها. وجعل لكم بدل من الذي أنشأها. وبلى حرف جواب ،
وتختص بالإيجاب ، سواء أكان قبلها مثبتا أو منفيا أي انها تؤكد الإثبات ، وتبطل
النفي.
المعنى :
(أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). كان الإنسان بالأمس نطفة ، حتى إذا صار بقدرة الله مخلوقا
سويا ذا فهم وبيان نسي أصله ، وخاصم ربه بالعصيان وتحذلق في الكلام (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). الضمير المستتر في ضرب يعود إلى من أنكر البعث ، وقد ضرب
هذا المنكر مثلا على امتناع البعث قائلا : كيف تجتمع وتتآلف من جديد أجزاء العظام
، وتدب فيها الحياة بعد أن تبلى وتصير ترابا مبددا هنا وهناك؟ فردّ سبحانه على
صاحب المثل : أتعجب من قدرة الله ، وتنكر البعث وتضرب الأمثال ، ثم تنسى نفسك ، وان
الله قد خلقك من تراب ثم من نطفة؟ لقد أوجدك ولم تكن شيئا مذكورا ، فكذلك يعيدك
بعد أن تصبح عظامك رميما.
(قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). قل يا محمد للجاحد
المعاند : أي عجب
من إحياء العظام وهي رميم؟ ان الذي جعل للنطفة سمعا وبصرا ، وفهما وبيانا هو الذي
يعيد العظام إلى سيرتها الأولى ... وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية
٤٩ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٥٢.
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ). هذا المثال تتضح منه فكرة البعث ، وبيان ذلك ان المنكرين
استبعدوا إحياء الموتى لا لشيء إلا ظنا منهم ان الأشياء لا يمكن أن تتحول إلى
أضدادها. فأجابهم سبحانه بأن هذا الظن وهم وخيال ، لأن هذا التحول واقع بالفعل ،
ومحسوس ترونه أنتم صباحا ومساء ، ولكن لا تنتبهون اليه .. فالشجر الأخضر الريان
يتحول إلى نار محرقة ، والأرض الهامدة تحيا وتهتز بأنواع النبات والأشجار إذا نزل
عليها الماء .. فكيف تنكرون إحياء العظام البالية ، وتقرون بإحياء الأرض الهامدة
وتحوّل الأشجار إلى نار مع ان الجميع من باب واحد ، وهو انقلاب الشيء من حقيقة إلى
ضدها؟.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). من أوجد الكون من لا شيء يهون عليه أن يوجد مثله ساعة
يشاء. وتقدم نظيره في الآية ٩٩ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٨٩ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). بدأ الخلق بكلمة «كن» ويعيده بها. وتقدم في الآية ٤٠ من
سورة النحل ج ٤ ص ٥١٥ (فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). تنزه ربنا عن الشريك ، وهو وحده المبدئ والمعيد.
سورة الصّافات
مكية وآياتها ١٨٢.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والصافات صفاً الآية ١
ـ ١٠ :
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ
إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ
الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ
(٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))
اللغة :
الصافات فالزاجرات
فالتاليات هي من صفات الملائكة ، ويأتي التفصيل. والسماء الدنيا هي أدنى السموات
وأقربها إلينا. ومارد عات متمرد ومريد بفتح الميم مبالغة في المارد. والدحور الطرد.
واصب أي دائم. وثاقب مضيء.
الإعراب :
والصافات الواو
للقسم. وصفّا مفعول مطلق ومثله زجرا ، أما ذكرا فمفعول به.
ورب السموات بدل
من واحد. والدنيا صفة للسماء. وحفظا مفعول مطلق لفعل محذوف أي وحفظناها حفظا.
ودحورا مصدر في موضع الحال أي مدحورين وصاحب الحال الواو في يقذفون. ومن خطف «من»
في محل رفع بدلا من واو لا يسمعون أو في محل نصب على الاستثناء.
المعنى :
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً). اختلف المفسرون في معنى الصافات والزاجرات والتاليات.
فمنهم من قال : انها الملائكة. ومنهم من قال : الصافات هي جماعة المؤمنين تصطف في
الصلاة وفي الجهاد ، والزاجرات زواجر القرآن وآياته ، والتاليات قرّاء القرآن
يتلونه في الصلاة وغيرها.
وغير بعيد أن يكون
المراد بالأنواع الثلاثة الذين ذكرهم الإمام علي (ع) في الخطبة الأولى من نهج
البلاغة. قال في وصف الملائكة : فمنهم سجود لا يركعون ، وراكعون لا ينتصبون ،
وصافّون لا يتزايلون أي ثابتون في أماكنهم. فجائز أن يكون قوله : «وصافون لا
يتزايلون» إشارة الى «الصافات صفا». ثم قال :ومنهم أمناء وحيه وألسنة الى رسله. أي
ينزلون بالوحي على أنبيائه كجبريل (ع) ، ويجوز أن يكون قوله هذا إشارة الى
التاليات ذكرا لأنهم يتلون كتاب الله حين يبلّغونه الى الأنبياء. ثم قال : ومنهم
الحفظة لعباده. وقال الشيخ محمد عبده في بيان هؤلاء : «كأنهم قوى مودعة في أبدان
البشر ونفوسهم يحفظ الله الموصولين بها من المهالك والمعاطب ، ولولا ذلك لكان
العطب ألصق بالإنسان من السلامة». ويريد الشيخ عبده بهذا التصوير أن يقرب للافهام
كيفية حفظ الملائكة للعباد كما يشعر بذلك قوله «وكأنهم» وعليه يجوز أن يكون قول
الإمام : «ومنهم الحفظة لعباده» إشارة الى الزاجرات زجرا إذا قلنا : ان الزجر
معناه دفع الأذى عن العباد.
(إِنَّ إِلهَكُمْ
لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ). المراد بالمشارق مشارق الشمس بالنظر إلى أنها تشرق كل يوم
من مشرق ، وتغرب في مغرب .. وقد اقسم سبحانه انه واحد لا شريك له في الخلق
وتدبيره.
الله والقسم بخلقه :
وتسأل : لما ذا
أقسم الله بالملائكة؟
وأجاب المفسرون
بأن الله أقسم بالملائكة للتنبيه الى عظيم منزلتهم وعلو شأنهم .. وهذا هو جوابهم ـ
كمبدأ ـ عن كل ما أقسم به سبحانه : سواء أكان زمانا أم مكانا أم أي كائن من
الكائنات العلوية والسفلية. أما صاحب الظلال فقد ربط بين هذا القسم وبين قول أهل
الجاهلية ، ان الملائكة بنات الله كما جاء في الآية ٤٠ من سورة الإسراء : (أفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ
وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) قال صاحب الظلال : ان الغرض من القسم بالملائكة هو الرد
على من آمن بهذه الخرافة ، ونطق بهذا القول العظيم.
والذي نراه ان
الله يقسم بالأشياء مهما كانت لغرض واحد ، وهو ان كل شيء في الوجود يدل بطبعه على
ان الله واحد لا شريك له .. وليس من شك ان الملائكة الصافات منهم وغير الصافات قد
عبدوا الله وأطاعوه عن علم ويقين به وبوحدانيته ، وعليه يكون علمهم هذا دليلا
قاطعا على انه تعالى واحد لا شريك له في الخلق والملك والتدبير ، تماما كعلم
العلماء بحقيقة موضوعية اكتشفوها ولمسوها في مختبراتهم ومعاملهم.
(إِنَّا زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ). المراد بالسماء العلو والفضاء ، وبالدنيا دنيانا نحن بني
آدم ، وليس الكون بأسره ، والمراد بالكواكب ما كان منها في أقرب سماء إلينا ،
والمعنى ان الله سبحانه جعل الكواكب في سمائنا زينة وجمالا بأشكالها وأنوارها ،
بالاضافة الى منافعها وفوائدها : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ـ ٩٧ الأنعام : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ) ـ ٥ يونس.
(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ
كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ). مفردات هذه الآيات واضحة ، وقد بيّنا البعض منها في فقرة «اللغة»
ما عدا حقيقة الشيطان المارد ، وحقيقة الملأ الأعلى ، والله ورسوله قد سكتا ولم
يبينا لنا
ما المراد من
الشيطان المارد والملأ الأعلى .. ونحن لا نفسر من غير علم ، ولذا نقول : ان هذه
الآيات من المتشابهات عندنا ، وقد تكون من الواضحات عند غيرنا.
وغير بعيد أن يكون
السبب الموجب للسكوت هو ان معرفة هذا الشيطان وهذا الملأ لا تتصل بحياتنا ، أو ان
أفهامنا تعجز عن ادراك حقيقتهما .. والعالم مهما اجتهد ودقّق فإنه لن يحيط بكل شيء
، بل لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شيء من جميع جهاته وكما هو في واقعه ، أما
معرفتنا بمفردات الآيات كالشهاب الثاقب والعذاب الواصب والقذف والخطف والدحور فلا
تجدي نفعا في تفسير المراد من الآيات بمجموعها ما دمنا نجهل حقيقة الشيطان المارد
والملأ الأعلى.
وقال بعض المفسرين
: المراد بالشيطان المارد شيطان الجن ، وقال آخر : بل الإنسان الذي لا يفكر في عظمة
الكواكب ودلالتها على وجود الله. وقال صوفي : المراد بالشيطان التصورات الوهمية
والقوى التخيلية .. وكل ذلك رجم بالغيب .. والصمت خير من القول بالجهل : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً).
بل عجبت ويسخرون الآية
١١ ـ ٢٦ :
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا
رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ
الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ
دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ
الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ
(٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))
اللغة :
فاستفتهم فاسألهم.
واللازب اللازم. وداخرون صاغرون. والمراد بزجرة واحدة صيحة واحدة. ويوم الدين يوم
الجزاء ، ويوم الفصل بين الخلائق وتمييز المحق من المبطل.
الإعراب :
وأزواجهم مفعول
معه لاحشروا. وما لكم مبتدأ وخبر ، وجملة لا تناصرون حال أي ما شأنكم غير متناصرين؟
المعنى :
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ). اسأل يا محمد الذين أنكروا البعث : أخلق السموات والأرض
من لا شيء أصعب أم اعادة الإنسان بعد موته إلى الحياة ، وقد خلقه الله من طين رخو
لزج يلزم ما يجاوره ويلتصق به؟ ان الذي قدر على إيجاد الكون من لا شيء يهون عليه
أن يعيد أجزاء الإنسان ، ويجمعها بعد تفرقها. وفي الآية ٥٧ من سورة غافر : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
وتسأل : قال تعالى
في سورة الكهف الآية ٢٢ : (وَلا تَسْتَفْتِ
فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) وقال هنا : «فاستفتهم» فما هو وجه التوفيق بين الآيتين؟
الجواب : ان موضوع
آية الكهف خاص بأهل الكهف وحدهم ، حيث نهى
سبحانه نبيه الكريم
أن يسأل أحدا عنهم بعد أن أخبره الله عن أحوالهم ، أما السؤال هنا فإنه موجه الى
المشركين فقط ، والقصد منه توبيخهم وإلقاء الحجة عليهم.
(بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ). انك تعجب يا محمد من المشركين حيث جعلوا لله شركاء مع ان
دلائل التوحيد بينة واضحة .. وهم أيضا يعجبون منك بل ويسخرون لأن دلائل الشرك هي
البينة الواضحة في مفهومهم .. لا دلائل التوحيد. ويدل على ان هذا المعنى هو المراد
ـ ما حكاه سبحانه عن المشركين في الآية ٥ من سورة ص : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ). وإذا قال قائل مع المعري :
كل يعزز دينه
|
|
يا ليت شعري ما
الصحيح
|
قلنا في جوابه :
هناك مبادئ واضحة وحقائق لا يختلف عليها اثنان حيث يشترك في معرفتها الجاهل
والعالم ، مثل العلم خير من الجهل ، والغنى خير من الفقر ، وما الى ذلك ، فإذا
تنازع اثنان في مسألة نظرية ، فمن انتهى قوله الى المبادئ الواضحة فهو المحق والا
فهو مبطل.
(وَإِذا ذُكِّرُوا لا
يَذْكُرُونَ وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ). لأن من استسلم لأهوائه وتقاليد آبائه عمي عن الحق «ومن
زاغ ساءت عنده الحسنة ، وحسنت عنده السيئة ، وسكر سكر الضلالة» كما قال الإمام علي
(ع). (وَقالُوا إِنْ هذا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). تكرر منهم هذا القول في العديد من الآيات ، منها الآية ٧
من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٦٣ (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ). المعنى واضح وتكرر مرات. أنظر الآية ٥ من سورة الرعد و ٤٩
و ٩٨ من سورة الإسراء و ٨٢ من سورة المؤمنون و ٦٨ من سورة النمل.
(قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ). قل يا محمد لمنكري البعث جوابا عن سؤالهم : أئنا لمبعوثون؟
قل لهم : أجل ، انكم تبعثون من قبوركم بكلمة واحدة من الله ، وتحشرون اليه أذلاء
صاغرين ، وترون بالعين العذاب الذي كنتم به تكذبون.
(وقالوا يا ويلنا
هذا يوم الدين ـ أي الجزاء ـ هذا يوم الفصل ـ أي بين الحق والباطل ـ
الذي كنتم به
تكذبون). إذا جاءهم الحق ، وسنحت الفرصة للعمل قالوا : هذا كذب وسحر لا يصدق به
إلا جاهل مخدوع. وإذا فات أوان العمل وجاء وقت الجزاء وذاقوا وبال أمرهم قالوا :
يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين .. وتتكرر هذه الصورة في كل حين ..
يسعى الجاهل فيما يضره ، فينهاه العاقل الناصح ، ويحذره من العواقب ، ولكنه يسخر
ويركب رأسه حتى إذا وقعت الواقعة ، وجاءه البلاء الذي لا مفر له منه ، وأدرك أنه
أخيب الناس سعيا عض يد الندامة وقال : يا ليتني لم أك شيا.
(احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ). المراد بالأزواج هنا الأشكال والأشباه ، وتومئ الآية الى
تصنيف المجرمين ، وان المشرك يحشر مع المشركين في مكان واحد من جهنم ومعهم الأصنام
التي كانوا يعبدون ، وكذلك السارق مع السارقين ، وهكذا كل شكل الى شكله قرين تماما
كما كانوا في الحياة الدنيا (فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ). بعد أن يتم حساب المجرمين يقال للملائكة : عجلوا بهم إلى
سواء الجحيم.
(وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ). قبل أن تذهب الملائكة بالمجرمين الى جهنم يحبسون الى
السؤال عما كانوا يعملون. وفي بعض الروايات : يسأل المرء يومذاك عن عمره فيم أبلاه
، وعن ماله مم كسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ما ذا عمل به ، أما التوفيق بين هذه
الآية وبين قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) ـ ٣٩ الرحمن أما
هذا التوفيق فقد أشرنا إليه أكثر من مرة ، ويتلخص بأن لليوم الآخر مواقف يسأل
المرء في بعضها دون بعض. انظر تفسير الآية ٦٥ من سورة يس.
(ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ)؟ الخطاب للمجرمين ، والمعنى يقال لهم غدا : لما ذا لا يدفع
بعضكم العذاب عن بعض في هذا اليوم ، وقد كنتم في الحياة الدنيا متكافلين متضامنين
ضد الحق وأهله. والغرض من هذا السؤال التقريع والتوبيخ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ). انقادوا لأمر الله لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وأقبل بعضهم على بعض الآية
٢٧ ـ ٣٧ :
(وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا
عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا
قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ
(٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ
إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا
لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧))
اللغة :
يطلق اليمين على
معان ، منها اليد ، ومنها الجهة التي هي ضد اليسار ، ومنها البركة والقوة ،
والمراد بها هنا الإغواء مجازا بدليل جواب المتبوعين للتابعين : (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ).
الإعراب :
جملة إنّا لذائقون
مفعول القول. ومفعول ذائقون محذوف أي العذاب.
المعنى :
(وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ
الْيَمِينِ). يتساءل
المجرمون
ويتلاومون حين يرون العذاب ، ويلقي الضعفاء التبعة والمسئولية على الرؤساء ،
ويقولون لهم فيما يقولون : لولا اغراؤكم وخداعكم لكنا مؤمنين .. وعبروا عن هذا
الخداع باليمين لأن العرب تتفاءل بما يأتي من جهة اليمين ، فقولهم : تأتوننا عن
اليمين أشبه بقول القائل : أتاني من ميولي ورغباتي. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من
سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٢٦.
(قالُوا بَلْ لَمْ
تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ
قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ). هذا قول الرؤساء أجابوا به الضعفاء ، ومحصّله : ما كنا
نملك إلا الدعوة وتزيينها ، وقد دعوناكم الى الكفر فاستجبتم ، ودعاكم الرسول الى
الايمان فنفرتم ، والسر هو خبثكم وطغيانكم وإلا فأي سلطان لنا عليكم لو آمنتم
بالله ورسوله كما آمن غيركم؟ وقد كان من نتيجة كفرنا واغوائنا لكم ، واستجابتكم
لنا ان حقت علينا وعليكم كلمة العذاب ، كما ترون .. وليس بعد العذاب الذي نقاسيه
من مستعتب. وتقدم مثله في الآية ٢٥ من سورة العنكبوت و ٦٧ من سورة الأحزاب.
(فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ). هذا من كلام الله سبحانه ، ومعناه ان العذاب يقع على جميع
المجرمين في ذلك اليوم الذي تساءلوا فيه وتلاوموا (إِنَّا كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ). عقاب صارم ، وعذاب دائم من غير فرق بين التابع والمتبوع.
(إِنَّهُمْ كانُوا
إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ). تعالوا وتعاظموا عن قبول الحق وكلمته ، فأصابهم ما أصاب
المستكبرين قبلهم من بأس الله وعذابه (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ). قال المفسرون : خلط المشركون في كلامهم ، وارتبكوا في
غيهم حيث وصفوا الرسول الأعظم (ص) بالشاعر والمجنون معا مع ان الشاعر ينتقي
المعاني بفكر وروية ، ويؤلف بينها بدقة وإحكام ، ويعبر عنها ببراعة وإتقان ، وأين
المجنون من هذا؟
(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ
وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ). كلا ، ما هو بشاعر ولا مجنون ، وإنما هو رسول كريم ، جاء
بالحق من عند الله ، وصدق من تقدمه من الرسل ، وما بين يديه من الكتب .. وبعد ،
فإن المجنون خير وأفضل ممن وصف محمدا (ص)
بالجنون ، وهو
الذي اصطفاه الله واختاره لرسالته ، وجعله سيد المرسلين وخاتم النبيين. انظر تفسير
الآية : (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) ـ ٦٩ يس.
على سرر متقابلين الآية
٣٨ ـ ٤٩ :
(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا
الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١)
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))
اللغة :
معين ماء غزير.
لذة لذيذة. غول صداع. ولا هم عنها ينزفون لا يفنى شرابهم. قاصرات الطرف يحبسن
نظراتهن على أزواجهن. وعين جمع عيناء وهي واسعة العينين. مكنون مستور.
الإعراب :
إلا ما كنتم
تعملون «الا» أداة حصر. والا عباد الله المخلصين استثناء منقطع من ذائقو العذاب ،
وما بين المستثنى والمستثنى منه اعتراض. فواكه بدل من رزق. على سرر متعلق
بمتقابلين ومتقابلين حال من «مكرمون». وبيضاء صفة للكأس. وعندهم خبر لمبتدأ محذوف
أي حور. وقاصرات الطرف صفة للحور ، وعين صفة ثانية. ومكنون صفة للبيض.
المعنى :
(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا
الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). بعد ان قال سبحانه : ان المجرمين في العذاب مشتركون قال
لهم : ان عذابكم هو جزاء لما كسبت أيديكم ، ولا تظلمون فتيلا.
(إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ). هذا على عادة القرآن ، يذكر المجرمين وعقابهم ، ويعقب
بذكر الطيبين وثوابهم ، وهو بالإجمال رزق معلوم عند الله وعندهم ، وهو بالتفصيل (فواكه)
مما يشتهون (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) لأن الفواكه والطعام والشراب مع الاهانة سموم وهموم ، وفي
الأمثال اللبنانية : «استقبلني ولا تطعمني». (فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ) تجري من تحتها الأنهار (عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) ينظر بعضهم الى بعض بغبطة وسرور (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ) يحمل الولدان اليهم أنواعا من الشراب الذي لا ينضب له معين
(بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ) مشرقة اللون طيبة الطعم (لا فِيها غَوْلٌ) لا صداع من شرابها ولا أوجاع (وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ) أي لا يفنى شرابها ، يقال : نزف ماء البئر إذا استخرجه
بكامله. ونزف الرجل إذا ذهب عقله ، ومن ثم قال بعض المفسرين : المراد ان عقولهم لا
تذهب من شرابها (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ
الطَّرْفِ عِينٌ). فواكه وتكريم وسرر وخدم وشراب ، وفوق ذلك حور عفيفات
جميلات واسعات العيون (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ) هذا كناية عن صيانتهن وبعدهن عن لمس الأيدي ونظرات الأعين.
المرأة والفتيان :
بالأمس القريب
جاءني كتاب من إحدى الطالبات الكويتيات ، تقول فيه : جرى حديث بينها وبين أترابها
في حقوق المرأة ، فقالت هي : الإسلام لا يفرق بين الرجال والنساء .. فاعترضن عليها
بأن القرآن نصّ صراحة على ان الله غدا يكافئ الرجال الطيبين بالحور العين ، وسكت
عن مكافأة النساء الطيبات بالشبان والفتيان الفوارس الأشاوس .. ولو كانت الحقوق
سواء لوجب أن يكون الجزاء من نوع واحد ..
وتقول الآنسة :
انها عجزت عن الجواب. ورغبت إليّ ان أكتب به اليها ، لتقنع الفتيات المعترضات.
ويدلنا هذا الحوار
البريء على ان المرأة تماما كالرجل في غرائزه وميوله ، وان الرجل على شرطها هي
وشروطها أفضل جزاء لها وثواب ـ طبعا والرجل كذلك ـ وأيضا يدل هذا الحوار على أن
غيرة المرأة من الرجل تماما كغيرة الضرائر والنظائر.
وقلت في جوابي لها
: ان القرآن الكريم نص صراحة على المساواة بين الذكر والأنثى كمبدأ عام ، وذلك حيث
يقول : (أَنِّي لا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ـ ١٩٥ آل عمران : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا
يُظْلَمُونَ نَقِيراً) ـ ١٢٤ النساء .. وليس
من شك أن من دخل الجنة وجد فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ذكرا كان أو أنثى كما
في الآية ٧١ من الزخرف .. هذا ، الى أن القرآن الكريم ذكر الولدان المخلدين كما
ذكر الحور العين ، وإذا وصف الحور بالبيض المكنون فقد وصف الولدان باللؤلؤ المنثور
كما في الآية ١٩ من سورة الدهر.
وغير بعيد أن يكون
السكوت عن مكافأة النساء بالفتيان والشبان جاريا على المألوف بين الناس ، حيث
يقولون للشاب لم لا تتزوج؟ ومتى تتزوج؟ ولا يقولون ذلك للفتيات والآنسات حيث يغلب
عليهن الحياء ، وقديما قيل : أشد حياء من فتاة .. وأيضا قيل : ان ملذات الجنة كلها
روحية ، لا شائبة فيها لمادة أو جنس ، وان ذكر الحور والفاكهة والكأس هو مجرد رمز
واشارة بلذة الجسم الى لذة الروح ، وان السرر كناية عن الدرجات والمراتب.
لمثل هذا فليعمل العاملون الآية
٥٠ ـ ٦٨ :
(فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥)
قالَ
تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠)
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ
شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣)
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ
الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ
(٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨))
اللغة :
قرين صاحب.
ومدينون محاسبون ومجزيون. ومطلعون مشرفون. وسواء الجحيم وسطها. وتردين تهلكني.
ومحضرين من الإحضار ، وأحضره جعله حاضرا ، وقالوا : لا تستعمل احضر الا في الشر.
والنزل ما يهيأ للنازل. والزقوم شجرة تخرج في الجحيم كما قال سبحانه ، وقيل : ان
العرب تعرف لها نظيرا في الدنيا وانها مرّة وتوجد في تهامة. والطلع أول ما يخرج من
النخلة في أكمامه. ورؤوس الشياطين كناية عن قبح المنظر. والشوب خلط الشيء بغيره.
والحميم الحار.
الإعراب :
ان كدت «ان» مخففة
من الثقيلة واسمها محذوف أي انك. ولتردين اللام هي الفارقة بين المخففة والنافية ،
وتردين أصلها ترديني. ونعمة ربي مبتدأ والخبر محذوف أي كائنة. ونزلا تمييز.
المعنى :
(فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ). ما زال الكلام عن أحوال الجنة. قال سبحانه في الآيات
السابقة : ان أهل الجنة يتنعمون بأنواع الملذات. وقال في هذه الآية : انهم
يتكالمون مسرورين عما كان يجري معهم في الحياة الدنيا ، من ذلك (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ). يتحدث هذا المؤمن الى إخوانه وجيرانه عن جليس له كان يسخر
من الذين آمنوا بيوم الدين ، ويقول فيما يقول : أبعد الفناء نبعث أحياء؟ حديث
خرافة يا أم عمرو .. وهذا ما يلوكه كل ملحد .. والسر ان الايمان بالبعث فرع عن
الايمان بالوحي من الله الى من اصطفى من عباده ، والملحد لا يؤمن بهذا الوحي فكيف
يؤمن بالبعث بعد الموت؟. وفي جملة واحدة ان البعث غيب ، والغيب أسطورة عند
الملحدين.
(قالَ هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ). الخطاب من المؤمن لزملائه في الجنة يدعوهم أن يشرفوا على
جهنم ليروا عاقبة ذاك الساخر المكابر (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ
فِي سَواءِ الْجَحِيمِ). قال لهم هذا ، وأشرف هو على جهنم فرأى قرينه في قلبها (قال
ـ له موبخا ـ تالله ان كدت لتردين) أي تهلكني وتوقعني في الشك بوسوستك وشكوكك (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ
مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك في سواء الجحيم.
ثم يلتفت المؤمن
الى إخوانه ويقول لهم : (أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا
لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يتحدث فرحا بما أصاب ، ويقول : تجاوزنا الامتحان بنجاح ،
ولله الحمد .. فلا موت ولا أتعاب بعد اليوم .. لا شيء إلا نعمة الله ورضوانه ، وفي
هذا المعنى قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ
رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ـ ٥٧ الدخان.
(لِمِثْلِ هذا
فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) ويتنافس المتنافسون .. أضاف سبحانه الأعمال والأفعال الى
العباد ، وأوجب عليهم عمل ما فيه خيرهم وصلاحهم ، ونهاهم عما يعود عليهم بالشر
والفساد ، وترك لهم الخيار فعلا وتركا فيما عدا ذلك ، ووعد
من أطاع بالجنة ،
ومن عصى بعذاب الحريق ، وليس من شك ان العاقل يرحم نفسه ويختار لها الأصلح ، وفي
نهج البلاغة : ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة ، فلا تبيعوها إلا بها.
(أَذلِكَ خَيْرٌ
نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ). ذلك إشارة إلى النعيم ، وهو أجر من أصلح وأحسن عملا.
ونزلا ما يعد للنازل. والفتنة هنا معناها العذاب كما هي في الآية ١٣ من سورة
الذاريات : (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يعذبون ، أما شجرة الزقوم فقد بينها سبحانه بقوله : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ). الزقوم من قول العرب : تزقم الطعام إذا تناوله على كره.
وفي تفسير الطبري : ان أبا جهل لما نزلت هذه الآية قال ساخرا : انا آتيكم بالزقوم
، ثم أتى بزبد وتمر ، وقال : دونكم تزقموا ، هذا هو الزقوم الذي يخوفكم به محمد. ورؤوس
الشياطين كناية عن قبح الشجرة ومنظرها المخيف .. ومن قال : ان شجرة الزقوم ترمز
الى سوء العذاب فلا اعتراض لنا عليه.
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ
عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ). الشوب الخلط ، والحميم الحار ، والمعنى انهم يأكلون
الزقوم ، ويشربون من ماء الصديد ، وهو القيح المخلوط بالدم : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ
ماءٍ صَدِيدٍ) ـ ١٦ ابراهيم ج ٤
ص ٤٣٣ (ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ). والمراد بمرجعهم سكنهم الأخير ومقرهم الدائم ، والمعنى
طعامهم الزقوم ، وشرابهم الحميم ، وسكنهم الجحيم ، أما لباسهم فقد أشارت اليه
الآية ٥٠ من سورة ابراهيم : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ).
ضل قبلهم أكثر الأولين الآية
٦٩ ـ ٨٢ :
(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ
(٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ
فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي
الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))
اللغة :
يهرعون يسرعون.
وتركنا عليه أبقينا عليه ذكرا جميلا.
الإعراب :
فلنعم المجيبون
اللام في جواب قسم محذوف وجملة نعم خبر لمبتدأ محذوف أي نحن. وأهله مفعول معه. وهم
الباقين «هم» ضمير فصل لا محل له من الإعراب.
المعنى :
(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ). الضمير الغائب يعود إلى مشركي العرب الذين ساروا على
طريقة الآباء من غير بحث وتدبر ، وتومئ الآية إلى ان الضال ومن ضل به سواء في
المعصية واستحقاق العقاب ، أما من قلد أهل الهداية والصلاح فهو في أمن وأمان من
عذاب الله ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (قالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ـ ١٧٠ البقرة.
ومعنى هذا ان آباءهم لو كانوا مهتدين لجاز اتباعهم. أنظر ج ١ ص ٢٥٩ فقرة «التقليد
وأصول العقائد».
(وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ). ان كذّبك يا محمد مشركو العرب ، وضلوا عن الحق فقد ضل
قبلهم أكثر الأمم ، مع ان
الله بعث اليهم
رسلا مبشرين ومنذرين ، واتخذ عليهم الحجة وبيّن لهم محابّه ومكارهه من الأعمال ،
فاتبعوا هذه ، واجتنبوا تلك ، فحقت عليهم كلمة العذاب (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ) من الخزي والدمار (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) فقد أنجاهم سبحانه من عذابه ، وكافأهم بأجره وثوابه.
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ). يشير سبحانه الى ما جاء في الآية ٢٦ من سورة نوح : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). (وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). استنصر نوح بالله على طغاة قومه ، فأغرقهم الله ولم يبق
منهم ديارا استجابة لدعاء نبيه نوح ، ونجاه ومن آمن معه من أذى الكفرة الفجرة ومن
كل كرب وسوء.
سام ويافث وحام :
(وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) بعد الطوفان دون الناس أجمعين. وفي تفسير الطبري : «ذرية
نوح هم الباقون في الأرض بعد مهلك قومه ، والناس كلهم من بعده الى اليوم إنما هم
من ذرية نوح ، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح ، والترك والصقالبة أولاد يايف ،
والسودان أولاد حام ، وبذلك جاءت الآثار وقالت العلماء». وقد توفي الطبري سنة ٣١٠
ه أي قبل أكثر من ألف سنة ، ولسبقه وتقدمه يلقبونه بشيخ المفسرين.
وفي «قاموس الكتاب
المقدس» : «سام اسم عبراني ومعناه «اسم» وهو أكبر أولاد نوح ، ومن نسله العرب
والآراميون والآشوريون واليهود ، ولذلك تدعى اللغات التي يتكلمون بها السامية نسبة
اليه ، مثل اللغة العربية واللغة العبرانية .. ويافث اسم ساميّ ربما كان معناه
جمال .. ومن ذريته الذين سكنوا الجبال الغربية من النجاد جنوبي بحر قزوين والبحر
الأسود حتى شواطئ وجزائر البحر المتوسط من أصل هندي أوروبي ـ ويدخل في هؤلاء الترك
والصقالبة الذين أشار اليهم الطبري ـ وحام اسم عبري ، ومعناه حام أي ساخن ، وهو
أصغر أبناء نوح».
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ). أبقينا له الذكر الجميل مدى الحياة (سَلامٌ
عَلى
نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ). هو في أمن وأمان من الله أن يذكره ذاكر بسوء ، وقد كان
الأنبياء يسألون الله سبحانه أن يجعل لهم ذكرا حسنا عند الناس من بعدهم : قال
ابراهيم (ع) : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ـ ٨٤ الشعراء. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). أي يحسن الله اليهم لأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى
(إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) لأنه أحسن في أعماله وجاهد في الله حق جهاده ، وهذه هي
سمات المؤمن ودلائله (ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ) في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم جزاء بما كانوا
يعملون.
وان من شيعته لابراهيم الآية
٨٣ ـ ٩٩ :
(وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ
تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ
(٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ
يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما
تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا
بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩))
اللغة :
شيعة الرجل
الجماعة السائرون على دينه وطريقه ، ثم صارت هذه الكلمة بمفردها
اسما لشيعة الإمام
(ع) ومن قام مقامه من أبنائه. أإفكا أي زورا وباطلا. وراغ مال وحاد من جهة الى
جهة. ويزفون يسرعون.
الإعراب :
إذ جاء «إذ» في
محل نصب بفعل محذوف أي اذكر حين جاء. وإذ قال «إذ» هذه بدل من إذ الأولى. أإفكا
مفعول به لتريدون. وآلهة بدل من الافك. فما ظنكم مبتدأ وخبر. ومدبرين حال. وما لكم
مبتدأ وخبر. وضربا منصوب على المصدرية أي يضرب ضربا.
المعنى :
ذكر سبحانه مضمون
هذه الآيات فيما تقدم ، ولذا نفسرها تفسيرا سريعا مع الاشارة الى رقم الآية والسورة
السابقة.
(وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ). ضمير شيعته يعود الى نوح ، والمعنى ان ابراهيم (ع) سار
على نهج نوح عقيدة وعملا ، وفي بعض التفاسير القديمة : انه كان بين نوح وابراهيم
٢٦٤٠ سنة ، وصاحب هذا القول لم يسنده إلى مصدر موثوق.
(إِذْ جاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وصاحب هذا القلب هو الذي أخلص لله وحده في جميع أقواله
وأفعاله. وفي الحديث : لا يستقيم ايمان عبد حتى يستقيم قلبه. وفي نهج البلاغة :
طوبى لقلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنب من يرديه (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ). أنكر ابراهيم عبادة الأصنام على قومه ، وجابههم بكلمة
الحق قائلا : أتطلبون الزور والباطل بالرجوع إلى غير الله ، والتقرب اليه بعبادة
سواه؟ وتقدم مثله في الآية ٧٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢١٢.
(فَما ظَنُّكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ)؟ أتظنون به ، وهو خالق الكون ، انه حجر أو كوكب؟ ألا
يردعكم عن هذا الجهل يقظة من عقل ، أو لمحة من فهم. وفي
ج ٤ ص ٣٩١ فقرة :
عقول الناس لا تغنيهم عن دين الله بيّنا لما ذا عبد المشركون أحجارا تبول عليها
الكلاب والثعالب (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ) يوهم قومه أنه يبحث عن خالق الكون لأنهم كانوا يعبدون آلهة
كثيرة وبنوع خاص «نانار» إله القمر وزوجته «ننجال» (قاموس الكتاب المقدس). وفي
معنى هذه الآية ما جاء في الآية ٧٦ من سورة الانعام.
(فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ). للمفسرين في معنى سقيم أقوال ، أرجحها ان المراد به هنا
الشاكّ ، وعليه يكون المعنى ان ابراهيم قال لقومه : انا الآن في حيرة أبحث وأدقق
لأهتدي الى معرفة الخالق ، وقد نظرت في الأصنام فأيقنت انها ليست بآلهة ، ثم نظرت
في النجوم فلم أهتد الى شيء بل بقيت على شكي وحيرتي. والسياق يعين إرادة هذا
المعنى أو يرجحه ـ على الأقل ـ لأنه ربط بين قوله : اني سقيم وبين نظرته في النجوم
.. وليس في قوله : اني شاك أيّ كذب .. كلا ، لأنه من باب المماشاة مع الخصم ليأخذه
بالحجة ، ويقطع عليه كل معذرة.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ
مُدْبِرِينَ). تركوه وشأنه وذهبوا الى شأنهم (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ). أسرع الى الأصنام مغتنما فرصة غيابهم عنها ، وكانوا قد
وضعوا بين يديها طعاما لتباركه (فقال ـ للأصنام ـ ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون)؟
ومعلوم انه قال هذا ازدراء بها ، واحتجاجا على من يعبدها ويتبرك بها (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ). مال على الأصنام يحطمها بيمينه حتى جعلها قطعا قطعا الا
كبيرا لهم لعلهم اليه يرجعون (فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ يَزِفُّونَ). أسرع القوم الى ابراهيم وقالوا له : أأنت فعلت هذا يا
ابراهيم (قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ)؟ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا .. ان الإله خالق غير
مخلوق ، ورازق غير مرزوق ، وقد صنعتم هذه الأصنام بأيديكم وتقدمون لها الأطعمة
وتحرسونها من الاعتداء ، فكيف تكون آلهة؟ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) هو خالق كل شيء واليه المصير.
(قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ). عجزوا عن مقابلة الحجة بالحجة فلجئوا الى القوة كما هو
شأن الطغاة ، يضرمون النار ، ويلقون فيها دعاة الحق والخير كما كانت الحال في
القديم ، ولما تقدم العلم المدمّر ألقوا النار على الشعوب المستضعفة بنسائها
وأطفالها (فَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) حيث جعل
سبحانه النار على
ابراهيم بردا وسلاما (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ). بعد أن أنجاه الله من كيد قومه هاجر من بلده اور
الكلدانيين ـ بابل ـ الى بلاد الشام. وفي قاموس الكتاب المقدس : «اكتشفت آثار
ونقوش ترجع الى حوالى ألفي سنة قبل الميلاد ، وقد وجد عليها اسم ابراهيم بهذه
الصيغ : ابرامو. إبرام. إبراما ، وأظهرت الكشوف التاريخية الحديثة الحالة التي
كانت عليها مدينة اور التي هاجر منها ابراهيم كما كانت حينذاك». وتقدم مضمون هذه
الآيات بنحو من التفصيل في سورة الأنبياء الآية ٥١ ـ ٧٠ ج ٥ ص ٢٨٣ ـ ٢٨٨.
ارى في المنام اني اذبحك الآية
١٠٠ ـ ١١٣ :
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ
ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ
أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ
لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))
اللغة :
أسلما استسلما
لأمر الله. وتله صرعه وألقى به على الأرض. والجبين عن يمين الجبهة وشمالها ،
والجبهة مكان السجود أي ان ابراهيم ألقى ولده على شقه. والذبح بكسر الذال المهيأ
للذبح.
الإعراب :
وناديناه الواو
زائدة عند الكوفيين وناديناه جواب لما ، وعند غيرهم جواب لما محذوف أي فازا وظفرا.
وان يا ابراهيم «ان» مفسرة. ونبيا حال من اسحق.
المعنى :
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ). بلغ ابراهيم (ع) من الكبر عتيا ، ولم يرزق ولدا ، فسأل
ربه أن يهبه ذرية مؤمنة وخلفا صالحا (فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ). وهو إسماعيل ، ما في ذلك ريب ، بشهادة القرآن الكريم ،
ويأتي البيان مفصلا بعد تفسير الآيات التي نحن بصددها.
(فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ ما ذا تَرى).
الضمير المستتر في
بلغ يعود الى الغلام المذكور في الآية السابقة ، ونعني به إسماعيل ، وضمير معه
يعود الى ابراهيم. وقد رأى في منامه أنه يذبح أو يقدم على ذبح ولده ، ففهم من هذه
الرؤيا ان الله قد أمره بذبحه .. وفهم الأنبياء يقين ، ومن أجل هذا عزم من غير
تردد على أن يحقق رؤياه بالفعل ، وأخبر ولده بعزمه وطلب منه أن يبدي رأيه في ذلك
بعد النظر والتأمل.
(قالَ يا أَبَتِ
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ). أجابه على الفور لا رأي لي ولا أمر مع أمر الله وأمرك ..
يا أبت اذبحني فلا قيمة للحياة في جنب مرضاة الله ومرضاتك .. افصل يا أبت رأسي عن
جسدي وأنت عندي البر الرحيم ما دمت تبغي وجه الله وتستجيب لدعواه .. ثم أخذ
إسماعيل يخفف عن أبيه ويهون عليه أمر الذبح ويقول : (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). أتلقى الذبح رابط الجأش قوي اليقين.
(فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). لما مدّ إسماعيل عنقه للذبح وهوى عليه ابراهيم بسكينة
مفوضا كل منهما أمره لمن له الأمر ـ جاء النداء من الآمر الأعلى : هذا تأويل رؤياك
.. انه العزم والاقدام منك على الذبح إخلاصا لله ، والانقياد من إسماعيل لأمر الله
طيب النفس ، أما الذبح بالذات فما هو بمقصود.
وتسأل : إذا كان الذبح
غير مقصود فما هو الغرض من الأمر به؟
الجواب : يرى
البعض ان الغرض من ذلك ان يظهر الله سبحانه للملإ والأجيال عظمة كل من ابراهيم
وإسماعيل في تضحيته وإخلاصه لله ، فيكون موضع التقديس والتقدير الى يوم يبعثون.
وقال آخر : الغرض ان تبدل سارة غيرتها من هاجر ام إسماعيل ، وتكف قسوتها عن
ابراهيم .. ونضيف نحن الى هذين القولين ان الله سبحانه أراد أيضا أن يضرب ذلك مثلا
للمؤمن الحق وانه الذي يطيع الله في كل شيء حتى في ذبح ولده وفلذة كبده ، ويومئ
الى هذا قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي ان هذا العزم على التضحية بالنفس والأهل امتثالا لأمر
الله هو وحده المحكّ للمؤمن حقا وواقعا ، والحد الفاصل بينه وبين من يخيل اليه انه
من المؤمنين وما هو من الايمان في شيء.
(وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). المراد بالذبح المذبوح. وقيل كان كبشا ، وقال آخر : بل
كان وعلا .. وأيا كان الفداء فنحن غير مسؤولين عن معرفة نوعه ، ولا تتصل هذه
المعرفة بحياتنا من قريب أو بعيد. وطريف قول من قال انه كان كبشا أملح ، ورعى في
الجنة أربعين عاما ، وان ابراهيم (ع) أعطى طحاله وأنثييه لإبليس .. وإذا رعى في
الجنة أربعين عاما فكم يكون وزنه يا ترى؟
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ
مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). تقدم هذا النص في الآية ٧٨ وما بعدها من هذه السورة
نفسها.
(وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ). هذه البشارة من الله لإبراهيم بولد ثان انما هي جزاء على
صبره وإقدامه على ذبح ولده طاعة لله. وفي قاموس الكتاب المقدس : ان سارة ولدت
إسحاق ولها من العمر ٩٠ سنة ، ولإبراهيم مائة سنة ، وان معنى إسحاق في العبرية
يضحك. أما هاجر فقد ولدت
إسماعيل ولإبراهيم
من العمر ست وثمانون سنة (وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ). والمحسن من هذه الذرية هو الذي اتبع ملة أبيه ابراهيم
حنيفا ، والظالم من حاد عنها.
هل الذبيح إسماعيل أو اسحق؟
ذهب البعض الى ان
الذبيح ـ أي الذي أمر ابراهيم بذبحه ـ هو اسحق وليس إسماعيل .. ولا مصدر لهذا
القول إلا اسرائيليات كعب الأحبار وحسد اليهود لأبناء إسماعيل ، وليس هذا بكثير
على بني إسرائيل ، أما الأدلة على ان الذبيح هو إسماعيل فهي :
أولا : قوله تعالى
: (فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى
فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فإنه يدل بصراحة على ان المبشر به والساعي والذبيح صفات
لموصوف واحد ، وهو الولد البكر لإبراهيم ، وبكر ابراهيم هو إسماعيل باتفاق
المسلمين والنصارى واليهود ، فلقد جاء في التوراة الاصحاح ١٦ الآية ١٥ من سفر
التكوين ما نصه بالحرف : «وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل
لابرام» أي ابراهيم ، وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور
الاصحاح ١٧ الآية ١٧ وما بعدها : ان الله لما بشّر ابراهيم باسحق من سارة سقط على
وجهه وقال في قلبه : هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة ، وسارة بنت تسعين؟. إذا جمعنا
بين الآيتين تكون حصيلتهما ان إسماعيل هو الولد البكر ، وانه يكبر اسحق بأربعة عشر
عاما ، وبينا ان البكر هو الذبيح ، فالذبيح ـ اذن ـ إسماعيل لا اسحق.
ثانيا : قوله
تعالى : (وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاء له على طاعته
لله في ذبح ولده البكر ، كما قدمنا ، فلا بد ـ وهذه هي الحال ـ أن يكون زمن إسحاق
متأخرا عن زمن الذبيح ، تماما كما يتأخر الثواب على العمل عن نفس العمل.
ثالثا : قوله
تعالى في الآية ٧١ من سورة هود : (فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ وَمِنْ
وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فإن الله بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد ، فكيف
يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله؟ وما ذا تقول سارة عند ما تسمع الأمر بذبح
وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده؟.
رابعا : لو كان
الذبيح إسحاق لوجب أن يكون النحر والسعي ورمي الجمار في أرض الشام حيث كانت سارة
وولدها إسحاق ، وليس بمكة حيث كانت هاجر وولدها إسماعيل.
موسى والياس الآية
١١٤ ـ ١٣٢ :
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
(١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا
تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥)
اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))
اللغة :
المستبين الواضح.
وبعل اسم صنم.
الإعراب :
الله وربكم بدل من
أحسن الخالقين.
المعنى :
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ). منّ سبحانه على موسى وهرون بالنبوة وخلود الذكر والنصر
على الأعداء ، ولا تكون النبوة بالكسب والعمل ، وإنما هي اختيار من الله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ) ـ ١٢٤ الأنعام.
ومن أجل هذا لا يتعلق بها التكليف ، فلا يقال : كن نبيا كما يقال : كن تقيا (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). من طبيعة اليهود أن يتقبلوا كل شيء من أجل المال وجمعه
حتى الذل والعار .. هذا ما نطق به تاريخهم ، فلقد استعبدهم فرعون ولم يحركوا ساكنا
حتى جعل الله لهم على يد موسى من الكرب والبلاء فرجا ومخرجا.
(وَنَصَرْناهُمْ
فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ). أغرق سبحانه فرعون وجنوده ، فتحرر بنو إسرائيل من المذلة
والعبودية (وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ). أنزل سبحانه على موسى وهرون التوراة : وفيها أحكام الله
الواضحات (وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق الحق والعدل (وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) ذكرا حسنا ، وثناء جميلا (سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ) أمن وأمان من الله عليهما ولهما دنيا وآخرة (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). وفي معناه : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. وتقدم الكلام
عن موسى وهرون وبني إسرائيل في عشرات الآيات.
(وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). قال المفسرون : الياس هو واحد من أنبياء بني إسرائيل ،
وان نسبه ينتهي الى هرون. وفي أكثر من تفسير : أن الياس هذا هو النبي إدريس الذي
جاء ذكره في الآية ٥٦ من سورة مريم والآية ٨٥ من سورة الأنبياء ، وفي «قاموس
الكتاب المقدس» : ان إيليا اسم عبري ، ومعناه إلهي يهوه والصيغة اليونانية لهذا
الاسم هي الياس ، وتستعمل أحيانا في العربية.
(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ
أَلا تَتَّقُونَ)؟ ارشدهم الى التوحيد ، وحذرهم من الشرك
تماما كما فعل
غيره من الأنبياء (أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ). وبعل الذي يدعونه من دون الله اسم صنم كما دل سياق الآية.
وفي قاموس الكتاب المقدس : ان بعل بريث اسم كنعاني ومعناه رب العهد .. عكف قوم
الياس على عبادة بعل كما عكف من كان قبلهم على عبادة الأصنام فدعاهم الى التوحيد
كما فعل نوح وابراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء (فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أعرضوا عن دعوته ، فيحضرهم الله يوم القيامة للحساب
والعذاب.
(إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) وهم الذين استجابوا لدعوة الياس ، فإنهم بمنجاة من العذاب
ولهم أجر كريم (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ) ذكرا طيبا (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ). قال جماعة من المفسرين : ان أبا الياس اسمه يس ، فعليه
يكون المراد بأل ياسين الياس بالذات لأن الابن من آل الأب ، ومهما يكن فإن المقصود
هنا بأل ياسين هو الياس بقرينة السياق ، فلقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة نوحا
وقال : سلام على نوح ، ثم ذكر ابراهيم وأتبعه بقوله : سلام على ابراهيم ، ثم موسى
وهرون وقال : سلام على موسى وهرون ، ثم ذكر الياس وانه من المرسلين ، وقال : سلام
على إل ياسين ، فتعين انه هو المقصود من آل يس.
لوط ويونس الآية
١٣٩ ـ ١٤٨ :
(وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
(١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))
اللغة :
الغابرين أي
الباقين مع الذين كفروا ، وأيضا تأتي كلمة غبر بمعنى ذهب. ومصبحين داخلين في
الصباح. وابق فرّ. وساهم أقرع من القرعة. والمدحضين المغلوبين. ومليم فعل ما يستحق
عليه اللوم والعتاب. والعراء المكان الخالي.
الإعراب :
مصبحين حال من واو
تمرون ، وبالليل متعلق بمحذوف معطوفا على مصبحين أي وداخلين بالليل. والمصدر من
إنه كان مبتدأ وخبره محذوف أي لولا تسبيحه ثابت. أو يزيدون «أو» هنا بمعنى بل ،
ويجوز أن تكون للإبهام على المخاطب.
المعنى :
(وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً
فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ). تقدم في الآية ٨٠ ـ ٨٤ من سورة الاعراف ج ٣ ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤
وفي سورة هود الآية ٧٧ ـ ٨٣ ج ٤ ص ٢٥٣ ـ ٢٥٦ وفي سورة العنكبوت الآية ٢٨ ـ ٣٥. وفي
التوراة الاصحاح ١٩ من سفر التكوين الآية ٣٠ ـ ٣٨ : انه كان للوط بنتان ، فأسقتا
أباهما خمرا فواقعهما ، وأولد كلا منهما ذكرا.
(وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). كان العرب يسافرون من الحجاز الى الشام للتجارة وغيرها ،
ويمرون في طريقهم صباحا ومساء وذهابا
وإيابا على أرض
قوم لوط ، ويرون آثار الهلاك والدمار ، فحذر سبحانه مشركي العرب الذين كذبوا محمدا
(ص) قائلا لهم : ألا تعتبرون بما قد رأيتم من ديار قوم لوط كيف أصبحت خالية خاوية؟
ألا تخافون أن يصيبكم ما أصابهم؟
(وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). يونس هذا هو ذو النون الذي جاء ذكره في الآية ٨٧ من سورة
الأنبياء : (وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً) وأيضا هو صاحب الحوت الذي أشارت اليه الآية ٤٨ من سورة
القلم : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ
الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ). وقال بعض المفسرين : ان يونس من أهل نينوى بكسر النون.
وفي قاموس الكتاب المقدس : «ان نينوى كانت عاصمة الأشوريين ، وانها ازدهرت ازدهارا
عظيما في بعض القرون للميلاد ، وانها كانت على الضفة الشرقية من نهر دجلة ، وان
أهلها كانوا يعبدون الإلهة عشتار أو عشتروت التي اشتركت في عبادتها معظم شعوب
العالم القديم».
(إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ). دعا يونس قومه الى عبادة الله ، فلم يستجيبوا لدعوته ،
فضاق صدره بهم ، وهاجر مغاضبا لهم حتى إذا انتهى الى ساحل البحر وجد سفينة مشحونة
بالناس والأحمال ، فسأل أهلها أن يصحبوه ففعلوا ، ولما توسط البحر أشرفت السفينة
على الغرق ، وكان لا بد من إلقاء واحد من ركابها في البحر لتنجو من الغرق ،
فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس ، فألقى نفسه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) لأنه لم يصبر على أذى قومه كما صبر غيره من الأنبياء.
(فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وبيّن سبحانه نوع تسبيحه في الآية ٨٧ من سورة الأنبياء : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ
ـ أي في بطن الحوت
ـ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فاستجاب الله لندائه ، ونجّاه من سجنه السيار في بطون
البحار ، ولولا لجوءه الى الله مخلصا لكان سجنه مؤبدا الى قيام الساعة.
(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ
وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ). قالوا : خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط في فلاة لا أنيس
فيها ولا حسيس ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ
إِلى حِينٍ). أرسله سبحانه الى هذا العدد ، فأعرضوا في البداية ، ولما
تركهم مغاضبا خافوا من نقمة الله وعذابه ، فآمنوا بالله وطلبوا منه العفو والرحمة
، فعفا وأنجاهم من الهلاك الى أن وافاهم الأجل ، وعاد اليهم يونس ففرحوا بقدومه
وفرح بإيمانهم. أنظر ج ٤ ص ١٩٣ فقرة «القصة» وج ٥ ص ٢٦٩.
ألربك البنات ولهم البنون الآية
١٤٩ ـ ١٦٠ :
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ
شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ
مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))
الإعراب :
أصطفى أصلها أاصطفى
الهمزة الأولى استفهام والثانية وصل ، ثم حذفت هذه لمكان تلك. وكيف في محل نصب
بتحكمون. عباد الله المخلصين استثناء من فاعل جعلوا.
المعنى :
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ
شاهِدُونَ).
الخطاب في استفتهم
لرسول الله (ص) ، وضمير الغائب لمشركي العرب .. والقرآن حجة تاريخية عليهم لا تقبل
الشك والجدل ، وقد سجل على بعض القبائل منهم انهم كانوا يقولون : اتخذ الله من
الملائكة إناثا له ، ثم رد سبحانه قولهم بأنه رجم بالغيب وعمى عن الحق لأنهم لا
يعرفون عن الملائكة شيئا. وفي معنى ذلك الآية ١٩ من سورة الزخرف : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) والآية ٤٠ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٤٦.
(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). يأتي الافك بمعنى الصرف ، ومنه الآية ٢٢ من سورة الأحقاف
: (قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) أي لتصرفنا عنها ، وهذا المعنى هو المراد من الإفك هنا أي
انهم من أجل انصرافهم عن التوحيد الى الشرك قالوا : ان لله ولدا .. وليس من شك
انهم كاذبون في هذا القول (أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ) أيختار سبحانه
الأدنى ، ويخصكم بالأعلى ـ كما تزعمون ـ (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ـ ٥٧ النحل ج ٤ ص
٥٢٣.
(ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) على ما غاب عن عيونكم وعقولكم؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وترتدعون عن الشرك وقول الزور ، وقد ذكركم الله وحذركم
بلسان نبيه وأمين وحيه (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ
مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). أروني حجة من عقل أو نقل ان الله اتخذ من الملائكة إناثا.
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً). اختلف المفسرون في معنى هذه الآية ، والذي نفهمه من
ظاهرها ان المشركين نسبوا لله تعالى نسلا من الجن كما نسبوا اليه ذلك من الملائكة.
وفي بعض التفاسير نقلا عن مجاهد ومقاتل : ان كنانة وخزاعة قالوا : خطب الله الى
سادات الجن ، فزوجوه من سراة بناتهم ، وان الملائكة بناته من الجنيات.
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ
الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) كيف يكون نسب بينه وبين الجن ، وهم يعلمون ان الله خلقهم
وانه يبعثهم ويسألهم عما كانوا يعملون (سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ) وتعالى عما يقول المشبهون والجاحدون علوا كبيرا (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنهم ينزهونه عن الشريك والولد ، ويخلصون له في الأقوال
والأفعال وهو سبحانه يثيبهم على ايمانهم وإخلاصهم بأحسن ما كانوا يعملون.
فأنكم وما تعبدون الآية
١٦١ ـ ١٧٠ :
(فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ
الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ
كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(١٧٠))
اللغة :
بفاتنين بمضلين
ومفسدين .. وصال الجحيم معذّب فيها ، وحذفت الياء من صالي للتخفيف والكسرة دليل
عليها ، ومثله (وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) أي الجواري. والمراد بالذكر هنا الكتاب.
الإعراب :
وما تعبدون «ما»
اسم موصول ومحلها النصب عطفا على اسم ان. ما أنتم «ما» نافية وأنتم مبتدأ وفاتنون
خبر والباء زائدة إعرابا وضمير عليه يعود الى ما تعبدون وعلى بمعنى باء السببية أي
ما أنتم بسببه فاتنون ، ومثله حقيق عليّ ان لا أقول إلا الحق أي حقيق وجدير بي.
ومن هو صال «من» مفعول فاتنين وهو مبتدأ وصال خبر وحذفت ياؤه تخفيفا كما أشرنا في
فقرة «اللغة». ومنا متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف أي ما أحد كائن وأحد مبتدأ
وخبره له مقام معلوم. وان كانوا «ان» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انهم ،
واللام في ليقولون اللام الفارقة.
المعنى :
(فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ). الخطاب في انكم للمشركين ، والمعنى لا يستجيب لتضليلكم
وعبادة أصنامكم أيها المشركون الا من تنكب عن طريق الحق والهداية التي تؤدي به الى
مرضاة الله وثوابه ، وسلك طريق الضلالة والغواية التي ينتهي معها الى غضب الله
وعذابه.
(وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ). هذا من كلام الملائكة يردون به على المشركين الذين قالوا
: ان الله اتخذ مما يخلق بنات واصطفاهم بالبنين ، ومحصل الرد انّا جميعا عباد
الرحمن نقدسه ونسبّح بحمده ، ولكل واحد منا وظيفته في العبادة لا يتعداها (إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ). منا الذين يقفون صفوفا للعبادة ، ومنا الذين لا يسأمون من
الذكر والتسبيح ، وفي الحديث : فمنهم راكع لا يقيم صلبه ، ومنهم ساجد لا يرفع
رأسه.
(وَإِنْ كانُوا
لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ). واو الجماعة في كانوا ويقولون تعود لمشركي العرب الذين
جعلوا لله بنات من الملائكة وبينه وبين الجنة نسبا ، والمعنى ان المشركين قالوا
قبل أن يأتيهم محمد (ص) بالقرآن : لو جاءهم كتاب من عند الله بالحق لآمنوا به
وعبدوا الله مخلصين له الدين ، فلما جاءهم ما كانوا يتمنون ازدادوا عتوا ونفورا ،
والى هذا أشار سبحانه بقوله : (فَكَفَرُوا بِهِ) أما قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فهو تهديد ووعيد.
وان جندنا لهم الغالبون الآية
١٧١ ـ ١٨٢ :
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ
(١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى
حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ
الْمُنْذَرِينَ
(١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
(١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))
المعنى :
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ
جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) في الدنيا بالحجة والدليل ، قال الإمام علي (ع) : ما ظفر
من ظفر الإثم به ، والغالب بالشر مغلوب ، أما في الآخرة فلا حول للمبطلين ولا قوة.
وقال الرازي : «قد تكون النصرة والغلبة بقوة الحجة ، وقد تكون بالدولة والاستيلاء
، وقد تكون بالدوام والثبات على الحق ، فالمؤمن وان صار مغلوبا في بعض الأحيان
بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب ، ولا يلزم على هذه الآية ان يقال : قد قتل بعض
الأنبياء ، وهزم كثير من المؤمنين. وقوله : قد تكون النصرة بالثبات ينطبق على صمود
العرب ـ اليوم ـ ورفضهم الاستسلام وعزمهم على المقاومة مهما كانت «أحوال الدنيا»
على الرغم من انتصار الاستعمار والصهيونية عليهم عسكريا. وتقدم الكلام عن دفاعه
تعالى عن الذين آمنوا عند تفسير الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١.
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ). الخطاب لمحمد (ص) يأمره الله سبحانه أن يدع المشركين
وشأنهم ، ثم ينتظر قليلا ، وسيرى انهم يستسلمون لأمره أذلاء صاغرين .. وهذا ما حدث
بالفعل على الرغم من حشد الجيوش وتكتل الأحزاب ضده (أفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ). هذا جواب عن قول المشركين : فأتنا بما تعدنا ، ومعنى
الجواب كيف تستعجلون عذاب الله مع العلم انه إذا نزل بكم لا تستطيعون له صرفا ،
ولا منه مفرا (فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ). المراد بساحتهم ديارهم ، وبالصباح يوم العذاب ، والمعنى
ان يوم ينتقم الله منهم بعد أن أنذرهم هو شر يوم عليهم وأسوأه.
(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ). كرر هذا سبحانه تأكيدا لإنجاز وعده وانه كائن لا محالة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ). ختم سبحانه هذه السورة بتنزيهه عما لا يليق بعظمته لأنه
حكى فيها أقوال المشركين ، ووصف نفسه بالعزة لأنه على كل شيء قدير ، وحمدها لأنه
المنعم المتفضل ، وسلم على المرسلين لأنهم أدّوا الأمانة بإخلاص ، وتحملوا في
سبيلها الكثير .. وبعد ، فلا عزة ولا حمد لمخلوق إلا لمن اعتز بالله وأطاع الله.
سورة ص
وهي ٨٨ آية مكيّة.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص والقرآن ذي
الذكر الآية
١ ـ ١١ :
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ
الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ
مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ
(٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ
الْوَهَّابِ (٩) (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠)
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))
اللغة :
في عزة وشقاق أي
في استكبار عن قبول الحق وعداء له ولأهله. ولات حين ليس الحين. ومناص مفر. وعجاب
أمر مفرط في العجب. والملأ جماعة الأشراف. والأسباب الطرق والوسائل التي يمكن
التوصل بها الى الغاية.
الإعراب :
والقرآن قسم وجوابه
محذوف أي انه الحق أو لقد جاء الحق. وكم في محل نصب بأهلكنا. ولات حين مناص «لا»
نافية تعمل عمل ليس والتاء زائدة مثلها في ربت وثمت ، واسم لا محذوف وحين مناص
خبرها أي لات الحين حين مناص ، ولا تدخل لات إلا على زمان. والمصدر من أن جاءهم
مجرور بمن محذوفة أي عجبوا من مجيئهم منذر. ان امشوا «ان» مفسرة لقول محذوف ،
والمعنى وانطلق الملأ منهم بقول هو امشوا. ولما أداة جزم. وعذاب أي عذابي. وجند
مبتدأ وخبره مهزوم. وهنالك ظرف مكان يشار به للبعيد والعامل به مهزوم.
المعنى :
(ص) تقدم الكلام
عن مثله في أول سورة البقرة (وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ). كذبت قريش بالقرآن الذي فيه خيرهم وعزهم ، فأقسم سبحانه
بالقرآن نفسه انه الحق من عند الله ، وانه لا سبب لهذا التكذيب إلا تعاظم المكذبين
واستنكافهم عن الحق وعداؤهم لمحمد (ص) .. وقسمه تعالى بالقرآن يومئ الى انه الدال
ببلاغته على اعجازه ، وبتعاليمه على صدقه ، ثم حذر سبحانه قريشا وذكرهم بهلاك
الأولين لما كذبوا الرسل ، وذلك حيث يقول : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ). استنكف الأولون عن الحق وخاصموا أهله تماما كما استنكفتم
وخاصمتم يا عتاة قريش ، ولما جاءهم العذاب
تراجعوا وخضعوا ،
ولكن بعد فوات الأوان ، فخير لكم أن تؤمنوا الآن وقبل أن تضيع عليكم الفرصة
فتستغيثوا وتندموا حيث لا يجدي صياح ولا ندم.
تقليد الموحد وتقليد المشرك :
(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ
مُنْذِرٌ مِنْهُمْ). محمد (ص) من قريش ، ما في ذلك ريب ، ولكنه ليس من عتاتهم
وطغاتهم ، فكيف يعده هؤلاء منهم؟ ولو انه استعبد الناس ، وكان له كنز أو جنة من
نخيل أو بيت من زخرف لكان منهم في الصميم ، وان لم يكن قرشيا. أنظر ج ٥ ص ٨٣ فقرة «التفكير
من خلال المال وحب الذات» وفقرة «منطق أرباب المال بنك وعقار» ص ٤٥٣.
(وَقالَ الْكافِرُونَ
هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ). ولما ذا هو ساحر كذاب؟ وهذا هو الجواب (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ). ليس العجب العجاب عند هؤلاء واقعا وحقيقة أن ينكر محمد (ص)
الشرك وتعدد الآلهة ، وان خيّل ذلك اليهم ، وشعروا به من أنفسهم .. كلا ، انما
العجب العجاب هو خروج محمد (ص) على تقاليدهم الموروثة وأوضاعهم المألوفة أبا عن جد
.. انهم في الواقع يدافعون عن تقاليد الآباء والأجداد كدين ومبدأ ، وليس عن الأصنام
من حيث هي ، انهم يدافعون عن الأصنام لأنها من تركة الأولين وميراثهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ـ ٢٣ الزخرف.
وينطبق هذا على
ايمان الجهلاء من الموحدين تماما كما ينطبق على ايمان المشركين لأن مصدر الايمانين
واحد ، وهو التقليد .. والفرق ان تقليد الموحد صحيح ومقبول لأن له أساسا من الواقع
تماما كقولي : ان صاحب نظرية الجاذبية اسمه نيوتن ، وصاحب نظرية النسبية اسمه
اينشتين ، أما تقليد المشرك فضلال ، وصاحبه مسؤول ومعاقب إلا إذا كان قاصرا
كالبهائم لأن الشرك بالله لا أساس له من الواقع. وبكلمة ان الفكرة تكون صادقة إذا
كانت من صلب الواقع سواء أكانت عن علم أم عن تقليد. انظر ج ١ ص ٢٥٩ فقرة «التقليد
وأصول العقائد».
(وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ ما
سَمِعْنا
بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). المراد بالملإ هنا عتاة قريش. واصبروا على آلهتكم أي
اثبتوا على عبادتها. وهذا شيء يراد إشارة الى الثبات على عبادة الأصنام. والملة
الآخرة هي عقيدة التثليث في المسيحية ، ووصفها المشركون بالآخرة لأنها آخر ديانة
ظهرت في عهدهم. وفي تفسير الطبري وغيره ان مشيخة قريش قالوا لأبي طالب : ليكف ابن
أخيك عن آلهتنا ، وندعه وإلهه الذي يعبد. ولما ذكر أبو طالب ذلك للرسول الأعظم (ص)
قال : أريدهم على كلمة واحدة يقولونها ، فتدين لهم العرب والعجم. فقالوا : نعطيكها
وعشرا فما هي؟ قال : «لا إله إلا الله». فانصرفوا ، وهم يقولون : اجعل الآلهة إلها
واحدا الخ. وهذه الرواية تتفق مع ظاهر الآية ، ويساعد عليها واقع المشركين ومكانة
شيخ الأبطح.
(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا)؟ أيختار الله محمدا لرسالته ، ولا جاه له ولا مال؟ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي). ضمير «هم» يعود لبعض المشركين لأن منهم من أنكر نبوة محمد
(ص) حسدا ، ومنهم من أنكرها حرصا على مصالحه (بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ). فإذا ذاقوه زال عنهم الشك والريب : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ) ـ ٥٤ يونس.
(أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ). المراد بخزائن الرحمة هنا النبوة فقط ، أو هي وغيرها من
نعم الله وإحسانه ، والمعنى لما ذا أنكر المشركون واستكثروا رحمة الله لمحمد في
اختياره رسولا للعالمين؟ ألأنهم يملكون هذا الاختيار من دون الله (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما). ان مالك الكون هو الذي يملك النبوة ويهبها ويعز بها من
يشاء ، والمشركون لا يملكون مع الله شيئا كي يمنحوا النبوة لرجل من القريتين عظيم
.. أجل هناك شيء واحد يستطيعون به أن يملكوا السموات والأرض ، وهو (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ). المراد بالأسباب الطرق والوسائل ، والمعنى ان النبوة
يتحكم بها من يملك الكون بما فيه ، فإذا أراد عتاة قريش أن يختاروا للنبوة واحدا
منهم فعليهم قبل كل شيء أن يملكوا الأسباب والوسائل التي تصل بهم الى هذا الملك ان
كانت متوافرة لديهم .. وفي هذا من التعجيز ما هو في غنى عن البيان (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ
الْأَحْزابِ). ان
الذين حاربوك
وعارضوك يا محمد ليسوا بشيء ، فهم مغلوبون مهزومون أمام دعوتك على الرغم من كثرة
جنودهم وتكتل أحزابهم.
اصبرعلى ما يقولون الآية
١٢ ـ ٢٠ :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما
لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا
الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ
(١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))
اللغة :
أصحاب الأيكة قوم
شعيب ، والأيكة الشجر الملتف. والمراد بالفواق هنا الزمان اليسير ، قال أبو حيان
الأندلسي في البحر المحيط : الفواق بضم الفاء وفتحها الزمان الذي بين حلبتي الحالب
ورضعتي الراضع. والقط النصيب المفروض من قطّ الشيء إذا قطعه وأفرزه عن غيره ،
وعليه يكون معنى عجّل لنا قطنا عجل لنا نصيبنا من العذاب. وذا الأيد ذا القوة.
وأوّاب تواب. والاشراق الصباح. ومحشورة مجموعة. وشددنا قوينا.
الإعراب :
أولئك مبتدأ
والأحزاب عطف بيان ، وان نافية وكل مبتدأ ثان وكذب خبر ، والجملة خبر المبتدأ
الأول والعائد محذوف أي منهم. وعقاب أي عقابي. وداود بدل من عبدنا. وذا الأيد صفة.
والطير عطف على الجبال. ومحشورة حال من الطير.
المعنى :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ). كذبت هذه الأمم الرسل ، فأهلك الله بعضهم بالطوفان كقوم
نوح ، والبعض الآخر بالغرق في البحر كفرعون. وذو الأوتاد كناية عن استقامة ملكه
كما تستقيم الخيمة إذا شدت أطنابها بالأوتاد الثابتة في الأرض : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) ـ ٦ الحاقة. أما
قوم لوط فجعل أعلى ديارهم أسفلها. انظر تفسير الآية ٨٢ من سورة هود ج ٤ ص ٢٥٥. وأخذ
الله أصحاب الايكة ـ قوم شعيب ـ بعذاب أليم. انظر تفسير الآية ٧٨ من سورة الحجر ج
٤ ص ٤٨٧ والآية ١٧٦ من الشعراء ج ٥ ص ٥١٥.
(أُولئِكَ الْأَحْزابُ
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ). أخذ سبحانه أحزاب الشيطان بذنوبهم وقطع دابرهم جزاء بما
يكسبون من الشرك وتكذيب أنبياء الله ورسله ، ألا يخشى الذين كذبوا محمدا (ص) أن
يصيبهم مثل ما أصاب أولئك الأحزاب؟ (وَما يَنْظُرُ
هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ). هؤلاء إشارة الى الذين كذبوا محمدا (ص) والمعنى ما ذا
ينتظرون من الله بعد ان كذبوك يا محمد؟ وهو القادر بكلمة واحدة أن يبعث عليهم عذاب
النكال والاستئصال في أمد لا يستطيعون معه توصية ولا الى أهلهم يرجعون.
(وَقالُوا رَبَّنا
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) هددهم سبحانه على لسان نبيه الكريم بعذاب جهنم ، فقالوا
ساخرين : إذا كان هذا واقعا فلما ذا التأخير الى يوم القيامة؟ فليكن في الدنيا لا
في الآخرة (اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ) يا محمد :
انك ساحر كذاب وما
الى ذلك من الافتراءات ، فان عاقبة أمرهم الخسران والاستسلام. وقد صبر النبي (ص)
على أذى المشركين ١٣ سنة في مكة ، وعلى مكر المنافقين بضع سنوات في المدينة ، صبر
هذا الأمد الطويل ، وهو واثق بالمستقبل ، وان أدبر الحاضر .. ولم تمض الأيام حتى
نصر الله محمدا ، وأظهر الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون.
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) هذا الاسم عبري ، ومعناه محبوب ، وداود هو ثاني ملوك بني
إسرائيل ، والأول اسمه طالوت : (إِنَّ اللهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) ـ ٢٤٧ البقرة ج ١
ص ٣٧٧. والتوراة تعبر عن طالوت هذا بشاول ، فقد جاء في «قاموس الكتاب المقدس» : ان
شاول أول ملوك إسرائيل ، وان داود حارب في جيشه.
وقال الرازي : ان
الله وصف داود بأوصاف كثيرة .. ثم شرحها في أربع صفحات بالقطع الكبير ، نلخصها
بالأسطر التالية :
١ ـ قال الله
لمحمد (ص) : (اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ). وهذا إكرام لداود.
٢ ـ (ذا الأيد) أي
ذا القوة على طاعة الله.
٣ ـ (انه أوّاب)
أي يرجع في أموره كلها الى الله.
٤ ـ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ
أَوَّابٌ). ومثله قوله تعالى في الآية ١٠ من سورة سبأ : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) والآية ٧٩ من سورة الأنبياء : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ
يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) انظر ج ٥ ص ٢٩٢.
٥ ـ (وشددنا ملكه)
أي قويناه.
٦ ـ (وآتيناه
الحكمة) وهي وضع الأشياء في محلها ، وبتعبير الرازي «هي العلم والعمل به ، وانما
سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها».
٧ ـ (وفصل الخطاب)
قال الرازي : فصل الخطاب هو القدرة على ضبط
المعنى والتعبير
عنه إلى أقصى الغايات. وهذا أشمل مما نفهمه نحن من ان فصل الخطاب هو العلم بالقضاء
والفصل في الخصومات على أساس العدل.
بهذه الأوصاف
الكاملة الفاضلة نعت القرآن الكريم داود ، أما التوراة فقد وصفته بأقبح النعوت
كالظلم والفسق والغدر واغتصاب النساء من الأزواج حتى قال المسهمون في وضع قاموس
الكتاب المقدس صفحة ٣٦٥ طبعة ١٥ آذار سنة ١٩٦٧ ما نصه بالحرف الواحد : «ارتكب داود
في بعض الأحيان خطايا يندى لها الجبين خجلا».
٩٩ نعجة ونعجة واحدة الآية
٢١ ـ ٢٥ :
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا
بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))
اللغة :
الخصم هو المدعي
على غيره حقا من الحقوق ، ويستعمل في الواحد والاثنين
والجماعة والمذكر
والمؤنث على السواء. والمحراب عند المسلمين المصلى ومكانه في جهة القبلة. والشطط
تجاوز الحد. وسواء الصراط وسط الطريق والمراد به هنا طريق الحق والنعجة أنثى
الضأن. وأكفلنيها اعطنيها واجعلني كافلها. وعزني بفتح العين غلبني ، وفي الخطاب أي
في مخاطبة الكلام. والخلطاء جمع خليط وهو الشريك الذي يمتزج ماله ويختلط بمال
شريكه. وفتنّاه ابتليناه. والزلفى القرب من الله. والمآب المرجع.
الإعراب :
إذ دخلوا بدل من
إذ تسوروا. خصمان خبر لمبتدأ محذوف أي نحن خصمان. لقد ظلمك اللام في جواب قسم
محذوف. الا الذين استثناء من بعضهم. وقليل خبر مقدم و «ما» زائدة وهم مبتدأ.
وراكعا حال. وأنما فتناه الأصل أننا فتناه و «ما» كافة. وذلك مفعول غفرنا.
التفسير والاسرائيليات :
نسب جماعة من
المفسرين الى داود ـ وهم يشرحون هذه الآيات ـ أشياء لا تليق بأهل المروءة والحياء
فضلا عن الأنبياء المعصومين ، وذكروا قصة طويلة جاءت في سفر صموئيل الثاني الاصحاح
١١ و ١٢ من العهد القديم المحرف بحكم القرآن ، وشهادة التاريخ ، ونصوص العهد نفسه
التي ترفضها الفطرة ، ولا يقبلها عقل عاقل .. وتتلخص تلك القصة أو الفرية بأن داود
عشق زوجة رجل من خدمه وجنوده ، يدعى «أوريا» ، فاحتال داود لقتله بالسيف ، واستأثر
بزوجته ، وقالت التوراة : ان الله غضب لذلك غضبا شديدا ، وهدد داود على هذا الفعل
الشنيع والجريمة النكراء ، وقال له فيما قال : «قتلت أوريا بالسيف ، وأخذت امرأته
.. والآن لا يفارق السيف بيتك الى الأبد لأنك احتقرتني .. ها إذا أقيم عليك الشر
من بيتك ، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريب من أقربائك ، فيضطجع مع نسائك في
عين هذه الشمس لأنك أنت فعلت بالسر ، وأنا أفعل هذا
الأمر ـ أي الزنا ـ
قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس». وفي الاصحاح الأول من سفر الملوك الأول : ان زوجة
«أوريا» اسمها «بثشيع» ، وانها هي أم سليمان ابن داود.
داود يزني سرا ..
فيعاقبه الله ويؤدبه على فعلته النكراء ، لا باقامة الحد ، ولا باللوم والتأنيب ..
بل بهتك نسائه وحرائره وتجريدهن والفجور بهن علنا وفي وضح النهار وعلى رؤوس
الأشهاد.
هذه هي الاسفار «المقدسة»
تصف خالق الكون بأوصاف أوحش الوحوش ، وأخبث اللئام والطغام .. تعالى الله علوا
كبيرا عما يقول الظالمون. هذا مثال واحد من عشرات الأمثلة .. اقرأ مصارعة الله
ليعقوب وعجز كل منهما أن يغلب صاحبه حتى اضطر يعقوب أن يضرب «حقّ فخذ الله». واقرأ
أيضا الاصحاح السابع من سفر التثنية من التوراة الذي جاء فيه : ان الرب التصق
باليهود وأباح لهم أن يأكلوا جميع الشعوب من غير شفقة.
وعلى هذه
الاسرائيليات اعتمد جماعة من أهل التأويل وفسروا بها آي الذكر البشير النذير ،
ومنها الآيات التي نحن بصددها .. فعلى القارئ أن يواجه أقوالهم وتفاسيرهم باليقظة
والحذر.
المعنى :
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ)؟ يقص سبحانه على نبيه الكريم حادثة وقعت لداود ، وهي انه
كان في ذات يوم منقطعا الى ربه في مصلاه فإذا باثنين أمامه وجها لوجه ، فراعته هذه المفاجأة في غير أوانها ..
وفوق ذلك دخولهما من أعلى الحائط ، لا من المدخل المعتاد.
وتجدر الاشارة إلى
أن دخولهما كذلك على داود لا دلالة فيه من قريب أو بعيد على انهما من الملائكة كما
استنتج بعض المفسرين .. فإن الإنسان قد يدخل البيوت
__________________
من غير أبوابها
لسبب من الأسباب ، وليس في الآيات أي ذكر للملائكة ، والمفهوم من كلمة الخصمين
اثنان من الناس ، فتأويلهما بملكين لا مبرر له.
(قالُوا لا تَخَفْ
خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ
وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ). حين رأيا ما حل به من الخوف أسرعا الى طمأنته وقالا :
جئنا للتقاضي عندك ، فاحكم بالعدل وأرشدنا الى الحق ولا تنحرف عنه ، ثم قال أحدهما
: (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أكفلنيها أعطنيها ، وعزّني في الخطاب غلبني في القول ،
والنعجة أنثى الضأن ، ولا داعي للتأويل ، فظاهر الآية ان حادثة من هذا النوع وقعت
في عهد داود ، ولها أمثال في كل زمان ومكان بخاصة في زماننا ، فيجب الأخذ بالظاهر
والعمل به.
(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ). قال هذا داود قبل أن يطلب من المدعي البينة ، ويستوجب
المدعى عليه (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ). قال المفسرون : المراد بالخلطاء الشركاء ، ولكن لا شراكة
بين المتخاصمين ، والسياق يومئ الى أن المراد بهم الأقوياء ولو من باب المجاز (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ). القوة للحق إذا كانت في يد الأخيار أما إذا ملكها الأشرار
فهي على الحق من غير شك ، وأهل الخير قلة في عددهم ، ولكنهم أقوياء في أخلاقهم
وصفاتهم.
(وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ). بعد ان حكم داود لأحد الخصمين تنبه الى أنه حكم له قبل أن
يدلي الخصم الآخر بحجته ، فندم وطلب من الله العفو والمغفرة (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ). غفر الله لداود لأنه من السابقين الأولين الى طاعة الله
ومرضاته.
وفي كتاب «عيون
الأخبار» للشيخ الصدوق : ان سائلا سأل الإمام الرضا (ع) عن قصة داود مع أوريا
وزوجته؟ فنفى الإمام ما ينسبه الناس الى داود. فقال السائل : ما كانت خطيئته يا
ابن رسول الله؟ فأجاب بجواب طويل جاء فيه : عجّل داود على المدعى عليه ، فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ
إِلى نِعاجِهِ) ولم يسأل المدعي البينة ، ولم يقبل على المدعى عليه ،
فيقول له : ما تقول ،
فكان هذا خطيئة
رسم الحكم ، لا ما ذهب اليه الناس ، ألا تسمع الله عز وجل يقول : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى).
وتسأل : كيف حكم
داود للمدعي من غير بينة مع ان الأنبياء معصومون عن الخطأ والخطيئة؟.
الجواب : ليس معنى
العصمة ان للمعصوم طبيعة غير طبيعة الناس بخصائصها وغرائزها .. كلا ، ان هو إلا
بشر ، وانما معنى العصمة ان الله سبحانه يلطف بالمعصوم ، ولا يتخلى عنه إطلاقا ،
فإذا حاول ـ مثلا ـ أن يخدعه انسان بحسن مظهره أرشده الله إلى حقيقته قبل أن يقع
في الشباك ، وهذا ما حدث بالفعل لداود .. خدعه صاحب النعجة الواحدة بأسلوبه الذي
يثير الإشفاق والرحمة فحكم له ، ولكن الله ألهمه الحقيقة قبل تنفيذ الحكم فاستدرك
وأناب.
وقريب من هذا ما
حدث لرسول الله (ص) مع سارق ادعى براءته ، وكاد الرسول الأعظم ينخدع لولا أن ثبته
الله بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
ـ أي لا تخاصم عن
الخائنين ـ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ـ ١٠٦ النساء ج ٢
ص ٤٢٩. وقال تعالى مخاطبا نبيه الكريم محمدا (ص) : (وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) ـ ٧٤ الإسراء. وفي
الحديث الشريف : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ، وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم
ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له شيئا من حق أخيه فإنما
أقضي له قطعة من نار. وهذا الحديث لا ينطبق تماما على ما نحن فيه ، ولكن يمكن
الاستئناس به. أما توبة الأنبياء واستغفارهم من الذنوب فهي ضرب من العبادة
والتواضع لله سبحانه. وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة.
جعلناك خليفة في الأرض الآية
٢٦ ـ ٢٩ :
(يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما
خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))
الإعراب :
فيضلك منصوب بأن
مضمرة على جواب النهي ، والمصدر المنسبك مبتدأ وخبره محذوف أي فإضلالك كائن.
وباطلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي خلقا باطلا وكتاب أي هذا كتاب. وليدبروا أصلها
ليتدبروا مثل ليتذكر ثم أدغمت التاء بالدال.
المعنى :
(يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ). كل انسان وجد أو يوجد فهو خليفة الله في أرضه بمعنى انه
مسؤول أمام الله عن العمل في هذه الحياة لخير الدنيا والآخرة. هذا معنى خلافة
الإنسان في الأرض أيا كان ، والفرق بين الأفراد إنما هو في نوع العمل المسئول عنه
، حيث يطلب من كل حسب طاقته ومهنته ،
وبما ان وظيفة
الأنبياء هي التبشير والتحذير كيلا يكون للناس على الله الحجة ـ وجب عليهم الحكم
بين الناس بالحق ، وعلى غيرهم السمع والطاعة.
(فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) لأن منصب النبوة يستدعي ذلك بطبعه ، وبكلام آخر ان الله
سبحانه يختار لوحيه من يؤمن بالحق ويعمل به ، ويستحيل في حقه الخطأ والخطيئة (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا
يَوْمَ الْحِسابِ). أشقى الناس من خالف مولاه واتبع هواه .. وفي الحديث : ان
أخوف ما أخافه عليكم الهوى وطول الأمل ، أما الهوى فإنه يصد عن الحق ، واما طول
الأمل فينسي الآخرة. ومن نسي هذا اليوم فهو من المعذبين بناره وجحيمه.
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً). ولو كان في خلق الكون شائبة للعبث والباطل لما ثبت واستمر
على نظامه المحكم ملايين السنين. وتقدم مثله في الآية ١٩١ من سورة ال عمران ج ٢ ص
٢٣١ (ذلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). ويومئ هذا الى أنه لا فرق بين من أنكر وجود الله من
الأساس ، ومن اعترف به وأنكر الحكمة في خلقه .. لأن دلائلها ظاهرة ، وأعلامها
واضحة. قال الإمام علي (ع) : قدر ما خلق فأحكم تقديره ، ودبره فألطف تدبيره ،
ووجهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، ولم يقصر دون الانتهاء الى غايته.
(أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). الفرق بين الصالح والمفسد وبين التقي والفاجر تماما
كالفرق بين الطيب والخبيث وبين الأعمى والبصير. وتقدم مثله في الآية ١٠٠ من سورة
المائدة ج ٣ ص ١٣١ والآية ٥٠ من سورة الأنعام ص ١٩٣ من المجلد المذكور. وفي «أحكام
القرآن» للقاضي أبي بكر المعروف بابن العربي : ان هذه الآية نزلت في بني هاشم ،
وان الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمتقين هم علي بن أبي طالب وأخوه جعفر وعبيدة
بن الحرث والطفيل بن الحارث وزيد بن حارثة وأم أيمن وغيرهم ، وان المفسدين والفجار
هم من بني عبد شمس. (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). الخطاب لرسول الله (ص) ،
والكتاب القرآن ،
وهو بركة على من آمن به ، وشفاء له من الكفر ومساوئ الأخلاق ، ونجاة من الشرك
والهلاك. وفي نهج البلاغة : استنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا
فيه أهواءكم.
سليمان الآية ٣٠
ـ ٤٠ :
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ
أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ
حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))
اللغة :
الصافنات جمع
الصافنة من الخيل ، وهي الفرس تقوم على ثلاث قوائم ، وترفع إحدى يديها. والجياد
جمع جواد وهو من الخيل السريع ومن الناس الكريم. وتوارت غابت أو استترت. وطفق شرع.
والسوق جمع ساق. ورخاء سهلة طيعة. وأصاب قصد وأراد. والأصفاد السلاسل والأغلال.
فامنن أعط. وأمسك امنع.
الإعراب :
جملة نعم العبد
خبر لمبتدأ محذوف أي هو. وإذ في محل نصب بفعل محذوف أي اذكر إذ عرض. وقيل : أحببت
هنا بمعنى آثرت وعليه يكون حب الخير مفعولا به لأحببت. وطفق من أفعال المقاربة
واسمها ضمير مستتر وخبرها محذوف دل عليه «مسحا» أي وطفق يمسح مسحا. ورخاء حال من
الضمير المستتر بتجري. والشياطين عطف على الريح. وكل بناء وغواص وآخرين بدل مفصل
من مجمل ، والمبدل منه الشياطين. ومقرنين صفة لآخرين. وبغير حساب حال من الضمير في
امنن أي غير محاسب.
المعنى :
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). جاء في قاموس الكتاب المقدس عند الكلام عن سليمان ما نصه
بالحرف : سليمان اسم عبري معناه رجل سلام ، وهو ابن الملك داود الذي خلفه على
العرش .. مع انه كان له ستة اخوة من أمهات مختلفات .. وسليمان هو ابن بثشيع التي
كانت زوجة لأوريا ، وقد أحب داود سليمان لأنه كان ابن زوجته المفضلة .. وكان داود
قد وعد بثشيع ان يملك ابنها على الشعب بعده.
وقد لخص هذا
المساهمون في وضع القاموس ، لخصوه من التوراة سفر الملوك الأول وسفر صموئيل
الثاني. ومعناه ان التوراة تقول عن داود : انه لا يأتمر بأمر الله ، ولا يعمل بوحي
منه ، بل بوحي امرأة اغتصبها من زوجها الذي قتله بحد السيف .. وانها هي الآمرة
الناهية عليه وعلى شعبه .. وإذا كانت المرأة في عصرنا تطالب بالمساواة مع الرجل
فإن التوراة تجعل الملوك والأنبياء طوع أهواء المرأة وشهواتها .. ولا بدع فلقد كان
الجنس اللطيف وما زال عند اليهود أفضل الوسائل للربح وبلوغ المآرب.
(إذ عرض عليه
بالعشي الصافنات الجياد فقال اني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب
ردوها عليّ فطفق مسحا بالسوق والأعناق).
للمفسرين هنا
أقوال ، أرجحها ان سليمان قد بدا له في مساء يوم من الأيام أن يستعرض ما أعده
للحرب والعزو من رباط الخيل ، وقد كانت آنذاك السلاح الذي يرهب الأعداء ، وبكلمة
أراد أن يجري استعراضا عسكريا ، فأمر بإحضار الخيل ، وان يجريها الفرسان أمام
عينيه ، وقال : أفعل هذا عن أمر ربي ، لا عن هوى في نفسي .. حتى إذا أجريت أعجب
بها واطمأن اليها ، ولما غابت عن بصره في ركضها أمر بردها ، وشرع يمسح سوقها
وأعناقها مسرورا بها وراضيا عنها .. وعلى هذا يكون المراد ب «حب الخير» استعراض
الخيل وجريها أمام عينيه ، أما قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) فمعناه اني فعلت هذا عن أمر الله لا عن أمري.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً). ابتلى سبحانه سليمان بمرض عضال ، وألقى به على سريره كجسد
بلا روح ، تماما كما ابتلى غيره من الأنبياء بأنواع البلاء ، وتومئ الآية الى ان
الابتلاء كان جزاء على شيء صدر من سليمان ، ولكن الله سبحانه لم يبين هذا الشيء ،
وما ذكره المفسرون في بيانه وتحديده لا يقوم على أساس ، ومهما يكن فقد تاب سليمان
مما حدث منه كما تاب غيره من الأنبياء ، وقبل الله من سليمان كما قبل من الأنبياء (ثُمَّ أَنابَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي). وتجدر الاشارة الى أن الأنبياء يتوبون لتركهم الأولى
والأفضل ، لا لاقترافهم المعصية ، وبيّنا ذلك في ج ١ ص ٨٨.
(وَهَبْ لِي مُلْكاً
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ). طلب ملكا لا نظير له من بعده في الكيف لا في الكم ، ومن
نوع الخوارق والمعجزات كتسخير الرياح والطير والجن ، فاستجاب الله دعوته بشهادة
قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ). رخاء أي طيعة ، وحيث أصاب أي إلى أية جهة يشاء (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ) لما يريده سليمان من محاريب وتماثيل وغيرها (وغواص) في
البحر على اللآلئ والجواهر (وآخرين) من الشياطين أيضا (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) لأنهم خرجوا عن أمره وطاعته. وتقدم مثله في الآية ١٢ و ١٣
من سورة سبأ.
(هذا عَطاؤُنا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ). وعطاء الله لا يثلمه الإنفاق ولا ينقصه البذل ، ولذا أمر
الله سليمان ان ينفق بالجملة ومن غير وزن وكيل ان شاء.
وفي نهج البلاغة :
من أيقن بالخلف جاد بالعطية. ومع هذا فإن سليمان ضعيف كأي انسان «تؤلمه البقة ، وتقتله
الشرقة ، وتنتنه العرقة».
أيوب الآية ٤١ ـ ٤٨ :
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ
بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ
الْأَخْيارِ (٤٨))
اللغة :
النصب التعب
والمشقة. والمغتسل موضع الغسل والمراد به هنا الماء. والضغث القبضة من العيدان
ونحوها. والحنث في اليمين ترك المحلوف عليه. والأيدي القوة. وخالصة أي صفة خالصة
من كل شائبة. والمصطفين المختارين.
الإعراب :
أيوب بدل من
عبدنا. والمصدر من أني مسّني مجرور بباء محذوفة. ورحمة
مفعول من أجله
لوهبنا. وابراهيم وما بعده بدل مفصل من مجمل والمبدل منه عبادنا. وذكرى الدار خبر
لمبتدأ محذوف أي هي ذكرى. ولمن المصطفين متعلق بمحذوف خبرا لأنهم.
المعنى :
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ). لأيوب سفر خاص في العهد القديم ، وقد استغرق حوالى ٤٠
صفحة ، وفي قاموس الكتاب المقدس : ان هذا السفر كتب شعرا في الأصل ، وان بعض الناس
يظنون انه كتب في القرن الرابع قبل الميلاد ، وان من المحتمل أن يكون أيوب عاش في
الألف الثانية قبل الميلاد. ثم قال المساهمون في وضع القاموس ، في مادة عوص بضم
العين : ان أيوب أقام في أرض عوص ، ويعتقد ان هذه الأرض في الصحراء السورية ،
وهناك من يعتقد انها حوران.
(إِذْ نادى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ). مضت مئات القرون ، والناس تضرب الأمثال بمصائب أيوب ،
وينسجون حولها الأساطير .. وتدل هذه الآية والآية ٨٣ من سورة الأنبياء ان أيوب قد
أصيب في نفسه وماله ، وانه نسب ما حل به الى الشيطان ، وهذا ما دعا جماعة من
المفسرين أن يؤلفوا رواية «أيوب والشيطان» .. ومن قارن بين روايتهم وبين ما جاء في
سفر أيوب من التوراة يجد أنهم يفسرون القرآن الكريم بالاسرائيليات .. وتتلخص رواية
العهد القديم والمفسرين أيضا بأن الله سلط الشيطان على أيوب ليختبر إيمانه ، فأتلف
أمواله وأهلك أسرته ، ولما فشل أصابه في جسده ، ففشل أيضا.
والآية صريحة في
ان الشيطان قد مس أيوب بالأتعاب والصعاب ، ولكنها سكتت عن تحديدها وبيان نوعها ،
ونحن نسكت عما سكت الله عنه ، ولا نتكلف البحث والتنقيب ، ولو كلفنا الله لبين ،
وحيث لا بيان منه فلا تكليف. وقد أشرنا إلى قصة أيوب في ج ٥ ص ٢٩٥.
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ
هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ). لجأ أيوب الى الله شاكيا اليه مما قاساه ، فاستجاب له ،
وأمره أن يضرب الأرض برجله فيخرج ماء بارد ،
يغتسل به ويشرب
منه ، فيبرأ بإذن الله تعالى. وهكذا كان (وَوَهَبْنا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ). شفاه الله ورزقه من الأولاد والأحفاد ضعف ما فقد منهم.
وتقدم مثله في الآية ٨٤ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٩٥.
(وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ). قال المفسرون : ان أيوب غضب على زوجته حين كان طريح
الفراش ، غضب عليها لأمر يحدث بين المرء وزوجه .. فحلف ليضربنها كذا ضربة ان شفاه
الله ، وبعد ان كتب الله له الشفاء أمره أن يضرب زوجته بمجموعة من الأغصان ونحوها
دفعة واحدة ، وبذلك يتحلل من يمينه.
والآية لا تشير
الى امرأة أيوب ولا الى غيرها من قريب أو بعيد ، ومع هذا فلا ننكر قول المفسرين ،
حيث جاء في الآية ذكر الحنث والضرب ، وليس من شك ان الحنث فرع اليمين والضرب
يستدعي وجود المضروب .. وطريح الفراش يضيق بأدنى الأمور ، وبالخصوص إذا حدث من
أهله .. فمن الجائز ـ اذن ـ أن يحلف أيوب على ضرب زوجته لأدنى شيء يبدر منها ..
وبالتالي فإن قول المفسرين غير بعيد.
وتسأل : ان قوله
تعالى : وخذ بيدك ضغثا الخ يدل على ان الاحتيال على الدين جائز في شريعة القرآن مع
انه أنكر على بني إسرائيل احتيالهم لصيد الحيتان ، كما صرحت الآية ١٦٣ من سورة
الأعراف : (إِذْ يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). أنظر ج ٣ ص ٤١٠.
الجواب أولا : ان
الضرب على هذا النحو مختص بأيوب وحده ولا يعم جميع الحالفين ، والا صرحت السنّة
النبوية بذلك ، وأفتى به جميع العلماء. ثانيا : ان هذا احتيال من أجل الرحمة
والانسانية ، وليس احتيالا على الحق والانسانية.
(وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ). أولي الأيدي أصحاب القوة على الصالحات ، والأبصار كناية
عن العلم بالله ودينه ،
والمعنى أذكر يا
محمد هؤلاء الأنبياء الذين علموا دين الله وعملوا به مخلصين ، وجاهدوا في سبيله
صابرين ، أذكرهم واصبر على المكذبين من قومك كما صبر هؤلاء الرسل من قبلك.
(إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي دار الآخرة ، وخالصة صفة لا يشوبها شيء ، وهي انهم
يعملون للآخرة ، ويؤثرونها على كل شيء (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا
لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ). أخلصوا لله فاختصهم برسالته ، وجعلهم من خيرة خلقه (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ). لم أجد في فهرس الكتاب المقدس وقاموسه ذكرا لليسع وذي
الكفل ، والذي وجدته يشوع ابن نون خليفة موسى ، ويقال : انه اليسع ، ومهما كان
فإنه هو وذو الكفل تماما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب من الأنبياء الأصفياء. وتقدم مثله
في الآية ٨٥ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢١٨ والآية ٨٤ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٩٥.
المتقون والطاغون الآية
٤٩ ـ ٦٤ :
(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ
لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ
الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ
صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا
هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى
رِجالاً
كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ
عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))
اللغة :
مآب مرجع. وعدن
اقامة. وقاصرات الطرف ، على أزواجهن. وأتراب متساويات في السن. والمهاد الفراش.
والحميم شديد الحرارة. والغساق قيح شديد النتن. وأزواج ألوان. وفوج جمع كثير.
الإعراب :
جنات عدن بدل من
حسن مآب. ومفتحة حال من جنات عدن. والأبواب نائب فاعل. ومتكئين حال من ضمير لهم.
وقاصرات وأتراب صفة لمبتدأ محذوف أي عندهم حور قاصرات الخ. ومن زائدة اعرابا ونفاد
مبتدأ وله خبر. وهذا مبتدأ وخبره محذوف أي هذا شأنهم. وان للطاغين كلام مستأنف.
وجهنم بدل من شر مآب. وهذا مبتدأ وحميم خبر وغساق عطف عليه. وآخر مبتدأ ومن شكله
صفة وأزواج خبر ، وقيل : أزواج مبتدأ ثان ومن شكله خبره والجملة خبر المبتدأ
الأول. لا مرحبا دعاء عليهم ، وهو منصوب بفعل محذوف يجب إضماره على حد تعبير أبي
حيان الأندلسي أي لا تأتون رحبا وسعة. وسخريا مفعول ثان لاتخذناهم. ولحق خبر ان.
وتخاصم خبر لمبتدأ محذوف أي هو تخاصم أهل النار.
المعنى :
(هذا ذكر). هذا
إشارة الى الثناء على من ذكر سبحانه في الآيات السابقة كإبراهيم وإسماعيل وداود
وسليمان وغيرهم. وذكر أي شرف تذكرهم به الأجيال
(وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ). لمن اتقى حسن الأحدوثة في الدنيا ، وثواب الله ومرضاته في
الآخرة ، وهي (جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) يدخلونها بسلام لا يسألهم سائل ، ولا يمنعهم حاجب (مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها
بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ). متعة في الطعام والشراب والفراش ، وفوق ذلك كله حور عين
لا يمددن بطرفهن إلا لبعولتهن. وتقدم مثله في الآية ٤١ وما بعدها من سورة الصافات.
(هذا ما تُوعَدُونَ
لِيَوْمِ الْحِسابِ). وليس لما وعد الله من الخير مترك (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ
نَفادٍ) بل هو قائم الى الأبد ، حياة خالدة ، ونعمة دائمة (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) تماما عكس ما للمتقين ، لهؤلاء مقام أمين ، ولأولئك سواء
الجحيم (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها
فَبِئْسَ الْمِهادُ) فهم حطب لها ، وهي لهم غطاء ووطاء (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ). في تفسير الرازي ان في الكلام تقديما وتأخيرا ، والأصل :
هذا حميم وغساق فليذوقوه ، والحميم يحرق بحرّه ، والغساق صديد أهل النار (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ). لا يقف عذاب أهل النار عند الحميم والغساق ، بل هناك
أشكال أخرى من العذاب ، تتشابه في شدتها وقسوتها ، وتختلف في لونها ومظهرها
كالزقوم والسموم ، وما إلى ذلك مما لا عين رأت ولا اذن سمعت.
(هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ). يدخل المجرمون الى جهنم أفواجا ، فإذا دخل القوم اللاحقون
قال لهم السابقون : لا مرحبا بكم .. انكم في النار معذبون (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً
بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ قالُوا رَبَّنا مَنْ
قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ). هذا بكامله من كلام اللاحقين ، وفيه جواب للسابقين ،
استقبلهم هؤلاء بالشر ، فردوه عليهم مضاعفا .. وقولهم : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) يومئ الى ان الرؤساء المتبوعين يتقدمون التابعين الى جهنم
تماما كما تقدموا عليهم في الحياة الدنيا .. والهاء في «قدمتموه» تعود إلى العذاب
المفهوم من السياق .. ثم طلب التابعون من الله سبحانه أن يضاعف العذاب لمن خدعهم
وغرر بهم .. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١٦٦ من سورة
البقرة ج ١ ص ٢٥٥ والآية ٣٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٢٦ والآية ٣١ من سورة سبأ.
(وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ). ضمير قالوا للطغاة
المترفين ،
والمراد بالرجال هنا الضعفاء .. كان الأقوياء في الحياة الدنيا يسلبون أقوات
المستضعفين في الأرض ، ثم يتيهون بها عليهم ، لأنهم من وجهة نظرهم مجرد حيوانات
وأداة لما يبتغون ويشتهون.
الكادحون حيوانات
وأشرار .. ولما ذا؟ لأنهم يأكلون من عرق الجبين ، ولا يقضون الليالي الحمراء في
الكازينوهات ومواخير الدعارة .. أما الطغاة المترفون فنبلاء وأخيار لأنهم يفسدون
ويتنعمون على حساب البؤساء والمناضلين .. الفقراء أنذال لأنهم لا يمشون في الخفاء
.. أما المترفون فسادة أشراف لأنهم يتلونون بكل لون ، ويسلكون كل سبيل تدر عليهم
الأرباح والمكاسب .. وفي يوم الفصل تزول الأقنعة ، ويرى الخائنون مكانهم في نار
جهنم ، ولا يرون فيها أحدا ممن أسموهم بالأشرار ، فيعجبون ويتساءلون عنهم ، وعن
مقرهم؟ وسرعان ما يعلمون انهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فتذهب أنفسهم حسرات
ويزدادون ألما على ألم.
(أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ)؟ هذا من كلام الطغاة يسخرون به يوم القيامة من أنفسهم لأنهم
كانوا من الذين آمنوا يسخرون (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ). ذلك إشارة الى تلاعن أهل النار ، وقول بعضهم لبعض (لا مَرْحَباً بِكُمْ) وهو كائن لا محالة.
انما أنا منذر الآية ٦٥
ـ ٨٨ :
(قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ
نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ
بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢)
فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ
مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ
(٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ
لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))
اللغة :
المراد بالملإ
الأعلى الملائكة. وخلقت بيديّ أي من غير أب وأم بل بأسباب أخرى أنا أوجدتها. ومن
العالين أي من أهل الرفعة والعلو.
الإعراب :
رب السموات بدل من
الله الواحد. ان يوحى «ان» نافية. وانما «ما» زائدة ، والأصل اني نذير مبين ،
والمصدر من ان واسمها وخبرها نائب فاعل ليوحى أي ما يوحى إليّ إلا الانذار.
وساجدين حال. وأجمعون تأكيد. والمصدر
من أن تسجد مجرور
بمن محذوفة. واستكبرت الأصل أاستكبرت الهمزة الأولى للاستفهام والثانية همزة الوصل
، وحذفت هذه لمكان تلك.
المعنى :
(قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ). قل يا محمد للمشركين : أنا بشيركم ان توحدوا الله ،
ونذيركم أن تشركوا بعبادته أحدا ، فله وحده الملك والخلق والعزة والمغفرة لمن تاب
وأناب (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ). ضمير هو يعود إلى القرآن ، وأعرض عنه المشركون جهلا أو
عنادا وحرصا على مصالحهم .. ونعت سبحانه القرآن بالنبإ العظيم لأنه يرتكز بعقيدته
وشريعته وجميع مبادئه وتعاليمه على أساس الخير للجميع والتعاون مع الجميع.
الإسلام وفتاة انكليزية :
في شهر كانون
الثاني ١٩٧٠ قرأت محاضرتين ل «روجيه جارودي» ألقاهما في دار «الأهرام» بالقاهرة في
تشرين الثاني ١٩٦٩ ، وجارودي من قادة الفكر التقدمي الفرنسيين ، وحائز على لقب
بروفسور في الفلسفة ودكتور في الآداب ، وقد نشرت المحاضرتين مجلة «الطليعة»
المصرية عدد ١ ـ ١٩٧٠. ومما قاله في المحاضرة الأولى : «ان الفتح العربي لم يكن
غزوا ولا استعمارا ، وإنما هو في كل بلد فرصة لخلق حضارة من صنع الإسلام والحضارة
المحلية .. ان الفتح العربي قد سبب انتعاشا حقيقيا للاقتصاد العالمي رغم سيطرة
الاقطاعيين في السنوات الأولى من الفتح». وقال في المحاضرة الثانية : «نحن أمام
تراث سام عظيم من القيم الاسلامية التي تستطيع أن تسهم مساهمة كبيرة في التقدم
الاسلامي» ـ وقال ـ نرى «بيكون» المفكر الغربي الكبير يقول : ان الفلسفة كلها
نابعة من الإسلام».
وأيضا قرأت في
جريدة «الجمهورية» المصرية عدد ٢١ ـ ١ ـ ١٩٧٠ :
ان فتاة انكليزية
مثقفة اسمها «برجت هوني» دخلت الإسلام حديثا ، وروت قصتها لجريدة«الجمهورية» ،
وتتلخص بأن هذه الفتاة كانت كبقية الناس في الغرب تحمل أحقادا وشكوكا وشبهات حول
الإسلام ، وبعد أن قرأت بوعي وتجرد ترجمة معاني القرآن وبعض الكتب عن الإسلام
وتشبعت بتعاليمه وجدت نفسها مسلمة تلقائيا ومن حيث لا تشعر ، ثم قالت للجريدة : من
العسير أن أبيّن حقيقة الإسلام بكلام سريع لأنه كنموذج هندسي بديع كامل يكمل كل
جزء من أجزائه بقية الأجزاء الأخرى ، وسر جماله يكمن بانسجام هذه الأجزاء وتلاؤمها
، وهذه الصفة للإسلام هي التي تمارس تأثيرا عميقا على البشرية .. ان الانسجام
اللطيف في الإسلام بين متطلبات الجسد والروح له جاذبية قوية لدى الغرب اليوم ،
ويستطيع أن يؤثر في الحضارة الحديثة ، ويبين الطريق للغربيين المؤدية إلى النجاح
والخلاص الحقيقيين.
وحبذا لو سلك
شبابنا ـ ومنهم صاحب «نقد الفكر الديني» ـ مسلك هذه الفتاة ، فقرءوا القرآن
وتدبروا معانيه ، واطلعوا على بعض ما كتبه أهل الاختصاص عن الإسلام ، كما فعلت هذه
الفتاة الانكليزية ، ثم حكموا على الإسلام في ضوء ما قرأوا وما فهموا .. ان أقل
أثر يتركه تدبر القرآن وآياته في قلب الإنسان هو الايمان بعدالة قادر قاهر ، وانه
يجزي الذين أحسنوا بالحسنى والذين أساءوا بما عملوا .. وما ذا يبقى للإنسان ان حرم
من هذا الايمان؟.
(ما كانَ لِي مِنْ
عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا
أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ). المراد بالملإ الأعلى الملائكة ، وضمير يختصمون يعود
اليهم ، وهذا الكلام كله مفعول للقول ، والمعنى قل يا محمد للمشركين : لقد أخبرتكم
بحديث الملائكة حين قال لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وانهم قالوا له : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وما علمي بهذا لولا ان علمني ربي وأوحى به إلي ، أم ترون
أني أكذب على الله؟ وما أدعي أية منقبة لنفسي إلا الانذار لتعبدوا الله وحده رغبة
في ثوابه ورهبة من عذابه.
(إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ). المراد بروح الله هنا الحياة ، وقال أديب معاصر : بل
المراد ضمير الإنسان بالخصوص ، وان الله انما أمر الملائكة بالسجود لآدم لأنه علم
كم سيعذب الضمير ذلك المخلوق الذي له جسم الطين وروح الله : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ
فِي كَبَدٍ) ـ ٤ البلد أي في
مكابدة مستمرة وشقاء دائم (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ). قال صاحب «نقد الفكر الديني» في صفحة ٩٠ : «ان رفض السجود
لآدم من إبليس ينسجم كل الانسجام مع مشيئة الله». وهذا القول من صاحب النقد ينسجم
مع مذهب السنة القائلين : لا تلازم بين ما يأمر به الله وما يريد ، ولا بين ما
ينهى عنه وما يكره ، فقد يأمر بما يكره ، وينهى عما يحب (المواقف ٨ : ١٧٦)
واستدلوا على ذلك بأدلة منها ان الله أمر إبليس بالسجود لآدم مع انه تعالى لم يرد
ذلك منه ولو أراده لسجد إبليس لأن الله فعال لما يريد .. ولا ينسجم قول صاحب النقد
مع مذهب الشيعة الذين قالوا : ان لله إرادتين : ارادة الخلق والتكوين التي يعبر
عنها سبحانه بقوله : «كن فيكون» وارادة الطلب والتشريع التي يعبر عنها بالأمر
والنهي (انظر ج ١ ص ٧٢ فقرة التكوين والتشريع). والله سبحانه أراد السجود من آدم
بإرادة الطلب والتشريع ، لا بإرادة التكوين والإيجاد.
(قالَ يا إِبْلِيسُ ما
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعالِينَ). والله سبحانه يعبر عن الأسباب الطبيعية بيده لأنها تنتهي
اليه ، قال تعالى : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) ـ ٧١ يس. والمعنى
لما ذا امتنعت يا إبليس عن السجود لآدم؟ هل غلبت عليك شقوتك وأخذتك العزة بالإثم ،
فاستكبرت ووضعت نفسك فوق قدرها ، أم لأنك في حقيقتك وواقعك أجلّ وأعظم من آدم؟ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). أجاب إبليس بالشق الثاني وانه في حقيقته وواقعه أجل وأعظم
من آدم لأنه من نار ، وبها تدار المصانع ومنها الأسلحة الجهنمية أما آدم فهو «فلاح»
لأنه من ماء وتراب .. ونسي الخبيث أو تناسى ان الماء أصل الحياة وان الحضارة فرع.
(قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها) الخ. وتقدمت قصة خلق آدم وسجود الملائكة وامتناع إبليس في
سورة البقرة الآية ٣٠ ـ ٣٤ ج ١ ص ٧٩ ـ ٨٣ ، والآية ١١ ـ ١٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص
٣٠٥ ـ ٣١٠ والآية ٢٦ ـ ٤٤ من سورة الحجر ج ٤ ص ٤٧٣ ـ ٤٧٩ والآية ٦١ ـ ٦٥ من سورة
الإسراء ج ٥ ص ٦١ ـ ٦٣ والآية ٥٠ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٣٦.
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). ضمير عليه يعود الى
التبليغ والتذكير
، والتكلف التصنع ، والمراد به هنا الكذب ، والمعنى قل يا محمد للذين كذبوك : انما
أنصحكم لوجه الله لا أريد منكم جزاء ولا شكورا ، وما أنا بمفتر على الله ، كيف
ولديّ كتاب ينطق بالحق ويعجز العقول والألسن أن يأتوا بسورة من مثله (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ممن له قلب أو ألقي عليه السمع وهو شهيد (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). سيتبين لكم عما قليل أيها المكذبون بالقرآن أنه الحق الذي
لا ريب فيه ، يتبين لكم ذلك في الحياة الدنيا حيث يدخل الناس في دين الله أفواجا ،
وأيضا يتبين الحق في الآخرة حيث تثبت الحقائق ، وتضمحلّ الأباطيل.
سورة الزّمر
٧٥ آية مكية. وقيل
: إلا ٣ آيات.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
لله
الذين الخالص الآية ١ ـ ٤ :
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ
أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ
سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))
اللغة :
الزلفى القربى.
الإعراب :
تنزيل مبتدأ ،
وخبره «من الله» ويجوز أن يكون تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف
ومن الله متعلق
بتنزيل أي هذا تنزيل الكتاب. وبالحق متعلق بأنزلناه. ومخلصا حال من ضمير فاعبد.
وألا أداة تنبيه. والذين مبتدأ والخبر محذوف أي يقولون ما نعبدهم. وزلفى مفعول
مطلق مثل قمت وقوفا.
المعنى :
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). القرآن من عند الله الذي خلق الخلائق بقدرته ، ودبرها
بحكمته (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ). قد يقال : ان النبي (ص) على يقين بأن القرآن من لدن عزيز
حكيم ، وانه يعبد الله مخلصا له الدين ، اذن ، فما الغرض من هذا الأمر ، وذاك
الإخبار؟.
الجواب : لقد أوذي
النبي (ص) ، وتحمل الكثير ، فقال له سبحانه : انك تدعو إلى الحق ، ومن دعا اليه في
محيط مثل بلدك لا بد أن يدفع الثمن من نفسه أو أهله أو ماله .. وأيضا أنت مخلص لله
في جميع أقوالك وأفعالك ، ومن أخلص لله لاقى الكثير من أعدائه. وبتعبير ثان ليس
قوله تعالى : (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الْكِتابَ) مجرد إخبار ، ولا قوله : (فَاعْبُدِ اللهَ) مجرد أمر ، بل هما شهادة للنبي بالعظمة وتسلية عما يقاسي
من أعداء الله والحق.
(أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ) من كل شائبة ، أما الدين المشوب بالرياء والأهواء فهو
للشيطان ، لا للرحمن .. ولا يكون هذا الدين الخالص إلا لمن يجعل منه مثله الأعلى ،
ويضحي من أجله بنفسه وجميع منافعه ، ولا يضحي به لأجل منفعته ومصلحته (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى). عاد سبحانه الى المشركين وأخبر أنهم يتخذون من دون الله
أربابا ليشفعوا لهم عنده. وتقدم مثله في الآية ١٨ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٤.
(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). لا يختلف المشركون فيما بينهم على الشرك ، وانما يختلف
المشركون والموحدون ، والله سبحانه يفصل بين الفريقين فينعم على من وحّد واتقى ،
وينتقم ممن أشرك وبغى (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ). انه تعالى يهدي من سلك سبيل الهداية ، ويضل من اختار طريق
الضلال ، ويهلك من ألقى بيديه الى التهلكة ، وينجي من احتاط وتجنب المهالك.
(لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ). هذا من فرض المحال ، وفرض المحال ليس بمحال ، والوجه في
امتناعه ان اتخاذ الولد يستدعي بطبعه الحاجة والافتقار اليه ، والله غني عن كل شيء
.. هذا ، الى ان كل والد فهو موروث ، وكل موروث فهو هالك ، فكل والد هالك ، فكيف
يكون الله والدا (سُبْحانَهُ هُوَ
اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) لا شريك له ولا كفؤ ولا صاحبة ولا ولد. لا شيء إلا هو.
يكور النهار على الليل الآية
٥ ـ ٨ :
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ
لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً
إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))
اللغة :
التكوير اللف ،
ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض ، والمراد بتكوير الليل والنهار تكوير
الأرض بالأصل والليل والنهار بالتبع ، ويأتي المزيد من البيان في الشرح. والظلمات
الثلاث هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. وتصرفون أي عن الصدق إلى الكذب
وعن الحق إلى الباطل. والوزر الذنب. ومنيبا راجعا. وخوّله أعطاه.
الإعراب :
ذلكم مبتدأ والله
عطف بيان وربكم خبر ، وله الملك مبتدأ وخبر والجملة خبر ثان لذلكم. وانّى تصرفون
أي إلى أين تصرفون. ومنيبا حال من ضمير دعا. وقليلا أي زمنا أو تمتعا قليلا.
المعنى :
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ). قلنا فيما سبق : ان لله كتابين : كتاب ناطق مسطور ، وهو
القرآن ، وكتاب صامت منظور ، وهو الكون ، وان هذا الكتاب بما فيه من وحدة التصميم
وحكمة التنظيم يدل دلالة قاطعة على وحدة المصمم وحكمة المنظم .. أما الصدفة فإنها
ان صدقت في شيء فإنها لا تصدق في كل شيء ، ولا تتكرر مرات في الشيء الواحد.
وقال صاحب الظلال
وهو يتكلم عن هذه الآية : ان التعبير بيكوّر يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية
الأرض .. انها تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها
المكور يغمره الضوء ويكون نهارا ، ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور ، وكلما
تحركت بدأ الليل يغمر سطح الأرض الذي كان عليه النهار ، وهذا السطح مكور فالنهار
عليه يكون مكوّرا ، والليل يتبعه مكورا ، وهكذا في حركة دائبة».
وكلمة التكوير غير
بعيدة في دلالتها عن كروية الأرض ، ومن أجل هذا فنحن مع صاحب الظلال في قوله : ان
التعبير بيكور يستدعي النظر في كروية الأرض. وقال مصطفى محمود في مجلة «صباح الخير»
كما قال صاحب الظلال دون أن يشير اليه ، ولا أدري ان كان هذا من باب توارد الخاطر.
وتقدم نظيره في سورة يس الآية ٣٧ ، ولم ترد فيها كلمة التكوير ، وعند شرحها أشرنا
إلى دوران الأرض حول نفسها ، وان جانبها الذي يحاذي الشمس حين الدوران يكون نهارا
، وغير المحاذي يكون ليلا.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) تقدم في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣ والآية ٢٩ من
سورة لقمان و ١٣ من سورة فاطر (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها). تقدم في الآية ١ من سورة النساء ج ٢ ص ٢٤٢ والآية ١٨٩ من
سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٣٤ (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ). تقدم في الآية ١٤٣ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٧٤.
(يَخْلُقُكُمْ فِي
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ
اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ). خلقا من بعد خلق إشارة إلى ما جاء في الآية ٥ من سورة
الحج : (فَإِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ) ج ٥ ص ٣١٠ ، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم
والمشيمة ، وهذا الارتقاء من طور لآخر داخل هذه الظلمات دليل قاطع على وجود الباري
المصور .. وإذا كان هذا الارتقاء من صنع الطبيعة مباشرة فإن الطبيعة من صنع من
يقول للشيء «كن فيكون» ولا يعمى عن هذا إلا أعمى ، قال الإمام علي (ع) :
أيها المخلوق
السوي والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ، ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين
، ووضعت في قرار مكين الى قدر معلوم ، تمور في بطن أمك جنينا لا تحير دعاء ولا تسمع نداء ، ثم أخرجك
من مقرك الى دار
__________________
لم تشهدها ، ولم
تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك ، وعرفك عند الحاجة مواضع
طلبك وارادتك؟
(إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ). فلا تضره معصية من عصى ، ولا تنفعه طاعة من أطاع ، (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي الرضا عنكم ان كنتم متقين (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ). قال الأشاعرة : ان الله مريد لجميع الكائنات حتى كفر
الكافر وزنا الزاني وقتل القاتل ظلما وعدوانا لأنه خالق كل شيء ، ومع ذلك فهو ينهى
عن الكفر والزنا والقتل (المواقف ج ٨ ص ١٧٣) أما التكليف بما لا يطاق فجائز عند
الأشاعرة لأن الله لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء (نفس المصدر ص ٢٠٠). ولا
شيء أوضح في الدلالة على بطلان هذا المذهب من قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ).
(وَإِنْ تَشْكُرُوا
يَرْضَهُ لَكُمْ). وما يرضاه لنا فهو أمان ورحمة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تجزي نفس عن نفس شيئا. وتقدم بالنص الحرفي في الآية
١٦٤ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٩٣ والآية ٥ من سورة الإسراء والآية ١٨ من سورة فاطر (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). اليه تعالى مصائر الخلق ، وبيده جزاء الأعمال ، وهو
العليم بسرائر أصحابها وما يهدفون من ورائها.
(وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً
مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ). مسه أصابه ، والضر ما يؤذي ويسوء ، والإنابة الرجوع الى
الله ، وخوله أعطاه ، والأنداد الأشباه ، والمعنى ان الإنسان إذا أصيب بنفسه أو
أهله أو ماله التجأ الى خالقه خاشعا متضرعا ، فإذا كشف كربه وضره ، وأسبغ عليه من
جوده وكرمه نسي تضرعه إلى خالقه ، واتجه الى غيره بالعبادة والطاعة .. وفي الآية
إيماء الى ان الإنسان حين الضراء يعود الى فطرته التي فطره الله عليها. وتقدم مثله
في الآية ١٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٩ والآية ٥٤ من سورة النحل ص ٥٢١ من المجلد
المذكور والآية ٦٧ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٦٥.
(قُلْ تَمَتَّعْ
بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ). هذا تهديد ووعيد لمن
يؤمن عند الشدة ،
ويكفر عند الرخاء ، وما من شك ان متاع الدنيا مع الكفر وخيم العاقبة.
يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه الآية ٩ ـ ١٦ :
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ
اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ
دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ
هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ
وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ
فَاتَّقُونِ (١٦))
اللغة :
قانت قائم
بالطاعة. وآناء جمع آن أي ساعة من الزمن. وظلل جمع ظلة أي ما يستظل به من حر أو
برد.
الإعراب :
أم للاستفهام. ومن
مبتدأ وخبره محذوف أي كمن ليس بقانت. وهو قانت مبتدأ وخبر والجملة صلة لمن. وساجدا
حال من ضمير قانت. وللذين أحسنوا خبر مقدم وحسنة مبتدأ مؤخر. وان أعبد أي بأن
أعبد. ولأن أكون أي من أجل أن أكون وقيل : اللام زائدة. الله أعبد ، الله مفعول
مقدم. ومخلصا حال. وظلل مبتدأ ولهم خبر ومن النار صفة. ذلك يخوف مبتدأ وخبر. يا
عباد فاتقون أي يا عبادي فاتقوني.
حتى الأنبياء يفعلون رغبة ورهبة :
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ). بعد أن ذكر سبحانه من يؤمن عند الضراء ، ويكفر عند السراء
عقبه بقوله : ليس سواء عند الله هذا الذي يؤمن في الشدة دون الرخاء ، ومن يعبد
الله في جميع حالاته ، ولا تزيده النعمة إلا ايمانا وشكرا وسجودا وركوعا في ظلمة
الليل والناس نيام ، ولا يفعل شيئا إلا رغبة في ثواب الله ورهبة من عذابه.
وفي الآية إيماء
إلى ان الإنسان لا ينقاد إلا بدافع الرغبة والرهبة تقيا كان أم شقيا ، والفرق ان
الشقي يفعل ويترك رغبة في زينة الدنيا وحلاوتها أو رهبة من همها ومرارتها ، أما
التقي فإنه يفعل ويترك رغبة في حرث الآخرة ونعيمها ، ورهبة من عذابها وجحيمها ،
وهذا ينطبق حتى على الأنبياء المعصومين الذين وصفهم الله بقوله : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) ـ ٩٠ الأنبياء ج ٥
ص ٢٩٦.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ). ليس المراد بالعلماء هنا الذين حفظوا الشروح والمتون ،
ولا الذين اكتشفوا قوى الطبيعة ، واخترعوا العقول الألكترونية والصواريخ عابرة
القارات ، وغزوا الفضاء وصعدوا إلى القمر أو المريخ .. كلا ، انما المراد بهم
العاملون لخير الانسانية جمعاء ، وتحرير المعذبين في الأرض وخلاص الناس من البؤس
والشقاء ، أما العلماء اللامبالون أو الذين باعوا دينهم وأنفسهم للأبالسة
والشياطين ، لجلادي الشعوب ،
فاخترعوا لهم
الأسلحة الجهنمية ، أما هؤلاء فهم كالأنعام بل أضل سبيلا .. ولا يدرك هذه الحقيقة
إلا أولو العقول والأبصار.
(قُلْ يا عِبادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ). لأن الايمان بلا تقوى والعمل الصالح لا يجدي نفعا ، ومن
أجل هذا ذهب جمع من العلماء إلى ان العمل الصالح جزء من الايمان الحق (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ
الدُّنْيا حَسَنَةٌ). هذا كلام مستأنف ومنقطع عن سابقه ، ومعناه من يعمل مثقال
ذرة خيرا يره (وَأَرْضُ اللهِ
واسِعَةٌ). فمن ضاق عليه بلده وعجز عن القيام فيه بواجبه الديني أو
الدنيوي فليهاجر الى غيره ، وتقدم مثله في الآية ٩٧ من سورة النساء ج ٢ ص ٤١٩.
(إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي الصابرون على الشدائد صبر الأحرار الذين يرتفعون فوق
الأحداث ، ويرفضون الاستسلام للفقر والذل ، أما الذين يخضعون للاقوياء ويجبنون
أمام الطغاة فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ). أبدا لا فرق بين النبي وغيره .. انه عبد مأمور بالإخلاص
لله في جميع أقواله وأفعاله كأي انسان (وَأُمِرْتُ لِأَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) دعا الرسول الأعظم (ص) الى الإسلام بعد ان سبق الناس اليه
لأنه منسجم مع نفسه يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل.
(قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). محمد (ص) يخاف الله لأنه لا براءة معه من الله ، ولا حجة
له عليه ، بل لله الحجة على محمد (ص) وعلى جميع خلقه .. وأعظم ما في محمد انه مطيع
لله مخلص له في العبودية سابق الى الخيرات يتلقى الوحي من ربه ويؤديه على وجهه : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ
وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ـ ٩ الأحقاف.
(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) مرة ثانية يؤكد محمد (ص) بأمر الله انه عبد مأمور. قال
المستشرق الانكليزي «هاملتون جب» الأستاذ في جامعة اكسفورد في كتاب «دراسات في
حضارة الإسلام» ، قال : «يرفض القرآن فكرة الوساطة بين الله والإنسان .. ويضع
الإنسان أمام خالقه دون عناصر وسائطية روحية أو شخصية». وهذه هي الميزة الكبرى
للإسلام على جميع الأديان.
(فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ). هذا أبلغ أسلوب يعبر عن غضب الله وتهديد من اتخذ معبودا
من دونه (قُلْ إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ). خسروا أنفسهم لأنهم الى جهنم وبئس المصير ، وخسروا أهليهم
لأن المشرك منهم هالك ، والمؤمن عدو لمن أشرك في الدنيا والآخرة (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ
النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ). أي ان عذاب الحريق أطبق عليهم من كل جانب.
(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ
بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ). بيّن لهم سبحانه عذاب الآخرة وشدته ليبتعدوا في الدنيا عن
أسبابه بالطاعة والإخلاص ، وإلا فإنهم ذائقوه لا محالة.
وقال قائل : ان
الجنة هي اللذة الروحية : والنار الألم النفسي ، وان كل ما جاء في القرآن من
أوصافهما الحسية فإنما هو ألوان من ضرب الأمثال والتقريب الى الأذهان حيث لا أمنية
للبدوي إلا أن يحظى بالعسل واللبن والخمر والحور العين ، واستدل هذا القائل بقوله
تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ
اللهُ بِهِ عِبادَهُ) لأن معناه في مفهومه ان الله ذكر ألفاظ العذاب لمجرد
التخويف ولا حقيقة لدلالة هذه الألفاظ ولا واقع لمداليها .
ونجيب بأن كل لفظ
ورد في كتاب الله وسنّة نبيه يجب العمل بظاهره إلا أن يرفضه العقل ، وعندئذ نصرفه
إلى معنى مجازي يتحمله اللفظ ، ولا يأباه العقل ، ولا شيء من أوصاف الجنة والنار
التي ذكرها القرآن يتنافى مع العقل ، وعليه يجب إبقاء اللفظ على ظاهره ، ولا مبرر
للتأويل ، أما قوله تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ
اللهُ بِهِ عِبادَهُ) فمعناه انه يبين لهم الحقيقة والواقع ليحتاطوا منه
ويبتعدوا عن الأسباب المؤدية اليه والذي يفرض ارادة هذا المعنى نفس الآيات التي
ذكرت أوصاف النار وشدائدها (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ـ ٦٤ ص.
أما القول بأن
رحمة الله لا تتفق مع عذاب هذا الإنسان المسكين الذي لا يساوي
__________________
ذرة أو هباء ،
عذاب هذا الضعيف بنار لها كلب ولجب ، أما هذا القول فجوابه ان الله سبحانه أعد
العذاب الشديد الأليم للذين يفسدون في الأرض ، ويسفكون الدماء ، ويستعبدون الشعوب
، ويدمرون الحياة بالأسلحة الجهنمية ، ويقتلون الألوف في دقائق معدودات .. وجهنم
بجميع أوصافها القرآنية هي أقل وأدنى جزاء لهؤلاء ، وهي عين العدل بل والرحمة أيضا
، وسلام على من قال : «لا يشغله تعالى غضب عن رحمة ، ولا تلهيه رحمة عن عقاب».
أنظر ج ٥ ص ٤٥٩ فقرة «جهنم والأسلحة الجهنمية».
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية
١٧ ـ ٢١ :
(وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ
الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ
أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ
تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ
غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ
زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))
اللغة :
الطاغوت مصدر
بمعنى الطغيان مثل ملكوت ورحموت والمراد به هنا ما تكون
عبادته سببا
للطغيان. ويهيج يجف ويبلغ نهايته في اليبوسة. والحطام ما تكسر من الشيء اليبس ،
والمراد به هنا التبن.
الإعراب :
المصدر من ان
يعبدوها بدل اشتمال من الطاغوت. والذين يستمعون مبتدأ وأولئك الذين هداهم الله
خبر. وأولئك هم أولو الألباب مبتدأ وخبر وهم ضمير الفصل. أفمن «من» مبتدأ وخبره
محذوف أي كمن نجا من العذاب. وألوانه فاعل مختلفا. وحطاما مفعول ثان ليجعله.
المعنى :
(وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ
الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ). المراد بالطاغوت هنا الأصنام ، ولذا عاد الضمير عليها
مؤنثا .. بشّر سبحانه بالنجاة من نبذ الشرك وأطاع الله ، وان بدرت منه بادرة تاب
إلى خالقه وأناب (الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ
اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). ليس المراد بحسن القول حسن الكلمات وفصاحة الأسلوب ،
وانما المراد به ما نفع دنيا وآخرة ، فإن كان مضرا فهو قبيح ، أما القول الذي لا
يضر ولا ينفع فإنه لا يوصف بحسن ولا بقبح ، أما الوصف بالأحسن فهو نسبي ـ مثلا ـ رد
التحية بمثلها حسن ، وكذا القصاص بالمثل ممن اعتدى عليك ، ولكن العفو أحسن من
القصاص ، ورد التحية بخير منها أحسن من ردها بمثلها.
وقول الله تعالى
أحسن من كل قول أيا كان قائله ، ولا شيء منه تعالى أحسن من شيء قولا كان أو فعلا
لأن الأشياء بالنسبة اليه سواء ، والذين يستمعون قول الله ، ويعملون به هم
المهتدون عند الله إلى معرفة الأحسن والآخذون باللباب دون القشور. وفي نهج
البلاغة: «أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر ، وارغبوا فيما وعد المتقين فإن
وعده أصدق الوعد ، واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته فإنها أهدى
السنن ، وتعلموا القرآن فإنه
أحسن الحديث ،
وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب».
(أَفَمَنْ حَقَّ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) كمن أنجاه الله منه (أفأنت ـ يا محمد ـ تنقذ من في النار).
كلا ، لا وسيلة للانقاذ والخلاص من عذاب الله إلا العمل الصالح وعفو الله وكرمه ،
جلت حكمته ، وليس من شك ان من لج وتمادى في الغي والضلال فلا ينظر الله اليه : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ ٧٧ آل عمران (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ). هذا على طريقة القرآن يقرن البشارة بالإنذار ، والوعد
بالوعيد ، وذكر المتقين وثوابهم بذكر الطاغين وعقابهم ، فلهؤلاء من فوقهم ظلل من
النار ومن تحتهم ظلل ، ولأولئك غرف في الجنة فوقها غرف .. هذا وعده تعالى ووعيده ،
ومن أصدق من الله حديثا؟.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ). ينزل المطر من السماء ، فيجري على سطح الأرض ، ثم ينفذ في
جوفها ، فيكوّن عيونا وينابيع تنفع الناس .. فهل هذا صدفة ، أو من تدبير عليم حكيم؟
(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ
زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ). فهل هذا النبات المختلف لونا وطعما من صنع الطبيعة بما هي
أو بعناية خالق الطبيعة بما فيها؟ وإذا كانت الحياة بشتى ألوانها من نتاج الطبيعة
وخصائصها فلما ذا ظهرت الحياة في بعض أطراف الطبيعة وأجزائها دون بعض؟
(ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَراهُ مُصْفَرًّا) ثم يجف النبات الأخضر ويصفّر في أوانه وعند بلوغه (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا متكسرا (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ). ان في انزال المطر ، وإنبات النبات واخضراره ثم اصفراره
ثم فتاته على وفق الحكمة والمصلحة ، ان في ذلك كله تذكيرا بالبارئ المبدع .. وإذا
كان هذا من الماء والتراب فمن الذي أوجد الماء والتراب والكون بما فيه. انظر ج ٣ ص
٢٣١ فقرة «من أين جاءت الحياة» وج ٥ ص ٧٩ فقرة «الروح من أمر ربي ، والله وعلم
الخلايا».
شرح الله صدره للاسلام الآية
٢٢ ـ ٢٤ :
(أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ
سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ (٢٤))
اللغة :
شرح صدره لكذا
اتسع له واطمأن اليه. وأحسن الحديث القرآن. والمراد بالمتشابه هنا ان القرآن
بكامله على نسق واحد أسلوبا ومحتوى : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ـ ٨٢ النساء.
ومثاني جمع مثنى ، وهو عبارة عن الأمر والنهي والوعد والوعيد وما إلى هذا ، وقيل :
المراد بالمثاني هنا إيراد المعنى بأكثر من أسلوب ، ومهما يكن فإن معنى مثاني غير
المعنى المراد منه في الآية ٨٧ من سورة الحجر. وتقشعر كناية عن الخوف عند ذكر
الوعيد بالجحيم. وتلين كناية عن الاطمئنان عند ذكر الوعد بالنعيم.
الإعراب :
أفمن شرح «من»
مبتدأ وخبره محذوف أي كمن قسا قلبه ، ومثله أفمن يتقي.
وكتابا بدل من
أحسن الحديث. ومتشابها صفة كتاب. ومثاني صفة ثانية. وجملة تقشعر صفة ثالثة.
المعنى :
(أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). من توكل على الله كفاه ، ومن طلب الهداية هداه ، فإذا علم
الخير من عبده وانه يطلب معرفة الحق للعمل به أخذ سبحانه بيده وأرشده إلى بغيته
وجعله على بينة من أمره : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) ـ ١٤٥ آل عمران.
(فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ). قست ولم تمل لهداية على الرغم من العظات والعبر والتحذير
والتبشير (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) وعذاب مهين. قال الحافظ محمد بن أحمد الكلبي في كتاب
التسهيل لعلوم التنزيل : «روي ان الذي شرح الله صدره للإسلام علي بن أبي طالب
وحمزة ، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده».
ثم وصف سبحانه
القرآن بالأوصاف التالية :
١ ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) في عقيدته وشريعته ومواعظه وحكمه وجميع مبادئه وتعاليمه.
٢ ـ (كِتاباً مُتَشابِهاً) أسلوبا ومحتوى ، ولا تهافت بين معانيه لأنها من إله عليم
حكيم.
٣ ـ (مثاني) أي
تثنى أحكامه ومواعظه ، فهو يجمع بين الأمر والنهي ، وبين الوعد والوعيد وما إلى
ذلك ، وفي كتاب «النواة في حقل الحياة» للشيخ العبيدي : «في القرآن صور الكائنات
أمثالا وأضدادا ، ثم يهيب بك فيما يخص الفضائل بصوت الآمر المشفق ، وفيما يخص
الرذائل بصوت الزاجر الجبار ، وفيه طمأنينة العابد وزمجرة القائد».
٤ ـ (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) هذا كناية عن خوف المؤمنين حين يسمعون وعيد الله وتهديده
بالجحيم ، ومثله قول الإمام علي في وصف المتقين : وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها
معذبون.
٥ ـ (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) كناية عن اطمئنانهم حين يسمعون وعد الله وبشارته بالنعيم ،
ونحوه قول الإمام علي (ع) : وهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون.
(ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ). يدع الله سبحانه الإنسان وما يختار ، فمن اختار لنفسه
الموت والانتحار بأحد أسبابه أماته الله ، ومن اختار لها الحياة بأسبابها أحياه
لأجل مسمى ، وكذلك من اختار لنفسه الهدى وسلك سبيله هداه الله وشمله بعنايته ، وما
له من مضلّ ، ومن اختار لها الضلال وسلك مسلكه أضله الله ، وما له من هاد ، وكفى
دليلا على ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ـ ٥ الصف أي لا
يهدي الذين اختاروا لأنفسهم بأنفسهم الفسق والفساد ، وقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ـ ١٧ فصلت وقوله :
(وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ١٧ محمد أي
طلبوا الهدى والتقوى بإخلاص فأرشدهم الله اليه.
(أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ). ليس سواء من يغمره العذاب من فرع إلى قدم ، ومن هو في
أمان منه .. وانما ذكر سبحانه الوجه بالخصوص لأنه أعز الأعضاء على الإنسان وأشرفه
، وبه يتميز عن غيره (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ
ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ). تماما كما تدين تدان ، وكما تزرع تحصد ، وما قدمت اليوم
تقدم عليه غدا ، كما قال الإمام علي (ع).
قرأنا عربيا غيرذي عوج الآية ٢٥ ـ ٣١ :
(كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥)
فَأَذاقَهُمُ
اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ
مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ
مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ (٣١))
اللغة :
غير ذي عوج مستقيم
على الحق والعدل في جميع معانيه. ومتشاكسون مختلفون. وسلما أي خالصا.
الإعراب :
قرآنا حال مؤكدا
من القرآن. وعربيا صفة. وغير ذي عوج صفة بعد صفة. وضرب هنا بمعنى جعل ومثلا مفعول
أول ورجلا مفعول ثان وقيل : ان رجلا بدل من «مثلا». وفيه خبر مقدم وشركاء مبتدأ
مؤخر ومتشاكسون صفة لشركاء. ويستويان مثلا ، «مثلا» تمييز.
المعنى :
(كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذاقَهُمُ
اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ). ضمير
قبلهم يعود الى
مشركي مكة الذين كذبوا رسول الله (ص) ، وتقول لهم الآية : أتكذّبون نبيكم محمدا ،
ولا تعتبرون بما أصاب الأمم الماضية من الهلاك لأنهم كذبوا أنبياءهم؟ وتكرر هذا
المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١٤٨ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٧٨ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). حوى القرآن من التعاليم ما يكفل للناس حياة طيبة آمنة في
كل عصر وقطر ، فقد بيّن لهم ما فيه الخير والصلاح وأمرهم به ، وما فيه الشر
والفساد ونهاهم عنه بأساليب متنوعة ، وأمثال واضحة ليتعظوا ويستقيموا. وتقدم مثله
في الآية ٥٤ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٣٩ والآية ٥٨ من سورة الروم.
ترجمة القرآن :
(قُرْآناً عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). القرآن عربي لغة ، وانساني دينا ومبدأ لا يحده زمان ومكان
، ولا قومية وعنصرية : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ـ ٢٨ سبأ ، وهو
مستقيم في مبناه ومحتواه ، لا لبس فيه ولا انحراف لأنه من لدن عليم حكيم يهدف الى
هداية الناس وإرشادهم الى جادة الحق وصراطه القويم. وتقدم مثله في الآية ٢ من سورة
يوسف ج ٤ ص ٢٨٦ والآية ٣٧ من سورة الرعد والآية ٢٠ من سورة طه.
وتسأل : هل تجوز
ترجمة القرآن الى اللغات الأجنبية؟ ومع الجواز هل تجري احكام القرآن على ترجمته
فلا يمسها إلا المطهرون؟
الجواب : لا شبهة
ولا ريب في جواز ترجمة القرآن الى كل اللغات ، بل ورجحانها أيضا لأن القرآن هو
رسالة الله والإسلام الى الانسانية كلها ، والترجمة عامل أساسي على بث هذه الرسالة
الإلهية المحمدية وانتشارها .. وقد أسلم جماعة أو عرفوا حقيقة الإسلام عن طريق
ترجمة القران ، وبالأمس القريب أسلمت فتاة انكليزية مثقفة بعد أن قرأت ترجمة معاني
القرآن الى لغتها. انظر فقرة «الإسلام وفتاة انكليزية» عند تفسير الآية ٦٨ من سورة
ص.
وتجدر الاشارة الى
ان القرآن مترجم الى ٢٧ لغة ، وأول ترجمة له كانت
سنة ١١٤٣ ميلادية (مجلة
اللسان العربي. «الرباط» عدد كانون الثاني ١٩٦٩).
وأيضا لا شك ان
ترجمة القرآن لا تجري عليها أحكام القرآن. أولا لأن العربية من خصائص القرآن
ومقوماته : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) ـ ٢ يوسف. فإذا
زالت عنه هذه الصفة تبعتها الصفة القرآنية حتما. ثانيا ان الترجمة في واقعها انما
هي لمعاني القرآن ، لا للقرآن بالذات. وبكلام أوضح ان القرآن عبارة عن الفصاحة
العربية ومعانيه الحقيقية ، وكل منهما جزء متمم للآخر بالنسبة الى القرآن ، فإذا
زال أحد الجزئين ذهبت جنسية القرآن ، وأصبح الجزء الباقي شيئا غير القرآن .. وعليه
يكون حكم ترجمته تماما كحكم تفسيره .. أجل ، ان حكم اسم الله تعالى وصفاته هو حكم
القرآن بالذات يحرم مسه ومسها على غير المطهرين مهما كانت اللغة.
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ
مَثَلاً)؟ هذا المثل ضربه سبحانه للمشركين المكذبين برسالة محمد (ص)
، وتوضيحه ان المشرك الذي يعبد أكثر من واحد هو أشبه بعبد مملوك لجماعة مختلفين في
الرأي والأخلاق ، ولا يتفقون على شيء ، وكل واحد منهم يطلب من العبد ما يناقض طلب
الآخر ، ولا يستطيع العبد تلبية الجميع وارضاءهم ، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يغضب
واحدا منهم ، فهو معهم أبدا ودائما تائه في فكره وحائر في أمره لا يدري ما ذا يصنع؟
أما المؤمن الموحد
فهو أشبه بعبد يمتلكه رجل واحد ولا يطلب منه إرضاء أحد سوى مولاه الحكيم فيما يأمر
وينهى ، وقد استراح كل منهما للآخر ، فالسيد لا يكلف العبد ما لا يطيق ، والعبد
يسمع ويطيع ، وهو طيب النفس لأنه على يقين من مرضاة مولاه .. فهل هذا الرجل الذي
هو سلم لمولاه الواحد الحكيم ولا يخضع إلا له وحده ، وذاك الرجل الذي يطلب منه أن
يخضع ويطيع الرعناء المتشاكسين هل هما سواء؟ كلا : (أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ـ ٣٩ يوسف.
(الحمد لله) الذي
عزز دينه ورسوله بالحجج الدامغة والبينات الواضحة ، وخذل أعداءه المبطلين وردهم
على أعقابهم خاسئين (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) ان المشرك كالعبد المملوك الرعناء متشاكسين (انك ميت ـ يا
محمد ـ وانهم
ميتون) لأن الموت
نهاية كل حي نبيا كان أو غير نبي ، ولا يبقى إلا وجهه الكريم ، جلت عظمته ، ولكن
أعداء محمد (ص) يموتون موت الكفر والجهل ، ولا يبقى لهم من أثر إلا الذم واللعن ،
أما رسالة محمد (ص) فخالدة مدى الحياة ، ويبقى اسمه مقرونا بالصلوات والتحيات إلى
آخر يوم (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ). المراد بالخصومة هنا ان النبي (ص) يشهد عليهم أمام الله
يوم القيامة بأنه قد بلغهم رسالات ربهم : (وَجِئْنا بِكَ
شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) ـ ٨٩ النحل.
الجزء الرّابع والعشرون
أليس الله بكاف عبده الآية
٣٢ ـ ٣٧ :
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ
اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ
اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))
اللغة :
المثوى المكان
الذي يثوي فيه الإنسان إذا أقام فيه.
الإعراب :
فمن استفهام
انكاري ومحلها الرفع بالابتداء وأظلم خبر. والذي جاء مبتدأ ، والمراد به الجنس حيث
أخبر عنه بالجمع ، وهو أولئك هم المتقون. والمصدر من ليكفروا متعلق بيشاءون. وبكاف
الباء زائدة إعرابا وكاف خبر ليس ومثله بعزيز. وعبده مفعول كاف لأنه بمعنى يكفي.
المعنى :
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ)؟ فجعل له شريكا أو ولدا .. وشر القول
الكذب ، وأعظم
الكذب شرا الكذب على الله ورسوله (وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) من الله على لسان رسله .. وهكذا أرباب المصالح والمنافع في
كل مكان وزمان يكذّبون الصدق ويصدّقون الكذب لأن مصالحهم تقوم على الزور والباطل ،
ومما قرأته في هذا الباب : ان من أعظم الكذب أن يقول الكاذب : الله يعلم أني لصادق
(أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) بلى ، انها مثوى ومأوى لهم ولكل طاغ وباغ.
(وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). رسول الله (ص) جاء بالصدق من عند الله ، والمسلمون صدقوا
ما جاء به ، وهم عند الله من الأبرار إذا اتقوه في محارمه ، وإلا فإن التصديق بلا
عمل لا يجديهم عند الله نفعا (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي المتقين محارم الله لأن الحديث عنهم ، ولم يحدد سبحانه
في هذه الآية جزاءهم بشيء معين ، بل ترك الخيار لمشيئتهم.
(لِيُكَفِّرَ اللهُ
عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ). ان الله يغفر الذنوب جميعا كبيرها وصغيرها لمن تاب وآمن
وعمل صالحا ، ويجزي سبحانه العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته بأحسن من طاعتهم
وشكرهم (أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). المراد بعبده محمد (ص) ، وهو سبحانه كافيه شر من يريد به
الشر ، والمراد بالذين من دونه الأصنام لأن ضمير دون يعود إليه تعالى. وقال جماعة
من المفسرين : ان رسول الله (ص) لما ذكر الأصنام بسوء قالت قريش : لئن لم ينته
محمد عن ذكر آلهتنا لنسلطنها عليه ، فتصيبه بخبل أو تعتريه بسوء .. فأنزل الله
سبحانه هذه الآية .. وليس هذا ببعيد عن عقول أهل السفه والجهل. وليس من شك ان الله
كاف عبده ورسوله.
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ). قلنا عند تفسير الآية ٢٣ من هذه السورة وغيرها من الآيات
: ان الله يضل من سلك مسلك الضلال بسوء اختياره ، ويهدي من اختار الهداية لنفسه
وسلك بها سبيلها (أَلَيْسَ اللهُ
بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) ممن كفر وظلم بمشيئته وبعد إلقاء الحجة عليه؟
قل حسبي الله الآية ٣٨
ـ ٤٥ :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ
ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ
حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا
يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))
اللغة :
حسبي كافيني.
ومكانتكم الحال التي أنتم عليها. وأصل التوفي الإيفاء وهو أخذ الشيء كاملا وافيا ،
ومن مات فقد استوفى عمره. واشمأزت انقبضت ونفرت.
الإعراب :
الله فاعل لفعل
محذوف أي خلقهن الله. وحسبي مبتدأ والله فاعل سادّ مسد الخبر. فلنفسه متعلق محذوف
خبر لمبتدأ محذوف أي فاهتداؤه كائن لنفسه. أو لو كانوا الهمزة للإنكار والواو
للحال أي تتخذونهم شفعاء وهم لا يعقلون. وجميعا حال من الشفاعة.
المعنى :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). جوابهم هذا من وحي الفطرة التي فطر الله الناس عليها ،
لأنها لا تجد تفسيرا للكون إلا بوجود الله ، ولكن الجاحدين يقولون : نحن لا نؤمن
إلا بالتجربة ، أما الفطرة فكلام فارغ ، ونحن بدورنا نقول لهم : إذا كنتم لا
تؤمنون إلا بالتجربة فأرونا التجربة التي دلتكم على ان الله غير موجود .. ونحن لا
نشك في ان من أنكر هذه الفطرة أو أنكر منطقها فقد أنكر إنسانية الإنسان وأغلى ما
فيه من طاقات وغرائز. وتقدم مثله في الآية ٦١ من سورة العنكبوت والآية ٢٥ من سورة
لقمان.
(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَ
ـ أي الأصنام ـ
كاشِفاتُ
ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ)؟ هدد المشركون الرسول الأعظم (ص) بالأصنام ، فأمره الجليل
الأعلى أن يقول لهم : أي سلطان للأصنام علي أو على غيري؟ فهل تدفع عني ما أراده
الله بي من الضر ، أو تمنع ما أراده لي من الخير؟ بل هل تستطيع الأصنام أن تدفع عن
نفسها إذا أراد إنسان أن يحطمها بفأسه ، أو يدوسها بنعله؟ وتقدم مثله في الآية ١٧
من سورة الانعام ج ٣ ص ١٦٩ والآية ١٠٧ من سورة يونس ج ٤ ص ١٩٩.
(قُلْ حَسْبِيَ اللهُ
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ). قل يا محمد لمن كذّب برسالتك : أستعين بالله واسترشده ،
وهو يكفيني ما أهمني ، ومن ضاقت عليه الأمور فليلجأ اليه وحده ، وكفى به وليا
ونصيرا.
(قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ
يُخْزِيهِ
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ). على مكانتكم أي على حالتكم ، ومقيم دائم مدى الأبد ،
والمعنى ليبق كل منا على ما هو عليه ، ثم ينتظر المصير ، وهو عليكم خسران وجحيم ،
وعلينا بركة ونعيم. وتقدم مثله في الآية ١٣٥ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٦٧ والآية ٩٣
من سورة هود ج ٤ ص ٢٦٤ (إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ). فبلغه عن ربك مبشرا ومنذرا بآياته ، ولا تدع لأحد عذرا
يتعلل به (فَمَنِ اهْتَدى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ) فكل إنسان مسؤول عن عمله ، وحسابه على خالقه ، ولا سلطان
لك عليه بعد ان بلغت ونصحت. وتقدم مثله في الآية ١٠٤ من سورة الانعام ج ٣ ص ١٣٨ والآية
١٠٧ من سورة يونس ج ٤ ص ١٩٩.
(اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها). قال الماديون : الإنسان هو هذا الجسم ولا شيء وراءه. انظر
«الماديون والحياة بعد الموت» ج ٤ ص ٣٧٩ ومع الماديين ص ٥٣٦ من المجلد المذكور.
وقال المؤمنون : ان الإنسان روح وبدن ، وان الروح هي التي تسيّر البدن وتدبره بأمر
الله تعالى ، والموت عبارة عن قطع العلاقة بين الروح والبدن ، وانها بعد ذلك تذهب
الى خالقها : (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) ـ ٢٧ الفجر. وعلى
هذا يكون معنى قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) انه تعالى يقبضها اليه حين موت الأبدان.
(وَالَّتِي لَمْ
تَمُتْ فِي مَنامِها). النوم نوع من الموت والوفاة أو هو وفاة مجازا ، قال تعالى
: (هُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ـ ٦٠ الأنعام.
وقال صاحب مجمع البيان : «التي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل
والتمييز ، وهي التي تفارق النائم فلا يعقل ، أما التي تتوفى عند الموت فهي نفس
الحياة التي إذا زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس ، فالفرق بين قبض النوم وقبض
الموت ان قبض النوم يضاد اليقظة ، وقبض الموت يضاد الحياة ، وقبض النوم تكون الروح
معه ـ أي مع القبض ـ في البدن ، وقبض الموت تخرج الروح من البدن».
(فَيُمْسِكُ الَّتِي
قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). يقبض سبحانه النفس عند موت الجسد ، وعند منامه ، وتبقى
التي قضى عليها الموت عند خالقها ولا يردها إلى الجسد ، أما الثانية فيردها
اليه إلى أمدها
المعين. قال عمر بن الخطاب : «العجب ان الرجل يرى رؤيا فتكون كالأخذ باليد ، ويرى
رؤيا فلا تكون شيئا .. فقال له الإمام علي بن أبي طالب : ان الله يتوفى الأنفس
كلها ، فما رأته وهي عنده فهي صادقة ، وما تراه بعد إرسالها فهي كاذبة ، فعجب عمر
من قول الإمام». نقل هذا الشيخ المراغي في تفسيره عن أبي حاتم وابن مردويه.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا
يَعْقِلُونَ). الأصنام لا تعقل شيئا ، ولا تدفع عن نفسها ضرا ، ومع ذلك
يرجو المشركون أن تشفع لهم وتنفعهم عند الله .. وهكذا يفعل الجهل بنفسه .. ان خير
شفيع عند الله تعالى للمذنبين التوبة والانابة (قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي لا أحد يملك من الشفاعة شيئا إلا ما ملكه الله منها : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ـ ١٥٤ آل عمران. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). ومثله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ـ ١٨ المائدة ج ٣
ص ٤٠.
(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
ـ أي من دون الله
وهي الأصنام ـ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلا الله نفروا ، وإذا
سمعوا مدح الأصنام فرحوا. وهذا شأن المبطلين قديما وحديثا ، لا يؤنسهم إلا الباطل
، ولا يوحشهم إلا الحق .. وفي نهج البلاغة : من استثقل الحق أن يقال له أو العدل
أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه.
أنت تحكم بين عبادك الآية
٤٦ ـ ٥٢ :
(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ
سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَبَدا
لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ
ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ
هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))
اللغة :
حاق بهم نزل بهم.
وخولناه أعطيناه. وفتنة بلية.
الإعراب :
اللهم فاطر
السموات أي يا الله يا فاطر السموات يا عالم الغيب. والمصدر من أن للذين ظلموا
فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت ملك الذين ظلموا. وجميعا حال من مال في الأرض. وبل هي
أي النعمة.
المعنى :
(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). ترتبط هذه الآية بقوله تعالى في الآية السابقة : (وَما
أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) والمعنى واضح ، وملخصه قل يا محمد بعد أن بلغت ونصحت : اللهمّ
أنت خالق الخلق ومالك الملك ، وعالم بما كان مني ومن المكذبين ، ولك وحدك الحكم
والقول الفصل في كل اختلاف وصراع بين عبادك في هذه الحياة.
(وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). كانوا يتكالبون على حطام الدنيا ، ويجمعون المال على
المال غافلين عن لقاء الله وحسابه ، وحين وقفوا بين يديه لنقاش الحساب وتكشف لهم
ما كانوا يأمنون عضوا يد الندامة ، وتمنّوا لو ملكوا أضعاف ما في الأرض وقبل منهم
فدية عن عذاب الحريق ، ولكن هيهات أن يفدى لجهنم أسير .. وتقدم مثله في الآية ٩١
من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠٦ والآية ٥٤ من سورة يونس ج ٤ ص ١٦٩ والآية ١٨ من سورة
الرعد.
(وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). كانوا إذا قيل لهم : اتقوا يوما ترجعون فيه الى الله
سخروا من هذا القول وقائله ، ولما أحضروا في اليوم الموعود بدت لهم الحقيقة ، ونزل
بهم العذاب جزاء وفاقا على موقفهم الساخر منه وممن أنذر به.
عذر أقبح من ذنب :
(فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ). المراد بالإنسان هنا كل من ينطبق عليه هذا الوصف ، يستغيث
بالله عند الشدة ، وينساه عند الرخاء ، ويقول في جهل وغرور : ان نعمتي من صنع
تدبيري وفطنتي. تذكرت وأنا أكتب هذه الكلمات سياسة الولايات المتحدة التي أعلنها «راسك»
حين كان وزيرا للخارجية ، أعلنها بقوله : «لا بد للولايات المتحدة أن تظهر
اهتمامها بالكرة الأرضية كلها بجميع أراضيها ومياهها وجوّها وفضائها الخارجي
المحيط بها». أي ان للولايات المتحدة أن تسيطر على الأرض بمن فيها وما فيها ، وكان
هذا الإعلان سنة ١٩٦٦ ، أي قبل أن ترسل الولايات المتحدة روادها ليطئوا أرض القمر
، أما اليوم فينبغي أن تعطف القمر وغيره من الكواكب على الأرض.
وبعد أن نشرت
الصحف العالمية هذه السياسة الاستعمارية التي أعلنها وزير خارجية الولايات المتحدة
كتب مأجور في إحدى الصحف العميلة مقالا يبرر فيه هذه السياسة ويدافع عنها بقوله :
ان الولايات المتحدة أقوى دولة علما وثراء ، وقد حققت انتصارات ضخمة في ميدان
العلم والصناعة ، فلها ـ اذن ـ كل الحق أن تتدخل في شئون العالم بمختلف الصور ،
وان تستولي على كل ما تريد الاستيلاء عليه ، وان تغير ما شاءت من قوانين الدول
والشعوب ، وتوجه اقتصادها ، وتضع هي ميزانتها ، وتحدد ما تصدره وتستورده .. وأيضا
للولايات المتحدة كل الحق أن تستعمل سياسة العصا الغليظة مع كل بلد يدافع عن حريته
واستقلاله ، فتقتل وتدمر بكل أسلوب ، بالانقلابات العسكرية ، وتدعيم الحركات
الانفصالية والقضاء على الانتفاضات الوطنية ، بل لها الحق أيضا أن تتدخل تدخلا
مباشرا ومسلحا ان اقتضى الأمر .. لها الحق في ذلك وأكثر من ذلك لأن هذا الحق في
واقعه للعلم أولا ، وثانيا للولايات المتحدة التي خرج العلم من مصانعها العسكرية ،
وتمثّل في أسلحتها الجهنمية .. وكل من ملك هذا السلاح كان له الحق في السيطرة على
الكرة الأرضية بمن فيها وما فيها. وكل ما جاء على لسان كاتب المقال هو بيان
للسياسة الامريكية كما هي في واقعها .. ومن أراد التثبت من هذه الحقيقة فليدرس
سياسة أمريكا في فيتنام وآسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ، وموقفها العدائي من
العرب ، وانتصارها غير المحدود لعدوان إسرائيل ومعارضتها الحل السلمي البنّاء
لمشكلة فلسطين ولكل مشكلة قائمة في الشرق والغرب.
ونسأل ذاك الأفاك
الأثيم الذي تطوع للدفاع عن أمريكا وبارك سياستها ، وقال ان لها كل الحق في أن
تشبع شهوتها العدوانية إلى أقصى ما تصل إليه الشهوات والنزوات .. بارك وبرر لا
لشيء إلا لأن أمريكا تمتلك مصانع الخراب والدمار ، نسأل هذا الأفاك : إذا كان
العلم يبرر التقتيل والتدمير والسلب والنهب فمعنى هذا ان العلم للشر لا للخير ،
وللفساد لا للصلاح ، وان للعالم أن يستخدم علمه للقرصنة واللصوصية والكذب والتزوير
، وان المجرم الحاذق مشكور ومأجور .. وانه كلما تفوق في الإجرام وكثر منه الضلال
والفساد استحق الاحترام والتقدير .. وأيضا إذا كان العلم يبرر العدوان فلما ذا
ترفع الولايات المتحدة شعارات العدل والانسانية ،
وتحاول جاهدة أن
تقنع الناس بأنها العابدة الزاهدة وتحارب الشيوعية باسم الإيمان بالله واليوم
الآخر؟
وبعد ، فقد ذهل
ذاك الكاتب الأثيم انه يكشف عن ضلاله وخيانته ، وهو يدافع بمنطقه المفضوح عن شهوة
الولايات المتحدة وشقوتها ، ويعتذر عنها بما هو أقبح من ذنبها.
(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) المراد بالفتنة هنا النعمة ، والمعنى ان الله سبحانه ينعم
على العبد من فضله ليبلوه أيشكر أم يكفر؟ فإن شكر زاده الله نعمة في الدنيا وأجرا
في الآخرة ، وان كفر فإن جهنم أعدت للكافرين (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الله يختبر عباده لتظهر الأفعال التي يستحقون بها
الثواب والعقاب.
(قَدْ قالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). ضمير قالها يعود إلى مقالة القائل : «أوتيته على علم»
والمعنى ان لهذا القائل الجهول أمثالا في التاريخ ، ولكن المال لم يرد عنهم غضب
الله ونقمته ، ولم يدفع عنهم العذاب الموعود حين نزوله بهم. أنظر تفسير الآية ٧٨
وما بعدها من سورة القصص.
(فأصابهم سيئات ما
كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء ـ أي الذين كذّبوا محمدا ـ سيصيبهم سيئات ما كسبوا).
من يعمل سوءا يجز به ولا يجد من دون الله وليا ولا نصيرا ، وهذا الحكم ثابت في حق
الجميع لا يقبل الاستثناء والتخصيص بالأمم السابقة أو اللاحقة ، سنّة الله في خلقه
ولن تجد لسنّة الله تبديلا (وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ). وهل يعجز المخلوق خالقه؟.
(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). تقدم مثله في الآية ٢٦ من سورة الرعد و ٣٠ من سورة
الإسراء و ٨٢ من سورة القصص و ٦٢ من سورة العنكبوت و ٣٧ من سورة الروم و ٣٦ و ٣٩
من سورة سبأ. وتكلمنا عن هذا الموضوع مفصلا في المجلد الثالث ص ٩٤ فقرة «الرزق
وفساد الأوضاع» ، وص ١٣١ فقرة «هل الرزق صدفة أو قدر» ، وفي المجلد الرابع ص ٤٠١
فقرة «الإنسان والرزق» ، وعند تفسير الآية ٦٠ من سورة العنكبوت فقرة «الرزق والثقة
بالمخلوق دون الخالق».
ان الله يغفر الذنوب جميعا الآية
٥٣ ـ ٥٩ :
(قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ
لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ
تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى
قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ (٥٩))
اللغة :
أسرفوا تجاوزوا
الحد. لا تقنطوا لا تيأسوا. أنيبوا ارجعوا. أسلموا له أخلصوا له. فرطت أهملت
وقصرت. في جنب الله في حقه وطاعته. وكرة رجعة.
الإعراب :
جميعا حال من
الذنوب. وبغتة مصدر في موضع الحال من العذاب أي باغتا. والمصدر من أن تقول نفس
مفعول من أجله لاتبعوا. يا حسرتا الأصل يا حسرتي ثم قلبت الياء ألفا ، وان كنت «ان»
مخففة من الثقيلة واسمها محذوف
أي واني كنت
واللام في «من» هي الفارقة بين ان النافية والمخففة. فأكون مضارع منصوب بأن مضمرة
في جواب لو التي تفيد التمني. وبلى واقعة في جواب لو ان الله هداني لأن لو تتضمن
معنى النفي.
المعنى :
(قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). هذه دعوة صريحة من الله للذين جاروا على أنفسهم بارتكاب
الذنوب والمعاصي ، دعوة منه تعالى الى التوبة ، ووعد بالعفو والصفح عن كل ذنب مهما
كبر وعظم ، وبهذا ترك سبحانه الباب مفتوحا أمام من يريد أن يكفّر عن سيئاته ،
ويصلح ما أفسد من نفسه ، وفي الحديث : ان الله لا يمل حتى تملوا ، فإذا تركتم ترك
، أي إذا تركتم التوبة ترك المغفرة. وفيه أيضا ان رسول الله (ص) قال : ما أحب ان
لي الدنيا بما فيها بهذه الآية. واشتهر انها أرجى آية في القرآن ، ومن الذنوب
الكبار أن ييأس الإنسان من رحمة الله (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) ـ ٥٦ الحجر.
وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٤٢ ، وأيضا عقدنا
فصلا خاصا للتوبة في المجلد المذكور ص ٢٧٥.
(وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ). اغتنموا الفرصة ولا تضيعوها أيها المذنبون ، توبوا اليه
تعالى وأخلصوا له في الأقوال والأفعال (وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ). لا شيء مما أنزل الله أحسن من شيء بالنسبة اليه تعالى ،
فكل ما قال حسن وعظيم ، أما بالنسبة الى المذنبين فأحسن ما نزل في حقهم هو دعوتهم
إلى التوبة ، وقبولها منهم وان عظم الذنب ، وما عدا ذلك وعيد وتهديد. ثم بيّن
سبحانه ان عاقبة من أهمل التوبة من العصاة هي:
١ ـ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى
ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي في طاعته ، والحسرة من أشد العذاب على النفس ، وبالخصوص
مع عدم المهرب والمخرج.
٢ ـ (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ). غدا يقول المذنب ندامة وأسفا : لم أكتف بمعصية الله
وإهمال التوبة حتى سخرت من أهل طاعته والخائفين من عذابه ونقمته.
٣ ـ (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي
لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). ونحوه قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ـ ١٤٨ الأنعام ج ٣
ص ٢٧٨.
٤ ـ (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ
لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). ومثله الآية ١٠٠ من سورة المؤمنون : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي
أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) ج ٥ ص ٣٨٨.
(بلى) ليس الأمر
كما زعمت وقلت : «لو ان الله هداني». (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي
فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ). جاءته آيات الله فأنكرها ، وقال ما هي من عند الله ،
واستكبر عن الايمان ، وكفر بالله والرسول ، ثم كذب وقال : ما جاءني من الله شيء
على لسان نبيه ، فجمع بين مساوئ الكفر والكذب والاستكبار ، ولو بادر الفرصة إلى
التوبة لكان في غنى عن ذلك وراحة من عذاب الخزي والهون.
الذين كذبوا على الله وجوهم مسودة الآية
٦٠ ـ ٦٧ :
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَتَكُونَنَّ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (٦٧))
اللغة :
المثوى المقام.
والمفازة المنجاة. ومقاليد جمع مقليد ومقلاد ، والمراد به هنا المفتاح. بيمينه
بقدرته تعالى.
الإعراب :
ترى هنا بصرية لا
قلبية ولها مفعول واحد وهو الذين كذبوا. ووجوههم مسودة مبتدأ وخبر والجملة حال من
الذين كذبوا. وجملة لا يمسهم حال من الذين اتقوا. وغير الله مفعول اعبد ، وجملة
تأمروني معترضة ، وتقدير الكلام أفغير الله أعبد تأمروني. بل الله فاعبد «الله»
مفعول مقدم. وحق قدره مفعول مطلق. وجميعا حال من الأرض ، واختلف النحاة في العامل
بالحال ، والذي نراه ان هذه الحال لا تحتاج الى عامل لأنها حال إعرابا وتأكيد
واقعا ، والمعنى الأرض كلها. وقبضته خبر للأرض. والسموات مطويات مبتدأ وخبر ،
وبيمينه متعلق بمطويات.
المعنى :
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ). كل من نسب الى الله ما ليس له به علم فقد كذب على الله
سواء أكان المنسوب اليه تعالى شريكا وصاحبة وولدا ، أم حلالا وحراما ، أم منصبا
إلهيا كمن ينتحل
النبوة أو الخلافة أو القضاء أو الإفتاء باسم دين الله وشريعته .. وسئل الإمام أبو
جعفر الصادق (ع) عن معنى الآية؟ فقال : «كل من انتحل إمامة ليست من الله فقد كذب
عليه. قال السائل : وان كان علويا. قال الإمام : وان كان علويا. قال السائل: وان
كان فاطميا. قال الامام : وان كان فاطميا». وجزاء من كذب على الله ورسوله أن يحشر
أسود الوجه في زمرة من أعد الله لهم جهنم وساءت مصيرا. وقوله تعالى : «للمتكبرين»
بعد قوله : الذين كذبوا على الله يومئ الى ان كل من كذب على الله فهو متكبر ومكابر
أيضا.
(وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ). بمفازتهم أي بسبب فوزهم. بعد أن هدد سبحانه الكاذبين بنار
جهنم بشّر أهل الصدق والتقوى بالنجاة من كل سوء ، وفوق ذلك انهم لا يستشعرون الحزن
والندامة على شيء فاتهم في الحياة الدنيا (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ). كل ما في الوجود من انسان وحيوان ونبات وجماد يدل عليه
تعالى دلالة الصورة الفنية على مصورها ، والبناية العظيمة على عظمة بانيها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قائم عليه لأن كل شيء وجد بقدرة الله ، ويبقى بعناية
الله إلى ما شاء الله ، ولو تخلى عنه لصار هباء.
(لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). المراد بالمقاليد هنا المفاتيح ، وهي كناية عن تدبيره
تعالى للكون وعلمه بكل ما يجري فيه من الذرة إلى أعظم الكواكب : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) ـ ٥٩ الأنعام.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). المراد بآيات الله الكون ونظامه العجيب الذي لو حاد عنه
قيد شعرة لآل إلى الخراب والدمار ، ومعنى الكفر بآيات الله عدم الاعتراف بدلالة
هذا النظام على المنظم ، وهذه الهندسة على المهندس. وقد خسر المكذبون بهذه الدلالة
عقولهم في الدنيا لأنها عميت عن المحسوس ، وأيضا خسروا أنفسهم في الآخرة لأنهم
اختاروا لها الكفر والعناد .. وجهنم مثوى ومأوى لكل كفار عنيد.
(قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ). جاء في بعض الروايات : ان المشركين قالوا لرسول الله (ص)
: نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل
في مكة ، ونزوجك
من نسائنا ما تريد شريطة أن تكف عن دعوتك ، فنزلت هذه الآية ، وسواء أصحت الرواية
أم لم تصح فإنها أوضح تفسير للآية. ومن المفيد أن نقتطف الجمل التالية من مقال
للمرحوم مصطفى صادق الرافعي بعنوان «الدرهم والدينار» :
«رأيت فقهاء يعظون
ويتكلمون على الناس في الحلال والحرام .. وتسخر منهم الحقيقة بذات الأسلوب الذي
تسخر به من لص يعظ لصا آخر ، ويقول له : لا تسرق» .. وأيضا ينطبق هذا على كثير من
الصحفيين والسياسيين وغيرهم من الأحزاب التي تحمل شعارات وطنية وانسانية .. ثم قال
الرافعي : «من يعظم الدرهم والدينار فإنما يعظم النفاق والطمع والكذب .. ان هيبة
الإسلام في بذل الحياة لا في الحرص عليها ، وفي تعاون المؤمنين لا في تعاديهم ،
أما الغنى فإنه يقاس بما يعمل بالمال لا بما يجمع منه».
(وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). المراد بالإحباط عدم الثواب. والشرك محال على الأنبياء ،
ولكن فرض المحال ليس بمحال ، هذا الى أن التحذير من الفعل لا يدل على أنه محتمل
الوقوع ممن حذّر وأنذر ، والمعنى ان الله لا يقبل العبادة من أحد إلا إذا كانت
خالصة لوجهه الكريم من كل شائبة ، ومن عبد مع الله إلها آخر فلا يستحق الثواب على
عبادته حتى ولو كان كالنبي في عبادته. وتكلّمنا عن الإحباط مفصلا في ج ١ ص ٣٢٦.
(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ). هذا أمر في الظاهر ، وإخبار في الواقع عن ان الرسول
الأعظم (ص) لا يعبد إلا الله ، ولا يشكر أحدا سواه ، وإنما جاء بصيغة الأمر
للتنبيه على ان العبادة والشكر يجب أن يكونا لله الواحد الأحد .. هذا ، الى ان
الله سبحانه كثيرا ما يخاطب العموم بشخص نبيه الكريم : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفاً .. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ .. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) الخ.
(وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) لأنهم كفروا به ، وآمنوا بالأصنام وبالدرهم والدينار (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). هذا
كناية عن عظمة
الله وقدرته وان السموات والأرض وما فيهن وبينهن خاضعات لأمره مذعنات (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). تنزه سبحانه عن الشريك ، وعن مقالة من قال: ان له يدا
ويمينا ، وعن كل شبه يتوهمه الواصفون الجاهلون.
وسيق الذين كفروا الآية
٦٨ ـ ٧٢ :
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ
اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا
جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ
يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى
الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))
اللغة :
الصور القرن ينفخ
فيه. وبنور ربها بعدله تعالى. ووضع الكتاب أي كتاب أعمال العباد. والسّوق الحث على
السير. وزمر جمع زمرة وهي الجماعة. والمثوى المقام.
الإعراب :
زمرا حال من الذين
كفروا. وخالدين حال من واو ادخلوا.
المعنى :
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ). النفخ في الصور كناية عن الصيحة ، قال تعالى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) ـ ٤٢ ق. وفي بعض
التفاسير ان هذه الصيحة أو هذا النفخ يتكرر ثلاث مرات : الأولى نفخة الفزع التي
ذكرت في الآية ٨٧ من سورة النمل : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
شاءَ اللهُ) وهم المتقون الذين سبقت لهم من الله الحسنى.
النفخة الثانية
نفخة الموت ، واليها أشار سبحانه بقوله : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) أي ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون إلا من
استثناه سبحانه بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) واختلف المفسرون في المستثنى من هو؟ فقيل : هو جبريل ومعه
إسرافيل. وقال آخر : المراد به الشهداء. وقال ثالث : هو الله ـ نستغفره ونتوب اليه
ـ وغير بعيد أن لا يكون هذا استثناء حقيقيا بل لمجرد البيان ان الأمر لله وحده وان
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ـ ٢٦ الرحمن.
النفخة الثالثة
للبعث ، واليها أشار تعالى بقوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون حكم الله فيهم. وفي نهج البلاغة : وينفخ في
الصور فتزهق كل مهجة ، وتبكم كل لهجة ، ولا شفيع يشفع ، ولا حميم يدفع ، ولا معذرة
تنفع.
(وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها). المراد بالأرض هنا أرض المحشر ، وهي مشرقة بنور الله
تعالى لأنها طاهرة مطهرة من شتى أنواع الضلال والفساد .. ولا شيء فيها إلا الحق
والعدل (ووضع الكتاب) أي صحائف الأعمال : (وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) ـ ١٣ الإسراء.
وقال الملا صدرا في كتاب الأسفار : «من فعل فعلا أو قال قولا ظهر أثره في نفسه
وقلبه ـ ثم قال ـ
وهذا الأثر الحاصل
في القلب والروح هو بمنزلة النقش والكتابة الحاصلة في الكتب والألواح ، وتلك
القلوب والأرواح التي فيها آثار الأفعال والأقوال يقال لها في لسان الشريعة صحائف
الأعمال».
(وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ). المراد بالشهداء هنا النواب عن الأنبياء في تبليغ رسالتهم
وسنتهم الى الناس ، والمعنى أن الله يحشر العباد غدا لنقاش الحساب ، ويأتي
بالنبيين ، فيشهدون على نوابهم انهم قد أخذوا عليهم أن يعلّموا ويبلغوا الناس ، ثم
يشهد هؤلاء النواب على الناس انهم علموهم وبلغوهم على أكمل وجه ، وبعد قيام الحجة
على النواب بشهادة الأنبياء ، وعلى الناس بشهادة النواب يحكم الله بالعدل بين
الجميع لا ينقص من ثواب من أطاع ، ولا يزيد في عقاب من عصى ، وهو أعلم بهما من
أنفسهما ومن النبيين والشهداء ، وانما دعاهم للشهادة لإلزام الحجة وقطع المعذرة.
انظر تفسير الآية ١٤٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٢٥.
(وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها). ذكر سبحانه في كتابه ألوانا من عذاب المجرمين ، منها الذل
والهوان ، ومنها العمى وسواد الوجوه ، ومنها الأغلال والأصفاد وسرابيل القطران
وطعام الزقوم وشراب الحميم ، ومنها أن تسوقهم بعنف ملائكة العذاب فوجا بعد فوج
ليكونوا لجهنم حطبا ، وانها معهم على ميعاد ، ولذا يجدونها مفتحة الأبواب (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)؟ القصد من هذا السؤال التقريع والتوبيخ : وانهم هم الذين
اختاروا لأنفسهم سوء المصير.
(قالُوا بَلى وَلكِنْ
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ). ومثله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ـ ١١ الملك. (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) على الحق والخارجين على العدل ، ولو لم يكن من دليل على
جهنم إلا أنها أعدت للمتكبرين والطاغين وأهل الفساد والضلال ـ لو لم يكن إلا هذا
الدليل لكفى ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ـ ١٤٥
النساء وقال : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً
لِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ـ ٢٣ النبأ. وقلنا
فيما سبق لو لم يكن لله محكمة في اليوم الآخر تقتص من الظالم للمظلوم لكان المقتول
ظلما أسوأ حالا من قاتله. انظر تفسير الآية ٤ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٢ فقرة «الحساب
والجزاء حتم».
وسيق الذين اتقوا الآية
٧٣ ـ ٧٥ :
(وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ
أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))
اللغة :
زمرا جماعات.
وحافين محدقين به دائرين حوله.
الإعراب :
زمرا حال. وجواب
إذا محذوف أي إذا جاءوها اطمأنوا. وفتحت الواو للحال أي وقد فتحت. وسلام عليكم مبتدأ
وخبر والجملة مفعول قال. وخالدين حال. والملائكة مفعول ترى البصرية. وحافين حال من
الملائكة.
المعنى :
(وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها
وَقالَ
لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ). المجرمون إلى جهنم ، وملائكة العذاب يسوقونهم اليها عنفا
، ويسومونهم خسفا ، والمتقون إلى الجنة يحف بهم ملائكة الرحمة تعظيما ، ويحيونهم
تكريما (وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ). ضمير قالوا يعود إلى المؤمنين ، والمراد بالأرض هنا أرض
الجنة ، وانهم يتصرفون فيها تصرّف الوارث فيما ورثه .. وكانوا قد عملوا للجنة في
الدنيا ثقة وايمانا بما وعد الله به المتقين والصابرين ، فلما رأوها فرحوا وحمدوا
الله حمد العارفين بأن وعده حق وصدق. وفي نهج البلاغة : حفت الملائكة بأهل الجنة ،
وتنزلت عليهم السكينة ، وفتحت لهم أبواب السماء ، وأعدت مقامات الكرامات في مقام
اطلع الله عليهم فيه فرضي سعيهم وحمد مقامهم.
(وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). عند تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٩ بيّنا ان
المراد من العرش ـ بشهادة القرآن ـ ان الأمر كله لله ، والمعنى المراد هنا ان
الملائكة لا يصدرون إلا عن أمر الله ، كما جاء وصفهم في الآية ٢٦ من سورة الأنبياء
: (بَلْ عِبادٌ
مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِ) ضمير بينهم يعود إلى أهل الجنة والنار ، وبالحق أي لا يزيد
في عقاب من عصى ، ولا ينقص من ثواب من أطاع. وفي بعض التفاسير : ان الله قال في
ابتداء الخلق : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وبعد فناء الخلق ثم بعثهم
واستقرار أهل الجنة في الجنة ، قال : الحمد لله رب العالمين ، ليعلّم عباده الأخذ
بأدبه في ابتداء كل أمر بالحمد والختم به.
سورة غافر
٨٥ آية مكية ،
وقيل : ما عدا آيتين ، وتسمى أيضا المؤمن.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
غافر الذنب وقابل التوب الآية
١ ـ ٦ :
(حم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ
التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ
الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ
لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))
اللغة :
التوب والتوبة
كلاهما مصدر تاب. وذي الطول ذي الفضل. وتقلبهم في البلاد تصرفهم فيها بالذهاب
والإياب للتجارة ونحوها. ليدحضوا ليبطلوا. وحقت وجبت.
الإعراب :
تنزيل خبر لمبتدأ
محذوف أي هذا تنزيل. والعزيز وما بعده صفات لله تعالى. والمصدر من ليأخذوه متعلق
بهمت. ومن ليدحضوا بجادلوا. ومن انهم أصحاب النار بدل من كلمة ، ويجوز جره بلام
محذوفة أي لأنهم من أصحاب النار.
المعنى :
(حم) تقدم الكلام
على مثله في أول سورة البقرة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ) لأنه ميزان الحق والعدل ، ونور يهدي من ظلمة الضلال والجهل
(الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ). كل وصف من هذه الصفات له صلة وتأثير في الكون والإنسان
ومصيره ، فخلق الكون لا بد له من علم الخالق وقدرته ، ومن هنا جاء الوصف بالعزيز
العليم ، والعزيز هو القادر الغالب .. والذنب والتوبة من فعل الإنسان ، أما قبول
هذه والغفران عن ذاك فمن الله ، وهو سبحانه يغفر بالتوبة أو بطاعة جلّى تمحو الذنب
لأن الحسنات يذهبن السيئات وأيضا هو شديد العقاب لمن أصر على التمرد والعصيان ،
وهو صاحب الفضل لأنه يعطي من سأله ومن لم يسأله ، ويضاعف لمن أحسن أضعافا كثيرة.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تفرد بوصف التوحيد وعلم الغيب ، والقدرة على كل شيء ..
وجميع المذنبين في فاقة إلى عفوه ورحمته (اليه المصير) لا مفر من لقائه وحسابه
وجزائه ، وطوبى لمن لا يرى مستحقا لهذه الصفات إلا الله ولا يخاف أحدا سواه.
(ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالحق والعدل ، ولا يؤمنون إلا بأهوائهم ومصالحهم ، ومع
هذا ينتحلون لأنفسهم الأعذار ، ويدّعون انهم المحقون ، فيجادلون في القرآن ،
ويقولون : انه أساطير ، وان التوحيد تضليل ، والبعث حديث خرافة .. ودليلهم الأول
والأخير تقاليد الآباء ووحي المصالح والأهواء.
(فلا يغررك ـ يا
محمد ـ تقلبهم في البلاد) للتجارة وذهابهم إلى الشام في رحلة الصيف ، ولا إلى
اليمن في رحلة الشتاء ، لا يغررك هذا وما اليه فإن نهايتهم
الويل والثبور : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ـ ١٧٨ آل عمران ج
٢ ص ٢٠٨.
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ). المراد بالأحزاب هنا كل قوم تحزبوا ضد الحق وأهله ،
والمعنى ان معركتك يا محمد مع المشركين ليست معركة شخصية ، وانما هي صراع بين الحق
والباطل ، والكفر والايمان ، سنّة الله في السلف والخلف ، فقد كذبت الأمم الأنبياء
والمصلحين ، وجادلتهم بالجهل والعناد ، وحاولت كل أمة أن تقتل نبيها ومنذرها ،
تماما كما تآمرت قريش على قتلك ، وأنت نائم في فراشك. أنظر ج ٣ ص ٤٧٢.
(فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)؟ كان شديدا ومدمرا (وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ). هذا تحذير وإنذار لقريش إن أصروا على الكفر والضلال أن
يصيبهم ما أصاب قوم نوح وعاد وثمود .. وتخويف من لا يخاف الله لا يجدي نفعا إلا
قيام الحجة وقطع المعذرة.
الذين يحملون العرش الآية
٧ ـ ١٠ :
(الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠))
الإعراب :
ومن حوله عطف على
الذين يحملون. رحمة وعلما تمييز محول عن فاعل أي وسعت رحمته وعلمه. ومن صلح «من»
مفعول لفعل محذوف أي وادخل من صلح. واللام في لمقت في جواب قسم محذوف أي والله
لمقت. وأنفسكم مفعول مقتكم. وإذ في محل نصب بفعل محذوف أي مقتكم الله إذ تدعون.
المعنى :
(الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ). عند تفسير قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) ـ ٥٤ الأعراف قلنا
: ان المراد بالعرش الملك والاستيلاء والتدبير ، وعند تفسير : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ) ـ ٧٥ الزمر قلنا
هذا كناية عن ان الملائكة لا يسبقون الله بالقول وبأمره يعملون ، ونحن على ثقة ان
اللفظ ـ بقرينة السياق ـ يتحمل هذا التفسير ، أما سياق الآية التي نحن بصددها
والآية ١٧ من سورة الحاقة : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أما سياق هاتين الآيتين فيحتم علينا أن نبحث للعرش عن معنى
آخر لمكان يحمل ويحملون مع العلم بأن حمل الملائكة لعرشه تعالى لا يستدعي ان يكون
جالسا عليه ، وإلا كان جسما يفتقر إلى حيز ، والله غني عن كل شيء .. هذا ، إلى ان
جلوسه تعالى على العرش معناه انه في مكان دون مكان. وتسأل : إذا لم يكن الله جالسا
على العرش فلما ذا نسب اليه في قوله : «عرش ربك»؟
الجواب : ان مسألة
النسبة سهلة جدا حيث تصح لأدنى ملابسة كما هي الحال في تسمية الشوارع بأسماء أشخاص
لا يعرفون عنها شيئا ، فكيف بخالق الكون؟ وكل المعابد في شرق الأرض وغربها فضلا عن
الكعبة المشرفة ـ تنسب اليه تعالى ، ويقال لها بيوت الله ، فهل معنى هذا انه يقيم
فيها؟ وعليه من الجائز أن يكون سبحانه خلق في السماء عرشا يحمله ثمانية من
الكائنات السماوية ، وقد أمر سائر الملائكة أن تطوف من حوله تماما كما أمر خليله
ابراهيم أن يبني البيت العتيق وأوجب
زيارته والطواف من
حوله على من استطاع اليه سبيلا.
ومهما يكن فإن
الملائكة يؤمنون بالله ، ويسبحون بحمده (وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). للمؤمنين المخلصين ألوان من الثواب عند الله ، منها جنة
تجري من تحتها الأنهار ، ومنها انهم رفقاء النبيين والصديقين ، ومنها ان ملائكة
السماء تثني عليهم أحسن الثناء ، وتدعو الله لهم بعلو الدرجات عنده ، والوقاية من
غضبه وعذابه.
(رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). دعا الملائكة الله سبحانه أن يجمع غدا في جنانه بين أفراد
الأسرة المؤمنة تماما كما كانوا في الدنيا ليزدادوا سرورا على سرور .. وقوله : «ومن
صلح» يشير إلى انقطاع الصلة بين المؤمن والكافر حتى ولو كان أحدهما أبا للآخر : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) ـ ١٠١ المؤمنون. (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ـ ٦٧ الزخرف.
(وَقِهِمُ
السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ادفع عنهم يوم القيامة كل سوء .. وما من شك ان من نال هذه
المنزلة عند الله فقد فاز بفضله ورحمته (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ). يمقت أهل النار ، وهم فيها ، يمقتون أنفسهم ويزرون عليها
حيث أدت بهم إلى هذا المصير ، وكانوا في الدنيا أطوع الناس لها وأكثرهم رضى عنها
.. ويأتيهم النداء وهم يلعنون أنفسهم : ان مقت الله لكم في الدنيا على كفركم أشد
وأعظم من مقتكم الآن لأنفسهم ، فقد دعاكم سبحانه بلسان رسله إلى الايمان فأبيتم
إلا كفورا ، فذوقوا وما للظالمين من نصير.
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية
١١ ـ ١٧ :
(قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى
خُرُوجٍ
مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ
وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما
يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ
(١٧))
الإعراب :
اثنتين صفة لمفعول
مطلق محذوف أي إماتتين اثنتين وإحياءتين اثنتين. وذلكم مبتدأ ، وبأنه متعلق بمحذوف
خبرا. وحده مصدر في موضع الحال من الله. ومخلصين حال من فاعل فادعوا ، ورفيع
الدرجات خبر ثان لهو الذي يريكم. والمصدر من لينذر متعلق بيلقي. ويوم هم «يوم» بدل
من يوم التلاق وهم مبتدأ وبارزون خبر. والملك فاعل فعل محذوف أي ثبت الملك. ولله
متعلق بمحذوف أي ثبت لله. اليوم تجزى اليوم ظرف لتجزى. لا ظلم اليوم ظلم اسم لا
واليوم خبرها.
المعنى :
(قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ). ضمير قالوا يعود إلى أهل النار ، والموتة الأولى قبل
خروجهم من
بطون أمهاتهم ،
والثانية الموت المعهود ، أما حياتهم الأولى فهي حياتهم في الدنيا ، والثانية
البعث بعد الموت ، والمعنى ان أهل جهنم يتضرعون الى الله ، وهم في قعرها معذبون ،
يتضرعون إليه تعالى ويقولون : إلهنا أنت القادر على كل شيء. أوجدتنا في الدنيا ،
ثم أخرجتنا منها بالموت ، ثم بعثتنا بعده ، ونحن الآن بين يديك نادمين معترفين
بالخطايا والذنوب ، فهل من سبيل إلى منك وكرمك بالخروج من النار ، ولك عهد الطاعة
والامتثال؟
(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ
إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) هذا جواب الله سبحانه على قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) ويتلخص الجواب بأن داعي الله دعاكم الى الحق ، وأنتم في
الحياة الدنيا ، فكذبتموه ، ودعاكم داعي الشيطان الى الباطل فأجبتموه .. والآن
تدعون فلا تجابون ، واحدة بواحدة ، وقوله تعالى : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ
الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) يومئ الى أنه لا حكم غدا إلا لله وحده فلا عالي ولا كبير
إلا هو : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ـ ١١١ طه.
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ
إِلَّا مَنْ يُنِيبُ). أرانا سبحانه الكثير من الشواهد على وجوده وعظمته ،
والدلائل على تدبيره وحكمته. في السماء والأرض ، وفي الإنسان والحيوان ، وفي المطر
والزرع .. الى ما لا نهاية ، وبديهة ان هذه الدلائل والشواهد ـ على الرغم من
كثرتها ـ لا تظهر إلا لمن أبصر وتدبر ، أما تائه القلب فإنه في عمى عنها ، قال
طاغور :
ان الله أبرز
وجوده في قالب حي من صور الخليقة ، أبرزه في هذا التنسيق والانسجام بين قوى
الطبيعة المتصارعة في وحدة شاملة تخضع جميعها لقانون رتيب لا تحيد عنه ، وفي الوقت
نفسه تهدف الى تحقيق غاية بعينها .. ان كل شيء في الطبيعة له وظيفة خاصة ، وعمل
معين ، وهدف محدد يسعى اليه ، فما الحبة إلا عامل يكد ليبرز الشجرة الكامنة في
أعماقها ، والشجرة بدورها تكد لتصل الى الزهرة ، والزهرة تجاهد في سبيل الثمرة ،
ولا يدرك هذا إلا صاحب القلب السليم». والمراد بصاحب القلب السليم هو المراد بالذات
من قوله تعالى : (وَما يَتَذَكَّرُ
إِلَّا مَنْ يُنِيبُ
فَادْعُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). الخطاب للمؤمنين ، والمراد بالدعاء هنا العبادة ، وبالدين
الطاعة ، والمعنى اعبدوا الله وحده ، وأطيعوه في أمره ونهيه ، ولا تأخذكم في ذلك
لومة لائم ، وقد سهل سبحانه لعباده سبل طاعته ، حيث أرشدهم محذرا ، وكلفهم يسيرا ،
وما ترك عذرا لمتعلل (رفيع الدرجات). هذا كناية عن علوه تعالى وعظمته ، وقيل : ان
المراد بالدرجات هنا تفاوت العارفين بالله في معرفتهم به قوة وضعفا ، ابتداء من
معرفة الرجل العادي الى معرفة الفلاسفة والأنبياء (ذو العرش) كناية عن الملك
والاستيلاء.
(يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ). المراد بالروح هنا الوحي ، وبيوم التلاق يوم القيامة حيث
يلتقي فيه كل انسان بجزاء عمله ، والمراد بإنذار هذا اليوم الانذار بعذابه ، وجاء
التعبير بأنه هو المنذر للإشارة إلى شدة وقعه وهو له ، والمعنى ان الله سبحانه
ينزل الوحي على من يشاء من عباده لينذر الناس بأنهم يحشرون بعد الموت في شر يوم
على الطغاة العصاة ، ويسألون عما كانوا يعملون (يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ) أي ظهروا لله على حقيقتهم (لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ). هذا بيان وتفسير لقوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ).
(لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ) يسألون يوم القيامة ، وهم بارزون لفصل القضاء : لمن الأمر
والحكم؟ فيجيب سبحانه عنهم لأن الجواب متعين واقعا وحقيقة ، أو هم يجيبونه بلسان
الحال والمقال : (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) فوق عباده (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) واضح. وتقدم مثله بالنص في الآية ٥١ من سورة ابراهيم ج ٤ ص
٤٦٠.
وأنذرهم يوم الآزقة الآية ١٨ ـ ٢٢ :
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما
تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ
السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ
(٢٢))
اللغة :
الآزفة القريبة
الدانية لأن يوم القيامة آت ، وكل آت قريب. وكاظمين محزونين. وحميم صديق. وخائنة
الأعين هي التي تنظر ما لا يحل. وواق حافظ.
الإعراب :
يوم الآزفة مفعول
به لأنذرهم. وإذ القلوب بدل من الآزفة. وكاظمين حال من القلوب. وما للظالمين خبر
مقدم. ومن حميم «من» زائدة إعرابا وحميم مبتدأ ، وجملة يطاع صفة لشفيع. هم ضمير
فصل. وأشدّ خبر كانوا. وقوة تمييز.
المعنى :
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ). الخطاب في أنذرهم لرسول الله (ص). وضمير الغائب لمشركي
العرب ، والمعنى ما عليك يا محمد إلا أن تنذر المشركين عذاب يوم تذوب فيه القلوب
والأبصار هلعا وجزعا ، حيث لا صديق يتوجع ، ولا الشفاعة تنفع .. وهذا اليوم آت لا
محالة.
(يَعْلَمُ خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ). ما أضمر الإنسان شيئا ، أو نظر اليه بخيانة وريبة إلا
وكان الله عليما بما أضمر وأبصر ، وهو يقضي غدا بعلمه وعدله على كل خائن ومجرم
قضاء لازما لا مرد له ولا اعتراض عليه (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ). المراد بالذين يدعون الخ .. كل ما عدا الله مما تعبده
الناس صنما كان أو مالا أو جاها أو غير ذلك .. وبديهة انه لا قضاء في الآخرة إلا
لله. (إِنَّ اللهَ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). هذا تعبير ثان عن قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْماً) ـ ١٢ الطلاق.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ
فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ). هذا تحذير من الله للمجرمين أن يكون مصيرهم مصير الذين من
قبلهم ، فقد كانوا أكثر منهم مالا وعددا ، ولما نزل بهم العذاب لم يجدوا وليا ولا
نصيرا. وتقدم مثله في الآية ١٠٩ من سورة يوسف و ٤٦ من سورة الحج و ٩ من سورة الروم
و ٤٤ من سورة فاطر.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ
تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ). تقدم مرارا ان عاقبة الذين كذبوا بالرسل الخراب والدمار.
ولا فرق غدا في حكم الله وقضائه بين من كفر بالنبيين وبين من آمن بهم وخالف
تعاليمهم وأطفأ سننهم وان عوملوا في الحياة الدنيا معاملة المسلمين.
موسى الآية ٢٣ ـ ٢٩ :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ
فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا
اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما
كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ
أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ
رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ
فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ
إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))
اللغة :
سلطان مبين حجة
واضحة. وهامان وزير فرعون. وقارون أغنى الأغنياء في زمانه. وعذت لذت وتحصنت.
والمسرف هنا من تجاوز الحد في معاصي الله. وظاهرين غالبين. وما أريكم إلا ما أرى :
ما أشير عليكم إلا بما أراه حقا وصوابا.
الإعراب :
وليدع اللام
للأمر. والمصدر من أن يبدل مفعول أخاف ، ومن أن يظهر معطوف على ان يبدل. ما أريكم «ما»
نافية. وإلا ما أرى «ما» اسم موصول مفعولا ثانيا لأريكم.
المعنى :
تقدم الكلام عن
موسى مرات ومرات ، وكنا نشير عند الآية اللاحقة الى الآية
السابقة واسم
السورة ورقم الآية ، والآن عاد الحديث الى قصة موسى ، وسيأتي أيضا .. وعند تفسير
الآية ٩ من سورة طه ج ٥ ص ٢٠٦ فقرة «تكرار قصة موسى» بيّنا السبب الموجب لهذا
التكرار ، والآن نعطف على ما بيّناه هناك انه من غير البعيد ان كل آية ، وان تكررت
، فإنها تلقي أضواء جديدة قد خفيت علينا لأننا لم نتصدّ للبحث عنها ، أو لأننا لا
نملك الموهبة التي تؤهلنا لإدراكها ، ومهما يكن فإن الجديد في هذه الآيات التي نحن
الآن بصددها والتي بعدها هو الحديث عن مؤمن آل فرعون.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ). هامان وزير فرعون ، وقارون أغنى رجل في عصره ، وقيل : انه
كان وزير المالية عند فرعون .. والله سبحانه أرسل موسى لأهل زمانه كافة ، وخص
بالذكر هؤلاء الثلاثة لأنهم أصل الفساد ومصدر الضلال ، ولو آمنوا لآمن الجميع (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) تماما كما قال الذين من قبلهم ومن بعدهم لمن جاءهم بالآيات
والبينات.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ). أمر بقتل الذكور خوفا منهم ، وإبقاء الإناث للخدمة ..
وتسأل : لقد أصدر فرعون هذا الأمر من قبل أن يأتي موسى ، فما هو القصد من هذا
التكرار؟.
وأجاب بعض
المفسرين بأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث الله
موسى رسولا عاد فرعون إلى ما كان .. وهذا يحتاج إلى اثبات. وغير بعيد أن يكون
الأمر الثاني بالقتل استمرارا للأول ، وانه لا يصح العدول عنه بحال.
(وَما كَيْدُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي (وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ
الْأَوَّلِينَ) ـ ٤٣ فاطر. (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ). يومئ هذا إلى ان بعض رجال فرعون أشاروا عليه أن لا يقتل
موسى مخافة أن يثأر رب موسى من قاتله. قال فرعون : (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ). فرعون مصلح لأنه يقول : أنا ربكم الأعلى. وما علمت لكم من
إله غيري .. وموسى مفسد لأنه يدعو الى تحرير الإنسان من
عبادة الإنسان ..
ولا بدع فهذا هو بالذات منطق الجبابرة الطغاة في كل زمان ومكان. (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ). تعوّذ موسى بالله ممن جمع بين التكبر وعدم الخوف من الله
وحسابه وعقابه لأن أرذل الخلق على الإطلاق من جمع بين هاتين الرذيلتين.
(قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ
رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ). ان الحق لا يخلو من ناصر ، ولو بكلمة الإخلاص يجابه بها
أهل الباطل والضلال .. هذا رجل من قوم فرعون آمن بالله عن صدق ويقين ، ولكنه كتم
إيمانه خوفا على نفسه من القتل ، ولما أراد فرعون الشر بموسى دفعت به حرارة
الايمان الخالص الى ان يحذر ويستنكر ولكن بأسلوب العالم العاقل والناصح المشفق ،
وقال فيما قال : ما ذا جنى هذا الرجل حتى استحق منكم القتل؟ ألأنه قال : ربي الله
ومعه الحجة القاطعة التي أفحمتكم وأعجزتكم كاليد البيضاء والعصا التي تلقف ما
تأفكون؟.
وقال الشيخ
المراغي في تفسيره ما نصه بالحرف : «الرجل المؤمن هو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب
شرطته ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ يَسْعى) ـ ٢٠ يس. ويلاحظ
بأنه قد سبق من الشيخ المراغي ان قال وهو يفسر سورة يس : ان هذا الرجل الذي جاء من
أقصى المدينة كان في عهد عيسى تماما كما قال غيره من المفسرين. فمن الذي أحياه
وجاء به إلى زمن عيسى وبينه وبين زمن موسى أكثر من ١٢٠٠ سنة على أقل التقادير التي
ذهب اليها المؤرخون؟ .. ولكن العصمة لأهلها.
(وَإِنْ يَكُ كاذِباً
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ). وما عليكم من تبعته شيء (وَإِنْ يَكُ صادِقاً
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) سواء أقتلتموه أم تركتموه لشأنه. وقال المؤمن «بعض» الذي
يعدكم ولم يقل «كل» لأن البعض كاف واف في الإهلاك (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). زعمتم انه كاذب ، فدعوه يلاقي من الله جزاء الكاذبين ،
وفيه إيماء الى ان هذا الوصف ينطبق على فرعون ، وانه سيلاقي جزاء كذبه وإسرافه لا
محالة.
(يا قَوْمِ لَكُمُ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ
إِنْ
جاءَنا). ما زال الخطاب من المؤمن الصالح لقومه آل فرعون ، ومعناه
: أنتم الآن في أمن وأمان ، ولكم الملك والغلبة ، وهذه نعمة امتن بها الله عليكم ،
فلا تعرضوها للزوال بقتلكم من قال : الله ربي .. ومن الذي ينجينا من بأسه تعالى
إذا جاءنا بياتا أو نهارا؟.
والخلاصة ان مؤمن
آل فرعون دافع عن موسى بالتي هي أحسن ، وجادل أعداء الله بالحكمة والموعظة الحسنة
، فبرّأ أولا موسى من الذنب ، ثم أمّن ثانيا أعداءه من خطره وضرره ، ثم ذكّرهم
ثالثا بنعمة الله عليهم ، وحذرهم أن يبدلوها كفرا .. وقد استطاع هذا الأسلوب
الحكيم أن يثني الطاغية عن عزمه وتصميمه على قتل موسى حتى (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما
أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ). وهذا القول من فرعون يشبه الاعتذار مما كان قد عزم عليه
من قتل موسى والفضل في ذلك للمؤمن الناصح ، والمعنى اني ما أشرت بقتل موسى إلا بعد
التدبر وإمعان النظر ، وما أردت بذلك إلا خيركم وصلاحكم.
وما الله يريد ظلما العباد الآية
٣٠ ـ ٣٥ :
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ
قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ
(٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ
قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ
هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ
سُلْطانٍ أَتاهُمْ
كَبُرَ
مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى
كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))
اللغة :
دأب عادة. ويوم
التناد هو يوم القيامة حيث ينادى فيه الناس كما في الآية ٤١ من سورة ق : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ
قَرِيبٍ). وعاصم مانع. والمراد بالمرتاب الشاك في الحق. والجبار
يطلق على من يصلح الأمور وعلى الطاغية ، وإذا وصف به ذو الجلال فمعناه العالي.
الإعراب :
مثل يوم الأحزاب «مثل»
صفة لمفعول محذوف أي أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب. ومثل دأب بدل من مثل يوم
الأحزاب. ويوم تولون بدل من يوم التناد. ومدبرين حال. والذين يجادلون بدل من «من
هو مسرف» لأن «من» هنا اسم موصول بمعنى الجمع. وكذلك يطبع أي مثل ذلك الطبع يطبع.
المعنى :
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ
قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ). المراد بالأحزاب الجماعات التي تكتلت وتحزبت ضد أنبيائها
بدليل قوله : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ
نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) .. لما قال فرعون : (وَما أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) قال المؤمن الناصح : وأنا أيضا ما قلت لكم الذي قلته إلا
خوفا أن يصيبكم ما أصاب الأولين من الهلاك حين كذبوا أنبياءهم (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتكذيب الرسل والتمرد على أمر
الله ونهيه.
وبعد أن حذرهم
المؤمن عذاب الدنيا حذرهم عذاب الآخرة بقوله : (وَيا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) أي عذاب يوم القيامة حيث تسمعون الصيحة بالحق ، فتخرجون من
القبور الى الحساب والجزاء (يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ) تحاولون الهرب من عذاب الحريق ، ولكن هيهات (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) كيف وهو الغالب على أمره لا يرده شيء ، ولا ينازعه شيء (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
هادٍ) أي من يسلك طريق الضلال فإن الله يضله ، ولا يجد من يهديه
تماما كمن يشرب السم فإن الله يميته ولا يجد من يحييه أو يشفيه.
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ). هذا على حذف مضاف أي جاء آباءكم أيها المصريون ، فشكوا في
نبوة يوسف ، فكذلك أنتم شككتم في نبوة موسى. وفي قاموس الكتاب المقدس ان يوسف
معناه في العبرية يزيد ، وان امه أسمته بهذا الاسم ليزيدها ابنا آخر ، وانه مات
وهو ابن ١١٠ سنين (حَتَّى إِذا هَلَكَ
قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً). ويومئ هذا الى انهم فرحوا بموت يوسف لأنهم تحرروا من
التكاليف الإلهية ، وقالوا من غير علم بل بدافع من الشهوات والأهواء : ان الله لن
يرسل رسولا بعد يوسف الى يوم يبعثون.
(كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) في الله والحق .. وأضل الله المسرف المرتاب لأنه خرج من
الهدى وارتكس بسوء اختياره في الضلالة والعمى (الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ). المراد بالذين يجادلون الخ المسرفون المرتابون ، وآيات
الله دلائله على وحدانيته ونبوة أنبيائه ، والسلطان الحجة ، والمعنى ان المجرمين
يردون حجج الله القاطعة بالرغبات والأهواء وتقليد الآباء.
(كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أن يجادل المجرمون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ
قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ). كل من التكبر والتجبر هو بالذات سبب من أسباب الختم على
القلب ، وانما أسند ذلك اليه تعالى لأنه هو الذي جعل التكبر سببا لعمى القلب تماما
كما جعل الجهل سببا للحيرة والبعد عن الحق ، وجعل الدرس والبحث سببا للعلم والوعي.
لعلى أبلغ الأسباب الآية
٣٦ ـ ٤٠ :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ
السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ
زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ
أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا
مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا
يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ
(٤٠))
اللغة :
الصرح البناء
العالي. والأسباب جمع سبب وهو الذي يكون وسيلة إلى غيره. وتباب خسران وهلاك.
الإعراب :
أسباب السموات بدل
من الأسباب. فاطلع بالنصب جوابا للترجي الذي يشبه الطلب. والحياة الدنيا عطف بيان
من هذه. وهي ضمير الفصل ، وجملة وهو مؤمن حال من «من عمل صالحا».
المعنى :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ
فَأَطَّلِعَ
إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً). طلب فرعون من وزيره هامان أن يبني له برجا عاليا يصعد به
إلى السماء ليبحث فيها عن الله ، ويتأكد من قول موسى .. طلب هذا ، وهو على يقين
انه أعجز وأحقر ، ولكنه أيضا على يقين ان في مملكته قاصري العقل والوعي يصدقونه
فيما يقول ، ولذا موّه ودلّس ، وليس قوله هذا بأعظم من قوله : أنا ربكم الأعلى ..
وما كان ليجرأ على مثله لولا أن يجد من يقول له : أجل ، إنك أنت العلي الكبير! ..
ونحن الآن في القرن العشرين وعصر الفضاء والقمر ، ومع هذا وجد الدالاي لاما من
يقول له : أنت إله .. ووجد آغا خان من يقول له : أنت نصف إله ، «وفي كل قطر كعبة
وإمام».
(وَكَذلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ). أمران يزينان للإنسان سوء أعماله : اتباع الهوى ،
والإصرار على الجهل ، وقد زيّن الهوى لفرعون أن يدّعي الربوبية فادّعاها ، وزيّن
الجهل طاعة فرعون فأطاعوه (وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي في خسران .. وكل من حاول أو يحاول أن يخدع الناس ويمكر
بهم ويكيد لهم فهو خاسر وان كان له ملك فرعون ومال قارون.
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ). حذر المؤمن الناصح قومه أولا وثانيا ، وهذه هي المرة
الثالثة ، وفيها يرغب إلى قومه أن يقبلوا منه النصيحة لأنه يريد لهم النجاة والخير
، أما غيره فيقودهم الى الشر والهلاك (يا قَوْمِ إِنَّما
هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ). متاع الحياة الدنيا زائل بائد ، ما في ذلك ريب ، أما
الحياة الآخرة فباقية دائمة ، فأي الحياتين أولى بالعمل لها؟ وفي نهج البلاغة : ما
يصنع بالدنيا من خلق للآخرة؟ وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه ، وتبقى عليه
تبعته وحسابه؟ وفيه أيضا : مرارة الدنيا حلاوة الآخرة ، وحلاوة الآخرة مرارة
الدنيا.
(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً
فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ
حِسابٍ). الله عادل وكريم ، ويتجلى عدله في عقوبة المسيء ، فإنها
عند الله تساوي سيئته جزاء وفاقا. وقد
تنقص العقوبة رأفة
منه تعالى ورحمة ، أما المحسن فيضاعف له الجزاء أضعافا كثيرة وبغير حساب ذكرا كان
أو أنثى ، وكفى بالجنة ثوابا ونوالا ، وتدل الآية بوضوح على ان الجنة وقف خاص على
من آمن بالله واليوم الآخر إيمانا لا يشوبه ريب ، أما من يفعل الخير لوجه الخير ،
وهو كافر بالله واليوم الآخر ، أما هذا فجزاؤه في غير الجنة لأنها محرمة على
الكافرين. انظر ج ٢ ص ٢١١ فقرة «الكافر وعمل الخير». وفي بعض الروايات ان رسول
الله (ص) قال : ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله. فقيل يا رسول الله ما
إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة وأشباه ذلك. قيل : فما اثابته في الآخرة؟
قال : يعذب عذابا دون عذاب.
أدعوكم الى النجاة وتدعوني الى النار الآية ٤١ ـ ٤٦ :
(وَيا قَوْمِ ما لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ
مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣)
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ
بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذابِ (٤٦))
اللغة :
مردنا مرجعنا.
وحاق به أحاط ونزل به. غدوا وعشيا صباحا ومساء.
الإعراب :
جرم اسم لا مبني
معها على الفتح ، والمعنى لا محالة ، والمصدر من ان ما تدعونني مجرور بحرف جر
محذوف متعلق بمحذوف وهو خبر لا. وهم أصحاب النار «هم» ضمير فصل. والنار بدل من سوء
العذاب. وأدخلوا ان كان أمرا للملائكة فآل فرعون مفعول ادخلوا ، وان كان أمرا لآل
فرعون فآل فرعون منادى ، وفي الحالين أشد العذاب منصوب بنزع الخافض أي في أشد
العذاب مثل دخلت الدار أي في الدار.
المعنى :
(وَيا قَوْمِ ما لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ). هذا الكلام وما بعده الى آخر (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يحكيه سبحانه عن المؤمن الناصح ، والمعنى أخبروني أيها
المشركون عن حالي معكم : أنا أدعوكم الى الخير الذي فيه خلاصكم من العذاب والهلاك
، وهو الايمان بالله العزيز الذي ليس كمثله شيء ، والغفار لمن تاب اليه وأناب ،
وأنتم تدعونني الى عذاب الحريق ، الى الشرك الذي لا يغفره الله ، ولا يقره العقل ،
ولا يدين به إلا من ضل عن سواء السبيل.
(لا جَرَمَ أَنَّما
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ). ليس من شك ان الذي تدعونني الى عبادته كفرعون أو غيره لا
شأن له ولا فائدة منه في الدنيا ولا في الآخرة : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ـ ١٤ فاطر .. (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ). كل الخلائق ترجع غدا الى الله تعالى ، لا الى فرعون ولا
الى سواه ، ويقفون بين يديه تعالى للحساب والجزاء (وَأَنَّ
الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ). نقل الطبري والرازي عن مجاهد ان المراد بالمسرفين هنا
سفاكو الدماء بغير حقها.
(فَسَتَذْكُرُونَ ما
أَقُولُ لَكُمْ) من الصدق والنصح حين ترون العذاب وتنزل بكم الأهوال (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ
اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ). قال محيي الدين بن عربي
في الفتوحات
المكية ما توضيحه : ان أفوّض هنا مأخوذة من فاض الإناء إذا امتلأ ، ولم يتسع
للمزيد .. وإذا حمّل المؤمن أكثر مما في وسعه رجع في الزائد الفائض الى الله تعالى
، فيتلقى سبحانه الزائد من المؤمن ويخفف عنه ، وهو جل وعز العليم البصير بمن آمن
به وتوكل عليه ، ومن يلتجئ في المهمات الى غيره.
(فَوَقاهُ اللهُ
سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ). أضمر فرعون السوء لموسى والمؤمن الناصح ، فأنجاهما الله
من كيده ، وأغرق فرعون وملأه في اليم .. وهكذا يصرف سبحانه السوء عن المخلصين ،
وتدور دائرته على رؤوس المجرمين. هذا قبل الموت ، أما بعد الموت فلهم (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
وَعَشِيًّا). وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق : ان ذلك بعد الموت وقبل
يوم القيامة لأن هذا اليوم لا غدو فيه ولا عشي ، ولو عذب المجرمون في الغدو والعشي
فقط لكانوا بين ذلك من السعداء.
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ). كل مجرم يقال له يوم القيامة : ادخل جهنم وساءت مصيرا ،
سواء أكان من آل فرعون أم من غيرهم : وإنما خص سبحانه آل فرعون بالذكر لأن الحديث
عنهم.
يتحاجون في النار الآية
٤٧ ـ ٥٥ :
(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ
فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا
لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا
رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ
(٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي
إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥))
اللغة :
المراد بالضعفاء
هنا الأتباع المرءوسون. وبالذين استكبروا الرؤساء المتبوعون. ومغنون دافعون.
ونصيبا قسطا. والاشهاد جمع شاهد ، ويوم الاشهاد هو يوم القيامة حيث يؤتى بشهود
الحق لمن أطاع وعلى من عصى.
الإعراب :
تبعا خبر كنّا وهو
مصدر في موضع اسم الفاعل أي تابعين. ونصيبا مفعول مطلق ل «مغنون» لأنه بمعنى شيء
فيعرب اعرابه ، ونحوه قوله تعالى : (فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئاً) ـ ٢٥ التوبة. وكل
مبتدأ وفيها خبر. والجملة خبر انّا. ومفعول يخفف محذوف ويوما منصوب على الظرفية أي
يخفف عنا شيئا من العذاب في يوم من الأيام. واسم تك ضمير مستتر يعود الى القصة ،
وتأتيكم رسلكم تفسير للقصة. ويوم لا ينفع بدل من يوم الاشهاد. وهدى وذكرى مفعول من
أجله لأورثنا أي أورثناهم الكتاب لأجل الهداية والتذكير ، أو هما مصدران في موضع
الحال من الكتاب أي هاديا ومذكرا.
المعنى :
تقدمت هذه الآيات
باللفظ أو بالمعنى ، لذا نفسرها تفسيرا سريعا ، ونشير الى سورة الآية ورقمها.
(وإذ يتحاجون في
النار فيقول الضعفاء ـ أي التابعون ـ للذين استكبروا ـ أي المتبوعون ـ انا كنا لكم
تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار)؟ الإنسان في الآخرة مع من أحب في الدنيا
وأطاع ، فمن تبع الهداة في هذه الدار فهو معهم في نعيم الجنان ، ويشكرهم على
هدايته الى سبيل السلامة والنجاة ، أما من أسلس قياده للطغاة فإنه يلعنهم غدا ،
ويقول لهم : أنتم السبب في شقائي ، فهل تخففون عني بعض ما أقاسيه من العذاب؟.
وتقدم مثله في الآية ٢١ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٣٤.
(قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ). ويجيب المتبوعون من سمع لهم وأطاع : لا جدال اليوم ولا
كلام ، فقد حكم الله على كل نفس بما كسبت ، وقضى علينا وعلى من اتبعنا بعذاب
الجحيم (وَقالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ
الْعَذابِ). قاسوا عذاب جهنم على سجن الدنيا ، حيث يسمح للمسجونين فيه
أن يستروحوا ساعة خارج السجن ، ومن ثم طلبوا ان يعاملوا في النار كما يعامل
المسجون في الدنيا.
(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ). أجابهم الخزنة : ان الله قد أعذر إليكم على لسان رسله
باعترافكم ، اذن ، فلا لوم إذا لم يستجب لدعائكم ، ولوموا أنفسكم ان كنتم تعقلون.
وتقدم مثله في الآية ٧١ من سورة الزمر ، وبصورة أوسع في الآية ٥٠ من سورة الأعراف
ج ٣ ص ٣٣٥.
(إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ). يوم الاشهاد هو يوم القيامة حيث يشهد على المجرمين الكرام
الكاتبون والعلماء المبلّغون وأعضاء المجرم وجوارحه : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ
عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٢٠ فصلت. وتدل
الآية بوضوح ان الله ينصر الأنبياء والمؤمنين المخلصين في الدنيا والآخرة ، والنصر
في الآخرة واضح ، أما النصر في الدنيا فله صور ومظاهر ، فقد يكون بالقهر والغلبة
على الأعداء ، وقد يكون بانتشار العقيدة والمبدأ ، وعلو الشأن وجميل الذكر مدى
الأجيال ، فإن بعض شهداء الفضيلة صارت قبورهم كعبة يحج اليها الملايين ، والتاريخ
متخم
بالشواهد على ذلك
، وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١ فقرة لا يخلو المؤمن من ناصر.
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) حيث لا حميم يدفع ولا معذرة تنفع العصاة لأن الله سبحانه
قطع عليهم جميع الأعذار ، والسعيد من استغنى عن الاعتذار بصالح الأعمال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى
وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ). المراد هنا بالهدى المعجزات الدالة على نبوة موسى ، وما
أوحى الله به اليه من حلاله وحرامه ، والمراد بالكتاب التوراة الصادقة .. بعد أن
ذكر سبحانه انه ينصر الرسل والمؤمنين أشار الى موسى ومن أخلص من بني إسرائيل لأنه
نصرهم على فرعون وقومه.
(فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ). الخطاب لمحمد (ص) يأمره الله فيه أن يصبر كما صبر أولو
العزم من الرسل ، ويشير الى وعده تعالى الذي صرحت به الآية ٣٣ من سورة التوبة : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ). وليس لما وعد الله مترك (واستغفر لذنبك). والأمر
بالاستغفار من الذنب لا يستدعي وجوده ، فقد سأل النبي ربه أن يحكم بالحق مع العلم
انه لا يحكم إلا به : (قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِ) ـ ١١٢ الأنبياء.
وتسأل : اذن ، ما
الفائدة من الأمر بالاستغفار من الذنب؟
الجواب : لا شيء
سوى العبادة تماما كالأمر بالتهليل والتكبير والتسبيح (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ). العشي من الزوال الى الليل ، والأبكار من الفجر الى الضحى
.. هذا ، الى أن أمر النبي بالاستغفار من الذنب مع عدم صدوره منه يدل على أمر
المذنبين بالتوبة بطريق أولى ، وتسمى هذه الدلالة بفحوى الخطاب ولحنه أيضا لأن
السامع يدرك ان الحكم الثابت للمنطوق ثابت للمسكوت عنه بمجرد سماع اللفظ.
الله وإسرائيل :
ولمناسبة قوله
تعالى : (وَأَوْرَثْنا بَنِي
إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى) نشير إلى أنه في المجلد الأول قلنا : ان معنى إسرائيل عبد
الله ، لأن كلمة «اسرا»
معناها في العبرية
عبد ، و «ايل» الله ، قلنا هذا تبعا لكثير من المفسرين ، منهم الطبري والرازي
وصاحب مجمع البيان ، وبعد أن باشرنا بالمجلد السادس تبين لنا ان هذا القول يفتقر
الى الإثبات ، وكان علينا أن لا نثق بأقوال المفسرين ، أو ننسب هذا القول الى
قائله ـ على الأقل ـ كما يقتضيه منطق العلم ، ولكن الثقة بالمخبرين وبخاصة القدامى
كانت وما زالت آفة المؤلفين والمحدثين.
منذ أمد بحثت في
مكتبات بيروت التجارية عن كتاب «التلمود» فلم أجده ووجدت الكنز المرصود في قواعد
التلمود وقاموس الكتاب المقدس. فاشتريتهما ، وقد ساهم في وضع القاموس ٢٧ مثقفا
مسيحيا ، منهم ١٧ قسا ، والباقون بين دكتور وشماس وأستاذ واشمندريت ، وجاء فيه
بالنص : «إسرائيل : معنى هذا الاسم العبري «يجاهد الله» أو «يصارع الله» وهو اسم
يعقوب إذ أطلقه عليه الملاك الذي صارعه حتى مطلع الفجر. التوراة سفر التكوين
الاصحاح ٣٢ الآية ٢٨».
فمعنى إسرائيل ـ إذن
ـ يصارع الله ويجاهده بنص التوراة ، والفرق كبير جدا بين العبد والمصارع ، لأن
المصارع والمبارز نظير ومثيل ، أما العبد فرقيق وضعيف ، وبهذا يتبين معنا ان
التوراة الحالية غير الكتاب الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى) لأن هذا الكتاب كما وصفه سبحانه هدى وذكرى ، أما التوراة
الموجودة فهوى وعمى لأنها تقول : يعقوب صارع الرب حتى مطلع الفجر ، ولوط ضاجع
ابنتيه وحملتا منه ، وداود اغتصب الزوجات وقتل أزواجهن ، وقد أجمع الباحثون ان
التوراة الحالية كتبت بعد موسى بأمد غير قصير (انظر قاموس الكتاب المقدس ص ٧٦٣ و ١١٢٠
المطبعة الانجيلية ببيروت سنة ١٩٦٤ ، وكتاب «الأسفار المقدسة» لعبد الواحد وافي ص
١٦ وما بعدها ، الطبعة الأولى سنة ١٩٦٤.
وأيضا يتبين معنا
أن بني إسرائيل الأوائل الذين أورثهم الله الكتاب هم أبعد الناس نسبا وشبها بدولة
إسرائيل قاعدة الاستعمار الجديد في الشرق الأوسط.
ونشرت مجلة «المجلة»
المصرية في عدد كانون الثاني سنة ١٩٧٠ بحثا استغرق حوالى ٢٠ صفحة بعنوان «توراة
اليهود» لحسين ذي الفقار صبري نقل فيه عن الصهيوني «نيهر» ان إله إسرائيل كما يراه
الفكر اليهودي مرتبط ارتباطا عضويا
بالواقع المتسلسل
لتاريخ بني إسرائيل ، فإذا تلاشى الوجود الاسرائيلي فكأن الدلائل الدالة على وجود
الإله قد زالت ، فهو اذن عدم ، وان على كل يهودي أن يصارع الذات المجهولة ـ أي
الله ـ حتى مطلع الفجر تماما كما صارعها يعقوب ، سواء أكانت هذه المصارعة مميتة أم
ظافرة. وأيضا نقل الكاتب عن «بوبر» الصهيوني ان المعنى الذي تتجه اليه تلقائيا
أذهان جمهرة اليهود هو ان يعقوب كان قويا ضد الله.
ثم خرج الكاتب من
بحثه الطويل العميق الى نتيجة استنتجها من التوراة وغيرها من الكتب اليهودية
الدينية ومن أقوال المفكرين الصهاينة ، خرج بهذه النتيجة ، وهي ان لب العقيدة
الصهيونية أن تفرض إسرائيل وجودها بالتصدي لما يهدد كيانها ، حتى ولو كان الرب مصدر
هذا التهديد ، وان التوراة الحالية ليست إلا تحليلا دقيقا لنفسية اليهود ، وتناقضا
لعلاقتهم مع الله ، فهم معه وعليه في آن واحد ، وهو صاحب شخصية مزدوجة في توراتهم
فهو الرجيم ، وأيضا هو الرحيم.
هذه هي الصهيونية
، انها في عقيدة أصحابها أقوى وأعظم من الله ، وان وجوده مرتبط بوجود إسرائيل ،
فإذا ما تلاشت فقد زال الله من الوجود ، ومن هنا التقت الصهيونية مع الاستعمار
العالمي ، وتحالفا معا ضد الشعوب والأديان والانسانية ، وكان من نتيجة هذا التحالف
وجود إسرائيل في أرض فلسطين ، ولكن روح النقمة والعداء للاستعمار والصهيونية قد
انتشرت في كل بلد عربي ، ولله الحمد ، ولا شيء أدل على ذلك من المقاومة الفلسطينية
، وإجماع العرب كلمة واحدة على دعمها وتأييدها ، وسنجني ثمارها بحول الله ان عاجلا
أو آجلا.
خلق السموات والأرض أكبر الآية
٥٦ ـ ٦٣ :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَما
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا
رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ
خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))
اللغة :
بغير سلطان أي
بغير حجة ودليل. وداخرين صاغرين. ومبصرا مضيئا تبصرون فيه. وتؤفكون تصرفون عن
الصدق الى الكذب وعن الحق الى الباطل.
الإعراب :
ان نافية وفي
صدورهم خبر مقدم وكبر مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر ان الذين يجادلون. وببالغيه الباء
زائدة وبالغوه خبر «هم». وقليلا ما «ما» زائدة وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي
تذكرا قليلا. داخرين حال من فاعل سيدخلون. والمصدر من لتسكنوا متعلق بجعل. ومبصرا
مفعول ثان لجعل محذوفة أي وجعل النهار مبصرا. وأنّى ان كانت بمعنى أين فهي مجرورة
بإلى أي إلى أين تصرفون وان كانت بمعنى كيف فهي في محل نصب على الحال.
المعنى :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ). المراد بالذين يجادلون هنا المترفون فإنهم ينكرون كل شيء
إذا لم يعترف بتعاظمهم ، ويخضع لكبريائهم ، والشاهد على ان المترفين المتكبرين هم
المقصودون بالذات قوله تعالى : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ) أي انهم لتكبرهم وتعاظمهم لا يذعنون للحق ، ويجادلون فيه
بالباطل .. ومن أفضل الفضائل التوبة من الخطيئة ، والاعتراف بالخطإ والرجوع الى
الصواب (فاستعذ بالله) من التكبر وسوء عاقبته (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بتعصب المتكبرين لجاههم وثرائهم ، وفي نهج البلاغة
استعيذوا بالله من لواقح الكبر ـ أي أثره في النفوس ـ كما تستعيذون من طوارق
الدهر.
(لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ). كلما تقدمت العلوم ازدادت معاني القرآن قوة ووضوحا في
الأذهان .. قال العلماء القدامى : الإنسان أعجب الكائنات الأرضية والعلوية ، وان
الأرض هي مركز الكون .. ثم جاءت العقول الألكترونية وغيرها من أدوات العلم الحديث
لتقول : كلا ، ليس الإنسان أعجب الكائنات ، ولا الأرض مركزا للكون ، فإن في الكون
ملايين الملايين من المجرّات ، وان في كل مجرة ملايين الملايين من الكواكب ، وان
في كل كوكب ملايين الملايين من عجائب الكائنات ، وانه لا أحد غير الله يعلم أو
يستطيع أن يعلم عدد المجرات أو عدد الكواكب في كل مجرة ، أو ما فيها من الكائنات
وان نسبة الأرض الى الكون كنسبة الذرة أو دونها الى الأرض .. وبهذا نجد تفسير قوله
تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ). أجل ، ولكن في داخل الإنسان أيضا كونا عجيبا في كنهه
وحقيقته ، وميوله وشعوره ، وطموحه وجميع غرائزه.
(وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا
الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ). الفرق بعيد جدا بين العالم والجاهل ، وبين الصالح والفاسد
، وبين المحسن والمسيء .. كلا ، لا يستويان عند الله ، ولا عند الناس من أهل
الوعي والانصاف.
وتقدم مثله في الآية ٥٠ من سورة الأنعام و ١٦ من سورة الرعد و ١٩ من سورة فاطر (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيها) وهي تسوقنا للوقوف بين يدي قدير عليم ، تزاح عنده الأباطيل
، وتستحق الحقائق ، وتضمحل العلل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بأنهم مبعوثون ليوم عظيم ، ومسؤولون عما كانوا يعملون.
(وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). قال بعض المفسرين : معناه اعبدوني أثبكم ، واستدل بأن
القرآن يستعمل كلمة الدعاء في العبادة ، ومن ذلك قوله تعالى في الآية ١١٧ من سورة
النساء : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِناثاً). ونحن مع هذا القائل في هذه الآية بالذات ، لأن السياق
يرجح هذا المعنى على غيره حيث قال تعالى بلا فاصل : (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ). فقوله : يستكبرون عن عبادتي بيان وتفسير لادعوني. ومهما
يكن فإن الإسلام دين الأعمال لا دين الأقوال ، والله يرزق من جاهد وصبر : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ـ ١٥ الملك. وتكلمنا
عن الدعاء مفصلا عند تفسير الآية ١٨٦ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٨٦.
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). مبصرا أي مضيئا تبصرون فيه. وتقدم مثله في الآية ٦٧ من
سورة يونس ج ٤ ص ١٧٧ (ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)؟ كيف تصرفون عن طاعة الله وعبادته ، وهو وحده الخالق
الرازق؟ والقصد من قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ ..
لَذُو فَضْلٍ) و (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الخ؟ القصد ان يبين سبحانه ونعلم نحن بأنه الجامع لجميع
صفات الجلال والكمال ، وان دلائل هذه الصفات ظاهرة لمقل العيون وقرائح العقول ،
ولكن أكثر الناس في غفلة عنها وعما يراد بهم أيضا (كَذلِكَ يُؤْفَكُ
الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) كل من غفل وذهل عن الدلائل الدالة على عظمة الله لا بد أن
ينصرف عن طاعته وعبادته لأن الناس أعداء ما جهلوا.
وصوركن فأحسن صوركم الآية
٦٤ ـ ٦٨ :
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى
أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))
اللغة :
قرارا مستقرا.
وتبارك تقدس وتعالى. وطفلا اسم جنس يشمل جميع الأطفال ، ويكون المعنى يخرج كل واحد
منكم طفلا.
الإعراب :
مخلصين حال.
والمصدر من أن أعبد مجرور بعن محذوفة أي عن عبادة الخ. والمصدر من أن أسلم مجرور
بباء محذوفة. وطفلا حال. ثم لتبلغوا متعلق بمحذوف أي يبقيكم لتبلغوا. ثم لتكونوا
أيضا متعلق بمحذوف أي فعل ذلك لتكونوا.
المعنى :
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً). وصف سبحانه الأرض في هذه الآية بكلمة قرار ، وفي غيرها
بكلمة مستقر وفراش ومهد ومهاد ، والمعنى واحد. ووصف السماء في هذه الآية بالبناء ،
وفي غيرها بالسقف وذات البروج وذات الحبك ، والمراد بالسقف التشبيه به لأنها تظهر
للعيان مثله ، وقال جماعة من المفسرين : ان المراد بالبروج النجوم ، والحبك الطرق.
أما البناء فالمراد به انه تعالى احكم خلقها وزينها بزينة الكواكب ، كما في الآية
٦ من سورة الصافات.
(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ
اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). خلق الله الإنسان في أحسن خلقة وأحكمها وأدقها شكلا
وقواما وأعضاء ، بالاضافة الى البيان والإدراك وغيره من الغرائز .. ولعل أروع ما
في خلق الإنسان هذا التلاؤم العجيب بينه وبين الكون أرضا وسماء بحيث جاء تصميمه
على نحو يستطيع أن يستغل ويكيف ما في الكون من طاقات وخيرات حسب مصالحه وحاجاته ..
ولو لم يكن من دليل على وجود الله وعظمته إلا هذا الكائن العجيب ـ الإنسان ـ لكفى.
وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) ٢١ الذاريات. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٧٠ من
سورة الإسراء ج ٥ ص ٦٦ فقرة بما ذا كرّم الله بني آدم؟
(هُوَ الْحَيُّ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ). هو الحي لأنه وهب الحياة ، وهو الواحد الأحد لأنه إله ،
والألوهية في واقعها تستدعي التفرد والوحدانية ، ومعنى الإخلاص لله في الدين ان
تؤمن به وحده ، وتتجه إليه دون سواه في جميع أقوالك وأفعالك. وتقدم مثله في الآية
٢٩ من سورة الأعراف والآية ١٤ من السورة التي نحن بصددها. وقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) بعد قوله : وصوركم .. ورزقكم يشير الى أن على الإنسان أن
يحمد الله ويشكره على نعمة الخلق والرزق.
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). هذا هو الأسلوب الحكيم في الجدال والنقاش.
قال المشركون
لرسول الله (ص) : اعبد ما نعبد من الأصنام .. فقال سبحانه لنبيه الكريم : قل لهم :
كيف أعبد الأصنام وقد نهاني ربي عن عبادتها ، وأمرني أن أسلّم جميع أموري له وحده
، وألهمني الأدلة الكافية الشافية على ان معبودكم ليس أهلا للعبادة لأنه حجر لا
ينفع ولا يضر. وتقدم مثله في الآية ٤١ من هذه السورة.
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ). تقدم مثله في الآية ٧٠ من سورة النحل و ٥ من سورة الحج و ١٤
من سورة المؤمنون و ١١ من سورة فاطر.
الفيلسوف «راسل» والأجل المسمى :
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). الله سبحانه يوجد الموت والحياة في الأشياء الطبيعية ،
ويوجد الطبيعة بجميع كواكبها بكلمة «كن» يوجدها من لا شيء ، فلا سديم ، وهو على ما
قيل يشبه الدخان ، ولا غيره من قبل ، وإذا قال قائل : ومن الذي خلق الله؟ قلنا في
جوابه : ان معنى «الله» انه خالق غير مخلوق ، وان ذاته بما هي تستدعي الوجود ولا
تحتاج إلى موجد ، فإذا قال ثانية : هذه مجرد دعوى ، ويحق لنا أن نأتي بمثلها ونقول
: ان ذات السديم مقتضية للوجود ولا تحتاج الى موجد ، وإذا طالبنا من يؤمن بالله ـ ما
زال الكلام للقائل ـ إذا طالبنا بالدليل على دعوانا طالبناه بدورنا بالدليل على
دعواه ، إذا قال هذا قائل قلنا في جوابه : ان هذه الحياة وهذا النظام في الطبيعة
لا يفسرهما الأثير ، ولا أي شيء لا حياة فيه ولا إدراك لأن فاقد الشيء لا يعطيه ..
إذن ، لم يبق أمام العقل في تفسير الحياة والنظام في الطبيعة الا التسليم بوجود
قادر حكيم خالق كل شيء ، ولا يفتقر إلى شيء ، وكل فرض غير هذا فإن العقل يأباه ،
ومن أنكر صحته فليأت بخير منه ويدع من يشاء ونحن معه.
والخلاصة ان الله
سبحانه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ونقله من طور إلى
طور حتى بلغ أجله
المحتوم .. وإذا لم نر الخالق بالذات فقد رأينا آثاره والدلائل الدالة عليه في
عظيم خلقه .. وما أحقر ما رأينا في جنب ما غاب عنا من قدرته وملكوته.
وبمناسبة قوله تعالى
: (وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) نذكر حادثة حصلت للفيلسوف الكبير «برتراند راسل» حين كان
في السادسة والسبعين من عمره.
في سنة ١٩٤٨ سافر
راسل في الطائرة من أوسلو الى لندن ، ولما قربت الطائرة من شاطئ النرويج سألته
المضيفة ان كان من الضروري أن يدخن؟ فقال لها : ان لم أدخن فسوف أموت. وكان يجلس
في مقدمة الطائرة ، فأشارت عليه أن يجلس في المؤخرة إذا أراد التدخين ففعل ، وما
أن استقر به الجلوس حتى سقطت الطائرة في البحر ، فغرق كل من في مقدمتها ، ونجا من
في المؤخرة .. ولا نجد تفسيرا لهذا إلا قوله تعالى : (وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وانما قرن سبحانه الأجل المسمى بقوله : ولعلكم تعقلون ،
ليشير الى الملحدين الذين يفسرون هذه الحادثة وأمثالها بالصدفة.
ذلكم بما كنتم تفرحون الآية
٦٩ ـ ٧٨ :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ
الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ
بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ (٧٥)
ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ (٧٨))
اللغة :
السّحب الجر.
والحميم الماء الحار. والسجر الإحراق. والفرح السرور. والمرح شدة الفرح.
الإعراب :
الذين كذبوا بدل
من الذين يجادلون. وإذ في محل نصب بيعلمون. أين ما كنتم تشركون «أين» خبر مقدم و «ما»
موصول بمعنى الذين مبتدأ. وذلكم مبتدأ وبما كنتم خبر. وأبواب منصوبة بنزع الخافض
أي ادخلوا في أبواب. فبئس مثوى المتكبرين المخصوص بالذم محذوف أي مثوى لكم وهو
مبتدأ وخبره جملة بئس مثوى المتكبرين. فإما كلمتان «ان» الشرطية و «ما» الزائدة
وجواب الشرط محذوف أي فتقر عيناك. ومنهم خبر مقدم. ومن قصصنا مبتدأ مؤخر. وهنالك
إشارة إلى المكان واستعير هنا للزمان.
المعنى :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ)؟ يقول سبحانه لنبيه
الكريم منكرا جدال
المشركين بالباطل : أرأيت وشاهدت يا محمد الى المشركين والمترفين كيف يعمون عن
الحجج القاطعة والبينات الواضحة على عظمة الله ونبوتك وينصرفون عن الحق ودلائله
الى الجهل والضلال وعبادة الأحجار؟ وأوضح تفسير لهذه الآية وأخصره قول الإمام علي (ع)
: من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق.
(الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتابِ ـ أي القرآن ـ وَبِما أَرْسَلْنا
بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). وذلك يوم تسفر الحقيقة عن وجهها ، ويرى المجرمون ما يحل
بهم من العذاب (إِذِ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ). يجرّون بالسلاسل الى حريق الجحيم وشراب الحميم ، والأيدي
مغلولة الى الأعناق ، والنواصي مقرونة بالأقدام : (يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ـ ٤١ الرحمن.
(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وتدخرونهم للشدائد؟ فادعوهم فليستجيبوا لكم ان كنتم صادقين
(قالُوا ضَلُّوا
عَنَّا) غابوا عن أعيننا ولم نر لهم عينا ولا أثرا (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ
شَيْئاً) يعتد به ، وتبين لنا الآن أنه كان سرابا (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) لأنهم سلكوا طريق الضلال بسوء اختيارهم بعد أن نهوا عنه ،
وماتوا على البغي والكفر ، وقد أمروا بالتوبة منه والانابة الى الله الغفور الرحيم
.. ومن دخل مداخل السوء فلا يلومن إلا نفسه.
نطلب الدنيا باسم الدين :
(ذلِكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ). يفرحون بالحقير الزائل يدركونه من الدنيا ، ولا يهتمون
بالنعيم الدائم يفوتهم من الآخرة. وهذا الوصف يشملنا نحن أيضا ، ولا يختص
بالمشركين ، والفرق انهم يقبلون على الدنيا ، وهم كافرون باليوم الآخر ظاهرا
وباطنا ، أما نحن فنقبل على الدنيا ونطلبها متكالبين ، ولكن باسم الايمان بالله
واليوم الآخر .. فأي الفريقين أحق بغضب الله وعذابه؟. (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ). يقال هذا غدا للمتكبرين ، ولكل من استغل الدين ، وتاجر
بالوطنية ، وعبث
بعقول البسطاء
والأبرياء سواء أفعل ذلك عن عمد أم عن جهل بحقيقته وواقعه ، قال تعالى : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ـ ١٠٤ الكهف.
واتفقت كلمة العلماء على ان الجاهل المقصر لا عذر له عند الله.
(فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌ). تقدم بالحرف الواحد في الآية ٥٥ من هذه السورة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ). الخطاب في نرينك لمحمد (ص) ، وضمير نعدهم للمشركين ،
والمعنى قد نعاقب في الدنيا الذين كذبوك يا محمد وآذوك وعلى مرأى منك ، وقد نختارك
إلينا قبل ذلك .. وفي سائر الأحوال فإن الأمر والمرجع الى الله وحده ، وليس لك من
الأمر شيء. وتومئ الآية الى أن المؤمن الحق ينبغي أن يفرح بمرضاة الله ، وبأنه على
يقين من دينه ، وأن يجاهد أهل الباطل والضلال بما استطاع من قوة ، ثم يدع الجزاء
الى الله : (وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) ـ ١٣٢ الأنعام.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ). تقدم مثله في الآية ١٦٤ من سورة النساء ج ٢ ص ٤٩٢. انظر
أيضا فقرة هل الأنبياء كلهم شرقيون؟
(وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). المراد بالآية هنا المعجزة ، والمعنى ان الله سبحانه يظهر
المعجزة على يد الرسول كما تقتضيه الحكمة والمصلحة لا كما يشاء المكابرون
والمعاندون (فَإِذا جاءَ أَمْرُ
اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ). هنالك إشارة الى يوم القيامة ، وهو أسوأ يوم على المبطلين
وأسعده على المحقين.
الذي جعل لكم الأنعام الآية
٧٩ ـ ٨٥ :
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ
(٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ
وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي
عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))
الإعراب :
فأي آيات الله
مفعول تنكرون ، ويجوز فأية بالتاء ، وقيل : ان التذكير أشهر وأكثر. وقوة وآثارا
تمييز. وحده حال من الله. وسنّة منصوبة على المصدر أي سننّا بهم سنّة الله.
المعنى :
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ). الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، وقد سخرها سبحانه
لمنافع عباده كالأكل والركوب ، وانما خصها بالذكر مع ان نعمه لا يبلغها الإحصاء
لصلتها الوثيقة بحياة العرب آنذاك على انها ما زالت تسد الكثير من حاجات الحياة
بخاصة في بعض الأقطار (وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ) أخر كالانتفاع بأوبارها وجلودها (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي
صُدُورِكُمْ) كحمل الأثقال والسلع من بلد إلى بلد (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ). تقدم مثله في الآية ١٤٢ من سورة الأنعام و ٦٥ من سورة
النحل وغيرهما (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) أي مع الحجة والدليل ، وإلا فقد أنكروا بالفعل آيات الله
وأحكامه لأن المعروف عندهم هو المنكر ، والمنكر هو المعروف.
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ). ان تاريخ أهل الأرض متخم بالعبر والعظات لمن يعتبر ويتعظ
، فكم من أمة بلغت الغاية من الترف والحضارة ، ولما طغت وبغت أخذها الله بظلمها
أخذ عزيز مقتدر (فَما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من سلطان وأموال ، وما يبنون من قصور وقلاع. وتقدم مثله في
الآية ١٠٩ من سورة يوسف و ٤٦ من سورة الحج و ٩ من سورة الروم.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). المراد بفرحوا هنا اغتروا ، وبالعلم أسباب الثراء أي
العلم العملي الذي ينتج الغذاء والكساء ، ويشير إلى ذلك قوله تعالى : (وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي
الْأَرْضِ). وقال قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) لمن قال له : (وَابْتَغِ فِيما
آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) والمعنى ان الله أرسل فيما مضى رسله بالحجج القاطعة لأمم
تملك أسباب الثراء كالمصانع ونحوها ، فاغتروا بهذه الأسباب أو بهذا العلم ، وسخروا
من أنبياء الله وكتبه تماما كما هي حال الشركات الاحتكارية اليوم التي تكفر بالحق
والانسانية وتسخر من قيمها ومن أماني الشعوب (وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أخذهم الله بطغيانهم وأصابهم وبال استهزائهم .. وهذه نهاية
كل من طغى وبغى وان طال الزمن.
(فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ). حين كانوا في أمان من سطوة الله كفروا به ، ولما رأوا
العذاب قالوا آمنا (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) لأن هذا ليس من الايمان في شيء ، وانما هو محاولة للفرار
من عذاب الحريق ، ولكن أين المفر والإله الطالب؟ (سُنَّتَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) وهي ان الله يسمع التوبة ويقبلها في دار التكليف والعمل ،
لا في دار الحساب والجزاء (وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْكافِرُونَ) وكل مجرم فهو خاسر وخائب.
سورة فصّلت السّجدة
٥٤ آية مكية.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كتاب فصلت آياته الآية ١ ـ ٨ :
(حم (١) تَنْزِيلٌ
مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ (٤) (وَقالُوا قُلُوبُنا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ
وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))
اللغة :
فصلت بينت. وأكنة
جمع كنان وهو الغطاء. والوقر الصمم. وغير ممنون أي لا يمن به عليهم. وقيل : غير
مقطوع.
الإعراب :
تنزيل خبر لمبتدأ
محذوف أي هذا تنزيل. وكتاب بدل من تنزيل أو خبر ثان. وقرآنا حال من كتاب. وعربيا
صفة لقرآن وبشيرا ونذيرا صفة أخرى. هم كافرون «هم» تأكيد ل «هم» الأولى.
المعنى :
(حم) تقدم الكلام
على مثله في أول سورة البقرة. وقد ابتدأ سبحانه هذه السورة بذكر القرآن الكريم
ووصفه بالأوصاف التالية :
١ ـ (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). القرآن من أرحم الراحمين ، وهو رحمة للعالمين ، وأيضا
الذي نزل به على قلب محمد (ص) هو رحمة لأنه الروح الأمين ، وقد شهد الله لنبيه
الكريم بأنه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ـ ١٢٩ التوبة. فالقرآن
رحمة ، والذي بلغه للرسول رحمة ، والرسول أيضا رحمة ، أما الذي أنزل القرآن فهو
أساس الرحمة ومصدرها ، والنتيجة الحتمية لهذه الرحمات الأربع ان من تمسك بالقرآن ،
وعمل بتعاليمه نزلت عليه شآبيب الرحمة ، ومن أعرض عنه فقد ظلم نفسه ورضي لها
الهلاك والوبال.
٢ ـ (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) بيّنت حلال الله وحرامه ، ونصائحه ومواعظه ، ولم تدع عذرا
لمعتذر ، وعلة لمتعلل.
٣ ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ). أنزل سبحانه القرآن عربيا لأنه لا يرسل رسولا إلا بلغة
قومه ليفهموا منه. وكذا كانت الحال في صحف ابراهيم ، وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى ..
وقد كتب النبي محمد (ص) باللغة العربية إلى كسرى وقيصر وغيرهما من الرؤساء والملوك
غير العرب يدعوهم الى الإسلام. وتقدم الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ٣ من سورة
يوسف ج ٤ ص ٢٨٦ و ٤ من سورة يس فقرة «الموسيقى في القرآن». ومهما يكن فإن سر
العظمة في القرآن لا يكمن في اللغة وحدها ، والأسلوب وحده ، بل يكمن في معانيه
ومراميه الانسانية الخالدة التي لا تحدها قومية ، ولا بيئة ولا زمان.
٤ ـ (بَشِيراً وَنَذِيراً). بشر القرآن من أطاع برحمة الله وجنته ، وأنذر من عصى
بعذابه ونقمته.
(فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ). أعرضوا عن الحق جهلا وتعصبا لتقاليد الآباء أو إيثارا
وطمعا بنفع عاجل ، ولو كان وهما وخيالا (وَقالُوا قُلُوبُنا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ). دعا الرسول الأعظم (ص) مترفي المشركين الى الايمان بالله
وحده ، والعمل بكتابه ، فما كان جوابهم إلا أن قالوا : أفئدتنا موصدة دون دعوتك ،
وآذاننا غير سميعة لأقوالك ، وبيننا وبينك ما يحجبنا عنك ، ويبعدك عنا ، فاجتهد ما
استطعت ، وهدّد بما شئت ، فنحن في موقفنا لا نحيد عنه مهما كانت العواقب .. وهكذا
تفعل الأهواء .. تميت القلوب وتعمي العيون ، وتطلق العنان للجهل والضلال.
(قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا
إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ). قال الطغاة للرسول (ص) : بيننا وبينك حجاب .. فأمر الله
نبيه الكريم أن يقول لهم : من أين جاء هذا الحجاب؟ ألست بشرا مثلكم روحا وجسدا ،
أفعل ما تفعلون؟ وهل الوحي إليّ من السماء بأن نؤمن جميعا أنا وأنتم بإله واحد لا
نشرك به شيئا ، ونتوب اليه من الذنوب والموبقات ، ونستقيم على سبيل الحق والعدل ـ هل
الوحي إليّ بهذا يبعدني عنكم ، أو هو أجدى وسيلة تجمعنا على الخير والتقوى؟ ولكن
أبيتم الا العمى والضلال.
(وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
كافِرُونَ). جاء في تفسير البحر المحيط ان هذه السورة مكية ، وزكاة
المال نزلت بالمدينة ، وعليه فلا بد من تفسير الزكاة هنا بمطلق البذل في سبيل
الخير ، أو تفسيرها بتطهير النفس من الشرك .. ونرجح نحن التفسير الأول لأن الكلام
عن المشركين الذين لم تطهر نفوسهم من الشرك ، فإن فسرنا الزكاة بذلك يكون تفسيرنا
أشبه بمن فسر الماء بالماء. وعلى ارادة البذل من الزكاة يكون معنى الآية ان
المشركين جمعوا بين ثلاث رذائل : رذيلة الشرك ، ورذيلة الجحود باليوم الآخر ،
ورذيلة البخل (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). أي ان الله سبحانه يؤجرهم ويثيبهم ، ولا يمنّ عليهم
بالأجر والثواب لأنهم أهل لكل كرامة ..
ويستعمل المن أيضا
بمعنى القطع ، ومنه قول العرب : قد منّه السفر أي قطعه ، وتفسير الآية بكل من
المعنيين جائز ، ولكن الأول أقرب.
خلق الله الأرض الآية
٩ ـ ١٢ :
(قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً
لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))
اللغة :
رواسي جبال.
وأقواتها أقوات أهل الأرض. واستوى قصد. والمراد بالمصابيح الكواكب.
الإعراب :
سواء منصوب على
المصدر أي استوت سواء واستواء. طوعا أو كرها مصدر في موضع الحال أي طائعين أو
كارهين. وسبع سموات حال من ضمير قضاهن. وحفظا منصوب على المصدر.
المعنى :
(قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ). لا وقت ولا مكان قبل خلق الكون ، لا شيء على الإطلاق إلا
الواحد القهار ، وعليه يكون المراد باليومين الدفعتان أو الطوران ـ كما قيل ـ وتقدم
الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ٥٣ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٨ .. وبالمناسبة نذكر
ما قاله بعض الأدباء حول بعض الآيات : «ان أسلوب القرآن يختلف عن كل الأساليب ،
فهو حين يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها علماء الطبيعة بالمعادلات
والتفاصيل ، بل يقدمها بالاشارة والرمز واللمحة الخاطفة بكلمة قد يفوت فهمها على
معاصريها ، ولكنه يعلم ان التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة ويثبتها تفصيلا».
وقد جاءت هذه الحقيقة على لسان ابن عباس منذ حوالى ١٤ قرنا حيث قال : لا تفسروا
القرآن الزمان يفسره. أي لا تتعمقوا في تفسير الآيات الكونية فإن تقدم العلم كفيل
بالكشف عن أسرارها.
(وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي جبالا فوق الأرض ونحوه الآية ١٥ من سورة النحل : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ). (وَبارَكَ فِيها
وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ). بارك سبحانه بما حوته من نبات ومعادن وبترول وغيره ،
والمراد بقدر أقواتها ان ما في الأرض من خيرات هي على قدر ما فيها من الأحياء
الذين يحتاجون الى القوت مهما بلغ عددهم.
وقال جماعة من
المفسرين : ان اليومين الأولين هما من جملة الأيام الأربعة أي ان خلق الأرض وتقدير
الأقوات فيها ، كل ذلك تم في أربعة أيام من أيام الله ، والمراد بالسائلين هنا كل
من يحتاج الى القوت ، وسواء تومئ الى أن الله ما جعل خير الأرض لجنس دون جنس أو
فئة دون فئة ، بل الخلائق بكاملها سواء في رزقه وفضله ، وإذا وجد جائع فإنما هو من
ظلم القوي للضعيف. انظر تفسير الآية ٥٦ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٠ فقرة الله أصلح
الأرض والإنسان أفسدها.
ما هو الحل لمشكلة الجوع؟
ولمناسبة قوله
تعالى عن الأرض : (وَبارَكَ فِيها
وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) نشير إلى الذين قالوا : ان السبب الأول لوجود الجوع في
العالم هو تضخم سكان الأرض وتزايدهم يوما بعد يوم بينا أقوات الأرض وخيراتها لا
تفي بحاجة السكان ، ولا تتناسب مع زيادة انتاج الأطفال ، ثم اختلف هؤلاء فيما
بينهم على وجه الحل لهذه المشكلة ، فمن قائل : ان الحل هو حتمية الحروب الطاحنة ،
وتقتيل الناس بالملايين حتى يحصل التوازن بين عدد السكان وانتاج الغذاء .. وقد
روّج لهذا الرأي الذين يملكون الصناعة العسكرية ومعهم الذين يحتكرون موارد الأرض
ومقدراتها ، ويكدسون الثروات على حساب الملايين وبؤسهم وشقائهم.
وقال آخرون : إذا
لم تكن الحرب فلتكن الأمراض والأوبئة المهلكة ، وشاع رأي ثالث ، وهو تحديد النسل
وتخطيطه. ولا ضرر في هذا الرأي فإن تحديد النسل حق طبيعي وشرعي لكل انسان ، شريطة
أن يكون التحديد قبل وجود النسل ، بل وقبل استقرار النطفة في الرحم واستعدادها
لتكوين الجنين ، أما الرأي القائل بضرورة انتشار الأوبئة فهو موبوء. وكفى القول
الأول وهنا ان القائلين به هم تجار الحروب الاستعمارية ، وأصحاب الشركات
الاحتكارية والسيطرة الاقتصادية على البلاد الفقيرة النامية.
ان السبب الأول
لمشكلة الجوع يكمن في صراع قوى الشر على خيرات الأرض واحتكار مقدراتها ، وفي
رفاهية الفئة القليلة على حساب شقاء الفئة الكثيرة ، وفي إحراق المحاصيل الزراعية
للمحافظة على الغلاء وارتفاع الأسعار ، وفي إلقاء ألوف الأطنان من المواد
الكيماوية السامة على القرى والمزارع في مناطق واسعة شاسعة بفيتنام وغيرها ، وفي
توجيه العلم إلى الانتاج الحربي والصناعة العسكرية.
ولو اتجه العلم
إلى الانتاج السلمي فقط لزادت خيرات الأرض عن حاجة أهلها وكانت الأرزاق كالتراب.
فقد نشرت «مجلة اليونسكو» بحثا جاء فيه : ان تكاليف قذيفة كبيرة واحدة تكفي لبناء
٧٥ مستشفى ، بكل واحد منها مائة سرير بكامل المعدات ، أو شراء خمسين ألفا من
الجرارات الزراعية التي يمكن أن تحرث ملايين الأفدنة بدلا من حرثها بمن عليها
بقنابل الدمار .. وقد أنفقت الولايات المتحدة
على حرب فيتنام
وحدها ٤٠٠ بليون دولار دون أن تنهي الحرب .. أليست هذه البلايين من بعض خيرات
الأرض وبركاتها؟ ولو أنفقت في سبيل الزراعة لكانت كافية وافية بزرع جميع الصحاري
والبحار وبعض الكواكب أيضا ، ولعاش أهل الأرض ومعهم أمثالهم في هناء ورخاء.
وأيضا لو صح الرأي
القائل : ان خيرات الأرض وأقواتها لا تفي بحاجة أهلها لكان معنى هذا ان الله لم
يحسن التقدير والتدبير ، وانه أخطأ في إحصاء سكان الأرض على مدى الأزمان ، أو انه
أخطأ في تقدير ما يحتاجونه من الأقوات .. تعالى الله عما يقول الجاهلون .. ان الحل
لمشكلة الجوع لا يكون بالحروب ، ولا بانتشار الأوبئة ، ولا بتحديد النسل ، وأية
جدوى من هذا التحديد ما دام في الناس ظالم ومظلوم ، وآكل ومأكول ، وإنما الحل لهذه
المشكلة هو إزالة الموانع التي تحول بين الإنسان وأسباب معيشته ، هو استغلال خيرات
الأرض لإنتاج الغذاء والكساء ، ولسد كل ما يحتاجه الإنسان الحاضر والآتي.
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). استوى قصد ، وقالتا أتينا طائعين كناية عن قدرة الله
وانقياد الكون لأمره ، وتومئ الآية الى ان الفضاء قبل خلق الكواكب كان فيه شيء
كالدخان (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ). والسموات السبع هي الأكوان الفضائية العلوية السبعة ،
وليس الكواكب السبعة. انظر تفسير الآية ١٧ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٦٢ فقرة «معنى
السموات السبع» أما اليومان فهما الدفعتان أو الطوارن كما قيل.
(وَأَوْحى فِي كُلِّ
سَماءٍ أَمْرَها) أي خلق في كل سماء ما فيها من الكواكب وغيرها مما علمه عند
ربي (وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) وهي الكواكب التي
تضيء كالمصابيح (وحفظا) يحفط الله الكواكب في استمرارها على نهج واحد (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). ذلك إشارة إلى كل ما تقدم من خلق الأرض وأقواتها ، وخلق
السماء وزينتها وحفظها ، ولا يكون ذلك إلا من قادر حكيم ، ومدبر عليم.
هذا كل ما نملك من
الفهم والعلم في تفسير هذه الآيات ، نذكره بتحفظ
مؤمنين بالله
وقدرته ، وبكل غيب أشار اليه في كتابه بكلمة لا نعرف معناها على وجهه ولا ندرك
سرها على حقيقته .. ولو ألححنا في طلب المزيد من المعرفة لا نجد أمامنا إلا النقل
من كتب أهل الاختصاص ، على انهم لا يقيمون البراهين القاطعة على ما يثبتون وينفون
إلا قليلا. ومن أراد الاطلاع على أقوالهم فليرجع إلى كتاب «الكون العجيب» لقدري
حافظ طوقان وكتاب «مع الله في السماء» لأحمد زكي وغيره.
أنذرتكم صاعقة الآية ١٣
ـ ١٨ :
(فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ
جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا
بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي
أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ
الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))
اللغة :
صاعقة عذاب من
السماء. وريحا صرصرا باردة مهلكة. ونحسات نكدات. والهون الذل.
الإعراب :
المصدر من ألا
تعبدوا مجرور بباء الجر المحذوفة أي جاءتهم بعدم العبادة لغير الله. وعاد مبتدأ
واستكبروا خبر. وقوة تمييز.
المعنى :
(فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ
الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللهَ). ضمير أعرضوا لمشركي العرب والمخاطب بقل رسول الله (ص) ،
ومن بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن مبالغة الرسل واجتهادهم في التبشير والانذار ،
وانهم سلكوا من أجل هدايتهم كل سبيل ، ولكن استحوذ عليهم الشيطان ، وصدق فيهم ظنه
حيث قال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ـ ١٧ الأعراف.
والمعنى قل يا محمد لمن كفر بك وبرسالتك : لقد كذبت عاد وثمود بالرسل الذين دعوهم
الى ما دعوتكم اليه من التوحيد ، وبذلوا كل جهد لهدايتهم ، ولما أصروا على الضلال
أخذهم الله بعذاب الدنيا والآخرة ، واني نذير لكم أن يصيبكم ما أصابهم (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). أجاب عاد وثمود الرسل بالتكذيب لأن الله بزعمهم لا يبعث
للناس رسولا منهم ، بل يبعثه من الملائكة .. ودحضنا هذا القول عند تفسير الآية ٨
من سورة الانعام ج ٣ ص ١٦٤.
(فَأَمَّا عادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً). قوله بغير حق هو من باب الإيضاح والتأكيد ، لأن الاستكبار
لا يكون من المخلوق إلا بالباطل بخاصة إذا كان عن عبادة الله ، وقد استكبر عنها
عاد واحتقروا الضعفاء ، وقالوا : نحن أقوى وأعظم من أن ينالنا أحد بسوء (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً). وهذه بديهة لا تحتاج الى دليل. قال الإمام علي (ع) : كل
عزيز غير الله ذليل ، وكل قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك ، وكل عالم غيره
متعلم ، وكل قادر غيره يقدر ويعجز (وَكانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ).
كفروا بالأدلة
الكونية الدالة على وحدانية الله وعظمته ، وقالوا : كل ما في الكون من حياة وإحكام
ونظام هو من عمل الطبيعة.
(فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ). أخذهم سبحانه في الدنيا بريح هو جاء باردة في أيام هي نحس
وخزي عليهم ، ثم استكملوا العذاب في الآخرة بما هو أشد وأخزى من عذاب الدنيا.
(وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ
الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). هذه الآية واضحة الدلالة على ان الإنسان مخيّر غير مسيّر
لأنها تقول : ان الله أرشد ثمودا إلى طريق النجاة ، وأمرهم بسلوكه ، وحذرهم من
المعصية ، وبيّن لهم طريق الهلاك ونهاهم عنه ، وأنذرهم سوء العاقبة ان سلكوه
ولكنهم آثروه على طريق النجاة ، فكان جزاؤهم الوبال والخسران (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) نجاهم سبحانه لأنهم سلكوا طريق النجاة. وتقدم الكلام عن
عاد في الآية ٥٠ وما بعدها من سورة هود ج ٤ ص ٢٣٩ ، وعن ثمود في الآية ٦١ ص ٢٤٤ من
نفس السورة والمجلد.
شهد عليهم سمعتهم وأبصارهم الآية
١٩ ـ ٢٤ :
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا
أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ
أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))
اللغة :
الوازع الزاجر
والمانع ويوزعون أي ان الملائكة تزجر أهل النار وتمنعهم من الفوضى. ومثوى مقام.
وان يستعتبوا ان يعتذروا ويطلبوا الرضا.
الإعراب :
ويوم منصوب بفعل
محذوف أي واذكر يوم يحشر. وحتى للغاية. وإذا ما «ما» زائدة. وذلكم مبتدأ ، وظنكم
بدل أو عطف بيان من ذلكم ، والذي صفة لظنكم ، وأراداكم خبر ذلكم.
المعنى :
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ). هذه الآيات التي نحن بصددها تتصل بالآية السابقة ، وهي : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) .. وأيضا قل لهم يا محمد : ان ملائكة العذاب تسوق غدا
المجرمين الى جهنم بانتظام ، فمن تأخر زجروه ، ومن حاول الهرب صدّوه ، والقصد انه
لا مفر لهم من عذاب الحريق.
(حَتَّى إِذا ما
جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ). لا شيء في اليوم الآخر إلا الحساب والجزاء .. وتدل بعض
الآيات ، ومنها هذه الآية التي نفسرها ان الله لا يعاقب المجرم في ذاك اليوم إلا
بعد أن يقتنع هو بأنه مذنب يستحق العقاب ، وهذا بعض الفروق بين حكم الحاكم في
الدنيا حيث ينفذه
الحاكم على كل حال
سواء اقتنع به المحكوم عليه أم لم يقتنع ، وبين حكم الله في الآخرة فإنه تعالى لا
ينفذه حتى يقنع المحكوم عليه بأنه يستحق العقاب .. ومن أجل هذا تتراكم الشهود على
المجرم ، فحملة الدين يشهدون عليه بأنهم قد بلغوه حلال الله وحرامه ، والملائكة
يشهدون بأنه عصى وتمرد ، وصحيفة أعماله تسجل عليه كل قول وفعل ، فإذا أظهر المجرم
عدم الاقتناع بكلّ هذه الشواهد أقام الله عليه شاهدا من نفسه ، فيشهد عليه جلده
بأنه لامس الحرام كالزنا ومقدماته ، ويشهد عليه سمعه بأنه سمع الحق فأعرض عنه ،
ويشهد بصره بأنه رأى دلائل الوحدانية فجحدها ، وما الى ذلك من الرذائل والموبقات.
وتومئ الآية الى
معنى دقيق ، وهو ان الشرط في الشاهد أن لا يتحيز ، وربما توهم المجرم ان المبلغين
والملائكة قد مالوا بشهادتهم إلى الله لأنهم لا يعصونه وبأمره يعملون ، فأقام
سبحانه شهودا على نفس المجرم من نفسه دفعا لهذا التوهم وان كان باطلا. وفي بعض
الروايات ان العبد غدا يخاطب ربه ويقول : ألم تجرني من الظلم؟ فيأتيه الجواب بلى.
فيقول العبد : انّي لا أجيز على نفسي إلا شاهدا من نفسي ، وعندئذ يأمر تعالى
أعضاءه أن تشهد عليه. فيقول العبد المذنب لأعضائه : بعدا لكنّ وسحقا ، فكم ناضلت
عنكنّ.
(وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)؟ وفي قولهم هذا اشعار بأن بعض المجرمين لم يقبلوا شهادة
المبلغين والملائكة ، وانهم توهموا ان هذا الرفض يجديهم نفعا لولا ان يقيم الله
عليهم شهودا من أنفسهم (قالوا ـ أي الجلود ـ أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو
خلقكم أول مرة واليه ترجعون). أعضاؤهم تنطق في الدنيا بلسان الحال ، ويشهد ما فيها
من حكمة وإتقان بأن الله هو المبدئ والمعيد ، وتنطق بذلك صراحة في الآخرة أيضا.
واختلف المفسرون في كيفية شهادة الأعضاء على أصحابها غدا ، فمن قائل : ان الله
يظهر عليها علامات تشير الى الجرائم التي ارتكبوها. وقائل : ان الله ينطقها حقيقة.
وهذا هو الصحيح لأن ظاهر الآية يدل عليه ، والعقل لا يأباه.
(وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا
جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً
ـ أي
ما تخفون ـ مِمَّا تَعْمَلُونَ). ظننتم أي اعتقدتم ،
انكم أيها
المجرمون ارتكبتم الذنوب والجرائم وراء الستار خوفا من الناس ، لا خوفا من الله
حيث اعتقدتم ان الله لا يعلم ما تفعلون في الخفاء ، وان أعضاءكم لن تشهد عليكم يوم
الحساب لأنكم لا تؤمنون به (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ). ان هذا الاعتقاد الباطل هو الذي قادكم الى جهنم وبئس
المصير .. وهذا ينطبق أيضا على الذين يؤمنون باليوم الآخر نظريا ، ويكفرون به
عمليا حيث يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، بل هو أسوأ حالا ممن أنكر البعث
وقدرة الله لأنهم عصوا وهم على يقين بأن الله معهم يسمع ويرى ، وأنه لا تخفى عليه
خافية في الأرض ولا في السماء.
(فَإِنْ يَصْبِرُوا
فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ). ان يصبر المجرمون على النار فهي نصيبهم ومسكنهم ، ولا
خلاص لهم منها ، وان يطلبوا الرضا من الله فلن يرضى عنهم : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ
كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) ـ ٢٩ الكهف.
وقال الذين كفروا لا تسمعوا هذا القرآن الآية
٢٥ ـ ٢٩ :
(وَقَيَّضْنا لَهُمْ
قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ
فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))
اللغة :
قيضنا هيأنا.
والقرناء جمع قرين. وكل كلام لا معنى له أو لا فائدة منه فهو لغو.
الإعراب :
ذلك مبتدأ وجزاء
أعداء الله خبر. والنار بدل من جزاء. وجزاء منصوب على المصدر أي يجزي بالنار جزاء.
المعنى :
(وَقَيَّضْنا لَهُمْ
قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). المراد بما بين أيديهم الدنيا وحطامها ، وبما خلفهم
الآخرة وهي مجرد خرافة عند الجاحدين ، والمعنى ان الله سبحانه هيأ للطغاة المجرمين
قرناء سوء يغرونهم بالسيئات ، ويزهدونهم بالحسنات.
وتسأل : إذا كان
الله هو الذي قيض لهم من يغريهم بالضلالة والمعصية فمن الظلم والجور أن يعاقبهم
ويقول : «حق عليهم القول» أي العذاب؟
الجواب : الله
سبحانه فعل بهم ذلك بعد أن سلكوا طريق الضلال والغواية بسوء اختيارهم .. وقد أوضح
سبحانه ذلك في الآية ٣٦ من سورة الزخرف حيث قال : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). وقال : («فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ـ ٥ الصف». وتقدم
ذلك مرات ومرات.
(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ). طغوا وبغوا فاستحقوا العذاب تماما كما استحق أمثالهم من
الأمم الماضية ، وتدل الآية على ان الجن أمم وأجيال ، وان فيهم رسلا وأنبياء ، وان
منهم الصالحين ومنهم دون ذلك تماما كالإنس (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا
الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). دهش الطغاة حين رأوا أثر القرآن وسلطانه على النفوس ،
وماجوا في حيرة : ما ذا يصنعون بعد أن عجزوا عن مقارعته بالبرهان ، ومقابلة الحجة
بالحجة .. ثم اتفقوا أن يحاربوه بالباطل ، ويصفوه بالسحر والأساطير ، ويقابلوا
تلاوته بالتشويش والهذيان .. بهذا السخف والجهل ينتصرون لباطلهم ، ويريدون أن
يطفئوا نور القرآن .. وإذا دل قولهم : («وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) إذا دل على شيء فإنما يدل على اعترافهم بالعجز الا عن
اللغو والهذيان ، وان القرآن هو حصن الله الحصين الذي أعجز ويعجز الفكر الانساني
على مدى العصور والأزمان.
(فَلَنُذِيقَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا
يَعْمَلُونَ) ينقسم عمل المجرمين الى قسمين : سيئ وأسوأ ، وكذلك الجزاء
، لأن (مَنْ عَمِلَ
سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ـ ٤٠ غافر وانما
ذكر سبحانه أسوأ أعمالهم ليبين ان جزاءهم غدا أسوأ الجزاء تماما كأعمالهم (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ
لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ). ذلك اشارة إلى الجزاء على أسوأ الأعمال ، وهو الخلود في
نار جهنم ، وهذا الخلود قد جعله الله جزاء كل جاحد ومعاند لما أقامه الله من
الدلائل الواضحة على وحدانيته وعظمته .. وفي الآية إيماء الى ان الجاحد والمشرك لا
عذر لهما على الإطلاق ، وان الجهل إنما يكون عذرا في غير الجحود والشرك لأن دلائل
الوحدانية لا غموض فيها ولا خفاء ، ولا تحتاج معرفتها والايمان بها إلا الى النظر
المجرد عن الهوى والتقليد.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) من الضعفاء التابعين : (رَبَّنا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) المتبوعين (نَجْعَلْهُما تَحْتَ
أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ). سألوا الله سبحانه أن يسلطهم على من أضلهم من شياطين
الإنس والجن ليدوسوهم بالأقدام ويكونوا في مكان أعمق من مكانهم في الجحيم .. ولكن
الله سبحانه قد كفاهم ذلك حيث أخذ كلا بذنبه السيء والأسوأ.
قالوا ربنا الله ثم استقاموا الآية
٣٠ ـ ٣٦ :
(إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١)
نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى
اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))
اللغة :
النزل ما يعد
للنازل ، والمراد به هنا الرزق والعطاء. والنزغ في اللغة النغز والوكز ونزغ
الشيطان اغراؤه بالشر.
الإعراب :
نزلا منصوب على
المصدر أي أنزلكم ربكم نزلا ، ويجوز أن يكون حالا من «ما تدعون» أي من اسم
الموصول. وإمّا كلمتان «ان» الشرطية و «ما»
الزائدة ، ولذا
دخلت نون التوكيد على ينزغنك لأنها لا تدخل على فعل الشرط إلا إذا كان مع الشرط «ما»
الزائدة.
الله والإنسان والعمل :
من تتبع آي الذكر
الحكيم يجد انها تدل بمنطوقها ومفهومها على ان العمل مع الايمان هو كل شيء بالنسبة
الى الإنسان. واليك الدليل.
١ ـ الآيات
الناطقة بأن الغاية الأولى والحكمة الكبرى من وجود الإنسان هي العمل الصالح. ومن
هذه الآيات قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ـ ٢ تبارك وقوله :
(وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). أي ليعملوا. أنظر فقرة لما ذا خلق الله الإنسان عند تفسير
الآية ٣٣ من سورة لقمان.
٢ ـ الآيات التي
دلت على ان العمل هو الميزان الذي يقيّم الإنسان على أساسه ، مثل قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ـ ٢١ الطور وقوله
: (وَما تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ـ ٣٩ الصافات
وقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا) ـ ١٣٢ الأنعام إلى
غير ذلك.
٣ ـ أما قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) فهو دليل واضح وقاطع على ان العمل هو الظاهرة الوحيدة التي
تعكس الايمان بالله حقا وواقعا ، وان أي انسان يقول : أنا مؤمن دون أن يترجم
إيمانه بالسلوك والعمل في علاقته مع خالقه ومع نفسه ومع مجتمعه فهو مفتر كذاب. ومن
نافلة الكلام أن نقول : ان مقصود القرآن من العمل هو العمل البنّاء المثمر ، وان
كل قول ينتج هذا العمل فهو في حكمه. وتكلمنا عن الاستقامة مفصلا في ج ١ ص ٢٦ وج ٥
ص ٢٧٣.
٤ ـ وفوق ذلك كله
فإن الله سبحانه استدل على وجوده وعظمته بالعمل ، قال عز من قائل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ ٥٢ فصلت. ثم ذكر
سبحانه في كتابه العديد من هذه الآيات ، نكتفي
بواحدة منها : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) ـ ٤ الرحمن.
(تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). لكل شيء أجل معلوم ، وإذا جاء أجل الذين استقاموا على
الطريقة الإلهية تنزلت عليهم ملائكة الرحمة بالسكينة والبشرى بأن الله قد اطّلع
على عملهم ، ورضي سعيهم ، وأعد لهم مقاعد الكرامات التي وعدهم بها على لسان
أنبيائه ورسله (نَحْنُ
أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ). ما زال الكلام لملائكة الرحمة مع الذين استقاموا.
وما تدعون أي ما
تتمنون ، والنزل العطاء ، ويتلخص المعنى بأن أهل الطاعة والاستقامة هم عند رب رحيم
، ولهم ما يشاءون من الرزق الكريم. وقال ابن عربي في الفتوحات المكية حول هذه
الآية كلاما نلخصه بأن الملائكة تقول للمخلصين قبل أن ينتقلوا من دار الفناء الى
دار البقاء ، تقول لهم : نحن أولياؤكم في الدنيا لأن الشيطان كان يغريكم بالعدول
عن صراط الله المستقيم ، ونحن ننهاكم عنه وكنتم تسمعون لنا من دونه .. وأيضا نحن
أولياؤكم في الآخرة لأننا نشهد لكم عند الله بالايمان والاستقامة.
(وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ). إذا عطفنا هذه الآية على قوله تعالى : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ
اسْتَقامُوا) وجمعناهما في كلام واحد ـ ينتج معنا ان الايمان الحق على
ثلاث شعب : الأولى إعلان الايمان بالله. الثانية العمل بشريعة الله ، وأهمه وأعظمه
الأسهام في خدمة الإنسان. الثالثة الدعوة الى الله. ويدل على الأولى (قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي أعلنوا ذلك على الملأ ، ويدل على الثانية «ثم استقاموا»
وعلى الثالثة (دَعا إِلَى اللهِ). ومن جمع بين هذه الصفات الثلاث فله ان يدعي الإسلام ،
ويقول : «انني من المسلمين» ومن قالها دون أن يؤمن بالله أو آمن ولم يسهم في خدمة
الإنسان ولم يدع الى الله فما هو من الإسلام ولا المسلمين في شيء وان عومل
معاملتهم في الدنيا.
(وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). الخطاب في ادفع وفي بينك لمحمد (ص). ويدل السياق
على ان المراد
بالحسنة هنا حسنة الرسول الداعي الى الله ، وهي جهاده وصبره على الأذى في سبيل هذه
الدعوة ، والمراد بالسيئة سيئة السفيه الجاهل من الدين دعاهم الرسول إلى الله ،
والمعنى : فرق بعيد بين عملك يا محمد وأنت تدعو الى الله وتتحمل الأذى في سبيله
صابرا محتسبا وبين عمل الذين أجابوا دعوتك الى الله بالإعراض والأذى والافتراء ..
ان عملك صلوات وحسنات ، وعملهم سيئات ولعنات .. وعلى الرغم من ذلك فعليك أن ترفق
بهم وتتسامح معهم وتصبر على سفاهتهم ، فإن منهم من لو قابلته بهذه السماحة لعاد
إلى ربه وعقله وانقلبت عداوته لك إلى محبة ، وبغضه إلى مودة.
والإنسان أي انسان
، يستطيع أن يكسب أصدقاء يقاتلون معه بكلمة طيبة ، وان يخلق له أعداء يقاتلون ضده
بكلمة خبيثة ، وقد استطاعت كلمات الأبرار ان تهدي الكثير من الفجار ، وتنهي العديد
من المشاكل بين البشر ، ولولاها لجرت الدماء أنهرا.
(وَما يُلَقَّاها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). ضمير يلقاها يعود إلى هذه الصفة ، وهي دفع السيئة بالحسنة
، وذو الحظ العظيم من كان مرضيا عند الله ، والمعنى ان دفع السيئة بالحسنة منقبة
عظمى لا يتحلى بها إلا من صبر عند الشدائد ، وكان وجيها عند الله. وفي نهج البلاغة
: الصبر من الايمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس معه ، ولا في ايمان
لا صبر معه. وفيه أيضا : احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك.
(وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). الخطاب لمحمد (ص) ، وتدل الآية بالفحوى على ان الإنسان
معرّض للخطأ ، وان عليه أن يحتاط لنفسه ، ولا يزكيها بالغا ما بلغ من الدين والعلم
والعقل. وتقدمت هذه الآية بالحرف الواحد في الآية ٢٠٠ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٣٩.
لا أتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلقه الآية
٣٧ ـ ٤٦ :
(وَمِنْ آياتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا ل
ِلْقَمَرِ
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ
خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي
النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
(٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً
أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ
هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ
وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ
بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))
اللغة :
خاشعة هامدة لا
حياة فيها. وربت زادت. والإلحاد الانحراف عن الحق والمراد به هنا الطعن في القرآن.
وحميد محمود. والفرق بين الأعجم والعجمي ان الأعجم من لا يفصح وان كان عربيا ،
والعجمي المنسوب الى العجم. وقد يطلق أحدهما على الآخر. والوقر الصمم.
الإعراب :
المصدر من انك ترى
مبتدأ وخبره من آياته. وترى هنا بصرية تحتاج الى مفعول واحد وهو الأرض. وخاشعة
حال. وآمنا حال من ضمير يأتي. وان الذين كفروا بدل من ان الذين يلحدون ، وخبر ان
محذوف أي معذبون أو لا يخفون علينا ، وقد حذف من الثاني لدلالة الأول عليه. وعزيز
صفة لكتاب ، وجملة لا يأتيه صفة ثانية ، وتنزيل صفة ثالثة. ولولا أداة تحضيض بمعنى
هلا. وأعجمي خبر لمبتدأ محذوف وكذلك عربي أي أكتاب اعجمي ونبي عربي. فلنفسه متعلق
بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فعمله لنفسه.
الرحلة الى القمر :
(وَمِنْ آياتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ). ذكر سبحانه في كتابه العزيز العديد من الآيات الكونية
ودلالتها على الخالق وصفاته ، ومن تلك الآيات اختلاف الليل والنهار ، وخلق الشمس
والقمر. انظر تفسير الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ وتفسير الآية ٣٧ وما بعدها
من سورة يس والآية ٥ من سورة الزمر وغيرها من الآيات التي فيها ذكر الليل والنهار
والشمس والقمر.
ولمناسبة ذكر
القمر في هذه الآية نشير الى الحدث العالمي الهام ، وهو رحلة رائدي الفضاء : «ونج»
و «ادوين» الأمريكيين الى القمر في صيف سنة ١٩٦٩ ، وقد تكلم الناس عنها كثيرا ،
وسألني أكثر من واحد عن رأي الدين في هذه
الرحلة ، وأجبت
بكلمة نشرتها الصحف ، ثم أدرجتها في المجلد الخامس من التفسير الكاشف بمناسبة بعض
الآيات ، ولما وصل اليها عامل المطبعة شعرت من أعماقي بناصح يأمرني بالعدول عنها
فاستنصحته دون ان أعرف السبب.
وبعد الانتهاء من
طبع المجلد الخامس بقليل ظهر لي ان الخير فيما وقع ، ذلك اني قرأت في جريدة
الأخبار المصرية عدد ٦ ـ ٢ ـ ١٩٧٠ مقالا مترجما عن جريدة برافدا السوفيتية لعالمين
بارزين في العلوم الطبيعية ، وهما «م فاسين» و «اشر باكوف» السوفياتيان .. اطلع
هذان العالمان على النتائج التي أعلنها العلماء الامريكيون لدراسة تربة القمر
والمعادن الموجودة في أرضه ، وقالا : «ان هذه الدراسة ترفض كل النظريات الشائعة عن
أصل القمر ، ولا تقبل إلا تفسيرا واحدا ، وهو ان القمر مصنوع صنعا دقيقا ومحكما ،
وان الذي صنعه قوة خارقة مذهلة تملك من الطاقات ما لا يملكه كائن من الكائنات» ،
وينتج من هذا ان ما يعتقده الماديون عن الكون هو مجرد أوهام ، ونقتطف من هذا
المقال الكلمات التالية :
«ان الدراسات
العلمية الحديثة ترفض كل ما قيل من النظريات والافتراضات عن نشأة القمر ، وتبدأ
بفكرة جديدة لحل هذا اللغز .. وتقول هذه الفكرة الجديدة : ان صناعة القمر تمت
بأيدي «كائنات» متقدمة في علومها وآلاتها الفنية .. ثم «فرملت» حركته بواسطة
الأجهزة البالغة التقدم بداخله .. ان في القمر ظواهر غريبة يستحيل أن توجد بالصدفة
، وقد اجتهد صانعو القمر كثيرا حتى توصلوا إليها».
«ان الغلاف
الخارجي للقمر يتكوّن من طبقتين أساسيتين : الأولى طبقة عازلة للحرارة ، سمكها
حوالي ٤ كيلومترات ، والثانية سمكها ٣٠٠ كيلومتر ، وفوقها أجهزة وآلات مختلفة تم
تصميمها لحماية المحركات. فالقمر ـ اذن ـ مذهل الصنع يستطيع تحمّل السفر الطويل
والتواجد في مكانه ملايين الملايين من السنين. ولكن يبقى هذا السؤال قائما ، وهو
إذا كان القمر قد صنعته «كائنات عاقلة متقدمة» فمن أين جاءت هذه الكائنات؟ ولما ذا
تكبدت هذا المجهود لصنع هذا الكوكب؟ ألمجرد ان يدور حول كوكبنا بالذات؟. وهنا لا
تقدم النظرية الجديدة إجابات .. ولكنها تعتقد ان أقرب الافتراضات إلى العقل من أي
شيء آخر هو ان القمر مصنوع ، وقد أحكمت صنعه قوة مذهلة».
هذا هو بيت القصيد
وشاهدنا من المقال ، أعني قول العالمين الشيوعيين : «ان العقل يرفض كل افتراض
وتفسير لوجود القمر إلا افتراضا واحدا ، وهو ان القمر مصنوع ، وان الذي صنعه قوة
مذهلة». أجل ، هو مصنوع وصانعه لا شريك له ولا مثيل ، وهندسته هي التي أرشدتنا إلى
ذلك. أما قول العالمين : صنعته كائنات متقدمة .. وفرملته أجهزة خارقة بالغة الدقة
.. وان صانعيه بذلوا جهدا كبيرا في صنعه لأجل إخراجه ، أما هذا القول فإنه اعتراف
صريح بأن ما في القمر من دقة وإحكام لا يكون ومحال أن يكون إلا من لدن قدير حكيم
ليس كمثله شيء ، وهو الخلاق العليم .. ونحن على يقين بأننا سنقرأ في المستقبل
القريب اعترافات أوضح تهدم أقوال الماديين ونظريات الملحدين ، وتثبت بالحس
والتجربة ان وراء هذا الكون قوة قاهرة تقول للشيء كن فيكون .. وهذه نتيجة لا مفر
منها لتقدم العلوم وانطلاق العقل نحو الكون العجيب .. وهنا يكمن السر لقوله تعالى
: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ـ ١٨٥ الأعراف.
وقوله : (هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ـ ١١ لقمان. وقوله
: (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ـ ٤ الرعد.
(لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). ضمير الإناث في خلقهن يعود الى الليل والنهار والشمس
والقمر ، أو إلى جميع الكواكب ، وعبّر سبحانه عنها بالشمس والقمر لأنهما أظهر
الأفراد .. وقد اتفق الفقهاء قولا واحدا على أنه يجب أن يسجد قارئ هذه الآية ومن
استمع اليها ، وقال بعضهم : بل ومن سمعها من غير قصد. وهي تخاطب الصابئة الذين
عبدوا الكواكب لما فيها من المنافع ، تخاطبهم وتقول لهم : ان الله هو الذي خلق
الكواكب وسخرها لمنافع العباد ، وما هي إلا مخلوقات مثلنا تتوجه اليه تعالى
بالسجود وتعترف له بالعبودية.
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ). ضمير استكبروا يعود لعبدة الكواكب ، والمعنى ان أصر هؤلاء
على الشرك فإن الله غني عنهم وعن عبادتهم لأن له عبادا ـ الملائكة ـ لا يفترون عن
التسبيح له ليلا ونهارا (وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ). تكرر هذا المعنى
في العديد من
الآيات وبأساليب شتى ، منها الآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١١.
(إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا). طعن المشركون بالقرآن فقالوا : هو سحر ، وقالوا : انه
أساطير .. والله عليم بأقوالهم ، وسائلهم عنها ، وآخذهم بها (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)؟ وهذا السؤال يحمل جوابه معه ، وأي عاقل يقول : النار خير
من الجنة ، والخوف أحسن من الأمن؟ ولكن المجرمين ذهلوا عن هذه البديهة وانهم في
واقعهم قد آثروا الجحيم على النعيم ، والخوف على الأمن (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). هذا تهديد ووعيد بأنهم سيلاقون العذاب بعد أن ركبوا اليه
طريق الكفر والضلال (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ). المراد بالذكر القرآن ، وخبر ان محذوف أي معذبون.
إسرائيل والقرآن :
(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وصف سبحانه القرآن بأنه عزيز وانه لا يأتيه الباطل ،
ومعنى عزيز انه القاهر الغالب بحججه الواضحة وبراهينه القاطعة ، أما حفظه من
الباطل فقد ذكر له المفسرون خمسة معاني ، وأقربها ان كل ما فيه من عقيدة وشريعة
وأنباء وغيرها فهو حق لا ريب فيه. وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٩ من
سورة الحجر ج ٤ ص ٤٦٨. وذكرنا هناك ان إسرائيل طبعت ألوف النسخ من القرآن ، وشوهت
بعض الآيات ، منها الآية ٨٥ من سورة آل عمران التي صارت في قرآن إسرائيل : ومن
يبتغ غير الإسلام دينا يقبل منه. وقد حدث هذا سنة ١٩٦٨. فجمع الأزهر هذه النسخ
ومنعها من الانتشار ، ولكن إسرائيل عادت ثانية وزوّرت سنة ١٩٦٩ آيات أخرى منها : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) ـ ٦٤ المائدة
فغيرت إسرائيل كلمة لعنوا الى كلمة «آمنوا» وغمرت بهذه النسخ أسواق لبنان ومعظم
البلاد العربية وماليزيا وباكستان والهند وأندونيسيا وغينيا وساحل العاج وايران ..
وفي هذا اليوم بالذات ٢٥ ـ ٢ ـ ٧٠ نشرت جريدة «النهار» البيروتية ان المحامي فاروق
سعد أقام بوكالته عن مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني بالقاهرة دعوى على مجهول بجرم
تزوير طبعة القرآن الكريم
وتقليدها وتحريفها
وتعديلها ، وان النسخ المحرفة طبعت في ألمانيا الغربية في مطبعة «كولونيا ـ دويتس».
ولم تقف إسرائيل
في حربها للإسلام والمسلمين عند هذا الحد .. فأذاعت القرآن من اذاعتها محرفا ، وقد
ظلت اذاعة القاهرة شهرا كاملا تسجل القرآن من اذاعة إسرائيل .. وأيضا صممت إسرائيل
«راديوهات» لا تلتقط إلا اذاعتها التي تحرف القرآن وباعتها بأبخس الأثمان .. فعلت
إسرائيل هذا وأكثر من هذا تطبيقا للمبدإ الصهيوني الذي أعلنه أحد زعماء الصهاينة
بقوله : «يجب أن نتخذ القرآن سلاحا مشهرا ضد الإسلام لنقضي عليه».
نذكر هذا كمثل
للحرب التي تشنها إسرائيل على الإسلام .. عسى أن يعتبر به بعض الملوك والرؤساء بل
وبعض الشيوخ أيضا الذين يتسمون باسم الإسلام ، ويعملون في الخفاء لصالح إسرائيل
ومن يساندها .. وطريف قول بعض الشيوخ المزيفين : ان إسرائيل أحسن من غيرها لأنها
تذيع القرآن من اذاعتها .. أجل ، يا شيخ انها تذيعه بل وتطبعه وتنشره أيضا ، ولكن
مزيفا ومحرفا لتقضي على الإسلام تماما كبعض المعمّمين المزيفين.
(ما يُقالُ لَكَ
إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ). قال مشركو الأمم السابقة لرسلهم وأنبيائهم : «قلوبنا في
أكنة مما تدعونا اليه .. ما هذا إلا سحر مفترى .. ان هذا إلا أساطير الأولين .. ان
رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون الخ ..» وهكذا قال لك يا محمد طغاة قومك لأن الإله
الذي أرسلك وأرسل من كان قبلك واحد ، ورسالته واحدة ، ومصلحة الطغاة التي تحول
بينهم وبين اتباع الحق هي هي في كل زمان ومكان (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ). جمعت الآية بين ذكر الضدين : العفو عن الذنب إذا تاب
صاحبه ، والأخذ به إذا أصر عليه .. وهكذا سبحانه في الكثير من الآيات يقرن الوعد
بالوعيد والترغيب بالترهيب كي يخشى العبد من عذاب الله فيتقيه ، ولا يقنط من رحمته
فيتوب ويؤوب.
(وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌ). نزل القرآن على العرب بلغتهم التي يحبونها ويعتزون بها ،
فقال بعض طغاتهم لبعض : «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه». ولو نزل بغير لغتهم
لاعترضوا وقالوا : أنبي عربي وكتاب أعجمي؟ هكذا يعدون لكل باب مفتاحا ، ولكل ليل
مصباحا ،
ولا هدف إلا
الهروب من الحق.
(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) القرآن هدى لمن طلب الهدى والحق لوجه الحق ، وشفاء لمن طلب
الشفاء من الكفر والنفاق. قال الإمام علي (ع) : «ان في القرآن شفاء من أكبر الداء
، وهو الكفر والنفاق والبغي». (وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) القرآن هدى ونور للمخلصين ، وعمى لعيون المنافقين ، وصمم
لأسماعهم ، ومرض لقلوبهم (أُولئِكَ يُنادَوْنَ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). ناداهم القرآن في الدنيا بدعوة الله فلم يستجيبوا له ،
حتى كأنه لا نداء ، أو ان النداء بعيد لا تسمعه الآذان .. وأيضا سوف يناديهم
المنادي يوم القيامة : ألا كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرث القرآن كما
في نهج البلاغة. وقال المفسرون : ان قوله تعالى : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) إشارة إلى أنهم لا يسمعون ولا يفهمون تماما كالذي يدعى
بصوت بعيد عنه لا يسمعه ولا يفهمه .. ويلاحظ بأن هذا المعنى يناقض الغرض المطلوب
من النداء لأنه غير مسموع. والأرجح أن يكون قوله تعالى : من مكان بعيد إشارة الى
أن الصيحة تأتي من السماء ولكن يسمعها الجميع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ
قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) ـ ٤٢ ق.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ). المراد بالكتاب التوراة ، وقد اختلفوا فيها عند نزولها ،
فمن مصدق ومكذب ، وكذلك اختلفوا في القرآن عند نزوله ، فمن مؤمن به وكافر (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). لقد شاءت حكمته تعالى أن يؤخر عذاب المجرمين الى يوم
يبعثون ، ولولا ذلك ما ترك على ظهرها من طاغ ولا أثيم (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ). ضمير انهم يعود لمشركي العرب ، وضمير منه للقرآن ،
والمراد بالشك هنا الجدل بغير العلم والحق ، والمعنى انهم يجادلون في القرآن ،
ولكن بالجهل والباطل وتقدمت هذه الآية بنصها الحرفي في سورة هود الآية ١١٠ ج ٤ ص
٢٧٢ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ٥٤ من
سورة يس : (فَالْيَوْمَ لا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). والآية ١٧ من سورة غافر : (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) وكثير غيرها من الآيات التي تنطق بأن الإنسان مخير غير
مسير.
الجزء الخامس والعشرون
اليه يرد علم الساعة الآية
٤٧ ـ ٥٠ :
(إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ
مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا
يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ
هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ
لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠))
اللغة :
المراد بالساعة
هنا يوم القيامة. والأكمام جمع كم بكسر الكاف ، وهو غلاف الثمرة قبل ظهورها.
وآذناك أعلمناك. ومحيص مهرب. ولا يسأم لا يمل ، والمراد بالخير هنا المال والجاه
والصحة والولد. والمراد بالرحمة كل ما يسرّ به الإنسان ، وضدها الضراء.
الإعراب :
وما تخرج وما تحمل
«ما» نافية. من ثمرات «من» زائدة وثمرات فاعل تخرج. ومن أكمامها متعلق بمحذوف صفة
لثمرات. وبعلمه متعلق بمحذوف حالا أي إلا كائنا بعلمه. وما لهم من محيص «من» زائدة
ومحيص مبتدأ وخبره لهم.
ومن دعاء الخير أي
من دعائه الخير. فيؤوس خبر مبتدأ محذوف أي فهو يؤوس. ولئن اللام للقسم وان شرطية.
وليقولن جواب القسم سادا مسدّ جواب الشرط.
المعنى :
(إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ). لا أحد يعلم متى تقوم الساعة الا الله وحده. وفي نهج
البلاغة : أنتم والساعة في قرن. والقرن الحبل أي ان الإنسان مقرون بها. ومن مات
فقد قامت قيامته (وَما تَخْرُجُ مِنْ
ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) (وَلا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ). تقدم مثله في الآية ٥٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٠٠ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ). يسأل سبحانه غدا المشركين موبخا : أين ما كنتم تعيدون من
دون الله؟ هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ فيقولون لله سبحانه : أخبرناك انه لا أحد منا
يشهد في هذا اليوم ان لك شريكا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ). لا يجد الإنسان يوم القيامة صنما ولا مالا ولا ولدا ، ولا
حيلة أو وسيلة ، لا شيء إلا الحساب والجزاء على الأعمال (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ). ينكشف الغطاء غدا للمجرمين ويوقنون انه لا مفر من العذاب.
(لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ). يلح الإنسان في طلب المال والجاه والصحة والأمان ، ويبالغ
في ذلك بلا ملل وانقطاع ، فإن أصيب بشيء من دنياه خارت قواه ، وقنط من رحمة الله (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا
مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي). يطلب الدنيا بإلحاح ، وييأس ان فاته شيء منها ، وان أنجاه
الله من محنة يقاسيها قال : نجوت بحولي وقوتي ولا فضل لأحد عليّ .. ولا يسلم من
هذا الغرور القاتل إلا أهل الحق والعقل السليم.
__________________
(وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى). ما زال الكلام للجاهل المغرور ، ومعناه ـ على لسانه ـ أنا
الذي فعلت وفعلت في الحياة الدنيا ، أما البعث بعد الموت الذي يخوفني منه المؤمنون
به فهو وهم .. وان صح فإن لي في الآخرة من الرزق والمكانة خيرا وأفضل لأني أهل لكل
مكرمة .. وإذا لم يكن لهذا الجهول من ذنب إلا هذه الغطرسة لكفى بها ذنبا. وتقدم
هذا بصورة أوسع في الآيات ٣٢ ـ ٤٤ من سورة الكهف ص ١٢٦ ـ ١٣١.
(فَلَنُنَبِّئَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ). ما من سيئة يقترفها الإنسان في هذه الحياة إلا ويجد علمها
غدا عند الله ، وهو سائله عنها ومعاقبه عليها بما يستحق ، فإن كانت من نوع الذنوب
الكبار كالكفر والشرك والظلم أذاق الله صاحبها العذاب الأكبر ، وان كانت دون ذلك
كان العذاب أخف مع العلم بأن كل بلاء دون النار عافية.
سنريهم آاتنا ف الآفاق الآية
٥١ ـ ٥٤ :
(وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو
دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ
كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ
آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا
إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
مُحِيطٌ (٥٤))
اللغة :
جانب الإنسان أحد
شقيه ، ونأى بجانبه كناية عن تعاظمه. وعريض كثير.
أرأيتم اخبروني.
والشقاق البعيد ، الخلاف مكابرة وعنادا. والآفاق أقطار السموات والأرض.
الإعراب :
فذو دعاء خبر
لمبتدأ محذوف أي فهو ذو دعاء. والمصدر من انه الحق فاعل يتبين. والباء في «بربك» زائدة
وربك فاعل يكف. والمصدر من أنه على كل شيء بدل من ربك. وألا أداة تنبيه.
المعنى :
(وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو
دُعاءٍ عَرِيضٍ). ان استغنى بطر وفتن ، وان افتقر قنط ووهن كما قال الإمام
علي (ع). وتقدم مثله في سورة يونس الآية ١٢ ج ٤ ص ١٣٩ وسورة هود الآية ٩ ج ٤ ص ٢١٢
وسورة الإسراء الآية ٨٣ ج ٥ ص ٧٨.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ). الخطاب في أرأيتم لمن كذّب بالقرآن ، والشقاق البعيد
الخلاف مكابرة وعنادا .. أمر سبحانه نبيه الكريم أن يقول لهم : أتزعمون ان القرآن
أساطير؟ اخبروني ما ذا يكون حالكم ومآلكم ان كان القرآن حقا من عند الله ، وأنتم
تخالفونه مكابرة وعنادا .. ألا ترحمون أنفسكم ، وتحتاطون لها من عذاب النار؟
الكون هو قرآن الله الكبير :
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ). يقيم سبحانه الدليل لعباده كي يقنعهم بوجوده وصحة دينه
وصدق كتبه ورسله ، يقيم لهم الدليل على ذلك من الحس والمشاهدة من أنفسهم ومن الكون
الظاهر للعيان ، ويكشف عما فيهما من الدلائل ، فينبه العقول الى خلق السموات
والأرض ، واختلاف الليل
والنهار ، وتصريف
الرياح والسحاب ، وإحياء الأرض بعد موتها ، وحركة الكواكب ومنافعها ، وخلق الإنسان
في أحسن تقويم ، وما إلى ذلك مما يدركه الإنسان بحواسه ويدل دلالة قاطعة على وجود
الله ، وانه هو وحده الخالق المهيمن على كل شيء.
وإذا كان الله
سبحانه يعتمد على الدليل الحسي لاقناع عباده ويخاطبهم بقوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ـ ٢ الحشر أي
العيون ، وقوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ٢٧ السجدة إذا كان كذلك فكيف يقال : ان الدين غيب في غيب
لا يعتمد على الحس والتجربة؟ كلا ، انه يثبت بالحس والمشاهدة ما غاب عن العين
تماما كما نثبت عقل العاقل من أقواله وأفعاله ، ويثبت علماء الطبيعة بالحس الكثير
من من الحقائق التي لا تدرك بالحس والعيان ، وبهذا يتبين خطأ بعض الأدباء في قوله
: «ان الله دائما يتقبل من الذين يؤمنون بالغيب دون حاجة الى برهان ودون حاجة الى
عيان ـ مجلة صباح الخير ٢٦ ـ ٢ ـ ١٩٧٠» .. هذا ، الى أن علماء المسلمين أجمعوا على
وجوب النظر لمعرفة الله تعالى والايمان به مستندين في ذلك الى حكم العقل والآيات القرآنية
، ولكن أديبا ما يقول العكس .. ومع ذلك يتصدى لتفسير القرآن.
قال ابن عربي في
الفتوحات المكية : انك لا تقدر أن تنكر ما ترى ، كما انك لا تقدر أن تجهل ما تعلم
، وأنت ترى الوجود ، وتعلم به علم اليقين ، وهو حروف وكلمات وسور وآيات تنطق بوجود
كاتبها وهو الله وان لم تره ، فالوجود قرآن الله الكبير الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه. انظر تفسير الآية ٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٦١ فقرة «لا
دكتاتورية في الأرض ولا في السماء».
(أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). بعد ان قال سبحانه أنه يقيم الدليل لعباده في آفاق
السموات والأرض وفي أنفسهم على ان الله حق ، والقرآن حق ، ونبوة محمد حق ، بعد هذا
قال : وكفى بأدلته تعالى شاهد عدل وصدق على ذلك. وقال الصوفية في معنى الآية : ان
الله هو الذي يشهد ويدل على وجود غيره ، أما هو فلا يحتاج شاهدا من غيره يدل عليه.
(أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ). إنما كذبوا بالقرآن لأنهم لا يؤمنون بالغيب والجزاء ..
وفي هذا إشعار بأن من لا يؤمن بلقاء الله فلن يهتدي الى خير (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) يعلم ظاهر العباد وباطنهم ، ويجازي كلا بما كسبت يداه ، ان
خير فخير ، وان شرا فشر ، ومن أجل هذا يعذب الذين كفروا بلقائه ، وكذبوا بكتابه
جزاء بما كانوا يكسبون.
سورة الشّورى
٥٣ آية مكية. وقيل
: إلا بضع آيات.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
کذلک يوحى اليك الآية ١ ـ ٨ :
(حم (١) عسق (٢)
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي
الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ
أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨))
اللغة :
حفيظ رقيب. وما
أنت عليهم بوكيل أي لست موكلا بهم. وأم القرى مكة.
الإعراب :
كذلك الكاف بمعنى
مثل ومحلها النصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي ايحاء مثل ذلك. والله فاعل يوحي.
والذين اتخذوا مبتدأ أول والله مبتدأ ثان وحفيظ خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر
المبتدأ الأول. وقرآنا مفعول أوحينا. وجملة لا ريب فيه صفة ليوم الجمع. وفريق
مبتدأ وخبره محذوف أي منهم فريق. ومن ولي «من» زائدة إعرابا وولي مبتدأ وما لهم
خبر مقدم ، والجملة خبر الظالمون.
المعنى :
(حم عسق). تقدم الكلام عن هذه الأحرف أو الكلمات في أول سورة البقرة
، وقال بعض المفسرين : ان (حم عسق) هما اسمان لهذه السورة لبيان فضلها على سائر الحواميم.
وقال الرازي : ان الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيق ، وفتح باب المجازفات مما لا
سبيل اليه ، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله.
(كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). ان القوي القادر الذي يدبر الأمور وفق تقديره وحكمته قد
أوحى اليك يا محمد والى الأنبياء من قبلك ان (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). هو وحده مالك الكون بما فيه لا يملك معه أحد شيئا إلا
ملكه (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ). المراد بالسماوات الكواكب العلوية ، وضمير فوقهن يعود
اليها ، والمعنى ان الكواكب التي يعلو بعضها بعضا تكاد تنشق من قول من قال : ان
لله أندادا. ومثله قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) ـ ٩٢ مريم ج ٥ ص
٢٠٠.
(وَالْمَلائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). ولو كان لله أنداد لما سبّحت الملائكة بحمد الله الذي لا
إله سواه. قال الإمام علي (ع) : لو كان لله شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه
وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته (ويستغفرون) أي الملائكة (لمن في الأرض) من
المؤمنين والتائبين كما في الآية ٨ من سورة غافر :
(يَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ). (إِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لا يمنع سائلا يسأله الرحمة والمغفرة أيا كان شريطة أن
يسلك طريقهما ، وهو التوبة وصدق النية.
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ). يقول سبحانه لنبيه : أنت مبلّغ تبشّر وتنذر فقط ، والله
هو الذي يحصي على العباد أعمالهم وأقوالهم ومقاصدهم ويحاسبهم عليها. وتكرر هذا
المعنى في العديد من الآيات. وليس من شك انه لا قسر ولا جبر على الايمان ، ولكن من
يعتدي على حرمة الناس يجب تأديبه وردعه لأنه هو الذي انتهك حرمة نفسه ، وأيضا من
يولد على الإسلام ثم يرتد عنه يجب قتله ، وكذا المسلم إذا ترك الصلاة أو الصوم
تهاونا فإنه ينبه ويعزر ، فإن أصر يقتل بعد التنبيه الرابع.
وعلى هذا يتحتم
تفسير الآيات التي قالت للنبي : ما أنت عليهم بوكيل ، يتحتم تفسيرها وتخصيصها بغير
هذه الموارد وما اليها من المستثنيات ، أو نقول : انها نزلت في زمان ما كان النبي
يملك فيه القوة الرادعة المؤدبة.
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي لتبدأ يا محمد أول ما تبدأ بالدعوة الى الإسلام في بلدك
مكة والبلدان التي حولها ، ثم تنتشر في أرجاء العالم ، كأية دعوة عامة تبتدئ حيث
تولد ، ثم تنطلق الى سائر الأقطار. انظر تفسير الآية ٩٢ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٢٥
(وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). يوم الجمع هو يوم القيامة الذي نفى سبحانه الريب عن وقوعه
، وميّز فيه أهل الجنة عن أهل النار ، وانما سمي يوم الجمع لأن الخلائق تجتمع فيه
للحساب والجزاء : (ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ـ ١٠٤ هود.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) لو ان الله حمل الناس على دين واحد بالقسر والجبر لزالت
صفة الانسانية عن الإنسان حيث يكون ، وهذه هي الحال ، بلا ارادة واختيار تماما كريشة
في مهب الريح. وتقدم ذلك في الآية ٤٨ من سورة المائدة والآية ٩٣ من سورة النحل
والآية ١١٨ من سورة هود ، وتكلمنا عنه مفصلا عند تفسير الآية الأخيرة ج ٤ ص ٢٧٨ (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي
رَحْمَتِهِ) وهم المؤمنون بدليل قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ـ ١٣٢ آل عمران. (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ
وَلا نَصِيرٍ) لأنهم استحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون
بما كانوا يكسبون.
اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه الآية
٩ ـ ١٤ :
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ
الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما
وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))
اللغة :
أنيب ارجع. وفاطر
خالق ومبدع. وأزواجا الأولى الإناث ، والثانية الذكور والإناث. ويذرؤكم يبرزكم الى
الوجود نسلا بعد نسل. ومقاليد مفاتيح. ويقدر يضيق. ويجتبي يصطفي.
الإعراب :
أم اتخذوا «أم»
بمعنى بل للانتقال من كلام الى كلام ، وقيل هي بمعنى الهمزة فقط. وما اختلفتم «ما»
اسم متضمن معنى ان الشرطية ، ويحتاج الى فعل الشرط وجوابه. ومن شيء «من» بيان لما
، أي كل شيء تختلفون فيه. وذلكم مبتدأ والله خبر وربي بدل وفاطر خبر آخر. ويذرؤكم
فيه ضمير فيه يعود الى الجعل المفهوم من قوله تعالى جعل لكم. وكمثله الكاف زائدة
اعرابا أي ليس مثله. وان أقيموا «ان» مفسرة لشرع لكم. وبغيا مفعول من أجله
لتفرقوا.
المعنى :
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). بعد أن قال سبحانه في الآية ٦ : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أعاد هنا هذا القول وزاد عليه بأنه تعالى وحده الناصر
والمعين والمحيي والمميت والقادر على كل شيء ، أعاد مع هذه الزيادة بقصد الاستنكار
على من اتخذ من دونه أولياء مع ان غير الله لا يحيي ولا يميت ولا ينصر ويعين لأنه
لا يقدر على شيء.
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). هذا حكاية لكلام الرسول الأعظم (ص) يخاطب به جميع الناس ،
ويقول لهم ، ان كل شيء يختلف الناس في أنه حق أو باطل فالمرجع فيه إلى القرآن ،
فقوله الفصل ،
وحكمه العدل ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ـ ٥٩ النساء ج ٢ ص
٣٦٢.
(فاطِرُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) خالقهما ومدبرهما ، ولا فرق عند الله بين خلق السموات
والأرض وبين خلق النملة ، فقد أحكم خلق هذه تماما كما أحكم خلق الكون (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً) لتسكنوا اليها (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ـ ٢١ الروم. (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) ذكورا وإناثا (يذرؤكم فيه) أي في هذا الجعل ، ويذرؤكم هنا
تتضمن معنى التكثير ، أي ان الله جعل الناس ذكورا وإناثا وكذلك الأنعام ليتكاثر
الناس والأنعام ، وهذا التكاثر نعمة من الله تعالى.
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) لا في ذاته ، ولا في صفاته لأنه فوق كل شيء وخالق كل شيء ،
لا إله إلا الله الواحد القهار (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ) يسمع الأقوال ، ويبصر النوايا والأفعال (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). أرزاق السموات والأرض بيد الله يبسطها لهذا ، ويقبضها عن
ذاك ، وهو عليم بما تستدعيه الحكمة ، وليس من شك ان البلغة من المال مع الصحة
والأمان والدين والصلاح خير الف مرة من الكثرة مع الخوف والسقم والكفر والفساد.
وتكلمنا عن الرزق بعنوان «الرزق وفساد الأوضاع» عند تفسير الآية ٦٦ من سورة
المائدة ج ٣ ص ٩٤ ، وبعنوان «هل الرزق صدفة أو قدر» عند تفسير الآية ١٠٠ ص ١٣١ من
نفس السورة والمجلد ، وبعنوان «الإنسان والرزق» عند تفسير الآية ٢٦ من سورة الرعد
ج ٤ ص ٤٠١.
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ). أرسل سبحانه جميع الأنبياء بكلمة التوحيد والايمان باليوم
الآخر ، واقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وتحريم الظلم والغش والزنا والكذب ،
والأمهات والبنات والأخوات ، وما إلى ذلك من أصول الدين والشريعة دون فروعها التي
تختلف وتتفاوت بحسب الظروف والمصالح ، وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) ـ ٤٨ المائدة
ج ٣ ص ٦٨ ، وانما
خص سبحانه بالذكر نوحا وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد لأنهم من أولي العزم ، وإلا فإن
هذا الموصى به واحد الى جميع الأنبياء.
وإذا كان الإله
واحدا ، والدين واحدا ، والدعوة واحدة فلما ذا التناحر والعداء في الدين؟ وما هو
المبرر لتلك الحروب الدينية التي سجلها التاريخ بأحرف الخزي والعار؟ وتكلمنا مفصلا
عن دعوة الأنبياء وانهم على دين واحد بعنوان : «الدين عند الله الإسلام» ج ٢ ص ٢٦
، وتكلمنا عن الاختلاف بين أهل الأديان والمذاهب في المجلد المذكور ص ٢٩ بعنوان : «تفترق
أمتي ٧٣ فرقة» وفي المجلد الأول ص ١٧٨ فقرة «احتكار الجنة» ، وص ١٨١ فقرة «كل يعزز
دينه».
(كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يا محمد أولا لأنك لا تملك سلطانا ولا مالا. ثانيا انك
تدعو الى الحق ، ولا شيء أثقل منه على أهل الأهواء والباطل. ثالثا وصمت آباءهم
بالجهل والضلال. (اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ). وقد اختار محمدا لأنه أهل لرسالته ، وختم به جميع الرسل
حيث لا يقاس به أحد من الأولين والآخرين (وَيَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ يُنِيبُ). كل من يلجأ الى الله بصدق واخلاص يستجيب له ويهديه : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ) ـ ١١ التغابن.
(وَما تَفَرَّقُوا
إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). تقدم مثله في الآية ٢١٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٣١٧ والآية
١٩ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٨ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). تقدم في الآية ١٩ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٤ والآية ١١٠ من
سورة هود ج ٤ ص ٢٧٢ والآية ١٢٩ من سورة طه ج ٥ ص ٢٥٣ والآية ٤٥ من سورة فصلت.
(وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ). المراد بالذين أورثوا الكتاب اليهود والنصارى ، وضمير من
بعدهم يعود إلى الأنبياء أو إلى الأمم السابقة ، وضمير منه يعود الى محمد المفهوم
من قوله تعالى : (اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) والمعنى ان أهل الكتاب جحدوا ما جاء به محمد (ص) على الرغم
من شواهد البينات على نبوته وصدق رسالته.
واستقم كما امرت الآية
١٥ ـ ١٨ :
(فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ
آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ
يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))
اللغة :
لا حجة بيننا أي
لا خصومة ولا جدال. ويحاجون في الله يخاصمون في دينه. استجيب له دخل الناس في الإسلام.
حجتهم داحضة خصومتهم باطلة. والميزان العدل. والساعة القيامة. ومشفقون خائفون.
ويمارون يجادلون.
الإعراب :
والذين يحاجون
مبتدأ أول ، وحجتهم مبتدأ ثان ، وداحضة خبره ، والجملة حبر المبتدأ الأول.
والميزان عطف على الكتاب. ولعل الساعة على حذف مضاف أي لعل مجيء الساعة.
المعنى :
(فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ). ذلك إشارة إلى دين الله وإقامته ، والمعنى ادع يا محمد
الى الدين الحنيف الذي وصى به سبحانه جميع الأنبياء ، واثبت عليه وعلى الدعوة اليه
، وقال تعالى في الآية ١١٣ من سورة هود : (فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) ج ٤ ص ٢٧٢ تماما كما في الآية التي نحن بصددها ، وتكلمنا
هناك عن الاستقامة وأقسامها.
(وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ). النبي معصوم يتبع ما يوحى اليه ، ولا يتبع هواه ولا هوى
غيره .. وقلنا أكثر من مرة : ان النهي عن الشيء لا يدل على جواز وقوعه من المخاطب
، وان للأعلى أن ينهى غيره بما شاء. وتقدمت هذه الجملة بالحرف في الآية ٤٨ من سورة
المائدة ج ٣ ص ٦٧ (وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). أعلن يا محمد على الملأ إيمانك بكل كتاب أنزله الله كائنا
ما كان ، وان الله هو رب الجميع ، وانك تحكم بين الناس بالعدل ، فتنتصف للمظلوم من
الظالم ، وتقتص للضعيف من القوي ، وان كان ذا قربى ، وأعلن أيضا ان كل امرئ هو
وحده المسئول عن عمله أمام الله ، وانه لا خصومة بينك وبين أي انسان ، وان اليه
تعالى مصير العباد ، فيجازي كل نفس بما كسبت ، وبهذا النهج القويم والمنطق السليم
تقيم الحجة على أعدائك ، ولا تبقي علة لمتعلل.
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ
فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). كان أهل الكتاب يجادلون المسلمين ويحاولون أن يردوهم عن
دينهم بعد أن هداهم الله الى الإسلام. وروى الطبري في تفسيره ان اليهود والنصارى
قالوا للمسلمين : «كتابنا قبل كتابكم ، ونبيّنا قبل نبيكم ، فنحن خير منكم» ..
وليس هذا ببعيد عن جدال أعداء الحق والدين ، بل هو أقل ما ينتظر منهم .. ولكن
حجتهم باطلة لأن الفضل يكون بالعمل لا بالوقت وتقدمه ، وإلا كان إبليس أفضل من آدم
، لأنه أقدم منه. وعلى أية حال فإن عاقبة من جادل بالباطل الى الوبال والخسران
دنيا وآخرة.
(اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ). المراد بالكتاب هنا القرآن ، ومعنى نزوله بالحق ان كل ما
فيه حق ، وأيضا يقر ويعترف بكل ما هو حق ، ومعنى نزوله بالعدل انه يفصل بين الناس
بالعدل ، فالعدل يحتاج الى طرفين دون الحق أي ان الحق أعم ، فكل عدل يقال له حق ،
وليس كل حق يقال له عدل .. تقول : الشمس حق لأنها موجودة ، ولا تقول : الشمس عدل (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ). هذا جواب قول المستهزئين : متى قيام الساعة؟ أما قربها
فلأن كل آت قريب. ومن مات فقد قامت قيامته.
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا) استهزاء (الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِها). وكم من مستعجل امرا ودّ حين يدركه ان بينه وبينه بعد
المشرقين (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ). أجل ، انهم يعرفون حقيقتها تماما كمن قد رآها ، لذا خافوا
منها ، ومما قاله الإمام علي (ع) في وصفهم : «قد براهم الخوف بري القداح ـ أي
السهام ـ ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول :
قد خولطوا ، ولقد
خالطهم أمر عظيم» ونظم هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
يقال مرضى وما
بالقوم من مرض
|
|
أو خولطوا خبلا
حاشاهم الخبل
|
تعادل الخوف
والرجاء فلم
|
|
يفرط بهم طمع
يوما ولا وجل
|
(أَلا
إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). يمارون يجادلون ، وفي ضلال بعيد أي أوغلوا في الضلال
لأنهم أنكروا النشأة الأخرى ، وهم يرون النشأة الأولى.
الله لطيف بعبادة الآية
١٩ ـ ٢٢ :
(اللهُ لَطِيفٌ
بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ
لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ
مِنَ
الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))
اللغة :
الحرث الكسب ،
يقال : فلان يحترث لعياله أي يكتسب لهم ، وحرث الآخرة والدنيا العمل لهما. وشرعوا
بيّنوا وزيّنوا. ومشفقين خائفين.
الإعراب :
من نصيب «من»
زائدة إعرابا ونصيب مبتدأ ، وما قبله خبر. وضمير لهم للكفار ، وضمير شرعوا
للشركاء. وكلمة مبتدأ والخبر محذوف أي لولا كلمة الفصل موجودة أو سابقة.
المعنى :
(اللهُ لَطِيفٌ
بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ). ذكر سبحانه في هذه الآية انه اللطيف الرزاق ، والقوي
العزيز ، والمراد باللطيف البر ، قال تعالى : («إِنَّهُ هُوَ
الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ـ ٢٨ الطور» والبر
هو المحسن ، ومعنى الرزاق ان الله يهب الإنسان القوة وجميع الطاقات التي تؤهله
للعمل من أجل الرزق ، ويرشده إلى طريقه وسبيله ، بالاضافة الى ان ما في الأرض
والسماء من الخيرات هو من صنعه تعالى وفضله ، أما القوي العزيز فهو الذي لا يقهر
ولا يغلب ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ). من عمل للآخرة فله أجر ما عمل ، ويزيده الله من فضله
أضعافا ، ولا ينقص من دنياه شيئا ، وليس من شك ان الكد في سبيل العيش من عمل
الآخرة أيضا ، ومن أعرض عن الآخرة وعمل للدنيا وحدها تمتع فيها أياما قلائل ، ثم
يرتحل عنها الى عذاب مقيم .. وأسوأ حالا ومآلا من هذا الذين يتاجرون بالدين ،
ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة نفاقا ورياء. وتقدم مثله في الآية ١٤٥ من سورة آل
عمران ج ٢ ص ١٧٢ والآية ١٨ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٣٢.
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ). أم استفهام توبيخ وانكار ، والمراد بالشركاء هنا شياطين
الانس والجن ، وشرعوا أي أغروا وزينوا ، والمعنى لما ذا يعمل المجرمون للدنيا ،
وينسون الآخرة؟ ألأن لهم شياطين يصدونهم عنها ، ويوسوسون لهم بأشياء ما هي من دين
الله في شيء؟ ثم هددهم سبحانه وتوعدهم بقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). لقد شاءت حكمته تعالى أن يؤخر عذاب المجرمين إلى يوم
يبعثون ، ولولا ذلك لأخذ بنقمته كل معتد أثيم (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، والقليل منه كثير بالنسبة إلى عذاب الدنيا.
(تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). تجري غدا عملية الإحصاء والفرز لجميع الأعمال ، فمن عمل
صالحا فهو في أمن وجنان ، له فيها ما أحب وأراد (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ) ومن عمل السيئات فهو في خوف من غضب الله وعذابه .. وهذا
العذاب محيط به لا محالة جزاء لما كسبت يداه.
أطعني تكن مثلي :
كنت من قبل في شك
من حديثين ترددا كثيرا على سمعي ، أولهما هذا الحديث القدسي : يا عبدي أطعني تكن
مثلي تقل للشيء كن فيكون. وثانيهما هذا الحديث
النبوي : ان لله
عبادا إذا أرادوا أراد. شككت في سند هذين الحديثين لأني لم أجد لهما أي أثر في هذه
الحياة .. ثم أدركت ، وأنا أفسر آي الذكر الحكيم ان موضوع الحديثين الآخرة لا
الدنيا ، فزال الشك ، وأيقنت ان كلا من الحديث القدسي والنبوي هو تفسير وبيان
لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) ونحوه من الآيات.
من هم القربى الآية ٢٣
ـ ٢٦ :
(ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى
قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))
اللغة :
القربى القرابة.
ويقترف يفعل أو يكتسب. ومحو الباطل إزالته. وذات الصدور الضمائر.
الإعراب :
ذلك الذي مبتدأ
وخبر. يبشر الله عباده صلة الموصول والعائد محذوف أي يبشر الله به عباده. إلا
المودة في القربى استثناء منقطع أي لكن أسألكم المودة في القربى. وكذبا مفعول مطلق
لافترى لأن الكذب والافتراء بمعنى واحد. ويمح مستأنف وغير معطوف على جواب الشرط
وهو يختم لأن محو الباطل مطلق لا يجوز تعليقه على شيء ، وحذفت الواو من يمحو
للاختصار مثل قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) ـ ٦ القمر.
المعنى :
(ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). ذلك إشارة إلى الفضل الكبير الذي أعده الله في الآخرة
للمتقين ، وقد أنزله في كتابه بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم.
(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). جاء في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي وروح
البيان لإسماعيل حقي : «لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله من هم قرابتك الذين
وجبت علينا مودتهم؟ قال : علي وفاطمة والحسن والحسين». وقال ابن عربي في الجزء
الرابع من الفتوحات بعنوان «لا تخونوا الله والرسول» : سألنا رسول الله المودة في
قرابته وأهل بيته ، وهو واحد منهم ، وحب أهل البيت لا يتبعض ، فمن خان أهل البيت
فقد خان رسول الله (ص). وبالملازمة من خان رسول الله فقد خان الله.
ونقل بعض المفسرين
رواية ، في سندها معاوية ، ومؤدى هذه الرواية ان معنى الآية قل يا محمد لقريش :
ناشدتكم الرحم أن لا تؤذونني.
وفي تفسير غرائب
القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري : «عن سعد بن جبير :
لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أوجب الله علينا مودتهم؟
فقال علي وفاطمة وابناهما. ولا ريب ان هذا فخر عظيم وشرف تام : ويؤيده ما روي ان
عليا شكا الى الرسول حسد الناس له.
فقال النبي : أما
ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن
أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا ، وعن النبي (ص) حرمت الجنة على من ظلم أهل
بيتي وآذوني في عترتي ، وكان يقول فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ، وثبت بالنقل
المتواتر انه كان يحب عليا وحسنا وحسينا فوجب علينا محبتهم ، وشرفا لآل الرسول ختم
التشهد بهم ، والصلاة عليهم في كل صلاة ، وقال الرسول (ص) : مثل أهل بيتي كمثل
سفينة نوح من ركب فيها نجا ، ومن تخلف عنها غرق».
(وَمَنْ يَقْتَرِفْ
حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) ومثله : (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ـ ١٦٠ الأنعام. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي يثيب الشاكرين.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ). قال المفترون : انك يا محمد تفتري على الله بدعوى النبوة
.. وجهلوا ان الله قد عصمك عن الخطأ والخطيئة ، وانه لو حاولت الافتراء عليه ـ وفرض
المحال غير محال ـ لطبع على قلبك ومنعك عن ذلك بالقهر والجبر (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ
الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ). أنت يا محمد على حق ، وأعداؤك على باطل ، ويزهق الله
الباطل ويحق الحق بالدلائل والبينات الواضحة الواقعة ، وقد أيدك الله بها ، وجعل
كلمتك العليا وكلمة أعدائك السفلى على الرغم من كثرتهم وتظاهرهم عليك وعلى الإسلام
(إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) عليم بما تخفيه القلوب التي في الصدور ، فيجري على أربابها
ما يستحقونه من ثواب وعقاب.
(وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ). من أذنب ثم تاب قبل الله توبته وصفح عن ذنبه ما عدا حق
الناس ، وأيضا إذا كان له حسنات وسيئات لا تتصل بحقوق الناس ، وكانت بمقدار حسناته
ـ عفا الله عنها جميعا ، وأصبح كأنه لم يسيء ولم يحسن ، وإذا كانت الحسنات أكثر
بقي له منها ما زاد عن السيئات ، وفي الحالين يصدق عليه قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) ـ ١١٤ هود ج ٤ ص
٢٧٥ وقوله : (خَلَطُوا عَمَلاً
صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ـ ١٠٢ التوبة ج ٤
ص ٩٦ (وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ) من الحسنات والسيئات ، فمن ثقلت موازين سيئاته فهو من
الخاسرين ، ومن ثقلت موازين حسناته فهو من المفلحين.
(وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). الذين آمنوا فاعل يستجيب ، والمعنى ان المؤمنين يسمعون
دعوة الله ويستجيبون لها ، فيثيبهم على الاستجابة والطاعة ، ويزيدهم من فضله
أضعافا .. والمجرمون يعرضون عن دعوة الله ، فيعذبهم على الإعراض والمعصية العذاب
الأكبر.
الرزق بالعمل لا بالدعاء الآية
٢٧ ـ ٣٥ :
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ
الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ
الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ
فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما
أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
(٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ
(٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا
وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما
لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))
اللغة :
بقدر بتقدير.
والمراد بالدابة هنا كل ما فيه حياة فيشمل الملائكة والطيور
ونحوها. وبمعجزين
بجاعلين الله عاجزا عنكم. والجوار السفن الجارية. والمراد بالأعلام الجبال «كأنه
علم في رأسه نار» أي كأنه جبل. فيظللن يقمن. والرواكد الثوابت. ويوبقهن يهلكهن.
والمحيص المهرب.
الإعراب :
الجوار مبتدأ
وأصلها الجواري وحذفت الياء تخفيفا وفي البحر متعلق بها. وكالأعلام الكاف بمعنى
مثل حالا من الجواري. فيظللن محلها الجزم جوابا للشرط. ورواكد حال. والضمير في
ظهره إلى البحر. أو يوبقهن ويعف عطف على يظللن. ويعلم بالنصب على حذف اللام أي
ليعلم ، وقيل بالعطف على محذوف أي لينتقم منه ويعلم الذين الخ.
المعنى :
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ). لقد أناط سبحانه أرزاق العباد بكسبهم وعملهم ، لا
بإرادتهم وأهوائهم ، وإلا عمت الفوضى وتفرغوا للفساد في الأرض (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي يرزقه على قدر عمله ، وقد يرزق سبحانه الكثير من العمل
القليل ، أو القليل من العمل الكثير لحكمة هو بها أعلم ، أما الثراء عن طريق
الحرام كالغش والسلب والنهب فهو من رزق الشيطان ، لا من عطاء الرحمن ، كيف وقد
توعد صاحبه بعذاب أليم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ
خَبِيرٌ بَصِيرٌ). يعلم من يعيش على حساب المعدمين ، ومن يعيش بكد اليمين ،
وأعد للأول الخزي والعذاب ، وللثاني الكرامة والثواب.
(وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) بعد ان ذكر سبحانه الرزق قال : ان أسبابه كالمطر وغيره
بيده تعالى يرسلها لمنافع الناس ومصالحهم ، ويقبضها عنهم متى شاء ، فإن تأخرت
قليلا يئسوا وقنطوا ، فيتداركهم برحمته التي وسعت كل شيء (وَهُوَ الْوَلِيُ) يتولى عباده بالإحسان (الحميد) المستحق للحمد والشكر.
(وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ). المراد بالسماء الشيء العالي كوكبا كان أو فضاء ، والمراد
بالدابة هنا كل ما فيه حياة طيرا كان أو ملكا أو أي حي من الأحياء التي تعيش في
البر أو البحر أو الفضاء أو في كوكب من الكواكب .. وكلها تنطق بوجود باريها
ومصورها (وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) تماما كما قدر على خلقهم وبثهم في السموات والأرض.
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). هذه الآية تدل بصراحة لا تقبل التأويل على ان الظلم
والفقر من صنع الناس لا من صنع الله ، ومن فساد الأنظمة والأوضاع لا من حكم الله
وشريعته حتى القحط وحبس الغيث سببه البغي والفساد كما في الحديث .. وفي كتاب الله
: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ـ ٦٦ المائدة ج ٣
ص ٩٤ فقرة «الرزق وفساد الأوضاع» (ويعفو عن كثير) من الذنوب ما عدا الشرك والظلم
لأنه هو القائل : «لا يغفر ان يشرك به» والقائل : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ـ ٥٢ غافر.
(وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ). هذا تهديد ووعيد. وتقدم مثله بالحرف في الآية ٢٢ من سورة
العنكبوت (وَمِنْ آياتِهِ
الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) جمع علم وهو الجبل ، وإذا كانت السفينة من صنع الإنسان فإن
الماء الذي تجري عليه ، والهواء الذي يدفعها هما من صنع الله تعالى ، وكذا أخشابها
وسائر أجزائها ، ومثلها الطائرة التي تطير في فضاء الله ، والسيارة التي تسير على
أرض الله وغيرها وغيرها من الأدوات حتى الإنسان الذي صنعها واخترعها ، ذلك وغيره
مظهر لقدرته تعالى وفيض من رحمته.
(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ). إذا أمسك الهواء أو جمد الماء وقفت السفينة عن الجري (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ). من صبر على التفكير والنظر الى الكون ، وما فيه من عجائب
وأسرار ـ لا بد أن ينتهي الى الايمان بالله وعظمته ، ويشكره على فضله وهدايته.
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ). أو يهلك أصحاب السفن بذنوبهم ، ولكنه يعفو عن كثير أي لا
يعاجلهم بالكثير من ذنوبهم (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِنا
ما
لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ). يعلم أي ليعلم على حذف اللام ، والذين يجادلون في آيات
الله هم الذين يقولون : لا شيء يدل على ان الله موجود ، والمعنى ان الكافرين لا
يؤمنون بالله ، ويجحدون كل دليل ينطق بوجوده .. أجل ، هناك سبيل واحد لايمانهم
واعترافهم ، وهو أن يروا الهلاك عيانا ويعلموا انه لا مهرب لهم منه ، مثل أن تقف
بهم السفينة أو تعصف به الريح. وبكلمة لا يؤمنون حتى يروا العذاب.
وما عند الله خير وأبقى الآية
٣٦ ـ ٤٣ :
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ
النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))
اللغة :
كبائر الإثم
المعاصي العظيمة. وكل ما تجاوز في القبح فهو فحش. والمشاورة المفاوضة في الكلام
لإظهار الحق. والمراد بالسبيل هنا العقاب. وعزم الأمور أحسنها.
الإعراب :
فما أوتيتم من شيء
«ما» شرطية ومحلها النصب بأوتيتم لأن الفعل هنا بمعنى أعطيتم. فمتاع الحياة خبر
لمبتدأ محذوف أي هو متاع. والذين يجتنبون عطف على الذين آمنوا. وهم تأكيد لفاعل
غضبوا. والذين إذا أصابهم البغي ينتصرون ، فيه تقديم وتأخير ، والأصل والذين هم
ينتصرون إذا أصابهم البغي. ولمن صبر بفتح اللام وهي للابتداء ومن موصول في محل رفع
بالابتداء ، والجملة من ان ذلك الخ خبر.
المعنى :
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا). متاع الحياة كل ما تتمتع به في هذه الحياة من صحة وجاه
ومال ونساء وأولاد وبناء وأثاث وغيره ، وملذات الدنيا وان كثرت فهي الى زوال ونفاد
، أما نعيم الآخرة فهو باق ببقاء الله : (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ـ ٩٦ النحل. وقال
تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ وَأَبْقى). وكل عمل يسد حاجة من حاجات الحياة فهو ذخيرة عند الله
بالشروط التالية :
١ ـ (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، أما الذين كفروا به فلا شيء لهم عند الله إلا
العذاب لأنهم لا يعترفون بوجوده. وفي الحديث : من عمل لغير الله أوكله سبحانه لمن
عمل ، ويقال له غدا : خذ أجرك ممن عملت له.
٢ ـ (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في جميع أمورهم ، ولا يعتزون إلا بتقوى الله ومرضاته.
٣ ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ). ومنها الظلم والكذب والزنا والفساد. أنظر تفسير : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ـ ٣١ النساء ج ٢ ص
٣٠٦ وتفسير : (وَلا تَقْرَبُوا
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ـ ١٥١ الأنعام ج ٣
ص ٢٨٣.
٤ ـ (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ). يكظمون الغيظ ، ولا يغضبون إلا لله.
٥ ـ (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) ولم يعصوه في أمر ولا نهي.
٦ ـ (وَأَقامُوا الصَّلاةَ). وخصها سبحانه بالذكر لأنها عمود الدين ، وكان النبي (ص)
يعبر عنها بقرّة العين ، وسماها بعض العارفين حقيقة المسلم.
٧ ـ (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ). وكلمة أمرهم تومئ الى الصالح العام ، وانهم يتعاونون يدا
واحدة على العمل من أجله .. ولا صلة لهذا التشاور في حلال الله وحرامه لأنهما لله
وحده. انظر تفسير (وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) ـ ١٥٩ آل عمران ج
٢ ص ١٨٩. وفي نهج البلاغة : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه.
٨ ـ (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في الخيرات والمبرات.
٩ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنْتَصِرُونَ). وتسأل : ما هو وجه الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)؟
الجواب : ان العفو
عن السيئة يحسن حيث يكون سببا لاصلاح المسيء وانابته أو تفاديا لوقوع شقاق أو فتنة
، ولا يحسن حيث يكون سببا لتمادي الطغاة والسفهاء. قال الإمام علي (ع) : الوفاء
لأهل الغدر غدر عند الله ، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله. وتكلمنا عن ذلك مفصلا
عند تفسير قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ـ ٣٤ فصلت.
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها). ونحوه : (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ ١٩٤ البقرة ج ١
ص ٣٠١ (فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ). ومثله : (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ـ ٢٣٧ البقرة.
وأيضا : (فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ـ ٤٥ المائدة. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). والمراد بالظالمين هنا الذين يتجاوزون الحد في القصاص
والانتقام.
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) إطلاقا ، لا عتاب ولا عقاب لأن البادي هو الظالم ،
وللمظلوم كل الحق أن ينتصف لنفسه ممن ظلمه ، بل إذا سكت عنه مع قدرته عليه فهو
شريكه في الظلم ، لأن سكوت المظلوم عن
الظالم تشجيع له ،
ولو علم الظالم ان المظلوم يستميت من أجل كرامته لتحاماه.
(إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). قلنا فيما تقدم : ان الظالم بحكم الكافر عند الله ، وان
نطق بالشهادتين .. أجل ، انه يعامل في الحياة الدنيا معاملة المسلمين ، أما في
الآخرة فهو مع القوم الكافرين بشهادة العديد من آيات الله التي عبرت عن الكافر
بالظالم ، وعن الظالم بالكافر. أنظر ج ١ ص ٣٩٠ وج ٥ ص ٤٧٨ (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) حيث يحسن الصبر والمغفرة (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) أي مما يحسن العزم والتصميم على فعله ، وأفضل أنواع الصبر
تحمّل الأذى في سبيل إحقاق الحق وإعلانه ، وأفضل أنواع العفو ما كان سببا للقضاء
على الفتن والفساد.
الخاسر من خسر نفسه الآية
٤٤ ـ ٥٠ :
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما
لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما
لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ
مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ
فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ
(٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))
اللغة :
مرد مرجع. ونكير
أي لا تنكرون أعمالكم. وحفيظ وكيل.
الإعراب :
ضمير عليها يعود
الى النار المدلول عليها بكلمة العذاب. وخاشعين حال من مفعول تراهم لأن الرؤيا هنا
بصرية تتعدى الى مفعول واحد. وحفيظا حال من كاف أرسلناك.
المعنى :
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ). من سلك طريق الضلال بسوء اختياره حقت عليه كلمة الله بأنه
من الضالين .. ولا يلومن إلا نفسه .. ومن خذله الله وأخزاه فلن يجد من ينصره
وينقذه من هذا الخذلان (وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ
سَبِيلٍ)؟ اعتزوا بأنفسهم ، وشمخوا بأنوفهم بغيا واستكبارا في
الحياة الدنيا ، ولما حشرهم الله أذلة خاسئين تضرعوا وطلبوا الخلاص من العذاب أو
الرجوع الى الدنيا ثانية .. وهكذا الطغاة يتعاظمون حيث لا قوة رادعة ، وينهارون
إذا ظهرت لهم دلائلها.
(وَتَراهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ). أقبلوا على النار بأعمالهم في تخوف وانكسار ، يسترقون
النظر الى جهنم ، وفرائصهم ترتعد
من شدة الخوف ،
ومن قبل كانوا بها يستهزئون (وَقالَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ). قال المؤمنون هذا حين رأوا المجرمين يساقون الى عاقبة
أعمالهم ، قالوه حمدا لله الذي أنجاهم من هذا الخزي والعذاب المقيم. وتقدم مثله في
الآية ١٥ من سورة الزمر.
(وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ). الشرط الأساسي في الولي والناصر أن يكون له شيء من القوة
ينتصر بها لنفسه أو لغيره ، وما لأحد في ذاك اليوم حول ولا قوة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
سَبِيلٍ) الى الخلاص من النار .. ونفسر الضلال هنا بالنار لأن
السياق يومئ اليه تماما كما هو في قوله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) ـ ٣٤ غافر أي يعذب
الله.
(اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما
لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ). كلف سبحانه العباد بما يعود عليهم بالنفع والخير ، ومنحهم
القدرة على ما كلفهم به ، وأمهلهم ليعملوا ويتوبوا ، وحذرهم عاقبة الإهمال
والتقصير ، ولم يدع لأحد حجة يلجأ اليها في يوم لا يرد فيه الإنسان الى حياته
الأولى ، ولا يستطيع انكار ما كسبت يداه (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ). المعنى واضح ، وتقدم في العديد من الآيات ، منها الآية ٨٠
من سورة النساء و ١٠٧ من سورة الأنعام.
(وَإِنَّا إِذا
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ). المراد بالرحمة النعمة كالصحة والمال ، وبالسيئة البلاء
كالفقر والمرض ، وبالإنسان أكثر أفراده أو الكثير منهم لأن الإنسان غير مجرم بطبعه
وإلا سقط عنه التكليف كما بيّنا في ج ٤ ص ٤٤٩. والمعنى ان الجاهل الخاسر يفرح
ويبطر بما يناله من حطام الدنيا ، ويكفر إذا فاته شيء منه حتى ولو كان ذلك بسوء
رأيه وهوى نفسه. وتقدم مثله في الآية ١٠ من سورة هود ج ٤ ص ٢١٢ وغيرها.
(لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). يزوجهم أي يجمع ويقرن بين نوعي الذكور والإناث .. وليس من
شك ان الإنسان لا إرادة
له ولا اختيار في
ان يجعل أولاده ذكورا أو إناثا أو هما معا ، ولكن الله هو الذي يهبه الذكور فقط أو
الإناث فقط أو هما معا أو يجعله عقيما من غير نسل ، وحتى الآن لم يهتد الطب الى
علاج العقم في الرجل أو المرأة ، وقد التجأ الأطباء إلى التلقيح الصناعي إذا كان
الزوج عقيما ، وذلك بأن تلقح زوجته بنطفة رجل أجنبي غير عقيم من دون مقاربة.
وعقدنا فصلا مستقلا لهذا الموضوع في كتاب «الإسلام مع الحياة» ، وأفتينا بتحريم
التلقيح ، وإذا حملت المرأة فلا يلحق الحمل بالزوج إجماعا ، ويلحق بالأم.
صورة الاتصال بين الله ورسله الآية
٥١ ـ ٥٣ :
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))
الإعراب :
المصدر من أن
يكلمه اسم كان ، ولبشر متعلق بمحذوف خبرها أي ما كان تكليم الله واقعا لبشر. وإلا
وحيا استثناء منقطع لأن الوحي غير التكليم. أو يرسل بالنصب عطفا على «وحيا» لأن
المعنى الا أن يوحي. ولا يجوز عطف يرسل على أن يكلمه إذ يصير المعنى ان الله لا
يكلم بشرا ولا يرسل إليه رسولا. وصراط الله بدل من صراط مستقيم.
المعنى :
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). يطلق كلام الله سبحانه على العديد من المعاني ، منها
قضاؤه وقدره : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) .. والخلق والإيجاد : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها
إِلى مَرْيَمَ). والحق : (وَكَلِمَةُ اللهِ
هِيَ الْعُلْيا) .. والكون الذي أوجده بكلمة «كن». والإلهام : (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) كما يأتي .. ومن كلام الله الكلام المسموع : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ).
وهذا الكلام هو
الذي يسمعه النبي من وراء حجاب أو يرسل الله به الى النبي رسولا.
وقد ذكر سبحانه في
الآية التي نحن بصددها ـ ثلاثة أوجه لتكليمه الرسل ، وكيفية اتصاله بهم : الأول
إلقاء المعنى في قلب النبي مباشرة ومن غير واسطة ، وهذا هو المراد بقوله : «إلا
وحيا». الثاني أن يخلق الله الكلام كما يخلق غيره من الكائنات ، فيسمعه النبي لا
بواسطة رسول من الله بل من وراء حجاب أي ان النبي يسمع الكلام ولا يرى المتكلم ،
وهذا هو المقصود من قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) ـ ١٦٤ النساء.
الثالث أن يرسل سبحانه الى رسوله ملكا يبلغه رسالات ربه. قال الملأ صدرا في
الأسفار : «إياك أن تظن ان تلقّي النبي (ص) كلام الله بواسطة جبريل وسماعه منه
كاستماعك من النبي ، أو تقول ان النبي (ص) كان مقلدا لجبريل».
وليس من شك انه لا
يظن هذا الظن أو يقول هذا القول إلا جاهل .. لأن ما بلّغه جبريل لمحمد (ص) هو كلام
الله بالذات ، ووعاه الرسول الأعظم على حقيقته ، وعليه تكون معرفة الرسول بكلامه
تعالى هي عين كلام الله ، وكلام الله هو عين معرفة الرسول.
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا). المراد بالروح هنا القرآن لأنه حياة للأرواح والأبدان
أيضا ، قال الإمام علي (ع) : كتاب الله تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ). المراد بالكتاب القرآن ، وبالايمان شريعة الله التي بينها
سبحانه لنبيه الكريم بعد أن اختاره سبحانه
لرسالته ، وقد
اختلفوا في تفسير هذه الآية على أقوال أنهاها الرازي الى خمسة وأرجحها ـ فيما نرى ـ
قول الشيخ إسماعيل حقي في تفسير روح البيان ، وهذا نصه «المراد بالايمان تفاصيل ما
جاء في القرآن التي لا تهتدي اليها العقول ، لا الايمان بما يستقل به العقل والنظر
، لأن دراية النبي (ص) لا ريب فيها ، وقد أجمع أهل الوصول ـ الى معرفة الله
وأنبيائه ـ على ان الرسل كانوا مؤمنين قبل الوحي معصومين من الكبائر والصغائر
الموجبة لنفرة الإنسان عنهم قبل البعثة وبعدها فضلا عن الكفر».
(وَلكِنْ جَعَلْناهُ
ـ أي القرآن ـ
نُوراً
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) وهم الذين طلبوا الهداية بتجرد واخلاص والحق لوجه الحق ،
أما من عاند وتمرد فيدعه الله وشأنه : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) ـ ٣ الزمر. (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ). النبي (ص) يدعو الى الإسلام دين الله وصراطه القويم ، ومن
سلك هذا الصراط فقد سلك الطريق الواضح الى الله ، وأمن جميع العواقب (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ). ان دعوة رسول الله هي السبيل الى مالك الكون وجامع الخلق
في يوم لا ريب فيه ، فمن استمع لدعوة رسوله وأجاب فهو غدا مع الصدّيقين والنبيين
وحسن أولئك رفيقا ، ومن نكص عنها ونأى فهو في نار جهنم ضجيع حجر وقرين شيطان.
سورة الزّخرف
٨٩ آية مكية. وقيل
: إلا آية واحدة.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وانه في ام الكتاب الآية
١ ـ ١٤ :
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ
أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ
إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً
وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ
وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))
اللغة :
أفنضرب عنكم أي أنعرض
عنكم ونترككم. صفحا إعراضا. مسرفين متجاوزين الحد. مثل الأولين بفتح الثاء وصفهم
وحالهم. مهدا فراشا. بقدر بمقدار. فأنشرنا فأحيينا. والأزواج الأصناف. لتستووا
لتستقروا مثل واستوت على الجودي. سخّر ذلّل. مقرنين مطيقين. ومنقلبون راجعون.
الإعراب :
والكتاب الواو
للقسم. وجعلناه هنا بمعنى أنزلناه كما في الآية ٢ من سورة يوسف و ١١٣ من سورة طه ،
وقرآنا حال ، وعربيا صفة. ولعليّ حكيم خبر انه. وفي أم الكتاب متعلق بعلي واللام
لا تمنع من ذلك على حد تعبير البيضاوي. ولدينا بدل من أم الكتاب. وصفحا مفعول مطلق
لنضرب لأنهما بمعنى واحد. وأن كنتم «أن» مصدرية والمصدر المنسبك مفعول من أجله
لنضرب أي أفنضرب عنكم الذكر صفحا من أجل كونكم قوما مسرفين. وكم خبرية ومحلها
النصب بأرسلنا ، ومن نبي تمييز. وبطشا تمييز.
المعنى :
(حم) تقدم الكلام
في مثله في أول سورة البقرة (وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ). هذا قسم منه تعالى بالقرآن الذي فيه بيان الهدى والضلال ،
والحلال والحرام (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). تقدم مثله في الآية ٢ من سورة يوسف ج ٤ ص ٤٨٦ والآية ١١٣
من سورة طه ج ٥ ص ٢٤٧ والآية ٣ من سورة حم السجدة والآية ٧ من سورة الشورى.
وتكلمنا كثيرا حولها ، وليس لدينا الآن من مزيد.
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ). ضمير انه للقرآن ، وأم الكتاب أصله .. وليس من شك ان علم
الله سبحانه هو الأصل لجميع الكتب السماوية .. ووصف سبحانه القرآن بالعلي لأنه
يعلي ويرفع من شأن الذين يستمعون له ويعملون
به ، وقد رأينا
كيف أخرج العرب من جاهلية جهلاء إلى حضارة زاهرة ، وكيف نشر سلطانهم ولغتهم في شرق
الأرض وغربها حين أحلّوا حلال القرآن ، وحرموا حرامه .. وأيضا وصفه تعالى بالحكيم
لأنه ساوى بين الناس دون استثناء ، ودعا الى التسامح ، وحث على العمل النافع ،
والتعاون لمصلحة الانسانية جمعاء.
(أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ). بعد ان ذكر سبحانه القرآن ، وانه الناصح الأمين قال للذين
كذبوا به من مشركي العرب : ما ذا ترون؟ أنترك تذكيركم بالقرآن لا لشيء إلا لأنكم
أسرفتم على أنفسكم وظلمتموها بالجهل والضلال؟ بل أنتم أولى بالتذكير من غيركم (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ). انهم كثيرون ، وقص سبحانه على نبيه أخبار العديد منهم ،
وقال له : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ) ـ ٧٨ غافر.
(وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). تماما كما استهزأ بك قومك يا محمد .. فلا يشقّنّ ذلك عليك
.. ولا بدع في ذلك .. انه الصراع بين أهل الضلالة والعمى وبين دعاة الحق والعدل في
كل زمان ومكان (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ
مِنْهُمْ بَطْشاً) أهلك سبحانه الطغاة الأشداء من الأمم الماضية انتصارا
للأبرار الضعفاء (وَمَضى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ) أي وقصصنا في القرآن حال المكذبين الأولين وإهلاكهم لعل
قومك يتذكرون ويتعظون.
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ). تقدم مثله في الآية ٦١ من سورة العنكبوت والآية ٢٥ من
سورة لقمان والآية ٣٨ من سورة الزمر (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ). تقدم في الآية ٩٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٣٤ والآية ٣ من
سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٤ والآية ٥٣ من سورة طه ج ٥ ص ٢٢٣ (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي الأصناف من الحيوان والنبات والجماد.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ). بعد أن ذكّرهم سبحانه بنعمة الماء والأرض ، وانهم يأكلون
منها ويلبسون ويشربون ـ ذكّرهم بنعمة
المواصلات ، وخص
الفلك والأنعام بالذكر من باب المثال لا من باب الحصر لأن غيرهما كالسيارة
والطائرة لم يكن معروفا في ذلك العهد (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ) ضمير ظهوره يعود الى الاسم الموصول ، وهو ما تركبون (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ
إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) الاستواء الاستقرار ، وعليه أي على ما تركبون.
(وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون ، ومقرنين مطيقين. وفي نهج البلاغة : «اللهم اني
أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال ، اللهم أنت
الصاحب في السفر ، وأنت الخليفة في الأهل ، ولا يجمعهما ـ وهما الصحبة في السفر
والبقاء عند الأهل ـ غيرك لأن المستخلف لا يكون مستصحبا ، والمستصحب لا يكون
مستخلفا».
وعلّق الشيخ محمد
عبده على ذلك بقوله : «أول هذا الكلام مروي عن رسول الله (ص) ، وأتمه أمير
المؤمنين بقوله : ولا يجمعهما الخ وذات الله تستوي عندها الأمكنة كما تستوي
الأزمنة ، فالسفر والحضر عندها سواء».
لم اتخذ مما يخلق بنات الآية
١٦ ـ ٢٥ :
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما
ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ
يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ
قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى
أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))
اللغة :
المراد بالجزء هنا
البنات لقوله تعالى بلا فاصل : أم اتخذ مما يخلق بنات. وأصفاكم خصكم. ومثلا شبيها.
ووجهه مسودا كناية عن الهم والغم. وكظيم ممتلئ غيظا. والحلية زينة الأنثى ، والبنت
هي التي تنشأ وتتربى فيها. وهو في الخصام غير مبين أي يجادل بغير علم. أشهدوا
أحضروا. ويخرصون يكذبون. وعلى أمة أي ملة وطريقة.
الإعراب :
بنات مفعول اتخذ ،
وفي الكلام تقديم وتأخير أي أم اتخذ بنات مما يخلق. ومسودا خبر ظل. وجملة وهو كظيم
حال. أو من ينشأ الهمزة للإنكار والتوبيخ ومن مفعول لفعل محذوف ، والمراد بها
الأنثى ، أي أو قد جعل الأنثى لله. وان هم «ان» نافية. وكذلك خبر لمبتدأ محذوف أي
الأمر مثل ذلك.
المعنى :
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ
وَأَصْفاكُمْ
بِالْبَنِينَ). المراد بالجزء هنا الولد لأنه بضعة من والده ، أما قوله
تعالى : (مِمَّا يَخْلُقُ
بَناتٍ) فيتضمن الدليل على فساد زعمهم بأن لله ولدا لأن المخلوق لا
يكون جزءا من الخالق كما لا يكون البيت جزءا من بانيه ، ولم يكتف المشركون بهذا
الافتراء حتى خصوا الله بما يكرهون من الأولاد ، وأنفسهم بما يحبون .. وتقدم مثله
في الآية ١٠٠ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٣٧ والآية ٤٠ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٤٦
والآية ١٥٢ من سورة الصافات.
(وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ). فاعل ضرب ضمير مستتر يعود على أحدهم .. بعد أن وصف سبحانه
بالكفر الواضح من أشرك وقال : اتخذ الرحمن ولدا ـ ذمّ من يحزن ويكتئب إذا ولدت له
أنثى ، وفي الوقت نفسه يفتري على الله ويقول : اتخذ مما يخلق بنات. وتقدم مثله في
الآية ٥٧ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٢٣.
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ). أتنسب لله أيها المشرك الجاهل الإناث التي تتحلى بالزينة
، وإذا حاجّك وخاصمك في ذلك مخاصم عجزت عن الحجة والدليل؟ وقال المفسرون : ضمير هو
يعود الى الأنثى بالنظر إلى أن لفظ «من» مذكر ، وعليه يكون المعنى ان الأنثى ناقصة
العقل تعجز عن إيراد الدليل على قولها عند المخاصمة والمنازعة ، ومع ذلك يقول
المشركون : انها بنت الله .. وظاهر السياق يرجح هذا التفسير.
(وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)؟ كيف تجرأ المشركون على القول : ان الملائكة بنات الله؟
فهل كانوا عند الله حين خلق الملائكة أو أخبرهم بذلك شاهد عيان؟. وصدق من قال :
كذب الإنسان على مثله وعلى ربه وعلى ملائكته ورسله ، وأيضا كذب على نفسه. ومثل هذه
الآية قوله تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) ـ ١٥٠ الصافات (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ). ان الله لا يخفى عليه شيء فهو يعلم افتراءهم عليه وعلى
ملائكته ، وغدا يسألهم عنه ويحاسبهم عليه.
(وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ). زعموا ان الله راض عن عبادة الأصنام والملائكة ، وإلا
ردعهم عن ذلك بالقهر والقوة .. وجهلوا انه تعالى لو فعل ذلك لكان الإنسان أشبه
بالجماد لا يستحق ثوابا ولا عقابا. وتقدم مثله في الآية
١٤٨ من سورة
الأنعام ج ٣ ص ٢٧٨ (ما لَهُمْ بِذلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). نسبوا شركهم وضلالهم إلى الله تعالى علوا كبيرا .. وجهلوا
انه جل وعز أمر ونهى تكليفا وإرشادا ، وترك التنفيذ لارادة المكلف لتظهر أفعاله التي
يستحق عليها الثواب والعقاب.
(أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)؟ كلا ، لا دليل لهم من العقل ولا من النقل على ما يزعمون
إلا هذا الدليل (بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ). فتقليد الآباء هو ملجأهم الأول والأخير. وقد حكى الله
سبحانه قولهم هذا في العديد من الآيات ، منها الآية ١٧٠ من سورة البقرة و ١٠٥ من
سورة المائدة و ٥٣ من سورة الأنبياء و ٢١ من سورة لقمان وغيرها. وعقدنا فصلا خاصا
للكلام عن التقليد وأقسامه في ج ١ ص ٢٥٩.
(وَكَذلِكَ ما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). هذا منطق الانتهازيين والنفعيين منذ وجدوا والى آخر يوم.
أنظر ج ٤ ص ٤٠٥ فقرة «تفكير الطغاة» وج ٥ ص ٣٠ فقرة «المترفون» وص ٤٥٣ فقرة «منطق
أرباب المال : بنك وعقار» (قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ). ويومئ هذا إلى صحة التقليد إذا كان المقلّد على هدى من
ربه ، وعلى فساد التقليد إذا كان المقلد ضالا مضلا.
(قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). والذي نفهمه من قولهم هذا انهم يكفرون بالحق أينما كان
ويكون حتى ولو كان مع الآباء ، وانهم لا يؤمنون بشيء إطلاقا إلا بمكاسبهم ومنافعهم
، أما التذرع بدين الآباء فهو لمجرد الخوف أن يظهروا للملإ على حقيقتهم ، وقد
رأينا الكثير من الأبناء يسخرون من الآباء وتقاليدهم ، لا لشيء إلا لأنها تصطدم مع
ميولهم ورغباتهم .. ولا جزاء لمن عاند الحق إلا القسوة والعنف (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) انها خزي وجحيم من غير شك.
أهم يقسمون رحمة ربك الآية
٢٦ ـ ٣٥ :
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ
الَّذِي فَطَرَنِي
فَإِنَّهُ
سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ
وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا
بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ
رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ
فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً
وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا
مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))
اللغة :
براء بفتح الباء
مصدر يستوي فيه التذكير والتأنيث والافراد والتثنية والجمع ، تقول : انا براء مما
تعملون ، وأنتم براء مما أعمل أي أنا بريء وأنتم بريئون أو أنا ذو براء ، وأنتم
ذوو براء. وفطرني خلقني. وفي عقبه في ذريته. ومن القريتين على حذف مضاف أي احدى
القريتين ، وهما مكة والطائف. والمراد برحمة ربك هنا النبوة. وسخريا هنا بمعنى
التسخير ، لا بمعنى الاستهزاء. ومعارج جمع معرج وهو الدرج. وعليها يظهرون أي
يصعدون. وسرر وأسرة جمع سرير. والزخرف الزينة.
الإعراب :
هؤلاء إشارة إلى
مشركي مكة. ولولا نزل «لولا» أداة طلب مثل هلا. ولولا أن يكون «لولا» هذه تدل على
امتناع الثاني لوجود الأول ، والمصدر من أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أي لولا
كراهية كون الناس الخ حاصل أو لولا رغبة الناس في الكفر حاصلة ، ولبيوتهم سقفا أي
على بيوتهم سقفا كما قيل. وان كل «ان نافية» ولما بالتشديد بمعنى إلا.
المعنى :
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا
الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ). كان قوم ابراهيم يعبدون الأصنام ، ومنهم أبوه كما يدل
ظاهر الآية ، فنهاهم عن عبادتها ، وأعلن براءته منهم ومن آلهتهم ، وانه يعبد الله
الذي خلقه على فطرة التوحيد ، وانه سيهديه ويرشده إلى ما فيه خيره وصلاحه ، وقوله
: «سيهدين» يومئ إلى يقينه وثقته بالله .. وهكذا كل من طلب الهدى والحق بإخلاص يثق
بأن الله معه وكافيه وهاديه لقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ .. * إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .. * إِنَّ اللهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). وتقدم مثله في الآية ٧٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١١٢ والآية
٤٢ من سورة مريم و ٥٢ من سورة الأنبياء و ٧٠ من سورة الشعراء و ٨٥ من سورة
الصافات.
(وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ). ضمير جعلها يعود إلى كلمة التوحيد التي دل عليها قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) والمراد بجعلها وصى بها لقوله تعالى في الآية ١٣١ من سورة
البقرة : (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ) (اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .. (لعلهم يرجعون). هذا تعليل لوصية ابراهيم ، والمعنى
انما وصى ابراهيم بنيه بكلمة التوحيد ليعملوا بها ، وإذا أشرك واحد منهم أو حاول
يذكّر بوصية أبيه ، ويقال له : انك خالفت ما وصى به ابراهيم. وقد حدث ذلك بالفعل :
(قُلْ صَدَقَ اللهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ـ ٩٥ آل عمران .. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) ـ ٧٨ الحج.
لما ذا كرم الله وجه علي؟
في العام الماضي
١٣٨٩ ه صمت رمضان المبارك في (دبيّ) بدعوة من أهلها ، وقد وجه إليّ الشباب العديد
من الأسئلة منها هذا السؤال : لما ذا يقول السنة عند ذكر بعض الصحابة : رضي الله
عنه ، ويقول الشيعة عند ذكر أحد الأئمة : عليه السلام؟
فأجبت بأن كلا من
السنة والشيعة يستقون من القرآن الكريم ، وقد جاء فيه : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ـ ١١٩ المائدة
وأيضا جاء فيه : (وَسَلامٌ عَلى
عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) ـ ٥٩ النمل فأخذ
الشيعة بهذه الآية ، وأخذ السنة بتلك .. وحين بلغت بالتفسير الى قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قرأت في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي من علماء
السنة ـ ما نصه بالحرف : «قال بعضهم في سبب تكريم وجه علي بن أبي طالب بأن يقال :
كرّم الله وجهه : انه نقل عن والدته فاطمة بنت أسد أنها كانت إذا أرادت أن تسجد
للصنم ، وعلي في بطنها يمنعها من ذلك».
(بَلْ مَتَّعْتُ
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ). هؤلاء اشارة الى مشركي قريش ، وهم من ذرية ابراهيم (ع) ،
والمراد بالحق هنا القرآن ، وبالرسول محمد (ص) وقد وصفه سبحانه بالمبين لأن رسالته
ظاهرة الدلائل ، ومعجزته أفحمت كل منكر ، والمعنى ان عتاة قريش أشركوا بالله ،
وأعرضوا عن وصية أبيهم ابراهيم (ع) بالتوحيد ، فأمهلهم سبحانه وأنعم عليهم من فضله
، ولكن تملّكهم الغرور ، وطغوا وبغوا الى ان جاءهم رسول من أنفسهم بكتاب الله
يدعوهم الى التوحيد ملة أبيهم ابراهم.
(وَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ). كفروا بالقرآن وقالوا : سحر مفترى ، وكفروا بالرسول
وقالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ـ ٧ الحجر. (وقالوا
ـ أيضا ـ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم). محمد فقير .. ومع هذا
يقول : ان الله نزّل عليّ قرآنا .. وهذا أعجب العجب! لأن الله لا يختار لرسالته
إلا العظيم الكبير ، وهو في مفهومهم من ملك الجاه والمال مثل
الوليد بن المغيرة
بمكة ، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، وعلى أحد هذين يجب أن ينزل القرآن لو كان
هناك قرآن. وهكذا نفوا الرسالة عن محمد (ص) لا لشيء إلا لأنه لا يملك مالا ولا
عقارا .. وجهلوا ان المال يملكه البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، أما الرسالة فهي
وقف على الأكفاء وصفوة الأصفياء. ولا فرق عند الله سبحانه بين من نفى النبوة عن
محمد لفقره ، وبين من يكرّم ويقدّر الأغنياء لمالهم وثرائهم ، ويزدري المؤمن
الفقير لفقره وبؤسه ، لا فرق عند الله بين هذين إطلاقا ، وان نطق أحدهما
بالشهادتين. غاية الأمر ان من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله يعامل في
الدنيا معاملة المسلم ، أما في الآخرة فهو مع الجاحدين والمشركين.
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟. الهمزة للإنكار ، والمراد برحمة الله هنا النبوة ، والمعنى
هل أمر النبوة بيد الطغاة المترفين ليختاروا لها من يشاءون ويحرموا منها من يريدون؟
وهل النبي مختار في قرية ، أو نائب في برلمان؟. ان النبوة منصب إلهي ، والنبي يبلغ
عن الله سبحانه ، فهو لسانه وبيانه ، فهل يريد المترفون أن يختاروا لله من يبلغ
عنه ويتكلم باسمه من لا يأتمنه ويرتضيه؟ وهل يجيز المترفون لأحد أن ينوب عنهم ،
ويتكلم باسمهم دون أن يأذنوا له في ذلك؟ فكيف أجازوا على الله ما لا يجيزونه على
أنفسهم؟
(نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). الله يرزق من يشاء ما في ذلك ريب ، ولكنه شاء أيضا أن لا
يرزق إلا بسبب : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ ١٥ الملك. وهذه
الأسباب أو السعي في الأرض على أنواع ، منها الصناعة والزراعة والتجارة والاستخدام
الذي عبّر عنه سبحانه ب «سخريا» كالذي يستخدم في الدولة أو في المصنع أو عند تاجر
أو طبيب وغيرهما من أرباب العمل ، وفي مفهوم الناس ان رب العمل أرفع من العامل ،
أما عند الله تعالى فالأكرم والأرفع هو الأتقى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ـ ١٣ الحجرات .. (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ١٣٣ آل عمران.
وفي نهج البلاغة : «جاع رسول الله في الدنيا مع خاصته ـ أي خصوصيته عند ربه ـ وزويت
عنه زخارفها مع عظيم زلفته ،
فلينظر ناظر بعقله
أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه ، فإن قال : أهانه فقد كذب والعظيم ، وان قال :
أكرمه فليعلم ان الله قد أهان غيره حيث بسط له الدنيا وزواها عن أقرب الناس منه».
وتسأل : وما ذا
تفعل بقوله تعالى : «نحن قسمنا .. ورفعنا» فإنه صريح في ان الله هو الذي يفقر
ويغني ويجعل هذا عاملا ، وذاك ربا للعمل؟
الجواب : ان قوله
هذا حكاية للواقع الذي عليه الناس ، وأسنده اليه تعالى لأن التفاوت يرجع الى
أسبابه الكونية مباشرة ، وإليه تعالى بالواسطة لأنه خالق الكون وموجده ، ويدل على
إرادة هذا المعنى قوله سبحانه في آخر الآية : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) حيث أسند جمع المال الى الناس لا إليه .. وبهذا يمكن
التوفيق بين الآيات الآمرة بالسعي من أجل الرزق ، والآيات التي أسندت الرزق الى
الله عز وجل .. وأشرنا عند تفسير الآية ٢٧ من سورة الشورى إلى أنه تعالى قد يشمل
بعض عباده بالتوفيق والعناية ، فيرزقهم من القليل كثيرا.
(ولولا أن يكون
الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون
ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا. أي معارج من فضة وأبوابا من فضة وسررا
من فضة. والآية رد على من قال : ان الفقير لا يصلح للنبوة لأن الفقر منقصة في
الخلق ، ويتلخص الرد بأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، والآخرة خير عند
ربك وأبقى ، ولكن الناس يؤثرون الدنيا على الآخرة ، ويميلون معها انّى اتجهت ،
ولولا ذلك لأعطى سبحانه الكافر بيوتا من فضة بسقفها وأبوابها ومصاعدها وأثاثها ،
وزادهم على ذلك من زخرف الدنيا وزينتها احتقارا لها .. وقال بعض العارفين : مال
الناس مع الدنيا ، وما فعل الله ذلك ، فكيف لو فعل؟ وتدل هذه الآية على ان الله
يلطف بعباده ، ويفعل ما يقربهم من الطاعة ، ويبتعد بهم عن المعصية ـ وعلى الأقل ـ لا
يفعل ما يغريهم بالمعصية.
(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ
لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن نعيم الدنيا مهما كان نوعه فهو الى زوال لا يستحق
العناية والاهتمام ، وقد جاء التعبير عنه في بعض الآيات باللهو واللعب والغرور (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُتَّقِينَ) وهم الذين أخلصوا لله في أقوالهم وأفعالهم.
أفأنت تسمع الصم الآية
٣٦ ـ ٤٥ :
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ
أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ
تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ
فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ
إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا
مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))
اللغة :
ومن يعس عن ذكر
الرحمن أي من يعرض مثل : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) ـ ١٧ الجن. ونقيض
ننح ونهيئ. والمراد بذكر الرحمن القرآن وبذكر لك ولقومك الشرف.
الإعراب :
يا ليت بمنزلة
الكلمة الواحدة ومعناها أتمنى. فبئس القرين المخصوص بالذم محذوف وهو أنت. والمصدر
من أنكم في العذاب مشتركون فاعل ينفعكم أي لا
ينفعكم الاشتراك
في العذاب أو كونكم مشتركين فيه. فاما نذهبن «إما» كلمتان ان الشرطية وما الزائدة
، وهي هنا بمنزلة لام القسم ، ولذا اتصلت نون التوكيد بالمضارع. واسأل من أرسلنا
على حذف مضاف أي اتباع من أرسلنا.
المعنى :
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). الله سبحانه عادل وحكيم لا يسلط الشياطين على عباده
ليغريهم بالضلال والمعصية ثم يعاقبهم عليها ، كيف وهو القائل : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ـ ٤٢ الحجر
والقائل : (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ ٤٦ فصلت؟ وعليه
يكون معنى الآية من ينصرف عن دين الله وشريعته الى الشهوات والملذات يتخلى سبحانه
عنه ، ويكله إلى نفسه الأمّارة ، وإلى شياطين الانس والجن تفتك به ، وتقوده إلى
المهالك ، ولا يردعه الله عن المعصية بالجبر والقهر. وتقدم مثله في الآية ٢٥ من
سورة فصلت.
(وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ). الضمير في انهم يعود إلى الشياطين لأن المراد بالشيطان
الجنس ، وضمير يصدونهم يعود إلى أتباع الشياطين ، والسبيل هو طريق الهدى والحق (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ). الشياطين يقودون أتباعهم إلى الضلال ، والأتباع يعتقدون
انهم على الهدى في الانقياد إلى الشياطين .. وأشقى الناس من سار على طريق الهلاك ،
وهو يعتقد انه على طريق السلام والصراط القويم : (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ـ ١٠٥ الكهف».
(حَتَّى إِذا جاءَنا
قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ). في جاءنا وقال ضمير مستتر يعود إلى الذي اتبع الشياطين
والمضللين ، وفي الكلام حذف أي ان التابع يقول غدا للمتبوع : ليتني كنت بعيدا عنك
بعد المشرق عن المغرب ، فبئس الصاحب كنت لي والرفيق ، ومثله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا
مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ـ ١٦٦ البقرة. (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ). الخطاب في ينفعكم للتابعين ، والمعنى قد يهون عذاب الدنيا
بعض الشيء على صاحبه إذا رأى غيره يعاني مما
يعانيه ، أما عذاب
الآخرة فهو هو في شدته ، سواء أكان خاصا بالتابعين أم عاما لهم وللمتبوعين ،
فاشتراك هؤلاء مع أولئك في العذاب لا يخفف منه شيئا ، ولا يجدي التابعين نفعا.
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). لقد ختمت الشهوات على أعينهم وقلوبهم وآذانهم ، فكيف يرون
الحق ويسمعون كلمته؟ وتقدم مثله في الآية ٤٢ من سورة يونس و ٨٠ من سورة النمل و ٥٢
من سورة الروم (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ). الخطاب لرسول الله (ص) ، وضمير منهم وعليهم للمشركين ،
والمعنى ان الله سبحانه لا يدع المشركين على ما هم عليه ، فإن انتقل الرسول إلى
رحمة ربه قبل أن يسلموا أو يستسلموا انتقم الله منهم ، وان بقي الرسول حيا أظهره
الله عليهم وأخضعهم لأمره مرغمين ، وفاء لوعد الله تعالى. وهذا ما حدث بالفعل. فلقد
دخل الرسول الأعظم مكة فاتحا واستسلم له عتاتها بعد أن أخرجوه منها خائفا يترقب.
وتقدم مثله في الآية ٤٦ من سورة يونس والآية ٤٠ من سورة الرعد والآية ٧٧ من سورة
غافر.
(فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). اعتصم يا محمد بالقرآن لأنه الحق ، والله معك لأنك على
صراطه القويم ، وهو كافيك المستهزئين والمعاندين (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي ان القرآن شرف لك وللعرب لأنه رفع من شأنهم ونشر
سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها كما ذكرنا عند تفسير الآية ٤ من هذه السورة.
وتقدم مثله في الآية ١٠ من سورة الأنبياء (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ). أيها العرب عن العمل بالقرآن .. ولا شيء أهون اليوم عليهم
منه ، ومن هنا أصبحوا أكلة سائغة لكل آكل وطامع.
(وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ). اسأل يا محمد أهل الأديان واتباع من سبقك من الرسل : هل
سمعوا بنبي من الأنبياء أجاز الشرك ، وأباح عبادة الأصنام؟ وإذا كان جميع الرسول
دعوا الى التوحيد ونبذ الشرك كما دعا محمد فعلام أيها المشركون تعلنون الحرب عليه
وعلى دعوته؟
موسى الآية ٤٦ ـ ٥٦ :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ
بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ
لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ
قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ
مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ
ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً
وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))
اللغة :
بآياتنا بمعجزاتنا
التي أظهرناها على يد موسى. وملئه أشراف قومه. ومهين حقير. ويبين يفصح. وأسورة جمع
سوار مثل أخمرة جمع خمار. ومقترنين ملازمين. وآسفونا أغضبونا. وسلفا أي سابقين الى
النار. ومثلا عبرة وموعظة.
الإعراب :
أم أنا بل أنا.
فلولا فهلا. ومقترنين حال من الملائكة. وأجمعين تأكيد لضمير أغرقناهم. وللآخرين
متعلق ب «مثلا».
المعنى :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ). هذه هي المرة السادسة عشرة التي تكررت فيها قصة موسى (ع)
ما عدا الآيات التي جاء فيها ذكره. وتكلمنا مفصلا حينا ومجملا حينا آخر عن هذه
القصة ، وعند تفسير الآية ٩ من سورة طه في المجلد الخامس ذكرنا السبب الموجب
لتكرارها ، وقال بعض المفسرين : ان الله عز وجل أعاد هنا قصة موسى لأن عتاة قريش
طعنوا بنبوة محمد (ص) لفقره ، فبيّن سبحانه انه قد أرسل موسى الفقير إلى فرعون
الغني ، والآيات السابقة تؤيد هذا القول. ومهما يكن فإن معنى الآية التي نحن
بصددها واضح ، ويتلخص بأن الله بعث موسى إلى فرعون وقومه بالمعجزات الدالة على
نبوته ، كالعصا واليد البيضاء ، فسخروا منه ومن دعوته ومعجزاته.
(وَما نُرِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها). المراد بالآية هنا العذاب ، كما قال سبحانه : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ
وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) ـ ١٣٣ الأعراف.
ومعين أكبر هنا أوضح ، وأختها أي شريكتها في العذاب (وَأَخَذْناهُمْ
بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن الضلال إلى الهدى ، وعن الفساد في الأرض إلى إصلاحها ،
ولكن ما أغنت الآيات والنذر عن قوم لا يبصرون إلا منافعهم ومكاسبهم.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا
السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ). في هذه الآية حكى سبحانه ان قوم فرعون خاطبوا موسى
بالساحر ، وفي الآية ١٣٤ من سورة الأعراف حكى انهم خاطبوه باسمه : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ
قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَ). وغير بعيد انهم خاطبوه مرة بالاسم ،
ومرة بكلمة الساحر
.. وهذا مألوف في الحوار عند الناس (فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ). أخذهم الله بالسنين ، فاستغاثوا بموسى وعاهدوا الله أن
يتوبوا اليه ان كشف عنهم العذاب ، ولكنهم نكثوا واستمروا على الكفر والضلال بعد أن
كشف عنهم الرجز وشملهم برحمته وعنايته.
(وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ). من تحتي كناية عن تصرفه في الأنهار كما يشاء .. وقد استدل
فرعون على عظمته وعلو شأنه بالمال والعقار .. ولا عجب ، فهذا هو المنطق السائد عند
الأكثرية الغالبية في كل قطر وعصر .. وأصحاب المال في هذا العصر هم الحاكمون
بأمرهم في كثير من البلدان (أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ). مهين حقير لفقره ، ويبين يفصح ويوضح عما يريد. وقد كان في
لسان موسى لثغة فأزالها الله سبحانه بدليل قول موسى لربه : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) وقوله تعالى لموسى : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى) ـ ٣٦ طه. وفرعون
عيّر موسى بما كان ، لا بما هو كائن بالفعل.
(فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي ملازمين لموسى تماما كما تلازم الرجل العظيم حاشيته.
وقال المفسرون : جرت عادة قوم فرعون إذا اختاروا رئيسا لهم ان يسوّروه بسوار من
ذهب ، ويطوقوه بطوق من ذهب علامة على رياسته ، ومن أجل هذا قال فرعون : كيف يكون
موسى نبيا ، ولا سوار في يده ، ولا طوق في عنقه ، والذي جرأه على ذلك هو جهل قومه
وضلالهم وضعف عقولهم كما قال سبحانه : (فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ). في العام الماضي طلبت عاملا ليصلح خط الكهرباء في مكتبتي
، ولما رأى الكتب مبعثرة في كل جزء من الغرفة ذهل وقال: ان زوجتي تكرهني ، فأرجوك
أن تكتب لها كتاب محبة. فقلت له : أنا جاهل بهذا الفن. فقال : ولما ذا تقتني هذه
الكتب؟
(فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا بتكذيب الرسول ، ونكث العهد وإصرارهم على الكفر
والضلال (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) القائد منهم والمقود (فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً) أي متقدمين على غيرهم الى النار (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) عبرة وعظة لمن
يأتي بعدهم ،
ومثله : (وَقَوْمَ نُوحٍ
لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) ـ ٣٧ الفرقان.
ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية
٥٧ ـ ٦٦ :
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
(٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها
وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ
قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ
فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
(٦٦))
اللغة :
يصدون أي يصيحون
ويضجون. وخصمون شديدون في الخصومة. وجعلناه مثلا أي آية. والامتراء الشك.
الإعراب :
مثلا مفعول ثان
لضرب لأن الفعل هنا بمعنى جعل ، وهو يعود الى ابن مريم. وما ضربوه كلام مستأنف ، و
«ما» نافية. وجدلا مفعول لأجله. وان هو «ان» نافية. فلا تمترن النون للتوكيد.
واتبعون أي واتبعوني ومثله وأطيعون. والمصدر من أن تأتيهم بدل من الساعة لأن
المعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. وبغتة صفة لمفعول مطلق محذوف أي اتيانا بغتة
أو في مكان الحال أي مباغتة.
المعنى :
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ)؟ الخطاب في قومك لرسول الله (ص) وضرب مبني للمجهول. وقال
المفسرون : ان الذي ضرب ابن مريم مثلا هو عبد الله بن الزبعرى بكسر الزاي وفتح
الباء والراء ، وتشير الآية إلى حادثة خاصة بين النبي (ص) وكفار قريش ، وملخصها
انه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ـ ٩٨ الأنبياء شق
ذلك على قريش ، فقال ابن الزبعرى قبل أن يسلم ، قال للرسول : ان النصارى يعبدون
المسيح ، فإذا كان المسيح في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا معه لأنه خير منها ،
أو هي ليست خيرا منه. ولما سمع المشركون هذا النقض من ابن الزبعري رفعوا أصواتهم
بالضجيج ليسكتوا الرسول عن الجواب ويوهموا الناس انه أعجز وأفحم ، وفي بعض
الروايات ان رسول الله (ص) قال ابن الزبعرى : ما أجهلك بلغة قومك؟ أما فهمت ان «ما»
لما لا يعقل؟.
(ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً). ان نقض المشركين عليك يا محمد بالمسيح ما هو بقصد إحقاق
الحق وإظهاره .. كلا ، بل للتهرب منه بالكذب والتمويه ، وإلا فإنهم على علم اليقين
بأن المراد من «وما تعبدون» أصنامهم بالذات (بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ) يبالغون في اللجاج والخصومة بالباطل حرصا على أرباحهم
وعدوانهم (إِنْ هُوَ إِلَّا
عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ). ان عيسى
عبد من عباد الله
أنعم الله عليه بالنبوة ، وخلقه كآدم من غير أب ليكون آية تدل بني إسرائيل على
قدرة الله وعظمته لعلهم يهتدون ويتقون .. ولكنهم ازدادوا عتوا وطغيانا ، وقالوا عن
السيد المسيح وأمه ما يهتز له العرش.
(ولو نشاء لجعلنا
منكم ـ أي بدلا منكم ـ ملائكة في الأرض يخلفون) أي يخلفونكم. هذا تهديد ووعيد
للمشركين ، ومعناه ان الله غني عنكم وعن عبادتكم أيها المشركون ، ولو شاء أهلككم
وجعل مكانكم ملائكة يخلفونكم في الأرض يقدسونه ويسبّحون بحمده ولا يعصون له أمرا.
ومثله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ـ ٣٨ محمد.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). ضمير انه يعود الى القرآن ، والمعنى ان القرآن يعلم الناس
بيوم القيامة ويخبرهم عن حقيقته ، ويحذرهم من أهواله ، ولا يجوز الشك فيه .. و «هذا»
اشارة الى القرآن أيضا وانه صراط الله المستقيم ، قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ) ـ ٩ الإسراء.
والأقوم هو الصراط المستقيم.
وتسأل : كيف يعود
الضمير الى القرآن مع العلم بأنه لم يرد له في الآيات ذكر ، والذي ذكر فيها هو
عيسى (ع) فينبغي أن يعود الضمير اليه ، لا إلى القرآن؟
الجواب : ان موضوع
الآيات هو الجدل في عيسى ، والحديث عنه كما وصفه القرآن ، لا كما هو في ذاته بصرف
النظر عما جاء في كتاب الله ، وعليه يكون ذكر السيد المسيح ذكرا للقرآن ، ويؤيده
قوله تعالى في نفس الآية : هذا صراط مستقيم ، فإن المراد به القرآن كما أسلفنا.
والغريب ان بعض المفسرين أعادوا الضمير إلى عيسى ، ومع هذا فسّروا الصراط المستقيم
في الآية بدعوة محمد (ص) والقرآن.
(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ
الشَّيْطانُ) عن الحق والعمل بالقرآن (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، ظاهر العداوة والبغضاء يغريكم بالمنكر والفحشاء ، ومثله
: (لا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) ـ ٢٧ الأعراف. (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ
قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي
تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).
المراد بالبينات
هنا المعجزات الدالة على نبوة عيسى ، كشفاء الأكمه والأبرص ، والمراد بالحكمة
العلم بدين الله وشريعته ، والمعنى ان عيسى الذي ثبتت نبوته بالدلائل الواضحة قال
لبني إسرائيل : قد جئتكم من عند الله بأحكام الدين كلها عقيدة وشريعة ، وبها
تعرفون المحق من المبطل ، فاتقوا الله ترشدوا.
وتسأل : لما ذا
قال بعض الذين تختلفون فيه ولم يقل كل :
وأجاب جماعة من
المفسرين بأن القصد من ذلك ان عيسى (ع) بوصفه نبيا يبين لهم أمور الدين فقط ، أما
شئون الدنيا فلا تدخل في مهمته. وقد روى علماء السنة في صحاحهم عن النبي (ص) انه
قال : «أنتم أعلم بأمور دنياكم ، وأنا أعلم بأمور دينكم».
(إِنَّ اللهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). هذا إشارة الى التوحيد والنهي عن الشرك ، والمعنى ظاهر
على حد تعبير الرازي (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ
مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ). المراد بالأحزاب اليهود والنصارى من جهة ، والنصارى فيما
بينهم من جهة ثانية. قال اليهود : ان عيسى ابن زنا مخالفين في ذلك جميع النصارى
والمسلمين ، أما النصارى فقد اختلفوا بعد المسيح وتفرقوا شيعا ، فمن قائل : ان
عيسى عبد الله ورسوله ، وقائل : هو ابن الله ، وقائل : بل هو الله بالذات .. تعالى
الله عما يصفون.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)؟ هذا تهديد ووعيد لمن ألّه عيسى. وتقدم مثله في سورة يوسف
الآية ١٠٧.
الاخلاء يومئذ الآية ٦٧
ـ ٨٠:
(الْأَخِلاَّءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا
خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا
بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ
وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ
فِيها
خالِدُونَ
(٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧)
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))
اللغة :
مسلمين منقادين
لله. تحبرون تسرون. وصحاف جمع صحفة كجفان جمع جفنة ، وهي إناء يؤكل فيه الطعام.
وأكواب جمع كوب ، وهو كوز أو ما أشبه ، ولا أذن له كما قيل. لا يفتر عنهم لا يخفف
عنهم. ومبلسون آيسون من النجاة. ومالك خازن النار. وأبرموا أحكموا.
الإعراب :
الأخلاء مبتدأ
وبعضهم مبتدأ ثان وعدو خبره ، والجملة خبر الأول ، ويومئذ متعلق بعدو. وجملة يا
عباد الخ مفعول لقول محذوف ، والأصل يا عبادي وحذفت الياء تخفيفا. والذين آمنوا
بدل من يا عبادي. وفيها ما تشتهيه مبتدأ وخبر. وتلك الجنة مبتدأ وخبر. وهم
الظالمين «هم» ضمير فصل لا محل له من الإعراب. أم أبرموا اضراب ومثلها ام يحسبون.
المعنى :
(الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). المراد بالعداء هنا انقطاع الصلة سواء أكان معه تباغض
وتلاعن أم لم يكن ، والمعنى ان صلة الحب والصداقة التي كانت في الدنيا قائمة بين
الناس تنقطع يوم القيامة وتزول إلا إذا كان مصدرها الاخوة في الله والتعاون على
طاعته ، فإنها عندئذ تستمر إلى ما لا نهاية بل تنمو وتزداد كلما طال المدى لأن ما
كان لله ينمو .. هذا ، إلى ان أهل الجنة أسرة واحدة على اختلاف قومياتهم وبلادهم
في الدنيا ، قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ـ ٤٧ الحجر.
(يا عِبادِ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). هذا أمان الله من الحزن والخوف غدا لمن آمن بالله واتقاه (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا
مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ). هذا بيان وتفسير لعباد الله وانهم الذين آمنوا به
وانقادوا لطاعته ، وان جزاءهم عنده تعالى أن يدخلهم الجنة مع أزواجهم الصالحات ،
ومعنى تحبرون تسرون أي ان ثوابهم لا يقف عند الأمن وعدم الخوف بل يتعداه إلى
النعيم والحبور ، وأيضا (يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ). الصحاف للطعام ، والأكواب للشراب (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من الملذات الروحية والمادية (وَتَلَذُّ
الْأَعْيُنُ) من المناظر الجميلة (وَأَنْتُمْ فِيها
خالِدُونَ) الى ما لا نهاية (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجنة حق لكم أيها المؤمنون العاملون تماما كالارث من
مورثكم لأنكم في الحياة الدنيا عملتم من أجلها (لَكُمْ فِيها
فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ). طعام وشراب وفاكهة أيضا. والذي تشتهيه الأنفس لا يبلغه
الحصر ، لأن شهوة النفس لا ضابط لها ، وكذلك لذة العين.
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ). بعد أن ذكر سبحانه الهادين المهديين ذكر الضالين المضلين
، وانهم في عذاب دائم لا أمل لهم في انقطاعه ، ولا في تخفيفه بعض الشيء (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ
الظَّالِمِينَ). لأنه سبحانه حذرهم وأنذرهم ، فأبوا إلا كفورا.
(وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ). استغاثوا بمالك خازن النيران ، وطلبوا منه أن يمن الله
عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب. فأجابهم
مالك : لا نجاه
مما أنتم فيه. هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.
وتسأل : لقد وصفهم
سبحانه في الآية السابقة بأنهم مبلسون أي آيسون حتى من تخفيف العذاب لحظة واحدة
فضلا عن انقطاعه ، فكيف أخبر عنهم هنا انهم يطلبون الموت ليستريحوا من العذاب؟ ألا
يدل هذا الطلب على الرجاء الذي يتنافى مع اليأس؟
الجواب : ان لأهل
النار حالات يغلب عليهم اليأس في بعضها ، وتلوح لهم بارقة من أمل في بعضها الآخر
.. هذا ، الى أنه من الجائز أن يكون نداؤهم مالكا لمجرد التعبير عن شدة ما بهم.
(لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). الذين يعرضون عن الحق على نوعين : الأول يعرض عنه لجهله
به. والثاني يعرض عنه لأنه يصادم أهواءهم وأغراضهم. وهذا النوع من الناس هم
الأكثرية الغالبية .. وكل من يدخل النار غدا يدخلها لأنه أعرض عن الحق ولم يعمل به
، ولكن القليل منهم استحق العذاب لأنه قصّر في طلب العلم بالحق ، والأكثر استحقوا
العذاب لأنهم تركوا الحق لتصادمه مع أهوائهم ، لا لجهلهم به (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا
مُبْرِمُونَ). ضمير أبرموا يعود إلى المشركين ، والمعنى ما دبر المشركون
كيدا للنبي إلا أبطل الله كيدهم ، كما فعل بقريش حين اجتمعت على اغتيال الرسول (ص)
وهو نائم في فراشه (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ). انهم يدبرون الكيد بالسر ، ويعتقدون ان ذلك يخفى عليه
تعالى ، ولكنه يعلم السر وأخفى ، وهو لا يهدي كيد الخائنين.
ان كان الرحمن ولد الآية
٨١ ـ ٨٩ :
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي
فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ
إِلهٌ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (٨٩))
اللغة :
يؤفكون يصرفون عن
الحق. وقيله وقوله بمعنى واحد.
الإعراب :
هو مبتدأ والذي
خبر وفي السماء متعلق بإله لأنه بمعنى معبود ، وإله خبر لمبتدأ محذوف أي هو إله في
السماء. وقيله على حذف مضاف عطفا على وعنده علم الساعة أي وعنده علم قيله أيضا.
المعنى :
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ). ذكر صاحب مجمع البيان لهذه الآية خمسة معان ، وأطال
الكلام من غير موجب ، لأن المعنى واضح ، وهو قل يا محمد لمن يدعي بأن لله ولدا :
أنا معك شريطة أن تثبت ذلك بالدليل القاطع .. ولكن لا دليل على هذا الزعم ، بل قام
الدليل على عكسه وفساده ، لذا أنا من الموحدين المؤمنين بأن الله لم يلد ولم يولد
.. واختصارا ان الرسول الأعظم (ص) علق اعترافه بعبادة الله الذي يلد ، علقه على
محال ، وليس من
شك ان وجود المعلق
على محال محال مثله .. وهذا أسلوب معروف بين العلماء في الجدل والنقاش ، وهو أبلغ
في افحام الخصم.
(سُبْحانَ رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) من نسبة الولد والشريك اليه تعالى (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا
حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ). ذرهم تهديد ووعيد ، والمراد بالخوض واللعب هنا القول في
الله بغير علم ، ويومهم هو يوم القيامة (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ). الله وحده خالق الكون بأرضه وسمائه ، ومدبره بعلمه وحكمته
، ولا أحد سواه يستحق العبادة.
(وَتَبارَكَ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ). قوله تعالى : (وَما بَيْنَهُما) يومئ الى ان في الفضاء كائنات لا نعلم حقيقتها ، والساعة
يوم القيامة ، ولا أحد يعلم متى تقوم الا الله (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء (وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أنهم يعبدون الأصنام لأنها تشفع لهم عند الله بزعمهم.
فقال سبحانه : كلا ، لا يشفع عنده إلا من نطق بكلمة التوحيد ، وآمن بها عن علم ،
وكان المشفوع له أهلا للشفاعة والعفو عنه.
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). هم يعترفون بالله وانه هو الذي خلقهم ومع ذلك ينصرفون عن
عبادته الى عبادة الأصنام. وتقدم مثله في الآية ٩ من هذه السورة (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). ضمير قيله يعود الى الرسول (ص) ، وهو على حذف مضاف عطفا
على علم الساعة أي وعنده علم قول الرسول ، والمعنى ان الرسول قال لربه : ان الذين
بعثتني اليهم لم يستجيبوا لي. فقال له سبحانه : لا تحتفل بإعراضهم فإن العاقبة لك
عليهم. والمراد بالسلام هنا هو المراد بالسلام في قوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا
سَلاماً) ـ ٦٣ الفرقان.
كتبت القسم الأخير
من هذا المجلد في العشرة الأولى من شهر المحرم سنة ١٣٩٠ ه بفندق كربلاء المقدسة
في جوار سيد الشهداء سبط الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
الفهرست
سورة النّمل
هدى وبشرى المؤمنين الآة ١ ـ ٥............................................... ٥
موسى
الآة ٦ ـ ١٤........................................................... ٧
سليمان
الآة ١٥ ـ ١٩....................................................... ١٠
العظات
والعبر في نملة سليمان................................................. ١٢
مالي
لا ارى الهدهد الآة ٢٠ ـ ٢٦............................................. ١٤
اذهب
بكتابي هذا الآة ٢٧ ـ ٣٥............................................. ١٧
هل
الفساد طبيعة في الملوك.................................................... ١٩
عرش
بلقيس الآة ٣٦ ـ ٤.................................................... ٢٠
نكروا
لها عرشها الآة ٤١ ـ ٤٤................................................ ٢٣
صالح
الآة ٤٥ ـ ٥٣......................................................... ٢٥
لوط
الآة ٥٤ ـ ٥٨......................................................... ٢٧
سلام
على عبادة الدين اصطفى الآة ٥٩ ـ ٦٤.................................. ٣١
الصلاة
والسلام على المتقين................................................... ٣٢
عالم
الغيب والبعث الآة ٦٥ ـ ٧٥............................................ ٣٤
ان
هذا القرأن يقص الآة ٧٦ ـ ٨٥............................................ ٣٧
شعار
إسرائيل سمعنا وعصينا................................................... ٣٨
تمرالجبال
مرالسحاب الآة ٨٦ ـ ٩٣............................................ ٤١
الجبال
وحركة الأرض.......................................................... ٤٣
سورة القصص
آيات الكتاب الآة ١
ـ ٦..................................................... ٤٦
لما
ذا اضطهد فرعون بني إسرائيل............................................... ٤٧
متى
يمن الله على المستضعفين.................................................. ٤٨
ام
موسى الآة ٧ ـ ١٣....................................................... ٥٠
ولما
بلغ أشده الآة ١٤ ـ ١٩.................................................. ٥٣
ان
الملأ يأتمرون بك الآة ٢٠ ـ ٢٨............................................ ٥٦
الشريعة
الاسلامية نسخت جميع الشرائع........................................ ٦٠
قضى
موسى الأجل الآة ٢٩ ـ ٣٢............................................ ٦٢
فأخاف
ان يقتلون الآة ٣٣ ـ ٣٧............................................. ٦٣
ما
علمت لكم من إله غيري الآة ٣٨ ـ ٤٣.................................... ٦٥
محمد
وأنباء الغابرين الآة ٤٤ ـ ٥١............................................ ٦٨
يؤتون
أجرهم مرتين الآة ٥٢ ـ ٥٤............................................ ٧٣
الصبر
حكمة وبطولة......................................................... ٧٤
انك
لا تهتدي من أحببت الآة ٥٦ ـ ٦١....................................... ٧٥
أبو
طالب والإسلام.......................................................... ٧٦
اين
شركائي الآة ٦٢ ـ ٧٠................................................... ٧٩
الحكمة
من الليل والنهار الآة ٧١ ـ ٧٥........................................ ٨٢
قارون
الآة ٧٦ ـ ٨٢........................................................ ٨٤
قارون
والرأسمالية المستبدة...................................................... ٨٦
لرادك
الى معاد الآة ٨٣ ـ ٨٨................................................. ٨٩
إخبار
الغيب عن العملاء والخونة............................................... ٩٠
سورة العنكبوت
الايمان
جهاد وصبر الآة ١ ـ ٩................................................ ٩٢
أيضا
البر بالوالدين........................................................... ٩٥
ومن
الناس من يقول أمنا الآة ١٠ ـ ١٥........................................ ٩٦
ايمان
او سراب............................................................... ٩٧
ابراهم
الآة ١٦ ـ ١٨....................................................... ٩٩
الله
المبدئ والمعيد الآة ١٩ ـ ٢٧............................................. ١٠٠
القرآن
والفكر.............................................................. ١٠١
لوط
الآة ٢٨ ـ ٣٥........................................................ ١٠٥
شعيب
الآة ٣٦ ـ ٤٠...................................................... ١٠٦
ان
أوهن البيوت العنكبوت الآة ٤١ ـ ٤٥.................................... ١٠٨
الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر............................................ ١١١
الجدال
بالتي هي أحسن الآة ٤٦ ـ ٤٩....................................... ١١٥
المنهج
الجدلي في القرآن...................................................... ١١٥
انما
الأات عندالله الآة
٥٠ ـ ٥٥............................................ ١١٩
وكأين
من دابة لا تحمل رزقها الآة ٥٦ ـ ٦٣.................................. ١٢١
الرزق
والثقة بالمخلوق دون الخالق............................................. ١٢٣
الدنيا
لهو ولعب الآة ٦٤ ـ ٦٩.............................................. ١٢٥
سورة الرّوم
غلبت
الروم الآة ١ ـ ٧..................................................... ١٢٨
أو
لم يتفكروا في أنفسهم الآة ٨ ـ ١٦........................................ ١٣٠
من
مشاهد الكون وخلق الانسان الآة ١٧ ـ ٢٥............................... ١٣٣
الزواج
القرآني.............................................................. ١٣٦
كل
له قانتون الآة ٢٦ ـ ٢٩................................................ ١٣٨
ذلك
الدين القيم الآة ٣٠ ـ ٣٢............................................. ١٤٠
دين
الله والفطرة............................................................ ١٤١
واذا
مس الناس ضر الأة ٣٣ ـ ٤٠........................................... ١٤٣
ظهر
الفساد في البر والبحر الأة
٤١ ـ ٤٥.................................... ١٤٦
من
الأات الکوفة الأة
٤٦ ـ ٥١........................................... ١٤٨
العقل
وفكرة البعث......................................................... ١٥١
خلقكم
من ضعف الأية ٥٢ ـ ٦٠........................................... ١٥١
سورة لقمان
هذا خلق الله الأة
١ ـ ١١.................................................. ١٥٥
الاتجار
بالدين والضمير..................................................... ١٥٧
لقمان
الأة ١٢ ـ ١٩...................................................... ١٥٨
الصخرة
وقرن الثور......................................................... ١٦٢
فقد
استمسك بالعروة الوثقى الأة ٢٠ ـ ٢٨.................................. ١٦٤
من
هو المستمسك بالعروة الوثقى............................................. ١٦٦
يولج
الليل في النهار الأة ٢٩ ـ ٣٢........................................... ١٦٨
ان
الله عنده علم الساعة الأة ٣٣ ـ ٣٤...................................... ١٧٠
لماذا
خلق الله الإنسان....................................................... ١٧١
علم
الساعة والغيث وما في الأرحام........................................... ١٧٣
سورة السّجدة
الذي
أحسن كل شيء خلقه الأة ١ ـ ٩...................................... ١٧٦
المجرمون
ناكسو رؤوسهم الأة ١٠ ـ ١٤....................................... ١٧٩
أفمن
كان مؤمنا كمن كان فاسقا الأة ١٥ ـ ٢٢............................... ١٨١
فلا
تكن في مرية من لقائه الأة ٢٣ ـ ٣٠..................................... ١٨٤
سورة الأحزاب
يا
أيها النبي اتق الله الأة ١ ـ ٣.............................................. ١٨٨
ما
جعل الله لرجل من قلبين الأة ٤ ـ ٥....................................... ١٨٩
قلب
واحد وايمان واحد...................................................... ١٩٠
النبي
أولى بالمؤمنين من أنفسهم الأة ٦ ـ ٨.................................... ١٩٢
هل
النبي حاكم بأمره....................................................... ١٩٣
الأحزاب
الأة ٩ ـ ١٥...................................................... ١٩٥
ملخص
قصة الأحزاب...................................................... ١٩٦
لن
ينفعكم الفرار الأة ١٦ ـ ٢٠............................................. ٢٠٠
في
رسول الله اسوة حسنة الآة
٢١ ـ ٢٧...................................... ٢٠٣
المسلم
على قسمين......................................................... ٢٠٥
ملخص
قصة بني قريظة..................................................... ٢٠٧
هل
ظلم محمد (ص) بني قريظة............................................... ٢٠٨
يا
أيها النبي قل لأزواجك الأة ٢٨ ـ ٣٠...................................... ٢١٠
النبي
وكثرة الأزواج.......................................................... ٢١١
طهارة
أهل البيت الآة ٣١ ـ ٣٤............................................ ٢١٥
أهل
البيت................................................................ ٢١٦
والحافظون
لحدود الله والحافظات الآة
٣٥..................................... ٢١٨
قصة زينب بنت جحش الأة
٢٦ ـ ٤٠....................................... ٢١٩
هل
اشتهى النبي زينب بنت جحش........................................... ٢٢٠
لما
ذا ختمت النبوة بمحمد................................................... ٢٢٥
هو
الذي يصلي عليكم الأة ٤١ ـ ٤٩....................................... ٢٢٧
يا
ايها النبي انا أحللنا لك أزواجك الأية ٥٠ ـ ٥٢.............................. ٢٢٩
فاذا
طعمتم فانتشروا الأة ٥٣ ـ ٥٥.......................................... ٢٣٣
صلوا
عليه وسلموا تسليما الأة ٥٦ ـ ٥٨..................................... ٢٣٦
كيف
نصلي عليك يا رسول الله.............................................. ٢٣٧
وجوب
الحجاب الأية ٥٩ ـ ٦٢.............................................. ٢٣٨
الحرب
النفسية............................................................. ٢٤٠
يسألك
الناس عن الساعة الآية ٦٣ ـ ٦٩..................................... ٢٤١
انا
عرضنا الأمانة الأة ٧٠ ـ ٧٣............................................. ٢٤٣
سورة سبأ
الحمدلله
الذي له ما في السموات الأة ١ ـ ٦.................................. ٢٤٦
الكافرون
باليوم الأخر الأية ٧ ـ ٩............................................ ٢٤٨
داود
وسليمان الأية ١٠ ـ ١٤............................................... ٢٥٠
نقد
الفكر الديني........................................................... ٢٥٣
سبا
الأية ١٥ ـ ٢١........................................................ ٢٥٦
ملخص
القصة............................................................. ٢٥٧
قل
ادعوا الذين زعمتم الأية ٢٢ ـ ٣٠........................................ ٢٦٠
ان
يؤمنوا بالقرآن الأة ٣١ ـ ٣٣............................................. ٢٦٣
المترفون
الأة ٣٤ ـ ٤٢..................................................... ٢٦٦
انما
أعطكم بواحدة الأة ٤٣ ـ ٥٠........................................... ٢٦٩
واني
لهم التناوش الأة ٥١ ـ ٥٢.............................................. ٢٧٢
سورة فاطر
الحمدلله
فاطر السموات والأرض الأة ١ ـ ٣................................... ٢٧٥
فقد
كذبت رسل من قبلك الأة ٤ ـ ٨........................................ ٢٧٧
زين
له سوء عمله........................................................... ٢٧٩
والعمل
الصالح يرفعه الأة ٩ ـ ١١............................................ ٢٨٠
وما
يستوي البحران الأة ١٢ ـ ١٨........................................... ٢٨٢
وما
يستوي الأعمى والبصير الأة ١٩ ـ ٢٨................................... ٢٨٥
لكل
أمة رسول............................................................ ٢٨٧
ظالم
نفسه ومقتصد وسابق بالخيرات الأة ٢٩ ـ ٣٥............................ ٢٨٩
لا
يقضي عليهم الأة ٣٦ ـ ٣٩............................................. ٢٩٢
يمسك
السموات والأرض الأة ٤٠ ـ ٤٣...................................... ٢٩٤
ما
ترك على ظهرها من دابة الأة ٤٤ ـ ٤٥.................................... ٢٩٧
سورة يس
انك
لمن المرسلين الأة ١ ـ ١٢............................................... ٢٩٩
الموسيقى
الباطنية في القرآن.................................................. ٣٠٠
رسولان
عززهما الله بثالث الأة ١٣ ـ ٢٧...................................... ٣٠٣
يا
حسرة على العباد الأة ٢٨ ـ ٣٦.......................................... ٣١١
وفي
كل شيء له أة الآية ٣٧ ـ ٤٤.......................................... ٣١٣
اتقوا
ما بين ايديكم الآية ٤٥ ـ ٥٤........................................... ٣١٦
أصحاب
الجنة وأصحاب النار الآية
٥٥ ـ ٦٨.................................. ٣١٩
وما
علمناه الشعر الآية ٦٩ ـ ٧٠............................................ ٣٢٢
أيدي
الله هي سنن الكون والطبيعة الآية
٧١ ـ ٧٦............................. ٣٢٤
قال
من يحيى العظام الآية ٧٧ ـ ٨٣........................................... ٣٢٥
سورة الصّافات
والصافات
صفاً الآية ١ ـ ١٠................................................ ٣٢٨
الله
والقسم بخلقه........................................................... ٣٣٠
بل
عجبت ويسخرون الآية ١١ ـ ٢٦......................................... ٣٣١
وأقبل
بعضهم على بعض الآية ٢٧ ـ ٣٧...................................... ٣٣٥
على
سرر متقابلين الآية ٣٨ ـ ٤٩............................................ ٣٣٧
المرأة
والفتيان............................................................... ٣٣٨
لمثل
هذا فليعمل العاملون الآية
٥٠ ـ ٦٨...................................... ٣٣٩
ضل
قبلهم أكثر الأولين الآية ٦٩
ـ ٨٢....................................... ٣٤٢
سام
ويافث وحام........................................................... ٣٤٤
وان
من شيعته لابراهيم الآية ٨٣
ـ ٩٩........................................ ٣٤٥
ارى
في المنام اني اذبحك الآية
١٠٠ ـ ١١٣.................................... ٣٤٨
هل
الذبيح إسماعيل أو اسحق................................................ ٣٥١
موسى
والياس الآية ١١٤ ـ ١٣٢............................................ ٣٥٢
لوط
ويونس الآية ١٣٩ ـ ١٤٨.............................................. ٣٥٤
ألربك
البنات ولهم البنون الآية
١٤٩ ـ ١٦٠................................... ٣٥٧
فأنكم
وما تعبدون الآية ١٦١ ـ ١٧٠........................................ ٣٥٩
وان
جندنا لهم الغالبون الآية
١٧١ ـ ١٨٢..................................... ٣٦٠
سورة ص
ص
والقرآن ذي الذكر الآية ١ ـ ١١.......................................... ٣٦٣
تقليد
الموحد وتقليد المشرك................................................... ٣٦٥
اصبرعلى
ما يقولون الآية ١٢ ـ ٢٠........................................... ٣٦٧
٩٩
نعجة ونعجة واحدة الآية ٢١ ـ ٢٥...................................... ٣٧٠
التفسير
والاسرائيليات....................................................... ٣٧١
جعلناك
خليفة في الأرض الآية ٢٦ ـ ٢٩...................................... ٣٧٥
سليمان
الآية ٣٠ ـ ٤٠..................................................... ٣٧٧
أيوب
الآية ٤١ ـ ٤٨....................................................... ٣٨٠
المتقون
والطاغون الآية ٤٩ ـ ٦٤............................................. ٣٨٣
انما
أنا منذر الآية ٦٥ ـ ٨٨................................................. ٣٨٦
الإسلام
وفتاة انكليزية....................................................... ٣٨٨
سورة الزّمر٣٩٢
لله الذين الخالص
الآية ١ ـ ٤................................................ ٣٩٢
يكور
النهار على الليل الآية ٥ ـ ٨........................................... ٣٩٤
يحذر
الآخرة ويرجو رحمة ربه الآية ٩ ـ ١٦..................................... ٣٩٨
حتى
الأنبياء يفعلون رغبة ورهبة............................................... ٣٩٩
الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية
١٧ ـ ٢١........................... ٤٠٢
شرح
الله صدره للاسلام الآية
٢٢ ـ ٢٤....................................... ٤٠٥
قرأنا عربيا غيرذي عوج الآية ٢٥ ـ ٣١........................................ ٤٠٧
ترجمة
القرآن............................................................... ٤٠٩
أليس
الله بكاف عبده الآية ٣٢ ـ ٣٧........................................ ٤١٥
قل
حسبي الله الآية ٣٨ ـ ٤٥................................................ ٤١٧
أنت
تحكم بين عبادك الآية ٤٦ ـ ٥٢........................................ ٤٢٠
عذر
أقبح من ذنب........................................................ ٤٢٢
ان
الله يغفر الذنوب جميعا الآية
٥٣ ـ ٥٩..................................... ٤٢٥
الذين
كذبوا على الله وجوهم مسودة الآية
٦٠ ـ ٦٧............................ ٤٢٧
وسيق
الذين كفروا الآية ٦٨ ـ ٧٢............................................ ٤٣١
وسيق
الذين اتقوا الآية ٧٣ ـ ٧٥............................................. ٤٣٤
سورة غافر
غافر
الذنب وقابل التوب الآية
١ ـ ٦......................................... ٤٣٦
الذين
يحملون العرش الآية ٧ ـ ١٠........................................... ٤٣٨
أمتنا
اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية
١١ ـ ١٧..................................... ٤٤٠
وأنذرهم
يوم الآزقة الآية ١٨ ـ ٢٢............................................ ٤٤٣
موسى
الآية ٢٣ ـ ٢٩...................................................... ٤٤٥
وما
الله يريد ظلما العباد الآية
٣٠ ـ ٣٥....................................... ٤٤٩
لعلى
أبلغ الأسباب الآية ٣٦ ـ ٤٠........................................... ٤٥٢
أدعوكم الى النجاة وتدعوني الى النار الآية ٤١ ـ ٤٦............................ ٤٥٤
يتحاجون
في النار الآية ٤٧ ـ ٥٥............................................ ٤٥٦
الله
وإسرائيل............................................................... ٤٥٩
خلق
السموات والأرض أكبر الآية
٥٦ ـ ٦٣.................................. ٤٦١
وصوركن
فأحسن صوركم الآية ٦٤ ـ ٦٨...................................... ٤٦٥
الفيلسوف
«راسل» والأجل المسمى.......................................... ٤٦٧
ذلكم
بما كنتم تفرحون الآية ٦٩ ـ ٧٨........................................ ٤٦٨
نطلب
الدنيا باسم الدين.................................................... ٤٧٠
الذي
جعل لكم الأنعام الآية ٧٩ ـ ٨٥....................................... ٤٧١
سورة فصّلت السّجدة
كتاب
فصلت آياته الآية ١ ـ ٨.............................................. ٤٧٤
خلق
الله الأرض الآية ٩ ـ ١٢............................................... ٤٧٧
ما
هو الحل لمشكلة الجوع.................................................... ٤٧٩
أنذرتكم
صاعقة الآية ١٣ ـ ١٨.............................................. ٤٨١
شهد
عليهم سمعتهم وأبصارهم الآية
١٩ ـ ٢٤................................. ٤٨٣
وقال
الذين كفروا لا تسمعوا هذا القرآن الآية ٢٥ ـ ٢٩......................... ٤٨٦
قالوا
ربنا الله ثم استقاموا الآية
٣٠ ـ ٣٦....................................... ٤٨٩
الله
والإنسان والعمل........................................................ ٤٩٠
لا
أتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلقه الآية ٣٧ ـ ٤٦........................ ٤٩٢
الرحلة
الى القمر............................................................ ٤٩٤
إسرائيل
والقرآن............................................................ ٤٩٧
اليه
يرد علم الساعة الآية ٤٧ ـ ٥٠.......................................... ٥٠٣
سنريهم
آاتنا ف الآفاق الآية
٥١ ـ ٥٤....................................... ٥٠٥
الكون
هو قرآن الله الكبير................................................... ٥٠٦
سورة الشّورى
کذلک يوحى اليك الآية
١ ـ ٨.............................................. ٥٠٩
اقيموا
الدين ولا تتفرقوا فيه الآية
٩ ـ ١٤...................................... ٥١٢
واستقم
كما امرت الآية ١٥ ـ ١٨............................................ ٥١٦
الله
لطيف بعبادة الآية ١٩ ـ ٢٢............................................. ٥١٨
أطعني
تكن مثلي........................................................... ٥٢٠
من
هم القربى الآية ٢٣ ـ ٢٦................................................ ٥٢١
الرزق
بالعمل لا بالدعاء الآية
٢٧ ـ ٣٥....................................... ٥٢٤
وما
عند الله خير وأبقى الآية
٣٦ ـ ٤٣........................................ ٥٢٧
الخاسر
من خسر نفسه الآية ٤٤ ـ ٥٠........................................ ٥٣٠
صورة
الاتصال بين الله ورسله الآية
٥١ ـ ٥٣................................... ٥٣٣
سورة الزّخرف
وانه
في ام الكتاب الآية ١ ـ ١٤.............................................. ٥٣٦
لم
اتخذ مما يخلق بنات الآية
١٦ ـ ٢٥......................................... ٥٣٩
أهم
يقسمون رحمة ربك الآية ٢٦ ـ ٣٥....................................... ٥٤٢
لما
ذا كرم الله وجه علي...................................................... ٥٤٥
أفأنت
تسمع الصم الآية ٣٦ ـ ٤٥.......................................... ٥٤٨
موسى
الآية ٤٦ ـ ٥٦...................................................... ٥٥١
ولما
ضرب ابن مريم مثلا الآية
٥٧ ـ ٦٦....................................... ٥٥٤
الاخلاء
يومئذ الآية ٦٧ ـ ٨٠............................................... ٥٥٧
ان
كان الرحمن ولد الآية ٨١ ـ ٨٩........................................... ٥٦٠
|