


كلمة الناشر
منذ الحملات
الصليبية على الشرق العربي انتبه الأوروبيون إلى أهمية الشرق عامة والوطن العربي
خاصة باعتبار هذه المناطق مفاتيح كنوز كبيرة معدنية وغذائية وبشرية واقتصادية
وأسواق رائجة لبضائعها. لذا فقد وصل هذه البقاع العديد من الباحثين والمختصين
يدرسون ويبحثون وينقبون عمّا ضمته هذه الأقطار من ثروات هائلة. ومن أقدم تلك
الرحلات العلمية الأوروبية إلى الشرق بل وأهمها رحلة العالم والطبيب الهولندي
الدكتور ليونهارت راوولف إلى الشرق التي وقعت في النصف الثاني من القرن السادس عشر
الميلادي. ومع أن الغاية الأساسية من هذه الرحلة كانت ـ كما هو معروف جمع النباتات
والأعشاب التي لها علاقة بالطبّ والعلاج والتي تنمو في بلدان الشرق ، والشرق
الأوسط بالذات فإن الجوهر الأصلي لها هو حثّ أوروبا على استعمار هذه البقاع
وامتصاص خيراتها بكل الطرق والوسائل وهي بداية السيطرة والأطماع الأوروبية للشرق
بأكمله.
طبعت هذه الرحلة
باللغة الألمانية سنة ١٥٨١ م في ليدن ، ثم طبعت باللغة الإنكليزية سنة ١٦٩٣ م في
لندن.
أهداف الرحلة :
الهدف المعلن لهذه
الرحلة التي قام بها الدكتور راوولف الهولندي إلى هذه المنطقة من شرقنا العربي هو
التعرّف وجمع أنواع كثيرة من النباتات والأشجار التي تنبت في أراضي هذه البلدان
والتحقق من فوائدها الغذائية وبالأخص الطبيّة.
وقد حفظت بشكل جيد
النباتات التي جمعها راوولف خلال رحلته في أربعة مجلدات ضخمة حيث اعتبرت من أعظم
الأشياء النادرة الغالية. وأصبحت ملك جامعة ليدن الهولندية.
وحاول راوولف أن
يعود لبلده ومعه نماذج كثيرة من نباتات وأعشاب بلاد المشرق التي جاءها ، وركز جلّ
اهتمامه على فوائد هذه النباتات الطبية بصورة أساسية للاستفادة منها في صناعة
الأدوية. وفعلا تهيأت له بعض المقومات الناجحة لجمع العديد من نماذج نباتات الوطن
العربي واعتبرت مصدرا هامّا من مصادر دراسة النباتات العربية. ومع أن رحلة
ليونهارت راوولف كانت علمية بحتة فإنها رحلة قيّمة تخللها الصدق والأمانة في أكثر
الأحيان في الوصف لكل شيء شاهده ، وبذلك فإنها تشكّل أساسا لدراسة الأحوال
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للأقطار التي حلّ فيها ، ووصف ما
شاهدته عيناه من أمور عجيبة وما صادفه من معوقات ومشاكل محزنة أحيانا. وهي بحق
رحلة جامعة وشاملة ومفيدة. ووثيقة موضوعية عن الوضع العام للبلدان العربية إبان
حكم الدولة العثمانية. ومن فوائد رحلة المشرق بشكل خاص وصفه لما حلّ ببغداد من
كوارث ووباء الطاعون المميت والجوع المرعب والفيضان المدمر الذي أغرق هذه المدينة
الجميلة بطغيانه.
بداية الرحلة :
عند ما خرج
الرحالة راوولف في الثامن عشر من أيار سنة ١٥٧٣ م
من مدينة او غسبرغ
الهولندية كانت محطته الأولى في الشرق العربي مدينة طرابلس في لبنان. ومن بين ما
وصفه عن المصنوعات صناعة الحرير وأشار إلى توفر كميات كبيرة من الحرير في مدينة
دمشق وذلك لكثرة أشجار التوت أو التكي. قال إن هناك «.. كثرة فائقة من أشجار التوت
الضخمة الشامخة ذات الأوراق الكثيرة التي تتغذى عليها دودة القز. علما أن ثمار
التوت هذه تكون بيضاء اللون وتنقل في سلال وتباع للعامة».
التوت أو الفرصاد
:
(الاسم العلمي Morus ، والإنكليزي Mulberry ـ tree) أشجار برية وزراعية من فصيلة
التوتيات ، تنتشر في المناطق الحارة والمعتدلة.
وأنواعها المعروفة
أكثر من ثلاثين نوعا وأشهرها التوت الأبيض Morus alba
الذي يربى على أوراقه دود القز وهو الذي وصفه راوولف في رحلته. وفي العراق يسمى
التكي وهذا النوع صيني الأصل ونقله العرب إلى أنحاء العالم الإسلامي خلال الفتوحات
العربية الإسلامية.
ووصف أعشابا
يستخرج منها مادة بوتاسية تستخدم في صناعة الصابون سماها شوان (Shvan) وهي غير ذلك قال : «ويستخرج هذا البوتاس أو القلى من
أعشاب يطلق عليها العرب اسم شنان ، وهو على نوعين.
وأحد هذين النوعين
لا يختلف عن نبات القلى المعروف إذ يتألف من نبتة سميكة كثيرة العقد ذات أغصان
صغيرة تتفرع منها ولها في رؤوسها عدة عقد ومن تحتها أوراق مدببة.
أما النوع الثاني
فتكون سيقانه كثيرة مليئة بالعقد وجذور ملونة.
وينمو هذان
النوعان من الأعشاب بكميات هائلة حيث يتم حرقها وتحويلها إلى رماد فوق الجبال.
وعند حرقها تسيل مادة زيتية تلتصق بالرماد فتصبح صلبة أشبه بالحجارة بعد أن تفقد
حرارتها ويجلب المسلمون هذا الرماد من الجبال على ظهور الإبل فيبيعونه لبعض التجار
الذين يتاجرون به
فيصدرون قسما منه إلى البلاد الأجنبية بينما يصنعون من القسم الآخر مادة الصابون».
والأشنان أو
الأشنان :
(الاسم العلمي Salicomia) والإنكليزي (Saltwort)
نبات عشبي من فصيلة السرمقيات له ثمانية أنواع مواطنها حوض البحر الأبيض المتوسط
والمحيط الأطلسي سيقانها مفصلية دقيقة فروعها متقابلة ، عديمة الورق أزهارها
سنبلية التجميع. ثمارها خفية الشكل صغيرة يستخرج منها ملح القلى بعد الحرق.
والنوع الذي قصده
راوولف هو اشنان القلى (أبو قابس ، خريس (Salicomia herbacea.
وخلال وجوده في
منطقة حلب السورية وصف أهم نباتاتها وأشجارها الغذائية والصناعية قائلا : «حلب
محاطة بتلال صخرية وأوديتها ذات تربة طباشيرية ومع ذلك فلا تعوزها الحنطة ولا
الشعير وغيرهما من الحبوب لأن أرضها خصبة ، ويبدأ الحصاد فيها عادة في شهري نيسان
وأيار. ولا يوجد في هذه الأودية سوى القليل من أشجار البلوط ، والأعشاب الجافة ،
ذلك لأن الجفاف فيها شديد وأرضها رملية في حين ترى التلال وعرة ملأى بالأدغال ليس
فيها سوى القليل من العشب الجاف ، ولذلك وجدنا السكان يعلفون مواشيهم الشعير
والتبن الذي تدوسه أدوات الدراسة التي تجرها الثيران. وكذلك وجدنا الأودية مليئة
بأشجار الزيتون وهذا هو الذي جعل الأهلين هنا ينتجون في كل سنة مئات الألوف من
أطنان زيت الزيتون الذي يستعمل في صناعة الصابون. وإلى جانب ذلك توجد بساتين كثيرة
لأشجار اللوز والتين والسفرجل والتوت الأبيض والفستق الذي يجمعه المسلمون في فصل
الربيع بكميات كبيرة فيملحونه ويقشرونه ويأكلونه مثلما نفعل نحن بنبات الجنجل ،
جنجل : أعشاب عارشة من فصيلة القراصيات لها نوعان : الجنجل الشائع
والجنجل الياباني
تصل إلى ارتفاع ٨ أمتار. وهي من النباتات الزراعية الصناعية اسمها العلمي (Humulus) والإنكليزي ـ Hop.
وتكثر بساتين
البرتقال والليمون والرمان والخوخ وغيرها غير أن ثمار التفاح والكمثرى تعد قليلة
بالنسبة إلى الثمار الأخرى ، وتكون صغيرة الحجم وغير ملونة بالشكل المعروف في
بلادنا. ويعقب ذلك وجود كثرة من حاصلات الرقي والبطيخ والخيار وما شاكلها فضلا عن
وفرة أنواع الخضار. ولقد شاهدت ثلاثة أنواع من الباذنجان تختلف ألوانه بين الأسود
والبني ، والفاصولية وغيرها من الخضار التي تباع بكثرة في الأسواق وتطبخ لتهيئة
الطعام اليومي ، كما أنهم كثيرا ما يتناولون بعض هذه الخضروات وهي فجة أي دون طبخ.
وهناك نوع من
اللوبياء أو الكستناء تطبخ أو تحمص ثم تنزع قشورها وهم يتناولونها عند ما يجلسون
في المقاهي ، كما يقدمونها على مائدة الطعام بعد انتهاء الوجبات عوضا عن الحلويات
أو الفواكه مثل الزبيب والجوز وغيرهما.
ويستمر راوولف في
وصف النباتات التي شاهدها قائلا : «وهناك عدة نباتات تستعمل طعاما بالطبخ منها
العدس. وهذا ذكرني بنبتة مماثلة يسميها العرب «ماش» وهي في شكلها وأوراقها تشبه
نبتة الفاصوليا عندنا. ولقد أشار «سيرابيو» إلى هذه النبتة باسم «مليس» في الفصل
١١٦ من كتابه ، كما أشار إليها ابن سينا أيضا باسم «ميس» في الفصل ٤٨٨ من كتابه.
غير أن العالم النباتي الشهير «كارلوسي كلوفيوس» سماها في كتابه «موجز النباتات
الهندية» باسم «مونغو» وقد وجدت الأتراك يحبون تناول الماش (اسمه العلمي Phaseolus aureus» ـ P.mungo «) وبالإنكليزية (Mung bean) كثيرا ولا سيما مع الرز. والماش
نبات عشبي زراعي حولي من فصيلة القرنيات الفراشية. تنتشر زراعة هذا النبات في
أنحاء أقطار الشرق. الساق فرعاء قائمة ، أوراقه معنقة مركبة ثلاثية. وريقاتها
بيضية
النصل. الأزهار
صفر خضر المواج. الثمار قرون أسطوانية ضيقة مستطيلة ، بزوره كروية الشكل سمراء
اللون أو خضراء بالأسود. تحوي البذور على العناصر الغذائية التالية ٨٠ ، ٢٣% من
المواد الأزوتية ، ٤٦ ، ١% من المواد الدهنية ، ١٥ ، ٦٢% من المواد النشوية.
وبعد ذلك تناول
راوولف في وصف رحلته الشرقية هذه نباتا آخر يجلب من بلاد فارس (إيران) إلى مدينة
حلب ، قال : «وهم يجلبون من بلاد فارس في أكياس من الجلد كميات كبيرة من (المن)
يسمونه (طرنجبيل ـ (Trunschibill ويجمعونه من نبتة يسميها العرب «عاقول»
و «الحاجي». ـ عاقول ، حاج ، زنجبيل العجم ، اشترغار ، الاسم العلمي (Alhagi mannifera ,Al ـ maurorum)
والإنكليزي (Comel thom ,Hebrew (manna plant
نبات عشبي ليفي معشوشب معمر من فصيلة القرنيات ، الساق شائكة فرعاء تصل إلى نحو
١٠٠ سم ، فروعه نحيلة الشوك ، أوراقه بسيطة كاملة مستطيلة ، وهو من النباتات التي
تفرز المن ويقال إن منّ بني اسرائيل كان من فرزه لأنه كثير الوجود في صحراء سينا
وهذا هو السبب الذي يجعله يمتزج مع أشواك صغيرة وقش أحمر اللون. ولهذا المن شيء من
الحبوب أحيانا على غرار حبات (الكزبرة) عندنا. ولذلك فهو في كل مظاهره يشبه (المن)
الموجود في بلادنا والذي نجنيه من شجر «اللاركس» كما أن هذا المن يشبه المن الذي
تناوله الإسرائيليون الذي وفره الله فكان على شكل معجزة خارقة للطبيعة. اللاركس ـ (Larix Deciduamill) ومعنى اللاركس باللاتيني المتساقطة
الأوراق أو المنفضة. واللاركس شجرة مخروطية ارتفاعها بين ٢٥ ـ ٣٠ مترا ، سمراء
القلف راتنجية. وبزوره بيضوية الشكل سمراء اللون. وموطن هذه الأشجار جبال الألب
ووسط وجنوب أوروبا. وتعرف شجرة اللاركس بالاسم العربي (الأرزيّة) وهذا الاسم من وضع الأمير مصطفى الشهابي رحمهالله.
أما المن الذي
يسقط على الأشواك فقد أكده كل من (سيرابيو)
و (ابن سينا) في
الفصول التي تناولا فيها هذه المادة من مؤلفاتهم وكانوا يسمونها (تسريابين) و (طرنجيين).
كذلك عرفه العالم النباتي الشهير (كارلوس كلوفيوس) وأكده في كتابه (موجز النباتات
الهندية) ولقد عثرت في أطراف حلب على بعض هذه الشجيرات التي يبلغ ارتفاعها حوالي
ذراع وتتفرع منها عدة سيقان مدورة تنقسم بدورها إلى عدة أقسام كالزهرة ـ ويستخدم
الأهلون هذه الشجيرات للتنظيف والتعقيم ، إذ إنهم يأخذون كمية منها يغلونها
بالماء. طرنجيين ـ ترنجبين ـ منّ (manna)
مادة من مزيج من السكر والمسنيت والدكسترين تفرزه بعض النباتات أو بواسطة حز
اللحاء أو بتأثير وخز بعض الحشرات كقرمزية المن وغيرها. والطرنجبين أنواع عديدة
تختلف باختلاف مصادرها وطرق جمعها. وما خلا ذلك فإن لديهم نوعا آخر من المن شبيه
بالنوع السابق. وهذا النوع يرسل إلى بلادنا (كالبرية) عن طريق البندقية.
وقد جاء في
الدراسات العلمية الحديثة أن المن أنواع كثيرة منها : ـ المن الذي يعرف باسم (ترنجبين)
وهو عسل الندى وهو عبارة عن مادة سكرية تفرزها بعض النباتات إفرازا طبيعيّا أو
بتأثير حشرة قرمزية المن القشرية (الاسم العلمي ـ (manna
Scale in Sect coccus manni ferus ومن أهم هذه النباتات :
١ ـ الطرفاء
النيلية (تكثر في صحراء سيناء) الاسم العلمي Variety , (Tamarix
nilotica)) Mannifera ـ من الفصيلة الطرفاوية.
٢ ـ الشيح (الاسم
العلمي ـ (Artemisia herba ـ alba)
ـ من الفصيلة المركبة (الأنبوبية الزهر).
٣ ـ الحاج (نوع من
العاقول أو شوك الجمل)(alhagi) (تكثر في أفغانستان وإيران) (الاسم
العلمي ـ (Alhagi manniferum) من فصيلة القرنيات. وجاء ذكر هذا
النبات في النصوص البابلية والنصوص الآشورية (عثر على نص في كركميش قرب حلب).
٤ ـ شجر الخلاف (الاسم
العلمي ـ (Salix Viminalis الاسم الإنكليزي (Osier) (نوع من الصفصاف القصير الورق) وينبت في الأماكن
الرطبة. ويقع عليه الشير خشك وهو نوع من المن.
٥ ـ شجرة الميليز (Melissa) (حبق ترنجاني بادر نجوية) أو الترنجان (إغريقية) كما
عرفه ابن البيطار ، يتبع الفصيلة الشفوية والمستعمل منه الأوراق له رائحة ليمونية
ويسيل منه ما يسمى (بمن بربانسون).
٦ ـ الحزاز (نوع
من الطحالب) وهي الأشنة أو شيبة العجوز كما سماها ابن البيطار. وهذه الأشنات تؤكل
وتحتوي نشا كثيرا ويسمى هذا النوع (المن السماوي أو المن الساقط من السماء ويكثر (في
إيران وحول جبال أرارات في تركيا).
٧ ـ الدردار (الاسم
العلمي ـ (Fraxinus omus وهي أهم مصادر المن في الوقت الحاضر.
(تكثر في جنوب أوروبا وبالأخص في إيطاليا). وقد سمى ابن البيطار هذا النبات (لسان
العصفور) ولهذه النباتات أنواع كثيرة لكن الذي يهمنا هنا النوع الذي يسمى (لسان
العصفور المزهرة أو الدردار المزهرة) وهي الشجرة التي تنتج المن وتسمى (ديش) كذلك.
ويعتبر المن الجيد الذي يجلب من منطقة (كالابريا ـ في جزيرة صقلية الإيطالية) وهذا
النوع نفسه الذي ذكره راوولف أنه شاهده في حلب. وهذا يؤكد أن هذه الأشجار قد نقلت
إلى أوروبا عن طريق صقلية وهذا المن يتصف باللون الأصفر الجاف إلى البياض وله طعم
حلو تتخلله مرارة خفيفة.
ويشير الدكتور
جابر الشكري حول تكوّن المن بقوله : «والمن الذي يؤخذ من بعض أنواع أشجار الطرفاء
أو الأثل أو غيرها يسيل من شقوق تحدثها بعض الحشرات التي تعيش على هذه الشجيرات
ولا يستبعد أن
يكون لهذه الحشرات
دخل في تكوين المن. وهذا النوع من المن هو المأخوذ من طور سيناء ، وورد ذكره في
القرآن الكريم.
ويظن بعض العلماء
أن المن الذي نزل على بني اسرائيل هو نوع من الأشنات تنبت على الحجر أو الشجر ،
غنية بالنشا ، حلو الطعم يؤكل ، وليس هذا المن الذي نعرفه الآن.
إن المن من نوع
الراتنجات أو الصموغ التي تنضح من النباتات ويحصل عليه من إحداث شقوق في لحاء
الأشجار التي عمرها بحدود ثماني سنوات ، حيث يسيل النضح من هذه الشقوق ، ويجمع في
أوعية خاصة أو يترك على اللحاء حيث يجف ثم يجمع». وأثناء وصفه مدينة حلب ذكر
الدكتور راوولف أن هناك الكثير من نباتات التوابل تجلب لهذه المدينة من بلدان
أخرى. قال : «وهم يجلبون إلى هنا كثيرا من الأفاويه من أمثال (الدار صيني) والدار
صيني قرفة سرنديب ، قرفة سيلان ، دارسين (العراق) الاسم العلمي (Cinnamomum Zeylanicum) والإنكليزي (Common
Cinnamom tree ,Cinnamon.
شجرة زراعية من
الأفاوية ، موطنها سيلان وبعض مناطق الصين المتاخمة للهند. ساقها فرعاء تصل إلى
عشرة أمتار في الارتفاع أزهارها صغيرة الحجم غبراء اللون. ازهرارها عنقودي التجميع.
الثمار عنبية جميع أعضاء الشجرة عطرية تستخرج منها الأدهان والطيوب. ويستخرج من
لحاء الساق والفروع صنف جيد من الأفاويه المسماة بالدارسين عندنا في العراق.
الفلفل والفلفل ـ لهذا
النبات حوالي ٦٠٠ نوع ولكن يبدو أن الذي ذكره راوولف في رحلته هو الفلفل المسمى بالحلو
أو فلفل إفرنجي اسمه العلمي (Pimenta) والإنكليزي (Allspice
,pimento وهي شجرة برية وزراعية من فصيلة الآسيات تكثر في البلاد
الحارة ثمارها بقدر حبة
الحمص ، قرمزية
اللون ، عطرة ، يستخرج منها عطر ويستعمل مسحوقها في الأكل كتابل ممتاز.
الهيل والهيل ـ يسمى
أيضا هال ، هيلبوا ، قاقلة ، شوشمة ، شوشمير الاسم العلمي (Amomum)
نباتات جذمورية طبية عطرية برية وزراعية من فصيلة الزنجيبليات من نباتات المناطق
الحارة أنواعه عديدة ، تنتشر في الهند والهند الصينية وجزيرة جاوة والصين وسيلان.
المستعمل منها بذورها المسماة (حب الهال أو الهيل). وهي بذورها ضمة ومنبهة للقلب
وللقوة الجنسية طاردة للرياح ، مسكنة للمغص ومدرة للطمث وكذلك ادهانها. واعتقد أن
الهيل الذي ذكره راوولف هو النوع المستورد من سيلان.
جوز الطيب وجوز
الطيب ـ جوزبوا ، بسباسة ، الطيب ، الاسم العلمي (Myristica Fragrans)
والإنكليزي (Nutmeg tree) من نباتات البلاد الاستوائية
المستعمل من هذا النبات ثمارها شبه الكروية الشكل ، لحمية القشور أصفر اللون
كالمشمش ، قطرها ٥ سم قشرة الثمرة تنفلق عند النضج عن جوزة خشبية الغلاف ، سمراء
اللون. وجوز الطيب من التوابل العطرية المستحبة دهنها منبه شديد الفاعلية وهاضم
وطارد للرياح وهذه النباتات أشجار هرمية الشكل تعلو إلى حوالي ١٠ أمتار. وقشر جوز
الطيب وغيرها من الجذور الصينية التي يستعملها العرب بوفرة جذور ثمينة يسمونها «الراوند»
والراوند ـ الاسم العلمي (Rheum) والإنكليزي (Rhubarb).
نباتات عشبية جذمورية طبية معمرة من فصيلة البطباطيات ، أنواعه كثيرة ، كبيرة
الحجم. ضمية الأوراق أزهارها عثكولية الثمار عنبية.
ونتابع وصف
الدكتور راوولف للنباتات من خلال رحلته المشرقية هذه فيقول :
«من بين المواد
التي يجلبها التجار من الهند بعض القصب الطويل
الصلب الممتلىء
بمادة لزجة ذات لون أصفر. ويكون هذا القصب على نوعين قصير وطويل. فأما الطويل فهو
أصلب ويستعمله الشيوخ والعرج بدلا من العكاكيز أما النوع الآخر فيصنعون منه القسي
والسهام حيث تجد الأتراك يغلفونها بأغلفة حريرية مختلفة الألوان ويتباهون بها
كثيرا.
كذلك توجد في
الحوانيت أنواع أخرى من القصب القصير المجوف الصقيل ذي الألوان البنية والحمر.
وهذه الأنواع يستعملها الأتراك والمسلمون وغيرهم من أبناء الأقطار الشرقية لغرض
الكتابة بها ، ذلك أنهم لا يستعملون ريش الإوز لهذا الغرض. وفضلا عن ذلك يوجد نوع
من العصي يجلبها الحجاج معهم من «مكة» حين يذهبون لزيارة قبر نبيهم (محمد) صلىاللهعليهوسلم. وأهل تلك البلاد ولا سيما العرب يحملونها معهم على ظهور
الخيل بدلا من الرماح لأنها قوية وطويلة وخفيفة ...».
ربما قصد هنا
الدكتور راوولف القصب الهندي (Canneguin ghan)
الذي يصل طوله في النمو إلى أربعة أمتار ، في داخل التجويف مادة سكرية صفراء
اللون. وعني بوصفه هذا القصب الصيني Canne) (dechine
وهو أصفر اللون متوسط الارتفاع ينتشر في الصين والهند والهند الصينية كان التجار
العرب يجلبونه من الهند على متن السفن.
وهناك أنواع عديدة
يجلبها التجار العرب المسلمون من الهند والصين من القصب الذي كان يستعمل فعلا
لأغراض الكتابة وكسهام ورؤوس للحراب المستعملة في الحروب ومن أشهر هذه الأنواع
القصب الفارسي (Arundo isiaca).
ويستغرب الدكتور
راوولف من وجود شراب غريب عرفه بالقهوة كان في وقته غير معروف في أوروبا. ولنستمع
لوصفه : من بين الأشربة التي يتعاطونها في هذه البلاد ، شراب حسن جدّا يسمونه «قهوة»
أسود اللون كالجير تماما ، وهو مفيد جدّا للمرض ولا سيما أمراض المعدة ... وهم
يصبّونه في أقداح صينية وهو جدّا ساخن فيرفعون القدح
إلى شفاههم لكنهم
لا يتناولون منه سوى شفة واحدة بين آونة وأخرى.
وتدار عليهم هذه
الأقداح حين يجلسون وهم يصنعون في هذا الماء ثمرة يدعونها (بنرو ـ (Bunru) ، هي في حجمها وشكلها ولونها تشبه
ثمرة التوت ، ولها قشرتان رقيقتان تحيطان بها. وقد انبأوني عنها بأنهم يجلبونها من
الهند».
القهوة أو البن
التي ذكرها راوولف هي شجيرات برية وزراعية (الاسم العلمي Coffea)
والإنكليزي (Coffee tree). موطنها الأصلي الحبشة وقد انتقلت
بواسطة العرب إلى اليمن والهند وأمريكا الجنوبية ، وهي من نباتات المناطق الحارة
الاستوائية. أوراقها دائمة الخضار. وأزهارها بيض عطرية. المستعمل منها حبوبها
المنبسطة أخدودية من الداخل ، لونها أخضر باهت. والقهوة هي نقيع البن المحمص
المسحوق المغلي في الماء.
عندما وصل راوولف
مدينة الفلوجة الحالية في محافظة الأنبار عن طريق نهر الفرات قادما من حلب قال : «لم
أر هنا أية نباتات تستحق الاهتمام سوى الخلجان الذي يسمى عندنا في هولندا باسم (السذاب)
وهو ينمو بكثرة في الوديان الجافة. كما شاهدنا على مقربة من الطريق أول نوع من
شجرة نسميها نحن (سم الكلب) وهي بأوراقها وعذوقها تشبه (شجرة الخالندين) شبها
كبيرا. كما شاهدنا مساحات شاسعة من الأراضي مزروعة بنوع من القمح التركي ندعوه «جلجان»
بالإضافة إلى مساحات أخرى زرعت بالقطن وبأشجار (الأيسولا) المليئة بالحليب وهي
تغطي مساحات واسعة من الأراضي الخالية التي يمكن زرعها بالقمح.
ولقد وجدنا هنا
نبتة (السمقونيا) التي يؤتى بها إلى حلب والتي يمكن مزجها مع حبات الأيسولا. وعلى
مقربة من المدينة كانت أشجار (الأكاسيا) تنمو بكميات وفيرة وهم يسمونها هنا باسم (الشوك)
والشاموك وثماره أكبر حجما وأكثر وفرة مما رأيت من أمثاله في أي مكان آخر».
والخالنجان أو
الخولنجان (الاسم العلمي ـ (Alpinia galanga
والإنكليزي (galingale) عشب أملس ريزومي معمر طبي ، له
رائحة عطرية طعمه شديد الحرافة ، والجزء المستعمل طيبا هو الريزومات. وهو ليس
السذاب كما أشار بذلك راوولف وأوراقه تشابه أوراق السذاب وبالإضافة إلى استعماله
الطبي يعتبر قابلا حسنا ذا نكهة طيبة.
وكان العرب
يشربونه مغليّا في اللبن ضد السعال والبرد وكمقو للباه ، ونقل العقار إلى أوروبا
وظل يستعمل كمنبه عطري معوي إلى عهد قريب.
ونبات (سم الكلب
أو قاتل الكلب) الذي ذكره راوولف يسمى أيضا (خوشان ، خانق الكلب) اسمه العلمي (Apocynum) والإنكليزي (Indianhemp
,Dogsbanc) شجيرات طبية معمرة من فصيلة الدفليات ، ساقها وفروعها
ليفية منتصبة ، أزهارها صغيرة جريسية ، ثمارها نحيلة مستطيلة ، بزورها دقيقة.
يستفاد من البزور والأوراق في عدة مستحضرات طبية مسهلة ومقيئة. ويستخرج من الألياف
خيوط كالقنب.
وذكر راوولف عن
قمح سماه الجلجلان وهو ليس بقمح إنما هو السمسم أو السمسق (الاسم العلمي Sesamum oleifrum والإنكليزي (Sesame
,Gingelly ,Gingili). نبات عشبي حولي زراعي دهني من
السمسقيات ، جذوره وتدية يستفاد من بزوره الزيتية التي يستخرج منها بالعصر.
والبزور الصغيرة الحجم مفلطحة إهليلجية ، لونها يختلف بألوانها ما بين الأبيض
والتبني والأصفر والأسمر والأسود. يكثر في الهند وبلاد الشرق العربي. وذكر راوولف
نباتا سماه الأيسولا (Esula) ، وهو عشب يسمى في العراق باسم (الزريقة)
بتشديد الراء.
يجمع البدو بزورها
السمراء اللون وهي بحجم حبة العدس حيث يحمصونها ومن ثم يأكلونها وتضم أوراق هذه
النباتات مادة حليبية.
وذكر راوولف نبات
السمقونيا (المحمودة) (الاسم العلمي (Convolvulus Scammonia
,C.Syriacus. والإنكليزي Scammony Plant).
نبات عشبي طبي ليفي عارش من فصيلة اللبلابيات. أزهاره بوقية الشكل ، صفراء اللون
مشربة البياض. يستخرج من جذوره عصارة راتنجية صمغية لها استعمالات كثيرة في الطب.
ونوع أشجار
الأكاسيا أو الأقاقيا التي ذكرها الدكتور راوولف الأكاسيا العربية أو سنط عربي أو
قرظ أو شوكية قبطية ، الاسم العلمي (Acacia arabica)
والإنكليزي (Gum ـ Arabic tree).
شجرة برية وزراعية
مبذولة تكثر في الشرق العربي. ويستخرج منها الصمغ الأحمر. وأغصانها مشوكة مما حدا
بأكثر الناس أن يعتبروها أحد أنواع الشوك وأزهارها ذات عطر حسن. ووصف راوولف نباتا
يصطاد بواسطة بذوره الأسماك في نهر دجلة عند مكوثه في بغداد قائلا : «وحين أراد
ملاحو قاربنا اصطياد السمك شرعوا يرمون في النهر بحبات ممزوجة بمادة (الكوكولوس ـ (Cocculos وهو ثمر يسمونه (دم السمك) فبعد أن
يطفو السمك على سطح الماء تماما يقفز الملاحون من القارب ويمسكون بأعداد منه».
والكوكولوس التي ذكرها راوولف في رحلته نبات يسمى سم السمك أو قاتل الحوت (سمي
كذلك لأنه يقتل السمك إذا خلط بالماء) ـ سيكران الحوت ويسمى بالفارسية (ماهيزهره ـ
ماهيز هرج أي سم السمك) من العائلة (Menispermaceae)
واسمه العلمي Anamirta) (Cocculus ,Anamirta paniculata
والإنكليزي (Cocculus indicus plant).
وعندنا في العراق
يعرف باسم (الزهر) لثمر هذه العشبة البرية ، وهذا الثمر عبارة عن بذور مثل بزور
الفلفل أسمر اللون يحتوي على مادة سامة يستعملها صيادو السمك بعد أن تسحق وتخلط
بالعجين أو أي مادة أخرى وتلقى في النهر وعند ما تتناولها الأسماك تتسمم وتطفو على
الماء وهو صيد سهل لكن القانون العراقي يحرم العمل به بشكل صارم.
وجاء في الموسوعة
في علوم الطبيعة الجزء الأول ، ص ٥٧٠ : (سنديل «الاسم العلمي» Anamirta paniculata والإنكليزي» Cocklesplant
,Cocculusindicus «نبات بري وزراعي معمر وحيد الجنس والنوع
من فصيلة القمريات. موطنه البلاد الحارة أخصها الآسيوية. ثماره طيبة مخدرة ، مسهلة
ومقيئة شائعة الاستعمال تدعى سم السمك).
وذكر راوولف نبات
الزرنب وقال إن جذور هذا النبات تستعمل في معالجة أوجاع الظهر. وهذا النبات المسمى
أيضا (زرنباد ، زرنبة اسمه العلمي (Zingiber Zerumbet
,Amomum Zerumbet والإنكليزي Wild)
(ginger ,Broad
ـ leaved ginger.
هو نبات بري طبي
جذموري من فصيلة الزنجبيليات. له عطر نافع للفم ويزيل روائح البصل والثوم منه. وهو
كذلك منبه معوي يحلل الرياح ويقوي القلب ، الساق منتصبة حولي يصل من ١٠٠ ـ ١٢٠ سم
بالارتفاع ، أزهاره هامية كبيرة الحجم ذات لون كبريتي محمر.
وله أيضا فوائد
طبية أخرى لمعالجة أوجاع المفاصل والظهر وغيرها. وأشار الدكتور راوولف أثناء سفره
في نهر الفرات في إحدى السفن الصغيرة متوجها إلى العراق قادما من سوريا إلى مجموعة
من النباتات قائلا : «وكنت اغتنم الفرصة حين نزولنا إلى اليابسة فأروح أفتش عن
النباتات القريبة في المكان. وقد عثرت على أنواع خاصة من نبتة «الأزهار المحززة»
وهي تشبه النوع المعروف منه في بلادنا لكن ليس لها ذات ميزته ، ونوع من شجر (العجرم)
من فصيلة ذكرها المؤرخ «كلوفيوس» وهو ذو أوراق سميكة تشبه شجرة (الودنة) فضلا عن
السذاب ونوع غريب من الصفصاف يسميه السكان باسمه القديم هو (الغرب) ، بالإضافة إلى
الطرفاء وهي من أنواع كبيرة وعالية تشبه أشجار التوت والنخيل مما يمكن مشاهدتها من
بعيد بسبب ضخامتها وارتفاعها وهي
تشبه الطرفاء في
بلادنا لكنها أكثر ضخامة وارتفاعا ، وأوراقها طرية ذات رؤوس وردية الألوان».
والعجرم ـ (باقل ـ
ثغام «الجزائر» ـ بلبل «بربرية» ـ شعران «العراق» ـ نشمة. (الاسم العلمي Anabasis articulata ,Anabasis (prostrata أشجار شائكة من أنواع العفص من
الفصيلة (Salsolaceae) ونبات الودنة (House leek) شجيرة صغيرة لها سوق سميكة وأزهارها
وردية اللون.
وجاء ذكر السذاب
في وصف راوولف وهو سذاب البر وهو عشب طبي بري (اسمه العلمي (Ruta
montana) والإنكليزي Mountain rue ,wild) (rue.
يرتفع إلى حوالي ٨٠ سم. ساقه ليفية خميلة اللحاء. الأزهار ، صفر باهتة.
واندهش راوولف من
أحد أنواع أشجار الصفاف الذي اعتبره نباتا غريبا. والذي ذكره الدكتور راوولف هو
الصفصاف مستح أو الصفصاف الرومي وهو غرب (واحدته غربة) وهي (الخلاف أيضا) ، صفصاف
رومي (مصر) ، إطا (يونانية (Itea (الاسم العلمي (Salix babylonica والإنكليزي (Weeping
Willow ,Mourning Willow) شجرة متوسطة الحجم تصل إلى ارتفاع
عشرة أمتار ، فروعها منبسطة ، أوراقها سنانية ضيقة ، يحب الأراضي الكثيرة الماء ،
يستفاد من سيقانها في بعض الصناعات الخشبية.
والطرفة التي
ذكرها راوولف من خلال رحلته هو (الأثل العراقي المسمى طرفة أو أثل دجلة ـ (Tamarixtigrensis). وهي أشجار وشجيرات من فصيلة
الأثليات أو الطرفيات أوراقها حرشفية ، أزهارها سنبلية التجميع صغيرة بيض أو وردية
اللون. ينمو في جميع الأتربة من الرملية الصحراوية إلى الطينية ومن الجافة إلى
المائية وهو يصلح للسياجات الحية قرب الشواطئ فهو لا يتأثر بالأملاح البحرية ،
يستفاد من أخشابه في عدة صناعات زراعية وصناعة السفن الصغيرة والمتوسطة. ويوجد نوع
يسمى بأثل المن (Tamarix mannifera). أي (الطرفاء) يجني منها مادة سكرية
غذائية تسببها حشرة غشائية الأجنحة توخز الزهر وجرادة الأملوج فتعسل المن المعروف
بالطرفة.
وتحدث عن نبات
يبدو على ما يظهر أنه يشاهده لأول مرة عند ما قال : «... كما وجدت بعض الأشجار
الأخرى التي يسمونها بالعاقول».
والعاقول (حاج ـ اسمه
العلمي ـ Alhagi manniferum , (Amaurorum
والإنكليزي (Camal thorn ,Hebrew manna plant)
ولم يكن العاقول أشجارا بل شجيرات عشبية ليفية مخشوشبة معمرة من فصيلة القرنيات
ساقه شائكة فرعاء تصل في الارتفاع إلى أكثر من ١٠٠ سم. الفروع نحيلة الشوك ،
أوراقه بسيطة كاملة مستطيلة.
وفي مكان آخر
تناول راوولف جانبا آخر من دراسته للنباتات التي بذل من أجلها الغالي والثمين
للظفر بمعلومات كافية عنها ، قال : «وهناك أنواع أخرى لأعشاب لطيفة وغريبة تنمو
بكثرة في الرمال. ولكل واحدة من هذه النباتات ما بين خمس وثمان سيقان يدخل أحدها
في الآخر ولها مفاصل كثيرة ولذلك تنمو وهي تزحف فوق الأرض أكثر مما تنمو قائمة. وتنبثق
من كل واحدة ثلاث أو أربع أوراق مدورة تشبه أوراق شجر السماق والزعتر وتظهر فوق كل
نبتة من هذه نجمة تشبه الزهرة البيضاء ذات ست أوراق مدببة وهي بهذا تكون شبيهة
بنبتة (ورنبثو غالوم) المعروفة عندنا ، وكل واحدة منها ذات سوق خاصة ، ولم أر فيها
أية حبوب وكانت جذورها صغيرة ونسيجية وهي مشابهة في شكلها للنبتة المتعددة الأوراق
التي ذكرها ديسقوريدس».
وجاء ذكر السماق
في رحلة راوولف وهو يقصد ذاك النوع المسمى (سماق الدباغين ، تمتم. الاسم العلمي (Rhus coriaria) والإنكليزي (Sumach
,Tanners sumach). وهو النوع المعروف المبذول في لبنان وسوريا ، شجيرة
تصل في الارتفاع من ١٠٠ ـ ٤٠٠ سم ، لها أزهار خضراء
اللون ، البذور
شديدة الصلابة مصقولة ، أوراقه دباغية ، (ثماره من التوابل الحامضة العافصية).
وأما الزعتر الذي ذكره
راوولف فهو نبات (Origanum) طبي بري عطري. ويسمى أيضا صعتر أو
سعتر.
وكان وصف راوولف
لنبات شبيه بنبات (الأورنبثو غالوم) إنما هو في الحقيقة لنبات يعرف في علم النبات
العربي باشراس صوصلاء أو صاصل أو لبن الطير من فصيلة الزنبقيات.
وهو بالذات (الأشراس
الخنثى ـ Omithogalum Stachyoides, (Omithogalum arabicum والإنكليزي (Star of Bethlehem).
كبير الأزهار الخضراء اللون ينبت بريّا في بعض المناطق من سوريا وفلسطين. ويستخرج
من بصله نوع من الشراس الجيد.
وعند وصول راوولف
إلى مدينة (عنه) عن طريق نهر الفرات وصفها وصفا موضوعيّا قائلا : تشتهر هذه
المدينة بجمالها وذلك لكثرة الأشجار المثمرة فيها من أمثال الزيتون والليمون
والبرتقال والرمان والليمون الحامض وكذلك أشجار النخيل التي لم أر لها شبيها بما
شاهدته من أمثالها في سفراتي.
فقد كانت هذه
النخيل سميكة وصلبة للغاية وحين ذهبت مع بعض رفاقنا إلى المدينة وجدنا كميات كبيرة
من الفواكه لم تعجبهم إطلاقا وقد رأينا بينها نوعين من الفواكه التي اعتادوا جلبها
إلى بلادنا أحدهما أحمر اللون والآخر أصفر أطلق عليهما «سيرابيو» اسم «هيرون» وذلك
في الفصل التاسع والستين من كتابه ، ومع أنهما أقل حجما مما هو لدينا إلا أنهما من
نوع جيد وذي طعم لذيذ».
وهذه الفاكهة التي
ذكرها راوولف هي بالأحرى ثمار نبات النبق (السدر) الذي يبدأ باللون الأخضر وبعد
ذلك يصفر ويحمر. والنبق
أشجار كبيرة
ولأوراقها وأثمارها فوائد طبية. ويستمر راوولف في وصف نباتات منطقة الأنبار
الحالية وهو متجه إلى بغداد ، يقول : «ولم أر في الطريق من النباتات الغريبة سوى
ما شاهدته في حقول القمح من نبات (الماش) العربي الذي أشرت إليه قبلا والذي يظن
عنه أنه هو نبات (كوركورم) الذي ذكره (بليني) وكوركوروم Corchorum
، نبات متسلق ذو أزهار صفراء اللون. كذلك رأيت نبتة أخرى تشبه السمسم إلّا أن
ساقها أطول وأمتن ، وهي تحمل أزهارا صفرا ذات عروق حمر أو بنية اللون تنتهي بعقد
طول الواحد منها بقدر الإصبع وبمقدار سمكه ومدببة عند الرأس ، ولها خمسة أصناف
تحوي البذور التي تشبه نوعا من الخباز الذي يسمى (أبو تيلون).
ولقد استفسرنا
كثيرا عن هذه النبتة فلم نجد لها اسما آخر غير الاسم الذي يطلق عليها وهو (اللوبيا
الهندية) ، ولكن طبقا لمعلوماتي أعتبر هذه النبتة هي (النفل) التي أشار إليها (ثيوفراستس)
في أماكن عديدة من كتابه».
ونبات أبو تيلون
الذي ذكره راوولف هو أعشاب مخشوشبة الساق من فصيلة الخبازيات. أنواعه عديدة تنتشر
في جميع أنحاء البيئات الحارة والمعتدلة. وهذه النباتات لها ثمار دولابية النفاج
عند النضج ويستفاد من أوراقه اللعابية اللزجة كملين ومن بذورها كمدر للبول ومن
سوقها وألياف قشورها للغزل والنسيج.
واللوبيا الهندية
الذي قال عنها راوولف هي نفس اللوبيا أو اللوبياء في بلادنا اليوم وتسمى علميّا (Dolichos unguiculatus) والإنكليزي (Black
eyed dolichos ,Asparagus bean. وهي نباتات عشبية زراعية من فصيلة
القرنيات الفراشية. أنواعها عديدة تزرع لقرونها الخضر البقلية أو لبزورها الجافة.
وهي تنمو في جميع الأتربة القليلة الاندماج الممكن ريها.
وقد أخطأ راوولف
عند ما اعتبر اللوبيا هي نفسها نبات النفل. فنبات النفل (الاسم العلمي (Trifolium والإنكليزي (Clover)
هو البرسيم نفسه وهي نباتات عشبية من فصيلة القرنيات الفراشية أنواعه المعروفة
حوالي (١٥٠ نوعا) أكثرها بري مرعوي وبعضها زراعي علفي ومنها الحولي والمعمر.
جذورها تغور في التربة. أوراقها مركبة ثلاثية الوريقات. أزهارها مختلفة الألوان ،
البذور كلوية الشكل صغيرة الحجم ، سمراء اللون. وأوضح راوولف أهمية بعض النباتات
العراقية في بعض الصناعات العسكرية ، قال :
«وبارود المدافع
هذا لا يصنع من ملح البارود مثلما يجري ذلك عندنا في أوروبا وإنما يستخرج من عصير
شجرة من نوع الصفصاف يسميه الفرس (فير) بينما يدعوه العرب باسم «الغرب» كما أشرنا
إلى ذلك قبلا. فهم يقطعون الأغصان الصغيرة من هذه الأشجار وأوراقها فيحرقونها
ويحولونها إلى مسحوق يلقون به في الماء إلى أن تنفصل ذرات الملح عنه وإذ ذاك
يصنعون منه بارود المدافع ، ومع ذلك فهذا البارود ليس قويّا كالذي نصنعه نحن في
بلادنا. ولقد أكد ذلك المؤرخ «بليني» في الفصل العاشر من الجزء الحادي والثلاثين
من كتابه إذ قال : «إن الناس في الأيام السالفة كانوا يستخلصون «النيتر» من أشجار
البلوط».
وقد وصف راوولف
نبات الحنظل السام قائلا : كذلك شاهدت على ضفاف النهر العالية كثيرا من نبات (الحنظل)
لم أستطع أن أتحقق منه عن بعد ، إلّا أنه لا يزال حتى الآن معروفا لدى السكان
باسمه العربي القديم وهو «الحنظل». والحنظل أو الحدج أو مرارة الصحارى أيضا ـ اسمه
العلمي (Citrullus Colocynthis ,Cucumis colocynthis)
والإنكليزي (Colocynth ,Bitter apple) نبات حولي من فصيلة القرعيات يمد
ويسير في الأرض عند نموه له أنواع كثيرة برية وزراعية. أزهارها صفر وثمارها صغيرة
الحجم ومختلفة الأشكال فمنها القرعي والبرتقالي والإجاصي
والبطيخي. القشر
رقيق جامد ، لبها اسفنجي التركيب ، أبيض اللون ، شديد المرارة والحرافة ، وهو من
أشد المسهلات القوية المفعول وهو كان ولا يزال من النباتات الطبية العامة. وأوضح
راوولف عند مكوثه في بغداد أنه وجد أن أهالي بغداد يستخرجون الزيوت من الجوز
ولنستمع ما يقوله : «كذلك استقطرت الزيوت من الجوز ، وهو نوع جيد ومتوفر بكثرة ،
ومن الفستق الذي يحتفظ به السكان ويأكلونه مثلما نأكل نحن الأنواع الصغيرة من
الجوز في بلادنا. ولقد تناولت هذا الفستق فوجدته جافّا غير مستساغ. وهذا النوع
يسميه العرب باسم «بطم». ولقد شاهدت نوعين منه بحجم كبير وآخر صغير ، والكبير منه
يشبه جوزة الفستق لكنه أقل استدارة وأقصر طولا. أما النوع الصغير فهو ذو قشرة صلبة
تشبه حبة الحمص الكبيرة وهذه تماثل في شكلها النبتة المعروفة باسم (قرن الغزال) أو
الذرة الهندية. وينمو الكثير من هذه في ايجنيا وفي فارس وبلاد ما بين النهرين
وأرمينيا وغيرها. فهي بأوراقها الطويلة تشبه تلك الأشجار حيث يمكن تمييزها بيسر عن
شجرة الفستق ذات الأوراق المدورة ، وهي من النوع الذي قال عنه كل من الرازي وابن
سينا إنه ينمو في الهند».
وقد خلط راوولف
بين أشجار الفستق وأشجار البطم حيث اعتبرها شجرة واحدة في حين أن الفستق أشجار
زراعية معمرة تعيش أكثر من ٣٠٠ سنة. وهي من فصيلة البطميات. أنواعها عديدة منبتها
منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط من أشهرها الفستق الحلبي والتونسي والإيراني
والصقلي والمغربي والقبرصي ، وهي أشجار جبلية تتحمل درجات البرودة العالية وتساقط
الثلوج. وأشجار الفستق تصل في الارتفاع إلى حوالي عشرة أمتار ثمارها زيتونية الشكل
تتكون عند اكتمال نضجها من غلاف خارجي هش النسيج. ومن غلاف داخلي خشبي المادة مؤلف
من مصراعين ينشقان عن صلام أصفر اللون مأكول تلفه قشرة رقيقة لونها إلى الحمرة.
الاسم العلمي للفستق (Pistacia vera) والإنكليزي (Pistachio
tree).
أما البطم (ضراوة)
فهي شجيرة فرعاء تعلو من ٣ ـ ٥ أمتار الثمر كروية الشكل. يستخرج من لحاء سوقها
مادة راتنجية فواحة كثيرة الاستعمال ، ثمرته تدعى (الحبة الخضراء). قال ابن سينا :
«إنه يجلو الجرب والقوباء» وقال الأنطاكي : «أوراقها تسود الشعر طلاء. والحب يسخن
الصدر والمعدة ويقطع البلغم ويزيد القوة الجنسية ويسمن عن تجربة. ودهنه يحلل أوجاع
العصب وحصر البول شربا ويصلحه العسل. وشربته إلى عشرة». الاسم العلمي للبطم (Pistacia terebinthus P.cabulica) والإنكليزي (Turpentine
tree ,Terebinth tree).
والبطم من فصيلة
البطميات. وأشهر أنواعه البطم الأخضر ، برزق (الاسم العلمي (Pistacia
khinjuk والإنكليزي (East Indian mastiche)
وهذا النوع ينتشر في الهند ومناطق الشرق الأوسط ومن ضمنها العراق. وهناك نوع آخر
المسمى بالبطم الشرقي أو بطم مستكي (Pistacia Ientiscus)
وثمرة الأخير أكبر من البطم الأخضر وهذا ما جعل راوولف يذكر هذين النوعين.
وذكر راوولف نباتا
آخر شاهده أثناء رحلته قادما إلى بغداد قال : «لقد أشار «سرابيو» في الفصل الخامس
والعشرين من كتابه إلى ثمر آخر دعاه باسم «العنصل» وقد شاهدته أنا وهو بقدر جوزة
الفستق لين القشر ، ولم أعثر عليه لدى أصحاب الحوانيت في هذه الأنحاء».
والعنصل الذي جاء
في وصف الدكتور راوولف هو إشقيل الخريف أو بصل الفأر أو بصل الحية ، اسمه العلمي (Scilla autumnalis) والإنكليزي (Autum
nal squill ,Winter hyacinth). نباتات بصلية معمرة من فصيلة
الزنبقيات. والثمرة بصلة غليظة إجاصية الشكل ، بيضاء اللون ، أوراقها قرصية
مستطيلة ضيقة شديدة الخضار لامعة المواج. أزهارها صغيرة لبدة وردية اللون. وهو طبي
ويدخل في تركيب عدة مستحضرات وعقاقير وهو يدر البول وينعش الصدر. وينتشر على سفوح
التلال والمرتفعات في المناطق الشرقية من العراق.
وأطلق راوولف على
شجرة مجهولة اسم شجرة الموز وقال : «وعن شجرة الموز التي تنمو في الجزيرة العربية
وتحمل ثمرا حلوا طيب المذاق يسمونه (واك ـ (Wac
وهو مدور الشكل أحمر اللون بحجم البطيخ الهندي.
ترى هل كان هذا هو
ثمر (المانغا) الذي أشار إليه كلوفيوس في تاريخه عن النباتات الهندية ، والذي كان
ينقل بسبب جودته إلى فارس بحرا؟ فقد تركت ذلك لألم به فيما بعد».
والشجرة التي
اعتبرها راوولف مرة موز ومرة أخرى مانغا (العنبة الهندية) هي في الأحرى الخوخ
البري أو الإجاص البري وهي شجيرات وجنبات حرجية زراعية من فصيلة الراتنجيات ،
أنواعه كثيرة. مواطنها البلاد الحارة. أوراقها صغيرة بارزة العروق. ثمارها مأكولة.
الاسم العلمي (Spondias) والإنكليزي (Spondias
,mombin ,Hog plum tree) ومن أهم أنواعها خوخ البر الأحمر
وخوخ البر الحلو والخوخ الشائك.
وأضاف معقبا بهذا
الوصف (أما الموز الذي قيل عنه إنه معروف في سوريا أيضا ، فهو شجر يحمل ثمرا صغير
الحجم مقوسا ورقيقا أصفر اللون يشبه البطيخ في شكله وهو حلو المذاق شهي الطعم ،
لكنه مضر بالصحة ولهذا السبب منع الإسكندر الكبير جنوده من تناوله». وأثناء توجهه
إلى كركوك عن طريق نهر دجلة وصف راوولف بعض النباتات التي شاهدها قائلا : «ورحت في
أثناء مكوثي في ذلك المكان أبحث عن النباتات فيه لكنني لم أعثر على شيء منها لأنها
في ذلك الوقت كانت قد بدأت تبرز من باطن الأرض. على أنني عثرت على أنواع من
الخلنجان البري ذي جذور كبيرة ومدورة يسميه السكان (السرو) ويطلق عليه اليونانيون
واللاتينيون اسم (سبيروس)».
وهنا وقع راوولف
في خطأ كبير عندما اعتبر الخلنجان البري هو السرو. في حين أن الخلنجان (الاسم
العلمي (Erica والإنكليزي (Heath
,
Heather). ـ شجيرات صغيرة برية وزراعية من
فصيلة الخلنجيات أنواعه كثيرة تبلغ حوالي ٤٠٠ نوع ـ أوراقه هدبية الشكل قصيرة.
أما السر و (الاسم
العلمي (Cupressus والإنكليزي (Cypress
tree) فهي أشجار حرجية كبيرة من فصيلة الصنوبريات لها أنواع
عديدة أهمها ١٥ نوعا. أوراقها دائمة الخضرة ، أوراقها عروة ، فلسية ، متقابلة
الثمار اكراز كروية الشكل. بزورها صغيرة مجنحة. والجذور التي شاهدها راوولف هي حسب
اعتقادي جذور أشجار السرو لأنها تتناسب وحجوم وضخامة هذه الأشجار الخشبية
التزينية.
وعند وصوله إلى
مدينة الموصل وصف بعض الأنواع من الفاكهة ، قال : «ولقد شاهدت نوعين من هذه
الفواكه من جنس الجوز بأحجام كبيرة وصغيرة يسميه السكان باسم (البندق) كما شاهدت
نوعا من البطيخ كبير الحجم بقدر قبضتي اليد كثير الانتشار هنا قيل لي عنه إنه يؤتى
به من أرمينيا ، وهو صلب أسمر اللون ليس حلو المذاق وهو كاليقطين ومع ذلك فهو حسن
صالح للأكل ويحتوي على بذور صغيرة حمراء لا يشاهد المر ، حين تناوله وهو يحل الجسم
لكن ليس بالشكل المعروف عندنا من هذا الثمر.
وقد اعتاد السكان
أن يتناولوه بكميات كبيرة عند الصباح مثلما يفعل ذلك سكان جبل لبنان بالنسبة إلى
الجبنة. ولكن هل كان هذا هو (المن الحجازي) الذي أشار العرب إليه ، أم هو النوع
الذي أشار إليه (ابن سينا) في الجزء الثاني ، المقالة الثانية من الفصل الخامس
والسبعين ، فذلك أمر لم أتحقق منه».
لقد خلط راوولف في
وصفه هذا النوع بين فواكه المكسرات فهو يعتبر الجوز والبندق نوعا واحدا كبيرا
صغيرا ولكن لكل من هذين النباتين مميزات خاصة به ويختلف بعضها عن بعض في أمور علمية
كثيرة.
فالجوز أشجار
كبيرة من فصيلة الجوزيات ، اسمه العلمي (Juglans regia)
والإنكليزي (Wainut tree). أنواعه كثيرة ، تصل الأشجار إلى ٢٤
مترا ارتفاعا. ثماره لذيذة اللباب المستحب الطعم ، قشورها الخشبية غليظة سميكة.
ملساء البشرة ، سريعة التفكيك ولون الثمر جوزية اللون ، أول تكوين الثمرة تكون
بجلد أخضر لين وشيئا فشيئا يصلب وييبس فيتغير لونه. وينتشر الجوز في شمال قطرنا
العراق وبالأخص المناطق المرتفعة.
أما البندق فهو
أشجار وشجيرات برية وزراعية من فصيلة التبوليات السومليات أنواعه قليلة. والنوع
الذي شاهده راوولف في مناطق الموصل وما يحيط بها أو قريب منها هو البندق البري ،
الاسم العلمي (Corylus Sytvestris) والإنكليزي (Wild
filbert). تعلو هذه الأشجار إلى حوالي ٦ ـ ١٠ أمتار.
مواطنها تركية
ومنطقه البلقان وشمال العراق وشمال غربي إيران ، ساقها ملساء. ثمارها صغيرة خملية
القشرة مستطيلة الشكل.
وشاهد راوولف ما
أسماه بطيخا أسود اللون وله بذور حمراء. وهو بالحقيقة الرقي كما يسمى في العراق
وسوريا نسبة إلى مدينة الرقة السورية. وفي بعض الأقطار العربية يسمى بطيخ أو بطيخ
أحمر أو دلاع كما في المغرب أو بطيخ هندي او فريز ، اسمه العلمي (Citrullusvulgari s, Cucumis Citrullus, Cucurbita citrullus)
والإنكليزي (Water ـ melon).
والرقي نبات عشبي
حولي بري وزراعي من فصيلة القرعيات يزرع لثماره المأكولة. له أنواع عديدة منها
الصغير والكبير وبأشكال مختلفة وألوان مميزة كالأخضر الباهت والمقلم بالأخضر
الباهت والغامق والأخضر المسود.
ولون البذور
وأشكالها مختلفة أيضا فمنها الأسود والأصفر الباهت الأحمر. ومن المعروف أن أحسن
أنواع الرقي في العراق ما يزرع في
محافظة نينوى
بثماره وبزوره الحمر الكبيرة الحجم المرغوبة المأكل.
والرقي من الثمار
المنعشة التي تروي الغليل وتدر البول وتفيد المصابين بالإمساك والبواسير. وتبلغ
نسبة الماء نحو ٩١% في الرقي و ٨% من المواد السكرية.
وهو ليس المن
الحجازي أو أي نوع من أنواع المن الذي توهمه راوولف وتساءل عنه.
بداية
رحلة الدكتور ليونهارت راوولف
الفصل الأول
مدينة طرابلس
ضواحيها الخصبة. عظم التجارة فيها. فخامة الحمامات والأبنية
المهمة الأخرى التي تشاهد هناهك
شاهدنا على شاطىء
البحر ، قبل أن نهبط طرابلس ، خمس قلاع أشبه بالأبراج الشامخة تبلغ المسافة بين
الواحدة والأخرى مدى إطلاقة بندقية حيث يوجد بعض الجنود الإنكشاريين في حامية هناك
لمراقبة السفن في الميناء (وكانت محاطة بالصخور إلى حد ما) وكذلك لغرض حماية دائرة
الكمرك وجملة من المخازن (حيث يمكن رؤية كل أنواع السلع التي يؤتى بها من معظم
أنحاء العالم) من أية محاولة أو هجوم معاد. على أنه ما أن غربت الشمس وبدأ الظلام
يرخي سدوله حتى بذلنا
__________________
كل ما استطعنا
بذله للإسراع في الوصول إلى المدينة التي كانت تبعد عنا مسيرة ساعة واحدة ، وقد
صحبنا بعض الجنود الأتراك المسلحين بنبابيت قوية حسنة الصنع قيل لي عنها إنها
تستعمل بصفة عامة لمطاردة الذئاب التي يسمونها «بنات آوى» حيث يوجد عدد كبير منها
في هذه البلدان وتستخدم لتعقب الفرائس ومطاردتها والبحث عنها ليلا.
وفي الوقت الذي
كنا نتحدث فيه عن هذه الحيوانات اقترب عدد منها قريبا منا لكنها ما إن رأتنا حتى
استدارت وولت هاربة ، وحين بلغنا بوابة المدينة وجدناها مغلقة وإذ ذاك استدعى أحد
أصدقائنا ، وكان ينتظر قدومنا للترحيب بنا ، بعض الفرنسيين الذين كانوا ينزلون في
نزل يسمونه «فندقا» بلغتهم ، وهو يقع على مقربة من بوابة المدينة ويمتد إلى
سورها تماما ، وطلبت إلى واحد منهم بأن ينهض بأعباء الذهاب إلى آمر المدينة ويسأله أن يسمح بفتح البوابة ويدعنا ندخل منها ، وذاك أمر
كان هؤلاء الفرنسيون جد راغبين في حدوثه. على أنه في الوقت الذي كنا واقفين فيه
أمام البوابة ، أسرع شخص آخر معاد لصديقنا ذاك فحرض بعض الأتراك والعرب بالإطباق
علينا ، وهذا ما كانوا يرغبون فيه ، وعندئذ أقبل هؤلاء علينا مسرعين من بوابة أخرى
قريبة من السور ليست مغلقة فهاجمونا وانهالوا علينا ضربا ثم أمسكوا بنا ، ولا سيما
بصديقنا الطيب الذي فعلوا كل ذلك بسببه ، كما وجه آخرون منهم بنادقهم نحونا إلى
درجة خيل لنا فيها أنهم سيقطعوننا إربا.
وفي الوقت الذي
كان يجري فيه كل هذا ، فتحت البوابة وأقبل
__________________
علينا بعض
الفرنسيين ومعهم قنصلهم نفسه لمساعدتنا ، فتحدثوا إلى أولئك الرجال ، وحثوهم بلطف
على إطلاق سراحنا ، وأن تودع القضية إلى الآمر والقاضي للبت فيها ، وهذا ما وافقوا
عليه في النهاية. وهكذا قدمنا بعد ذلك الاستقبال المعادي ، إلى فندق الفرنسيين
فبتنا الليلة فيه. لقد كان موقف القنصل عظيما في هذه الحادثة. ذلك لأنه اعتبر مثل
هذه الإجراءات مسيئة جدّا إلى أبناء قومه ، ولهذا تقدم بشكاوى وأجرى تحريات كثيرة
إلى أن عثر في الأخير على الشخص الذي سبب تلك الحادثة.
مضينا صباح اليوم
التالي إلى منزل أصدقائنا للمكوث فيه فترة من الزمن معهم. وفي ذات الوقت بدأنا
نتجول في المدينة ـ ونحن نرتدي نفس ملابسنا الأوروبية ـ لمشاهدة ما فيها وهذه
المدينة تقع في سوريا المسماة «فينيقيا» التي تمتد أراضيها إلى شاطىء البحر بما في
ذلك بيروت ، وصيدا ، وصور ، وعكا حتى جبل الكرمل.
ومدينة طرابلس
واسعة نوعا ما ، غاصة بالناس ، وذات ثراء حسن وذلك بسبب وجود كميات كبيرة من السلع
التي تجلب إليها كل يوم بطريق البر والبحر. كما أن المدينة تقع في أرض منبسطة
تجاور أحد سفوح جبال لبنان ، يتصل بها سهل واسع يمتد إلى شاطىء البحر ، حيث تستطيع
أن تشاهد مزارع الكروم الوفيرة والبساتين الجميلة التي تحاط من كل أطرافها تقريبا
بسياج ، وهي تتألف في الدرجة الأولى من أشجار الرمان والبرتقال والليمون والتفاح
وغيرها ، كما توجد بعض أشجار النخيل وتكون هذه واطئة وهي تنمو وتتكاثر بنفسها.
وحين دخلنا هذه البساتين وجدنا فيها كل أنواع الأشجار ومختلف الأزهار ، فضلا عن
أشجار الزيتون واللوز والجوز وما شاكلها.
أما عند شاطىء
البحر وعلى مقربة من مدينة طرابلس القديمة (التي دمرتها الزلازل مع مدن أنطاكية
وغيرها سنة ١١٨٣ م ، ولم تبق منها سوى
آثار قليلة) فلا
يوجد شيء سوى ينابيع تسقي البساتين ، وذلك ما كان بعض التجار في المدينة يتذكرونه.
غير أن هذه البساتين قد طغت عليها مياه البحر فأتلفتها وغطتها بالرمال ، فلا ترى
الآن في مواضعها سوى أراض رملية أشبه بالصحارى العربية. ومع ذلك فأهل طرابلس لا
يحتاجون إلى المياه بسبب وجود عدد من الأنهار التي تنحدر مياهها من الجبال ، وتجري
بعض هذه الأنهار عبر المدينة بينما تروي الأخرى الحقول والبساتين ، وعلى هذا فأهل
طرابلس ليسوا في حاجة إلى الماء سواء لاستعماله في منازلهم أو لإرواء بساتينهم
وحدائقهم.
أما المدينة
الجديدة فهي غير محصنة تحصينا قويّا ذلك لأن الأسوار التي تحيط بها ضعيفة ، وأن في
مستطاع أي امرىء أن يدخل المدينة ويخرج منها ، أثناء الليل ، من أماكن عديدة. على
أنه توجد داخل المدينة قلعة تقبع على مرتفع قريب من الساحل وتقيم فيها حامية قليلة
من الجند الإنكشاريين. ويعيش أهل المدينة في منازل واطئة واهنة البناء ذات سطوح
منبسطة على غرار ما هو شائع منها في الشرق ، ذلك لأن القوم هناك يجعلون سطوح
منازلهم مستوية بحيث تستطيع أن تمشي فوقها على امتداد المنزل كله ، كما يستطيع
أصحاب المنازل المجاورة أن يسيروا على سطوح منازلهم لزيارة جيرانهم ، فضلا عن أنهم
ينامون فوق هذه السطوح أيام الصيف أحيانا. وعلى هذا فإن من المصيب حقا ، ما قرأناه
في إنجيل مرقس (الفصل الثاني) وإنجيل لوقا (الفصل الخامس) عن الرجال الأربعة الذين
حملوا الرجل الأعمى إلى المسيح ، فلما لم يستطيعوا الوصول إليه ، بسبب شدة الزحام
، نقلوه من فوق سطوح المنازل ، ثم أنزلوه إلى أرضية الغرفة التي كان فيها السيد
المسيح.
وليست لهذه
المنازل أبواب أو مداخل كبيرة من الشارع مثلما هو عليه الأمر في بلادنا الأوروبية (عدا
منازل قلة من التجار) ذلك لأنهم لا
يستعملون عربات
الركوب أو الأثقال ، وإنما يقتصر كل بيت على باب صغيرة واطئة لا يزيد ارتفاعها عن
ثلاثة أقدام أحيانا. وعلى هذا فليس في مستطاعك أن تدخل مثل هذه البيوت دون أن تحني
رأسك. وفي كثير من البيوت الواسعة تكون هذه المداخل مظلمة إلى درجة يخيل فيها
للمرء أنه داخل إلى كهف أو زنزانة. ولكن حين تمشي في هذا المدخل إلى البيت تجد فيه
باحات واسعة يغتسل فيها أهل البيت ، كما تجد صالات كبيرة مبلطة بالإضافة إلى
السلالم التي ترتفع بمقدار درجتين أو ثلاث ، وهي مبلطة تبليطا حسنا ومتينا بالرخام
الذي يحافظون على نظافته ويغطونه بالسجاد الذي يجلسون عليه. ويقوم فوق هذه السلالم
طاق يظل مفتوحا من جانب واحد حيث يجلس الأتراك تحته لينتعشوا بالهواء البارد ، وهذا
ما يحدث أيام الصيف بصفة رئيسية.
وتغلق أبواب
المنازل عادة بمغاليق مصنوعة من الخشب مجوفة من الداخل ، يغلقونها بمفاتيح خشبية
أيضا يبلغ طولها طول الكف. وتدق في هذه المفاتيح خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية أو
تسعة مسامير أو أسلاك قوية على انتظام وتناسق في مسافات محدودة بحيث تتلاءم هذه مع
المسامير الأخرى المثبتة داخل القفل فيدفعون بهذه المفاتيح إلى أمام أو يغلقونها
من الخلف حسبما يشاؤون.
وشوارع المدينة
ضيقة لكنها مبلطة بأحجار كبيرة وتقوم في وسطها قنوات يبلغ عرض الواحدة منها عشر
بوصات وهكذا يستطيع البعير الموسق بالأحمال أن يسير فيها بأمان ، كما يستطيع المرء
أن يخطو من فوقها أيضا. ويقول أهل المدينة إن هذه القنوات قد صنعت على هذه الشاكلة
لكي ترغم الإبل والحمير وغيرها من الدواب الأخرى التي تصل المدينة في قوافل كبيرة
كل يوم ، على السير فيها واحدا إثر الآخر وبانتظام ، في حين يستطيع الناس أن
يسيروا في الشوارع دون أن تعيقهم تلك الدواب.
وكثيرا ما تكون
هذه القنوات نظيفة وجافة وذلك لوجود مجار خفية مغطاة بأحجار واسعة. هذا بالإضافة
إلى أن مياه الأمطار وكذلك مياه الآبار تنساب في هذه القنوات.
وليس لدى سكان
طرابلس من الأبنية الجميلة القائمة ما يفاخرون به سوى المساجد التي لا يسمح لغير
المسلم بالدخول إليها إلا إذا فكر في أن يتخلى عن دينه.
وهناك بعض المساكن
الواسعة التي يسميها المواطنون المحليون «كروان صاري» وهذه توجد فيها حوانيت أو مخازن كبيرة وعديدة ، تجاورها
غرف منظمة في حين تقوم في الوسط باحة واسعة ، ويستطيع التجار الأجانب الذين يجلبون
بضائعهم في قوافل كل يوم أن ينزلوا في هذه المساكن على اعتبار أن الأتراك لا
يملكون فنادق أخرى غيرها.
وكل هذه المساكن
أو الفنادق ملك خاص للسلطان أو للباشا الذي يتبعه ، وهي موجودة في عدد من المدن ،
ويحصل القوم من ورائها على إيرادات سنوية مثلما يفعل ذلك البنادقة في مدينة
البندقية خارج البيت الألماني منها.
وما خلا هذه
المباني هناك الحمامات الفخمة التي تفوق المباني الأخرى بجمالها وتستحق المشاهدة
فعلا.
ولما كان الأتراك
والمسلمون والعرب وغيرهم ملزمين ، حسب الشريعة الإسلامية ، بالوضوء دوما لتنقية
أنفسهم مما يقترفونه من الذنوب اليومية ، بل بالأحرى للذهاب إلى المسجد ، فإنهم لذلك يحتفظون
__________________
بهذه الحمامات أو
البيوت الساخنة التي تظل دافئة وفي درجة معتدلة من الحرارة والتي لا يستوفى عنها
سوى رسوم بسيطة ولا تحتاج إلا إلى أقل ما يتصوره الإنسان من الوقود وتكون جاهزة
للاستعمال ليل نهار.
في هذه الحمامات
أقباء كبيرة وعميقة تحت الأرض أشبه بالزنزانات الكبيرة يلتصق الواحد منها بالآخر
وليس فيه سوى كوتين أحدهما في أعلاه لا يزيد قطرها عن ثلاث أو أربع بوصات ،
والثانية تحتها أكثر منها سعة ، يودعون فيها الحطب أو بعر الإبل أو ثفالة العنب
المعصور ، وتكون هذه المواد جافة وتبعث حرارة شديدة كالحرارة التي يبعثها الفحم
البحري أو الطحلب الذي يستعمله سكان البلاد الواطئة أو الأقطار الأخرى التي لا
تتوفر فيها كميات كافية من الأخشاب. وعند إشعال هذه المواد تبعث حرارة قوية داخل
القبو كله. ومع ذلك يكون هذا القبو مغلقا لا نرى أثرا للدخان أو البخار فيه ، ولو
أنه في بعض الأحيان يكون شديد الحرارة. ولا تخمد النار في هذه الحمامات لأن هناك
من يعنى بها ويوفر لها الوقود اللازم بصفة متواصلة. ولكل حمام من هذه الحمامات
التي شيدت بفخامة طبقا لعادات الإغريق والرومان ، صالة جميلة على مقربة من مدخله
مبلطة تبليطا عجيبا مثل بقية أرض الحمام ذاته وتكون مكفتة بالرخام المنقوش بمختلف
الألوان نقشا فنيّا بديعا وفي أعلاها قبة يغطيها طاق في شكل كرة.
وتقوم حول جدران
الحمام مقاعد يخلع الناس عليها ملابسهم وهذا هو القسم الأول من الحمام. (وكان
القدماء يستعملون خمسة من هذه
__________________
المقاعد يسمونها
منزع الحمام). وتشاهد في وسط الحمام نافورات بديعة تتدفق مياهها باستمرار ويستطيع
كل فرد يخرج من الحمام أن يتناول منها المياه العذبة وأن يغسل المآزر التي
استعملها أثناء الاغتسال في الحمام. وتصف هذه المآزر على شكل صفوف معلقة على القبو
وعلى ارتفاع قامتين أو ثلاث قامات وبانتظام يثير الإعجاب ، وذلك أنهم يعلقونها هناك
بعصي طويلة كيما تجف وتصبح مستوية وكأنها قد بسطت وسويت باليد وذلك عمل يستحق
الإعجاب ، إذا إنهم يستأنفون استعمالها مرة أخرى ولهذا ينزلونها من أماكنها بذات
العصي التي رفعوها بها ثم يجمعونها على مقربة من النافورة.
وهذه المآزر ذات
ألوان متباينة ، وتعطى قطعتان منها لكل مستحم يدخل إلى الحمام واثنتان أخريان حين
يخرج منه ، واحدة يلف بها رأسه والثانية يأتزر بها.
وحين تتوجه إلى
مكان الاغتسال لا بد لك أن تمر بغرفتين أو ثلاث غرف كل واحدة منها أكثر دفئا من
الأخرى ، ويعلو كل واحدة رواق مدور إلى أن تبلغ الغرفة الكبيرة ، وتكون هذه
الأروقة ذات فتحات متقاربة منتظمة مغطاة بالزجاج العجيب الذي يجعلها مضيئة ويضفي
عليها زخرفة جميلة أيضا.
وفي هذه الغرف
جملة من الأواني المصنوعة من المرمر يوضع فيها الماء وتنتشر حول أركان الغرفة
الكبرى. وهناك ثلاث أو أربع غرف صغرى تحتجز لبعض القوم الذين يفضلون الاغتسال في
معزل عن بقية الآخرين ومن دون أدنى مضايقة ، وما خلا ذلك توجد غرفة أخرى يقوم في
وسطها خزان كبير من المرمر يستطيع المرء أن يغتسل فيه إذا ما أصابه العرق ، وفي
هذا الخزان عدد من الحنفيات تستطيع أن تحصل بواسطتها على الكمية التي تحتاج إليها
من الماء من ذلك الخزان.
ويجري تسخين كل
هذه الغرف بذات الحرارة. ويقبل الأتراك
والمسلمون ، وهم
من أمتين لهما ذات العقيدة الدينية والعادات ، على الاستحمام في هذه الحمامات ودخولها صراحة. أما
النساء فإنهن يفدن بأعداد كبيرة إلى هذه المحلات الفخمة ولا يجتمعن في أي مكان آخر
عدا قبور موتاهن ، وأمثال هذه الأماكن لا يمكن العثور عليه بحالة جيدة.
حين تدخل إلى
الحمام يتلقاك أحد الخدم وهم من الزنوج المسلمين عادة فيطرحك على الأرض ويبدأ بدلك
كل مفاصلك ، وبعد أن ينتهي من ذلك يفركها ثانية ، ثم يطوي ذراعيك ويضعها الواحد فوق
الآخر على صدرك ويشدهما بقوة لبعض الوقت تحت ركبتيه ومن ثم يثنيهما ويمدهما بحيث
تبدو وكأنك أسير بين يديه بينما يظل رأسك منتصبا.
وقد حدث ذات مرة
أن ذهبنا إلى الحمام وتولى أحد الخدم تدليك مفاصلنا فضغط أثناء ذلك على رقبة أحد
رفاقي فظل ذلك الرفيق لا يستطيع حراك رقبته لعدة أيام.
بعد أن ينتهي
الخادم من هذه العملية يقلبك على بطنك ويروح يدلك أعضاء جسمك ثانية فيدوس كتفيك
بقدميه ويفرك ظهرك بيديه ومن ثم يتركك ويخرج من الحمام.
وحينما تضطجع
لتستريح أو لتعرق جسمك يأتيك الخادم بمادة يقتلع بها الشعر في جسمك ، ذلك أن القوم
لا يتركون أي نوع من الشعر فوق أجسامهم. وتتألف هذه المادة من الجير والزرنيخ على
شكل مسحوق يواف بالماء ، يغطى به شعرك ويترك هنيهة إلى أن يجد الخادم بأن الشعر قد
أخذ يتساقط وإذ ذاك يغسل مكانه بالماء غسلا جيدا قبل أن تشعر بحرقته ، وعندئذ
يأتيك بمئزر من القماش الأبيض النظيف ويلف به بدنك.
__________________
أما المآزر التي
سبقت الإشارة عنها فتكون بيضاء أشبه بالمنسوجات القطنية لكن خيوطها أشد وأصلب ،
وتلك يجلبها الحجاج معهم من «مكة» وهي تصنع من ألياف نوع من الشجر.
وأخيرا يغسل الخدم
رؤوس المستحمين ، ويستعملون في ذلك أحيانا ، ولا سيما بالنسبة للنساء ، راسبا يشبه
الرماد يغسل به الرأس لأنه ينظف الشعر ويطيله. وهناك نوع من راسب آخر تأكله النساء
علانية مثلما اعتادت النساء في بلادنا الأوروبية أن يأكلن الفحم وبعض المواد
الأخرى أحيانا.
وتكون هذه
الحمامات مباحة لدخول الأجانب إليها من أمثال الألمان والفرنسيين والإيرانيين
وغيرهم ، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الأتراك والمسلمين ، ولكن ينبغي على هؤلاء أن
لا يأتوا إلى هذه الحمامات في الأوقات التي تكون فيها النساء موجودة هناك ، وإلا
عرضوا حياتهم للخطر.
على أن في مقدورك
أن تميز الحمامات التي تستحم النساء فيها ، إذ المعتاد أن توضع ستارة على باب
الحمام المواجه للشارع. فإذا ما رأى الرجل الذي يريد الدخول إلى الحمام تلك
الستارة دلف إلى باب آخر غيره.
وعن الحركة في
المدينة ، فإنه بالنظر إلى وفرة مختلف أنواع السلع التي تجلب إليها من أماكن قاصية
جدّا ، يشاهد عدد كبير من التجار فيها معظمهم من الفرنسيين والإيطاليين لهم رئيسان
حكيمان فاهمان ومدربان يعيش أحدهما ، وهو فرنسي ، هنا في طرابلس بينما يعيش الآخر
، وهو بندقي ، في حلب ، ويطلق على هذين اسم قناصل ، وذلك لمساعدة أبناء وطنهم
وتقديم الاستشارات المفيدة لهم. ولقد أرسل هذان القنصلان من قبل حكومتيها فاستقرا
هنا وأصبحا يتمتعان بامتيازات كبيرة منحها لهما السلطان التركي كيما يستطيع التجار
أن يحملوا بضائعهم معهم وأن يدافعا
عنهم ضد أي أذى
يتعرضون له من الأتراك والمسلمين ، وممارسة المتاجرة والتعامل مع الآخرين دون أدنى
مضايقة.
وما يزال هؤلاء
القناصل يرتدون نفس ملابسهم الوطنية المصنوعة غالبا من الستن الأحمر أو البنفسجي
أو الحرير الدمشقي وغيره ، وهم يتمتعون بالاحترام الفائق ويجلبون معهم من بلادهم
الخياطين وصانعي الأحذية ، لكن الأشخاص الرئيسين الذين يأتون بهم ، يتألفون من
الأطباء والصيادلة والجراحين والإداريين ، وفضلا عن ذلك فإنهم يحتفظون بمترجميهم
الحاذقين في اللغتين التركية والعربية ، وأخص بالذكر منهم ، القنصل البندقي الذي
أمضى هناك ما لا يقل عن ثلاث سنوات ، وعند ما انتهت مهمته بعث دوق البندقية بقنصل
آخر مكانه ، وعند ما يصل هذا القنصل الجديد إلى طرابلس لا يجرأ على النزول إلى
الشاطىء قبل أن يستقبله القنصل السابق على ظهر السفينة التي أقبل عليها.
وقد خصصت لهذين
القنصلين بنايتان كبيرتان يسمون الواحدة منهما فندقا ، وهما تقعان على مقربة من
بوابتي المدينة اللتين تؤديان إلى المرفأ وإلى شاطىء البحر ، وذلك لكي يسهل عليهما
إرسال سلعهما من هناك إلى داخل المدينة وخارجها.
وعلى طول النهار
وعرضه يرى المسلمون بأعداد كبيرة وهم ينتظرون مع حميرهم فرصة نقل التجار والملاحين
مع سلعهم إلى المدينة ومنها. وهناك بيتان كبيران فيهما عدد كبير من الأروقة والغرف
يتوفر فيهما السكن للتجار وخزن بضائعهم فيهما.
ويقيم مع
الفرنسيين أناس من «جنوا» وفلورنس وسانت لوك وغيرها ، ومن الألمان والهولنديين
وسواهم ، في حين يعيش مع البنادقة أناس من «كانديا» و «كورفو» وغيرهما.
وليس لأي من هذه
الفنادق أكثر من باب كبيرة واحدة يحرسها
الجنود
الانكشاريون وحين يدخل أسيادهم القناصل إلى هذه الفنادق يصحبهم في ذلك عدد من
التجار والخدم. ويتمتع هؤلاء القناصل بنفوذ كبير لدى الأتراك والمسلمين ، بل إن
سلطتهم تتجاوز سلطة الباشا نفسه. فتراهم على الدوام يسيرون ويتقدمهم جنودهم بأعداد
كبيرة وهم يحملون الهراوات الطويلة يضربون بها المارة لإخلاء الطريق حتى وإن كان
أولئك المارة من الأتراك أنفسهم.
ويدخل التجار
يوميّا في مفاوضات مع اليهود الذين يعرفون عدة لغات ، ويعلمون بالأسعار التي تباع
بها السلع وتشترى. ولذلك ترى هؤلاء اليهود يساعدون في عقد صفقات بيع السلع ، وفي
دفع النقود ، وتنظيم قوائم التحويل النقدي التي يحتفظون بجداولها.
ولقد رأيت بصفة
رئيسة ثلاثة أنواع من النقود الفضية هي «الأسبر» والمعدني ، والسيجست . وهذه النقود جيدة وهي سارية المفعول في كل أنحاء تركيا.
وحين يتم دفع مبالغ كبيرة منها لا يجري عدها كلها تماما وإنما يعد جزء منها يتم
وزنه ، ومن ثم تقاس بقية النقود على أساس ذلك الوزن. أما عن النقود الذهبية فليس
لديهم سوى «الدوكات» التي تصنع من الذهب الخالص وتكون نادرة جدّا. وما خلا ذلك
يصعب رؤية أي من العملات الأخرى.
على أن هناك
المزيد من الدوكات البندقية «التستون» و «الجواشيم» و «التالر»
الفرنسية. وهم لا يدفعون مع هذه العملات
__________________
قوائم الصرف
والمبالغ الكبيرة حسب ، بل ويحولونها إلى عملاتهم الخاصة ، ولذلك يتوفر عدد كبير
من اليهود في كل أنحاء تركيا وفي كل مدينة تجارية ، وبصفة خاصة في مدينة حلب وفي
طرابلس هذه التي أنشأوا لهم فيها عمارة واسعة وبيعة فاخرة.
ويمسك هؤلاء
اليهود بزمام إيرادات الكمارك التي يستوفيها السلطان التركي ، ولذلك فليس مستطاعا
إرسال بضاعة ما إلى تركيا أو خروجها منها دون أن تكون تحت متناولهم ، وذلك أمر
يسبب القلق الشديد لجميع التجار ، إذ إن على هؤلاء إن هم أرادوا شراء حاجة من اليهود
، أن يكونوا في منتهى الحذر من أن يغشوا لأن اليهودي مليء بالغش ، كما يعترفون هم
أنفسهم بأن أحدا لا يستطيع الحصول على أي شيء منهم إلا إذا كان أكثر منهم خداعا ،
كيما يجرأ على أن يقايض معهم سلعة بأخرى.
وبالنسبة إلى
البضائع يشاهد المرء عدة أنواع منها في الخانات كما أشرت إلى ذلك قبلا. غير أن
الجزء الرئيس من البضائع يتوفر في الأسواق أو في البيوت التي تتعامل بالبيع
والشراء ، أو في محلات المقايضة. وهذه المحلات طويلة وواسعة يكون البعض منها على
شكل أروقة ، والبعض الآخر مسقف بالأخشاب بحيث تستطيع أن تتمشى وتساوم وتشتري دون
أن تبتل بماء المطر. كذلك تقوم على جانبي محلات المقايضة هذه حوانيت إضافة إلى
أصحاب الحرف والصناعات وصانعي الأحذية والخياطين والسراجين ومطرزي الحرير
والخراطين وصانعي السكاكين والنساجين والعطارين وبائعي الفواكه وصانعي الأدوات
النحاسية وأدوات الطبخ وكثيرين غيرهم ممن تراهم موزعين في شوارع المدينة ومحلاتها.
ويبعث التجار
بكميات كبيرة من الحرير إذ إن هناك عدد وفير منهم لا يتعاملون بأية بضاعة سوى
الحرير الذي يؤتى به من المناطق المجاورة من أمثال لبنان التي يسكنها أناس كثيرون
يمارسون صنع الحرير وغزله ،
أو من دمشق
بالدرجة الأولى حيث تتوفر فيها كميات كبيرة من الحرير مما يستطيع التاجر أن يشتريه
بسرعة وبكميات تقدر بعدة آلاف من الدوكات ، وذلك بالنظر إلى وجود كثرة فائقة من
أشجار «التوت» الضخمة الشامخة ذات الأوراق الكثيرة التي تتغذى عليها دودة
القز. علما أن ثمار التوت هذه تكون بيضاء اللون وتنقل في سلال وتباع لعامة الناس. وهكذا
تجد في الأسواق عددا كبيرا من صانعي الحرير الذين يصنعون مختلف المطرزات الحريرية
بألوان متباينة وهم يمارسون أعمالهم هذه أمام حوانيتهم حيث تجد الواحد منهم ، حين
يريد برم خيوط الحرير ، يمسك بخيطين يربط أحدهما بإحدى قدميه ثم يبدأ يبرمه وهكذا
، ومثل هذا يفعل الخراطون أيضا الذين يمسكون بالحديد الذي يريدون خرطه بين أقدامهم
وأيديهم.
وفي أوقات محدودة
من السنة تجلب إلى هذه الأسواق من دمشق وغيرها من الأماكن القريبة منها كميات
وفيرة من الزبيب الطيب المذاق الذي لا توجد فيه سوى حبة واحدة ، حيث يتم شحن عدة سفن
بهذا الزبيب من هناك إلى بلادنا الأوروبية. فهذه السلع وأمثالها يؤتى بها يوميّا
إلى الأسواق التي تستقبلها ، وكذلك السجاد النادر والحرائر الغالية المطرزة بأشكال
الورود والأزهار من مختلف الألوان والتي يبدو البعض منها وكأنه من الذهب الخالص.
على أن كثرة
التجار الذين يتعاملون بالصابون والقلى تفوق سواهم من التجار الآخرين ولذلك ترى
عدة سفن توسق بالبوتاس والصابون وترسل كل سنة من هناك إلى البندقية إذ إن مادة
البوتاس تستخدم في صناعة الزجاج مثلما هو الأمر في صناعة الصابون.
__________________
ويستخرج هذا
البوتاس أو القلى من أعشاب يطلق عليها العرب اسم «شنان» وهو على نوعين (وقد ألصقت شيئا منه ـ مع مواد أخرى ـ على
الورق). وأحد هذين النوعين لا يختلف عن نبات القلى المعروف عندنا إذ يتألف من نبتة
سميكة كثيرة العقد ذات أغصان صغيرة تتفرع منها ولها في رؤوسها عدة عقد ومن تحتها
أوراق مدببة. أما النوع الثاني فتكون سيقانه كثيرة مليئة بالعقد وجذوره ملونة.
وينمو هذان
النوعان من الأعشاب بكميات هائلة حيث يتم حرقها وتحويلها إلى رماد فوق الجبال.
وعند حرقها تسيل منها مادة زيتية تلتصق بالرماد فتصبح صلبة أشبه بالحجارة بعد أن
تفقد حرارتها.
ويجلب المسلمون
هذا الرماد من الجبال على ظهور الإبل فيبيعونه لبعض التجار الذين يتاجرون به
فيصدرون قسما منه إلى البلاد الأجنبية بينما يصنعون من القسم الآخر مادة الصابون
طبقا للكمية المتوفرة لديهم وحاجتهم إليها.
ولقد شرحوا لي
الطريقة التي يصنعون بها الصابون في سوريا. ذلك أنهم يأخذون ألفا ومائتي وزن (أو
اثنتي عشرة مائة) من هذا الرماد فيقسمونه في فصل الشتاء إلى أربعة أقسام وفي فصل
الصيف إلى ثمانية أقسام ذلك لأن الصابون سرعان ما يتجمد أيام الشتاء لأن الحرارة
تتأثر بالبرودة الخارجية أكثر من الصيف. يؤخذ القسم الأول من هذه الأقسام في شكل
طبقة رقيقة تصب في وعاء أو في قدر كبير مصنوع من الحجر ، ويكون قعره مصنوعا من
صفيحة نحاسية سميكة جدّا بعد أن يكونوا قد وضعوا فيه مسبقا ألفا وستمائة وزن من
الزيت أو الشحم ثم يتركونه يتجمد لمدة أربع وعشرين ساعة وبعد ذلك يضيفون إليه كل
يوم طبقة أخرى من قسم آخر. ولكن قبل أن يتجمد الصابون (وهو يحتاج في ذلك
__________________
إلى خمسة أيام في
الشتاء وإلى تسعة أو عشرة أيام في الصيف) يأخذون مائة وزن من الجير فيمزجونه مع
الرماد ثم يسحبون من هذا المزيج طبقة يتركونها مدة يومين قبل أن يضعوها في القدر
وذلك بكميات تزيد أو تنقص تبعا لسمك الطبقة ورقتها.
ولكن إذا حدث وتكونت
كمية كبيرة في القدر فإنهم إذ ذاك يرفعون صفيحة النحاس من القدر فلا تبقى فيه سوى
الكمية المناسبة من المزيج وبعد أن يتجمد يخرجونه منه ، ويوضع في صحن من النحاس
يتسع لثمانية أو عشرة باوندات ، الصابون الذي يطفو على سطح المزيج ويسكبونه على
الأرض ثم يغطونه بالجير أو الطباشير ويتركونه على هذه الشاكلة مدة يوم واحد في
الشتاء ويومين في الصيف كيما يتصلب إلى درجة أنهم يستطيعون السير فوقه ، وعندئذ
يصقلونه ويقطعونه إلى قطع صغيرة ويبصمون علاماتهم عليها.
الفصل الثاني
ظأفراد الطبقة العليا من رجال الأتراك ونسائهم ، أعمالهم
ودوائرهم ، عاداتهم وتقاليدهم وملابسهم
تعد مدينة طرابلس
أكبر بكثير من بقية المدن والولايات القريبة منها والتي تخضع للسلطان التركي الذي
يحتفظ بضباط له في كل الأماكن الأخرى وهم يحكمون تلك البلاد طبقا لرغائبه ،
ويحمونها من كل الأضرار والأخطار.
ويطلق على هؤلاء
الرؤساء اسم لواء أو باشا وهم يعتبرون حكام الدولة والممسكين بزمامها ، إذ إن تحت
إمرتهم عدد من الفرسان ، يزيد أو يقل تبعا لإيرادات الولايات التي يلتزمون
بإدارتها. وهؤلاء الباشوات من العسكريين الشجعان المدربين الذين يقودون رجالهم عدة
مرات في الأسبوع لتدريبهم ، راكبين أو مترجلين ، على استعمال السهام والنشاشيب
وتسجل لهم علاماتهم بالقفز من فوق صواري عالية وبإطلاق السهام أثناء ركضهم ، على
استعداد لدخول الميدان في الحال ومحاربة الأعداء. ويعمل تحت إمرة هؤلاء الألوية
عدد آخر من الضباط والآمرين. ويكون الصوباشيون والقضاة هم المبرزون بين هؤلاء الموظفين وهم يعينون من قبل
الباشا في الأماكن القريبة كي ييسروا له عمله في المحلات التي لا يستطيع المكوث
فيها.
__________________
ويستدعى لإدارة
مثل هذه الأماكن مواطنون من سكنتها لا يمكثون فيها أكثر من نصف سنة ، وهم يبتون في
كل المسائل الإجرامية ، ولديهم سلطة تعذيب المجرمين لإرغامهم على الاعتراف
بجرائمهم ، كما أنهم يصحبون المجرمين الذين يحكم عليهم بالسجن أو الموت إلى
الأماكن التي يتم فيها تنفيذ مثل هذه العقوبات.
وغالبا ما كنت أرى
أولئك الجنود راكبين. وفي إحدى المرات شاهدتهم يصحبون مجرما حكم عليه بالموت وقد
أركبوه على ظهر بعير ، وأوثقوا ذراعيه وساروا به إلى ساحة الإعدام بعد أن وضعوا
بين صدره وكتفيه مصباحين متقدين مزودين بالشحم فكان الدهن المتقطر من الشحم يسيل
على جسده فيحرقه بشدة.
وينفذ الأتراك
عددا من العقوبات لجملة من الجرائم التي تقترف أعداد كبيرة منها ، ومنها معاقبة
اللصوص والقتلة وقطاع الطرق والمغتصبين وما شاكلهم. وكذلك يستخدم الأتراك عددا
كبيرا من الضباط والموظفين يبعثون بهم إلى مختلف الأصقاع لمطاردة الذين يشتبه بهم
لخروجهم على القوانين وإلقاء القبض عليهم ، وضربهم وإصابتهم بجروح.
أما بالنسبة إلى
الاعتداءات والمخالفات الأخرى فإن الأتراك يحاكمون أمام حاكم يسمونه «قاضيا» وهو
من الملمين بالقوانين وممارسة المحاكمة وإصدار الأحكام بعد الاستماع إلى الشهادات
وتمحيصها.
فإذا كان الحكم عن
دين أودع المدين السجن في الحال إلى أن يسدد الدين الذي بذمته ، أو أن يجد وسيلة
أخرى يضمن بها تسديد دينه ، وإن كان الحكم عن مخالفة للقانون حكم عليه بالغرامة أو
الجلد.
ويعمل تحت إمرة
القاضي عدد من الأتباع والجواسيس الذين يبعث بهم يوميّا للتجسس على من يخرقون القوانين
، من أمثال أولئك الذين
يتناولون المسكرات
، أو يمتنعون عن أداء الصلاة أو الصوم ، أو مخالفة القوانين الموضوعة بأية وسيلة
أخرى. فإذا عثروا على واحد من هؤلاء جاؤوا به أمام القاضي الذي يفرض عليه العقوبة
طبقا للذنب الذي اقترفه. فإذا لم يستطع دفع الغرامة مثلا حكم عليه بالجلد عدة مرات
على قفا قدميه ، وإلا وجب عليه أن يدفع عن كل جلدة نصف «بني» ونظرا لكثرة أمثال
هؤلاء المخالفين الذين يؤتى بهم أمام القاضي كل يوم ، ويحكم على القسم الأعظم منهم
بالجلد ، فقد كنا أثناء وجودنا في الفندق الفرنسي ، الذي يقع قبالة مقر القاضي ،
نسمع عويل أولئك التعساء وصراخهم.
ورغم انشغال
القاضي بالبت في هذه المخالفات فإن قضايا الزواج تأخذ جزءا كبيرا من وقته. ذلك لأن
كل من يريد أن يتزوج عليه أن يقصد القاضي ليعقد له عقد زواجه المثبتة صورته في
كتاب بين يديه. ويعتمد عليه في حالة وقوع خلاف بين الزوجين حيث يحق للأتراك
والمسلمين أن يتزوجوا من عدة زوجات ، وأن يطلقوهن لأدنى سبب . ويسلم القاضي المتزوجين نسخا من عقود الزواج التي تكتب
لعامة الناس على ورق ناعم مستو. أما الأثرياء فتكتب عقود نكاحهم على قطعة من
القماش الحريري الأبيض يبلغ طولها زهاء ياردة. ولا تشتمل هذه العقود إلا على كلمات
قليلة يكتبونها بأحرف قصيرة ذلك أن كل قطعة من هذه القطع لا تحتوي أكثر من ثمانية
أو عشرة أسطر تفصل بين كل سطر وآخر مسافة بوصتين. ولأداء هذه المهمة يحتفظ القاضي
بجملة من الكتبة الذين غالبا ما يكتبون وهم يضعون أوراقهم على ركبهم بدلا من
المناضد أو الموائد.
__________________
ويلبس أمراء
الألوية والصوباشيون والقضاة الذين أشرت إليهم قبلا وكذلك زوجاتهم أغلى الملابس
وأثمن أنواع الحرير المطرز بالورود وبمختلف الألوان. وغالبا ما تقدم إليهم هذه
الملابس من الأناس الذين لهم معاملات عندهم ، إذ إن هؤلاء الحكام لا يودون أن
ينفقوا من نقودهم شيئا ، وذلك بقصد تأييد تلك المعاملات ونوال الحظوة بينهم.
فهؤلاء الحكام شديد والجشع ، وإذا لم تقدم لهم العطايا لا يؤدون سوى القليل من
الأعمال.
ولما كان الباشوات
وأمراء الألوية الذين يديرون الممالك والولايات تحت إمرة السلطان يدركون جيدا أن
بقاءهم في هذه الأماكن لا يزيد على ثلاث سنوات ، وأن عليهم أن ينتقلوا منها إلى
أماكن أخرى حالما يأمرهم السلطان بذلك ، وقد تكون هذه على مسافات بعيدة جدّا ،
فإنهم لهذا السبب يتطلعون دوما إلى الثراء والغنى فيحصلون على الهبات أو يرفعون من
قبل البلاط إلى منصب أو وظيفة أعلى ، وحتى إذا لم يحصلوا على هذا المنصب فإنهم
يحققون لهم ثراء كبيرا نتيجة المنزلة الرفيعة التي أصابوها قبلا.
حين كنت في طرابلس
تولى أحد أمراء الألوية هذا المنصب الذي كان يشغله آمر لواء سابق له. وهكذا توجه
اللواء الجديد إلى دائرته يحف به رجال حرسه ، واستقبلته المدينة استقبالا فخما ،
وكان موكبه يتألف معظمه من الفرسان وحملة السهام والرماح والتروس ، بالإضافة إلى
حملة الطبول والمزامير وغيرها وكانت هذه الرماح والأسلحة متوجة ببعض المعادن
الصقيلة البراقة ، كما كانت ركاب سروجهم تلتمع من مسافات بعيدة.
ويود كل هؤلاء
الموظفون أن يظهروا ، عند أداء وظائفهم ، بمظاهر العظمة ومع ذلك فكلهم عرضة للجشع (وهو
أصل كل الشرور) والتطلع إلى الهبات والرشاوى ، وتلفيق التهم ضد الأبرياء في سبيل
الحصول على
الأموال. وعلى هذا
فإن من اليسير جدّا على من يريد الانتقام من خصمه أن يثير له المتاعب ويلحق به
الخسائر عن طريق تقديم الهبات إلى الموظفين ، ولا يختلف أحد عن هذا في شيء قط. فهم
في سبيل المال الحرام ، لا يأنفون إطلاقا من معاقبة الأبرياء إذا ما كان هؤلاء من
الأغنياء أو الغرباء ، ولذلك فإن الموظفين الذين يعملون تحت إمرة الصوباشين في مثل
هذه الأمور حاذقون جدّا ، إذ تراهم يتعقبون كل من يعارضهم أو لا ينساق إليهم.
ولما كانت مدة
بقائهم في مناصبهم قصيرة ، فإن هؤلاء الصوباشين يبذلون قصارى جهودهم في زيادة
ثرائهم في أسرع وقت مستطاع ، وهم في هذا لا يخشون أمراء الألوية ولا الباشوات لأن
هؤلاء شركاء معهم في هذه الغنائم وأنهم يتلقون أنصبتهم من هذه الغنائم كل أسبوع.
وبعبارة موجزة إن في مقدور أي فرد ارتكب جريمة ما أن ينجو من العقاب ويعود رجلا
صالحا مثلما كان عليه قبلا إذا ما قدم الرشوة إلى هؤلاء الحاكمين.
ولكن هؤلاء
الموظفين عرضة للمحاكمة ، كما نصت القوانين على ذلك ، أمام قضاة كبار يسمونهم «قضاة
الشرع» والتعرض للعقوبة جزاء ابتزازهم الأموال. ويعتبر الأتراك هؤلاء القضاة بأنهم
المعلمون الأساسيون للشريعة الإسلامية وهم يمتازون بالذكاء والمعرفة ولديهم سلطة
محاكمة كل الموظفين والضباط ولا سيما القضاة ، والحكم عليهم ، والإفراج عنهم تبعا
لمخالفتهم. ويتنقل قضاة الشرع من مدينة إلى أخرى للاطلاع على كيفية تطبيق العدالة
من قبل القضاة ويخشى هؤلاء كثيرا مقدم قضاة الشرع إلى أماكن عملهم وإذا ما وجدوا
أنفسهم مذنبين بارتكاب جريمة ما فإنهم يهربون من أماكن عملهم في أغلب الأوقات. وإذا
ما شكا الناس أولئك القضاة عند قضاة الشرع عوقبوا بالجلد علانية ، ونقلوا من أماكن
عملهم. أما إذا كانت الجريمة جسيمة فإنهم يشنقون أو يحرقون وهذا ما يحدث غالبا في
هذه البلدان.
أما إذا اعتدى
القاضي على أحد الناس فإن المعتدى عليه لن ينتظر مقدم قضاة الشرع ليرفع إليهم
شكواه ، وإنما يسلك طريقة أخرى وذلك بأن يعرض شكواه على الباب العالي أو إلى محكمة
السلطان أو أن يذهب بنفسه إلى هناك ليقدم شكواه بصفة شخصية. وسرعان ما يسمع جواب
شكواه تلك. فقد علمت أن مثل هذه القضايا ينظر فيها مرة كل أسبوعين. وإذا كان أحد
المشتكين فقيرا تقوم المحكمة بأوده إلى أن تنتهي قضيته.
ولقد وقعت مثل هذه
الحادثة قبلا لمترجم القنصل البندقي الذي نجح في شكواه ضد أحد الصوباشيين حين أراد
هذا أن يسلبه ، لكنه لم يستطع أن يثبت أية تهمة عليه تكون موجبة للعقاب ، وإذ ذاك
وجد الصوباشي طريقة لذلك بأن أمر أحد خدمه أن يخفي عاهرة في بيت المترجم دون علم
منه ليكون ذلك دليلا كافيا لاتهامه. ونفذ الخادم تلك العملية فعلا ، وهرع موظفو
القاضي إلى البيت ففتشوه وعثروا على العاهرة فيه فألقي القبض على المترجم وزج به
في السجن دون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه وتبرئته ، وأنه كان يجهل تلك الواقعة
جهلا تاما ولم يستطع أن يقنع القاضي ببراءته بكل الوسائل ، وهكذا حكم عليه بأداء
غرامة مقدارها تسعمائة دوكة أرغم على دفعها. وقد أثار هذا الأمر قلق المترجم لأنه
لم يستطع دفع هذه العقوبة القاسية عنه. ولما كان رجلا مجربا وخبيرا بالقوانين
السارية المفعول فقد أعد له جوادا ، دون علم من القاضي ، وانطلق به إلى اسطنبول
ليرفع شكواه بنفسه إلى محكمة السلطان وقد نجح في ذلك وأعلنت براءته من التهمة التي
أسندت إليه.
ولما كانت هذه
المحكمة تعاقب بشدة من يقترفون الظلم ، فإن ذلك القاضي لم ينج من العقاب ، إذ لم
يلبث السلطان أن أرسل بعد فترة قصيرة بأحد سيافيه ومعه تذكرة قصيرة يطلب فيها
إرسال رأس القاضي مع حامل تلك التذكرة. وقد فزع القاضي لذلك فزعا شديدا لكنه بعد
أن استرحم زوجة رسول السلطان سلم نفسه إليه ، وهذا هو السبب الذي
يجعل الكثير من
الخطط والمقاصد الشريرة ـ ولا سيما إذا استدعى أحدهم آخر للحضور أمام محكمة
السلطان ـ يصيبها الفشل ويتم نقضها من المحكمة ، وإلا أصبحت نافذة المفعول.
وحين يظهر إنسان
ما أمام أحد الأتراك من ذوي المنزلة الرفيعة فإن عليه أن يكون حذرا في ذلك ولا
سيما حين يغادره بأن لا يدير له قفاه لأن ذلك يعتبر أعظم إهانة وتحقير ، وهذا من
الأمور الشائعة في الممتلكات التركية.
ولكن إذا ما ظهر
خادم أمام سيده يطلب عفوه عن ذنب ارتكبه فإنه يتبع في ذلك أسلوبا خاصا إذ يقدم
نفسه أول الأمر إلى سيده ويبدي له كل صنوف الاحترام التي تخطر على باله ثم يقبع
على ركبتيه ويمسك بيدي سيده يقبلهما فإذا ما سمح له سيده بذلك انتعشت آماله في أن
سيده سيلبي له طلبه ، أما إذا سحب سيده يديه وإن كان قد هم بإمساكها عدة مرات ،
أدرك تماما أن سيده ما يزال غاضبا عليه وليس هناك سوى أمل ضئيل في العفو عنه.
ويود الأتراك أن
يعاملوا بقدر كبير من الاحترام والتبجيل فهم يعرفون أن سلطة أسيادهم السلاطين كانت
خلال الأزمنة الماضية تتعاظم بدلا من أن تنقص ، ولذلك تراهم يعتنون بأنفسهم
فيرتدون دوما أغلى الملابس ، ويمتطون أحسن الجياد المطهمة بأفخر السروج المطرزة
المصنوعة من أجود أنواع الحرير ذي الألوان الحمراء والبنفسجية ، واللجم والركائب
المصنوعة من الذهب والفضة.
واللغة التركية هي
اللغة التي يتحدثون بها عادة ، وهي نفسها التي يتحدث بها جند الحاميات. وينطقون
بهذه اللغة بعظمة وفخامة ويكون نطقهم بها أشبه بنطق لساننا الألماني. على أنهم في
الوقت ذاته يحذقون اللغة العربية بصفة عامة وهي اللغة السائدة في هذا البلد كله
وفي بلاد
أخرى جديدة حيث
تجد العرب والسريان واليعاقية وغيرهم يتحدثون بهذه اللغة أيضا.
وللأتراك عادات
وتقاليد حسنة يتمسكون بها فهم يبدأون أحاديثهم ، ولا سيما مع الأقارب والمعارف ،
بالتحية الودية والتقبيل لكنهم في نفس الوقت يتصفون بالكسل ولا يهتمون بالعلوم
والفنون الحرة ، ويحبون البطالة أكثر من العمل ، إذ إنك تراهم ينفقون اليوم كله في
لعبة الشطرنج وغيرها من الألعاب الأخرى ، ويعزفون على القيثارة التي تتألف من
ثلاثة أو خمسة أو سبعة أوتار ، وأحيانا أحد عشر وترا ، كما لا حظت ذلك في
القيثارات التي كان يحملها الموسيقيون الذين يعملون تحت إمرة باشا «حلب». ويعزف
هؤلاء على القيثارة بالسبابة أو بقطعة من الريش ، ويسيرون في الشوارع ، وعلى الأخص
الجند منهم ، طيلة النهار وبذلك ألفوا الكسل والبطالة ، والتعود على اقتراف
الأعمال القبيحة.
وهم يحبون ارتداء
الملابس الجيدة ذات الألوان البراقة دون المبالاة بتكاليفها فملابسهم الفوقانية
التي تمتد إلى أسفل تكون مثقلة بالأزرار ، ويرتدون تحتها صداريات تشبه صداريات
الجنود عادة وتكون مصنوعة من قماش أزرق اللون ليست لها ياقات عند الرقبة. وتكون
القمصان من القطن وفتحاتها عند الرقبة واسعة مثل بقية ملابسهم الأخرى وبدلا من
الربطة يستعملون قماطا للرقبة يلفونه على رقابهم ليبعدوا به شدة وهج الشمس.
أما في أيام الصيف
فإنهم يرتدون السراويل القطنية البيضاء الفضفاضة التي تتدلى إلى كعوبهم وتكون جد
ضيقة من الأسفل.
والأتراك لا
يستعملون الجواريب كي يستطيعوا أن يتوضأوا ويغسلوا أقدامهم وأذرعهم ورقابهم دون
أدنى عائق طبقا لما تفرضه عليهم شريعتهم الإسلامية. وهم يشدون هذه السراويل من
أوساطها على أجسادهم
العارية بأحزمة ثم
يرتدون قمصانهم فوقها. وحين يريد أحدهم أن يتبول يفك سرواله ثم يجلس ويلف كل
ملابسه حوله مثلما تفعل النساء ، ويستدير عن ناحية الجنوب لأنها الناحية التي
يتجهون إليها عند أداء الصلاة. وإذا ما شاهدوا رجلا يتبول واقفا استنتجوا من ذلك
أنه مسيحي وليس من أفراد طائفتهم وحين يجلسون تكون سيقانهم في الغالب مطبقة
الواحدة فوق الأخرى وذلك هو الوضع الشائع في الشرق كله إذ إنهم لا يستعملون
الكراسي ولا الموائد ، وإنما يستعيضون عنها بدكاك مبلطة ترتفع مقدار درجتين أو
ثلاث درجات سلم تقوم فوقها أروقة وتكون هذه الدكاك نظيفة مفروشة بالسجاد أو
الأبسطة أو الحصر المضفورة ضفرا جيدا والمحلاة بالألوان تبعا لقدرة أهل البيت على
توفيرها.
ويخلع الأتراك
أحذيتهم عند باب الغرفة عادة. وتكون هذه الأحذية أشبه بالأحذية التي يلبسها
الدهانون عندنا وعلى غرار الصنادل التي يسهل لبسها وخلعها وتكون بيضاء أو زرقاء
عادة مصبوغة من أمام وتنتهي بمسامير في الأسفل وبمهماز من الخلف. وهذه الأحذية
يلبسها الكبار والصغار ، الرجال والنساء ، الأغنياء والفقراء.
وما عدا ذلك فإنهم
يلبسون الأحذية الخشبية أحيانا. وهذه تباع في كل مكان وتعلو بزهاء ثلاث بوصات
وتكون أواسطها مقعرة من الأسفل وذلك لتميز قفا الرجل عن كعبها. وتدهن هذه الأحذية
بألوان مختلفة وتلبسها النسوة أيضا ، إذ إن هؤلاء يرتدين في الغالب ذات الألبسة
التي يرتديها الرجال ومنها السراويل الطويلة التي تلبس تحت الصداريات وتكون مصنوعة
من القطن الجيد ذي الألوان المتعددة ولها أزرار من الجوانب.
ومن النادر مشاهدة
امرأة تركية في الشارع أو في السوق لشراء الحاجيات أو في المساجد التي تؤمها
الشهيرات بينهن وإن يكن ذلك
نادرا أيضا.
فالنساء لهن أماكن مفصولة عن أماكن الرجال ، ولهن في بيوتهن محلات وزوايا سرية
يخفين أنفسهنّ فيها حالما يقبل أحد الرجال على زيارة بيوتهن وحين يخرجن ، وذلك
نادر أيضا ، هنالك ترى ثلاثا أو أربعا منهنّ مع أطفالهنّ سوية وكلهنّ زوجات لرجل
واحد إذ إن شريعتهم تبيح للرجل أن يمتلك أكبر عدد يستطيع امتلاكه من النساء .
وتخفي النسوة
وجوههن بالحجب التي يصنع البعض منها من الحرير الفاخر بينما يصنع البعض الآخر من
شعر الخيل وهذا النوع تستعمله الفقيرات. وهن يغطين رؤوسهن بطرحات مصنوعة من القطن
واسعة بحيث تغطي حتى أذرعهن وأكتافهن ، وبالشكل الذي تستعمله فتياتنا حين يحاولن
محافظة أنفسهن من البلل فيلقين بأمثال هذه الطرحات فوق رؤوسهن.
ولما كان الأتراك
شديدي الغيرة فإن من النادر أن تلتقي زوجاتهم في الشارع أو السوق ، وإنما في
البيوت وحدها ، أو حين يذهبن لزيارة قبور آبائهن أو أقاربهن المتوفين والتي تكون
في خارج المدينة عادة وعلى مقربة من الطريق ، ويحصل أحيانا حينما يذهبن إلى هناك
أن يأخذن معهن الخبز والجبنة والبيض وما شاكله ليتناولنه عند القبور. وكثيرا ما
يتركن شيئا من طعامهن هذا للحيوانات وللطيور تأكله بعد مغادرتهن ، اعتقادا منهن أن
مثل هذا العطف على الحيوان مقبول عند الله كالعطف على البشر.
وتتألف القبور
عادة من حفر مغطاة بأحجار كبير وتكون على شكل أسرة الأطفال في بلادنا إذ ترتفع عند
الرأس وعند الأقدام وتكون مجوفة
__________________
في الوسط ، تملأ
بالتراب وتزرع فيها الأعشاب الجميلة ولكن الغالب تثبت الرايات فيها. ومن المعتاد
أن يزرع أهل الموتى الريحان الأخضر في حفر صغيرة يحفرونها حول القبور ، إذ إنهم
يعتقدون أن موتاهم سيكونون أسعد حالا طالما بقيت الرياحين يانعة محافظة على
ريعانها. وبسبب هذه الخرافة تكثر المحلات التي يباع فيها الريحان وهم ينعشونه
بالماء كيما يظل طريّا إذ تقبل النساء على شرائه وغرسه في قبور موتاهن.
وتكون الأماكن
التي تقام فيها القبور خارج المدينة عادة وعلى مقربة من الطرق الخارجية بحيث
يستطيع كل امرىء يمر بها أن يتذكرها وأن يستغفر الله لها ، وهذا هو السبب الذي
يدعهم يقيمون القباب فوق القبور ، ذلك لأن الناس الذين يزورون هذه القبور ،
ومعظمهم من أقارب الموتى ، يستطيعون دخول هذه القباب وأداء الصلاة فيها على أرواح
الموتى.
وحين يتوفى أحد
منهم يتم غسل جثمانه ، ويلبس أفخر ثيابه ، ثم يلقى به على لوح ويغطى بالرياحين
والأزهار العطرة ، ويترك وجهه مكشوفا بحيث يستطيع كل واحد أن ينظر إليه ويتعرف
عليه قبل أن ينقل إلى المقبرة فإذا كان المتوفى «شلبيّا» أي شخصا نبيلا ، فإنهم يضعون
طربوشه وحليه الأخرى عند رأسه ، ثم يسير أصدقاؤه ومعارفه في المقدمة خلف الجنازة
مباشرة ، ويكون عملهم هو نقل الجثمان من واحد إلى الآخر إذا ما أحسوا بالتعب جراء
ذلك ، ومن ثم يمضون به في رفق وهم ينتحبون طوال الطريق إلى المقبرة ، في حين تسير
النسوة وراءهم صارخات معولات يسمعهن كل من يكون على قارعة الطريق.
__________________
الفصل الثالث
من طرابلس إلى دمشق وحلب
بعد أن استرحت
جملة أسابيع في طرابلس وشاهدت معالم تلك المدينة وأبنيتها واطلعت على أحوالها
البهيجة ، وأكثر من ذلك عرفت عوائد سكانها وتقاليدهم وأخلاقهم سواء في ذلك الأكابر
منهم أم الواطئون ، قررت أن أسافر إلى مدينة «حلب» التي تعتبر أكبر مدينة تجارية
في سوريا ، وأكثرها شهرة إطلاقا ، والتي تقع على مسيرة خمسة أو ستة أيام من طرابلس
وباتجاهها الشمالي الشرقي.
وحين صادفت بعض
الزملاء الراغبين في السفر معي ، تزودنا بالأطعمة التي نحتاج إليها في رحلتنا تلك
، كالخبز والجبنة والبيض وما شاكلها ، وهكذا غادرنا طرابلس في اليوم التاسع من شهر
تشرين الثاني سنة ١٥٧٣.
ولقد صادفتنا في
الطريق أمطار غزيرة إذ إن الأمطار تسقط عادة في مثل هذا الوقت من السنة ، وتستمر
طيلة الشتاء تقريبا ولهذا السبب فقد تأخرت مسيرتنا إذ إننا لم نصل إلى «دمشق» ، التي تقع في منتصف الطريق بين طرابلس وحلب ، إلا في
اليوم الرابع لمغادرتنا.
__________________
وقد نزلنا هنا في
النزل الكبير الموجود في المدينة والذي يسمونه «كروان صاري» حيث خصصت لنا إحدى
الغرف فيه ، لكننا لم نجد فيها أية موائد أو كراسي أو مقاعد أو أسرة وإنما مدت على
الأرض حصيرة من القصب المضفور لتعوض عن كل تلك الأدوات. ولقد ابتعنا من سوق
المدينة بعض الأطعمة حسب رغبتنا وأمضينا الليل كله هناك.
وهذه المدينة التي
يعتبرها البعض مدينة «أفاميا» القديمة كبيرة وحسنة البناء تقع في واد بين التلال ، ولذلك
لا تستطيع أن ترى شيئا منها ، قبل قدومك إليها ، سوى القلعة الحصينة الواقعة على
أحد التلال. ومن حواليها بساتين وحقول كثيرة ترتوي من مياه نهر «العاصي» الواسع نوعا ما والذي يمر عبر المدينة.
ويرفع القوم الماء
من النهر عن طريق النواعير التي تقوم داخل النهر ذاته لهذا الغرض ، وتفرغ الماء في
أقنية تحمله إلى البساتين والحدائق فتنتعش به رغم شدة حرارة الشمس. ولقد وددت أن
أتفرج على هذه البساتين لكن رفاقي كانوا مسرعين في سفرهم ، وعلى هذا غادرنا
المدينة صباح اليوم التالي متوجهين إلى حلب.
شاهدنا على امتداد
الطريق حقولا واسعة للقمح وبساتين كثيرة للكروم وأخرى زرعت بالأقطان التي تجلب من
هذه الأصقاع وتباع لنا في أوروبا وهي تحمل اسم البلد الذي تنمو فيه ، بالإضافة إلى
الحرائر والسلع الأخرى التي تشترى هناك في الدرجة الأولى.
__________________
وفي هذه البلدان
عدد كبير من الحمر الوحشية جلودها سميكة قوية تستعمل للملبس حيث يحسن القوم
تطريتها وتحسينها لهذا الغرض. وتعد السيوف والسكاكين التي تصنع في دمشق من خيرة
الأسلحة وأكثرها شحذا ورهافة ، إذ إن في مقدورك أن تقطع بها قضيبا من الحديد إلى
عدة قطع دون أن يؤثر ذلك في شحذ السكين. ولذلك يفضل سكان المدينة حمل المدى على
الخناجر التي يشدونها في أحزمتهم أو يربطونها بأشرطة تتدلى على ظهورهم.
وإذ واصلنا السير
وبلغنا قمة جبل لبنان شاهدنا عددا وفيرا من القرى على جانبي الطريق معظمها مأهولة
بالمسيحيين من السريان والآراميين وغيرهم ، ممن أقمنا عندهم أثناء الليل أحيانا
وقد استقبلونا بمنتهى الأدب وقدموا لنا خمورا من الأعناب التي تنمو فوق تلك الجبال
ولم أكن قد شربت في حياتي أفخر من تلك الخمور.
من بين القرى التي
وصلنا إليها قرية تدعى «حماة» تقع في أرض خصبة وقد قيل عنها إنها كانت في يوم من الأيام
مدينة جميلة جدّا لكنها تهدمت بمرور الزمن وتخربت فلم تعد في أيامنا هذه سوى قرية
صغيرة. كذلك تناثرت هنا وهناك بين الحقول خرائب بيوت صغيرة.
استأنفنا مسيرتنا
بين الجبال ، وشاهدنا عن بعد مدينة صغيرة تقع فوق التلال وإلى أعلى منها قلعة
حصينة قيل إن الفرنسيين هم الذين شادوها قبلا ، ولما كانت الأرواح الشريرة والهوام
تعيش فيها فقد تركت متهدمة وغير مأهولة.
تركنا هذه القلعة
على يسارنا وانتقلنا إلى حقل قمح جيد الزرع ، وإذ
__________________
ذاك شاهدنا عن
يسارنا مدينة «سرمين» وهي على مسافة بعيدة عنا ، وعلى مقربة منها وحواليها غابة
كثيفة من أشجار الفستق الذي يجمعونه هناك ويبعثون به إلى طرابلس ومن ثم يصدره
التجار منها إلى بلادنا الأوروبية. وتنمو هذه الأشجار على مقربة من الطرق الخارجية
وعلى الأخص عند قرية «باسيلو» التي مكثنا فيها طيلة الليل.
مررنا في طريقنا
بتسعة أو عشرة خانات وهي عبارة عن منازل مفتوحة تدخلها القوافل والمسافرون عند
المساء عادة لتمضية الليل فيها ويكون المبيت فيها مجانا ، لكنك لا تعثر فيها لا
على اللحم ولا على الشراب. فإذا ما أردت أن تصيب شيئا منهما فإن عليك أن تجلبهما
معك ، وأن تقنع بالمنام على كومة من القش ، فإن لم تحصل على ذلك فإنك تنام على
إحدى الدكاك التي تحيط بكل جدران الخان ، والتي يوضع عليها العلف الذي تتناوله
الخيل والحمير والإبل.
والمعتاد أن تكون
المسافة بين خان وآخر ثلاثة أميال ، وتكون هذه الخانات واسعة منتظمة ، جدرانها
حصينة مثل جدران القلاع ، وتبنى على شكل مربع عادة وفي وسطها باحة كبيرة تحيط بها
زرائب مفتوحة أشبه بالقلايات في الأديرة.
ويحتفظ البعض من
هذه الخانات بحامية تتألف من تسعة أو اثني عشر من الجند الإنكشاريين ، وذلك لإبقاء
الطرق أمينة ولحماية المسافرين من هجمات السكان والأعراب.
بعد أن واصلنا السير
في عدة جبال وعرة ، وأصبحنا على مقربة من
__________________
حلب ، وجدنا في
النهاية مدينة تشبه مدينة دمشق وهي في حجمها مثل مدينة «ستراسبورغ» ، وإذ ذاك ترجلنا عند
أبوابها لأنه لا يسمح في تركيا لأي أجنبي أن يدخل أية مدينة راكبا ، وعلى هذه
الشاكلة دخلنا المدينة فمضيت إلى الفندق الفرنسي للمبيت فيه ، وهذا ما يفعله كل
الألمان.
__________________
الفصل الرابع
مدينة حلب
الأوضاع في مدينة حلب. الأبنية القائمة فيها ، الفواكه الفاخرة
تبدو مدينة حلب ،
وهي من أعظم المدن وأشهرها في سوريا ، وكانت تدعى قديما باسم «نيريا» ، محصنة في بعض المواقع بالخنادق والأسوار لكن هذه لا تدور
حول المدينة كلها. ولذلك فإن في مستطاع أي امرىء ـ كما هو الأمر بالنسبة لمدينة
طرابلس أيضا ـ أن يدخلها ويخرج منها في أي وقت يشاء من الليل. ولا تكون بوابات
المدن ـ كما هو معتاد في بلادنا ولا سيما بالنسبة إلى المدن الشهيرة ـ محمية
بالجنود. فلا يشاهد سوى اثنين أو ثلاثة يقفون عند البوابات الرئيسة التي تنطلق
منها الطرق الخارجية ، إذ يقف هؤلاء لاستيفاء الأتاوة لا لمحافظة أبواب المدينة.
كما أنهم لا يحملون معهم أية أسلحة.
على أن في وسط
المدينة قلعة تقوم على تل مرتفع ، وهي حصينة وكبيرة محاطة بالأسوار والخنادق وفيها
حراسة جيدة. أما الأبنية الأخرى ، وكلها مستوية السطوح ومغطاة بالملاط بحيث يستطيع
المرء أن
__________________
يمشي فوقها ،
فإنها أشبه بالأبنية التي شاهدتها في طرابلس. وقد شاهدت بين هذه الأبنية بناية
فخمة جدّا قيل لي إن صاحبها أنفق على بنائها مبالغ طائلة ، لكن مدخلها ليس سوى باب
ضيق واطئ ولذلك فإن على من يريد الدخول إليها أن يحني جسمه تماما.
وما خلا ذلك فإن
حلب محاطة بتلال صخرية وأوديتها ذات تربة طباشيرية ومع ذلك فلا تعوزها الحنطة ولا
الشعير وغيرهما من الحبوب لأن أرضها خصبة. ويبدأ الحصاد فيها عادة في شهري نيسان
وأيار.
ولا يوجد في هذه
الأودية سوى القليل من أشجار البلوط ، والأعشاب الجافة ، ذلك لأن الجفاف فيها شديد
وأرضها رملية ، في حين ترى التلال وعرة مليئة بالأدغال ليس فيها سوى القليل من
العشب الجاف ، ولذلك وجدنا السكان يعلفون مواشيهم بالشعير والتبن الذي تدوسه أدوات
الدراسة التي تجرها الثيران. وكذلك وجدنا الأودية مليئة بأشجار الزيتون وهذا هو
الذي جعل الأهلين هنا ينتجون في كل سنة مئات الألوف من أطنان زيت الزيتون الذي
يستعمل في صناعة الصابون.
وإلى جانب ذلك
توجد بساتين كثيرة لأشجار اللوز والتين والسفرجل والتوت الأبيض والفستق الذي يجمعه
المسلمون في فصل الربيع بكميات كبيرة فيملحونه ويقشرونه ويأكلونه مثلما نفعل نحن
بنبات الجنجل.
وفضلا عن ذلك تكثر
بساتين البرتقال والليمون والرمان والخوخ وغيرها غير أن ثمار التفاح والكمثرى تعد
قليلة بالنسبة إلى الثمار الأخرى وتكون صغيرة الحجم وغير ملونة بالشكل المعروف
منها في بلادنا. ويعقب ذلك وجود كثرة من حاصلات الرقي والبطيخ والخيار وما شاكلها
فضلا عن وفرة أنواع الخضار. ولقد شاهدت ثلاثة أنواع من الباذنجان تختلف ألوانه بين
الأسود والبني ، والفاصوليا وغيرها من الخضار التي
تباع بكثرة في
الأسواق وتطبخ لتهيئة الطعام اليومي كما أنهم كثيرا ما يتناولون بعض هذه الخضراوات
وهي فجة أي دون طبخ.
وهناك نوع من
اللوبياء أو الكستناء تطبخ أو تحمص ثم تنزع قشورها وهم يتناولونها عند ما يجلسون
في المقاهي ، كما يقدمونها على مائدة الطعام بعد انتهاء الوجبات عوضا عن الحلويات
أو الفواكه من أمثال الزبيب والجوز وغيرهما.
وهناك عدة نباتات
تستعمل طعاما بالطبخ منها العدس. وهذا ذكرني بنبتة مماثلة يسميها العرب «ماش» وهي
في شكلها وأوراقها تشبه نبتة الفاصوليا عندنا. ولقد أشار «سيرابيو» إلى هذه النبتة
باسم «مليس» في الفصل ١١٦ من كتابه كما أشار إليها ابن سينا أيضا باسم «ميسى»
في الفصل ٤٨٨ من كتابه. غير أن العالم النباتي الشهير «كارلوسي كلوفيوس» سماها في كتابه «ملخص النباتات الهندية» باسم «مونغو» وقد وجدت الأتراك يحبون تناول الماش كثيرا ولا سيما مع
الرز .
__________________
وجدت التجار في
مدينة حلب هذه يشترون كميات كثيرة من الأدوية التي يجلبونها من أنحاء مختلفة بطرق
القوافل.
__________________
الفصل الخامس
المناصب الرفيعة والسلطات الواسعة التي يتمتع بها
الباشوات في حلب. البلاطات الكبيرة التي يحتفظون بها
تخضع مدينة «حلب»
، التي يعتقد أن اسمها وموقعها يشيران إلى مدينة «شاليبون» التي قال عنها بطليموس إنها تقع في بلاد «الشاليبيين» ، للسلطان التركي مع بقية الأماكن القريبة منها. ويقيم
فيها أحد الباشوات فيحكمها هي وباقي أنحاء الولاية حسب هواه. ولما كان الباشوات في
الغالب هم أعلى طبقة تأتي بعد السلطان ، لذلك فإنهم يعيشون في أبهة ومراكز رفيعة ،
وتكون بلاطاتهم أشبه ببلاطات النبلاء في بلادنا. وتبعا للولايات التي يحكمونها إن
كانت كبيرة أم صغيرة ، فإنهم يستخدمون حاكمين يخضعون لسلطتهم من أمثال أمير اللواء
و «بلك» باشا وغيرهم. وهؤلاء يرافقونهم باستمرار ، ويذهبون معهم حتى إلى
__________________
المساجد ، أو إلى
أي مكان آخر يفكرون في الذهاب إليه وذلك في مواكب كبيرة سيرا على الأقدام أو على
ظهور الخيل ، ولهم شاراتهم الخاصة بهم ولا سيما البلك باشا الذي يكون في رتبة
تعادل رتبة نقيب ، وتحت إمرته مائة من الجند الإنكشاريين الذين يرتدون الملابس
الفاخرة ويضعون الريش في رؤوسهم ويسيرون على الأقدام. وما خلا ذلك فإن بلاطات
الباشوات تشبه بلاط السلطان نفسه تماما ، ولهم أماكن سكناهم هم ومحظياتهم اللواتي
يحصلون عليهن من هنا وهناك ، من المدن والأقطار الأجنبية ، أو اللواتي ينقلن زمن
الحرب في البر والبحر من الأمم المسيحية وغيرها. كذلك يحتفظ هؤلاء الباشوات بعدد
كبير من الخصيان الذين يحصلون عليهم باستمرار.
ويسر الباشوات
سرورا كبيرا بممارسة الصيد وغالبا ما يقومون برحلات تستغرق عدة أيام في حملات الصيد
هذه. وحين يصطادون خنازير برية يتركونها للمسيحيين ، ذلك لأن شريعتهم الإسلامية
تحظر عليهم تناول لحم الخنزير ، الأمر الذي يجعل الأتراك في معظم الأحيان يهزأون
بالمسيحيين في الشوارع ويصرخون بهم ويسمونهم بالكفرة أو أكلة الكلاب .
ومع أن الباشوات
هم من كبار الأشخاص وأنهم يحكمون المدن والبلدان إلا أنهم يعتبرون مع ذلك ، ومثل
البقية ، أرقاء لسيدهم السلطان ، وأنهم لا يستطيعون أن يمتلكوا ما يستطيعون تركه
لورثتهم أو ذريتهم بعد
__________________
مماتهم ، مثلما يفعل ذلك النبلاء في بلادنا ، وذلك لأن السلطان
يستولي بعد مماتهم على كل ممتلكاتهم المنظورة ولا يسمح لذريتهم إلا بماهية سنوية
ليس إلا. وحين يأمرهم السلطان بالانتقال من مكان إلى آخر غريب عنهم وأن يبرهنوا
على نزاهتهم وطيب سمعتهم ، فإنهم ينفذون أمره في الحال ، إن كانوا لا يريدون تعريض
أنفسهم للمصاعب والأخطار ، وهذا هو السبب الذي يجعل مثل هؤلاء الأشخاص ، حتى وإن
كانوا أثرياء ، يهتمون بتشييد المباني الضخمة ولذلك فإنك لا تستطيع أن ترى مثل هذه
الأبنية في كل البلاد ، عدا المساجد والخانات التي يشيدونها كيما يتذكرهم الناس
بها.
والغالب أن يحتفظ
هؤلاء الأشخاص بثرواتهم بصفة كميات من الذهب والفضة ، مما يستطيعون إخفاءه وتسليمه
سرا إلى ذريتهم. وهم لا يهبون المحتاجين سوى الضئيل من الهبات ولا يستخدمون عددا
كبيرا من العاملين لديهم ، كل ذلك نتيجة شدة جشعهم.
ويتفق كل هؤلاء
الباشوات في صفة واحدة هي العمل لمصلحتهم الخاصة والتطلع إلى الثراء ، ولذلك يظل
الأفراد يخضعون لحكمهم في فاقة وإرهاق شديدين ولا سيما الأجانب الذين يعيشون في
حركة تنقل هناك كالإيطاليين والفرنسيين وغيرهم ، والذين كثيرا ما تحدث بينهم وبين
الباشوات ـ الذين لا يفكرون في الصالح العام قط بل في مصالحهم الذاتية ـ خلافات
كبيرة يتعرضون بسببها إلى أضرار جسيمة ، إلا إذا أراد ملوكهم أن يحولوا دون هذه
الأمور ، وأن يعامل رعاياهم معاملة مضمونة ، فإذ ذاك يبعثون ببعض الرجال المحنكين
الذين يسمونهم بالقناصل حيث يحصل هؤلاء على امتيازات عظيمة من السلطان التركي
__________________
ويصبح في مقدورهم
أن يرفعوا شكاوى أبناء جلدتهم إليه ، وحمايتهم ضد أي اعتداء يتعرضون له.
وقد حدث في الوقت
الذي كنت فيه أثناء مكوثي هناك أن نشب خلاف شديد بين القنصل البندقي والباشا
الجديد الذي أرسل إلى هناك بدلا من الباشا الذي توفي في السادس من شهر آذار سنة
١٥٧٥ م. فلقد أقبل الباشا الجديد لاستلام منصبه في موكب حافل من الفرسان والمشاة.
وعند وصوله إلى مقر عمله توجه القنصل البندقي مع عدد كبير من التجار في موكب كبير
لمقابلة الباشا والترحيب به ، وتقديم هدية إليه تتألف من أربع عشرة كسوة من
الملابس الحريرية الفاخرة ، والطلب إليه أن يكلأ بين عنايته أبناء وطنه كيما
يتاجروا ويتعاملوا بأمان في ظل حكمه. ونظر الباشا إلى الملابس فثار سخطه ثم عاد
ونظر إليها ثانية وإذ ذاك لم يرفض قبولها حسب بل رد على القنصل بكل فظاظة.
وغالبا ما يحدث أن
يثير أمثال هؤلاء الكبار الخلافات ، وأن يشتطوا في خلافاتهم تلك إلى أبعد الحدود ،
وقد يؤدي ذلك إلى أن تعرض هذه الخلافات في النهاية على السلطان ومحكمته. فإذا ما
ظهر أن الباشا كان مسيئا عوقب في الحال ، دون اعتبار للسلطة الواسعة التي يتمتع
بها بل طبقا للخطأ الذي ارتكبه ، إما بالغرامة أو بسواها. وإذا كان الجرم كبيرا
فإنه قد يفقد حياته بسبب ذلك وهذا ما يحدث في أغلب الأحايين ، وهو يعتمد كثيرا على
طرق المواصلات التي تدر إيرادات جسيمة على السلطان كل سنة.
ورغم أن بعض
العقوبات التي يعاقب بها الباشوات شديدة أحيانا ، إلا أن أبهتهم ومطامعهم تكون
واسعة ، وإنهم في سبيل الاحتفاظ بعظمتهم تلك ، لا ينفكون عن التطلع بكل الوسائل
إلى الغنى والثراء ، في حين يتعرض رعاياهم كل يوم لمختلف صنوف الاضطهاد والمعاناة
ولا سيما إذا كانوا من الأغنياء ناهيك عن الأجانب ، بحيث لا يستطيع هؤلاء أن
يكسبوا شيئا.
وأكثر من هذا فإن
هؤلاء الباشوات يستولون ، بعد وفاة الأغنياء من رعاياهم على أكبر جزء وأعظم نصيب
مما يخلفه أولئك المتوفون ، ويودعونه في جيوبهم. ولذلك فإن أمثال هؤلاء الناس لا
يعانون أية آلام أو يتحملون أية نفقات في سبيل بناء منازلهم أو فلاحة أراضيهم
مثلما نعاني ذلك نحن في بلادنا.
والغالب أن يعيش
السكان في المدن والقرى التجارية في بيوت أو صالات واطئة معظمها تحجبها التلال
بحيث لا تستطيع أن تراها إلا إذا أصبحت أمامها مباشرة. حتى إذا ما ولجتها لا تجد
فيها كراسي أو مقاعد أو موائد فكل ما هناك قطعة مزدوجة من سجاد يجلسون عليه (إذ
إنهم لا يستعملون الأسرة الوثيرة إطلاقا) ، وحصرا وأبسطة يلفونها سوية خلال النهار
ويعلقونها في إحدى الزوايا ، ثم يفرشونها ثانية أثناء الليل ليناموا عليها. وهم لا
يستعملون الشراشف كما نفعل نحن ذلك ، ولا المناشف أيضا وكل ما يستعملونه خرقة
طويلة من القماش يلفون بها رقابهم العارية أو يتمنطقون بها. وكثيرا ما يشاهد في
منازلهم وفي كل أنحاء بلادهم جملة من الأوعية الطينية غريبة الأشكال تغطي كل جوانب
الجدران في الغرف ممّا اعتاد أقاربهم أن يهدوهم إياه أثناء الخطوبة الأمر الذي
يسرهم كثيرا ، لكنهم يستعملون هذه الأوعية ليس لغرض الذكرى وإنما لأي نوع من
الاستعمال.
ولا يستخدمون في
مطابخهم سوى أدوات قليلة جدّا من أمثال القدور والصحون والأواني ذلك لأنهم يطبخون
كل أطعمتهم سوية في قدر واحد ولذلك لن يتعب الخدم عندهم في تنظيف الأواني
وترتيبها.
وهم لا يهتمون
بالملابس اهتماما كافيا رغم نجاحهم في الحصول عليها. ذلك لأنهم يحبون المال حبّا
جمّا ولا ينفقون طيلة اليوم بنسا واحدا دون رضا منهم. ولذلك فإن على الرجل الذي
يريد الطواف في هذه الأقطار أن يكون كيسه مليء بالنقود وأن يحفظها قريبة جدّا منه
، وأن
لا يدع أحدا يعرف
مقدار ما فيها ، وأن يكون في منتهى الحذر من اليهود الذين لا يؤتمنون ، إذا ما
أردت الخلاص من خطر جسيم ، ذلك لأن اليهود لا يؤدون لك أية خدمة كانت من دون
مكافأة. وليس هذا حسب بل إنهم إذا ما أحسوا بأنك تحمل نقودا معك راحوا يسعون بكل
الوسائل لابتزازها منك. وعلى هذا فإن الناس الذين يحجون إلى فلسطين ويرتدون ملابس
رثة لا يأبهون بهؤلاء اليهود.
ويشاهد ندمان
الباشا ، ومنهم الخصايا والدراويش الذين يحتفظون بأعداد كبيرة منهم ، يتهادون في
أردية الحرير الطويلة الحسنة التفصيل التي يزودهم بها سيدهم ويوزعها عليهم وهي في
الأصل هدايا قدمت إليه.
أما الجند من
الخيالة والإنكشاريين وغيرهم ، فإنهم يحصلون عادة على ملابس صوفية زرقاء من البلاط
، ويعيشون على المرتب الذي يتقاضونه وهو يبلغ إما أربعة «معدني» أو خمسة أو ستة أو
سبعة أو ثمانية. وكل معدني يعادل ثلاثة «فارثنغات» .
ويقل هذا المرتب
أو يزيد تبعا للأماكن التي يعمل الجند فيها ، وهو يدفع لهم يوميّا سواء في ذلك
أيام السلم أم أيام الحرب.
أما إذا ما استطاع
الجند أن يحصلوا على أي شيء بالقوة أو بالحرب من أعدائهم فإن ذلك يكون ملكا خاصّا
لهم.
والعادة الجارية
هي أن يعتمر الجنود بعمائم بيضاء ، وذلك ما يفعله جميع الأتراك. وفضلا عن هذا
فإنهم يضعون ورقة ملونة تحت العمامة ، ويفعلون ذلك بصفة رئيسة عند ما يتوجهون إلى
الحرب اعتقادا منهم أنهم إن فعلوا ذلك فلن يصابوا بأذى أو جرح.
كذلك يثبت الجند
في عمائمهم ريشا من ريش الكركي لكي
__________________
يعتبرهم الغير من
الجنود الشجعان. ومن عدد هذه الريش يستطيع الأهلون أن يقدروا عدد المعارك التي
خاضها أولئك الجنود ، أو العدد الذي قتلوه من الجنود المسيحيين.
وما خلا هذه
العمائم يرتدي الإنكشاريون قبعات ذات تيجان عالية ، مصنوعة من اللباد الأبيض ، وهم
يرتدونها بدلا من الخوذ ، وذلك حين يكونون في تأهب أو خروج إلى الحرب وتتدلى منها
على الناصية شرائط مثقلة بالعقيق والياقوت والجواهر الأخرى التي يعلقون بها الريش
، وإن كانت هذه الحلي ليست غالية الثمن.
وهؤلاء الجند مثل
بقية الأتراك المسلمين لا يطيلون شعور رؤوسهم بل يحلقونها عندما ينمو الشعر فيها
ولا يتركون منه سوى خصلة من الخلف تتدلى إلى مسافة معتدلة. وهم في الوقت الحاضر
يطلقون لحاهم وإن كانوا يحلقونها قبلا ، كما أنهم أخذوا في السنوات الأخيرة يربون الشوارب
الغليظة. وتراهم يحملون البنادق أيام الحرب. أما في أوقات السلم ولا سيما عند ما
يكونون في الحراسة فإنهم لا يحملون سوى الهراوات الطويلة.
ويسمح للجند
بالزواج ، وأن يمتلكوا ـ إضافة إلى زوجاتهم ـ ما يغنمونه من أسيرات أثناء الحرب أو
غيرها ، أو أن يبيعوهن إلى أي راغب في الشراء.
أما في أوقات
الحرب وحين يكونون في إحدى الحملات العسكرية فإنهم يستطيعون العيش في تقشف شديد ،
وأن يواصلوا السير طيلة اليوم كله دون أن يريحوا أنفسهم.
والحقيقة أن هؤلاء
الجند وغيرهم من الجند الآخرين ، وبسبب المرتبات الجيدة التي تدفع لهم أيام السلم
كما هي في أيام الحرب ، لا يبدون أية رغبة في التوجه إلى ميادين القتال ، أو أن
يغيروا واجباتهم
الهادئة بأخرى
مضطربة ، أو أن يستبدلوا حياة مضمونة بأخرى معرضة للخطر ، مثلما كانوا عليه في
العهود السابقة ، ولذلك تراهم قد اعتادوا حياة الكسل ولمدة طويلة.
وما خلا ذلك فإن
سيطرة الأتراك وقوتهم أحط من قوة المسيحيين ، لأننا ، نحن المسيحيين ، مسلحون
تسليحا جيدا بالبنادق والرماح الأمر الذي نستطيع به أن نصدهم إلى مسافات بعيدة
بحيث لا يستطيعون الالتحام معنا والتغلب علينا. ذلك لأن الخصم إذا ما صمد أمامهم
ولم يتراجع في أول التحام معهم فإنهم سرعان ما يديرون ظهورهم ويولون الأدبار.
ولكن على الرغم من
ذلك كله فإننا لم نصب من الأتراك شيئا إذ كانوا هم الغالبون. والسبب في هذا يعود ـ
ولا أريد أن أشير هنا إلى تجاوزاتنا المتعددة ـ إلى انقساماتنا ومنازعاتنا الكثيرة
التي تعيقنا عن مجابهة مثل هذا الجيش بما يجب علينا أن نفعله. كذلك أظهر الأتراك
بسالة أكثر في إرهابنا ، وتوجيه الضربات إلينا ، واستعمال مختلف أنواع الستراتيجية
لإلهائنا ، أو للإيقاع بنا في فخ ، عند ما نشرع بتعقبهم ، حتى إذا ما خيل إليهم
أننا قد كللنا أطبقوا علينا وبأعداد كبيرة وجديدة من قواتهم للإحاطة بنا وسحقنا.
يضاف إلى هذا أن
الأتراك إذا ما فقدوا كتيبة أو أخرى فإنهم لا يقيمون لذلك وزنا ، بالنظر لوجود عدد
واف من هذه الكتائب. كما أنهم يعرفون كيف يعبئون للقتال كتائب أخرى يكون أفرادها
متشوقين جدّا لتقبل القتال لأنهم يتلقون ماهياتهم من أميرهم كل يوم حتى وإن كانوا
خارج نطاق ولايته ، ولذلك فإن هذا الأمير لا يحتفظ بولايته تلك حسب بل يضيف إليها
ولايات أخرى غيرها ، ويروح يوسع ممتلكاته كل يوم. وعلى هذا ينبغي لنا أن نكون في
منتهى الحذر منه ، لأنه كلما ازداد تطلعا إلى توسيع ممتلكاته ، تضاعف الخطر علينا.
وهكذا نراه يستولي على
إحدى المدن أو
الأقطار أو الممالك الواحدة بعد الأخرى بحد السيف ، كما رأينا ذلك قبلا في أوروبا (ولا
نريد أن نذكر شيئا ما عما حدث في آسيا) ، وهذا لا يخلو من أخطار وأضرار على كل
المسيحيين فهو يقترب كل يوم من حدودنا ولذلك فإننا في النهاية يجب علينا أن لا
نتوقع لنا مصيرا أفضل مما حل باليونان وتراقيا والبوسنة وهنغاريا وفلاشيا وغيرها ، التي خضعت للعبودية ، وما يزال فيها عدد من
الشخصيات الرفيعة يئنون ويتحسرون حتى اليوم. ففي أثناء وجودي في حلب عثرت على ملكة
فالاشيا مع أولادها وكان أصغر أولئك الأولاد قد ولد بعد وفاة أبيه الملك.
وتعيش هذه الملكة
مع أولادها على ماهية ضئيلة خصصها لهم السلطان التركي. وهي امرأة ذكية تجيد
اللغتين التركية والعربية وما يزال رعاياها يأملون أن يعيدها الله العظيم إليهم
ثانية ، وبذلك تنتهي عبوديتهم.
وعند ما ينتصر
الأتراك في معركة ما تراهم يرفعون أكفهم بالحمد والشكر لله ، ولمبعوثه الحبيب
الرسول «محمد» ، ويبتهلون إلى الله بأن يثير الخلافات والمنازعات فيما بيننا نحن
المسيحيين (لأنهم لا يؤمنون بالإنجيل) ، وأن يتخاصم حكامنا مع رعاياهم ، ويتنازع
رجال الدين مع علية القوم ، فتنشأ عن ذلك الاضطرابات ، وتتجاوز الحدود التي وردت
في شرائع الله أكثر فأكثر ، ويزول إيماننا بالمسيح وتتحلل كل أنظمتنا وسياسياتنا
الصالحة ، وإذ ذاك يبعث الله بالأتراك لمعاقبتنا.
وحين يرى الأتراك
أن الأغنياء منا يضطهدون الفقراء ، وأن الحكام لا يحمون العدل ولا الأبرياء ، بل
يتطلع الرؤساء والكبار إلى أن يفتك
__________________
الواحد منهم
بالآخر ، فإنهم ـ أي الأتراك ـ يفرحون آنذاك بهذا البلاء الذي حل بنا ، ولا يخافون
أي ضرر قد نلحقه بهم ـ وهذا ما نستطيع أن ننجزه بيسر لو كنا متحدين ـ بل يهددوننا
بما سينزلونه بنا من أضرار.
وحين يستولي
الأتراك على مدينة محصنة أو على البلد كله بحد السيف ، وذلك ما يقدرون عليه من دون
عساكر كبيرة أو متاعب أو أخطار ، فإنهم يدمرون الأماكن غير الحصينة فيها ، ويبعدون
من فيها من النبلاء والشخصيات البارزة ـ لأن هؤلاء قد يلحقون أضرارا جسيمة ـ ثم
يحلون محلهم أمراء الألوية بعساكرهم وذلك للمحافظة على الأماكن المحصنة ،
والاهتمام بجباية الإيرادات للسلطان ، ولذلك لا نجد في مثل هذه البلدان المحتلة
أحدا من النبلاء المتحدرين من سلالات حاكمة قديمة ، ممن ظلوا محتفظين بمقاطعاتهم
وأملاكهم الخاصة بهم والتي يتوارثونها أبا عن جد. وهذا ما يتصوره المرء عندما يأخذ
بنظر الاعتبار شريعة «محمد» التي تسمح للرجل بأن يتزوج من أربع زوجات في وقت واحد
بالإضافة إلى الجواري أو الإماء حسب هواه.
ولا أريد هنا أن
أتحدث عن حرية الطلاق عند المسلمين لأدنى سبب ، واستبدال الزوجات المطلقات بأخرى
جديدات مما ينجم عنه الخلافات والقلاقل إلى درجة أنه لا توجد سوى قلة من الأطفال
ممن يعرفون آباءهم ولا يظهر بينهم سوى القليل من الود مثلما يفترض المرء ذلك.
على أن هذا الأمر لا يحط من قدر الرجال بل يزيدهم شهرة لأن الناس يستنتجون بأن
الرجال الذين يحتفظون بعدة زوجات إنما يتصرفون
__________________
بمنتهى الأدب طبقا
لشرائعهم ولذلك سرعان ما يثقون بهم ويفضلونهم على غيرهم في المكان والماهية ،
ويعتبرونهم من «الشلبية» الحقيقيين ، أي الأشراف.
ومع أن هؤلاء
الأشخاص وغيرهم من الأتراك يحتفظون بعدة زوجات متباينات في المولد وفي النسب إلا
أن لهن حصة متساوية في إدارة شؤون الأسرة. فكلهن يتزودن بالمأكل والمشرب والملبس
على قدم المساواة. كما أن العمل يكون مقسما فيما بينهن بالقسطاس. ذلك لأن أيّا
منهن لم تجلب لزوجها شيئا من المال ، بل إن هؤلاء الأزواج هم الذين يشترونهن من
آبائهن بمبالغ نقدية كبيرة في بعض الأحيان ، ثم يجهزونهن بالملبس وما شاكله. ولذلك
فإن الرابطة الزوجية تمنح الزوج سلطة أقوى من سلطة الزوجة ، ولهذا يستطيع الزوج أن
يتزوج امرأة واحدة ثلاث مرات ثم يطلقها مرة أخرى .
ولكن الواقع أن
الزوج لا يفعل ذلك إلا إذا خشي الفضيحة. وهذا ما تستطيع أن تستشفعه من كلمات
السلطان التركي «بايزيد» التي وجهها إلى «تيمور» أو «تيمور لنك» والتي يقول له فيها من الأفضل له أن يعيد زوجته بعد أن
طلقها ثلاث مرات ، من أن يهب للحرب ضده.
__________________
وقد احتمل تيمور
لنك تلك العبارة المستقبحة ، وأسرّها في نفسه ولذلك لم يهزم «بايزيد» في إحدى
المعارك حسب بل أخذه أسيرا وحمله في قفص حديدي أشبه بوحش الغابة.
علي أن أعود الآن
إلى موضوع الزواج فأقول إن زواج الأتراك لا يشترط فيه أن يصادق عليه أحد من رجال
الدين قبل وقوعه . ذلك لأن على زوجاتهم أن يعشن في وفاق وسلام ومودة ، وأن
لا يعارضن أزواجهن إلا في قضية واحدة هي عدم إحلال المساواة بينهن. فإذا ما حدث
ذلك ، وهو يحدث في أغلب الأحيان ، فإنهن لا يجرأن على أن يشكين أزواجهن إلى القاضي
أو الحاكم. ولذلك تعرض على القاضي كل يوم قضايا غريبة جدّا (لكنها ليست غريبة
بالنسبة إليه). فإذا ما ظهر أن الزوج كان مذنبا كانت الزوجة في حل منه وإذ ذاك يقع
الطلاق رأسا وفي ذات الساعة.
والنساء التركيات
جميلات ومهندمات جدّا ومؤدبات إلى أبعد حد في تصرفاتهن ومسلكهن. وحين تزوج إحداهن
وتزف إلى بيت بعلها يذهب أقاربها معها ، أي أنهم يدعون لحضور حفلة الزواج ، وعندئذ
تبدأ الجلبة في الشوارع وتتعالى الأصوات أكثر فأكثر كلما استمروا في السير بحيث
تستطيع أن تسمع أصواتهم تلك من مسافة غير قليلة.
ويتظاهر الأغنياء
والمقتدرون من الأتراك أثناء زواجهم بمشاهد عديدة. فتراهم أثناء النهار يعقدون
حلبات الرقص والسباق والتمثيل
__________________
والغناء والقفز
والزحف والرقص على الحبال وما شاكل ذلك. وبعد غروب الشمس وحلول الظلام يشرعون
بإطلاق عدة إطلاقات وصواريخ نارية علانية وفي الأماكن المكشوفة بحيث يستطيع كل فرد
أن يشاهدها ويستمرون في هذه الألعاب حتى انبثاق نور الفجر.
أما الراقصون على
الحبال فإنهم يرقصون فوق ثلاثة منها يكون الواحد منها فوق الآخر ويكون أعلى تلك
الحبال أكثرها طولا ثم يبدأون يمارسون فوق كل حبل منها ما تعلموه من فنون خاصة
بالرقص بكل دقة ورزانة. ومن أمثال الرقص والنط والجري والإيماء والسير فوق الأرجل
الخشبية وغيرها من الألعاب التي تستحق المشاهدة.
وحين يتزوج
أولادهم فإنهم سرعان ما ينسون آباءهم ولا يجرأون على رؤيتهم ثانية لفترة طويلة ولو أنهم لا يودون أن يفعلوا ذلك.
وحين يولد لهم
أولاد لا يختنونهم في اليوم الثامن لولادتهم ، بل يتركونهم حتى يبلغوا الثامنة أو
التاسعة أو العاشرة من أعمارهم وإذ ذاك يجري ختانهم.
ويوجد بينهم ، ولا
سيما العرب ، من يقلدون أباهم «إسماعيل» الذي لم يتم ختانه إلا بعد أن بلغ السنة الثالثة عشرة من
عمره.
والمعتاد أن تتم
عملية الختان في بيت الوالدين. وحين يختن أولاد
__________________
أحد الأغنياء تولم
لذلك وليمة ، ويشوى أحد العجول برمته. فهم يجيئون بعجل ويضعون في جوفه أحد الأكباش
ثم يضعون في جوف ذلك الكبش دجاجة وفي جوف تلك الدجاجة بيضة ويطهونها سوية
ويقدمونها في الوليمة وما بقي منها يوزعونه على الفقراء .
وحين يكبر الأطفال
ويبدأون المشي يلبسونهم قمصانا فضفاضة من نسيج لطيف في عدة ألوان تسر الناظر إليها
، ثم يضعون على رؤوس الذين لم يختنوا بعد طاقيات ملونة مطرزة بالورود وتباع بشكل
اعتيادي في الأسواق. لكنهم بعد أن يتم ختانهم يشرعون بارتداء العمائم البيض التي
تصنع من نسيج القطن وتلف حول الطاقيات بطريقة خاصة ، ويبلغ طول الواحدة منها عشرين
يردا.
ولدى السكان في
هذه الأقطار عادة غريبة أخرى اعتادها الصغار والكبار والرجال والنساء على حد سواء
ذلك أنهم يصنعون زواقا رقيقا من العفص والزاج الأخضر المحروق يزوقون به عيونهم
ويحفظونها من الرمد كما يصبغون به شفاههم أيضا ، ويرسمون به حول عيونهم دوائر بنفس
الطريقة التي نراها في أعناق الحمام المطوق الموجود في بلادنا. ويبدو أنهم ورثوا
هذه التزويقات من القدم. كما أنهم يستعملون الكحل في عيونهم أيضا. ولقد قرأنا
الكثير عن كحل العين في عدة أماكن في العهد القديم وأخص بالذكر الإصحاح الثالث
والعشرين من سفر حزقيال ، الآية (٤٠) التي يقول فيها الرب على لسان النبي «وهكذا
أقبلوا على من كانوا يغتسلون ويزوقون عيونهم ويزينون بالحلي».
أما ما يختص
بتعليم الشبان فإنهم لا يتعلمون في المدرسة سوى
__________________
القراءة والكتابة
باللغة العربية ، وهذه حروفها واحدة بالنسبة للعرب وللأتراك وإن كانت لغاتهم
متباينة تماما.
وما خلا ذلك توجد
مدارس أخرى يدرس فيها الشبان القوانين التي يسنها السلطان ولذلك سرعان ما يطلب إلى
هؤلاء الذين يستمرون في دراسة هذه القوانين أن يتولوا المناصب من أمثال القاضي
وقاضي الشرع.
أما بالنظر إلى
العلوم والفنون الحرة التي نتعلمها نحن في بلادنا فإنهم لا يقبلون على تعلمها ،
ولذلك فإن من يعرف هذه العلوم والفنون لا ينعدم وجوده بينهم حسب بل إنهم يعتبرون
تعلمها خرافة ومضيعة للوقت ، في حين نراهم يتعشقون الأغاني القديمة والأشعار التي
تتحدث عن أخلاق سلاطينهم القدامى وعظمتهم وغيرهم من الأبطال. كما أنهم يحبون القصص
الخيالية التي تحط من منزلة الأمم الأجنبية أو أية أمة معادية لهم. وهكذا تجدهم
ينهمكون في إنشاد الأغاني والاستماع إلى من ينشدها والتي يكررونها كل يوم بأساليب
خاصة ، خارج المدينة وفي الأماكن المخضوضرة التي يمارسون فيها الكثير من المتع
الأخرى كالغناء والرقص والنط وما شاكل ذلك. ولهذا نراهم يقبلون على قراءة مثل هذه
الأشياء التافهة بدلا من العلوم والفنون التي لا يأبهون بها ولا بأمثالها من
الأعمال النبيلة ، من أمثال طبع الكتب التي يتعلمونها والتي يتشوق إليها الكتبة
جدّا ، ممن يقل عددهم أو يزيد في مدينة عن أخرى.
__________________
ذلك لأن أمثال
هؤلاء الكتاب يحصلون على قدر من النقود كل يوم لقاء ما ينسخونه من كتابات النبي «محمد»
فيجنون من وراء ذلك أموالا طيبة حيث تشاهد هؤلاء الكتاب بعمائمهم الكبيرة التي
تميزهم عن الآخرين .
والورق الذي يكتب
عليه هؤلاء الكتاب صقيل عادة. وهم يكتبون حروفهم بكلمات قليلة. وحين يرسمون هذه
الحروف في أعلى الورقة يطوونها بحيث لا يزيد عرضها عن بوصة واحدة ومن ثم يملأون
الشقوق الخارجية في الورقة بالشمع من الداخل ، ويلصقون الواحدة بالأخرى بلصاق
يستعملونه لهذا الغرض ويختمون أسماءهم عليها بأختامهم التي تدهن بالحبر فلا يبقى
فيها أي بياض سوى الحروف.
وتصنع هذه الأختام
بصفة عامة في دمشق التي يوجد فيها أحسن الفنانين في هذه الصنعة. وهم يصنعونها من
الحديد ولا يكتبون فيها شيئا سوى أسمائهم.
وهم لا يستعملون
الورق الذي سبق لهم أن كتبوا عليه على الرغم من توفره بكميات كبيرة. كما أنهم لا
يصنعون أي شيء فيه ولا يستعملونه لأي غرض. ومع ذلك فإذا ما وجدوا شيئا من هذا
الورق المكتوب في الشارع فإنهم لا يتركونه ملقى هناك بل يلتقطونه ويطوونه بعناية
ثم يضعونه في غار يصادفونه مخافة أن يكون اسم الله مذكورا في الكتابة المدونة
عليه.
وبدلا من هذه
الأوراق المكتوبة يستعمل العطارون أوراق شجر «القلقاس» التي يحتفظون بمخازن كبيرة
منها.
__________________
الفصل السادس
المعاملات التجارية في مدينة حلب. جملة أنواع من المأكولات
والمشروبات والولائم
بعد أن تناولت وصف
الأبنية والأوضاع الجارية في مدينة حلب العظيمة الفخمة ، وكذلك عوائد الأتراك
وأخلاقهم ودوائرهم ، على قدر ما استطعت أن ألمّ به ، لم يعد أمامي ـ قبل أن
أغادرها ـ إلا التحدث عن المعاملات التجارية التي تجري كل يوم فيها ، وهي معاملات
واسعة النطاق بشكل يدعو إلى الإعجاب ذلك لأن قوافل عديدة من البغال والحمير ، بل
وأكثرها من الإبل ، تتدفق كل يوم على المدينة من كل الأقطار الأجنبية ، من
الأناضول وأرمينيا ومصر والهند وغيرها ، وهي مثقلة بالأحمال. ولذلك ترى الشوارع
مزدحمة بحيث يصعب مرور القافلة منها تلو الأخرى.
ولكل من هذه
الأقطار أو الأمم خان خاص بها وهو يحمل عادة اسم الشخص الذي بناه من أمثال «خان
العجمي» و «خان وزوادا» و «خان الأبرق وسبيل» و «خان محمد باشا» وغيرها من الخانات
التي يستعملونها بمثابة فنادق ، ينزلونها ويعيشون فيها ويعرضون فيها سلعهم للبيع
حسبما يشاؤون. ولذلك نجد بين بقية أفراد هذه الأمم جماعة من الفرنسيين والإيطاليين
وغيرهم ممن لهم أبنيتهم الخاصة بهم والتي مرت الإشارة عنها قبلا مما يسمونه
بالفنادق. ويعيش البعض من هؤلاء سوية في هذه الفنادق بينما يسكن غيرهم ، ولا سيما
الإيطاليون المتزوجون ، في بيوت
أخرى غيرها حيث
يقيم عدة أنفار منهم في كل بيت من هذه البيوت ويعيشون في اقتصاد مثلما يفعل
الأتراك ذلك.
ويستطيع المرء أن
يعثر في هذه الخانات على جملة من أنواع السلع الغريبة. مثال ذلك أنك قد تجد في «خان
العجمي» كل أنواع المنسوجات القطنية كالمناديل اليدوية وعصب الرأس والأحزمة التي
يشدون بها أوساطهم والطرحات على رؤوسهم إضافة إلى أنواع أخرى من المنسوجات يسميها
العرب «موصلي» نسبة إلى بلد «الموصل» الذي يجلبونها منه ، والذي يقع في بلاد ما بين النهرين ،
وهذه الأقمشة هي التي نسميها نحن الأوروبيين «موسلين» والتي يصنع السادة الأتراك
ألبستهم منها أيام الصيف.
وهناك نوع من
السجاد الفاخر المحلى بالألوان الزاهية ، وهو من النوع الذي نستورده نحن إلى
بلادنا أحيانا.
وهم يجلبون من
بلاد فارس في أكياس من الجلد كميات كبيرة من «المن» يسمونه «طرنجبيل» ويجمعونه من نبتة يسميها العرب «عاقول» و «الحاجي» . وهذا هو السبب الذي يجعله يمتزج مع أشواك صغيرة وقش أحمر
اللون. ولهذا المن شيء من الحبوب أحيانا على غرار حبات «الكزبرة» عندنا. ولذلك فهو
في كل مظاهره يشبه «المن» الموجود في بلادنا والذي نجنيه من شجر اللاركس كما أن هذا المن يشبه المن
__________________
الذي تناوله
الإسرائيليون الذي وفره الله فكان على شكل معجزة خارقة للطبيعة .
أما المن الذي
يسقط على الأشواك فقد أكده كل من «سيرابيو» و «ابن سينا» في الفصول التي تناولوا
فيها هذه المادة من مؤلفاتهم وكانوا يسمونها «تسريابين» و «طرنجبيين» .
كذلك عرفه العالم
النباتي الشهير «كارلوس كلوفيوس» وأكده في كتابه «موجز النباتات الهندية».
ولقد عثرت في
أطراف حلب على بعض هذه الشجيرات التي يبلغ ارتفاعها حوالي ذراع وتتفرع منها عدة
سيقان مدورة تنقسم بدورها إلى عدة أقسام كالزهرة. ويستخدم الأهلون هذه الشجيرات
للتنظيف والتعقيم ، إذ إنهم يأخذون كمية منها يغلونها بالماء.
وما خلا ذلك فإن
لديهم نوعا آخر من المن شبيه بالنوع السابق. وهذا النوع يرسل إلى بلادنا من «كالبريا»
عن طريق البندقية.
وفضلا عن ذلك يعرض
الأهلون للبيع أحجارا يسميها العرب «يازور» وهي على أشكال مستطيلة ومدورة صقيلة وذات لون أخضر
__________________
غامق. ويحصل الفرس
على هذه الأحجار من نوع خاص من الصخور وهم يستعملون مسحوقه ضد المساحيق السامة
والمميتة.
وهناك أنواع أخرى
تشبه هذه الأحجار في الشكل والصورة لكنها ليست مثلها في الجودة ولذلك ينبغي للمرء
أن يكون في منتهى الحذر كيلا يغش بها.
على أن هناك بعض
الدلائل التي يمكن بها معرفة جودة هذه الأحجار من عدمها مما أطلعني عليه أحد
التجار. وذلك بأن تأخذ شيئا من الجير وتمزجه بالماء مع شيء من مسحوق هذه الأحجار
وتصنع منه مزيجا. فإذا ما جف المزيج اطحنه. فإن بقي لونه أبيض كان ذلك مغشوشا. أما
إذا تحول إلى لون أصفر دل ذلك على جودته.
وهذا النوع يؤتى
به من بلاد فارس. كذلك يجلب الفرس إلى تركيا أحجارا لا توجد إلا في بلادهم ،
ويحتفظ ملكهم الصفوي بخزائن كبيرة منها وقد صدرت في الآونة الأخيرة كميات كبيرة
من هذه الأحجار إلى بلادنا وإذ ذاك هبط سعرها في الحال. وما إن سمع ملك فارس ذلك
حتى حظر مباشرة إصدار أي منها واستمر الحظر سبع سنوات. ولذلك فإن من المحتمل أن
تكون أسعار هذه الأحجار قد عادت الآن إلى مستواها السابق لأن مدة السبع سنوات قد
انتهت الآن كما أخبرت بذلك.
كذلك يعرض الأهلون
للبيع أقراطا عديدة من اللالىء الشرقية الغالية الثمن التي يعثر على القسم الأعظم
منها في «البحار العربية»
__________________
وعلى مقربة من
جزيرة يسمونها «البحرين» لا تبعد في موقعها كثيرا عن المدينة التجارية التركية «البصرة»
.
وهم يجلبون إلى
هنا كثيرا من الأفاوية من أمثال «الدار صيني» والفلفل والهيل وجوز الطيب وقشر جوز الطيب وغيرها من الجذور الصينية التي يستعملها العرب بوفرة ،
وجذور ثمينة يسمونها «الراوند» بالإضافة إلى الأقداح والصحون الصينية أيضا.
يضاف إلى هذا أنهم
يعرضون للبيع عدة أنواع من الأحجار الكريمة من أمثال العقيق والياقوت ، والياقوت
الأزرق والألماس وكذلك أغلى أنواع المسك الذي يتألف من حبات صغيرة.
ويخفي التجار هذه
الأحجار الثمينة في قوافل كبيرة ترد من الهند وهم يأتون بها سرّا كيلا يدفعوا عنها
الرسوم الكمركية. ذلك لأن الباشوات وأمراء الألوية وغيرهم لا يتورعون عن سلب هذه
الجواهر من التجار إذا ما عثروا عليها في الطرق الخارجية.
أتخلى الآن عن
متابعة الحديث عن هذه المواد والأدوية الأخرى وكذلك البضائع التي يجلبها التجار
إلى هنا من البلاد الأجنبية كل يوم ثم يصدرونها إلى بلاد أخرى ، إذ ليس من مهمتي
التحدث عنها.
__________________
من بين المواد
التي يجلبها التجار من الهند بعض القصب الطويل الصلب الممتلىء بمادة لزجة ذات لون
أصفر. ويكون هذا القصب على نوعين قصير وطويل. فأما الطويل فهو أصلب ويستعمله
الشيوخ والعرج بدلا من العكاكيز ، أما النوع الآخر فيصنعون منه القسي والسهام حيث
نجد الأتراك يغلفونها بأغلفة حريرية مختلفة الألوان ويتباهون بها كثيرا.
كذلك توجد في
الحوانيت أنواع أخرى من القصب القصير المجوف الصقيل ذي الألوان البنية والحمراء.
وهذه الأنواع يستعملها الأتراك والمسلمون وغيرهم من أبناء الأقطار الشرقية لغرض
الكتابة بها ، ذلك أنهم لا يستعملون ريش الإوز لهذا الغرض.
وفضلا عن ذلك يوجد
نوع من العصي يجلبها الحجاج معهم من «مكة» حين يذهبون لزيارة قبر نبيهم «محمد».
وأهل تلك البلاد ولا سيما العرب يحملونها معهم على ظهور الخيل بدلا من الرماح
لأنها قوية وطويلة وخفيفة وفي الوقت نفسه صلبة يستطيعون بها مقارعة الأعداء ، ذلك
أنهم يمسكون بها من الوسط بقوة ، ويرفعونها عاليا ثم يقذفون بها أعداءهم فتتغلغل
في الأجسام التي تصيبها عميقا بفعل القطع الحديدية الحادة التي تثبت بها من خلف
ومن أمام.
وإلى هذه الرماح
أشار «ثيوفراستس» في الفصل الحادي عشر من الجزء الرابع من كتابه. كذلك أشار
إليها «بليني» أيضا في الفصل السادس والثلاثين من الجزء السادس عشر من
كتابه.
__________________
ولم نشاهد في
بلادنا الأوروبية سوى قلة من هذه الرماح ، ذلك لأنه يحظر على المسيحيين حملها
وأنهم يتعرضون لعقوبات شديدة إن هم أقدموا على ذلك ، وكذلك إن حملوا بقية أنواع
الأسلحة الأخرى التي تستخدم أثناء الحرب خارج البلاد. فإذا ما عثر على أي منهم
يحمل هذا السلاح تعرض لمصاعب ومخاطر شديدة. وهذا ما وقع لواحد منهم في وقتي. فبعد
أن عثر على سيف عربي معه وجهت إليه تهمة شديدة لقاء ذلك وحكم عليه بغرامة مقدارها
سبعون دوكة فرض عليه أن يسددها في خلال يومين فإن لم يفعل ذلك ختنوه واعتبروه
تركيا.
وما خلا الخانات
التي مرت الإشارة عنها قبلا ، هناك حوانيت كثيرة داخل المدينة وخارجها تباع فيها
مختلف أصناف السلع الكبيرة والصغيرة ، الجديدة والقديمة وما سواها .
ولدى الأهلين «بورصة»
يسمونها «السوق» وتقع في وسط المدينة ، وهي أكبر من بورصة «فرايبرغ» في «بافاريا»
تتوفر فيها عدة منعطفات يختص كل منعطف منها بطائفة من أصحاب الحرف والصناعات ، من
أمثال العطارين والبزازين وتجار السلع والأقمشة الصوفية الرفيعة وكل أنواع
المنسوجات الحريرية والقطنية ، ناهيك عن أصناف غالية من الفراء وعلى الأخص جلود
الحيوانات البرية التي توجد وفرة كبيرة منها في هذه البلدان.
وفي المدينة عدد
من الجوهريين الذين يبيعون مختلف أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة واللآلىء وما
عداها. يضاف إلى هذا
__________________
وجود أصناف أخرى
من أصحاب الحرف كصانعي الأحذية والخياطين والنحاسين والحدادين وما عداهم ممن لهم
حوانيت في السوق يمارسون فيها أعمالهم. ولكن الفئة الغالبة بينهم هم صاغة الفضة
والذهب وصانعي الأقفال الذين لا يقل عددهم عن عدد أمثالهم في بلادنا.
وهناك الخراطون
وصانعو السهام الذين يصنعون القسي والرماح والذين يحتفظون إلى جانب حوانيتهم
بمحلات صغيرة تمارس فيها أعمال الرمي والتهديف يستطيع كل إنسان يمر بها أن يجرب
حظه في التهديف أو أن يختبر سهمه قبل أن يشتريه.
وبعض هذه السهام
بسيطة أحيانا لكن بعضا منها يكون مكفتا بالعاج وقرون العظام وغيرها مما يجعل
أسعارها متباينة.
ويضع رماة النبال
والسهام حلقة في الإبهام الأيمن ـ مثلما يفعل النجار عندنا ذلك إذ يضعون أختامهم
في الإبهام الأيمن ـ حين يريدون إطلاق السهام. وتكون هذه الحلقات مصنوعة من الخشب
أو القرون والفضة ، ومرصعة بالأحجار الكريمة في بعض الأحايين.
وما عدا هؤلاء
فإنك تجد في الأسواق الكبيرة عددا من «الحلاقين الجراحين» . فإذا لم يجد هؤلاء شخصا يحلقون رأسه أخذوا يطوفون في
الشوارع وهم يحملون معهم أدواتهم مع قطعة من الصابون معدة للعمل. فإذا ما عثروا
على شخص يبغي الحلاقة لا يعودون به إلى حوانيتهم ليحلقوا رأسه بل يمارسون هذه
العملية في الشارع أو في أي
__________________
خان قريب منهم ،
وعندئذ يمسحون شعر رأسه بالصابون ثم يحلقونه كله ولا يبقون منه سوى خصلة طويلة
تتدلى من وراء على ظهره.
وفي المدينة أماكن
لبيع الرقيق من كلا الجنسين ، كبارا وصغارا ، يباعون بأسعار مرتفعة أو منخفضة تبعا
لقوتهم وجمالهم وما شاكل ذلك.
ولم أشاهد في هذه
البلاد أية عجلات أو مركبات ويبدو أن هذه ليست مستعملة لديهم. كما أنني لم أعثر في
هذه المدينة الكبيرة على صانع أسلحة يستطيع أن يصلح أي عطب يحدث في مغلق البندقية
، على الرغم من وفرة التجارة التي يؤتى بها يوميّا إلى هذه الأسواق ، حيث تستطيع
أن تجد فيها ، وفي كل أوقات النهار ، عددا كبيرا من أبناء مختلف الأمم يطوفون فيها
جيئة وذهابا ويسببون الازدحام في هذه الأسواق حتى لكأنك في معرض من المعارض.
وغالبا ما تجد بين
هؤلاء المتجولين عددا من الأتراك السكارى الذين يتدافعون مع الناس الذين لا يفسحون
الطريق أمامهم ولا سيما إن كان أولئك الناس من المسيحيين . ولهذا ترى المسيحيين لا يخشون مثل هؤلاء السكارى حسب بل
يعدون أنفسهم لمثل ذلك مسبقا فإذا ما أبصروا أحدهم ـ وهم لا يسيرون إلا وحراسهم
معهم ـ استداروا إلى جهة أخرى أو إلى واجهة أحد الحوانيت. وكثيرا ما يحدث أن يحني
بعض الأتراك ظهورهم تجاه الحوانيت فإن مر بهم أحد المسيحيين مدوا واحدة
__________________
من أرجلهم أمامه
فيسقط وإذ ذاك يهزأون به ويضحكون عليه. على أن بعض المسيحيين ما إن يشاهدوا ذلك
حتى يرفسوا الرجل الأخرى التي استند عليها التركي ويدعونه يسقط على الأرض.
ومن المعتاد أيضا
أن يحاول الأتراك اختبار المسيحيين لمعرفة حقيقة معدنهم وما إذا كانوا من الشجعان
أم لا ، للتأكد من ذلك قبل التحرش بهم حيث يواجهونهم أول الأمر بكلمات خشنة ، فإذا
ما وجدوهم يشعرون بالخوف سخروا منهم واغتصبوا ما عندهم. أما إذا ما أبدوا مقاومة
سامحوهم في الحال وعدوهم من الشجعان اللائقين لدخول غمار الحروب.
كذلك تجد بين هذا
الحشد جملة من المحافظين على النظام وهم «السقاة» وهؤلاء يكونون عادة من الحاج
الذين حجوا إلى «مكة» . فهؤلاء السقاة يحملون ماء الشرب في أوعية جلدية ويتصدقون
به على كل من يحتاج إليه بما في ذلك المسيحيون.
ولما كان محظورا
في القرآن على المسلمين شرب الخمور ، فإنك تجد الكثيرين من هؤلاء السقاة يتمسكون
بعوائد خاصة. فتراهم يتنقلون ـ بدافع من إيمانهم ـ طيلة النهار بين الناس يقدمون
الماء للعطاش منهم بدافع من المحبة والإحسان ويحمل الواحد منهم في إحدى يديه قدحا
يصب فيه الماء من الأوعية الجلدية التي يحملونها ويضعون فيها عادة العقيق الأبيض وحجر اليشب وغيرهما. كما يضعون في بعض الأحيان فواكه لذيذة كيما يظل
الماء عذبا ومنعشا وحين يناولونك شيئا من
__________________
هذا الماء لتشربه
، يقدمون إليك مرآة لتنظر إلى نفسك فيها ولتتذكر بأنك هالك وإنك ميت لا محالة!
وهم لا يطلبون
إزاء هذه الخدمة أي شيء منك. أما إذا ما منحتهم شيئا ما تقبلوه منك شاكرين ، ورشوا
على وجهك ولحيتك من ماء يحملونه في أقداح زجاجية مطوقة بسلاسل نحاسية ، إظهارا
بهذا مدى شكرانهم لك.
وكذلك يعتبر
الأتراك والعرب أن من المودة والإحسان أن يضعوا أمام دورهم حبابا مليء بالماء
العذب طيلة النهار بحيث يستطيع أي مار أو ظامىء أن يطفىء ظمأه من مائها ، إذ
يعلقون بهذه الحباب كؤوسا لتناول الماء بها فإذا ما أقبل أحد الناس إلى هذه الحباب
وشاهده الآخرون ، لحقوا به ورووا ظمأهم منها. ولذلك تجد في الغالب حشدا من الناس
عند هذه الحباب.
أما إن فكرت في
تناول طعام أو شراب فإنك تجد عادة حانوتا مفتوحا لهذا الغرض تجلس فيه على الأرض أو
على السجاد وتتناول ما تريده من طعام وشراب.
من بين الأشربة التي
يتعاطونها في هذه البلاد ، شراب حسن جدّا يسمونه «قهوة» أسود اللون كالجير تماما ،
وهو مفيد جدّا للمرض ولا سيما أمراض المعدة!.
والقوم يتناولون
هذا الشراب في باكر الصباح وفي أماكن مفتوحة أمام كل الناس دون أدنى خوف أو
اعتبار. وهم يصبونه في أقداح صينية وهو جد ساخن فيرفعون القدح إلى شفاهم لكنهم لا
يتناولون منه سوى شفة واحدة بين آونة وأخرى. وتدار عليهم هذه الأقداح حين يجلسون
وهم يضعون في هذا الماء ثمرة يدعونها «البن» هي في حجمها وشكلها
__________________
ولونها تشبه ثمرة
التوت ، ولها قشرتان رقيقتان تحيطان بها. وقد أنبأوني عنها بأنهم يجلبونها من
الهند. وحيث إن كل ثمرة من هذه تحوي حبتين صفراوين ذات قشرتين مميزتين لها ، فإنها
في شكلها وصفتها واسمها تتطابق مع الثمرة التي ذكرها ابن سينا باسم «بانتشو» والرازي باسم «بانتشا» ولذلك اعتبرها واحدة إلى أن اطلع على حقيقة أمرها من
العارفين بها.
وهذا الشراب كثير
الشيوع جدّا لدى القوم ، ويوجد عدد كبير ممن يتعاطون بيعه ، مثلما يبيع الآخرون
التوت في الأسواق. وهم يعدونه من المواد الغالية مثلما نعد نحن في بلادنا الخمر
المصنوعة من الشجر أو التي يجري تحضيرها من أعشاب وعقاقير أخرى.
ومع ذلك فإن القوم
يفضلون الخمر لو سمحت لهم شريعتهم بتناولها ، كما شاهدنا ذلك في عهد السلطان (سليم)
الذي سمح لقومه بتناول الخمور ولذلك أخذوا يلتقون يوميّا في حانات الشراب ولا
يكتفي الواحد منهم بتناول قدحين أو ثلاثة من الخمر غير الممزوجة بالماء ، بل
وأربعة أو خمسة أقداح أيضا وبشوق كبير طالما كانت مثل هذه الخمور تنقل إليهم من «البندقية»
بسرعة.
وكما شاهدتهم أنا
نفسي فإنهم لا يتناولون لقمة أو لقمتين من طعام عند تعاطي الشراب ، وهذا ما يجعلهم
خشني الطباع بشكل يفوقون به بقية الأمم.
__________________
ولكن ما أن توفي «سليم»
وخلفه ابنه «مراد» في الحكم حتى أصدر أوامره بحظر شرب الخمور في أوائل حكمه
مباشرة وراح يطارد من يشربونها بمنتهى القسوة إلى درجة أن أي فرد تشم منه رائحة
الخمر يسجن في الحال ، ويفصل من عمله ، وتفرض عليه غرامة ثقيلة طبقا لحالته
المالية ، بالإضافة إلى جلده عدة جلدات على قفا قدميه.
وقد حدث ، عند ما
فرض هذا الحظر ، أن كان باشا حلب خارجا من دائرته في أحد الأيام فشاهد أحد السكارى
في الساحة وما إن تأكد من ذلك حتى استل سيفه وقطع به رأس ذلك السكران وتركه جثة
هامدة في مكانه.
ولكن على الرغم من
كل هذه الصرامة وشدة الحظر ، فإن القوم ـ ولا سيما الكفرة منهم الذين تعودوا تناول
المسكرات ـ قد اعتادوا في أيام الصيف أن يحملوا معهم ، مثلما يفعل النمل ذلك ،
كميات كبيرة من الخمور سرّا ، وأن يوجدوا لهم بعض الأماكن التي يجتمعون فيها ليلا
ويعكفون على تناول المسكرات حتى تمتلى بها بطونهم ثم يمضون الليل كله في تلك
الأماكن كيلا تشم منهم رائحة الخمر في اليوم التالي.
وفي الوقت الذي
حظر فيه تناول الخمور في هذه الأقطار كنا ، نحن المسيحيين ، نتزود بها تزويدا حسنا
وبأسعار رخيصة إلى أن جاء الوقت الذي سمح فيه للأتراك بتعاطيها مرة أخرى.
والخمرة التي
يتناولها الأتراك حمراء اللون جيدة ومنعشة وهم يضعونها في زقاق ويأتون بها إلى «حلب»
من أماكن عديدة ، ولكن بصفة
__________________
رئيسة ، من مدينة «نصيبين»
الشهيرة التي تقع على مسيرة يومين عن حدود أرمينيا. واستعمال الزقاق في حفظ
الخمور ما يزال شائعا كما كان عليه في العصور السابقة ، وكما ورد عن «المسيح» في
إنجيل «متى» حيث جاء في الآية التاسعة عشرة من الإصحاح التاسع قوله «يجب
أن لا يضع المرء فيها خمرة جديدة». ولذلك رأينا المسيحيين قد أبيح لهم تناول
الخمور وبيعها وشرائها بالإضافة إلى زرع الكروم في القرى التي يمتلكونها.
أما الأتراك الذين
تحرم عليهم ديانتهم تناول الخمور ، فإنهم لا يهتمون كثيرا بزراعة الكروم ، وإذا ما
فعلوا ذلك فإنهم يعصرون العنب بعدة وسائل ، ويصنعون منه الزبيب ، ولا سيما الناس
الذين يعيشون في دمشق وضواحيها ، بينما يعمد آخرون إلى غلي الأعناب ليصنعوا منها
الدبس. ونخص من هؤلاء أولئك الذين يعيشون في مدينة «عينتاب» التي تقع بين «بيره» ونصيبين. وهم يصنعون نوعين من هذا الدبس أحدهما ثخين
والثاني خفيف. والنوع الأول أفضل من الثاني وهم يضعونه في «براميل» يبعثون بها إلى
أقطارنا الأوروبية.
أما النوع الثاني
فإنهم يمزجونه ويقدمونه بدلا من «الجلاب»
__________________
كذلك فإنهم يضعونه
أحيانا في أقداح صغيرة يغمسون فيه خبزهم ويأكلونه مثلما يفعلون ذلك بالنسبة إلى
الدبس.
وما خلا ذلك فلدى
الأهلين مرطبات حلوة أخرى يعدونها من أثمار التوت الأحمر الذي يغلونه مع قليل من
الدبس الذي يجلبون كميات كبيرة منه من جبال لبنان.
ومن المرطبات
الأخرى لديهم نوع خاص يسمونه «شربت» يستخلصونه من الدبس ، وهو أشبه بالمزيج المخمر
عندنا.
ولديهم شراب آخر
يصنعونه من نقيع الشعير والحنطة وحين يتناوله الأتراك يصبحون ذوي رقة ونشوة إذ إن
فعله فيهم أشبه بفعل الجعة التي يتناولها شباننا ، فهم يغنون ويرقصون على أصوات
المزامير والطبول والأبواق التي يعزف عليها موسيقيوهم كل صباح عند انتشار الحراس.
وكل هذه المرطبات
تباع بوفرة في أسواقهم الكبيرة تجد السلال مليئة بالثلج والجليد طيلة أيام الصيف
ولذلك تراهم يضعون قطعا من هذا الثلج في المرطبات التي يبيعونها فتغدو باردة تصطك
من شربها الأسنان.
أرى فيما ذكرته
الكفاية عن الخمور والأشربة وأعود إلى الطعام فأقول ، إن الخبز الذي يتناولونه هنا
جيد ومغذ وأبيض اللون ، لا سيما في مدينة حلب مما لا يوجد مثيل له في كل أنحاء
تركيا ، ولذلك فهم يصنعون عدة أشكال من هذا الخبز يمزجون في البعض منه صفار البيض
، بينما يمزجون في البعض الآخر عدة حبوب كالسمسم والكزبرة والزعفران وغيرها.
واللحوم التي
يتناولونها رخيصة ومن نوع جيد وذلك نتيجة للأعشاب الثمينة التي تنمو في بلادهم ولا
سيما في جبال «طوروس»
__________________
التي تمتد إلى
أقصى ناحية في الشرق ، إذ إنهم يجلبون من هناك قطعانا كثيرة من المواشي كالخراف
والنعاج ذات الأليات السمينة التي تزن الواحدة منها عدة باونات .. ولديهم إلى جانب
ذلك عدد وفير من الماعز التي يسوقونها بأعداد كبيرة كل يوم عبر المدينة ويبيعون
ألبانها الدافئة في عرض الشارع.
ومن هذه الماعز
نوع صغير الحجم ذو أذان طويلة يبلغ طول الأذن الواحدة زهاء قدمين وإذا ما تحركت
عاقتها أذناها عن الحركة.
ولا يعوز الأهلين
أي من الحيوانات الأخرى. ويذبح الجزارون هذه الحيوانات خارج المدينة في مجازر خاصة
ولذلك تكثر الكلاب عند هذه المجازر ، ويجلب القوم أعدادا كبيرة من صغارها يربونها
فتكون مفترسة يطلقونها أثناء الليل للصيد ، كما قيل لي ذلك ، وهي تشبه الذئاب في
بلادنا.
ولا يقدم الأتراك
على قتل الكلاب بل إنهم على العكس من ذلك يحملون صغارها ويطعمونها ويربونها ،
ويعتقدون أنهم بهذا العمل يقدمون حسنة مقبولة لدى الله العظيم مثل غيرهم من
الطوائف الأخرى التي تعيش في الهند وتعرف باسم «البانيان» التي تعنى بتربية الطيور مثل القطط والكلاب على حد سواء.
وكلاب الصيد هنا
شبيهة بما لدينا في بلادنا منها من ناحية الشكل والضخامة ، ولذلك يقول «بليني» إن
الذئاب في مصر أصغر حجما من الذئاب التي تعيش في الأنحاء الشمالية.
ونظرا لعدم وجود
منازل للمسافرين على الطرق الخارجية فإن كل
__________________
مسافر يحمل معه
أمتعته وزاده. ولذلك نجد عددا كبيرا من مختلف المخابز في الأسواق وكل أنواع
المأكولات النظيفة من أمثال لحوم الأغنام والدجاج ، وأنواع الحساء والمرق وغيرها ،
يستطيع المرء أن يشتري منها ما يشاء تبعا لطاقته المالية.
والطعام الشائع
جدّا هنا هو الرز وهم يطبخونه إلى أن ينضج ويغدو لينا. وهناك أنواع من الأطعمة
الجاهزة تراها في قدور من النحاس لدى أصحاب هذه الحوانيت.
وهناك نوع شائع
جدّا بينهم يصنعونه من الحنطة والشعير ويطبخونه ، بعد جرشه بالمجرشة ، مع الحليب
أو بدونه ، في وعاء سميك وهم يسمونه «بنهور» ولكن «ديوسفريدس» أشار إليه في الفصل الثالث والثمانين من الجزء الثاني من
كتابه باسم (كرمنون) بينما دعاه كل من «ابن سينا» و «الرازي» باسم (سويق) .
ويحتفظ الأتراك
بكميات مخزونة وفيرة من هذه المادة ، وعلى الأخص زمن الحرب وهم يجلبونه إلى بلادهم
بطريق البر والبحر معا. ومتى احتاجوا إلى الطعام صنعوا منه بديلا عن الخبز.
ومن الأطعمة عندهم
نوع يسمونه «ترشان» على ما أذكر ، وهذا
__________________
يصنعونه قويّا
أشبه بالغراء حين تسحبه وهم يتركونه مدة إلى أن يجف ثم يقطعونه إلى قطع صغيرة ،
ويغدو طعاما جيدا ولذيذا حين يطهى.
ويخزن الأتراك
كميات كبيرة من هذا الطعام في حصونهم ، مثلما نفعل نحن ذلك بالنسبة إلى الذرة في
بلادنا. فهم يتناولون هذه المادة عند الحاجة بدلا من الخبز أو أي طعام آخر.
وهذه الأطعمة التي
يسميها اللاتينيون باسم «السليقة» كانت شائعة جدّا لدى القدماء الذين كانوا
يتناولونها في أوقات الضرورة ، وقد أشار إليها «بليني» في الفصل الثامن من الجزء
الثامن عشر من كتابه.
في هذه البلاد
أصناف عديدة من الطيور منها الدجاج والبط والدراج والحجل والجهلول وغيرها. غير أن
الأسماك قليلة عندهم إذ لا توجد لديهم سوى نهيرات صغيرة تكون مليئة بالسلاحف ،
ولذلك فإن الأسماك جدّا نادرة في مدينة «حلب».
ولا يحب الأهلون
أكل الأسماك لأنهم يتناولون بسببها كميات كبيرة من الماء ، بدلا من الخمر الذي
تحرمه ديانتهم ، ولذلك فإن القليل من هذه الأسماك يتم الإتيان به إلى هنا من
الأماكن الخارجية من أمثال «أنطاكية» ونهر الفرات الذي يبعد مسافة ميلين أو ثلاثة
أميال من هنا.
ويعرض الأهلون
للبيع كل أصناف الخضار كاللفت والجزر والفاصوليا وما شاكلها ، إلى جانب الثمار
المجففة كالزبيب واللوز والبندق والفستق والجوز وغيرها.
ويتناول أهل هذه
البلاد الشرقية طعامهم على الأرض. فحين يأزف وقت الطعام تفرش الأرض بقطع من الجلد
تمد فوقها الأبسطة والمطارح ثم يجلسون عليهم وسيقانهم متقاطعة. وقبل أن يمدوا
أيديهم لتناول الطعام يشكرون الله ثم يأكلون ويشربون بسرعة متناهية ، ويخفي كل
واحد منهم ما يجول في ذهنه ، ولا يتحدثون على الطعام إلا قليلا. ويضع
الأغنياء ملايات
من القطن والكتان حول أعناقهم تتدلى إلى تحت أو يعلقونها في أحزمتهم بدلا من
المناديل.
ولا تتناول النساء
الطعام مع الرجال بل يظللن قابعات في حجراتهن الخاصة بهن.
وحين ينتهي الرجال
من تناول الطعام ينهضون سوية وبخفة لا يستطيع أبناء بلادنا تقليدهم فيها حتى لو
مكثوا في هذه البلاد ردحا من الزمن ، ذلك لأن المفاصل تكون قد تخدرت بفعل تقاطع
السيقان عند الجلوس بحيث تصعب إعادتها بيسر إلى حالتها السابقة.
وعندئذ تلف موائد
الطعام بما بقي فيها من خبز وزاد وتلقى في إحدى الزوايا.
الفصل السابع
مغادرة حلب إلى مدينة (بير) الشهيرة
وسفري من هناك في نهر الفرات إلى بابل القديمة
بعد أن مكثت فترة
لا بأس بها في «حلب» اطلعت عليها وعرفت التجارة والبضائع التي يتعاطى بها السكان
هناك مع غيرهم من أفراد الأمم الأخرى كالإغريق ، والأرمن ، والكرج ، والعرب ، والفرس
، والهنود ، والتي يجلبونها ويصدرونها في قوافلهم يوميّا ، وبعد أن أحسنت الاطلاع
على طرقهم وعاداتهم وفهمتها جيدا ، وجمعت رزمة من نباتات أجنبية غير معروفة قبلا ،
استقر بي الرأي على المضي في السفر إلى بلاد الرافدين ، وآشور وبابل وغيرها من الأقطار القديمة الخصبة حيثما وجدت ، والتي كانت تقطنها
الشعوب القديمة والملوك الأشداء. أما تلك البلدان التي تقع بعيدا جدّا ، والتي يمر
الطريق إليها عبر صحارى وقفار شاسعة فإن محاولة السفر إليها وتحقيق ذلك ، تكون
أكثر مشقة وأشد خطرا. وعلى هذا فقد رحت أتطلع في الدرجة الأولى إلى رفيق سفر أثق
به ليكون مساعدا لي. وإذ ذاك صادفت في الحال أحد الهولنديين ممن أمضوا فترة طويلة
في حلب ، فاستجاب إلى طلبي (لأنه كان هو الآخر يرغب في هذه
__________________
الرحلة بذات
الإحساس الذي كنت أحس به) وأن يصحبني في ذلك. وهكذا اتفقنا على التو ، وحددنا
الطريق المفضل الذي ينبغي لنا أن نسافر فيه.
ولما كنا أغرابا
فليس من المستبعد أن يعتبرنا القوم (وهم كثيرو الشك) من المتشردين أو الجواسيس.
وإذ ذاك سينتهزون الفرصة رأسا (مثلما اعتاد الأتراك أن يفعلوا ذلك) فيفرضون علينا
إتاوات أو ضرائب فادحة وبالشكل الذي يتعرض له المسيحيون الذين يتعاملون مع هذه
الأنحاء ، من خسائر وأضرار جسيمة.
وحين أخذنا ذلك
بنظر الاعتبار وجدنا أن التجارة هنا واسعة جدّا فهي لا تنقل من هنا إلى أرمينيا
ومصر واسطنبول حسب (حيث تنقلها القوافل من هناك عبر الأناضول في مدة شهر تقريبا)
وإنما ترسل بنطاق واسع إلى فارس والهند. وعلى هذا رأينا أن من الأفضل لنا أن ندعي
بأننا من التجار ، كيما نستطيع أن نسافر بأمان مع التجار الآخرين ، وأن نشتري بعض
السلع التي تباع في تلك الأقطار ونحملها معنا إلى مسافات بعيدة.
وحين شرعنا ننفذ
هذه الخطة عانى صديقي الذي أشرت إليه وهو «هانز اولرخ رافت» من مدينة «اولم» مشاق
كثيرة في تزويدي ـ طبقا لرغبتي وطلبي ـ بطائفة من السلع التي تباع في تلك البلدان
على حساب نصيري المستر «ملشيور مانليش» وإذ ذاك حزمتها لأذهب بها إلى مدينة «بغداد»
التي تقع على نهر دجلة والتي ترسل منها أصناف التجارة إلى فارس والهند.
ولما كان يندر
وجود أي من التجار الذين يودون السفر من حلب إلى تلك الأقطار ، كما يندر وجود أي
نوع من ملابسنا هناك ، فقد ارتدينا الملابس التركية (كيلا يظن بأننا من الغرباء) ،
وقد بدأنا أول الأمر بارتداء
__________________
قباء طويل أزرق
اللون مزرر من الأسفل ومفتوح عند الرقبة ، وهو لا يشبه النوع الذي يستعمله الأرمن
، وسراويل مصنوعة من القطن تنحدر إلى حد الكعبين ثم تلف وتربط حول أجسامنا ، وفوق
ذلك قمصان من دون بنائق. واعتمرنا بعمائم بيضاء ذات شريط أسود من النوع الذي
يستعمله المسيحيون عادة ، ثم انتعلنا أحذية صفراء صقيلة مدعمة بمسامير من الأمام
وبهماز حصان من الخلف. وما خلا ذلك لبسنا نوعا من صدرية سوداء مصنوعة من نسيج خشن
يسمونها في لغتهم باسم (مسكا) وهي شائعة الاستعمال لدى المسلمين وهي تصنع من شعر الماعز
أو الحمير عادة وتكون ضيقة نوعا ما وبلا أردان وقصيرة لا تصل إلى أسفل من
حد الركبة. والأنسجة التي تصنع منها لا تكون متشابهة ولعل أحسن صنف منها (وهو مخطط
بخطوط بيضاء وسوداء) يستعمل بمثابة رداء ، في حين يستعمل النوع الخشن منه في صنع
الخيام والأكياس التي تنقل بها المؤن عبر الصحراء كما ينقل فيها علف إبلهم وبغالهم
حيث يعلقونها في أعناقها.
وقد ذكرني هذا
الملبس بالألبسة البسيطة التي اعتاد سكان هذه الأقطار أن يرتدوها (ولا سيما
الإسرائيليون حين يبكون موتاهم ، أو حين يندمون على اقترافهم بعض الآثام ، أو
الابتعاد عنها ، وعند ما يصلون لله ليغفر لهم خطاياهم المتراكمة) ، كما قرأنا ذلك
في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر «الخليقة» حين راح «يعقوب» يندب وفاة ولده «يوسف»
، وكما هو الأمر أيضا في كتاب النبي «يونس» عن سكان (نينوى) الذين آمنوا بكلمات
النبي التي أنذرتهم بالفناء في مدة أربعين
__________________
يوما. وأن يقلعوا
عن ذنوبهم ، وأن يرتدوا المسموح ، ويصلوا لله ليعفوا عنهم.
ومثل هذا قرأنا
أيضا في كتاب الملك والنبي «داود» بعد أن أحصى عدد أفراد شعبه. فقد وردت فقرة في
الفصل العاشر من إنجيل «لوقا» وفي أماكن أخرى ، أنهم كانوا يلبسون المسوح ويفترشون
الرماد.
بعد أن أعددنا
أنفسنا على هذه الشاكلة للسفر ، وتزودنا بكل الأشياء الضرورية من سلع وملابس ومؤن
من الخبز والشراب ، مكثنا ننتظر بعض الرفاق الذين قد يسافرون معنا ، بقينا ـ مع
ذلك ـ مترددين فيما إذا كان من الملائم أكثر لنا أن نسافر برا مع القوافل التي
كانت تنطلق من هنا ومن دمشق بكثرة إلى بغداد عبر رمال وصحاري واسعة في مدى خمسين
يوما ، وقد تزيد أو تقصر ، تبعا للأحوال الجوية ، أو أن نسافر بطريق النهر في دجلة
أو الفرات حين تحين فرصة السفر مع الآخرين.
لكن الشيء الذي
حدث هو أن التقينا ببعض التجار من الأرمن الذين كانوا يسكنون في «حلب» والذين
تزودوا بالسلع أيضا واعتزموا السفر إلى ذات الأقطار التي نقصدها ، وإذ ذاك اغتنمنا
هذه الفرصة لأن هؤلاء كانوا من ناحية يعرفون اللغتين التركية والعربية وهما
اللغتان السائدتان بصفة رئيسة في سوريا ، ومن ناحية ثانية لأن البعض منهم سبق له
أن سافر أربع مرات إلى الهند ، وهكذا ضممنا بضائعنا إلى بضائعهم وأوسقنا بها عددا
كبيرا من الإبل على أن تسلم إلينا في مدينة «بير» لنمخر من هناك نهر الفرات.
ولما كنا سوف
نجتاز الممالك التركية فقد حصلنا على جواز مرور من الباشا والقاضي ، وهكذا بدأنا
سفرتنا إلى «بير» التي تبعد مسيرة ثلاثة أيام عن حلب ، في اليوم الثالث عشر من شهر
آب ١٥٧٤ م.
كنا في الطريق
غرباء أحدنا إلى الآخر. وكان من الصعب ، ونحن نرتدي الملابس الشائعة ، أن يميز
الواحد منا الآخر في هذا الجمع من القوم.
وبعد أن سلكنا
طريق وعرا في اليوم الأول من رحلتنا ، واجتزنا صحارى وأماكن عديدة خالية من السكان
، وصلنا عند المساء إلى قرية صغيرة توقفنا عندها ونصبنا خيامنا هناك وقد وضعنا
أمتعتنا على شكل دائرة من حولنا ، ولم نضع معها دوابنا (كما جرت العادة ذلك عند
وجود قافلة كبيرة) كيما نرد عنا هجمات الأعراب ليلا.
وبعد منتصف الليل
بقليل سمعنا أصوات قافلة كبيرة مؤلفة من إبل وحمير ، تمر بنا وعلى مقربة جدّا منا
، ولذلك استيقظنا من النوم حين مرت بنا ، ورحنا نتعقبها في سيرنا.
وحين بان ضوء
النهار شاهدنا حقولا محروثة أكثر عددا مما رأيناه في اليوم السابق ، كما شاهدنا
هنا وهناك في كثير من الأماكن البهيجة خيام الأعراب وقد تلاصقت إلى بعضها البعض
وبدت وكأنها معسكر ، وامتدت في شكل شوارع منتظمة.
وبعد أن واصلنا
السير في مشقة ذلك الصباح وبان الكلل على دوابنا الموسقة بالأحمال من شدة الحر ،
عمدنا إلى الاستراحة قليلا خلف معبد صغير لنريح أنفسنا ونطعم دوابنا.
وفي الوقت ذاته
انحدرت إلينا بعض النساء الفقيرات من ربوة ، ليجمعن روث الإبل بغية استعماله وقودا
بدلا من الحطب الذي كن في أمس الحاجة إليه.
وحين ولت شدة الحر
، وكنا قد مكثنا هناك مدة ساعتين ، واصلنا السير ثانية فبلغنا ، قبل حلول الظلام
قرية صغيرة تقع في أحد الأودية أقام الأعراب على أرض مرتفعة قريبة منه ، مخيما
كبيرا لهم. وقد صعدنا إلى
ذلك المرتفع
ونصبنا خيامنا في أرض مستوية قريبة من مخيم الأعراب ، وبقينا في حراسة ومراقبة
دقيقة ، وسرعان ما أقبلوا علينا وتحدثوا إلينا برقة ، كما جلبت نساؤهم لنا الماء
واللبن الجيد.
ولما كنا قد رأينا
القوم عراة جياعا وهيئاتهم أشبه بهيئات الغجر ، فقد أبينا أن نضع ثقتنا فيهم ،
وظللنا نراقبهم مراقبة جيدة طول الليل.
لقد كان هؤلاء من
الأقوام الرحل ، أي أنهم اعتادوا حياة البطالة والكسل منذ الصغر. وهم يحتملون
الجوع والحر والبرد أكثر من أن يحصلوا على شيء ما من أعمالهم اليدوية ، أو يزرعوا
الحقول ، أو ينشئوا البساتين لإدامة حياتهم ، وإن كانوا قد يفعلون ذلك في بعض
الأماكن الخصبة التي تقع تحت تصرفهم ، ولذلك فأنت تجد هنا عددا كبيرا منهم يعيش في
أطراف هذه الصحارى الرملية التي لا يعيش فيها إنسان ، لكنهم يعيشون في خيامهم أشبه
بمعيشة الحيوانات في الكهوف أو يتنقلون بكل حرية ، مثل الغجر ، من مكان إلى آخر
إلى أن يستقروا في أحد هذه الأماكن فيستمرئوا العيش فيه مع مواشيهم لفترة طويلة ،
حتى إذا أتوا على كل ما هو موجود من طعام دفعتهم الحاجة إلى الارتحال من هنا بحثا
عن مكان آخر .
وفي الخامس عشر من
الشهر وقبل أن يطلع ضوء النهار ، نهضنا في صباح بارد ونحن نعتزم أن نبلغ مدينة «بير»
عند المساء. غير أن دوابنا كانت جد متعبة بسبب شدة الحر وثقل الأحمال التي كانت
تحملها إلى
__________________
درجة أنها كانت
تسقط من شدة الإعياء عدة مرات ، في الوقت الذي كنا نبحث فيه عن مكان ملائم نمضي
الليل فيه ، إلى أن اهتدينا أخيرا إلى قرية نصبنا خيامنا على مقربة منها حيث تناولنا
بعض الخبز واليقطين وأخلدنا بعدها إلى الراحة.
وقبل أن يطلع
النهار بساعتين استأنفنا مسيرتنا مرة أخرى فوصلنا في الصباح الباكر إلى نهر كبير
يدعى «الفرات» عبرناه بما كان معنا من سلع ومتاع ، ثم ضربنا خيامنا أمام المدينة ،
وعلى مقربة من النهر في الجانب الآخر منه ، وذلك انتظارا لسفينة قادمة من أرمينية
في طريقها من هناك إلى «بابل» التي تدعى الآن «فلوجة» .
لم أر هنا أية
نباتات تستحق الاهتمام سوى الخلنجان الذي يسمى عندنا في هولندا باسم «السذاب» وهو ينمو بكثرة في الوديان الجافة. كما شاهدنا على مقربة
من الطريق أول نوع من شجرة نسميها نحن «سم الكلب» وهي بأوراقها وعذوقها تشبه شجرة «الخالندين» شبها كبيرا. كما شاهدنا مساحات شاسعة من الأراضي مزروعة
بنوع من القمح التركي ندعوه «جلجلان» بالإضافة إلى مساحات أخرى زرعت بالقطن
__________________
وبأشجار «الأيسولا»
المليئة بالحليب وهذه تغطي مساحات واسعة من الأراضي الخالية التي يمكن زرعها
بالقمح.
ولقد وجدنا هنا
نبة «السقمونيا» التي يؤتى بها إلى حلب ، والتي يمكن مزجها مع حبات
الأيسولا. وعلى مقربة من المدينة كانت أشجار الأكاسيا تنمو بكميات وفيرة ، وهم يسمونه هنا باسم «الشوك» والشاموك
وثماره أكبر حجما وأكثر وفرة مما رأيت من أمثاله في أي مكان آخر.
تقع مدينة «بير»
على الجانب الآخر من نهر الفرات الكبير ضمن أراضي ما بين الرافدين وعلى مقربة من جبال طوروس مثلما تقع طرابلس قرب جبل لبنان
، أو تقع مدينتنا «لوزان» على مقربة من جبال الألب.
والمدينة ليست
كبيرة ولا محصنة ، ولكن يمكن الدفاع عنها جيدا بالقلعة التي تستقر على صخرة عالية
تقع على حافة النهر ولا يمكن الاستيلاء عليها بيسر.
ويحيط بالمدينة
ريف جميل جدّا ، فائق الخصب (ذلك لأن هذا الجانب من النهر يتألف بصفة رئيسة من أرض
سهلية) وكان القوم قد
__________________
أتموا دراسة القمح
حين وصولنا إلى هناك ، وأخذوا يضعونه في عربات تجرها الثيران. وقد تناثرت هنا
وهناك قرى حسنة المنظر ، لكن المنطقة التي تأتي بعد النهر كانت مرتفعة وهي من نوع
الأراضي التي تمتد مسافات طويلة إلى الشرق ، وتفصل أرمينية عن بلاد ما بين
النهرين. ولم نر في بقعة مرتفعة جرداء سوى بعض الشجيرات والأدغال ، وعددا كبير من
الحيوانات ، ولا سيما الخراف والماعز ، وهذه يؤتى بها كل يوم لتنقل من هناك عبر
نهر الفرات ثم يدفع بها إلى حلب والأماكن القريبة الأخرى.
ويبلغ عرض النهر
في المكان الذي يجري فيه عند المدينة حوالي ميل ، وهو عميق الغور وليس من اليسير
إقامة جسر فوقه. ومع ذلك ، ولأنه لا يجري سريعا في ذلك المكان ، فلا يوجد أي خطر
من الملاحة فيه إلا عندما يصبح عريضا جدّا (كما يحدث ذلك أيام الفيضان حين يجري
وسط الصحاري الكبرى) ، أو حين يتفرع إلى فروع عديدة ، ففي مثل هذه الأحوال لا يعرف
الملاحون الماء الأفضل الذي ينبغي لهم أن يسيروا فيه ، في الوقت الذي يخيل فيه إلى
التجار أن في مقدورهم أن يصلوا بتجارتهم إلى «بغداد» بأسرع وقت وبأقل أذى. فهؤلاء التجار يحملون تجارتهم برا
إلى «أورفه» وإلى مدينة «قره آمد» الشهيرة التي تقع على مسيرة ستة أيام
إلى الشرق عند حدود آشور وماذي .
__________________
وتقع بغداد على
نهر دجلة السريع الجريان وهي تعد مستودعا كبيرا للسلع التي ترسل منها إلى «هرمز» والهند. ومياه نهر الفرات عكر دوما ولذلك تكون في الغالب
غير ملائمة للشرب ، إلا بعد أن يظل الماء ساكنا مدة ساعتين أو ثلاث ، ويترسب الرمل
والوحل منه في القعر فيكون سمك هذا الراسب زهاء البوصة أحيانا. وعلى هذا نجد
السكان في الدور التي لا آبار فيها في المدن والقرى الممتدة على ضفاف النهر ،
يستعملون أوعية كبيرة يملأونها بماء من النهر ثم يدعونها ساكنة إلى أن يروق ماؤها.
أما إذا أرادوا أحيانا شرب الماء قبل أن يروق فإنهم يشربونه بمناديلهم.
جلب لنا الأهلون ،
خلال مكوثنا في المدينة ، عدة أنواع من السمك اصطادوه من النهر بقصد البيع. وكان
من بينها نوع يعرف باسم «الجري» وهو في شكله وحجمه يشبه النوع المعروف باسم «الشبوط»
لكن بطنه أكبر وأوسع وأقل سمكا وكانت الواحدة من هذه الأسماك تزن أحيانا ثلاثة
أرطال ، أو ما يعادل سبعة عشر أو ثمانية عشر باوندا.
وهذه الأسماك
لذيذة الطعم جدّا وزهيدة الثمن إلى درجة أننا استطعنا أن نشتري واحدة منها بمبلغ «معدني»
واحد وهو يعادل في عملتنا ثلاثة بني .
وحين أراد ملاحو
قاربنا اصطياد السمك شرعوا يرمون في النهر
__________________
بحبات ممزوجة
بمادة (الكوكولوس) وهو ثمر يسمونه (دم السمك) فبعد أن يطفو السمك على سطح
الماء تماما يقفز الملاحون من القارب ويمسكون بأعداد منه.
كذلك شاهدت نوعا
مميزا من النسور أليفا إلى درجة أنه لا يحتشد فوق البيوت حسب بل ويقبع في الشارع
أيضا أمام الناس من دون خوف ، وهو رمادي اللون بالنسبة إلى الأنواع الموجودة
عندنا. وهناك نوع آخر من هذه الطيور أكبر حجما وأخف لونا من الأخرى ذات طرر سوداء
في أواخر أجنحتها تشبه اللقالق المعروفة في بلادنا ، وهذه تأكل اللحوم والجيف
وتكون في بعض الأحيان أشد شراسة.
والثابت أن هذه
الطيور من النوع الذي أطلق عليه الرازي اسم دجاج الوادي ودعاه «ابن سينا» باسم «الرخم» .
أثناء مكوثنا بعث
السلطان بأحد الباشوات ومعه بضع مئات من الفرسان المسلحين تسليحا جيدا لشن الحرب
ضد الدروز ليستطيع
__________________
بذلك حماية حدود
سوريا وبلاد الرافدين وأرمينيا وغيرها من الهجمات التي يشنها هؤلاء ، ولنشر الأمن في
تلك الربوع.
وكان الدروز
يسكنون جبال لبنان ، وقد تزايد عددهم فأصبح في مقدورهم أن يقذفوا بستين ألف نفر
إلى ميدان القتال ، (ومعظمهم من حملة البنادق المجربين). فإذا ما وقع حادث
استطاعوا أن يأتوا بأولئك الجند دفعة واحدة في وقت قصير.
ولقد رأى السيد
الأعظم أن عددهم يتزايد يوما بعد آخر ولذلك خشي من أن يصبحوا في
وقت من الأوقات جدّا أقوياء بالنسبة إليه ، ولكي يحول دون ذلك (كما سارت الأحاديث
بها فيما بعد) ويخضعهم لإمرته ، فقد اتصل ببعض الباشوات والألوية ، بصفة رئيسة بباشا دمشق ، وطلب إليهم أن يجهزوا جيشا
كبيرا ويطبقوا به عليهم. أما كيف استطاع السيد أن يضربهم وكيف انقض عليهم فذلك ما
سأسرده بالتفصيل بعد عودتي لأنني لم أسمع في هذا الوقت وفي أسفاري الشيء الكثير عن
هذا الحادث .
كان الجند الذين
جاؤوا مع الباشا ، ولكيلا يظلوا خاملين ، يتمرنون على إطلاق السهام ، أو المبارزة
بالسيوف أو النبابيت. وكان أبناء البلاد ، في بعض الأحيان ، يشتركون معهم في
ألعابهم تلك ولكن ليس بأنواع كثيرة من الأسلحة التي يستعملها المتبارون في بلادنا
، أي الخناجر والسيوف والرماح ، لأن هذه الأسلحة ليست على تلك الشاكلة في هذه
البلاد. فهم يستعملون بدلا منها ، النبابيت أو الهراوات ، إذ يقترب
__________________
الواحد من الآخر
ثلاث مرات ولكن من دون مباهاة وتفاخر كما يفعل ذلك المتبارون عندنا قبل أن يبدأوا
المبارزة ، إذ إن ملابسهم الطويلة تعوقهم عن ذلك. وتراهم يحملون في اليد اليسرى
ترسا يبلغ قطره حوالي قدم واحد يكون مغلفا بالجلد ومخيطا بخيوط الشعر وفي اليد
اليمنى يحملون الهراوات وإذ ذاك يوجه الواحد منهم ضرباته في أول جولة ، كما يفعل
ذلك الصبيان في بلادنا. أما في الجولتين الثانية والثالثة فهم يتقارعون بالهراوات
وعلى الأخص في الجولة الثالثة التي تعد الجولة الأخيرة ، إذ يرمون تروسهم بمهارة وقد
يضرب الواحد منهم سيقان الآخر أحيانا ولكن دون أن يؤذيه. فإذا ما وقع تراجعوا إلى
الوراء وانصرفوا. فهذا النوع من المبارزة كثير الشيوع في هذه البلاد .
بعد أن مكثنا فترة
طويلة وصلت عدة سفن قادمة من أعالي نهر الفرات وكانت من بينها السفينة التي مكثنا
طيلة هذه المدة في انتظار وصولها إلينا.
بدأ ربان سفينتنا
يوسقها بالحمولة ويعد العدة كيما نبرح ذلك المكان. وفعلت ذلك نفسه سفينتان أخريان
كانتا تستعدان للإقلاع سوية معنا ، وكانت أحدهما تعود إلى الأتراك وهي موسقة
بالقمح وحده تنقله إلى بغداد لندرته هناك بسبب شدة الحر وانحباس المطر.
ولقد ابتعنا عدة
أنواع من الفاكهة من أمثال الزبيب والعنب والثوم والبصل وغيره ، كما حملنا معنا
شيئا من الذرة لأنها نافعة في الأسفار إذ تصلح لمزجها مع دقيق الرز وصنع السجق
منها أو لعمل الخبز ، كذلك
__________________
حملنا معنا شيئا
من العسل والمواد الأخرى التي نستفيد منها في السفينة. ذلك لأنه كان علينا أن نقطع
بواسطة النهر طريقا طويلة عبر الصحارى والأماكن العديدة غير المأهولة مما لا يمكن
الحصول فيها على الطعام ، إذ لا توجد فنادق على امتداد هذا النهر كما هو الأمر
بالنسبة لنهري «الراين» و «الدانوب» اللذين تكثر فيهما مثل هذه الأماكن التي يتوفر
فيها الطعام للمسافرين.
ولما كان ينبغي
لنا أن نزود أنفسنا ببعض الأطعمة الساخنة أحيانا فقد تزودنا بعدة أدوات للطبخ (كما
هو المعتاد في مثل هذه الحالات) لطهي اللحم فيها.
كان ربان سفينتنا
ما زال في حاجة إلى المزيد من المسافرين والبضائع التي ثقلها سفينته ، ولذلك
أرغمنا على المكوث فترة أطول انتظارا لتجار آخرين جاؤوا إلينا بعد وقت قصير من حلب
(وكان بينهم بعض الأرمن والبعض الآخر من الفرس ، وآخرون من بغداد والبصرة كذلك ركب مع هؤلاء في ذات السفينة أربعة جنود من الأتراك
أرسلوا إلى بغداد لتعزيز الحدود مع فارس. كذلك نقل ربان السفينة بعض اليهود وهم
أسوأ من اليهود في بلادنا وطلب إلينا أن نعنى بهم. وفضلا عن ذلك أجبرنا على أن
ننقل معنا بعض الدراويش الذين تمرسوا على الاستجداء وأصبحوا يعتمدون عليه في
معيشتهم فتراهم يطالبونك أن تتصدق عليهم بشيء ما لوجه الله ومع ذلك
فإذا ما تهيأت لهم أية فرصة انقضوا
__________________
عليك وسلبوك ما
تحمله معك. وهؤلاء سيئو الخلق كسالى لكنهم أشداء لأنهم يجوبون كل الأقطار ،
ويتحملون المزيد من الأذى ، ولذلك ينبغي للمرء أن يعنى بهم عناية خاصة ولا سيما
أثناء الطريق. ومع هذا فإنهم على الرغم من كل ذلك يتمتعون بامتيازات كبيرة في هذه
البلدان. فهم يتظاهرون بالقدسية والعبادة ويؤدون الصلاة غالبا ، ويقنعون السذج من
الناس بأن الله يتقبل صلواتهم قبل غيرهم ، وأنهم يمنحون الغير بركاتهم. على أن
الناس ليسوا الآن على استعداد لتصديقهم كما كان يفعل ذلك أجدادهم من قبل. فهم لا
يمكثون طويلا في مكان واحد لأن حيلهم تنكشف دائما.
الفصل الثامن
الطريق الذي سلكناه بالسفينة. التوجه نهرا إلى الرقة.
مجيء نجل أمير العرب إلى سفينتنا مطالبا بالإتاوة
بعد أن أوسقنا
سفينتنا والسفن الأخرى التي كانت معها ، وبعد أن غدت كل اللوازم الضرورية لذلك ،
صعدنا إلى السفينة فبدأت رحلتها باسم الله في مساء اليوم الثلاثين من آب سنة ١٥٧٤
م (بعد أن مكثنا هناك سبعة عشر يوما) ونحن نعتزم أن نقطع في تلك الليلة الثلاثين
فرسخا غير أن اثنتين من السفن انسابتا في واحد من فروع النهر العديدة منذ البداية
، وإذ ذاك عانى ملاحونا أتعابا شاقة في دفعهما إلى الاتجاه الصحيح وهكذا بقينا
ننتظرهم وقد أتعبنا الانتظار كثيرا ، وعندئذ أمضينا الليلة في سوق مدينة تدعى (كسرة)
تقع على قمة ربوة وعلى بعد فرسخ من المكان الذي حللنا فيه.
وحين طلع النهار
في صباح اليوم التالي صعدنا إلى السفينة فاستأنفنا السفر وكنا في البداية محظوظين
، إذ أخذت جبال طوروس التي كانت تقع على يسارنا وتمتد إلى ناحية الشرق ، تختفي
عنا تدريجا ، ومن ثم
__________________
اتجهنا إلى ناحية
اليمين كان النهر فيها يسير وسط صحارى واسعة ومناطق تمثل الأرض العربية ، ثم يتفرع إلى فروع عريضة يصعب على الملاحين تعيين
الاتجاه الصحيح الذي يسيرون فيه.
عندما بدأ السير
في النهر لم نكن نتوقع أي خطر نتعرض له لأن السفينة التركية سبق لها أن مرت قبلنا
بسلام في أحد تلك الفروع ، لكن السفينة الثانية التي كنا نسير وراءها ما لبثت أن
استقرت فوق الرمال لأن ملاحيها أهملوا توجيه سيرها في المجرى الصحيح فهي لم تنغرز
في المكان الذي استقرت فيه حسب بل وسدت علينا الطريق أيضا وقد أدارها الماء بعنف
فوقفت معترضة ، واندفعت سفينتنا فوقها رغما عنا لأننا قريبين منها ، لأن سفينتنا
كانت تجري بسرعة لم نستطع معها تغيير اتجاهها.
وقد نتج عن
الاندفاع والتيار والاصطدام بالسفينة الواقعة أن تحطم الجانبان المرتفعان منها
فتدفق الماء إلى داخلها وغرقت في أعماق النهر.
ومع أن سفينتنا لم
تصب بأي ضرر إلا أنها لم تستطع مواصلة السير حيث ربطناها بالسفينة الغارقة بغية
انتشالها من الماء وبعد جهد شاق بذلناه في إزاحة الرمال من تحت السفينة الغارقة
وفسح الطريق لإخراجها سالمة ، استطعنا أن ندفع نصفها إلى الماء العميق أمام
سفينتنا ، وسرعان ما دفع بها ماء النهر بشدة فارتطمت بسفينتنا وحطمت أحد مجارفها
وقسما من جنبها ، ولو أن المجذاف الآخر كان قد تحطم لتكرر ذات العطب والضرر اللذين
وقعا قبلا.
وحين كنا على مثل
تلك الحالة ، وقد تركز تفكيرنا في الهلاك الذي ينتظرنا سوية لأن ربنا الرحيم قد
أراده لنا ، وصلنا قرب الشاطىء ،
__________________
واندفعنا في
المجرى القديم للنهر من دون أدنى عائق فأقلعنا قبل أن تقلع السفينة الأخرى ، ثم
نزلنا إلى البر مباشرة.
نهضنا بعد استراحة
قصيرة للعمل على إنقاذ السفينة الأخرى فأنزلنا حمولة سفينتنا وحملنا لها ما كانت
تحمله تلك السفينة الواقعة ثم أنزلناها بسرعة إلى الماء.
وفي الوقت ذاته
ظهر من وراء الأدغال وشجيرات الطرفاء على ضفتي النهر عدد من الأعراب كان البعض
منهم يمتطي ظهور الخيل بينما كان البعض الآخر راجلين وقد أقبلوا إلينا غير هيابين
من حرسنا وهم يحاولون ، بعد أن غادرنا ، سلب ما نحمله من بضاعة.
لكنهم ما إن
جوبهوا بالمقاومة ، وسمعوا بضع إطلاقات انطلقت من بنادقنا (ولم تكن البنادق معروفة
لديهم) حتى تملكهم الخوف ، فأداروا لنا ظهورهم ، وولوا الأدبار مسرعين ما استطاعوا
إلى ذلك سبيلا.
وفي الأخير حاولنا
أن نخرج من السفينة بعض الأمتعة الصغيرة فأصبنا في ذلك نجحا طيبا ، ثم ما لبثنا أن
نشرنا قلوع السفينة ودفعنا بها باذلين في ذلك كل ما توفر لدينا من جهد وطاقة إلى
أن استطعنا في النهاية تحريكها وإطافتها على سطح الماء. ومع أن ما ضاع من حمولتها
كان ضئيلا في كميته إلا أن ذلك كان أكثرا قدرا بالنسبة إلى الرز والقماش والنسيج
الدمشقي والصابون والسكر وجذور نبات «الزرنب» التي تستعمل لمعالجة أوجاع الظهر.
كذلك حدث تلف كبير ببعض القمح والتين الذي استجداه ركاب السفينة منا.
كان بودنا لو
مكثنا زمنا أطول معهم إلى أن تجف أمتعتهم وتصلح سفينتهم ليصبح في مستطاعهم السفر
معنا في مزيد من الأمن عبر هذه الصحارى ، وذلك أمر أظهرنا استعدادنا التام
لإنجازه.
حدث أثناء مكوثنا
مع ركاب تلك السفينة ومساعدتنا إياهم أن
اتهمت أنا ورفيق
لي ، من قبل بعض اليهود علانية بتهمة السكر مع ربان السفينة. وكان غرضهم من ذلك
التدليل على أننا كنا من الأجانب وأن يحطوا من منزلتنا ويجعلونا ممقوتين ، لأنهم
لم يقبلوا ـ حسب تقاليدهم ـ تناول الخمر معنا. ولقد نجح أولئك اليهود في غرضهم ذاك
النجاح كله ، فما إن علم رجال الدين بهذا حتى حنقوا علينا وأخذوا قارورة الخمر
وقذفوا بها في النهر ، ثم ما فتئوا أن أخرجوها من النهر وسكبوا ما فيها من خمر على
الأرض. وكان من جراء ذلك أن اغتاظ الجند الذين كانوا يقفون معنا من هذا التصرف
فشرعوا يوجهون إلى اليهود أقسى الكلمات تعزيرا وتوبيخا وراحوا يهددون كل مسيء
بالعقاب. وفي اليوم التالي تلقى الشخص الذي تزعم تلك الحركة ، وكان عربيّا تابعا
لإحدى فرق الدراويش ، عقابا شديدا لحادث تافه وقع منه مصادفة ومن دون قصد .
وإذ كانت أمتعتنا
لما تزل مطروحة على أرض الشاطىء فقد أمضيت الليل فوق الأكياس إذ جاء دوري في
الحراسة ليلتئذ. كان أحد الأفراد يحمل بيده كوز ماء فطلبت إليه أن يناولني إياه
لأشرب منه شيئا. وحين مد يده بالكوز وهممت أن أتناوله منه ، وطأت مصادفة قيثارة
أحد الأتراك فحطمتها. ومع أن ذلك التركي كان في مقدوره أن يثور ساخطا جراء ذلك إلا
أنه ما لبث أن هدأ بعد أن علم أن لدي من الصمغ ما أستطيع أن أصلح به القيثارة. وفي
الصباح جلسنا سوية فأصلحناها جهد المستطاع. وحين رآنا ذلك الدرويش منهمكين في
إصلاحها أخذ منه الغضب مأخذه لأننا لم نساعد الآخرين في نشر الأمتعة المبتلة التي
انتشلت من السفينة الغارقة ، ولذلك تناول القيثارة من بيننا فحطمها ورمى بها في
النهر ثم عاد وهو يتظاهر بتوجيه كلماته نحونا ظنّا منه بأنه سينجح في هذا مثلما
نجح
__________________
في قضية قارورة
الخمر. غير أن صاحب القيثارة ما إن شاهد ذلك حتى تناول من الأرض خشبة كبيرة وراح
يهوي بها على رأس ذلك الدرويش وعلى أطرافه عدة مرات حتى تدفق الدم من رأسه وأذنيه.
واشتط غيظه في آخر الأمر فسحب بندقيته وحاول أن يضرب بها ذلك الدرويش وعندئذ فصلنا
بينهما فتمت تسوية تلك القضية وإحلال الصلح بينهما.
كان منظر ذلك
الدرويش مخيفا جدّا بشعره الأسود الطويل المسترسل وكانت تغطي بدنه ورأسه وصدره
وذراعيه ندوب كثيرة أحدثها هو بنفسه لأنها تعتبر من الأمور المفيدة في نظر تلك
الطائفة وغيرها ، مما يفعله غيرهم من الأتراك الذين يحتفظون بحروقهم البدنية وذلك
باستعمال جمرات متأججة حمراء أو قطع من الكتان يبلغ سمكها زهاء البوصة يلفونها
بقوة فتكون مفرطحة من الأسفل ومدببة من الأعلى على شكل هرم تماما ، ثم يشعلون فيها
النار ويضعونها على أجسامهم العارية ويدعونها تحترق وهم يتحملون ذلك بالصبر الطويل
إلى أن تنفد وتتحول إلى رماد ، وعندئذ يلفون حروقهم تلك بقماش من القطن. ويستعمل
هؤلاء الطريقة ذاتها لمعالجة الرشح من الرأس أو العين بقصد تجفيفه أو سحبه إلى
مكان آخر.
ولذلك شاهدت جملة
من هؤلاء يحمل الواحد منهم زهاء عشرين من تلك الحروق معظمها على أذرعهم وتبلغ سعة
البعض من هذه الحروق سعة «الشلن» بالإضافة إلى الندوب والجروح الأخرى. ولم أستطع أن أعرف
المصدر الذي أخذوا عنه هذه الطريقة اللا إنسانية في تجريح أجسامهم وتبضيعها إلا أن
يكونوا قد أخذوها في القدم عن رهبان
__________________
(بعل) الذين اعتادوا أن يجرحوا أجسامهم بالمدي والرماح حتى تسيل
منها الدماء ، وذلك ما اعتدنا أن نقرأه في الإصحاح الثامن عشر ، الآية الثالثة من «سفر
الملوك» .
والشيء الذي
أستطيع أن أقرره هنا هو أن هذه الندوب والحروق الواسعة في بدن هذا الدرويش إنما
أجريت حسب تقاليد الطائفة التي ينتمي إليها إذ إن هذا الرجل لا يرتدي أية ملابس ، لا في الصيف ولا في
الشتاء ، سوى قطعة يستر بها عورته. وبدلا من الملابس يرتدي أمثال هؤلاء جلود
المواشي فينامون بها ويستخدمونها بمثابة فراش وغطاء ولباس لهم في وقت واحد.
ويتظاهر هؤلاء في تصرفاتهم الخارجية بالصبر والفضيلة وكأنهم من الأموات بالنسبة
إلى هذا العالم حيث يتمسكون بشعائر الصلاة والتذوق والمشاهدة في الوقت الذي تمتلىء
فيه نفوسهم بالخداع واللؤم ولذلك يصعب وجود أحد يحبهم.
وفد علينا عدد من
رجال الدين ينتمون إلى طوائف متعددة وهم يتميزون بعاداتهم وتقاليدهم المختلفة
مثلما هو الأمر في بلادنا نحن الهولنديين. وكان من بين هؤلاء شاب قوي البنية ، حسن
التكوين ينتمي إلى طائفة يطلقون عليها اسم «الجيلانية» ولم يكن هؤلاء من طائفة
__________________
«الأكليروس» بل من
«الشلبية» أي السادة الأغنياء الذين يجدون متعة كبيرة في السفر أيام
الشباب وتحت مظاهر القدسية مثل الحجاج الذين يعيشون على حساب الغير فيجوبون بلدانا
وممالك عديدة بقصد المشاهدة والاطلاع ، والتعلم والإلمام بالتجارب.
كان هذا الشاب
يرتدي صداريّا أزرق اللون يغطي جسمه ، ويتمنطق بحزام من الشاش ، وينتعل نعلين من
جلود الشياه بالشكل الذي اعتاده أعراب الصحراء.
كذلك كان يسافر
معنا رجلان آخران أيضا كان واحد منهما يضع في كل من أذنيه قرطا كبيرا سميكا سمك
الأصبع يتدلى من شحمة أذنه على كتفه. وكان هذان الرجلان ينتميان إلى طائفة تعرف
باسم «القلندرية» . وهؤلاء يحيون حياة قاسية مضنية إذ إنهم من النساك الذين
يجوبون القفار ويصلون إلى أي مكان يستطيعون الوصول إليه.
وقد اعتاد هؤلاء
أن يقيموا الصلوات والأذان خمس مرات في اليوم ، مثلما يفعل ذلك المؤذنون من فوق
مآذن المساجد. كان أحد هؤلاء ينفصل عنا ، حين يحين وقت الصلاة ، فيرفع صوته عاليا
وكأنه لا يريد أن نسمعه نحن من على ظهر السفينة حسب بل وأن تسمعه الوحوش
والحيوانات أيضا حتى إذا ما انتهى من صلاته عاد إلينا ثانية وهو ينظر إلينا نظرات
ملؤها الجذل والورع.
أما زميله الآخر
فكان درويشا من طائفة متزمتة في تعاليمها فهو يؤدي صلاته بكل خشوع وحمية ولا سيما
بعد أن تغرب الشمس حيث يفد عليه الآخرون فيقفون سوية في شكل دائرة ثم يبدأون «صلاتهم»
ـ كما
__________________
كنت أسمعهم ـ في
صوت واطىء أول الأمر ثم يرتفع درجة بعد أخرى حيث ترتفع أصواتهم بعبارة «لا إله إلا
الله» عالية تسمع من بعيد وهم لا ينطقون بعبارة أخرى غيرها ويكررونها وهم يديرون
رؤوسهم من ناحية إلى أخرى وكأنهم ينظرون إلى بعضهم البعض ليدللوا على مقدار حبهم
بعضهم بعضا ، ومن ثم يسرعون في القراءة فلا تسمع منهم في النهاية سوى كلمة «الله» إلى أن يصيبهم الدوار ويتصبب العرق من أبدانهم.
أما الإمام فإنه
يبدأ يضرب صدره بقبضة يده وتنطلق منه نغمة غريبة ويظل يردد كلماته تلك إلى أن يغمى
عليه ويسقط على الأرض شبه ميت وإذ ذاك يلقي أصحابه عليه غطاء يدثرونه به ويدعونه
راقدا وينصرفون إلى حال سبيلهم .
وبعد أن يظل
الإمام على تلك الحالة وقتا لا بأس به وقد فتن بصلاته أو برؤيته الرؤيا ، يعود إلى
نفسه فينهض ويجلس أمام القوم مرة أخرى.
وهؤلاء المشايخ
وإن كانوا يمارسون شعائرهم هذه بطريقة تفوق ، في نظرهم ، ما نص عليه الشرع ليحملوا
الناس على الإيمان بهم تبعا لصبرهم وقسوة عيشهم وغيبوبتهم ، فإنهم قد يمارسون تحت
ستار الطاعة السرقة والأعمال القذرة كما هو مألوف عنهم. ورغم ما يتظاهرون به من
البساطة وعدم إلحاق الأذى بالغير ، فإن ما عرف من بدعهم وخبثهم قد
__________________
أفقدهم الاحترام ،
ولم يعودوا يحصلون على المزيد من الهبات كما كان يحدث ذلك قبلا. أما طريقتهم
الغريبة في أداء الصلاة فإن أبناء دينهم يقولون عنها إن مثل هذا العابد إذا ما غير
صوته الذي وهبه الله إياه إلى صوت غير طبيعي فإنه يكون بهذا قد تحول من إنسان إلى
وحش!
وفي اليوم التالي
سارت ملاحتنا سيرا حسنا فوصلنا عند الظهر إلى قلعة حصينة تدعى «قلعة النجم» تقع على الضفة اليمنى من النهر فوق ربوة ضمن أراضي أمير
العرب الذي خاض غمار حروب طويلة مع السلطان التركي ، وهذا ما استطعت أن أفهمه ولو
أنني لا أعرف لغة القوم جيدا. ولم يستطع السلطان أن يلحق الضرر بالأمير العربي
لأنه لم يستطع أن يتعقبه في الصحراء وذلك بسبب نقص الماء والزاد. ولقد بادر أكبر
أنجال الأمير فتحصن في هذه القلعة ظنا منه بأنه سيكون بمنجاة من أي هجوم
خارجي عليه ، وبذلك ارتكب خطأ فظيعا. لأن السلطان ما إن علم بوجوده هناك حتى عقد
النية على احتلال القلعة رغم كل المصاعب التي تقف في وجهه. ولهذا الغرض استنفر كل
قواته سنة ١٥٧٠ م وهاجم القلعة من ثلاثة أماكن في وقت واحد واستطال هجومه هذا
أياما ثم استطاع بهجمة خاطفة أن يحتل القلعة ويقبض على ابن الأمير وأن يأخذه معه أسيرا
إلى اسطنبول. وقد قيل عنه إنه قطع رأسه في السنة التالية.
وهذه القلعة محاطة
بأسوار قوية ، وفي داخلها برج عال ضخم ، وهي لا تزال في نظري قوية وإن كانت قد
تحولت إلى خرائب وبقيت الثغرات التي فتحت فيها على حالها دون ترميم.
__________________
هبطنا أثناء الليل
إلى جزيرة صغيرة في النهر غير مأهولة دون أن يعترضنا معترض ، وقد كنا فيها آمنين
شر الأعراب ، لكننا ما إن تناولنا طعام العشاء وذهبنا لنرتاح حتى أقبل بعض الأعراب
عند منتصف الليل نحونا زاحفين على بطونهم وهم يقصدون بضاعتنا أكثر مما كانوا
يريدون زيارتنا ، ولما لم يغامروا بالتوجه إلى سفننا قبل أن ينكشف أمرهم لدى
حراسنا فقد استقروا عند الشاطىء ، ولو لم ينكشف أمرهم لاستطاعوا سرقة بعض الأشياء
الثمينة وإن كان من الميسور استعادتها منهم وذلك لعدم تمكنهم من نقله عبر النهر.
في اليوم الخامس
من أيلول ظهر بعض الأعراب في الصباح الباكر على الشاطىء ، وانتشر عدد كبير منهم
إلى مسافات بعيدة ، كما أخذنا نشاهد بعض الأفواج كان الواحد منها يضم ما بين
أربعين وخمسين فارسا ، وقد استنتجنا من ذلك أن مضرب أميرهم غير بعيد عنا. وقد تأكد
ذلك لنا حقّا. فحين نزلنا على البر عند الظهر أقبل أصغر أنجال الأمير ممتطيا صهوة
جواد أدهم عال يحيط به رجاله وهم يبلغون المائة عدا ، ومعظمهم يحملون السهام
والرماح المصنوعة من القصب.
كان نجل الأمير
شابّا يافعا في حدود الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره ، أسمر اللون
يعتم بعمامة بيضاء من نسيج القطن تتدلى إحدى نهايتيها إلى الوراء بحوالي ذراع طبقا
لعادتهم في الملبس. وكان يرتدي عباءة طويلة مصنوعة من جلود المواشي مغطاة بالقماش
__________________
وتمتد إلى ركبتيه
، ومثل هذا كان يرتديه أفراد حاشيته بحيث كان يصعب ، بهذا اللباس الشائع لديهم ،
تمييز أحدهم عن الآخر لو لم تكن حوافي تلك العباءات مطرزة بأشرطة ذهبية كما اعتدنا
في بلادنا أن نطرز حوافي صداريات الأطفال عند الرقبة والأردان ، ولم تكن أردانها
طويلة وكانت بعض النقوش ظاهرة فيها.
ولما كانت الإتاوة
تعود إلى أمير المنطقة العربية التي يجري نهر الفرات فيها ، فقد أقبل نجله هذا
للمطالبة بتلك الإتاوة وتسلمها. وهكذا وجدناه ينزل بجواده إلى النهر ويخوض فيه
متجها نحو السفينة التركية أولا ليرى ما تحمله من سلع ولما لم يجد فيها سوى القمح
لم يمكث عندها طويلا وعاد إلى سفننا ، وكان خدمه الذين يأتمرون بأوامره قد سارعوا
في مساعدته على الصعود إلى السفينة وأجلسوه على حزمة فيها ثم شرعوا يتجولون بين
التجار يفتشون سلعهم فيفتحون هذا الكيس وتلك الرزمة ويأخذون من بعضها قليلا أو
كثيرا حسبما يشاؤون ولذلك كانوا يتأخرون بعض الوقت قبل أن ينتقلوا من تاجر إلى
آخر.
وفي الوقت ذاته
جاء القوم بطفل نجل الأمير هذا ، ولم يكن ليتجاوز السنتين ، إلى ظهر السفينة وكان
أحدهم يحمله أمامه على ظهر جواد ويسير به خلف أبيه. ولم يكن الطفل ليرتدي شيئا سوى
قميص مصنوع من القطن وفي عنقه أطواق وفي رسغيه وقدميه أساور من الذهب العربي
الخالص!.
وأخيرا أقبل خدم
الأمير إلينا ، أنا ورفيقي ، وقد كنا في مؤخرة السفينة. وقبل أن نطلعهم على شيء من
سلعنا شاهدوا بندقيتي وكانت مكسوة بعظم العاج فأخذوها مني في الحال إلى سيدهم
ليرونه إياها ، وهم في منتهى الدهشة والعجب إذ إنهم لم يشاهدوا مثلها في حياتهم
قط.
حمل نجل الأمير
البندقية بين يديه ، وسر برؤيتها سرورا بالغا ، وراح يردد قائلا إنها من صنع بلاد
الأجانب ، إنها من صنع (الفرنك) ، وذلك هو الاسم الذي يطلقونه على أبناء البلاد الأجنبية
كالفرنسيين والألمان والإيطاليين وغيرهم إذ لا يعرفون أية فروق أو مميزات بين
بلادنا. وإذ ذاك تقدمت أنا ورفيقي إلى الأمير فأفهمناه أننا قد أقبلنا مؤخرا من
تلك البلاد في طريقنا إلى الهند.
وبعد أن ألمّ
الأمير بذلك أخذ يتحدث إلينا برقة ، وأمر حاجبه بأن يتركونا ولا يفتشوا أمتعتنا ،
وأخذ يطرح علينا أسئلة عن أمور شتى ثم التفت إلى رفيقي فانبأه بأنه يظن أن قد رآه
قبلا ، وكان ذلك حقا إذ كان رفيقي يعيش في حلب ويتعاطى صياغة الذهب فيها زمنا
طويلا ، وكان هو وغيره يوفدون من لدن قنصل «فينيسيا» في حلب إلى الأمير. الذي لم يكن مكانه ليبعد كثيرا عن تلك
المدينة ، حاملين إليه هدايا من ذلك القنصل كان من بينها ثياب غالية الثمن. وحين
كان هؤلاء يفدون على الأمير يقابلون من لدنه بترحاب عظيم وكرم بالغ ، ويريهم مشاهد
من مختلف الألعاب. وقد يشاهدون لديه عددا كبيرا من الجند الأقوياء الشجعان ، ومن
ثم يعودون منه مثقلين بكرمه ، ويعدهم بتوفير الأمن واللطف لهم ولرؤسائهم. فإذا ما
حدث واستعانوا به على الأتراك أقبل على مساعدتهم مخلصا ، دون أن يخالجه الشك
باتفاقهم معهم ، إذ إنهم يقطعون مسافات شاسعة داخل أراضيه إلى أن يصلوا أراضي
الأتراك بما فيها اسطنبول وغيرها.
غادرنا الأمير
الصغير عائدا إلى مضربه الذي يقوم على تل عال
__________________
وسط سهل لا يبعد
سوى ميلين عنا ، وأخذ معه بعض رفاقنا ليحدث أباه بما خبره من أحوالنا.
كنت شديد الرغبة
في أن أحظى بمقابلة أبيه وأن أحمل بندقيتي معي ، وإن كان علينا أن نسافر عبر صحارى
واسعة ، فلربما سر بذلك ، لكنني لم أجرأ أن أفعل ذلك أمام الجند الأتراك ، واليهود
والمتسولين لأنني خشيت أن يغدروا بي ويتهموني أمام الباشا والقاضي اللذين يستطيعان
إنزال العقاب بي رغم براءتي ، كما اعتادا أن يفعلا ذلك إزاء الأجانب بل حتى نجاه
أبناء جلدتهم. وما خلا ذلك فقد تذكرت بأن أمير العرب حين كان معسكرا على مقربة من
حلب كان بعض رجاله يفدون على المدينة كل يوم لشراء الأغذية والملابس وغيرها وعلى
أثر ذلك صدرت الأوامر في حلب تحظر بيع أية أسلحة لهم ينقلونها معهم إلى الصحراء.
وبعد أن انتظرنا
أصدقاءنا بعض الوقت عادوا إلينا. وقد منعنا من الذهاب إلى أي مكان في ذلك اليوم
لأن الوقت غدا متأخرا ، وعلى هذا مكثنا في مواضعنا طيلة الليل.
ولقد قال لنا
رفاقنا إن الأمير لم يصدق قولهم حين أنبأوه بأننا قد وفدنا من حلب بل ظن أننا جئنا
من «صفد» ، وهي مدينة على بعد مسيرة يوم واحد من «صيدا» التي كان السلطان التركي قد سلبها منه قبل مدة قصيرة ،
وهذا قد يعطيه الحجة في حجزنا نحن وأمتعتنا ، ولذلك راح يصر على رأيه في هذا ،
وقال إنه قد يبعث ببعض رجاله إلى حلب مع أحدنا للتأكد من حقيقة أمرنا إلى أن نثبت
له ، بما نحمله من رسائل ، حقيقة المكان الذي جئنا منه ، وإذ ذاك سيسمح لنا
بمواصلة السفر.
__________________
على أن الشيء الذي
فهمته فيما بعد ، هو أن الأمير لم يفعل ذلك إلا لكي يضغط علينا بقصد الحصول على
الهدايا ، وهو يتلقاها فعلا ، حيث اضطر رفاقنا إلى أن يقدموا له بعض المدي المطعمة
بالفضة التي جلبوها من دمشق وكذلك بعض الأقمشة الحريرية الدمشقية .
تحركنا في السادس
من أيلول مبكرين فمررنا بين بواد مقفرة تكثر فيها الخنازير البرية التي كانت تتجمع
على شكل قطعان أحيانا. وكانت هذه البوادي تمتد إلى مسافات شاسعة ولهذا لم نشاهد
طيلة النهار سوى الأشجار إلى أن حل المساء ووصلنا إلى «القلعة» وهذه عبارة عن حصن وقرية تقع على الجانب الأيمن من النهر ،
ولا تبعد عن حلب أكثر من مسيرة يومين ، وتقوم في سهل تستطيع من رؤيته أن نعرف
المجرى المتعرج الذي كان يسير فيه النهر قبلا. وهذه القلعة ملك لأحد الباشوات
ويدعى «جون رولانا» وهو يمتلك بالإضافة إلى ذلك ، دارا جميلة في حلب. وينعم
هذا الباشا بإيرادات وفيرة وله ستون ولدا منهم ستة أو سبعة أولاد يحمل كل واحد
منهم رتبة لواء ، في حين يعيش الباقون منهم في بلاط السلطان التركي.
__________________
ولقد أمضينا الليل
كله ، على الجانب الآخر من النهر فيما وراء هذه القلعة في أرض خلاء تمتد إلى
مسافات بعيدة ، ولم نشاهد طيلة اليوم التالي سوى بضعة أكواخ للأعراب متناثرة هنا
وهناك ، كان كل واحد منها يستند على أربعة أعمدة ويغطى بأوراق الشجر ، وفي داخل
هذه الأكواخ كان يعيش عدد كبير من الأطفال كنت أعجب غالبا من كثرتهم ، وكانوا وهم
في باكر طفولتهم يهرعون إلى النهر ويتعلمون السباحة فيه بصفة جيدة إلى درجة أنهم
كانوا يسبحون في عرض النهر دون خوف.
وحين مضينا في
سبيلنا راح العرب يجيبوننا ، ولو لم يحل البعد بيننا وبينهم على الأسئلة ولا سيما
عن المكان الذي يقيم أميرهم فيه إذ إنهم يولونه قدرا كبيرا من الاحترام ، رغم
تنقلهم وتجوالهم ، فهم يظهرون له الطاعة الجماعية بشكل لا تظهره أية أمة أخرى
لرؤسائها ، ومن هذا نستطيع أن تتأكد بأن أيّا من الأجانب كان يجتاز هذه الأراضي
ويحاول أن يرى أميرهم كان يسمح له بذلك شريطة أن يرتدي مثل ملابسهم وأن يصحب أحد
المسلمين معه ليدله على الطريق وليكون ترجمانا له ، وإذ ذاك يبدون استعدادهم
لإرشاده إلى الطريق الذي يسلكه للوصول إلى الأمير ، ويدعونه يمر دونما مضايقة أو
تفتيش حين يرون أحد أبناء جلدتهم بصحبته. وهذا هو السبب الذي يدع الكثيرين من
العبيد في أطراف الجزيرة العربية يسارعون إلى الهرب دون كبير عناء أو خطر.
وكانت نساء
الأعراب تقبل علينا عادة وهن يحملن اللبن في صحون واسعة يعرضنه للبيع. ولذلك كثيرا
ما كنا ننزل إلى البر فنأخذه منهن ونقدم لهن البسكويت لقاء ذلك بسبب حاجتهن القصوى
إلى القمح كما أن مثل هذه المقايضة تسرنا نحن بدورنا.
ولقد اعتدنا أن
نأكل هذا البسكويت باللبن وقت الغداء أو العشاء. وحين يكون اللبن أحيانا كثيفا أو
تكون كميته قليلة لا تكفينا ، نعمد إلى إضافة كمية من الماء إليه.
وقد تضع
الأعرابيات هذا اللبن أحيانا في أكياس من الكتان فلا يتسرب منها حيث اعتدنا أن
نعلقه في السفينة مدة يومين أو ثلاثة إلى أن يتكثف ويتحول إلى خثارة وعندئذ
نستعمله مع البسكويت والبصل أوقات الفطور وأوقات العشاء.
وكنت أغتنم الفرصة
حين نزولنا إلى اليابسة فأروح أفتش عن النباتات الغريبة في المكان. ولقد عثرت على
أنواع خاصة من نبتة «الأزهار المحززة» وهي تشبه النوع المعروف منه في بلادنا لكن ليس لها ذات
ميزاته ، ونوعا من شجر العجرم من فصيلة ذكرها المؤرخ «كلوفيوس» وهو ذو أوراق سميكة تشبه
شجرة «الودنة» فضلا عن السذاب ونوعا غريبا من الصفصاف يسميه السكان باسمه
القديم هو «الغرب» ، بالإضافة إلى الطرفاء وهي من أنواع كبيرة وعالية تشبه أشجار
التوت والنخيل مما يمكن مشاهدتها من بعيد بسبب ضخامتها وارتفاعها وهي تشبه الطرفاء
في بلادنا لكنها أكثر ضخامة وارتفاعا ، وأوراقها طرية ذات رؤوس وردية الألوان.
والمسلمون في
الغالب يطعمون مواشيهم من الأدغال التي تنمو على ضفاف النهر ذلك لأنه لا يوجد في
الفيافي والصحارى ، حين تكون الأرض رملية هشة وقاحلة ، سوى القليل من الأعشاب أو
الزرع ، مما يجعل الخبز نادرا بين سكانها فلا يرون منه شيئا لمدة طويلة حيث يضطرون
إلى تناول أطعمة أخرى كالسمك والجبنة واللبن والودك دون أن يستعملوا الخبز معها.
فهؤلاء الفقراء لا يصيبون سوى وجبة بسيطة من الغذاء ومع ذلك فهم أقوياء وفي صحة
جيدة ويقضون أعمارا جيدة.
__________________
وفي المساء وقبل
أن يسدل الظلام سدوله ، شاهدت على الجانب الآخر من أرض الرافدين حصنا يقوم على تل
مرتفع يدعونه «تبيل» يعود إلى أحد الأمراء العرب ، وهو حصين وواسع جدّا تقوم
على أسواره عدة أبراج ، شبيه بقلعة حلب ، كما لا حظت ذلك عن بعد.
مكثنا الليل في
جزيرة قريبة من الشاطىء الأيمن ، وكدنا أن نتعرض للسرقة لو لم يكن لدينا حراس.
وكنا نراقب اللصوص ، ونطلق بعض العيارات النارية التي لم نقصد بها إصابتهم بل
إخافتهم حسب ، ذلك لأننا لو قتلنا أو جرحنا أحدا منهم لارتفع صراخهم ، ولربما
تجمعوا بالألوف انتقاما منا لرفيقهم وإذ ذاك ينهالون علينا وينهبون كل ما لدينا من
متاع وهم متشوقون لمثل ذلك جد التشوق.
ولقد حدث الشيء
ذاته في اليوم التالي حين نزلنا جزيرة غير مأهولة وسط النهر فلم نطلق عياراتنا
النارية في تلك الليلة كيلا ندعهم يتحسسون مواقعنا وينقضون علينا ، ومع ذلك فحين
قررنا أن نظل ساكنين وأن نستريح في هدوء تام ، ألموا بمواقعنا فأقبلوا في جماعات
أكثر من ذي قبل ، واقتربوا بحيث كنا نسمعهم وكانوا يتحدثون إلينا ، وإذ وجدناهم
جادين في مهاجمتنا ، نهضنا من أماكننا وتهيأنا للأمر وهتفنا بهم بأصوات عالية
ننذرهم من مغبة أي اعتداء ينوون توجيهه ضدنا وإلا فسنجابههم بمقاومة أشد مما
يتوقعونه ، وحين وجدنا أن تحذيرنا ذاك لم يكن مجديا اضطررنا إلى أن نسحب بنادقنا ،
وكنا نحتفظ بثلاث منها ، فأطلقنا الرصاص الذي أخافهم ، لأنهم لم يعتادوه ، فولوا
الأدبار هاربين وتركونا مطمئنين .
__________________
وما خلا هؤلاء كنا
نشاهد كل يوم ، ونحن سائرين في النهر ، أعدادا كبيرة منهم منتشرين فيه ، والبعض
منهم يستخدم جلودا منفوخة بالهواء ليقطع بها النهر ولا سيما حين يكون واسعا في بعض
الأماكن ولا يمكن إقامة جسر فوقه حيث لم نر أي جسر إطلاقا. وتراهم يخلعون قمصانهم
وهم لا يرتدون شيئا آخر سواها ثم يكورونها ويربطونها بأحزمتهم الجلدية فوق رؤوسهم
ويخفون فيها خناجرهم الجميلة العريضة المنحنية التي تشبه المنجل يعلقونها في
صدوغهم.
مرّت الليلة
التاسعة من رحلتنا في مرح وقد أصبحنا على مقربة تامة من مدينة «الرقة» التي تعود
إلى السلطان التركي . غير أن فرحتنا لم تدم طويلا. فقبل أن نتناول الطعام وبعض
الفواكه من أمثال الزبيب والتين والبطيخ لنبرد به غلتنا إزاء وهج الحر الشديد ،
تعرضنا مرة أخرى لخطر أكبر من الخطر الذي أصابنا قبلا ، ذلك أن سفينتنا ، وهي
الكبرى ، ما لبثت أن شلهت فرست على الرمل ، ولم نستطع إعادتها إلى الماء ،
وتسييرها في الاتجاه الصحيح فيه دون مساعدة الآخرين ، وإذ ذاك اضطررنا إلى
الاستعانة بالأعراب ولما كان هؤلاء يحملون خناجرهم
__________________
وهراواتهم فلم
نطمئن إليهم ، وأبقينا قوة من الحرس داخل السفينة ، بينما راحت بقيتنا تحاول دفع
السفينة وتحريكها وإذ لم نستطع ذلك حاولنا إفراغ السفينة من حمولتها وسحبها إلى
الماء لكننا وجدنا في مثل هذا الاقتراح مخاطرة بالبضاعة التي نملكها ولذلك استقر
الرأي بيننا على أن نسحب السفينة إلى مجرى آخر ، وإذ سألنا الأعراب مساعدتنا
ووجدناهم جادين فيها ووعدناهم بمكافأة طيبة ، على أن يتركوا أسلحتهم جانبا ، تخلوا
عن تلك الأسلحة وأقبلوا علينا وعندئذ استدعينا الحرس الذين أبقيناهم في السفينة
لمشاركتنا ، وبعد جهد نجحنا في إيصال السفينة إلى الماء العميق ، ودفعنا إلى
الأعراب ما وعدناهم به من مكافأة ، وواصلنا مسيرتنا في تلك الليلة إلى مدينة «الرقة».
الفصل التاسع
مدينة الرقة
الرقة ، وهي من
مدن ما بين النهرين ، تقع في الصحراء العربية على نهر الفرات العظيم بين مرتفعين
ولذلك لا تستطيع أن ترى أي شيء منها قبل أن تدنو منها ، وفي المدينة قلعة يقيم
فيها أمير لواء تابع للسلطان التركي وتحت إمرته (١٢٠٠) من الجنود للمحافظة عليها.
والمدينة واهية
البناء غير محاطة بسور ، وقد شيدت بعد خراب المدينة القديمة التي كانت تقع في
الجانب المرتفع منها ، كما يشاهد ذلك من بقايا سور ، وبعض القناطر والأعمدة
القديمة ، وبعض الآثار الشاخصة هناك حتى الآن ، ومنها بناية عالية قديمة لا تزال
محتفظة بقوتها وضخامتها وإن كانت أجزاء كبيرة منها قد تهدمت وتحولت إلى أنقاض. ويندر
أن يرى المرء مثل هذه البناية مما يوحي مظهرها بأنها ربما كانت قبلا مقرا للملوك
أو العظماء.
وتقوم بين
المدينتين القديمة والحالية قلعة قديمة وقوية أيضا ، فيها حامية تركية ، إذ إنها
تقع عند تخوم بلاد العرب أو فارس للدفاع عن البلاد من الخطر والغارات.
وما خلا ذلك
فالمدينة مهدمة وأراضيها خالية وليس فيها مكان ملائم يستطيع الأتراك أن يمارسوا
فيه السباق واللعب بالعصي وغيرها ،
حيث غالبا ما كنت
أجلس على الأسوار المتهدمة ، وأنظر إليهم أثناء لعبهم.
ويعزى خراب هذه
المدينة في الدرجة الأولى إلى التتر وملكهم هولاكو الذي استولى عليها سنة ١٢٦٠ ميلادية ، وذلك بعد مدة قصيرة
من استيلائه على حلب وقلعتها بمساعدة «آجتون» ملك أرمينيا.
ويدعي البعض أن
هذه المدينة هي مدينة «رغيس» التي تسمى «أديسا» أيضا حيث بعث «بيوس طوبيا» بولده من نينوى إلى صديقه «غابيل» في هذه المدينة ليسترد منه النقود التي أقرضه إياها.
ولما كانت هذه
المدينة تقع على مسيرة يوم من نهر الفرات فإنها لا يمكن أن تكون هي المدينة
المقصودة.
بعد أن نزلنا هناك
أقبل علينا ملتزم الكمارك ممتطيا صهوة جواده إلى الشاطىء وطلب إلى ربان السفينة
التركية بأن يسلمه الأسلحة والرماح والقسي لأنها محظورة إطلاقا. ولم نشهد مثل هذا
التصرف من لدن موظفي الكمارك قبلا ، ولذلك دخل هذا الموظف مع ربان السفينة في
__________________
خصام حاد ، وأخذ
أحدهما يهجم على الآخر لدرجة أننا لم نستطع في ذلك الوقت أن نتدخل بينهما مما أدى
إلى نشوب جلبة وضوضاء.
والسبب الذي دعا
ذلك الموظف إلى مثل هذا التصرف هو أن قافلتنا لم تكن متجهة إلى «ديار بكر» ،
المدينة التي تبعد مسيرة أربعة أيام من هنا وتقع على ضفة نهر دجلة السريع الجريان
، كيما يستطيع أن يحصل منا على مقدار كبير من الرسوم يستخلصها لنفسه وحده. لكن
ربان السفينة ، وهو تركي ، لم يكن يحمل في سفينته شيئا سوى القمح ولذلك لم يستطع
الموظف أن يحصل منه على شيء ، فتركه وأقبل علينا نحن الغرباء وهو يفكر في أن يصيب
منا ما يعوض به عما أصابه من خسران ، وأن يخيفنا في سبيل هذه الغاية.
ولذلك أمضى الليلة
في السفينة معنا ونام بيننا لأنه كان يخشى أن نبادر إلى إخفاء بعض السلع عنه ،
وكان في بعض الأحيان يخاطبنا بكلمات غليظة ، كما كان يردد قوله «انظروا ليس مسموحا
لنا أن ندع الأجانب يجتازون هذه البلاد ولذلك فليس أمامه والحالة هذه سوى أن يقبض
علينا بصفة جواسيس». وهذا هو الأمر الذي اكتشفه دون غيره ، وذلك أمر يكفي لحجز
سلعنا ولإرسالنا بتهمة التجسس إلى اسطنبول لنصبح إرقاء لدى سيده السلطان الأكبر!
وبعد أن استمعنا
إلى حديثه الخالي من الصواب والعقل ، وعرفنا محاولته خداعنا لم نشعر بالخوف أبدا ،
بل أخرجنا جواز سفرنا الذي حصلنا عليه من باشا حلب وقاضيها وأريناه إياه ، وإذ
تطلع فيه مليّا تأكد لديه أن ليس في مقدوره أن يتصرف تصرفا سيئا إزاءنا ، وعندئذ
ابتعد عنا ساخطا ، وشرع يخاصم تجار السفينتين سوية ويطالبهم بدفع ضريبة كبيرة ضجوا
بالشكوى المرة منها ، لكنه استمر في مطالبته ولم يقبل بأية شروط معقولة ، بل أكثر
من هذا حمل مجاديف السفن معه ليحول بذلك دون سفرنا وليضغط علينا لتلبية طلبه.
ومع أن التجار
وجدوه مجدا فيما أقدم عليه إلا أنهم لم يأبهوا به كثيرا ، ولذلك بعثوا بواحد منهم
في الحادي عشر من أيلول مع أحد الأعراب إلى ديار بكر حيث يقيم الباشا الكبير هناك ، وهو نجل «محمد
باشا» ليرفع إليه الشكوى عن هذه المضايقات والعقبات. وما إن علم موظف الكمرك بذلك
حتى تعقب الرجل مع ابنه في الحال.
لم يستطع رسولنا
مواجهة الباشا لأنه كان آنذاك في مكان آخر يدعى «الجزيرة» ولذلك طلبه رسولنا إلى مسافة ثلاثة أيام من هناك.
ولقد عاد موظف
الكمرك وأنبأنا كذبا بأن أوامر الباشا تقضي بأن ندفع له الضريبة بنسبة عشر «دوقات»
في المائة. ورغم ذلك لم يعرف رفاقنا عن هذا الأمر شيئا ولم يثقوا بما قاله ، لكنه
استطاع أن يخرج أحسن وأعظم جزء من سلعهم قبل أن يقدم إلى السفن لتفتيشها وإن كان
البعض منهم قد دفنوا بعض بضائعهم ليلا في الرمال ولم يعثر الأتراك ولا الأعراب
الذين كانوا يمرون في وضح النهار على أثر لتلك البضائع الدفينة.
وفي صباح اليوم
التالي أقبل الموظف مع رجاله ففتشوا بعناية وحذر كبيرين كل شيء لدينا ، وكان يحمل
أوامر خاصة بذلك ، ولكنه لم يعثر على شيء مما توقعه على مقربة من المكان. وحين كان
منهمكا في عمله هذا عاد الرسول الذي بعثنا به فأخبرنا بأن الباشا كان غير ممتن من
المعاملة الظالمة التي عاملنا الموظف بها خلافا لأوامر وقوانين رئيسه السلطان
الأكبر ، إذ احتجزنا مثل هذه المدة الطويلة ومنعنا من الملاحة
__________________
في النهر. ولذلك
كتب الباشا إلى أمير اللواء الذي في جهتنا ، وأمره ـ مهددا إياه بالإعدام ـ بأن
يتخذ كل الإجراءات التي تكفل عدم احتجازنا طويلا ، وأن يقبض على موظف الكمرك ويبعث
به مخفورا إلى اسطنبول ليقدم إلى المحاكمة التي تعقد مرة واحدة كل خمسة عشر يوما.
ولقد خشي الموظف
كثيرا مما سمعه لأنه قد يدفع حياته ثمنا لجريمته معنا.
وفي الوقت الذي
بقينا فيه محتجزين كالأسرى على ضفة نهر «بابل» ونحن ننتظر بفارغ الصبر ساعة إطلاق سراحنا ، غادر شيخ
البادية وحاشيته من هناك في اليوم الحادي والعشرين من أيلول متجها إلى الجنوب في
أعداد كبيرة من رجاله ، بحثا عن مرعى أفضل لمواشيه وخيله وإبله ودوابه ، يعوض به
عن مكانه السابق والذي لا يوجد فيه الكثير من القرى والأسواق التي قد يقيمون فيها
طويلا. كما أن هؤلاء الأعراب لا يرغبون في الاشتغال في الزراعة ، ولا في التجارة ،
بل يكتفون بقدر كبير من الماشية والمزيد من الأعشاب لإطعامها والقيام بأودها.
ولذلك تراهم حين يصلون إلى جدول تنمو عنده الحشائش والأدغال يسارعون إلى إقامة
خيامهم على مقربة منه ويمكثون هناك إلى أن تضطرهم الحاجة إلى الرحيل والبحث عن
مكان آخر غيره.
وعند الرحيل يأخذ
الأعراب معهم كل رجالهم ونسائهم ومواشيهم وحاجياتهم حسبما شاهدتهم على تلك الحالة
في هذا الوقت حين أقبلوا على هذه المدينة بأعداد كبيرة ، الأمر الذي دفع بالأتراك
إلى أن يغلقوا أبوابهم طيلة أربعة أيام ، حتى انتهى مرور أولئك الأعراب بالمدينة. وكنت
أراهم وهم على ظهور الخيل مسلحين بالرماح والسيوف والقسي وغيرها. وهم يفعلون ذلك
نفسه حين يمتطون ظهور الإبل التي يملكون
__________________
أعدادا كبيرة منها
ولا سيما عندما ينتقل شيخهم من مكان إلى آخر كما ذكر لي ذلك البعض منهم ، فقد يصل
عدد تلك الإبل ، بصفة عامة ، إلى مائة وخمسين ألف رأس. ولقد شاهدت أنا بنفسي في
إحدى المرات ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف بعير. وهذه الإبل من الحيوانات القوية
الصبورة الملائمة لحمل الأثقال ، إذ إنها تتحمل العطش في الحر الشديد لمدة ثلاثة
أيام متوالية وهي تتبول بين سيقانها الخلفية ولذلك ينبغي على الذين يسيرون وراءها
في القافلة أن يكونوا على حذر تام كيلا تصيبهم ببولها!.
ولما كانت خيول
الأعراب أصيلة ونظيفة ومناسبة للركوب ، فإنه يندر أن يطعموها أكثر من مرة واحدة في
اليوم ، ولو أنهم يمكثون على ظهورها طيلة يوم كامل ويقطعون بها مسافات طويلة من
الأرض الخلاء. والمعتاد أن يجزوا الشعر من أطرافها وذيولها فتغدو ذيولها تلك أشبه
بذيل الأسد. ونساؤهم وأطفالهم يركبون الحمير الصغيرة والإبل ، إذ يجتمع كل ثلاثة
أو أربعة منهم سوية في صناديق ، كما هو مألوف في بلادنا الأوروبية. وهم سمر الألوان أشبه
بالغجر عندنا. ويؤلف العبيد السود زهاء الربع منهم ولكن اختلاف اللون ينجم عن كثرة
السفر والتجوال من مكان إلى آخر يكثر السود فيه ، وقد يتخلون عن زوجاتهم ليتزوجوا
من السود في المكان الذي يأوون إليه.
ولا يضرب شيخ
البادية هنا خيامه دوما إلا في الحقول ولا يقيم في أماكن مقفلة أو محاطة ، غير أن
مثل هذا قليل في الوقت الحاضر ولا سيما بعد أن نكب بفقدان ولده. ولذلك أخذ يتنقل
من مكان إلى آخر
__________________
أشبه بسعاة البريد
فلا يعرف أحد مستقره. فهو يصعد أثناء الصيف إلى أقصى الشمال بينما ينحدر في الشتاء
إلى الجنوب ، وبذلك يتجنب الحر والبرد معا ، ويصيب أمتعة وزادا أفضل له ولرجاله
ومواشيه. وقد يحدث كثيرا أن يقترب الأعراب في مسيراتهم هذه من المناطق التركية ،
وأن يقترب الأتراك ، هم بدورهم ، من المناطق العربية ، ولذلك كانت تنشب بين أميرين
كبيرين من الطرفين خلافات تؤدي إلى حروب دموية. ومع ذلك وعلى الرغم من هذا كله ،
فقد علمت بأن التفاهم قائم بين الطرفين ، إذ تم الاتفاق بينهما على أنه في حالة
دخول سلطان الأتراك في حرب مع جيرانه ، فإن على أمير العرب أن يهب لنجدته والدفاع
عنه ، ذلك لأن السلطان حين يكتب إلى أمير العرب يكتب إليه كابن عم وصديق له ،
ويدفع إليه ستين ألف دوقة سنويّا كمرتب أو أجرة مقطوعة. وفضلا عن ذلك يبعث السلطان
إلى شيخ البادية الجديد ، الذي يأتي في أعقاب وفاة الشيخ القديم ، بكسوة تحمل
شارته بالإضافة إلى الهدايا الأخرى ، والاحتفالات الاعتيادية ، ويهنؤوه بوصوله إلى
العرش ، ويجدد ويؤكد تحالفه معه. وتساهم ديانتهما المشتركة بقسط غير ضئيل في هذا
الشأن ، فبالإضافة إلى شعائرهما والنقاط الأخرى المشتركة تتمسك أمتاهما بذات العقيدة.
والأعراب ، مثل الأتراك ، يتزوجون بنساء كثيرة ولا تعظم الواحدة من نسائهم نفسها
أمام الأخرى لأنهن منحدرات من آباء طيبين ولذلك لا تستثنى واحدة منها ـ باعتبارها
من ذرية عظيمة ـ من النهوض بأعباء العائلة ، ولا تخضع الفقيرة منهن إلى الأخرى
لأنها تحدرت من ذرية فقيرة. فقد كانت إحدى زوجات أمير العرب مثلا ابنة رجل يملك
معملا للنجارة في الرقة فهي وإن كانت من أصل واطىء إلا أنها كانت محترمة مثل بقية
الزوجات ، وأبوها وإخوتها من الرجال المحترمين ، وقد أقبلوا إلينا وأبدوا أسفهم
للأذى الذي أصابنا على يد جابي المكوس.
خلال إقامتنا هناك
أقبل علينا شاب عربي نبيل ذو قرابة مع شيخ البادية وكان يصحبه عشرون عبدا مجهزين
بالقسي والرماح. كان هذا الشاب يعتم بعمامة بيضاء جميلة ويرتدي قفطانا طويلا
بنفسجي اللون مصنوعا من الصوف في حين كان عبيده حفاة يلبس البعض منهم طرابيش سوداء
وثيابا من النيلة الزرقاء ذات أردان واسعة ، ويتمنطقون فوقها بأحزمة جلدية يعلقون
بها خناجرهم المعقوفة كما هي عادتهم في الملبس.
وحدث أن كان البعض
منا ذات مرة فوق أسوار المدينة العالية فشاهدنا تحتنا منظرا جميلا في الوادي الذي
يجري فيه نهر الفرات الكبير ، إذ أقبل إلينا ذلك الشاب النبيل نفسه فجلس مع حاشيته
قبالتنا وقدم إلينا بعض الزبيب والحمص الجاف فتقبلنا منه ذلك شاكرين. ولكي نظهر
شكرنا له قدمنا له نحن بدورنا شيئا من اللوز والجوز والتين وبعض الحلوى التي
جلبناها معنا من حلب ، فتقبلها منا بكل رقة ، حيث شرعنا كلنا نأكل ذلك سوية حتى
إذا أتينا على ذلك كله ، استدعى الشاب أحد موسيقييه فأمره أن يعزف لنا مقطعا من
موسيقاه وكانت الآلة التي يعزف عليها شبيهة عند رقبتها بالقيثارة وكنا نتوقع أن
نسمع منها أنغاما نادرة لكنني حين نظرت إليها وجدتها لا تحوي سوى وتر واحد أشبه
بالأوتار التي يستعملها العرب في قسيهم . ثم شرع يعزف بعض أنغامهم بفن ولباقة تثير المرء بيسر ،
وظل يوالي العزف طيلة ساعتين ورغم طول الوقت فقد سررنا بعزفه كثيرا.
على مقربة من
النهر عثرت على نوع من شجر الأكاسيا يحمل ثمارا حمراء وغبراء اللون يدعوها الأعراب
بالشوك والشاموت كما وجدت
__________________
بعض الأشجار
الأخرى التي يسمونها بالعاقول ، ويذكر «ابن سينا» أن (المن) يسقط بصفة رئيسة في
مقاطعة (خراسان) .
وبالإضافة إلى ذلك
هنالك عدد من أنواع الطحالب وأعشاب صغيرة ذات سيقان واطئة ذكرها (ديوسقوريوس) ،
وأنواع أخرى غيرها وصفها العالم كارولوس كلوفيوس وصفا صحيحا في الفصل الخامس
والأربعين من المجلد الثاني من مؤلفه عن «تاريخ النباتات في البلدان الأجنبية».
وهناك أنواع أخرى
لأعشاب لطيفة وغريبة تنمو بكثرة في الرمال. ولكل واحدة من هذه النباتات ما بين خمس
وثماني سيقان يدخل أحدها في الآخر ولها مفاصل كثيرة ولذلك تنمو وهي تزحف فوق الأرض
أكثر مما تنمو قائمة. وتنبثق من كل واحدة ثلاث أو أربع أوراق مدورة تشبه أوراق شجر
السماق أو الزعتر وتظهر فوق كل نبتة من هذه نجمة تشبه الزهرة البيضاء ذات ست
أوراق مدببة وهي بهذا تكون شبيهة بنبتة (الأورنبثو غالوم) المعروفة عندنا ، وكل واحدة منها ذات سوق خاصة ، ولم أر
فيها أية حبوب وكانت جذورها صغيرة ونسيجية وهي مشابهة في شكلها للنبتة المتعددة
الأوراق التي ذكرها ديوسقوريوس.
وإلى جانب ذلك
شاهدت أنواعا أخرى من الطرفاء العالية والخلنجان وغيرها وكلها تنمو بكميات وفيرة
وفي مساحات تمتد على ضفة النهر إلى أميال عديدة.
__________________
الفصل العاشر
مدينة دير الزور
تنفيذا للأمر
الحاسم والجيد الذي أصدره الباشا نجل محمد باشا استطعنا أن نتحرر من محتجزنا
الطويل فتحركنا ظهر اليوم السابع والعشرين من أيلول فأمضينا عدة أيام وقطعنا
مسافات بعيدة ونحن لا نرى على البر ما يستحق الذكر سوى أكواخ قليلة من القش انتشرت
هنا وهناك يسكنها الأعراب مع عوائلهم ليحموا بها أنفسهم من الحر والمطر والندى
الذي يكون في هذه الأصقاع أكثر وقعا.
لقد دهشت من هذه
الحياة التي يحياها أولئك الناس البائسون مع ذلك العدد الكبير من الأطفال في هذه
البقاع الرملية الجافة وهم لا يملكون شروى نقير. فقد وجدت هؤلاء الناس يعيشون في
ضنك شديد. وكثيرا ما كنا نشاهد البعض منهم يقبل علينا سباحة في النهر ويتقبل منا
ما نقدمه إليه من مآكل.
وبعد أن استمر
ظهور هذه الصحارى الرملية زمنا طويلا اجتزناها في النهاية إلى تلال مقفرة عالية لم
نر فيها أثرا لأرض مزروعة ولا مروج ولا بيوت أو مستقر بل حتى ولا موطأ قدم ، ذلك
لأن الناس الفقراء الذين يعيشون هنا لا يسكنون البيوت بل يسكنون الكهوف والخيام
كما هي حالهم في الصحراء.
ونظرا لشدة الحر
والجفاف فقد غدت التربة قاحلة ولذلك فهم لا يستطيعون المكوث فيها طويلا حيث لا
توجد قرى ولا سكان وهذا ما يجعلهم يطوفون في الأرض صعودا ونزولا ، وقد يغيرون على
القوافل فيسلبونها في بعض الأحيان.
وهذه الجبال ، كما
علمت ، تمتد إلى نهر الأردن والبحر الميت والبحر الأحمر وغيرها حيث تقوم هضبة
سيناءو (حرب) ومدينة (البتراء) التي دعاها النبي أشعيا «بتراء الصحراء».
والأعراب الذين
يعيشون في هذه الصحارى وفي أطرافها من الرجال المشهورين في استعمال السهام والقسي
وقذف النبال التي يصنعونها من القصب ، وهم أناس كثيرو العدد ويخرجون بجماعات كبيرة
في الغالب. فهم من أمة عريقة وهم متحدرون من أولاد «إسماعيل» وبصفة رئيسة من نجله
الأكبر (نبايوت) ولذلك أطلق عليهم لقب «النبطيين» المحبين للحرب ، وبلادهم
هي بلاد النبط التي أتى على ذكرها (يوسفس) في الفصل الحادي والعشرين من المجلد الأول من كتابه ،
__________________
إذ يقول إن أنجال
إسماعيل الاثني عشر قد أنجبهم من زوجته المصرية (وأمه تدعى هاجر) ولذلك سموا باسم (الهاجريين) كما نعرف ذلك في الفصل الأول
والإصحاح الأول من «الأسفار» وهؤلاء هم من سكان تلك البلاد أيضا ، كل هؤلاء كانوا
يمتلكون البلاد الواقعة ما بين الفرات والبحر الأحمر ويطلقون عليها اسم بلاد
النبطيين وقد يكون (المدينيون) الذين اشتروا «يوسف» من إخوته وحملوه معهم إلى مصر ، هم من سكان هذه المناطق
أيضا.
ويطلق «بليني» على
نفس البلاد اسم سينا (لأنه ليس فيها من
السكان سوى أولئك الذين يسكنون الخيام).
نستطيع أن نستخلص
من ذلك كله بأن كلّا من النبي أشعيا في إصحاحه الستين ، والنبي داود في الإصحاح
مائة وعشرين من الزبور ، قد تحدثا عن هؤلاء القوم ، ولا سيما حين أشار النبي داود
إلى خيام بلاد «قيدر» والتي فهم عنها أنها بلاد تستوطنها أقوام تسكن الخيام
وإنها قد أخذت اسمها هذا من «قيدر» نجل إسماعيل وكان أبوه هذا ، وهو طفل عجيب ، قد
ولد من فتاة تدعى (هاجر) فرحل قيدر مع أمه يجوبان
__________________
الصحراء. وقد
اشتهر بعبارته التي يقول فيها «من أنا؟ إنني في (مجيئك) وأنا أسكن في خيام «قيدر».
وفي أيامنا هذه
يدعى هؤلاء القوم وغيرهم باسم العرب وقد تعاظم نفوذهم كثيرا تحت زعامة «محمد» (وأمه
من أحفاد إسماعيل) فانتشروا انتشارا واسعا في الأرض. ولقد كان هؤلاء في عهد
داود ، أمة قوية جدّا لأن داود كان يتضرع إلى الله ـ كما ورد ذلك في الزبور الثالث
والثمانين ـ بأن يعاقبهم ويهلكهم ويشتتهم لأنهم كانوا أعداء له.
أعود الآن إلى
حديثنا السابق فأقول بأن الأعراب كانوا يلحون علينا بالسؤال عن المكان الذي كان
يقيم فيه أميرهم في ذلك الوقت. ولذلك كانت لرئيسنا مصلحة في التعامل معهم ومن هنا
نستطيع أن نتبين مدى حبهم واحترامهم الشديد لأميرهم .
على أنهم لم
يكونوا جميعا ينظرون إلينا نظرتهم إلى أجانب ولم يعتبرونا من الغرباء.
وكثيرا ما كان
يحدث في بعض المناسبات أن نغير زي عمائمنا ونترك طرفا منها يتدلى إلى أسفل مثلما
يفعلون أنفسهم ذلك إذ إن هذا يكون بمثابة ظل يحميهم من الحر الذي يشتد كثيرا في
بلادهم. ومع ذلك فإن أي امرىء يستقصي أخبار أميرهم أو يروم الحضور يقدم له بدلة
__________________
من الملابس أو
غيرها ، أو يريد أن يمر به ، أو أن يستكري أحدا منهم ليدله على الطريق إلى مكان ما
، أو أن يجتاز بلادهم ، لا بد وأن يجد في الحال واحدا منهم مستعدا للقيام بمثل هذه
المهمة وتأديتها بثمن بخس. على أنه لا توجد بين الأتراك مثل هذه الطاعة. لأنك إن
طلبت إلى الأتراك أن ينجزوا لك أمرا ما باسم سلطانهم فإنهم لا يستجيبون إلى ذلك
إلا إذا كان مثل هذا الأمر يحقق لهم أرباحا وفيرة ، ولو استعنت بأحد الأدلاء من
الأتراك لاقتضاك هذا قدرا كبيرا من النفقة أكثر مما يتقاضاه الدليل العربي.
ويتذكر الأعراب
سيدهم كل يوم ويندر أن يتحدثوا عن شيء آخر سواه ، فيتحدثون عن ثرائه واتساع ملكه
بفخر ومباهاة ، لأن جزءا من مملكته يعود إليهم أنفسهم ولهذا فإن عليهم أن
يحترموها.
لم ننفق أنا
ورفيقي في هذه الرحلة النهرية شيئا كثيرا ، وذلك لأن المدن كانت على مسافات بعيدة
إحداها عن الأخرى ، بحيث لا نستطيع أن نبلغها لنتزود منها كل يوم بالحاجيات
الضرورية ، أو نجوس أماكن الراحة فيها (كما نفعل ذلك في بلادنا حين نمخر عباب نهري
الدانواب والراين).
ولهذا السبب كنا
مضطرين إلى أن نقنع ببعض الأطعمة الخفيفة أو غيرها ، أو أن نكتفي باللبن الرائب
والجبنة والفاكهة والعسل وما سواها ، فنتناول هذه الأطعمة مع الخبز ، ونستمتع
بتناولها.
والعسل في هذه المناطق
جيد جدّا وهو من نوع أبيض اللون ويحمله القوم هنا في القوافل والسفن في مزاود من
الجلد تملأ به ، وهم يقدمونه إليك في أقداح صغيرة ، ويضيفون إليه قليلا من الزبدة
، وبذلك تستطيع أن تتناوله مع البسكويت.
وكنت حين أتناول
مثل هذا الصحن أتذكر «يوحنا المعمدان» وكيف
بشر بسيدنا ، وكيف
كان هو نفسه يتناول العسل في الصحراء مع الأطعمة الأخرى .
وما خلا ذلك فحين
كنا نفكر في تناول طعام الفطور ، كان البعض منا حين ينزل آمر السفينة إلى البر
ليلا ، يسارع إلى البحث عن حطب في الوقت الذي يكون فيه البعض الآخر قد حفر حفرة في
الأرض عند الشاطىء في شكل موقد لنشوي فيه ما لدينا من لحوم. وهكذا تتناول كل جماعة
منا ما ترغب في تناوله أو ما تحتفظ به لديها من طعام. فالبعض منا يطبخ الرز والبعض
الآخر يطبخ البرغل وغيره.
وحين يودون تناول
خبز طري ، خلال فقدان البسكويت يأتون بالدقيق والماء فيصنعون منهما عجينا يقطعونه
على شكل أقراص واسعة سمكها سمك الأصبع ثم يلقون بها في موقد محفور في الأرض ،
ويغطونها بالرماد والفحم ، ويقلبونها عدة مرات إلى أن تنضج وتكون هذه الأقراص طيبة
الطعم جدّا عند تناولها .
ويحتفظ بعض
الأعراب في خيامهم بصحون من الحجر أن النحاس لصنع الخبز.
في اليوم الرابع ،
وهو آخر يوم من أيلول وصلنا عند الظهر إلى
__________________
نهاية سلسلة
الجبال وكانت تقوم أمامها وعلى هذا الجانب من النهر قلعة كبيرة فوق تل عال ، شيدت
مربعة الشكل على يد أناس يسمونهم «الصليبيين» ولها فتحتان تنحدران إلى النهر في حين تؤلف الفتحة الثالثة
طريقا واسعة إلى الجبل وهذه القلعة تشبه في وضعها قلعة «بادن» بسويسرا ومع أن القلعة مهدمة إلا أن جدرانها لا زالت قوية جدّا
سواء في القمة أو الجوانب وعلى الأخص الجدران المتجهة نحو الجبل والنهر ، والقصد
من ذلك هو الحيلولة دون الوصول إليها من ناحيتي النهر والجبل معا. ولا تزال بعض
أبراج المراقبة قائمة فيها عند الاتجاه نحوها من ناحية الجبل ، وهذه الأبراج لا
تضم سوى ثلاثة أو أربعة جنود وما سوى ذلك فهي في شكل خرائب لا تسكن فيها سوى
الطيور والهوام ، وقد ظهرت أعداد هائلة من هذه الطيور على شاطىء النهر ، منها «مالك
الحزين» ونوع من البط كبير الحجم زاهي الألوان سماها (أرسطو) باسم (بليكان) وسماها غيره باسم (أونوكروتالي) وقد أشار إليها النبي «صفنيا» في إصحاحه الثاني عند ما أنذر أهل نينوى والآشوريين والعرب
بالعقاب.
__________________
وهناك أنواع أخرى
سوداء اللون ذات أعناق طويلة مما شاهدته بكثرة أثناء سفرتي إلى فلسطين ولا سيما
على مقربة من (عكا) بين الجبال وشاطىء البحر ، ويبدو أن هذه أنواع من صقور
البحر وهي تعيش على السمك أكثر من أي غذاء آخر.
وعلى مسافة ستة
أميال إلى الجنوب وعند الشاطىء الآخر لنهر الفرات يقوم حصن آخر يدعى «الصليبية
الواطئة» على ضفة عالية من النهر. ولما كنا قد مررنا سريعين بهذا
الحصن فلم نستطع اكتشافه بشكل جيد.
ولقد سررت كثيرا
بما عرفته عن هذين الحصنين ، وعن الطريق الذي يسلكه حكام الجزيرة العربية أو
ملوكها ، ولكن اللغة التي لم أكن ألمّ بها جيدا كانت تعوقني عن ذلك. وحتى لو كنت
قد عرفت هذه اللغة جيدا ، وأجريت ما فيه الكفاية من التحري عن هذه الأشياء ، فلن
أستطيع أن أنجز ذلك كله دون خطر التعرض للاعتقال بتهمة التجسس ، ذلك لأن القوم
سرعان ما يشتبهون بالأجانب في أي حادث طفيف يحدث ، وعلى هذا فإن التجارة في هذه
الأنحاء لا تمارس من دون المزيد من الخسائر والأخطار.
شاهدنا فيما وراء
الجبال في هذه الأراضي الواطئة مساحات شاسعة
__________________
من الأرض المزروعة
وفيها من السكان العرب أكثر مما شاهدناه قبلا ، وقد نزل ربان سفينتنا إلى إحدى
القرى ليشتري لنا بعض الأطعمة لسفرتنا المقبلة حيث اعتاد السكان أن يجلبوا إلينا
اللحم والبطيخ لبيعه لنا.
حدث هنا في منتصف
الليل أن خرج أحد الجنود الأتراك إلى شاطىء النهر للاستمتاع وحين كان منشغلا بذلك
زحف أحد الأعراب إليه فألقى به في النهر وهرب قبل أن يتبينه ، وراح ذلك التركي
يصرخ وسط النهر طالبا النجدة. ولقد سمعت أنا ، حين كنت أقوم بمهمة الحراسة في تلك
الليلة ، صراخه فأسرعت وبندقيتي في يدي وأنا أتعقب صوته حتى وصلت إلى مكانه ، وإن
كان مظلما إلا أنني استطعت أن أتبينه وأن أسحبه من الماء وآتى به إلى السفينة.
ولقد سر جميع الأتراك بذلك لأنني تحركت بكل قواي لصالحهم فراحوا يزجون علي الثناء
طوال الطريق إلى أن وصلنا بغداد حيث مقر الحامية التي أرسلوا لتعزيزها.
في اليوم الأول من
تشرين الأول ، وقد استمرت رحلتنا ، أقبل سعاة البريد في الصباح الباكر إلى جانب
النهر وكانوا ستة من العرب يمتطون الخيول ، ليستفسروا منا عما إذا كان شيخهم قد
رحل من هناك ، وأين يمكنهم العثور عليه إذ إنهم كانوا يحملون إليه رسائل من
السلطان ولا بد لهم أن يتعقبوه إلى أن يجدوه. وقد أنبأهم ربان السفينة (وهو الشخص
الذي يتوجه كل امرىء بالسؤال إليه) بأننا قد شاهدناه في إقليم يدعى (الخابور) وقد ارتحل عنه مع رجاله متوجها إلى الجزيرة العربية وفي
مقدورهم أن يعثروا عليه هناك. وبعد هذه الاستفسارات غادرنا السعاة بينما واصلنا
نحن مسيرتنا فشاهدنا أمامنا وعلى بعد ، مدينة على الجانب
__________________
الأيمن من النهر
تدعى (سكرية) تخضع لحكم أمير العرب قال الأتراك عنها إنه لا يسكنها أحد
سوى كبار اللصوص وهم لا يخضعون لأي سيد آخر سوى سيدهم.
ولقد مررنا بهذه
المدينة واتجهنا مباشرة نحو «الدير» وهي مدينة أخرى ، فأصبحنا على مسافة ثلاثة
فراسخ.
والعرب لا يقيسون
المسافات بالفراسخ لأنهم لا يعرفون سوى القليل عنها بل قد لا يعرفونها قط ، وإنما
يحسبون المسافات بأيام السفر. وسبب ذلك أن مدنهم تقع على مسافات بعيدة يضطرون
إزاءها إلى الغوص في أعماق الفيافي عدة أيام قبل أن يصلوا إلى تلك المدن.
قبل أن نبلغ تلك
المدينة راحت إحدى سفننا تجري بسرعة نحو جانب واحد متجهة إلى أحد فروع النهر الذي
يمر بالمدينة (حيث ينقسم النهر هنا إلى عدة فروع) وسرعان ما غطست في الطين وتوقفت
عن السير. وما إن رأى الربان ذلك حتى نزل من السفينة التي كان فيها حالا ، وأرسل
رجاله لمساعدة رجال السفينة المتوقفة. وهنا توفر لي بعض الوقت لفحص النباتات
والأشجار القائمة عند الشاطىء حيث شاهدت الكثير من الطرفاء ونوعا خاصا من الصفصاف
يسميه السكان باسمه العربي القديم وهو «الغرب» وهذه الأشجار عالية وتنتشر بكثرة
وأغصانها أقوى وأكثر لينا حيث تصنع منها المرابط والمشدات بالشكل الذي نفعله نحن
في بلادنا.
أما شجرة الكينا
فهي ذات لون أصفر شاحب وأوراقها من ذات اللون طويلة عرض الواحدة منها زهاء أصبعين.
ولما كنت قد وجدت هذا الشجر جافا بلا زهر فلست أستطيع أن أقول شيئا عن أزهاره
وأثماره (وقد أشار ابن سينا إلى ذلك في الفصلين ١٢٦ و ٦٨٦ من كتابه).
__________________
رفض التركي الذي
يقود السفينة الموسقة بالقمح ، أن يتوقف إلى أن نخرج السفينة الغاطسة من الوحل ،
وواصل سفره ، ولكن سرعان ما تحطمت سفينته تلك وفقد قدرا كبيرا من القمح الذي يريد
إيصاله إلى بغداد التي كان يسميها باسم (بلداك) ليبيعه هناك نظرا لقلة الغلة فيها
بسبب انحباس الأمطار وعدم سقوطها طيلة سنتين ونصف السنة. ومع ذلك ، وكما قالوا ،
فإن المطر إذا ما سقط مرتين أو ثلاثا في السنة كان ذلك كافيا لمسرة القوم
وإسعادهم.
بعد أن كافح
رجالنا لأكثر من ساعة حتى أفرغوا السفن من حمولتها عادوا إلينا ثانية كيما نبدأ
حركتنا في تلك الليلة إلى مدينة «الدير». غير أن بعض الصخور كانت تعترض طريق
السفينة ، وكان المرور فيما بينها ينطوي على مخاطرة. ولذلك ما إن فهم بعض ملاحي
السفينتين الأخريين عمق الماء حتى اقبلوا لمساعدتنا حيث استطعنا الخروج من المنطقة
الخطرة بسلام.
تقع مدينة «الدير»
، وهي ليست كبيرة وتخضع لحكم السلطان ، على هذا الجانب من النهر فوق مرتفع . وتقوم فيها مساكن حسنة البناء. وقد وقف عدد كبير من الناس
لمشاهدتنا ونحن ندخل إلى المدينة وكانت أسوارها والخنادق المحيطة بها شاخصة
للعيان.
وحين وصولنا لأول
مرة ظننا أن في مستطاعنا أن نتفاهم مع موظف الكمرك حول المكس المفروض على سلعنا
ونتحرك ثانية ، لكننا لم نجده في المدينة فاضطررنا إلى أن نمكث فيها مدة ثلاثة
أيام انتظارا لمقدمه إليها. وفي الوقت ذاته تعرفنا إلى سكان المدينة وقد وجدناهم
حسني الصور أصحاء الأبدان كثيري الجشع لكنهم مع ذلك كانوا أكثر انتظاما وتأدبا من
غيرهم. فقد كانوا يزوروننا من دون كلفة ، ويتحدثون إلينا
__________________
برفق ، وهكذا وجدنا
فرقا شاسعا بينهم وبين غيرهم ممن سبق لنا أن شاهدناهم قبلا.
وحين قصدنا موظف
الكمرك وجدناه لم يكن أقل تأدبا من غيره ، فقدم لنا صحنا كبيرا من الزبيب وأنواعا
أخرى من الحلويات محاطة بقطع من الصابون (كما هي العادة الجارية في هذه البلاد)
وهذا ما اعتاده هو وعائلته أيضا ، وفي مقابل ذلك قدمنا له ولجماعته أوراقا بيضاء
تقبلوها بشوق وسرّوا بها كثيرا (مثلما يسر الأطفال في بلادنا حين نقدم لهم شيئا
فريدا أو مسرا لهم) وكانوا ينظرون إلى تلك الأوراق ويبتسمون.
والأرض هنا خصبة
غنية بالقمح والشعير والقطن وغيره بالإضافة إلى البساتين الواسعة الحسنة ، ومزارع
الخضار المنتشرة على ضفاف الأنهار والتي تضم مختلف الثمار والأشجار ومنها الرقي
والخيار والبطيخ التي توجد بوفرة حيث يستطيع المرء أن يشتري أربعين بطيخة كبيرة
بمبلغ (أسبر) الذي يعادل كل ثلاثة منه «معدنا» واحدا أي أكثر من قيمة (البني)
عندنا. وبالإضافة إلى ذلك تكثر أشجار النخيل والليمون والبرتقال وغيرها مما لم
أستطع تمييزه عن بعد.
الفصل الحادي عشر
مدينة «عنة»
بعد أن دفعنا
الرسم الكمركي إلى «الملتزم» الذي كان على قدر كبير من الأدب بالقياس إلى الموظف
الذي شاهدناه في الرقة ، وتزودنا بالحاجيات ، وضعنا نصف الحمولة في سفينتنا كيما
نسحبها من الفرع إلى النهر ثانية. وإذ ذاك نقلنا بقية الحمولة إليها في زوارق
صغيرة ، وهكذا أقلعنا من هناك في مساء اليوم الرابع من تشرين الأول فأمضينا الليل
كله غير بعيدين عن مدينة الدير.
وفي صباح اليوم
التالي استأنفنا رحلتنا فسارت بنا السفينة سيرا حسنا حتى الظهر حين وصلنا إلى مكان
ضحل وواسع في النهر لم يعرف رباننا كيف يخرج السفينة منه. وإذ كان مضطربا دائب
التفكير ظهر على الشاطىء بعض الأعراب فأشاروا لنا إلى المجرى الذي يجب أن نسير فيه
لكننا لم نثق بهم لأننا سمعنا قبلا بأنهم قد أغرقوا بعض الأحجار الكبيرة
__________________
قبل شهر مضى ،
وأقنعوا ملاحي إحدى السفن بأن يمروا من هناك ، ولم يكتشف الملاحون تلك الخدعة إلا
بعد أن تحطمت سفينتهم إثر ارتطامها بتلك الأحجار وغرقت. وذات الشيء فعله هؤلاء
الأعراب مع عدد آخر من السفن تعرضت للخطر نفسه ولم يستطع من كان فيها إنقاذ أنفسهم
مما أصابهم إلا بعد عدة أيام.
على أننا حمدنا
الله وشكرناه إذ خرجنا من ذلك الموضع خلال ساعة واحدة بعد أن سحبنا سفينتنا قليلا
إلى الوراء ثم دفعنا بها إلى الماء العميق الغور ، مما أثار دهشة أولئك الأعراب.
أما السفن الأخرى
التي كانت تسير مع سفينتنا ، فمع أنها لم تتأخر طويلا إلا أننا مع ذلك بذلنا
المزيد من الجهود لإخراجها من الماء الضحل ، إذ كانت تلك السفن أقل طولا وأقعارها
مجوفة وهي وإن كانت تستدير بسرعة إلا أنها لم تنزلق على سطح الماء مثل انزلاق
سفينتنا ذات القعر المسطح.
وفي وقت مبكر من
الغروب شاهدنا على مسافة غير بعيدة في الجانب الآخر من النهر قلعة تقوم في سهل
تدعى «سيري» ، ذكر الأعراب عنها أنها قد تهدمت منذ سنين عديدة ، وأن
نهر الخابور ، وهو من الأنهار الكبيرة نوعا ما ، يبدأ من شمالها ثم يمر
بها ويكون ماؤه نقيّا أشبه بماء الينبوع ثم يجري أسفلها بمسافة قليلة ليصب في نهر
الفرات.
__________________
كنا نعتقد أننا من
هناك سوف نصل «الرحبة» التي تخضع لحكم أمير العرب ، إلا أننا توقفنا في ملاحتنا
وإذ ذاك هبطنا على مقربة من القلعة بعد حلول الظلام حيث استأنفنا في صباح اليوم
التالي مسيرتنا إلى المدينة ، وكانت هذه كبيرة نسبيّا وتقع على مسافة نصف فرسخ عن
النهر وفي أرض خصبة جدّا وقد مكثنا فيها حتى اليوم التالي لنبيع فيها بعض السلع
بينما تجول اثنان من رفاقنا في داخل المدينة لدعوة التجار فيها إلى المقايضة معهم.
بعد أن أمضينا ذلك
اليوم كله تحركنا في صباح اليوم التالي نحو «شارة» وهي قرية صغيرة تقع على الضفة اليمنى من النهر وعلى بعد
نصف فرسخ عنه وتخضع لحكم أمير هذه المنطقة العربية ، وقد هبطنا إليها لندفع الرسم
المعتاد. وكنت وأنا في السفينة أشاهد على جوانب النهر عددا كبيرا من الأشجار
والنباتات التي لم أستطع أن أتبين أنواعها لبعدها عني.
ومن «شارة» سارت
سفينتنا سيرا منتظما ولأيام عدة. وكان النهر في الغالب يمر وسط صحارى رملية واسعة
كتلك التي مررنا بها قبلا ، وهي تمتد إلى مسافات شاسعة لا نستطيع أن ندرك نهايتها
، وكلها أراض قاحلة لا أثر للزرع أو الشجر أو النبات فيها. وهذا ما جعل تلك
الصحاري تسمى بحق «بحار الرمال» والتي يتوقع المرء أن يجابه فيها بالأعاصير كما
يحدث ذلك في البحار تماما ، وتثور فيها أمواج الرمال كأمواج البحار حقّا. ولهذا
يعتمد السائرون في قوافل كبيرة عبر هذه الصحارى على أدلاء
__________________
ماهرين مثلما
يعتمد على الربان في السفينة والذي يعرف كيف يوجه طريق السفينة بالحك.
ولما كانت الطريق
طويلة جدّا فإنهم يتزودون بالمزيد من الأطعمة التي تكفيهم وقتا طويلا مثلما يفعل
ذلك المسافرون بحرا ، إذ يوسقون الثلث من إبلهم بتلك الأطعمة واللوازم ولا سيما
الماء منها لإرواء أنفسهم ودوابهم منه ، إذ لا يمكن العثور على ينابيع الماء في
الصحراء إلا بالاعتماد على الصهاريج التي تعد الآن جافة لأنها تعتمد على ما يسقط
فيها من مياه الأمطار.
ولقد أمر السلطان
التركي ببناء ثلاثين ألف صهريج من هذه الصهاريج في الصحراء وعرفت ذلك أثناء وجودي
في حلب. كذلك أمر السلطان بأن تزود هذه الصهاريج بالماء ذلك لأن الجيوش التركية ،
حين تنتقل من مكان إلى آخر في الأيام التي يكون الأتراك خلالها في حرب مع ملوك
فارس أو أمراء الجزيرة العربية ، لن يعوزها الماء. وحتى إذا ما وجدت أحد الصهاريج
خاليا من الماء فقد تعثر على الماء في صهاريج أخرى غيره.
في اليوم التاسع
من شهر تشرين الأول شاهدنا بعض الأبراج القديمة تقوم على ضفة عالية من النهر عند
نقطة تدعى (أنسبي) يقول البعض عنها إنها كانت مدينة شهيرة يوما ما.
في هذا الموضع
يستدير النهر استدارة واسعة لا تخرج السفن منها إلا بعد انقضاء نصف يوم. ولقد
شاهدنا أمامنا وعلى الضفة الأخرى من
__________________
النهر عددا من
الأعراب يمتطون الخيول. ولما كنا نخشى وقوع أي اعتداء على أموالنا ، فقد رحنا نزيد
في حدرنا ونشدد حراستنا كما حدث لنا ذلك في الليلة المنصرمة.
فقد عهد إلي
بالحراسة في تلك الليلة وإذ ذاك صعدت إلى الجزء الأخير من السفينة كيما أستطيع أن
أرقب اللصوص من هناك حالما يقبل أحدهم نحو السفينة ، ثم وضعت بندقيتي إلى جنبي (وهذا
ما اعتدناه في كل وقت) وبعد أن استلقيت لففت جسمي بالمعطف الواقي من الجليد ذي
الأردان الطويلة لأتقي بذلك سقوط الندى والصقيع الذي يكثر سقوطهما هنا. وبعد حراسة
طويلة غلبني النعاس فنمت وإذ ذاك أقبل أحد اللصوص في الماء إلى الموقع الذي كنت
مستلقيا فيه في السفينة في صمت فأمسك بأحد أردان المعطف ، وكانت متدليا إلى أسفل ،
على أمل أن يسحبه برفق وهو لا يدري بأنني كنت ملتفا به ، وإذ أحسست أن شخصا ما كان
يتحرك وأنه يريد سرقة معطفي نهضت فشاهدت رأس اللص وإذ ذاك أمسكت ببندقيتي لأوجه
رصاصة إليه ، لكنه ما إن رآني حتى هرب سابحا في النهر. واستيقظ أفراد الجماعة
الذين رقدوا بجانبي وحين استفسروا عن الخبر وأنبأتهم بما رأيته فرحوا لذلك وراحوا
يزجون إلي الشكر على حذري ودقة حراستي.
وفي الوقت الذي
كنا نخشى فيه سطو الأعراب علينا ليلا ، تراهم يقبلون في النهار علينا مع زوجاتهم
للتعامل تجاريّا معنا ، إذ يسارع ربان سفينتنا في النزول إلى اليابسة ليسهل على
التجار مهمتهم ، وهم الذين يحملون كل أنواع السلع معهم من قوالب الصابون إلى خرز
الكرستال والعقيق الأصفر ، والأساور الزجاجية من مختلف الألوان التي تلبسها النسوة
في أيديهن وأقدامهن ، وأنواع أخرى من اللعب المصنوعة من الزجاج ذي الألوان الحمراء
والصفراء والخضراء والرمادية وكذلك علب البرنز والرصاص ، والأحذية الطويلة التي
تشد بسيور من الجلد وغير
ذلك مما يقايضونه
مع العرب بجلود الماشية والجبنة واللبن المجفف وأشياء أخرى ، وبالنقود أحيانا.
ولا تختلف سحنات
هؤلاء الأعراب عن سحنات الغجر كثيرا إلا في جمال سمرة وجوههم. وهم سريعو الخفة في
أعمالهم. لكنهم لا يعنون بالعمل كثيرا وإنما ينفقون جل أوقاتهم في الكسل ، أو
يختصمون مع بعضهم البعض بأصوات عالية وضجة صاخبة لكن يندر أن يهاجم أحدهم الآخر.
وهم يحلقون شعور رؤوسهم فلا يبقون منها سوى القمة ، ويتركون ـ مثل الأتراك ـ ضفيرة
طويلة تتدلى على ظهورهم.
أما ألبستهم
فتتألف من صداريات مصنوعة من نسيج الصوف ليست لها أردان وتكون طويلة حتى تصل إلى
الركبة ، مثل الصدارية التي كنت أنا أرتديها في رحلتي. وهذه الصداريات مخططة بخطوط
سوداء وبيضاء. وهم يلبسون تحتها قمصانا طويلة تصل إلى الكعب وتكون مفتوحة عند
الرقبة وهي رمادية اللون غالبا ذات أردان واسعة يدعونها تتحرك عند ما يسيرون أو
حين يحملون أسلحتهم للتظاهر بها ، وهم يتمنطقون فوق ثيابهم هذه بأحزمة عريضة من
الجلد تكون مرتفعة. وأنت تكاد لا ترى هذه الأحزمة بل ترى الخناجر المعقوفة التي
علقت بها بالشكل الذي نحمل به نحن الأوروبيون سيوفنا. أما رماة النبال فإنهم يضعون
أحيانا بعض أسلحتهم خارج ثيابهم ويتركون صدورهم عارية في ذات الوقت كيما يستطيعوا
أن يقاتلوا بطلاقة ومن دون أية عوائق.
والذين لا
يستطيعون منهم شراء الأحذية يستعملون بدلا عنها أعناقا من جلود يلفونها فوق
أقدامهم بخيوط من الشعر. ولا يلبس الرجال السراويل بينما ترتدي النسوة سراويل
طويلة تمتد حتى الكعب.
ووجوه النساء ليست
مغطاة بالحجاب مثلما عليه نساء الأتراك. وهن يعصبن رؤوسهن بعصائب تميل ألوانها إلى
السمرة أكثر من البياض يتركنها معلقة إلى وراء في شكل عقدة كبيرة.
وحين يرغبن في
التجمل يحملن مقتنياتهن الثمينة (من خرز العنبر أو المرمر أو الزجاج المختلفة
الألوان) في قلائد يعلقنها تحت صدوغهن حتى إذا ما انثنين أو تحركن راحت تلك
القلائد تضرب وجوههن بل قد تعيقهن أحيانا عن أداء أعمالهن.
أما اللواتي
ينتمين إلى طبقة أعلى ، أو يحاولن أن يصبحن غنيات وجميلات في ملبسهن فتراهن يلبسن
الأقراط الفضية والذهبية في أنوفهن (مثلما يفعل ذلك البعض عندنا في بلادنا
الأوروبية حين يلبسون قرطا في إحدى الأذنين) بالإضافة إلى العقيق الأحمر والفيروزج
، والياقوت الأحمر ، واللؤلؤ وغيرها. كذلك تلبس النساء أساور في أقدامهن وأيديهن
وبكميات كثيرة أحيانا حتى إذا ما تحركن أو خطون راحت تلك الأساور تعلو وتهبط في
أيديهن وأرجلهن محدثة أصواتا مسموعة ، وتلك من الأسباب التي دعتني أسهب في التحدث
عن سكان هذه البلاد والصحارى بالصفة التي وجدتهم عليها.
بعد أن اجتزنا
صحراء واسعة أخذنا نقترب من مدينة (عنه) وقد هبط رباننا إلى اليابسة ليلا وفي مكان
جميل يبعد زهاء فرسخ ونصف الفرسخ عن المدينة ، حيث أمضينا الليلة في ذلك المكان ،
لأنه كان من الخطر علينا جدّا أن نواصل الملاحة في النهر بسبب سرعة تياره ووجود
بعض الصخور فيه.
تشتهر هذه المدينة
بجمالها وذلك لكثرة الأشجار المثمرة فيها من أمثال الزيتون والليمون والبرتقال
والرمان والليمون الحامض وكذلك أشجار النخيل التي لم أر لها شبيها بما شاهدته من
أمثالها في سفراتي. فقد كانت هذه النخيل سميكة وصلبة للغاية. وحين ذهبت مع بعض من
رفاقنا إلى المدينة وجدنا كميات كبيرة من الفواكه لم تعجبهم إطلاقا وقد رأينا
بينها نوعين من هذه الفواكه التي اعتادوا جلبها إلى بلادنا ، أحدهما
أحمر اللون والآخر
أصفره أطلق عليهما «سيرابيو» اسم «هيرون» وذلك في الفصل التاسع والستين من كتابه ، ومع أنهما أقل
حجما مما هو معروف لدينا إلا أنهما من نوع جيد وذي طعم لذيذ.
في صباح اليوم
التالي تركنا أمر السفينة إلى ربانها وتوجهنا نحو المدينة وقد شاهدنا ونحن في
الطريق إليها أشجارا مثمرة وفيرة إلى درجة أننا لم نصدق ما شاهدناه بعد أن أقبلنا
من تلك البراري القاحلة التي كانت تمتد من «الدير» القريبة من حلب إلى مثل هذه
الأرض المزروعة.
فقد بانت لنا أمام
المدينة حقول من القطن الطري والكثيف مما قد لا يجد المرء أمثاله في مكان آخر ،
إضافة إلى حقول القمح الزاهية التي علت سنابلها ونضجت وحان وقت حصادها ، فضلا عن
الأشجار القائمة حواليها والمثقلة بالثمار ، مما جعل تجوالنا فيها مبهجا.
ولم أر في الطريق
من النباتات الغربية سوى ما شاهدته في حقول القمح من نبات (الماش) العربي الذي
أشرت قبلا والذي يظن عنه أنه هو نبات (كوركوروم) الذي ذكره «بليني». كذلك رأيت نبتة أخرى تشبه السمسم إلا
أن ساقها أطول وأمتن ، وأوراقها أخشن وأكثر عددا ، شبيهة بأوراق الصفصاف في الطول
واللون ، وهي تحمل أزهارا صفراء اللون ذات عروق حمراء أو بنية اللون تنتهي بعقد
طول الواحدة منها بقدر الأصبع وبمقدار سمكه ومدببة عند الرأس ، ولها خمسة أصناف
تحوي البذور التي تشبه نوعا من الخباز الذي يسمى «أبوتيلون» .
ولقد استفسرت
كثيرا عن هذه النبتة فلم أجد لها اسما آخر غير
__________________
الاسم الذي يطلق
عليها وهو اللوبياء الهندية ، ولكن طبقا لمعلوماتي أعتبر هذه النبتة هي «الفل» التي أشار إليها «ثيوفراستس» في أماكن عديدة من كتابه.
يقسم نهر الفرات
مدينة (عنه) إلى قسمين ، بل بالأحرى إلى مدينتين ، إحداهما ليست كبيرة لكنها محصنة
تحصينا جيدا بأسوار قوية لا يمكن الدخول إليها إلا بواسطة الزوارق وهي تخضع للأتراك.
أما القسم الثاني
فيقع على الضفة اليمنى من النهر ويخضع لأمير الجزيرة العربية وهو واسع لكنه غير محصن جيدا بالأسوار والخنادق ، ولذلك
فإن في مستطاع المرء أن يدخل إليه ويخرج منه ليلا مثله في ذلك مثل بقية المدن
الأخرى التي تتبع نفوذ الأمير العربي.
ويدعى هذا القسم
من المدينة والإقليم الذي يقع فيه (بالقائم) ويبعد مسيرة خمسة عشر يوما عن حلب. وهناك طريق جيدة تمتد
إلى النهر ولذلك فقد أمضينا ساعة فيه قبل أن نصل إلى منزل ربان سفينتنا والذي يقع
على مقربة من المرسى الذي رست عنده.
__________________
وجدران هذا المنزل
مشيدة بالآجر والحجر تشييدا جيدا وهو واسع ولا يرى المرء أحدا على الجانب الآخر
منه إذ تقوم فيه حديقة واسعة تضم أشجار النخيل والليمون والبرتقال والرمان وهي
مثقلة بالثمار وعلى الطرف الآخر من النهر لم أشاهد شيئا سوى أكواخ تشبه الأكواخ
الصينية قائمة فوق التلال.
وقد لا حظت ونحن
في طريقنا إلى عنه أن بعضا من جماعتنا (وكنت أجنبيّا بالنسبة إليهم) قد تخلوا عني
، وشرعوا يقنعون ربان سفينتنا ، وهو من أبناء هذه المدينة ، بأن لا يأذن لي
بمشاهدة معالم المدينة ، وأن يتهمني أمام حاكمها بالتجسس زاعما بأنني كنت أشاهد كل
المدن والأماكن بدقة ، وأنني كنت أفكر في خيانتهم حالما تحين لي الفرصة ، وأنهم
سيخيفونني بهذه الوسيلة ويحصلون بذلك على رشوة طيبة مني في النهاية. وفعلا ذهب
البعض منهم إلى نائب الباشا وطلبوا إليه أن يرسل أحد خدمه معهم ، وكان هذا الخادم
قد التقى بي في أحد الشوارع الطويلة وهو يحمل في يديه أغلالا وأصفادا من الحديد
كانت تتدلى من يديه إلى الأرض فاقتادني معه وإذ ذاك أحسست بنواياهم السيئة تجاهي
وبما كانوا يعتزمون تنفيذه ضدي. وذهبت مع خادم الحاكم لأرى ما سيفعلونه معي ، حتى
إذا وصلوا إلى المرسى أمروني أن أصعد إلى السفينة ، وأن أمكث فيها وأتلقى الأوامر
منهم. وأخيرا اتفقوا فيما بينهم وأخبروني على لسان واحد منهم ، كان يمتطي جوادا
ويرتدي صداريّا من الفراء بأنني إذا كنت أريد حريتي فعلي أن أدفع إلى نائب الباشا
مبلغ خمسمائة دوقة. وحين قلبت الأمر على وجوهه ووجدت نفسي بأنني قد غدوت وحيدا ،
وأن هذه الطلبات ليست معقولة ، ورأيت نفسي في مثل هذا الحرج والخطر ، فكرت أن هناك
حاكما آخر في القسم الثاني من عنه الذي يقع على الضفة الثانية من النهر ، وأن هذا
الحاكم تركي وأستطيع أن أرفع شكواي إليه ضد مطاليبهم الجائرة هذه ، ولا سيما بعد
أن فقدت كل
أمل في الحصول على
عون منهم. ولذلك تزودت بجواز سفري ، وأعددت ملابسي كيما أستطيع السباحة في النهر
والخلاص من أيديهم إذا ما حاولوا مهاجمتي وإلقاء القبض عليّ.
وأخيرا ، وحين
كانوا ينتظرون جوابي والنقود التي طلبوها مني أنبأتهم بما صممت على تنفيذه وذلك
بكل بساطة ووضوح ، فانتابهم جراء ذلك خوف أشد من الخوف الذي أثاروه في نفسي قبلا
وعندئذ أيسوا من الحصول على بغيتهم الظالمة ولم يحصلوا من الخمسمائة دوقة التي
طلبوها سوى دوقة واحدة دفعوها إلى خادم الحاكم تخفيفا له عن المتاعب التي تحملها
في سبيل ذلك.
الفصل الثاني عشر
الطريق الذي سلكناه من عنه إلى بابل القديمة عبر المدن القديمة
المسماة حديثة وجبة وهيت
بعد أن انتهت
الكارثة التي كادت تقع على رأسي ، وبقوة من الله العظيم منحني إياها وأسر بها إلي
لأفعل ما فعلت ، غادرنا (عنه) في الرابع
__________________
عشر من تشرين
الأول. كان يمتد أمامنا ريف مخضوضر مثمر تناثرت فوقه بعض الدور الجميلة هنا وهناك
بشكل متقارب ، فما نكاد نمر أمام واحد من هذه الدور حتى نشاهد الثاني ببساتينه
وحدائقه التي تحيط بها أشجار النخيل الجميلة وأشجار أخرى غيرها مما لم أستطع
تمييزه منها لأنها كانت تمتد إلى مسافات بعيدة ، وعلى هذا المنوال لمسنا تغييرا
كبيرا. فالفيافي المقفرة التي كانت تضم مساحات شاسعة حتى النهر تكاد لا ترى شجرة
واحدة فيها طيلة مسيرة يوم واحد ، هذه الفيافي قد تحولت في نهاية مدينة عنه إلى
أرض خصبة ، فغدت الرحلة خلالها مفرحة جدّا سيما وأننا لم نعد نخشى من خطر الأعراب
علينا. على أن ربان السفينة كانت تبدو عليه علائم الاضطراب الشديد لأن النهر كان
عند الضفاف مغلقا عادة بصخور كبيرة تجعله يرتفع عاليا وذلك بسبب وجود عدد كبير من
مكائن أو دواليب الماء الضخمة المرتفعة حيث تطرح تلك الصخور في النهر كيما تحصر الماء فيندفع بقوة
إلى تلك الدواليب ويحركونها.
__________________
وغالبا ما يحدث أن
تقوم اثنتان من هذه المكائن في موضعين متقاربين فتشغلان بذلك مساحة واسعة من النهر
بحيث كان يصعب علينا المرور بسفينتنا خلالها إلا بحذر شديد من جانب الربان لنستطيع
المرور دون التعرض إلى خطر الاصطدام.
والسبب في وجود
هذا العدد الكبير من هذه المكائن هناك أن النهر لا يفيض (كما هو شأن نهر النيل)
فيغمر الأراضي ، ولأن المطر لا يسقط فيها بكميات تكفي لإنبات البذور وزراعة
البساتين ، ولذلك يقدم أهل هذه البلاد على إنشاء هذه المكائن والدواليب المائية
حيث تقام كل ثلاثة أو أربعة منها مجتمعة ، الواحدة منها خلف الأخرى في عرض النهر
فتدور ليل نهار ، وبذلك ترفع الماء من النهر وتفرغه في قنوات خاصة أعدت لهذا الغرض
وبقصد إرواء كل الأراضي.
ولكن إذا لم تكن
الأرض ملائمة ، وكان الشاطىء مرتفعا كثيرا يحول دون نصب هذه المكائن ، فإن القوم
يعتاضون عنها بآلات أخرى يديرها زوج من الثيران لرفع الماء من النهر في أوعية
جلدية كبيرة تكون مفرطحة في القسم العلوي ، وضيقة عند القعر.
وتمتاز هذه
الأراضي بكثرة ثمارها. ذلك لأننا سرعان ما وجدنا كميات كبيرة من الفواكه اللذيذة
التي ابتعناها بقليل من النقود ، وكان من بينها البطيخ الشهي الطعم جدّا.
وحين تقدمنا في
مسيرتنا شاهدنا الأراضي القائمة على ضفتي النهر وقد زرعت كلها بالذرة التي يكثر
السكان من زراعتها بكميات أوسع من الحنطة أو الشعير إذ إن الرمال العميقة الغور
تحول دون زراعة الحنطة فيها بشكل جيد. وقد وجدنا هذه الذرة قد حان حصادها بل إنها
حصدت فعلا في أماكن أخرى قبل هذا الوقت. وتشتهر الذرة بسوقها العالية التي يبلغ
ارتفاع الواحدة منها ما بين ستة وثمانية أذرع ، وأوراقها أشبه بأوراق القمح الهندي
أو قصب السكر. وقد تناولته لأول مرة ووجدت السكان
المحليين يعلكونه
مثلما يعلكون قصب السكر لأنه يحوي عصارة حلوة لطيفة ولا سيما في القسم الأعلى من
القصبة بينما تستقر العصارة في قصبة السكر في القسم الأسفل منها ، وهم يسحبون هذه
العصارة منها. وشاهدت رؤوس هذه الذرة البيضاء اللون ووجدتها كبيرة على خلاف الذرة
الإيطالية. وهذه الرؤوس مكونة من حبوب بيضاء تلتصق كل حبة منها بين ورقتين وتكون
في بعض الأحيان مضغوطة من الجوانب.
ويصنع من هذه
الذرة خبز وكعك لذيذ الطعم ، والبعض منه رقيق أشبه بالورق لا يزيد عرض القرص
الواحد عن أربع بوصات وطوله ست بوصات وسمكه بوصتان وهو يبدو رمادي اللون.
والسكان المحليون
لا يزالون يسمون هذه الذرة باسمها العربي القديم «الذرة» التي أشار إليها (الرازي)
لأنه قرأ عنها كثيرا في مؤلفات المؤرخين.
سارت رحلتنا سيرا
حسنا جدّا وأخذ التجار معنا يمضون أوقاتهم في اللهو. فالبعض منهم كان يلعب لعبة
تسمى (الثمانية عشر) وآخرون كانوا يلعبون الشطرنج التي يلعبها الأعيان ، وغيرهم
كانوا يمضون الوقت في القراءة والإنشاد. وكان من بينهم تاجر من البصرة اعتاد أن
يرتل «القرآن» عدة مرات وبصوت عال ولطيف جدّا. ولقد كنت أشعر بمسرة كبيرة وأنا
أنصت إليه ، ومع ذلك فلم ينغمر اللاعبون في لهوهم إلى الحد الذي يجعلهم ينسون أداء
الصلاة ولا سيما حين يدعوهم المؤذن ، بصوته العالي ، إلى أدائها سواء في السفينة
أو خارجها في الصحراء حين يحين وقت الصلاة.
ولقد وجدت بين بعض
المسلمين غيرة على الدين ، والتزاما به أكثر مما هو موجود لدى البعض الآخر منهم.
وإن كان المسلمون عامة
يمارسون ذات
الشعائر ، عند إقامة الصلوات. فهم جميعا يؤدون الصلاة خمس مرات كل يوم ، ثلاث منها
في النهار ، تبدأ الأولى عند الظهيرة ، والثانية حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر والثالثة حين تغرب الشمس.
أما صلوات الليل
فاثنتان ، الأولى منهما قبل أن تشرق الشمس بساعة ونصف الساعة ، والثانية بعد
الغروب حين يصفو الجو وتطلع النجوم.
ولم يكن الظلام ،
ولا الخطر الذي قد يلف الموقع ، أو عدم ملاءمة الوقت ، ليمنع المسلمين من النهوض
في وقت يكون فيه سواهم غارقين في النوم ، والهبوط من السفينة إلى الأرض الخلاء
لإقامة الصلاة فيها برهبة وخشوع. فقد كنت أراهم غالبا وكأن الدموع تنحدر من
مآقيهم.
ولا بد لي من
الاعتراف هنا بأن المسلمين يتمسكون بشعائر دينهم ، ويحافظون عليها أكثر من أية أمة
أخرى ، وأن هذه الشعائر تردعهم عن تناول الخمور ، وتأمرهم بالتقشف ، والعكوف على
أداء الصلوات.
في الثامن عشر من
الشهر وصلنا إلى «حديثة» وهي مدينة جميلة وكبيرة قديمة البناء تخضع لشيخ البادية ،
ويقسمها نهر الفرات ، مثل عنه ، إلى قسمين ، يقع القسم الأكبر منها على الجهة
اليمنى من النهر.
في هذه المدينة
دفع ربان السفينة إلى موظف الكمارك مبلغ صايين (والصاي يبلغ
حوالي ثلاثة بنسات في بلادنا) ومن ثم استأنفنا الملاحة ثانية كيما نستطيع أن نبلغ
مدينة «جبّه» ليلا.
__________________
كان ربان السفينة
نشطا وحمسا أكثر من ذي قبل. وكان يحث ملاحيه على مواصلة الجدف ، ولا سيما حين يكون
النهر عريضا وعميقا أشبه بالبحر ، وهكذا وصلنا ، بعد حلول الظلام بقليل إلى «جبة»
وهي مدينة حسنة البناء تعود إلى الأتراك ويقسمها النهر أيضا إلى قسمين يقع أحدهما
وسط النهر على أرض مرتفعة يقوم في قمتها حصن وبذلك تكون المدينة محصنة تحصينا
قويّا.
أما القسم الثاني
وهو أكبر من الأول فإنه يقع على الشاطىء الأيسر في أرض العراق ويضم بساتين كثيرة يملكها أصحاب الدور ، وهي غنية بأشجار
النخيل ، ولذلك أنفق التجار نصف النهار في هذا القسم لشراء التمر والتين واللوز
لينقلوه معهم إلى الخان ، وقد فعلوا الشيء ذاته في «هيت» وهي مدينة كبيرة أخرى تقع
على الضفة اليمنى من الفرات فوق أرض مرتفعة ، وقد بلغناها في العشرين من تشرين
الأول وفي وقت حسن من الليل.
ويقايض التجار هذه
الأثمار التي يشترونها بقوالب الصابون والسكاكين والورق وغيره ، وتلك هي السلع
التي يطلبها أهل هذه المدن منهم. ولقد أعطيناهم صحائف من الورق الأبيض تقبلوها
بفرح كبير وشكرونا على ذلك كثيرا.
وبعد أن أكتفى
تجارنا من شراء هذه المواد ، ودفع ربان سفينتنا الرسم المطلوب ، أقلعنا ظهر يوم
الحادي والعشرين من الشهر مستأنفين رحلتنا.
وفي المساء شاهدنا
على الجانب الأيمن من النهر طاحونة كما
__________________
شاهدنا أخرى مثلها
صباح اليوم التالي ، وجملة من الجدران والأبواب والقناطر القديمة ، عرفت منها أنه
كانت تقوم في هذا المكان قبلا إحدى المدن. وقد علمت أن تينك الطاحونتين كانتا
تستعملان لطحن بارود البنادق للسلطان التركي. وكان هذا البارود يرسل إليه في قوافل
مع سلع أخرى عبر الأراضي التابعة لأمير العرب ، حيث ينبغي للسلطان ، مثل بقية
التجار ، أن يدفع الرسم عن ذلك البارود.
وبارود المدافع
هذا لا يصنع من ملح البارود مثلما يجري ذلك عندنا في أوروبا وإنما يستخرج من عصير شجرة
من نوع الصفصاف يسميه الفرس (فير) بينما يدعوه العرب باسم «الغرب» كما أشرت إلى
ذلك قبلا. فهم يقطعون الأغصان الصغيرة من هذه الأشجار وأوراقها فيحرقونها
ويحولونها إلى مسحوق يلقون به في الماء إلى أن تنفصل ذرات الملح عنه وإذ ذاك
يصنعون منه بارود المدافع ، ومع ذلك فهذا البارود ليس قويّا كالذي نصنعه نحن في
بلادنا. ولقد أكد ذلك المؤرخ «بليني» في الفصل العاشر من الجزء الحادي والثلاثين
من كتابه إذ قال «إن الناس في الأيام السالفة كانوا يستخلصون «النيتر» من أشجار البلوط».
وذلك أمر محقق
فعلا لأن استعمال البارود في تلك الأيام لم يكن واسعا قبل أن تخترع المدافع مثلما
هو عليه الآن.
كذلك شاهدت على ضفاف
النهر الغالية كثيرا من نبات (الحنظل) لم أستطع أن أتحقق منه عن بعد ، إلا أنه لا يزال حتى الآن
معروفا لدى السكان باسمه العربي القديم وهو «الحنظل».
__________________
بعد أن مضينا في
ملاحتنا عدة أيام وفي ماء حسن التيار وصلنا أخيرا ليلة الرابع والعشرين من تشرين
الأول إلى «الفلوجة» وهي قرية صغيرة تحمل هذا الاسم الذي يطلق على المنطقة كلها
أيضا.
__________________
الفصل الثالث عشر
بابل القديمة
هي عاصمة كلدة ، وموقعها ، كيفية بقائها حتى اليوم
تقع مدينة الفلوجة
في الموقع الذي كانت تقوم فيه قبلا مدينة (بابل) القديمة عاصمة كلدة. ويقع بناؤها
على بعد ربع فرسخ. ومنها يتوجه من يريد السفر بطريق البر إلى مدينة بغداد الشهيرة
التي تقع شرقا على نهر دجلة وعلى مسيرة يوم ونصف اليوم.
وفي هذا الميناء
يقع المكان الذي كانت تقوم فيه مدينة بابل. ولكن في الوقت الحاضر لا يرى ولا منزل
واحد هنا نستطيع أن ننقل إليه سلعنا ونمكث فيه إلى أن يحين وقت الرحيل. ولذلك
اضطررنا إلى أن نفرغ بضاعتنا في مكان مكشوف وكأننا وسط الصحراء ، وأن ندفع الرسوم
تحت السماء التي تعود إلى الأتراك!
وهذه البلاد جافة
قاحلة لا يمكن زراعتها وهي مقفرة بدرجة رحت معها أشك كيف كانت هنا في يوم من
الأيام مدينة قوية بل أشهر وأعظم مدن العالم هي بابل التي تقع في أرض شنعار
المبهجة المثمرة ، لو لم أكن أعرفها بموقعها ، وبالآثار القديمة القيمة التي ما
زالت قائمة وقد أصابها الدمار.
__________________
فقبل كل شيء كان
هناك الجسر القديم الذي كان يمتد فوق نهر الفرات والذي سماه النبي «باروخ» باسم (سود)
وذلك في إصحاحه الأول ، حيث لا تزال بعض قطع الجسر وقناطره باقية حتى اليوم
على مسافة قريبة شمالي المكان الذي هبطنا إليه وقد شيدت هذه القناطر من الآجر وهو
من نوع قوي ومدهش. ذلك لأننا منذ أن قدمنا من مدينة «البير» إلى هناك ، لم نر على
النهر حتى ولا جسرا واحدا. ولهذا أقول إنه من المدهش أن يبنى مثل هذا الجسر في مثل
هذا الموقع الذي يبلغ عرض النهر فيه مسافة نصف فرسخ فضلا عن عمق النهر في هذا
المكان.
وعلى مقربة من
الجسر أكوام من القار البابلي لطلاء السفن به ، وهو يكون صلبا في بعض الأماكن بحيث
تستطيع أن تمشي فوقه ، لكنه في أماكن أخرى جلب إليها حديثا يكون رقيقا وتظهر عليه
آثار كل خطوة تخطوها عليه .
وعلى مقربة من
قرية الفلوجة وأمامها يقوم تل يمثل القلعة التي كانت قائمة في السهل حيث لا تزال
تشاهد أنقاض تلك القلعة التي تهدمت وخلت من ساكنيها.
وخلف القرية يقوم
برج بابل الذي بدأ أولاد نوح (وكان أول من سكن هذه الأصقاع بعد «الطوفان» ) ببنائه صعدا إلى السماء.
__________________
فنحن لا نزال
نشاهد هذا البرج الذي يبلغ قطره نصف فرسخ ، لكنه قد تهدم وغدا واطئا وسكنته الهوام
، واتخذت لها فيه جحورا. إذ إن المرء لا يستطيع أن يقترب إلى أقل من نصف ميل منه
إلا خلال شهرين من أشهر الشتاء لا تخرج الهوام فيهما من جحورها .
ومن بين هذه
الهوام نوع يسميه الفرس (ايغلو) وهو سام جدّا كما أخبروني بذلك وهو أكبر من «العظاية» أو «الضب»
المعروف عندنا وله ثلاثة رؤوس وتكسو جلده بقع ذات ألوان عدة. وهذه لا تسكن البرج وحده بل
القلعة أيضا وهي ليست مرتفعة كثيرا. وكانت توجد تحت القلعة بئر للماء ولذلك فلا
تستطيع هذه الهوام أن تعيش فوق التل ولا تجرؤ على شرب الماء الذي ترده الماشية .
وعلى مسافة فرسخين
نحو المشرق من الفلوجة تقع مدينة «تراكست» القوية التي كانت تدعى قبلا باسم «أفاميا» التي أشار
__________________
إليها «بليني» في
الفصلين السادس والعشرين والسابع والعشرين من الجزء السادس من كتابه. وقد وردت في
الإصحاح الثاني من «سفر الخليقة» إشارة إلى أن الفرات ودجلة هما من أنهار الفردوس
العظيمة ، وإنما يلتقيان على مسافة غير بعيدة فيؤلفان نهرا واحدا .
ومدينة «تراكست»
محاطة بخنادق ويمكن الدفاع عنها جيدا وذلك لوجود قلعتين قويتين تقع كل واحدة منهما
على طرف من أطراف المدينة وهي تعتبر مدخل مملكة فارس. وهناك كثير من المدن الأخرى
تتبع مملكة فارس ولا تبعد عنها كثيرا من أمثال «أرثوسيا» و «الأجمة» اللتين تقعان في الطريق إلى ماذي وكذلك مدينة «جوخى» التي تقع
__________________
على الجانب الآخر
من دجلة بمسافة فرسخ ونصف ، ومدينة «اكست» على بعد فرسخين في الطريق الذاهب إلى فارس.
أمضينا اليوم
التالي ، وهو الخامس والعشرون من شهر تشرين الأول ، في شراء بعض الإبل والحمير
لننقل عليها بضاعتنا. وبعد أن أنهينا استعدادنا ، رحلنا في صباح اليوم التالي مع
القافلة برمتها متوجهين إلى بغداد.
كان الطريق في
البداية وعر جدّا ، مليء بالأحجار والأنقاض المتساقطة فيه ، ولكن بعد أن اجتزنا
مدينة «دانيال» وقلعتها ، أخذنا نجتاز صحراء قاحلة لم نر فيها سوى الأشواك
، ولم نشاهد هناك بشرا ولا حيوانات ولا كهوفا أو خياما ، ولذلك كان يصعب كثيرا على
الرجل الذي لا يعرف معالم الطريق أن يستدل به ويسير فيه. وهذا ما لاحظته كثيرا
بالنسبة إلى دليلنا الذي كانت الحيرة تنتابه عدة مرات (بسبب عدم وجود إشارات تدل
على الطريق أو عدم العثور على بشر أو حيوان فيه) في تعيين السبيل الذي ينبغي له أن
يسلكه. ولذلك كان في بعض الأحيان يسلك أحد الطرق ثم لا يلبث أن يتركه ليأخذ آخر
غيره والقافلة تسير في إثره.
وكنا ، ونحن نسير
في هذا السهل ، نشاهد الكثير من الأبنية القديمة الكبيرة العالية المنتظمة والحصون
الشاخصة وسط الرمال ، وهي جميلة الشكل متقاربة إحداها من الأخرى على غرار ما نعثر
عليه في الأودية ،
__________________
وقد انتشرت هنا
وهناك ، وحل الخراب في كثير منها فتركها أنقاضا ، وكانت ترى على البعض منها رسوم
جميلة تستحق المشاهدة والتمعن.
كانت هذه الأبنية
تقف مهدمة مخربة لم يبق منها سوى أبراج «دانيال» التي شيدت كلها من الحجر الأسود
وهي لا تزال مأهولة حتى اليوم.
وهذه الأبراج في
بنائها وارتفاعها تشبه أبراج كنيسة «الصليب المقدس» أو كنيسة «القديس موريس» في
اوغسبرغ فأنت لو صعدت فوق هذه الأبراج لشاهدت برج بابل القديم ، وتل القلعة مع
بقية الأبنية بوضوح واطلعت على وضع المدينة القديمة اطلاعا تامّا.
بعد أن أمضينا
اثنتي عشرة ساعة في هذه الأرض الموحشة الصلبة والتي كلت إبلنا وحميرنا في قطعها من
وطأة الأثقال التي كانت تحملها ، توقفنا عن السير عند أحد المرتفعات للاستراحة
فبقينا على هذه الشاكلة إلى أن انتصف الليل وعندئذ استأنفنا مسيرتنا كيما نصل
بغداد قبل أن تشرق الشمس.
وفي الوقت الذي
أنخنا فيه ركائبنا هناك ، رحت أمعن النظر في المرتفع الذي نزلنا عنده فلا حظت وجود
مرتفعين أحدهما خلف الآخر يفصل بينهما خندق ، وهما يمتدان سوية أشبه بجدارين
متوازيين لمسافة طويلة إلى أن ينتهيا عند مواضع تشبه الأبواب مما حملني على
الاعتقاد بأنهما كانا جدران مدينة قديمة قال المؤرخ «بليني» عنها إن ارتفاع
جدرانها يبلغ مائتي قدم ، وإن عرض الواحد من تلك الجدران خمسون قدما ، وإن الفتحات
الموجودة فيها كانت تؤلف قبلا أبواب تلك المدينة التي بلغ مجموعها مائة باب من
الحديد ، وذلك قول صائب لأنني شاهدت بنفسي الجدران القديمة التي غطتها الأتربة وقد
بدت ظاهرة للعيان بكل وضوح ، وهكذا وجدنا أنفسنا عند جدران مدينة ملكية شهيرة فيما
مضى وقد تهدمت أبنيتها الفخمة المجيدة وغطتها الرمال ، ولذلك
فإن من يجوسها
يأخذه العجب والدهشة إذ يروح يتذكر المجد الذي أصابته والملوك العظام الذين حلوا
فيها من أمثال نمرود وبيلوس ومن بعدهما الملك مردوخ وخلفه «بيلانصر» وهو من ذريته الذي جاء في النهاية ، وكيف تحولت قصورها
وبساتينها إلى خرائب وقفار إلى درجة أنه حتى الرعاة كانوا يخشون أن ينصبوا خيامهم هناك
والسكن فيها.
إنه لمثل مرعب
ومخيف لكل الطغاة والمتجبرين هذا المثل الذي تقدمه بابل لهم كيما يتحققوا بأنهم
إذا لم ينصلحوا ويتخلوا عن طغيانهم ويتوقفوا عن قتل الأبرياء بالحروب والسجون
وبالأوبئة القاسية اللا إنسانية ، فإن الله الجبار سوف يقضي عليهم ويعاقبهم بغضب
منه ، لأن الله غيور ولا يحتمل غرور الطغاة طويلا ، ولا يترك المسيئين من دون عقاب
، فلا بد أن يحقق فيهم نبوءاته مثلما فعل ذلك بأهل بابل المتجبرين حيث أنذرهم كل
من أشعيا (في إصحاحه الثالث عشر) وأرميا (في إصحاحه الحادي والخمسين) .
__________________
وإذ مررت بهذه
الآثار وجدت العاقول قد نبت في الرمال المحيطة بها كما وجدت أنواعا كثيرة وغريبة
من نبات الحنظل.
وحين حل المساء
وأرخى الليل سدوله كان المكاريون الذين يسوقون دوابنا قد أتموا استعداداتهم
لمواصلة الرحلة ، فأعد كل شيء بانتظام واستعد كل فرد من أفراد القافلة للسفر في
غضون ربع ساعة.
وعلى الطريق شاهدت
آثارا أخرى ولكن حلول الظلام لم يمكنني من رؤيتها جيدا. وهكذا واصلنا مسيرتنا في
الظلام كيما نستطيع أن نبلغ بغداد قبل أن يطلع النهار بساعتين.
في صباح اليوم
التالي ، وهو السابع والعشرون من تشرين الأول ، نزلنا أنا وواحد من جماعتنا في
منزل أحد التجار المشهورين الذين ينتسبون إلى حلب وكان قد عاد مؤخرا من الهند.
ولقد استقبلنا ذلك
التاجر استقبالا حسنا ورقيقا فمكثنا في بيته أربعة أيام حين حصلنا على حانوت في
الحوش الواسع العائد للباشا التركي والذي يقع في المدينة الأخرى القائمة على الضفة
الثانية من نهر دجلة حيث انتقلنا إليه .
__________________
الفصل الرابع عشر
مدينة بغداد
تدعى بالداهك موقعها ، نباتاتها الغريبة ، مواصلاتها القديمة
تقع مدينة بغداد
العائدة إلى الامبراطور التركي عند الطرق النائي جدّا من مملكته على ضفاف نهر دجلة
سريع الجريان في سهل واسع ، وهي أشبه بمدينة «بازل» على نهر «الراين» ، لكنها ليست
جيدة البناء ، لأن شوارعها ضيقة ، وكثيرا من منازلها زري البناء ، يقتصر البعض
منها على الطابق الأول حسب ، بينما تحولت منازل أخرى غيرها إلى خراب.
ومثل هذا ينطبق
أيضا على المساجد التي كانت لقدمها تبدو سوداء ، وقد تهدمت بحيث يصعب عليك أن ترى واحدا منها سالما ، في
حين لا يزال هناك عدد من الكتابات العربية القديمة أو الكلدانية محفورة على
الجدران . وكذلك توجد في المدينة آثار كثيرة واضحة
__________________
لكنني لم أستطع
ليس قراءتها فحسب ، بل لم أجد من يستطيع أن يترجمها لي.
هنالك بنايات
تستحق المشاهدة من أمثال مقر الباشا التركي ، وسوق البضائع الذي يقع خلف النهر في
المدينة الأخرى ، والحمامات التي لا يمكن مقارنتها بحمامات حلب وطرابلس ،
لأن أراضيها وجدرانها مطلية بالقار الأمر الذي جعلها تبدو سوداء معتمة حتى في وضح
النهار ، لأنها لا تصيب سوى الشيء القليل من النور.
هنالك مدينتان
إحداهما تقع في هذا الجانب وهي مفتوحة تماما بحيث يستطيع المرء أن يدخل إليها ويخرج
منها ليلا من دون أية مضايقة ، غير أن هذه المدينة تعتبر في الواقع قرية كبيرة
أكثر منها مدينة.
أما المدينة
الأخرى فتقع على الطريق الذي يمر إلى فارس عند تخوم مملكة آشور وهي محصنة تحصينا جيدا بالأسوار والخنادق ولا سيما على
امتداد نهر دجلة حيث تقوم بعض الأبراج ، ومنها برجان يقومان عند الأبواب التي تؤدي
إلى جهة النهر ، لحمايتها. وبين هذين البرجين تقع أسوار المدينة القديمة العالية.
وفي أعالي هذه الأبراج حفرت كتابات مسطحة بحروف ذهبية يبلغ طول الحرف الواحد منها
قدما. ولقد حاولت جاهدا معرفة معاني هذه الكتابات لكني لم أظفر بذلك لعجزي عن
فهمها ، ولانعدام المترجمين مما اضطرني إلى التخلي عنها.
__________________
وعلى مقربة من هذه
الأبراج يقوم جسر مصنوع من الزوارق يمتد فوق دجلة ليصل إلى المدينة الأخرى.
والنهر في ذلك
الموقع عريض يشبه نهر الراين عند مدينة ستراسبورغ وبسبب سرعة جريانه يبدو لون النهر داكنا يبعث منظره الكآبة
في النفس وقد يجعل المرء يحس بالدوار.
وعلى مسافة غير
بعيدة في أسفل المدينة ، يلتقي هذا النهر بنهر الفرات ولذلك يجريان مختلطين في
الخليج ابتداء من مدينة البصرة التي لم تكن تبعد أكثر من مسيرة ستة أيام من هناك إلى جهة الشرق.
وهاتان المدينتان
اللتان تقعان على نهر دجلة كانتا قد شيدتا قبل سنين عديدة من أنقاض مدينة بابل
المتهدمة ذلك لأن واحدة منها ، وهي التي تقوم على الجانب الآخر من
النهر ، قد عرف عنها أنها مدينة سلوقية البابلية .
كما يمتد على هذا
الجانب من النهر واد فسيح يعتقد بأن مدينة
__________________
طيسفون تقع فيه.
وقد أكد «سترابو» ذلك في الجزء الخامس عشر من كتابه عند ما أشار إليها بقوله
«إن بابل كانت عاصمة آشور قبلا وبعد خرابها قامت مدينة سلوقية على نهر دجلة حيث تقوم على
مقربة منها قرية كبيرة كان ملك الفرثيين قد اتخذها مقرّا شتويّا له» .
كذلك أشار بليني في الفصلين السادس عشر والسابع عشر من الجزء السادس من
مؤلفه إلى أن مدينتي سلوقية البابلية وطيسفون قد شيدتا خارج خرائب مدينة قديمة ،
وأن نهر دجلة يمر بينهما.
وتقوم في سلوقية وفي مكان واسع منها ، قلعة ليست محصنة لا بالأسوار ولا
بالخنادق ، كما أنها ليست كاملة البناء من الداخل ، ترى أمامها بعض قطع من المدافع
الكبيرة ملقاة في الطريق وقد علاها الصدأ .
__________________
وفي هذه القلعة
يسكن الباشا التركي والذي ما إن علم بمقدم اثنين من الغرباء إلى منطقته حتى
بعث يطلب حضورنا إليه ، فأحضرنا رجاله أمامه ، وكان معنا أحد الأرمن ممن عرفناه
قبلا في مدينة حلب ، كي يساعدنا في هذه المقابلة ويكون بمثابة ترجمان لنا ويعطي
الباشا معلومات طيبة ووافية عنا.
حين دخلنا غرفة
الباشا ، وهي اعتيادية جدّا وإن كانت قد فرشت بالسجاد الفاخر ، وزينت ببعض الزخارف
، أدينا له الإجلال والاحترام ، ووجدناه يجلس ملتفا بعباءته الطويلة الصفراء
الثمينة. وعن طريق أحد أتباعه ، الذي كان يتحدث بالفرنسية وإن لم يكن يفهمها جيدا
، سألنا عن الأماكن التي أقبلنا منها ، والبضاعة التي جلبناها معنا ، والجهة التي
نقصدها. وبعد أن أجبناه عن كل سؤال طرحه علينا لم يقنع بأجوبتنا ، وأمرنا بأن
ننسحب إلى وراء ، وأن نمكث إلى أن نسمع قراره بشأننا.
لقد فهمنا ما كان
يقصده من وراء ذلك تماما. فهو يريد أن يحصل منّا على شيء من الهدايا ، لكننا
تظاهرنا بأننا لم نفهم قصده ، وإنما أريناه جوازات سفرنا موقعة من لدن باشا مدينة
حلب وقاضيها. ولقد تناولها منّا وراح يقرؤها ويمعن النظر جليّا في ختمي الباشا
والقاضي اللذين اعتادا أن يغمسا الختم بالحبر فأصبح الجواز ملطخا بالسواد نتيجة
ذلك.
وحين وجد الختمين
صحيحين ولم يبق لديه ما يقوله ، سمح لنا بالانصراف ، وإذ ذاك قدمنا له الاحترام
ثانية فخطونا خطوات إلى وراء وغادرنا مسكنه ، ذلك لأنك لو أدرت ظهرك لأي شخص
تقابله ، حتى وإن كان ضعيفا ، لعد ذلك إهانة كبيرة له ، وقلة أدب وغلطة منك.
__________________
ويحتفظ هذا الباشا
بحامية كبيرة في بغداد لأنها تقع عند تخوم «سوسيانة» وماذي وغيرها من الولايات التي تعود إلى ملك فارس ، في حين لا يمتد
نفوذ «السيد الأعظم» إلى الشرق من هذه الولايات ، إذ إن أكبر ممالكه تتألف من
الصحراء العربية المقفرة التي لا يسيطر الأتراك إلا على جزء منها ، بينما يخضع
الجزء الأكبر لنفوذ أحد الأمراء العرب.
بعد أن أذن لنا
الباشا بالانصراف عدنا إلى النزول ثانية ، فابتعنا ـ حين مررنا بأحد الأسواق ـ بعض
الأطعمة لتناولها ولكي نعد وجبة العشاء ، ذلك لأنه لا توجد في هذه البلاد فنادق
يستطيع المرء أن يأوي إليها ، وأن يجد فيها الطعام مهيئا للزبائن الذين يفدون
مصادفة ، بل إن على المرء أن يذهب إلى حانوت الطباخ الذي يتوفر عدد من أمثاله في
الأسواق.
وما عدا ذلك فكل
امرىء يطبخ لنفسه ما يريده من طعام دون أن تكون هنالك أبواب أمام غرفته ، وإنما
توجد مدخنة لهذا الغرض. ولذلك حين يأزف وقت إعداد الطعام في المساء والصباح ،
تشاهد في أروقة المكان عدة نيران تم إيقادها فيه.
وحين شرعنا نتناول
الطعام اضطررنا بسبب عدم وجود موائد أو كراسي أو مقاعد ، إلى الجلوس على الأرض
التي ننام عليها ليلا ، ولذلك لم تعد عباءاتنا نافعة لنا ، لأننا كنا نستعملها
بدلا من الفراش ولا سيما في أيام الشتاء لكي نستدفىء بها. ومع ذلك فلم يكن الشتاء
شديد البرد في هذه البلاد وقد نستنتج من هذا أن الأزهار المعروفة في بلادنا من
أمثال
__________________
«النرجس» و «البصل
البري» و «البنفسج» وغيرها تكون مزدهرة تماما في شهر كانون الأول ، كما أن إقبال
الزراع على حراثة الأرض في مثل هذا الوقت جعلني أحكم بأن شتاءهم يشبه ربيعنا.
لمست أثناء وجودنا
في بغداد وتجوالنا فيها أن الفاقة لا زالت جد ظاهرة فيها ، وأنها قد تتعاظم وتزداد
إذا لم تسارع المدن القائمة على دجلة والفرات ـ ولا سيما مدينة الموصل التي كانت
تعرف قبلا باسم نينوى ـ إلى إرسال كميات كبيرة من المؤن مثلما تفعل ذلك ديار بكر
وغيرها التي ترد منها المؤن مصادفة ، ذلك لأن معظم أراضيها تقع ما بين النهرين ،
ولهذا السبب لا تحصل على شيء من تلك التجهيزات ، ولأن ما ينمو فيها لا يكفي لسد
حاجتها ، ومن هنا تتجلى أهمية هذين النهرين بالنسبة إلى بغداد ، لأنهما لا
يزودناها بالمؤن كالقمح والشعير والشراب والفاكهة وغيرها حسب ، بل يجلبان لها
الكثير من السلع التي تحملها إليها سفن كثيرة ترد كل يوم. ولذلك نرى في هذه
المدينة مستودعات كبيرة للسلع ، نتيجة لموقعها الملائم ، يتم جلبها بطريق البر
والبحر من أنحاء الدنيا العديدة ، ولا سيما الأناضول وسوريا وأرمينيا واسطنبول
وحلب ودمشق وغيرها كيما يتم نقل هذه السلع ثانية إلى الهند وفارس وغيرهما.
وقد حدث في اليوم
الثاني من تشرين الثاني سنة ١٥٧٤ م حين كنت في بغداد ، أن وصلت إليها خمس وعشرون
سفينة موسقة بالأفاوية والعقاقير من الهند ، بطريق «هرمز» والبصرة التي تعود إلى
سلطان الأتراك وتقع عند الحدود ، وهي أبعد نقطة يمتد إليها نفوذ السلطان في الجنوب
الشرقي وعلى بعد مسيرة ستة أيام من هنا. ومن البصرة تنقل السلع في سفن صغيرة
تجلبها إلى بغداد حيث تستغرق السفرة حوالي أربعين يوما.
وهذا الطريق
البحري والبري يعود إلى ملكي العربية وفارس ولكل منهما مدنه وحصونه على حدود بلاده
ويستطيعان سد هذا الطريق. ورغم ذلك فإنهما يتراسلان بانتظام ويستخدمان الحمام
الزاجل ولا سيما في
البصرة حين تتطلب
الضرورة إرسال هذا الحمام برسائل إلى بغداد.
وحين تصل السفن
الموسقة بالسلع إلى بغداد يهيئ التجار ، وعلى الأخص تجار الأفاوية الذين ينقلونها
عبر الصحراء إلى تركيا ، أماكن خاصة لهم في البساتين على مقربة من مدينة طيسفون حيث يقيم كل واحد منهم في خيمته ليضع الأفاوية في أكياس
حفاظا عليها إلى أن يتحركوا كلهم سوية في شكل قافلة ، ولذلك يخيل لمن يراهم من
بعيد أنهم جنود ، وليسوا تجارا ، وأن ما يشاهده سلاحا وليس بضاعة تعود للتجار.
ولقد توهمتهم أنا
على هذه الشاكلة قبل أن أقترب منهم وأتبينهم جيدا.
وبعض أولئك التجار
الذين جاؤوا مع تلك السفن قد أقبلوا على النزل الذي كنا ننزل فيه مباشرة ، وكان من
بينهم تاجر مجوهرات جلب معه عدة أحجار كريمة مثل الماس والعقيق الأبيض والذي
يصنعون منه مقابض ثمينة للخناجر ، وكذلك الياقوت الأحمر ، والعقيق الأصفر وغيرها.
وقد حصل على النوعين الأولين من بمباي أما البقية فقد جلبها من جزيرة سيلان حيث أرانا عدة أنواع جميلة منها.
ويحمل التجار هذه
المجوهرات معهم في قوافل كبيرة ويحتفظون بها بشكل خاص لا يمكن العثور عليها من قبل
دوائر الكمرك كيلا تصادر
__________________
منهم ، وذلك ما
يسعى إليه الباشا بكل ما لديه من قوة وسلطان. فالأتراك لا يحبون الأحجار الكريمة
لأنها تكلفهم أموالا ، فهم جشعون بصفة غير اعتيادية حيث لا تجد إلا قلة منهم
يقتنونها ، لكنهم إن استطاعوا الحصول عليها بلا ثمن بطريقة المصادرة فإنهم يحبونها
حبّا جمّا ويحافظون عليها بحرص شديد.
ويحتفظ هؤلاء
التجار في بيوتهم بمجوهرات أخرى يبعثون بها ثانية إلى الهند كالمرجان والزمرد
اللذين يكثر الإقبال على شرائهما في مصر ، وكذلك الزعفران والتوت والكرز ، وعدة
أنواع من الفاكهة كالزبيب والتمور ، والتين واللوز وغيرها.
ولكن فوق هذا كله
يصدرون الخيول الجميلة فيرسلون عددا وفيرا منها إلى الهند عن طريق فارس ، ولكن
معظمها يرسل بطريق هرمز حيث يتلقى ملك البرتغال كل سنة مبلغا طيبا من المال بصفة
رسوم تبلغ أربعين دوقة لكل رأس من الخيل ، ذلك لأن الذين يستوردون الخيول ، كما
أنبئت ، يدفعون نصف الرسوم عن سلعهم الأخرى إلى دائرة الكمارك ومن ثم يبيعونها
بأرباح طيبة.
وبعض هذه الخيول
تصدر ، بسبب جمالها وأصالتها ، إلى سوريا والأناضول ، وإلى بلادنا في أوروبا حيث
تباع أو تهدى إلى الأمراء وغيرهم من الشخصيات البارزة.
وتطعم الخيول في
هذه البلدان ، الشعير والكلأ ، فيوضع هذا العلف
__________________
في أكياس تعلق في
عنق الحيوان ، ومثل هذا يجري أيضا بالنسبة إلى الحمير ، على نقيض ما نفعله نحن في
بلادنا الأوروبية.
ونظرا لقلة الشعير
والحشائش فإنهم يفرشون لهذه الخيول في بعض الأحيان ، قطعة من الأرض بالقش ، ثم
يجمعونه في أكوام لتنظيفه واستعماله مرة أخرى.
حين يصل بعض
التجار المسيحيين من بلادنا إلى هرمز ـ وهذا لا يقع إلا نادرا ـ فلا بد لهم من
الحصول على مساعدة من الأتراك والعرب ، ولا بد من ظهورهم أمام موظفي ملك البرتغال
الذين يعينهم ليقدموا لهم شكاواهم عما حدث لهم ، والضرر الذي أصابهم. وإذا ما حدث
أن أخفى هؤلاء من ذلك شيئا حل العقاب بهم أنفسهم.
وإذا ما ظهر أن واحدا
منهم قد غش نقوده فإن رفاقه من التجار من ذات الملة يلقى بهم في السجن ولو أنهم
كانوا غير مذنبين ولا يعرفون عن عملية الغش شيئا. وإذا قتل أحد المسيحيين بينهم
يقتل ثلاثة أو أربعة منهم مقابل ذلك طبقا للأسلوب المتبع ويفقدون حياتهم مقابل كل مسيحي يقتل.
وعلى هذا فحين يجتمع تجار من أمم مختلفة في إحدى البواخر للسفر إلى الهند عن طريق «هرمز»
ـ والتي يجب أن يهبطوا إليها وإلا صودرت بضاعتهم ـ فإنهم يصعدون إلى الباخرة
وكأنهم غرباء تماما ، ويحذر الواحد منهم الآخر ، ولا يتحدثون إلا قليلا ، وقد لا
يتحدثون بشيء ، ولا يكشف أحدهم هويته للآخر ، وهكذا يتحمل كل واحد منهم العزلة إلى
أن يقطعوا منتصف الطريق ثم يشرعون بالتعارف فيما بينهم.
ولقد علمت أيضا أن
حاكم البرتغال في الهند كان يستخدم ـ لغرض
__________________
إظهار القوة
والقدرة على الحرب ـ عددا من الأمراء الهنود الأقوياء الذين يؤلفون قوة تعدادها
خمسة آلاف رجل.
كما أنه أرسل بعض «اليسوعيين»
إلى تلك البلاد لينشروا ديانتهم بين سكانها ولينشئوا فيها محاكم التفتيش
الأسبانية .
يحب التجار
التعامل مع الهنود لصدقهم في التجارة واهتمامهم بها. ولقد عرفت في بغداد عددا
كبيرا من أولئك الهنود وغيرهم من الأقوام الأخرى كالعرب والأتراك والأرمن والأكراد
والماذيين وغيرهم ، ولكل منهم لغته الخاصة ، غير أن الفئة الرئيسة بينهم تتألف من
الفرس .
حين كنت في بغداد
وصلت قافلة من الفرس تتألف من ثلاثمائة رجل مع إبلهم وخيولهم وهم يقصدون مكة
لزيارة قبر «محمد» الذي يعتبرونه رجلا معظما جدّا عندهم ، بالإضافة إلى
رفيقيه «علي» و «عمر» اللذين كانا يسكنان تلك المدينة.
__________________
ولهؤلاء الفرس
لغتهم الخاصة التي تختلف تماما عن التركية والعربية. فهي مفهومة من قبل الأمم
الشرقية الأخرى ، ولذلك يضطر هؤلاء إلى التفاهم مع الفرس بطريق الإشارة أو بوساطة
المترجمين.
وللفرس صفاتهم
المميزة لهم أيضا. فهم يحسنون ركوب الخيل ، ويرتدون سراويل طويلة فضفاضة تساعدهم
على الحركة ، ويحسنون تجهيز أنفسهم بالبنادق والقسي والنبال.
وبدلا من استعمال
المهماز ، يستعملون ـ كما هو شائع في هذه البلاد قطعة حديد مدببة يبلغ طولها بوصة
ونصف البوصة يثبتونها في الجزء الخلفي من أحذيتهم.
ويطلق على الفرس
اسم «الأتراك الحمر» وهذا ناشىء ـ كما أعتقد ـ عن وضعهم علامة حمراء في عمائمهم
أشبه بأشرطة قطنية مصبوغة بلون أحمر تمييزا لهم عن الأقوام الأخرى. كذلك يمكن تمييزهم
بصداريهم الصوفية الغبراء اللون ، ذات الضفائر المتدلية على الظهر حتى الركبة. وهم
من الشعوب الشجاعة ، وتقاطيع وجوههم لطيفة ، وهم مؤدبون في معاملاتهم مع الغير ،
شديد والمساومة ، ولذلك تراهم ـ قبل أن يعقدوا أية صفقة ـ ينفقون الوقت الطويل قبل
التوصل إلى اتفاق ، وهذا ما شهدته بنفسي عدة مرات.
ومن بين السلع
الأخرى التي يتاجر بها الفرس ، السجاد الفاخر من أنواع عديدة ، وغيره من المنسوجات
القطنية التي يتفننون في صنعها تفننا كبيرا ويحذقونها حذقا واسعا.
أما بالنسبة إلى
المصنوعات الأخرى كالذهب والفضة فإنهم لا يعرفون عنها سوى الشيء القليل فهم أقل
إلماما بصياغة الذهب ، وهم يحبون المهرة من الصناع المسيحيين في شتى الصناعات
ويعاملونهم بكل أدب.
ولا يجيز الأتراك
لنسائهم دخول المساجد ، والظهور فيها علانية مثلما يفعل الفرس ذلك .
ولقد نشبت بين
الأمتين التركية والفارسية حروب كبيرة وخصومات شديدة ، ومع ذلك فإن أيّا منهما لا
تهاجم الأخرى في أوقات السلم ، ولا تغير على حدودها ، مثلما يفعل الأتراك ذلك في «هنغاريا»
.
وبعد أن أجريت
المفاوضات بين الأتراك والفرس ، وحققت إيرادا كبيرا للسلطان ، أصبح في مستطاع
الأتراك أن يتاجروا داخل الأراضي الفارسية ، وأن يتجولوا فيها بأمان.
كذلك علمت أنه
يعيش هنا وفي فارس عدد من المسيحيين من بينهم أتباع يوحنا بريسترPrester John والطريق الذي وصل به هؤلاء إلى فارس يتلخص في أن ملك فارس
توصل قبل اثنتي عشرة سنة ، إلى اتفاق مع «يوحنا» بريستر ضد الأتراك. ولما وجد
يوحنا أن من غير الملائم أن يتحالف مع ملك من غير دينه بعث برسالة إلى ملك فارس
__________________
يرفض فيها التحالف
معه إلا على شرط واحد هو أن يعتنق ملك فارس ورعاياه الدين الذي يعتنقه يوحنا. وقد
وافق ملك فارس في النهاية على هذا الشرط ، وإذ ذاك بعث إليه يوحنا بواحد من
بطارقته ومعه بعض القسس لأداء تلك المهمة.
وتوجد الآن في
فارس أكثر من عشرين مدينة معظم سكانها يدينون بدين يوحنا وهم يحتفظون بكتبهم
المقدسة ، وأهم تلك الكتب يضم بعض رسائل القديس توماس .
وما عدا ذلك فإن
البطريق قد أوضح بأن هؤلاء لم يعودوا يؤمنون بالخرافات ، وأنهم يعتقدون بأن
الطهارة ليست ضرورية لأن أعداءهم من الأتراك يتمسكون بها ، ولهذا السبب ذاته فهم
لا يكرهون الحيوانات المحرمة ، ويأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، وعلى هذا
الأساس أخذت الديانة المسيحية تنتشر في فارس يوما بعد آخر أكثر فأكثر ، وأخذ الفرس
، طبقا لتقاليدهم ، يتنصرون ، ويعترفون بالأب والابن وروح القدس!
ويمكن تمييز هؤلاء
المسيحيين عن غيرهم في أنهم يرسمون صليبا أزرق اللون على الساق اليسرى فوق الركبة
بقليل ، وهم يصنعون العشاء الرباني للكبار وللصغار معا ، لكنهم قبل أن يتناولوه
يغسلون أقدامهم في قنوات من الماء تجري داخل الكنائس ومن ثم يجلسون مع رؤساء
المدينة الذين يفدون عليهم وإذ ذاك يطبع كل واحد منهم على وجه الآخر قبلة الحب ،
ويقرأون بضع كلمات من تعاليم المسيح ثم يتناولون العشاء.
وهم لا يسمحون
بالصور في كنائسهم ، لكنهم يستعملون القيثارات
__________________
والمزامير حين
يعزفون الموسيقى. وهذا يحدث بصفة رئيسة في بلاط ملك سمرقند حيث يوجد أحذق
الموسيقيين هناك. ويقال إن سام بن نوح هو الذي بنى هذه المدينة ولذلك سميت باسمه .
ومما علمته عند
عودتي ، أن طهماسب ملك فارس كان له ثلاثة أولاد وبنت واحدة ، وقد قطع رأس
ولده الأكبر لأنه كان يسعى إلى الظفر بتاج أبيه ، وعند وفاة طهماسب تزوجت ابنته من
أحد رجال البلاط أما ولداه فباقيان على قيد الحياة ، وقد انتخب الأوسط ويدعى «إسماعيل»
خلفا لوالده في الوقت الذي وصل فيه الامبراطور التركي الحالي «مراد» إلى العرش.
وكان إسماعيل هذا
، وهو شاب ، كله شجاعة وذكاء في أساليب الحرب. وحين كبرت سنه تضاعف حقده على
الأتراك ، وبلغ ذلك درجة أنه قرر ، حتى في حياة والده ، أن ينتقم منهم ، وعلى هذا
الأساس توجه بعدد كبير من رجاله إلى مناطق الحدود للاستيلاء على بغداد.
وحين كان يعد
العدة لهذا الهجوم هرب بعض من قواته وأعلموا باشا بغداد بما كان ذلك الشاب ينويه
ويخططه ، وإذ ذاك سارع الباشا إلى التسلح على عجل لمقاومته.
__________________
وعند ما أقدم ابن
الملك على تنفيذ مخططاته انقض عليه الباشا بعدد كبير من الرجال لا قبل له بهم ،
وهكذا لم يهزم ابن ملك فارس وحسب بل وقع أسيرا وإذ ذاك هدده الباشا بأنه سيقطع
رأسه إذا لم يفكر أبوه جديا في الأمر ويقدم على افتدائه بإعادة مدينة «أوريس» .
وهكذا لم يكن أمام
الملك إلا أن يعمل ما فيه الكفاية للحفاظ على سلامة ولده ، والتعهد بعدم الإقدام
على أية استفزازات أو حروب أخرى ضد الأتراك .
وقبل أن أبدأ
رحلتي في آذار ١٥٧٤ م وصلت إلى حلب أنباء تقول إن حوالي خمسة وعشرين ألفا من
الأتراك كانوا قد قتلوا في أطراف
__________________
فارس والجزيرة
العربية لكنني لم أعرف المكان الذي وقعت فيه هذه المعارك ، لأن الأتراك يعمدون إلى
إخفاء ما يعانونه من إصابات بحيث لا يسمع بها أحد بأية وسيلة. أما إذا كانوا هم
المنتصرون فلا يظلون صامتين بل ينشرون أنباء انتصارهم على نطاق واسع.
ولنقصر الحديث على
بغداد فنقول إنني وجدت فيها عددا كبيرا من المرضى والعرج ، وإنك لا تدهش أن تجد
مثل ذلك العدد الكبير من العرج الذين يتجولون في الشوارع. ومع كل ذلك فلم يستطع
ملك فارس أن يربح الحرب في النهاية ، أو أن يقدم على إثارة حرب جديدة ومن مسافة
نائية ، لأن موارده ليست كبيرة بالدرجة التي تمكنه من تعبئة اللوازم والمؤن
وتهيئتها لجنده وموظفيه ، كما أنه لا يستطيع في وقت الحرب أن يدفع لهم مرتباتهم
مثلما يفعل ذلك أيام السلم ، لأن رعاياه معفوون من كل الرسوم والضرائب طبقا
للامتيازات القديمة ، ولأنهم لا يتسلحون للدفاع عن أنفسهم إلا حين يدعوهم الملك
للذود عن بلادهم وأملاكهم ضد هجوم يوجهه الأعداء نحوهم.
حين كنت اسأل أكثر
من شخص واحد عما إذا كان من الأوفق لنا ، أنا ورفيقي ، أن نسافر بطريق النهر إلى «هرمز»
أم بطريق البر عبر بلاد فارس إلى الهند ، لم نكن نفكر في شيء سوى أن نبدأ سفرتنا
ونمضي قدما. وحين كنت أفكر في ذلك وصلتني فجأة رسالة استدعيت بها للعودة إلى حلب ،
الأمر الذي زاد في قلقي كثيرا ولا سيما حين أعدت في ذاكرتي مرأى القفار والصحاري
التي قطعتها إلى أن بلغت المدن الشرقية التي تستحق المشاهدة فعلا.
وعلى هذا ، وبعد
أن قلبت الأمر مليّا ، اتفقت مع رفيقي على أن يواصل هو رحلته ، بينما ينبغي علي
أنا ، وبسبب الرسالة التي تلقيتها وليس لي عائق سواها ، أن أعود ثانية ، وقد زودته
بكل ما يحتاج إليه من
لوازم لمواصلة
سفره ، حيث رحل فعلا بعد يومين مع تجار آخرين في إحدى السفن إلى البصرة.
ولم يطل الوقت حتى
تلقيت نبأ مفجعا عنه ، فقد قيل إن السفينة التي استقلها من البصرة إلى «هرمز» قد
تحطمت بعد أن داهمتها عاصفة شديدة على مقربة من جزيرة «البحرين» في الخليج العربي الذي يكثر فيه اللؤلؤ الشرقي ، وإنه مع
عدد من التجار بينهم جماعة من أبناء التجار الأغنياء في «حلب» قد ماتوا غرقا.
كان علي أن أعود
إلى حلب في قافلة كبيرة. ولما كانت مثل هذه القافلة ستأخذ طريقها عبر الصحراء
الرملية الواسعة في مسيرة قد تستمر زهاء أربعين يوما أو نحوها ، وحيث لا نستطيع
خلالها أن نمر بأكثر من نقطتي كمارك نتزود منهما باللوازم والماء وغيره من
الضروريات الأخرى ، لهذا السبب استقر رأيي على أن أسافر بطريق تمر بأماكن مفيدة
وبمدن شهيرة كيما أرى وأتعلم وأطلع على أمور أخرى. وعلى هذا الأساس مكثت في النزل
الكبير مدة أطول إلى أن ألتقي ببعض رفاق السفر.
وفي الوقت الذي
مكثت فيه هناك تعرفت إلى أحد التجار من سكنة مدينة حلب ، كان قد رحل عدة مرات إلى
الهند ، وقد أنبأني بأن «اليسوعيين» ضرعوا في إقامة محاكم التفتيش الصارمة في
الهند ، ولا سيما في مدينة «غوا» التي يعتبرونها ملائمة لهم ، وأن الذين لا يخلعون
__________________
قبعاتهم حين يمرون
بصور العذراء التي علقت في شوارع عديدة في المدينة يلقى بهم في غياهب السجون.
وقد استنكر ذلك
التاجر هذا الأمر بشدة ، كما تحدث عن المسيحية بشكل أعجبني ، ولذلك أحببته ورغبت
في السفر معه لأنه كان يعاملني برقة وعناية وكأنني ولده.
وعند ما علم بأنني
طبيب رغب أن يقدمني إلى الباشا وكان مريضا في وقت كان فيه طبيبه الخاص من أصدقائه
الحميمين.
ولما كنت قبل هذا
قد علمت بأن آخرين أقدموا على مثل هذا العمل لم يجازوا إلا بالشر ولا سيما من قبل
الذين تقدموا لعلاجه ، لذلك لم أقدم على هذا الأمر لأنني كنت أخشى أن أقابل بذات
الجزاء بدلا من الثواب وأفقد حريتي ، ولذلك شكرت التاجر على عطفه ورقته ، ولو لا
هذا الأمر لأخذت بنصيحته على الرغم من عدم وجود صيدليات يمكن التزود منها
بالأدوية.
غير أنني استطعت
أن أشتري بعض المواد من أصحاب الحوانيت حيث جمعتها من أماكن متعددة ، لأنه كان
يصعب علي أن أجدها لديهم متوفرة في وقت واحد. كذلك استقطرت الزيوت من الجوز ، وهو
نوع جيد ومتوفر بكثرة ، ومن الفستق الذي يحتفظ به السكان ويأكلونه مثلما نأكل نحن
الأنواع الصغيرة من الجوز في بلادنا.
ولقد تناولت هذا
الفستق فوجدته جافّا غير مستساغ. وهذا النوع يسميه العرب باسم «بطم» أما الفرس
فيسمونه تربيك.
ولقد شاهدت نوعين
منه بحجم كبير وآخر صغير. والكبير منه يشبه جوزة الفستق لكنه أقل استدارة وأقصر
طولا. أما النوع الصغير فهو ذو قشرة صلبة تشبه حبة الحمص الكبيرة وهذه تماثل في
شكلها النبتة المعروفة باسم «قرن الغزال» أو الذرة الهندية.
وينمو الكثير من
هذه في «ايجنيا» وفي فارس ، وبلاد ما بين النهرين ، وأرمينيا وغيرها. وتكون
ذات عناقيد أشبه بالعنب أو التوت أو أشجار التربنتين المعروفة عندنا. فهي بأوراقها
الطويلة تشبه تلك الأشجار حيث يمكن تمييزها بيسر عن شجرة الفستق ذات الأوراق
المدورة ، وهي من النوع الذي قال عنه كل من «الرازي» و «ابن سينا» إنه ينمو في
الهند. كذلك أشار إليها ثيوفراستوس أيضا في الفصل الخامس من الجزء الرابع من
كتابه.
ولقد أشار «سرابيو»
في الفصل الخامس والعشرين من كتابه إلى ثمر آخر دعاه باسم «العنصل» وقد شاهدته أنا وهو بقدر جوزة الفستق لين القشر ، ولم أعثر
عليه لدى أصحاب الحوانيت في هذه الأنحاء لكنني وجدته مؤخرا في دير «المارونيين» في القدس لدى واحد من طائفتهم قال لي عنه إنه ينمو هناك.
ظللت انتظر كل يوم
جماعة أرحل معها إلى حلب بالطريق الذي يمر بعدة مدن وليس بطريق يصلها رأسا عبر
الفيافي الرملية.
وأعود إلى ما
حدثني به ذلك الفارسي فأقول إنه قد أنبأني بأن ملك
__________________
فارس كان يحتفظ
بعدد من الخيول من النوع المعروف باسم «وحيد القرن» في سمرقند وكذلك في جزيرتي (أيك)
و (تيلوس) اللتين
تبعدان عن سمرقند مسيرة تسعة أيام إلى الشرق وعلى مقربة من (الشبام) وعدد من الزرافات بعث بها إليه «ملك الحبشة» من إفريقيا
وهي من نوع ضخم مرتفع ذو رأس أحمر ومنقار ملتح ورقبة يعلوها الريش وجسم كثيف
وأجنحة سود تشبه أجنحة النسر ، وذنب طويل مثل ذنب الأسد وأقدام مثل أقدام (التنين)
وهي تحب أكل اللحوم حين تكون صغيرة. وكان الملك يأخذ هذه الزرافات معه حين
يخرج إلى الصيد والنزهة ولكن حين كبرت وغدت قوية شرع يربطها بسلاسل قوية من
أعناقها.
والذي أعتقده أن
هذا النوع من الزرافات قديم وقد كان في
__________________
مستطاع ذلك
الفارسي أن يتحدث إلى عن الأشجار والفواكه التي كانت تنمو هناك ولا سيما تلك التي
أشار ثيوفراستوس إليها ونقلها عنه «بليني».
وما خلا ذلك
أعطاني ذلك الرجل معلومات عن شجرة (الفلّة) التي تنمو في أماكن عديدة من فارس وقد أشار إليها كل من
ثيوفراستوس وبليني وتتناولها النساء في البلدان الشرقية ، وعن شجرة «الموز» التي
تنمو في الجزيرة العربية وتحمل ثمرا حلوا طيب المذاق يسمونه (واك) وهو مدور الشكل أحمر اللون بحجم البطيخ الهندي. ترى هل كان
هذا هو ثمر (المانغا) الذي أشار إليه كلوفيوس في تاريخه عن النباتات الهندية ،
والذي كان ينقل ـ بسبب جودته ـ إلى فارس بحرا؟ فقد تركت ذلك لألم به فيما بعد.
أما الموز الذي
قيل عنه إنه معروف في سوريا أيضا ، فهو شجر يحمل ثمرا صغير الحجم مقوسا ورقيقا
أصفر اللون يشبه البطيخ في شكله وهو حلو المذاق شهي الطعم ، لكنه مضر بالصحة ولهذا
السبب منع الإسكندر الكبير جنوده من تناوله!
كذلك ذكر لي ذلك
الفارسي وجود ثمر سام في فارس يعرف لديهم باسم (سيفا) لا يهتمون به كثيرا ، إضافة إلى الخوخ الذي يسمونه (هت) ومع أن هذا الثمر غير سام إلا أنهم لا يحبونه لأنهم
يعتقدون أن
__________________
«نمرود» ـ وهو
ساحر كبير ـ قد سمم ذلك
الثمر بسحره ولذلك فهم لم يقبلوا على تناوله منذ ذلك الوقت.
أرى أن فيما ذكرته
الكفاية إلى أن تتوفر لي فرصة السفر إلى تلك البلاد وعندئذ سأقوم بالتحريات التي
أستطيع بها أن أتحقق من ذلك.
__________________
الفصل الخامس عشر
الطريق التي عدت بها من بغداد عبر أور في أطراف فارس
وإقليم الكرد إلى كركوك وأربيل
حين اعترضت رحلتي
جملة أسباب قاهرة اضطرتني إلى العودة ، تفحصت أمتعتي وإذ ذاك نصحني صديقي المسيحي
الذي أشرت إليه قبلا ، بأن من الملائم لي أن أسافر مع ثلاثة من اليهود جاء أحدهم
معي في نهر الفرات ، في حين وفد الآخران من هرمز ، فقرر الثلاثة أن يسافروا إلى
حلب. وقد قبلت بذلك لأنني لم أجد غيرهم يقصدون تلك الجهة.
بدأنا مسيرتنا في
اليوم السادس عشر من شهر كانون الأول متجهين نحو كركوك التي تبعد مسيرة ستة أيام ،
وتقع في حدود «ماذي». وقد بدأنا السفر من الطرف الثاني لنهر دجلة الذي يسمونه «حدقول»
.
مررنا في طريقنا
أول الأمر بحقول مزروعة ، كما امتدت أمامنا بعض القرى على ضفاف نهر دجلة. ولست
أذكر أني شاهدت بلادا كهذه
__________________
البلاد يكثر فيها
القمح والفواكه والعسل وغيره. وتقارن هذه الأرض التي كانت تعود إلى ملك آشور
بأراضي فلسطين غير أننا كلما توغلنا بعيدا في مسيرتنا تعاظمت الأرض الخلاء ولذلك
كنا نضطر إلى أن نقضي الليل في الحقول.
في صباح اليوم
التالي بان لنا طريق تنتشر عليه قرى قليلة تعود إلى ملك فارس وكنا نسير في صحاري قال لي رفاقي المسافرون معي عنها إنها
تمتد إلى داخل فارس وماذي. ولقد ضللنا الطريق حتى وصلنا عند المساء إلى مستنقع
أعاقنا عن السير. وقد أجبرنا على البقاء في هذا الموقع بسبب حلول يوم السبت وعدم
موافقة اليهود الذين كانوا معي على متابعة السفر تنفيذا لشعائرهم. وهكذا أمضينا
الليل واليوم الذي تلاه تحت وابل من المطر.
ورحت في أثناء
مكوثي في ذلك المكان أبحث عن النباتات فيه لكنني لم أعثر على شيء منها لأنها في
ذلك الوقت كانت قد بدأت تبرز من باطن الأرض. على أنني عثرت على أنواع من الخلنجان
البري ذي جذور كبيرة ومدورة يسميه السكان «السرو» ويطلق عليه اليونانيون واللاتينيون اسم «سيبروس» .
وفي التاسع عشر من
الشهر وبعد مصاعب برزت لنا بسبب الأوحال التي كانت تغطي الطريق ، أخذ طريقنا يمتد
وسط أراض مزروعة جعلتني أتذكر «تراجان» الامبراطور الروماني وجيشه الذي صمد به أمام الفرس
__________________
في أعداد كبيرة في
نهر دجلة ، وعلى مقربة من طيسفون. ولقد ضل (تراحان) ـ بسبب أحد الأسرى من الفرس ـ في
الصحراء فتمزق جيشه وأبيد في قتال عنيف على أيدي الفرس ، وقد جرح الامبراطور نفسه
في ذلك القتال جرحا بليغا ومميتا.
ويذكر المؤرخان «نقفور»
وأوسابيوس أن «تراجان» أخذ حفنة من الدم وقذف بها في الهواء وهو يقول
: (وأنت أيها الجليلي ـ وهو الاسم الذي كان يسمى به المسيح وقد آمن به أول مرة ثم
ما لبث أن أنكره واستخف به ـ قد هزمتني وحطمتني!).
بعد أن عانينا
البؤس عدة أيام وصلنا في العشرين من الشهر إلى قرية تقع على مرتفع في أرض مزروعة
مثمرة في حدود فارس ومعظم سكانها من الفرس كما خيل إلينا ذلك من لغتهم التي كانوا
يتخاطبون بها.
__________________
ومع أننا كنا الآن
نسير في مناطق خطرة إلا أننا ، والحمد لله لم نصادف أي خطر ، ولذلك لم نتوقف عن
المسير إلى أن بلغنا ليلة الحادي والعشرين من كانون الأول قرية (شلب) فأمضينا الليلة فيها ومن هناك واصلنا سيرنا في أودية خصبة
لكننا لم نجد فيها نباتا لأنها كانت قد حرثت مؤخرا فلم يظهر الزرع فيها بعد. ولقد
مررنا في طريقنا هذا بجملة من القرى وبذلك تهيأت لنا فرص حسنة للتزود بما نحتاج
إليه من هذه القرى.
في ليلة الثالث
والعشرين من الشهر وصلنا إلى إحدى القرى التي استطعنا أن نشتري منها مائة بيضة
بمبلغ «بنسين» .
وفي صباح اليوم
التالي نهضنا مبكرين فشاهدنا أمامنا جبال (طور) كساها الثلج وهي تمتد إلى الشرق من الشمال حتى الجنوب
مسافات شاسعة. ثم واصلنا مسيرتنا حتى وصلنا ، في وقت قصير ومبكر ، مدينة «طاووق» قبل أن يحل يوم السبت. وهذه المدينة ليست محصنة
__________________
جدّا وتقع في سهل
وقد ذهبنا إلى النزل الذي فيها فاسترحنا فيه وأمضينا يوم السبت كله هناك.
وعند المساء وحين
بدأ الظلام يرخي ستائره طلب إلى رفاقي اليهود أن أوقد لهم أحد القناديل ، وإذ ذاك
تذكرت أن اليهود لا يوقدون النار بأنفسهم في مثل هذا اليوم لأن شعائرهم تمنعهم عن
ذلك ، وهذا وارد في الإصحاح الثالث والعشرين من «سفر الخروج». فهم في ذلك اليوم لا
يوقدون أية نار في بيوتهم ، ويهيئون كل ما يحتاجون إليه قبل يوم سابق كيلا يضطروا
إلى مزاولة أي عمل كان في يوم السبت. ولا حاجة إلى القول بأن اليهود يمارسون في
صلاتهم ذات الشعائر التي يمارسها المسيحيون والحثيون في الأقطار الشرقية.
وعلى مسافة قصيرة
من طاووق شاهدنا قلعة محصنة فيها إحدى الحاميات التركية وهذه تقع في منطقة الأكراد
التي تبدأ من هنا وتسير بامتداد نهر دجلة بين ماذي وبين النهرين حتى تصل إلى
أرمينيا.
ومعظم هؤلاء
الأكراد من النسطوريين وهم يتحدثون بلغة خاصة
__________________
لم يكن رفاقي
المسافرون معي يعرفونها ، كما أن الأكراد لا يستطيعون التحدث لا بالفارسية أو
التركية الشائعة الاستعمال ما بين بغداد وآشور. وذلك اضطرنا إلى من يعرفون اللغة
الكردية أن يكونوا بمثابة مترجمين لنا أثناء مرورنا ببلاد الأكراد.
أما إذا كانت
اللغة الكردية منتشرة في بلاد ماذي أم لا فذلك أمر لم أستطع التأكد منه ، إذ إن
كلّا من الفرثيين والماذيين والفرس ، كأمم محددة معروفة ، كانت لهم لغاتهم الخاصة
بهم ، كما يحدثنا التاريخ عن ذلك وكما نطلع عليه أيضا من «أعمال الرسل» حيث تقول
الآية الثامنة من الإصحاح الثاني «وكيف نصغي إلى كل رجل يتحدث بلساننا في الوقت
الذي كنا قد خلقنا فيه».
فالفرثيون
والماذيون والفرس وسكان ما بين النهرين وغيرهم كلهم من الشعوب التي تخضع اليوم
لحكم ملك فارس.
وكان الأكراد
يعرفون قبلا باسم «كردوخي» Carduchi ثم عرفوا باسم «كردواني» Cardueni وهذا الاسم قد سماهم به «زينفون»
بصفة خاصة .
وكانت للأكراد
سياستهم وحكومتهم ، ولكن بعد تبدلات وحروب كثيرة أخضعوا في النهاية لحكم السلطان
التركي ، وهم لا يزالون يخضعون له حتى هذا اليوم وهو يحتفظ بحامياته العسكرية في
كل مكان لمواجهة ملك فارس.
__________________
ومما يجب التحدث
به عن هؤلاء الأكراد ما يتعلق بديانتهم ، ولسوف أشير إلى ذلك فيما بعد حين أقدم لك
قدرا من الحديث عن المسيحيين الذين يسكنون في معبد يقوم على جبل (الصلب) في القدس.
بعد أن ولى اليوم
الذي سبت فيه رفاقي اليهود استأنفنا مسيرتنا فوصلنا في السادس والعشرين من كانون
الأول إلى «كركوك» وهي مدينة جميلة وكبيرة تقع في سهل كثير الخصب. وعلى بعد أربعة
أميال منها تقع مدينة أخرى على مرتفع ولما كانت لرفاقي أشغال في المدينتين فقد أمضينا فيها
يومين قبل أن نواصل سفرتنا.
أمضينا اليوم
التاسع والعشرين من الشهر في مسيرة عبر مروج واسعة حتى وصلنا ليلا إلى خيام صنعت
من نسيج الشعر أمضينا الليلة في واحدة من هذه الخيام مع أناس فقراء من العرب بيض
الوجوه يشبهون الغجر في أشكالهم وسحناتهم. ولم أستطع أن أقدر من نوع الملابس التي
كانوا يرتدونها ما إذا كانوا يخضعون للسلطان التركي أم لملك فارس ، لأنهم كانوا
جميعا يرتدون ذات اللباس ، كما أنني لم أستطع أن أميز شيئا في لغتهم.
بعد قليل أقبل
علينا مسافرون آخرون حلوا معنا وبذلك أصبح من المتعذر علينا أن نجد مكانا ننام
فيه. وكان القوم جد كرماء إذ انهمكوا في
__________________
تقديم اللحوم
والشراب لنا. ذلك لأننا ما إن أقلبنا عليهم حتى أسرع رب البيت بالخروج من خيمته
بجمع الأحطاب الجافة لشي اللحم بها.
ولم تكن النسوة
خاملات ، فقد أسرعن بتقديم اللبن والبيض لنا ، بينما شرع غيرهن في عجن الطحين
لتهيئة الخبز وذلك بصنعه على شكل أقراص سمك الواحد منها سمك الأصبع ومن ثم إلقاؤه
على أحجار ساخنة وتقليبه فوقها وتغطيته بأحجار ساخنة أخرى إلى أن ينضج.
وهذه الطريقة في
صنع الخبز ليست حديثة العهد فلقد اعتادها القدامى من السكان حيث نجد ذلك مذكورا في
المدونات القديمة. فنحن نقرأ في الإصحاح الثامن عشر من «سفر الخليقة» كيف أن «سارة
سارعت إلى صنع الخبز حين أقبل ثلاثة رجال على إبراهيم».
تحركنا من هذا
الموضع ظهيرة يوم الثلاثين من كانون الأول فوصلنا إلى مدينة تدعى «برستا» على مقربة من النهر القائم هناك ، وهي محصنة تحصينا جيدا ،
لكنني لم أعرف الاسم الذي يطلقه السكان على ذلك النهر ، ولكن طبقا لموقعه لا بد أن
يكون هو النهر الذي أطلق عليه «بطليموس» اسم «غورغوس» والذي يصب في دجلة.
وفي هذه الأماكن
تصنع الأرماث وهي وإن لم تكن كثيرة جدّا ولا توجد أخشاب كثيرة فيها ، إلا أنها
تحوي عددا وافرا من جلود الماعز
__________________
المنفوخة والتي
توضع في القعر لتحمل المزيد من الأثقال فوقها ، ولما كان النهر سريع الجريان فلا
يخشى عليها من الخطر كثيرا.
وينقل القوم على
هذه الأرماث أنواع السلع ولا سيما الثمار من أمثال التين واللوز والزبيب والجوز
وكذلك الحنطة والشراب والصابون وغيرها من السلع الأخرى التي يجري نقلها إلى الهند.
واصلنا مسيرتنا في
آخر يوم من كانون الأول عبر الحقول فوصلنا ليلا إلى مدينة أربيل ، وهي مدينة كبيرة
لكن أبنيتها زرية المنظر تحيط بها أسوار هزيلة ولذلك يمكن الاستيلاء عليها بيسر
ومن دون قوة كبيرة أو خسائر.
ولقد استرحنا في
هذه المدينة حتى اليوم التالي وهو يوم السبت والذي يقع فيه «رأس السنة الجديدة» .
وقد علمت في ذات
الوقت أن آمر لواء تركي كان قد أقدم قبل أيام قلائل على تنفيذ حكم الإعدام بثمانية
من المجرمين الكبار الذين اقترفوا أعمال السلب والقتل في الطريق العام ، حيث يوجد
عدد كبير من هؤلاء السلابين في تلك المنطقة ، على حدود أرمينيا. وهؤلاء هم من سكان
الجبال الذين يجعلون السفر في تلك الأنحاء محفوفا بالمخاطر.
ولقد اضطربت
الأحوال وساءت العلاقات بين أولئك القتلة وقطاع الطرق. ولذلك قرر أمير اللواء
التركي أن يقدم على إعدامهم قبل أن يثأروا منه بأي من الطرق ، لكنهم ما لبثوا أن
تفاهموا فيما بينهم واتفقوا على العمل سوية ، وتهيأوا للهجوم عليه طبقا لما خططوه.
ولما كانت لأمير اللواء استخبارات حسنة عن نواياهم فقد استطاع أن يشخص إلى اسطنبول
ليعلن أمرهم للسلطان التركي وذلك أمر لا بد أن يطلعوا عليه بعد وقت قصير.
__________________
وحين وجد أمير
اللواء ضرورة في نجاته ، وحاجة ماسة إلى الأموال التي غدت نادرة لديه ، استدان من
أحد التجار الأرمن ، وهو من الأثرياء وقد وصل إلى أربيل توّا لشراء العفص منها
والذي يكثر فيها ، ثلاثمائة دوقة الأمر الذي وضع ذلك التاجر في خطر كبير ، لأن
المتمردين ما إن علموا بذلك حتى استاؤوا منه وهددوه فاضطر إلى أن يمكث مدة أطول
كيما تتهيأ جماعة أكثر عددا يستطيع السفر معها بأمان.
وبعد أن انضم
إلينا ذلك التاجر الأرمني نفسه رحلنا من أربيل في الخامس من كانون الثاني سنة ١٥٧٥
م في عدد كبير من البضائع ، إذ إن ذلك التاجر وحده كان يملك حوالي خمسين بعيرا
وحمارا محملة بالعفص الذي يريد نقله إلى «قره آمد» (ديار بكر) التي يسكن فيها ومن
هناك يبعث به إلى حلب حيث يقبل التجار هناك على شرائه وإرساله إلى بلادنا
الأوروبية. وهكذا أمضينا النهار ونصف الليل الذي أعقبه ونحن نعد السير دون أن
نتناول أي طعام أو شراب إلى أن توقفنا للاستراحة بعد منتصف الليل.
بعد أن أمضينا
بقية الليل في التزود بالطعام والشراب لنا ولدوابنا استأنفنا مسيرتنا عند انبلاج
الصبح. وحين كنا نسير في سهول مزروعة مثمرة وصلنا إلى نهر آخر سماه «بطليموس» باسم
«كابروس» وهو وإن لم يكن عريضا لكنه عميق الغور جدّا ، ولذلك وجب
علينا أن نعد وسيلة ما لعبوره ، مما جعلني أحرص كل الحرص على وقاية النباتات التي
جمعتها والتي كنت أضعها أمامي على ظهر الجواد الذي كنت أمتطيه.
واصلنا سفرتنا بعد
الظهر فقطعنا مسافة لا بأس بها من الطريق حتى
__________________
وصلنا ليلا إلى
مدينة ذات سوق واسعة هي مدينة (قره قوش) فأقمنا خيامنا على مقربة منها.
وهذه المدينة
يسكنها (الأرمن) الذين استطعنا في الحال أن نميزهم من تغير لغتهم وعاداتهم
، وقد استقبلونا بترحاب متزايد ، وأعدوا لنا كل ما كنا نحتاج إليه.
وبعد أن استرحنا
في المدينة حتى المساء غادرناها حين حل الظلام. وكانت حلكة الليل شديدة إلى درجة
أننا كنا فيها نسمع أصوات قوافل تمر بنا ، دون أن نراها ، أو نعرف كثرتها ، أو
المكان الذي أقبلت منه.
وحين طلع علينا
النهار وصلنا إلى نهر كبير يسميه السكان «كلك» ، إن لم أكن قد أخطأت في ذلك ، بينما يدعوه بطليموس باسم «ليكوس»
.
كان ذلك النهر
يعترض طريقنا ، وكان عريضا يبلغ عرضه زهاء الميل ، ولم يكن من اليسير عبوره دون التعرض إلى الخطر ، وذلك
أمر
__________________
يعرفه الأكراد
جيدا ، في ذات الوقت الذي كنا نحن نشعر فيه بالخوف من أولئك الأكراد أنفسهم ، ومع
ذلك فقد وجدنا بين جماعتنا ممن سبق لهم عبور ذلك النهر وهكذا غامرنا في عبوره
فاندفعنا إليه وعبرناه وخرجنا منه سالمين بفضل الله ، خلا حمار واحد جرفه تيار
النهر القوي فأغرقه.
في صباح اليوم
السابع من كانون الثاني ١٥٧٥ م وصلنا إلى نهر دجلة مرة أخرى لندخل مدينة «الموصل»
الشهيرة التي تقع على هذا الجانب من النهر فوق جسر مصنوع من الزوارق.
وفي المدينة بعض
الشوارع والأبنية الجميلة الجيدة. وهي واسعة نوعا ما لكن أسوارها وخنادقها ضعيفة ،
كما لا حظت ذلك من سطح النزل الذي حللنا فيه والذي يمتد إلى المدينة ذاتها.
كذلك شاهدت في
خارج المدينة تلّا حفر معظمه يسكنه الفقراء من الناس وقد رأيتهم عدة مرات يزحفون
إليه ويخرجون منه مثلما يزحف النمل إلى تلاله ويخرج منها وفي هذا المكان كانت تقوم قبلا مدينة «نينوى» ذات القوة
والبأس التي بناها «آشور» منذ عهد الملكية الأولى حتى عهد سنحاريب وأبنائه .
__________________
كان طول نينوى
يبلغ مسيرة ثلاثة أيام. ولقد قرأنا أن النبي «يونس» عند ما جاءه أمر الله وراح
يدعو سكان المدينة إلى التوبة استطاع أن يدخلها في يوم واحد ، ولذلك أصغى الناس
بشوق إلى مواعظه فتحسنت حياتهم ، لكنهم لم يستمروا في التوبة طويلا ، وعادوا إلى
مفاسدهم السابقة وإذ ذاك حل بهم الدمار والخراب مما تنبأ لهم به كل من النبي «ناحوم»
والنبي صفنيا وكذلك التقي الورع «طوبيا» الذي كان آنذاك في المدينة ولم
يمكث فيها طويلا.
ومع ذلك تم بناء
الموصل مجددا فيما بعد ، وعانت الكثير بسبب تبدل الحكومات التي استولى عليها «تيمور
لنك» في النهاية بهجوم عاصف فأحرقها وحولها إلى رماد ، إلى درجة أن النباتات
والأشجار نمت فوقها بعد مدة قليلة. ولذلك لا ترى في الوقت الحاضر ، أية آثار فيها
مثلما هو عليه الأمر في «بابل» القديمة ، ولم يسلم منها سوى حصن يقوم على أحد
التلال وبعض القرى القليلة التي كانت تعود إلى الأيام الخوالي
__________________
فيها حسبما ذكر
لنا السكان ذلك .
تقع الموصل عند
تخوم أرمينيا في سهل واسع يزرع القسم الأعظم منه بالحنطة على الجانب الآخر من
النهر. ذلك لأن هذا الجانب من أرض العراق رملي وقاحل يدعك تحس وكأنك تعيش في
الصحراء العربية.
ومع هذا فالتجارة
نشطة فيها ، إذ إن في المدينة مخازن كبيرة للسلع نتيجة وجود النهر ، حيث يتم نقل
مختلف البضائع والفواكه من البلاد المجاورة بطريق النهر وبالبر إلى بغداد.
ولقد شاهدت نوعين
من هذه الفواكه من جنس الجوز بأحجام كبيرة وصغيرة يسميه السكان باسم (البندق) كما شاهدت نوعا من «البطيخ» كبير الحجم بقدر قبضتي اليد كثير الانتشار هنا قيل لي عنه
إنه يؤتى به من أرمينيا ، وهو صلب أسمر اللون حلو المذاق وهو كاليقطين ومع ذلك فهو حسن صالح للأكل ويحتوي على بذور صغيرة
__________________
حمراء لا يشاهد ،
المرء حين تناوله ، وهو يحل الجسم لكن ليس بالكل المعروف عندنا من هذا الثمر. وقد
اعتاد السكان أن يتناولوه بكميات كبيرة عند الصباح مثلما يفعل ذلك سكان جبل لبنان بالنسبة إلى الجبنة.
ولكن هل كان هذا هو
(المن الحجازي) الذي أشار العرب إليه ، أم هو النوع الذي أشار إليه «ابن سينا» في
الجزء الثاني ، المقالة الثانية من الفصل الخامس والسبعين ، فذلك أمر لم أتحقق
منه.
وقيل إن أكثرية
سكان الموصل من النسطوريين الذين يزعمون بأنهم مسيحيون ، لكنهم في الحقيقة أسوأ من
أية ملة أخرى. ذلك أنهم لا يمارسون غالبا أي عمل كان سوى ترصد الطرق والانقضاض على
المسافرين وقتلهم وسلبهم ، وبسبب ذلك كانت الطرق المتجهة إلى «نصيبين» ـ التي بلغناها في
مدى خمسة أيام سيرا في أرض رملية وعرة ـ محفوفة بالمخاطر مما اضطرنا إلى أن نمكث
عدة أيام انتظارا لجماعة أكثر عددا نستطيع أن نسافر معها في أمان.
__________________
الفصل السادس عشر
الطريق الذي سلكناه عبر العراق ـ طريق نصيبين ـ أورفه إلى «بير».
كيفية عبورنا نهر الفرات العظيم ووصولنا إلى مدينة حلب
بعد أن مكثنا
أربعة أيام استأنفنا رحلتنا في الحادي عشر من كانون الثاني فأمضينا النهار كله في
السير بمنتهى السرعة دون أن نأكل شيئا إلى أن غربت الشمس وحل المساء ، حيث خيمنا
على مرتفع عند قرية صغيرة لنستريح ونريح دوابنا. وقد بقينا طيلة الليل في حراسة
مستديمة ، ونحن ندور حول المخيم ثلاثة فثلاثة.
وفي اليوم الثاني
استأنفنا مسيرتنا بسرعة تامة كيما نصل إلى ينبوع أو بئر ماء ، مثلما يفعل ذلك سكان
هذه البلاد في مثل هذه الصحاري الشاسعة ، أكثر من اهتمامنا بالوصول إلى نزل حسن.
وقد وصلنا في النهاية إلى إحدى هذه الآبار فأقمنا مخيمنا عندها لنستريح ولنمضي
الليل كله هناك.
وبعد مضي وقت طويل
على تناولنا طعام العشاء أقبل على مخيمنا بعض الأكراد وتحدثوا إلينا برقة ، وسألونا
عما إذا كنا في حاجة إلى شيء ما يستطيعون به مساعدتنا.
لكن سرعان ما تأكد
لدينا أن أولئك كانوا من الجواسيس بعث بهم رفاقهم ليعرفوا قوتنا ، ولما أيقنوا
بأننا لم نفرح بمقدمهم لم يمكثوا معنا طويلا وغادرونا ، وإذ ذاك وطدنا العزم على
أن نستريح بعد أن أعددنا لنا حراسة جيدة مثلما فعلنا ذلك في الليلة السابقة.
وعند منتصف الليل
، وحين كنا في الإغفاءة الأولى ، لاحظ حراسنا عددا كبيرا من الأكراد يقتربون من
مخيمنا. ولذلك أيقظنا حراسنا من النوم بما أطلقوه من عبارات التحذير بأصوات عالية
، وأن نكون على أتم استعداد للأمر ، ولكي يخيفوا أعداءنا ويبعدوهم عنا بهذه
الوسيلة. لكن أولئك الأكراد لم يأبهوا بتلك الصيحات بل اتجهوا إلينا بكل ما لديهم
من سرعة فأصبحوا قريبين منا وغدونا نرى رؤوسهم أمام مخيمنا رغم حلكة الظلام.
على أنهم ما إن
وجدونا على استعداد كامل وتهيؤ لمقاومتهم ، وإذ سمعوا أصوات حملة البنادق والنبال
من جماعتنا وقد استعدوا لإطلاقها عليهم ، وراحوا ينادونهم بأصوات عالية «تعالوا
تعالوا أيها اللصوص!» حتى توقف أولئك الأكراد قليلا ثم خافوا منا فولوا الأدبار
هاربين.
وبعد فترة ، ولم
نعد نخشى هجومهم علينا ، أقبلوا نحونا مرة أخرى في أعداد أكبر من المرة السابقة.
فقد كانوا يسوقون أمامهم بعيرا في المقدمة وخيلا ، استطعنا أن نميزها في الظلام
وهي ترفع رؤوسها نحو السماء ، وكان غرضهم من هذا أن يحملونا على الاعتقاد بأنهم من
المسافرين أو كيلا نعرف مقدار عددهم. على أن غارتهم الأولى علينا ما زالت حية في
الأذهان ولهذا لم ننخدع بهم بل أعدنا استعدادنا ثانية للمجابهة ، فكنت أنا أقف في
الميسرة وفي الصف الأول منها وقد سحبت بندقيتي وتدرعت بعدد من صفاح الورق التي
جلبتها معي لأحفظ بها النباتات التي أجمعها ، ثم رحت أنتظر هجومهم في كل لحظة.
لكنهم توقفوا عن السير مرة أخرى ، وخشوا منا كما خشينا نحن منهم ولم يطلقوا صوتا
واحدا ، أو يتحركوا بأية حركة تجاهنا ، وعندئذ عمد أحد
__________________
رجالنا إلى
استفزازهم فوجه إطلاقة نحو البعير وأصابه معلنا بذلك لبقية الرجال بأن يستعدوا
لإطلاق النار وحينئذ لم يمكث الأكراد إلا قليلا وولوا الأدبار ثانية ، وهكذا بقينا
يقظين طيلة الليل وفي حراسة جيدة حيث استأنفنا مسيرتنا في صبيحة اليوم التالي
فبلغنا قفرا قاحلا واسعا لا إنسان فيه ولا حيوان ، ومضينا في رحلتنا حتى الظهر حين
أقمنا خيامنا في مكان واسع محاط بجدران وخنادق أشبه بالحصن ، مما يكثر وجوده في
مثل تلك الأنحاء الخطرة.
وما إن أقمنا هناك
حتى أقبل علينا اثنان من الأكراد زعما بأنهما قد أرسلا إلينا لتسلم الإتاوة
المفروضة على القافلة لأن المكان يعود إليهما ، غير أن تجارنا سرعان ما تأكد لديهم
كذب مزاعم ذينك الكرديين ، فامتنعوا عن إعطائهما أي شيء مما أثار سخطهما فعمدا إلى
امتشاق حساميهما وإشهارهما بوجوهنا. وإذ ذاك لم يقف رفاقنا مكتوفي الأيدي بل
أسرعوا في امتشاق سيوفهم وهجموا عليهما وطردوهما من المخيم.
بعد أن انتهت هذه
الضجة تناولنا طعام الغداء ثم استرحنا وأطعمنا دوابنا ومن بعدها عاودنا السير مرة
أخرى حيث بدت أمامنا بعض الجبال التي أخذنا نقترب منها عند حلول الظلام ، وقد شاهدنا
أحدها وهو أكثر ارتفاعا من البقية يقوم فوق أحد السهول مما حملنا على الاعتقاد
بوجود جبال أخرى تقع خلف هذه الجبال في شكل كمين ، وقد تحقق لنا ذلك فعلا لأننا ما
كدنا نجتاز أحد تلك الجبال حتى ظهر لنا من ورائها عدد كبير من الجنود يبلغ فوجين
كانوا يمتطون ظهور الخيل ويسيرون كل ثلاثة في صف واحد ، وقد أصبحوا في النهاية على
مرمى سهم منا ، وكان معظمهم يحملون الرماح.
وإذ بدا لنا ،
وكأن أولئك الجند يحاولون الهجوم علينا ، جمعنا فلول قافلتنا وتهيأنا لصدهم ، وقد
ربطنا دوابنا بعضها بالبعض الآخر ، وعقلناها
من أرجلها كيلا تتحرك
، ووقف خلفها المكاريون وهم يحملون سهامهم بينما وقف خلفهم بقية الرجال الذين لم
يتزودوا بالأسلحة والخيل جيدا ، وذلك استعدادا لإطلاق النار على العدو عند الحاجة
إذا ما حاول الهجوم علينا وتوجيه إطلاقات بنادقنا إلى خيله.
بعد مضي ساعة على
ذلك بعثنا باثنين من جماعتنا إلى الجند كما أرسلوا هم بدورهم اثنين من جانبهم
للتفاوض ومع أنني لم أعرف نوع الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين مندوبينا ومبعوثيهم
، إلا أن أولئك ما إن تحادثوا كثيرا حتى غادرونا في الحال وسرنا نحن في طريقنا ،
وإذ ذاك شرعنا في تنظيم قافلتنا ، التي كانت تضم أناسا كثيرين وعددا كبيرا من
الإبل والدواب الموسقة بالحمولة ، بشكل أحسن من ذي قبل ، حيث قطعنا في ذلك اليوم
مسافة جيدة ووصلنا في النهاية إلى قرية صغيرة خيمنا عندها وأمضينا الليل كله هناك.
لم نجد في هذا
المكان شيئا من الحطب وكنا نعاني نقصا في الخبز أكثر من بقية المواد الغذائية
الأخرى. وقد زاد سرورنا حين حصلنا على الخبز ، وفي الوقت ذاته أقبل سكان القرية
نحونا ليجمعوا روث الدواب كما اعتادوا أن يفعلوا ذلك في أماكن عديدة ، ولا سيما في
الصحراء ، لإشعاله بدلا من الحطب الذي يأتي استعماله في الدرجة الثانية بعد روث
الحيوانات.
ويحفر هؤلاء
السكان داخل خيامهم أو بيوتهم حفرات يبلغ عمق الواحدة منها قدما ونصف قدم يضعون
فيها أوعيتهم الفخارية التي يحفظون في القسم العلوي منها ما لديهم من لحوم ثم
يملأون ثلاثة أرباع حيز الحفرة بالحصى ويتركون الربع الأخير فارغا يضعون فيه الروث
والقش فيشعلون فيه النار ومن ثم يضعون الوعاء على النار ليطهوا اللحم بسرعة أكثر
مما نفعله نحن عادة.
إن سكان هذه القرى
فقراء ، ومعظمهم يعاني النقص الشديد في الغذاء ، وهم يفعلون نفس ما فعله اليهود
عند حصار «القدس» حين
اضطرتهم الحاجة
إلى أن يطهوا طعامهم ببراز الإنسان والحيوان معا ، كما ورد ذلك في الإصحاح الرابع
من «سفر حزقيال».
لقد أمضينا هذه
الليلة والليالي الأخرى التي أعقبتها في الحراسة أكثر من النوم ، ورحنا نتمعن
بتأمل فيما تحفل به السماء من فوقنا والتي يشاهدها الكثيرون من أبناء الأمم عادة ،
ولا سيما العرب الذين يبيتون دوما في العراء دون سقف يحميهم ، وبهذا أصبحوا يعرفون
من مشاهدة النجوم ساعات الليل والوقت الذي ينبغي لهم أن يستيقظوا فيه. فهم لا
يهتمون كثيرا بأسرة النوم بل يستعملون بدلا عنها العباءات والأبسطة التي يلفون
أنفسهم بها فيستدفئوا بها ولهذا لا يمكن للمطر أو الجليد أو الندى أن يصيبهم بأي
أذى.
غادرنا موقعنا
صباح اليوم التالي بعد طلوع الشمس فأمضينا النهار كله في السير دون أدنى عائق ،
فاجتزنا جبالا عديدة ، كما مررنا في اليوم الثاني بصحراء رملية عميقة الغور أعاقت
سيرنا كثيرا.
وحين بدأ الظلام
يرخي سدوله كانت دوابنا قد كلت وأوشكت أن تسقط من وطأة الأثقال التي كانت تحملها
وسببت لنا المتاعب ، ورغم ذلك ، ولأن مدينة نصيبين لم تعد تبعد عنا سوى أربعة
أميال ، فقد تخلينا عن الطريق الوعر الذي كنا نسير فيه إلى طريق آخر يمر عبر
المروج والينابيع التي كانت تنساب إلى أماكن بعيدة ، ولذلك أسرعنا في السير حتى
وصلنا نصيبين في وقت متأخر من الليل.
وهذه المدينة
جميلة الموقع وهي تخضع لحكم السلطان التركي لكنها ليست كبيرة ، وتقوم فوق مرتفع ،
وتحيط بها الأسوار والخنادق المحصنة إحاطة جيدة.
والمدينة ملأى
بالينابيع والقنوات ولا سيما في المضرب الذي أقمنا فيه خمسة أيام انتظارا لوصول
جماعة أخرى من المسافرين.
ويسكن نصيبين عدد
كبير من الأرمن لأنها تقع في أطراف أرمينيا الواسعة ولذلك فلم نعد نشعر هنا بالخوف
الذي كنا نشعر به ونحن نجتاز بلاد الأكراد!
خلال إقامتي هناك
طلب إلى التاجر الأرمني الذي أشرت إليه قبلا ، ومعه أحد السادة الأتراك ، ممن كان
يعطف عليّ طيلة الطريق ، ـ بعد أن سمعا من اليهود الذين معنا بأنني طبيب ـ أن أذهب
معهما إلى «ديار بكر» ـ وهي مدينة تبعد مسيرة أربعة أيام وتقع على الجانب الآخر من
دجلة ـ كيما أعالج بعض أقاربهما المرضى هناك وأنهما سيقدمانني إلى الباشا الصغير
ابن محمد باشا ، والذي يشكو هو الآخر بعض المرض في الوقت ذاته ، مما سيعود علي
بفائدة كبيرة.
ولقد تقبلت ذلك
الطلب من صميم قلبي لأنه ما من شيء يسرني أكثر من أن أقدم الخدمة لذلك الأرمني
بسبب عطفه ورقته.
ولما كنت قد طلبت
بأن أعود إلى حلب وأن عليّ أن أحافظ على كلمتي في ذلك ، ولي فيه مصلحة مهمة ، فقد
رفضت طلبهما واعتذرت عن تلبيته بكل رقة.
والباشا ـ ما خلا
الباشا الوزير ـ هو من بين الذين
يؤلفون حاشية السلطان التركي على الدوام ، بينما يكون السلطان هو أعلى رئيس في
تركيا ، وهو يحكم أقاليم أكثر سعة وثمرا من تلك التي يحكمها باشا بغداد من أمثال
آشور والعراق وأجزاء واسعة من أرمينيا ومنطقة الأكراد وغيرها مما يتاخم حدود ملك
فارس.
__________________
بعد أن استرحنا
وانتعشنا ، وانضمت إلينا جماعات أخرى من المسافرين شرعنا ليلة العشرين من شهر
كانون الثاني بمسيرتنا فمررنا بعدد من القرى والحقول المحروثة ، وتحدثنا إلى
السكان فيها بما تعلمناه من الأرمنية والتركية والعربية ، تلك اللغات التي يشيع
استعمالها في تلك البلاد.
استمر سيرنا حثيثا
حتى وصلنا في اليوم الحادي والعشرين إلى مدينة (حران) لنمضي يوم السبت فيها. وفي هذه المدينة وافت الأنباء بوفاة
السلطان التركي (سليمان) .
نهضنا في وقت مبكر
من صباح اليوم الثالث والعشرين من الشهر واتخذنا سبيلا آخر نحو (أورفه) وهي مدينة
أخرى قطعنا في الوصول إليها خمسة أيام. وكلما اقتربنا من جبل «طور» (الذي يفصل
أرمينيا عن بلاد الرافدين من ناحية الجنوب) ازداد الطريق وعورة لكن وعورته تعاظمت
في اليوم التالي ، وهكذا كلما توغلنا في الجبال وجدنا الطرق فيها ملأى بالأحجار
التي أعاقت سيرنا كثيرا وقد كلل البعض من هذه الجبال بالثلوج نوعا ما (وذلك أمر لم
أشاهده في هذه البلاد سوى مرتين).
وحدث أن كبا أحد
خيول اليهود فتدحرج فوق الطريق ، وحين سمع اليهودي تلك الجلبة التفت إلى الوراء
فوجدني واقفا بجانب الحصان وإذ ذاك تعاظم سخطه علي ، إذ ظن بأنني أنا الذي أسقطته
، فحرك قوسه
__________________
وسهامه نحوي. وحين
وجدته مهتاجا وتذكرت كيف أضعت شرابي في السفينة حين سارت بنا في اليم ، لم أتأخر
هذه المرة بل سارعت إليه وأمسكت بإحدى ساقيه فأسقطته من فوق حصانه قبل أن يطلق
سهمه نحوي ، وهكذا أخذ أحدنا يلكم الآخر طويلا إلى أن جعلته يترنح في النهاية. وإذ
رأى المسافران الآخران معنا أننا قد أفسدنا التمتع بمرأى الثلوج ، وأنني قد تغلبت
عليه ووجهت إليه لكمات عديدة ، بادرا في الحال إلى الفصل بيننا وإعادة الصلح.
وحين وجدت أنهما
لم يحملاني تبعة ما حدث ، وأن علينا أن نسافر سوية ، قررا أن يظهرا صداقتهما لذلك
اليهودي ثانية. وعلى هذه الشاكلة مضينا في رحلتنا فوصلنا أثناء الليل إلى قرية تقع
في واد ضيق يمتد عند سفح مرتفع عال عثرنا على إصطبل كبير بالقرب منه فتوجهنا إليه
وكان هذا الإصطبل منحوتا في الجبل. وهكذا أمضينا الليلة فيه ولم نستطع أن نرى شيئا
منه سوى مدخله. ذلك لأن المألوف في هذه المناطق الجبلية أن تنحت مثل هذه الإصطبلات
في الجبال ، وأن تبيت القوافل فيها بأمان ، وتستطيع أن تقي نفسها من البرد أيام
الشتاء.
كان هذا الإصطبل (الذي
يبلغ طوله خمسا وعشرين خطوة وعرضه عشرين خطوة وعلى ارتفاع متساو من كل الجهات) قد
تمّ نحته في إحدى الصخور.
وعند منتصف الليل
تقريبا ، وحين كنا في أول إغفاءة ، طرق علينا أحد سعاة بريد السلطان باب الإصطبل.
وكان هذا الساعي قد وصل إلى هنا من بغداد في مدى ستة أيام ، وقد جاء إلى الإصطبل
يبحث عن بعض الخيول غير المتعبة (لأن خيله قد تعبت ولم يستطع الحصول على غيرها
أثناء الطريق على خلاف ما يحصل في بلادنا الأوروبية التي ينتظم فيها أمر البريد)
وقد دخل الساعي الإصطبل فأخذ من المكاري ثلاثة خيول ، كما أخذ حصانين من اليهودي (الذي
سبق أن تنازعت معه). ذلك أن هؤلاء
السعاة التابعين
للحكومة يتمتعون بامتيازات كبيرة ، إذ يحق لهم ، عند الضرورة ، أن يضعوا أيديهم
على أية خيول يجدونها في المدينة أو الريف ويحتجزونها لهم. وهم في هذا لا يقيمون
وزنا لأحد من الناس سوى التجار والأجانب الذين يعتذرون إليهم ، وهذا ما أدى إلى
تشجيع التجارة.
أما أولئك الذين
يقصدهم هؤلاء السعاة فإن عليهم أن يتخلوا عن خيولهم دون أدنى تردد ، ومن غير أن
يفكر أحدهم في إحداث جلبة (كما فعل ذلك أحد أصدقائنا الذي أبى أن يفتح باب الإصطبل
في الحال) مما يزيد في تعقيد المشكلة.
وحين خيل لذلك
الساعي أنه حصل على خيل جيدة سرعان ما اكتشف غلطته ، ذلك لأن الخيل التي أخذها من
اليهودي قد كرت راجعة إليه ، وإذ ذاك لم يسمح له اليهودي بأخذها ثانية إلا بعد أن
كافأه الساعي على ذلك بصداري طفل مصنوع من القماش الهندي الفاخر.
وقد أدى هذا الأمر
إلى تأخير رحلتنا يوما كاملا إلى أن استطاع المكاري الحصول على خيول أخرى في تلك
المنطقة حيث استيقظنا في اليوم التالي مبكرين وواصلنا رحلتنا عبر جبال وعرة ووديان
ضيقة طيلة ذلك اليوم كله إلى أن وصلنا ليلا إلى إحدى القرى التي يسكنها الأرمن.
وهؤلاء الأرمن من
المسيحيين الطيبين الذين يتحمسون كثيرا لرفاقهم المسيحيين ، ويودون أن يظهروا الود
والرقة تجاه الغرباء ، وهذا ما جربته عنهم غالبا ولا سيما في هذه القرية ، حيث
أخذني أحد الأرمن أنا واليهود إلى بيته فمكثنا عنده حتى اليوم التالي وإذ تهيأ لي
الوقت الكافي هناك دخلت معه في حديث طويل عن عقيدتنا المسيحية فكان يوافقني على ما
أقول. ومع أن أحدنا لا يفهم الآخر إلا أن اليهود كانوا يقومون بمهمة الترجمة فيما
بيننا ولو لا ذلك للاذ كل منا بالصمت وراح أحدنا ينظر إلى الآخر ليس إلا.
كان أهل ذلك البيت
آنذاك يمارسون الصوم الكبير وقد عرفت ذلك من قلة الأنواع التي يتألف طعامهم منها (لأنهم
لا يتناولون سوى الأطعمة النباتية والخبز والماء).
وبعد أن وضع صاحب
البيت أمامنا بعض البيض المسلوق في تلك الليلة أقبلت عليه مندفعا لأنني كنت جائعا
جدّا ، ولم أكن أتصور أنهم يتمسكون بمثل هذا التزمت والتفريق في طعامهم. ولقد دهش
إذ رآني لا أمتنع عن تناول البيض فسألني ، عن طريق أحد اليهود ، عما إذا كنت لا
أدرك أن تناول البيض وغيره من اللحوم محرم في هذا الصوم ، فلم أحر جوابا (ذلك لأن
المسيحيين يجب أن يتحلوا بالوقار والزهد في هذا الصوم بدلا من التزمت والتفريق بين
الأطعمة).
ولما لم أكن أعرف
لغته فقد أجبته باختصار موضحا له أن صومنا لم يحل وقته بعد ، ولن يحين أوانه قبل
مرور ثلاثة أسابيع من الآن. وذلك أمر لم يرض به قط.
استأنفنا مسيرتنا
في اليوم الثاني والعشرين من كانون الثاني فسرنا وسط جبال شامخة وعرة المسالك
مليئة بالأدغال وقد اجتزناها قبل أن يحل الظلام حيث نزلنا في القرية التالية التي
كانت تقع على ربوة في أحد السهول وقد مكثنا فيها اليوم التالي كله لأن كان يوم
السبت.
فاتني أن أذكر أن
اليهود خشوا أن تؤخذ منهم خيولهم ، كما حدث لهم ذلك قبل بضعة أيام ، ولهذا كانوا
غالبا ما يسلمونني تلك الخيول لأقودها بنفسي وكأنني أنا صاحبها ، وكانوا يأملون
الحفاظ عليها بهذه الوسيلة وهكذا ففي الوقت الذي كان فيه أولئك اليهود بمثابة
أدلاء لي ، كنت أنا في الوقت ذاته حاميهم.
بعد أن اجتزنا
جبالا هائلة ومسالك وعرة وصلنا إلى واد خصب
يمتد مسيرة عدة
أيام إلى «أورفه» وقد بانت على جانبي الطريق عدة قرى ومن بعدها ظهرت المدينة
قبالتنا بقلعتها القائمة على أحد التلال بشكل بهيج.
دخلنا المدينة
ليلة الثلاثين من كانون الثاني ، فذهبنا للإقامة في نزل واسع حسن البناء مكثنا فيه
أربعة أيام.
وهذه المدينة
لطيفة جدّا وكبيرة نوعا ما ، ومزودة بحصون قوية ، وقد كانت المدينة والمنطقة كلها
تعود قبلا إلى ملك فارس ، أما الآن فإنها من أهم الأنحاء التي تخضع للسلطان
التركي.
وتنشط التجارة في
أورفة نشاطا جيدا ، ويكثر الاتجار فيها بمختلف أنواع الأقمشة المزركشة ، يصنع
البعض منها في المدينة ذاتها ، ويصدر إلينا في أوروبا ، بالإضافة إلى التعامل بمختلف
أنواع السلع التي يؤتي بها من حلب ودمشق واسطنبول وغيرها ، والتي ترسل من هناك إلى
ديار بكر في مدى خمسة أيام ومن ثم تنقل إلى ماذي وفارس والهند وغيرها.
ولقد ذكر البعض أن
هذه المدينة كانت تعرف قديما باسم (حران) أو «كراس» ومنها ارتحل الرسول «إبراهيم» مع زوجته (سارة) وابن أخيه «لوط» ـ تنفيذا لأمر
الله الذي أصدره إليه (سفر الخليقة الإصحاح ١٢) ـ إلى «أرض كنعان» التي وعده الله بها.
__________________
ولا تزال في
المدينة بئر فياضة قائمة إلى اليوم تدعى «بئر إبراهيم» وكان الخادم الذي بعث به
إبراهيم إلى بلاد الرافدين ، أي مدينة «ناهور» (ليبحث فيها عن
زوجة لولده «إسحاق» من أقربائه هناك) ، كان هذا الخادم قد رأى عند تلك البئر «ربيكا»
التي قدمت له ولإبله الماء المستخرج من البئر ذاتها.
ومثل هذا فعله
النبي «يعقوب» عند ما هرب من أخيه «عيسو» إذ قدم إلى ذات البئر وعرف نفسه إلى «راشيل» ابنة خاله «لابان»
، وعندئذ أزاح الأحجار عن فوهة البئر وبذلك استطاعت راشيل أن ترد أغنامها من
مائها.
ومياه هذه البئر
ذات رغوة أكثر بياضا من بقية المياه الأخرى. ولقد شربت عدة مرات من مائها الذي كان
يخرج من فوهتها ، ويجري وسط النزل الذي حللنا فيه ، فكان عذبا حلو المذاق.
وإلى هذه البئر
ذاتها جاء أيضا ابن «طوبيا» البار الذي حمله إليها الملاك «رفائيل» الذي بعث به
أبوه إلى «الرها» (التي تدعى الآن
__________________
أديسا) ـ كما سبقت
الإشارة إلى ذلك قبلا كيما يطالب «غابيل» بتسديد دين في ذمته ، مثلما نكون قد
قرأنا ذلك في الإصحاح الحادي عشر من كتابه ، وحينئذ عاد عبر طريق «حران» الذي يؤلف
نصف الطريق إلى نينوى.
بعد أن أكمل
اليهود أعمالهم بنجاح تام هناك ، استأنفنا رحلتنا فبلغنا جبالا شامخة وعرة المسالك
، حيث أمضينا اليوم التالي كله في مشقة بالغة إلى أن وصلنا إلى نهر الفرات ثانية ،
وإلى مدينة «بير» ذاتها التي سبق أن أشرت إليها من قبل.
ومع أن المسافة
بيننا وبين حلب لا تزيد عن مسيرة يومين ونصف اليوم فإن رفاقي اليهود كانت لهم بعض
الأشغال في «نصيبين» الشهيرة (التي تقع على هذا الجانب من النهر وعند الحدود
السفلى لأرمينيا) وعلى هذا أصبحنا ملزمين بالذهاب إلى المدينة ، ومن ثم واصلنا
مسيرتنا بعد انقضاء يوم السبت أي السادس من شهر شباط عبر حقول مزروعة بالقمح زراعة
جيدة ، متجهين نحو «عينتاب» التي بلغناها عند المساء وهي مدينة كبيرة نوعا ما لكنها
ليست محصنة ، وتقع على تلين صغيرين لطيفين ، ولذلك تستطيع أن تراها بوضوح وتمييز
حين تخرج من الوادي عبر إحدى البحيرات إلى الحقول.
وعلى الرغم من ذلك
فإن موقعها حسن ومنظرها بهيج عن بعد ، وإن كانت تبدو من الداخل واهنة البناء.
وقد حاصر ملوك
فارس هذه المدينة عدة مرات في العصور السابقة ثم استولوا عليها أخيرا واحتفظوا بها
زمنا طويلا ، إلى أن استعادها
__________________
الامبراطور
الروماني جليانوس (أذينة التدمري) من الملك الفارسي «سابور» ، مع مدينة «أورفة» سوية وضمها
إلى الامبراطورية الرومانية مرة أخرى.
ولكن وا أسفاه!
إنها في وقتنا الحاضر هذا تخضع ، مع بقية البلاد الأخرى ، للاستعباد العثماني!.
وقد غدت التجارة فيها ضئيلة ولذلك يعتاش سكانها على مقاطعاتهم الزراعية إذ يزرعون
الأراضي التي يملكونها بالكروم والبساتين التي تكثر فيها أشجار الرمان والتين
وغيرها (وهذه الأشجار مثقلة بالفاكهة) ولكنك إن نظرت إليها عن بعد حسبتها غابات من
أشجار برية وليست أشجارا مثمرة.
وهكذا ترى أهل هذه
المدينة يصدرون في كل سنة أنواعا عديدة ، من الفاكهة ، وفي مقدمتها الزبيب ، إلى
البلدان الشرقية بطريق القوافل التي صادفت الكثير منها.
بعد أن مكثنا هناك
وأضعت أنا اليوم كله سدى في سبيل أشغال أولئك اليهود ، توجهنا نحو «حلب» رأسا
فقطعنا عدة أميال في طرق جبلية وعرة إلى أن بلغنا في النهاية سهلا أرضه لطيفة خصبة
تكثر فيها الخمور والقمح بشكل لم أشهد مثله قبلا. ويمتد هذا السهل إلى مدينة حلب
التي وصلناها مبكرين وفي صحة جيدة بعون الله العظيم في اليوم العاشر من شهر شباط
١٥٧٥.
وعند وصولي إليها
لم يكن رفيقي «هانز أولرخ كرستل» موجودا مع بقية القوم ، وإذ ذاك أقبل علي بعض
التجار الفرنسيين (الذين سبق أن
__________________
عالجتهم مما
أصابهم من مرض قبل رحيلي) فحملوني معهم إلى مسكنهم ، ورغبوا إليّ أن أعيش معهم إلى
أن تنتهي مهمتي (التي استدعت العودة بسببها) فكانوا في ذلك مثالا للرقة حقّا.
ولما كانت ملابسي
قد تمزقت (لأنني لم أخلعها عن بدني مدة نصف سنة) فقد توفرت لديّ فرصة الاستراحة
والحصول على ملابس جديدة.
وإنني أشكر الله
العظيم على رحمته الواسعة ، وعلى العطف الذي حباني به ، والمساعدة التي أولاني
إياها في هذه السفرات فله مني الشكر والتبجيل.
ملحق بأسماء النباتات التي صادفها الدكتور راوولف
في رحلته إلى الشرق
القيصوم......................................................... Abotanum
شجر السنط العطر ،
الطلح (أقاقيا صمغ عربي)......................... Acaciae
الكمأ. الفطر..................................................... Ageratum
الحاج نبات يشبه الشوك
العاقول......................................... Alhag
خطمى ورد الخطيمة.................................................... Alcea
نوع من النباتات
السدوية المخنثة............................... Androsae mum
شقائق النعمان.................................................... Anemone
شبث نوع من النباتات
الخيمية والتوابل.................................. Anetho
السفرجل الهندي..................................................... Anonis
دفلى : نبات قاتل
الكلب أو خانق الكلب.......................... Apocynum
أربوطس ، قطلب ، نبات
يدعى (قاتل أبيه)............................ Arbutus
أريصادن أو نبات الرنس............................................ Arisarum
أرسطو لوخيا نبات
الزراوند....................................... Aristolochia
أرون ، اللوف ، خبز
القرود............................................. Arum
اصطر نبات ذو زهور مركبة.............................................. Aster
استراغالوس نبات من فصيلة البقول................................... Stragalus
المشرف. نبات متعدد
الأزهار.............................. Atractylis (cypria)
القرطم البري...................................... Atractylis (Antiquarum)
الشوفان ، الهرطمان................................................. Avellana
اسم فارسي للشجر
العتيق........................................ Azadirachta
بخارس. بابونج الطيور
من جنس الأشجار المركبة...................... Baccaharis
شجر البلسم..................................................... Balsamum
شجر البان......................................................... Behmen
نبات المولى ،
البرنية. زهر الأجراس........................................ Bellis
ورد لسان الثور....................................................... Borago
القصب الذريري نبات
يشبه الذرة له.................................. Calamus
رائحة عطرية................................................... Camarronum
نبات القطيفة عرف
الديك........................................... Capparis
شجر اللصف أو الكبر.............................................. Castrnea
الكستنة. أو قروة
الفسطل......................................... Catanance
القسطل شاه بلوط.................................................. Caucalis
أزهار ذوات سيقان......................................... Cedrus (Magna)
شجر الأرز من النوع
الضخم.................................. Cedrus (Lycia)
أرز من النوع الصغير............................................ Chomaeleon
شجر الحور الأبيض.......................................... Charnobi Arab
الخرنوب العربي (ثمر
الشوك)...................................... Chondrillae
الهندباء البرية........................................... Chrysocome (Vera)
نوع من الأزهار الحلزونية أقحوان........................ Chrysocome (Syriaca)
أقحوان سوري................................................ Chrysogonum
نبات ذنب....................................................... القطCistus
فستس. لحية التيس............................................ Clinopodium
نبات رأس العصفور................................................. Cneorum
نوع من أزهار السوس............................................. Colehicum
زهر شجرة اللحلاح.
سورنجان.......................... Convolvulvs Hederae
شجر العليق. اللبلاب.................................. Convolvulus Carleus
نبات لفلاف...................................... Convolvulus Sagittariae
القطب نوع من شجر
البان............................. Convolvulus Marinus
شجر البان البحري................................... Convolvulus Arabicus
شجر البان العربي............................................ Conyza Syriae
قونيزة ، طباق نبات
مركب.................................. Conchorus Plinii
نبات الملوخية في مصر............................................ Coris Foliis
نبات البطراون (يونانية)....................................... Coris Legitima
نبات السمفوطس (يونانية)............................................ Corona
الإكليل. التاج............................................. Cyanus Floridus
قيانوس نبات عطري
متعدد الأوراق.......................... Cyanus Orientalis
زهر القيانوس الشرفي..................................... Cyclamine Antioch
نبات عطري يسمى بخور
مريم (الأنطاكي)................. Cyclamen Autumnal
نبات بخور مريم
الخريفي.................................. Cyclamen Hyemale
نبات بخور أو شجرة
مريم المتعددة الأزهار...................... Cyclamen Heme
شجرة مريم المتعددة الأوراق........................ Cyperus Rotondus (Orien)
نبات السعد (الشرقي)................................... Cyperus (Syriocus)
نبات السعد (السوري)
الشندي........................................ Cytisus
قوطيوس من النباتات
القرنية الفراشية (جزرايجه).......................... Daucus
نبات من فصيلة البقول.
الحسك (سرويا)........................ جزرDictamnus
نبات مشرفي الفوذنج................................................... Draba
نبات الغرب.......................................................... Draba
نبات العدم......................................................... Ephedra
نبات الجرجير (من
الفصيلة الصليبية) حشيشة الغبيرة....................... Eruca
نبات شوكي من الفصيلة
الخيمية (شوكة إبراهيم) بقلية.................. Eryngium
شجرة التين أو الجميز........................................... Ficus Sypria
الفسطيط شجر ضخم........................................ Fustick Wood
الغرب................................................................ Garab
الرتم. الزان.................................................. Genista Spiosa
الرتم شجر له زهر وحب
مثل حب العدس.................... Genista Spartium
بلوط............................................................ Gengidum
اللبان................................................................ Glans
................................................................ Gnaphalio
نبات الزرام (الجزائر).................................................. Habhel
نبات العود (سوريا)................................................... Hacub
الحرمل............................................................. Harmala
نبات بري من نوع
القيصوم..................................... Heliochrysum
أقحوان من فصيلة عباد الشمس................................. Heliochryson
زهرة المساء زهرة من
الفصيلة الصليبية................................... Hespris
المرير (حشيشة القعاب)
نبات عشبي مركب الزهور..................... Hieracium
نبات الجنجل ، الشعير............................................ Horminum
العيسلان نبات زنبقي.................................. Hyacinthus Comosus
الزنبق المتعدد الورود.................................. Hyacinthus Racemosus
الزنبق الشرقي عباد
الشمس............................ Hyacinthus Orientalis
الليلاق............................................... Hyacinthus Stellatus
زهر عيون الغزال.................................... Hyacinthus Eiriophorus
الزنبق الطرابلسي.................................... Hyacinthus Tripolitanus
الزنبق المصري...................................... Hyacinthus Ae Gyptius
الزنبق الجبلي............................................ Hyacinthus Montis
الزنبق السدري........................................ Hyacinthus Syriacum
الآس البابلي.................................................... Iris Bulbosa
الآس الضخم............................................. Iris Chalcedonica
ياسمين فارسي................................................... Iris Asiatica
سوسن..................................................... Iris Damascena
سوسن الخلقدونية............................................ Iris Tripolitana
سوسن آسيوي................................................. Iris Tuberofa
سوسن دمشقي............................................ Jacea Babylonica
سوسن طرابلسي.............................................. Jacea Maxima
جذر البنفسج........................................................ Jaceam
...................................................... Jasminum Persicum
القلي العربي. شنان............................................. Kali Arabum
القلي العربي...................................... Kali Arabum Seecundum
زهر القسمسن.................................................... Kismesen
لاميون نبات شفوي................................................. Lamium
نبات الحماضي................................................... Lapathum
الإيراقليون شجر صمغي.......................................... Laserpitium
نبات بقول...................................................... ي
Lathxrus
شجر الغار الكرزي............................................. Laurocerasus
نبات الأذريون............................................... Leontopetalon
نبات من الفصيلة
الصليبية. الخماش.................................. Lepirium
الزغل............................................................ Leucoium
زنبق................................................................. Lilium
التيل نوع من الأعشاب............................................... Linaria
نبات عشبي من الفصيلة
الخنازيرية...................................... Linariae
نوع من نبات الترمس
السام........................................... Lupinus
زهر من فصيلة القرنفل............................................. Lychnidis
نبات من الفصيلة
القرنفلية............................. Lychnis Chalcedonica
القرنفل المتعدد الزهر........................................... Lychnis Flore
نبات سراج القطرب....................................... Lyshnis Sylvestris
العوسج............................................................. Lycium
الخولان....................................................... Lycium Boxi
نبات أذن الحمار نبات غير مزهر..................................... Lycopsis
آذان الفأر عبقر حبق
الفيل من الشفويات زهر......................... Majorana
خبازيات............................................................. Malva
نبات عشبي من الفصيلة
الشفوية................................... Marrubium
النفل....................................................... Medica Trisuls
النفل. القرط................................................ Medica Siliquis
الصفصاف. السفراب............................................... Medium
القرطم العربي............................................... Medac Arabum
شربين. عرعر.................................................... Melantzani
حندقوق إكليل الملك....................................... Melilotus Corvis
حندقوق سوري........................................... Melilotus Syriaca
حندقوق أصفر الزهر........................................ Melilotus Lutea
حندقوق قطري........................................... Melilotus Minima
ترنجان..................................................... Melissa Moluca
البطيخ............................................................ Melochia
مرجان............................................................ Morgsani
طحلب «كثة العجوز»............................................ Mossolini
ثمر المانغا............................................................ Mungo
زهرة سلطان الحب................................................ Myagyrum
شجر المر الذي يستخرج
منه الصمغ الآس الريحان........................ Myrtus
زهر النرجس...................................................... Narcissus
زهرة قرة العين بقلة معمرة تؤكل أوراقها............................... Nasturtium
الحبة السوداء......................................................... Negill
فوزنج من الفصيلة
الشفوية............................................... Olea
من الفصيلة الزنبقية
يستخرج منها................................... Origanum
الصمغ...................................................... Ornithogalum
نبات سنة العجوز.
جلبان الحية..................................... Onobryhis
النخل...................................................... Parma (Palma)
الدخن. نبتة ذات جذرين............................................... Panax
الخشخاش.......................................................... Papaver
شجر اللبخ........................................................... Persea
شجر الحلاب أو الحلب............................................. Periploca
نبات البقدونس................................................. Petromarula
قطن............................................................. Phaseolus
لسان الحمل نبات عشبي
معمر................................ Planta Lactaria
الفستق............................................................ Pistacea
عشب من الفصيلة
النجيلية (الجعدة).................................... Polium
جنجر. عصا الراعي................................... Polygonum Baccirum
..................................................... Polygonum Mximum
نبتة قرعة الراعي.................................................... Poterium
شجر الإجاص الشائك.
برقوق....................................... Prunella
شجر من الفصيلة
الصنوبرية.............................. Pseudo Dictamnum
فطر من الفصيلة
الفقعية (فساء الذئب)............................... Pulfatilla
نبات مربع الأوراق............................................. Quadrifolium
نبات ذو فلقتين ، جوذان الشونيز................................. Ranunculus
شقائق النعمان شونيز
جوذان....................................... Ranunculi
الفجل....................................................... Raphanistrum
من الأشجار المستوطنة
في إفريقيا وأوروبا............................... Rhamnus
(رافس)...................................................... Rhaponticum
شجر الراوند من
الأشجار المعمرة......................................... Ribes
(ترفة).................................................. Rosa Hierichontea
الكشمش. عنب الثعلب................................. Rosae Hierichontea
ورد جوري عرشق....................................................... Ruta
الحرمل السذاب................................................ Salix Arabica
الصفصاف العربي.............................................. Salix Syriaca
الصفصاف السوري.................................................... Salvia
شجر الأراك........................................................ Satureia
السحلب......................................................... Scabiuosa
زهرة الجرب ، حشيشة
الجرب...................................... Scammonia
سقمونية ، المحمودة
نوع من البقول الصمغية........................... Schaniuth
الشوك.......................................................... Scorzonera
الشوك.................................................. Scorzonera Radice
ذوات القشر الأسود.................................. Scorzonera Orientaliis
نبات المرير....................................................... Scordiium
الدباة عند عرب
الجزيرة............................................. Sebestena
الثوم البري ثوم الحية.................................................. Secacul
سبستان ثمرها لزج................................................... Secudes
القطاني نوع من
الفصيلة النجيلية...................................... Seisefen
سبسبان. سيسباء..................................................... Sephia
زيفا (حمص؟)...................................................... Sideritis
نبات الفزر (العريشي)................................................ Sisarum
نبات الغرا والغريرا............................................. Sisyrhinchium
الخردل البري....................................................... Solanum
نبات عشبي من الفصيلة
الباذنجانية...................................... Sorghi
الذرة.............................................................. Spartium
شجر الرتم. كف الكلب........................................... Speculum
ذات السنابل القليلة.................................................. Stachys
رغل من النباتات
الشفوية......................................... Sycomorus
الجميز.............................................................. Syringa
نبات للتزيين من
الفصيلة القلبية البطم الهندي................ Terebinthus Indica
................................................................ Tereniabin
................................................................. Tharasalis
.................................................................... Thlaspi
أزهار من الفصيلة
الصليبية............................................ Thlaspi
السعتر (زعتر)....................................................... Thymus
شجر الزيتون.................................................... Tithymalus
شجر العضاه الصمغي........................................... Tragacantha
شجر الحرقوف. الجمينة.............................................. Tragium
النغل.............................................................. Trionum
أبو خنجر. طرطور
الباشا.......................................... Trunschibil
شجرة الخزامى......................................................... Tulipa
شجرة قرن الغزال.................................................... Tulipam
بوصير. آذان الدب................................................ Verbasum
البنفسج.............................................................. Viola
زهرة خماسية. كف مريم................................................. Vitex
نبات عرق الكافور........................................ Zarneb Zarnabum
............................................................ Zarneb Melchi
الطرطير............................................................... Zaroa
فهرس المحتويات
كلمة الناشر............................................................... ٥
أهداف الرحلة............................................................. ٦
بداية الرحلة............................................................... ٦
التوت أو الفرصاد.......................................................... ٧
والأشنان أو الأشنان........................................................ ٨
بداية رحلة الدكتور
ليونهارت راوولف......................................... ٣١
الفصل الأول : مدينة
طرابلس. ضواحيها الخصبة. عظم التجارة فيها.
فخامة الحمامات
والأبنية المهمة الأخرى التي تشاهد هناك...................... ٣٣
الفصل الثاني : أفراد
الطبقة العليا من رجال الأتراك ونسائهم ، أعمالهم ودوائرهم ، عاداتهم وتقاليدهم
وملابسهم ٤٩
الفصل الثالث : من
طرابلس إلى دمشق وحلب............................... ٦١
الفصل الرابع : مدينة
حلب. الأوضاع في مدينة حلب.
الأبنية القائمة فيها
، الفواكه الفاخرة........................................ ٦٧
الفصل الخامس :
المناصب الرفيعة والسلطات الواسعة التي يتمتع بها الباشوات في حلب. البلاطات
الكبيرة التي يحتفظون بها ٧١
الفصل السادس :
المعاملات التجارية في مدينة حلب.
جملة أنواع من
المأكولات والمشروبات والولائم................................. ٨٧
الفصل السابع : مغادرة
حلب إلى مدينة (بير) الشهيرة وسفري من هناك في نهر الفرات إلى بابل القديمة ١٠٧
الفصل الثامن : الطريق
الذي سلكناه بالسفينة. التوجه نهرا إلى الرقة.
مجيء نجل أمير العرب
إلى سفينتنا مطالبا بالإتاوة............................. ١٢٣
الفصل التاسع : مدينة
الرقة.............................................. ١٤٣
الفصل العاشر : مدينة
دير الزور.......................................... ١٥٣
الفصل الحادي عشر :
مدينة «عنه»...................................... ١٦٥
الفصل الثاني عشر :
الطريق الذي سلكناه من عنه إلى بابل القديمة عبر المدن القديمة المسماة حديثة وجبة
وهيت ١٧٧
الفصل الثالث عشر :
بابل القديمة. هي عاصمة كلدة وموقعها.
كيفية بقائها حتى
اليوم................................................... ١٨٥
الفصل الرابع عشر :
مدينة بغداد. تدعى بالداك.
موقعها ، نباتاتها
الغريبة ، مواصلاتها القديمة................................. ١٩٣
الفصل الخامس عشر :
الطريق التي عدت بها من بغداد عبر أور في أطراف فارس وإقليم الكرد إلى كركوك
وأربيل ٢١٧
الفصل السادس عشر :
الطريق الذي سلكناه عبر العراق ـ طريق نصيبين ـ أورفه إلى «بير». كيفية عبورنا نهر
الفرات العظيم ووصولنا إلى مدينة حلب............................................................ ٢٣٣
ملحق بأسماء النباتات
التي صادفها راوولف في رحلته إلى
الشرق................ ٢٤٩
|