


بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الناشر
هذه الموسوعة فريدة في بابها ، مبتكرة
في أسلوبها وأدائها ، ناهضة بعبء ثقيل من البحث العلمي الرصين ، نأمل أن تكون بعد
كمالها « موسوعة أهل البيت :
» إن شاء الله تعالى.
تتحدث هذه الأطروحة الجديدة عن ألآثار
الإنسانية والعطاء الحضاري لكل المعصومين :
، فكرا عقائديا ، ومنهجا وساليا ، وأفقا موسوعيا ، وظاهرة متألقة لن تتكرر.
والعرض المنهجي ههنا يؤكد على أبرز
الجوانب في حياة كل إمام ، باعتباره قائدا ورائدا وفكرا وعطاء ليس غير.
وكانت طبيعة هذا الابداع في اختيار
المنهج الحديث أن تبتعد هذه الدراسة عن التراكم التقليدي في عرض الكرامات والفضائل
، فهو منهج بعد من المؤلف ، وابتعد عنه ، وقد سرده الآخرون ، بل اتخذ الاستقراء
التأريخي ، وريادة المجهول ، ومنطق حقائق الأشياء بديلا عنه : في الحقل الإنساني
والبعد التخطيطي وصيانة التراث.
وقد اتسع فكر المؤلف سماحة العلامة
الشيخ الدكتور محمد حسين علي الصغير الأستاذ المتمرس في جامعة الكوفة / النجف
الأشرف. لدراسة هذه المعالم الجديدة التي لم يسبق إليها من ذي قبل ، واليوم يقدم
لنا خمسة كتب من موسوعة الحضارية وهي :
١
ـ الإمام علي 7 / سيرته وقيادته / في
ضوء المنهج التحليلي.
٢
ـ الإمام الحسن 7 / رائد التخطيط
الرسالي. رؤية معاصرة في قيادته الاستراتيجية.
٣
ـ الإمام الحسين 7 / عملاق الفكر
الثوري. دراسة في المنهج والمسار.
٤
ـ الإمام زين العابدين 7 / القائد / الداعية /
الإنسان.
٥
ـ الإمام محمد الباقر 7 / مجدد الحضارة
الإسلامية
وستتلوها بقية الكتب
في الأئمة تباعا بإذن الله.
وإذ تنهض مؤسسة العارف للمطبوعات بتيسير
هذه الشذرات الثمينة والآثار الخالدة للقارىء العربي ، فعسى أن ترصد المجتمع
العربي والإسلامي حياة أهل البيت :
في رؤية عصرية متطورة وعلى عادتها في نشر كل ما هو أصيل ومبتكر.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ ولي التوفيق.
بيروت / لبنان
١ / ٨ / ٢٠٠٢
|
مؤسسة العارف للمطبوعات
|
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
هذه دراسة قد تكون جديدة بعض الشيء عن
الإمام علي بن أبي طالب 7
، تستقطب سيرته بإيجاز ، وتستوعب قيادته بتحليل ، لم تألف منهج الباحثين من ذي قبل
، فهي تعرض وتناقش ، وقد تورد وتعلل ، رائدها استقراء الحقيقة التأريخية دون إضافة
أو تزيّد.
كان المنهج الموضوعي سبيلنا فيها إلى
المنهج التحليلي لم نجنح لهوى ، ولم ننطق بعصبية ، حتى خلصت لنا من سيرة الإمام ما
يجب أن نتمثله رمزا إنسانيا ، ومن قيادته ما ينبغي أن نجعله المثل الأعلى في
الحياة السياسية ، وكان من الصعب علينا الفصل بين السيرة والقيادة عند الإمام ،
حتى أنك لتجد في سيرة الإمام قيادة ، وفي قيادته سيرة.
وللإمام علي أولياء وخصوم ، وقد يغالي
به بعض الأولياء ، وقد يتجنى عليه بعض الخصوم ، ولسنا من المغالين في شيء ، ولا من
المعادين بسبيل ، وهذا يعني أن الدارسة لم تتأثر بالعواطف ، ولم تستجب إلى النزعات
، فابتعدت عن هوس المغرضين ، واقتربت من مناخ الباحثين الأمناء ، عرضت بدقة مركزة
ملامح حياة الإمام ، وفلسفت بأمانة معالم قيادة الإمام ، تؤكد ظواهر متميزة ربما
أغفلها التأريخ ،
وتتناسى وقائع ربما
أكد عليها ، وإنك لتجد من خلال ذلك عليا وقد نصح لنفسه ولدينه وللمسلمين ، وتشاهد
عليا وقد زهد في الحياة زهدا عجيبا ، وتدرك عليا وهو قدير على إدارة دفة الحكم
بمنظور إسلامي محض ، لا سبيل معه للمجاملة ، ولا أثر للمحاباة.
القيادة السليمة ، والبطولة النادرة ،
والتفاني في ذات الله ، والاندماج بروح الإسلام ، وإقامة الفروض والسنن ، وإحياء
معالم الدين في أوليات شخصية الإمام.
البصيرة النافذة ، والعزيمة الصادقة ،
والنية الخالصة ، والصراحة المدوّية مؤشرات في سياسة الإمام.
الوعي السياسي ، والعودة بالإسلام الى
ينابيعه الأولى ، وإلغاء العصبية القبلية ، والمساواة في الحقوق والواجبات ،
وإشاعة العدل الاجتماعي من مهمات الإمام الأساسية.
تهذيب النفس الإنسانية ، وإصلاح المجتمع
الإسلامي ، وتقويم تصرفات الولاة ، والابتعاد عن الأثرة من هموم علي الكبرى.
الحق والعدل منظوران تطلع إليهما الإمام
، فما أقام الحق بالباطل ، ولا أشاع العدل بالظلم ، فما كانت الغاية تبرر الوسيلة
في قيادته للأمة.
مكانة يتناساها الأغمار ، وخصائص
يتجاهلها القادة ، وسماح يستغله السواد الأعظم. سلبيات نتج عنها : مضيعة في الحقوق
، وتعطيل للأحكام ، واضطراب في الأقاليم ، والإمام من ذلك في محنة أثر محنة حتى ظن
به الجزع.
حياة في البذخ والسرف يحياها المسلمون ،
ومناخ من التسلط
والاستعلاء يعتاده
السلطان ، وتشتت في المذاهب يألفه العرب ، ولكن مساوؤه المتأصلة والطارئة ،
والإمام يريد إصلاح ذلك كله ، وقد أفسد عليه رأيه بالعصيان ، ولا رأي لمن لا يطاع.
الجانب المأساوي في ظلامة الإمام واضح
السمات ، والصبر الجميل في شمائل الإمام بارز الآثار.
السقيفة أسلمت الرجل الى الشورى ،
والشورى أسلمته للفتنة الكبرى ، والفتنة قادته الى ثلاثة حروب طاحنة.
الفتوح تتوقف ، والبعوث تتأرجح ،
والبلاد في إسلام زئبقي ظاهري لا يعرف جوهره ، ولا يدرك منهجه.
الإمام أراد أن يبني حكما أساسه الدين ،
ومعاوية أراد أن يبني ملكا أساسه الدنيا ، فاندفعت الناس وراء معاوية مفضلّة
الدنيا على الدين ، وكان عصر الدين قد أدبر ، وعصر الدنيا قد أقبل ، فعاد المعروف
منكرا والمنكر معروفا.
النضج السياسي بعد لم تبلور ، والوعي
العقائدي بعد لم يترعرع ، والروح الديني بعد لم يترسخ ، فنشأ الناس في قلق وتخلّف
، وحجزت المقاييس الخيّرة في رتاج محكم ، وتقلبت العقول بين هوى متبّع وضباب لم
ينقشع ، وما كان للإمام أن يلقي الحبل على الغارب ، ولا أن يترك الإنسان سدى ،
والوازع الديني يدعوه أن يمسك الأمر ما استمسك ، فساس الناس في شدة مؤدّبة ،
وقادها في سير حثيث على المحجة الغراء ، فأبصر رشده من أبصر ، وتولى من تولى.
هذه هي فكرة هذه الدراسة ، وفي ضوئها
انتظمت صفحاتها ، متمثلة في ثلاثة فصول رئيسة :
الفصل الأول ، وهو بعنوان : « علي في عصر النبوة
».
وقد استوعب حياة الإمام علي في عهد
النبي 6 بخطوطها
العامة ، فكان جنديا وقائدا وأخا وناصرا ووزيرا ووصيا.
الفصل الثاني ، وهوبعنوان : « علي بين
الشيخين وعثمان » وقد ألقى الضوء على سيرة الإمام في تلك الحقبة الطويلة ، فكان
محاججا وصابرا وناصحا ومشيرا ومفتيا.
الفصل الثالث ، وهو بعنوان : « علي في
قيادته للأمة » فكان حاكما وسياسيا وراعيا ومحاربا ، ومرسيا لأصول التشريع
الإسلامي ، وبانيا لسنن العدل الاجتماعي ، ورائدا لمعالم النظام السياسي الأمثل ،
وملبّيا لنداء الضمير الإنساني.
وما استطاع علي أن يكمل مسيرته القيادية
الفذة ، فقد عاجله القدر ، وذهب شهيد عظمته ومبادئه ، وبقي رمز إنسانيته وصلابته ،
وللدهر أن يكشف خصائص الإمام الفريدة ، وللبحث العلمي أن يجيب عن السؤال : من هو
علي بن أبي طالب؟
وكانت مصادر هذه الدراسة كتب السيرة
والتاريخ والمغازي لدى القدامى ، ومراجعها مصنفات الاستقراء المنهجي والتحليل
التأريخي لدى المحدثين ، وما ورد فيها من نصوص وآثار لا يعدو هذين المنبعين فهما
موارد الدراسة ومادتها التأريخية.
وكان للاجتهاد الشخصي والنقد المنهجي
لدى المؤلف أثره البارز في كيان هذه الدراسة وفلسفتها.
ولا أدعي لهذه الرسالة الكمال ، ولا
لمباحثها الإحاطة ، ولا لمفرداتها الشمول ، ولكنها ألق من أضواء الإمام ، ونفح من
عبيره
الفيّاض ، أخلصت
فيها القصد ، وصدقت بها النية ، وانفقت في ظلالها ثلاثة أعوام من هذا العمر القصير
، عسى أن تكتب عند الله في الباقيات الصالحات ، وعسى أن تلقى من المسلمين قبولا في
استكناه سيرة علي وقيادته.
وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ،
عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
النجف
الأشرف
|
الدكتور محمد حسين علي
الصغير
|
الفصل الأول
عليّ في عصر النبوة
١ ـ من الميلاد حتى
الهجرة
٢
ـ الإعداد الخاص حتى معركة بدر الكبرى
٣
ـ عليّ في عنفوان شبابه ، ومرحلة الزهد والإيثار
٤
ـ عليّ فارس المهمّات الصعبة
٥
ـ عليّ يتحرك نضاليا في المشاهد كلّها
٦
ـ الراية العظمى في كل الفتوح
٧
ـ فتح مكة وموقع الإمام 7
٨
ـ أنباء تكدر الفتح ، وعلي يذود الكتائب
٩
ـ عليّ رفيق النبي في حربه وسلمه
١٠
ـ عليّ في حجة الوداع وبيعة الغدير
١١
ـ النبيّ يمهّد الأمر للإمام ويلتحق بالرفيق الأعلى
١٢
ـ قيادة قريش تقتحم السقيفة وتبعد أهل البيت
١٣
ـ بيعة أبي بكر ومرجعية الصحابة
(١)
من الميلاد حتى الهجرة
في الثالث عشر من رجب ؛ وقبل البعثة
بعشر سنين : ولد هذا الشعاع الهادي والنموذج الأرقى ؛ علي بن أبي طالب 7.
ولد في البيت الحرام ليطهره من الأصنام
بعد حين بأمر النبي 6
اكتحلت عيناه بالنور عند الكعبة ، ودرجت قدماه بالسير في رحاب أبيه ، وكانت أمه
فاطمة بنت أسد ، وأبوه أبو طالب شيخ البطحاء وعمّ النبي ؛ هاشميين ، فهو هاشمي من
هاشميين ، وكان لهذا أثر بعيد في عرف القوم ، يريدون بذلك النسب المحض والنقاء
الخالص، فكان له ما أرادوا من فخر وسؤدد.
وكفله النبي 6 في صباه ، كما كفل أبو طالب النبي 6 في صباه ، فكأنه أراد مكافأة عمه في
ذلك ، أو الإعراب له عن وفاته له عند ضيق ذات يده ، وتضخم عائلته وولده ، فنشأ
عليّ في ظلال النبي 6
يغذوه بتربيته ، ويوجهه بسيرته ، فيقتبس منه حسن السمت ورتابة الهدي.
وبعث النبي 6 فكان عليّ 7 : أول القوم إسلاما ، وهو بذلك أقدمهم
إيمانا وهو في العاشرة من عمره ، أو أكثر من ذلك بقليل. بعث النبي يوم الأثنين
وأسلم عليّ يوم الثلاثاء ، وقد قبل النبي إسلامه
صبيا ، وتلك إحدى
كراماته في الأقل ، واحتضنه النبي 6
احتضان الأخ الشقيق لأخيه ، وأقام على تربيته أولا بأول ، فقد ربيّ ـ إذن ـ في حجر
الإسلام ، ورضع من ثدي الإيمان ثاني أثنين هو وخديجة بنت خويلد زوج النبي وأم
المؤمنين ، ولم يسجد لصنم قط شأن أترابه ، ولم يألف حياة الأصنام كما ألفها سواه ،
فقيل : كرّم الله وجهه ، وهذه كرامة أخرى تضاف الى كرامات سبقت ، وفضائل تقدمت منذ
قليل : ولادته في الكعبة ، ونشأته في حجر النبي 6
، وقبول إسلامه مبكرا « فامتاز بين السسابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة
، وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزل الوحي بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها » .
وكان عليّ في أول عهده بالنبي 6 يتلبث هذا التأمل الدائم في تفكير محمد
6 ، ويترصد
هذه الخلوة الروحية لديه ، وهو يقلب وجهه في السماء ، ويتجه بضميره لله في حالة من
الخشوع والترقب والابتهال ، حتى إذا فجأه الوحي ، وعى من النبي 6 هذا الانقطاع الكلي الى ما يوحى إليه ،
وتبصّر في هذا التلاحم ـ الغريب على حياة العرب ـ بينه وبين الله تعالى ، وإذا
بنفسه تمتلأ غبطة بما يشاهد ، وإذا بالرؤى تزدحم عليه فيما يجد ، حياة روحية
خالصة.
والاندماج متواصل مع الوحي ، ومناخ جديد
يربط الأرض بالسماء ، فمحمد يتلقى من السماء ما يبلغه الى الأرض بكل أمانة ،
والسماء تمدّه بأنبائها ، والأرض ـ بعد ـ ساكنة لم تتحرك ، والحياة هادئة لم تضطرب
، ماذا عسى أن يكون بعد هذا الهدوء ، وما عسى أن ينفجر بعد ذلك السكون ، ذلك ما
يحدده مستقبل الرسالة. وعليّ 7
يلمح هذا بعين الناقد البصير ، ويفقهه الفقه كله ، تصل إليه هذه النفحات ،
__________________
وتغمره تلك
الامدادات ، فيفتح لها قلبه ويستقبلها استقبال الفاتحين ، فتتوهج في ذاته هذه
الشعلة التي لا تنطفىء أبدا ، ويسري في عروقه هذا الدم الجديد ، فيضطم عليه صدره
حريصا ، وتتفجر الحكمة في قلبه ، فتمحضه الإيمان المطلق محضا ، ويقبل على هذا
الدين فيلتهم تعاليمه من ينابيعها الأولى ، ويسبغ مفاهيمه عقليا ومناخا نفسيا ،
فينصهر فيه إنصهارا تاما ، ويستولي عليه إستيلاء حثيثا ، هذا الانصهار وذلك
الاستيلاء منذ عهد مبكر في الإسلام كانا أساسا صلبا لما بنى عليه الإمام حياته
المستقبلية في قيادته العليا للإسلام فيما بعد.
وكان لعبادة النبي الصادقة ، وهينمته
الهادئة : آناء الليل وأطراف النهار ذلك الأثر البليغ في حياته الليلية عند
المناجاة ، وخشوعه المترامي في الذات ، فتراه مطرقا مفكرا حينا ، ومسّبحا متبتلا
حينا آخر ، وهو في جدّ مستمر وجهد جهيد لا يجد إلى الراحة سبيلا.
وكابد عليّ ما كابد محمد من شظف العيش ،
ومرارة الجوع والظمأ ، وكان أسوة له في مكاره الدهر وعاديات الزمن ، ومحمد يعلن
دعوته في حذر ، ويعرض رسالته في أناة ، فلا هي علنية كما يشاء الإعلان ، ولا هي
سرية بحيث لم تعرف ، ولكنها شيء بين ذلك ، حتى إذا نزل قوله تعالى : ( وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )
جمع النبي
بني هاشم وعرض عليهم الإسلام ، فكان مشهدا عاطفيا مؤثرا ، مجتمع الأهل والعشيرة
والأقربين ، ولكنه كان مثيرا ومتوترا في الوقت نفسه ، فعليّ يولم لهذا الجمع بأمر
النبي 6 ويقدم لهم
ما أولم ، ولو قدّم لأحدهم لأتى عليه كله ، ولكنه الشبع للجميع ، ويسقيهم ما طاب
وطهر فيتملكهم الري ، فينطلق أبو لهب قائلا : ( سحركم والله محمد ) وينفّض الجمع ،
__________________
والنبي لا يعبأ بهذا
الهراء ، ولكنه يجمعهم ثانية ، ويطلب إليهم بيسر : « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا
» الشهادة فحسب ، ويطلب المؤازرة أيضا ، ويستنفر الضمائر بشيء من المودّة حينا ،
ومن التلويح بشيء آخر حينا ؛ فمن ذا يسانده ويعاضده عل أن يكون أخاه ووزيره
وخليفته من بعده ، وهذا شيء جديد ، بأمر جديد ، وقد وجم القوم ، ولاحت إمارات
الغضب يمثلّها أبو لهب فيقول : ألهذا جمعتنا يا محمد ، تبا لك ولما جمعتنا له ،
وينزل قوله تعالى : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ
وَتَبَّ )
وتظهر ضحكات
الهزء والسخرية حينا ، حينما ينعم عليّ له بالاجابة ثائرا : « لا يحزنك والله
إعنات القوم فعليهم ضلالهم ، وإني يا رسول الله عونك ، أنا حرب على من حاربت ».
إجابة بالرضا من وجه ، وإعلان للنضال من وجه آخر ، وهما معا يبدءان العمل بين محمد
وعلي ، فيعلن النبي 6
للملأ من قريش مخاطبا عليا : « أنت أخي ووزيري وخليفتي من بعدي » فيلتفت ممثل قريش
لأبي طالب عاتباً : » مرحاً لك فقد أمّر إبنك عليك« وتتكرر هذه البادرة مرات لا
يستجيب لها إلا علي بن أبي طالب 7
فيمنحه النبي ما منح من الأخوّة والوزارة والوصية والإستخلاف بحسب تعدد النصوص الروائية
المستفيضة.
وتبدأ أيام النضال ، وحياة المجابهة ،
فقد اشتدت قريش على النبي 6
وعلى هذه العصابة اليسيرة من أهل بيته وصحابته ممن آمن معه من ضعفاء القوم ،
فالأذى لا يبرح ، والعبث لا يهدأ ، والسخرية في القول والعمل يتحدان بمنظور واحد ،
والخوف يملأ نفوس المسلمين ، فلا النهار مشرق القسمات ، ولا الليل ضاحك الأسارير ،
ولم تقف قريش عند هذا التجاوز ، ولكنها آمعنت في التضييق ، فتعاهدت فيما
__________________
بينهما ، وكتبت
الصحيفة السوداء في مقاطعة النبي وأهل بيته ، وألجأت بني هاشم الى شعب أبي طالب ،
لا يكلمهم أحد ، ولا يصهر إليهم أحد ، ولا معاملة من بيع أو شراء ، ويشارك عليّ
محمدا في هذه المحنة بجميع أبعادها وأقسى ظروفها وشتى مآسيها ، فهما كبني هاشم لا
يأكلان إلا الجشب ، ولا يلبسان إلا الخشن ، ولا يتصلان بأحد إلا لماما ، ولا يصل إليهم
أحد إلا لماما أيضا ، وتؤثر المقاطعة أثرها ، ويبلغ الحصار شدّته ، ولا سبيل إلا
الصبر ، ويموت كافل محمد ومراسله الى قريش أبو طالب ، فيشتّد عليه الطلب ، وتشتد
عليه قريش أيضا قسوة وكرها ومقاومة ، وعليّ الى جنبه يتجرع مرارة الغيظ.
عليّ في مكة ـ والحالة هذه ـ ينظر
ظواغيت قريش وجبابرة الارض يكيلون للنبي حقدا لا ينتهي ، ويوجهون من الأذى ما لا
يحتمل ، في كل شيء : في نفسه وأسرته وصحابته حتى يقول : « ما أودذي نبيّ مثلما
أوذيت » يوضع الشوك في طريقه ، وترسل الحجارة عليه من خلفه ، ويصبّ الفرث والدم
والسلا على ظهره ، وهو في الكعبة يسجد لله ، يستمع إلى قوارص القول ، ويصكّ بنوابي
الكلم ، ويقذف بالداهية العظمى ، وعليّ يبصر هذا ويألم له أشد الألم ، وقد يدافع
أصدق الدفاع.
ولم يكن هذا وحده يؤرق عليا ، فهناك ما
يضاهيه أو يزيد عليه، فقد كان ينظر الى هؤلاء المستضعفين في مكة : ياسرا وسمية
أبوي عمار ، يصبّ عليهم العذاب صبا ، حتى يموتوا تحت العذاب شهداء ، ويمثل بهم
أقسى تمثيل لم يشهد له العرب مثيلا من قبل ، ويشاهد عمارا إبنهما ، وقد عذب عذابا
شديدا حتى كادت تزهق نفسه ، ويضطره هؤلاء إلى كلمة الكفر ، فيقولها بلسانه ، وقلبه
عامر بالإيمان ، وينزل القرآن
بذلك يسدده ويسليه ( إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) .
وينظر الى هذا الضعيف المسكين بلال
الحبشي ، وقد استولى عليه الطاغوت القرشي يرهقه من أمره عسرا ، وهو يسفه آلهة قريش
، فتلحّ عليه بالإشراك فيأبى ذلك ويقول : « أحد. أحد » ولا يصلون معه الى ما
يرضيهم ، فيكررون الكيد إثر الكيد ، ويضاعفون التعذيب والنكال ، ويعاودون الضغط
والإكراه ، وهو صامد في وجه هذا ، وثائر في وجه ذلك ، كان عليّ يأرق لهذه المشاهد
ويأسى لهؤلاء المستضعفين : عمار وأبويه وبلال وخبّاب بن الأرت ، وغيرهم ممن شرح
الله صدره للإسلام ، فتمتلىء نفسه غيظا وكمدا ، وتنفجر عينه دمعا ودما ، وتتحرق
روحه حزنا وألما ، ولكنه يتذرع بالصبر الذي أمر به النبي ، ولكن مناظر العذاب
والتعذيب بين الحديد والنار ولفح الهجير ، تبقى مخلفات في ذاته ، وتحكم سياجا على
تفكيره ، ويدفعه ذلك فيما بعد أن ينصب نفسه علما لهذا الدين يحارب أعداءه ، فالنصر
آت عن قريب ، وإن تطاولت قريش بجبروتها ، ومخزوم في علوها ، وثقيف في زهوها ، ولا
بد للمحنة أن تنجلي.
ويوحى الى النبي بهجرة المستضعفين من
آله وصحابته الى الحبشة مرة وأخرى ، فيهاجر من هاجر ، يدعو الى الحق ويبشر بالدين
الجديد وكان في طليعتهم شقيق علي جعفر بن أبي طالب ، ويبقى علي مع النبي 6 يتلقى التوجيه ، ويصمد للأحداث الجسام
، فما كان له أن يهاجر ويترك أخاه فهو إلى جنبه حتى النهاية وقد كان ذلك. ولكن
الأسى يحزّ في النفس ، ولكنه الأسى لا اليأس ، والألم لا القنوط ، فيركب ما ركبه
النبي 6 من مصاعب ،
يواكبه الإصرار والتحدي ،
__________________
ويجذبه الإيمان
والتبتل ، فيعزف بذاته عن اللهو ، فما رؤي لاهيا ، ويرتفع بمستواها الى مستوى
الظروف الصعبة جدا ومثابرة ، ويجعل من نفسه دريئة للنبي ، ويروضّها اعنف الترويض
عزيمة ، ويمعن في المواساة إمعانا في شتى الميادين.
وتفكر قريش في مصيرها على يد محمد 6 ومصير آلهتها من دعوته هذه ، فلا يهدأ
لها جنان ، ولا يقر لها قرار ، ويجتمع علية القوم ، وتجيل الرأي فيما بينها ،
فيستقّر الأمر : أن تنتدب لذلك ممثلا من كل قبيلة ، لتقتل في زعمها محمداً ، ويضيع
دمه هدراً بين العرب ، وكان أبو جهل قد تولى كبر هذا الأمر ، ومن حوله أعيان الناس
وزعماء الجاهلية يباركون سعيه ويترسمون كيده ، فينذر الله محمداً 6 بالهجرة إلى يثرب ، المدينة المنورة
فيما بعد ، فيخلو النبي بعلي 7
، ويطرح عليه الأمر ، ويرغب إليه بمواساته بهذه المحنة فيرّد بالإيجاب ، وينيمه
النبي بفراشه ، ويشتمل هو ببرده الحضرمي ، ويعهد إليه بوصاياه ، ويسلمه ودائع
الناس وأمانات العرب ، ليؤديها كما هي لأهلها ، وليسير أليه بعد ذلك بالفواطم.
وعند منتصف الليل من ربيع الأول للسنة الثالثة عشرة من البعثة الشريفة ينسّل النبي
6 من الدار
إنسلالا ، ويسلك من خلال القوم ، وهم يتأهبون للبيات ، وهو يتلو قوله تعالى :
( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
) .
ويرمي وجوه القوم بحفنه من الحصى أو
التراب « شاهت الوجوه ذلا » ويخرج من مكة هو وصاحبه أبو بكر الصديق ، وأفاق
المشركون عند الفجر ، ليهجموا على محمد 6
في فراشه ، وإذا بعليّ 7
____________
في الفراش ، فيسقط
في أيديهم ، ويتبعونه فلا يفلحون بشيء ، ويتفرغ علي لإرجاع الودائع وتنفيذ الوصايا
ثلاثة أيام ، ويخرج بالفواطم جهارا نهارا فتعرض له قريش ، ويكون قتال ، فيقتل «
جناحا » مولى حرب بن أمية ، فيتراجع القوم بعض الشيء ، ويتنمر عليّ 7 في ذات الله ، ويجالد ما شاءت له المجالدة
، فيخلي القوم بينه وبين الضعائن ، ويواصل المسير حتى يدرك النبي في قباء ، وكان
ينتظره هناك ، وما شاء أن يدخل المدينة قبله ، ويدخل معه المدينة ، ويحط بها رحاله
، وتلتف حوله رجاله.
وفي المدينة المنورة حيث العزّ والنصرة
والإيثار ، يشارك علي 7
في بناء مسجد رسول الله حيث موضعه اليوم ، ويرتجز عند البناء :
لا يستوي من يعمر المساجدا
|
|
يدأب فيها قائما أو قاعدا
|
ومن يرى
عن الغبار حائدا
وفي المدينة المنورة أيضا : يؤاخي النبي
بين المهاجرين أنفسهم ، ويؤاخي بينهم وبين الأنصار ثانية ، ويؤاخي بين نفسه وعلي ،
فعليّ أخوه في أول عهدهما بمكة ، وعلي أخوه في جديد عهدهما بالمدينة ، وكانت
الأولى أمام قريش والمهاجرين منهم بخاصة ، والثانية بين ظهراني المهاجرين والأنصار
بعامة ، ليدرك الجميع بعد هذا الغور من المؤاخاة.
ويبقى هذا الأخ وفيا لأخيه في كل جزئية
وكلية ، حريصا على القيام بأمره في كل كبيرة وصغيرة ، ويطيب لهما المقام بالمدينة
عامهما الأول ، تلقينا للإسلام وتعليما للفرائض ، ويقبل الأوس والخزرج على الدين
الجديد إقبالا ينسيهم ما هم فيه من الخصومة والصراع وسفك
الدماء ، وإذا بهم
ينزعون عن هذا المسلك لينصهروا بالدين الجديد تفقها وعلما وتوجيها.
وما كان لمحمد أن يستريح أو يريح ،
فقدره أن يناضل ويكافح ويستميت ، ففي العام الثاني من الهجرة ترسل قريشا عيرها في
تجارتها الى الشام ، بقيادة أبي سفيان ، فتكتال وتعود ، ويعلم النبي وآله وأصحابه
بذلك ، فيترصدون القافلة ويهبّون إليها خفافا وثقالا ، ويعدهم الله : « احدى
الطائفتين » العير أو النفير ، ويستحبّون العير لما تحمل من الغنائم ، ويأبى الله
إلا النفير لما فيه من البلاء والنصر والعزة للدين الوليد ، وقد عبّر القرآن عن
هذا الملحظ :
( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ
إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ )
.
__________________
(٢)
الإعداد الخاص حتى معركة بدر الكبرى
وكان النبي 6 يعّد علياً 7 إعداداً خاصاً ، ويشفق عليه إشفاقاً
غريباً ، يتطلع وراء الأفق لما سيحققه هذا الفتى من بناء الإسلام والتطويح
بالوثنية ، فقد منحه الله بناء جسمياً متكاملاً ، وقد بدت عليه سمات الفتوة
والرجولة والقيادة ، فهو قوي البدن ، مفتول الساعدين ، عريض ما بين المنكبين ، فيه
سمرة العرب وهيبة الإسلام ، وعليه سيماء الفطنة ومظاهر الإعتداد ، وبه صدق العزيمة
ومخائل الصبر ، وله حكمة الشيوخ وعزم الشباب؛ هذه صفات تعده لحرب أعدائه ، وهناك
خصائص تعده لحمل رسالته ، فهو خشن في ذات الله ، وهو متورع في سبيل الله ، وهو
عقلية تعي المفاهيم الجديدة ، وهو قطعة من الذكاء ورهافه الحس ، يدرك من محمد ما
في نفسه ، ويستقرئ ما يجول بخواطره من هموم وآمال وتطلعات ، هذا الملحظان البدني
والنفسي عند علي 7
ينظرهما محمد 6
بعين الرضا والإعجاب ، فيوليه نفحات الاصطفاء من جهة ، ويمنحه لهما الحب الخالص من
جهة أخرى ، فيلتقى علي 7
منه هذا السيل الهادر من الأمدادات مع التثقيف والتقويم والشمولية ، وينعطف منه
على ذلك النبع الثرّ من العطف والإيثار والحذر ، يتحفه بكنوز من العلم لا تفنى ،
ويضفي عليه من حلل الثناء ما لا يبلى ، يجتمع وإياه في صلة القربى ، ويختصه دون
سواه بالحكمة ضروب
المعرفة ، ويعمله معالم الدين جملة وتفصيلاً ، حتى صيّره صورة صادقة له في الخلق
العظيم ، وقدوة حسنة في الكمال المطلق ، فهو يدعوه أخاه ويعتبره نفسه ، ويجتبيه
بكل لطف وعناية ، ويحذر عليه من كل بلية وداهية.
ولكن مقومات علي 7 النفسية تقتضي أن يحملّه شطراً من
رسالته ، وعبأ من ثقل أمانته ، وليس هذا وقت الحديث عن ذلك ، ومقومات عليّ البدنية
وقدراته النضالية تقتضيان أن يقذف به محمد 6
في بطولات الحروب. ويشركه في عظائم الأمور ، إستئناساً بقابليته الفذّة ، ويرشحه
لكبريات القضايا إعتداداً بكفايته الفريدة.
وتخرج قريش بعيرها عائدة من الشام ، وقد
حملت ما شاء لها أن تحمل من تجارة القوم ، فيمسك لها محمد 6 ، بالطريق ، ويحرّض المسلمين على الرصد
والأخذ حين الغرّة ، ويقود الحملة بنفسه ، وعليًّ إلى جنبه ، وينتدب المسلمون لها
، وهم يطمعون بالعير ، ويأبى الله إلا النفير ، وهذا أبو سفيان يصله النذير
فيتيامن جهة البحر ويساحل بأثقاله ، وهذه قريش تعمى عليها الأخبار فتهب هبة واحدة
مستعدة للحرب ، أبو سفيان على العير ، وعتبة وأبو جهل على النفير ، وتصل العير إلى
مكة ، ويخرج النفير منها ، ويتساءل بعض القوم ، وتلاوم بعضهم الآخر ، فيم الخروج
أذن ، وقد وصل أبو سفيان بتجارة قومه إلى حيث الأمن والدعة ، ولكن القادة من قريش
يصرّون على الحرب ، ويخرجون بقضهم وقضيضهم كما يقال ، هزجين فرحين بين المعازف
والقيان ، والمسلمون يترصدون العير فلا يظفرون بها ، ويودّ المسلمون أن لو كانت
غير الشوكة لهم ، ويأبى الله إلا أن تكون ذات الشوكة لهم ،
خرجوا للغنيمة لا
للحرب ، فصكوا بالحرب لا بالغنيمة ، وقد إدخّر لهم الله النصر والغنيمة ، وأي نصر
هذا الذي ينتظر هذه الفئة القليلة ، إنه النصر المؤزر الذي ذهب بجبروت قريش
وطغيانها ، النصر الذي ثبّت الذين آمنوا تثبيتاً فأزدادوا إيماناً ، بل فتح عليهم
مغالق الحياة بعد عسرها ، فإلى جنب النصر الغنائم وفداء الأسرى ، فينتقلون - بعض
الشيء - من حياة الجفاف المحض إلى يسير من الدعة والخفض.
وكان عليٌّ 7 السبّاق إلى هذه المعركة إلى ساحة «
بدر الكبرى ».
ولم يكن ذا صيت في الحرب إذ لم يحارب
إلا لماماً ، ولم يكن ذا سن متقدمة عركتها ميادين القتال ، كان قد قارب الخامسة
والعشرين أو دون ذلك بقليل ، وإذا بعلي يحمل لواء الحمد في يد ، والسيف في يد ،
وتتجمع قريش في « بدر » بين مكة والمدينة يقودها الحين ومصارع السوء ، ويتحلق
المسلمون حول بدر ، وتبدأ في السابع عشر من رمضان ذاك العام أعظم معركة بين
الوثنية والإسلام ، والنبي يعبىء أصحابه ، ويعّد المقاتلين ، ويسوي الصفوف بنفسه ،
وهو يرمق السماء تارة ، ويرمق أصحابه تارة أخرى ، يستنزل النصر :
« اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ،
وان شئت أن لا تعبد لا تعبد » فيثبت الله المسلمين ويقلل في أعينهم عدّة المشركين
وهم في حدود الألف من الرجال، ويقلّل الله في أعين المشركين عدة المسلمين وهم
ثلاثمائة وثلاثة عشر ليقدم كل فريق على الحرب ، ويمدّ الله نبيه بالملائكة
المردفين ، ويصطّف الجمعان ، جمع المسلمين وجمع القرشيين ، وتنتدب قريش أحدها
ليخبرهم أمر القوم ، وإذا بالرائد بعد جولته حوالي المسلمين يعود إلى قريش ليقول :
« إن نواضح يثرب
تحمل الموت الأحمر ،
وأصحاب محمد يتلمّظون تلمظ الأفاعي » فما فّت هذا من عضدهم ، وغلبهم شؤم ابن الحنظلية
- أبي جهل - كما يقولون. ولكن القرآن يصدع بالأمر الواقع ، وينبىء النبي 6 بمصير هؤلاء : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )
وكان الأمر كما قال ومن ينظر كثرة قريش وجودة إعدادها الحربي يحكم بالنصر لها ،
ومن يمعن بتردد قريش وخذلانها ، وتلاومها واختلافها ، وكثرة لغطها ، وتنافر رجالها
، ويقارنه إلى ثبات المسلمين وهم القلة ، وجلدهم وتعاضدهم وتساندهم يحكم بالنصر
لهم ، وهكذا كان ، فقد أعجل أبو جهل قريشاً في مبادئة الحرب ، وحفزهم إلى مبادرة
القتال ، بعد أن طوح بمتابعة القوم فيما بينهم للكف عن الحرب ، وأخذت العصبية
القبليّة دورها في تأليب من تردد ووهن وضعف ، وتنادوا فيما بينهم بشعارات الجاهلية
وحمية الوثنية ، فأغضب كثير من المشركين وكانوا كارهين للحرب ، وقد نشبت الحرب إذ
برز الوليد بن عتبة ، وأبوه عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة يطلبون أكفاءهم من قريش
، لا السواد من الأنصار فكان لهم ما أرادوا ، فخرج علي وحمزة وعبيدة ، فأشرأبت
الأعناق واستطالت الأبصار ، وتقابل المقاتلون ، فقتل عليٌ الوليد ، وشارك في قتل
شيبة ، وذبّب على عتبة أو بالعكس ، وقتل الحمزة عتبة ، وقتل عبيدة شيبة ، وقتله
قاتله ، وانجلت الغبرة عن مقتل فرسان قريش جميعهم ، وأستشهد عبيدة ، وكرّ الفارسان
علي والحمزة يهدران ، وكان ذلك أول النصر. وتهلل وجه النبي فرحاً ، وبدأت الهزيمة
النفسية عند قريش ، وتحفز المسلمون فكرّوا عليهم تقتيلاً وأسراً وتشريداً ، فكانت
قتلى قريش سبعين فارساً ، وأسرى قريش سبعين بطلاً. وسلني عن علي ما موقفه آنذاك ،
الروايات
__________________
المتواترة تقول إنه
قتل نصف قتلى المشريكن ، وشارك في جملة من النصف الآخر ، فهو وحده قد أحرز خمسة
وثلاثين قتيلاً ، وكان ذلك من نصيب بني أمية ، وبني عبد الدار ، وبني مخزوم ، وبني
سهم ، وما تبعهم من ذؤبان العرب ، مما طأطأ من رؤوسهم ، وغضّ من أبصارهم ، مما كان
له فيما بعد وعند ظهر الإسلام حساب مع علي أي حساب ، تداركاً للثأر ، وعودة إلى
الجاهلية ، كما ستقرأه فيما بعد من أحداث.
فهذا حنظلة بن أبي سفيان يهوي بسيف علي
، وهذا الوليد بن عتبة وهذا العاص بن سعيد بن العاص من بني أمية ، وهذا حليفهم
عامر بن عبدالله تتهاوى رؤوسهم بيد علي 7.
وهذا طعيمة بن عدي من بني نوفل يقتله
علي ، وهذان الحارث وأبو زمعة بن الأسود من بين أسد بن عبد العزى يقتلهما علي ،
وهذا عقيل بن الأسود يقتله علي ، وهذا نوفل بن خويلد يقتله علي.
وهذا النضر بن الحارث بن كلدة من بني
عبد الدار يقتله علي بأمر النبي. وهذا زيد بن مليص مولاهم يقتله عليٌّ.
وهذا عمير بن عثمان من بني تيم يقتله
علي ، وهذا العاص بن هاشم المخزومي خال عمر بن الخطاب يقتله علي ، وهذا أبو قيس بن
الوليد يقتله علي وهؤلاء السهميون : منبه بن الحجاج ، ونبيه بن الحجاج ، والعاص بن
منبه وأبو العاص بن قيس يقتلهم علي ، وهذا وذاك بل وهؤلاء وهولاء يتهافتون على
المنيه بسيف علي ... ولا نطيل فمنذ ذلك اليوم عرف المناخ الحربي لعلي 7 في القتال ، فهابه الرجال ، وتحاماه
الأبطال.
(٣)
عليٌ في عنفوان شبابه ومرحلة الزهد والإيثار
وها هو الفتى في عنفوان شبابه ، ومقتبل
رجولته : يحاول أن يجمع شمله بمن يسكن إليه؛ ويعيّن ذلك السكن؛ إنها الزهراء :
فاطمة بنت محمد 6
، ولكنه يجيل خاطره بالأحداث؛ فهذا أبو بكر يخطبها من النبي ، والنبي متلبث بذلك
ينتظر بها القضاء ، وهذا عمر يتقدم لها بعده فيجابهه النبي بالرّد « أنتظر بها
القضاء ».
فيا ترى ماذا يريد النبي؟ ، وما عسى أن
يعزم عليه » ، فلعله أدّخرها له ، ومن يدري ما تنطوي عليه نفس محمد وهو يقول : «
فاطمة بضعة مني » ولكن علياً شجنة منه أيضاً قربى وأخوةً وروحاً ، فيتقدم لها دون
تردد ، ويفاتح الرسول بذلك دون إحجام؛ ولكن على استحياء يشوبه شيء من الخجل
والإحراج ، ويبدد رسول الله هذا الخجل ، فيتهلل وجهه فرحاً ، وتطفح أساريره بالبشر
، وينعم عليه بالإيجاب ، ويضم إليه أهل بيته وأصحابه ليقول : « إن الله تعالى
أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ ( زوّج النور من النور ) وأشهدكم أني زوجت فاطمة من
علي على أربعمائة مثال فضة ، إن رضا بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة ».
ويتم عقد القران ، ويولي أبا بكر بعص
إحتياجاته ، ويرسل سلمان
لشراء بعض
متاع البيت الجديد ، ويوحي لبلال بإصابة شيء من الطيب ، وتشرف أم سلمة زوج النبي
على جملة من المتطلبات والشؤون ، وتتكامل آداة العرس هذه بما اختاره المنتدبون
لذلك ، ويتم الزواج في دار متواضعة في أطراف المدينة يستأجرها علي ، ويقصدهما رسول
الله بنفسه ، ويضمّ إليه علياً والزهراء ، يبارك لهما ويدعو ، ويسعد بهما ويستبشر
، فتغمرهما فرحة أية فرحة ، وتتلاشى بعض سحب الحياء ، وتختفي جملة من أصداء الخجل
بهذا الفيض من الحب والحنان والرعاية ، والنبي يتهجد بصوته : « اللهم بارك فيهما ،
وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما .... « واستجاب الله الدعاء، فقد بارك الله
فيهما وعليهما ولهما؛ فكان عليٌّ قائد الغرّ المحجّلين ، وكانت الزهراء سيدة نساء
العالمين؛ وبارك عليهما؛ فما عُلِمَ زواج أسعد من هذا الزواج في عظمته وتواضعه
بوقت واحد ، العظمة في القرينين ، والتواضع في مرافقه وأسبابه التي لم تعرف ترفاً
، ولم تلمس بذخاً ، وإنما هي الملحفة محشوة بالليف ، والوسادة التي قد ترتفع
لمستوى القطن ، والسرير من جريد النخل ، والبساط المتواضع وهو جلد كبش ليس غير ،
وبعض الأنسجة الصوفية اليدوية ، وتلك الرحى التي ستمجل منها كف الزهراء ، وهذه
الأواني الخزفية الساذجة البدائية التي هزت الرسول الأعظم فقال :
« بورك لقوم جل أوانيهم الخزف » أو نحو
هذا.
وبورك لهما في نسلهما ، فها هي ذرية
رسول الله 6 متمثلة
بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، ومتسلسلة عما تناسل منهما أبد الدهر ، وها
هم اليوم يعدّون بالملايين بين البشر.
وودعهما النبي 6 وانصرف ، وفي نفسه أمنية لا كبير أمر
لو تحققت ، وقد يعمل بنفسه على تحقيقها ؛ فأمنيته أن يكون علي وابنته
على مقربة منه ،
ينعمان بجواره ، ويشملان برعايته ، وتحققت الأمنية بقرب الدار ، فيتحولان إلى دار
حارثة بن النعمان إلى جنب دار النبي ، وبينها وبين حجرة النبي كوة ، وهي مطلة على
مسجده ، ولها باب تنفذ إليه ، ويكون لهذه الباب شأن فيما بعد ، فتغلق أبواب البيوت
على المسجد إلا باب علي وفاطمة بأمر النبي.
وبدأت الحياة الزوجية المكافحة ، عليٌ
يعمل على ناضح له في الزراعة والمساقاة ، وقد يحرث بعض الأرض ويشق بعض الترع ،
وفاطمة تهيىء مرافق البيت وتشرف على إدارته ، فإذا أقبل من عمله شاركها في عملها
في البيت ، وساعدها على تلك الشؤون اليسيرة السمحة دون تكلف أو عناء.
وانتظرت الأمومة الزهراء 3 ، فانجبت وليدها البكر ، وما كان عليٌ
ليسبق رسول الله في تسميته سماه « حسناً » وحملت بالوليد الثاني ووضعته فسمّاه
النبي « حسيناً ».
وأسعفت الغنائم علياً بشيء من فيضها ،
والسقاية برافد من السعة شيئاً ما ، فأبتاع لزوجه خادماً تسمى « فضة » حملت عبءَ
البيت عن فاطمة ، وكانت عوناً لها في هذه المهمات البسيطة ، وعضداً في تلك الملمّات
الشديدة فيما بعد ، وهنا تستولي السعادة بأطرافها في هذا البيت الصغير ، أو الحجرة
الواحدة في الأصح ، وتغمر الأبوين الفرحة الكبرى بهذه الزهرة الجديدة « زينب »
عقيلة بني هاشم.
وكانت الحياة في بيت علي مليئة بالزهد
والكفاف ، عامرة بالايثار ، لا فضل من قوت ، ولا استزادة من أرغفة ، شأن الأبرار
الصالحين ، يكاد لا يكون هذا العيش الزهيد وقفاً على عليّ والزهراء ، فقد يشاركهما
فيه سواهما ممن أمعن في الفقر إمعاناً.
ويصوم الفتى والفتاة ، ويعدّان للإفطار أقراصاً
من الخبز ، وجريشاً من الملح ، وشيئاً من لبن قد يحضر وقد يغيب ، وإذا بالباب يطرق
وعليه مسكين يستغيث من الجوع ، فيجود عليه الصائمان بإفطارهما هذا ، ويطويان
ليلتهما لليوم الثاني ، ويعدّان مائدة الإفطار على هذا النحو البسيط ، وإذا بالباب
يطرق وعليه يتيم لا يجد إلى الشبع سبيلاً فيجود عليه الصائمان بإفطارهما ، ويطويان
ليلتهما لليوم الثالث ، ويعدان مائدة الإفطار وهمافيعسر من أمرهما ، وإذا بالباب
يطرق وعليه أسير لا طمع له في القرص ، فيجود عليه الصائمان بافطارهما ، ويهبط
حبرائيل بالوحي على الرسول الكريم مدوناً هذه الحادثة الفريدة في الإيثار :
( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا
) .
وينتشر النبأ بين المسلمين إنتشار النار
بالهشيم.
وكان عليٌ في هذا الجانب مؤثراً على
نفسه دون شك :
( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )
فلم يكن ذا
سعة في المال ، ولم يكن مبسوط اليد في الثراء ، ولكنه لم يعرف عنه الاعتذار في هذا
المجال ، يجود بما عنده ، ويلزم نفسه بالشدة ، ابتغاء مرضاة الله ، لا يشرك في
نيته أحداً ، ولا يفضي بسره في ذلك إلى أحد ، فعمله خالص لله وحده ، وقد دلّنا
الذكر الحكيم في غير موضع على هذا الملحظ عند عليّ؛ فعن أبي ذر الغفاري :
__________________
سمعت رسول الله 6 بهاتين وإلا فصّمتا ، ورأيته بهاتين
وإلا فعميتا ، يقول : عليٌ قائد البرّرة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، فخذول
من خذله؛ أما أني صليت مع رسول الله 6
صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ولم يعطه أحد شيئاً ، فرفع السائل يده إلى
السماء ، وقال : اللهم إشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً ،
وكان عليٌ راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى ، وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى آخذ
الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله؛ وفي خبر آخر في حديث طويل يشتمل على حديث
المنزلة ، فسأله النبي : ماذا أُعطيت ، قال خاتم من فضة ، قال : من أعطاكه؟ قال :
ذلك القائم ، فإذا هو عليٌّ ، قال : على أي حال أعطاكه؟ قال : أعطاني وهو راكع.
فكبر رسول الله 6
إذ نزلت عليه الآيتان :
( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .
وقد أجمع المسلمون على نزول هاتين
الآيتين في حق علي 7.
وعن ابن عباس : كانت مع علي أربعة دراهم
، فتصدق بواحد ليلاً ، وبواحد نهاراً ، وبواحد سراً، وبواحد علانية ، فنزلت : ( الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
وتحلق المتنطّعون حول النبي 6
وجلس إليه الأغنياء ، يبددون وقته بالهذر ، والنبي صابر ، ويساروّن إليه بما قد لا
ينفع ويمنعه خلقه من الامتناع عليهم ، فكان الاستئثار بوقت القائد ، وكانت الثرثرة
حيناً ، والتمادي بتلك الثرثرة حيناً
__________________
آخر ، وكان التساؤل
والتنطّع دون تقدير لملكية هذا الوقت ، وعائدية هذه الشخصية ، فحدّ القرآن من هذه
الظاهرة ، وإعتبرها ضرباً من الفوضى ، وعالجها بوجوب دفع ضريبة معالية ، تسبق هذا
التساؤل أو تلك النجوى ، ونزل قوله تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً
ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
) .
وكان لهذه الآية وقع كبير ، فامتنع
الأكثرون عن النجوى ، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم ، وانتظم المناخ العقلي بين
يدي الرسول الأعظم ، وتحددت الأسئلة ، ليتفرغ النبي 6
للمسؤولية القيادية؛ وكان عليٌ وحده هو المتصدّق وهو المناجي ليس غير ، وقام على
ذلك إجماع المسلمين حتى قال عبد الله بن عمر : « كان لعلي بن أبي طالب 7 ثلاث لو كانت لي واحدة منهن لكانت أحبّ
إلي من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى » وقال
عليٌّ 7 يشرح هذه
الحادثة : « إذا كان في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد
بعدي ( وتلا آية النجوى ) كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي
رسول الله 6 قدمت درهماً
... ».
ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية
، وبلغ الله فيها أمره ، نسخ حكمها ورفع ، وخفف الله عن المسلمين بعلي وحده ، بعد
شدة مؤدية ، وفريضة راوعة ، وتأنيب في آية النسخ :
( أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا
__________________
الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
) .
هذه نماذج مما جبل عليه عليٌ نفسه ،
وبما أخذها فيه ، جاءت على سجيتها ، دون تكلف ، وانطلقت ذاتية دون رياء ، وما لعلي
وللتكلف والرياء ، ولو كان له بيتان : بيت من تبر وبيت من تبن لا نفق تبره قبل
تبنه كما يقول معاوية.
__________________
(٤)
عليٌ فارس المهمّات الصعبة
أفاقت قريش من سكرتها بعد بدر ، ووصلت
فلولها المنهزمة إلى مكة لتجد العير موقوفة في دار الندوة وفيها المتاع والتجارة
والمال ، ومشى سراة قريش إلى أبي سفيان بحسبها بغية التجهز لحرب محمد 6 ، وأجاب إلى ذلك أبو سفيان كما أجاب
أصحاب العير ، وأظهرت قريش التجلّد ، فلم تندب قتيلاً ، ولم تبك أحداً من رجالها ،
ومنعت النساء من النياحة ، الشباب من الإخلاد إلى العاطفة ، واستنصروا الأحابيش
مشى فيهم عمرو بن العاص ، وابن الزبعرى ، وأبو عزة الجمحي ، فتألب العرب ، وإستعد
الجمع ، يريدون حرب محمد ، والثأر لبدر ، وخرجت قريش بالظعن ، وكثرت العدة
والأسلحة ، وساروا بمائتي فرس ، وهم ثلاثة آلاتف في ثلاثة ألاف بعير ، في أهبة
متكاملة وفيهم سبعمائة دارع ، ووصل النبأ رسول الله 6
وهو في قباء فأسرّ به إلى سعد بن الربيع ، فقال له سعد : والله إني لأرجو أن يكون
في ذلك خير.
ووصلت الجموع المعتدية أطراف المدينة في
الخامس من شوال للسنة الثالثة من الهجرة ، وكانت المعركة يوم السبت السابع من شوال
للعام نفسه.
أستخبر النبي 6 بقدوم هذا الجمع المتألب ، فقال :
حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم : بك أحول ، وبك
أصول.
والتفت النبي 6 إلى المسلمين ، وهو يريد الأنصار ،
وقال : أشيروا عليّ ، فأشير عليه أولاً بالمكث في المدينة ، وجعل النساء والذراري
في الأطام ، وطلب آخرون الخروج من المدينة إلى عدوهم ، فهي إحدى الحسنيين إما
الشهادة وإما الغنيمة ، ونزل على هذا الرأي ، وندم من أشار بهذا الرأي ، وخرج
النبي 6 مدججاً بالسلاح
، فتلاوموا فيما بينهم ، وأرادوا الرأي الأول فقال 6
: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى
يحكم الله بينه وبين أعدائه ».
وكان هذا الإلجاء من المسلمين أول الخور
والفشل ، ولكن النبيّ وعدهم بالنصر ما صبروا ، واتبعوا تعليماته ، ونزلوا بأحد
قبال المشركين ، وصفّ النبي أصحابه ، وجعل الرماة على الجبال وألزمهم بالثبات فيه
، مهما كانت ظروف الحرب ، وجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة.
وأعطت قريش اللواء لبني عبد الدار ،
ولواء المسلمين بيد علي 7
، فانتزعه النبي منه ، وأعطاه مصعب بن عمير ، وقيل أعطى غيره لمصعب بن عمير لأنه
من بني عبد الدار. وبقي اللواء بيد عليّ. وأقبلت هند زوج أبي سفيان وصواحبها يحرضن
على القتال :
نحن بنات طارق
|
|
نمشي على النمارق
|
إن تقبلوا نعانق
|
|
أو تدبروا نفارق
|
فراق غير وامق
وبرز طلحة بن أبي طلحة في لواء المشركين
وطلب البراز فخرج
له عليٌ 7 وتجاولا بين الصفين ، ورسول الله تحت
الراية عليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا ، وبدره عليٌ بضربة على رأسه فمضى السيف
حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحييه فوقع ، فلما قتل طلحة سر رسول الله 6 وكبّر تكبيراً عالياً وكبّر المسلمون ،
وسقط لواء المشركين وتشجع المسلمون ، وبرز بنو عبد الدار سبعتهم واحداً بعد واحد
يتساقطون حول اللواء بسيف علي حتى حمله أرطاة بن عبد شر حبيل فقتله علي ، وحمله
غلام بني عبد الدار فقتله عليً ، وسقط اللواء فانهزم المشركون ، ونادت نساؤهم
بالويل والثبور ، وليس دون أخذهن من شيء ، ورأى المسلمون الفتح ، وأشتغلوا شيئاً
ما بالغنيمة ، فتخلى القسم الأكبر من الرماة عن الجبل ، ودخلوا العسكر ، وخالفوا
الرسول الذي عهد إليهم :
« أحمو ظهورنا ، وإن غنمنا فلا تشركونا
».
ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل وعليه
شرذمة قليلون فمال على المسلمين وكرّ بالخيل عليه ، فجالد من بقي من الرماة ساعة ،
وقتل قائدهم عبد الله بن جبير ، فانتقضت صفوف المسلمين ، وهجم عليهم خالد وعكرمة
بن أبي جهل من خلفهم ، واختلط الحابل بالنابل ، وعمّت الفوضى العسكرية ، فأصبح
المسلم يقتل أخاه المسلم ولا يعلم بذلك ، واشتدّ الهرج بالمسلمين ، وكثر الفرار من
قبل أجلّة الصحابة ، وأسلم النبي وهو في العريش ، وثبت معه سبعة أو تسعة ، وتحلق
المشركون عليه من كل جانب ، ونادى مناديهم قتل محمد ، وعظم ذلك على المسلمين
واشتدت المحنة بهم ، وثبت رسول الله في نفر من أهل بيته وأصحابه وفي طليعتهم عليٌ
وأبو دجانة الأنصاري ، وأصعد المسلمون في الجبل فإعتصموا به ، وعلي ومصعب بن عمير
وأبو دجانة يذبون عن
النبي 6 ويتجه ابن قميئة إلى مصعب بن عمير
فيضرب يده اليمنى فيقطعها ، ويأخذ اللواء باليسرى فيقطعها ، ويضمه إلى عضديه ،
فينفذ الرمح في صدره ، ويقتل مصعب ويسقط لواء المسلمين ، ويرفعه عليٌ ، والقتل فاش
في المسلمين ، ورحى الحرب تدور بهم ، فتستأصل شأفتهم ، وقد احتوش المشركون حمزة بن
عبد المطلب ، ويرميه وحشي بمزراق فيثبته ، ويقتل في المعركة ، وتدّب إليه هند
بحنقها وحقدها ،فتقطع أفنه وأذنيه وتقتلع عينيه ، وتشق بطنه وتستخرج كبده فتلوكها.
وحمي الوطيس ، وفرّت الرجال عن النبي
إلا بضعاً منهم ، وباشر النبي 6
يومئذٍ القتال بنفسه ، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله ، وأنكسرت سية قوسه ، وأدميت
جبهته ، وأصيبت رباعيته ، وأقبلت كتائب المشركين على رسول الله 6 تزحف نحو رسول الله ، وقد كثر الفرار
بين يديه من أصحابه ، وكانت كتيبة بني كنانة أشدّها عليه ، فالتفت رسول الله إلى
علي وقال : ياعلي اكفني هذه الكتيبة ، فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارساً ،
وعليٌ راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مراراً ، حتى
قتل بني سفيان بن عوف الأربعة ، وسواهم إلى تمام العشرة ، ممن لا يعرف اسمه ، فقال
حبرائيل 7 لرسول الله 6 : يا محمد : إن هذه المواساة لقد عجبت
الملائكة من مواساة هذا الفتى ، فقال رسول الله 6.
وما يمنعه وهو مني وأنا منه ، فقال
حبرائيل ، وأنا منكما.
وأشتد القتال على علي ، وهو يذب بالسيف
عن رسول الله 6
فنادى جبرائيل من قبل السماء :
لا سيف إلا ذو الفقار
|
|
ولا فتى إلا عليّ
|
وذكر عليٌّ 7 ، يوم أحد وهجمة الكتائب على الرسول ،
فقال :
« لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبّهم في
ناحية ، وإن أبا دجانة لفي ناحية يذبّ طائفة منهم ، حتى فرّج الله ذلك كله ، ولقد
رأيتني ، وانفردت منهم يومئذٍ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل ، فدخلت وسطهم
بالسيف فضربت به ، وأشتملوا عليّ حتى أفضيت إلى آخرهم ، ثم كررت فيهم الثانية حتى
رجعت من حيث جئت ، ولكن الأجل استأخر ، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً ».
وقتل عليٌ مضافاً لهذا جملة من علية
القوم كأبي الحكم بن الأخنس بن شريق ، وأمية بن أبي حذيفة وسواهما بعد خطوب ومعارك
حامية.
ولم يكن القتال وحده كل همّه في أحد ،
بل كان عين رسول الله الساهرة في أحداثها ، فهو الذي التمس حمزة لرسول الله فوجده
قتيلاً ، وهو أول الستة أو الأربعة عشر الذين ثبتوا مع رسول الله ليس غير ، وهو
أول المبايعين الثمانية لرسول الله 6
على الموت ، وهو أول الواقفين إلى حنب رسول الله من بداية الحرب إلى نهايتها.
وتحاجز الفريقان ، وقال أبو سفيان : أعل
هبل ، يوم بيوم بدر ، فأجيب :
الله أعلى وأجل.
وإستردّت قريش بعض أنفاسها بهذا النصر
الموقوت ، ولم تشأ أن توغل في الاثم فتبقى أكثر مما بقيت ، أو تقاتل أكثر مما
قاتلت ، فما يدريها فلعل الدائرة تكون عليها ، فتركت المعركة جانباً ، واكتفت بما
حصلت عليه ، واتجهت
نحو مكة بعد تردد في الأمر ، ولم يأمن النبي 6
بياتها ، فدعا علياً 7
، وقال له : « أخرج في آثار القوم ، فإنهم إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن
إلى مكة ، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهو الإغارة على المدينة ».
وسارع الإمام في أثر القوم في مهمة صعبة
لم تجد منفذّاً لها سواه ، واستمع إلى مناجاة القوم ، واكتشف نياتهم ، ورأى الإبل
تمتطى ، والخيل تجنّب ، وأقبل على رسول الله والمسلمون حوله ، وقال : يا رسول الله
قد جنبوا الخيل.
فتنادى المسلمون بالرحيل ، وقفلوا إلى
المدينة ، وخرج الرجال لاستقبال الرجال ، والنساء يحملن الزاد والماء والضماد ،
وخرجت ابنة محمد : فاطمة الزهراء تلتمس أباها ، وقد أقبل يتهادى بين السعدين : سعد
بن معاذ وسعد بن عبادة ، فإعتنقته ومسحت الدم عن وجهه ، وذهب عليٌ فأتى بماء من
المهراس ، وقال لفاطمة : امسكي هذا السيف غير ذميم ، فنظر إليه رسول الله 6 مختضباً بالدم فقال : لئن كنت أحسنت
القتال اليوم ، فلقد أحسن عاصم بن ثابت ، والحارث بن الصمة ، وسهل بن حنيف ، وسيف
أبي دجانة غير مذموم ، هكذا روى الواقدي.
وروى محمد بن إسحاق أن علياً 7 قال لفاطمة :
أفاطم هاء السيف غير ذميم
|
|
فلست برعديدٍ ولا بلئيم
|
لعمري لقد جاهدت في نصر أحمدٍ
|
|
وطاعة ربٍّ بالعباد رحيم
|
فقال رسول الله : لئن صدقت القتال اليوم
لقد صدق معك سماك بن خرشة ( أبو دجانة ) وسهل بن حنيف.
حقاً لقد صدق علي في هذه المعركة القتال
، وصدق النية ، وانتهت المعركة بثباته إلى حيث انتهت ، ولولا جملة هؤلاء الثابتين
، لكان الإسلام أثراً بعد عين.
(٥)
عليّ يتحرك نضاليا في المشاهد كلها
ما كان لعليّ أن يستريح بعد معركة بدر ،
فالمنافقون واليهود في حلف سري بالمدينة ، والأحابيش والمشركون في حلف علني بمكة ،
والمسلمون بين هذين بين فكي أسد كما يقال ، فكانت غزوة أحد بما حملت بين طياتها من
أسباب الفشل وعوامل النكسة كما سبق ، وما ترك علي حمل لواء في بدر حتى لواء في أحد
، وما طرح لواء في أحد حتى حمل الوية أخرى في الغزوات الصغيرة والمشاهد المتلاحقة
، فعزوة بني سليم ، وغزوة بني قينقاع ، وغزوة السويق ، وغزوة ذي أمر ، وغزوة بحران
تتلاحق تباعا واحدة تلو الأخرى ، وعلي يضطرب فيما بينها فلا يهدأ ، ويتحرك بأزائها
فلا يسكن ، وما استقرت الحال حتى نجمت غزوة بدر الصغرى في منتصف السنة الرابعة من
الهجرة إذ خرج لها رسول الله 6
في ألف وخمسمائة فارس يحمل لواءه علي بن أبي طالب ، وخرج أبو سفيان في ألفين حتي
انتهى بجيشه إلى مرّ الظهر ان، وامر قومه بالرجوع لأن العام عام جدب ثم كانت غزوة
ذات الرقاع ، فغزوة دومة الجندل ، حتى أهل شعبان من السنة الخامسة للهجرة ، فكانت
غزوة بني المصطلق ، وكان لعلي فيها بلاء عظيم ، انتهى بالنصر للمسلمين ، والغنائم
للمحاربين ، وشهد فيها علي ضربا من العصبية القبلية شهر فيها السلاح بين المسلمين
بدعوة جاهلية أبطلها النبي 6
حينما أسكتهم وأمرهم بالرحيل.
هذه الأحداث صغيرها وجسيمها خلقت من علي
مناضلا فذا يشار
إليه بالبنان ،
وبطلا من أبطال هذا المناخ القتالي ، فطار صيته في الآفاق ليطل به ذلك على غزوة
الأحزاب ومعركة الخندق ، فكان لعلي بها صدى الفارس المعلم ، وصوت الشجاع المطرق ،
وعاد يومها فارس العرب الأول ، والمدافع الحقيقي عن الإسلام ، وبشخصه ـ وحده ـ قذف
الله الرعب في قلوب المشركين ، وبضربته البكر ذلك اليوم أعزّ الله حمى الإيمان.
وحينما أجلى النبي 6 يهود بني النضير ، ساروا الى خيبر
واتصلوا بقريش يدعمهم بذلك بنو قينقاع ، ونقضوا بهذا عهدهم مع رسول الله 6 ، وبقي بنو قريظة في عهده ، حتى أغرى
بهم حيي بن اخطب بتحريض من أبي سفيان فنقضت العهد أيضا ، وأفاقت المدينة لتستمع
جلبة اجتماع الأحزاب ، وتنظر صلف قريش وكبريائها تقود هذا الجمع الباغي في اربعة
آلاف من العرب والأحابيش واليهود يريدون أن يلتهموا الإسلام التهاما.
وأجال النبي 6 مع المسلمين الرأي في الصمد لهذا الزحف
، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق فاستراح له المسلمون ، ونفذّوه في سرعة مذهلة ،
وفوجئت قريش بهذا الأسلوب الجديد ، وتملكها الاضطراب لهذا الإحتراز الفاعل ، وعسكر
المسلمون الى سفح سلع فكان خلفهم ، والخندق بين أيديهم ، واستوحشت قريش لهذا
الإجراء الدقيق ، وطالت عليه المدة في الإنتظار ، وحذرت أن تخمد العزائم وتجف
الهمم ، فأقبل فوارسهم بقيادة عمرو بن عبدود ، وصاروا الى مكان ضيّق من الخندق
أغفله المسلمون إحكاما ، فضربوا خيولهم فإقتحمته ، فكانت بين الخندق وسلع ، وإذا
بهم أمام المسلمين وبين ظهرانيهم وجها لوجه.
وكانت مفاجأة للمسلين ليست في الحسبان ،
فسيطر عليهم الرعب ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فهم بين متلوم لا يلوي إلى شيء
، ومضطرب لا يسكن الى اطمئنان ، وأرجف بهم المنافقون ، وتناهي إليهم غدر اليهود من
معاهديهم ، وكانت الهجمة تفوق ما أعدوا واستعدوا له ، فسرى بينهم الخوف القاتل
والذعر المسيطر والقلق الدائم.
وقد أوجز القرآن العظيم هذا المدرك
النفسي ، والواقع التحشدي الهائل ، وتنطع المنافق بعبارات دقيقة ، غاية في البلاغة
والإيجاز ، وقمة في تصوير المشهد المروع :
قال تعالى : ( إِذْ جَاؤُوكُم
مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا )
.
هذا هو المشهد كما عبّر عنه القرآن ،
ولك أن تمعن في دلالته لتقف على الحقيقة المذهلة في استقراء المناخ النفسي
للمسلمين.
قال الطبري وابن هشام وسواهما : وخرج
علي بن أبي طالب 7
في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، فأسقط في يد
عمرو بن عبدود وزمرته ما أقدم عليه عليّ ، فطأطأت له الكبرياء المهلهلة ، وكان
نزوله عليهم كالصاعقة في عنفها ، وكالهدة في وقعها ، إحتملتها نفوسهم رياء ، وضاقت
بها أحلامهم ذرعا ، فإستشعرت المهانة والذلة بعد العزّة ، وحصدت الخيبة والفشل
__________________
بعد الزهو والغرور ،
ولم يمنع هذا عمرا من تيهه وغطرسته ، ولم يهذّب من غلوائه واعجابه ، فاندفع يطلب
البراز ، ولا مجيب ، يشق صدى صوته البيداء ، والمسلمون في ذهول ، وكأن على رؤوسهم
الطير ؛ ولكن القائد الواثق ، والفارس المجرب ، يستجيب لهذا النداء من الأعماق فيقول
للنبي 6 : أنا له يا
رسول الله ... أنا له يا نبي الله ، ولكن النبي 6
كان ضنينا بعلي ، فقد فقد عبيدة في بدر ، والحمزة بأحد فقال له : « أجلس ... إنه
عمرو ».
وكررها عمرو مرتجزا :
ولقد بححت من النداء
|
|
بجمعكم هل من مبارز
|
فقام علي الى النبي 6 وقال له : أنا له يا رسول الله ، قال :
أجلس إنه عمرو ، ولم يجب أحد سواه ، فاستغلها عمرو ساخرا وعاتبا وقال :
أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم
دخلها ، أفلا يبرز إلي رجل؟
فقام علي للمرة الثالثة وقال : أنا له
يا رسول الله ، فقال النبي 6
إنه عمرو ، فقال علي وإن كان عمرا ، أو قال النبي : إنه عمرو ، فقال عليّ : وأنا
علي.
فأذن له النبي 6 بالمبارزة ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ،
والبسه درعه وعمامته ، وقال : اللهم أعنه عليه.
فأهتز عليّ لهذا الإذن ، ومضى على بصيرة
من أمره ، وقوة من عزمه ، يبدد خوف المسلمين ويكشف رهبتهم ، وانحدر الى عمرو كما
ينحدر السيل من الجبل ، وقد حرص عليّ بهذا الموقف على الموت
فمنحه الله الحياة ،
وانتشار الذكر والأثر ، وبرز مرتجزا :
لا تعجلن فقد أتاك
|
|
مجيب صوتك غير عاجز
|
ذو نية وبصيرة
|
|
والصدق منجي كل فائز
|
إني لارجوا أن أقيم
|
|
عليك نائحة الجنائز
|
من ضربة نجلاء يبقى
|
|
صيتها بعد الهزاهز
|
فحمي عمرو لذلك ، وقال له : من أنت؟
فقال علي ، قال ابن من؟ قال : ابن عبد مناف ؛ أنا علي بن أبي طالب.
إرتهب عمرو من الاسم ، وأبدى تريثا في
دهاء ، وأظهر إشفاقا في إفتعال ، فقد طار صيت علي في بدر وأحد وسواهما ، وعمروُ
المرتث في بدر ، وهو العارف بمبارزه هذا حقا ، فقال : « يا ابن أخي ... قد كان
أبوك لي صديقا في الجاهلية ، وكنت له نديما ، وأكره أن أهريق دمك. فقال علي : لكني
والله ما اكره أن أهريق دمك ، فحمي عمرو ثانية وغضب لذلك ، فبدره عليّ وقال له :
قد كنت تعاهد الله لقريش أن لا يدعوك رجل الى خلّتين إلا قبلت منه أحدهما. قال :
أجل ، فقال علي : فإني أدعوك الى الله عز وجل والى رسوله 6 والإسلام. فقال : لا حاجة لي في ذلك.
قال فإني ادعوك الى البراز. فأجابه الى ذلك ، واتفقا على البراز ، وهنا اشتهر عن
النبي أنه قال : « برز الإيمان كله الى الشرك كله ».
ونزل عمرو عن فرسه فعقرها ، وأقبل على
عليّ وسل سيفه كأنه شعلة نار ، وضرب عليا على رأسه فشجّه ، وضربه علي على حبل
عاتقه فسقط الى الارض كالجبل وقد أثقلته الجراح ، فجلس علي على صدره ، وثارت لهما
غبرة ، كبّر علي ، فعلم المسلمون بمصرع عمرو ، وكبّر المسلمون ؛ ولما قتل عمرو هرب
الذين معه بخيولهم حتى
اقتحمت بهم الخندق ،
وأدرك عليّ نوفل بن عبدالله بن المغيرة فضربه بالسيف وقطعه نصفين ، وكان مع عمرو
ابنه حسل فقتله علي 7.
وكرّ علي راجعا ، ولا تسلّ عن الفرحة
الكبرى عند المسلمين ، ولا تسلّ عن الحقد الذي انطوت عليه جوانح المنافقين غيظا
وحسدا، وإمتلئت قلوبهم حقدا وتحرّفا ، كيف فاز بها علي وأخفقوا ، وكيف وقف لها علي
وتخاذلوا.
أقبل علي 7
، وقد إحتز رأس عمرو فألقاه بين يدي رسول الله 6
فقام أبو بكر وعم فقبّلا رأس علي.
وقال النبي 6 حينئذ « لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو
بن عبدود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي الى يوم القيامة ».
وما أراح عليّ نفسه ، بل رجع الى مقامه
الأول ، ووقف بحيث الثغرة من الخندق ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، وسارت
الركبان بالنبأ ، واهتزت الصحراء بالمعركة ، وصدع الوحي :
( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا )
.
وبعث الله على المشركين الريح في ليال
شاتية ، شديدة البرد والقرّ ، فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح أبنيتهم ، وتزعزع أخبيتهم
، فاستبد بهم الفزع وتملكهم الذعر. فقال أبو سفيان : يا معشر قريش : ما أصبحتم
بدار مقام لقد هلك الكراع والخفّ ، فإرتحلوا فإني مرتحل ».
وعاد المشركون بالهزيمة الى مكة ، وعاد
المسلمون بالنصر الى المدينة.
__________________
وانتهى نعيّ عمرو الى أخته عمرة بنت عبدود
، فقالت :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
|
|
لكنت أبكي عليه آخر الأبد
|
لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به
|
|
من كان يدعى قديماً بيضة البلد
|
ولك أن تفسر قولها : أكان رثاء لعمرو أم
مديحا لعلي.
(٦)
الراية العظمى في كل الفتوح
ونقضت بنو قريظة العهد مع رسول الله 6 ، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل ، فكان
اليهود منهم من المفسدين في الأرض ، فلما رجع النبي 6
من الخندق أمر بلالا فنادى : من كان سامعا مطيعا فلا يصليّن العصر إلا في بني
قريظة. ودعا عليا 7
فدفع إليه رايته العظمى ، وأمره بالخروج لهم ، فسار في جمع من الخزرج حتى دنا من
الحصون ، فسمع منهم مقالة قبيحة في رسول الله 6
فكره ذلك وأكبره ، وأشرف اليهود من الحصون فلما رأوا عليا 7 تنادوا : قد جاءكم قاتل عمرو!! وألقى
الله في قلوبهم الرعب ، وركز علي 7
الراية في أصل الحصن فأضطربوا لذلك اضطرابا شديدا ، وطلع عليهم رسول الله 6 وهم يسبونه ولا يفقهون فناداهم : يا
إخوة القردة والخنازير : إنا إذ أحللنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. فحاصرهم
رسول الله 6 خمسا وعشرين
ليلة ، حتى جهدهم الحصار فنزلوا على حكم رسول الله 6
مضطرين بعد خطوب يطول شرحها ، وحكّم فيه رسول الله 6
سعد بن معاذ ; ، فحكم بأن
تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء ، وتكون الديار ـ ديار بني
قريظة ـ للمهاجرون دون الأنصار فقال رسول الله 6
: حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة. وحبسوا في دار رملة بنت الحارث من بني
النجار.
ثم خرج رسول الله 6 الى موضع السوق فخندق فيه خنادق ، وخرج
معه علي 7 والمسلمون ،
وأمر بهم أن يخرجوا ، وتقدم الى علي 7
أن يضرب أعناقهم وترمى جثثهم في الخندق ، فأخرجوا أرسالا وقتلهم علي 7 جميعا ، وفيهم حيي بن أخطب ، وكان من
زعماء اليهود البارزين ، وقدمه 7
للقتل ، فقال : يا علي : قتلة شريفة بيد شريف ، فقال له عليه 7 : إن خيار الناس يقتلون شرارهم ،
وشرارهم يقتلون خيارهم ، فالويل لمن قتله الأخيار الأشراف ، والسعادة لمن قتله
الأراذل الكفار ، قال حيي : صدقت ، فلا تسلبني حلّتي ، قال علي : هي أهون عليّ من
ذلك ، فقال حيي : سترتني سترك الله ، ثم قتله ولم يسلبه.
وكان هذا المشهد في صلابته مما ملء قلوب
اليهود والمنافقين هلعا ، ونفوسهم غيظا من علي 7
، ولم يكن هذا آخر موقف له معهم ، فله الموقف السائر في خيبر ، ولكن لهذا حديث
آخر.
وقد أنزل الله في غزوة بني قريظة من
الذكر الحكيم قوله تعالى :
( وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم
مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرًا ) .
ولم يكن عليّ 7 ليستريح أو يريح ، لم يكن ليستريح
بذاته ، ولم يكن ليريح غيره ، فقد شمّر ساعده للذّب عن الإسلام ، وقريش في رعب منه
بعد غزوة الخندق ، وأبناء اليهود في إضطراب بعد غزوة بني قريظة ، فغلت عليه الصدور
بمراجل الحقد ، وتألّبت عليه المشاعر
__________________
بمظاهر الكراهية ،
وهو يعلم ذلك العلم كلّه ، وكلنّه لم يكن مندفعا دون أناة ، ولا مشرعا دون تفكير ،
كان يعمل فكره ، ويهيأ أمره ، بخطى سديدة ثابتة ، واحلام رتيبة متناسقة ، حتى إذا
جدّ الجدّ قذف نفسه في لهوات الحرب غير هيّاب ولا مبال ، ولكنه يضع الأمور في
نصابها ، ويعتبر الأحداث بأشباهها ، ويقيس الطارئات بميزانها ، وهنا يبرز دور
العقل الإنساني الرفيع عند علي 7
وهنا يلوح المناخ النفسي المتزّن لديه ، مع صراحة في الرأي ، ودقة في الموازنة ،
وإصرار على الحق ، وفقد طابق قوله فعله ، ووافق هديه عمله ، مبتعدا عن المداجاة
والمحاباة ، متسماً بالقصد والأعتدال ، وهي مميزات فريدة لا تتأتى لأبطال الحروب
إلا بعد جهد جهيد ، ورياضة لا تدانيها رياضة ، فالشجاع مغامر دون تحفظّ ، ومبادر
دون إدراك ، ولكن عليا 7
شجاع بدراية ، ومقدام مغوار بنظام ، يخطط ويبرمج ، ويحقق ما يريد بصبر وروية ،
فإذا تم له هذا أقدم إقدام من لا يخاف الفوت ، وأرقل إرقال الثائر المستميت ،
وهكذا كان ديدنه ، وتلك ملكات إكتسبها من رسول الله 6
فكان الصورة المعبرة عنه ، والرجل الذي أعدّه لقيادة الأمة على سنّته في السلم
والحرب معا.
وهذا محمد 6
يخرج للعمرة لا يريد حربا ، ولكن لواءه بيد أمير المؤمنين 7 كما كان في المشاهد كلها ، لم يخرج
بسلاح إلا والسيوف مغمدة ، والبُدُنُ قد أشعر عدة منها وهو في طريقه الى البيت
الحرام ، وما هي إلا أن علمت قريش ، فأقسمت أن لا يدخل مكة ولكنها لم تستحّب قتاله
، فرقا وجزعا ، وآلت أن لا يعتمر كراهية العار في زعمها ، ولكن ماذا تصنع والنبي 6 مقبل في ألف وستمائة من المهاجرين
والأنصار ، ماذا عسى أن تقول العرب؟ فخرجت بأحابيشها من جهة ، وطغاتها من جهة أخرى
، ومعهم العوّذ المطافيل ثالثة ، حتى
نزل الجمعان
الحديبية. وجرت بينهما المفاوضات في أخذ ورّد ، وإنهما لبسبيلهما إذ بلغ الخبر
رسول الله 6 أن عثمان بن
عفان مبعوثه الى مكة قد قتل ، ومعنى هذا أن قريشا قد غدرت به ، فقال رسول الله 6 : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الى
بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان بلاء علي 7
في هذا اليوم عظيما ، إذ أشرف بنفسه على رصّ الصفوف ، وتعبئة الجيوش والإعداد
للحرب ، وكان علي 7
المبايع للنساء نيابة عن النبي 6.
وتبين كذب نبأ مقتل عثمان وقد اشتدّ
الأمر ، ونظرت قريش الى نفسها ، وقد كثر التلاوم بينها : أن الرجل ما جاء لقتال
إلا أن يحمل عليه ، فتناوبت الرسل بين المعسكرين ، واتفق رأي قريش على الصلح على
أن يرجع النبي 6
عامه هذا ، وله العود العام القادم ، وأجاب رسول الله 6 لذلك ، وتم الاتفاق على الصلح ،
فانتدبت قريش سهيل بن عمرو ، وانتدب النبي 6
عليا 7 ليكتب
العهد، فأملى عليه النبي :
بسم الله الرحمن الرحيم :
فقال سهيل : لا أعرف هذا ، اكتب : باسمك
اللهم ، فكتبها علي ثم قال النبي 6
: اكتب ؛ هذا ما صالح به محمد رسول الله سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو شهدت أنك
رسول الله لم اقاتلك ، ولكن أكتب اسمك واسم ابيك ، فقال رسول الله 6 لعلي : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن
عبدالله سهيل بن عمرو ، فجعل علي 7
يتردد في محو اسم رسول الله ، فقال رسول الله اكتب فان لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد
( إشارة بل إخبار عما سيحدث لعلي في صفين حينما طلب إليه محو إمرة المؤمنين عنه في
الكتاب ) ولم يمحها علي ، فقال رسول الله
أرنيه ، فأراه إياه
فمحاه بيده ، وقال أنا والله رسول الله ، وإن كذبتموني. وكان الكتاب : « إصطلحا
على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض .. ».
وهكذا عاد صلح الحديبية موثقا جديدا ،
تأمن به قريش الى حين ، ويعمل فيه النبي 6
على إقرار دينه ونشر دعوته ، ولكن اليهود أعداءه هؤلاء لم يفرغ منهم بعد ، وإن فرغ
من بني النضير وبني قينقاع وقريظة، فأمامه يهود خيبر الذي لم يرتبطوا بعهد؛ إذن
فهو يعزوهم داعيا الى الإسلام ، فإن قبلوه والا قبلوا الجزية ، وإلا فهي الحرب ،
وقد كانت ، بعد حصار بضع عشرة ليلة ، فبعث رسول الله أبا بكر ليفتتح من خيبر حصن
ناعم ، فلم يستطع أن يفعل شيئا ، ثم بعث عمر بن الخطاب فناوشهم القتال وعاد
منهزما.
وظل الحصن شامخا ، وغضب رسول الله 6 وقال : لأعطين الراية غدا رجلا يحب
الله ورسوله يفتح الله علي يديه كرّار غير فرّار ، فدعا عليا وأعطاه الراية ، وهو
يشتكي رمد عينيه ، فمسحهما بيده ، أو بلهما بريقه ؛ فبرأتأ ، فقال علي : يا رسول
الله علام أقاتلهم؟ فقال : على أن يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله ؛
فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله.
وتقدم علي 7
الى الحصن يهروّل هرولة ، يستعجل الفتح ويستنزل النصر ، وإذا دونه « مرحب » فارس
اليهود يرتجز.
قد علمت خيبر أني مرحب
|
|
شاكي السلاح بطل مجرّب
|
فاختلف هو وعلي بضربتين ، فلم تصنع ضربته
شيئا ، وضربه علي على رأسه حتى عضّ السيف بأسنانه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته
وسقط قتيلا ، وانهزم اليهود ، فكان الفتح ، وهجم علي فاقتلع باب
الحصن وتترس بها ،
وكرّ على فلول اليهود فتناثروا بين يديه ، وما التقى آخر الجيش بأوله حتى تم النصر
المؤزر على يد عليّ وحده.
فلما فرغ رسول الله 6 من خيبر ، قذف الله الرعب في قلوب أهل
فدك ، فبعثوا الى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك ، فقبل ذلك. فكانت فدك
بنصفها خالصة له لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، ونحلها رسول الله أبنته فاطمة
، وتصرفت بها في حياة أبيها.
وهكذا تنتهي الجولة إثر الجولة مع
المشركين تارة ، ومع اليهود تارة أخرى ، وعليّ في هذا كله يدير قيادة الجيش ،
موجها ومباشرا وفاديا ، قد مرّ على الهجرة سبع سنوات ، ليكون فتح مكة في سنة ثماني
من الهجرة كما سنرى.
(٧)
فتح مكة وموقع الإمام
ما برح المسلمون بعد صلح الحديبية
يتطلعون الى ذلك اليوم العظيم « يوم الفتح » الذي وعدهم إياه الله في كتابه الكريم
فقال تعالى :
( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا
تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا
) ولكن نكبه المسلمين في معركة « مؤتة »
واستشهاد قوادها الثلاثة : جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة
، قد فتت ـ الى حدّ ما ـ في عضد المسلمين ، وعودة خالد بن الوليد بالجيش الى
المدينة وعليه آثار الهزيمة ، قد نبهّت من طبائع المشركين ، وأذكت حرارة قريش
لمعاودة العدوان ، وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي 6
في وثيقة الصلح ، فعدت بنو بكر بمساندة قوى قريش على خزاعة ، فأوقعوا بهم قتلا
وتشريدا ، وبذلك نقضت بنو بكر الداخلة في حلف قريش ، وقريش نفسها عهد الصلح.
وخرج عمرو بن سالم الخزاعي ، وقدم
المدينة المنورة ، ووقف على النبي 6
في المسجد ، وأنشد قائلا :
اللهم إني ناشد محمدا
|
|
حلف أبينا وأبيك الأتلدا
|
إن قريشا أخلفوك الموعدا
|
|
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
|
__________________
واستطلع النبي الخبر بتفصيلاته وعلم ذلك
، فقال :
« لا نُصِرْتُ إن لم أنصُر خزاعة مما
أنصر به نفسي ».
وسرت هذه الكلمة في الآفاق ، وفتحت على
قريش بابا لم يكن ليغلق إلا بالحرب ، ولا ليوصد دون غزوها في عقر دارها ؛ وتبخرت
تلك الأوهام في الدعة والاطمئنان ؛ فالإسلام لا يقرّ على ضيم مظلوم ولا يفلت منه
كيد ظالم ؛ وأجمع النبي 6
أمره على الخروج بالسيف ، وأعلن النفير العام.
وندمت قريش على ما بدر منها ولات ساعة
مندم ، واختارت أبا سفيان ليصلح ما فسد ، ويتدارك ما حدث ، فطوى الصحراء حتى قدم
المدينة ، وكان النبي 6
قد استقرأ ذهنية قريش ، ولم يغب عن باله ما ستستقر عليه ، فأطلّ على المسلمين وقال
: « كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ، ليشدّ العقد ، ويزيد في المدة » ووقع ما قال ،
فقد جاء أبو سفيان وقال :
يا محمد : إني كنت غائبا في صلح
الحديبية ، فأشدد العهد وزدنا في المدة. قال النبي : هل كان فيكم من حدث.
قال أبو سفيان : معاذ الله.
قال النبي 6
: نحن على مدتنا وصلحنا.
ولكن أبا سفيان كذب على النبي ، والنبي
يعلم بهذا ، فإن كانت قريش لم تنكث فالعهد لا ينقض ، وإن نكثت فالعهد منقوض ، وهو
ما كان ؛ وفقد أبو سفيان صوابه ، فقد عرف من أمره ما عرف ، وما عليه إلا أن يتشبث
بكل شيء ، ويتوسل الى كل أحد عسى أن يصنع شيئا ، فمضى الى ابي بكر ليكلم له النبي
، فردّه ردّا رفيقا ، وذهب الى
عمر فردّه ردا عنيفا
، ثم اتجه الى الإمام علي 7
فدخل عليه ، وعنده فاطمة بنت محمد ، وبين يديها الإمام الحسن وهو صبي يدرج ، وقال
للإمام :
يا علي : إنك أمس القوم بي رحما ، وقد
جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائبا ، فأشفع لي عند محمد.
فقال علي 7
: « لقد عزم رسول الله 6
على امر ما نستطيع أن نكلمه فيه » فأيس من علي ، والتفت الى الزهراء ، والحسن
أمامها :
« يا بنت محمد ، هل لك أن تجعلي بنيّك
هذا سيد العرب الى آخر الدهر فيجير بين الناس ».
فقالت الزهراء 3 : « ما بلغ بنيّ أن يجير بين الناس ،
وما يجير على رسول الله أحد ». فبهت أبو سفيان ، وضل إدراكه ، وفقد صوابه ، واتجه
الى علي ثانية : يا أبا الحسن ... إني أرى قد اشتد عليّ فانصحني. فقال علي : ما
أعلم شيئا يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة فاجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال :
أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا ، فقال لا أظن ، ولكن لا اجد لك غيره.
وقد اجتهد عليّ مؤتمنا « والمستشار
مؤتمن ».
فهو لا يستطيع أن يجير على رسول الله.
وهو لا يستطيع أن يفيد أبا سفيان.
وهو لا يستطيع أن يشير على أبي سفيان
بأكثر من هذا.
وذهب أبو سفيان للمسجد فقال : أيها
الناس إني قد أجرت بين الناس.
فما استمع إليه أحد ، وركب راحلته
وانطلق الى مكة ، يتجرع مرارة الإخفاق ، ويجر أبراد الخيبة ، وأنذر قريشا بالحرب ،
وكانت متخاذلة فلم تحر جوابا ، ومترددة فلم تحرك ساكنا. وتجهز رسول الله 6 بسرعة مذهلة ، ودعا قائلا :
« اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى
نبغتها في دارها » وبث العيون ، وأخذ بالطرق ، وأوقف الرصد ، يستطلع القادم ،
ويستكتم المسافر ، فمن شك به ردّ ، وأخبر جماعة من صحبه وفي طليعتهم علي بأنه يريد
مكة ، ولكن الأكثرية لا تعلم جهته ، وكانت فلتة مزرية ، وخيانة مريرة من حاطب بن
أبي بلتعة ، حينما سرّب الخبر الى قريش بيد سوداء جعل لها جعلا ، وأخبر الوحي
النبي بالأمر ، فأرسل عليا والزبير ، فسبقا الى المرأة ، وأدركها الزبير فاستظقها
فأنكرت ، وقال لأمير المؤمنين : ما أرى معها كتابا ، نذهب الى رسول الله ونخبره ،
فقال علي 7 : يخبرني
رسول الله أن معها كتابا ، ويأمرني بأخذه منها ، وتقول أنت أنه لا كتاب معها ؛ ثم
اخترط سيفه ، وأقبل عليها ، وقال : والله إن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك ثم لأضربن
عنقك. فلما رأت الجد من عليّ 7
أخرجت الكتاب من عقيصتها ، فأخذه عليّ وانطلق به الى رسول الله ، وأنذر النبي 6 ابن أبي بلتعة بعد أن إعترف بذنبه ،
وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف كما تقول الرواية ، فأتّبه وحذرّه ونزل قوله
تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا
بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ )
.
وبمثل هذه السرّية خرج النبي من المدينة
في عشرة آلاف ، وأعطى الراية العظمى لعلي 7
وقسم الألوية على زعماء القوم من
__________________
المهاجرين والأنصار
، وسار بعلية أصحابه حتى نزل « مرّ الظهران » فأمر أصحابه فأوقدوا ـ بعددهم ـ عشرة
آلاف نار ، يريد أن يرهب أعداء الله ، وأرسلت قريش العيون ، وفي طليعة أولئك أبو
سفيان ، يتلمسون الأنباء ، ويتطلعون الأخبار ، فبهتوا للنيران تشق ظلماء الصحراء ،
وإذا بأبي سفيان يلتقي العباس عم النبي 6
فيسأله ما وراءك يا أبا الفضل؟ فيقول : هذا رسول الله قد دلف إليكم بعشرة آلاف من
المسلمين.
يقول أبو سفيان : فما الحيلة؟ فيجيبه
العباس :
« والله لئن ظفر بك رسول الله ليضربن
عنقك ». وفي سرعة يردفه العباس معه ، ويقدم به على رسول الله 6 يستأمنه له ، وإذا بجملة من المسلمين
يتنادون : أبو سفيان عدو الله ، وإذا بعمر يصرخ : الحمد لله الذي أمكن منك بغير
عقد ولا عهد ، وطلب الى رسول الله 6
أن يضرب عنقه ، فابتدر العباس : « يا رسول الله قد أجرته » فآمنه رسول الله وأمر
بأن يغدى به عليه. وصباحا قال له رسول الله : ويحك يا أبا سفيان ... ألم يأن لك أن
تعلم أن لا إله إلا الله. قال أبو سفيان : بأبي أنت وأمي : ما أوصلك وأحلمك ،
والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا.
فعاوده رسول الله 6 : الم يأن لك أن تعلم أني رسول الله.
قال أبو سفيان : أما هذه ففي النفس منها شيء ، فنهره العباس : ويلك تشهد شهادة
الحق قبل والله أن تضرب عنقك. فيتشهد أبو سفيان مستسلما لا مؤمنا ، ومنتهزا لا
صادقا ، ولكنه وحي الخذلان وذل الأنهزام.
والتفت النبي للعباس ، انصرف به فاحبسه
عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله.
فقال العباس لرسول الله 6 : إن أبا سفيان رجل يحبّ الفخر ، فاجعل
له شيئا يكون في قومه.
فقال النبي : « من دخل دار أبي سفيان
فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ».
وهلل أبو سفيان لهذه البادرة ، ووقف الى
جنب الوادي ، وأرعبته خيول الله ، وكتائب رسول الله ، فكلما مرت عليه كتيبة قال ما
لي ولفلان ، وكلما استقبلته قبيلة قال ما لي ولها ، حتى مرّ رسول الله 6 بكتيبته الخضراء ولها زَجَلٌ ، فطفح
الاناء بما فيه ، وقال العباس : « لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ».
فقال له العباس : ويحك انها النبوة.
فقال : نعم إذن. ثم انطلق الى مكة يستبق جيش الفتح ، واستقبلته قريش بلهفة ، وإذا
به يصرخ : يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به.
قالوا : فمه؟ قال : من دخل داري فهو آمن
، قالوا وما تغني دارك؟ قال : ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو
آمن. فأقبلت زوجته هند بنت عتبة وأخذت بلحيته وهي تصيح : يا آل غالب : اقتلوا هذا
الشيخ الأحمق. قال : ويحك : أسلمي وادخلي بيتك.
وإلتفت الى قريش وقال : لا تغرنكم هذه
من أنفسكم ألا وإني لكم نذير. فتسابقوا الهزيمة ، ينعمون بالسلامة من القتل
ويلوذون بالفرار من النازلة ، ورسول الله يأمر سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية ،
فيهزها هزا عنيفا ، ويغلظ للقوم قائلا :
اليوم يوم الملحمة
|
|
اليوم تسبى الحرمة
|
فسمعها العباس فقال للنبي : أما تسمع يا
رسول الله ما يقول
سعد ، وإني لا آمن
أن يكون له في قريش صولة ، فقال النبي 6
لعلي 7 : أدرك سعدا
فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي تدخل بها مكة ، فأدركه عليّ فاخذها منه ، ولم يمتنع
سعد من دفعها إليه ، وسار عليّ بالراية حتى دخل مكة رفيقا ، ودخل رسول الله 6 من ناحية كداء ، واصعا رأسه الشريف على
الرحل تواضعا لله تعالى ، واتجه نحو الحرم فطاف ولبى وسعى وصلى ، وهو في عدته
وأهبته وعزته ، وقريش على رؤوسها الطير ، وقد أقبل فلّها ، وتلائم بين يديه جمعها
، وقد زاغت الأبصار ، وخشعت الأصوات ، وانحنت الرؤوس ، فمنهم العفو والرحمة ، وقال
كلمته الشهيرة : « أذهبوا فأنتم الطلقاء » وأقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجا
، هنالك من أسلم ، وهناك من استسلم ، وللنبي ظاهر الحال ، ولكنه أهدر دماء أحد عشر
نفرا ، سبعة من الرجال ، وأربع من النساء ، وكان بلاء علي عظيما ، في طلب هؤلاء ،
ففروا منه هنا وهناك ، حتى التجأ من التجأ الى بيت أخته أم هاني بنت أبي طالب ،
فأجارت من أجارت ، أو استجار بها من استجار ، وفجأها علي 7 ، فحالت بينه وبينهم ، ودافعها ، فقالت
أنت أخي وتصنع معي ذلك ، إن أردت قتلهم فأقتلني معهم ، وسأشكوك الى رسول الله 6 ؛ وذهبت الى رسول الله فرحّب بها
وأجلسها الى جنبه. فقالت يا رسول الله : ماذا لقيت من علي ، فقد أجرت حموين لي من
المشركين ، فتفلّت عليهما ليقتلهما ، فقال ما كان ذلك له ، قد أجرنا من أجرت ،
وآمنا من آمنت. وشكر لعلي سعيه ، وشفّع أخته.
وطاف النبي 6 بالبيت ، وعلي معه ، وأومأ بمخصرته الى
الأصنام فتهاوت ، وإلى الأوثان فتحطمت ، وبقي صنم لخزاعة من قوارير ، فقال لعلي
أرم بها ، ورفعه إليه حتى صعد سطح الكعبة ، فرمى به من عليها ، فتكسر قطعا وتطاير
شظايا ، وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.
(٨)
أنباءٌ تكدّر صفو الفتح ... وعليٌّ يذود
الكتائب
وبينا النبي 6 ينعم بأنباء الفتح ، ويتهلل وجهه فرحاً
لمسارعة النفوس إلى الإسلام ، ويمتلىء قلبه رحمةً واشفاقاً ، وكيانه خشوعاً
وتسبيحاً ، وتنطلق شفتاه حمداً واستغفاراً ، إذ يصله نبئان يكدّران عليه صفو الفتح
، ويعكرّان مناخ النصر. النبأ الأول من بني جذيمة ، والنبأ الثاني من هوازن وثقيف.
فيرى نفسه وقيادته من الذين معه ، لا يريح من جانب ، إلا ليفجأ بعناء من جانب آخر
، فقد كتبت عليه ملحمة لا بد أن تتم فصولها ، وتتلاحق متاعبها وأدوارها ، فهو بين
كدح ونضال ، وجدّ وتضحية ، يتبع أولها آخرها ، ويستظل بمبتداها منتهاها ، وما عليه
إلا أن يتصرف تصرف الحكيم بأناة ، ويستبسل استبسال المستميت بإصرار ، حتى يرّد على
الأعقاب تلك النكسات ، ويواجه بالصبر وحسن التأني تلك الأحداث.
أما نبأ بني جذيمة ، فقد كان من أمرهم ،
أن أرسل النبي 6
خالد بن الوليد في سرية من المسلمين تتجاوز ثلاثمائة مقاتل من المهاجرين والأنصار
وفيهم عبد الرحمن بن عوف إلى بني جذيمة بن عامر من كنانة يدعوهم إلى الإسلام؛ ولم
يبعثه مقاتلاً؛ فلما انتهى إلى ماء لبني حذيمة نزل به ، وكان بنو جذيمة قد أصابوا
في الجاهلية نسوةً من بني المغيرة ، وقتلوا أبا عبد الرحمن بن عوف والفاکه بن
المغيرة ،
وكان مع عوف ابنه
عبد الرحمن فقتل قاتل أبيه ، وبقي دم الفاكه بن المغيرة عم خالد بن الوليد هدراً ،
وفي خالد بقية من جاهلية ، وعصبية من حميّة ، وشجاعة في غلظة ، لم يقيّده الإسلام
من الفتك ، ولا هذبّته القيادة من الغدر ، والقوم في أسلحتهم؛ فقال : ضعوا السلاح
، فقال أحد زعمائهم : إنه خالد ، والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار ، وما بعد
الأسار إلا ضرب الأعناق ، وجادلوا في وضع السلاح أو حمله ، واستجابوا أخيراً
فوضعوا السلاح ، فأمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتلوا ، وانتهى خبرهم
إلى النبي ، فرفع يديه وقال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ».
ثم دعا علياً 7 وقال له : يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم
فانظر في أمرهم ، وأجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. وخرج عليٌ ومعه الأموال الوفيرة
لرأب الصدع ، ومساواة الأمر ، ووصل الإمام فأنكر على خالد همجيته ، ودفع دية
القتلى ، وودى الدماء ، وعوّض ما أصيب من الأموال ، حتى أرضاهم ، وقال لهم : هل
بقي لكم دم أو مال لم يؤد إليكم ، قالوا : لا ، قال : فإني أعطيكم هذه البقية من
هذا المال احتياطاً لرسول الله 6
ورجع إلى النبي فأخبره بصنيعه ، فقال النبي أصبت وأحسنت ، ثم قام النبي 6 فاستقبل القبلة ، شاهراً يديه ، وهو
يقول :
« اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن
الوليد » وكرر ذلك ثلاث مرات.
وانتهت المأساة الغادرة ، بما طيّب به
عليٌّ نفوس القوم ، وبما جبر به الخواطر.
وأما نبأ هوازن وثقيف؛ فكانوا عتاة مردة
لا يزدادون إلا طيشاً ، وطغاة جفاة لا يرجون لله وقاراً ، فلما تناهى إلى أسماعهم
نبأ فتح مكة ،
هالهم هذا النصر
المبين ، واجتمعوا إلى رئيسهم مالك بن عوف ، وكان شاباً نزقاً جباراً ، فاستقر
رأيه على الحرب ، فأعلن الحرب على رسول الله 6
ابتداءً ، ونزل ( حنين ) في ثلاثين ألفاً ، وبلغ خبرهم النبي 6 فتهيأ في عدة حسنة ولكنها لا تصل إلى
عداد القوم ، فقد خرج باثني عشر ألفاً ، وأعطى لواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب ،
ووزع الرايات بين الأنصار ، وانجدر إلى وادي حنين؛ وكانت هوازن قد كمنت لهم في
شعاب الوادي ومنعطفاته ، وأمسكت بمنعرجاته ، وباغتوهم بياتاً من كل صوب وحدب ،
وأحدقوا بالمسلمين إحداقاً، وما راع المسلمين إلا القوم يأخذونهم على حين غرّة
فيشدون عليهم شدّة رجل واحد ، ويمعنون بالقتل والطعن والمجالدة إمعاناً ، وبلغ
الذعر مبلغه بالمسلمين فتنادوا بالويل والثبور ، وانهزموا هزيمة منكرة ، ولم يثبت
معه إلا أربعة أو ستة أو عشرة ، وفي طليعتهم - بإجماع المؤرخين - عليٌ 7 ، وانهزم الباقون ، والنبي ينادي :
أيها الناس أنا رسول الله محمد بن عبد
الله ، والمسلمون لا يلوون على شيء. وكان أبو بكر (رض) متفائلاً فقال : لا نغلب اليوم
عن قلة ، وكان معجباً بكثرة جيش المسلمين فنزلت الآية : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (٢٥)
ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
) .
قال الشيخ المفيد : والآية تعني
بالمؤمنين علياً ومن ثبت معه من بني هشام.
وصاح العباس بالمنهزمين بأمر من النبي 6 وكان العباس
__________________
جهوري الصوت : يا
أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، إلى أين تفروّن؟ اذكروا العهد الذي
عاهدتم عليه رسول الله. والقوم يغروّن على وجوههم ، والمشركون في شعاب الوادي
يصلونهم حمماً لاهبة ، فقال أبو سفيان - وهو قد أسلم فيما يزعم - لا تنتهي هزيمتهم
دون البحر؛ أي المسلمين.
ونظر الني 6
إلى الناس ببعض وجهه ثم نادى : أينما عاهدتم الله عليه؟ فأسمع أولهم آخرهم ،
فتراجعوا إليه في لفتة من مخائل إعجازه ، بعد أن انتشروا في الصحراء ، والتفوا
حوله في مائة رجل ، ودارت معركة كبرى ابتدأت بإقبال فارس هوازن ( أبو جرول ) وهو
على جمل أحمر ، وبيده راية سوداء ، وهوازن وثقيف تتبعه ، وهو يرتجز :
أنا أبو جرول لا براح
|
|
حتى نبيح القوم أو نباح
|
فصمد له علي 7 فقتله وهو يرتجز :
قد علم القوم لدى الصباح
|
|
أني في الهيجاء ذو نطاح
|
وكان في قتله النصر ، فقد انهزم
المشركون شر هزيمة ، وانتعش المسلمون فهجموا هجمة رجل واحد ، بقيادة النبي 6 وهو يباشر القتال بنفسه إلى جنب أركان
حربه ، وهو يقول :
أنا النبيّ لا كذب
|
|
أنا ابن عبد المطلّب
|
والتحمت المعركة التحاماً مروّعاً ،
ندرت فيها الرؤوس ، وهوت الفوارس ، وطاحت الأيدي ، فقال النبي : الآن حمي الوطيس ،
وهي من كلماته القصار الجامعة لفنون المجاز والإيجاز ، وعليٌّ بين يديه يذود
الكتائب ، ويزلزل الفرسان حتى قتل أربعين فارساً من القوم ، فشلت حركتهم ، وأخذ
النبي 6 حفنة من
التراب أعطاها إياه علي بن أبي
طالب ، وقذف بها
وجوه المشركين قائلاً : شاهت الوجوه ، فكانت الهزيمة الكبرى ، وولى المشركون الدبر
، وجيء بالاسراى مكتفين بين يديه ، وسيقت إليه الغنائم ، وأفواج هوازن في هرب
وفرار ، فما طلع الصباح على المسلمين حتى تم لهم النصر المبين ، وانتهت الهزيمة
بالأعداء إلى البحر.
(٩)
عليٌّ رفيق النبي في حربه وسلمه
بلى تخلف عليٌّ 7 مرة واحدة عن غزوات النبي 6 ، ولكنه لم يتخلف بالمعنى الدقيق ،
وإنما استخلف ، وذلك في غزوة تبوك.
فقد بلغ النبي 6 أن الروم قد جمعت له ، فأوحى الله
تعالى إليه أن يسير إليهم ويستنفر لذلك الناس ، وأعلمه أنه لا حرب ولا قتال في هذه
الغزوة ، وإنما ينتدب الناس للاختبار والإمتحان ، وكان القيظ شديداً ، والثمار قد
أينعت ، فنهعض من نهض معه ، وتخلف عنه الكثيرون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول ،
ولكن رسول الله 6
سار بثلاثين ألفاً في أهبة وإعداد ، على أن عسكر ابن أبي ابن سلول في ثنية الوداع
لم يكن بأقل العسكرين كما يقول ابن سعد في الطبقات وابن هشام في المغازي.
واستخلف النبي 6 علياً 7
على المدينة ، إذ لا حاجة ملّحة إليه بعد إنبائه بأنه لا يمنى بقتال ، وكان هذا
الاستخلاف له ما يبرره سياسياً وقيادياً ، فقد كانت المدينة يرجف بها المنافقون ،
ويغدو عليها سراً هؤلاء اليهود ، وكان بنو غنم بن عوف قد بنوا مسجد ضرار ، وطلبوا
من النبي 6 أن يصلي فيه
، وكانوا يظهرون الإيمان ويسرّون النفاق ، فقد بني هذا المسجد في قبال مسجد قبا ،
وقد بني أيضاً إرصاداً
لأبي عامر الفاسق
الذي أمرهم ببنائه لأنه ذاهب إلى قيصر ليأتي بجنود يخرج بها محمداً 6 من المدينة ، وكان هؤلاء المنافقون
يتوقعون وعده ، فمات قبل أن يبلغ ملك الروم ، وانصرف النبي من تبوك ، فنزل قوله
تعالى :
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ
مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ
حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى
وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧)
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ
أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ )
.
فبعث رسول الله 6 من أحرق هذا المسجد وهدمه.
وهذا السيل الجارف من النفاق كما تراه
يسلك سبلاً شتى بازاء تحقيق مآربه الضالّة ، ولا بدّ للنبيّ من الحذر منه؛ فاستخلف
علياً 7 ليحمي
المدينة من هؤلاء ، وليمنعها من غارات الأعراب ، وليقيم سنن الدين الحنيف من
ينابيعه كما يريد الرسول ، وليؤكد صلاحية الإمام علي للقيادة والمرجعية.
ومع هذا الحذر وهذه اليقظة ، وصدق
الدوافع في استخلاف عليّ على المدينة ، فقد دبّت حسيكة النفاق ، وأشاع المنافقون
ما أرادوا ، وقالوا : ما خلّفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه ، ومتى كان علي ثقيل
الظل على رسول الله؟ ويقال : أن علياً 7
أخذ سلاحه وتبع الرسول وهو معسكر في الجرف ، فقال : يا نبي الله زعم المنافقون أنك
إنما خلفتني لأنك استثقلتني ، وتخففت مني ، فقال 6
كذبوا ، ولكن خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلفني في أهلي وأهلك ، « أفلا ترضى
يا علي
__________________
أن تكون مني بمنزلة
هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».
فرجع عليٌّ إلى المدينة ظافراً بهذا
الوسام ، فعظم في عين من أعظمه ، وأبتلي بالحقد والحسد مرة أخرى على هذه المنزلة ،
فكان حارساً أميناً فيما استودع ، وساهراً يقظاً على ما استخلف بالمعنى العلمي
الدقيق للإستخلاف ، فيما عبر عنه النبي بالحرف الواحد : « فأنت خليفتي في أهل بيتي
، ودار هجرتي وقومي ».
ولما انتهى النبي إلى تبوك توافد عليه
رؤساء الروم وزعماؤهم وحكامهم ، فأعطوه الجزية عن يدوهم صاغرون ، فحقن دماءهم
وأموالهم وكرّ راجعاً إلى المدينة بعد إقامة عشرين ليلة في تبوك.
ولا تسل عما جرى له في طريق العودة ،
حينما مكر به المنافقون وبرفقته حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر ، فقد مكروا
وأرادوا طرحه من العقبة ، وطلب إليه بعض المسلمين ضرب أعناقهم ، وقد علمهم جميعاً
، وقال : أكره أن تتحدث الناس أن محمداً قد وضع يده في أصحابه ، وسماهم لعمّار
وحذيفة وقال اكتماهم. وكانوا أربعة وعشرين رجلاً ، وعرفهم حذيفة بأعيانهم فكان
أعرف الناس برؤوس المنافقين ، وكذلك كان عمّار ، واتصل النبأ بعلي 7 فعرف ذلك ، واستوى بين يدي النبي ، وقد
حمل الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأحسن الإستخلاف.
* * *
ولم يكن عليٌّ 7 رفيق محمد 6 في حربه وسلمه ، وأخاه في الشدة
والرخاء فحسب ، بل كان قائد جملة من سراياه التي أمر بها ، وأعطاه نيابته فيها ،
فيرجع بالظفر ، وفي طليعتها سرية « ذات السلسلة » فقد أعطى النبي الراية علياً 7 بعد أن رجع بها اثنان من أصحابه لا
يلويان على شيء.
كان قوم من العرب قد قرروا أن يبيتوا
النبي بالمدينة غدراً ، فسار عليٌّ 7
متعصباً معلماً حتى وافاهم بسحر ، فأقام حتى أصبح وصلى بأصاحبه الغداة ، وصفّهم
واتكىء على سيفه ، وقال للعدو :
يا هؤلاء أنا رسولُ رسولِ الله إليكم أن
تقولوا : لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وإلا لأضربنكم بالسيف ،
قالوا ارجع كما رجع صاحباك ، قال : أنا لا أرجع ، لا والله حتى تسلموا أو أصربكم
بسيفي هذا ، أنا علي بن أبي طالب.
فاضطرب القوم وزلزلوا زلزالاً شديداًً
لما سمعوا باسمه وعرفوه ، ولو راجعوا أنفسهم وحكمّوا عقولهم لاختاروا السلم والدعة
والأمن ، ولكن الطيش والغرور والكبرياء قد دفعت بهم لاختيار القتال ، فبرز إليهم
علي 7 فقتل منهم
في حملة واحدة ستة أو سبعة ، وانهزم المشركون وظفر المسلمون ، وغنموا ما شاء لهم
أن يغنموا ، وكانت هزيمة المشريكن منكرة ، وأصداؤها تنتشر بين قبائل العرب ،
فازدادت هيبة الإسلام في النفوس ، وأخبر جبرائيل النبي 6 بالفتح ، ونزلت حينئذٍ سورة العاديات.
وباستعراض آيات سورة العاديات تتبين عظم
المعركة ، وشدة الوقعة ، وصدق اللقاء ، ومدى القوة المحاربة.
وحينما أخبر حبرائيل النبي 6 ببشائر هذا الفتح ، بشر النبي 6 أصحابه بذلك ، وأمرهم باستقبال علي 7 وكان النبي في طليعة المستقبلين ،
وحينما رأى رسول الله في موكبه ، ترجل وأهوى على قدميه يقبلهما ، تواضعاً لله على
هذا التكريم الكريم ، وقال له رسول الله 6
:
اركب فإن الله ورسوله عنك راضيان ، فبكى
عليٌّ 7 فرحاً بهذه
البشارة.
وسرية أخرى بقيادته إلى بني سعد بن بكر
بفدك بمائة فارس ، فجعل يسير الليل ويكمن النهار حتى فجأهم ، فجدّوا بالهرب ،
وأمعنوا بالفرار ، فاستولى علي 7
على النعم والأغنام ، وأخرج خمسها ، وقسم الباقي على أصحابه.
وسرية أخرى إلى بلاد طيىء في مائة
وخمسين من الأنصار للتطويح بصنم لهم يعبد من دون الله ، فأغار عليهم ، وهدم الصنم
وأحرقه ، وغنم سبياً ونعماً وشاءً وفضة ، واستخرج ما في خزانة الصنم من أسياف
ودروع ونفائس فغنمها.
وهناك سريتان بقيادته إلى اليمن؛ الأولى
بعد فتح مكة ، فأسلمت بها همدان كلها في يوم واحد ، فكتب علي 7 إلى النبي 6 بذلك فخر ساجداً لله ثم جلس ، فقال
السلام على همدان. وقيل بعث النبي علياً وبعث خالداً في جند ، وقال : إن التقيتما
فالأمير علي ، فوصل خالد فأقام ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا إلى ذلك ،
فأمر النبي 6 خالداً
بالقفول ، وبعث علياً. قال البرّاء : فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ، وصلى بنا
عليٌّ ثم صفّنا صفاً واحداً ، ثم تقدم بين أيدينا ، وقرأ عليهم كتاب رسول الله؛
فأسلمت همدان.
ويرى الشيخ المفيد أن إرسال النبي لعلي
إلى اليمن كان ليخمس ركازها ، ويقبض ما وافق عليه أهل نجران من الحلل والعين وغير
ذلك ، لا لأجل الحرب لأن أهل اليمن أسلموا قبل ذلك.
والسرية الثانية كانت في رمضان سنة عشر
من الهجرة ، عقد له النبي 6
لواءً وعممه بيده ، وقال : امض ولا تلتفت ، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى
يقاتلوك. وخرج عليٌّ 7
في ثلاثمائة فارس ، فلقي أهل اليمن ودعاهم إلى الإسلام ، فأبوا ورموا بالحجارة
والنبل ، فصف أصحابه ثم حمل عليهم فقتل منهم عشرين رجلاً ، فتفرقوا وانهزموا فكفّ
عن طلبهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وبايعوا ، وسلّموا صدقاتهم إليه ، فقفل
راجعاً فوافى النبي 6
بمكة في طريقه إلى حجة الوداع.
وقد يبدو من جملة الآثار أن علياً 7 أرسله النبي 6 قاضياً إلى اليمن ، ووضع النبي 6 يده على صدره ، وقال : اللهم ثبّت
لسانه وأهد قلبه ... قال عليٌّ : والله ما شككت في قضاء بين اثنين ، وكيف لا
والنبي 6 يقول :
عليٌّ أقضاكم.
وكما كان علي 7 مقدامه في حروبه ، وخليفته في مدينته ،
فقد كان نائبه في الأداء عنه؛ ففي السنة التاسعة من الهجرة بعث النبي 6 أبا بكر الصديق ( رض ) في سورة براءة
إلى أهل مكة ، فهبط عليه حبرائيل وقال : أنه لا يؤديها عنك إلا أنت أو رجل منك ،
فانفذ علياً 7 حتى لحق أبا
بكر فأخذها منه ، فوجد أبو بكر في نفسه ، ولكنه أطاع الأمر ، وأخبره النبي فيما
بعد : لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.
ومضى عليٌّ 7 في الأمر حتى أتى الموسم ، فنادى : إن
الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، لا يحجن بعد العام
مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يجتمع مؤمن وكافر
في المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، ومن كان
بينه وبين النبي 6 عهد فعهده إلى مدته ، ومن لم يكن له
عهد فأجله إلى أربعة أشهر.
ولك أن تتصور حالة العتاة من العرب ،
والطغاة من قريش ، وهم يستمعون هذا النداء الصارم ، ويشهدون هذا اليوم الفاصل ،
وهم يرون البيت بيتهم والحرم حرمهم ، وإذا بهم يطردون عنه وإلى الأبد.
ولئن كان علي 7 في هذا الموقف نائباً لرسول الله 6 ، فقد كان عليٌ نفس رسول الله في حادثة
مباهلة نصارى نجران بإجماع المؤرخين ، فقد طلبوا إلى النبي المباهلة ، أو طلب
إليهم النبي المباهلة؛ فكان النداء الإلهي في القرآن العظيم مجلجلاً : ( فَمَنْ حَآجَّكَ
فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا
وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .
فخرج النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين : ، فما باهلهم نصارى نجران لما علموا من
الحق وإن كتموه. وقال النبي 6
في هذا :
« والله لو باهلونا لأضطرم عليهم الوادي
ناراً ».
__________________
(١٠)
عليٌّ في حجة الوداع وبيعة الغدير
لقد رأينا علياً فيما مضى ، صبياً يدخل
الإسلام ثاني اثنين ، وقد رأيناه يتربى في منزل الوحي وينشأ في ظلال الإيمان ، ورأيناه
يشهد عذاب طائفة من المستضعفين فيتلظى لهم حرقاً ، ورأيناه مصاحباً للنبي في جولته
للطائف يعرض الإسلام على القبائل فيردّ ، ورأيناه فدائياً يسرع إلى فراش رسول الله
6 ملتحفاً
ببرده الحضرمي ، يقيه بنفسه من طواغيت قريش ، ورأيناه أخاً لرسول الله في مكة
والمدينة ، ورأيناه قائداً عسكرياً فذاً في مشاهد النبي كلها ، ورأيناه خليفة
لرسول الله على المدينة في غزوة تبوك، ورأيناه نائباً عنه في تبليغ براءة لأهل مكة
وإعلان شرائع الإسلام ، ورأيناه مصلحاً وقاضياً من قبله في اليمن ، ورأيناه صهراً
للنبي وأباً لذريته الطاهرة ، ورأيناه نفسه في المباهلة ، ووزيره بمنزلة هارون من
موسى ، رأينا هذا وسواه ، بل ذكرنا هذا وفاتنا سواه ، وهو يحب الله ورسوله ، ويحبه
الله ورسوله ، و « عليٌّ أقضاكم » و « أنا مدينة العلم وعلي بابها » و « علي مع
الحق والحق مع علي » و « اللهم أدر الحق معه حيثما دار » سمعنا كل هذا غيضاً من
فيض إطراء النبي له وثنائه عليه ، ونموذجاً من نماذج إعداده إعداداً رسالياً خاصاً
، وشاهدنا إلى جنب ذلك كلّه ملازمته للنبي ملازمة الظل للشاخص ، واختصاصه به على
انفراد في أغلب لياليه وأيامه ، وتفرده بمناجاته وحده في شتى الظروف ، واتحاد
المنزل ما بين الديار ، ولمسنا صلة الرحم الشديدة بين
الرجلين ، وأواصر
القرب ما بينهما ، لا يكاد يفترق أجدهما عن الآخر ، ولا يملّ أحدهما حديث الآخر ،
حتى كان علي منه وهو من علي ... لم يكن كل هذا امراً اعتباطياً ، ولا مناخاً
اعتيادياً ، وإنما للأمر ما بعده عند النبي. حتى إذا كانت حجة الوداع ، وإذا
بالوحي يفجأ النبي : ( * يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )
.
ما هذا البلاغ الخطير الذي يراد من
النبي ، وما هذا الاشفاق من النبي فيه ، أهو يخشى الناس ويحذر عدم الامتثال فيذهب
أمره أدراج الرياح؟ أهو من الشدة بحيث يزلزل هذه الرصانة التي تبثها محمد في قومه
وأصحابه؟ أهو من الحساسية بحيث يخترق هذا الغشاء الرقيق بينه وبين جملة من ذوي
الأحلام والخطر.
لقد رأينا النبي في الأحكام صغيرها
وكبيرها يبلغها أولاً بأول لا يخشى في ذلك لومة لائم ، وينزلها بمنزلها المحدد لا
يحيد عن ذلك قيد أنملة ، فما هذا التبليغ الجديد - أنه القيادة في نيابته لدى
التحاقه بالرفيق الأعلى ، والإستقرار بمقامه في إدارة شؤون الدين والدنيا.
كان النبي 6
يلمحّ تارة ، ويصرّح أخرى بإمامة علي 7
يؤمّره على الناس في القيادة ، ولا يؤمّر عليه أحداً ، ينوّه بفضله ويعلي من شأنه
، يخصّه بالمنح العليا ، علماً وتفقهاً ومنزلةً ، ويشاركه بالمهمات الصبعة فيجده
أهلاً لحملها ، وهو الذي يأخذ بقسط كبير من وقته الثمين في إفاضات يعلم قليلها ،
ويجهل كثيرها ، يعلمن عن بعضها ، ويكتم بعضها الآخر ، ولكن النبي قد يبدو مشفقاً
كل الاشفاق عن أن يقول القول الفصل ، والوحي يلجئه إلى الإعلان ، ويضمن له السلامة
__________________
مما يخشاه ،
والتصريح منه إثر التصريح بأفضلية علي وأهليته من قبل النبي 6 يلاقي التاويل والتعليل من قبل علية
القوم ، ويقابل بالإيهام والإبهام من جملة المهاجرين ، يلتمسون بذلك حداثة السن
حيناً ، وحب بني عبد المطلب حيناً آخر ، لتضييعه عن موضعه ، وتمييعه عند مؤداه.
وكان النبي في سنة حجة الوداع ، يؤكد
السنن ، ويثبت الفروض ، ويحيي الأحكام ، وكان يلوّح بل يصرّح في نعني نفسه : يوشك
أن ادعى فأجيب ، أو يقول : قد حان مني خفوق ، وتارة : لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا
، وأخرى : إن حبرائيل كان يعرض عليّ القرآن في كل عام مرة ، وفي هذا العام عرضه
عليّ مرتين ، وهكذا.
ونزلت سورة النصر؛ فسماها المسلمون سورة
التوديع ، لأن المسلمين ودّعوا نبيهم ، لما فيها من إيحاء بتكامل رسالته ، وإنذار
بانتهاء مدته ، لما أمره فيها الله من التسبيح والاستغفار ، وكان بين هذا كثير
الخلوة بعلي ، طويل المناجاة معه ، شديد الاحتراس عليه ، يطلق الكلمة إثر الكلمة
في ترشيحه ، فتارة هو الوزير ، وأخرى هو الوصي ، وسواهما : خليفتي من بعدي ،
والناس يرصدون ذلك بمسمع وبمشهد ، فيسيغه الأنصار دون المهاجرين ، ويتقبله
المستضعفون دون الزعماء ، أو فقل يتقبله أكثر الأنصار ، ـ ويرفضه أكثر المهاجرين ،
وقد يشتد النزاع في ذلك ، وقد يتحوّل إلى صراع مرير ، وقد يلجأ هؤلاء وهؤلاء إلى
النبي 6 ليفسر لهم
ما قال ، فيقتنع من يقتنع عن رضا ، ويأبى من يأبى عن سخط ، والأمور بقربة من النبي
، وهو يرى بوادر الفرقة تتطلع ، وسحب الفتنة تكاد تنقض ، ووجد بعض القلوب تستوحش
لهذا الحديث ، وبعض المشايخ تأتمر للعصبيات ، والناس في خطوة من الجاهلية ،
والإسلام وتر النفوس ، وهو لا يحاسب بأكثر من الظاهر ،
ولكنه يذكر بالله
واليوم الآخر ، عسى أن يهدي الله به أحداً ، ويجدد العهد عسى أن يصغي له أحد ،
جاداً لا يتردد ، ولكنه مضطرب لا يهدأ أيضاً.
وتنتهي حجة الوداع ، ويتجه النبي نحو
المدينة حتى يصل إلى « غدير خم » في قيظ لافح ، وحرارة محرقة ، وهجير ملتهب ،
فيتوقف الركب النبوي في المنطقة التي سيفترق فيها الحاج ، ويتجه كلٌّ إلى قصده ،
وينحو كلٌّ منحاه ، والموكب بعد في آلافه المؤلفة من المهاجرين والأنصار ومسلمة
الفتح ، وبقية المسلمين من هنا وهناك ، ولا نريد ذكر الآلاف منهم فيما اختلف فيه
المؤرخون زيادة ونقصاناً فهذا لا يعنينا ، بقدر ما يعنينا الموقف والحدث ،
والمسلمون ألوف لا شك في هذا وينصب للنبي 6
منبر من أحداج الإبل عند الظهيرة ، ويمتطي النبي صهوة المنبر ، وهو يقول :
« إني دعيت ويوشك أن أجيب ، وقد حان مني
خفوق من بين أظهركم ، وإني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً :
كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ».
ثم نادى بأعلى صوته : ألست أولى بكم
منكم بأنفسكم؟ قالوا اللهم بلى. فقال لهم على النسق ، وقد أخذ بضبعي علي 7 فرفعهما حتى بان بياض أبطيهما : « فمن
كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم والي من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره
، واخذل من خذله ».
ثم نزل وصلى الظهر والعصر وأفرد لعلي خيمة
، وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ، فيهنؤه بالمقام ، ويسلموا عليه
بإمرة
المؤمنين ، ففعل
الناس ذلك كلهم حتى من كان معه من أزواجه ونساء المسلمين.
وكان موقف عمر بن الخطاب ( رض ) مشرّفاً
في ذلك اليوم إذ طفح السرور على وجهه ، وقال : بخٍ بخٍ لك يا علي أصبحت مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ولكنه تناسى هذا الموقف فيما بعد ، وتغافل عن هذه التهنئة
الحارّة ، وعن مغزاها في كلٍ من السقيفة وتعيين أهل الشورى.
وحينما صدع النبي 6 بهذا الأمر في استخلاف علي 7 نزلت الآية : ( الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِينًا ) .
وما قدمناه من إيجاز مكثّف محل إجماع
بين المسلمين كافة ، ورواته الثقات بالمئات ، وشهوده من المسلمين بالألوف ، وجاءت
بعد ذلك التأويلات الفجّة لتجعل لهذا الحدث والحديث دلالات لغوية جديدة ، ولهذا
النص التصريح إرادات بيانية مموهة ، فالمولى : يراد به المالك ، ويراد به الناصر ،
ويراد به المعتق بالكسر والفتج ، ويراد به ابن العم ، ويراد به ضامن الجريرة ،
ويراد به السيد المطاع ، كما يراد به الأولى. إلى غير ذلك مما يراد به ابتلاع
الحديث والحدث جملة وتفصيلاً ، وتناسى من ساق هذه التعليلات والتفريعات المضنية أن
التبادر العرفي العام عند العرب علامة الحقيقة ، وأن مقتضيات المقام النبوي في
نزوله في هذه الهاجرة على غير منزل ، لا يراد به إلا الأولى الذي تجب له الولاية
العامة على المؤمنين ، والمرجعية الكبرى للأمة في قضايا الدنيا والدين ، ولكن
قريشاً أبت هذا ، وتناست هذا الموقف ،
__________________
وكأنه لم يكن ،
وفتحت على الإسلام باباً لم يغلق من الفتنة والفرقة إلى قيام الساعة ، وصبر عليٌّ 7 على هذا الحيف ، لأنه ذو هدف محدد وهو
بقاء الإسلام.
وهو القائل : والله لأسالمن ما سلمت
أمور المسلمين ، ولم يكن جورٌ إلا عليّ خاصة.
(١١)
النبيّ يمهّد للإمام : ويلتحق بالرفيق الأعلى
تتابعت على النبي 6 بعد عودته من حجة الوداع موجاتٌ من
الألم والصداع ، يصحب ذلك شيء من الحمى ، فيستولي عليه الضعف والانهيار الجسدي ،
وكان لبقايا السمّ المبيت له أثر من ذلك أيمّا أثر؛ وفجأة يجد نفسه قد ثقل بالمرض
، وانتابته العلل خفيفها وثقيلها حتى أيقن بالنهاية ودنو الأجل ، وكان الوحي به
رفيقاً يخيّره عن الله بين البقاء في الحياة أو الالتحاق بالرفيق الأعلى ، فيختار
الثانية زهداً بالحياة الفانية وقد استجيب له في ذلك
( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم
مَّيِّتُونَ )
فقام في أمته يذكرهم الوحدة ، ويحذرهم
الفتنة والخلاف ، ويدعوهم إلى التمسك بالكتاب والعترة ، وهو فيما بين ذلك يؤكد لهم
منزلة علي العليا ، ولم ينس أن يمهد له الأمور فيما يبدو من مجريات الأحداث ، فعقد
لأسامة بن زيد بن زيد بن حارثة الأمرة على المسلمين ، وندبه للخروج نحو تخوم
البلقاء من أرض فلسطين ، حيث استشهد أبوه في مؤتة ، وقال له : « أغزو باسم الله في
سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله ». فتهيأ لذلك أسامة وعسكر بالجرف ، وأمر النبي 6 زعماء المهاجرين والأنصار بالالتحاق به
، وفيهم الشيخان وأبو عبيدة وسعد بن عبادة
__________________
وجمهرة أهل الحل
والعقد ، فكبر ذلك على جملة من المسلمين ، وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين
الاولين؟ فغضب رسول الله 6
وعصب رأسه ورقى المنبر وقال : « ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن
طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ........ » ثم قال :
أنفذوا بعث أسامة.
وتردد نفر كبير في ذالك فقال 6 : أيها الناس أنفذوا بعث أسامة ..ثلاث
مرات. ولكن أنباء مرض رسول الله 6
أوقفت علية القوم عن الحركة ، وأقعدتهم عن النهوض مع أسامة ، فلم يرد هذا أمر ذاك
مساءلة الركبان عنه فيما يزعم.
وتردد كبار المهاجرين في إنفاذ البعث
بما فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، فتملك النبيّ 6
الأسف والأسى ، ولزم الفراش لما به. ثم تحامل على نفسه وخرج الى المسجد معتمدا على
علي 7 بيمنى يديه
وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى ، وصعد المنبر فذكرّ وحذرّ ، وبشرّ وأنذّر ، ثم
نزل وصلى بالناس صلاة خفيفة ، وعاد الى منزله وقدماه تخطاّن الأرض.
وأستمر به المرض حتى ثقل ، والناس بين ذاهل
ومتفجع ، وبين غافل عما يراد به ، وبين جادّ في تخطيط لأمر ما ، وبين مشغول بتمريض
النبي 6 ومتابعة
مرضه وعلى رأس هؤلاء علي والعباس وأهل البيت بالاجماع.
وعند الفجر في تلك الأيام العسيرة يأتي
بلال مؤذن النبي 6
عند صلاة الصبح ، فينادي : الصلاة الصلاة ، فيؤذن بها النبي 6 فيروى أنه قال : مروا من يصلي بالناس
فإني مشغول بنفسي ، فقالت عائشة مروا أبا بكر ، وقالت حفصة : مروا عمر. فقال رسول
الله 6 :
أكففن فإنكن صويحبات
يوسف. ثم خرج الى المسجد ، ووجد أبا بكر قد سبقه الى المحراب ، فأومأ إليه أن تأخر
فتأخر ، وقام النبي مقامه وصلى بالناس وقيل : بل أمر أبا بكر بالصلاة ، وقيل : بل
أمرت عائشة بصلاة أبي بكر ، ولكن النبي خرج متوكأ على علي والفضل وصلى بالناس دون
شك بالإجماع ، فلو أمر معنيا لأجاز صلاته ، ولما خرج في أثره وتقدم عليه ، وصلى
بالناس.
ثم عاد رسول الله 6 الى منزله في غاية الجهد والنصب.
وقد يبدو أن عليا 7 أراد أن يتم ما أراده رسول الله ،
فأبدى في تلك اللحظات الحاسمة من مرض رسول الله وهو ممرضه ، أنه معافى أو في طريقه
الى ذلك ، فهذا أبو بكر يغادر الى السنح في أطراف المدينة ، وهذا عمر يتولى شؤونا
سرية في غاية الدقة ، وهذا أسامة يتلكأ في تنفيذ البعث ، وهذا أبو عبيدة يراقب
الحال أولا بأول ، وأولاء بنو أمية يلتفون حول عثمان ، وأولئك الأنصار في سقيفة
بني ساعدة قد قدّموا سعد بن عبادة ؛ وبمثل هذا خرج علي 7 من عند الرسول ، فتباشر الناس بسؤاله :
يا أبا الحسن : كيف خلفتّ رسول الله؟
فأجابهم : أصبح بحمد الله بارئا.
ولكن النبي يستدعي عليا فيخلع خاتمه
وحمل سيفه فيقدمهما الى علي 7
في بادرة ذات معنيين : دنو أجله ووصايته الى علي من بعده ويستدعي النبي 6 الشيخين أبا بكر وعمر وجماعة من
المسلمين ، ويقول : الم آمركم أن تنفذوا جيش أسامة؟ قال أبو بكر : إني خرجت ثم
رجعت لأجدد بك عهدا.
وقال عمر : إني لم أخرج لأني لم أخرج
لأني لم أحب أن أسأل عنك الركب.
وهنا أغمي على النبي 6 وارتفع البكاء من منزله ثم أفاق 6 وفي نفسه لواعج من الأسى لا تنفك ، وفي
ذهنه ما يخبىء المستقبل لهذه الأمة ، فأراد أن يستوثق من الأمر ، وأن يبلغ ما يجب
عليه في تلك اللحظات القصيرة العاتية ، فنظر الى من حوله ثم قال : إئتوني بدواة
وكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا. ثم إغمي عليه ثانية ، وقام من يلتمس ذلك
فنهره عمر وأهانه ، وقال فيما يروي المتشدّدون : إن النبي ليهجر ، وقال فيما يروب
المتخفّفون : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
أيّ الروايتين كان ؛ فذاك شأن عمر في
اندغاعه ، فكثر اللغط واللغو عند النبي 6
وتلاوم المسلمون فيما بينهم في إحضار الدواة والكتف أو عدمه ، وقالوا إنا لله وإنا
إليه راجعون ، لقد اشفقنا من خلاف رسول الله. فلما أفاق قال بعضهم ألا نأتيك بدواة
وكتف يا رسول الله ، فقال أبعد الذي قلتم؟ لا. ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا. وأعرض
بوجهه عن القوم فنهضوا.
قال ابن عباس : إن الرزيّة كل الرزية ما
حال بين رسول الله 6
وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب.
ويبدو من النص السابق أن رسول الله عرف
بوادر الفتنة عند القوم فأراد حسم النزاع ، فلم يتأت له ذلك ، ولو صنعه بعد أن قيل
ما قيل ، لما التزموا به ، فأعرض عنه وقال : ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا ، فأوحى
لأهل البيت بأنهم قد أبعدوا عن الأمر ، واكتفى بما قال عن أن يكتب كتابا يضيع ما
به هدرا ، ولو كتب لأوصى لمن يقوم مقامه ، ولكن
القوم شاؤوا غير ذلك
، وهذا أمر يطول الوقوف عنده ، ويكثر الجدل حوله ، ولكني أشرت إليه ملخصا من كتب
غير الإمامية.
ومن البديهي أن ينهض القوم عن النبي وقد
أغضبوه وأغاضوه ، ويبقى علي 7
والعباس وأهل بيته خاصة ، ويستوحش العباس لما رأى وما سمع ، فأحب أن يتأكد مستوضحا
: فقال للنبي 6
: يا رسول الله إن يكن هذا الأمر مستّقرا فينا من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنا
نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي وأصمت. فيئس أهل البيت من
النبي ، وخرج بنو هاشم ، فأفاق النبي ، وقال : ابعثوا الى علي فادعوه ، فقالت
عائشة : لو بعثت الى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت الى عمر فاجتمعوا عنده جميعا
، فقال رسول الله 6
: انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم.
وقيل : كان علي لا يفارقه في شدّته هذه
إلا لضرورة قصوى ، فخرج لبعض شؤونه فافتقده النبي 6
فقال : أدعوا لي أخي وصاحبي ، وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة: أدعواله ابا بكر ،
وقالت حفصة أدعوا له عمر ، فدعيا ، ثم قال أدعو لي أخي وصاحبي فقالت أم سلمة :
أدعوا علياً فانه لا يريد غيره فحضر الامام ، فأوصاه النبي 6 بوصاياه ، وناجاه طويلاً ، ثم قام عنه
، فاغفى رسول الله ، فقال الناس ما الذي أوعز اليك يا أبا الحسن فقال : علمني ألف
باب من العلم فتح لي كل باب ألف باب ،ووصاني بما أنا قائم فيه إن شاء الله.
واستدعى رسول الله 6 ابنته الصديقة الزهراء 3 وهي في أشد ساعات حزنهاء فأسرّ لها
شيئاً لاذت معه ألى البكاء ، ثم أسر لها شيئاً اخر ، بدت وعلائم البشر والغبطة ،
في ساعة واحدة جمع للزهراء
الحزن والفرح ، وظهر
عليها الأسى والرضا.
كان الإسرار الاول من النبي للزهراء : «
إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضني هذا العام مرتين ،
وماأراه إلا قد حضر أجلي »
وكان من السرار الثاني من النبي للزهراء
: « إنك أول أهل بيتي لحوقاً بي ، ونعم السلف أنالك ، ألا ترضين أن تكوني سيدة
نساء العالمين »
فكان كما أخبر ، فقد حضره الموت وعلي
إلي جنبه يسنده إلى صدره ، فأمره بتوجيهه نحو القبلة ، واوعز إليه أن يتولى أمره
في الغسل والكفن والصلاة وعدم مفارفته حتى مواراته في قبره ، فنفذ علي 7 ذلك كله ، وكان اخر الناس عهداً به ،
كما كان أقرب الناس إليه.
وتوفي النبي 6 يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر ، أو
لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الاول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
ويتضح مما تقدم أن النبي 6 كان أيام مرضه هذا مشفقاً على أمته من
الفرقة ، وأنه أراد أن يمهد لقيادة الإمام علي بتنفيذ بعث أسامة ، وأنه قد استقر
في داخله ـ با يحاء من الله ، أو بمعاينة مجرى الاحداث ، أوبهما معاً ـ أنه مغلوب
على أمره ، وأن التيار القرشي معارض لمرجعية أهل البيت ، فهم المستضعفون من بعده.
ولا اشك في أنه أوصى علياً با لصبر
والاناة ، وأسر أليه بالامر ، وأمره با لتريث والتامل خشية أن يرتدّ العرب ،
ويختلط الحابل بالنابل ، ويتلاشى الاسلام.
لقد فهم النبي 6 كل هذا دون ريب ، وفهمه علي كله كذلك ،
وعمد إلى تنفيذ
وصاياه بمعزل عن الائتمار عليه ، ونشطت الجبهه المتصدرة في تسيير عقلية الناس كما
تريد ، فقال عمر : إن السول الله ما مات ، ولكنه ذهب ألى ربه كما ذهب موسى بن
عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع ..... والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي
رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات.
والناس هم الناس بين سذاجة وغفلة ،
وتصديق وتكذيب ، إلا أن هذا القول من عمر أثرّ أثره الوقتي في الاقل بالناس ، فكما
صرفهم عن أمر الصحيفة أولاً ، صرفهم عن الادلاءبشيء أو التفكير بشيء من
أمرالاستخلاف ، ما دام النبي لم يمت فيما يزعم ، حتى يحضر أبو بكر من منزله بالسنح
، فلما حضر نادى :
« يايها الناس من كان يعبد الله فان
الله حي لا يموت ، ثم تلا :
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا
) »
فأفاق عمر مما أصطنعه ، وذهبا معاً إلى
السقيفه فيما سنعرضه فيما بعد.
وغسل عليّ 7
رسول الله 6 ، ومعه
الفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناولانه الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين ،
وتولى علي تغسيله وتحنيطه وتكفينه ، فلما فرغ من تجهيزه تقدم فصّلى عليه وحده.
وكان المسلمون في نزاع فيمن يؤمهم في
الصلاة عليه ، وأين يدفن النبي 6
هذا أمر من حضر وفاته من المسلمين ، وأما من لم
__________________
يحضر فله شأن غير
هذا سنأتي عليه.
وبينا هم في هذا النزاع إذ خرج إليهم
علي 7 وقال : إن
رسول الله أمامنا حيا وميتا ، فليدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلّون عليه بغير
إمام ، وإن الله لم يبقض نبياً في مكان إلا وقد إرتضاه لرمسه ، وإني لدافنه في
حجرته التي قبض فيها ، فسلّم القول لذلك ورضوا به ، وفعلوه.
وتولى عليّ والعباس وابنه الفضل وأسامة
بن زيد وأوس بن خولّي من الانصار دفنه ، ونزل علي القبر فكشف عن وجه رسول الله 6 ووضع خده الايمن على الارض مستقبلاً
بوجهه إلى القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن ، وأهالى عليه التراب ، وربع قبره
، وجعل عليه لبناً ، ورفعنه من الارض قدر شبر ، ورشّ الماء عليه رشاً ، ولم يحضر
دفنه أكثر الناس فهم في شغل من أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه.
ونعته ابنته الزهراء فيما يؤثر عنها : «
يا أبتاه ، أجاب رباً دعاه ، يا أبتاه جنة الفردوس ماْواه ، يا أبتاه إلى جبريل
ننعاه ، يا أبتاه من ربه ما أدناه »
ثم أخذث من تراب القرب الشريف ، ووضعته
على عينيها ، وأنشات :
ماذا على من شمّ تربة أحمد
|
|
أن لايشم مدى الزمان غواليا
|
صبّت عليّ مصائب لو أنّها
|
|
صبّت على الأيام صرن لياليا
|
وأنطلق تأبين علي للنبي في لوعة ومرارة
وأسى ، والدموع تسبق عينيه :
« بأبي أن وأمي ، لقد انقطع بموتك ما لم
ينقطع بموت غيرك من
النبوة والأنباء
وأخبار السماء ، لولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ،
ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفا ... ولكنه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه ،
بأبي أنت وأمي : اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك ».
وهاجت به الأحزان ، وهو يودعه مكّبا على
القبر الشريف قائلا : « إن الصبر لجميل إلا عنك يا رسول الله. وإن الجزع لقبيح إلا
عليك ، وإن المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك ويعدك لجلل ». وأنكفا عليّ راجعا الى بيته
، يعاني أقسى صنوف الآلام ، ويتجرع غصص فراق رسول الله ، فالليل طويل ، والصبر
مرير ، والآهات متلاحقة ، والأنفاس متقطعة ، وهو بين ذلك في سهاد وقلق ، وحزن
والتياع ، ووحشة إيمّا وحشة يمعن فيها الشعور بالفراغ التام إيمّا إمعان.
ولكن قلب علي أكبر من كل هذه المصائب
وإن جلت وعظمت ، فقد خلق لمهمة أصعب ، وخلّف لقضية أعظم.
وأسدل الستار على المدينة المنورة في
روايتها الحزينة ، فتجاوبت بأصداء الفاجعة سهولها وجبالها ، واهتزت بفادح المصاب
ظلالها وأفياؤها ، وسرى النعي في كل مكان ... مات محمد ، مات رسول الله.
(١٢)
قيادة قريش تقتحم السقيفه وتبعد أهل البيت
كانت قياده قريش ـ لدى احتضار الرسول
الكريم ـ إلى ثلاثه من المهاجرين دون بني هاشم : أبي بكر في لينه ودماثته ، وعمر
في شدته وغلظته ، وابي عبيدة بن الجراح في تعقله ودهائه ، وكان نجاح بيعة الصّديق
يعود إلى هذه الطبائع الثلاث ، مجتمعة ، فما إن يجترح عمر حوباً في شدته حتى يبدده
أبو بكر في لينه ، ويدفعه أبو عبيده في دهائه ، وما إن يقترح ابو بكر أمراً في
حكمته حتي يحققه عمر في اند فاعه، وينفذه أبو عبيدة في مرونته ، وما أن يعالج أبو
عبيدة مناخاً في تعقله ، حتى يمهّده ابو بكر في يسره ، ويجسده عمر في جراءته.
هذه خلفيات مختلفة تمتع بها الزعماء
الثلاثة ، وعملوا بإيحائها طيله أمر النبي 6
بإنفاذ جيش أسامة ، إن لم يكن أيام حجة الوداع ، والتصريح بولاية علي 7 آنذاك.
كانو ياتمرون ويجيلون الرأي ويضمرون
التخطيط ، ولم يكن انطلاقهم الحثيث لسقيفه بني ساعدة عن فورة وعجلة ، وانما كان عن
تريث وتلبّث ، ولم يحدث ما تنادوا به عن مفاجأة وعفوية ، بل عن دراسة ودراية وترصد
، يشتّد عمر فيهدأه ابو بكر ، ويعنفّه أبو عبيدة ، ويهادن أبو عبيدة ، فيزجره عمر
، ويرفق به أبو بكر ، ويلين أبو بكر فيغضب عمر ويوفّق بينهما أبو عبيدة.
سياسة مثلى في حسن التأتي ، وقيادة عليا
في المجابهة والتحدي ، وزعامة متأصلة في الأخذ والرّد سلباً وايجاباً ، في كل ذالك
سيل من الوعيد تازة ، وصدام في الاحتجاج تازة أخرى ، تطيّيب للخواطر حيناً ،
وإغراء بالوعود حيناً اخر ، يرخى الحبل فيجذب جذباً رفقياً تارة وعنيفاً تارة ،
ويتراخى الامر فيشدّ إحكماماً؛ وإبراماً ، حتى انتهى ذلك إلى بيعة أبي بكر فلتةً
وقى الله المسلمين شرها على حد تعبير عمر.
ولم يمنع حزن أمهات المؤمنين ـ والنبي
بعد لمّا يقبرـ من إلانضمام لهذا الفريق ، فقد عملت له عائشه جهاراً ، وقد باركته
حفضة إعلاناً واسراراً ، ولاذ من لاذ بالصمت.
ولم يكن الانصار بمناى عن هذا التخطيط ،
ولا بغفلة عن هذا الترّبص ،وذالك أبان حدوثه وقبل ان ينتهي إلى نتيجة ، بل تناهى
إلى سمعهم نية القوم بإبعاد الأمر عن أهل البيت ، وأدركوا أن الأمر لمن غلب أذن ، فاذا
لم يكن عليٌّ له فلا باس أن يكون لزعيم من زعماء الانصار ، وهم الذين آووا وحاموا
ونصروا ...... فاجتمعوا الي رئيسهم سعد بن عبادة من الخزرج في سقيفة بني ساعدة
للتداول في أمر الخلافة ، وكان سعد مرشح الأنصار لها ، أو هكذا أريد له أن يكون مع
مرضه ، ولم يكن الأفق ناصعاً ، ولا الموقف متسقاً ، وعليهما ضباب من الشبهات ،
واتصل الخبر بالمهاجرين ، فطفق الزعماء الثلاثة إلى السقيفة : عمر يهدر ويزمجر
،وأبو بكر يتلاين ويخطط ، وأبو عبيدة يحلل ويراقب.فجأ الزعماء الأنصار في عقر
دارهم ، وهمّ عمر بالثورة عليهم والعصف بهم ،فسبقه أبو بكر بالخطاب الهادى ء ،
يجرد به الأنصار من إهابهم الفضفاض شيئاً فشيئاً ،حتى يجردّهم منه ، ويطوّح
باحلامهم طيفاً فطيفاً حتى جعله غصة في حلوقهم ، ويخفف من
غلوائهم جزءاً
فجزءاً حتى أعادهم من سواء الناس ، ويهدم بناءهم لبنة فلبنة حتى ساوى به الأرض ،
وكان ذلك على مراحل دقيقة الحساب.
في المرحلة الأولى أبان اسبقية
المهاجرين فقال :
« ايها الناس؛ لقد خصّ الله المهاجرين
الأولين من قوم رسول الله بتصديقه ، والايمان به ، والصبر معه على شدة أذى قومهم
وتكذيبهم ، وكل الناس لهم مخالف ، وعليهم زار ، ولكنهم لم يستو حشوا لقلّه ،
وكانوا اول من عبدالله في الارض ، وآمن بالرسول ، هم أولياؤه وعشيرته ، وهم أحق
الناس بالامر بعده«
وقاطعه خطيب الأنصار « أما بعد : فنحن
أنصار الله وكتيبة الإسلام ،وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا »
فبادره ابو بكر هينّاً لينّاً في مرحلة
ثانية « أنتم من لا ينكر فضلهم في الدين ، ولا سابقتهم في الإسلام ، رضيكم الله
أنصاراً لدينه ورسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه ، فليس بعد
المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم ، لاتفتاتون بمشورة ، ولاتقضى دونكم الأمور »
اثنى على الانصار إذن ، وأخرّهم عن
المهاجرين ، وجعلهم بمثابة المستشارين ، وبمنزلة الثانويين من الأمر ، ولكن سعداً
ردّ عليه :
» يامعشر الانصار ، لما أراد لكم ربكم
الفضلية ساق إليك الكرامة ، وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم إلايمان به وبرسوله ، والمنع
له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ...... يامعشر الأنصار ، فأستبدوا بهذا الامر
دون الناس ، فإنه لكم دون الناس ».
ولم يتركه ابو بكر ـ في مرحلة ثالثة ـ
مسترسلاً بهذا ، وانما عاوده القول ، وجبهه بالرّد ، وألزمه الحجة :
« أيها الناس : ما ذكرتم فيكم من خير
فأنتم له أهل ، ولكننا : أول الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ،
وإحسنهم وجوهاً ، وأكثرهم ولادة في العرب ، وأمسهم رحماً برسول الله ..... ولن
تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش »
وكأن ابا بكر في هذا الردّ يمثل بني
هاشم وزعيمهم علياً ، إذ عدّد ما يحتج به الإمام على الأنصار وعلى قريش والمهاجرين
معاً ، فقد احتجوا بلغة عليٍّ ، وقد انتصروا بمنطق علي ، لأنه أول الناس إسلاماً ،
وأكرمهم أحساباً ، وأعلاهم داراً ، وأصبحهم وجهاً ، وأمسهم برسول الله رحماً.
ومهما يكن من أمر ، فلم يترك الحباب بن
المنذر ابا بكر في استرساله ، وإنما بدره متعصباً لقومه :
« يا معشر الانصار إملكو عليكم أمركم ،
فإنما الناس في فيئكم وظلالكم ولن يجير مجير على خلافكم، ولن يصدر الناس إلاعن
رأيكم ... أنتم أهل العزّ والثروة ، وأولو المنعة والنجدة ، وإنما ينظر الناس ما
تصنعون ، فلا تختلفوا فيفسدعليكم رأيكم ، وينتقض أمركم ، أنتم أهل إلايواء واليكم
كانت الهجرة ...... وأنتم أصحاب الدار والايمان .... وانتم أعظمم الناس نصيباً في
هذا الامر.
وان أبى القوم فمنّا أمير ، ومنهم امير
».
وكان هذا أول الوهن والتنازل كما قال
سعد بن عبادة.
وقطعه عمر : هيهات لا يجتمع سيفان في
غمد واحد ، إنه لا
ترضى العرب أن
تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تولي هذا الأمر إلا قريشاً ، من ينازعنا
سلطان محمد وميراثه ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدّلٌ بباطل ، أو متورّط في هلكة.
وكان عمر ـ كأبي بكر من ذي قبل ـ في
ردّه هذا يرد أن يشرح بني هاشم للأمر ، فهو يحتج على الأنصار بما يصح أن يحتج به
بنو هاشم على قريش.
ولا يدع ابو بكر الفرصة تضيع ، فيعلن في
مرحلة أخيرة :
« منا الأمراء ومنكم الوزراء ».
فثار الحباب بن المنذر مرة أخرى وقال :
« لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من الأمر ، فإن أبوا فأجلوهم عن
بلادكم ، وولوا عليكم وعليهم من أردتم ، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة؛ أنا
جذيلها المحكك وغديقها المرجّب ».
فقال عمر: إذن يقتلك الله. قال الحباب :
بل ايّاك يقتل. فتفاقم الأمر ، وتداركه أبو عبيدة قائلاً:
« يا معشر الأنصار : كنتم أول من نصر وازار
، فلاتكونوا أول من بدّل وغيّر ».
وكأن النفوس قد هدأت بهذا الخطاب السمح
، فبادرها بشير بن سعد الأنصاري ، وهو من الخزرج ، وكان ينفس على ابن عمه الأمارة
: فقال :
ألا أن محمداً من قريش ، وأن قومه أحقُّ
به وأولى ، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبداً ».
وكان هذا أول النصر للمهاجرين من أنصاري
خزرجي يدفعها عن قومه ويضعها في غيره ، وأيده على هذا سيد الأوس أسيد بن خضير
،لعصبية جاهلية حذر معها أن يتم الأمر لسعد فقال : « يا معشر أوس لئن وليتموها
سعداً عليكم مرة ،فو الله لا زالت للخزرج بذالك عليكم الفضيلة ».
وهكذا انشعب الأنصار فيما بينهم ، نتيجة
الحقد في الصدور ، والجاهلية في تقدير الأمور ، فكان الفوز بالصفقة للاتجاه القائد
،فانتصر الزعماء الثلاثة فيما قدّروا ،فليبرموا الأمر إذن سريعاً ، ونهض أبو بكر
يمسك عمر بيد وأبا عبيدة بيد وهو يقول : « أيها الناس ..... هذا عمر ، وهذا أبو
عبيدة ، فأيهما شئتم فبايعوا ».
ولكن هذا للمجاملة فقط ، ولئلا يقال إنه
راغب في الأمر ، وهو خلاف الإتفاق السري فيما بينهم ، لأن أبا بكر مرحشهم سراً ،
فكيف يمكن التخلف عنه علناً ، فبدره عمر بالقول ، « بل ابسط يدك يا أبا بكر ....
».
وسبقه أبو عبيدة : « إنك لأفضل
المهاجرين ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ». فبايعاه بعد الترشيح الدقيق ، واسرع
قبلهما أو بعدهما بالبيعة بشير بن سعد ممثلاً أتباعه الخزرج ، ويدعو أسيد بن خضير
أشياعه من الأوس :
« قوموا فبايعوا ابا بكر ... » ويبايع
فريق من الأوس.
وأذهلت السرعة الفائقة أذهان معارضة
الأنصار ، فقام الحباب بن المنذر الى سيفه ليكون حائلا عن البيعة بالقوة ، فينتزع
منه السيف ، وجعل يضرب بثوبه وجوههم وقد فرغوا من البيعة ، فقال: فعلتموها يا
معشر الأنصار ، أما
والله لكأني بأبنائكم على باب أبنائهم يسألونهم بأكفهم ، ولا يسقون الماء.
وكان الأمر كما قال ، فقد حرم الأنصار
حرماناً عجيباً ، فلم يكونوا وزراء كما وعدوا ، ولا مستشارين كما أملّوا ، بل
انخرطوا في سواد العرب ، وأسدل الستار على جهادهم وجهودهم.
وامتنع سعد عن البيعة في فريق من قومه ،
وطولب بها فقال :
« لا ولله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي
، وأخضب منكم سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي
وعشيرتي ».
فألح عمر على بيعته ، ونصحه بشير بن سعد
: أنه قد أبى ولج ، وليس يبايعك حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل ولده وعشيرته،
والأوس والخزرج ، فلا تفسدوا على أنفسكم الأمر ، إنما هو رجل واحد ، فتركه عمر الى
حين.
(١٣)
بيعة أبي بكر ومرجعية الصحابة
وخرج الجمع المبايع من السقيفة ـ وهم في
طريقهم الى المسجد النبوي ـ يهتفون لأبي بكر ، لا يمرّون على أحد إلا أخذوا بيده
وأمرّوها بيد أبي بكر ، وكان المستجيبون لذلك قلة ، وكان الممتنعون قلّة أيضا ،
ومن أبى تناوله عمر بالدّرة ، أو قرّعه أبو عبيدة بالتعنيف ، أو زجره هذا وذاك
بالنصيحة ، وكانت الأغلبية العظمى على الحياد بين رهبة ورغبة ، أو سخط ورضا ، وكان
الإنكار الصامت حيناً ، والتأييد الصامت حيناً آخر ، وهكذا كان الناس بعد السقيفة
بقليل بين مؤيّد ومفند ومحايد ، مؤيّد يهّلل ويكبّر ، ومفنّد ينكر ويستنكر ،
ومحايد بين بين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وعامة الناس غيات دون حضور ، أو حضور
كالغيّاب.
وكانت طبيعة هذا المناخ أن تفرز مضاعفات
عديدة في الأفق السياسي ، فليس الدرب معبداً بالورود كما يقال ، ولا الصفقة هينة
لينة ، فهناك بعض الأنصار يهتفون : لا نبايع إلا علياً ، وهناك بعض المهاجرين
يمتنعون عن البيعة ، وهناك العباس عم النبي يرشح علياً ، وأبو سفيان يريدها في بني
عبد مناف مكيدة أو حمية ، وعليٌّ في نفر من المهاجرين والأنصار لا يبايع ، وهو بعد
في شغل عن ذلك بتجهيز الرسول الأغظم ؛ وماذا عسى أن يكون موقفه إذا فرغ من ذلك.
هذه عقبات في الطريق ، وأشواك في مسيرة
البيعة المرتجلة ؛ وهي
أمور دقيقة الملحظ
لم تعزب عن ذهن أبي بكر ، ولم تغرب عن فكر عمر ، ولم تتعد حصافة أبي عبيدة ، ولم
يهمهم هذا وذاك ، ولكن هذا الشاخص الماثل علياً ، يشار إليه بالبنان ، فهو وحده
العقبة الكأداء ليس غير. ثم هؤلاء جميعاً ما السبيل إلى إقناعهم ، وقد رأوا في
البيعة مخالفة للعهد ومجانبة للعقد ، وفي القوم علي 7
ولا يعدل به إلى سواه دون ريب.
وكان العباس أول المتنبهين لخطر هذا
الموضوع ، وأول المبادرين الى علي ، فقد لفته بقوله :
« يا ابن أخي ، أمدد يدك أبايعك ، فيقول
الناس عمّ رسول الله بايع ابن عم رسول الله ، فلا يختلف عليك اثنان ... »
هذا وجثمان الرسول 6 مسجى بين أهله ، فقال علي 7 :
« لنا برسول الله يا عم شغل ».
وهذا هو الأمثل من علي في تلك اللحظات.
وقيل : إن عليا قال :
« يا عم : وهل يطمع فيها طامع غيري ،
قال ستعلم ، فقال : إني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج ».
ولم يكن علي ليغفل عما يجري من مؤامرات
ومؤتمرات ، حتى يجيب عمه بهذا ، وإن صح فإنه كان يريد الأمر على ملأ من الناس علنا
لا سراً ، جهاراً لا إسراراً ، وبينما هما كذلك وإذا بالناس يزّفون أبا بكر إلى
المسجد كما تزّف العروس كما يقول الرواة وتناهت الأنباء إلى أبي سفيان فجاء يشتد
إلى بيت الرسول وهو ينادي بملء فيه :
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم
|
|
ولا سيّما تيم بن مرة أو عدي
|
فما الأمر إلا فيكم وإليكم
|
|
وليس لها إلا أبو حسن عليّ
|
ثم نادى صارخاً : يا بني هاشم ، ويا بني
عبد مناف : أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل ..... أما والله لو شئتم لأملأنها عليهم
خليلاً ورجلاً ، فناداه أمير المؤمنين علي : « ارجع يا أبا سفيان فو الله ما تريد
الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله ، وعلى كل
أمرىء ما اكتسب ، وهو ولي ما احتقب ».
وكان هذا الرّد خليقاً بعلي 7 ، فلم يغب عن ذاكرته كيد أبي سيفان
للاسلام ، ولم ينس حقده على جماعة المسلمين ، وإنه ما إراد وجه الله بذلك ، وإنما
أرادها جاهلية محضة ، ولم يكن علي ليخدع بهذا الطراز الخاص من الناس ، من اصحاب
الكيد والمطامع ، وزعماء العصبية والانتهازية ، فجبهه بهذا ، ولكن أبا سفيان
يستعيد قواه ، ويلتقط أنفاسه ليقول :
« يا أبا الحسن : هذا محمد قد مضى إلى
ربه ، وهذا تراثه لم يخرج عنكم ، فابسط يديك أبايعك فإنك لها أهلٌ ».
ويستعجله العباس لقبول الأمر ، ويراها
فرصته ، فيتوجه إلى علي :
« يا ابن أخي ..... هذا شيخ قريش قد
أقبل فامدد يدك أبايعك ويبايعك معي ، فإنّا إن با بايعناك لم يختلف عليك أحد من
بني عبد مناف ، واذا بايعك عبد مناف لم تختلف عليك قريش ، واذا بايعتك قريش لم
يختلف عليك بعدها أحد في العرب ».
ويصّرعلي عيله السلام على موقفه « لا
والله يا عم ..... فاني أحب أن أصحر بها ، وأكره أن أبايع من وراء رتاج ».
وتصل الأخبار لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة
، فهم يجيلون النظر في ذالك ، فوجدوا العباس لا يعصي لعلي أمراً ، وعلي يمتنع عن
البيعة ، فليتركا أذن ، وعهدا الي يزيد بن ابي سفيان بولاية دمشق ، وأخبر بذلك أبو
سفيان فرضي كل الرضا ، وقال : وصلته رحم ، وبايعت بنو أمية ، وأنتهي هذا الجزء
اليسير من المعارضة الآنية ، عقل العباس وكياسته ، وانتهازية أبي سفيان ووصوليته ،
وكان أبو سفيان قد بعثه النبي ساعياً ، وجبى الأموال ، فقال عمر لأبي بكر : إنا
لانأمن شر ابي سفيان فترك له ما في يده من الصدقات فسكت ورضي بذلك ، وأعلن التأييد
المطلق. أُغلق هذا الباب إذن ، وبقيت جبهة من المعارضة لم تبايع ، وترى الحق فى
علي 7 ليس غير.
فهذا خالد بن سعيد بن العاص من
المهاجرين يخاطب أبا بكر وهو على المنبر بكل جراءة وصراحة وموضوعية فيقول : « اتق
الله يا أبا بكر ...... فقد علمت أن رسول الله 6
قال ونحن محتوشوه يوم بني قريظة حين فتح الله ، وقد قتل علي يومئذٍ من صناديدهم
ورجالهم .......
« يا معشر المهاجرين والانصار إني
موصيكم بوصية فاحفظوها ، ومودعكم أمراً فاحفظوه ، ألا إن علي بن أبي طالب أميركم
بعدي ، وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربي ...... ».
فأسكته عمر.
وينطلق سلمان مجاهراً : « يا أبكر : إلى
من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه ، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه ، وما
عذرك في تقدم من هوا أعلم منك ، وأقرب إلى رسول الله ، وأعلم بتأويل كتاب الله عزّ
وجلّ ، وسنّه نبيه ، ومن قدّمه النبي في حياته ، وأوصاكم به عند وفاته ، وقد أعذر
من أنذر ».
فصمت القوم ، وكأن على رؤوسهم الطير ،
وارادوا امتصاص النقمة ، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقام أبوذر في صلابته المعهودة فقال :
« لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول 6 قال : الأمر بعدي لعلي ، ثم لابني
الحسن والحسين ثم للطاهرين من ذريتي ، فأطعتم الدينا الفانية ، ونسيتم الآخرة الباقية
».
وقال المقداد : « يا ابا بكر : سلم
الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك ».ثم قام بريدة الأسلمي فقال : « إنا لله وانا
أليه راجعون ، ماذا لقي الحق من الباطل؟ يا ابا بكر :أنسيت أم تناسيت ، وخدعت أم
خدعتك نفسك ، أولم تذكر ما أمرنا به رسول الله 6
من تسمية علي بإمرة المؤمنين .... ».
وقال عمار بن ياسر : « يا معاشر قريش ،
ويا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا : إن أهل بيت نبيكم أولى به ، وأحق
بإرثه ، وأقوم باُمور الدين .... وعليُّ أقرب منكم إلى نبيكم ، وهو بينهم وليكم
بعهد الله ورسوله ».
ثم قال أبي بن كعب : « يا أبا بكر لا
تجحد حقاُ جعله الله لغيرك ، ولا تكن أول من عصى رسول الله في وصيّه وصفيّه ، وصدف
عن أمره ، أردد الحق الحق إلى أهله تسلم ».
ثم نهض خزيمة بن ثابت فقال : أيها الناس
ألستم تعلمون أن رسول الله 6
قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري ، قالوا بلى ، قال فاشهدوا أني سمعت رسول الله 6 يقول : « أهل بيتي يفرقون بين
الحق والباطل ، وهم
الأئمة الذين يقتدى بهم ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ».
وقام أبو الهيثم بن التهيان فقال : وأنا
أشهد على نبينا6
أنه أقام علياً يوم غدير خم ، فقالت الأنصار ما أقامه إلا للخلافة ، وقال بعضهم ما
أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله مولاه ، وكثر الخوض في ذلك ،
فبعثا إلى رسول الله نسأله فقال : « عليُّ ولي المؤمنين بعدي ، وأنصح الناس لاُمتي
».
وقال سهل بن حنيف الأنصاري : « اشهدوا
عليّ أني أشهد على رسول الله في هذا المكان » (الروضة ) وقد أخذ بيد علي بن أبي
طالب وهو يقول :
« أيها الناس علي إمامكم من بعدي ،
ووصيي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ومنجز وعدي ، واول من يصافحني على حوضي ،
فطوبى لمن تبعه ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله ».
وقال عثمان بن حنيف : سمعنا رسول الله 6 يقول :« أهل بيتي نجوم الأرض فلا
تتقدموهم ، فهم الولاة من بعدي ... » وقال أبو أيوب الانصاري : « اتقوا الله عباد
الله في أهل بيت نبيكم ، وأرددوا إليهم حقهم الذي جعل الله لهم ... والنبي يقول
:اهل بيتي أئمتكم من بعدي ، ويومي إلى علي ويقول : هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة
، مخذولٌ من خذله ، منصورٌ من نصره ... ».
ومرّ الاحتجاج على صرامته كأن لم يكن ،
وذهب أدراج الرياح ، ويخطيء من يظن أن الامر كان مستوسقاً دون معارضة ، وإجماعياً
دون نقض ، ومسلماً به دون اصطدام ، فهذه الأصوات كانت عالية ، وقد بقيت أصداوها
إلى اليوم ، وكادت أن تطيح بالأمر لولا إمساكه بيد من
حديد ، ولم تكن هذه
الاصوات وحدها تدوي في الميدان ، بل تطاول غيرها ، فقد كان إجتماع جماعة سراً في
فضاء بني بياضة من المهاجرين والأنصار ذا أثر في سير الأحداث ، وفي أثناء ذلك كان
بلال مؤذن النبي يقيت هذه الأحداث ناراً ملتهبة ، فقد دعي إلى البيعة وهو مولى أبي
بكر من ذي قبل ، فامتنع عنها ، وأخذ عمر بتلابيبه ، وقال له : هذا جزاء أبي بكر
منك أن أعتقك فلا تجيء تبايعه ، فقال : إن كان قد أعتقني أبو بكر لله فليدعني لله
، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا ، واما بيعته : فما كنت أبايع من لم يستخلفه
رسول الله 6 ، والذي
استخلفه بيعته في أعناقنا إلى يوم القيامة. فقال عمر : لا أبا لك ، لا تقم معنا ،
فارتحل بلال ألى الشام.
وكان هذا الإنكار مشجعاً للمجتمعين في
فضاء بني بياضة في أطراف المدينة ، وكان قد اجتمع هناك : البراء بن عازب ، وعمار
بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، والمقداد بن عمرو ، وأبو الهيثم بن التهيان ، وعبادة
بن الصامت ، وسلمان الفارسي وسواهم ممن تخلف عن بيعة أبي بكر ، وهم يرون علياً لا
سواه أهلاً للأمر.
وتكلم عمار بن ياسر في جراءة نادرة :
« ما لتيم وهذا الامر ، إنه قد كان
لرسول الله ، وهو من بعده في خير الناس بعد رسول الله » يعني علياً 7.
فقال البراء بن عازب « إنّما انتزعه
الرجل بخق قريش ، وعاونه صاحباه ، ولكن البيعة ولم يشهدها المهاجرون الأولون فليس
لها صحة ».
وقال حذيفة بن اليمان : « إن الأنصار
لتريد أن تنفض ما كان منها ».
فقال المقداد : « فهذا والله خير ،
وليردّن الحق إلى صاحبه ».
وتساءل سلمان : « فان أبى الرجل ».
فقال أبوذر : « فدعوه إنه ليس ولا
صاحباه إلا ثلاثة من المهاجرين. والله لا يراني أبدأً أبايع ابن أبي قحافة وفي
الناس ابن أبي طالب ».
وقال عمار : « هذه الأنصار تهم أن تنقض
الأمر أمر السقيفة ».
وكان طلحة بحيث يستمع ما دار بين القوم
، فتطوع بإبلاغه أبا بكر ، وأنذر به عمر ، وسارّ به أبا عبيدة.
وابتدر القوم إلى المسجد ، فبدأهم
عمربقوله :
« أيها الناس : إن الله قد جمع أمركم
على خيركم ، صاحب رسول الله ثاني اثنين إذ هما في الغار » ، فقوموا فبايعوا ،
واسترسل أبو بكر في سياسته الوئيدة :
« أما بعد ، فاني قد وليت عليكم ، ولست
بخيرّكم ».
وكان هذا إيماء أو تصريحاً بافضلية علي
فهو نقطة الانطلاق وكان عليٌّ في هذه اللحظة يسوي قبر رسول الله 6 بمسحاة في يده ، فقال له رجل عندها :
إن القوم قد بايعوا أبا بكر ، ووقعت
الخذلة للأنصار لا خذلة اختلافهم ، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم
الأمر .
__________________
فوضع عليٌّ 7 المسحاة على الأرض ، ويده عليها ، وقال
:
(
الم (١)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ).
فما كان موقفه بعد هذا وهو يستقبل عهد الشيخين.
__________________
الفصل الثاني
علي بين الشيخين وعثمان
١
ـ الانصار تحتجُّ ... وعليٌّ يمسك عن البيعة
٢
ـ ظلامة الزهراء في إنعطاف تأريخيٌّ
٣
ـ شكوى الزهراء وخطبها يشقّان عنان السماء
٤
ـ الثورة المضادة للإسلام ... واعاصير الردّ َة
٥
ـ أبو بكر يقدّس علياً ... ويعهده إلى عمر
٦
ـ سيرةُ عمر ... واتكاؤُهُ على أمير المومنين
٧
ـ عمريتناسى علياً ... ويعين مجلس الشورى
٨
ـ المسلمون يستقبلون بيعة عثمان بالكراهية
٩
ـ سياسة عثمان من الصحابة والمعارضة
١٠
ـ المسلمون ينقمون على عثمان ... والأمصار تتجمع
١١
ـ تفاقم الأمر على عثمان ومصرعه
(١)
الانصار تحتج ... وعلي يمسك عن البيعة
تقول إحدى الروايات أن علياً 7 قال :
« إن أول من جرّأ علينا الناس سعد بن
عبادة ».
وهذه الرواية تضع سعداً موضع الإتّهام ،
بل وتعدّه منحرفاً عن علي ، وسعد رجل من العرب ، رأى المهاجرين قد أبوا على علي 7 البيعة ، وصرفوها عن بني هاشم ، فلم لا
يطلبها لنفسه ، هذا هو التعليل في أكبر الظن. وقد يقال بأنه أرادها لنفسه ظاهراً
ليستولي على الأمر فيسلمها إلى علي عليه اسلام وليس على ذلك دليل نصي أو تأريخي
سوى حسن الظن في شيخ من شيوخ الأنصار ، وكانت الأنصار عيبة نصح علي ، وهواها مع
علي ، أكثريتها وأغلبيتها ، فلما انتهى أمر السقيفة ندمت على ما فعلت ، وتلاومت
فيما بينها ، وأرادت نقض بيعة أبي بكر.
وعلي يرقب الأحداث ويشاهدها عن كثب في
فيض من المشاعر الملتهبة ، وغمرة من الشؤون النفسية الجيّاشة ، بين لهفةٍ على ضياع
الحق ، وخشيةٍ من اضطراب الأمر ، وقلق من حدوث الفتنة ، فها هم الأنصار يرجعون إلى
حلومهم بعد أن طاشت ، ويعودون إلى تعقلهم به دون جدوى ، ويندمون على تفريطهم لات
ساعة مندم. فلينظر إلى أين
تنتهي هذا الرواية؟
وكيف تمثل فضول المأساة؟
على أن الندم لم يصنع شيئاً ، والا
حتجاج لم يغيرّ حدثاًُ ، والتراجع لا ينقض أمراً ، فقد جوبه الأنصار مضافاً إلى
القيادة القرشية العليا ، جوبهوا بمسلمة الفتح تذبّ عن مرشح قريش ، فأشغل الأنصار
ـ بدهاء منقطع النظير ـ بمسلمة الفتح ، واندمج بنو اُميه في رحاب البيعة التي
أبعدت بني هاشم أعداءْ هم التقليديين ، وعطفت بنو زهرة عنانها مع تيم ، فما ينفع
نداء الأنصار في آخرة ، وما أعذروا من ذي قبل ... إنه صيحة في وادٍ ، ونفخة في
رماد، فهذا سهيل بن عمرو صاحبهم في الحديبية يدعو في نخوة : « يا أهل مكة ... كنتم
آخر من أسلم في الناس ، فلا تكونوا أول من ارتد من الناس؛ يا أهل مكة. والله ليتمن
الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله ، ومن رابنا ضربنا عنقه ».
قال ذلك لأهل مكة عامة ، والتفت لقريش
وقال لها خاصة ، وقد شاهد الأنصار يحاولون التغيير ، وكان التفاته هذا مزدوجا في
ردوده ، ففيه إحكام للأمر دون تردد ، وفيه وعيد للأنصار دون رحمة ، وفيه أمر
بالقتال بلا هوادة :
« يا معشر قريش : إن هؤلاء الناس قد
دعوا إلى أنفسهم ، وإلى علي بن أبي طالب ، وعليّ في بيته لو شاء لردّهم ، ألا
فادعوهم إلى صاحبكم والى تجديد بيعته ، فإن أجابوكم وإلاّ فأقتلوهم ، فوالله إني
لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم ». وتبعه عكرمة بن أبي جهل « لولا قول
رسول الله : الأئمة من قريش ما أنكرنا إمرة الأنصار ، إعذروا القوم فإن أبو
فاقتلوهم ».
فالدعوتان تشيران إلى القتل والإبادة ،
وكيف تكون الفتنة إذن؟
وفصل القول الحارث بن هشام المخزومي :
« أيها الناس : إن يكن الأنصار قد
تبوأوا الدار والإيمان من قبل ، ونقلوا رسول الله الى دورهم من دورنا فآووا ونصروا
، فإنهم قد لهجوا بأمر أن تبثوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به ، وليس بيننا
وبينهم معاتبة إلا السيف ».
واستيقظ الأنصار من غفوتهم ، وإذا في
قبالهم هذا النفر من مسلمة الفتح ، لا أكفاؤهم من قريش ، فسقط في أيديهم ، وذهبت
احتجاجاتهم هباء ، غضبوا حين لا ينفع العضب ، وتصرفوا ساعة لا يجدي التصرف. فألطف
لهم القول ثابت بن قيس :
« يا معشر الأنصار ؛ إنما كان يكبر
عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش ».
ولكن أهل الدين من قريش قلة واية قلة ،
فهذا خالد بن سعيد بن العاص ، أمير رسول الله على إلىمن ، وهو من هذه القلة
النادرة التي توجهت الى علي فقالت : « يا بني عبد مناف ... طبتم نفسا عن أمركم
يليه غيركم ».
قال له علي 7 : « يا خالد : هذا أمرنا أبت قريش أن
تؤتيناه ».
فأسترجع خالد قائلا :
« يا ويح قريش ... وهل في الناس أحد
أولى بمقام محمد منك » وكان موقف خالد فريداً ومتميزاً ، ألقاه مرتين : مرة أمام
أبي بكر في المسجد ، وأخرى بين يدي علي في بيت رسول الله ، وهل وجد علي أمثال خالد
إلا بضعة نفر ن لو ضحّى فيهم لضحّى بالإسلام كله ، وها هو
يرى هذا التناقض
العجيب ، وهذا التهافت البغيض على الأمر ، فما كان صانعاً؟
كان على أمير المؤمنين أن يحدد موقعه
ثابتاً من عدة مواقف طرحها المناخ السياسي عليه :
١ ـ أن يبايع لأبي بكر دون قيد أو شرط ،
وينفض يده من الأمر ، فيريح ويستريح.
٢ ـ أن يحتج على البيعة ، ويدعو إلى
نفسه بما معه ومن معه من بني هاشم والعدد الضئيل من الأنصار ، وأصابع إلىد من
المهاجرين ، وإن سفكت الدماء وارتدّ الناس.
٣ ـ أن يصبر ويتجرع مرارة الصبر ،ويقف
موقفاً وسطاً بين ذلك، يحتّجُ ويناظر ، ويمسك عن البيعة ، مطالباً بحقه الذي يراه
، والمنصوص عليه ، متوسلاً إلى ذلك بالذرائع السلمية ، فإن فاز بشيء منها فبها ،
وإلا فقد أعذر ، حفظا للإسلام ، وحقناً للدماء ، وتألفاً للقلوب ، وبقيا على
الأمة.
وما كان علي ليقف في الموقع الأول من
هذه الخيارات ، وهو يرى نفسه الأحق بالخلافة ، والأولى بالبيعة ، وما خلق ليريح
الناس في مجالدة الباطل ، ولا ليسترح في ظل الأمن والدعة.
وما كان لعلي أن يدخل معركة خاسرة يفرّق
فيها كلمة المسلمين، فيقوم بالسيف ، والردّة على الأبواب ، والناس حديثو عهد
بالإسلام، والجاهلية ألصق بالنفوس وأقرب إلىها من حبل الوريد ، ولا أن يخاطر بهذه
القلة الخيرة التي امتنعت عن البيعة تحرجاً وتأثماً ، فتذهب دولة الإسلام ، لا عن
ضعف في النفس أو خور في الطبيعة ، ولكن إيقاءً
للحال من الزوال ،
وتريثاً في الأمر عن صلابة ، ولعله يشير إلى ذلك : « ويح الناس ... إن أقُلْ
يقولوا حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت ، أما والله لابن أبي طالب
آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ».
إذن لم يكن موقفه هذا عن تلكؤ وتردد بل
عن روية ويقين.
بعد هذا نجد موقفه خليقاً بأن يتحدد
بالإمساك عن البيعة ولو إلى حين ، وبيان مقامه وأحقيّته ، وعرض ظلامته ومظلوميته ،
سليماً. وهذا ما حدث بالضبط ، إذ لم يجد ناصراً حقيقياً يضحّي ـ بما فيه الكفاية ـ
من أجل القيم ، فلا أقل من أن يقف موقفاً صارماً حتى يعذر أمام ربه ونفسه وعارفي
منزلته. وكان جديراً بعلي أن يقف هذا الموقف ، فهو مأمور بالصبر ، وهو مأمور
بالعمل معاً. ويريد هذا الموقف أن المعارضة الأنصارية ذهبت إلى أمير المؤمنين
تستشيره وتستثيره ، قالوا :
تركت أمراً أنت أحق به وأولى ، ولقد
هممنا أن نصير إلى أبي بكر فننزله عن المنبر. فقال : لو فعلتم ذلك لما كنتم إلا
حرباً ، ولو فعلتم ذلك لأتوني ؛ فقالوا : بايع وإلا قتلناك ، وإن رسول الله أوعز
إلى قبل وفاته ، وقال : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي ، فقلت يا رسول
الله : فما تعهد إلى إذا كان كذلك ، فقال : إذا وجدت أعواناً فجاهدهم ، وإن لم تجد
أعواناً فكفّ يدك ، واحقن دمك.
ولقد كفّ علي يده ، ولكنه لم يكفّ لسانه
عن المحاججة ، ولا ضميره عن الرفض ، حتى أعذر ، فلقد بلغه احتجاج أبي بكر على
الأنصار كون النبي من قريش ، فقال : « إِحتجوا بالشجرة ، وأضاعوا الثمرة ».
وحجّه بهذا وسواه
بما حج به خصومه ، وألزمه بما ألزمهم ، وقال : « أنا أحق منكم بهذا الأمر لا
أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي نخن أولى برسول الله حياً وميتاً ».
كان هذا في مسجد رسول الله ، وعمر متأهب
للوثوب عليه ، قائلا للإمام : لستَ متروكاً حتى تبايع ، فقال علي :
« إحلب حلبا لك شطره ، وشدّه إلىوم يرده
عليك غدا ؛ والله يا عمر : لا أقبل قولك ولا أبايعه »
ووقف عمر باهتا أمام هذا الإصرار ؛ فبدر
أبو بكر الى عمر قائلا ، وقد تأزم الموقف وازداد تحرجا « فإن لم تبايع فلا أكرهك
».
وانتهز الفرصة أبو عبيدة ؛ وهو يتطامن
لعلي ، ويتواضع إلىه ، ليّن العريكة ، هادىء الطبع ، متناغم اللفظ : « يا ابن عم :
إنك حديث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ، وإنك إن تعش فأنت لهذا
الأمر خليق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك ».
وقد أبلغ أبو عبيدة في مراده ، وبذل
غاية جهده ، وبالغ في الثاني واختيار اللفظ المناسب للمعنى المناسب ، عسى أن يؤثر
هذا الأ ُسلوب الجديد بعلي ، أو يثني من عزمه ، ولكن عليا أنقى فكراً ، وأصفى
ذهناً من أن ينطلي عليه هذا الملحظ ، فغضب وسرد الحقيقة المرّة التي سمعها أبو
عبيدة فانهارت أعصابه ، وتهاوت أحلامه ، فعلي يجبهه مصارحا :
« الله الله يا معشر المهاجرين ...
تخرجون سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس ،
فوالله
لنحن أحق الناس به
لأنا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ؛ ما دام فينا القارىء لكتاب الله ،
الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيه ، الدافع عنهم
الاُمور السيئه ، القاسم بينهم بالسوّية ».
وكان علي بهذا يعني نفسه ويشير إلى
ملحظين :
الاول : انه من اهل البيت الذي أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
الثاني : أنه المرشح للاضطلاع
بالمسؤولية ، لما يحمله بين جنبيه من تتبع لكتاب الله قراءة ومعرفة وتأويلاً ، وما
يتمتع به من علم وفقه وسنّة ، وما يضطلع به من أمر الرعيّة، في الذبّ عنها في
الضرّاء، والسرّاء ، والعدل فيها عند الشدة والرخاء. ثم يؤكد هذا لأبي عبيدة
محذرّاً :
« وإنه والله لفينا يا أبا عبيدة ، إنه
لفينا فلا، تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله ، وتزدادوا عن الحق بعداً ».
لقد بلغ التأثر عند علي حداً لا يطاق
معه السكوت ، فعاود الاحتجاج موكداً ، وأكده مردداً في هذه الإشارات الدقيقة التي
استمعها أبو عبيدة ذاهلاً؛ ولكن بشير بن سعد الأنصاري استمعها متأثراً بها ، وهو
الذي مهّد لأبي بكر من الخزج ، فما ملك نفسه أن يقول : لو كان هذا الكلام سمعته
الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك ، وكلام بشير حجة عليه هو
نفسه ، فهل يُجهل مقام علي لديه حتى يستظل بهذه المعاذير التي لا تخفى على من له
ادنى دراية بشوؤن الناس ومقتضيات الأحوال.
وتنهاهى هذا الإحتجاج إلى الأنصار في
لحظته ، فكثر فيما بينها الأخذ والرد ، وهتفت لعلى من جديد : لا نبايع إلا علياً ،
ولكن هذا كان بعد فوات الاوان ، وعند تفاقم الأمر ، وبدرهم عبد الرحمن بن عوف
موارباً في كلامه ، متناسياً ما هتفوا به : « يا معشر الأنصار ....... إنكم وإن
كنتم أولي فضل ونصر وسابقة ، ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر ولا عمر ولا علي ولا أبي
عبيدة ».
وهو بهذا يدير الكلام دوران الرحى على
قطب سواه ؛ ولكن زيد بن ارقم يدريك هذا المنحى ، ويجرد القول على وجهه :
« اننا لا ننكر فضل من ذكرت ياعبد
الرحمن ، وإن منا لسيد الأنصار سعد بن عبادة ، ومن أمر الله أن يقرأه السلام وأن
يؤخذ عنه القرآن اُبيّ بن كعب ، ومن يجيء يوم القيامة أمام العلماء معاذبن جبل، ومن
أمضي رسول الله شهادته بشهادة رجلين وهو خزيمة بن ثابث ، وإنا لنعلم إن من بين من
ذكرت من قريش من لو طلب الخلافة لم ينازعه فيها أحد وهو علي بن أبي طالب ».
كان هذا كلّه ينتهي لأمير المومنين علي
ويجيل الفكر فيه ، ولكنه يكره الخلاف ، ويرى الصبر على الضميم اجدى عائدية ، فهو
لا يريد الخلافة لنفسها ، ولكنه يريدها للإسلام ، هي وسيلة لتطبيق قانون السماء في
الأرض.
ويلجأ عليٌّ آخر الأمر إلى طريق اُخرى
تنجلي مغلقةً أمامه تماماً ، ولكنه يسلكها إلقاءً للحجة ، فيستقبل الليل مستنصراً
تلكم الفتية من الأنصار الذين تلمكهم الاسي ، واستطارت بهم اللهفة ، واستبدّ بهم
الأسف ، وإلى جنبه ابنة محمد فاطمة الزهراء ، يطلب الحق ، ويستعدي
على الباطل من عسى
أن يستجيب ، ولم تكن الاستجابة إلا معاذير وآهات ، ولم تجد النصره إلا خذلاناً
وإعضماضاً ، فكانت جموع الأنصار تجيب بلسان واحد ، متجهة إلى الزهراء :
« يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهاذا
الرجل ، ولو أن ابن عمك سبق إلىنا ماعندلنا به ».
وتغصّ الزهراء بريقها ، ويجيبهم عليٌّ :
« أفكنت أدعُ رسول الله في بيته لم
أدفنه ، ثم أخرج اُنازع الناس سلطانه ».
وتنتهي الزهراء إلى النتائج هذه لا تجد
ناصراً ، ولا تلمس موازرأً ، بل تجد لائمة دون روّية ، فتصدع بالنهاية : « ما صنع
والله ابو الحسن إلا ما كان ينبغي له ....... وقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه ».
وكان ماسبق من اختلاف بعض الأنصار إلى
علي ، ومحاججة علي بحقه ، وتلاوم بعض الناس في شأن علي ، واجتماع بعض المهاجرين
والأنصار في فضاء بني بياضة ، واحتجاج جملة من الصحابة على أبي بكر في مسجد رسول
الله ، واستنصار علي بالزهراء للأنصار؛ كان كل ذلك مبرراً سياسياً لأن يشدد
الشيخان القبضة على الحكم ، وأن يلجئا إلى القوة والعنف.
وكان عليٌّ في دار الزهراء ، وقد لجأ إليها
سلمان وعمار والمقداد، أبوذر والزبير وسواهم من بني هاشم ، وطائفة من الأنصار
تصابحهم وتماسيهم ، متألبة حيناً ، ونادمة حيناً آخر ، وكان الإحساس بشيء من الخطر
يدبّ إلى نفس الشيخين ، فليحسما هذا الموضوع ، وأقبل عمر في شدته ، ومعه جملة من
الاعوان في طليعتهم أسيد بن حضير زعيم
الأوس ، وقنفد مولى
عمر ، ولفيف من مسلمة الفتح ، واقتحموا دار فاطمة بنت محمد ، ولوحوا « بالنار » لا
حراق البيت على من فيه ، إن لم يخرج عليٌّ فيبايع ، وعمر ينادي ـ فيما يزعم ابن
قتيبة ـ :
« والله لتخرجن من الدار إلى البيعة أو
لأخرقنها على من فيها ، فيقال له : إن في الدار فاطمة بنت رسول الله ، فيقول : وإن
كانت فيها ».
ولا أستطيع بيان ما جرى في هذه اللحظات
الثائرة ، ولكني أدعه للزهراء : « يا أبت يا رسول الله ....... ماذا لقينا بعدك من
ابن الخطاب وابن أبي قحافة ».
وتناهى صوتها إلى الجمع ، فبكوا لبكائها
، وتفرقوا عن بيتها ، إلا عمر بزعم ابن قتيبة ، فإنه أقم ، وأخرج علياً ، وذهب به
وجماعة إلى المسجد بين يدي أبي بكر؛ وقال عمر : يا علي بايع ، فقال: وإن لم أفعل ،
قالوا إذن تقتل ، قال : تقتلون عبد الله وأخاً لرسوله ، قال عمر : أما عبد الله
فنعم ، وأما أخاً لرسول الله فلا ، وابو بكر ساكت؟ فقال له عمر : ألا تأمر فيه
بامرك ، قال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمه إلى جنبه.
فلحق عليٌّ بقبر رسول الله قائلاً :
« يا ابن أم : إن القوم استضعفوني ،
وكادوا يقتلونني ».
(٢)
ظلامة الزهراء في انعطاف تاريخي
تثاءبت احتجات الأنصار باهتة ، وتبخرّت
أحلام المعارضة السياسية لبيعة أبي بكر ذائبة ، ولكن الآهات لا تهدأ ، والزفرات لا
ترقأ ، فقد انطلقت الشكوى الحزينة لابنة صاحب الرسالة ، تزمجر في الاُفق ، فتهتز
المدينة لها رقةً حيناً ، وجزعاً حيناً اخر ؛ فالزهراء حبيبة محمد ، وديعته عند
المسلمين ، ولهاحرمتها وقداستها ، وإذا بها ترسل ادلتها لمقالتها ، وتدلي بحججها
لظلامتها ، تطالب ابا بكر ، بفدك نحلتها ، وبإرثها من أبيها ، وبسهم ذوي القربى ،
تحاجج بمنطق القرآن ، وتناظر بلغة الوحي ، فاغمط عيناً دون ذلك ، ولجأ إلى
المعاذير ، واخترع حديث : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة » كما
يرى ذلك طه حسين .
وكان خبر واحد لا يفيد علماً ولا عملاً
، ولكنه أصر عليه ، فكذب دعواها في النحلة مع الشهود ، وتصرفها زمن أبيها ، ووضع
إلىد عليها ، وكلها أمارات تصدق دعواها ، وحرمها الميراث ولم يحرم أزواج النبي من
ذلك وانزل سهم ذوي القربى ـ وهو حق خاص منصوص عليه في التنزيل ـ في حساب المسلمين
ببيت المال.
__________________
نظرت الزهراء فإذا يدها صفر من كل شيء :
فدك ، الميراث ، السهم المفروض. فلا هي ترث أباها كالمسلمين ، ولا وضع يدها على
فدك يحول دون مصادرتها وفيها عمالها ورجالها ، ولا الحق الشرعي النازل من السماء
يصل إلىها ، وإذا بها رعية لا تملك شيئاً ، ومغتصبه لا تقدر على شيء ، ومنتهبة لا
فرصة لديها في استرداد حق أو استرجاع نصيب.
انتهت الحقوق المالية لديها الى زاوية
حادة كما انتهت الحقوق القيادية لزوجها إلى درب مسدود ، فعاد الاثنان علي وفاطمة
متساويين في الحرمان والاضطهاد ، ومتناظرين في المحنة والابتلاء.
واكبر الظن أن ابا بكر قد رد الزهراء في
الميراث والنحلة وسهم ذوي القربى ، لا تشكيكاً في صدقها ، فهو أعلم الناس بصدقها
في قرارة نفسه دون شك ، ولكنه احتاط لنفسه كثيراً ، ولمنصبه أكثر ، فما أراد أن
يأخذ على نفسه أمام المهاجرين والأنصار أنها صادقة ، إذ لو أخذ على نفسه ذلك لكان
في أشد الحرج وأعسر الضيق ، فما يدرينا ؛ فلعل الزهراء تأتيه غدا فتقول له إن أبي
قد نصّ على عليّ بالخلافة ، سمعتُ هذا ووعيت هذا ، فما هو موقفه يا ترى؟ وقد حكم
لها على نفسه بالأولى ، فما له لا يحكم لها في الآخرة ، إذن فليحسم الأمر منذ
لحظاته الأولى ، فالنبي لا يورث ، ولم ينحل الزهراء فدكاً والشهاد ناقصة : زوجها
يجرّ النار الى قرصه ، وأم أيمن أعجمية فيما يزعم عمر ، والحسن / والحسين صبيان لا
شهاد لهما ، أما وضع إلىد على فدك من قبل الزهراء في حياة أبيها ، وتصرفها في ذلك
جهاراً ، فأمر مغموض عليه ، أو أريد أن يغمض عليه ، وأما سهم ذوي القربى فيضعه
ببيت المال فالمأمور بإعطائه رسول الله وقد مات ، وكأن الحكم قد نسخ وإلى
اليوم ، وعسى علي أن
يستعين بالميراث والنحلة وسهم ذوي القربى ، فتتجمع حوله الأنصار وذوو المأرب ، أو
أنه ينفق ذلك بآراء معارضة ما ، أو مقاومة ما.
فما على أبي بكر إذن إلا أن يكفأ هذا
الإناء بما فيه ، ويغلق هذه المقالة من منافذها ، رضيت الزهراء أم غضبت ، شاء
المسلمون أم أبوا ، أذن علي أم اعترض ، فالسلطان فوق هذا كله ، فلا تردد ولا هوادة
، وهكذا كان.
هذا المال الطائل العريض من النحلة ،
وهذا الحق المفروض من السماء ، وهذا الشيء اليسير من الإرث ، لا حظ لفاطمة منه.
فقد عاد أثراً بعد عين ، ورسماً بعد وجود ، وتأريخاً مختلطاً قد يصدق وقد يكذب.
وهذه القيادة لعلي يافعاً وشاباً ومكتملاً في تثبيت الإسلام وإعلاء كلمته وتأسيس
قواعده وأركانه ، عفّى عليها الدهر ، وجرى بها الحدثان ، فلا يذكره متنفس ، ولا
يلهج باسمه متحدث ، فهو من فتيان هذه الأمة ، وهو من شباب الإسلام ، ولا مكان له
بين شيوخ قريش.
فالمصيبة ـ إذن ـ مشتركة بين الاثنين ،
جردّت الزهراء من حقوقها المالية ، وجرّد علي من شؤونه السياسية ، فعادا فرسي رهان
في الشكوى ، ورضيعي لبان في المأساة ، ومع هذا فما اتخذ الأثنان موقف المسالم ،
ولا مالا الى الهدوء والاطمئنان ، وإنما ركبا الطريق الى المجاهدة ، وسلكا محجة
العمل الواضح ، فعليٌّ لم يبايع أبا بكر طيلة حياة الزهراء يناظر ويجادل ويستقل ،
والزهراء تحتج بأبلغ صنوف الاحتجاج ، تستعدي المسلمين تارة ، وتخترق مجتمعهم العائلي
فتألب نساءهم تارة أخرى ، وتتناول القيادة بالشكوى والصراع والمجابهة أحياناً.
ومن البديهي عقليا أن الزهراء كانت
محقّة فيما أثارت من إنكار ، ومحقة أيضا فيما أظهرت من ظلامة ، ومحقة كذلك فيما
طالبت فيه من حقوق ، وذلك لأمرين مهمين :
الأول
: ما عرفت به الزهراء من قداسة وتورّع في ذات الله ، فهي أبر وأوفى من أن تدعّي ما
ليس لها من الحقوق ، ولم تكن لتخالف أباها فيما جاء به من سنن وفروض ، ولم تكن
متظلمة باطلاً ، ولا معارضة جزافاً واعتسافاً ، فهي أورع من هذا كله ، وهي أزهد
بحطام الدنيا مما يظن ، قلّ ذلك الحطام أو كثر.
الثاني
: لو كان هناك أدنى شبهة فيما عرضت ، لكان علي وهو أعلم الناس ـ بالقرآن والسنة ـ
بعد رسول الله 6
وأفقههم وأفضلهم ، لكان قد أبان لها وجهة النظر الشرعية وحكم السماء في دعواها ،
ولكنه كان على العكس من ذلك فقد ساندها وأيدّها وأظهر صدق ما جاءت به ، فعلم
بالضرورة صحة ما طرحت ، وصدق ما أدعت.
والمتتبع لسيرة الزهراء 3 منذ أن ترعرعت يجدها سيرة نضرة متكاملة
، أضفى عليها رسول الله 6
برداً من الخلق المحمدي ، وأدّبها بأدبه العظيم ، وبصّرها بأمور الدنيا والدين ،
فهي بضعة منه ، وقطعة من كبده ، وشجنة من جسده ، بل هي صورة من صوره الرائعة ،
غذّاها بالحكمة ، وأصطفاها بالمنزلة ، يرضيه ما يرضيها ، ويغضبه ما يغضبها ، وذلك
مضامين أحاديث نبوية شريف ، ولم يكن النبي 6
ليوارب في دينه ، ولم يكن لينساق بعاطفة الأبوة ، فما ينطق عن هوى ، ولا يصرّح عن
عصبية ، وإنما يضع الأمور في نصابها ، ويتحدث في حدود الشرع ، وهو أحق من أتبع ،
وأصدق من نطق ،
وكذلك كانت ابنته
منزهة عن الزلل ، وبعيدة عن الزيغ ، تقول صدقاً وتنطق حقاً.
قال ابن أبي الحديد : « سألت علي بن
الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد ؛ فقلت له : أكانت فاطمة صادقة؟ قال : نعم ،
قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكاً وهي عنده صادقة؟ ، فتبسم وقال : لو أعطاها
اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً ، وأدّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن
مقامه ، ولم يمكنه الإعتذار والمدافعة بشيء لأنه يكون قد أسجل على نفسه بأنها
صادقة فيما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ».
وهنا يكمن جوهر القضية فيما يبدو ،
فأراد أبو بكر إغلاق هذا الباب الواسع فأخترع « نحن معاشر الأنبياء لا نورث »
فهجرته فاطمة حينئذٍ ، ولم تكلمه حتى ماتت بإجماع المؤرخين إلا لماماً عند مرض
الموت فيما سنعرفه فيما بعد.
حقاً لقد أعذرت الزهراء 3 فيما حاججت به أبا بكر ، لقد جعلته
يغصّ بريقه ، ويتعثر بمعاذيره ، ولفتت إليها النظر العام في ظلامتها ، إذ اقتحمت
عليه مسجد رسول الله في تمام الأهبة ، فاحتجت وحرّضت واستصرخت وأبلت بلاءً حسناً ،
إحقاقاً للحق ، وإرضاءً للضمير ، وصونا لمعالم الدين من الإنحراف ، وإلا فهي أعلا
جانباً ، وأكرم محتداً ، وأطيب نفساً ، من أن تجنح للكلام جدلاً.
قال أغلب المؤرخين عن عائشة أم المؤمنين
وعن سواها من نساء المسلمين : لما سمعت فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدكاً
والأرث وسهم ذوي القربى ، لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في
لمة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم من مشية
رسول الله 6 شيئا فدخلت عليه وهو في حشد من
المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة فجلست ، ثم أنت أنةً أجهش لها
القوم بالبكاء فارتجّ المجلس ، ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت
فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسوله أبيها 6 فعاد القوم في بكائهم ، فلما أمسكوا
عادت في كلامها وقالت :
« الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر
على ما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها ،
وتمام نعم والاها ، جم عن الأحصاء عددها ، وتأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن
الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها ، واستحمد الى الخلائق
بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له
، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في التفكر معقولها ؛
الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيته ، إبتدع الأشياء
لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة إمتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها
بمشيئته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتاً
لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته ، وتعبّدا لبريته ، وإعزازاً
لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن
نقمته ، وحياشاً لهم إلى جنته ؛ وأشهد أن أبي محمد 6
عبده ورسوله ، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل
أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم
مقرونة ، علماً من الله بمآل الأمور ، وإحاطةً بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع
المقدور ، ابتعثه الله تعالى إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا
لمقادير حتمه ، فرأى
الإمم فرقاً في
أديانها ، عكفاً على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار
الله تعالى بأبي محمد 6
ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ،
وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم الى
الصراط المستقيم ، ثم قبضه إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار ، فمحمد 6 عن تعب هذه الدار في راحة قد حفّ
بالملائكة والأبرار ، ورضوان الرب الغفّار ، ومجاورة الملك الجبار صلى الله على
أبي نبيه ، وأمينه على وحيه وصفيه ، وخيرته من الخلق ورضيه ، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته ».
ثم التفتت الزهراء 3 إلى أهل المجلس وقالت :
أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة
دينه ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الأمم ، وزعيم حق له فيكم ، وعهد
قدّمه إليكم ، وبقية إستخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور
الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره ، منكشفة سرائره ، متجلية ظواهره ، مغتبط
به أشياعه ، قائد إلى رضوان الله اتباعه ، مؤد إلى النجاة استماعه ، به تنال حجج
الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه المخدرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه
الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة ، فجعل الله
الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية
للنفس ، ونماءً للرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والحج تشييداً للدين ، والعدل
تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملة ، وإمامتنا أماناً من الفرقة ، والجهاد
عزاً للإسلام ، وذلاً لأهل الكفر والنفاق ، والصبر معونة على استيجاب الأجر ،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامة ، وبر
الوالدين وقاية من
السخط ، وصلة الأرحام منسأة في العمر ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر
تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس ، والنهي عن شرب الخمر
تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، وترك السرقة إيجاباً للعفة ،
وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فـ ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء )
.
ايها الناس : اعلموا اني فاطمة ، وأبي
محمد 6 ، أقول
عدواً وبدءاً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً ، ( لَقَدْ جَاءكُمْ
رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )
فإن تعزوه
وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزي إليه ،
فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثبجهم ، آخذاً
بكظهم ، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسّر الأصنام ، وينكث
الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، وحتى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن
محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وأنحلّت عقدة
الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص ، في نفر من البيض الخماص ، وكنتم على شفا
حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ،
تشربون الطرق ، وتقتاتون القِدّ ، أذلة خاشئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم
، فانقذكم الله تبارك
__________________
وتعالى بابي محمد 6 ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ييهم
الرجال وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ
نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ) أو نجم قرن للشياطين ، أو فغرت فاغرة
من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد
لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمرالله ، قريباً من رسول الله 6 ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً
ناصحاً ، مجداً كادحاً ، وأنتم في بدهنية من العيش ، وادعون فاكهون امنون ،
تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال
، فلمّا اختيار الله لنبيه 6
دار انبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق
كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع
الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه
ملاحظين ، ثم استهظكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضباباً ، فوسمتم غير بلكم
، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ،
والرسول لمّا يقبر ، إبتداراً زعمتم خوف الفتنة.
( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ )
فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنى توفكون ،
وهذا كتاب الله بين أظهركم : أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، واعلامه باهرة،
وزواجره لائحة ، واوامره واضحة ، قد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تدبرون ، أم
بغيره تحكمون ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )
( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
__________________
الإِسْلاَمِ
دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
لم تلبثوا إلا ريثما تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها ،
وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ ، وإطفاء نور الدين الجليّ ،
وإهماد سنن النبيّ الصفيّ ، وتسرون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله في الخمر
والضراء ، ونصبرمنكم على مثل حزّالمدى ، ووخز السنان في الحشا ، وأنتم الآن تزعمون
أن لا إرث لي.
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )
أفلا تعملون بلى قد تجلى لكم كالشمس
الضاحية أني ابنته.
ويهاً أيها المسلمون أأغلب على إرثي ،
يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فرياً ،
أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ
دَاوُودَ )
وقال فيما اقتص من خبر يحيي بن زكريا 7
( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (٥)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ )
وقال : (
وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) .
ايها بني قيلة ـ تريد الانصار ـ أأهضم
تراث أبي ، وانتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع ، تلبكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة
، وأنتم ذوو العدد والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجنّة ، توافيكم الدعوة فلا
تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون
__________________
بالكفاح ، معروفون
بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي أختيرت لنا أهل البيت ،
قاتلتم العرب ، وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الاُم ، وكافحتم البهم ، فلا نبرح
وتبرحون ، نأمركم فتأمرون حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام ، وخضعت
نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوت الهرج ، واستوسق
نظام الدين ، فأنّى حرتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ،
وأشركتم بعد الإيمان ، بؤساً لقوم ( نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ )
ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض ، وركنتم
إلى الدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ووسعتهم الذي تسوغتم فـ ( إِن تَكْفُرُواْ
أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني
بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتهاقلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، وبثة
الصدر ، ونفثة الغيظ ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف
، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة التي
تطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )
وأنا ابنة
نذير لكم بين يدي عذاب شديد ( اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ
إِنَّا عَامِلُونَ )
.
فاجابها ابو بكر بقوله : « يا ابنة رسول
الله لقد كان ابوك بالمؤمنين
__________________
عطوفاً كريماً
رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، فإن عزوناه وجدناه
أباك دون النساء ، وأخاً إلفك دون ألاخلّاء ، آثره على كل حميم ، وساعده في كل أمر
جسيم ، لا يحبكم إلّا كلّ سعيد ، ولايبغضكم إلّا كلّ شقي ، فأنتم عترة رسول الله 6 الطيبون ، والخيرة المنتجبون ، على
الخيرأدلتنا ، وإلى الجنة مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ،
صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا مصدودة عن صدقك ،
والله 6 يقول : «
نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ، ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث
الكتاب والحكمة ، والعلم والنبوة ، وما لنا من طعمة فلوليِّ الأمر بعدنا أن يحكم
فيه بحكمة ». وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ،
ويجاهدون الكفار ، ويجادلون المردة الفجار ، وذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به
وحدي ، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك ، وبين يديك ،
لا تزوى عنك ، ولا تدّخر دونك ، وأنت سيدة اُمة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا
يدفع مالك من فضلك ، ولا يوضع من فرعك وأصلك ، وحكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل
ترين أني أخالف في ذلك أباك 6
».
فقالت الزهراء 3 :
« سبحان الله ما كان أبي رسول الله 6 عن كتاب الله صادفاً ، ولا لاحكامه
مخالفاً ، بل كان يتبع أثره ، ويقتفي سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه
بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل
في حياته ، هذا كتاب
الله حكماً عدلاً وناطقاُ فضلاً ، يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ
آلِ يَعْقُوبَ )
ويقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ
دَاوُودَ )
فبين عزّ
وجلّ فيما وزع من الاقساط ، وشرع من الفرلئض والميراث ، وأباح من حظ الذكران
والاناث ، ما أزاح علة المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغارين ، كلا ( بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
)
وقال : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي
أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ )
وقال: : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )
وزعمتم أن لا خطوة لي ، ولا إراث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصكم الله باية أخرج
منها ابي 6. أم تقولون
أهل ملتين لا يتوارثان ، أولست أنا وابي من أهل ملة واحدة ، أم أنتم أعلم بخصوص
القران وعمومه من ابي وابن عمي ، فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم
الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيمامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا
ينفعكم إذا تندمون ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )
( مَن يَأْتِيهِ
عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
) .
ثم رنت بطرفها نحو الانصار وقالت :
يا معشر الفتية ، وأعضاد الملة ، وحضنة
الاسلام ، ماهذه الغيميزة
__________________
في حقي ، والسنة عن
ظلامتي ، أما كان رسول الله 6
ابي يقول : « المرء يحفظ في ولده » سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة
بما أحاول ، وقوة على ما أطلب وأزاول ، ، اتقولون مات محمد فخطب جليل ، أستوسع
وهنه ، وأستنهر فتقة ، واتفتق رتقه ، واظلمت الارض لغيبته ، واكتابت خيرة الله
لمصيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت الامال ، وخشعت
الجبال ، وأضيع الحريم ، وأريلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ،
والمصيبة العظمى ، التي لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جلّ
ثناوه في أفيتكم فى ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً وتلاوة ، ولقبله ما حلت بانبياء
الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ )
فقال ابو بكر : « صدق الله وصدق رسوله ،
وصدقت ابنته ، أنت معدنع الحمكة ، ومطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، لا أبعد
صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هولاء المسلمون بيني وبينك ، قلدّوني ما تقلدت ، وباتفاق
منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبد ولا مستاثر ، وهم بذلك شهود ».
فالتفتت فاطمه 3 إلى الناس وقالت :
« معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ،
المغضية على الفصل القبيح الخاسر ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )
كللابل ران على قلوبكم ما أساتم من أعمالكم ، فاخذ بسمعكم وأبصاركم ،
__________________
لبئس ما تأولتم ،
وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه إعتضتم ، لتجدّن والله محمله ثقيلاً ، وغبّه وبيلاً
، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراء الضراء ، وبدا لكم ما لم تكنوا تحتسبون ،
وخسر هناك المبطلون )).
ثم عطفت الزهراء على قبر النبي 6 وأنشدّت :
قد كان بعد انباء وهنبثة
|
|
لوكنت شاهدها لم تكثر الحطب
|
إنا فقدناك فقد الارض وابلها
|
|
واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
|
قال صاحب بلاغات النساء : فما رأينا
يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم.
قال السيد المرتضى علم الهدى ( ت : ٤٣٦ هـ
) والشيخ الاكبر أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى ( ت :٤٦٠ هـ ) ثم انكفأت وأمير
المومنين يتوقع رجوعها إليه ، ويتطلع طلوعها عليه ، فلما استقرت بها الدار عتبت
على أمير المومنين بكلام شجّي قالت في آخره :
« ما كففت قائلا ، ولا أغنيت طائلا ...
ويلاي في كل شارق ، ويلاي في كل غارب ، مات العمد ، ووهت العضد ، شكواي إلى أبى ،
وعدواي إلى ربي ».
فقال لها أمير المومنين 7 : « لا ويل لك ، بل الويل لشانئك ،
نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطات مقدوري
، فان كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون ، وكفيلك مامون ، وما اعد لك أفضل مما قطع
عنك فاحتسبي ».
فقالت الزهراء 3 : حسبي الله ، وأمسكت.
(٣)
شكوى الزهراء وخطبها يشقّان عنان السماء
شقّت شكاية الزهراء 3 عنان السماء ، وبلغت تخوم الارض ،
فتزلزت ضمائر الناس ، وتنهدت قلوب المومنين ، والزهراء غضبى فى منزلها ، تنتابها
العلل ، وتفترسها الآلام ، وتلح عليها الامراض ، وشاع بين المهاجرين والانصار
غضبها واعرضها عن القوم ، وقد أظهرت هذا المعنى لنسائهم ، فنقلن كل مها ، وما
تفوهت به الى الرجال ، منكرة تقاعسهم عن نصرتها ، وقعودهم عن نجدتها فقد روى ابو
بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن رجاله عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت
الحسين بن على 8
، وكذلك ابن ابي الحديد ، ذلك في « السقيفة » وهذا في « شرح النهج » وسواهما من
المؤرخين قالوا :
لما مرضت الزهراء 3 المرض الذي توفيت فيه ، واشتدت عليها ،
اجتمعت اليها نساء المهاجرين والانصار ليعدنها ، فلسمن عليها وقلن لها : كيف اصحبت
من علتك يا بنت رسول الله 6
فحمدت الزهراء الله تعالى ، وصلت على ابيها ، ثم قالت : « أصحبت والله عائفة
لدنياكن ، قاليةً لرجالكن ، لفظتهم بعد أن عجمتهم ، وشناتهم بعد أن سبرتهم ،
فقبحاً لغلول الحد واللعب بعد الجد ، وقرع الصفاة ، وصدع القناة ، وخطل الاراء ،
وزلل الاهمواء ولـ ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ
لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن
سَخِطَ
اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) .
لا جرم والله لقد قلدتهم رقبتها ،
وحملتهم أوقتها ، وشننت عليهم غارتها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين ،
ويحهم أنى زعزعوها عن رواسى الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح
الامين ، والطبين بامور الدنيا والدين ( أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ )
وما الذي نقموا من ابي الحسن؟ نقموا منه
والله نكير سيفه ، وقلة مبالاته بحتفه ، وشدة وطاته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات
الله عزّ وجلّ ، وتاالله لو مالوا عن المحجة اللائحة ، وزالوا عن قبول الحجة
الواضحة ، لردهّم إليها حملهم عليها وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه اليه رسول الله
6 ، لا عتقلهم
، ولسار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولايكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولا
وردهم منهلاً صافياً روياً فضفاضاً ، تطفح ضفتاه ، ولا يترنق جانباه ، ولا صدرهم
بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً ، ولم يكن يتحلى من الغنى بطائل ، ولا يحضى من
الدنيا بنائل ، غير ري الناهل شبعة الكافل، ولبان لهم الزاهد من الراغب ، والصادق
من الكاذب ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم
بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ )
.
( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) .
الا هلم فاستمع ، وما عشت اراك الدهر
عجباً ( * وَإِن تَعْجَبْ
__________________
فَعَجَبٌ
قَوْلُهُمْ )
ليت شعري
الى اي لجا لجاوا ، والى اي سناد استندوا ، وعلى اي عماد اعتمدوا ، وباي عروة
تمسكوا ، وعلى اي ذرية قدموا واحتنكموا.
( لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ
الْعَشِيرُ )
( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ
بَدَلًا )
.
استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ،
والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسبون صنعاً ( أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .
ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ )
.
اما لعمري لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج
، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً ، ذعافاً مبيداً ، واطمئنوا للفتنة جاشاً ،
ابشروا بسيف صارم ، وسطوة معتد غاشم ، وبهرج دائم شامل ، واستبداد من الظالمين ،
يدع فياكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرة لكم ، واني بكم ، وقد عميت عليكم (
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ).
قال سويد بن غفلة : فاعادت النساء قولها
على رجالهن ، فجاء اليها قوم من لمهاجرين والانصار معتذرين ، وقالوا : يا سيدة
النساء لو كان ابو الحسن ذكر لنا هذا الامر من قبل ان يبرم العهد ، ويحكم
__________________
العقد ، لما عدلنا
عنه الي غيره.
فقالت الزهراء : اليكم عني ، فلا عذر
بعد تعذيركم ، ولا امر بعد تقصيركم.
وواضح ان الزهراء في هذه الخطبة لم
تتطرق لحقوقها المالية ، وانما عرضت جهاراً الى القضية الكبرى ، وهي خلافة النبي 6 ، واحتجب لها بامور او جزتها على النجو
الاتي :
١ ـ تعنيفها للمهاجرين والانصار على ما
اقدموا عليه من استبعاد على عن الخلافة ، وهو ركن من اركان الرسالة ، والوريث
الشرعي لقواعد النبوة ، والواعي بعقله وبصيرته اسرار الواحي ، والخبير الفطن
الحاذق بامور الدنيا والدين.
٢ ـ او عزت هذا الاستبعاد للامام 7 لما نقموا من الامام ، فسيفه يقطر من
دماء الطواغيت ، واقدامه يزري بالمترددين ، فهو لا يبالي بحتفه اوقع على الموت ام
وقع الموت عليه ، لانه شديد الولطاة على المشركين ، ينكل بهم ، متمزاً في ذات الله
لا يخشي في ذلك لومة لائم ، مستقيماً لا ينحرف ، ومعهتدلاً لا يتاود.
٣ ـ اوضحت الزهراء الخصائص القيادية
التي توْهل الامام علي لقيادة الامة ، فلو مال المسلمون عن الجادة ، وزالوا عن
قبول الحخة ، لردهم اليها وحملهم عليها ، ولسار بهم سيرة رسول الله في الصغيرة
والكبيرة ، فهو ممسك بزمام الامرفي ضوءهدي الرسول وتعليماته.
٤ ـ استظهرت الزهراء في هذا الاحتجاج ،
وهذه المقارنة ، سيرة الامام لو قدر له ان يتسلم السلطان ، فسيره باسجاح واسماح
ومرونة دون شدّة ولا اضطراب ، حتي يستهوي المسلمين بهداه ، فيواصلون
المسيرة امنين
مطمئنين حتي الغاية القصوى ، فيوردهم بذالك النمير الصافي الروي الفضفاض الغزير
المتطامن الذي تطفح ضفتاه فتبعد القذى والشوائب ، فيعود مصدراً نقياً ، ومورداً
عذباً ، لا رنق فيه ولا غصة ، فيصدر المسلمون بطاناً ، وتفتح لهم السماء بركاتها.
٥ ـ وعطفت الزهراء باستظهار الخصائص
النفسية ، والطبيعة السلوكية للامام علي ، فهو ينصح للمسلمين في السر والعلن ، وهو
يواسيهم في المكاره والمحن ، فلا يحتجن لنفسه مالاً ، ولا يحتجز دونهم طائلاً ،
زاهداً لا يحظى من الدينا بنائل ، إلا ما يفتات به لتقويم أوده ، وإقامة صلبه ،
فعيشه الكفاف ، وحياته القناعة ، وبذلك يتميز عن الراغبين في الحكم لذاته ،
والحائدين عن الصدق في إدارة دفة الحكم.
٦ ـ انحت الزهراء باللائمة على قريش في
ابتزازها أمر الخلافة دون الالتجاء الي ركن وثيق ، أو التعلق بحبل متين ، فلا سناد
ولا عماد سوى الاثرة والاستئثار فاقد موا على ال الرسول واحتنكوا ضدهم ظالمين لهم
، وهم بذلك يستبدلون الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطسهم إذ
يحسبون أنهم يحسنون صنعاً إلا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، فالحق احق ان
يتبعّ.
٧ ـ ولخصت الزهراء 3 ما ينتظر للامة من الفتن ، وسفك الدماء
، واستيلاء الفوضى ، فلا الحقوق مصونة ، ولا الحرمات بذمة ، ولا الاحكام عادلة ،
وانما هو السيف الصارم ، والسطوة للمعتدي الغاشم ، والهرج الدائم المستمر ،
واستبداد الظالمين ، فالفيء زهيد ، والجمع حصيد ، حيث لا تنفع الحسرة ، وقد عميت
عليهم من كل الجهات.
وكان لهذه الخطبة على وجازتها اثر أي في
استنجاد الهمم ،
واستثارة العواطف ،
وقد وضعت الزهراء فيها النقاط على الحروف ، فلم تكن اعتباطية المنشا ، ولا عاطفية
المصدر ، ولكنها الحجاج الصارخ في لغة القوم ولقد عز على ابى بكر وعمر هذا المنجى
وساءتهم هذه المقالة فارادا امتصاص النقمة عسى ان تعود المياه الى مجاريها كما
يقال ، فتشاورا فيما بينهما ، فقرّ الراي ان ينطلقا الى الزهراء عسى أن تغضي شيئاً
ما ، إن لم ترضَ كل الرضا ، فسارا إلى بيتها ، وإستأذنا على فاطمة ، فأبت وردّهما
ثم استأذنا عليها فأبت وردتهما ، فما كان منهما إلا أن ذهبا إلى علي 7 يستعطفانه في الإذن لهما ، فأعطاهما
ذلك ، وهو المعروف بحيائه ورقتّه وصفائه ومروئته ، فقد أبت مكوناته النفسية أن
يردّهما أو يرفضهما ، وفاوض الزهراء بذلك وعرض عليها الأمر ، فقالت : البيتُ بيتك
، والحرة زوجتك ، فطارا فرحاً بهذا الإذن ، ودخلا على الزهراء فسلما فلم تجب ، وقعدا
أمامها في ذلة وخضوع ، فحولت بوجهها عنهما إلى الحائط ، وألحّا في الكلام ، وألّحت
بالسكوت ، وحرصا على السؤال ، فحرصت على عدم الإجابة ، وأعاد أبو بكر حديث الإرض
وسهم ذوي القربى وفدك ، فأعرضت عن الخوض في ذلك ، وأضربت عنه صفحاً ، فهي أكبر من
المال ، وأوسع قلباً من الأرض ، فقد هُدرت كرامتها ، وجُرحت كبرياؤها ، وأستهين
بقدرها ، وهي وديعة رسول الله 6
في الأرض ، وألحف الشيخان في أن تكلمهما إلحافاً ، وأصرا في ذلك إصراراً ، فقالت
لهما ، بعيداً عن المناخ الذي كانا فيه :
« أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول
الله 6 تعرفانه
وتعملان به ، فأجابها الشيخان نعم. قالت : نشدتكما الله ... ألم تسمعا رسول الله 6 يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة
من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد
أرضاني ، ومن أسخط
فاطمة فقد أسخطني ».
قالا : قد سمعناه من رسول الله.
فرفعت كفيها إلى السماء وقالت :
« فإني أشهد الله وملائكته أنكما
أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت رسول الله لأشكوكما إليه ».
فوقع كلامها منهما وقوع الصاعقة ، وقاما
يتعثران بأذيال الخيبة ، وعلما مدى غضب الزهراء ، وأجهش أبو بكر بالبكاء وكان رقيق
القلب ، وأنّبه عمر على هذه الرقة ، وزاد همّ أبي بكر وحزنه ، وتلاشى أمله ورجاؤه
، وطفق إلى المسلمين ملتمساً أن يقيلوه من خلافتهم ، وكان التماسه هذا بعد فوات
الأوان.
وما برحت الزهراء 3 طريحة فراش ، وضجيعة متكأ ، تنتابها
برحاء المرض ، وتودي بزهرة شبابها لوعة الأسى ، وتخنق أنفاسها مرارة الألم ، حتى
قرب أجلها ، ودنا رحيلها ، وهي معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، يخشى
عليها ساعة بعد ساعة ، ولم يطل بها المقام بعد أبيها إلا ستة أشهر في أكثر
الروايات مدة ، وأطولها زمناً.
ثم استدعت علياً ، وأوصته بوصاياها
الخاصة والعامة ، وقالت : « إني أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على
قبري ، وأدفني بالليل ، ولا تعلم أحداً ».
وكان هذا إمعاناً في النكير على القوم ،
وإظهاراً للغضب والنقمة يؤكد ذلك أيضاً البند الثالث من وصيتها الخطبة لأمير
المؤمنين 7 :
« أن لا يشهد أحداً جنازتها ، ممن كانت
غاضبة عليهم ، وأن لا
يصلي عليها أحد منهم
، وأن يدفنها ليلاً ، إذا هدأت العيون ، ونامت الأبصار ، وأن يعفي قبرها ».
وتوفيت الزهراء غروباً ، فضجت المدينة
ضجة واحدة ، واجتمع الناس إلى عليّ 7
يريدون تشييعها ودفنها ، فخرج إليهم سلمان وقال : إن ابنة رسول الله قد أخر
إخراجها هذه العشية. ولما انصرف القوم غسّلها عليّ 7
، وحنطها بفاضل حنوط رسول الله 6
وصلى عليها ، وأخرجها بعد هزيع من الليل ، ودفنها ليلاً سراً ، وعفّى قبرها.
واختلف في موضع قبرها ؛ فقيل في البقيع
، وقيل في الروضة بين قبر رسول الله 6
ومنبره ، وقيل إلى جنب رسول الله 6
أو في القرب منه وهو الأقرب في أكبر الظن ، لأن عليا عمّى موضع القبر ، وصنع في
البقيع عدة قبور للتغطية ، فأشكل عليهم موضع القبر وموقعه ، وهو نفسه يشير إلى
أنها في جوار أبيها كما سيأتي.
ووقف عليّ 7
على قبر الزهراء 3
، وهو يرمقه بطرفه ، ويحول وجهه إلى جهة قبر رسول الله 6 ويقول ، وهو يغصّ بالشجا ، والدموع
تترقرق بين عينيه ، والحسن والحسين بين يديه :
« السلام عليك يا رسول الله ، عني وعن
ابنتك النازلة في جوارك ، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك ؛ قلّ يا رسول الله عن
صفيتك صبري ، ورقّ عنها تجلدي ، إلا أن في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع
تعزّ ، فلقد وسدتك في ملحود قبرك ، وفاضت بيين نحري وصدري نفسك ، بلى وفي كتاب
الله لي نعم القبول ، إنا لله وإنا إليه راجعون. قد أسترجعت الوديعة ، وأخذت
الرهينة ، واختلت الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله ، أما حزني
فسرمد ،
وأما ليلي فمسهّد ،
إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ... وستنبئك إبنتك بتضافر أمتك على
هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى
بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم الله ، والله خير الحاكمين. والسلام عليكما سلام مودّع
لا قالٍ ولا سئم ، فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن اقم عن سوء ظن بما وعد الله
الصابرين ... فبعين الله تدفن ابنتك سراً ، ويهضم حقها ، وتمنع إرثها ، ولم يطل
العهد ، ولم يخلق منك الذكر ، إلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك يا رسول الله
أحسن الغراء ، صلى الله عليك ، وعليك و3
والرضوان ».
قال الحاكم في المستدرك لما ماتت فاطمة
قال علي بن أبي طالب :
لكلّ إجتماعٍ من خليلينِ فرقة
|
|
وكل الذي دون الفراق قليلُ
|
وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد
|
|
دليل على أن لا يدوم خليلُ
|
وعاد عليّ 7
إلى منزله يتجرع ألم فراق الزهراء ، ويعاني من ضروب الوحشة ما شاء أن يعاني ، فقد
كانت الزهراء سلوته بعد رسول الله 6
وليس رسول الله مما يسلى عنه ، وعطف إليه ولديه الحسن والحسين ، وثلة صغيرة من بني
هاشم والأنصار ، ونظر في الأفق البعيد ، فرأى الأجدر به أن يبايع القوم ، فلقد قلّ
ناصره بعد الزهراء ، وقد لاحت إمارات الأرتداد في الأفق ، وعليّ أولى الناس
بالغيرة على جوهر الإيمان ، وهو أكثر الناس رفقاً ، وأمسهم رحماً بوشائج الناس ،
وهو قد أبلغ في الإعذار إلى ربه وإلى المسلمين وإلى نفسه في كشف ظلامته ، وتناهت
أخبار هذا العزم إلى أبي بكر ( رض ) فقصده إلى داره ، وأقبل مهرولاً إليه ،
فاستقبله عليّ استقبال الصديق ، وهش إليه ابو بكر ، وكأن
شيئاً لم يكن ،
فعليّ حريص كل الحرص على مظاهر الكمال والأدب واللياقة ، وهو أزهد الناس بالأثرة
والنفع الخاص ، وهو أبعد الناس عن زبارج الدنيا وزخارف الحياة ، وما عليه إلاّ أن
يري القوم آداب الإسلام ، وملامح العرفان ، ونقاء السريرة ، فالتفت إلى أبي بكر ،
وقال : « إنه لم يمنعنا من أن نبايعك نفاسة عليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا
الأمر حقاً ، فاستبددتم به علينا ».
وحتى في هذا الموقف الدقيق الذي شرح فيه
صدره للألفة ، وفتح قلبه ليتناسى الماضي القريب ، أكد حقّه في الأمر ، وأبان وجهة
نظره في إيجاز واقتضاب.
ومهما يكن من أمر فقد دخل في بيعة الرجل
، ودخل معه من امتنع عن ذلك ، وكان هذا أول الهدوء الذي دخل على أبي بكر ، وأول
العزوف لعلي عن قيادة الحكم ، وكان عليّ من خلال هذا وذاك عيبة نصح ، وخزانة أمانة
، وكنز معرفة ، يُسأل فيجيب ، ويُستشار فيشير ، ويُؤتمن فيوّفي كلما حزب بالمسلمين
أمر ، وكلما فجأهم حدث ، وكلما تعثرت الخلافة في مسيرتها ، ولم يكن ذلك جديداً على
عليّ 7 ، فهو أول
متخرج في مدرسة رسول الله 6
وهو أول منظّر لها علمياً وعملياً ، وهو بعد وفيّ كل الوفاء لمبادئ هذه المدرسة
روحاً وإنسانية ، وهو حدب على إعلاء كلمتها وإبقاء عطائها ، وانتشار مناهجها ، حتى
ولو كان ذلك على حسابه الخاص.
يا لها من بصيرة نافذة ، ونية صادقة ،
جعلته في مصاف الخالدين.
(٤)
الثورة المضادّة للإسلام وأعاصير الرِدّة
عصفت أعاصير الثورة المضادّة للإسلام
عند بيعة أبي بكر ( رض ) وهبت رياح الردّة والإنتكاس لدى تسلمه السلطة ، فكان
المرتّدون يغشون أطراف الجزيرة العربية بعامة ، ويحتلون غربيها وجنوبيها بخاصة.
وكان مصطلح الإرتداد ، يعني جماعة
المتنبئين الكذبة من جهة ، ويشير إلى الممتنعين عن أداء الزكاة من جهة أخرى ، فكان
الأسّود العنسي ، وطليحة الأسدي ، ومسيلمة الكذاب يدعّون النبوّة زوراً وبهتاناً ،
وكان بنو حنيفة وطوائف من العرب يمتنعون عن دفع الزكاة. وكان الملحظ الأخير
متأطراً بثلاثة مظاهر :
الأول
: إلغاء فرض الزكاة فلا تدفع باعتبارها
أثاوة لا تعرفها العرب.
الثاني
: التوقف من دفع الزكاة حتى يتجلى أمر
القائمين بعد رسول الله 6.
الثالث
: دفع الزكاة ولكن لغير الخليفة الرسمي
، فهي موقوفة كما تشير إليه بعض النصوص ، حتى قال قائلهم : أين الذي بخبختم له في
الغدير ، ومعنى هذا احتجاز الزكاة وتسليمها إلى الإمام علي 7.
وكان ادعاء النبوة حيناً ، ومنع الزكاة
حيناً آخر ، يشكّلان خطراً لا
على البيعة فحسب بل
على الإسلام والنظام الجديد كله.
وكان على أبي بكر وقيادته التهيؤ لذلك في
مجابهة جدّية لا هوادة معها ، وإعداد القوة الكافية لهذا الخرق الكبير ، فيظمّت
البعوث ، وسيرّت الجيوش ، وتناخى المسلمون لذلك ، وقامت المعارك على قدم وساق ،
كان فيها النصر المحتم للإسلام دون شك.
وكان لا بد أن تحصل جملة من التجاوزات
لطيش القادة ، وفتك المتسلطين ، كما حصل هذا المعنى لخالد بن الوليد في قتل مالك
بن نويرة وعشيرته الأقربين ، دون مسوّغ شرعي ، فهم مسلمون صالحون ما بدلوا ولا
غيروا ، مما أغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً ، وهم بخالد ومعاقبته ، ولكنه جوبه
بعفو أبي بكر وصفحه.
وكان على علي 7 ، وهو القائد المجرب والإمام المحنّك ،
أن ينظر لما حوله من الأحداث الجديدة بعين اليقظة والحذر ، وأن يتدارك من الخطر ما
عسى أن يحصل ، وهذا وذاك يقتضيان منه التريث في شأن حقوقه في قيادة الأمة ،
فالإسلام الآن في محنة حقيقية ، والدعوات الضالة تريد إقتلاعه من الجذور ، فتجاوز
عن كثير من الإساءات الأساسية التي وجهت إليه ، ونصح للإسلام بكل ما يستطيع ،
إبقاءً للشهادة ، وتحوطاً للمسلمين ، وحرصاً على وحدة الكلمة.
كان على علي 7 الانشغال بالأهم عن المهم ، والإلتفات
إلى الحق العام دون حقه الخاص ، وهذا شأن الصديقين ودعاة الحق ، وهكذا كان ، إذ أن
ما حدث للعرب من الإرتداد ، وما صاحب بعضهم من منع الزكاة ، حريّ بأن يجر على
الإسلام من الوهن والضعف ، والله أعلم بحقيقته لو ترك دون مجابهة.
فما أراد عليّ بنفسيته المتألقة النقض
والإبرام ، ولا حاول الأخذ والردّ ، وإنما أبقى الأمور على طبيعتها ، وترك السياسة
على سجيتها ، ناصحاً حيناً ، وموجهاً حيناً آخر. وما يدرينا فلعله رمق الأفق ،
وتطلع إلى ما فيه من تناقض ، وأدرك ما عليه الناس من الفوضى ، وما تهيأه الأقدار
من الظروف الشاقة على الإسلام ، وما تفرزه النفوس القلقة من الأحقاد ، فألقى حبلها
على غاربها في حدود أحقيّته بالأمر ، وإضطلاعه بالمسؤولية ، إذ لا يطاع لقصير أمر
، وقد سبق السيف العذل كما يقال.
وما علمنا مشاركة علي 7 في هذه الأحداث الجسام قائداً أو
محارباً ، إما اعتزالاً لها ، أو منعاً من التحرك باتجاهها كما هو الظاهر ، فقد
كان هو وأمثاله من عليّة المهاجرين قد ضرب النطاق حولهم في عدم الغزو أو السفر أو
الإرتياد ، فعليهم أن يحيط بهم سور المدينة وحده ، لا يختلفون إلى الناس ، ولا
يختلف الناس إليهم ، فقد كفاهم من الجهاد ما جاهدوا بين يدي رسول الله 6.
كانت هذه سياسة القوم ، وكان على عليّ 7 أن ينفذها راغباً أو راهباً.
وقد قسم عليّ حياته على أنحاء في إدارة
شؤون آخرته ودنياه :
١ ـ التفرغ لجمع القرآن تنزيلاً
وتأويلاً.
٢ ـ الدعوة إلى الإسلام من خلال بيان
تعليماته ، ونشر أحكامه.
٣ ـ الخروج إلى ينبع وأطراف المدينة
للمزارعة والمساقاة.
٤ ـ التواري عن المناخ القيادي ، فهو
أحد الناس له ما لهم وعليه ما عليهم.
لم يتجاوز عليّ 7 هذه المحاور في أكبر الظن ، وما كان
ليتجاوزها ولا أن يخرج عنها وهو الناقد البصير ، إذ وجد نفسه محاطاً بالعيون
والأرصاد خشية كرّته في المطالبة بالأمر.
وما كان لعلي 7 وهو الزاهد المجاهد أن يقوم بحركة ما
يكون ضحيتها الإسلام في كيانه واستقراره ، ويكون وقودها الخيرة الصالحة من أتباعه
ومؤيديه ، بل ذهب إلى ما هو خليق به في صيانة الإسلام ، والإبقاء على أعيان
الصحابة من الإستئصال والفناء ، ولم يمنعه هذا من شرح قضيته ، وإعلان مظلوميته
بالوسائل السلمية ، إيذاناً بالحق لا رغبة في متاع أو سلطان ، وترجماناً لمعالم
الطريق في الهداية والتبصر لا حباً للمعارضة والتذمر.
ولم تكن تخفى هذه الحقائق على أعلام
المهاجرين وأعيان الأنصار ، ولم يكن بمنأى عن ادراكها الحزب الحاكم بأقطابه
الثلاثة ، فوقف بعضهم منه موقف المنتظر الراصد ، ووقف بعضهم الآخر موقف المترصد
الرقيب ، وسلم من بين هذين الرجل الذي إستحب تولية المستضعفين في الأرض ، وتهيأة
رائدي عدالة السماء في الأرض ، وإنعاش أصحاب الحقوق الضائعة في الأرض ، ليقيم حقاً
، ويدحض باطلاً ليس غير ، وسدر عنه من سار بركاب الحكم لا يلوي على شيء من تلك
الموازين.
كانت شخصية أمير المؤمنين تتجلى كلمّا
أدلهمّ الخطب ، ونفسيته تتألق كلما ازداد النكر والغدر ، وعقليته تتفوق كلما هبطت
المطامع بالعقول ، فبدا مناراً شامخاً لا تهزّه العواصف ، وكوكباً هادياً لا تحجبه
الأستار ، يتمتع بالهيبة من العدو والصديق ، ويتجلبب بالعزّة لدى القريب والبعيد ،
يُلتجأ إليه في الشدائد فيشق غمارها بثاقب رأيه ،
ويلتمس عند المحن
فيكشف ظلمتها بحديد نظره ، مرتفعاً بمستواه القيادي عن صغائر الأمور ، متواضعاً في
نفسه عند مواضع الزهو والفخر ، تحسبه مطمئناً وهو يضطرب تحرقاً على الإسلام ،
وتخاله مضطرباً وهو أثبت من الجبال الرواسي ، لم يألف الدنيا ولم تألفه الدنيا ،
كان وكده كلمة التوحيد ، وكان شغله توحيد الكلمة ، وإن ظل جليس بيته حيناً ، ورهين
مزرعته حيناً آخر.
وكانت ضخامة تضحيته في هذا الملحظ
تتناسب وضخامة الأحداث ، فما كان المسلمون لينشغلوا بمنحى الردّة ، وحروب الردّة ،
ونتائج الردّة ، وينشغل عليّ بطلب الحكم وإيثار السلطان ، فقد نشأت نفسه وترعرت في
نصرة دين الله ، وقد صحت عزيمته وقويت شكيمته في الذود عن دين الله ، فليتناس عليّ
حقه إذن ولو إلى حين ، وليضرب صفحاً عن هذا الحق المضيع فقد أباه قومه عليه دون
مسوغ واع ، ولكنه نكير سيفه على المشركين ، وشدة وقعته على قريش ، وقد تألبت
القلوب عليه ، ولا سبيل إلى صفائها ، وقد كرهت القبائل صولته وجولته في صدر
الإسلام ، ولا أمل في التحبب إلى نفوسها ، وذو الفقار يقطر من دماء فتيانهم في بدر
وأحد ، ورؤوس أبطالهم تندر بسيف علي في المشاهد كلها.
هذا هو السبب الحقيقي الأول في الإغماض
عنه ، والتنكر له ، وتر القلوب ، وأوغر النفوس ، والجاهلية هي هي في أحقادها ،
وأنى تنزع هذه الأحقاد ، وتنسى تلكم الأوغار ، وعليّ هو هو في صلابته ، وذلك السيف
بيده ، وإن عادوا عاد.
وناحية ثانية ليست أقل أهمية من الأولى
، كونه امتداداً لنبوة محمد 6
ولم يجدوا من محمد 6
إلا النضال المستمر ، والحمل
على الطريق المستقيم
، وهذه الدنيا تلقي بزهرتها في أحضانهم ، وتزجر بنعيمها بين ظهرانيهم ، فليس لهم
إذن مع علي إلا النضال نفسه ، والزهد نفسه ، والحمل على الجادّة نفسها ، والنفوس
أميل إلى الترف والبذخ والدعة منها إلى القصد والاعتدال والمجاهدة.
وظاهرة ثالثة توازي ما تقدم إلا وهي حب
الرئاسة والإنفراد بالأمر والإستيلاء على السلطة ، وتلك طبيعة قريش في
أُرستقراطيتها ، وذلك منهجها في إثرتها ، وعليّ في مقتبل العمر وعنفوان الشباب ،
وعسى أن تطول مدته ويتمهل الزمن ، وإذا حدث ذلك فقد رسخ حكمه ، واستقر نظامه ، ولا
أمل في العودة إلى الوراء.
كل أولئك وسواء كان وراء إقصائه عن
المرجعية في الدين.
فإذا أضفنا إلى ذلك قرب العهد بالجاهلية
، وضعف الوازع الديني ، وإنشقاق الأنصار فيما بينهم ، وإشفاق المهاجرين من ضياع
الفرصة ، وقد فجأ الإسلام حدث الشقاق ، ودهم المسلمين خطر الإرتداد ، وجدنا الأمثل
بأمير المؤمنين أن يسلّم للأمر الواقع راضياً وساخطاً ، راضياً بقدر الله وقضائه ،
ساخطاً على تجاهل قدره وهوان منزلته ، ولكن هذا وذاك لم يمنعه من الإعتداد بنفسه
إعتداداً شامخاً ، ولم يبخل من أجله بتسخير مواهبه ومعارفه ، فنصب ذاته علماً
للدين ، فما استطاعوا أن يصرفوا الأنظار عنه ، فكانت معضلات المسائل وأمهات
المشاكل تنتظر حلوله الدقيقة ، حتى قال ابو بكر في أكثر من موضع :
« بأبي يا أبا الحسن يا فرّاج الكروب
ومزيل الهم ».
ولم تمنعه عزلته الظاهرية عن إقامة
السنن وإبانة الفروض ، فكان
الشاخص لذلك ساء
ولاة الأمر أم لم يُساؤوا ، بل وقد يذهبون إليه يلتمسون عنده المخرج فيما لا يجدون
فيه مخرجاً ، وقد يلجؤون إليه أيضاً في بيان أحكام القرآن ، وكشف غوامض التنزيل ،
وما أكثر ما حدث ذلك ، وكان إلى جانب هذا معنياً بجمع القرآن مرتباً حسب نزوله ،
ومفسراً له حق تفسيره ، مشيراً إلى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومفصله ومجمله ،
ومبينه ومبهمه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وعبره
وأمثاله ، وسننه وآدابه ، حتى أملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وكان أول من
عني بذلك ، فإليه يرجع علم التفسير ، ومنه انطلقت علوم القرآن ، وبه قامت سنن
الكتاب. وكان هذا الاتجاه مما تمليه عليه مصلحة الإسلام ، ومما يقتضيه تسيير العلم.
وكان القضاء والإفتاء من الظواهر الكبرى
التي اختص بها في عهد الشيخين ، فكم من مبهمة قد أبانها ، وكم من معضلة قد حللها ،
وكم من مسألة كان إستنباطه فيها هو القول الفصل.
ولم يغب عن بال جملة من المسلمين قول
الرسول : « أقضاكم علي » فكان يوكل إليه القضاء فيما لا بد منه ، وفي القضاء
والإفتاء فرض عليّ وجوده العلمي رغم الضباب الكثيف المهيأ لحجب مسيرته العلمية
أيضاً ، وكتب التأريخ والأحاديث والصحاح مليئة بجزء كبير من هذا الملحظ في حياته
أيام الشيخين ، حتى قال عمر محذراً ومعلناً بوقت واحد : « لا يفتينّ أحدُكم في المسجد
وعليٌّ حاضر ».
وانتشر فقه عليّ في الحلال والحرام ،
وبرز في الفروض والميراث ، وتميز بالحدود والديات ، وهناك مئات الجزئيات لهذا
الملاك متناثرة في
آثار السنن والحديث ، تكشف ، عن مقدرة الرجل الفقهية مما أجمع عليه أهل الإسلام ،
لم يشاركه أحد في ذلك ، فكانوا عيالاً عليه ، وتبعاً له ، فيما استجد من مسائل ،
وفيما درس من أحكام ، وفيما احتاجوا إليه من علم.
(٥)
أبو بكر يـقـدّس عـلـياً ... ويعهد إلى عمر
كان ابو بكر (رض) يطيل النظر في وجه
عليّ 7 ، فسئل عن
سر ذلك ، فقال : سمعت رسول الله 6
يقول : « النظر إلى وجه عليّ عبادة ».
ليت شعري ؛ فهل استشف ابو بكر الغيب
ليستقرئ مغزى ما يرويه ، فإذا كان النظر إلى وجه عليّ عبادة ، فالنظر في هديه
وسيرته عبادة أيضاً ، والنظر في عدله واستقامته عبادة كذلك ، والتطلع إلى رأيه
وفكره عبادة دون شك ، وما وجه علي إلا صورة من لحم ودم وعصب وشرائح وغضون ، فلماذا
أضحى عبادة؟ وما السر في ذلك؟ النظر إلى هذا الوجه عبادة لما انطوى في أسراره من
معرفة الله تعالى ، ولما ضم بين جنبتيه من أسارير تنقبض وتنبسط في ذات الله ؛
وعليٌّ نفس رسول الله ، فوجه علي وجه رسول الله ، ولا ريب أن النظر في وجه رسول الله
عبادة وأية عبادة ، فهو علة الإيجاد ، وجمال الكون ، يتلألأ بنور الله ، ويشرق
بجلال الله ، ويرضى لرضا الله ، ويغضب لغضب الله ، فعاد تكوينه مرتبطاً بالفيض
الإلهي سروراً وحزناً ، ومستشعراً لإرادة الله حباً وإعراضاً ، والوجه الصالح على
هذا يكشف عن الضمير الصالح ، والنظر إليه إمعان في زيادة الصلاح والإصلاح ،
والتطلع لمعالمه تطلع في مناهج الحق ومراتب اليقين ، وهكذا كان النبي الكريم 6 وهكذا ورثه علي في خصائصه الكبرى.
ليت شعري!! هل أفاد ابو بكر (رض) من هذا
، وجعله ميزاناً بينه وبين المسلمين ، أم هي العواطف الخالصة التي لا تتبع بالقول
عملاً ، ولا تثني النظر بالاقتداء ، وأبو بكر الراوي : قال لي رسول الله 6 ليلة الهجرة ونحن خارجان من الغار نريد
المدينة : « كفي وكف علي في العدل سواء ».
فهل استجلى ابو بكر من ذلك في الأقل
ضرورة مشاركته الحكم ، وأساسه العدل ، إن لم يُسلم إليه الحكم كله ؛ وَلِمَ إستأثر
بقيادة الأمة دونه ، وبقي علي 7
جليس الدار ، أو حليف المساقاة ، لا يضع ولا يرفع ، والمسلمون بمشهد وبمسمع.
أنكتفي من أبي بكر وهو الفطن الحاذق ،
والرجل المجرّب الحصيف ، أن يروي هذا الحديث ونظراءه ، دون الاقتفاء لأثره وهو يقود
الجماعة الإسلامية ، ويسوس الدولة العربية ، وعليّ دونه كل أمر وكل نهي ، وكأنه
رجل من سواد الناس.
وليت ابا بكر (رض) إذ أطال النظر في وجه
علي 7 قد أطال
النظر إلى قلب عليّ من وراء حجاب رقيق ، فاستشعر ذلك الألم الدفين في ذلك القلب
الكبير ، وليته سبر أغوار هذا الجرح العميق فغير وبدل وجامل حاور وناظر عسى أن
ينتزع هذا الحزن من ذلك القلب ، ولكنه أصر على تجاهل هذه الحقيقة الصارخة ، وغض
النظر عن هذا الملحظ الدقيق طيلة خلافته ، فبقي الشجا في نفس علي ، وغص عليّ بريق
الأسى ، ينظرون في وجهه ولا يترسمون خطاه ، ويطيلون النظر إليه ولا يستمعون لأنينه
، وهو في عزلة يرى تراثه نهباً ، وكفاءته لا يفاد منها ، وكأنه متاع رخيص في زوايا
البيت الحافل بأغلى النفائس.
وكان ما لحقه من حيف وحرمان وتجاهل ،
وما تجرعه من لوعة ومرارة وكمد ، حرياً بأن يؤلب الرجل ويثير مكامن حزازته ، أو يتجلى
ذلك في ثورة عارمة في سيرته ، ولكنه أخلد إلى المسالمة ، واتسم بنقاء النفس وصفاء
النية ، بل ذهب إلى أكثر من هذا فقد كان الناصح الأمين ، والمشير الورع ، وهذا لا
ينافي كونه صابراً محتسباً ، أو مظلوماً مهتضماً.
حتى إذا تدهورت صحة أبي بكر ، وأشرف على
الموت ، وإذا به يروغ عن علي 7
وكأنه لم يكن ، ويتركه جانباً وكأنه لم يخلق ، ويصحر بسياسته دون مجاملة ، ويفصح
عن رأيه دون ستار من عرفان المصالح العليا فتزاد آلام الرجل ويعبر عنها بقوله
مستغرباً :
« فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته
، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشد ما تشطرا ضرعيها ، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ
كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثر فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ،
إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون
وإعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة ».
وإذا بأبي بكر يعهد إلى عمر مفصحاً :
« أيها الناس : أترضون بمن أستخلف
عليكم؟ إني والله ما ألوت من جهد في الرأي ، ولا وليت ذا قرابة ، وإني قد استخلفت
عمر بن الخطاب. فاسمعوا له وأطيعوا ».
وكانت بادرة تستدعي العجب ، ومفاجأة
تستأهل التساؤل ، ليس على الطبقة الواعية لحقيقة المجريات ، ولكن لقول أبي بكر
نفسه حينما
قال قبلها بقليل : «
لوددت أني كنت سألت رسول الله ، عن هذا الأمر فلا يتنازعه أحد ».
فهلاّ استشار أحداً ، وهلا سأل علياً
مثلاً ؛ نعم دعا إليه عبد الرحمن بن عوف فأدلى برأيه في عمر ، فقال : « هو والله
أفضل من رأيك فيه ولكن فيه غلظة.
ودعا عثمان فسأله عن عمر فقال : « إن
سريرته خير من علانيته » فقال أبو بكر : « لو كنت مستخلفاً أحداً غير عمر
لاستخلفتك يا عثمان ». وهي إشارة ذكية أن سيأتيك الدور يا عثمان ، ومد عثمان لها
عينيه ، وأصغى بأذنيه ، وصر عليها صراً ، فهي بارقة أمل عريض.
وعهد ابو بكر إلى عمر فيما كتبه عثمان
وأقره عليه حينما غشيه الموت.
« أما بعد فإني قد استخلفت عليكم ابن
الخطاب ».
ودخل على أبي بكر طلحة في تلك الحال
فجبهه بقوله : « ما أنت قائل لربك غداً ، وقد وليت علينا فظاً غليظاً ، تفرق منه
النفوس ، وتنفض عنه القلوب ».
فزجره ابو بكر زجراً عنيفاً. وتم
استخلاف عمر ، وتناهى الخبر إلى علي ، وتجدد المصاب عليه ، وعاوده الحيف الجديد
فما وهن عزمه في ذات الله ، ولا فوجئ بهذه النتيجة فهو يتوقعها ويدري خطتها في
رؤية واضحة.
وكان الإجحاف الذي لحق بعليّ هذه المرة
منظماً ، فما كان لأبي بكر ليعدو عمر في شأن الخلافة ، وما كان لعلي أن يطمع بها ـ
وهو الزاهد ـ بوجود عمر ، فابو بكر وعمر فرسا رهان ، إن كبا أحدهما نهض
الآخر ، وقد مات ابو
بكر فولي عمر ، فما كان من علي إلا أن سمع وأطاع ، ونصح للإسلام بكل ما استطاع ،
وإن حجز في بيته ، واستسلم لوحدته ، فصبر على هذا كله ، بل على أكثر من هذا كله.
قام عمر بالأمر جريئاً شديداً قوياً ،
ولكنه لم ينس فضل هذا الرجل المغلوب على أمره ، ولم يجهل مقامه وإن تجاهله ، فقد
قال لابن عباس :
« ما أرى صاحبك إلا مظلوماً ».
فأجابه ابن عباس بذكاء : « فأردد إليه
ظلامته ».
فعدل عمر عن الجواب ، ولجأ إلى التعليل
القديم ، والسبب التافه :
« ما أظن القوم منعهم منه إلا أنهم
استصغروه ».
وأصغى ابن عباس للعلة فما وجدها تنهض
بشيء ، فأضاف إليها أخرى : « أتدري يا ابن عباس ما منع منكم الناس ».
وبقي ابن عباس صامتاً ينتظر ما يدلي به
داهية العرب :
« كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة
والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً ، فنظرت لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت ».
بهت ابن عباس لهذا التصريح ، فالمسألة
إذن مسألة جاهلية ، والقضية على هذا الأساس قضية عنصرية قبلية ، فقريش تكره اجتماع
النبوة والخلافة في بيت واحد ، والهاشميون يجحفون بالناس ، ومتى أجحف بنو هاشم
بالنبوة ، ـ إن كان باستطاعتهم الإجحاف ـ حتى يجحفوا بالإمامة ، وهل هذا وذاك من
المناصب التي تتحكم بها قريش
أو بنو هاشم ، حجج
لا تقوم على أساس متين ، ومعاذير لا تستند إلى ركن وثيق. وهل لقريش أن تنظر لنفسها
وتختار ، والقرآن يصرح :
( وَرَبُّكَ يَخلُقُ
مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ ) .
ولو انصاعت قريش لما اختاره الله لوفقت
وأصابت ، ولكنها السياسة الدقيقة التي أحكمت الرتاج ، وأغلقت الأبواب ، وألقت من
شاءت وما شاءت ومتى شاءت وراء الأسوار.
ولو أبصرت قريش رشدها يوماً لنظرت إلى
علي 7 نظرة فاحصة
محققة لتجده ، أول القوم إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وأكثرهم غناء عن الإسلام ،
وأعظمهم دفاعاً عن الدين ، وأثبتهم يقيناً بالله ، وأخشنهم نفساً في ذات الله ،
وأحوطهم لنفسه وللمسلمين ، وأنصحهم لله ولرسوله ، وأفضلهم سابقة ، وأقومهم عوداً ،
وأرفعهم منزلة ، أعلاهم درجة ، وأرسخهم شجرة ، وأينعهم ثمرة ، وأبلغهم منطقاً ،
وأفصحهم كلاماً ، وأشدهم ساعداً ، وأثبتهم جناناً ، وأكفأهم مراساً في الحروب ،
وأسبقهم حضوراً في المشاهد ، وأقلهم متاعاً في الدنيا ، وأكثرهم رغبة في الآخرة.
فإذا أضفت لذلك العلم في الكتاب والسنة ، والحلم في السياسة والرعية ، والصبر على
المكاره والشدائد ، والحزم في الملمات والنوازل ، والورع لدى الشبهات ، والمسارعة
إلى الخير ، والإتباع لسنن العدل ، والإقتفاء لأثر الرسول ، والرفق بالضعفاء ،
والعطف على الفقراء ، والشدة على أعداء الله ، والرحمة بأولياء الله ، والسبق لما
يرضي الله ، لوجدت الإمامة بحاجة إليه ، والخلافة ينبغي أن تسعى إليه ، فبه تزان ،
وعليه تنعقد ، وفيه تُشَرّفُ.
كل هذا لم ينظر إليه في علي 7 ، بل ما شاؤوا أن ينظروا
__________________
إليه ، ولو نظروا
لما عدته القيادة إلى سواه ، ولكن هذا هو منطق الحق ، والحق شديد لا تسيغه الذائقة
السياسية ، ولا يقره منطق الأثرة والإستبداد.
وليت ما حدث يكتفى به وحده ، بل تعداه
إلى ما هو أدهى وأمر ، وأشق عنتاً ، وأمض عسراً ، فلم تطلق لعلي حريته ، يتصرف أنى
شاء ، ويتحرك كما يريد ، بل فرضت عليه الإقامة الجبرية في المدينة لا يتجاوز
رحابها ، ولا يتعدى حدودها ، كما فرضت على سواه من شيوخ المهاجرين والأنصار ، فما
برحوا مدينة الرسول ، ولا تخطوا جدرانها عسى أن يطمع أحد بهم ، أو يرغب بهم راغب ،
فهم أهل السابقة ، وهم أهل الطموح فيما أوصى به ابو بكر عمر :
« احذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله
، الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم » فكان المنفذ الصارم ، والقائم الرادع ،
والآخذ بالحجز والحلاقيم إذ يقول :
« إني قائم دون شعب الحرة ، آخذ بحلاقيم
قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار ». فاستماحه بعض المهاجرين والأنصار الجهاد في
سبيل الله ، والإنسلال إلى الثغور ، وقد كثرت الفتوح ، وتدافعت البعوث ، إيذاناً
بنصر الله وفتحه ، فقال جوابه التقليدي الرتيب لمن أراد ذلك : « أقعد ... قد كان
في غزوك مع رسول الله ما يبلغك ، وخيرٌ لك من الغزو اليوم أن لا ترى الدنيا ولا
تراك ».
فكان الحجز المدني مواكباً للحجر
العسكري ، وكلاهما سلاحان نافذان في صد طماح القوم في التحرر من الإقامة في
المدينة ، والإبقاء عليهم تحت السيطرة الفعلية ، فكان لهم بالمخنق ـ كما يقال ـ
ووقف بالمرصاد.
ولم يكن عليّ 7 بمنأى عن هذا الإجراء ، بل هو أول من
نُفِذّ بحقه هذا النظام الجديد ، وإذا منع علي 7
من الحركة والحرية فمن يستطيع إذن بعده من البوح عما في نفسه ، ومن يقوى على
التفكير في الخروج من هذه الدائرة المحكمة الأقفال.
القوة والصراحة تصاحبهما الدقة
والمحاسبة ، من أوليات التعبير السياسي لدى الحاكم الجديد ، فكل شيء بقدر ، وكل
خطوة بحذر ، شاء المقابل أم أبى.
هنالك أدرك بعض قريش أن قريشاً ما
اختارت لنفسها ، ولكنها اختارت لهواها ، ولو اختارت لنفسها حقاً لوفقت وأصابت ،
ولكنها اختارت لهواها ، فأوكلت إلى الهوى ، يتحكم بها أنى يشاء.
وما كان لعلي 7 أن يقابل عمر بشيء من العصيان ، ولا
يجدر به أن يشاركه بشيء من الحطام ، ولا كان مما يناسبه أن يشعره بشيء من المنافسة
، فهو أكبر من ذلك ، وكان الخليق به وبمقامه الرفيع ما صنعه من محايدة ومجاملة
ومعاونة ، وما أبداه من ائتمان عند الاستشارة ، والصراحة عند السؤال ، والتجاوب
المطلق لادارة الصالح من الشؤون ، فكان دوره في عصره دور الناصح الشفيق ، والمفتي
الفقيه ، والقاضي العادل ، والمستشار المؤتمن فيما ستلمسه قريباً.
(٦)
سيرة عمر ... واتكاؤه على أمير المؤمنين
تسلّم عمر (رض) أزمة الحكم ، وسار
بالأمة سيراً عنيفاً يتسم بالشدة والصرامة ، وقد يوسم بالقسوة وعدم المبالاة ،
وكانت درّته تقوّم الأود ، وصيحته تهدّأ الهرج ، وغضبته تبدد الهوس ، وبشدته هذه ،
ودفعته في التفكير إستقام له السلطان ، وانقادت له الرجال طائعة ومكرهة ، وما عليه
أن لا يكون كذلك ، وهو الخبير بحقائق الأشياء ، ومن ذا يعترض مسيرته ، وقد اتكأ
على عليّ 7 حيناً في
علمه وفقهه وقضائه ، وعلى ابن عباس حيناً آخر في تجربته وتأويله وأدبه ، وللناس
ظاهر الحال ، منه الأمر وعليهم الطاعة.
ولم يكن للخليفة الجديد مندوحة يتخلى
فيها عن علي في اللحظات الشائكة ، ولم يكن له منه بد في المشاهد الحرجة ، وهو أعلم
بعواطف الناس تجاه علي 7
تجلةً ومنزلة واحتراماً ، وهو أدرى بما تضم جوانح الإمام من علم فياض ، وفقه غزير
، ودراية متكاملة ؛ وهو زعيم بأن علياً لا يحيد عن الحق طرفة عين أبداً ؛ كان يعرف
هذا كله ، ويعرف ما هو أكثر من هذا كله ، فليكن علي ـ إذن ـ المستشار الأول
للخليفة ، وبصورة ظاهرية إن لم تكن واقعية ؛ وقد اتضح ميله الشديد لعلي ، وبدا
تقريبه إليه واضحاً ، وحضوته السياسية عنده أثيرة ، وانجلت السحب الكثيفة في سماء
العلاقات الجافة شيئاً فشيئاً ، واتصل بحبل من
بني هاشم كاد أن
يقطع ، اوشك على الإنفصام ، ولكنه يستمسك بطرف يمتد إلى زعيم الهاشميين ، ويستلهم
من حكمته وأصالته ما يدير به دفة الحكم بأناة وروية ، وقطعت صيحة عمر كل صوت ،
واسكتت مقولته كل خطيب ، إذ يلتفت إلى جمهور الصحابة واثقاً قائلاً :
« لا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر »
وتقتصر الفتوى على علي 7.
وتتواكب المسائل المعقدة ، وديوان
الخلافة في غير أهبة لمجابهتها ، فيحكم فيها حيناً بغير ما أنزل الله ، ويتجافى
بها المجيبون سنن الصواب ، فيتداركها عليُّ بما انطوى عليه صدره من علم ، فيصرخ
عمر بصيحته الثانية :
« لولا عليّ لهلك عمر » ويكررها في أكثر
من عشرين مرة.
وتتوسع رقعة الدولة الإسلامية ، وتترامى
أقطار السلطان ، وتنهال الرسائل من كل صوب وحدب لا يعلم متأخرها من متقدمها ،
وتكتب الصكوك ولا يعرف تأريخها ، وتدوّن المعاملات ولا يفهم أوانها ، وتبرم
المعاهدات ولا يميز أمدها ، فيحتاج المسلمون إلى أن يؤرخوا ، وتختلف الآراء ،
ويضطرب الصحابة بين أخذ ورد :
التأريخ زمن الاسكندر.
التأريخ بمولد الرسول الأعظم 6.
التأريخ بالبعثة النبوية.
وإذا بعلي يشير : نؤرخ من يوم هاجر رسول
الله 6 من أرض
الشرك ، فإنه أظهر من المولد والمبعث.
وإذا بعمر يطلق صرخته الثالثة : « لا
زلت موفقاً يا أبا الحسن ».
ويجري المال والفيء بحراً بين يدي عمر ،
ولا يدري ما يصنع في جملته ، وقد يحول عليه الحول ، فيبعث إلى علي يستشيره في ذلك
، فيشير عليه بما تمليه العدالة الاجتماعية من جهة ، وبما تفرضه أمانة الأمة من
جهة أخرى ، فيقول له عليّ 7
: « تقسم ما يرد من الأموال ، حتى إذا حال الحول لم يبق في بيت المال درهم ولا
دينار إلا ذهب إلى مستحقه ».
ويفعل عمر بعض هذا ، ويجتهد في بعضه
الآخر.
ويضاعف سعد بن مالك الصدقة على نصارى
الجزيرة ويبعث بأعيانهم إلى عمر ، فيقول لهم عمر : « أدوا الجزية وانطلقوا » وتأبى
نفوسهم هذا ، فيتلافى عليّ الموقف ، ويقول لعمر : « ألم يضعف سعد بن مالك عليهم
الصدقة » فيقول عمر : « بلى قد فعل » فيشير عليّ بالاكتفاء بهذا ، فيترك عمر القوم
؛ وكان من تفكيرهم الفرار إلى الروم لولا هذا الحل المنطقي ، فهم يدفعون الجزية
فعلاً ولكن بعنوان آخر.
وجيء لعمر بامرأة ولدت لستة أشهر ،
فاعتقد عمر (رض) بها الزنا ، فأمر برجمها ، فجبهه عليّ 7 : لا تفعل ، فلو خاصمتك بكتاب الله
لخصمتك. إن الله تعالى يقول : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
.
__________________
ويقول : ( * وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) .
فإذا تممت المرأة الرضاعة ، وكان حمله
وفصاله ثلاثين شهراً ، كان الحمل ستة أشهر.
وكان هذا حكم الله من كتاب الله ،
فكررها عمر قائلاً :
« لولا عليّ لهلك عمر » وأضاف إليها وفي
مجالات آخر :
« لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو
الحسن ».
ونزلت بعمر نازلة قام لها وقعد ـ كما
يروي ذلك ابن أبي الحديد ـ فقال عمر لمن عنده : ما تقولون في هذا الأمر ، فقالوا
أنت المفزع مقضب وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا )
أما والله إني وإياكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بإدارتها ، فقالوا : كأنك أردت علي
بن أبي طالب ؛ فقال : وأنى يعدل بي عنه وهل طفحت حرة بمثله؟ قالوا فلو دعوته يا
أمير المؤمنين : فقال : هيهات إن هناك شمخاً من هاشم ، وإثرة من علم ، ولحمة من
رسول الله ، إن علياً يؤتى ولا يأتي ، فامضوا بنا إليه ، فمضوا نحوه ، فألفوه في
حائط له عليه تبّان ، وهو يركل مسحاته ويقرأ : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ
أَن يُتْرَكَ سُدًى ) ودموعه تنهمل على خديه ، فأجهش الناس
لبكاءه وسأله ابن الخطاب عن تلك الواقعة ، فأجاب علي ، فقال عمر :
« أما والله لقد أرادك الحق ، ولكن أبى
قومك ».
__________________
فقال علي 7
: خَفضّ عليك. من هنا ومن هنا :
( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ
كَانَ مِيقَاتًا )
.
فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى وأطرق
إلى الأرض ، كأنما ينظر في رماد.
وكما نصح عليّ 7 لعمر (رض) من موقعه القيادي ، فقد أبان
عمر منزلته في غير موضع ، وتحدث عن فضله بأكثر من حقيقة ؛ فقد روى ابن أبي الحديد
عن أبي بكر الأنباري : أن علياً جلس إلى عمر في المسجد ، فلما قام من مجلسه ؛ عرض
بعضهم به ونسبه إلى التيه والعجب ، فقال له عمر :
وحق لمثله أن يتيه ، والله لولا سبقه
لما قام عمود الإسلام ، وهو بعد أقضى الأمة ، وذو سابقتها وشرفها ، فقال له الرجل
: ما دام كذلك فما منعكم عنه؟ قال : كرهناه لحداثة سنه ، وحبه لبني عبد المطلب.
ولم يكن عليّ 7 حدث السن ، فقد تجاوز الثلاثين من عمره
عند وفاة النبي 6
وحنكته التجارب والمواقف ، وجعلت منه قائداً ألمعياً في الظروف الصعبة الشاقة ،
ولم يكن محباً لبني عبد المطلب بالشكل الذي يخرجه من الحق ، فقد روى الصحابة
أجمعهم قول الرسول :
« علي مع الحق والحق مع علي » وقد وجدنا
سيرته مع بني هاشم عند توليه الخلافة كسيرته مع غيرهم عدلاً وإنصافاً.
وكان عمر يكرر هذين الملحظين في علي 7 ، فهّلا كرر الأول بأمرة أسامة بن زيد
على شيوخ المهاجرين والأنصار ، وهو دون
__________________
العشرين ، وكان عمر
يخاطبه بالأمير ؛ وهلا كرر الثاني عند ترشيحه لعثمان في حبه لبني أمية ، وإيثارهم
في كل شيء ، وهلاّ حاذر على المسلمين من ذلك. ولكن عمر لم يكن جاداً فيما قال ، بل
كان سياسياً حاذقاً يبرم الأمر إبراماً ، ويشده شداً وثيقاً ، وهو القائل لابن
عباس مراراً وتكراراً في علي :
« ما أرى ـ يا ابن
عباس ـ صاحبك إلا مظلوماً ».
قال ابن عباس فأردد إليه ظلامته يا أمير
المؤمنين ، فقال :
هيهات يا ابن عباس. قالها دون تعليل!!
ولكن عمر قد يدافع عن وجهة النظر لديه ،
ويعاتب من يدعي ظلم عليّ 7
، فقد قال لابن عباس وكان لصيقاً به :
« إني قد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك
به ».
فقال ابن عباس : ما هو يا أمير المؤمنين
... ، فقال عمر :
« بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا
الأمر منا حسداً وظلماً ».
فقال ابن عباس : « نعم حسداً ، وقد حسد
إبليس آدم فأخرجه من الجنة ؛ ونعم ظلماً ؛ وإنك لتعلم صاحب الحق من هو ؛ ألم تحتج
العرب على العجم بحق رسول الله؟ وأحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ؛ فنحن
أحق برسول الله من سائر قريش ».
ولم يكن عمر ليجهل هذه الحقيقة ، ولم
يكن له أن ينكرها ، ولكنه يعود إلى أن القوم كرهوا من عليّ حداثة سنه ، وما هو
قريب إلى ذلك ، مما لا يشكل إقناعاً ، ولا يعد جواباً ، وإذا أجاب عمر فمن ذا
يعترض ، ومن ذا يغير وهو القوي المطاع.
وقد يعلل عمر (رض) هذا بغيره ، لسميره
ورفيق خلواته عبد الله بن عباس ، فقد قال له يوماً :
يا عبد الله ما تقول في منع قومكم منكم؟
فقال ابن عباس : لا أعلم ، فقال عمر : « اللهم اغفر ... إن قومكم كرهوا أن تجتمع
لكم النبوة والخلافة ، فتذهبون في السماء بذخاً وشمخاً. إن قومكم لينظرون إليكم
نظر الثور إلى جازره يا عبد الله ».
ولقائل أن يقول لعمر : كيف اجتمعت
النبوة والخلافة عندك في الشورى؟ وإن بني هاشم لم يذهبوا بالنبوة بذخاً وشمخاً حتى
يذهبوا لذلك بالخلافة ، وأن هذا المنطق ليس من الدين في شيء ، أما أن العرب ينظرون
إلى علي 7 نظر الثور
إلى جازره ففيه كثير من الصواب ، لأن علياً أقام أودهم بسيفه ، وضربهم به حتى
قالوا : لا إله إلا الله ، ولكن الحق خلاف هذا فعليّ حملهم على الإسلام ، وإذا آمن
العرب بذلك عدوه منقذاً لهم ، إلا أن نخوة الجاهلية بعد لم تزل ، والإيمان لما
يستقر في القلوب ، فكأن عمر نظر إلى أحلام العرب في جاهليتهم.
ولم يكن علي 7 بمنأى عن هذه اللذعات ، ولا بعيداً عن
أمثال هذه المناجاة ، فقد كانت تصل إليه أولاً بأول ، ولا يعير لها اهتماماً
كثيراً لأنها مما يتعلل به ليس غير ، ولا سبيل إلى إقتناعه بها لعلمه بمغزاها
وفحواها ، فما وجد في نفسه على شيء ، ولا أسف على أمر ، لأنه يرى الخلافة وسيلة لا
غاية ، وسيلة إلى إقامة حكم الله وسنة نبيه بين الخلائق ، لا غاية إلى سلطان وإثرة
واستعلاء ؛ وهنا تتجلى نقطة الافتراق في التفكير ، لذلك ما ترك نصحه لولاة الأمور
، ولا تجاوز مقدوره في مراعاة الأحوال ، لأن في ذلك رعاية لحق الإسلام ، وصيانة
لأمر المسلمين ،
وإيذاناً ؛ باستقرار المناخ السياسي والعسكري ، ومن أبرز مظاهر هذا النصح حينما
استشاره عمر في حرب القادسية ، فقد كان من رأي عمر أن يشخص بنفسه لذلك ، فنهاه
عليّ عن هذا الرأي ، وثنى عزيمته عنه ، لأنه زعيم العرب ، وسيوجه الفرس قوتهم في
درئه واستئصال شأفته ، فأشار عليه بالمرابطة في المدينة ، وتولي قيادة الجيش من
هناك ، وتولية من يشاء توليته لامارة الجيش المقاتل ، وإعداد المسلمين لذلك أهبة
وسلاحاً ، وهكذا كان ؛ إذ امتثل عمر ذلك ونفذه بدقة.
وعاد علي 7
قريباً من عمر (رض) في مجلسه وقيادته ، يستشيره ويدنيه ويفضله ، بل عاد كبير
مستشاريه عند كل نازلة حتى ظن الناس أنه سيوليه ويعهد إليه من بعده ، ولكن سير
الأحداث كان مخيباً لهذا الظن كما سترى ذلك بعد قليل.
(٧)
عمر يتناسى علياً ... ويعيّن مجلس الشورى
ما عرف عن عمر (رض) أنه كان شديداً مع
علي 7 مع عنفه
وشدته ، بل كان رقيقاً رفيقاً به ، حتى ذهب المسلمون كل مذهب في ذلك ، لا يختلف
معه في أمر ، ولا يعدو رأيه في إشارة ، ولا يأنف أن يجلس منه مجلس المستفيد ، ولا
يسمح لأحد أن يتطاول بحضوره ؛ وكان هذا المناخ الدافئ بين علي وعمر يوحي بأن لعمر
رأياً خاصاً بعلي لا يتعداه إلى سواه ، حتى طفحت نفسه ذات يوم وقال :
« لقد أجمعت أن أولي عليكم أحراكم أن
يحملكم على الحق ».
وسارت الأيام وهي تحمل بين طياتها
المفاجأت الغريبة ، وإذا بكعب الأحبار يدخل مسرح التنبؤات المثيرة ، وعمر في
عنفوان صحته وتكامل بنيته الجسمية والعقلية ، وإذا بكعب يتوجه إليه بقوله : اعهد
عهدك يا أمير المؤمنين ، فإنك مقتول بعد ثلاثة أيام ، فقال له عمر : وما يدريك
بذلك ، فقال أجده في كتاب الله : التوراة ، فسخر منه عمر ، وقال : إنك لتجد عمر بن
الخطاب في التوراة؟ فقال : اللهم لا ، ولكني أجد صفتك وحليتك.
ومضى عمر لشؤونه غير ملتفت لهذا التنبؤ
لم يصدق ولم يكذبه ، وهو بعد قوي الشكيمة ، موفور العافية سليم البدن ؛ إلا أن
عبد الرحمن بن أبي
بكر يرى الهرمزان وأبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، وجفينة غلام سعد بن أبي وقاص
يتشاورون وبينهم خنجر له رأسان ، وكان تشاور ثلاثة من الأعاجم ومعهم سلاح جديد مما
يثير الشبهة في حدود كثيرة.
ومهما يكن من شيء فقد قتل عمر صبيحة
ليلة الاجتماع بالسلاح نفسه مما حدا بعبيد الله بن عمر ان يقتل الهرمزان وجفينة
وطفلة لأبي لؤلؤة بعد علمه بالنبأ دون تمحيص أو دراسة.
ولم يكن كعب الأحبار بمنأى عن التهمة
بالتخطيط لهذا المصرع كما يبدو ذلك للباحث الموضوعي ، فهي مؤامرة فارسية يهودية
دون أدنى شك ، ولعلها باشتراك من أولئك النفر الذين تقوضت مصالحهم بشدة عمر ،
كعمرو بن العاص ، والغيرة بن شعبة الذي درأ عنه عمر حد الزنا بشهادة زياد ابن أبيه
المنقوصة ، حتى أن عمر نفسه كان يخاطب المغيرة مراراً وتكراراً :
والله ما أظن أن أبا بكرة قد كذب عليك ،
وما رأيتك إلا وظننت أن نجوم السماء سترجمني وأبو بكرة أخ زياد لأمه ، وقد شهد
عليه بالزنا هو وأخوه نافع وشبل بن معبد.
والمغيرة مشهور بالزنا والغدر ، فما
يمنعه أن يغدر بعمر عن طريق غلامه ، وجفينة غلام سعد بن أبي وقاص أعجمي وهو من
منفذي الجريمة ، وسعد كان سيئ الرأي بعمر ، وهو نجل الأمويين من جهة الأم ، فما
المانع أن يستطيل حياة عمر ليتسلم الأمويون الحكم ؛ ولا أشك باندفاع جماعة من قريش
وراء الحادث كأبي سفيان للغرض نفسه ، وأن يكون هذا العمل بقيادة كعب الأحبار الذي
بدا ناصحاً متنبئاً شفيقاً في سلاح ذي حدين : الظهور بمظهر العالم بالغيب ،
والإفادة لدى من
يلي عمر من الخلفاء
، وقد كان الأمر كذلك ، فأدناه عثمان ، واحتل الصدارة في ديوانه ، والمنزلة
الرفيعة لدى الأمويين كائداً ودساساً.
ومهما يكن من أمر ، فقد طعن أبو لؤلؤة
غلام المغيرة عمر بن الخطاب ، وحمل الرجل إلى المنزل وبه ست طعنات مميتة ، وهو
واهن العزم منهد القوى ، والتفت إلى ولده عبد الله : اخرج وانظر من قتلني ، فخرج
وعاد « قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة » فقال عمر : « الحمد لله الذي لم يجعل منيتي
بيد رجل سجد لله سجدة واحدة ».
وعم المدينة صمت رهيب ، فقد تدانى أجل
عمر ، وانتهى في اليوم الثالث كما خطط كعب الأحبار والطبقة الارستقراطية من قريش ،
على يد فارسي مجوسي ، وقبيل وفاته التفت عمر إلى من حوله وقال :
« لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ،
وقلت لربي لو سألني : لقد سمعت نبيك يقول : إنه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولى
أبي حذيفة حياً لاستخلفته ، وقلت لربي لو سألني : لقد سمعت نبيك يقول : إن سالماً
شديد الحب لرسول الله ».
وتناسى عمر قوله : إن الخلافة في قريش ،
فكيف يعهد لسالم مولى أبي حذيفة وهو مولى ، وتناسى بأمانة أبي عبيدة أن علياً أمين
هذه الأمة ، وأن علياً شديد الحب لله ولرسوله ، وقد اجتمعت به صفة ما وصف به
الرجلين أضف لها مئات الصفات الكريمة الأخرى ، وتناسى علياً في ثباته وصلابته ،
وعلمه وفقهه ، وعدله وصرامته ، وجهاده وسابقته ، وزهده وورعه ، ولكن السياسية
القرشية رسم لها إقصاء علي إلا لماماً.
ورهقه الناس وهو في صحوة بعد غشية : لو
عهدت يا أمير المؤمنين ؛ فرفع عينيه مشيراً إلى عليّ :
« قد كنت أجمعت بعد مقالتي أن أولي
أمركم رجلاً أحراكم أن يحملكم على الحق ».
وتهامس الناس من حوله أن عمر سيولي
علياً ، ولكن عمر استدرك :
« لقد رهقتني غشية ، فرأيت رجلاً دخل
جنة ، فجعل يقطف كل غضة ويانعة ، فيضمها إليه ويصيرها تحته ، فخفت أن أتحملها حياً
وميتاً ».
وتأول الأمر بصرف الأمر عن علي 7 لرؤيا تصدق وتكذب ، وخشي أن يتحملها
حياً وميتاً وهو القائل : « والذي بعث محمداً بالحق ، لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط
الفرات لخشيت أن أسأل عنه ».
ولكن عمر تحملها حياً وميتاً ، وقال : «
إن رسول الله مات وهو راضٍ عن هؤلاء الستة من قريش : علي وعثمان وطلحة وسعد بن أبي
وقاص ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا
لأنفسهم ».
ولكن عمر رسم معالم الخلافة من بعده ،
بل عينها وشدد القبضة عليها ، وقال لمن حوله : « ما أظن إلا أن يلي أحد هذين
الرجلين : علي أو عثمان ، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين ، وإن ولي علي ففيه دعابةٌ ،
وأحرِ به أن يحملهم على طريق الحق ».
فما منعه إذن أن يختار الرجل الذي
يحملهم على الحق بشهادته ومعرفته. وحق لعلي 7
أن يحتج على هذه المقارنة غير العادلة
فيقول : « فيا الله
وللشورى؟ متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ».
وخرج أصحاب الشورى من عمر وكل يرى نفسه
أهلاً للخلافة ، إلا أمير المؤمنين فقد أدرك أن عمر نص على عثمان ، وأن الشورى
صورية ، وأنه تخطيط مسبق محكم واعٍ لا يفوته شيء ؛ والطريف أن عمر لم يترك الأمر
على سجيته بل أحكمه إحكاماً ، وأبرمه إبراماً ، واستدعى إليه أبا طلحة وهو في
لحظاته الأخيرة ؛ وقال : « يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلاً من
الأنصار حاملي سيوفكم ، وخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيت
واحد ، وقف بأصحابك على باب البيت ، ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم ، فإن إتفق
خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه ، وإن إتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب عنقيهما ، وإن إتفق
ثلاثة فانظر الثلاثة الذي فيهم عبد الرحمن بن عوف وارجع إلى ما إتفقوا عليه ، فإن
أصر الثلاثة على خلافهم فاضرب أعناقهم ، وإن مضى الستة ولم يتفقوا على أمر فاضرب
أعناق الستة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم ».
واضح أن عمر منح لنفسه صلاحيات لم يسبق
إليها ، فقد جعل عبد الرحمن بن عوف رئيساً لمجلس الشورى هذا ، وقد أناط الانتخاب
برأيه وموافقته ، ولغيرنا أن يسأل : كيف يأمر عمر بقتل من مات رسول الله 6 وهو عنهم راضٍ.
وعلم العباس بن عبد المطلب بالأمر ،
وتناهت إليه الأنباء فقال لعلي 7
: « يا ابن أخي : لا تدخل معهم ، وأرفع نفسك عنهم ».
فما كان من علي إلا أن أجابه جواب
الحكيم الصابر : « إني يا عم أكره الخلاف ».
وتنفس عمه الصعداء ، وقال بلهجة الواثق
العارف بحقيقة الأمر : « إذن ترى ما تكره ».
وكان علي رفيقاً لا يريد العنف ،
ورحيماً لم يشأ الخلاف ، يتلفت وراء الغيب ليرى ما يحاك ضدّه ، غير بعيد عن حقد
قريش عليه ، ولا استهانتها به ، ولا تأمرها الصريح تجاهه ، وقد رسخ بذهنه بادئ ذي
بدء أن الأمر بينه وبين عثمان ، أو بين عثمان وعبد الرحمن ، وأن كفتهما هي الراجحة
لا شك في هذا عنده ، وقد أشار بهذا لعمه العباس : « سعد لا يخالف ابن عمه عبد
الرحمن وعبد الرحمن صهر لعثمان لا يختلفون ، فيوليها عبد الرحمن عثمان ، أو يوليها
عثمان عبد الرحمن ».
وكان عبد الله بن عباس قد تنبه لهذا
المدرك والتفت إلى علي 7
« أقال عمر : إن رضي ثلاثة منكم رجلاً منهم ، ورضي ثلاثة رجلاً منهم ، فكونوا مع
الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ». فقيل له : نعم ؛ فقال ابن عباس :
« قد ذهب الأمر منا ».
ونهاه ابن عباس عن الدخول في الشورى ،
فقال علي 7 : « ولكني
أدخل في الشورى لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة ، وكان من قبل يقول : إن النبوة
والخلافة في بيت واحد لا يجتمعان ، وأردت أن أظهر أن روايته تناقض فعله ».
وكان الأمر كذلك فرواية عمر قد ناقضت
فعله ووصيته ، ولكنه ابتعد بها عن علي واشتط عنه ، بيد أن علياً أجال فكره فيما
تحدث به عمر عندما حدد هؤلاء الستة ، إذ قيل له : « قل لنا يا عمر مقالة تستدل
فيها برأيك ونقتدي به ».
فأجاب برواية ابن قتيبة في الإمامة
والسياسة : « والله ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلا شدتك وغلظتك مع أنك رجل حرب ،
وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلا أنك فرعون هذه الأمة ، وما يمنعني منك يا زبير
إلا أنك مؤمن الرضا كافر الغضب ، وما يمنعني من طلحة إلا نخوته وكبره ، ولو وليها
وضع خاتمه في إصبع امرأته ، وما يمنعني منك يا عثمان إلا عصيتك وحبك قومك وأهلك ،
وما يمنعني منك يا عليّ إلا حرصك عليها ، وإنك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على
الحق المبين والصراط المستقيم ».
أضف إلى هذا فقد كان الخيار المدني مع
علي حباً وهوى ، فالمدينة تجلّ علياً وتبجلّه ، والأنصار أعضاد علي وأولياؤه ،
فعسى أن يكون الأمر لصالحه ولو اعتباطاً ، فهو يحملهم على المحجة البيضاء كما يرى
عمر ، وهو إمام أهل المدينة كما يرى الأنصار ، بقيت القيادة القرشية والتخطيط
العمري المتين في استبعاده عنها ، وهما مؤشران سلبيان أزاء مؤشرين إيجابيين ، فما
عليه إلا أن يرضخ للأمر القائم من جهة ، وأن يتطلب الحق الضائع من جهة أخرى ،
إكمالاً للحجة فيريح ويستريح لا أكثر ولا أقل.
ومات عمر ، ودفن إلى جنب صاحبه أبي بكر
، واجتمع أهل الشورى ، واشرأبت أعناق المسلمين للنظام الجديد الذي استنه عمر ، فقد
فوض أمر الأمة إلى ثلاثة من ستة ، وأعطى رئاسة ذلك إلى واحد من ثلاثة ، وهو مبتكر
لهذا النظام ، وقد أحكمه إحكاماً فريداً ، وعين به عثمان تعييناً ؛ ولم يغب هذا
الملحظ عن عين علي لحظة ، ولا عن العباس وولده ، ولا عن المقربين لعلي مدنيين
ومهاجرين ، ولم يترك علي الفرصة إن سميت هذه الرؤية فرصة ، وقد اهتبلها كما ينبغي
لمثله
أن يصنع ، فأدلى
بحجته لدى اجتماع أهل الشورى ، وأوضح مؤهلاته ومميزاته ليجعلهم على بصيرة وجلية ،
احتياطاً لدينه ، وإعذاراً لضميره ، ورغبة بمسايرة الحق ملتزماً له ، لا منافسة في
سلطان ، ولا تعلقاً بشيء من الحطام ، فجبه أهل الشورى ببيان موقعه من النبي ،
ومشاركته له في جملة الخصائص المميزة ، ومتابعة الحق الشريد ، فإما أن يعطى فيأخذه
، وما أن يمنع فيطلبه ، وإما أن يصبر على المحنة ، امتد المدى أو طال السرى ، وقال
:
« الحمد لله الذي بعث محمداً منا نبياً
، وبعثه إلينا رسولاً ، فنحن بيت النبوة ، ومعدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ، ونجاة
لمن طلب ، لنا حق إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السرى ...
ولن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم ».
قال علي 7
قوله هذا ، وكأن على رؤوس القوم الطير ، فلم يسمعوا شيئاً مما أراد ، ولم يعوا
حقيقة ما تفوه به ، بلى قد سمعوا بآذان غير صاغية ، وعرفوا الحقيقة بقلوب غير واعية
، فحذرهم معاوداً ، وكرر الحجة مردداً ، وقال : « إسمعوا كلامي ، وعوا منطقي ، عسى
أن تروا هذا الأمر من بعد هذا الجمع تنتضى فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى
تكونوا جماعة ، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة ، وشيعة لأهل الجهالة ».
وكانت صيحة في وادٍ ، وكان رد الفعل
الفوري على ذلك أن وهب طلحة ـ على رواية ـ حقه لعثمان ، فقابله الزبير عصبية ووهب
حقه لعلي ، ومال سعد لابن عمه عبد الرحمن فوهب حقه المزعوم له ، وبقي علي وعثمان
وعبد الرحمن في الميدان ، فأبتدر عبد الرحمن قائلاً لهما : أيكما يخرج منها للآخر
فلم يجيبا بزعم الراوي ، وأخرج نفسه على أن
يجعلها في أفضلهما
فيما زعم ، وعرض عليهما أن يتولاها أحدهما شرط أن يؤثر الحق ، ولا يتبع الهوى.
وخلا عبد الرحمن بسعد وابن أخته المسوّر
بن مخرمة وكان هواء مع علي ، وجميعهم من بني زهرة ، فأراد عليّ 7 أن يكسب سعداً إلى جانبه ، وهو على علم
بنيّة عبد الرحمن مجانبة له ، فالتفت إلى سعد وقال : « يا سعد : اتق الله الذي
تسألون به والأرحام ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله ، ورحم عمي الحمزة منك ،
أن لا تكون ظهيراً لعبد الرحمن ». والتفت إلى عبد الرحمن محذراً له من الهوى ،
وقال : « إعطني موثقاً لتؤثرن الحق ، ولا تتبع الهوى ، ولا تخص ذا رحم ، ولا تألوا
الأمة ».
فأجاب عبد الرحمن : « بل على ميثاق الله
».
ولم يكن الأمر كذلك ، فقد بيت عبد
الرحمن أمراً إتبع به هواه ، وكانت الفرصة لديه مواتية أن يكون من الصالحين ،
فيؤثر أمير المؤمنين بولاية الحق ، ولكنها الأهواء التي تبتعد عن الصواب ،
والعصبية التي لا تلتزم السداد ، فقد استدعى عبد الرحمن علياً وعثمان ، بعد أن
اشتد الأمر ، وتنازع المسلمون ، وتعصب الأمويون لعثمان ، وهتف الهاشميون والأنصار
باسم علي ، وكثر اللغط من هنا وهناك ، فالتفت من قال لعبد الرحمن : انتهِ من الأمر
قبل أن يتقاتل المسلمون ، عندها توجه عبد الرحمن لعلي قائلاً : « يا أبا الحسن هل
أنت مبايعي على كتاب الله ، وسنة نبيه ، وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر ». فقال علي :
« بل على كتاب الله وسنة رسوله ، وبرأيي فيما لا نص فيه ولا سنة ، وفي رواية :
واجتهاد رأيي ».
وكان بإمكان أمير المؤمنين أن ينعم
بالجواب ، ولكنه تنبه لشرط
لم يكن بالحسبان ..
وهو سيرة الشيخين ، فأية سيرة يتبعها : أسيرة أبي بكر وهي مخالفة لسيرة عمر؟ أم
سيرة عمر وهي مناقضة لسيرة أبي بكر؟ فكيف بسيريتهما معاً وهما متقابلان ، وكان بإمكانه
أيضاً أن ينعم بالجواب ، حتى إذا بسط سلطانه ونفوذه عمل باجتهاد رأيه لا بسيرة
الشيخين ، ولكنه أبى إقرار السيرتين معاً ، وأبى أن يخالف عهداً لو نطق به أيضاً ،
فليس من شأنه أن يتذرع بشيء على حساب شيء آخر مهما ضؤل شأنه ، أو عظم أمره ، وإنما
خَلِقَ علي 7 ممثلاً
فعلياً للقيم العليا.
وكرر عبد الرحمن على أمير المؤمنين
القول ، فأصر عليٌ على رفض الشرط الأخير ، وعرض عبد الرحمن ذلك على عثمان فأنعم
بالموافقة ، وأضمر أن لا يلتزم بشيء قليل أو كثير من سيرة الشيخين ، ولكنها الفرصة
الذهبية التي لا تترك ، فاغتنمها ، وعبد الرحمن يعلم ذلك كل العلم ولكنه صفق بيده
على يد عثمان على أن يؤثر الحق ولا يتبع الهوى ، فما وفى بشيء من ذلك ، ولا التزم
بعهده ، وكان ما كان من عاقبة أمره.
وتلقى عليّ 7 المحنة محتسباً ، والتفت لابن عوف
قائلاً :
« ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ،
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ؛ والله ما وليته هذا الأمر إلا ليرده عليك
، لقد رجوت منه ما رجا صاحبكها من صاحبه ، دق الله بينكم عطر منشم ».
قال أبو هلال العسكري : « إن الله
استجاب دعاء علي في عبد الرحمن وعثمان بن عفان ، فما ماتا إلا متهاجرين متباعدين
».
وقد تدارك عبد الرحمن هذا التصريح من
علي فقال :
« إني نظرت ، وشاورت الناس ، فإذا هم لا
يعدلون بعثمان ».
وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا هذه
المسرحية المعقدة ، ولماذا عرضها على علي إذن.
وقطع عليٌّ النزاع بقوله : « لقد علمتم
أني أحق الناس بها من غيري ، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها
جور إلا عليّ خاصة ، التماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة ».
وغادر علي المسجد ، وقرأ قوله تعالى :
سـ ( يَبلُغَ الكِتَـبُ أَجَلَهُ ).
ومضى إلى حال سبيله كالأمس.
(٨)
المسلمون يستقبلون بيعة عثمان بالكراهية
استقبل علي 7 بيعة عثمان (رض) واجماً ، وقبل نتائجها
ساخطاً ، فقد حققت قريش أغراضها في استبعاد أهل البيت ، وتبوأت مسلمة الفتح مكانة
جديدة لم تحلم بها ؛ ولم تكن بيعة عثمان رضاً لعامة المسلمين ، فمنهم من رضي بها
على مضض ، ومنهم من سخط عليها علانية ، ومنهم من تقبلها بقبول حسن ، ومنهم من أرغم
على قبولها فتحرق غيظاً ، أما بنو أمية فتلقوها بالغبطة والسرور ، فالبيت الأموي
وحده هو الذي يقف في وجه البيت الهاشمي ، وقف ضده في الجاهلية ، فليقف ضده في
الإسلام ، والتأريخ يعيد نفسه.
وأما أهل المدينة من الأنصار ومن شايعهم
فاستقبلوها بالكراهية والحذر والقلق الشديد.
وأما قريش فقد اجتمعت ـ وليس لأول مرة ـ
على نزع سلطان رسول الله 6
من آل رسول الله فهي راضية مستبشرة مطمئنة ، بقي رجال العقيدة الصلبة ، وأصحاب
الكلمة النافذة ، فقد أنكروا حين لا يجدي الإنكار ، وقد عارضوا حيث لا تقدم
المعارضة شيئاً لا تؤخر ، وقد قالوا ما شاؤوا أن يقولوا فما نفع القول ، وكان
أشدهم المقداد بن عمرو وعمار بن ياسر ، قال المقداد ، وعثمان يبايع في المسجد
النبوي :
« ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت
بعد نبيهم ».
فنهره عبد الرحمن بن عوف قائلاً : « ما
أنت وذاك يا مقداد ». فاضطرب المقداد تأثراً وقال :
« أما وأيم الله يا عبد الرحمن ، لو أجد
على قريش أنصاراً لقاتلتهم كقتالي إياهم مع رسول الله يوم بدر ».
وصرخ عمار بن ياسر هادراً : « يا معشر
قريش : أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ، ها هنا مرة ، وها هنا مرة ،
فما أنا بآمن عليكم أن ينزعه الله فيضعه في غيركم ، كما نزعتموه من أهله ،
ووضعتموه في غير أهله ».
وذهب احتجاجهما أدراج الرياح ، وحاول
سواهما النهوض للكلام فقطع عثمان ذلك وأدلى بأول بيان رسمي له ، والخواطر الكئيبة
تجول في نفسه ، وبوادر الفرقة تظهر في الأفق ، وكأنه يريد أن يتدارك ما حدث أو
سيحدث بالموعظة وملحظ التزهيد :
« إنكم في دار قلعة ، وفي بقية أعمار ،
فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه ، فلقد أتيتم ، صبحتم أو مسيتم ». وحمل نفسه
بخطواته المثقلة إلى الدار حيث اجتمع بنو أمية في غمرة من الفرح والزهو والاستعلاء
؛ وفي طليعتهم أبو سفيان بن حرب شيخ الأمويين ، والتفت إليهم قائلاً : أفي المجلس
من يحتشم؟ قالوا : لا ، فقال كلمته الشهيرة : « يا بني أمية : تلقفوها تلقف الكرة
، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ، وما زلت أرجوها لكم ، ولتصيرن
إلى صبيانكم ».
فتطاول من في المجلس لهذه الدعوة
الخطيرة ، واشرأبت أعناقهم لهذا النداء الصارخ ، وتطامنوا لهذا التصريح الإلحادي ،
وكادت النشوة أن تذهب كل مذهب ، لولا أن يتدارك الأمر عثمان فينهر أبا سفيان ؛
ولكن كلمته هذه
انتشرت في الآفاق انتشار النار في الحطب الجزل ، وألفت لها سامعين ومنفذين ،
فيستقبلها المسلمون الغيارى بالأسف حيناً ، وبالتعليق السري حيناً آخر ، وبالإنكار
العلني أحياناً ، فقد أدرك الناس فداحة ما أقدموا عليه ، وأيقنوا بإفلات الأمر ،
وعلموا بما أنطوت عليه نيات القوم ، فبين متحمس صابر ، وبين متأفف ناقم ، وبين
متخاذل صامت ، والكل بين بين ، وكان هذا بعد فوات الأوان ، فقد عض عثمان بناجذيه
على السلطان ، وفوض أمور الدولة إلى بني أمية بعامة ، وإلى مروان بن الحكم بخاصة.
وبدأ انتهاك حرمة الإسلام في مسيرة
عثمان ، وظهر ما كان خافياً من تصرف ولاة الأمور ، فالمانصب تقتسم بين المؤيدين
والمقربين والأغمار ، والأموال تحتجن من حلها ومشتبهها ، والأحكام يتلاعب فيها
دونما الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والإرتجال في اتخاذ القرار لا يمّت إلى
سيرة الشيخين من قريب أو بعيد ، والمسلمون بادئ الأمر بين هنات وهنات يقدمون رجلاً
ويؤخرون آخرى والخليفه الجديد ينعم بالذهب والفضة ويجور بالاقطاع والعقار ، حتى
نسي المسلمون شظف العيش وعسر الحياة ، وحتى انغمر شباب المسلمين بالبذخ والترف
والإسراف ، فها هي الفتوح تتحفهم بالغنائم والجواري ، وها هي المدينة تتراقص
باللهو والحياة الفارهة ، وها هم أبناء المهاجرين يتخذون الدور والقصور ، وها هم
الأمويون في بلهنية من العيش والدعة ، حتى استفحل الأمر ، وضاق الإناء بما فيه ،
فبدأت تباشير المحنة وطلائع الفتنة تقترب من الخليفة الذي لا يضع شيئاً ولا يرفع
آخر إلا باستشارة مروان ، وقد يقضي مروان بما شاء دون علم منه ، وعليٌّ 7 يشاهد هذا كلّه ، ولا حول له ولا طول.
ولم يكن من علي 7 خلاف لعثمان (رض) فقد اعتاد مرارة
الصبر ، وشجا التحمل والمكاره ، ولم يشأ أن يأخذ حقه بالعنف ، ولا استساغ أن يعلن
الثورة ، وإنما كان كأحد الناس بايع عثمان فيمن بايعه ، وصبر على أعماله فيمن
صبروا ، وإعتزل حياة الحكم والسلطان ، مؤثراً مصلحة الإسلام العليا ، وهي هدفه
الأول والأخير ، يستشار لماماً فيشير سداداً ، ويتجاهل فيحلم كاظماً ، وتنتهك
الحرمات فيحتج غضباً ، وتستلب حقوق المسلمين فيجاهر بالغضب لذلك ، ويتشاغل بنواضحه
مرة ، وبمزارعه الموقوفة مرة أخرى ، إلا أنه حريص كل الحرص على أداء رسالته فقهاً
وإفتاءً ما وسعه إلى ذلك السبيل ، كما حرص على النصح الكريم لعثمان في حدود لا
تسمح له بأكثر مما أعطى ، ولكن السيل الجارف أتى على كل القيم التي من شأنها أن
ترتفع بالإنسان إلى مستوى المسؤولية ؛ وكان مصدر هذا السيل المتدافع حاشية السلطان
، وأسرة السلطان ، وضعف السلطان ، فاحتجزوا لأنفسهم كل شيء دون المسلمين ، إستصفوا
الأموال وتقاسموا الفيء ، واستبدوا بمراكز الدولة المهمة ، ونبذوا كتاب الله
ظهرياً ، فتذكر الناس قول عمر عند الموت لعثمان : « كأني بك ؛ وقد قلدتك قريش هذا
الأمر ، فحملت بني أمية ، وبني أبي مُعيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء فسارت
إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ».
وكأن عمر كان ينظر في مرآة الغيب لأعمال
الرجل ، واستيلاء بني عمومته الأمويين على كل شيء ، وما ينتظر هذا الاستيلاء من
مصير محتوم للخليفة المحكوم ، وكان الأمر كما تنبأ به عمر (رض).
لقد نقم المسلمون على عثمان جملة من
القرارات الجائرة في المال والتولية والأثرة والإبعاد والتقريب والنفي واللامبالاة
في كل شيء
مما ذكره جميع
المؤرخين دون استثناء ، ومما يطول معه الكلام ، ولا يستوعبه البيان الموجز.
لذا رأيت أن أشير إليه في بعض المظاهر
العامة دون الدخول في التفصيلات المضنية التي ارتسمت علائمها في التأريخ طيلة أيام
عثمان في الحكم ، فلم تعد سراً حتى يذاع ، ولا لغزاً فيحل ، فهي من المتسالم عليه
جملة وتفصيلاً ، والإشارة الهادفة إليه قد تغني عن الإسهاب بما هو متواتر مشهور.
في طليعة ما نقم المسلمون على عثمان
ومنه ، هذه الإجراءات التي أصنفها على سبيل التنظير لا الحصر :
أولا
: الأموال والفيء ؛ لم يسر عثمان على سنة النبي 6
في بقسيم المال بالسوية ، ولا صرف الفيء في مستحقيه من الرعية ، ولا راعى في ذلك
سيرة أبي بكر في التسوية ، ولا سيرة عمر في التفاضل ، وإنما خصّ بذلك أسرته
ومقربيه دون مسوغ شرعي :
١ ـ إفتتح المسلمون أرمينية في عصره ،
فأخذ خمس الغنائم كله ، وكان عظيماً ، ووهبه إلى مروان بن الحكم ، فقال عبد الرحمن
بن جنيد الجمحي بيته المشهور :
وأُعطيتَ مروان خمسَ البلادِ
|
|
فهيهات سعيكَ فِيمَن سعى
|
٢ ـ افتتح المسلمون إفريقيا في عهده ،
فأعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة جميع ما أفاء الله به على
المسلمين من الغنائم لتلك البلاد الواسعة.
وعبد الله هذا أسلم ظاهراً ، وكان يحرّف
الوحي القرآني ، وارتد كافراً وعاد إلى مكة ، وأهدر النبي 6 دمه يوم الفتح ، وتشفع فيه
عثمان عند النبي 6 فسكت النبي بغية أن يقتله أحد المسلمين
فهو مهدور الدم ، وتواكل المسلمون بذلك ، فأخذه عثمان وانصرف على كراهية من النبي.
٣ ـ قال ابن أبي الحديد : إن رسول الله 6 تصدق بموضع سوق في المدينة يعرف
بنهروان على المسلمين ، فأقطعه عثمان إلى الحرث بن الحكم شقيق مروان ، وأقطع عثمان
مروان فدكاً ، وكانت لفاطمة الزهراء 3.
٤ ـ أعطى عثمان أبا سفيان بن حرب مائة
ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بمائة ألف ، فاحتج زيد بن أرقم
صاحب بيت المال ، وجاء بالمفاتيح ووضعها بين يدي عثمان ، وقال : والله لو أعطيت
مروان مائة درهم لكان كثيراً عليه ؛ فقال عثمان : ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنا
سنجد غيرك ، فألقى زيد بن أرقم مفاتيح بيت المال.
٥ ـ أتاه أبو موسى الأشعري بخراج العراق
والسواد وكان مالاً عظيماً ، فوزعه عثمان على بني أمية كله.
٦ ـ حمى عثمان المراعي حول المدينة
المنورة كلها ، ومنع عنها مواشي المسلمين ، وأباحها لمواشي بني أمية خاصة.
٧ ـ طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد
شيئاً من المال ، فأعطاه أربعمائة ألف درهم من بيت مال المسلمين.
٨ ـ أنكح عثمان الحرث بن مروان ابنته
عائشة ، وأعطاه مائة ألف درهم من بيت المال.
هذا ما كان معروفاً علناً لدى المسلمين
كنماذج من البذخ والسرف بالمال والحقوق ، أما صلاته السرية وعطاياه من وراء الستار
فكانت
تكلف بيت المال مئات
الآلاف سنوياً ، وما كان يوصله مروان إلى الحاشية غير معدود بالحساب فبيت المال
بيد مروان.
ثانياً
: في المجال السياسي والإداري ؛ اشتد غضب المهاجرين والأنصار على مخالفة عثمان
لرسول الله 6 فيما قضى من
شؤون إدارية ، وأخرى سياسية كان أبرزها :
١ ـ ما تم من إرجاعه للحكم بن أبي العاص
، وكان يؤذي رسول الله ويشتمه ويحكي مشيته مستهزئاً ، ويخلج بأنفه وفمه ويقلد
بحركاته النبي ، فالتفت النبي إليه يوماً وأبصر ما يصنع فقال : « كن هكذا ». فبقي
إلى أن مات يختلج في مشيته وحركاته.
وأطلع على رسول الله 6 وهو في بعض حجر نسائه اختلاساً ، فخرج
إليه رسول الله 6
مغضباً ، وقال : « من عذيري من هذه الوزغة اللعين ، لو أدركته لفقأت عينه ، والله
لا يساكنني وولده في بلد واحد ».
وأخرجهم جميعاً إلى الطائف ، فرده عثمان
إلى المدينة جهاراً هو وولده وأسرته ، فأنكر ذلك المسلمون ، وعظم عليهم كثيراً ،
ولم يكتف عثمان بهذا القرار بل ولاّه صدقات قضاعة فبلغت ثلاثين ألفاً فوهبها له.
وقد رفض ابو بكر وعمر إرجاع الحكم هذا
إلى المدينة بشفاعة عثمان ، وقال كل منهما : ما كنت لآوي طريد رسول الله 6.
٢ ـ وصف النبي 6 عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأنه : عدو
الله وعدو رسوله ، وأمر بقتله ولو وجد متعلقاً بأستار الكعبة ، فلما تولى عثمان
ولاه على مصر سنة خمس وعشرين وبقي فيها إلى سنة أربع وثلاثين حينما ثار عليه محمد
بن أبي حذيفة بن عتبة فتولى عنه إلى عسقلان ، وأقام فيها حتى قتل عثمان.
وكان ابن أبي سرح في مصر ، يعيش حياة الترف
والبذخ ، ويحيا ليالي المجون والخلاعة ، ويقتنص ما لذ وما طاب من غنائم المسلمين ،
ويحتجز ذلك لنفسه ولحاشيته طيلة عشر سنوات من الحكم الرخي اللذيذ.
٣ ـ ولّى عثمان الوليد بن عقبة بن أبي
معيط حاضرة الكوفة وكان يعرف هو وإخوته بصبية النار ، وسبب ذلك أن النبي قد أمر
بقتله وكان أسيراً في غزوة بدر ، فقال : أأقتل دون قريش؟ فمن للصبية يا محمد؟ فقال
النبي : النار.
والوليد أخ لعثمان من أمه ، وقد نشأ في
أحضانه ، وأسلم يوم الفتح ظاهراً ، وتولى للنبي 6
صدقات بني المصطلق ، وما لبث أن عاد إلى المدينة ، وأخبر النبي 6 بإرتداد هؤلاء عن الإسلام زوراً
وبهتاناً ، واستطلع النبي الحال فوجدهم بخلاف ذلك ، ونزل فيه قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) .
فسمي يومئذ بالفاسق ، فقربه عثمان ،
وأعلا منزلته ، وكان يجلس مع عثمان على سريره ، وولاه الكوفة وعزل عنها سعد بن أبي
وقاص ، فلما دخل على سعد ومعه كتاب الولاية ، قال سعد : « والله لا أدري أكست
بعدنا ، أم حمقنا بعدك » فقال الوليد : « لا تجزعن أبا إسحاق ، إنه الملك يتغداه
قوم ، ويتعشاه آخرون » وكان حرياً إلى أن يكشف ما هو الواقع في الأمر فهو الملك لا
أكثر ولا أقل فما كاس يوماً ولا حمق سعد.
__________________
وتسلم الوليد ولاية الكوفة ، وكان
خليعاً ماجناً يتجاهر بالخمرة ، ولا يفيق من السكر ، وهو إمام القوم وصلى بالناس
صلاة الصبح أربع ركعات ثم تهوع بالمحراب ، وأضاف إلى ذلك الأفاعيل وأتبعها
بالأباطيل ، فضج أهل الكوفة عليه وعلى عثمان ، وتشدد عليّ 7 فأمر بإقامة حد السكر عليه ، وعزله
عثمان بعد اللتيا والتي ، وأخلفه بسعيد بن العاص ، فكان أدهى وأمر ، وأنكى وأشر ،
فجرت بينه وبين أهل الكوفة خطوب انتهت بالثورة المسلحة على عثمان.
٤ ـ أقر عثمان معاوية على الشام كلها
بما فيها حمص وفلسطين ، فاستهتر بالحكم ، وإستبد بالولاية ، وسار في الناس سيرة
ملوك الروم حتى عدّ من الجبارين في الأرض ، وعمد إلى بيت المال فانتهبه انتهاباً ،
وأسرف على نفسه إسرافاً كثيراً ، وتحين إلى شراء الضمائر بالمال ، وإمتلاك الذمم
بالإمارات الصغيرة وخنق الأنفاس بالإرهاب وهو يتصنع الحلم ، وبذر أموال المسلمين
وهو يتظاهر بالكرم ، وبنى الخضراء وأنفق على بنائها عائدات الفيء والخراج بملايين
الدراهم أو الدنانير الذهبية ، وكان يكثر من القول : « إن الأرض لله ، ونحن خلفاء
الله في أرضه ، فما أخذناه من الأموال فهو لنا ، وما تركناه فهو جائز لنا ».
وأنكر المسلمون هذا القول ، وأنكروا منه
تلك الأعمال التي أرتكبها مخالفاً بها الشريعة ، وأنكروا منه التلاعب بحقوقهم
والإعتداء على ممتلكاتهم ، والإستهانة بأقدارهم ، وشكوه إلى عثمان فما غير ولا بدل
، ووسطوا له علياً ، فما استمع ولا أقال.
٥ ـ أطلق عثمان لبني أمية ومسلمة الفتح
العنان في تخير آفاق الدنيا ، وتولي شؤون الحكم ، فالوليد بن عقبة على الكوفة
فسعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر بن كريز ابن خالته على البصرة ، وعبد الله بن
سعد على مصر ، ويعلى
بن أمية على اليمن ، وأضرابهم في الولايات الأخرى ممن لم يكونوا في عداد المسلمين
قَدماً وقُدماً ، فهم بين الناس من أغمار الناس ، وظل أبناء المهاجرين والأنصار
تبعاً لهم وعالة على أنفسهم ، لا يتمتعون بطائل ، ولا ينعمون بنائل ، فهم من سواد
الناس بلا عمل مناسب ، ولا مركز محسود ، واستبد أبناء الطلقاء بكل شيء.
ثالثاً
: ضعف السلطان ؛ كان ابو بكر (رض) ليناً في غير ضعف ، وكان عمر (رض) شديدا في عنف
وغير عنف ، وكان أبو بكر يمزج لينه بصرامة وحزم ، وكان عمر يمزج شدته بصيحته ودرته
؛ وقد اعتاد الناس هذا اللون من الحكم ، فالحاكم هو الآمر الناهي ؛ وحينما ولي
عثمان (رض) أختلفت الحال ، فقد كان رفيقاً مع أسرته ، متسامحاً مع حاشيته ، حتى
عاد بين هذه الرقة وذلك التسامح ضعيفاً مستضعفاً ، ولم يبق لعثمان في الحكم إلا
الأسم ، وصار رمزاً شاخصاً للخلافة ليس غير ، وسيطر مروان بن الحكم سيطرة تامة على
السلطان ، فادار الحياة السياسية والإدارية كما يشاء وبما يشاء ، حتى ظهر للعيان
أن الخليفة محكوم عليه ، وأن الشؤون العليا للدولة يستبد بها مروان استبداداً
تاماً حتي قيل أن ختم عثمان الذى يمضى به الامور كان بيد مروان وأفاق المسلمون على
هذه الحقيقة ، فرأوا التولية والعزل يصدران عن مروان ، ورأوا المال والفيء يقسم
بإشارة مروان ، ورأوا الأوامر تنفذ عن رأي مروان ، ولم يكن مروان محبباً للنفوس ،
ولم يكن ورعاً في أمانته ، ولم يكن قديراً على إدارة دفة الحكم ، وما زال المسلمون
ينظرون إليه وإلى أبيه بأنه طريد رسول الله وابن طريده ، وما زالت النظرة إلى
مسلمة الفتح فيها كثير من الإستهانة ، فهو ليس هناك كما يقال.
وتوسع المسلمون في الفتوح ، وترامت
أطراف الدولة ، وكثرت
الحاجة إلى الخبراء
والإداريين ، وإذا بمروان يعيّن من يشاء ، ينصب من يشاء ويعزل من يشاء. وكان
المقربون لمروان أكثر الناس عائدية في المناصب والدواوين والإقطاع ومراكز السلطة ،
وكان المستهينون بمروان أبعد الناس عن الحباء والعطاء ومواطن القوة ، فتمتع
المستغلون لمروان بما وسعهم من الأثرة والنفوذ والتقلّب بأحضان الإمتيازات ، وحرم
المستضعفون من أبسط حقوقهم في الجاه والمال والمنافع ، وكان المستغلّون هم القلة
من الناس ، وكان المحرومون هم الأغلبية العظمى من المسلمين.
وأدرك المسلمون هذا التفاوت ، وعز عليهم
هذا الاستئثار ، وجحفهم ذلك الاستبداد ، وكان مروان وراء ذلك كله أو جلّه ،
فاستعانوا على تغيير ذلك بعلي ، فسفر بينهم وبين عثمان ، فما استمع عثمان للنصح ،
ولا استبعد مروان عن التسلط ، ونعت نائلة بنت الفرافصة زوج عثمان على عثمان تفويض
الأمر إلى مروان ، وطلبت إليه العمل بما يشير عليه علي 7 ، ولكن الرجل كان رحيماً بذوي رحمه ،
رقيق القلب معهم ، كثير الحدب عليهم ؛ فما غيّر ولا بدّل ، ولا أجاب ولا استجاب.
وتناهى إلى المسلمين كل ذلك ، وأكثر من
كل ذلك ، فغضب منهم من غضب ، ونقم على عثمان من نقم ، وتعكر الجو ، ودبت في النفوس
بوادر الثأر لما يحدث ، وانطوى تفكير الناس على كثير من التخطيط المنظم وغير
المنظم ، وكانت الجمرة تتقد من وراء الرماد.
وكان مروان يسمع ويرى ، فما تغير موقفه
، ولا نظر في أمره وأمر الخليفة المحكوم ، بل ازداد إمعاناً في الأثرة ، وتولى
تسفيه آراء المعارضة لدى عثمان ، وأمّن له عثمان ، وأيد بنو أمية ، وتراكم السوء
على السوء ، وتعقدت
الأحوال حراجة ، واندفع المرجفون بعثمان في المدينة يستقبلون المرجفين به في
الأمصار ، يسمعون منهم ويستمعون إليهم ، وعثمان في غفلة أو تغافل مما يراد به ومنه
، حتى انتقض عليه الداخل ؛ وتألب عليه الخارج ، واستحكمت بوادر الفتنة ، وبدت
علائم الثورة ، فقد وعن المسلمون أن الخليفة مسيّر لا مخيّر ، وأن مروان وحده وليّ
الأمر ، وأن الكتب تصدر عن مروان بختم عثمان ، وأن الحرمات تنتهك بإرادة مروان ،
فمروان كل شيء عند عثمان ، ولا شيء لعثمان مع مروان.
وقد صور أمير المؤمنين إثرة عثمان ،
واستئثار بني أمية خير تصوير ، وعزا إلى ذلك انتقاض أمر عثمان فقال : « إلى أن قام
ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله
خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن إنتكث فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ».
وقد أشار علي 7 مضافاً لما تقدم إلى حياة الرفاهية ،
ومصادر الثروة ، ودواعي البطنة ، مما تقدم بعض ذكره ، ويأتي بعضه الآخر ، وهذا ما
جرّ إلى الدواهي التي افتتن بها الصحابة ، وتوجهوا معها إلى اكتناز الأموال ،
وتبني الإقطاع ، وتعدد الضياع ، وتملك العقار ، مما لم يكن من نظام الإسلام في شيء
، ولا من سنة النبي 6
التي ألفها الناس ، ولا من سيرة الشيخين التي اتسمت بالكفاف ، وهذا الملحظ هو
الظاهرة الرابعة التي سنتحدث عنها.
رابعاً
: التفاوت الطبقي وتضخم الملكية الفردية ؛ أطلق عثمان العنان للملكية أن تتضخم ،
وللثروة أن تتكاثر ، وللإستقراطية القرشية أن
تتحكم في المال ،
وقد مهدّ لهذا الحدث بقرارين مهمين ما كانا من ذي قبل :
الأول
: سماحه لكبار الصحابة من المهاجرين
والأنصار أن يتنقلوا بين الأقاليم والبلدان ، وألغى الحضر السياسي الذي اتخذه
الشيخان عليهم من ذي قبل في مغادرة المدينة.
الثاني
: وسع عثمان على ذوي الثروة بأن لهم الحق المشروع بنقل فيئهم إلى حيث يقيمون من
البلاد ، وكان أثر هذا أن تم استبدال مال بمال ، وضياع بضياع ، وعقار بعقار ،
وتنافس الصحابة في ذلك ، فمن أراد بيع أرض في الحجاز تم له ذلك بشراء أرض في
العراق ، ومن رغب بتضخم ماله في الحجاز ، باع سهمه من فيئه في الأقاليم واستثمره
فيما يشاء ، وكان هذا يستدعي الأيدي العاملة والطبقة الناهضة بالمهمات الجديدة ،
وما إن وضع هذا القرار موضع التنفيذ حتى رأينا الصحابة يسارعون باستبدال ما كان
لهم من أراضٍ في الأقاليم المفتوحة ، بالأراضي في الحجاز والعراق واليمامة ، وكانت
مهمة استصلاحها زراعياً تلقى على عاتق أولئك النفر من الموالي والرقيق والأسارى ،
فانتشروا في بلاد العرب ، وحققوا لأمراء العرب ما أرادوا حرثاً واستثماراً وعائدية
أملاك عريضة ، ونجم عن ذلك تسرب تقاليد لم تكن ، وحضارات لم تعرف ، إلى إلى هذه
البلاد وتلك ، وكثر العبيد والموالى فافسدوا ذائقة العرب فى عاداتهم فانتثر الترف
والبذخ وشاع الغناء والمجون ، فانتقل المسلمون من مناخ الدعة إلى الإضطراب ، ومن
حياة الكفاف إلى الإسراف ، ومن الإعتماد على النفس ولأبناء في إدارة الأعمال إلى
التوكل على الرقيق الذي أضحى يدير شؤونهم ، ويشرف على حياتهم ، ويتولى زراعة أرضهم
، وخدمة نسائهم ، وتصريف أموالهم.
كان من شأن القرار الأول لعثمان أن
تفتحت عيون المسلمين على حياة جديدة في الأمصار المفتوحة ، وما كان كل المسلمين يستطيع
أن يتطلع لهذه الحياة ، بل كان أكثرهم قدرة على السياحة والإستثمار والتجارة أن
يتمتع بها ناعماً فارهاً ، وكان جملة من الصحابة قد بارك هذا المناخ الجديد ، ونقل
معه رؤوس الأموال فأبتاع بها ما شاء من متاع في الأرض والعمارة ، وألحق بذلك ما
شاء من الرقيق القائم بهذا العمل أو ذاك ، فتحرك في النفوس ما كان هادئاً من الترف
والرخاء ، وتماشى الزهو والبطر في الإستزادة من الذهب والفضة والعقار ، وإذا
بالأموال تنمي الأموال ، وإذا بالثراء يضاف إلى الثراء ، فإزداد الشر وإزداد النكر
، ووقف فقراء المسلمين ينظرون إلى كل هذا ولا يملكون شيئاً منه ، ويتابعون هذا
التحول الخطير ولا يزودون بلماضة فيه ، فيسارعون إلى النقمة ، ويتحولون إلى
الإنكار ، فتنطوي الصدور على الاحقاد والأوغار ، وتشتمل الأفكار على ابتداع الخطط
والمؤامرات ، عسى أن ينعموا بالمساواة ، أو يهتبلوا الفرصة بالمواساة ، ولم يكن
هذا ولا ذاك.
وكان من شأن القرار الثاني أن يدعم
القرار الأول في كل جزئياته المتناثرة هنا وهناك ، فالمال في الحجاز غير الأرض في
العراق ، والإستثمار بخيبر غير الإستثمار بالطائف ، والتقوقع في مكان واحد غير
الإنتشار في الأقاليم المفتوحة ، والسبق إلى التنافس غير الجمود والقناعة ، إتسعت
الملكية الخاصة ، وتطورت الثروة المشروعة وغير المشروعة ، وتهامس الناس هنا وهناك
عن مصادر هذا الثراء الفاحش ، وموارد هذا الإستئثار القائم ، وهناك الطبقات
المحرومة من الأعراب وصغار الملاكين ، وهناك المستضعفون من المسلمين الزاهدين ،
وهناك من لا نصيب له بتجارة ، ولا عهد له بزراعة ، وهناك أكثر من هذا كله ،
من لا عهد له بالشبع
ولا طمع له بالقرص ، وكان من شأن هذا أن يألب الناس على صاحب القرارين ، وأن يوجه
عنايتهم إلى التغيير ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ولم يكن المجتمع ليغفر هذا التفاوت
الطبقي ، فقد عهد رسول الله 6
وهو يحقق العدل الاجتماعي ، كما عهد صحابته زاهدين في حطام الدنيا ، ونظر في أهل
بيته فوجدهم مواسين بما لديهم من فضول أموالهم البؤساء والفقراء ، أما هذا التمحض
للمال ، والتفرغ التام للدنيا ، فلم يخطر على بال أحد منهم ، وعسى أن يكون مظهر
إرتداد عن منهج الشرع المستقيم ، وأن يبدو مظهر جزع وفزع لدى السواد الأعظم من
الناس ، ككان صغار المسلمين يتهافتون على الحروف ، ويتنافسون على الفتوح ، وكان
كبارهم يتنافسون على تشييد القصور ، وإحتجان الأرباح ، ومن أمثلة مظاهر هذا الترف
المسرف ، وهذا الإسراف المترف ما يذكره المؤرخون مجمعين عليه قالوا :
فلما بنى عثمان قصره ( طمار والزوراء )
صنع طعاماً نفيساً ، ودعا إليه الناس ، وكان فيهم عبد الرحمن بن عوف الذي صفق على
يديه مبايعاً له على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين ؛ فلما نظر عبد الرحمن إلى
عظمة البناء ، وألوان الطعام ، قال : يا ابن عفان : لقد صدقنا عليك ، ما كنا نكذب
فيك ، وإني أستعيذ بالله من بيعتك ، فغضب عثمان ، وقال : أخرجه عني يا غلام ،
فأخرجوه ، وأمر الناس ألا يجالسوه ، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس ، كان يأتيه
فيتعلم منه القرآن والفرائض ، ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان ، وكلّمه فلم يكلّمه
حتى مات.
وعبد الرحمن هذا المنكر على عثمان بذخه
في القصور ، لم ينكر
على نفسه تلك الثروة
الهائلة التي تمتع فيها بما شاء في الحياة ، وترك منها ميراثاً عظيماً ، فكان له
ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، وكان يزدرع في الجرف على عشرين ناضحاً وترك أربع
زوجات ، كان نصيب كل واحد منهن من الثمن يقوّم ما بين ثمانين ألف دينار إلى مائة
ألف دينار. وذهب بعض المؤرخين أن عبد الرحمن بن عوف ترك من الذهب ما يقطع بالفؤوس
حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك من الضياع والأراضي ما لا يقدر بثمن ، ومن جياد
الخيل مائة فرس لا نظير لها عند العرب.
وطلحة بن عبيد الله كان أول من استنبت
القمح في الحجاز ، ولم مات كانت تركته ثلاثين مليون من الدراهم ، وكان النقد
السائل منها مائتي ألف دينار ، ومليونين من الدراهم الفضية ، وكان سائرها عروضاً
وعقاراً كما يرى ذلك أبن سعد في الطبقات ، ومع هذا الثراء الفاحش فإنه اقترض من
عثمان خمسين ألفاً ، فقال لعثمان : قد حضر مالك ، فأرسل من يقبضه. قال عثمان : هو
لك معونة على مروءتك ، ووصله أيضاً بمائتي ألف ، ولعل ذلك أول البداية في الثروة
الهائلة التي عززّها عثمان بكثير من العقود والصفقات التجارية ، فقد ذكر المؤرخون
أن بين عثمان وطلحة مبايعات على مستوى رفيع ، يبيع طلحة ويشتري عثمان في الحجاز ،
ويبيع عثمان ويشتري طلحة في العراق.
والزبير بن العوام ذو السيف الذي طالما
جلى الكرب عن وجه رسول الله 6
كان ذا ثروة طائلة ، وغنى مستفيض ، فله ضياع في البصرة ، وضياع في السواد من أرض
العراق ، وخطط في الفسطاط وخطط في الاسكندرية ، وكانت له عروض ضخمة ، وغلاّت
متزايدة ، وكانت تركة الزبير تركة جبّارة تتراوح بين خمسة وثلاثين مليوناً ،
واثنين
وخمسين مليوناً ،
وهي أرقام خيالية يذكرها المؤرخون بكثير من التأكيد ، فمن قائل إنها خمسة وثلاثون
مليوناً ، ومن قائل إنها أربعون مليوناً ، ومن قائل إنها اثنان وخمسون مليوناً ،
ولا ندري أكان ذلك الميراث دراهم أو دنانير.
وهذا الذي قد اعتزل الفتنة فيما زعم ،
ولم ينصر الحق وهو الأمثل به ، ولم يخذل الباطل وهو من واجبه ، أعني به : سعد بن
أبي وقاص ، فقد رثى لحاله المؤرخون ، واعتبروه ذا ثروة متواضعة إذ ترك ما بين
مائتي ألف وثلاثمائة ألف ، وهو شيء يسير بالنسبة لما ترك أصحاب الشورى كما رأيت
قريباً.
كان رأي الناس أن المسؤول عن هذا الثراء
المقيت هو عثمان ، لأنه فتح له الأبواب ، وخص به طبقة دون طبقة ، فأضيف ذلك إلى ما
نُقم عليه به من ذي قبل.
(٩)
سياسة عثمان من الصحابة والمعارضة
لم تكن السياسة المالية التي انتهجها
عثمان وحدها مما نقم بها عليه الناس ، ولم تكن الأثرة في السلطان وإدارة التولية
والعزل وحدها مما أخذ به المسلمون عثمان ، ولم يكن ضعف السلطان أيضاً ، ولا
التفاوت الطبقي وتضخم الملكية الخاصة مما أجلب على عثمان فحسب ، فهناك عامل مهم
نشأ في ظلال ذلك ، وترعرع في أحضان هذه السياسة بمجموعها ، هو عامل الإنتقام من
الخصوم تارة ، والنفي والتشريد لمعارضيه تارة أخرى ، ولست أدري هل يجوز للحاكم
الانتقام والثأر لنفسه بمجرد نصحه والإنكار عليه؟ وما هو الحد الذي يباح للسلطان
في تغريب معارضيه؟ ونفي المنكرين عليه عن ديارهم وأوطانهم ؛ وما هو حق الولاة في
خنق الأنفاس وكبت الحريات ، ومؤاخذة الناقمين بآرائهم؟ هذا إذا كان الحاكم حاكماً
بتفويض من الشعب ، وكيف به إذا كان ـ فيما يزعم ـ متجلبباً برداء ألبسه الله إياه؟
وقد كان عثمان يقترف كل ذلك ، وولاة عثمان يقترفون ذلك وأكثر من ذلك ، فالبصري
ينفى إلى الشام ، والكوفي ينفى إلى الحجاز ، والمكي ينفى إلى الربذة ، ولستُ بإزاء
إحصاء ذلك فقد يطول ذكره ، ولكني بسبيل متابعة ما نقمه المسلمون على عثمان تجاه
ثلاثة من كبار الصحابة إنشقوا على حكمه ، ونعوا عليه تصرفاته بكثير من الإصرار ،
وهؤلاء
الثلاثة هم : أبو ذر
الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، ولكل حديثه الخاص به ، ولكل عقابه
الذي إبتكره عثمان.
أولاً
: أبو ذر الغفاري :
هو جندب بن جنادة ، ممن سبق إلى الإسلام
، وكان في بداية نشأته بأرض كنانة يلفحهُ حرّها ومناخها الجاف ، ويعصره زمهريرها
وبردها القارس ، عاش في شظف من القوت لا يكاد يسد رمقه ، وتقلب في مكاره الدهر حتى
ألفها ، أسلم في مكة طائعاً ، وهاجر إلى المدينة راغباً وشهد مع رسول الله 6 المشاهد كلها وكان الى جنب علي 7 في حياة النبي 6 وبعد وفاته ، ومن السابقين إلى موالاته
والقول بإمامته ، وكان حبيباً لرسول الله ، مقدماً عنده ، مشهوراً بصدقه وصراحته ،
معروفاً باستقامة الفطرة ، وصفاء السجية ، حتى قال فيه رسول الله 6 :
« ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء
رجلاً أصدق لهجة من أبي ذر ».
وما ذلك إلا لصرامته في الحق ، وجديته
في الصدق ، فهو لا يخشى أحداً ، ولا يجامل أحداً ، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
هذا البدويُّ الذي عركته الصحراء
بمناخها ، ووهبته البادية صلابة طبيعتها ؛ إصطرع أيام النبي 6 مع حياة التقشف والزهد فألفها ، وذاق
مرارة العسر فأساغها ، ورأى النبي عليهماالسلام يشدّ حجر المجاعة على بطنه فيستن
بسنته ، ويرى من سياسة أبي بكر وعمر (رض) في المال ما يعجبه حيناً ، أو يناقشه
حيناً آخر ، ولكن ما يراه كان ملائماً لفطرته النقية بضم بعضه إلى بعضه الآخر ،
وإذا به يفجأ في عصر عثمان
بالممتلكات العريضة
لطلحة والزبير في الحجاز والعراقيين ومصر ، وينظر بذخ معاوية وسرفه في المال
والبناء في الشام ، ويشاهد مروان بن الحكم يحتجز من الفيء ما لا يوفيه الحساب ،
ويلفي ابن أبي سرح يتمتع بخمس إفريقيا كله ، وينظر عثمان بجزل العطاء دون بصيرة ،
فيعطي الحارث بن الحكم طريد رسول الله 6
ثلاثمائة ألف درهم ، ويعطي زيد بن ثابت مائة ألف درهم ، ويعطي هذا وذاك مئات
الألوف بغير مقياس يقيده ، ولا ميزان يزن به حقائق الأشياء ، وينظر ثروة ابن عوف
ذهباً وفضة وكراعاً وماشية وعقاراً ، ويلاحظ ترف طلحة في التأنق والعبيد والإماء
وعائدات خيبر ، ويستمع لأنباء ممتلكات الزبير في العراق والفسطاط ضياعاً وإقطاعاً
، فيبهت لهذا كله ، وينكره أشد الإنكار ، ويتلو قوله تعالى : (
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )
.
ويشكو مروان نكير أبي ذر لعثمان ،
وينهاه عثمان عن ذلك فيحتج قائلاً : أي أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، لأن
أرضي الله بسخط عثمان ، أحب إليّ من أن أرضي عثمان بسخط الله.
وتشيع هذه المقالة في الآفاق ، وتتوتر
العلاقة ببين أبي ذر وعثمان ، ويكثر نقد أبي ذر ويزداد غضب عثمان ، ويقول أبو ذر
ويجيب عثمان ، وتتعالى صيحات أبي ذر فيجزع عثمان ، ويحاول إليه السبيل فيجده
مغلقاً.
فقد كان كعب الأحبار يحتل الصدارة من مجلس
عثمان ، فيقول أبو ذر لعثمان وكعب حاضر : لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يقنع حتى
يطعم الجائع ، ويعطي السائل ، ويبّر الجيران ؛ فيقول كعب : من أدى
__________________
الفريضة فحسبه ؛
فغضب أبو ذر ، وقال لكعب : أتعلمنا ديننا يا ابن اليهودية. فأثار ذلك عثمان ،
وأمره أن يلحق بالشام ، وألتحق أبو ذر بالشام برقابة مشددة من معاوية ، وأنكر على
معاوية في الشام ، ما أنكره على عثمان في المدينة ، وكان معاوية يقول : المال مال
الله ، ونحن أمناء الله على ماله. وما أراد أبو ذر أن يجبهه بأنه قد خان الأمانة ،
ولكنه جبهه بأنه قال : إنما هو مال المسلمين.
وكان الناس يجتمعون في الشام إلى هذا
الصحابي الجليل ، فيقول : ويلٌ للأغنياء من الفقراء. وكثرت تصريحات أبي ذر في هذا
المجال ، حتى إذا بنى معاوية قصر الخضراء ، قال له أبو ذر : « إن كنت إنما بنيتها
من مال المسلمين فهي الخيانة ، وإن كنت إنما بنيتها من مالك فإنما هو السرف ».
وأدرك معاوية أن أبا ذر بإشاعته
المفاهيم الإسلامية في المال وسواه سيفسد عليه الشام فيما يزعم ، فكتب إلى عثمان :
إن كانت لك حاجة في الشام فسير عنها أبا ذر ، فما كان من عثمان إلا أن استجاب لهذا
النداء ، وكتب إلى معاوية :
أن أحمل إليّ جندباً على أغلظ مركب
وأوعره ، فحمله على أشد مركب ، ووصل المدينة أبو ذر ، وقد تساقط لحم فخذيه كما
يقول المؤرخون ، وأدخل على عثمان فقال له : لا أنعم الله بك علينا يا جنيدب ؛ فقال
أبو ذر : أنا جندب وسماني رسول الله عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله الذي سماني
به على اسمي ، فقال له عثمان ، أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وأن
الله فقير ونحن أغنياء ، فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون ذلك لأنفقتم مال الله
على عباده ؛ وأنا أشهد أني سمعت رسول الله 6
يقول :
« إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً ،
جعلوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، ودينه دخلاً ».
فقال عثمان لمن كان حاضراً : أسمعتم ذلك
من رسول الله؟ فأنكروا سماعه ، فاستدعى عثمان علياً وسأله ، فقال الإمام علي 7 إني لم أسمع ذلك من رسول الله ، ولكن
أبا ذرّ صادق فيما يقول ، لأني سمعت رسول الله 6
يقول فيه :
« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء
من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ».
فقال كل من حضر : أما هذا فقد سمعناه من
رسول الله.
ولم يجد عثمان في هذا سبيلاً على أبي ذر
، فعمد إلى سياسته في النفي والتغريب ، فأمر أبا ذر بالرحيل إلى الربذة منقطعاً عن
الناس ، ومنع الناس من توديعه ، وأشرف مروان بن الحكم على تنفيذ الأمر ، فلم يخرج
إلى توديعه إلا الإمام علي 7
وأخوه عقيل ، وابناه الحسن والحسين 7
وعمار بن ياسر ، وكان مشهد الوداع مثيراً ، إذ تكلم كل واحد من المودعين بما
يناسبه ، وقال علي أمير المؤمنين :
« يا أبا ذر ؛ إنك غضبت لله فارجُ من
غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما
خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك
عما منعوك ، لا يؤنسك إلا الحق ، ولا يوحشك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ،
ولو قرضت منها لآمنوك ».
وانتهى المطاف بمعارضة أبي ذر أن عاش ما
بقي من حياته شريداً في الربذة ، حتى أدركه الموت غريباً لا يجد كفناً ، وشهدت
وفاته عصابة
من المؤمنين من أهل
الكوفة فيهم مالك الأشتر ، وحجر بن عدي الكندي وسواهما ، تولى هؤلاء غسله وكفنه
والصلاة عليه ودفنه في تلك المفازة ، وحملوا زوجته وابنته إلى المدينة ، فتذكر
الناس قول الصادق الأمين 6
:
« يا أبا ذر ؛ تعيش وحدك ، وتدفن وحدك ،
وتحشر وحدك ، ويسعد فيك ناس من أهل العراق يتولون غسلك ، ومواراتك في قبرك ».
وكان نفي أبي ذر وموته وحيداً في غربته
، أول شرارة حقيقية كبرى اندلعت فيها الثورة على عثمان ، وإن لم تكن أول شرارة ،
فهي أورى شرارة قدحاً.
وكان توديع الإمام علي 7 لأبي ذر أول ما نجم بين علي وعثمان من
نقمة وسخط وغضب ؛ فحينما عاد أمير المؤمنين من تشييع أبي ذر ، وزجره لمروان زجراً
عنيفاً ، قيل له : إن عثمان عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ، فأجاب علي بسخرية لاذعة :
« غضب الخيل على اللجم ».
واستدعاه عثمان فقال له : « ما حملك على
ما صنعت بمروان ، واجترأت عليّ ، ورددت رسولي وأمري ».
فقال عليّ : « أما مروان فاستقبلني
يردّني فرددتّه عن ردّي ».
فقال عثمان : « أولم يبلغك أنني نهيت
الناس عن أبي ذر وعن تشييعه؟ » فاستنكر الإمام 7
هذا ، وقال مصرّحاً :
« أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة
الله ورسوله الحق بخلافه ، إتبعنا فيه أمرك ». فأبان علي 7 : أن لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق ، وأن تشييع
المؤمن أمر مندوب إليه في الشريعة ، وإن غضب لذلك السلطان.
وتطورت المحاورة فيما بينهما ، ولوّح
عثمان بمشروعية شتم مروان للإمام ، فقال علي 7
: « وأما أنا فوالله : لئن شتمني ، لأشتمنك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ، ولا أقول
إلا حقاً ».
وهنا بَدَهُ عليّ عثمان بالمجابهة له ،
لأن مروان ليس في عداده ، فلو شتمه مروان لشتم عثمان بالحق لا يتزيد عليه ، فضاق
صدر عثمان وقال :
« ولم لا يشتمك إذا شتمته فوالله ما أنت
عندي بأفضل منه ». فنهره عليّ وزجره عن هذا التسرع في الرد ، وقال : « ألي تقول
هذا القول ، وبمروان تعدلني ، فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمي
أفضل من أمك ».
فصعق عثمان ، وما حار جواباً ، وغص
بريقه على مضض.
هذه الشرارة التي إنقدحت بين علي وعثمان
، كان بنو أمية وراء إذكائها ، يغذون الفرقة ، ويزدرعون الإحن والأحقاد ، حتى كادت
الأمور تتعقد إلى غاية قصوى ، لولا أن يتداركها أبو الحسن بحلمه المعهود ، وقد
أنكر المسلمون هذا وغيره على عثمان.
ثانياً : عبد الله بن مسعود
:
وهو صحابي قديم من هذيل ، التقى بالنبي 6 في شعاب مكة ، وكان يرعى غنماً لعقبة
بن أبي معيط ، فاستسقاه النبي وصاحبه لبناً ، فأبى ذلك لأنه مؤتمن على مال غيره ،
قال له النبي : فهل عندك شاة لم ينزُ عليها الفحل؟ فدفع إليه عبد الله شاة عجفاء ،
فمسح النبي
على ضرعها ، فاحتفل
لبناً ، فاحتلب منه وشرب ، وشرب ابو بكر ، فأعجب النبي بأمانته ، وأعجب عبد الله
بكرامته ، واستيقظ من غفوته ، وأسرع فيمن أسرع للإسلام ، ونزع إلى القرآن فحفظ منه
الكثير ، وجهر به في مكة ، وأوذي في سبيل الله ، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة
، وشهد المشاهد كلها مع النبي ، وهو الذي أجهز على أبي جهل فاحتز رأسه وأتى به
النبي في بدر ، ولازم النبي 6
ملازمة جادّة ، وأخذ عنه القرآن ، واشتهر بتفسيره ، وورد عن النبي أنه قال : « من
أحب أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فليأخذه من ابن أم عبد ».
وتولى خدمة النبي في سفره وحضره ، وكانت
منزلته لديه جليلة ، ورآه الصحابة يتسلق شجرة فضحكوا من دقة ساقيه ، فامتعظ النبي
من ذلك ، وقال :
« إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة
من جبل أحد ».
واستعمل عمر عمار بن ياسر أميراً على
الكوفة ، وبعث معه عبد الله معلماً ووزيراً ، وقال إنه آثرهم به على نفسه ، وتولى
بيت المال في ولاية سعد وظل عليه حتى ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فاستقرضه
الوليد من بيت المال شيئاً فأقرضه ، وطالبه بالمال فمطل له ، وألح عليه ابن مسعود
، فشكاه الوليد إلى عثمان ، فكتب له عثمان :
« إنما أنت خازن لنا ، فلا تعرض للوليد
فيما أخذ من بيت المال ».
فألقى ابن مسعود المفاتيح ، واعتزل في
داره ، وبدأت معارضته لعثمان منكراً ما يشاهد من أحداث ، ومعرضاً بما رآه من بدع ،
فقد كان يخطب كل خميس فيقول :
« إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن
الهدي هدي محمد 6
وشر الأمور محدثاتها
، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ».
وكان الوليد يرى في قوله تعريضاً بعثمان
، فيزود عثمان بما يطعنه به ، ويستزيد من عنده ما يشاء ، لا يتحرج من ذلك ولا
يتأثم ، حتى أوغر صدر عثمان منه ، فأشخصه إلى المدينة ، ودخلها وعثمان يخطب ، فقال
عند دخوله المسجد : « ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء
ويسلح ».
وكان هذا من عثمان استهزاء أي استهزاء ،
وإهانة ما بعدها إهانة ، واستخفاف بمكانة الرجل ، فرّد عليه ابن مسعود : لست كذلك
، ولكني صاحب رسول الله 6
يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. وكان موقف عبد الله فيهما عظيماً ؛ وأنكرت عائشة تهجم
عثمان على عبد الله وقالت : « أي عثمان : أتقول هذا لصاحب رسول الله 6 ».
وأمر عثمان بإخراجه ، فأخرج من المسجد
بعنف وقسوة ، وضربت به الأرض ، فانكسر بعض أضلاعه. فعظم ذلك على المسلمين ،
واستنكر الإمام علي ذلك ، والتفت إلى عثمان قائلاً : « تفعل هذا بصاحب رسول الله 6 عن قول الوليد ». فقال عثمان : ما من
قول الوليد فعلت هذا ، ولكن أرسلت زبيد بن كثير ، فسمعه يحل دمي. فقال علي 7 : زبيد غير ثقة.
ثم أمر عليٌّ بحمل ابن مسعود إلى منزله
، وهو يعالج أضلاعه ، حتى إذا برئ ، رغب أن يخرج إلى الشام غازياً ، فمنعه عثمان
بإشارة مروان قائلاً : إنه أفسد عليك الكوفة ، فلا تدعه يفسد عليك الشام.
وما اكتفى عثمان بهذا الحجز بل قطع عن
الرجل عطاءه من بيت
المال ، فعاش
متكففاً فقيراً ، وازدادت الحال سوءاً بينه وبين عثمان ، فجاهر بالمعارضة حتى لزم
فراش المرض الطويل ، فلما دنا أجله خفّ عثمان لعيادته متطلباً عفوه ورضاه ، ولكن
الرجل ظل حانقاً محتجاً متبرماً حتى آخر لحظة من حياته ، وجرت بينهما المحاورة
الآتية :
قال عثمان له : يا أبا عبد الرحمن ما
تشتكي؟
قال ابن مسعود : ذنوبي.
قال عثمان : فما تشتهي؟
قال ابن مسعود : رحمة ربي.
قال عثمان : ألا أدعو لك طبيباً؟
فقال ابن مسعود : الطبيب أمرضني.
وحاول عثمان استرضاءه ، وقال له : أفلا
آمر لك بعطائك؟
فقال ابن مسعود : منعتنيه وأنا محتاج له
، وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه.
قال عثمان : يكون لولدك.
فقال ابن مسعود : رزقهم على الله.
واستعطفه عثمان فقال : « فاستغفر لي يا
أبا عبد الرحمن ».
فردّه ابن مسعود بداهة : أسأل الله أن
يأخذ لي منك بحقي.
فظل عثمان باهتاً ، وتولى عنه مسرعاً.
وأوصى ابن مسعود أن لا يحضر جنازته
عثمان ، ولا يصلي عليه ، ومات ابن مسعود فلم يؤذن أحد عثمان بموته ، وصلى عليه
عمار بن
ياسر ، ودفن في كثير
من الكتمان ، ومرّ عثمان من الغد بقبر جديد ، فسأل عنه ، فقيل إنه قبر ابن مسعود ،
فقال : سبقتموني به ، فقال عمار : إنه عهد إلي بذلك وأوصى أن لا تصلي عليه ،
فحقدها عثمان على عمار ، والتفت إلى الحاضرين قائلاً : رفعتم والله أيديكم عن خير
من بقي. فلذعه الزبير منشداً :
لا ألفينّكَ بعدَ الموتِ تندبُني
|
|
وفي حياتِي ما زودتَني زادا
|
ثالثاً
: عمار بن ياسر
حليف بني مخزوم ، كان من أوائل المسلمين
، وهو أحد المستضعفين في الأرض مع أبويه : ياسر وسمية ، عذبوا جميعاً في ذات الله
، حرًقوا بالنار ، وعرضوا لشمس مكة المحرقة ، وضربوا بالسياط ، فمات أبوه تعذيباً
، ورميت أمه بحربة كانت فيها روحها الطاهرة ، وكان عذابهم يستدر عطف النبي 6 ، ويستنزل رحمته حتى قال : « اللهم
اغفر لآل ياسر وقد فعلت ». هاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى الى القبلتين ،
وله فضيلة كبرى ، فهو من القلائل الذين اتخذوا من بيوتهم في مكة مساجد ، فكان له
مسجد في بيته يصلي فيه ، وهو الذي فاق أصحاب النبي 6
في بناء مسجده في المدينة ، فكان المسلمون يحمل كل منهم لبنة لبنة ، وكان عمار
يحمل لبنتين لبنتين ، وشهد المشاهد كلها مع النبي 6
وأبلى في اليمامة بلاءً حسناً ، وولاه عمر أميراً على الكوفة ، فكان مثال الوالي
النزيه ، وكان من السابقين إلى أمير المؤمنين ، ينفّذ أمره ، ويتبع خطاه ، وقد نقم
على عثمان فيمن نقم : تصرفه اللامحدود في بيت المال ، وأنكر عليه سياسة التولية
لقرابته وأسرته ، بلا كفاية في الإدارة ، ولا أمانة على المال ، ولا وازع من تقوى
الله تعالى ، وجاهر عمّار في معارضة عثمان بتغيير السنن ، ووضع الأمور
في غير مواضعها ،
وأنكر التصرف الكيفي في الأموال ؛ فقد أخذ عثمان عقد جوهر نفيساً من بيت المال
وحلّى به ابنته ، فغضب المسلمون ونالوا من عثمان ، واستهجنوا استطالته لذلك حتى
أحرج ، فخطب ثائراً وقال :
« لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت
أنوف قوم ». فقال أمير المؤمنين 7
: « إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه ».
وقال عمّار : أشهد الله أن أنفي أول
راغم من ذلك. فقال عثمان : أعليّ يا ابن المتكاء تجترئ؟ خذوه ، فأخذ وأدخل على
عثمان في داره ، فضربه ضرباً موجعاً حتى غشي عليه ، وحمل إلى منزل أم سلمة زوج
النبي 6 وهو مغشي
عليه ، ففاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق صلى قضاءً وقال :
الحمد لله ليست هذه أول مرة أوذينا فيها
في الله.
واحتجت عائشة على هذا العقاب العرفي ،
وأنكرت هذا الإجراء التعسفي ، وأخرجت شيئاً من شعر رسول الله وثوباً من ثيابه ،
ونعلاً من نعاله ، وقالت :
هذا شعر النبي وثوبه ونعله لم يبل ،
وعثمان أبلى سنتّه.
فضج الناس بالبكاء ، وارتج على عثمان
حتى لا يدري ما يقول.
وكتب المسلمون كتاباً لعثمان ، استعرضوا
فيه أعمال عثمان ، وسوء حالة الرعية ، وظلم الولاة ، واحتجان بيت المال ، واختاروا
عمّاراً أن يوصله لعثمان ، فأوصله إليه ، ففضّه وقرأ شطراً منه ، وقال له : أين
أصحاب الكتاب؟ فقال عمار : تفرقوا خوفاً منك ، فقال عثمان : أعليّ تقدم من بينهم؟
فقال عمار :
لأني أنصحهم لك ، فجبهه عثمان : كذبت يا
ابن سمية!!
فقال عمّار : والله أنا ابن سمية وأبي
ياسر ، فغضب عثمان ، وألبه عليه مروان ، وقال لعثمان : إن هذا العبد الأسود قد جرأ
عليك الناس ، ولو قتلته هابك من وراءه ، فتناول عثمان عصا فضرب بها عماراً ، وأمر
غلمانه فطرحوه أرضاً ، وقام عثمان فرفسه برجليه ، على مذاكيره ، وركله ركلاً
شديداً ، فأصيب بفتق ورضوض وغشي عليه ، وأخرجوه من الدار وألقوه طريحاً في الطريق
العام.
وأنكر المسلمون ذلك ، وعظم عليهم ، وثار
هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقال لعثمان : أما والله لئن مات لأقتلن به
رجلاً من بني أمية عظيم الشأن. وكأنه يقصد عثمان بذلك.
وأفاق عمّار ، فجاشت نفسه بذكرياتها
المريرة ، فتذكر ما كان يلقاه على يد طواغيت قريش ، فصبر على ذلك ، ولكنه أذكى
شرارة في نفوس المسلمين لم تخبُ حتى حين.
ولم يكن أبو ذر وابن مسعود وعمار زعماء
للمعارضة وحدهم فلست بصددها ، ولكني بصدد موقف الإمام علي 7 من عثمان وسنأتي علية ، بل أضف إليهم
عائشة أم المؤمنين التي نادت : اقتلوا نعثلاً قتله الله ، اقتلوا نعثلاً فقد كفر ؛
وطلحة والزبير أيضاً كانا يترصدان به دائرة السوء ، وحتى البيت الأموي كان به من
يمثل هذه المعارضة ، فهذا محمد بن أبي حذيفة ، جده لأبيه عتبة فارس المشركين ببدر
، وهو ابن خال معاوية ، وهو ربيب عثمان في بيته ، وقد وجد نفسه صفر الكف من ولايات
عثمان ، وقد غضب لذلك وهاجر إلى مصر ، فكان يحرض الناس على عثمان تحريضاً مرّاً ،
يلقى الرجل عائداً من غزو الروم فيسأله : أمن الجهاد قدمت؟ فيقول : نعم ، فيشير
ابن أبي حذيفة إلى جهة الحجاز قائلاً : « أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقاً »
ويتساءل
المسؤول : فأي جهاد
تعني؟ فيقول : جهاد عثمان.
وكان المصريون والكوفيون والبصريون أشد
الناس معارضة لعثمان ، وكان جملة من المهاجرين والأنصار في المدينة يقعون بعثمان ،
وتألب الجميع على عثمان ، فكانت النهاية المفجعة التي تنبأ بها عمر لعثمان.
ولقد بليّ عليّ محنة أية محنة ستراها
بعد حين.
(١٠)
المسلمون ينقمون على عثمان ... والأمصار تتجمع
ورأى المسلمون أن عثمان قد عطل حداً من
حدود الله عند ما لم يقتص من عبيد الله بن عمر بن الخطاب للهرمزان ، وكان قد أسلم
وقتله بأبيه فيما زعم ، ورأوه وقد حمى الحمى لإبل بني أمية ، ورأوه يستخلف أبناء
الطلقاء الإمارات الضخمة ، ورأوه يسرف على نفسه وعلى أسرته من بيت المال ، ورأوه
يشرّد من يشاء ويبعد من يشاء من صحابة الرسول ، ورأوه غيّر سنة الله في كثير من
المواطن ، فقد أقبل السعاة بإبل للصدقة فوهبها عثمان لبعض أبناء الحكم بن العاص ،
فسمع عبد الرحمن بن عوف بذلك فاسترّدها وقسمّها بين المسلمين ، فكان أول من اجترأ
على عثمان ، وتلقى الأمر عثمان واجماً كاظماً غيظه لا يدري ما يفعل.
كان المسلمون يرون هذا كله ، فتزداد
النقمة ، ويستولي الغضب ، ويتعالى الإحتجاج ، وعثمان ساهٍ لاهٍ لا يستجيب لأحد ،
ولا يغيّر ما يجب تغييره ، نعم استجاب لأبناء عمومته فألقى الحبل على الغارب ، وفي
ذلك إصرار على التجاوز ، وإستهانة بأقدار الناس.
وكان الطامعون في الخلافة يباركون هذا
المنحنى في سرائرهم ، وينكرونه في علانيتهم ، وكلٌ يجرّ النار إلى قرصه.
وكان في طليعة هؤلاء طلحة والزبير فهما
أشد الناس على عثمان ما في ذلك شك ؛ حتى قال عثمان في طلحة : ويلي على ابن
الحضرمية لقد أعطيته كذا وكذا ذهباً ، وهو اليوم يروم دمي ، اللهم لا تمتعه بذلك.
وأستتر طلحة بثوب صفيق عن أعين الناس حينما اشتد الحصار بعثمان ، وأخذ يرمي السهام
على دار عثمان ، وحينما وقف الحسن والحسين 8
في باب الدار يمنعون الثوار عن عثمان ، ويحولون بينهم وبين دخول الدار عليه ، أخذ
طلحة المهاجمين إلى دار بعض الأنصار فأصعدهم سطحها ، وتسوروا الدار على عثمان
وقتلوه.
وكان الزبير يحرض على قتل عثمان مجاهراً
فيقول : اقتلوا عثمان فقد بدل سنتكم ، فقيل له : إن ابنك يحامي عنه بالباب ، فقال
: ما أكره أن يقتل عثمان ولو بُدئ بابني ؛ إن عثمان لجيفة على الصراط غداً. ولقد
مهد الشيخان ـ طلحة والزبير ـ لقتل عثمان في كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ،
حتى أسقطا هيبة الخليفة ، فلقد استولى طلحة على بيت المال ، وعمل له مفاتيح وأمسك
بها ، واشتد الناس على عثمان ، فذهب علىٌّ 7
فكسر باب البيت المالي ، ووزع المال على المسلمين ، فتفرق كثير منهم عن شأن عثمان
، وبلغ ذلك عثمان فسّر به كثيراً.
وكان الزبير يمشي بين الناس في التأليب
على عثمان ، ويأمر بقتله وهو أحد رجال الشورى ، فيستمع منه هذا ، ويستجيب له ذاك ،
حتى أدرك ما يريد.
وكانت عائشة أم المؤمنين تمتلك قلوب
الناس وعواطفهم ، وتروي لهم وتحدثهم ، وتجتمع إليهم فتألبهم ، وهم يسمعون منها
ويستمعون إليها ، ويثقون بها ، ويعتمدون عليها ، فهي زوج رسول الله
وهي ابنة خليفتهم
الأول ، وكانت تقول محرضة على عثمان : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. ونعثل هذا أحد يهود
المدينة ، وقد كان مفسداً فاستعارت اسمه لعثمان.
وحينما اشتد الحصار على عثمان ، وعلمت
مصيره تهيأت للخروج إلى الحج ، فأسفر عثمان لها مروان وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
فقالا لها : لو أقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل ، فقالت لهما : قد قرنت ،
وأوجبت عليّ الحج ، والله لا أفعل ، فقام عنها مروان وصاحبه ، ومروان ينشد :
وحرَّقَ قيسٌ عليَّ البلادَ
|
|
فلمَّا أن أضطَرمَت أَحجمَا
|
ثم قالت عائشة : يا مروان إني في شك من
صاحبك ، والله لوددت أنه في غرائري هذه وأني أطيق حمله حتى ألقيه في البحر.
والتقت عائشة بعبد الله بن عباس فقالت :
يا ابن عباس إياك أن ترّد عن هذا الطاغية وأن تشكك الناس في أمره ، فقد بانت لهم
مصائرهم ، وتحلبّوا من البلدان لأمر قد حمّ.
وعبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشورى
الذي صفق على يد عثمان وبايعه نيابة عن المسلمين ، يقاطع عثمان ، ويغضب عليه ، ولا
يكلمه حتى الموت ، وينكر عليه ما أنكر المسلمون ، ويتزايد على ذلك شدة وصرامة ،
وقد وضحت الرؤية لديه في عثمان ، فيأتي إلى الإمام علي حاملاً سيفه ، وهو يقول :
هلم يا علي أحمل سيفك لنجاهد عثمان فلا
يلتفت إليه عليّ.
قال الطبري : كان عمرو بن العاص ممن
يحرض على عثمان ويغري به ، ولقد خطب عثمان يوماً في أواخر خلافته ، فصاح به
عمرو بن العاص : اتق
الله يا عثمان ، فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب ؛ فناداه
عثمان : وإنك ها هنا يا ابن النابغة ، قملَت والله جبتك منذ نزعتُكَ عن العمل.
ولم يكن عمرو بن العاص صاحب دين ، ولا
رجل ورع وتقوى ، ولكنه ذو مآراب واطماع ورجل فتنة ، وقد أورد أبو جعفر الطبري ما
يؤيد ذلك ؛ قال :
كان عمرو بن العاص شديد التحريض
والتأليب على عثمان ، وكان يقول : والله إن كنت لإلقى الراعي فأحرضه على عثمان ،
فضلاً عن الرؤساء والوجوه. فلما سُعّر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين ،
فبينا هو بقصره ومعه ابناه : عبد الله ومحمد ، إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه
عن عثمان ، فقال محصور ، فقال ابن العاص : أنا أبو عبد الله : قد يضرط العير
والمكواة في النار ، ثم مر بهم راكب آخر ، فسألوه عن عثمان ، فقال : قتل عثمان ،
فقال ابن العاص : أنا أبو عبد الله ، إذا نكأتُ قرحةً أدميتها.
وكان أصحاب النبي 6 من المهاجرين والأنصار بمشهد وبمسمع من
الأحداث ، فلم تمتد لعثمان منهم يد مساعدة تذكر ، فما ذبوّا عنه ولا رفعوا كما
ينبغي لهم ، بل بقي الأكثر بين معارض كما رأيت ، وناقم كما شهدت ، ومتفرج على
الخطوب وهي تندلع كما يندلع اللهيب ، باستثناء جماعة من المهاجرين ينصحون حيناً
كالإمام علي 7 ، ويذبون
حيناً آخر كالحسن والحسين 8
وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ؛ وقلة من الأنصار كزيد بن ثابت وكعب بن مالك
وحسان بن ثابت ، وأبي أسيد الساعدي وهم لم يغنوا شيئاً عن عثمان.
وكان الأدهى والأمر أن يكتب أصحاب النبي
في المدينة إلى أصحاب النبي في الثغور يستقدمونهم لجهاد عثمان حتى ورد قولهم :
إنكم خرجتم تطلبون الجهاد ، وإنما الجهاد وراءكم ، فارجعوا إلى المدينة لإقامة
الدين والسنة.
ولم تكن الأمصار في منأى عن هذه
المعارضة داخل المدينة ، فقد أسفروا إليها من يمثلهم ، وكانت المناظرات بين عثمان
وبينهم شديدة.
فقد سمع جبلة بن عمر وبعض قومه يردون
السلام على عثمان ، فقال : أتردون على رجل فعل كذا وكذ ، ثم أقبل نحو عثمان وفي
يده جامعة من حديد فقال له « والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك
هذه » فقال عثمان : أي بطانة؟ فوالله إني لا أتخير الناس ، فقال جبلة : « مروان
تخيرته ، ومعاوية تخيرته ، وابن عامر تخيرته ، وابن أبي سرح تخيرته ، منهم من نزل
القرآن بذمّه ، وأباح رسول الله دمه ».
وكانت حجة جبلّة قوية ، وتشخيصه لإنكار
الناس دقيقاً ، فسكت عثمان لا يدري ما يقول ، فأردف جبلّة قائلاً : « والله
لأقتلنك يا نعثل ، ولأحملنك على قلوص جرباء ، ولأخرجنك إلى حرة الناس ».
وتسامع الناس بالحدث ، فلاقى هوى في
نفوسهم ، فازدادوا سخطاً على عثمان ، وتجرأوا عليه ؛ وكان أهل البصرة قد اختاروا
رجلاً زاهداً من بني العنبر اسمه عامر بن عبد القيس ، يمثلهم في النكير على عثمان
، فأدخل عليه ، وقال :
« يا أمير المؤمنين : إن أناساً من
الصحابة اجتمعوا فنظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً ، فاتقِ الله عز
وجل ، وتب إليه ، وانزع عنها ».
فالتفت عثمان إلى من حوله وقال : انظروا
إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات ، فوالله ما
يدري أين الله.
وكانت هذه إستهانة بالرجل أيما إستهانة
بالرجل؛ فقال العنبري : أنا لا أدري أين الله؟
فقال عثمان : نعم والله ما تدري أين
الله. فقال الرجل : « بلى والله ؛ إني لأدري أن الله بالمرصاد لك يا عثمان » وخرج
الرجل من عثمان ساخطاً متبرماً ، وانتشر حديثه في الآفاق.
ولم تكن البصرة وحدها قد أنكرت على
عثمان أعماله ، فقد شاركتها الكوفة النكير لا سيما في عهد سعيد بن العاص القائل :
إن السواد بستان لقريش ، والعامل بخلاف السنة ، والمنتهك لحرمة الإسلام ، فأنكر
عليه أقواله وأعماله مالك الأشتر والنخع بعامة ، ومالك بن كعب الأرحبي ، والأسود
بن يزيد النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وصعصعة بن صوحان ، وزيد بن صوحان ، وثابت بن قيس
الهمداني ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ،
وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم ، وهؤلاء شيوخ أهل الكوفة فقهاً
ورواية وقراءة وزعامة وزهداً وتقشفاً ، فكتب سعيد بن العاص بهم إلى عثمان ، فأمره
بتسييرهم إلى الشام ، وكتب إلى معاوية :
إن نفراً من أهل الكوفة قد هموا بإثارة
الفتنة ، وقد سيرتهم إليك فانههم ، فإن أنست منهم رشداً فأحسن إليهم وارددهم إلى
بلادهم.
فقدموا على معاوية ، وجرت بينه وبينهم
أحداث وخطوب ، فكتب
لعثمان بإخراجهم من
الشام خشية إفسادها ، فسيرهم عثمان إلى حمص ، وواليها عبد الرحمن بن خالد بن
الوليد ، فأغلظ لهم ، وأذاقهم سوء العذاب ، وعنفهم ، حتى ظن أنهم قد أقلعوا عما هم
عليه ، أو من أجل أن لا يتحمل جريرتهم ، فكتب إلى عثمان بردهم إلى الكوفة ففعل بعد
هن وهن ، وعادوا إلى الكوفة ، فأطلقوا ألسنتهم على عثمان.
وكانت مصر من أشد المعارضين لحكم عثمان
وبطانة عثمان ، يؤلبها محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وقد صحت عزيمتهما
في منابذة عثمان ، فسار محمد بن أبي بكر فيمن سار إلى المدينة من المصريين ، وأقام
محمد بن أبي حذيفة بمصر ، واستولى عليها ، وخلع ابن أبي سرح منها ، وكانت هذه
الحركة منه فيها كثير من الجراءة على عثمان ، والإستهانة بسلطانه.
وكانت الأقطار الثلاثة : البصرة ،
الكوفة ، مصر ، قد خلعت طاعة عثمان ، وتوافد فرسانها إلى المدينة ، فاختلطوا
بالناقمين على عثمان من المدينة ، وكان هوى أهل البصرة في طلحة وقد توافدوا على
المدينة بقيادة حكيم بن جبلة العبدي ، وعلى الجميع حرقوص بن زهير السعدي ، وكان
هوى أهل الكوفة منقسماً بين علي والزبير ، وقد خرجوا بألفين من فرسانهم فيهم :
مالك الأشتر وزيد بن صوحان ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الأصم
الغامدي.
وكان هوى أهل مصر في علي ، وخرجوا
بألفين بإمارة أبي حرب الغافقي ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر
الليثي ، وسودان بن حمران السكوني ، وقتيرة بن وهب السكسكي. فنزل أهل البصرة ذا
خشب ، ونزل أهل الكوفة الأعوص ، ونزل أهل مصر المروة ؛ وكلها مواضع قرب المدينة ،
فهم قد تجمعوا خارج المدينة ، وهم
يتطلعون أخبار
المدينة ، وهم يتشاورون مع أهل المدينة.
ورأى جماعة من المهاجرين والأنصار
الفتنة تقترب ، فأنكروا أعمال عثمان ، ولاموا عماله ، وقرروا أن ينتزعوا علياً 7 من عزلته ، ليكون سفيرهم إلى عثمان ،
عسى أن يجعل الله على يديه فرجاً مما نزل بالمسلمين ، وقد أحسنوا بذلك صنعاً ، فما
امتنع علي 7 عن ذلك ، بل
سعى إليه راغباً بالإصلاح بين أمة محمد 6
ودخل عليّ 7 على عثمان
وبدأ معه الحديث رقيقاً ممتعاً يثير الإعجاب ، وقال لعثمان :
« إن الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك
وبينهم ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلك على أمر لا
تعرفه ، إنك تعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء
فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك. وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله 6 ، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق
منك ؛ ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنك أقرب إلى رسول الله 6 رحماً ، ولقد نلت من صهر رسول الله 6 ما لم ينالا ، ولا سبقاك إلى شيء.
فالله الله في نفسك ؛ فإنك والله ما تبصّر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإن الطريق
لواضح بيّن ، وإن أعلام الدين لقائمة.
تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند
الله إمام عادل هُدي وهدى. فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة. فوالله إن كلاً
لبيّن ، وإن السنن القائمة لها أعلام ، وإن البدع القائمة لها أعلام ، وأن شر
الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ وضُلّ به ، فأمات سنة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة.
وإني سمعت رسول الله 6
يقول :
« يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس
معه نصير ولا عاذر فيلقى
في جهنم فيدور كما
تدور الرحى ، ثم يرتطم في غمرة جهنم ».
وإني أحذرك الله ، وأحذرك سطوته ونقماته
، فإن عذابه شديد أليم. وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنه يقال : «
يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها
عليها ، ويتركهم شيعاً فلا يبصرون الحق لعلو الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون
فيها مرجاً ، فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء ».
وسمع عثمان كلام علي ولم يستمع إلى نصحه
، فلفّ ودار في الجواب ، فكان حواراً كالآتي :
قال عثمان لعلي : قد والله علمت ليقولن
الذي قلت ، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عِبتُ عليك ، ولا جئت
منكراً أن وصلتُ رحماً ، وسددت خلّة ، وأويتُ ضائعاً ، ووليت شبيهاً بمن كان عمر
يولي ، أنشدك الله يا علي : هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال : نعم. قال
فتعلم أن عمر ولاه؟ قال : نعم. قال عثمان : فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه
وقرابته؟ قال علي سأخبرك إن عمر بن الخطاب كان كل من وليّ فإنما يطأ على صماخه ،
إن بلغه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية ، وأنت لا تفعل ، ضعفت ورققت على أقربائك.
قال عثمان : هم أقرباؤك أيضاً. فقال علي
: لعمري إن رحمهم مني لقريبة ، ولكن الفضل في غيرهم. قال عثمان : تعلم أن عمر ولى
معاوية خلافته كلها فقد وليته ، فقال علي : انشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف
من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال : نعم. فقال علي : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك
وأنت تعلمها ، فيقول للناس هذا
أمر عثمان ، فيبلغك
ولا تغيّر على معاوية.
وكانت هذه السفارة جديرة أن يفيد منها
عثمان درساً قيماً ، فقد صور له الإمام بإيجاز إنكار المعارضة في الفيء والتولية ،
وكان الجواب أنهم رحم وأقرباء ، ولكنه ما أفاد منها شيئاً ، ولا التفت إليها بل
وجد في نفسه على الإمام ، ووجد في نفسه ولسانه على الناس ، فخرج إلى المسجد ، وخطب
خطبته النارية التي عنف بها كثيراً ، وتطرف كثيراً ، وخالف فيها سجيته في اللين
والرّقة ، فاستمع إليها الثائرون ، وتفرقوا عنها مصممين على قتله دون شك ، فقد جلس
على المنبر ، وقال بلهجة صارمة وحدة غير متوقعة :
« أما بعد فإن لكل شيء آفة ، ولكل أمر
عاهة ، وإن آفة هذه الأمة ، وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون ، يرونكم ما تحبون ،
ويسرون ما تكرهون ، يقولون لكم ويقولون ، أمثال النعام يتبعون أول ناعق ، أحب
مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلا نغصاً ، ولا يردون إلا عكراً ، لا يقوم لهم
رائد ، وقد أعيتهم الأمور ، وتعذرت عليهم المكاسب ، ألا فقد والله عبتم عليّ بما
أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطأكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمصكم بلسانه ،
فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم وأوطأت لكم كنفي ، وكففت يدي ولساني
عنكم ، فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعز نفراً ، وأقرب ناصراً ، وأكثر عدداً ،
وأقمن إن قلت هلم أُتي إلي ، ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولاً ، وكشرت
لكم عن نابي ، وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ، ومنطقاً لم أنطق به. فكفوا عليكم
ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم
لرضيتم منه بدون منطقي هذا ، ألا فما تفقدون من حقكم ، والله ما قصرت في بلوغ ما
كان يبلغ
من كان قبلي ، ولم
تكونوا تختلفون عليه ، فَضَل فضلٌ من مال ، فمالي لا أصنع في الفضل ما أريد؟ فَلِم
كنت إماماً ».
وهم مروان بن الحكم أن يتكلم فنهره
عثمان قائلاً :
« أسكت لاسَكّتَ ، دعني وأصحابي ، ما
منطقك في هذا؟ ألم أتقدم إليك أن لا تنطق ».
فوجم الإمام علي والصحابة الذين معه من
هذا المنطق ، وخرجوا آيسين من إصلاح عثمان وصلاحه ؛ واعتزل عليُّ الفتنة لو استطاع
إلى ذلك سبيلاً.
( ١١ )
تفاقم الأمر على عثمان ومصرعه
وتفاقم الأمر على عثمان ، فقد تألبت
عليه الأمصار ، وقد أجلب عليه البعيد والقريب ، وقد ملّ الناس وعده الماطل ووعيده
النازل ، وقد ترك نصح بقية المهاجرين والأنصار ، وقد نصحه علي 7 وبالغ في الجهد فما إنتصح ، فما عليه
إلا أن يشاور رجاله الأثيرين عنده والمقربين لديه ، وكان يلتقي عماله وولاته في
الموسم من كل عام فيسمع منهم ويسمعون منه ، فلما لقيهم سنة أربع وثلاثين جمعهم
للمشورة ؛ وكان في طليعتهم : معاوية ، وعبد الله بن عامر ، وابن أبي سرح ، وسعيد
بن العاص ، فقال لهم عثمان :
« إن لكل أمير وزراء ونصحاء ، وإنكم
وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إليّ أعزل عمالي ،
وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم ».
وكان أمر هذا الشيخ عجباً في أوله وآخره
، كيف يترك رأي عليّ وذوي السابقة في الإيمان والهجرة ، ويستند إلى هؤلاء ممن عرف
بالغدر والمكر والدخل ، ممن لا يغنون عن الحق شيئاً ، ولا يتألمون من الباطل
إقترافاً وإجتراحاً ، وليسوا بأمناء على دنيا ولا دين ، وممن نقم عليه الناس
إستهتارهم واستئثارهم ، وهم الداء فكيف يتطلب منهم الدواء.
ومهما يكن من أمر ، فقد أشار عليه
معاوية أن يكفيه امراءُ الأجنادِ الناس ، وأن يكفيه هو الشام.
وأشار ابن أبي سرح أن يعطي الناس المال
ويتألفهم.
وأشار سعيد بن العاص عليه أن يقتل قادة
المعارضة فإن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا ، ولا يجتمع لهم أمر.
وأشار عبد الله بن عامر : أن يشغل الناس
بالجهاد ويوجههم للثغور.
وبهذا الرأي الأخير عمل عثمان ، ورد
العمال إلى أمصارهم ، وأمرهم بالشدة وإرسالِ الناس إلى الغزو والحرب ، وأمرهم
بتجهيز البعوث ، وحرمان الناس من أُعطياتهم إن عصوا.
فاستقبل المسلمون ذلك بالنقمة ، ورأوا
فيه شراً مستطيراً ، فلما دخلت سنة خمس وثلاثين ، تكاتب أعداء عثمان وبني أمية في
البلاد ، وحرّض بعضهم بعضاً على خلع عثمان عن الخلافة ، وعزل عماله عن الأمصار على
حد تعبير الطبري. وتداعى الناس لذلك فدعا عثمان علياً وطلحة والزبير فحضروا وعنده
معاوية فتكلم كلاماً لم يرضِ المجتمعين ، فنهره علي فسكت مغضباً ، ورفق عثمان
وهدّأ الموقف بتلبية طلب الجماعة باسترداد ما أعطى لعبد الله بن خالد بن أسيد من
مبلغ قدره خمسون ألف دينار لبيت المال ، وماأعطى لمروان من مبلغ قدره خمسة عشر ألف
دينار ، كبداية لردّ الظلامات وإستصلاح الحال ، فهدأت الخواطر شيئاً ما ، ولكنه
الهدوء الذي يسبق العاصفة. فقد قدم المدينة ثائرون من الكوفة كما أسلفنا ، وتبعهم
ثائرون من البصرة ، وإذا بالمصريين يرسلون وفداً ضخماً في رجب سنة خمس وثلاثين
ليناظر
عثمان ، والتقوا به
في قرية خارج المدينة فناظروه وحكّموا المصحف بينه وبينهم ، فأقنعهم عثمان ظاهراً
، وخرج إلى المسجد الجامع ، وخطب فأثنى على المصريين ، وانصرف المصريون راضين أول
الأمر.
واستنجد عثمان بعلي 7 ومحمد بن مسلمة ، فأنجداه بالوساطة
الكريمة ، ووعدهم برفع المظالم ، وقضاء الحوائج ، والإنتصاف من العمال والولاة ،
ولكن مروان أفسد الحال ، ورّد الناس ردّاً عنيفاً ، وكانت هنالك أحداث ومحاججات ،
وكان هناك غدر بالعهود والمواثيق ، حتى بلغ السيل الزبى ، فخرج المصريون في ستمائة
فارس فأتوا علياً ، فصاح بهم وطردهم ، وأتى البصريون طلحة فشايعهم بذلك ، وأتى
الكوفيون الزبير فمالئهم.
وتعقدت الأمور تعقداً عجيباً وسريعاً
أيضاً ، فقد تداعى الثائرون من أهل الأمصار بالمدينة ، ونادوا بالأمان لمن كفَ يده
، وحصروا عثمان في الدار ، فاستنجد عثمان بأمراء الأجناد للمنع عنه ، والذب دونه ،
فتراخى معاوية ، وتربص ابن أبي سرح ، وتثاقل عبد الله بن عامر ، وخرج من الكوفة
القعقاع بن عمرو لنجدة عثمان ، فلما انتهى الخبر إلى الثائرين ، جمعوا أمرهم ،
واستقر رأيهم على خلع عثمان وعلى قتل عثمان أيضاً.
وخرج عثمان يوم الجمعة يصلي بالناس ،
فوعد وأوعد وهدد وأنذر ، ووعظ وذكر ، فجبهه حكيم بن جبلة ، وقتيرة بن وهب ، وثار
القوم بعثمان وحصبوه حتى صُرع مغشياً عليه ، وأدخل داره ، واستقتل نفر دونه ، منهم
: الحسن بن علي 8
، وسعد بن أبي وقاص ، وزيد بن ثابت كما يقول ابن أبي الحديد.
وأقبل عليّ 7 ، وطلحة والزبير ، فدخلوا على عثمان
يعودونه من صرعته ، فأساء مروان لعلي فقام مغضباً هو ومن معه.
وتدهورت الحالة ، وساءت الأوضاع جداً ؛
فقد مُنِعَ عثمان من الصلاة ، وأقام الثائرون أبا حرب الغافقي زعيم المصريين
للصلاة ، ثم منعوا الماء عن عثمان حتى إشتد به العطش هو واهله ، ثم إن أهل المدينة
تفرقوا عنه ، ولزموا بيوتهم ، فكان لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به ، واستمر
حصار عثمان أربعين يوماً كما يقول الطبري.
وزجر عليّ 7
الثائرين فقال : إن الذي تصنعون ليس صنيع المؤمنين ولا صنيع الكافر ، وإن الفرس
والروم ليأسرون فيطعمون ويسقون. واستطاع عليّ بالقوة والزجر ، ولمكانته في النفوس
، أن يدخل الماء على عثمان ومن في الدار. وهي نجدةُ ما بعدها نجدةٌ في عرف القوم.
وتداعى جماعة بني أمية لحماية عثمان ،
واستقلت طائفة من أبناء المهاجرين والأنصار في الدفاع عن عثمان ، وكان في طليعتهم
الحسن والحسين 8
، وعبد الله بن عمر ، وعبد بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، وكان أميرهم ابن الزبير.
وكان علي 7
يدفع عن عثمان قدر المستطاع ، ولكن الثورة كانت عارمة ، والمدينة محكومة بالثوار ،
والثوار لا يحكمهم أحد ، واستجار به عثمان ، وقال له : لك منزلة عند الناس ، وهم
يسمعون منك ، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني ، فإن في دخولهم عليّ وهناً
لأمري وجرأة عليّ ،
فقال 7 :
إني كلّمتك مرة بعد أخرى ، فكل ذلك تخرج
وتقول ، وتعد ثم ترجع ، وهذا من فعل مروان ومعاوية وابن عامر وعبد الله بن سعد ،
فإنك أطعتهم وعصيتني.
فقال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك.
وتدارك عليٌّ ما استطاع من الفتنة ،
فأمر الناس أن يركبوا معه ، فركب ثلاثون من المهاجرين والأنصار ، فكلم عليّ الناس
، فاستمع إليه أغلبهم ، وأمر عثمان : بأن يتكلم بكلام يسمعه الناس ، ويعدهم به
بالتوبة ، وقال له عليّ :
« إن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا آمن أن
يجيء ركب من جهة أخرى ، فتقول لي يا علي : إركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد
قطعت رحمك ، وإستخففت بحقك ».
فاستجاب عثمان لتوجيه علي 7 ، وخطب الناس ، ووعد بتنحية مروان
وذويه ، وتداعى الناس إلى باب عثمان ، لردّ الظلامات ودفع الحقوق كما وعد ، فنهاه
مروان عن ذلك ، واستقبل الناس بالزجر والسباب ، ورجع الناس خائبين.
ووجم الإمام علي لما حدث ، فقال :
« أي عباد الله ، يالله للمسلمين ، إني
إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وخذلتني ، وإن تكلمت فبلغت له ما يريد ، جاء
مروان فتلعب به ، حتى صار له سيقة ، يسوقه حيث يشاء ، بعد كبر السن وصحبة الرسول 6 ، وقام مغضباً من فوره حتى دخل على
عثمان ، وقال له :
« أما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن
دينك وعقلك ، فأنت معه كجمل الضعينة يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي في
دينه ولا عقله ، وإني لأراه يوردك ولا يصبرك ، وما أنا عائد بعد مقامي هذا
لمعاتبتك ، أفسدت شرفك ، وغُلبت على رأيك ... ثم نهض.
وكان هذا آخر دخول لعلي على عثمان.
ولقد صح ما توقعه الإمام ، فقد سلّم
عثمان الأمر كله إلى مروان ، فَتلعبَ به مروان كما قال الإمام ، وأورده موارد
الهلكة ولم يصدره ، فلم يكن ذا دين ، ولم يكن ذا رأي ، ولم يكن ذا منزلة.
وتطورة الأحداث تطوراً سريعاً ،
فالمصريون يكتشفون أنبوبة رصاص مع رسول عثمان إلى مصر ، وفي الأنبوبة صحيفة تأمر
الوالي بالقتل أو الصلب وبالنفي والتشريد لجملة من المصريين ، وعثمان بين ذلك يثني
على المصريين ويعد علياً بأن ينصف الناس من نفسه ومن عماله ، ومروان يفسد الأمر
عليه ، وعثمان يقول لعلي : لست آمن الناس على دمي فارددهم عني ، فإني أعطيهم ما
يريدون من الحق من نفسي ومن غيري ، فيقول له علي 7
:
« إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك
، وإنهم لا يرضون إلا بالرضا ، وقد كنت أعطيتهم من قبل عهداً فلم تفِ به ، فلا
تغرر في هذه المرة ، فإني معطيهم عنك الحق ».
قال عثمان : إعطهم فوالله لأفين لهم.
فما أعطاهم عثمان شيئاً ولا وفى لهم.
وعلم الثائرون أن لا شيء بيد عثمان ، لا
عزل ولا منع ، ولا دفع مظلمة ، وإشتدّ الحصار بعثمان ، وإشتدّ الثائرون بمطالبهم ،
وإستعجل
الأمويون القتال ، واستعجل
الثائرون القتال أيضاً ، فقد بلغهم أن الإمداد في طريقه إلى المدينة ، وإذا وصل
الإمداد من الأقطار إلى المدينة ، فسيدخلون حرباً مع أنصار عثمان لا مع عثمان.
والحق أنه عمال عثمان قد غدروا بعثمان ،
فقد تباطؤوا عنه دون شك ، وقد أسلموه للقتل راغبين ، فكأنهم جميعاً قد تواطؤوا على
ذلك ، ويمكن أن تكون تلك خطة مدروسة مبرمجة يترأسها معاوية ، ليتسلم الحكم فيما
بعد ، فيُقتل عثمان ويطالب هو بدم عثمان ، فيكون ولي الدم المسفوك ، وهكذا كان ،
وإلا فما يدرينا ما مغزى قول معاوية لحبيب بن مسلمة الفهري ، وهو يجهزه للخروج إلى
نصرة عثمان ، فيأمره بالمرابطة حول المدينة ، ويعهد إليك مؤكداً أن لا يتقدم عن
ذلك شبراً ، ويقول له :
« هذا أمري فلا تتقدم وتقول : يرى
الحاضر ما لا يرى الغائب ، فأنا الحاضر وأنت الغائب ».
وما بال المسلمين في الموسم لم يهبوا
لنجدة عثمان وهو محصور ، وكان عثمان قد أمر ابن عباس على الحج على الحج وكتب معه
كتاباً يستنجد به الناس ، وما بال والي مكة من قبل عثمان لم يسعفه بشيء على قرب
المسافة.
لا أشك أن مؤامرة سرية بقيادة معاوية بن
أبي سفيان كانت وراء هذا التقاعس الغريب عن نصرة عثمان أو الدفاع عنه ، وكان الأمر
يدار بخفاء وكتمان حتى يقتل عثمان ، وينهض من ينهض بطلب ثأره ، وقد كان الأمر هكذا
، فقد علم معاوية أن الناس لا يعدلون بعلي أحداً ، وإذا كان كذلك كان الطلب بثأر
عثمان ، وسيلة من الوسائل للإستيلاء على الحكم ، وقد أنطلت هذه اللعبة على
المغفّلين ، ورفع معاوية ـ فيما
بعد ـ قميص عثمان ،
ولكنه بعد إستيلائه على الحكم لم يذكر عثمان بشيء ، ولا طالب بدم عثمان ، بل لم
يعرف حتى أبناء عثمان ، واستأثر بالملك وحده.
ومهما يكن من أمر ، فقد تَسَوَرَ
الثائرون على عثمان الدار ، وقد دعاه رجل يسمى نيار بن عياض الأسلمي ، وهو صحابي ،
دعا عثمان ووعظه ونصحه وأعذر إليه ، وأمره بخلع نفسه ، وإنه لفي ذلك إذ رمي بسهم
أو حجر فقتل.
فنادى الثائرون : ادفع لنا يا عثمان
قاتل صاحبنا فنقيد منه ، فقال عثمان : ما أعرف له قاتلاً فأدفعه إليكم ، أأدفع
إليكم رجلاً ذبّ عني وأنتم تريدون قتلي.
فاستشاط الثائرون غضباً ، واقتحموا
الدار اقتحاماً مروعاً من غير بابها ، لأن الإمام الحسن بن علي 8 كان مرابطاً في باب الدار يحامي عن
عثمان ، وهجم الثائرون هجوماً جنونياً على الدار ، ينهبون ما فيها ، ويحرقون
أبوابها ، وخرج أهل الدار يقاتلون ، فجرح عبد الله بن الزبير جراحات بليغة ، وصرع
مروان حتى ظن به الموت ، وقتل آخرون وهم يدافعون عن عثمان ، وانتهى الأمر بقتل
عثمان بصورة شنيعة لا أسيغ تفصيلها.
وبقتل عثمان فتح على المسلمين باب شر
عظيم ، فقد أنقسم المسلمون شِيّعاً وأحزاباً ، وتضعضعت هيبة الحكم ، ووهن سلطان
الإسلام ، وأصبح حكم المدينة بيد الثائرين لا طول لأحد فيها ولا حول.
وقد أوجز عليّ 7 أمر عثمان والناس بقوله :
« استأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم
الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثِر والجازع » .
وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه في تصوير
الحال.
__________________
الفصل الثالث
عليٌّ في قيادته للأمة
١
ـ الثورة ترشح الإمام للخلافة ... والإمام يستقرئ الغيب المجهول
٢
ـ إستقبال خلافة الإمام بين المحرومين والارستقراطيين
٣
ـ المتمردون في مجابهة الإمام متظاهرين بالثأر لعثمان
٤
ـ قيادة الناكثين بين الترددّ وإقتحام مشارف البصرة
٥
ـ حربُ الجمل ... وهزيمة المتمردين
٦
ـ عليٌّ في البصرة ... وسيرة رسول الله (ص)
٧
ـ عليٌّ يتخذّ الكوفة عاصمةً ... ويقدّم طلائعه إلى صفين
٨
ـ معركة صفين ... وإنحياز الخوارج
٩
ـ الوفاءُ بشأن التحكيم ... ومعركة النهروان
١٠
ـ معاوية والخوارج يقتسمان الأحداثَ الدموية
١١
ـ ظواهر العدل الإجتماعي عند الإمام تقلب الموازين
١٢
ـ المهمات القيادة السياسية ... والتعليمات العسكرية لأمير المؤمنين
١٣
ـ تهذيب النفس الإنسانية لدى الإمام في إرادة الحكم الإسلامي
١٤
ـ عليٌّ ومناوؤه ... حتى إستشهاد الإمام 7
(١)
الثورة ترشح الإمام للخلافة ...
والإمام يستقرىء الغيب المجهول
إِستيقظت المدينة المنورة صبيحة مقتل
عثمان (رض) شاحبة الظلال ، باهتة الألوان ، يسودها الفزع والقلق ، ويغشاها الهول
والإضطراب. فالحدث خطير في أبعاده ، وجرأة الثوار كبيرة فيما أقدمت عليه ، والناس
في حيرة من أمرهم ، ينتاب بعضهم تأنيب الضمير في خذلان عثمان ، ويستبشر آخرون
بمقتل عثمان ، ويأسى سواهما لما حلّ بعثمان ، بينما يفكر نفرٌ يسير بمصير الإسلام
وحرمة البلد الذي يحكمه الثائرون ، فالأهواء ـ كما ترى ـ متباينة ، والوضع العام
في شقاق مرير ، واللغط يشق عنان السماء.
والحاجة الآنية أن لا بد للناس من إمام
يخلف الخليفة المقتول ، وقائد تلتقي برحابه أفئدة الناس ، والأمر كله في المدينة
لأبي حرب الغافقى زعيم المصريين ، يؤم الناس في الصلاة ، ويتصدر القيادة الثائرة ،
ويشرف على إدارة الحكم العرفي دون كفاية أو خبرة ، وينظر في الناس وهم يلتفون حول
طلحة والزبير تارة ، ويهتفون باسم الإمام علي تارة أخرى ، ولا رأي سوى هذين.
ولكن أصابع الاتهام تشير إلى طلحة
والزبير بكثير من الحذر والشفقة ، تحذر منهما ، وتشفق على المسلمين من إمارتهما ،
فكلٌ منهما
قد أجلب على عثمان
حتى قتل ، وقد حاولا رفع هذه التهمة بكثير من الدوران الذي لم يخفَ على الناس
قريبهم وبعيدهم ، فهما صاحبا عثمان بالأمس ، كثّرا عليه ، وخذّلا عنه ، وألبّا
الناس وأسلماه ، فهما في حرج من نصب أنفسهما ، وترشيح ذاتيهما لمقامه.
وكان المصريون ـ وهم زعماء الثورة ضد
عثمان ـ أكثر الناس حذراً ، وأشدّهم تحرزاً ، فضيقوا على طلحة والزبير فسحة الأمل
، وبادروا إلى إتخاذ القرار المناسب ، وتوجهوا إلى أهل الحل والعقد من بقية
المهاجرين والأنصار في المدينة ، وقالوا : يا أهل المدينة : إنكم أهل الشورى ،
وأنتم تعقدون الإمامة ، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع ».
فهتف الناس في ذلك الحشد « عليّ لنا رضى
، نحن به راضون ».
قالوا ذلك جميعاً بما فيهم طلحة والزبير
، لم ينافس علياً أحد في الترشيح ، ولم ترشح الجماهير سواه للخلافة ، وقال ممثلهم
عمار بن ياسر :
« أيها الناس : إنا لن نألوكم خيراً
وأنفسنا إن شاء الله ، وإن علياً من قد علمتم ، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر
منه ، ولا أولى به ».
ورضي الناس بهذا العرض وأمنوا عليه ،
وانطلقوا إلى أمير المؤمنين وهو في عزلته ، وقالوا :
« يا أبا الحسن : إن هذا الرجل قد قتل ،
ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ، ولا أقدم سابقة
، ولا أقرب من رسول الله 6
».
وتأبّى عليٌّ على القوم ، ورّد الطلب
برفق وأناة قائلاً :
« دعوني والتمسوا غيري ، فأنا لكم
وزيراً خير مني لكم أميراً ».
وازداد الإصرار ، وتكرر الطلب ، فعاود
عليّ الامتناع قائلاً : « اتركوني فأنا كأحدكم ، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لم وليتموه
أمركم ».
وكان عليّ 7
زاهداً في الخلافة ، وهو يتطلع إلى الأفق البعيد فيجد المناخ السياسي مضطرباً ، ويلحظ
الناس في اندفاع وغضب ، ويشاهد أولي الأمر بين رغبة ورهبة ، ويرى الوازع الديني
ضعيفاً ، والعنف الثوري قائماً ، فيقول لهم : « لا حاجة لي في أمركم أيها الناس ،
أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به ». ويعجب الجمع من هذا الإباء ، ويعزّ عليهم
هذا الرفض القاطع ، ويشعر الإمام بحيرة القوم ، فيعلل لهم سبب امتناعه ، ويوضح علة
إصراره :
« دعوني والتمسوا غيري إيها الناس ، إنا
مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان ، لا تثبت عليه العقول ، ولا تقوم له القلوب ».
وهنا يتجلى البعد السياسي الحصين عند
الإمام ، فهو يغوص إلى الأعماق ، وهو يستقرئ الغيب المجهول ، وهو يتوجس من الأحداث
القادمة ، ويستخرج دغلها وغشها ودناءتها ، وهو ينفذ إلى خفايا القلوب ويسبر
أغوارها فلم يكن ليعجبه الحكم ، وهو مجهول المعالم ، ولم تكن تستهويه الخلافة وهي
محفوفة بالتنازع ، وما كان ليستسلم لأهواء الناس وهي مشبوبة العواطف ، وإنما كان
يريد أن يخضع لمنطق العقل ويخضع الناس له ، ويحكم بسلطان المنطق ويحمل الناس عليه
، وهو الآن يشاهد الثورة جامحة لا تني ، والاندفاع هادراً لا يهدأ ، والمدينة
يحكمها الثوار ،
والناس تقترب من الفتنة ، وهو يريد أن يغير هذه الظواهر ، فيقطع مادة الثورة ،
ويحمل الناس على الجادة ، ويستقبل بالأمر السبيل المستقيم ، ولكن الناس لم يتركوه
، وانثالوا عليه ، وتمسكوا به :
« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي
، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي
كربيضة الغنم ».
هكذا صور الحال بدقة متناهية ، فما هذا
الإصرار من الناس إلا إستنفاراً لا مناص عنه ، وما هذه الغضبة الصارخة إلا نتيجة
الألم الدفين ، وما هذا التصوير البليغ إلا بياناً للحال ، فهو بين أن يستجيب
للثقة النابعة من الصميم ، وبين أن يتنكب مزلقة النوازل القادمة ، وبين أن يلقي
حبلها على غاربها ...
خيارات أهونها الصعب ؛ وبينا هو في هذا
التفكير الجدي ، وإذا بالأشتر يندفع قائلاً :
« ننشدك الله ، ألا ترى ما نرى ، ألا
ترى ما حدث في الإسلام ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف الله ».
وكان صوت الأشتر جريئاً يستأهل التفكير
، ومجلجلاً يقطع الصمت ، وعنيفاً يدعو إلى الحسم ، وضع الإمام أمام مسؤوليته
القيادية ، ليتدارك أمر الإسلام ، ويقطع دابر الفتنة ، فانطلق الإمام يستجيب
معللاً ومقرراً :
« قد أجبتكم لما أرى منكم ، ألا فاعلموا
أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ».
وكانت الاستجابة مقترنة بحملهم على سبيل
رسول الله ليس غير ، وهو ما يعلمه الإمام.
استبشر الناس بهذا القرار الحاسم ،
ووافقوا على النهج الذي يختطه الإمام ، وهبوا لمبايعته ، ولكنه أبى وقال : « إن
كان لا بد من ذلك ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا
المسلمين ، وفي ملأ وجماعة ».
وكأن علياً أراد ببيعته الإصحار لا
الإسرار حتى لا يدعي أحد الإكراه ، وكأنه أراد المهاجرين والأنصار حتى لا يتخلف
أحد ، وكأنه أراد كما في بعض المرويات أهل بدر بخاصة ، فلم يبق بدري إلا أتى علياً
، وقالوا له جميعاً :
ما نرى أحداً أحق بها منك يا أبا الحسن.
وكان ما قالوا عين الصواب فهم يعرفون عليّا وسابقته. وقد جاؤوا بعلي 7 إلى المسجد النبوي ، وتمت بيعته جهاراً
على كتاب الله وسنة نبيه ، فقال علي : « اللهم إشهد عليهم ».
وكانت البيعة رضا للمهاجرين والأنصار ،
وبمباركة أهل بدر خاصة ، وكانت رضا للثوار من الأمصار والأقاليم ، وتخلف عن البيعة
من طمع بالخلافة ، أو انحرف عن الإمام ، أو أظهر الاعتزال ، وهم جماعة يعدون
بالأصابع ، فما ألح عليهم الإمام ، وفي طليعتهم سعد بن أبي وقاص ، فقد أبى أن
يبايع وقال للإمام « ما عليك مني من باس » وعبد الله بن عمر بن الخطاب أبى أن
يبايع فطلب إليه الإمام أن يقدم كفيلاً ، فما وجد كفيلاً أو أبى أن يقدم كفيلاً ،
فقال الإمام : خلوه وأنا كفيله ، والتفت إليه قائلاً : « ما علمتك إلا سيىء الخلق
صغيراً وكبيراً »
وأبى البيعة زيد بن
ثابت وهو عثماني الرأي فيما يزعم ، ومحمد بن مسلمة وهو يحب أن يعتزل فيما يرى ،
وأسامة بن زيد ، وقد انحرف عن الإمام منذ أن أمّر ، والبيت الأموي بعامة وفي
طليعتهم مروان بن الحكم ولم يكن هناك ، وحسان بن ثابت الذي هنأ الإمام بالغدير في
حياة النبي ، وانحرف عنه ، وحرضّ الناس عليه.
ما استكره الإمام أحداً على البيعة ،
وكف عنهم ، وأبى أن يعرض لهم أحد بسوء ، فما كانت البيعة لينقصها هذا العدد الضئيل
، وهي ليست من الضعف بأن يؤثر عليها هذا النفر المحدود.
تمت البيعة لعلي 7 ، وكانت رضا لعامة المسلمين إلا هذا
النفر الشاذ ، وكان حرياً أن تستقيم له الأمور ، لأنه ما أرادها ولكنها أرادته ،
وما تزين بها ولكنها إزدانت به ، فهو أكبر منها قدراً ، وأعلى منزلة. والجدير
بالذكر أن الإمام قد أوجز الحال فيها على الشكل الآتي :
« بسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها
فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى انقطعت
النعل ، وسقطت الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج
بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب ».
وقد تمت البيعة لأمير المؤمنين بعد مقتل
عثمان بخمسة أيام وكان أمام أمير المؤمنين جملة من المشكلات المهمة ، والقضايا
العاجلة التي يجب أن يبتّ فيها فوراً ، وقد يطول الحديث عنها ، ولكنه حسم قضيتين
مهمتين :
الأولى
: سياسة الحكم الجديد ، فقال في أول
خطاب رسمي له :
« أيها الناس إنما أنا رجل منكم لي ما
لكم وعلي ما عليكم ، وإني حاملكم على منهج نبيكم ، ومنفّذ فيكم ما أمرت به ».
وقد وضح المنهج الإسلامي في اتجاه علي 7 وهو أنه كأحد المسلمين لا أكثر ولا أقل
إلا أنه قائدهم ، وهو المنهج الديمقراطي الحديث بعينه هذا اليوم. والثاني أنه
يحملهم على منهج النبي وسبيلة لا تأخذه في ذلك لومة لائم.
الثانية
: إصلاح ما أفسده عثمان من المال ،
واسترجاع ما اقطعه بغير حق ، فقد خطب الإمام في اليوم الثاني لبيعته وقال :
« ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل
مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ،
ولو وجدته وقد تزوج به النساء ، ومُلِكَ به الإماء لرددته إلى حاله ، فإن في العدل
سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق ».
ثم نفّذ الإمام ما قال ، وأمر بقبض كل
سلاح تقوّى به عثمان على المسلمين ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة ،
وأن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها ، وبالكف عن
أموال عثمان الخاصة به.
وقد وضحت سياسة الإمام في الحكم بأنه
سائر على منهج رسول الله 6
لا يحيد عنه ، وفي المال بأن يعود لبيت المال.
وهنا تنبه أصحاب المطامع والمآرب
والإمتيازات السابقة أن لا حياة لهم مع الإمام ، فقد قال الإمام مباشرة :
« فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ،
يقسم بينكم بالسوية ، ولا فضل فيه لأحد على أحد ، للمتقين عند الله أحسن الجزاء ،
فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء الله ، ولا يتخلفنّ أحد منكم عربي أو عجمي كان
من أهل العطاء ».
وقد تحركت في هذا الإعلان الصريح مكائد
القلوب ، واستوحشت منه ضمائر أهل الطمع ، وتنكر له أصحاب الملايين.
فبدأت الفتن تترى كقطع الليل المظلم ،
وعليّ في أول الطريق.
(٢)
استقبال خلافة الإمام بين المحرومين
والأُستقراطيين
استقبل الضعفاء والمحرومون خلافة الإمام
بالغبطة والسرور ، وتلقتها الطبقة الأُرستقراطية من قريش بالحقد والكراهية ؛ وكان
المناخ الاجتماعي في المدينة يضم أهل الورع والتقوى يعتضد بهم الإمام ، ويضم أيضاً
أهل النفاق والشقاق فيضيق بهم الإمام ، وكان المسرح الإداري من ذي قبل يعجُّ
ويضجُّ بأهل الطمع والأثرة ، فالولايات تحتجن ، والمناصب يستولي عليها المقربون
والأصهار ، وكان المناخ السياسي مضطرباً أشد الإضطراب في واقعه ، وإن بدا أول
الأمر متماسكاً بعض الشيء.
وتحشد الطامعون بالأمر يجمعون شتاتهم
ويعلنون عصيانهم ، وكانت الحجاز والكوفة والبصرة واليمن في طاعة الإمام حينما بويع
له ، وكان أمر الشام لا يريد أن يستقيم للإمام ، ففي الشام معاوية بن أبي سفيان
ابن عم عثمان ، ومن الإمكان أن يتظاهر طالباً بدم عثمان ، وأن يأوى إليه المردة من
أعداء الإمام ، وأصحاب الدنيا ممن فارق أو سيفارق الإمام ، وقد بدت علائم ذلك تظهر
في الأفق تدريجياً وبانتظام ، فها هو يترصد في البيعة بل يتلكأ عنها ، وها هو يدير
أمره بدقة وحذر شديدين ، ويحكم أمره بأناة وصبر طويلين ، وهو لا يتورع من الإغراء
والبهتان وتسخير
المال ، وشراء الرجال إزاء السلطان كما سترى.
واستقبل الإمام تخطيطه في ضوء الإسلام
وبهدي القرآن وأضواء السنة بكثير من التقوى والورع ، فأسند الولاية لأصحابها ،
وكان جديراً بأن يختار الأمثل فالأمثل وقد فعل هذا بكل أمانة.
فما إن فرغ من البيعة حتى لبى نداء
الضمير الإنساني في عزل ولاة عثمان ، واستبدلهم بغيرهم من الصالحين والمؤهلين من
أصحابه ، وكان الأنصار في حرمان أيام الشيخين وعثمان ، فرّد إليهم الإعتبار
السياسي من خلال كفاياتهم ، فاستعمل منهم ثلاثة أعلام لثلاثة أمصار ؛ فأرسل قيس بن
سعد بن عبادة والياً إلى مصر ، واستعمل عثمان بن حنيف على البصرة ، وعيّن سهل بن
حنيف والياً على الشام.
وعاد عليّ إلى قريش فأرسل خالد بن العاص
بن المغيرة المخزومي إلى مكة والياً ، وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عاملاً
على اليمن.
وأقر بإشارة مالك الأشتر أبا موسى على
الكوفة ، فبعث إليه بالبيعة ، وقيل أرسل عمارة بن شهاب إلى الكوفة ، فلقيه في
الطريق من أشار عليه بالرجوع لأن أهل الكوفة لا يرضون بغير أبي موسى الأشعري
أميراً ، وكان يتضاعف لهم ، ولا يهمه أمرهم.
وتوجه عمال الإمام إلى أقاليمهم ، فدخل
عثمان بن حنيف البصرة ، فإرتحل عنها عامل عثمان عبد الله بن عامر بن كريز ، وحمل
معه ما في بيت المال جميعاً وأتى مكة ، ودخل ابن عباس اليمن فرحل عنها عامل عثمان
يعلى بن أمية ، واحتمل بيت المال وأتى مكة. وسار قيس بن سعد بن عبادة إلى مصر ،
ودخلها في غير جهد ولا مشقة وأخذ
البيعة لعلي 7 من أهلها. وذهب خالد بن العاص المخزومي
إلى مكة فأبى أهلها مبايعة علي وأخذوا عهده ورموه في زمزم. وتوجه سهل بن حنيف إلى
الشام ، فلقيته في حدودها خيول معاوية ، فسألوه عن شأنه ، فأخبرهم بأنه أمير الشام
، فقالوا إن كنت أميراً من قبل عثمان قبل قتله فدونك إمرتك ، وإن كنت أميراً من
قبل غيره فارجع إلى من أرسلك.
والبحث العلمي يشكك في تعيين ابن حنيف
على الشام أميراً ، وفيها معاوية ، وليس كل ما روي يقطع بصحته كما سترى.
وكان الإمام قد أرسل إلى معاوية كتاباً
يطلب فيه أن يبايع ، وأن يقبل إلى المدينة في أشراف أهل الشام ، ولم يذكر في
الكتاب عزله أو إقراره في ولايته. فلما وصل الكتاب إلى معاوية لم يجب الإمام بشيء
، وأخذ يتربص بالأمر ، وأعجله الرسول على الجواب فتلكأ ثم أرسل طوماراً إلى الإمام
، وكتب في أعلاه : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، وقدم الرسول
المدينة وأشهر نفسه فيها ، وأوصل الطومار إلى الإمام ، وفضّ الإمام الكتاب ولا شيء
فيه إلا : « بسم الله الرحمن الرحيم ».
وأستأمن الرسول علياً فآمنه ، وكان من
عبس ، فقال للإمام والناس تسمع : إني تركت أهل الشام وقد صمموا أن يثأروا لعثمان ،
ونصبوا قميصه للناس ، وليس عندهم إلا السيف.
وكان المغيرة بن شعبة ـ فيما يزعم
الرواة ـ قد أشار على عليّ 7
إبقاء معاوية على الشام حتى تتم بيعته ومن ثم يعزله ، فأبى ذلك الإمام ، كما أبى
إبقاء ولاة عثمان عموماً ، لأن دينه وورعه يمنعانه من ذلك ، وقال :
« والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي
، ولا وليّتُ هؤلاء ، ولا مثلهم يُولى ... لا أدّهن في ديني ، ولا أعطي الدني من
أمري ».
وكذلك أشار عبد الله بن عباس بمثل هذا «
أبقه شهراً وأعزله دهراً ».
فأبى الإمام ذلك وقال بما معناه : عليك
أن تشير وعليّ أن أرى ، فإذا عصيتك فأطعني. فقال ابن عباس : « إن أيسر حالك عندي
الطاعة ».
وكان عليٌّ 7 صاحب حق وصاحب دين ، فلا يداخل أحداً
في دينه ، ولا يتنازل أبداً عن حقه ، فدعا إليه وجوه الناس وفيهم طلحة والزبير ،
وجملة المهاجرين والأنصار ، فأخبرهم بما عليه معاوية ، من خلع الطاعة ومفارقة
الجماعة ، وانبأهم أن الحل يتحدد بمقاومته عسكرياً قبل أن تستشري الفتنة ، وعلم
الناس رأي الإمام ، وعلموا أيضاً أنها الحرب ، وآخر الدواء الكي.
وكان طلحة والزبير يقدّران أن الإمام
سيوليهما على بعض الأقاليم ، وأنه محتاج إليهما ، أو يستدفع خطرهما ، لأنهما من
أصحاب الشورى ، وهما قد أسلما عثمان وخذلاه ، بل أعانا عليه وألبا حتى قتل ، وهما
قد أقبلا على بيعة الإمام طائعين ، وأول يد بايعته يد طلحة وكانت جذاء ، وتشاءم الناس
من ذلك ، وكان الأمر كذلك.
صرح طلحة والزبير للإمام بطلب الولاية
على المصرين : الكوفة والبصرة ، فأبى عليهما الإمام ، وتلطف بهما برفق ، وقال :
« أحب أن تكونا معي أتجمل بكما ، فإني
أستوحش لفراقكما ».
وأحسّ الشيخان أن لا مقام لهما مع عليّ
، وأنهما كبقية المسلمين وأن علياّ سيستأنف معهما ومع غيرهما سيرة الرسول الأعظم 6 وهما كغيرهما من أعيان المهاجرين ،
وأعلام الأنصار يسوسهم الإمام بالشدّة واليقين لا التسامح واللين ؛ فأعرضا عن
البصرة والكوفة ، وأستأذنا بالعمرة ، فقال علي 7
:
ما العمرة تريدان وإنما تريدان الغدرة
ونكث البيعة ، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعته يريدان ، وما رأيهما غير
العمرة ، قال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية ، فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان
والمواثيق ، فأذن لهما ، فلما خرجا من عنده ، قال الإمام لمن كان حاضراً : والله
لا ترونهما إلا في فتنة يقتلان فيها.
قالوا : يا أمير المؤمنين فمر بردهما
عليك ، قال الإمام : ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وخرج طلحة والزبير في طريقهما إلى مكة ،
فلم يلقيا أحداً إلا قالا له :
ليس لعلي في أعناقنا بيعة ، وإنما
بايعناه مكرهين ، فبلغ قولهما علياً 7
فقال :
« أبعدهما الله وأغرب دارهما ، أما
والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم
، والله ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني بوجهي فاجرين ، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين
، والله لا يلقياني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما ، فبعداً
لهما وسحقاً ».
وكان الإمام 7 في هذا الحين يتجهز لحرب أهل الشام ،
وإنه لفي ذلك ، إذ
بلغه إجتماع عائشة وطلحة والزبير في مكة ، وهم يريدون البصرة بجمع ممن تخلف عن
البيعة ، وولاة عثمان المعزولين ، وبني أمية ، وطواغيت قريش ، ورعاع الناس ، فثنى
عزمه عن لقاء أهل الشام ، وصحّ عنده التوجه حيث توجه الناكثون.
(٣)
المتمرّدون في مجابهة الإمام متظاهرين بالثأر
لعثمان
لم تقعد بعليّ 7 حنكته السياسية ، ولم تعجزه مقدرته
الإدارية عن اتخاذ الاجراءات الكفيلة بخنق الأنفاس ، وكبت الحريات ، ومنع التصرف ،
فقد كان بامكانه إحتجاز طلحة والزبير في المدينة وصرفهما عن وجههما إلى مكة ، وقد
كان بمقدوره فرض الإقامة الجبرية عليهما ، ومتابعتهما أمنياً بالعيون ، ولكنه ذو
سياسة يتمحض عنها الإيمان بأدق معانيه ، وذو إدارة يلقي بثقلها الإسلام بأصدق
مفاهيمه ، فليس للضغط مستقر في منظوره ، ولا للإكراه سبيل إلى إدارته ، أراد أن
يذيق الناس مفهوم الحرية بأوسع معاييرها الفذة ، وأن يحمل الناس على سنن الإسلام
وإن أرهقته ، وأن يتجمل بالصبر تارة ، وبالأناة تارة أخرى في إمتصاص الأحداث وهو
على بصيرة من أمره ، وسيأتي في سياسته مع الخوارج ما يدل على ذلك.
والمنطق الإسلامي يقضي على علي 7 أن يحكم بالظاهر ، فليس له إلى القلوب
سبيل وإن أدرك خفايا النيات ، واستقرأ الغيب المجهول ، وهو على صحة من عزيمته وصدق
من نيته ، يعلم بما يضمر طلحة والزبير من الغدر والنكث والخلاف ، ولكنه تركهما
ييممان شطر البيت الحرام لأنهما أظهرا العمرة وإن أرادا سواها.
وقد قصد مكة المكرمة ولاة عثمان
المعزولون لأنها حرم آمن لا
يزعج من فيه ، فكان
هناك يعلى بن أمية وعبد الله بن عامر ، وسعيد بن أبي العاص ، وجملة من الأمويين
بقيادة مروان بن الحكم ، وفر إلى هناك من أراد الإنحياز عن علي 7 ، والابتعاد عن الأحداث كعبد الله بن
عمر وأمثاله ، واستقر هناك أعداء عليّ من المقيمين بمكة ، والقادمين إليها من
الآفاق ، وكان هناك من أزواج النبي 6
عائشة وحفصة وأم سلمة في تأدية المناسك ، وقد أكملت عائشة أم المؤمنين حجها ،
وإنها لفي طريقها إلى المدينة وإذا بالأنباء تنعى إليها عثمان ، وأخبرت ـ خطأ أو
إختباراً ـ ببيعة طلحة ، فاهتزت لذلك طرباً وقالت : إيهاً ذا الأصبع ، إيهاً يا
ابن العم. وطلحة تيمي من رهط أبي بكر ، وما اكتفت بهذه الفرحة بل أظهرت سروراً
عظيماً بمقتل عثمان ، وقالت فيما قالت : أبعده الله.
ولكن الفرحة لم تتم لها إذا أنبأها بعض
من في الطريق بحقيقة الأمر ، وأن علياً 7
قد بويع له بالخلافة ، فضاقت عليها الأرض بما رحبت ، وقالت :
ليت السماء أطبقت على الأرض ، ردوني فقد
قتل عثمان مظلوماً. والله لأطلبن بدمه ، وكان وليّ دم المقتول ، والقيم على امور المسلمين.
عادت السيدة عائشة إلى مكة ، وعمدت إلى
حجر إسماعيل فاتخذت فيه ستراً ، وجعلت منه مقراً ، واختلف إليها الناس فأسمعتهم من
عذر عثمان ما أعجبهم ، وأظهرت من المطالبة بالثأر له ما أحفظهم ، وكانت تقول :
« لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه ،
وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله ، وقبل المسلمون منه ، ثم ثار به جماعة من
الغوغاء والأعراب فماصوه موص الثوب الرخيص حتى قتلوه ، واستحلوا بقتله
الدم الحرام في
الشهر الحرام في البلد الحرام ».
سمع الناس من عائشة هذا وأكثر من هذا ،
فتأثروا بها ، فبينا هي تنعى على عثمان أعماله ، وتنكر عليه أشد الإنكار ، وتدعوا
إلى قتله ، وإذا بها تتظلم له ، وتتفجع عليه ، فكان الناس أسرع إليها من إسراع
الفراش إلى النار ، ومن إسراع النار في الحطب الجزل.
واتخذت عائشة هيئة استشارية من عبد الله
بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، ومروان بن الحكم ، ويعلى بن أمية ، وعبد الله بن عامر
، وتوجهت بعلمين من أعلام الشورى هما طلحة والزبير ، فكانت مثابة للناس ، ومأوى
للمتمردين على علي 7.
وحقد عائشة على عليّ قديم منذ حديث
الإفك ، إذ يقال إنه أشار على النبي بطلاقها ، وأنه قال : إن النساء غيرها كثير.
وكون علي 7 أباً للذرية
الطاهرة من الزهراء ، والزهراء ابنة ضرّتها خديجة ، وخديجة أحب إلى النبي 6 منها ، وعليٌّ ذو المنهج الواضح بإلغاء
الإمتيازات ، وعلي حبيب رسول الله 6
وقد كان يضايقها ذلك ، وعليّ قد هتف باسمه المعارضون لإستخلاف أبيها. كل أولئك
أسباب لموجدتها على عليّ 7
، ولا ذنب له في ذلك ، ولكنها إمرأة سبقت إلى عاطفتها وتركت عقلها ، وإذا جاشت
العواطف وتحركت الأحاسيس الكامنة ، صمت منطق الرشد ، وتلاشى سلطان العقل.
قصدها والي عثمان على مكة وقال : ما
ردّك يا أم المؤمنين؟ قالت : ردي أن عثمان قتل مظلوماً ، فاطلبوا بدم عثمان تعّزوا
الإسلام.
إنها دعوة صريحة إلى النخوة ألفت آذاناً
صاغية من رجال الحكم
البائد ، وأسماعاً
واعية من دعاة التمرد على حكم الإمام الجديد ، وكأن عائشة كانت تتكلم بتفويض من
الشعب ، أو نيابة عن الأمة ، فانتشر حديث هذه الدعوة الجامحة في الأمصار ، وامتد
إلى آفاق الدنيا ، ووصلت الأنباء إلى علي في المدينة يحدو بها الركبان ، وينقلها
الحجيج بعد أن أدّوا مناسكهم.
وجهد المتمردون متظاهرين بالثأر لعثمان
، وتجمع حولهم الحاقدون على الإمام ، وكان أمامهم عدة خيارات أهونها الصعب في
تنفيذ المخطط ، فرأى بعضهم الغارة على المدينة ، ورأى بعضهم الذهاب إلى الكوفة ،
وقد أشفقوا من هذين الرأيين ، فعليّ 7
لهم بالمرصاد في المدينة ومعه المهاجرون والأنصار ، والكوفة من الأقاليم الثائرة
على عثمان ، ورجالها في قوتهم ضد عثمان ومن تكلم باسم عثمان ، فقرروا الاتجاه إلى
البصرة إذ زعم لهم عبد الله بن عامر ، أن فيها رجاله وصنائعه ، وكان قد فرّ منها
بعد عزله ، فاضطروا إلى الخيار الأخير إضطراراً فيه كثير من المغامرة ، وانتدبوا
الناس لذلك ، فاستجاب كل حاقد وإنتهازي موتور ، وأمدهم يعلى بن أمية بالمال
والسلاح ، وزودهم ابن عامر بالظهر والكراع ، وساروا في جحفل عدته ثلاثة آلاف مقاتل
، يتقدمهم الأقطاب الثلاثة : عائشة ، طلحة ، الزبير.
وتوجهت أم سلمة لعائشة تنهاها فما
استمعت ، بل حاولت جر حفصة وحملها على الخروج ، فأجابت بادئ ذي بدء ، ولكن أخاها
عبد الله ردّها ومنعها.
وبلغت الأنباء علياً 7 ، فاستشار الناس ، فأشار عليه قوم
بالخروج في أثرهم ، وأشار آخرون بأن لا يتبعهم ولا يرصد لهم القتال ، فعمل بالرأي
الأول ، ورفض الأخير ، وقال :
« والله لا أكون كالضبع تنام على طول
اللدم ، حتى يصل إليها طالبها ، ويختلها راصدها ، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق
المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً ، حتى يأتي عليَّ يومي. فوالله
ما زلت مدفوعاً عن حقي ، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه 6 حتى يوم الناس هذا ».
وصحت عزيمته باتباع آثارهم ، فتحول قصده
عن قتال أهل الشام ريثما ينتهي ممن نكث البيعة ، وفارق الجمع ، فلم يكن له أن يبقى
متأملاً وقد جدّ القوم ، ولا متردداً وقد حث المتمردون خطاهم بالمسير نحو البصرة ،
فتنتقض عليه الأقطار واحدة بعد أخرى.
وكانت همّة المتمردين البصرة حتى إذا
أدركوها وفتحوها ساروا إلى الكوفة وفيهما المال والفيء ، وبهما السلاح والرجال ،
ومن حولهما الثغور والحدود ، فما ينتظر عليّ لو انتظر إلا أن تنتقض عليه الأطراف ،
وتتجمع ضده الأشتات ، ومن وراءهم معاوية وأهل الشام ، فلو قعد لضاعت الخلافة
وانتهى كيان الإسلام ، فما عليه إلا النهوض وهكذا فعل ، فاستنفر لذلك الناس في
المدينة فنفروا خفافاً وثقالاً ، وسار فيهم سيراً حثيثاً عسى أن يدرك المتمردين
قبل دخول البصرة ، فيحاججهم ويعظهم ويعذر إليهم ، عسى أن لا يكون قتال وسفك دماء.
وعلم المتمردون بذلك فساروا سيراً
عنيفاً حتى سبقوا علياً إلى البصرة.
وسار موكب علي 7 بالمهاجرين والأنصار حتى وصلوا إلى ذي
قار آملاً تدارك الموقف ما استطاع ، وقال :
« سأمسك الأمر ما استمسك ، فإذا لم أجد
بداً فآخر الدواء الكي ». وهكذا كان.
فقد كتب من هناك إلى أهل الكوفة : « أما
بعد ، فإني قد خرجت من حيي هذا إما ظالماً وأما مظلوماً ، وإما باغياً وإما مبغياً
عليه ، وإني أذّكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر إلي ، فإن كنتُ محسناً اعانتى
وان كنت مسيئاً استعتبني ».
وكان حرياً بهذا الكتاب أن يستثير همم
أهل الكوفة وأن يشحذ عزائمهم ، ووصل الكتاب ، وإذا بالوالي على الكوفة يثبطهم ،
ويدعو إلى اعتزال الفتنة فيما يزعم ، ذلك أبو موسى الأشعري ؛ فواعجباً : ممثل
الإمام يخذّل عن الإمام ، وكان واجبه الشرعي وموقعه الإداري والسياسي يدعوانه إلى
نصرة الإمام بنفسه وبجنده ، أما أن يبقى والياً ولا ينفذ الأوامر ويتمرد عليها
فشيء جديد لم يعرف من ذي قبل.
فأرسل عليٌّ 7 من يؤنبه ويعنفه ويلومه ويزجره ، وكان
الحسن بن علي 8
، وعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر أول من أرسل ، وأخيراً تم إرسال مالك الأشتر
الذي توجه في الكوفة نحو قصر الإمارة وأغار عليه ، وأبو موسى يخطب في الناس
مخذّلاً عن الإمام ، فاستولى على القصر ، واحتاز بيت المال ، وأعلن عزل أبي موسى
بقرظة بن كعب الأنصاري ، فخرج أبو موسى مدحوراً معزولاً بعد خطوب يسيرة ، وقصد مكة
فأقام بها.
ولم يكن أبو موسى مغفّلاً كما يصوره
المؤرخون بل كان متغافلاً يظهر الورع والسذاجة ، ويدّبر ما يريد من أمر بتؤدة
وإحكام ، ولم يكن محتاطاً لدينه ـ كما يريد أن يقال ذلك عنه ـ بل كان موغلاً في
الإنحراف
عن أمير المؤمنين ،
وقد يكون أيضاً ضالعاً بالمؤامرة ، فقد يصح أن يراسله طلحة والزبير وعائشة
يستنصرونه ، أو يطلبون إليه أن يخذل الناس عن الإمام ، وقد فعل هذا بأبشع صورة ،
فقد خان الأمانة ، وغدر بالأمة ، وخذل الحق ، ونصر الباطل ، فأي إعتزال للفتنة هذا
، وأي مغفل من أعرق بالخلاف.
ومهما يكن من أمر ، فقد استجاب أهل
الكوفة للإمام بتوجيه من الحسن بن علي 8
، وعمار بن ياسر 2
، ومالك الأشتر ;
، وخرج إليه منهم جمع كثيف ، وهو بذي قار ، وكان حقاً ما قال لهم :
« إني اخترتكم والنزول بين أظهركم ،
وفزعت إليكم لِما حدث ، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً ، وانهضوا إلينا ،
فالإصلاح ما نريد ، لتعود الأمة إخواناً ».
وأضيف إلى جيش أمير المؤمنين من
المهاجرين مثله من جيش الكوفة المقاتلين ، وما كان عليّ 7 يريد القتال إلا أن يحمل عليه ، بل كان
يريد الإقناع بالمحاججة ، ورد المتمردين بالتي هي أحسن ، قصداً إلى الإصلاح ،
وتنفيذاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد صرح الإمام عن هذه الملاحظ في عدة
مواقف ، فقد استوقفه بن رفاعة قائلاً : « أي شيء تريد؟ وإلى أين تسير يا أمير
المؤمنين »؟
فقال الإمام : إن أريد إلا الإصلاح ، إن
قبلوا منا ، وأجابونا إليه ».
قال ابن رفاعة : فإن لم يجيبونا ، قال
الإمام : ندعهم بعذرهم ونصبر.
قال ابن رفاعة : فإن لم يرضوا ؛ قال
الإمام : ندعهم ما تركونا.
قال ابن رفاعة : فإن لم يتركونا ؛ قال
الإمام : امتنعنا منهم.
واستمع الحديث ابن غزية الأنصاري فهب
قائلاً :
« والله لأرضينك بالفعل كما أرضيتني
بالقول ، ولأنصرن الله كما سمانا أنصاراً ».
وانتهت المحاورة بانتصار الإمام ، وسار
جيشه يُرتَجز أمامه :
سِيروا أبابَيلَ ، وحثوا السَيرا
|
|
إذ عزمَ السيرُ وقُولُوا خَيرا
|
وقد أوضح علي 7 نية أصحاب الجمل كما أوضح نيته ، وأبان
فيهم ما استتر على الناس من علم تلقّاه من الصادق الأمين ، فقد خطب وقال :
« أيها الناس إن عائشة سارت إلى البصرة
، ومعها طلحة والزبير ، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه ، أما طلحة فابن عمها ،
وأما الزبير فختنها ، والله لو ظفروا بما أرادوا ـ ولن ينالوا ذلك أبداً ـ ليضربن
أحدهم عنق صاحبه بعد تنازع شديد ، والله إن راكبة الجمل الأحمر ، ما تقطع عقبة ولا
تحل عقدة إلا بمعصية الله وسخطه ، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة ، أي
والله ليقتلن ثلثهم ، وليهربن ثلثهم ، وليتوبن ثلثهم ، وإنها التي تنبحها كلاب
الحوأب ، وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان ، ورب عالم قتله جهله ، ومعه علمه لا ينفعه
، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية ، أين المحتسبون؟
أين المؤمنون؟ ما لي ولقريش؟ أما والله لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين!
وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيّزنا ، والله لأبقرن الباطل حتى
يظهر الحق من خاصرته ، فقل لقريش فلتضج ضجيجها ». ثم نزل.
فالإمام بهذا الخطاب الصريح ، قد أبان
اختلاف القوم على القيادة ، وأظهر تردّي عائشة بالمعصية ، وأنبأ أنها صاحبة كلاب
الحوأب بما أخبر رسول الله 6
وأجمل علم طلحة والزبير بخطأهما ، ومعهما علمهما لا ينفعهما ، وصرح بقيام الفتنة ،
ودعا لقمعها ، ونعى على قريش موجدتها عليه ، ولا ذنب له مع عائشة إلا أن أدخلها في
بني هاشم.
وأعلن الإمام الحرب بعد أن أعذر ،
وأخذلها أهبتها ، حتى لا يؤخذ على حين غرة ، ولا يبغت بمفاجأة ، وبهذا يكون قد
أحكم أمره إحكاماً دقيقاً ، ومعه شيوخ المهاجرين والأنصار من هم بصحة عزيمته ،
ونفاذ بصيرته ، وصدق النية ، وسلامة القصد ، وقوة الشكيمة.
عوامل غلابّة ، وبوادر ائتلاف وجماعة ،
وهكذا كان علي وجيشه المتوجه إلى البصرة. وكان جيش عائشة وطلحة والزبير يفتقر إلى
هذه الخصائص وهو لا يتمتع بها ، ولم يكن ليوسم تحركاته بالصدق والبصيرة ، ولا
ليتوج أعماله بالقصد والإعتدال ، وإنما هي الفرقة بأبرز صورها منذ اللحظة الأولى
لمسيرة القوم ، فالتنازع حول الصلاة والجماعة قائم ، والتنافس على إمارة الحرب
وقيادة الجيش بلغ أشدّه ، والتظاهر بالسلطان كلٌّ يدعيه لنفسه ، الفرقة ظاهرة
مستحكمة ، والاختلاف متمكن مستطير ، والنزاع يصل إلى حد الصراع.
وهنا يبدو فرق ما بين الحزبين : حزب
متطامن مستقيم على بصيرة من الأمر يتمثل بالإمام وجيشه ، وحزب متناحر مستهين ،
تحدو به الأطماع ، ويتطلع إلى المناصب ، لا تستقيم له الرؤية يتمثل بعائشة وطلحة
والزبير وجيشهم ، وفرقٌ ما بين المعسكرين كما ترى ، فالأول يقود بالضرورة إلى
النصر ، والثاني يدفع إلى الهزيمة دون شك.
(٤)
قيادة الناكثين بين التردد واقتحام البصرة
سار جيش المتمردين والناكثين نحو البصرة
، وكانت قيادته مترددة حائرة ، تتنازع بينها الإمارة تارة ، وتتناوب بينها الصلاة
تارة ، فعبد الله بن الزبير يدعو للسلام على أبيه بالإمارة ، ومحمد بن طلحة يدعو
للسلام على أبيه بالإمارة أيضاً ، وعائشة قلقة بين هذا وذاك ، فتولى ابن أختها عبد
الله بن الزبير أمر الصلاة ، وهو قرار فيه كثير من الإستبداد والتحدي لمكان أبيه
ووجود طلحة. وعائشة نفسها تستولي عليها الذكريات المريرة فترجع ـ كالحالمة حيناً
والمتيقظة حيناً آخر ـ إلى عهد رسول الله 6
وإلى قوله لنسائه :
أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، تنبحها كلاب
الحوأب؟ ».
وإذا بكلاب الحؤاب تنبحها بشراسة ،
وتفجأها بعواء كالزئير ، وتجزع لذلك جزعاً متواصلاً ثقيلاً ، وتلهث لهاثاً
متسارعاً ، وتصرخ بمن حولها : ردّوني ردّوني ، أنا والله صاحبة كلاب الحوأب ،
فيجيئها عبد الله بن الزبير ملفقاً لها شهادة زور عريضة من خمسين أعرابياً من بني
عامر يحلفون لها بالله أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، وأن الكلاب ليست بكلاب
الحوأب ، فكانت أول شهادة زور في الإسلام كما يقول المؤرخون.
ويستمع طلحة والزبير وسواهما من
المتمردين إلى هذه الشهادة ،
ويتذكرون قول الرسول
لبعض نسائه في هذا الشأن فلا ينكر ذلك منكر ، ويغمضون على الأمر ، وهم يشاهدون
مصاديق قول الرسول 6
وكذب شهادة الزور.
وتسير الأحداث سيراً متلاحقاً ، فيصل
الجيش المتمرد أطراف البصرة ، ويصل علي 7
وجيشه الطرف الآخر ، وكان الإمام قد أرسل إليهم القعقاع بن عمرو سفيراً ومستطلعاً
، يستقرىء له خبرهم ، ويعلم علمهم ، ويسألهم عما يريدون.
واستأذن القعقاع على عائشة ، وسألها عما
أقدمها إلى البصرة؟ قالت : إصلاح بين الناس. فسألها أن تدعو له طلحة والزبير
ليناظرهما وهي شاهدة ، فأستجابت وأرسلت إليهما فحضرا ، قال لهما القعقاع :
إني سألت أم المؤمنين عما أقدمها ،
فقالت : إصلاح بين الناس ، أفأنتما متابعان لها أم مخالفان عنها؟ قالا : متابعان :
فقال القعقاع : فأنبآني عن هذا الإصلاح الذي تريدون ، فإن كان خيراً وافقناكم عليه
، وإن كان شراً إجتنبناه ، قالا : قتل عثمان مظلوماً ، ولا يستقيم الأمر إذا لم
يقم الحد على قاتليه. قال القعقاع فإنكم : قد قتلتم من قتلة عثمان ستمائة رجل في
البصرة إلا رجلاً واحداً هو حرقوص بن زهير ، غضب له قومه فخالفوا عنكم ، وغضب لمن
قُتل قومهم ، فتفرقت عنكم مضر وربيعة ، وفسد الأمر بينكم وبين كثير من الناس ، ولو
مضيتم في الأمصار تفعلون فيها مثل ما فعلتم في البصرة يفسد الأمر فساداً لاصلاح
بعده.
قالت عائشة : فأنت تقول ماذا؟ قال
القعقاع : أقول إن هذا أمر دواؤه التسكين واجتماع الشمل حتى إذا صلح الأمر ، وهدأت
النائرة ، وأمن الناس ، واطمأن بعضهم إلى بعض إلى بعض نظرنا في أمر الذين أحدثوا
هذه
الفتنة. فأظهر القوم
استحسان كلامه ، وقالوا : إنا قد رضينا منك رأيك ، فأن قبل عليٌّ بمثل هذا الرأي
صالحناه عليه.
ورجع القعقاع فيما يقول بعض المؤرخين
إلى الإمام فأنبأه بحديث القوم ، فسرّ الإمام بذلك سروراً عظيماً.
وكان حديث القوم مع القعقاع ـ إن صح ـ
لا يستقيم عملياً ، فقد تجاوز القوم الحدّ في سفك الدماء بالبصرة قبل سفارته ، وقد
ينبغي أن نذكر أن جيش المتمردين قد إقتحم مشارف البصرة ، وأُقحمت البصرة بالحرب
جهاراً ، وأهلكت طلائع الجيش الحرث والنسل ، وقد سمي ذلك بيوم الجمل الأصغر ، فقد
بعثت عائشة بابن عامر إلى البصرة يتألف فيها صنائعه ، فاجتمع له جيش سرّي يضمن
لجيش الناكثين النصرة والحماية ، ويكون له ظهرياً إن هو اقتحم البصرة ، ولم يكن
عثمان بن حنيف والي البصرة لتخفى عليه هذه المكائد ، فقد كان متنبهاً لها ،
ومتحصناً قدر المستطاع ، وتأهب للحرب حسب الإمكان ، وأراد أن يخبر أهل البصرة بحديث
القوم ، فبعث من يخطب بالمسجد قائلاً :
« أيها الناس : إن هؤلاء القوم قد
جاؤوكم ؛ إن كانوا جاؤوكم خائفين ، فقد جاؤوا من المكان الذي يأمن فيه الطير ، وإن
كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان ... أطيعوني فردّوهم ».
فكان اللغط كثيراً ، وكان الرد على هذا
الخطاب : أن القوم إنما فزعوا إلينا ليستعينوا بنا على قتلة عثمان ، فعلم ابن حنيف
أن هذا أمر دبر بليل ، فتوسل بالرسل والأسفار إلى القوم فأرسل عمران بن حصين ،
وأبا الأسود الدؤلي يستطلعان ما عزم عليه النفير ، ووصل السفيران فاستئذنا على
عائشة وقالا :
« يا أم المؤمنين : إن أميرنا بعثنا
إليك نسألك عن مسيرك ، فهل أنت مخبرتنا؟ » فتعللت بالجواب بإرادة الإصلاح ، فقالا
: « فهل معك عهد من رسول الله في هذا المسير ».
فأُرتج عليها الجواب. وقد يقال بأنها
قالت : « إن عثمان قتل مظلوماً ، لقد غضبنا لكم من السوط والعصا ، أفلا نغضب لقتل
عثمان ، فرد عليها أبو الأسود « وما أنتِ ومن عصانا وسوطنا ، وأنت حبيس رسول الله
أمرك أن تقرّي في بيتك ، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض ، فقالت : وهل أحد يقاتلني؟
فقال أبو الأسود : أي والله لتقاتلين قتالاً أهونه لشديد ، أو قال : قتالاً أهونه
أن تندر فيه الرؤوس ».
وكان أبو الأسود صادقاً فيما قال ـ كما
سترى ـ وناصحاً غاية النصح ، ولئن نصح لها أبو الأسود في هذا الموقف ، فقد نصح لها
جارية بن قدامة السعدي في موقف آخر ، وأبلغ في النصح ، وأعذر في القول ، وشدد في
النكير ، وقال :
« يا أم المؤمنين ، والله لقتل عثمان
أهون من خروجك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح ، لقد كان لك من الله ستر وحرمة
، فهتكت سترك وأبحت حرمك ، وإن من رأى قتالك فقد رأى قتلك ، فإن كنت قد أتيتنا
طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت مستكرهة فاستعيني بالناس ».
ومهما يكن من أمر فقد ترك الرسولان
عائشة وقصدا طلحة وسألاه :
ما أقدمك؟ فقال طلحة : الطلب بدم عثمان.
فقال أبو الأسود :
« يا أبا محمد قتلتم عثمان غير مؤامرين
لنا في قتله ، وبايعتم علياً
غير مؤامرين لنا في
بيعته ، ولم نغضب لعثمان إذ قتل ، ولم نغضب لعلي إذ بويع ، ثم بدا لكم فأردتم خلع
علي ، ونحن على الأمر الأول ، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه ».
وقال عمران بن حصين « يا طلحة : إنكم
قتلتم عثمان ، ولم نغضب له إذ لم تغضبوا ، ثم بايعتم علياً وبايعنا من بايعتم ،
فإن كان قتل عثمان صواباً فمسيركم لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر ».
وبدرهما طلحة بقوله : « يا هذان : إن
صاحبكما لا يرى أن معه في هذا الأمر غيره ، وليس على هذا بايعناه ». فخرجا منه
وقال أبو الأسود لعمران :
« أما هذا فقد صرح أنه إنما غضب للملك
يا عمران ».
وقصدا الزبير ، فسبقهما بقوله : « إن
طلحة وإياي كروح في جسدين. وقد كانت منا في عثمان فلتات احتجنا فيها إلى المعاذير
، ولو إستقبلنا من أمرنا ما إستدبرناه نصرناه ».
ويروي ابن أبي الحديد أنهما قالا غير
مواربين :
« بلغنا أن في مصركم دراهم ودنانير
فأتينا لأستخلاصها » ورجع الرسولان إلى عثمان بن حنيف ، فقال أبو الأسود :
يا ابنَ حنيفٍ قد أُتيتَ فأنفرِ
|
|
وطاعن القوم وجالد وأصبرِ
|
وإبرُز لهم
مستَلئماً فشمّرِ
فقال ابن حنيف : إنا لله وإنا إليه
راجعون ، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة.
ويرى الطبري أن عثمان بن حنيف عامل أمير
المؤمنين على البصرة قد قصدهم بنفسه ، وقال لهم مجتمعين :
ما الذي نقمتم على عليّ حتى خرجتم عليه
تقاتلوه؟
فقالوا : لأنه ليس بأولى بالخلافة منا ،
وقد صنع ما صنع.
فقال لهم : إن الرجل قد أمرني أن أسألكم
، واكتب إليه بجوابكم ، وطلب منهم أن يصلي بالناس حتى يأتي جوابه ، فوافقوا على
ذلك ، ولم يلبثوا إلا يومين حتى وثبوا عليه فقاتلوه ، وأخذوه أسيراً ، ولولا خوف
الأنصار من رهطه لقتلوه ، ومع ذلك فقد مثلوا به حياً ، ونتفوا شعر حاجبيه ولحيته
وأشفار عينيه.
ويرى ابن قتيبة : أن المتمردين إتفقوا
مع عثمان بعد معارك ذهب ضحيتها عدد كبير من الصالحين : أن لعثمان دار الإمارة
والمسجد وبيت المال ، وأن ينزل أصحابه حيث شاؤوا بالبصرة ، وأن لطلحة والزبير ومن
معهما أن يقيما في البصرة إلى أن يدخلها عليٌّ 7
، فإذا اجتمعت كلمتهم بعد دخوله واتفقوا ، كفاهم الله شر الفتنة ، وإن لم تتفق
كلمتهم فلكل فريق أن يصنع ما يريد.
وانصرف عثمان إلى عمله مطمئناً ، وتفرق
أنصاره في أعمالهم ، فغدر طلحة والزبير ، وهاجموا الوالي مباغتة في ليلة مظلمة
ممطرة ، فقتلوا الحرس ومن في الدار حتى بلغ عدد القتلى أربعين رجلاً ، واستولوا
على بيت المال ، وأخذ عثمان بن حنيف أسيراً ، ونتف مروان شعر وجهه ورأسه.
وتمت سيطرة المتمردين على البصرة ، فلما
جاء وقت صلاة الفجر ـ فيما يذكره اليعقوبي في تأريخه ـ تنازع طلحة والزبير على
الصلاة ، وجذب كل منهما الآخر من المصلى ، واستمر النزاع بينهما حتى كاد أن يفوت
وقتها ، فصاح الناس : الصلاة الصلاة يا أصحاب
محمد ، وهي سخرية
لاذعة بالقوم ، وتناهى النبأ إلى عائشة فحسمت النزاع ، وأمرت أن يصلي بالناس محمد
بن طلحة يوماً ، وعبد الله بن الزبير يوماً.
ويبدو من الأحداث أن عثمان بن حنيف كان
راغباً في السلم حتى يأتيه أمر الإمام ، وكان يدفع الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً
، وكان قد أكثر من المناظرة والمحاورة والمحاولة مع القوم حتى تمت الهدنة إلى حين
قدوم الإمام ، ولكن المتمردين بادروا الحرب ليلاً ، فقتلوا ـ كما يرى المسعودي ـ
سبعين رجلاً من أنصار ابن حنيف ، منهم خمسون رجلاً قتلوا صبراً ، وجرحوا عدداً
كبيراً من الناس ، ومثلّوا بآخرين.
وتناهت الأخبار بهذا إلى أمير المؤمنين
، وكان يأمل أن يتراجع المتمردون عن الحرب ، وكان يميل إلى إصلاحهم متجنباً الفرقة
وسفك الدماء ، ولما يئس من هذا الملحظ ، نهض إلى البصرة في جيشه مسرعاً عسى أن
يتدارك الأمر بنفسه ، ولكن القوم كانوا قد استولوا على البصرة ، وأكثروا فيها
الفساد ، فأسرع الإمام لئلا يبلغ السيل الزبى ، فزحف إليها زحفاً عسكرياً منظماً
يصفه المسعودي في مروج الذهب وصفاً دقيقاً برواية المنذر بن الجارود العبدي ، ونحن
نجملها لترى قيادة الإمام في رجاله ، مقارناً بينها وبين قيادة أصحاب الجمل من
الموتورين والحاقدين على الإسلام والإمام ، قال :
« إن علياً لما قدم البصرة دخلها مما
يلي الطفّ وأتى الزواية ، فخرجتُ أنظر إليه ، فورد موكب من نحو ألف فارس ، يتقدمهم
فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلد سيفاً ، معه راية وتيجان يغلب
عليها البياض والصفرة ، مدججين بالحديد والسلاح ،
فقلت من هذا؟ لي :
إنه أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله 6
وهؤلاء الأنصار وغيرهم.
ثم تلاه فارس آخر عليه عمامة صفراء
وثياب بيض ، متقلد سيفاً ، متنكب قوساً ، معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ،
فقلت من هذا؟ فقيل هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين.
ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت ،
معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلد سيفاً ،
متنكب قوساً في نحو ألف فارس ، فقلت من هذا؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي.
ثم مرّ بنا فارس على فرس أشهب عليه ثياب
بيض ، وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار
، رافع صوته بقراءة القرآن ، ومعه راية بيضاء وألفٌ من الناس مختلفو التيجان ،
حوله مشيخة وكهول وشبان ، كأنما قد وقفوا للحساب ، قد أثر السجود في جباههم ، فقيل
لي : هذا عمار بن ياسر في عدة من المهاجرين والأنصار وأتباعهم.
ومرّ بنا فارس آخر على فرس أشقر تخط
رجلاه في الأرض في ألف من الناس ، فقيل لي : هذا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في
الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان.
ومرّ بنا موكبٌ فيه خلق كثير من الناس ،
عليهم السلاح والحديد مختلفو الرايات ، يتقدمهم رجل شديد الساعدين ، نظره إلى
الأرض أكثر من نظره إلى فوق ، كأنما على رؤوسهم الطير ، وفي مسيرتهم شاب حسن الوجه
، فقيل لي هذا علي بن أبي طالب ، وهذان الحسن والحسين
عن يمينه وشماله ،
وهذا محمد ابن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ، والذين خلفه : عبد الله بن
جعفر ، وولد عقيل ، وفتيان بني هاشم ، والشيوخ الذين معه أهل بدر من المهاجرين
والأنصار ، فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلى عليّ 7 أربع ركعات ، ثم عفّر خديه على التربة
، وقد خالط ذلك دموعه ، ورفع يديه وقال :
« اللهم رب السماوات وما أظلت ، والأرض
وما أقلّت ، ورب العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرها ،
اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين ، اللهم : هؤلاء القوم قد خلعوا
طاعتي ، وبغوا عليّ ، ونكثوا بيعتي ، اللهم : احقن دماء المسلمين ».
ونزل عليّ 7
في معسكره ، وأسفر لأهل الجمل الرسل والمبعوثين طالباً حقن الدماء ، وسلامة الناس
، ووحدة المسلمين ، فأبوا إلا القتال ، فما بدأهم بقتال ، ولم يشهر السلاح ، بل
أمر أصحابه بالتريث والصبر ، ولكن القوم تألبوا وشجع بعضهم بعضاً ، واندلعت الحرب.
(٥)
حرب الجمل ... وهزيمة المتمردين
كان عليّ 7
راغباً بالسلم ، مؤثراً الصلح ، فلمّا علم نية القوم بإرادة الحرب ، أراد أن يعذر
لله وللمسلمين ولنفسه ، وشاء أن يستعمل آخر ما يجد إليه سبيلاً بإلقاء الحجة ،
فأمر أحد أصحابه أن يبرز بين الصفين ـ وقد تأهبت القوى جميعاً ـ وبين يديه كتاب
الله يدعوهم للعمل بما فيه والرجوع إليه ؛ وامتثل الرجل الأمر ، ورفع القرآن بكلتا
يديه ، ودعاهم إلى ما فيه ، فأتته السهام كشآبيب المطر حتى سقط قتيلاً ، وحُمل إلى
أمير المؤمنين فاسترجع وترحم عليه. وابتدر عمار بن ياسر ; القوم واعظاً ومؤنباً ومذكراً فقال :
« أيها الناس ما أنصفتم نبيكم صنتم
عقائلكم في خدورها ، وأبرزتم عقيلته للسيوف ».
ورشق عمار ومن معه بالنبل ، وأصيب من
أصيب من أصحابه ، وقتل أخ لعبد الله بن بديل ، فحمله أخوه إلى أمير المؤمنين ،
وتأمل عليٌّ 7 هنيئة ،
فرأى وقدر وفكر ، فلم يجد بداً مما ليس منه بد ، وخرج بين الصفين ، واستدعى طلحة
والزبير فخرجا إليه ، وقال لهما :
ألم تبايعاني ، قالا : بايعناك كارهين ،
ولست أحق بهذا الأمر منا.
واوضح لهما كذب الدعوى ، فما إستكره
الإمام أحداً على البيعة ، ثم إلتفت إلى طلحة وقال : أحرزت عرسك ، وخرجت بعرس
رسول الله تعرضها
لما تتعرض له. وقال للزبير : كنا نعدك من آل عبد المطلب حتى نشأ ابنك ابن السوء ،
ففرّق بيننا ؛ وقال له : أتذكر قول رسول الله 6
لك. ستقاتله وأنت ظالم له ، فقال الزبير : الآن ذكرت ذلك ، ولو ذكرته قبل اليوم ما
خرجت عليك.
وكان الأمثل بالزبير أن ينحاز إلى علي 7 بعد هذا التذكير ، ولكنه أخلد إلى نفسه
، واتبع هواه ، وما حكم عقله في هذا الأمر الخطير ، فقيل أنه إعتزل الحرب فوراً
حتى انتهى حيث لقي مصرعه على يد ابن جرموز غيلة ، وقرائن الأحوال لا تساعد على صحة
هذا القول ، إذ لا يمكن أن يعتزل الزبير القتال وحده لو شاء ذلك ، وهو رأس من رؤوس
القوم ، أفلا يتبعه في هذا القرار أحد من المقاتلين الذين يرون فضله ومنزلته.
والذي أميل إليه أن الزبير قد باشر
الحرب بنفسه ، وأن عبد الله بن الزبير قد وصمه بالجبن بعد اجتماعه بعلي 7 ، وقال له : فررت من سيوف بني عبد
المطلب ، فإنها طوال حداد ، تحملها فتية أنجاد ، فغيّر قراره هذا التحدي له من
ولده ، فأحفظه وأغضبه ، وقال لابنه : ويلك إني حلفت لعلي أن لا أقاتله ، فقال له
ابنه : وما أكثر ما يكفّر الناس عن أيمانهم ، فأعتق غلامك ، وأمضِ لجهاد عدوك ،
فكفر الزبير عن يمينه وقاتل علياً ، حتى إذا هوى الجمل انهزم الزبير فيمن إنهزم من
الناس ، حتى وصل إلى وادي السباع ، فقتله ابن جرموز غيلة.
ولم يكن الزبير ليرتدع في التذكير ، وقد
سفك دماء المسلمين في الجمل الأصغر ، ولم يكن ليستجيب للحق ، ومعاوية يخادعه بلقب
أمير المؤمنين وأخذ البيعة له من أهل الشام ، ولم يكن الزبير ليترك الجيش ويعتزل ،
وهو يعمل بإشارة ابنه عبد الله في الطوارىء كافة ، ولم يكن
الزبير ليبصر طريقه
وقد أعمته شهوة السلطان ، واستهواه الحكم العقيم ، ولو ثاب إلى الهدى لالتحق بأمير
المؤمنين معلناً ندمه وتوبته ، ومكفّراً عن سيئاته وأخطائه ، ولكنه ركب رأسه ،
وأغمض على الحوب العظيم.
وقد رأيت نهاية أمير الجيش الزبير ، أما
أميره الثاني طلحة ، فحينما صكت الحرب أسنانها ، واختلط الحابل بالنابل ، قصده
مروان بن الحكم فرماه بسهم أصاب أكحله فقطعه ، وقال : لا طالبت بثأر عثمان بعد
اليوم ، وقال لبعض ولد عثمان : لقد كفيتك ثار أبيك من طلحة ، وهوى طلحة في المعركة
جريحاً ، وأخذه نزف الدم ، فلم يستطيع الفرار ، وقال لغلامه : ألا موضع أستجير به؟
فيقول له غلامه : قد أدركك القوم ، فقال طلحة : ما رأيت مصرع شيخ من قريش أضيع من
مصرعي. ومات طلحة في المعركة على تلك الحال.
وأما أم المؤمنين عائشة ، فقد ركبت
الجمل ، وأدرعت بهودجها ، وقد قامت الحرب على ساق ، وهي تحرض الناس على القتال وسط
المعركة ، تدفع بهؤلاء وتستصرخ أولئك ، وتحرك آخرين ، حتى حمي الوطيس وندرت الرؤوس
، وتناثرت الأيدي ، وتهاوت الأجساد حول الجمل ، وكان جمل عائشة راية أهل البصرة
يلوذون به كما يلوذ الجيش برايته الكبرى ، والناس تتهافت على خطام الجمل ، وكلما
أمسكه أحد قتل ، حتى تغافى حوله مئات القواد والعسكريين ، ومرتجز عائشة يقول :
يا أمنَّا عائشُ لا تراعي
|
|
كلُّ بنيِكِ بطلُ المصاعِ
|
وهي تلتفت إلى من على يمينها تشجعه ،
وإلى من على يسارها مباركة ، ومن إلى جنبها محمسة ، عتى ملّت من الحرب ، فأخرجت
يدها من الهودج تحمل بدرة من الدنانير ، ونادت بأعلى صوتها : من يأتيني برأس
الأصلع ( تريد بذلك عليّاً ) وله هذه البدرة ، فضجّ العسكر
ضجة واحدة ، وأمعن
في قتال ذريع.
وكان الجيشان يستقتلان بضراوة عجيبة ،
والنصر ترفرف أعلامه فوق رؤوس فرسان الإمام ، فصاح علي 7 : اعقروا الجمل فإن في بقائه فناء
العرب.
وفي رواية : اعقروا الجمل فإنه شيطان ،
فانتدب لذلك محمد ابن الحنفية نجل الإمام وحمل عليه في طائفة من المقاتلين الأشداء
، فعقروا الجمل بعد خطوب كثيرة ، فخر الجمل إلى جنبه ، وهوى إلى الأرض وله ضجيج
وعجيج لم يسمع الناس بمثلهما ، وبعقر الجمل إنهزم جيش عائشة لا يلوي على شيء ،
وفرّ بالصحراء فكان كالجراد المنتشر ، وأمر الإمام محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر
بحمل الهودج بعد أن بقيت عائشة وحدها في الميدان ؛ ويقول الإمام لابن أبي بكر :
أدرك أختك حتى لا تصاب بأذى ، فيدخل رأسه في الهودج ، فتسأله من أنت؟ فيقول : أنا
أخوك أقرب الناس منك وأبغضهم إليك ، فتقول : ابن الخثعمية ، فيقول : نعم أخوك محمد
؛ يقول لك أمير المؤمنين هل أصابك شيء ، فتقول مشقص في عضدي ، فينتزعه محمد ، ويأتي
الإمام فيقف على هودجها ، ويضربه برمح أو قضيب ، ويقول : كيف رأيت صنيع الله يا
أخت أرم؟ يا حميراء ألم يأمرك رسول الله أن تقري في بيتك؟ والله ما أنصفك الذين
صانوا عقائلهم وأبرزوك ، فتقول :
يا ابن أبي طالب ملكت فأسجح.
ويسجح الإمام ، ويأمر محمداً أخاها أن
يدخلها داراً من دور البصرة ، فيحملها أخوها ، وينزلها دار عبد الله بن خلف
الخزاعي.
وانتهت المعركة بآلاف القتلى من
المعسكرين ، وبهزيمة
المتمردين هزيمة
شنعاء ، وبمقتل رؤوسهم الكبيرة.
وطمع بعض أصحاب الإمام بالغنائم فنهاهم
عن ذلك ، وأمرهم أن لا يجهزوا على جريح ، ولا يتبعوا فارّاً ، ولا يغضبوا امرأة ،
ولا يدخلوا داراً ، ولا يهتكوا ستراً ، ولم يقسم بين أصحابه غنيمة إلا ما أجلب به
أهل البصرة للقتال وفي ساحة الحرب. وقال : ليس في هذه الحرب مغنم لمنتصر ، وأرسل
من ينادي في أهل البصرة : من عرف شيئاً فليأخذه. وحاول بعض المتطرفين قتل عائشة
فأنكر عليه الإمام ووضعها في حراسة مكثفّة ، وأراد بعض المقاتلين أسر المنهزمين
فردّهم الإمام عن ذلك.
ووقف عليّ 7
بين قتلاه فترحم عليهم ، ووقف على المتمردين فخاطبهم بمثل ما خاطب رسول الله 6 أهل القليب ببدر.
ووجم الإمام لما أصاب الطرفين من قتل
وفناء ، وتوجه إلى الله :
أشكو إليك عجري وبجري شفيتُ نفسي وقتلتُ
معشري وكان القتلى يعدون بالآلاف ، ففقدت قريش طائفة من رجالها المعدودين ،
واستولى الحزن على كثير من بيوتات البصرة التي فقدت أحبّتها وأعزّتها ، وتناول
الثكل مجموعة من دور الكوفة.
وكم كان بود أمير المؤمنين ، أن يقاتل
بهؤلاء وهؤلاء أبناء الطلقاء من جهة ، وأعداء الإسلام من جهة أخرى ، ولكن المقادير
جرت بغير هذا التقدير.
(٦)
عليٌّ في البصرة بسيرة رسول الله
ودخل عليٌّ 7 البصرة بعد المعركة بثلاثة أيام ،
دخولَ الخاشعين لا دخول الفاتحين ، فأمّن أهلها ، وأغضى عن مسيئها ، وتجاوز عن
بقايا المتمردين ، وأعرض عنهم صفحاً ، وكان يقول :
« سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله 6 في أهل مكة ».
ونظر أصحابه في هذه السيرة العجيبة ،
وبهتوا لهذا الرفق الهائل ، وغاض بعضهم إعراضه عن الغنائم ، وإبقاؤه على الحرمات ،
فلج بهم الأمر أن قالوا للإمام : اقسم بيننا أهل البصرة نتخذهم رقيقاً » فأبى
عليهم الإمام ذلك ، وردّ ما ارتأوه بقوله : « لا فالقوم أمثالكم ». فاعترضوا : «
كيف تُحل لنا دماءَهم وتُحرّم علينا سبيهم؟ ». فأجاب مطمئناً : كيف تحل لكم ذرية
ضعيفة فى دار هجرة واسلام« وأبان لهم الحكم الشرعي المجهول في قتال أهل القبلة
وحرب المسلم مع المسلم فقال : « أما ما أجلب به القوم عليكم في معسكركم فهو لكم
مغنم. وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب ، فهو لأهله. وما كان لهم من مال في
أهليهم فهو ميراث على فرائض الله ، لا نصيب لكم في شيء منه ».
وأثار هذا الحكم غضب جماعة من أنصاره
ومقاتليه ، وأرادوا الاستيلاء على المخلفات ، وأسر المقاتلين ، فاستعمل الإمام 7 الاستدراج ، فقال لهم : « اقترعوا ...
هاتوا سهامكم ». وسألهم بلباقة
وعبقرية : « فأيكم
يأخذ أمّه في سهمه؟ اقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة ».
فثاب الناس إلى صوابهم ، وقالوا :
نستغفر الله يا أمير المؤمنين.
وبهذا النمط من الإقناع والمناظرة وسعة
الصدر استطاع الإمام أن يحفظ التوازن لدى أصحابه بعد ظفرهم ، وأن يجنب أعداءه
الاضطهاد وحملات الانتقام.
وجاء عليٌّ 7 إلى المسجد وجلس فيه للناس ، فبايعوه
على كتاب الله وسنة نبيه ، ونظر في بيت المال فقسمه على المسلمين. وأمن الجميع
لعدله ونبله وعظيم سيرته ، واطمأن حتى خصومه لهذا المنهج الجديد الذي لم يكونوا
ليحلموا به.
وقد كان من همّ أمير المؤمنين ورعاية
عائشة أم المؤمنين حتى في هذا الموقف ، فركب لزيارتها في كوكبة من أصحابه ، وأنه
لفي المدخل من دار عبد الله بن خلف وإذا بصاحبة الدار صفية بنت الحارث بن أبي طلحة
العبدري تجبهه بقولها : يا علي يا قاتل الأحبة ، ويا مفرق الجماعة ، أيتم الله
بنيك منك كما أيتمت بني عبد الله ( تعني زوجها عبد الله بن خلف ) فلم يجبها عليٌّ
بشيء حتى دخل على عائشة ، فلما إستقر به المكان ، قال : جبهتنا صفية.
ودارت بين الإمام وعائشة بضع كلمات ،
فلما انصرف الإمام تلقته صفية فأعادت عليه مقالتها الأولى ، فأراد الإمام إفحامها
، فقال : ـ وهو يشير إلى أبواب الحجر المغلقة في الدار ـ لقد هممت أن أفتح هذا
الباب وأقتل من وراءه ، وأن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه ، فلما سمعت صفية منه
ذلك صعقت وأفسحت له في الطريق ، وكان في تلك
الحجرات الجرحى من
أصحاب عائشة ، وفيهم مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير وآخرون ، جمعتهم عائشة في
الدار ، وأمرت بتمريضهم وعلاجهم ، وكان علي يعلم مكانهم ويعرض عنهم.
وأراد عليّ 7 إرجاع عائشة إلى دارها معزّزة مكرّمة ،
فأرسل إليها عبد الله بن عباس وقال له : أئتِ هذه المرأة لترجع لبيتها الذي أمرها
الله أن تقرّ فيه ، فجاءها ابن عباس واستأذن عليها فأبت أن تأذن له ، ودخل عليها
بلا إذن ، فهو مأمور من قبل الإمام ، ولا بد من تنفيذ أمره وجوباً دون تردد ، ومدّ
يده إلى وسادة وجلس عليها ؛ فقالت له عائشة : لقد أخطأت السنة مرتين ، دخلت بيتي
بدون إذني ، وجلست على متاعي بدون أمري ، فقال لها : نحن علمنّاك السنة يا عائشة ،
والله ما هو بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه.
ثم قال : إن أمير المؤمنين يأمرك أن
ترحلي إلى بلدك الذي خرجت منه ، فقالت بكراهية واستفزاز : رحم الله أمير المؤمنين
ذلك عمر بن الخطاب ؛ فقال ابن عباس : نعم وهذا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب
أيضاً ؛ قالت : أبيتُ أبيتُ.
قال : ما كان إباؤك إلا فواق ناقة بكية
ثم صرتِ لا تحلّين ولا تمّرين ، ولا تأمرين ولا تنهين ، قال ابن عباس : فبكت حتى
علا نحيبها ، ثم قالت : أرجع ، فإن أبغض البلدان إلى بلدٌ أنتم فيه ، فقال لها ابن
عباس : والله ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أماً ، وجعلنا أباك لهم
صديقاً ، فقالت : أتمنّ علي يا ابن عباس برسول الله 6
فقال لها : نعم ، نمن عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا. وانتهى
الحديث.
ولما رجع ابن عباس إلى أمير المؤمنين
وأخبره بما كان من أمر
عائشة وأمره ، تلا
أمير المؤمنين قوله تعالى : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا
مِن بَعْضٍ )
.
ثم أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة
جهازاً حسناً ، وبعث معها رجالاً ونساءً ، وتوجه بها الركب نحو المدينة بعدَّة واعزاز
ووصلت المدينة فلما استقربها المقام ، جاء الناس للسلام عليها ، فكانت تصل الدموع
بالدموع ، والأسى بالأسى ، وتبكي بكاءً مراً حتى تبل خمارها ، فلا هي التي حققت
أهدافها بتنحية علي من الخلافة ، ولا هي التي حفظت رجالها من القتل والخزي ، وكانت
تقول :
ليتني مت قبل يوم الجمل بعشرين عاماً.
ولم يُطل الإمام المقام بالبصرة ، ولا
استهوته معالمها بعد هزيمتها ، بل إستصلح جملة من أهلها ، وأذاق الناس طعم
الرفاهية والعدل ، وآمنهم بعد خوف شديد ، وولى عليها عبد الله بن عباس ، وارتحل
إلى الكوفة ، فأمامه شوط بعيد يتدارك به شؤون الدولة ، ويشرف به على أمور الرعية.
__________________
(٧)
عليٌّ يتخذ الكوفة عاصمة ... ويقدّم طلائعه إلى
صفّين
دخل أمير المؤمنين الكوفة في اليوم
الثاني عشر من رجب سنة ست وثلاثين من الهجرة ، وكان قد انتهى من حرب الناكثين ،
فما عليه الآن ، وقد أمن شرق الدولة الإسلامية في البصرة ، إلا أن يأمن غرب الدولة
الإسلامية في الشام ، وجعل يعدّ العدّة لحرب القاسطين ، وأشرف على إعداد الجيش
بنفسه ، وانتدب لذلك خُلّصَ أصحابه ، فكانت الدعوة قائمة على أشدّها أهبة وتسليحاً
ومتابعةً.
وكان الكوفيون ثلاثة فرقاء ، فالفريق
الأول هو الذي ناصره في حرب الجمل ، والفريق الثاني هو الذي تخلف عنه فيها ممن كان
يأمل نصرهم وينتظر مؤازرتهم ، ولكنهم كانوا دون مستوى المسؤولية. والفريق الثالث
هو الذي رابط في الكوفة دون نصره في البصرة ، ودون خذلانه في الكوفة.
وكان الفريق الأول يحدب على استمرارية
الإنتصار ، ويعمل على استدامة الظفر. وكان الفريق الثاني يخشى اللوم والتعنيف ـ
كما حدث ـ وفيه بعض الرؤساء ومشايخ القبائل ، فاستحب أن يكفّر عما مضى إسترضاءً
للإمام فهو يدعو للحرب. وكان الفريق الثالث من السواد الأعظم منتظراً لأوامر
الإمام ، وطوع إرادته ، وقد حلّ في ظهرانيهم ، بغية أن يتدارك ما فاته ، ولئلا
يحسب على الخوالف.
وكان نزول أمير المؤمنين الكوفة ضرورة
تفرضها طبيعة الحياة السياسية المفكرّة ، فهو قد استخلف سهل بن حنيف على قلب
الدولة الإسلامية : المدينة المنورة ، وهو قد ولى عبيد الله بن العباس جنوب الدولة
الإسلامية : اليمن ، وقد أرسلت مصر ولاءها وحباءها وتجاوبت مع الوالي الجديد قيس
بن سعد بن عبادة ، وقد التجأ فريق من المنهزمين ، ونفر ممن رفض البيعة للإمام ،
وآخرون من ذوي المطامع ، فالتحقوا بمكة ، ممن لا يخاف كيدهم ، فقصارى ما يتمكنون
منه الثرثرة والكراهية تارة ، وتزويد معاوية بالأنباء تارة أخرى ، وقد سبق استتباب
الأمر في البصرة ، فلم يبق أمام الإمام إلا الشام ؛ وإقامة أمير المؤمنين في
الكوفة تهيئ له رجال الكوفة وأبطال البصرة وسواد السواد ، ومعه المهاجرون والأنصار
، وبقية أعيان بدر ، فالمرابطة في الكوفة والحالة هذه تستقطب عدة إيجابيات في
سياسة الإمام ، أهمها :
١ ـ الابتعاد بالفتن والحروب عن مدينة
الرسول الأعظم 6
، وقد أقبلت ـ كما يراها الإمام ـ كقطع الليل المظلم.
٢ ـ وتوسط الكوفة كيان الدولة الإسلامية
يدعو إلى التمركز فيها سياسياً ، والتجحفل فيها عسكرياً ، فالعراق في حدود طويلة
مع الشام ، والعراقيون يريدون أن يأمنوا كيد معاوية ، وقد نصروا علياً وهو قريب
منهم ، والإعداد للمعركة القادمة عن قرب خير من الإعداد لها عن بعد.
٣ ـ الكوفة تمحض الولاء الخالص لأمير
المؤمنين وأهل البيت :
وزعماء الكوفة قد رغبوا بتأكيد أن ينزل الإمام فيهم ، فنزل الإمام فيها لا بقصر
الأمارة ، ولكن في دار ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي ، وأمه أم هاني بنت أبي
طالب أخت الإمام 7.
فكانت جملة هذه العوامل مدعاة من الوجهة
السياسية والعسكرية أن يتخذ الإمام الكوفة عاصمة له ريثما تستقر الحياة السياسية
ويعطي رأيه فيما بعد ، ولكن سترى أن الأقدار قد فرضت بقاء علي 7 في الكوفة حتى استشهاده وما يدرينا فقد
يكون ذلك عن إرادة وتصميم مقصود إليه.
وقد علمت أن أمير المؤمنين كان قبل حركة
الناكثين يتأهب لحرب أهل الشام ، وقد أرجأ هذه الحرب خروج المتمردين ، فحول إتجاهه
من الشام إلى البصرة ، ولما عادت المياه إلى مجاريها نوعاً ما ، أعاد الكرة فيما
خطط له أولاً ، وأصبح من السهل عليه مجابهة أهل الشام وهو في الكوفة ، من مجابهتهم
وهو في الحجاز والكوفة بعدُ قلب الدولة جغرافياً.
وفي الشام خصم تأريخي عنيد للإسلام وأهل
البيت ، وهو معاوية ، وهذه الخصومة تأريخية تمتد جذورها إلى الجاهلية ، وتتحكم
أصولها في فجر الدعوة الإسلامية وضحاها ، وهي تستمر حتى ظهر الإسلام وعصره ، بل
إلى اختفاء الدولة الأموية في عام ١٣٢ هـ. باستثناء فترة حكم عمر بن عبد العزيز.
لا نريد أن نبحث فصول هذه الخصومة في
الجاهلية ، فليس في ذلك كبير أمر ، والذي يعنينا أن نلقي ضوءاً كاشفاً عليها في ظل
الإسلام ، فحينما صدع النبي 6
برسالته ، وقف البيت الأموي بقيادة عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبي سفيان بن حرب
يناهضون الرسالة قولاً وعملاً ، ويحاربون النبي 6
سراً وجهاراً ، فالأذى والإستهزاء والتكذيب منهم بعض مظاهر هذه المناهضة ، وتزعّمُ
المعارضه له بتأييد طواغيت قريش مظهر آخر منها ، وامتحان المستضعفين من المسلمين
والقسوة عليهم من
بعض معالمها ، ومقاطعة بني هاشم وحصرهم في الشعب جزء لا يتجزأ من المخطط العام
لمجابهة الإسلام ، والتكتل مع قريش للهجوم على النبي 6
ليلة هجرته يسلط الأضواء على حقيقة ما يكَّن هذا البيت للإسلام من حقد وكراهية ،
حتى إذا هاجر النبي 6
إلى المدينة المنورة ، كانت الحرب الكلامية واضطهاد المسلمين سبيلاً إلى مناوأة
النبي 6 في أفكاره
وأنصاره ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، فالبيت الأموي صاحب العير وصاحب النفير في
معركة بدر الكبرى ، فالعير بقيادة أبي سفيان ، والنفير بقيادة عتبة وشيبة ابني
ربيعة ، وأبو سفيان قائد المشركين في أحد والخندق وسواهما ، تمرس في حرب الإسلام ،
ونشأ على عداء النبي وآله في مكر ودهاء وقوة ؛ وأسلم عند الفتح كارهاً ، حينما لم
يجد إلا القتل أو الإسلام ، وابنه معاوية معه في هذا كله ، تلقى عن جده وأبيه وأمه
صنوف العداء للإسلام ، فأمه هند لم تكن دون أبيه في كيد الإسلام ، والإرصاد
للمسلمين حتى ختمت أعمالها الوحشية بالتمثيل لحمزة بن عبد المطلب أشد التمثيل لدى
استشهاده في أحد ، مما لا عهد به للعرب في جاهلية أو إسلام. وأسلم معاوية كرهاً
يوم الفتح كما أسلم أبواه كرهاً ، وتوجّ بطوق الطلقاء كما توج أهل مكة يوم الفتح.
ومضت الأيام سراعاً ، ولا قدم ولا قِدَم
لمعاوية بالإسلام ، وإذا بعمر يوليه الشام ولا يعزله عنها ، ويمهد له تمهيداً
عجيباً ، وجاء عثمان فعزل كل ولاة عمر إلا معاوية ، وكان معاوية رأس ولاته وزعيم
مناصريه ، أوكل إليه تأديب المنفيين إلى الشام من المعارضين ، وفسح له في الأمر
فجمع إليه جميع أطراف الشام ، ومكنّه في الأرض تمكين الجبارين ، فكان الحاكم
المطلق دون العودة إلى عثمان ، وكان الآمر
المطاع دون الإستعانة
برأي عثمان ، وكان القوة التشريعية والسلطة التنفذية والقدرة القضائية في الشام.
واستمر في سلطانه هذا طلبة عشرين عاماً
وهى مدة ولايته وكانت هذه المدة كفيلة بأن تكسبه خبرة في الإدارة ، وأن تزيده
معرفة بأولاع الناس ورغباتهم ، فساسهما معاً ، وكانا عوناً له في مطالبته بالخلافة
تحت ستار المطالبة بدم عثمان ، ... واستصرخه عثمان في محنته ، واستنجد به عند
حصاره ، ولكنه تربّص به تربص الكائدين ، وأغمض عنه بمكر ودهاء ، فما لبّى له دعوة
، ولا أغاثه بنصرة ، حتى قتل عثمان ، فرفع قميصه طالباً بدمه ، وكان قديراً على حقن
هذا الدم قبل إراقته.
وكانت سياسة معاوية في الشام سياسة
مُلكِ لا سياسة دين ، يستصفي ما يشاء ومن يشاء بما يشاء من القبائل بالمصاهرة تارة
، وبالأموال تارة ، وبهما وبالتقريب من الإستشارة ، والتلويح بالولاية كلما دعت
الحاجة إلى ذلك ، وكان يتألف رؤساء القوم بالعطاء والحباء ، ويتعامل مع القادة
بالاستضعاف المصطنع واللين ، ويسوس الرعية بالحلم الزائف والرأفة الكاذبة ، حتى
جمع حوله القلوب ، واستجابت له النفوس ، ولم يقتصر بهذه السياسة على الشام ، وإنما
تعدّى حدودها إلى العراق أيضاً ، فهو يغري ويعد ، يغري بالأموال الطائلة ، ويعد
بالمناصب الرفيعة ، يكاتب زعماء القبائل والأشراف في الكوفة والبصرة سراً ، مرغباً
تارة ومرهباً تارة أخرى ، ويستطلع أخبار علي 7
، وأنباء جيشه أولاً بأول ، له عيونه وأمناؤه ، وله كيده ووسيلته ، يشتري الضمائر
ويؤلب الناس ، ويستهوي القادة ، حتى أطمأن لسياسته هذه ، فشحن أهل الشام شحناً
مريعاً في مظلومية عثمان ، وجرّد من نفسه وليَّ دمه ، جمع
شتات أمره في أناة
وروية ، وتملك حياة الشاميين بتربص وانتظار ، فما استعجل مجابهة الإمام ، ولا لبّى
نداء أهل الشام في الزحف على العراق دون الحيطة التامة ، فهم يتعجلونه وهو يستأني
بهم ، وهم يستغيثون به وهو يهدئ نائرتهم ، حتى غلَى المرجل ، واحتدم الغيظ ، وتلبد
الأفق ، وهو بهذا قد كسب الوقت بلإعداد ، وكسب الضمائر بالإستهواء.
فعليٌّ 7
بإزاء خصم عنيد متربّص ، يعمل بحساب دقيق ، ويفكر بنظام رتيب ، وهذا الخصم آمن
مطمئن لم يدخل حرباً ، ولم يبذّر طاقة ، وأصحابه في دعة وقوة ، لم يرزأوا مالاً ،
ولم يفقدوا رجالاً ، وهو في هذا التأهب وذلك الاطمئنان وإذا بعلي 7 يطلب منه البيعة ، وأن يأتيه بأشراف
أهل الشام ، وكان رسوله إليه جرير بن عبد الله البجلي ، حمّله برسالة تدعوه إلى
الطاعة ، والدخول فيما دخل به المسلمون ، فمبايعة الإمام بالخلافة في المدينة تلزم
معاوية بالبيعة له وهو في الشام قياساً منطقياً في لغة القوم.
إستغفل معاوية جريراً وكان متهماً ، فلم
يكلمه بشيء ، ولم يرد عليه بشيء ، واستمهله الجواب وأخذ يماطله ويطاوله ، ودعا أهل
الشام للمشاورة ظاهراً ، ولتأكيد مطالبته بدم عثمان واقعاً ، سلاحاً قوياً في وجه
علي يغري به الأغمار ، فهو محرّض لا مشاور ، وهو مقاتل لا مبايع ، حتى استطال
الأمر شهوراً ، ثم دعا إليه جريراً وأبلغه أن ليس لعلي عنده إلا السيف ، فرجع جرير
بخفي حنين ، وقدم على أمير المؤمنين ، وعظم أمر الشام ، وصوّر له اجتماعهم على
الطلب بدم عثمان ، فما حمد له عليٌّ 7
السفارة ، ولا رضي له مالك الأشتر التبليغ ، وأتهم بممالأة معاوية ، وبتشجيعه على
الاستهتار بالجواب ، فما أخذه أخذ حكيم مناظِر ، ولا جابهه مجابهة الرسول الحصيف ،
وكثرت
الألسن في النيل منه
، فأظهر غضباً ، وارتحل عن الكوفة ، ولحق بمعاوية ، وقيل استقر بقرقيسيا معتزلاً ،
فهدم عليّ 7 داره في
الكوفة.
أما معاوية فقد أسرّ حسواً بارتغاء ،
وأسفر إلى علي كما أسفر إليه علي 7
، وكان أبو مسلم الخولاني ممن يدعي العقل والدين والورع ، ممن أرسله معاوية إلى
الإمام ، ولكنه كان ناقص العقل رقيق الدين دون شك ، وكان فطير الرأي سفيه القرار
دون ريب ، فقد اعترض على معاوية اعتراض العارف ، فقال : علام تقاتل علياً وليس لك
فضله ولا سابقته في الإسلام ، ولكنه قبل من معاوية جوابه التقليدي المدخول قبول
الجاهل ، إذ قال له معاوية :
ليس لي فضل علي وسابقته ، وإنما أطالبه
بدفع قتلة عثمان ، قال أبو مسلم : فاكتب لي بذلك فإن أجابك فلا حرب ، وإن أبى
قاتلناه على بصيرة ، فكان أبو مسلم عارفاً باعتراضه ، ولكنه عاد مغفّلاً بمناورة
معاوية له ، حتى قال : وإن أبى قاتلناه على بصيرة ، وقد غاب عن ذهنه أن الإمام هو
الذي يلي أمر الدماء ، وهو الذي يحقق في مقتل عثمان ، ولكن على أن يبايع معاوية
ويطيع ، ثم يحتكم إلى الإمام في دم عثمان إن كان له ولياً حقاً.
ومهما يكن من أمر فقد كتب معاوية إلى
الإمام كتاباً فيه من الصلف والغرور والتطاول والإدّعاء وزج الناس في الحرب ما فيه
، وتهجم على أمير المؤمنين فاتهمه ، ونصه في رواية البلاذري :
« من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن
أبي طالب ، أما بعد : فإن الله اصطفى محمداً بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ،
والرسول إلى خلقه. ثم اجتبى له من المسلمين أعواناً أيدّه بهم ، فكانوا عنده على
قدر
فضائلهم في الإسلام
، وكان أنصحهم لله ولرسوله خليفته ، ثم خليفة خليفته ، ثم الخليفة الثالث ، فكلهم
حسدتَ ، وعلى كلهم بغيتَ ، عرفنا ذلك من نظرك الشزر وقولك الهجر ، وتنفسك الصعداء
، وإبطائك عن الخلفاء في كل ذلك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش ، ولم تكن لأحدٍ أشدّ
حسداً منك لابن عمّك. وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك لقرابته وفضله ، فقطعت رحمه ،
وقبحّت حسنه ، أظهرت له العداوة ، وأبطنت له الغش ، وألبّت الناس عليه ، حتى ضربت
أباط الإبل إليه من كل وجه ، وقيدت الخيل من كل أفق ، وشهر عليه السلاح في حرم
رسول الله 6 ، فقتل معك
في المحلة ، وأنت تسمع الهائعة لا تدرأ عنه بقول ولا فعل. ولعمري يا ابن أبي طالب
لو قمت في حقه مقاماً تنهى الناس فيه عنه ، وتقبح لهم ما اهتبلوا منه ما عدل بك من
قبلنا من الناس أحداً ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة له
والبغي عليه. وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنين ، إيواؤك قتلته ، فهم عضدك
ويدك وأنصارك ، وقد بلغني أنك تنتفي من دم عثمان وتتبرأ منه ، فان كنت صادقاً
فادفع إلينا قتلته نقتلهم به ، ثم نحن أسرع الناس إليك. وإلا فليكن بيننا وبينك
السيف ، والذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى
نقتلهم أو تلحق أروحنا بالله. والسلام ».
والطريف في هذا الكتاب أن يفتخر معاوية
برسول الله 6 على عليّ 7 وهو نفسه ، وعلي نفس محمد بصريح القرآن
، فهو أولى بالفخر ، وأن يسمي معاوية لعلي 7
أعوان محمد 6 وأنصاره
الذين أيدّ الله بهم الإسلام ، وعليٌّ 7
أولهم ، وأقدمهم سابقة ومناصرة ومجاهدة ، وأن يصنّف له الخلفاء وليس معاوية هناك ،
وأن يتهمه بحسدهم والبغي عليهم ، عسى أن تبدر من عليّ كلمة بحقهم
فيرفعها شعاراً كما
رفع قميص عثمان شعاراً ، وأن يصمه بحسد عثمان والإجلاب عليه والاتهام بقتله.
ويتضح من هذا الكتاب أن معاوية لا يريد
إصلاحاً ولا صلاحاً بل اشتط به كل الشطط لإيراء الحرب ، واتكأ في ذلك على أن علياً
7 آوى قتلة
عثمان ، ولم يكن الأمر كذلك ، إذ كان علي 7
يخذل الناس عن عثمان ، وينهاهم ويزجرهم ، ونصح لعثمان ـ كما سبق ـ نصحاً أرضى به
ربّه ونفسه حذر الفتنة.
وحقٌّ لعلي أن يقول لهذا ولأمثاله :
« أنزلني الدهر حتى قيل عليٌ ومعاوية ».
فيا له من حرج في النفس ، ويا له من مقياس عند الناس ، ويا له من هوان يتأثم منه
التقي ، ويتحرج ذو الدين.
ومهما يكن من شيء فقد أنهى أبو مسلم
الكتاب إلى أمير المؤمنين ، وجمع علي 7
الناس في المسجد ، وقرىء الكتاب ، فتنادى الناس من جوانب المسجد « كلنا قتلة عثمان
، وكلنا كان منكراً لعمله ». واتضح لأبي مسلم أن علياً لا يستطيع أن يسلم هذا
الجمع من الناس ، فهم يحكمونه الآن وهو لا يحكم ، كما اتضح له أن قاتليه رأوا في
قتله صلاح أمر الدين ، فجعل أبو مسلم يردد ، مع وضوح الأمر لديه إعذاراً : الآن
طاب الضراب.
وبهذا فقد بلغ معاوية قصده ، فهدفه أن
يجعل المترددين موقنين بمشروعية طلبه للثأر المزعوم ، والغريب ـ كما هو متوقع ـ أن
الحكم حينما صفا لمعاوية لم يذكر عثمان ، ولا دم عثمان ، ولا ثأر عثمان ، ولا
أبناء عثمان ، وكان كل ذلك نسياً منسياً ، وإنما شهر كل ذلك سلاحاً في
وجه أمير المؤمنين
طلباً للسلطان ليس غير.
وقد سفّه عليٌّ 7 أحلام معاوية في هذا الكتاب ، وغيره من
الكتب ، فردّه رداً عنيفاً ، جاء في جزء منه :
« وزعمتَ أني للخلفاء حسدتُ ، وعلى كلهم
بغيتُ ، فأن كان ذلك كذلك فليست الجناية عليك ليكون العذر لك ، وتلك شكاة ظاهر عنك
عارها. وقلت إني أقاد كما يقاد الفحل المخشوش حتى أبايع ، فلعمر الله لقد أردت أن
تذم فمدحتَ ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوماً ما لم
يكن شاكّاً في دينه ، ولا مرتاباً في يقينه ، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، وأما ما
كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأينّا كان أعدى له ،
وأهدى إلى مقالته ، أمن بذل له نصرته فاستقعده وأستكفّه ، أمن استنصره فتراخى عنه
، وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه ، وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه
أحداثاً ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فربَّ ملوم لا ذنب له ، وقد
يستفيد الظنة المتنصحُ ، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله
».
وفي رسالة أخرى ردّه الإمام بقوله :
« وأما ما ذكرت من أنه ليس لي ولأصحابي
إلا السيف ، فلقد أضحك بعد استعبار ، متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين
، وبالسيوف مخوفين ، فالبث قليلاً يلحق الهيجا جمل ، وسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك
ما تستبعد ، وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ،
شديد زمامهم ، ساطع قتامهم ، متسربلين سربال الموت ، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ،
وقد صحبتهم ذرية بدرية ، وسيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها بأخيك
وخالك وجدك وأهلك
وما هي من الظالمين ببعيد ».
وهكذا توالت الرسائل بين الإمام ومعاوية
، ومعاوية يكيد ويريد الحرب طلباً للملك ، وعليٌ 7
يريد الإصلاح واستقرار الإسلام ، وأخيراً كان لا بد مما ليس منه بد ، فقد قدّم علي
طلائعه إلى صفين ، وأمرهم أن لا يبدأوهم بقتال حتى يأتيهم ، وسار علي 7 ببقية جيشه حتى وصل إلى صفين. وسار
معاوية بجيوش الشام حتى انتهى إلى صفين أيضاً ، وكان وصول معاوية اسبق فاستولى على
الماء واهتلك شريعه الفرات يريد أن يحلئ علياً واصحابه عن الماء وجرت خطوب كثيرة ،
واشتد القتال على المشرعة فامتلكها علي 7
، وأراد أصحابه منع أهل الشام الماء ، فأبى الإمام ذلك لأن دينه يمنعه ، فالماء من
المباحات المشتركة بين الناس ، عسى أن لا يتعجل حرباً ، ولا يسفك دماً ، يأتلف
المخالف ، ويعفو عن المسيء ، ويلتمس العذر للآخرين ، ولكن للحرب بوادر ، ولها
مظاهر ، ما نفع معها الجدل الهادىء ولا العنيف ، ولا أطفأ نائرتها التغاضي والصفح
الجميل ، وإنما قامت على ساق رغم الظروف السياسية المتينة التي سيّرها أمير
المؤمنين بحكمته ودرايته وتجربته لإخماد اللهيب ، ورغم الجهود التي أوجدها لإحلال
الأمن والسلام.
ذهبت كل المؤشرات الخيرة التي بذلها
الإمام أدراج الرياح ، وحل محلها العنت والتزمت والعدوان ، فاستمسك الإمام بالأمر
ما استمسك ، فلما فلت الزمام قامت الحرب.
(٨)
معركة صفّين ... وإنحياز الخوارج
امتلك عليٌّ 7 مشرعة الفرات في صفين فأباح الماء لأهل
الشام كما رأيت ، وقد أصبح جيشه وجهاً لوجه مع جيش معاوية ؛ وكان ذو الحجة من عام
ستة وثلاثين للهجرة ، ومحرم من عام سبعة وثلاثين مجالاً للمحاورة وسجالاً بالسفراء
، عسى أن يجديا نفعاً كما أراد عليٌّ 7
، فلم يعكر صفواً ، ولم يتصنع غضباً ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويذكر أهل
الشام بمنزلته وسابقته ، وكان معاوية يشحنهم بدعوى الطلب بثأر عثمان ، وكثرت الرسل
بين الطرفين ، وعلا الإختصام والإحتجاج ، ولم يبلغ أحد من أحد شيئاً ، وكان لا بد
بعد فشل الخصام باللسان أن يتطور إلى الخصام بالسيف ، فكانت الكتيبة من جيش الإمام
تخرج إلى الكتيبة من جيش معاوية ، وكان الفريق من أهل الشام يقاتل الفريق من أهل
العراق ، وكانت الحرب سجالاً نهاراً أو بعض النهار ويحجز بينهما الليل ، وكان لا
بد لهذه الحالة أن تتصاعد ، ولهذا الصراع أن يستحكم ، ولهذه المجابهة أن تتحفز ،
وما مضى شطر من صفر إلا استقتل هؤلاء وهؤلاء ، ودنا أولئك من أولاء ، فكانت الحرب
الطاحنة الشاملة التي يشيب لهولها الوليد.
وكان الجيشان على نحو من الكثرة والعدد
، فبين مبالغ فيه من المؤرخين ، وبين معتدل ، فجيش علي مائة ألف مقاتل فيما يزعمون
،
وجيش معاوية سبعون
ألف مقاتل فيما يزعمون.
جيش علي 7
يشتمل على عدد كبير من المهاجرين والأنصار في طليعتهم عمار بن ياسر الذي قال عنه
النبي وله : « يا عمَّار تقتلك الفئة الباغية ». وفيهم خزيمة بن ثابت الأنصاري
الذي سماه الرسول الأعظم 6
بذي الشهادتين ، وفيهم ابن التيهان الصحابي الجليل ، وفيهم هاشم بن عتبة المرقال ،
وقيس بن سعد بن عبادة ، والأحنف بن قيس ، ومالك الأشتر ، وجمهرة من أعلام بدر
وأعيان أحد ، وأمثالهم كثير.
وجيش معاوية يشتمل على جملة من رؤساء
القبائل الشامية كذي الكلاع الحميري ، وعلى أبناء الذوات كعبيد الله بن عمر بن
الخطاب ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وعلى طائفة من الموتورين والإنتهازيين
كمروان بن الحكم وعمرو بن العاص وأضرابهم.
وتمثل هذه الأسماء قيادة الجيشين ،
وأركان الحرب فيهما ، والتقى الجيشان فكانت ملحمة كبرى ، استمرت أياماً طويلة
وليالي ، ندرت فيها الرؤوس ، وطاحت الأيدي ، وتهاوت الأجساد ، وزهقت الأرواح ، حتى
إذا كانت ليلة الهرير كانت ليلة فاصلة في القتال ، هبت فيها رياح النصر مع أمير
المؤمنين ، وعليّ 7
يلتجىء إلى مسيرته من ربيعة ، فتستقتل دونه استقتالاً مريراً ، وتتحالف أفخاذها
على الموت ، وقائلهم يقول : « لا عذر لكم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو
فيكم » وتُبلي همدان بلاءً حسناً ، أهونه أن تقاتل في صبر وحمية وإباء ، فيرتجّ
الميدان وتزلزل البيد.
وميمنة أمير المؤمنين يقودها مالك
الأشتر من نصر إلى نصر ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص يرقل بالراية إرقالاً ،
ويستنزل الظفر
استنزالاً بحد
السيوف ، ويقول :
أعورُ يبغي أهلَهُ محلاّ
|
|
قد أكثرَ القولَ وما أقلاّ
|
وعالجَ الحياةَ حَتى ملاّ
|
|
لا بدَّ أن يَفلَّ أو يُفَّلا
|
أشلُهُم بذي الكعوبِ
شلاّ
وعمار بن ياسر يصرخ في المقاتلين ،
ويهيب بالمرقال والأشتر قائلاً : « الجنة تحت ظلال الأسنة » « غداً ألقى الأحبة
محمداً وحزبه » ... وهو يرتجز مزمجراً :
نَحنُ ضَرَبناكُم على تَنزيلِهِ
|
|
واليومَ نضربُكُم على تَأويلِهِ
|
ضَرباً يزيلُ الهامَ عن مَقيلِهِ
|
|
ويُذهلُ الخَليلَ عن خَليلِهِ
|
أو يَرجعُ الحَقّ
إلى سَبيلِهِ
ويقاتل عمارٌ عمرو بن العاص ، وينظر إلى
رايته الضالة فيقول :
والله لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع
رسول الله 6 ثلاث مرات ،
وهذه الرابعة وما هي بأبرّهن.
وهو القائل بين الصفين : والله لو
ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق ، وأنهم على الباطل.
ويستقتل ويقتل هو وصاحب اللواء هاشم
المرقال ، ويستسقي عند مصرعه ، فيسقى لبناً فيكبر ويقول :
« أنبأني رسول الله 6 أن آخر زادي من الدنيا ضياح من لبن ».
وحينما يقتل عمار ، ينادي خزيمة بن ثابت
ذو الشهادتين معرّضاً بأصحاب معاوية : الآن استبانت الضلالة ، لأنه وأمثاله من
الصحابة يروون الحديث المتواتر عن النبي :
« يا عمار تقتلك الفئة الباغية ».
وقد شاع هذا الحديث في صفوف الشاميين ،
ورواه لهم : عمرو بن العاص وسواه منهم ؛ فلما قتل عمار ، اشتد الخطب على معاوية
والتجأ إلى المرواغة وتزييف الحقائق ، فقال : ما نحن قتلنا عماراً ، وإنما قتله
الذي أخرجوه ، فردّهم الإمام علي رداً بديهياً وقال على سبيل الإنكار ، فرسول الله
6 قتل عبيدة
لأنه أخرجه إلى بدر ، وقتل حمزة لأنه أخرجه إلى أحد ، وقتل جعفراً لأنه أخرجه إلى
مؤتة.
وقتل في اشتداد القتال وعند مصرع عمار
وذو الكلاع الحميري من أهل الشام ، وكان يستقصي أخبار عمار فيوهمه معاوية بأنه
سيلتحق بنا ويقاتل علياً ، وكان ذو الكلاع ينظر عاقبه عمار ، ولكنهما قتلا بوقت
واحد ، فقال معاوية : لست أعلم بأيهما أشد فرحاً بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع ،
لأنه حاذر أنه يلتحق بعلي مع قبيلته لو أدرك مصرع عمار.
وقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، قتله
بغيه وتطاوله ، واستوهبت زوجته جثته فلم يمتنع الإمام من ذلك.
ونجا عمرو بن العاص ، حينما برز إليه
الإمام علي 7 فحينما
أدركه كشف سوأته ، فصرف الإمام بوجهه عنه ، وغض طرفاً ، وعيّر عمرو بذلك كثيراً
حتى من معاوية فما أكترث.
وتداعت صفوف أهل الشام في الإنهزام
والفرار والقتل ن وبدا عليهم الخذلان التام ، وكاد معاوية أن يفر لولا أن تذكر قول
ابن الاطنابة ، وقد أعدت له فرس للفرار :
أبت لي همتي وأبى بلائي
|
|
وَأخذُ الحمدِ بالثمنِ الربيحِ
|
وإجشامي على المِكروهِ نَفسي
|
|
وضَربي هامةِ البطلِ المُشيحِ
|
وقولي كلما جَشَأت وجَاشَت
|
|
مَكَانَكِ تُحمدِي أو تُستريحِي
|
ويزعم المؤرخون أن جيش معاوية قد تضعضع
بش كل لا يمكن إلتأمه ، وأن أركان حربه يلوذون بالفرار ، وأن الأشتر يزحف بالكتائب
حتى يصل إلى فسطاط معاوية ، ومن خلفه الجيش العراقي يتجحفل بهجومه الكاسح على مقرّ
قيادة الجيش الشامي ، وهنا يستنجد معاوية بعمرو بن العاص ، فيدبران المكيدة برفع
المصاحف ، وإذا بمنادي أهل الشام يقول :
« هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته
إلى خاتمته ، اللهَ اللهَ في العرب ، الله الله في الإسلام ، الله الله في الثغور.
من لثغور الشام إذا هلك أهل الشام؟ ومن لثغور العراق إذا تفانى أهل العراق ».
وكانت ليلة الهرير بما صاحبها من إنتصار
ساحق لأهل العراق ، وإندحار شامل لجيش الشام مقدمة التفكير في هذه المكيدة.
ولم تكن هذه الخديعة الكبرى وليدة
ساعتها ، ولا بنت ليلتها ، وإنما سبقها عمل مستمر وكيد قائم على قدم وساق من قبل
معاوية وقيادته ، فلقد ملّ معاوية الحرب الخاسرة التي يخوضها ، وقد أُخذَ عليه
بالمخنق بها ، ولا أمل له بالنصر أو الخلاص فما هي إلا السقوط في المعركة أو
الهزيمة الكبرى ، لا سيما بعد تناثر آلاف القتلى التي مني بها جيشه ، فقد ذكر
المؤرخون أن قتلى أهل الشام قد بلغوا خمسة وأربعين ألفاً ، كما أن قتلى أهل العراق
قد بلغوا خمسة وعشرين ألفاً ، وهب أن هذا العدد من المعسكرين مبالغ فيه ، فلو
تنزلنا معه إلى نصفه لكان عدداً هائلاً ، وخسارة فادحة.
كان بين أهل العراق عدد لا يستهان به من
رؤساء القبائل ممن استهواهم معاوية بالمال والوعود وكان في طليعتهم الأشعث بن قيس
الكندي الذي قال عنه
ابن أبي الحديد : « كل وهن لحق بخلافة أمير المؤمنين فمصدره الأشعث بن قيس ».
وهذا يعني أن الأشعث ومن على شاكلته من
أهل الدنيا لم يخلصوا النية للإمام ، ولم ينصحوا له سراً ولا علانية ، فهم أهل هوى
لا أهل ورع ، والهوى يقود صاحبه إلى الضلال لا الهدى ، فكان هؤلاء يريدون الموادعة
، ولا يريدون نصراً لعلي 7
، يسير بعده بسيرة النبي 6.
وكان جيش الإمام مزيجاً من أقوام أخلص
بعضهم إخلاصاً فذّاً ، وغدر بعضهم غدراً مبيّناً ، ووقف آخرون موقف المحايد
المستفيد. فمن تابعه من المهاجرين والأنصار ومن إتبعوهم بإحسان يقاتلون ببصيرة
نافذة ، ودوافع دينية محضة لأنهم يرون الحق مع علي وعلياً مع الحق ، وكذلك كان
خيار أهل الكوفة ، وجملة من أهل البصرة. وأما من لحق به من أهل الجمل فكان فيهم
المنهزم والدخيل والمعتزل. ولم يكن إخلاصهم للإمام خالصاً ؛ وهناك طائفة كبيرة من
الإنتهازيين والوصوليين يظهرون الولاء لأمير المؤمنين ويضمرون الكيد له ، يغازلون
معاوية سراً ، ويشايعون علياً علناً ، وليس من الصعب على معاوية استدراج هؤلاء
لأغراضه ، وإستقطابهم في مخططاته الكبرى ، فما إن رفعت المصاحف حتى انتقض جيش
الإمام على نفسه ، وطلبوا إلى الإمام إيقاف الحرب ، وأحاط به أكثر من عشرين ألفاً
شاهري السيوف ، وقد يقال بأن بعضهم طلب من الإمام القبول بحكم القرآن وإلا لحق
بعثمان ، والإمام كان يقاتل من أجل حكم القرآن ، ونظام القرآن ، وأوضح لهم أن
معاوية وأشياعه ليسوا بأهل دين وإنما هم طلاب ملك ودنيا ، وأنها خديعة الطفل عن
اللبن ، فكان أشد الناس عليه الأشعث بن قيس
وأضرابه في جماعة من
الغوغائيين ، تنادوا بالتحكيم ، واكثروا اللغط في الجيش ، وفتّوا في عضد الإمام
حتى ألجأوه إلى التحكيم كرهاً.
وقد تكون لهذا الأمر أبعاده التّآمرية
المنظّمة من قبل معاوية والمندسين في جيش الإمام من أنصاره ، فما أسرع ما استجاب
العراقيون للتحكيم دون رويّة ودراية ، وما أسرع ما نهض الأشعث بالمهمة بدّقة
متناهية ، وما أسرع ما تجمع حول الإمام من لا يستطيع أن يتفاهم معهم ، فأكرهوا
الإمام على كفّ القتال مع غضب قيادته ، ومعارضة أصحاب الجباه السود الذين غضبوا
على التحكيم حتى ثاروا بالأشعث وأرادوا قتله.
وقد كان الإمام 7 برماً بهذا الخليط العجيب من أصحابه ،
وهذا المناخ الجديد في تسيير الأمور جزافاً ، فهو محكوم عليه بهذا النفر ، يمتلكون
عليه أمره ، ولا يملك أمرهم ، وقد أوضح لهم بلين وأناة تارة ، وشدة وغضب تارة أخرى
أن معاوية كره حد السيف ، وأنه على أبواب الهزيمة ، وليس هو ولا أصحابه بأهل قرآن
حتى يحكم بينهم القرآن ، فما استمعوا لهذا ، وركبوا رؤوسهم عناداً وخلافاً وفرقة ،
فأوعز الإمام للاشتر بالكف عن القتال وإيقاف الحرب ، فاستمهله فواق ناقة ليأتيه
برأس معاوية ، ولكن الأشعث ورجاله المشبوهين قد أحدقوا بالإمام وهددوه بالقتل إن
استمرت الحرب ، فوقفت الحرب.
ونظر عليٌّ 7 إلى المأساة تتجدد عليه ، وإلى السواد
يغالبه على أمره ، ولم يترك الإمام ليدبّر الأمر بحكمته ، ولا أن يسير بالحرب إلى
أهدافها القريبة ، ولا أن يأخذ بكظم الباطل فيصرعه ، مُنِيَ بهؤلاء الغوغائيين
وذوي المآرب الخفيّة والجليّة ، وذهبوا إلى التحكيم دون إحكام للأمر ، وما تركوا
للإمام فرصة من يمثله في هذا التحكيم ،
وأشرأبت العصبية
القبلية بعنقها المهزوز لتفرض أبا موسى الأشعري ممثلاً عنه في هذه المحنة ، وأبو
موسى هو صاحبه بالأمس الذي خذّل عنه الكوفيين ، وأراد الإمام ابن عباس أو الأشتر
للتمثيل ، ولكن الأشعث أبى ذلك ، فكان الأشعري ممثل الإمام ، وكان عمرو بن العاص
ممثل معاوية ، وكان الإمام مكرهاً بقبول الهدنة ، ومكرهاً في اختيار ممثله ، وسارت
الأمور كما شاء أعداؤه ، فتولى الأمر من ليس جديراً به ، ولم يستطع الإمام حتى
ترشيح الأحنف بن قيس ليكون تالياً لأبي موسى.
وهكذا اجتمع الفريقان بعد خطوب وخطوب ،
فكتبوا صحيفة بوضع الحرب ، وتشخيص الحكمين ، وتحديد الزمان والمكان ، للبتّ في
الأمر ، وتأليب المسلمين على من خالف بنود هذه الصحيفة ، وكان جوهرها :
« أننا ننزل عند حكم الله ، وبيننا كتاب
الله فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ، ونميت ما أمات » كان
هذا لب الحكومة ، وفحوى الصحيفة ، وفيها : « فما لم يجداه في كتاب الله ، عملا فيه
بالسنة الجامعة غير المفرّقة ».
وكان كل هذا حبراً على ورق ، وبيتاً من
ثلج ، فكتاب الله يدعو إلى قتال الفئة الباغية صراحة حتى تفيء إلى أمر الله ،
وسنّة رسول الله 6
تؤخذ من علي 7 فهو وريثها
الشرعي ، والسنّة لا تهادن باطلاً ، ولا تدفع حقاً ، ولا تؤوي باغياً ، وواضح من
نصوص الصحيفة التي كتبت دون مراجعة الإمام أن كتابّها لم يحكموا الأمر ، وإنما
أوقفوا الحرب ، وقد تناست هذه الصحيفة أهم ما قامت عليه الحرب : امتناع معاوية عن
بيعة الإمام أولاً ، ومطالبة معاوية بدم عثمان ثانياً.
وقد طوي هذان الموضوعان المهمان طياً
عجيباً ، فكانت الصحيفة تنبي عن مكر وغدر عظيمين ذهب ضحيتهما كيان الإسلام.
وهنا بدرت شعيرة الخوارج « لا حكم إلا
الله » واعترضوا على تحكيم الرجال في دين الله. وكان شعار الإمام كما أرادوا
استمرار القتال للفئة الباغية وجوهره « لا حكم إلا لله » ما في ذلك شك ، ولكنه كان
مغلوباً على أمره ، فرفق بهم ، ورآهم قلة لا تغني مع الكثرة الساحقة ، فنصح لهم
وأمرهم بالهدوء ، وهدأوا حيناً ما ، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة كما سنرى.
وقد ضاق الإمام ذرعاً بأصحابه ، فألقى
الحبل على الغارب ، وأبان لهم : أن إمامهم يطيع الله وهم يعصونه ، وأن إمام أهل
الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، وتمثل بقول دريد بن الصمة :
أمَرتُهُمُ أمَري بِمُنعَرجِ اللِوى
|
|
فلم يَستبينوا النصحَ إلاّ ضُحى
الغَدِ
|
فَلَمَّا عصوني كنتُ فِيهم وقد أرى
|
|
غِوايَتهم ، وأنني غيرُ مُهتدي
|
وَهَل أنا إلاّ مِن غُزِيَةَ إن غَوَت
|
|
غَويتُ ، وإن تُرَشَد غُزَية أرشد
|
إستكره عليّ 7 على ترك القتال ، وإستكره أيضاً على
قبول الحكومة ، وإستكره أيضاً ولم يشاور في كتابة الصحيفة ، وأنكر الخوارج التحكيم
، واعتزلوا الفريقين ، وأنحازوا إلى حروراء ، ولم يدخلوا الكوفة بعد الحرب ، وكان
هناك جدل وتطاول وإحتجاج بين الذين اتبعوا الإمام مسلمين ، وبين هؤلاء الخارجين ؛
وكان عليٌّ 7 يصرح بأنه
استكره على ترك القتال ، وإنما الناس أرادوا العافية وكرهوا القتال ، وأراد الإمام
أن يرجع الخوارج إلى الجماعة ، وأن يجنبهم سوء المنقلب ، وأن يستصلح القسم الأوفر
منهم ، فكانت مناظرات انتصر الإمام في أغلبها ، وأصلح ما استطاع منهم ، وأبان أن
الله قد حكمّ في
الصيد الناس ، وحكمّ
في الشقاق الناس ، وكانت آية التحكيم في كل منهما سبيلاً إلى إعذاره عندهم ،
وقالوا قد محوتَ أنك أمير المؤمنين ، كأنك شككت في إمرتك لهم ، فأبان أن رسول الله
محا في صحيفة الحديبية وصفه بأنه رسول الله ، وهو رسول الله حقاً ، فثاب منهم
جماعة ، ورجع آخرون ، ودخلوا الكوفة ، وأصرت طائفة كبيرة منهم على العناد ، فأرسل
الإمام إليهم ابن عباس استصلاحاً لشأنهم ، وأمره بأن لا يحاججهم بالقرآن فإنه
حمّال ذو وجوه ، وإنما يحاججهم بالسنة ، فناظرهم ابن عباس بهما مناظرة مقنعة ،
فثاب إلى الرد منهم جماعة تقدر بألفين أو ثلاثة آلاف ، وعادوا مع ابن عباس إلى
الكوفة.
وحينما أنكر الخوارج تحكيم الرجلين ؛
أبان لهم الإمام بأنه أخذ عليهما العهد أن يحكما بما في كتاب الله ، فإن حكما بذلك
فالحكم لله ، وإن خالفا عما في كتاب الله فلا حكم لهما ولا طاعة.
وقد تأثر القوم بما ساقه الإمام من
الحجج الدامغة ، فانصاعت منهم طائفة كبيرة ، فقال لهم الإمام : « ادخلوا مصركم
رحمكم الله ». فدخل القوم بانتظار أمر الحكمين ، ودفع الإمام بالتي هي أحسن ، ودعا
إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وعاد علي 7
إلى الكوفة ، ومعه جمهرة لا يستهان بها من هؤلاء ، قد إعتقد بأنه أصلحهم أو أقنعهم
أو أفحمهم ، ولكن قسماً منهم لم يكن كذلك ، فما لبثوا أن حكموا في المسجد يقاطعون
خطب الإمام بشعارهم : « لا حكم إلا لله » فكان يقول : « كلمة حق أُرِيدَ بها باطل
» إذ لا بد للناس من حاكم بأمر الله.
وقد ظهرت معارضة هؤلاء في الكوفة على
أشدّها حتى خرج بعضهم منها منابذاً ومغاضباً ، وترك لهم الإمام الحرية وقال :
إن سكتوا تركناهم ، وإن تكلموا حاججناهم
، وإن أحدثوا فساداً قاتلناهم ».
وكان السكوت حيناً ، والإحتجاج حيناً
آخر ، والقتال أخيراً لأنهم أفسدوا في الأرض.
ومحنة هؤلاء الذين طلبوا الحق فأخطأوه ،
أنهم لا تهدأ لهم ثائرة ، ولا تخبو لهم نائرة ، وهم أصحاب جباه سود من كثرة السجود
، وهذه محنة أخرى ، يخدع فيها الجاهل ، ويتأثم عندها العارف ، ولهم في الليل دويٌ
كدوي النحل في قراءة القرآن ، وتلك محنة ثالثة توهم بأنهم أهل عبادة ، وهم غلاظ
شداد في هذا كله ، ولقد أخطأوا السبيل إلى الهدى فساقتهم الهلكة سوقاً ، وأسلمهم
القدر إلى المصير المحتوم : القتل حيناً ، والتشريد حيناً آخر ، وأسلموا أنفسهم هم
لقطع السابلة حيناً ، وللإفساد في الأرض حيناً آخر ، ولسفك الدماء في غير حلّها
ثالثة. والإمام في هذا الوسط المحموم يعمل نهاره جاهداً ، ويسهر ليله مفكراً ،
يأسى لهؤلاء ، ويكافح أولئك ، وينصح ما استطاع نصحاً ، وهو مع ذلك يمنحهم الحرية
بأوسع مفاهيمها ، ولا يحرم أحداً عطاءً ، ولا يفرض على أحد إقامة ، ولا يكره أحداً
على قتال ، وهم بين ذلك يتربصون به.
(٩)
الوفاء بشأن التحكيم ... ومعركة النهروان
وأشاع الخوارج في الكوفة أن علياً 7 يرى رأيهم في القتال ، وأنه رفض
الحكومة ، فأرسل معاوية للإمام يستعجله الوفاء بأمر التحكيم.
فأشخص الإمام أبا موسى الأشعري ، ومعه
أربعمائة من فرسانه ، وعليهم ابن عباس للصلاة ، وشريح بن هاني أميراً.
وأرسل معاوية ، عمرو بن العاص ومعه
أربعمائة من أصحابه.
وقد حاول الحكمان استدراج من إعتزل
الفريقين لحضور الاجتماع كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر وسعيد بن زيد بن
عمرو بن نفيل ، وعبد الله بن الزبير ، فلم يستجب لهما أحد من هؤلاء فيما ذكر
المؤرخون.
واجتمع الحكمان بدومة الجندل ، يتفاوضان
في الأمر ، ويجيلان الرأي ، وكان عمرو بن العاص يتظاهر بالتضاؤل أمام أبي موسى ،
ويقدمه للصلاة ، ويجلس بين يديه عند الطعام ، ويعطيه صدر المجلس ، فتراخى أبو موسى
لهذا التصنع ، وطرب لهذه المظاهر ، وكان ذلك تمهيداً دقيقاً لخداع أبي موسى ، وأبو
موسى هذا بعيد عن الإمام في
شعوره وتفكيره ودينه
، وقد عجمه الأحنف بن قيس وأعطى رأيه فيه للإمام ، وقد خذّل أبو موسى عن الإمام في
حرب الجمل ، وقد عزله علي 7
عن إمارة الكوفة ، وقد تبعه المهوسون يستريحون إليه في حب السلامة ، وفي نفسه
موجدة على عليّ نتيجة عزله ، وفيه أزورار عنه لتهاونه بشأنه ، وقد ظهر بمظهر الورع
والتحرج وهو بعيد عنهما ، وقد تلهف على الشورى ، بل ونادى بالطيب بن الطيب عبد
الله بن عمر على حد تعبيره ، وتمطى بسذاجة مخلة أو شيطنة مبطنة بوقت واحد ، فاستغل
عمرو بن العاص كل هذه المخلفات استغلالاً كبيراً حتى أودى به وقلب له ظهر المجن.
كان الإجتماع بدومة الجندل حيناً ، وفي
أذرح حيناً آخر ، وتفاوض الحكمان مدة مديدة في الأمر ، وقد كثرت آراء المؤرخين
فيما تفاوضا فيه ، فذهبوا في ذلك أكثر من مذهب. ولكن المؤكد أن الحكمين قد اتفقا
على خلع علي ومعاوية ، وجعل الأمر شورى بين المسلمين ، وواضح أن هذا الاقتراح كان
مكيدة من عمرو ، واستغفالاً لأبي موسى ؛ إذ ما هو معيار هذه الشورى؟ وإلى من تعود؟
وفيمن يرشح لها؟ وكيف الحال عند المسلمين ، فالعراقيون يرشحون علياً ، والشاميون
يرشحون معاوية ، فتعود جذعة كأن لم يصنعا شيئاً ، وإن رُدّت الشورى إلى أهل الحل
والعقد ، فأهل الحل والعقد قد بايعوا علياً ؛ فلماذا الشورى حينئذٍ؟
في هذا المقترح ـ إذن ـ يكمن غدر ابن
العاص ، وتغافل أبي موسى ، فابن العاص مخطط متمرس للقضية ، ومنظر دقيق لها ، وأبو
موسى في خدعة مستمرة لا يستفيق ، عمرو يخدعه وهو يخادع نفسه ، ولا يرعوي بينهما
إلى سند وثيق.
وفجأة ظهر الحكمان أمام الناس بعد
احتجاب طويل استغرق عدة أشهر ، وأعلنا عن اتفاقهما بما فيه الرضا للمسلمين ،
والنصح للدين ، واستمر الخداع هذا في هذا الموقف فقدم عمرو أبا موسى لإعلان ما
اتفقا عليه ، وأشفق ابن عباس من هذا التقديم ، وأشار بإصرار على أبي موسى بالتأخر
ريثما يعلن ابن العاص ما عنده ، فما استجاب له أبو موسى ، ولا استمع إلى نصحه ،
وإنما تقدم إلى المنبر ، وأعلن أنه وعمرو بن العاص اتفقا على خلع علي ومعاوية ،
ورد الأمر شورى بين المسلمين ، ثم قام عمرو بن العاص ، وقال : إن هذا قد خلع صاحبه
، وأنا أخلعه كما أخلع خاتمي هذا ، وأثبت صاحبي كما أثبت هذا الخاتم.
فقال أبو موسى : مالك لا وفقك الله ،
غدرت وفجرت ، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، فأجابه عمرو
بن العاص : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
وانتهت مهزلة الحكمين بهذا الشكل المريع
، فماج الناس واضطربوا ، وتراشقوا بالكلام والسياط ، وأدرك أبو موسى خزيه فضرب
راحلته ورمى بها مكة ، وأقبل عمرو بن العاص وأهل الشام وسلّموا على معاوية بأمرة
المؤمنين ، وعاد أهل العراق بخفيّ حنين ، وأدرك المسلمون أن الحكمين جارا في الحكم
، وعدلاً عن القصد. وبلغ علياً ذلك فقال معاوداً : إن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا
قرآن.
واغتبط معاوية لهذه النتيجة ، فقد كسب
الموقف ، وقد أراح أصحابه من الحرب ، وقد ثبّته صاحبه بالخلافة.
وأفاق العراقيون بعد سكرة موقتة ، فرأوا
الأمور تدار في صالح
الضلالة ، وأن الحق
مغلوب على أمره ، وإن إصرارهم على الإمام بقبول التحكيم كان خطأ العمر الذي لا
يتداركه شيء إلا الحرب والقتال عوداً على بدء ، فعادوا إلى الكوفة يستعدون للقتال
فيما يزعمون ، وكان الإستعداد قضية مؤقتة أيضاً ، إذ انشغل الإمام بما هو أفدح من
ذلك ، فقد انشق عليه فريق من أصحابه بالأمس ، ونجم قرن الخوارج حينما تحقق نبأ
الحكمين فأعجله ذلك عن أهل الشام ، لمعالجة الخرق الجديد.
وكان الإمام 7 قد خطب أصحابه بعد أخبار الحكمين فقال
:
« الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب
الفادح والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله. أما
بعد :
فان معصية الناصح الشفيق المجرب تورث
الحسرة وتعقب الندم. وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ، ونخلت
لكم رأيي لو يُطاع لقُصير رأي ، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم ، فكنت واياكم كما قال
أخو هوازن :
أَمَرتُهُمُ أَمرِي بِمُنعَرِجِ
الِلوى
|
|
فَلَم يَستَبِينُوا الرُشدَ إلاّ
ضُحَى الغَدِ
|
ألا إن الرجلين اللذين اخترتوهما حكمين
قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وإرتأيا الرأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحيا
القرآن ، وأحييا ما أمات القرآن. ثم إختانا في حكمهما فكلاهما لا يرشد ولا يسدد.
فبريء الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للسير ،
وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إن شاء الله ».
وغدا الناس إلى معسكرهم كما أمر الإمام
، وسرح إليه ابن عباس كوكبة من جنود البصرة ، واستقر رأي الإمام على النهوض بجيشه
إلى
الشام ، إلا أن
طلائع الخوارج في النهروان قد عرقلت المسيرة ، وأرجأت الزحف ، فقد تداعوا سراً
وعلناً وعادوا إلى التحكيم ، وخرجوا زرافات ووحداناً إلى النهروان ، وإنهم لفي
طريقهم إذ أدركوا الصحابي الجليل عبد الله بن خباب بن الأرت ، وهو وأبوه من
المعذبين في الإسلام على أيدي طواغيت قريش ، التقوا بعبد الله هذا ، وفي عنقه كتاب
الله تعالى طلباً للأمان ، ومعه امرأته وهي حامل استدراراً للعطف والرحمة ، فقتلوه
ذبحاً ، وقتلوا زوجته وولدها ذبحاً أيضاً ، وتركوهم قتلى مجردين على شاطىء الفرات
، ذلك أنهم استطلعوا رأيه في الإمام فأثنى عليه خيراً ، وقال حقاً.
ووصل النبأ إلى الإمام 7 فأرسل إليهم يستنكر هذا الإفساد في
الأرض ، ويطلب إليهم تسليم القتلة ، فامتنعوا عن ذلك ، وأجابوا : كلنا قتلة ابن
خبّاب ، وسار إليهم الإمام بنفسه فوعظهم ما شاء له الوعظ ، وحذرهم ما استطاع إلى
التحذير سبيلاً ، فركبوا رؤوسهم ، وطلبوا إليه أن يشهد على نفسه بالكفر فقال لهم :
« بعد إيماني بالله وهجرتي ، وجهادي مع
رسول الله ، أشهد على نفسي بالكفر ، لقد ضللت إذن ، وما أنا من المهتدين ،
وَيحَكُمْ بم إستحللتم قتالنا والخروج عن جماعتنا؟ » فما كان جوابهم إلا أن
امتشقوا السيوف ، وشهروا الرماح وتنادوا من كل جانب « هل من رائح إلى الجنة »
ويجيب بعضهم بعضاً « الرواح إلى الجنة » وإذا بهم يشدّون على ميمنة الإمام وميسرته
، فينفرق لهم الجيش ، ويستقبلهم الرماة بالنبل ، وتحتدم المعركة ، ويندلع لهيبها
عالياً ، ويباشر الإمام القتال بنفسه ، وإذا بالقوم صرعى كأمس الدابر.
وكان عليّ 7
قد أخبر أصحابه عند القتال بأنه : لا يقتل
منكم عشرة ، ولا
يفلت منهم عشرة ، وكان كما قال فما نجى من الخوارج إلا ثمانية أو تسعة ، ولم يقتل
من اصحابه إلا تسعة.
ووضعت الحرب أوزارها ، وإذا بأمير
المؤمنين يضطرب التماساً لرأس من رؤوس الخوارج يسمى ذا الثدية ، مخدّج اليد ، على
عضده ثدية ذات شامه ، تشبه ثدي المرأة ، ويطلب إلى صحابته أن يلتمسوه في القتلى
فلا يجدونه ، ويلح الإمام مصّراً على البحث عنه فيجدونه مجدّلاً صريعاً ، فإذا وقف
على ذلك ، يخر لله ساجداً ، ويقول للناس : « والله ما كذبت ولا كذبت ، ولقد قتلتم
شر الناس ».
ولهذا المخدّج ذي الثدية نبأ يتحدث عنه
المؤرخون ، بأنه قال للنبي 6
يوم حنين عند قسمة الغنائم : « اعدل يا محمد فإنك لم تعدل منذ اليوم ».
ويعرض عنه النبي مرة وأخرى ، ويكرر
القول ثالثة ، فيقول النبي 6
وهو مغضب :
« ومن يعدل إذا لم أعدل » ويهّم قوم
بقتله ، فيكفهم النبي قائلاً : « يخرج من ضئضيء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرمية ، يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ».
وقد روى مسروق عن عائشة كما في مسند
أحمد بن حنبل :
« قالت لي عائشة إنك من أحبّ ولدي إليّ
، فهل عندك علم بالمخدّج؟ فقلت : نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال له
النهروان ، فقالت : ابغني على ذلك بيّنة ، فأتيتها برجال عندهم علم بذلك ، ثم قلت
لها : أسألك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول الله 6 فيه قالت سمعته يقول : إنه شر الخلق
والخليقة يقتله
خير الخلق ، وأقربهم
عند الله وسيلة ».
وما هي إلا ساعات من نهار حتى فرغ عليٌ 7 من قتال الخوارج بالنهروان ، ولكنه لم
يفرغ من فلولهم ، ولم يقطع مادتهم ، فهم يتسللون من الكوفة لواذاً ، وهم يتجمعون
أشتاتاً ، فيقلقون الدولة ، وتزداد قوتهم يوماً بعد يوم ، وكان عليّ 7 رفيقاً بهم حيناً ، وعنيفاً حيناً آخر
، فهو لا يعرض لهم ، ولا يقطع جراياتهم ولا يبدؤهم بحرب ، حتى إذا بدرت منهم بادرة
، أو نجمت ناجمة قابلها بتسيير جند إليها يقمعها ، أو واعظ يزجرها ويفرقها ، ولكن
الأمور تدهورت ، والأحداث قد تطورت نسبياً ، فما إن تخمد للخوارج حركة حتى تشب
حركة أخرى ، وما إن تنتهي معركة حتى تبدأ معركة مثلها ، فهم بين مدّ وجزر ،
والإمام بين قتال وكفاح ، هم يطمعون بعدله ، أو يطمعهم فيه عدله ، وهو يطمح
لإصلاحهم ، وصلاحهم حتى إذا أشتدت شوكتهم على يد الخرّيت بن راشد ، وكان وقحاً
شديداً ، جمع إليه أخلاط الناس ، وتدرع بالعلوج والأعاجم ، وتهيأ للخروج على
الإمام ، ولقد جبه الإمام علياً بين الناس ، وقال له مجاهراً غير هيّاب ولا متوجل
: « والله لا أطعتُ أمرك ، ولا صليت خلفك ».
فقال له أمير المؤمنين : « إذن تعصي ربك
، وتنكث عهدك ، ولا تغرّ إلا نفسك ، ولم تفعل ذلك ». فقال : « حكمت الرجال ، وضعفت
عن الحق ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك زارٍ ، وعليهم ناقم ».
وأسمح عليّ 7 له من نفسه ، ودعاه إلى المناظرة ،
فأبى عليه ، وقال : أعود إليك غداً ، فتركه الإمام وشأنه ، ولم يعد الرجل إليه ،
وإنما انطلق إلى قومه بني ناجية ، وكان ذا رأي لديهم ومطاعاً
فيهم ، فخرج بهم
مناجزاً للإمام ، ولقي الخريت ومعه بنو ناجية رجلين في الطريق ، وسألوهما عن
دينهما ، فكان أحدهما يهودياً ، والآخر مسلماً ، فأطلقوا اليهودي لأنه من أهل
الذمة ، واستوقفوا المسلم ، فسألوه عن عليّ فأجاب خيراً ، فقتلوه ، وأخبر اليهودي
عامل الإمام على السواد بما رأى ، فكتب العامل لعليّ 7
بذلك ، فأرسل الإمام كوكبة من جيشه لردهم إلى الطاعة ، وقتالهم إن أبوا ذلك ، وطلب
إليهم قائد الجيش أن يسلموا قتلة المسلم ، فأبوا إلا الحرب ، وقامت الحرب على قدم
وساق ، ولم يبلغ أحد من صاحبه شيئاً ، وأظلهم الليل ، فهرب الخريت وأصحابه إلى
البصرة ، فأمر الإمام واليه على البصرة عبد الله بن عباس أن يتعقبهم ، ففعل ذلك
ابن عباس جادّاً ، وهيأ جيشاً لقتالهم ، والتقى الجيشان بقتال شديد ، وبان الخذلان
على الخريت وأصحابه ، فاتخذ الليل جملاً وهرب فيه ، وساحل الرجل بأصحابه ، وأنضم
إليه المرتدون والمتمردون ، فتعقبهم جيش الإمام ، وحاصرهم محاصرة محكمة ، وقتل
الخريت وأصحابه ، وأسر من بقي منهم ، فمن كان مسلماً منّ عليه وأطلقه ، واستتاب
المرتدين ، فمن أسلم سرحه ، ومن لم يسلم أسره ، فكان الأسرى خمسمائة ، فمروا على
عامل علي 7 : مصقلة بن
هبيرة الشيباني ، وهو على كور من فارس ، فضجوا إليه ، فخلصهم من الأسر بالفداء
وأعتقهم ، وتحمل عنهم فداءهم على أن يسدده أقساطاً لبيت المال ، وصوب عليٌّ رأيه ،
ولكن مصقلة ماطل في الدين ، فطالبه ابن عباس بذلك فقال : « لو قد طلبت أكثر من هذا
المال إلى عثمان ما منعني إياه ». وما لبث أن هرب إلى معاوية ، فاستقبله معاوية
بالأحضان وآواه وأكرمه ، وبلغ علياً ذلك فقال : « ما له قاتله الله ، فَعل فِعلَ
الأحرار ، وفرّ فرار العبيد ». وأمر بداره فهدمت لا أكثر ولا أقل.
ولم يكن هذا شأن مصقلة وحده ، بل له مدد
آخر من الموالين لمعاوية ، فهو يطمعهم وهم يتعاونون معه في نشر الفساد ، وإحلال
الفوضى ، والإخلال بالأمن ، فيستعين بهم في الإغارة على أطراف العراق ، ويستجلبهم
عيوناً لديه ، ينبئونه بالأخبار ، ويسيّرون إليه المعلومات كما سترى.
(١٠)
معاوية والخوارج يقتسمان الأحداث الدموية
ما استقر علي 7 في الكوفة حتى أزعجته عن استقراره
أحداث متفرقة ، وهي وإن تكن صغيرة إلا أنها مقلقة ، عكرّت صفو إقامته إن يكن له
صفو ، وعرضت كيان دولته للإختلال ، ووسمت سلطانه العادل بالضعف لدى أعدائه.
وهذه الأحداث المتناوبة تتلخص في ثلاثة
مظاهر مهمة :
المظهر الأول ، ويتجلى بسياسة معاوية بهذه
الغارات المستمرة على أطراف العراق والحجاز وقلب اليمن.
والمظهر الثاني ، ويكمن في حركات
الخوارج المتتالية من هنا وهناك ، تعيث فساداً في الأرض ، وتعلن العصيان المسلّح.
والمظهر الثالث ، يتلخص في شأن ولاته
وعماله على الامصار فلم يكن كلهم كما أراد ، ولم يفِ له إلاّ بعضهم.
ولكل حدث من هذه الأحداث حديث خاص به ،
نحاول إجماله وإلقاء الضوء عليه دون الدخول في متاهة التفصيلات التأريخية المدونّة
في السِيّرِ والمغازي والتواريخ.
أولاً
: إستغل معاوية تفكك جيش الإمام في حربه
مع الخوارج ، واستطار فرحاً بانقسام أصحابه عليه ، ورأى في هذين عاملين مساعدين
على التخريب المتعمد
، فأراد أن يدخل الرعب في قلوب العراقيين ، وأن يضعف المعنويات لدى المقاتلين وقد
بلغه أن علياً 7
يعدّ العدّة للعودة إلى صفين ؛ فاتخذ لنفسه منهجاً جديداً بتسيير قطع من جيش أهل
الشام نحو أطراف العراق ، وأمر هذه القطع بالإغارة والنهب والقتل ، وإشاعة الخوف
والرهبة في قلوب العراقيين ، وكان المتآمرون على الإمام من الداخل يوغلون بالتمادي
مستغلين ورع الإمام وسماحه ، فوقفوا موقف الإنتهازي المستفيد ، وتجلببوا بجلباب
الحاقد المنتقم ، ورأى معاوية ذلك فأمدّهم بالأموال الطائلة ، وأجزل لهم العطايا
والهبات ، ومنّى كثيراً منهم بالإمارة والولاية ، ولوّح لبعضهم بالإصهار إليه أو
منه ، فكان هؤلاء خطّاً معادياً ، له كيده وفكره ضد الإمام ، فتألّبوا عليه سراً ،
وتقاعسوا عنه جهاراً ، فكانوا إلباً على إمامهم ، وعوناً لعدوهم ، فمهّدوا لمخططات
معاوية تمهيداً ، وحسنوا له مساوءَهُ وانتهاكاته ، وزينوا له سوء عمله ، وآنسوا
لهذا الترويع المستمر لسواد العراق ، وشجّع ذلك معاوية في إرسال السرايا الصغيرة ،
وقطع الجيش المترصدة ، يقوم عليها أتباعه من ذوي الضمائر الميتة والأكباد الغليظة
، ويأمرهم فيها بالغارة المنظمة والمرتبة قتلاً ونهباً وترويعاً ، فكان له ما أراد
: خوف شامل ، واستقرار مزعزع ، وغنائم باردة ، يعز معاوية بها سلطانه ، ويضعف بها
الإمام وحكمه في الداخل. وقد تولى كبر هذه الغارات : الضحاك بن قيس ، والنعمان بن
بشير ، وابن سعدة الفزاري.
وكان أشدها وقعاً على أمير المؤمنين
غارة سفيان بن عوف الغامدي الذي تسلل إلى الأنبار فأكثر فيها الفساد ، وعاد
بالغنائم وقتل الوالي ، وفتك بالجند بين عشية وضحاها. وانتهت الأنباء إلى الإمام 7 ، فكانت اللوعة والأسى ، وكان القلق
والحزن ، وكان التأنيب لأصحابه ، وكان الحث على الجهاد ، ولكن الإمام كان يضرب
على حديد بارد في
جماعة إستولى عليها التواكل والخذلان ، وعمل بها الوهن والضعف ، إستلذوا العافية ،
ورضوا بالذلّة ، فما كان من الإمام إلا أن أبان لهم حقيقة الحال ، وشجب تقاعسهم
شتاءً عن الجهاد ، وخمولهم صيفاً عن القتال ، حتى أفسدوا على الإمام رأيه ، فخطب
على منبر مسجد الكوفة مستصرخاً لهم ؛ وزارياً بهم ، وغاضباً عليهم :
« أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب
الجنة ، فمن تركه رغبة ألبسه الله ثوب الذلّ ، وسِيم الخسف ، ودِيث بالصَغار ، وقد
دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً ، وسراً وإعلاناً ، وقلت لكم : اغزوهم
من قبل أن يغزوكم ، فوالذي نفسي بيده ، ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا.
فتخاذلتم وتواكلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، حتى شنت عليكم
الغارات.
هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ،
وقتلوا حسان بن حسان ورجالاً منهم كثيراً ونساءً. والذي نفسي بيده ، لقد بلغني أنه
كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فينتزع أحجالهما ورعثهما ؛ ثم انصرفوا
موفورين لم يُكلم أحد منهم كَلما ، فلو أن امرأً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما
كان عندي فيه ملوماً ، بل كان به عندي جديراً. يا عجباً كل العجب. عجب يميت القلب
ويشغل الفهم ، ويكثر الأحزان ، من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم ،
حتى أصبحتم غرضاً تُرمون ولا ترمون ، ويُغار عليكم ولا تغيرون ، ويعضى الله فيكم
وترضون ، إن قلت لكم اغزوهم في الشتاء ، قلتم : هذا أوان قرّ وصرّ ، وإن قلت لكم
إغزوهم في الصيف ، قلتم : هذه حمّارة القيظ ، أَنظرنا ينصرم الحرّ عنا ، فإذا كنتم
من الحرّ والبرد تفروّن ، فأنتم والله من السيف أفرّ ؛ يا أشباه الرجال ولا رجال ،
ويا طغام الأحلام ويا عقول
ربّات الحجال ،
والله لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان ، ولقد ملأتم جوفي غيظاً حتى قالت قريش : ابن
أبي طالب ، رجل شجاع ولكن لا رأي له في الحرب لله درّهم ، ومن ذا يكون أعلم بها
مني ، أو أشد لها مراساً ، فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، ولقد نيفّت
اليوم على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع ، لا رأي لمن لا يطاع ، لا رأي لمن لا
يطاع ».
ومرت هذه الخطبة بسلام ، كأن الإمام ما
فاه بشيء ، وقد تؤثر في أقليّة لا تغني عن الإمام شيئاً ، ولكنها تستجيب لأوامره ،
فتتبع المغيرين ، تردّهم حيناً ، وتطاولهم حيناً آخر ، وهذا ما أطمع معاوية بتجاوز
حدود العراق إلى أطراف الحجاز وأعماق اليمن ، فقد أرسل بسر بن أرطأة في قطعة من
الجيش ، وبسر هذا قائد همجي متهتك ، لا يرعى حرمة ولا ذمة ، ولا يركن إلى عقل أو
دين ، دفعه تهوره فأغار على أهل البوادي في طريقه إلى اليمن ، وتمكن من شيعة
الإمام فروعهم ترويعاً مريراً ، وأتى مدينة الرسول 6
فأكثر فيها الفساد ، ويمم شطر البيت الحرام فزلزل أهل مكة عن مأمنهم ، وأوغل في
أعماق اليمن ، فيفرّ الوالي عليها من قبل الإمام ، ويكثر فيها فيها الفساد والقتل
، ويسرف في ذلك إسرافاً شنيعاً ، ويستذل العباد إذلالاً فاحشاً ، ويذبح ابني
الوالي عبيد الله بن العباس ، ويكون لمصرعهما مشهد من لوعة واسى عند القريب
والبعيد ، وترثيهما أمهما بمرّ الرثاء ، ويمعن بسر في الإبادة وسفك الدماء ، ويمعن
جنده في النهب واستصفاء الأموال ، ويأخذ البيعة لمعاوية كرهاً ، ويرسل الإمام
جارية بن قدامة السعدي ;
في ألفي مقاتل ، ويفر بسر من اليمن حائزاً الغنائم ، مرضيّاً عند معاوية بما أصاب
، ويُرجع جارية اليمن إلى طاعة أمير المؤمنين ، وتستقيم بها الأمور له ، ولكن
بسراً بلغ ما أراد ، وكان الله له بالمرصاد ، فقد دعا عليه
الإمام ففقد عقله ،
وتصورت له بشاعة أعماله وجرائمه فجّن جنوناً مستحكماً ، فجعل يهذي بالسيف والقتال
، ويتصور له ابناء عبيد الله بن العباس ، فيتخذ له سيفاً من خشب يضرب به الوسائد
والنضائد حتى هلك على هذه الحال.
ورأى معاوية في هذا الضرب من الإغارة
إشغالاً لعلي 7
، فأكثر منها ، وأثاب عليها ، ودعا إليها ، حتى شمل الخوف أهل العراق.
ثانياً
: وكان الخوارج مصدر قلق مستمر لدولة
الإمام ، فهم قرّاء أهل المصر ، وهم عبّاد أهل الكوفة ، وهم أصحاب الجباه السود من
كثرة السجود ، والسواد غير قدير على التمييز ، وهم يدعون إلى حكم القرآن ، وهم
ناقمون من عليّ ومعاوية ، وهم يقاطعون الإمام في خطبته وصلاته وعلى 7 صابر محتسب لا يتير حرباً ولا بألوا
جهداً في الإصلاح ، ولكن الخوارج يلحّون في التواثب ، ويستفحلون على العدوان ،
ويتمرسون صنوف العصيان ، يرون كل ذلك جهاداً في سبيل الله ، وتلك محنة ما وراءها
محنة ، فهم يطلبون الحق فيخطئونه ، وهم يشجبون الباطل ويخوضون فيه ، وقد وصفهم
الإمام فأحسن الصفة والتحليل « فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ».
وكانت النهروان قد أكلت جموعهم ، وأفنت
رجالهم ، وبقي منهم من عاش موتوراً ، فهو يحقد على الإمام صولته فيهم ، وهو ينقم
من الإمام موقفه منهم ، فما برح الرجل والرجلان يثأران فيتبعهما المئة أو المئتان
، وإذا بهم يعلنون القتال ، ويخيفون السواد ، وينشرون الهلع ، ويقطعون السبل ،
وعلي 7 يسرّح لهم
الجند ، ويسير لهم الطلائع ، فيلقون على أشدّ قتال تندر فيه الرؤوس وتسيل المهج ،
حتى إذا قمعوا نجم قرن آخر ، وتعود الكرّة عليهم إثر الكرّة ، وهم بين إحجام
وإقدام ،
وهم بين فرّ وكرّ ،
والإمام بين تهيأة واستعداد لا يريح ولا يستريح ، وما إن تمحق منهم طائفة إلا برزت
طائفة ، وما أن يقتل قائد حتى ينبعث قائد آخر ، يجتمع حوله السواد ، ويسير بين
يديه السعاة ، والإمام في حرب مستمرة لا يفرغ من بعضها حتى يقع في مثلها.
وكان الخارجون على الإمام وحكمه
يتناوبون المهمة واحداً بعد واحد ، ويتهيأون للقتال قائداً إثر قائد ، فقد خرج
هلال بن علفة التيمي ، فلمّا قتل هو وفلوله ، خرج الأشهب بن بشر البجلي ، فلما قتل
وجنوده ، خرج سعد بن قفل التيمي ، فلمّا قتل وأصحابه ، خرج أبو مريم السعدي ...
وهكذا كانت الأمور تجري في حرب داخلية لا أول لها ولا آخر ، يفقد فيها الإمام
أنصاره بالأمس وأعداءه اليوم ، ويفيد منها معاوية تثبيتاً للسلطان ، فالخوارج
أضروا بدولة الإمام ، والخوارج مهّدوا لدولة أهل الشام شاؤوا أم أبوا.
ثالثاً
: ولم يكن الإمام في مأمن من ولاته
وعمّاله ، فهم بين من خان الأمانة ، وبين من يرتد على عقبيه جبناً وتردداً ، وبين
من تحاك حوله الدسائس فيطلب السواد عزله من الإمام ، وبين متحفظ رضي برفاهية العيش
عن مرارة النضال العقائدي ، وهناك القلة الملتزمة التي نصحت وبرّت ، وعموماً لم
تكن الإتجاهات المتباينة لترضي الإمام ، فكان في عناء منها أي عناء ، فهو يريد أن
يعود بمناخ ولاته إلى عصر النبوة ، وهو يريد أن يكون عماله كعمال رسول الله 6 تقوى وورعاً وعدالة ، وهو يريد أن ينهض
بهم إلى مستوى المسؤولية ، ويرتفع بأقدارهم عن مزالق الإنحراف والخيانة ، وهو
يتابع كل ذلك بنفسه ، ويشرف على تخطيطه عن كثب ، والناس عبيد الدنيا ، وقد ذاقوا
طعم التوسع والبذخ والإسراف أيام عثمان ، وابتعدوا شيئاً فشيئاً عن حياة
الشظف والبؤس
والحرمان ، وهو يريد أن يعيدهم إلى الجادّة ، ويحملهم على المحجة البيضاء ، وكان
من الطبيعي لهذا الإتجاه أن يلقى المعارضين له ، وأن يصطدم بالمنحرفين عنه ، يريد
المعارضون لهذا المنهج أن يتنعموا بالولاية ، ويريد المنحرفون عن هذا السبيل أن
يتمتعوا بالسلطان ، ويريد هو أن لا يكون هذا ولا ذاك ، فالراعي كالرعية ، والأمير
كالمأمور ، كلّهم في شرع الحق سواء. وكانت سيرته الخاصة بعدله وخشونته تملي هذه
المفاهيم قبل أقواله وتوجيهاته ، فقد أخذ نفسه بالشدة ، وهو يأخذ عماله بالشدة
أيضاً ، وقد يبعث بالمراقبين على شؤون هؤلاء العمال ، وقد يبّث الأرصاد لمعاينة
سيرة أولئك الولاة ، إذن هو لا يكتفي بالإشراف على ذلك بنفسه فحسب ، بل يرسل ثقته
ليأتيه بالنبأ اليقين ؛ وهذا وذاك كفيلان بإستقامة الأمر ، وتدارك الخطأ ، ودرأ
الإنحراف ، وتلك جدّية ما بعدها جدّية ، يتلافى بها الإمام الإهمال والإنحلال ،
وقد مرت عليك خيانة مصقلة بن هبيرة إذ فَعل فِعل السيد ، وفرّ فرار العبد ، وقد
سبق إليك تخاذل عبيد الله بن العباس وهربه من اليمن ، وتركها لبسر بن أرطاة يعيث
فساداً في الأرض. وكذلك ما كان من أمر عامله على مكة قثم بن العباس حين فرّ منها
بدخول يزيد بن شجرة الرهاوي أميراً على الموسم من قبل معاوية ، وكيف يمثل كل ذلك
الضعف والوهن في نفوس الولاة ، وكيف ينجرّ ذلك الضعف على الدولة التي يقودها
الإمام بأمثال هؤلاء. فإذا أضفت إلى ذلك خيانة الأمة في أموالها ، والتلاعب بفيء
المسلمين ، أدركت مدى معاناة الإمام ، فقد كسر الأكراد شيئاً من خراج البصرة ،
وكان عليها زياد ابن أبيه نيابة عن ابن عباس ، وقد طلب إليه الإمام حمل المال بيد
أحد رسله ، وأراد زياد أن لا يخبر الرسولُ الإمام بهذه المضيعة ، فأنبأ الرسول
الإمام بذلك ، فكتب إلى زياد :
« قد بلغنّي رسولي عنك ما أخبرته عن
الأكراد واستكتامك إياه ذلك ، وقد علمت أنك لم تُلق ذلك إليه إلا ليبلغني إياه ،
وإني أقسم بالله عز وجل قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً
صغيراً أو كبيراً لأشدّن عليك شدة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظهر. والسلام ».
وكان الأشعث بن قيس عاملاً لعثمان ، على
أذربيجان وقد ترك له عثمان خراجها ، وطمع الأشعث بذلك أيام الإمام ، فكتب له أمير
المؤمنين يعزله ، ويحمله أداء الأمانة بقوله : « إنما غرّك من نفسك إملاء الله لك
، فما زلت تأكل رزقه ، وتستمتع بنعمه ، وتذهب طيباتك في أيام حياتك ، فأقبل وإحمل
ما قبلك من الفيء ، ولا تجعل على نفسك سبيلاً ».
واستشار الأشعث في هذا الكتاب أمناءه ،
وقد أراد اللحاق بمعاوية ، فما أشاروا عليه بذلك ، فنفذّه كارهاً ، وقدم على عليّ 7 منابذاً في سرّه ، مشايعاً في ظاهره.
وكان المنذر بن الجارود العبدي عامله
على إصطخر ، وقد كان أبوه من الصلحاء ، فبلغت الإمام عنه بعض الهنات ، فكتب إليه
يعزله ويستقدمه :
« إن صلاح أبيك غرّني فيك ، وظننت أنك
متبّع هديه وفعله ، فإذا أنت فيما رقي إليَّ لا تدع الإنقياد لهواك ، وإن أزرى ذلك
بدينك ، ولا تسمع إلى الناصح ، وإن أخلص النصح لك. بلغني أنك تدع عملك كثيراً
وتخرج لاهياً متنزهاً متصيداً ، وأنك قد بسطت يدك من مال الله لمن أتاك من أعراب
قومك ، كأنه تراثُكَ عن أبيك وأمك ، وإني أقسم
بالله لئن كان ذلك
حقاً لجملُ أهلك ، وشسع نعلك خير منك ، وإن اللعب واللهو لا يرضاهما الله. وخيانة
المسلمين وتضييع أموالهم مما يسخط ربك. ومن كان كذلك فليس بأهل لأن يسّد به الثغر
، ويجبى به الفيء ، ويؤتمن على مال المسلمين ، وأقبل حين يصل كتابي هذا إليك ».
وواضح من لهجة هذا الكتاب شدّته في مال
المسلمين ، ومن فحواه صرامته في ذات الله ، ومن فقراته تقويم تصرفات العامل ، وقدم
عليه المنذر ، فاستجوبه الإمام ، فكان عليه من مال المسلمين ثلاثون ألفاً ، فأنكر
المنذر ذلك ، فطالبه الإمام باليمين فأبى ، فأودعه السجن ، وضمنه صعصعة بن صوحان
العبدي وكان من خيار صحابة الإمام ، فاستجاب له وأطلقه.
وبلغت الإمام غطرسة بعض ولاته مع أهل
الذمة فكتب إليه يرفق بهم :
« أما بعد ، فإن دهاقين بلادك شكوا منك
قسوة وغلظة واحتقاراً ، فنظرت فلم أرهم أهلاً لأن يُدنوا لشر لهم ، ولم أر أن
يُقصوا ويجفوا لعهدهم. فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة ، في غير
أن يُظلموا. ولا تنقض لهم عهداً. ولكن تفرغ لخراجهم ، وتقاتل من ورائهم ، ولا يؤخذ
منهم فوق طاقتهم ، فبذلك أمرتك والله المستعان. والسلام ».
إن هذه المهمات التي نهض بها الإمام في
التتبع والإستكشاف ومعاجلته لها بما رأيت ، تكشف عن مدى حرصه على نشر العدل ، وحفظ
الأمن ، وتوخي الأمانة. ومع هذا فلم يكن بمأمن من الدسائس حتى على صالحي عماله ،
فهذا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في
ثقته وأمانته وصلاحه
، يزوّر عنه معاوية كتاباً يظهر له فيه الولاء ، ويدسّه معاوية إلى الكوفة ،
فيطالب الناس الإمام بعزل قيس دون رويّة ، وهو بمنزلة عند الإمام ما بعدها منزلة ،
ويعزله الإمام ـ ربما لولاية أعظم ، ومنصب أجل ما يدرينا ـ يعزله بمحمد بن أبي بكر
فيصلَ إلى مصر ، ويأمره الإمام بقتال من لم يكن على الطاعة ، فيناجزهم محمد الحرب
، وينهزم جنده ، ويضطرب عليه أمر مصر ، فيعزله الإمام بالأشتر ، ويرحل الأشتر ،
وما كاد يصل إلى القلزم حتى ائتمر معاوية على الأشتر ، ويدس إليه السم بالعسل
فيموت الرجل في دار غربة ، ويقول معاوية : إن لله جنوداً من عسل.
ويعبىء معاوية جيشه لمصر بقيادة عمرو بن
العاص ، ويثبتّ الإمام ابن أبي بكر في ولايته ، ويدعو أهل الكوفة لنصرته ، فما
لقيت دعوته استجابة ، ودخل ابن العاص مصر ، وخاض محمد حرباً فاشلة ، فقتل محمد
وأحرقت جثته في جلد حمار. واحتاز معاوية مصر ، فتوسعت دولته ، وضعفت دولة الإمام.
وقد سأم الإمام هذا التواكل من أصحابه ،
وعتب عليهم هذا التواني عن نصرته ، وقد شقت عليه هذه المفارقات ، فالغارات على
أطراف العراق متوالية ، والخوارج في استنفار يتبع بعضه بعضاً ، والولاة بين محتجن
للمال وبين رعديد جبان ، ومعاوية يستثمر كل هذا الاضطراب ليثبت سلطانه ، والإمام
يدعو الناس إلى الجهاد فلا يستجيبون له.
وحين طفح الإناء ، وبلغ التقصير حد
الإخلال ، إستنفر الإمام الناس ، وخطبهم مصمماً على خوض الحرب بالصفوة من أنصاره ،
وبالبقية من المخلصين ، إن لم يستجب الأكثرون ، وقال :
« أما بعد : أيها الناس ، فإنكم
دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردّكم عنها. ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم
إياها ، فتوثب عليّ متوثبون كفى الله مؤونتهم ، وصرعهم لخدودهم ، وأتعس جدودهم ،
وجعل دائرة السوء عليهم. وبقيت طائفة تحدث في الإسلام حدثاً ، تعمل بالهوى وتحكم
بغير الحق ، ليست بأهل لما ادعت. وهم إذا قيل لهم تقدمّوا قدماً تقدمّوا ، وإذا
أقبلوا لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل ، ولا يُبطلون الباطل كإبطالهم الحق.
أما أني قد سأمت من عتابكم وخطابكم ،
فبينوا لي ما أنتم فاعلون. فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحبّ ،
وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرَ رأيي. فوالله لئن لم تخرجوا معي
بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين ،
لأدعونَّ الله عليكم ثم لأسيرن إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة. أأجلاف أهل
الشام وأغرّاؤها أصبر على نصرة الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم
وحقكم؟ ما بالكم وما دواؤكم؟ إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة
».
وقد فعلت هذه الخطبة في النفوس ما لم
يفعله أي تحذير وإنذار سابقين ، لأنها بمثابة التهديد النهائي الذي يعقبه التنفيذ
العملي ، فاستجاب الناس استجابة متكاملة ، وأنبّ بعضهم بعضاً على الخذلان ، ودفع
بعضهم بعضاً إلى الجهاد ، وتلاوم زعماء القبائل ورؤساء الأسباع فيما بينهم ،
فأصبحوا اليوم غيرهم بالأمس ، إنها يقظة الضمير بعد طول رقاد ، وإذا بهم يد واحدة
مع الإمام بعد أن شحنوا صدره غيظاً ، وملئوا قلبه قيحاً ، إنها إنتباهة من ضيع
مجده بيده ، فأخذ يتلافى تقصيره
المتعمد بتدبير
وحكمة ومروءة ، وتداعى الناس بعضهم إلى بعض ، وسار فيهم سراتهم ، وتحدث خطباؤهم ،
وتكلم بلغاؤهم ، وقامت النجدة على قدم وساق ، وإنتفظت الحميّة دون تردد ، وتهلل
وجه الإمام فرحاً بهذا الانقلاب الجديد ، واستبشر قلبه سروراً مع هذا التغير
المفاجيء ، فهو يرى النصح في الإستجابة ، وهو يرى الإخلاص من النفير ، فالزعيم
يجتمع إلى أنصاره يحرّضهم على القتال ، والموجّه يدعو أتباعه إلى النضال ، والأخ
يدفع بأخيه إلى التضحية ، والأم تقنع ولدها بالفداء ، والأب يتابع بنيه في
الإستنهاض ، ولم يجتمع العراقيون على الإمام اجتماعهم له هذا الحين ، فالجيش
يتعاقد على المنية ، وشرطة الخميس تبايع على الموت ، والجند بغاية الأهبة
والإستعداد ، والعواطف ملتهبة ، والمشاعر متحفزّة ، وبان للإمام الوجه في هذه
الحرب ، والصدق لدى أصحابه هذه الآونة ، فأرسل زياد ابن حفصة في طليعة من أصحابه ،
وأمره أن يغير على أطراف الشام ، ووجه معقل بن قيس لتعبئة أهل السواد ، واستنجد
أهل البصرة فأنجدوه بعزيمة صادقة ، ودعا أطراف الدولة إلى الإلتحاق بالجيش ،
فتكونت للإمام عدة عظيمة في هذا الشأن ، وتهيأت له الأسباب في السلاح والكراع
والرجال ، فما هي إلا أن تحين الساعة فيزحف زحفة الصادق على الشام ، وإنه لفي هذا
السبيل إذ يأتمر الخوارج مخططين قتله ، فينتقض الأمر.
وستقرأ ذلك فيما بعد ، بعد أن تحيط
خبراً بهموم الإمام ، ومحن الإمام ، وسياسة الإمام ، وهو في هذا المناخ المتناقض
العجيب.
(١١)
ظواهر العدل الاجتماعي عند الإمام تقلب
الموازين
وقد اندلعت العصبية القبلية في عهد
الإمام نتيجة التمييز الطبقي السافر في عصري عمر وعثمان ( رض ) ؛ لا بين اليمانيين
والمضريين أو المهاجرين والأنصار ، أو الأوس والخزرج فحسب ، بل تعدت حدود ذلك إلى
المسلمين من غير العرب ؛ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام بعد الفتوح ، فوجدوا أنفسهم
دائماً في المرتبة الدنيا من الحقوق ، فنجد قادة العنصرية القبلية ، ودعاة
الإرستقراطية العربية ، تنصح أمير المؤمنين بزعمها « يا أمير المؤمنين : اعطِ هذه
الأموال ، وفضلّ هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، وإستمل من
تخاف خلافه من الناس ».
فهم يدعون علياً 7 بدعوى الجاهلية لا الإسلام ، وهم
يريدون تسويغ الغايات بالوسائل الدنيا ، يريدون من الإمام تذليل العقبات بالعطاء ،
وشراء الضمائر بالدراهم ، ومفاضلة بعض المسلمين لبعضهم الآخر بمبررات لا أساس لها
في التشريع ، والإمام بصير بهذه النزعات فيرد عليها :
« أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن
وليت عليه ؛ والله لا أطور به ما سمر سمير ، وما أمّ نجم في السماء نجماً ». وكان
الأمر كما قال ، فلم يفضل عنده قرشي على غيره من العرب ، ولا عربي على غيره
من الموالي ، وما
بررت الغاية عنده الوسيلة ، بل سلك نهج رسول الله القائل في حجة الوداع : « أيها
الناس : إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء ، كلكم لآدم وآدم
من تراب ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ».
بل ذهب الإمام إلى تثبيت العدل
الإجتماعي في سياسته الماليّة ، فقريش كسواها من العرب ، والمهاجرون كالأنصار ،
والمضريون كاليمانيين ، والأوس كالخزرج ، والعرب كالموالي ، وهكذا ، وما استمع إلى
دعاة التمييز بين المسلمين في شيء « فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه إثرة ،
وقد فرغ الله من قسمته ، فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب
الله به أقررنا ، وله أسلمنا ، وعهد نبينا بين أظهرنا ، فمن لم يرض به فليتول كيف
شاء ».
وما رأيك فيمن يقول : « والله لو أعطيت
الأقاليم السبعة ، على أن أظلم نملة في جلب شعيرة ... ما فعلت ».
ومن كان هذا تفكيره فإنه لا يستجيب
للدعوات المنحرفة عن الإسلام في شيء ، وها هو يحكم شرق الدنيا وغربها ، ويأتيه
أخوه الأكبر عقيل بن أبي طالب يستميحه بره ، فيلتفت إلى ولده الإمام الحسن 7 ويقول له : « إذا خرج عطائي فخذ عمك
واشترِ له ثوبين ونعلين » ويلحف عقيل عليه في السؤال ، ويلحّ في الإستزادة فيحمي
له حديدة يدنيها من جسده ، أو ينيلها إياه في يده ، وعقيل كفيف لا يبصر ، فيهوي
إليها فيحترق بميسمها ، ويخور خوار ذي دنف.
وها هو خليفة الله في أرضه يخرج إلى
السوق مع غلامه قنبر ، فيشتري ثوبين فحسب ، يزّين بألينهما وأحبهما غلامه ، لأنه
في ميعة
الصبا وعنفوان
الشباب ، فينبغي أن يتجمل!! أما هذا الشيخ الفاني فقد أعرض عن الدنيا وأعرضت
الدنيا عنه.
يتولى أمير المؤمنين الحكم ، ويخضع
المتمردين ، ويجلس وحده في فناء ما يخصف نعله ، فيدخل عليه ابن عباس فيبادره
الإمام : ما تساوي هذه النعل يا ابن عباس؟ فيقول لا تساوي شيئاً ، فينبري الإمام :
لخلافتكم أزهد عندي من هذه النعل. طبعاً وقطعاً ، فالحكم ليس غاية عند الإمام بل
هو وسيلة إلى تطبيق قانون السماء في الأرض يقيم الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ،
ويدفع الباطل ما وجد على ذلك أعواناً.
كان يأخذ نفسه بالشدة ، ويأخذ أهله
بالشدة ، تتزين إحدى بناته بعقد ثمين تستعيره من بيت المال إعارة مضمونه ، فينتزعه
ويرجعه إلى بيت المال مع لوم وتقريع لهذه الصبية ، وعتب وتأنيب لابن أبي رافع خازن
بيت المال ، فلا يعود إلى ذلك أبداً ، ولا تعود الفتاة له أبداً. أليس هو القائل :
« وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى ، لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر ، وتثبت على جوانب
المزلق ».
يجمع كسر الخبز وأطرافه في جراب معلوم
ويختمه ، فيسأل عن ذلك ، فيقول : أخشى هذين الغلامين ، يعني الحسن والحسين ، أن
يلتّاه في سمن أو عسل.
وهو القائل : « والله لو شئت لاهتديت
الطريق إلى مصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن
يقودني هواي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ،
ولا طمع له في القرص ».
وفي شدة الصيف ، ووقدة القيظ يصوم شهر
رمضان فتقدم له ابنته
طبقاً فيه قرص من
شعير ، وقدح من لبن ، وحفنة من جريش الملح ، فيقول لها :
تريدين أن يطول وقوف أبيك بين يدي الله
، تقدمين له أدامين في طبق واحد؟
ثم يختار الخبز والملح ويعزف عن اللبن.
إنها الشدة في ذات الله ، والتسليم
للقناعة ورضا الله ، وحمل النفس على الزهد ، وهي في الوقت نفسه المثل العليا التي
قلّ أن نجدها عند أحد ، وقد لا نجدها ، لأننا لا نقدر عليها ، أليس هو القائل
الصادق :
« إلا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه
بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع
واجتهاد وعفة وسداد ».
وهذا عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على
البصرة ، يدعى إلى وليمة فيجيب ، ويسمع علي بذلك فيكتب إليه :
« أما بعد فقد بلغني أن رجلاً من فتية
أهل البصرة ، قد دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك
الجفان ، وما كنت أظنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوَّ ، وغنيهم مدعوٌ ». وتستطلع
إلى هذه الدعوة فتجدها « كراعاً ورأساً » ليس غير ، تجر نقمة الإمام وتقريعه ،
وتستدعي غضبه وتأنيبه ، لأن هؤلاء القوم يجفون الفقراء ويدعون الأغنياء ، ثم لا
يقف الإمام عند هذا وحده ، حتى يبين لواليه الحكم الشرعي : « فانظر إلى ما تقضمه
من هذا المقضم ، فما إشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه ».
ولك أن تسترسل في سيرة هذا الرجل
وإستقامته ، وتنظر إلى تحرجه وتأثمه ، وتتوغل في تورعه وتشدده ، وتتردد إلى
محاسبته لنفسه ومراقبته لها ، يستسهل الصعب ، ويتوخى العسر فيما فرض عليها ، وما
استن لها من ضروب الترويض : « ولئن أبيت على حسك السعدان مسهداً ، أو أجرّ في
الأغلال مصفداً ، أحب إلي من أن ألقى الله ، وأنا ظالم لبعض العباد ، أو غاصب لشيء
من الحطام ».
ولا كبير أمر في ذلك تستغربه عند الإمام
، وإن استغربته عند سواه ، فليس للظالم في مسيرته ظل ، ولا للحيف في معجمه مفهوم ،
وإنما هو منهج الرسول 6
مثلاً أعلى وقدوة حسنة.
وقد كان أمير المؤمنين محتاطاً لنفسه ،
ومحتاطاً لدينه ، ومحتاطاً للمسلمين ، أخذ نفسه بمعالي الأمور وابتعد عن صغائرها ،
زهداً وتقشفاً وعبادة
« لقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من
راقعها ».
لم يجنح إلى الترف ، ولم يمل إلى اللين
وخفض العيش ، اخشوشن في ذات الله ، وضحّى في سبيل الله ، ونصب نفسه علماً لدين
الله ، ما وقف بين أمرين إلا اختار أصعبهما مراماً ، وأصلبهما شكيمة ، ما أراح
نفسه قط ولا إستراح.
وكان محتاطاً لدينه ، فقد أدى الأمانة
بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها ، لم يرزأ المسلمين شيئاً في مالهم ، ولا تناول من
فيئهم إلا بقدر زهيد شأنه فيه شأن الآخرين لا أكثر ولا أقل ، فلم يصبُ إلى تزيد أو
كفاية ، ولم يحاول توسعاً أو إضافة ، وكانت قبل خلافته يقوم على أرض بينبع ، يلتمس
من عيشها الكفاف ، ويصرف ما فضل في فقراء بني
هاشم ، وينفق ما
تبقّى في احتياجات إخوانه من المؤمنين ؛ حتى إذا نهض بالأمر كان واحداً من أدنى
المسلمين ـ وهو أميرهم ـ له ما لهم من حقوق ، وعليه ما عليهم من واجبات ، تحقيقاً
لمبدأ العدل السياسي المفقود ، وتنفيذاً لمبدأ العدل الأجتماعي المنشود.
واحتاط للمسلمين ، فلم يطلق أيدي عماله
في الغنائم ، ولم يخولهم تخويلاً مطلقاً في الحكم ، وإنما أخذهم بكثير من الجدّ
والحزم ، وشدد عليهم في الرقابة والحساب ، يستمع إلى شكوى الرعية ، ويقتص لهم من
عماله ، ويتفقد الشؤون العامة بنفسه ، فكان الله بذلك رقيباً عليه ، وهو رقيب
عليهم ، يثيب المحسن ، ويعاقب المسيء ، حتى إذا لمس من أحدهم خيانة أو جناية أخذه
بها أخذ الناظر الحثيث كما رأيت فيما سبق.
وكان أمير المؤمنين إلى جنب ما تقدم ،
رجلَ مجابهة وتحدٍ ، ورجلَ تمهل وأناة ، رجل مجابهة حين تتهيأ له الأسباب وتواتيه
الظروف ، ورجل أناة حين يغدر به الحدثان ولا يصفو له الزمان. وهو بين هذين يضع
الأمور في مواضعها ، لا يخرجه تحديه عن القصد ، ولا يسلمه تمهلّه إلى الضياع ،
ينظر بعين الناقد البصير إلى الأحداث فيما حوله ، فيجيل فيها فكره ، ويتبعها
بنظرته الثاقبة ، فلا يحيد عن المنهج الذي رسم لنفسه قيد أنمله قط ، مترصداً بذلك
مرضاة الله تعالى في اليسر والعسر ، لم يقعده عن الحق تفرق الناس عنه ، ولم يوقعه
في الباطل اجتماع الناس عليه ، يأنس بالوحدة لأنها تذهب به إلى التفكر في ذات الله
، ويرغب بالعزلة لأنها تذكره بما وراء الطبيعة. وقد يلم بالناس إلماماً للقيام
بأمر الله « لا يزيدني اجتماع الناس حولي عزاً ، ولا تفرقهم عني وحشة ». ولم يكن
منقطعاً إلى ذاته ، أو مغترباً في حياته ، وإنما كان
بين الناس في
فرائضهم ومجالسهم وأسواقهم وحياتهم العامة ، يوجه هذا ويرشد ذاك ، ويستمع إلى
هؤلاء ويعني بأولئك ، والوازع هو الوازع لا يتغير ولا يحيد ، الحياة لله في السر
والعلن ، والنصح للمسلمين في الشدة والرخاء ، والعمل بالكتاب والسنة شاء الناس أم
أبوا ، لا يخدعه خادع عن مسلكه هذا ، ولا يغتّر به مغتّر فيقترح غير هذا ، فقد عرف
نفسه فعرف ربه.
وهذا الرجل في قيادته للأمة يعود
بالسياسة إلى عهد رسول الله 6
نقية خالصة ، لا تشوبها شائبة ، طريقها واضحة ، وأعلامها شارعة ، لا التواء فيها
ولا اعوجاج ، ولا أمت ولا انحراف ، يسلك سبيله فيها سبيل القادة الأفذاذ ، فلا دجل
ولا زيف ، ولا إيهام ولا إبهام ، ولا زيغ ولا غموض ، يجريها على سننها فشل فيها أم
نجح ، فهي أداة للحق ومسرجة للهدى ، والحق والهدى يبصران ، ودونهما رقيب من الله ،
وإيحاء من الضمير الحي المتيقظ ، فلا الضلال يقيم الهدى ، ولا الباطل يحيف الحق ،
وإنما هو القصد والاعتدال يصاحبهما الصدق والوضوح ، فلا لبس ولا شبهة وإن حققا
نفعاً موقوتاً لأن النفع الموقوت زائل ، وتبقى صحائف الأعمال قائمة.
ليس لدى الإمام في هذا المذهب تفكير
السياسيين التقليديين القائم على أساس التسوية والغاية ، فهذان أمران مرفوضان
تأباهما له صرامته في الحق ، وعدالته في المسعى ، الحق وإن جحد والمسعى وإن أخفق.
ولماذا هذا ، وكل هذا ، الإمام يفلسف ذلك : « قد يجد الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة
، ودونها حاجز من تقوى الله ، فينتهزها من لا حريجة له في الدين ».
ولا أعلم أحداً في العرب سبقه إلى
استعمال مادة « الانتهازية »
بمعناها الدقيق كما
استعملها في هذا النص. ومن هنا نجد قوله فيصلاً في الحكم رداً على المتنطعين :
« والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه
يغدر ويفجر ، وكل فجرة غدرة ، وكل غدرة كفرة ، وكل كفرة في النار ».
الدهاء في منطق الإمام هو الحكمة التي
لا تستطال بفسق وفجور ، فالفاجر غادر ، والغادر كافر ، والكافر في النار.
ولا يستقيم لأول القوم إسلاماً ،
وأقدمهم إيماناً أن يسلك هذا النهج ؛ كيف وقد تربى في حجور الإيمان ، وترعرع في
ظلال الوحي ، وألهم معالم القرآن.
السياسة الواضحة عند الإمام ، كتب لها
النجاح إيمانياً ، وكتب لها الخلود تأريخياً ، ففي سيرة هذا الرجل من الأمثال ما
لم يتهيأ لأحد من الناس ، وقد يقال بأنها أخفقت ، وقد يصح هذا القول عكسياً ، لأن
أمير المؤمنين كان يريد أن يعود بالناس إلى عهد رسول الله ، وكان عهده قد استطال
عليه الزمان ، ومرت بالناس ظروف وأحداث وأزمات التمسوا فيها الرفاهية واللامبالاة
، فمن العسير انقيادهم لهذا الرجل العائد بهم إلى عهود الدين ، وقد حثت الأحداث
بهم السير نحو شؤون الدنيا ، فهم عن الدين أبعد ، وهم إلى الدنيا أقرب ، وإذا كان
الأمر كذلك ، فهم الذين أخفقوا في الانقياد لسياسة الإمام ، ولم تخفق سياسة الإمام
لعدم انقيادها إليهم.
نموذجان بسيطان أضعهما بين يدي الباحث
الموضوعي نموذج خاص ، ونموذج عام ، على سلامة هذين النموذجين وبراءتهما ، تجد أن
سياسة الإمام الخاصة بذاته وبأمته سياسة أنبياء وأوصياء ، لا سياسة أشدّاء
وأدعياء.
كان عدل الإمام واسماحه وتواضعه وإسجاحه
شاملاً متسعاً لا يضيق بذلك صدره ، فقد دعا إليه غلامه مرة فلم يجبه ، ودعاه
ثانياً فلم يجبه ، وناداه ثالثاً فلم يجبه ، فقام الإمام 7 فرآه مضطجعاً ، فقال : ألم تسمع يا
غلام؟ فقال : نعم ، قال 7
: فما حملك على ترك جوابي؟ قال : آمنت عقوبتك فتكاسلت ، فقال 7 أمض فأنت حر لوجه الله تعالى.
السياسي التقليدي قد يقتل هذا الغلام ،
وقد يأدبه أو يسجنه أو يعزله من الخدمة ، أما الإمام فقد حرره لوجه الله تعالى.
وهذا نموذج خاص في السياسة ، ونموذج عام
بسيط مثله :
دخل على أمير المؤمنين اثنان من أصحابه
، ولعلهما طلحة والزبير قبل نكث البيعة ، والإمام في بيت المال ، وبدءا يحاورانه
في شيء من شؤونهما ، فيطفىء الإمام السراج ، ويخرج بهما بعيداً عن بيت المال وإلى
داره ، لأن زيت السراج يتقد من أجل مصلحة أو منفعة لبيت مال المسلمين ليس غير.
وهما في مسألة قد تكون خاصة فيهما ، فليذهب عليٌّ بهما إلى خارج هذا المقر الرسمي
، وليكن لهما ما شاءا ، أما أن ينفق وقته معهما على حساب هذا الزيت ـ وإن كان
ضئيلاً ـ فليس إلى ذلك سبيل.
ووجد القادمان أن لا حياة لهما مع
الإمام في هذه السياسة.
وكان رحيماً بالمسلمين رؤوفاً بهم ،
عطوفاً عليهم ، يبسم لهذا ويهش لذاك ، يواسي أهل العوز والفقر والفاقة ، ويجالس
المضنى والمتعب والمستفيد ، ليس بينه وبين الرعية حجاب ، قائماً بشؤونهم : في
الصلاة إماماً ، وعلى المنبر خطيباً ، وفي الحروب متقدماً ، ولدى
الأسواق آمراً
بالمعروف وناهياً عن المنكر ، حاملاً درتّه حيناً ، ومخصرته حيناً آخر ، تالياً
لقوله تعالى : ( وَيلٌُ لِلمُطَفِّفِينَ ) في عدّة آيات.
وكان عنيفاً مع رحمته ، وشديداً مع رقته
، لا يعطل لديه حدّ ، ولا يتهاون في فرض ، ولا يتجافى عن سنة ، وهو إلى ذلك يدبر
أمور هذه الدولة المترامية الأطراف ، ويتابع شأن هذه النفوس المتشتة الأهواء ،
يخوض المشكلات خوضاً مباشراً ، يرتق هذا الفتق ، ويصلح ذاك الخرق ، وهو يجاري من
أصحابه من لا يجارى ولا يدارى إلا بعسر ومرارة ، وهو يتجرع الغصص ويسيغ الشجا ،
عالماً بأنها أيام سينقضي بؤسها وشرها ، ويبقى خيرها وأجرها ، فعنده « الدهر يومان
: يوم لك ويوم عليك ، فإذا كان لك فلا تبطر ، وإن كان عليك فاصبر ، فكلاهما سينحسر
».
وهؤلاء المعارضون من ناكثين وقاسطين
وخوارج ، والمتمردون من انتهازيين ونفعيين وأصحاب مطامع ، تجمعوا عليه من كل صوب
وحدب لا لأمر نفسوا به عليه ، ولا لموجدة أُحتقبت بحقهم ، ولكنها الأهواء
المتناثرة ، والأحقاد المتأصلة ، والأهواء لا سيطرة عليها ، والأحقاد لا سبيل
لاقتلاعها ، ولكنه يعاملها جميعاً بأناة الحكيم ، ويترصدها بعقلية القائد المتلبث
ريثما تنجلي الغبرة ، ينفس عنها شيئاً فشيئاً ، ولكنها بمجموعها المتزاحم ،
وبزخمها المتراكم تبقى في النفس ألماً ، وفي القلب جراحاً ، وما أكثر آلام الإمام
، وما أبلغ جراحه.
وهذا السواد الأعظم ، في تناقض نزعاته ،
وعجيب أولاعه ورغباته ، وكثرة خروجه ونزعاته ، مناخ غوغائي مستفيض ، لا بد من
مداراته حيناً ، وضبطه حيناً آخر ، وتوجيهه بعض الأحيان ، وهم همج
رعاع يتبعون كل ناعق
، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
هؤلاء السواد الذين تحركت في نفوسهم
النخوة ، وعادت إليهم الجاهلية ، فالثأر من جهة ، والأحقاد من جهة أخرى ، وتضييع
النظام الإسلامي والشرع الجديد بين عشية وضحاها كل أولئك عقبات في طريق المسيرة ،
ولكنه يذللها بحكمته ، ويتداركها بعظيم حنكته وسياسته ، فهو إذن في جهد دائم مضني
، وعمل دؤوب مستمر ، والحبل على الغارب ، فالمشاكل آخذة بالازدياد ، والمستجدات
بغير حساب.
وإن تعجب ، ولا ينتهي العجب في سيرة هذا
الرجل العملاق ، إدعاؤهم « الدعابة » فيه ، إذ لم يجدوا عليه مطعناً ، ولم يصلوا
إلى مغمز ، فأخذوا عليه يسره وإسماحه ، واستوحشوا نبله وأخلاقه ، فقد كان رقيق
الحاشية ، ليّن الجانب ، طيّب المعاشرة ، دون غلظة أو جفاف أو قسوة ـ شأن الأولياء
الصالحين ـ يهش لهذا أو يبسم لذلك ، مع شدة هيبته ، وجلالة وقاره وسمته ، فقال
عمرو بن العاص أن في علي دعابة « لقد زعم ابن النابغة أن فيّ دعابة ، وأنني رجل
تلعابة ».
وما كان عليّ 7 هازلاً يوماً ، ولا لاعباً أو عابثاً
حيناً ما ، فجدّه وحزمه يأبيان هذا الإتهام الفضفاض الذي لم ينخدع به أهل البصائر
، فما وجد أذناً صاغية حتى عند سواد الناس ، ولكنه كان خاشعاً متواضعاً مع خشية
الله لا جبروت في نفسه ، ولا طاغوت في حكمه حتى قال من وصفه « كان بيننا كأحدنا ،
وكنا لا نكلمه هيبة له ». وقد صدق ضرار ( ضمرة ) بن أبي ضمرة حينما وصفه لمعاوية :
« كان والله شديد القوى ، بعيد المدى ،
ينطق فصلاً ويحكم عدلاً ». وشدة قواه ، وبعد مداه ، لم يسمحا له بدعابة ، ونطقه
الفصل ،
وحكمه العدل ، لم
تتهيأ بهما له الفكاهة ، ولكنها الاعتداءات التي لا تستند إلى المنطق ، فتسحق
الضمير والنزاهة والعفاف. وأنى تستقيم هذه الدعوى ، ولا بينة عليها ولا شواهد في
قول ولا عمل ، وهو القائل في نصيحته لولده الإمام الحسن :
« وإياك أن تذكر في الكلام ما كان
مضحكاً ، وإن حكيت ذلك عن غيرك ».
وليتهم وصفوة في جديته وصرامته وخشونته
لوجدوا إلى ذلك سبيلاً ، ولكنهم ألصقوا به ما هو بعيد عنه بعد السماء عن الأرض ،
اللهم إلا صفاء المؤمن ، وسلامة الورع التقي ، ومرونة العارف بعواقب الأمور ، فلا
تبطره الدولة ، ولا تطغيه السلطة ، وإنما هو رجل من الناس لا يتعالى ولا يتطاول ،
قد خفض جناحه للمسلمين ، وألان أكتافه لعامة الناس في دعة وتواضع ، في رقة من لهجة
، وبسمة من ثغر ، وطلاقة من محيا.
وهذا كله شيء ، والدعابة المدعاة شيء
آخر.
وظاهرة أخرى ؛ فمتى بسم الدهر لعلي 7 حتى يستخّفه الأنس مع الحاضرين ، ومتى
سالمه حتى يجد السبيل إلى البطالة والفراغ ، ومتى سايره حتى يساير هذا النمط من
العاطلين ؛ وإنما هي المحن والفتن التي واجهها بالصبر والجلد والثبات ، مشمّراً عن
ساعد الجهاد ، وداعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة شأنه في ذلك شأن
الشهداء والصالحين والصديقين ، وحسن أولئك رفيقاً.
(١٢)
المهمات القيادية السياسية والتعليمات
العسكرية لأمير المؤمنين
وكان عليٌّ 7 في تدبيره سياسة الدولة ، لا يكافح
العصبية القبلية وحدها ، ولا يسوي القضية المالية فحسب ، ولا يعالج النفوس
المتشتتة ليس غير ، وإنما أراد أن يعود بالإسلام إلى ينابيعه الأولى في عهد النبي 6 وقد ابتعد الناس عن هذا العهد طيلة
ثلاثين عاماً ، ومهمة العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح مهمة شاقة ، فقد اعتاد
الناس حياة البذخ والترف ، وقد بدأت الدنيا تقترب منهم أو يقتربون منها ، بدأ حب
الجاه والسلطان يشق طريقه إلى قلوب القوم ، وبدأ حب المال يسيطر على التفكير ، وبدأت
الطباع جافة غليظة متغطرسة ، واستبد بالمسلمين الميل إلى الدعة ، والرضا بالهوان ،
وكان لا بد للإمام أن يصلح هذا كله ، وأن يتدارك هذا كله ، وقد بدأ الإصلاح
والتدارك بسيرته الذاتية ، فكان أحد المسلمين وإن كان أميرهم ، فلم يستأثر بفيء ،
ولم يمل إلى رفاهية ، ولم يتكلف سعة ، بلف ضيّق على نفسه وأهله وولده كل التضييق ،
ليتأسى به الفقير ولا يزري به فقره ، وكان حريضاً أن يشيع العدل بين الرعية فساوى
بالعطاء ، ولم يجامل أحداً بالحباء ، وهو بين هذا وذاك يتفقد أهل الحاجة ، ويطعم
الجائعين بنفسه ، ويتعهد ذوي العوز تعهداً حثيثاً ، وقد صدّق بهذا عمله قوله :
« أأقنع من نفسي ،
بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أكون لهم أسوة بجشوبة العيش ومكاره الدهر ».
وكان يخلو إلى نفسه آناء الليل وأطراف
النهار متهجداً مصلياً مناجياً ربه ، فما إن يؤدي ما عليه للمسلمين ، حتى يتفرغ
للعبادة تفرغاً تاماً ، وهو يقول : « إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في
جنتك ، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك ».
وهكذا تكون عبادة الأحرار ، قوة قلب
وبصيرة نافذة. فإذا لاحت زبارج الدنيا خاطبها : إليك عني يا دنيا غري غيري فحبلك
قصير ».
وكانت هذه الشخصية الزاهدة يقظة متحركة
صامدة تجمع إلى الزهد القوة والإدارة فكان تدبير الجيوش ، وإدارة شؤون الأقاليم ،
وإلزام الأمراء والعمال والولاة بجوهر تعليماته الخالدة ، من أشتات مهمات الإمام
التي جمعها الله له سيرة وقيادة ، فأعذر في التبليغ ، وأحسن صروف الآراء ، وبذلك
جعل دولته نموذجاً فذاً للحكم الإسلامي الخالص الذي إتسم بالقوة والإسماح بوقت
واحد ، ونأى عن الطغيان والجبروت والأثرة ، فقد التزم الإمام 7 معايير التدبير المنظّم ، وأنس معالم
التنظير الدقيق ، كل ذلك يجيء بعد فوضى في الحكم ، وعنتٍ من السلطان ، وتباين في
الأهواء والآراء ، وطبيعي أن إمساك الأمر بروية وأناة في مثل هذه الظروف ينبعث عن
حكمه متناهية.
فمن وصية له 7 لعسكره بصفين قبل لقاء أهل الشام ينهى
فيها عن البغي ، ويمنع من قتل المدبر ، والإجهاز على الجريح ، ويأمر فيها بالتريث
في الحرب وعدم الابتداء بها ، ويلزم جنده بالتغاضي عن تهييج النساء ، وإن سببن
الأمراء أو شتمن الأعراض ، مما يعد منهجاً حربياً متميزاً ، قال :
« لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم ، فإنكم بحمد
الله على حجة ، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة
بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ، ولا تصيبوا معوراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا
تهيجوا النساء بأذى ، وإن شتمن أعراضكم ، وسببن أمراءكم ، فإنهن ضعيفات القوى
والأنفس والعقول ؛ إنا كّنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات ، وإن كان الرجل
ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة ، فيعيّر بها وعقبه من بعده ».
وهذه السنن الحربية التي خطط لها الإمام
تنطلق من مبدأ الدفاع عن النفس ، ولا تنجرّ إلى إرادة شهوة الحرب ، وتنبعث من صميم
تعاليم الرسول الأعظم 6
في العفو والتغاضي ، وتنسجم وطبيعة النظام الإسلامي في التوصل إلى معالي الأمور ،
والابتعاد عن توافه الأغراض.
ولك في هذا المجال أن تنظر في وصيته
لأحد قواد جيشه وهو معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة
له :
« اتقِ الله الذي لا بد لك من لقائه ،
ولا منتهى لك دونه ، ولا تقاتلن إلا من قاتلك ، وسرّ البردين ، وغور بالناس ،
ورفّه في السير ، ولا تسر أول الليل فإن الله جعله سكناً ، وقدره مقاماً لا ظعناً
، فأرح فيه بدنك ، وروّح ظهرك ، فإذا وقفت حين ينبطح السحر ، أو حين ينفجر الفجر ،
فسر على بركة الله. فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطاً ، ولا تدنُ من القوم دنوَ
من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب الناس ، حتى يأتيك أمري.
ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار إليهم ».
وهذه الوصية النادرة جامعة لشؤون تدبير
الجيش المقاتل في مراقبة الله وتقواه ، وفي مسيرة وحركته وتوقفه عند مقامه ولدى
ظعنه ، وفي اتخاذ الموقع المناسب دون الاقتراب الذي يؤدي إلى الحرب ، ودون التباعد
الذي ينم عن الخور والضعف ، وأن تتحكم الضمائر دون الأحقاد ، فلا يدعو الشنآن إلى
القتال قبل الدعوة إلى السلم ، والإعذار في الدعاء.
هذه التعليمات لم تتجاوزها التعليمات
الحربية العادلة القائمة على أسس الدراسات العسكرية المتطورة في الحروب العالمية
العامة.
والإمام لا يقف عند هذا الحد من التوجيه
الناهض ، بل يتعداه إلى الإنضباط العسكري الدقيق في تقويم أمراء الجيوش ، واختيار
الأصلح من قواد الحرب ، وإناطة القيادة العامة بالأكفاء من ذوي الخبرة والدراية
بشؤون الحرب ، فهو يضع الأمور في نصابها ، ويعطي كل ذي حق حقه ، آخذاً بالحزم ،
وصادعاً بالحقائق دون محاباة لأحد. فمن كتاب له 7
إلى أميرين من أمراء الجيش ، وقد أمرّ عليهما مالكاً الأشتر ، قال : « وقد أمرّت
عليكما وعلى من في حيّزكما مالك بن الحارث الأشتر ، فأسمعا له وأطيعا ، واجعلاه
درعاً ومجناً ، فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ، ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم
، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل ».
ويتجاوز الإمام 7 هذه الحدود إلى اختيار الموقع العسكري
الأمثل ، والتدبير الحربي الأسلم ، والزمان القتالي الأولى ، فيرسم بذلك الخطط
السليمة ، ويهيىء الفرص المتكافئة ، ويوجه نحو الإعتصام والمنعة ، ويحذر من
الأنقسام والفرقة. فمن وصية له 7
وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو ، قال :
« فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم ، فليكن
معسكركم في قُبُل الاشراف ، أو سفاح الجبال ، أو أثناء الأنهار ، كيما يكون بكم
ردءاً ، ودونكم مردّاً ، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين ، وأجعلوا لكم رقباء
في صياصي الجبال ، ومناكب الهضاب ، لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافةٍ أو أمن.
واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم ، وعيون المقدمة طلائعهم ، وإياكم والتفرق ، فإذا
نزلتم فانزلوا جميعاً ، وإذا ارتحلتم إرتحلتم جميعاً ، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا
الرماح كفة ، ولا تذوقوا النوم إلا غِراراً ، أو مضمضمة ».
فإذا قامت الحرب على ساق ، والتقت حلقتا
البطان ، وجدت علياً على رأس الجيش ، وذو الفقار بيده ، وهو يقول : « اللهم إليك
أفضت القلوب ، ومدّت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، ونقلت الأقدام ، وأنضيت الأبدان.
« اللهم قد صرح مكنون الشنّان ، وجاشت
مراجل الأضغان ، اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا ، وكثرة عدونا ، وتشتت أهوائنا.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ».
وهذا المجال متسع في إدارة الإمام العسكرية
، وما أوردناه كان على سبيل المثال والتنظير ، ليقاس عليه ما سواه :
وإذ انتهى علي 7 من هذا بقي عليه تدبير شؤون الأقاليم
في اصطناع الولاة ، وإدارة اقتصاد البلاد في الصدقات والخراج ، وإقامة سنن العدل
في المواساة والمساواة. وكان الإمام حريصاً على هذه القيم كل الحرص وأشدّه.
فمن كتاب توجيهي لبعض عماله يدعوه فيه
إلى الرفق فيما الرفق
به أجدر ، وإلى
الحزم فيما الحزم به أنفع ، وإلى لين الجانب ، وخفض الجناح ، وبسط الوجه ،
والمساواة بين الرعية حتى في النظرة واللحظة والإشارة والتحية ، لئلا يطمع قوي في
حيفه ، ولا ييأس ضعيف من عدله ؛ ولا ينسى الإمام أن يمتدح العامل بما فيه من
إقامته للدين ، وقمع الأثيم ، وسداد الثغر ، قال 7
:
« أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة
الدين ، وأقمع به نخوة الأثيم ، وأسدّ به لهاة الثغر المخوف.
فاستعن بالله على ما أهمك ، واخلط الشدة
بضغث من اللين ، وارفق ما كان الرفق أرفق ، واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا
الشدة.
واخفض للرعية جناحك ، وابسط لهم وجهك ،
وألن لهم ، جانبك ، وآسي بينهم في اللحظة ، والنظرة ، والإشارة ، والتحية حتى لا
يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييئس الضعفاء من عدلك والسلام ».
وهكذا كان الإمام 7 يراقب عماله ، وينكر عليهم التقصير ،
يعنّفهم حيث يجد العنف بهم أجدر ، ويحرضهم حيث يجد التحريض أجدى ، فمن كتاب له إلى
كميل بن زياد النخعي عامله على هيت ، وقد اجتاز به العدو مغيراً ، أبان فيه ميزان
الحزم والكفاية للوالي ، في حفض ما فيه يديه ، والسيطرة على مصره ، وعدم تكلف ما
كفي ، واليقظة والحذر من الأعداء ، والحرص على هيبة السلطان ، وكسر شوكة العدو ،
قال 7 :
« أما بعد : فإن تضييع المرء ما وُلّي ،
وتكلفه ما كفي ، لعجز حاضر ، ورأي متبر ، وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ،
وتعطيلك مسالحك التي وليناك ـ ليس لها من يمنعها ولا يردّ الجيش عنها ـ لرأي
شعاع ، فقد صرت
جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك ، غير شديد المنكب ، ولا مهيب الجانب
، ولا سادٍ ثغرة ، ولا كاسر لعدو شوكة ، ولا مغن عن أهل مصره ، ولا مجز عن أميره
».
ومن كتاب له 7 إلى قثم بن العباس عامله على مكة ،
يوصيه بالحزم واليقظة ، ويلزمه بالقصد والإعتدال ، بعد أن أعلمه عينه بالمغرب أن
معاوية وجه إلى الموسم طائفة من المخربين ، قال : « فأقم على ما في يديك قيام
الطبيب الحازم ، والناصح اللبيب ، التابع لسلطانه ، المطيع لإمامه ، وإياك وما
يعتذر منه ، ولا تكن عند النعماء بطراً ، ولا عند البأساء فشلاً. والسلام ».
وقد بلغته عن بعض عماله بعض الهنات في
احتجان المال ، وتجريد الأرض ، وخيانة الأمانة ، فكتب إليه محذّراً ومنذّراً
ومحاسباً :
« أما بعد : فقد بلغني عنك أمر إن كنت
فعلته فقد أسخطت ربك ، وعصيت إمامك ، وأخزيت أمانتك ، بلغني أنك جردت الأرض فأخذت
ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فأرفع إليّ حسابك ، واعلم أن حساب الله أعظم
من حساب الناس والسلام ».
وكان الإمام 7 حريصاً على توجيه عماله الوجه الذي
يريده الله ، رأفة بالرعية ، ورعاية لسنن العدل ، فطالما كان يوصي عماله على
الصدقات بوصايا جليلة منها :
« انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له
، ولا تروعّن مسلماً ، ولا تجتازن عليه كارهاً ، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في
ماله ، فإذا قدمتَ على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم
بالسكينة والوقار ، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ... ».
والإمام 7
يوضح لعامل الصدقة في الصدقات حق الله وحق الناس وحقه ، فلا يتجاوز ذلك مستهيناً
بالأمانة ، أو راتعاً في الخيانة ، فمن ذلك قوله 7
:
« وإن لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً
، وحقاً معلوماً ، وشركاء أهل مسكنة ، وضعفاء ذوي فاقة ، وإنّا موفوك حقك ، فوفهم
حقوقهم ، وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة ، وبؤسي لمن خصمه عند
الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل. ومن استهان
بالأمانة ، ورتع في الخيانة ، ولم ينزه نفسه ودينه عنها ، فقد أحلّ بنفسه الذلّ
والخزي في الدنيا ، وهو في الآخرة أذلّ وأخزى وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة ،
وأفظع الغش غش الأئمة ».
ولم يكن الإمام 7 متهاوناً في فروض الدين ، ولا متسامحاً
في سنن العبادة ، بل كان حدباً على إقامتها ، مشفقاً من إضاعتها ، يوصي بذلك أمراء
البلاد ، وقادة البعوث ، وولاة الأمور. فمن كتاب له في معنى الصلاة إليهم يقول :
« أما بعد فصلوا بالناس الظهر حين تفيء
الشمس مثل مريض العنز ، وصلوا بهم العصر والشمس بضاء حية في عضو من النهار حين
يسار فيها فرسخان ، وصلوّا بهم المغرب حين يفطر الصائم ويدفع الحاج إلى منى ،
وصلّوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل ، وصلّوا بهم الغداة والرجل
يعرف وجه صاحبه ، وصلّوا بهم صلاة أضعفهم ، ولا تكونوا فتانين ».
ولم يكن الإمام ليحتجن الرأي لنفسه ، أو
يحتجز السر لذاته ، بل يشارك قيادته بذلك ، ويشاور مستشاريه به ، ويعرضه على ذوي
الرأي
السديد ، وطالما
نجده يعرض على أمراء الجيوش ما فيه تقويم الجيش ، ومن ذلك قوله :
« ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم
سراً إلا في حرب ، ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم ، ولا أدخر لكم حقاً عن محله ،
ولا أقف به دون مقطعه ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء ، فإذا فعلت ذلك وجبت لله
عليكم النعمة ، ولي عليكم الطاعة ، وألا تنكصوا عن دعوة ، ولا تفرطوا في صلاح ،
وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ، فإن لم تستقيموا على ذلك ، ولم يكن أحد أهون عليّ
ممن إعوجّ منكم ، ثم أعظم له العقوبة ، ولا يجد عندي فيها رخصة ».
ويبدو جلياً مما تقدم مدى إحكام الإمام
لأمره ، مع عماله وولاته توجيهاً وأمراً واستصلاحاً ، لا يدع فرصة إلا ويبين بها
مقطع الحق ، ومشرع العدل في ضوء ما أستنه رسول الله 6.
ولعل عهد الإمام إلى مالك الأشتر لما
ولآه على مصر حين اضطرب الأمر على أميرها محمد بن أبي بكر يعد أطول عهد كتبه ،
وأوفاه إدارياً وسياسياً ، وأجمعه للمحاسن.
وهذا العهد من مفاخر التراث الإسلامي في
مصادره ، ومن عيون التراث الإنساني في مقاطعه ، وهو صفحة من صحائف الإمام الخالدة
في إدارة الحكم ، وشؤون السياسة ، وحقوق الراعي على الرعية ، وواجبات الرعية تجاه
الراعي ، وبيان السنن ، وإحكام الفرائض ، وإعمار البلاد ، واستصلاح الناس ، وجهاد
الأعداء ، واختيار الأكفاء ، وإشاعة العدل ، وحفظ النظام ، واستئصال شأفة الضلال.
فقد ولاه الإمام مصر رئيساً لها ، وأناط
به وزارة المالية : « جباية
خراجها ». ووزارة
الدفاع « جهاد عدوها ». ووزارة الداخلية « استصلاح أهلها » ووزارة الزراعة
والإعمار : « عمارة بلادها » في حين لم تكن هذه المصطلحات معروفة ، ولا هذا
الاستيعاب مشاعاً.
ولدى إلقاء الضوء على هذا العهد تجد
الإمام فيه : قد أمر بتقوى الله ، وأن يكسر الوالي من نفسه عند الشهوات ،
و« إشعار قلبه الرحمة للرعية ، والمحبة
لهم ، واللطف بهم ».
فلا يندم على عفو ، ولا يتبجح بعقوبة ،
وأمره بأن ينصف الله والناس من نفسه ومن خاصة أهله ، وليكن أحب الأمور إليه أوسطها
في الحق ، وأعمها في العدل ، وأمره بإبعاد من يطلب معايب الناس ، وأن لا يدخل في
شؤونه بخيلاً ولا جباناً ولا حريصاً وعلل ذلك بأنها غرائز يجمعها سوء الظن بالله.
وأمره بإبعاد وزراء السوء فإنهم أعوان الأئمة ، وإخوان الظلمة. واستخلاص خيرة
الوزراء والحاشية ممن لا أصر له ولا وزر. وأمره بجعل خاصته أهل الورع والصدق ، ولا
يكونن المحسن والمسيء بمنزلة سواء لديه ، ووجهه بالإحسان إلى الرعية وتخفيف المؤن
عنهم ، وتعدي ذلك أن ألزمه بعلية القوم علماً وحكمة « وأكثر مدارسة العلماء ،
ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك
».
وما أوضحه الإمام فيما سبق دستور متكامل
لكل رئيس دولة ، وحاكم أمة بالعدل ، في جعل الله نصب عينه سراً وعلناً ، واختيار
وزراءه وقواده وأمراءه في ضوء ما القى الإمام من ملكات ، واصطفاء الديوان والحاشية
والمرافقين ممن لا وزر فيه ، ولا سوابق مشينة لديه ، وأن يكون ذوو التخصص الدقيق
هم أصحاب الرأي في شؤون البلاد.
وبحث الإمام في هذا العهد أمر طبقات
الرعية ، وأصناف الناس ، وذوي المهن وأرباب الحرف والصناعات ، وأوصاه بكل صنف
وطبقة بما يناسب ذلك ، وجمع هذه الأصناف بقوله 7
:
« واعلم أن الرعية أصناف ، ولا يصلح
بعضها إلا ببعض ، ولا غنى لبعضها عن بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب الخاصة
والعامة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية
والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة
السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة ، وكل قد سمى الله له سهمه ، ووضع على حده وفريضته
في كتابه أو سنة نبيه 6
عهداً منه عندنا محفوظاً ».
ثم بدأ الإمام يفصل القول في حقوق هؤلاء
جميعاً وواجباتهم مما لهم وعليهم ، فيما لم تتوصل إلى مفاهيمه أرقى الأمم ثقافة ،
وأعرق الدول حضارة ، وأكثر المتحضرين سياسة.
ولست بصدد الوقوف على جزئيات هذا العهد
العظيم ، ولا بسبيل بيان كلياته الكبرى ، فهذا مما يطول معه الحديث ، ولا يستوعبه
هذا البحث ، واكتفينا بما ألمعنا إليه ، بما يعد أفضل وثيقه عالمية لصيانة حقوق
الإنسان مما لم يسبق إليه الإمام من قريب أو بعيد.
ولم أكن لأتتبع جميع فصول هذا العهد
الرائع ، ولكنني ألقيت عليك منه بعض الفقرات ، واستخلصت منه جملة من النظرات
لتستكشف ما خفي عليك بما أظهرت ، وتستقرئ منه المجهول ، وتستدل بما ذكرت على ما لم
أذكر.
وأشير هنا أن الاستاذ توفيق الفكيلي ; ، قد شرح هذا
العهد شرحاً وافياً
قبل أكثر من خمسين عاماً ، وسماه « الراعي والرعية » في جزأين ، وقد أحدث إصداره
حينذاك ضجّة علمية ، لما إشتمل عليه من مُثُل وقِيم وأبعاد سياسية. ولا عجب في ذلك
فهو نفحة من نفحات أمير المؤمنين 7
، وجذوة من قبسات أفكاره الرائدة.
هذه هي هموم علي الكبرى ، وتلك هي
تطلعاته الغراء ، في إقامة السنن ، وإرساء دعائم الحكم ، وتشييد أركان السياسة
الإسلامية ، ولكن القدر لم يمهل علياً 7
في استكمال المسيرة وتحقيق الأهداف.
(١٣)
تهذيب النفس الإنسانية لدى الإمام
في إدارة الحكم الإسلامي
ولم تكن تطلعات الإمام القيادية تنحصر
في تدبير الجيوش ، وإعداد البعوث ، وإدارة دفة الحكم ، وتعاهد الولاة والعمال ،
ولكنه كان إلى جنب ذلك معنيّاً عناية خاصة بتهذيب النفس الإنسانية ، وإصلاح الذات
عند المسلمين ، باعتبارهما النواة في خلق جيل جديد يواكب النهج الإسلامي الجديد في
صقل الطباع وتيقظ الضمائر.
تسلم عليٌّ 7 الحكم فواجهته أحداث كبار جرّت إلى
حروب كبار أيضاً ، فقد بُليَ بجبروت الناكثين ، وتهور المارقين ، وطغيان القاسطين
، فعالج ذلك بما رأيت وقرأت.
ودهمته الأثرة وحب الشهوات ، وتطاول
الناس بما فيهم الصحابة أو بعض الصحابة وقسط من أبناء المهاجرين والأنصار إلى المناصب
الرفيعة والولايات الفارهة ، فولّى من له أهلية الحكم ، وعزل من لا يستقيم معه أمر
الدين ، وفجأه إنحراف السلوك الوظيفي للفرد فأراد تقويمه والعودة به إلى الحضيرة
الإسلامية ، وهذا يعني بذل الجهد الإضافي الحثيث ليعادل التوازن ، ويعالج تدهور
الأولاع والرغبات كما يقول علماء النفس.
فينتزع حب المال من النفوس ، وشهوة
الحكم لدى الطالبين ، والتقوقع على الذات عند السواد. فقد بُلي الإمام بطبقة من
الناس تستهويها شهرة الأسماء ـ مضافاً إلى ما تقدم ـ دون النظر في حقائق الأشياء ،
وكان هذ الابتلاء يستوي به عليّة القوم ، وضعفة الرجال ، وأقرب الناس إليه ،
وأبعدهم عنه.
فهذا محمد ابن الحنفية وهو ابنه ، وهو
في الذروة من الورع والحيطة ، قد يستعظم منزلة الزبير ، وسابقة طلحة ، وأمومة
عائشة ، فتمتلكه الحيرة حيناً ، ويذهب به التساؤل حيناً آخر ، فيجبهه الإمام
ببديهة صارمة تصادر الحيرة ، وتجيب عن التساؤل ، ويقول له :
« يا بني إنك ملبوس عليك ، لا يعرف الحق
بالرجال ، إعرف الحق تعرف أهله ».
وكتب إليه عامله على المدينة سهل بن
حنيف يخبره أن طائفة من أبنائها يرغبون عنه ، ويتسللون إلى الشام سراً أو علناً ،
فكتب إليه الإمام يعزيه عن هؤلاء ، وينهاه عن إرغامهم على الطاعة ، وترك الحرية
لهم في التنقل حيث شاؤوا فهم أصحاب دنيا ، لا أصحاب دين.
ويخلص إليه أهل السواد ويقصدون الكوفة
في شؤونهم ؛ فيخلو الإمام إلى رجل من أهل الرساتيق ويسأله عن حال قومه :
« أخبرني عن ملوك فارس كم كانوا؟ ».
فيجيبه الفارسي :
« كانت ملوكهم في هذه المملكة الآخرة
اثنين وثلاثين ملكاً ».
ويريد الإمام أن يقول كلمته لهذا
المجتمع الغارق بأحلامه العابرة ، فيسأله :
« فكيف كانت سيرتهم؟ » فيقول الفارسي :
« ما زالت سيرتهم في عظم أمرهم واحدة ،
حتى ملكنا كسرى بن هرمز ، فأستأثر بالمال والأعمال ، وخالف أولينا ، وأخرب الذي
للناس ، وعمّر الذي له ، واستخفّ بالناس ، فأوغر نفوس فارس ، وثاروا عليه فقتلوه
».
فقال الإمام 7 ، وهو يعني ما يقول :
« إن الله عز وجل خلق الخلق بالحق ، ولا
يرضى من أحد إلا بالحق ، وفي سلطان الله تذكرة مما خوّل الله ».
وعناية الإمام في هذا الجانب تدعوه أن
يذكّر الناس بالآخرة ، وطالما فعل ذلك ، وتدعوه أيضاً إلى تزهيدهم بالدنيا ،
وطالما فعل ذلك أيضاً ، فهو يخطب بالناس في أكثر من موضع وموضع مؤكداً هذا الملحظ
للعودة بالناس إلى الدين ، فقد قال في جملة ما قال من خطبة له :
« أخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل ان
تخرج منها أبدانكم ، ففيها أختبرتم ، ولغيرها خلقتم ، إن المرء إذا هلك قال الناس
ما ترك؟ وقالت الملائكة ما قدّم ».
ولكن القوم قد تمكنت منهم الدنيا ،
فعليّ 7 يريد أن
يدّبر أمر الدين ، وهم يريدون أن يدبروا أمر الدنيا ، فهما مختلفان. جاءه عبد الله
بن زمعة يستميحه عطاءً إضافياً من بيت المال ، فنهره بقوله :
« هذا المال ليس لي ، ولا لك ، إنما هو
فيء المسلمين ، وجلب أسيافهم ، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم ، وإلا فجناة
أيديهم لا تكون لغير أفواههم ».
وكان عليّ 7
يطبق هنا التوجيه بسيرة عملية صارمة ، عزف فيها عن السرف ، وجنح فيها إلى الزهد
حتى توجه إلى من أراد أن يلتزم سيرته هذه ، فقال له : « إن الله فرض على أئمة
العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره ».
ويلحظه أحدهم وهو يرتعد برداً في قطيفة
سملة ويقول للإمام : « يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال
نصيباً ، ثم أنت تفعل هذا بنفسك؟ ».
فيقول الإمام :
« ما أرزأكم شيئاً. وما هي إلا قطيفتي
التي أخرجتها من المدينة ».
وهذا أخوه عقيل بن أبي طالب ، يستميحه
شيئاً فوق نصيبه من بيت المال ، فيقول له الإمام : « إذا خرج عطائي فهو لك ». فقال
عقيل : « وما يبلغ مني عطاؤك ».
فأسرَّها الإمام في نفسه ، ولقنه درساً
بليغاً ، ليتعظ غيره بذلك ، فأحمى حديدة قربها منه فضجّ عقيل منها ، فقال الإمام :
« ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئن من
حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه ، أتئن من أذى ،
ولا أئن من لظى ».
وبلغه أن قاضيه شريح بن الحارث قد اشترى
لنفسه داراً ، فأراد استيقان الخبر ، حتى إذا صدق استدعى شريحاً ووعظه قائلا : «
بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً ، وكتبت كتاباً وأشهدت فيه شهوداً ». فقال
شريح : « لقد كان ذلك يا أمير المؤمنين ».
فنظر إليه الإمام نظرة اقتلعته من مكانه
، وقال له :
يا شريح : أما أنه سيأتيك من لا ينظر في
كتابك ، ولا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصاً ، ويسلمك إلى قبرك خالصاً ،
فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك ، أو نقدت الثمن من غير حلالك
، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة ».
وكان منهج الإمام هذا حرياً بأن يصلح
شيئاً من النفوس ، أو يخفف من غلوائها في الأقل من التهافت على الدنيا ، والانغماس
بمباهجها ، ولكن هذا النهج أيضاً قد يرضي قوماً ، وقد يسخط آخرين ، قد يجمع حوله
القليل ، وقد ينفضّ عنه الكثير ، وقد أدرك الإمام هذا الملحظ إدراكاً عميقاً ،
فقال : « لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة ، ولو أسلمني الناس
جميعاً لم أكن متضرعاً ».
ولم يكن الإمام لتعجزه الحيلة في تحقيق
المأرب وإدارة الحكم كما يديره غيره من الساسة ، ولكنه يعرض عن ذلك صفحاً ، وينأى
عنه جانباً إذ التمس كل ذلك من الطريق المستقيم الذي استنه رسول الله 6.
وهذه الإستقامة عند الإمام هي التي ذهبت
به كل مذهب في الصرامة ، غير متهاود فيها ، ولا متهاون عنها ، حتى قال : « الضعيف
الذليل عندي قويٌ حتى آخذ الحق له ، والقوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحق
منه ».
ولو قدر للإمام أن يطبق سياسته هذه
بتفاصيلها ، ويمثل منهجه بمفرداته كافة ، لانتقل بالإسلام والمسلمين إلى عالم رحيب
أوسع ، رأيت فيه من الخير العميم ما يذهل العقول ، ولكن الإمام غلب على
أمره بالفتن والمحن
، كما غلب على رأيه بالمعارضة الجافة ، حتى قيل أن علياً لا علم له بالحرب ، ولا
صبر له على القتال ، وشواهد العيان تأبى ذلك ، ودلائل الحدثان تنفي هذا الزعم
المتهافت.
وهو بأزاء هذا السبيل ينادي أؤلئك :
« ويلكم أتتوقعون اماماً غيري يطأ بكم
الطريق »؟
وحتى صرح غير مرة :
« لقد ملئتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري
غيظاً ».
وحتى التفت إلى أهل الكوفة قائلاً : «
وددت أن معاوية صارفني فيكم صرف الدينار بالدرهم ، فأعطاني واحداً وأخذ مني عشرة ،
أمير أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، وأميركم يطيع الله وأنتم تعصونه ».
لقد أفسدوا على الإمام رأيه بالعصيان ،
حتى فقدوا مصداقية الإمتثال له ، وحتى طمع فيهم معاوية وجردّهم عن كل شيء ، وقادهم
بل ساقهم بين يديه سوق الأماء ، حتى قيل أن معاوية أدهى من علي ، وبلغه ذلك فقال :
« والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه
يغدر ويفجر ، وكل غدرة فجرة ، وكل فجرة كفرة ، وكل كفرة في النار ».
وكان الإمام 7 عازماً على تنقية الطباع وترويض
الغرائز ، وكانت الأطماع تمتلك النفوس ، وكان التآمر المتتابع يحبك الدسائس لإفشال
الإمام بمسيرته ، وإسقاط النظام في تطلعاته الإنسانية المتألقة ، فعليٌ 7 كان يدبر أمر الدين بقوة وعزيمة ،
وأعداؤه يدبرون أمر الدنيا بنهم وجشع ، وكان أمر الدين قد تضاءل ، وأمر الدنيا قد
أقبل ، وكانت القلّة من المؤمنين أنصاراً للإمام في إقام الدين ، وكانت الكثرة
من أعوان معاوية
عضده في بناء الدنيا ، والناس بعامة أبناء الدنيا ، ولا يلام المرء في حب أمه ،
فتطاول الباطل على الحق حقبة قيادة الإمام للأمة ، وكان ظل الحق يكاد ينحسر ، وكان
شبح الباطل قد أظل ، فشرق الإمام بغصته لهذه الظاهرة الشاذة ، فالباطل لا يدوم ولو
دام دمّر ، وقد استدام معاكساً لمسيرة الإمام ، ومضاداً لثورة الإمام ، فأورث ذلك
المسلمين ندماً مريراً ، وأورث الإسلام تعثراً مريعاً ، حتى ظن بالإمام الجزع حين
قال : « متى ينطلق أشقاها فيخضب هذه من هذا ».
مشيراً إلى كريمته ورأسه ...
وظاهرة أخرى كانت تقلق الإمام وتزيد من
آلامه ، فهو يرى البعوث قد تعثرت ، والفتوح قد توقفت ، ومسلمة الفتوح بعد كمسلمة
الفتح من ذي قبل ، لا يعرفون من الإسلام إلا إسمه ، ولا يعون من الفرائض إلا
طقوسها ، ولا يدركون من القرآن إلا قداسته ، كثرة كاثرة بلا جدوى ، وأمم دخلت في
الإسلام على غرّة ، وتزايد نظري في أعداد المسلمين ، دون تطبيق عملي لمبادئ
الإسلام ، ومتى استطاع الإمام أن يفرغ من إصلاح الداخل ، حتى يتفرغ لإصلاح الخارج
، وهو يرى جمهرة من المسلمين ، قد استهوتهم حياة الترف عند الفرس ، وحياة
الإستهتار عند الروم ، فتزودوا ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ، واستلذوا بالقصور
الشامخة والمراكب الفارهة ، وغضوا طرفاً عن المصلحة العليا ، وتأقلموا بحياة لم
يألفوها من ذي قبل ، وتطلعوا إلى أجواء ما عرفوها في تأريخهم القريب ، فانتقلت
نفوس العرب من الحمية والنضال إلى الدعة والعيش الرغيد ، وبدأ عليها التغيير إلى
الأسوأ شيئاً فشيئاً ، فضعف سلطان الدين ، وقوي سلطان الدنيا ، وعاد علي 7 في الميدان بثلة من الأولين وقليل من
الآخرين يحاولون ولا يستطيعون ،
ويناضلون فلا يبلغون
، وقد تجاوز السيل الزبى.
ومما زاد في حراجة موقف الإمام أن أسلس
معاوية القياد للهوى ، وجدد لنفسه حياة تتلائم ومتطلبات النفوس الحالمة بالترف والمجون
وأطايب النعم ، فتأنق بالمأكل والمشرب وصف الألوان بما لا عهد للعرب فيه ، وتزين
بالحلل الثمينة متشبهاً بالروم والقياصرة ، ونهب من مال الله ومال المسلمين ما
أرضى به جشع أهل الدنيا ، فصفت له الحياة ، وخضعت له الأعناق. وكان علي 7 يدير حكماً إسلامياً خالصاً ، وكان
معاوية يدير ملكاً هرقلياً ، يتألف الرجال بالمال ، ويبذر الفيء كما يشاء ، ويزيد
من الشهوات كما تتطلب النفوس ، وعلي 7
يقسم المال بالسوية ، ويتحرج من أدنى شيء ورعاً ، ويأخذ نفسه بشطف العيش ، ونشأ
جيل متمرد من أبناء المسلمين ، فرأو الحياة بمباهجها مع معاوية ، واستفاق البداة
فطلبوا الرفاهية عند معاوية ، فمال هؤلاء وهؤلاء إلى معاوية ، فاستقبلهم بالأحضان
، يغري الأشراف ، ويعتضد بالسواد ، وعاد مغرب الدولة الإسلامية عند معاوية بهذه
الصورة ، وكان مشرق الدولة الإسلامية بيد علي 7
لا يلين ولا يستلين ، فأتسق لمعاوية ما أراد ، وبُلي الإمام بتواكل أصحابه ،
وخذلان أهل العراق حتى ملهّم وملّوه ، وحتى دعا ربّه تعالى أن يبدله خيراً منهم ،
وأن يبدلهم شراً منه ، فأبدله الله خيراً ، وأبدلهم شراً ، وكانت المؤامرة الكبرى
التي أطاحت بالإمام ونظام الإسلام معاً. تلك المؤامرة التي ساعد عليها الزمان
والمكان ، وتولى تنفيذها المخططون من وراء الحدود العراقية ، وداخل الأراضي
العراقية ، حتى فجعت الأمة بأمثل قائد جسد سيرة النبي وقيادته.
(١٤)
عليٌّ ومناوئوه ... حتى استشهاد الإمام
كانت المؤشرات السياسية بعد النهروان
تومي إلى تكتل ثلاث جبهات منظمّة معادية لأمير المؤمنين 7.
الأولى تتمثل في معاوية بن أبي سفيان
وأنصاره من الشاميين والأمويين ومن سار بركبهم من الحاقدين على الإمام والموترين
منه.
وتتمثل الثانية في الخوارج الذين فجعهم
الإمام بقتلاهم جانب النهر ، فهم يثيرون القلق ، ويقاطعون الإمام ، ويتجرؤون دون
مسوغ شرعي أو قانوني ، فيجبهون الإمام بشعارهم « لا حكم إلا لله » أو « الحكم لله
لا لك يا علي ».
وكان زعيم الخوارج صلفاً حينما يخاطب
الإمام ، وقد رأى من سياسته عدم الإكراه واللجاج ، فيقول : « يا علي تب من خطيئتك
، وارجع عن قضيتك ، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا ».
والإمام يجيب « قد أردتكم على هذا
فعصيتموني ».
ويتمادى حرقوص بن زهير مشيراً إلى
التحكيم : « ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه ». ويحاججه الإمام في هذا المنطق ، ويردّ
عليه بلغة الدين ، ويعود باللائمة على سواه ، فيقول : « ما هو ذنب ، ولكنه عجزٌ من
الرأي ، وضعفٌ من الفعل ، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ، ونهيتكم عنه ».
هذا نموذج من لجاج زعيم الخوارج المقتول
بالنهروان ، وأمثاله وأمثال ذلك كثير.
والجبهة الثالثة جبهة المنافقين
والمتربصين الدائرين بالإمام 7
ممن اعتضدوا بعشائرهم ، واهتبلوا الفرص مع معاوية فكاتبهم سراً ، وأغدق عليهم
بالمال وأغرقهم بالطرف ، فشايعوه خفية ، وعملوا لحسابه بإمعان ، ويمثلهم الأشعث بن
قيس الكندي ، ويلتفّ حوله رعيل من المتمردين والوصوليين ممن لا ذمام لهم ، ولا أمل
في صلاحهم ، فقد جبلوا على الإنتهازية ، ومردوا على النفاق ، وحليت الدنيا بأعينهم
، وراقهم زبرجها ، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله العظيم.
هذه الجبهات الثلاث فيما أحسب ، قد
التقت أهدافها في إرادة التخلص من أمير المؤمنين ، وأجمعت أمرها لتدبير قتله أو
اغتياله ، وقد حدث هذا بالفعل ، وتم لهم ما أرادوا فرادى ومجتمعين ، وأمير
المؤمنين بسبيل العودة إلى صفين ، يعدّ لها العدة ، ويهيئ لها ما استطاع من قوة.
ولم يكن أمير المؤمنين بمنأى عن أبعاد
هذه المؤامرة ، ولا ببعيد عن إبرامها ، فقد لاحت أشراطها في الأفق القريب ، وهو
موعود بالقتل اغتيالاً على يد شقيق عاقر ناقة صالح بما أخبره به رسول الله 6 وطالما قال اثناء وضوئه مراراً :
لتخضبن هذه من هذا ، مشيراً إلى كريمته ورأسه الشريف.
وقد ذهب إلى أبعد من هذا ، فكان ينشد في
رمضان الذي قتل فيه هذه الأبيات :
أشدد حَيازيمكَ للمَوتِ
|
|
فإنَّ الموتَ لاقِيكَا
|
ولا تَجزَع من المَوتِ
|
|
إذا حلّ بواديِكَا
|
كَمَا أضحَكَكَ الدَهرُ
|
|
كَذَاكَ الدَهرُ يَبكِيكَا
|
وكان رعيل من الخوارج يشهدون الموسم في
الحج ، فتذاكروا ـ بزعمهم ـ شؤون المسلمين ، وذكروا أمير المؤمنين ، ومعاوية ،
وعمرو بن العاص ، وائتمروا فيما بينهم ، أن يريحوا الناس من هؤلاء الثلاثة ، وأن
يثأروا من عليّ بخاصة لإخوانهم من الخوارج في النهروان.
وانتدب عبد الرحمن بن ملجم المرادي لقتل
أمير المؤمنين ، وانتدب الحجاج بن عبد الله الصريمي لقتل معاوية ، وانتدب عمرو بن
بكير لقتل عمرو بن العاص ، وإتعدوّا لذلك وقتاً معيناً لتنفيذ الاغتيال في اليوم
التاسع عشر من رمضان فجراً عند خروجهم لصلاة الفجر من شهر رمضان لعام أربعين من
الهجرة.
وأقام هؤلاء بمكة يتذاكرون الموعد ،
ويحبكون الخطة ، مصممين على التنفيذ ، حتى إعتمروا في رجب وتفرقوا لأداء المهمّة.
أما صاحب معاوية ، فأقدم عليه ولم يبلغ
منه شيئاً ، ولا أصاب منه مقتلاً ، فقبض عليه وقتل.
وأما صاحب ابن العاص ، فأقدم عليه ولم
يصبه ، وكان قد مرض أو تمارض ، فأناب صاحب شرطته خارجة بن حذافة العدوي ، فقتل
واجتمع عمرو بن العاص بالقاتل ، فقال : إنما أردت عمراً ، فقال عمرو : ولكن الله
أراد خارجة. وقتله.
وأما عبد الرحمن بن ملجم ، فذهب إلى
الكوفة ، وأقام بها يوثق
الصلات بأعداء أمير
المؤمنين ، فكان يجتمع بالأشعث بن قيس تارة ، ويتعد مع اثنين من الخوارج هما شبيب
بن بحران ووردان بن مجالد تارة أخرى ، وكان الأشعث متحمساً للفتك بأمير المؤمنين ،
وعبد الرحمن بن ملجم في ضيافته ، يتعهده بالألطاف ، ويبرّه في المأكل والمشرب.
ويروي أبو الفرج الأصبهاني أن الأشعث
كلم الإمام في أمر ، فأغلظ له الإمام وانتهره ، فعرض له الأشعث أنه سيفتك به ،
وفهم الإمام تعريضه فقال :
« أبالموت تخوفني وتهددني ، فوالله ما
أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ ». وكان الإمام يستصغر قدر الأشعث ،
ويحتقر ذكره.
وحانت ساعة الإغتيال ، فالتفت الأشعث
إلى ابن ملجم وقال : النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح. مما يعني أن الأشعث كان
ظالعاً بالمؤامرة مع الخوارج وسواهم دون شك ، في إيوائه لابن ملجم ، وفي تهديده
للإمام ، وفي علمه بالتوقيت ، وفي إعجاله لابن ملجم على تنفيذ الاغتيال.
وأحسب أن الأشعث هذا ، وأمثال الأشعث
ممن لم يذكر التأريخ أسماءهم ، كانوا يدبرون لهذا الاغتيال ، بالاتفاق مع معاوية ،
ومعاوية يبذل لهم الأموال الطائلة يشتري بذلك دينهم وولاءهم وضمائرهم إن كانت لهم
ضمائر ، حتى أن قلهاوزن يذهب : أن قتل الإمام علي قد تم على عدة بين ابن ملجم
ومعاوية ونسبه إلى الطبري. ولا مانع لدى معاوية أن يستعين بابن ملجم والأشعث
وسواهما لقتل الإمام.
وهناك نص أدبي يرويه أغلب المؤرخين ،
وهو عبارة عن أبيات
لأبي الأسود الدؤلي
صاحب الإمام ، قد وجهها إلى معاوية ، ينسب فيها قتل الإمام لمعاوية وأنصاره ، يقول
:
ألا أبلغ معاوية بن حـرب
|
|
فلا قرّت عيون الشامتينا
|
أفي شهر الصيام فجعتمونا
|
|
بخير الناس طراً أجمعينا
|
قتلتم خير من ركب المطايا
|
|
وذللها ، ومن ركب السفينا
|
ومن لبس النعال ومن حذاها
|
|
ومن قرأ المثاني والمئينا
|
ومما يتقدم يبدو أن المؤامرة قد أشرف
على تنفيذها هذا الثلاثي الذي شكّل الجبهات الثلاث المعادية لأمير المؤمنين ، وأن
الخوارج لم يستقلّوا بذلك وحدهم ، وإن كان لهم أمر التنفيذ.
ومهما يكن من أمر ، فقد خرج الإمام
لصلاة الصبح وهو ينادي بالمسلمين : الصلاة الصلاة ، بما رواه أبو الفرج عن أبي
مخنف عن عبد الله بن محمد الأزدي ، قال : إني لأصلي في تلك الليلة بالمسجد الأعظم
مع رجال من أهل المصر كانوا يصّلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره ، إذ نظرتُ
إلى رجال يصّلون قريباً من السدّة ، قياماً وركوعاً لا يسأمون إذ خرج عليهم : علي
بن أبي طالب عند الفجر ، فأقبل ينادي : الصلاة الصلاة ، وبعدها رأيت بريق السيف ،
وسمعت قائلاً يقول : الحكم لله لا لك ياعلي. ثم رأيت بريق سيف آخر ، وسمعت قائلاً
يقول : لا يفوتنكم الرجل ، وكان الأشعث بن قيس قال لابن ملجم : النجاء لحاجتك قبل
أن يفضحك الفجر.
هذه رواية شاهد عيان للحادثة ، وغير هذه
الرواية يتفق معها.
وقد عقب أبو الفرج على الرواية بقوله :
« فأما بريق السيف الأول فإنه كان سيف شبيب بن بحران ، وقد ضرب الإمام فأخطأه ، ووقعت
ضربته في الطاق ، وأما بريق السيف الثاني فإنه ابن ملجم ضربه على
رأسه ، فأثبت الضربة
في وسط رأسه ».
وكان ابن ملجم قد أمهل الإمام في صلاته
الركعة الأولى ، وقام الإمام الى الثانية ، وأهوى الإمام إلى السجود ، وحينما رفع
جبهته من السجدة الثانية ، أهوى عليه بالسيف ، فعممه على رأسه ، وبلغت ضربته
الدماغ ، وهو يقول : « الحكم لله يا علي لا لك » والإمام فيما يروي المؤرخون يقول
: « فزت ورب الكعبة ».
وكذلك يروون أن آخر كلام سمع منه قبل أن
يموت هو تلاوته لقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .
واضطرب الناس في مسجد الكوفة عند سماع
أمير المؤمنين يقول : لا يفوتنكم الرجل ، فشدوا على ابن ملجم من كل مكان فقبض عليه
المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وصرعه وأخذ السيف منه ، وأدخل على أمير
المؤمنين فقال : « النفس بالنفس » إن أنا متُ فاقتلوه ، وإن سلمت رأيت فيه رأيي ».
فقال ابن ملجم : لقد اشتريت سيفي بألف ،
وسممته بألف ، فإن خانني فأبعده الله ، وأحدق الناس بابن ملجم يريدون قتله ، وهم
يقولون : يا عدو الله ماذا صنعت ، لقد أهلكت أمة محمد ، وقتلت خير الناس بعد رسول
الله 6 وهو ساكت لا
يتكلم.
واستدعى أهل الكوفة الأطباء للنظر في
جرح الإمام ، وفي طليعتهم الجراح العربي المعروف أثير بن عمرو بن هاني ، وكان
يداوي الجراحات الصعبة ، فلما نظر في جرح الإمام بكى وقال :
__________________
اعهد عهدك يا أمير المؤمنين فإن ضربة
اللعين قد وصلت أم رأسك.
فأستقبل الإمام النبأ باليقين والصبر
الجميل ، وكان الإمام في هذه اللحظات الحرجة متيقظاً تماماً فلم ينسَ النصح لأمة
محمد ، والتفت إلى أبنائه قائلاً من وصيته عند الموت :
« الله الله في الفقراء والمساكين
فأشركوهم في معايشكم ، الله الله فيما ملكت أيمانكم فإن رسول الله 6 في آخر ما أوصى به قال : أوصيكم
بالضعيفين مما ملكت أيمانكم ».
ومضى 7
يقول : قولوا للناس حسناً كما أمركم الله ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر فيتولى ذلك غيركم ، وتدعون فلا يستجاب لكم ، وعليكم بالتواضع والتباذل ،
وإياكم والتقاطع والتفرق ، وتهاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم
والعدوان ».
وأوصاهم بأداء الصلاة وتلاوة القرآن.
وجمع إليه بنيه وأوصاهم بإطاعة الحسن
والحسين لأنهما إمامان قاما أو قعدا ، ونصّ على إمامة ولده الحسن 7.
وظل الإمام يعاني من ضربته تلك حتى قضى
نحبه صابراً شهيداً محتسباً ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين من الهجرة.
ومضى علي 7
شهيد عظمته ، وقتيل مبادئه الصارمة ، لم يخلف بيضاء ولا صفراء .
__________________
وجلل الحزن الجزيرة العربية والأقاليم
الإسلامية ، وتجاوب صدى الفاجعة في آفاق الدنيا ، فبكاه القريب والبعيد ، وحمل
نعشه ليلاً الحسن والحسين وخلص أصحابه إلى النجف الأشرف من ظهر الكوفة ، ودفن بين
الذكوات البيض حيث مرقده الشريف وحيث ضريحه المقدس اليوم.
وبلغت وفاته عائشة فقالت :
فَألقَت عَصاها وإستقرَّ بها النَوى
|
|
كَمَا قرّ عَينَاً بالأيابِ
المُسافِرُ
|
ولست أعلم أكانت أم المؤمنين شامتة أم
مؤبنّة.
__________________
قصيدة الشيخ علي الصغير
في أمير المؤمنين الإمام علي 7
جرت العادة في هذه الموسوعة أن تختم كل
كتاب بإحدى قصائد المؤلف. وآثرنا نشر قصيدة والد المؤلف سماحة العلامة الشاعر
الشيخ علي الصغير ;
، وقد ألقيت في مهرجان الغدير الخالد في جامع الخضراء في النجف الأشرف في ١٨ / ١٢
/ ١٣٧٠ هـ بحضور الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء وبقية المراجع العظام والعلماء
الأعلام ، والشباب العراقي المتحفز ، فكان لها صدى كبير في ظروف اجتماعية معينّة
ونشرت في شعراء الغري للأستاذ علي الخاقاني ٦ / ٤٩٧ / عام ١٩٥٣ م.
ولاك من الله إيمانها
|
|
ونهجك للحق قرآنها
|
وحبك فرضٌ بهذى الرقاب
|
|
وإن يأب ذلك طغيانها
|
وآي المودة تنزيلها
|
|
بحبك صرّح تبيانها
|
وأنت من الذكر أمُّ الكتاب
|
|
ومن ( سورة الدهر ) إنسانها
|
فإن جهلتك نفوس الطغام
|
|
فإنك في النفس عرفانها
|
وإنك من أنفس المؤمنين
|
|
هداها اليقين وإيمانها
|
وإنك ميزان أعمالها
|
|
إذا خف في الحشر ميزانها
|
فدع أمة حزبها الظالمون
|
|
لنا شأننا ولها شانُها
|
فأنت بحق وصيُّ النبيّ
|
|
وصرّح في ذاك فرقانها
|
* * *
علمت بأن ولاك السفين
|
|
وحبُّك في الحشر ربانها
|
وقلت هو البحر طامي العباب
|
|
إذا فاض في البعث طوفانها
|
فقلت لنفسي هنا مرفأٌ
|
|
وهذي النجاة وشطآنها
|
وهذي السفينة آل النبي
|
|
ستنجيك إن هاج طغيانها
|
فسرت على أسمك نحو الرشاد
|
|
إذا ضل في الغي حيرانها
|
وهللت باسمك حيث الصلاة
|
|
ولاكَ ... وإنك أركانها
|
وبالرغم أنت فصول الأذان
|
|
وإن أرغمت فيك آذانها
|
ووجهك قبلة أهل الولاءِ
|
|
وإن يأب ذلك عدوانها
|
فإن كفرت أمة في ولاك
|
|
فقدما تمركز كفرانها
|
فقد عبدوا الشركَ طاغوتهم
|
|
إلها ومن قبل أوثانها
|
وقد نسبوا الهجر للمصطفى
|
|
وذاك على الله بهتانها
|
* * *
هدى المتقين وللعاطفات
|
|
خضوع ببابك أوزانها
|
وهل يستطيع بأن يرتقي
|
|
لمعناك في الشعر شيطانها
|
ولكنها ثورةٌ في الفؤاد
|
|
وزمجرةٌ ثار بركانها
|
حببتك في المهد عند الرضاع
|
|
فتغذو ولاءَك ألبانها
|
وغنيت باسمك عند الشباب
|
|
فمن لحن قدسك ألحانها
|
ونظمت حبي اغرودةً
|
|
فهذا فؤادي ديوانها
|
وناجيت حبك من فرحتي
|
|
فزالت من النفس أحزانها
|
وناديت صحبي هنا السلسبيل
|
|
هنا العاطفات وميدانها
|
هنا كوثر الخلد فلتستقي
|
|
ليروِ بذلك ظمآنها
|
فجاءتك باسم شباب الولاء
|
|
تحييك في الحب شبانها
|
فنظمت قلبي في باقةٍ
|
|
من الحب تهتز أغصانها
|
وقلت هو العيد (عيد الغدير)
|
|
وخير الهدية اثمانها
|
__________________
فقدمت قلبي قربانه
|
|
وحبك للنفس قربانها
|
* * *
على قدس مجدك تهفو السنين
|
|
وتعشق ذكرك أزمانها
|
وفي الذر والكون في ظلمة
|
|
تجليت فازدان كيوانها
|
ولحت على العين فاستبشرت
|
|
بك العين إذ أنت إنسانها
|
وطفت على الروح فاستنشقت
|
|
ولاك وإنك سلطانها
|
فمن لطف معناك أشواقها
|
|
ومن قدس ذاتك إيمانها
|
فلولاك حاربها كفرها
|
|
عن الحق غياً وطغيانها
|
فأنت إلى الله عنوانها
|
|
وأنت على الحق برهانها
|
* * *
ومذ لحت في الكون فاستبشرت
|
|
سهول البطاح وكثبانها
|
فقد كنت في العرش نوراً لها
|
|
وأمناً به سار ركبانها
|
تدرجت من عالم مشرق
|
|
ذكا لم تدنسك أدرانها
|
ولولا وجودك في آدم
|
|
فطينته ساء جثمانها
|
فقد كنت من روحه توبة
|
|
فأنت من الله غفرانها
|
ولدت بمكة في بيته
|
|
فخرت لذلك أوثانها
|
ونلت الشهادة في مسجد
|
|
وخانك في ذاك شيطانها
|
ومت وفي شفتيك الصلاة
|
|
ليرضى بذلك ديانها
|
ولم تك تشغل عن فرضها
|
|
إذا أسعر الحرب فرسانها
|
وكم لك في الحرب تكبيرة
|
|
كأن المحاريب ميدانها
|
نديمك فيها إله السماء
|
|
إذا اشغل القوم ندمانها
|
كلا مسجديك وسوح الجهاد
|
|
لصدق العبادة برهانها
|
* * *
حياتك سفر إلى العارفين
|
|
يخلد بالنور عنوانها
|
وذاتك في كتب المرسلين
|
|
يضيق عن العقل تبيانها
|
عن وصفها ضل أحبارها
|
|
وفي فهمها حار رهبانها
|
فخبر إنجيلها عن علاك
|
|
وبشر في ذاك فرقانها
|
فهل أنت معجزة المرسلين
|
|
وهل أنت في الأمر ثعبانها
|
وهل أنت من سرهم آية
|
|
إذا اتضحت زاد كتمانها
|
خاتمة المطاف ونتائج البحث
أعتقد أنني ـ بعد هذا التحقيق العلمي
الدقيق ـ قد وفيت ببعض كلمات البحث الأكاديمية ، بأسلوب يسير ، وبفهم بديهي ، لم
أذهب مذاهب القوم في الاستنباط فلسفياً ، ولم أجنح للعبارات المغلقة أو المبهمة ،
ولم أتكلف نصاً عميق الدلالة ، بل حاولت خلافه هذا كله ، فجاء العرض بكل بساطة
وسماح ، وكان البحث في سلامة من التعنت والأيهام ، واضحاً وضوح الألق في الأديم
الصافي ، ومشرقاً إشراق الشمس على البطحاء ، لا أريد بذلك ثناء أو مديحاً ، بل
أريد صدقاً وحقيقة ، وذلك سبيل النهج الموضوعي الخالص.
كان هذا الكتاب حصيلة ممارسة فكرية
وتأريخية ذاتية في سيرة الامام علي 7
وقيادته النابعة من معين رسول الله 6
، وهي بعدُ تمثل الاسلام في مصادره وموارده تمثيلاً منقطع النظير ، فما رأينا
علياً 7 مطيعاً لهوى
النفس ، ولا سائراً بركاب التأرجح بين الحق والباطل ، فهو مع الحق والحق معه كما
عبر عن ذلك منقذ الانسانية محمد 6.
وما لمسنا علياً مندفعاً لنصرة هذا الدين بدوافع عصبية أو إقليمية ، بل كان ذلك عن
بصيرة نافذة أريد بها وجه الله تعالى وحده. وما شاهدنا علياً 7 منتصراً لنفسه على حساب دينه وعقيدته
والمسلمين ، بل واجهنا صبره على الأذى ، وتجرعه مرارة الغيظ ،
وسكوته عن أثباج
قيادته العليا ، لئلا يتأثر الاسلام بشيء ، والناس قريبو العهد بالجاهلية ، فصبر
وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، يرى تراثه نهباً ، على حد تعبيره ، وما أدركنا
علياً 7 ، متمتعاً
بنعيم الدنيا ، ولا مسرفاً في ملبسه وطعامه ، بل أدركناه يلبس الخشن من الثياب ،
ويأكل الجشب من الطعام ، إن هي إلا كسيرات من خبز الشعير ، تداف في ملج أو لبن
قارض ، زهداً بالترف والعيش الرغيد ، ولو شاء لأهتدى السبيل إلى مصفى هذا العسل ،
ولباب ذلك القمح ، ونسائج الحرير ، ولكنها نفسه يروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم
الفزع الأكبر « ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ، ولا طمع له بالقرص
» كما جاء ذلك في كتابه لأبن حنيف واليه على البصرة. ولقد رأيناه يرتعد من البرد
في رحبة الكوفة ، وعليه مدرعة إستحيا من راقعها فهي بالية متهرأة ، لئلا يرزأ
المسلمين بشيء من المال الذي جعل له الله فيه حقاً مشروعاً « إن هي إلا قطيفتي
التي جئت بها من المدينة » كما قال ذلك لابن عباس.
ولقد خبرناه في قيادته للأمة لم يضع
حجراً على حجر ، ولا لبنة فوق لبنة ، وإنما نزل ضيفاً في الكوفة على ابن أخته جعدة
بن أبي هبيرة المخزومي ، وأبى أن يسكن في قصر الأمارة ، ووصفه بأنه قصر الخِبال ،
وما داره الاثرية الموجودة اليوم جنوبي قصر الأمارة في الكوفة إلا دار ابن أخته
ليس غير.
ولقد درسناه وهو يساوي في العطاء بين
الناس ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، لم يؤثر قرابة ، ولا ميز رحماً ،
ولا فضل أسباطاً وحفدة هو والحسن والحسين وعقيل أخوه ، وعبد الله بن جعفر زوج
عقيلة بني هاشم « زينب » ابنة أمير المؤمنين على حد سواء مع الأعرابي والمولى
والمهاجري والأنصاري.
ولقد أخذ ولاته وعماله بالشدة والنصح
والتأديب ، فما حابى أحداً ، ولا تهاون مع أحد.
ولقد حرب الناكثين والقاسطين والمارقين
بصلابة وشجاعة في ذات الله ، كما حارب بالملحظ نفسه في بدر وأحد والأحزاب وخيبر
وذات السلاسل ومشاهد رسول الله كلها ، قاذفاً بنفسه في لهوات الحرب ، مباشراً
القتال بسيفيه ورمحيه ، وما رأينا قائداً في تأريخ الحروب ينزل ساحة الميدان
مقاتلاً سوى أمير المؤمنين 7
، فالقائد عادة يأمر ويشرف ، ويخطط ويبرمج ، أما عليٌّ 7 ، فقد جمع إلى ذلك مباشرة الحرب ،
ومنازلة الأقران ، وكانت له ضربتان في المبارزة طولاً وعرضاً ، فأذا ضرب طولاً قطّ
، وإذا ضرب ضرب عرضاً قَدَّ ، وهذا شأن الأبطال المعدودين ، وأنى يعد معه سواه و «
لا فتى إلا عليٌّ ، ولا سيفَ إلا ذو الفقار » ولا تعجب من ذلك فقد خاض المعارك في
سبيل الله أربعين عاماً ، وهو القائل عن ذلك « نهضتُ بها ولم أبلغ العشرين ، وها
أنا ذا قد ذَرّفتُ على الستين » فللّه درهُ.
ولقد مات عليٌّ ولم يترك بيضاء ولا
صفراء إلا سبعمائة درهم من عطائه ، أراد بها شراء من يخدم زوجته على ما قال ذلك
ولده الامام الحسن 7
لدى تقلده الامامة في خطبة له.
وفي هذا الضوء وغيره ، ومن خلاله وسواه
، كان هذا الكتاب في ثلاثة فصول رئيسية ، إبتعدت عن الهذر والهذيان ، ونأت عن
العاطفة والتعصب الأعمى ، وحققت الواقعية النوعية في جميع الأبعاد ، رؤيةً ونظريةً
وتمحيصاً ورأياً ، فما إستندت إلى المراسيل التأريخية ، ولا تجنّت على المصادر ،
ولا إفتأتت على الحقائق ، سبرت وحللت ودرست وقارنت ، لا رائد لها سوى السيرة كما
كانت ، ولا هدف إلا
تصوير قيادة الامام 7 كما هي ، عسى أن تكون قاربت ذلك ، فلا
إحاطة للانسان والباحث والمفكر بتراث هذا الانسان العظيم ، ولا قِبلَ للكاتب
الموضوعي على إستيعاب روافد هذا البحر المحيط ، فهو عليّ ابن أبي طالب وكفى.
إنها ـ إذن ـ نفحات من عبير سيرته ،
وشذرات من كنوز قيادته ، وما لا يدرك كلّه ، لا يترك كله.
تحدثنا في الفصل الأول ، وعنوانه «
عليٌّ في عصر النبوة » عن سيرة الامام في عهد الرسول الأعظم في ثلاثة عشر بحثاً
مكثفاً ، إستوعبت حياة أمير المؤمنين من ميلاده حتى الهجرة النبوية ، وعرضت بتركيز
موجز لإعداد النبي 6
لعلي 7 إعداداً
خاصاً تربوياً ورسالياً منذ نعومة أظفاره حتى النصر المبين في معركة « بدر الكبرى
» وتناولت سيرة الامام علي 7
في عنفوان شبابه وهو يتوجّه بالزهد والايثار والمواساة بأدق معاني هذه الكلمات
وأصدقها ، ودرست علياً 7
بأعتباره فارس المهمات الحربية الصعبة ، وأكدت على تحركه المستميت نضالياً في
مشاهد رسول الله 6
كلها ، بما أعتبر بها فارس العرب الأول دون منازع ، ولحظت تسلّمه الراية العظمى في
كل الفتوح الألهية بأمر محمد 6
وما في ذلك من التأكيد على كونه الامام والقائد ، والمرجع ، فهو أميرٌ لا يُؤَمرُ
عليه ، وهو مستخلفٌ والرعيةُ سواه. وأبرزت موقع الامام في فتح مكة عملياً ، وهو
إلى جنب النبيّ يكسر الأصنام ، ويطوّح بالأوثان ، لتكون كلمة الله هي العليا ،
وكلمة أعدائه هي السفلى. وحققت القول في الأنباء التي كدرت صفو فتح مكة ، بتحرك
هوازن وثقيف ، ونشوب معركة « حُنين » الفاصلة في نتائجها على يد أمير المؤمنين 7 وهو يذود الكتائب ، ويحمي
رسول الله 6 ويعيد النصر للمسلمين. ولمست علياً 7 رفيق النبي الأمين في حربه وسلمه ، في
مظاهر عديدة أشار إليها البحث لما وآحذرَ الاطالة.
وتناول الفصل في بحثه العاشر أحداث حجة
الوداع لرسول الله 6
ووقائع النص على إستخلاف عليٌّ 7
في بيعة الغدير ، بروح رياضية ، وعرض أصيل ، ونتائج علمية.
وكان البحث الحادي عشر مخصصاً للوسائل
والأساليب التي شرّعها النبي 6
وهو يمهد أمر الخلافة للامام تصريحاً لا تلمحياً ، ونصاً لا إجتهاداً ، بما بلّغ
به رسالة ربه ، وهو يلتحق بالرفيق الأعلى وكان البحث الثاني عشر من الفصل متحدثاً
عن قيادة قريش الثلاثية برئاسة أبي بكر (رض) وعضوية عمر بن الخطاب (رض) وعضوية أبي
عبيدة بن الجراح ، وهي تقتحم مؤامرة السقيفة ، وتبعد أهل البيت عن الخلافة ،
بتخطيط محكم ، وقرار عاجل ، وإحاطة شاملة.
وكان آخر بحث من الفصل متحدثاً عن بيعة
أبي بكر (رض) وما صاحبها من المفاجأة ، وما رافقها من المعارضة ، وما تكلم به قادة
المسلمين ، ورجال الأمة ، إستنكاراً من جهة ، شجباً صامتاً من جهة أخرى ، وبين بين
، حتى تمت مرجعية الصحابة بديلاً متداعياً عن مرجعية أهل البيت :.
وكان الفصل الثاني بعنوان : « عليٌّ بين
الشيخين وعثمان » وقد إنتظم في أحد عشر بحثاً رئيسياً ، ضغط الأحداث ، وسلط الضوء
الكاشف بحدود على الوقائع ، وأبان مظلومية عليِّ والزهراء 8 ، وتناول خطب الزهراء بالذات ،
وإحتجاجها الصارخ ، وهما يتصاعدان في الأفق البهيم ، وعطف على الثورة المضادة
للاسلام وأعاصير الردة ،
ونظر إلى أبي بكر
وهو يقدس علياً ولكنه يعهد إلى عمر ، ولمس سيرة عمر متكأ على أمير المؤمنين ، ورأى
عمر يتناسى علياً وينص على عثمان حصراً في تعيين مجلس الشورى ، ويتسلم عثمان
السلطة فيقابل بالكراهية بيعةً وسياسة ، وينقم عليه المسلمون فيتفاقم الخطب ، ولا
ناصر له من أتباعه ، حتى يتشحط بدمه صريعاً. فكان البحث الأول في إحتجاج الأنصار
فرادى وجماعات مع هنٍ وهنّ ، وإمتناع أمير المؤمنين عن البيعة في جملة من الصحابة
الرساليين ، ورعيل من بني هاشم ، وتبعه البحث الثاني متحدثاً عن ظلامة الزهراء في
إنعطاف تأريخي خطير يدعمه القرآن والسنة ، وكانت شكوى الزهراء وخطبها يشعان عنان
السماء في البحث الثالث ، وجاء البحث الرابع معالجاً لظروف الثورة المضادة للاسلام
في إتجاه معاكس ، فيه الاحتجاج حيناً ، والمعارضة حيناً آخر ، بما سمي بحروب الردة
، فكانت بلاءً منصبّاً على الأمة في مختلف الأفتراضات الواقعية منها والمغلّفة
بستار مهلهل رقيق.
ووجدنا ابا بكر (رض) في بحث خاص يقدس
علياً 7 حتى ليطيل
النظر في وجهه ، لأن النظر إلى وجه عليٍّ عبادة فيما يرويه عن رسول الله 6 ، وليته نظر إلى قلب عليّ فوجد ما فيه
من وجد ، ولمس ما في شغافه من ألم وأسى ، ولكنه أغمض عن ذلك كله ، وعهد إلى
عمر(رض) في الخلافة في مسلسل محكم لأقصاء أمير المؤمنين عن القيادة.
وجاء عمر إليها واثقاً من نفسه ،
ومستنداً إلى أمير المؤمنين في معضلاته ومتكأ عليه في الفتاوى والمشكلات والرأي
والإشارة والمشاورة ، بما صوره تصويراً دقيقاً المبحث السادس « سيرة عمر وإتكاؤه
على أمير المؤمنين » ودنا أجل عمر فعيّن مجلساً للشورى برئاسة
عبد الرحمن بن عوف ،
رشح فيه عثمان بما رسم وخطط تعييناً وتعيناً ، وأقصى علياً في رؤية واضحة لا أبهام
فيها ولا غموض ، وبويع عثمان فأستقبل المسلمون بيعته بالكراهية والسخط ، وزاد في
الطين بلة بسياسته من الصحابة لا سيما أبي ذر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود
بما مثلّه البحثان الثامن والتاسع في تكثيف وموضوعية.
ونقم المسلمون على عثمان سياسته المالية
، وسياسته العمالية في تعيين الولاة ، وإستئثاره بالفيء ، وتسليط مروان على مرافق
الدولة ، وإستهتار عماله بحقوق المسلمين ، وضعف شخصيته ، وتداعي هيبة الخلافة ،
فتجمعت الأمصار ، وكثر اللغط ، وغدر مروان ، فكان التغيير الجذري بثورة المسلمين
مصريين وعراقيين وحجازيين ، وأمسك معاوية بجيشه السوري المنظم عن نصرته ، وتربص
حتى مصرعه ، فكان له ما أراد ، إذ أجهز الثائرون على عثمان من كل صوب وحدب ، وقتل
طعيناً وأنصاره بمشهد وبمسمع ، ومنتدى ومجمع ، لم يحركوا ساكناً ، إلا لماضة من
إحتجاج مصطنع ، لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولقد نصح له عليّ 7 ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً ، وقد إستجاب
له عثمان بحدود معيّنة ، ولكن مروان أفسد على عثمان رأيه ، فكانت الفتنة بما
صورناه في البحث تصويراً فاعلاً نابضاً بوقائع الأمور الصادقة دون أية إضافة أو
تزيّد.
وكان الفصل الثالث بعنوان : « عليّ في
قيادته للأمّة » في أربعة عشر مبحثاً ، لا أستطيع الوفاء بأنجازاتها العلمية ،
فيها العرض الصادق ، والاجتهاد المتميّز ، والحقائق الناصعة ، والأضواء الكاشفة ،
والتأريخ الصقيل الخالص ، والتقييم الموضوعي الرائد ، والمناخ الانساني
المتطور ، والقيادة
المتموجة بين البعد السياسي والملحظ الديني مما رسخ أصول الحكم الإسلامي في ذروة
تعليماته الفذة ، وقرارته الحضارية في العدل الاجتماعي ، والمساواة البشرية ، مما
قلب المفاهيم الخاطئة ، وإستبدالها بموازين جديدة عادت بالاسلام إلى ينابيعه
الأولى ، وبالمسلمين إلى عهد الرسول الأعظم 6.
ولمحت الدراسة إلى ما أبلتي به الامام
من الخصوم والأعداء ، وهو في غمرة من الآلام النفسية حتى إستشهاده ، مما عبرّت عنه
المباحث التي أكتفي بذكرها دون التفصيل ، وبعنواناتها دون التعليق ، وأدع تقييم
ذلك للقارىء يحكم له أو عليه ، هذه البحوث هي كما وردت :
١ ـ الثورة ترشح الامام للخلافة ،
والامام يستقرىء الغيب المجهول.
٢ ـ إستقبال خلافة الامام بين المحرومين
والأرستقراطيين.
٣ ـ المتمردون في مجابهة الامام
متظاهرين بالثأر لعثمان.
٤ ـ قيادة الناكثين بين التردد وإقتحام
مشارف البصرة.
٥ ـ حرب الجمل وهزيمة المتمردين.
٦ ـ عليٌّ في البصرة ومسيرة رسول الله.
٧ ـ عليٌّ يتخذ الكوفة عاصمة ، ويقدّم
طلائعه إلى صفّين.
٨ ـ معركة صفين وإنحياز الخوارج.
٩ ـ الوفاء بشأن التحكيم ومعركة
النهروان.
١٠ ـ معاوية والخوارج يقتسمان الأحداث
الدموية.
١١ ـ ظواهر العدل الاجتماعي عند الامام
تقلب الموازين.
١٢ ـ المهمات القيادية السياسية
والتعليمات العسكرية لأمير المؤمنين.
١٣ ـ تهذيب النفس الانسانية لدى الامام
في إرادة الحكم الأسلامي.
١٤ ـ عليٌّ ومناوؤه حتى إستشهاد الامام.
وكل ما أخلص إليه في هذا الفصل : أن
الامام إستقبل الأحداث وجهاً لوجه ، وأرسى المفهوم الاسلامي المشرق للحكم والحاكم
، فلم يكن مهادناً في ذات الله ، ولا متخاذلاً في أمر الله ، ولا مجاملاً في تنفيذ
حكم الله ، وقد كلفّه هذا الاتجاه المستقيم كثيراً من العناء والبلاء ، حتى خاض
غمار ثلاثة حروب دامية ، ما إنتصر بها لنفسه ، وإنما إنتصر بها لمبدئه.
ولقد إحتاط لنفسه ودينه وللمسلمين ، فما
عطل حكماً ، ولا إحتجن مالاً ، ولم يسرف في شيء أبداً ، فأحتفل به المحرومون ،
ورفضه الأرستقراطيون ، وسير من القيم والمثل العليا ما جعله في مصاف الخالدين.
وزهد في الحياة بما جعله كأحد الناس له ما لهم وعليه ما عليهم ، وطبق سنن العدل
والمساواة حتى إبتعد عنه الأنتهازيون ، وإختلف عليه الأقربون ، وبقي في كوكبة
قليلة من القادة والأنصار ، وأبقى على فئة صالحة من الرساليين ، وتفرق عنه الناس
يميناً وشمالاً ، وهو القائل : « ما أبقى لي الحقّ من صديق ».
وإحتضن معاوية أصحاب المطامع ، وإشترى
الذمم والضمائر ، ولكنه الباطل الذي يتلاشى في جولته أمام الحق في صولته ، فالامام
خالدٌ ما دامت السماوات والأرض ، ومناوؤه في مزبلة التأريخ تُصبُّ
عليهم لعنة الأجيال
، ورحم الله الشيخ عبد الحميد السماوي حيث يقول :
وهذا عَلِيٌّ .. والأهازيجُ باسمِهِ
|
|
تَشُقُّ الفَضَا النائي .. فهاتوا
معاويا
|
أعيدوا « ابن هندٍ » إن وَجَدتُم
رُفَاتَهُ
|
|
رُفاتاً .. وإلاّ فأنشروها مخازيا
|
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب
العالمين
النجف
الأشرف
|
محمد حسين علي الصغير
|
المصادر والمراجع
١ ـ خير ما نبدأ به القرآن الكريم.
٢ ـ ابن الأثير ، أبو الحسن بن أبي
الكريم الشيباني ( ت : ٦٣٠ هـ ) ، الكامل في التأريخ
، دار صادر ، بيروت ١٩٦٦ م.
٣ ـ الأمين ، محسن الحسيني العاملي ( ت
: ١٣٧١ هـ ) ، أعيان
الشيعة ، مطابع ابن زيدون والترقي ، دمشق ،
١٣٧٠ هـ.
٤ ـ البلاذري ، أحمد بن يحيى ( ت : ٢٧٩
هـ ) ، أنساب
الأشرف ، دار المعارف ، القاهره ، ١٩٥٩.
٥ ـ البلاذري ، فتوح البلدان
، ليدان ، ١٨٨٦ م.
٦ ـ الجاحط ، أبو عثمان ، عمرو بن بحر (
ت : ٢٥٥ هـ ) ، البيان
والتبيان ، تحقيق حسن السندوبي ، المطبعة
الرحمانية ، القاهرة ، ١٣٣٢ هـ.
٧ ـ إبن حجر ، أحمد بن حجر الملكي
الهيثمي ( ت : ٩٧٣ هـ ) ، الصواعق
المحرقة ، دار الطباعة المحمدية ، القاهرة ،
١٣٧٥ هـ.
٨ ـ ابن أبي الحديد ، عز الدين أبو حامد
عبد الحميد بن هبة الله ( ت : ٦٥٦ هـ ) ، شرح نهج البلاغة
، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، ١٩٥٨ ،
وما بعدها.
٩ ـ الحسني ، هاشم معروف الحسني ( ت :
١٩٩٠ م ) ، سيرة
الأئمة الأثني عشر ، دار القلم ،
بيروت ، الطبعة الثانية ، ١٩٧٨.
١٠ ـ الخطيب البغدادي ، ابو بكر أحمد بن
علي ( ت : ٤٦٣ هـ ) ، تاريخه
بغداد ، مطبعة السعادة ، القاهرة ، ١٩٣١ م.
١١ ـ ابن خلدون ، عبد الرحمن بن محمد (
ت : ٨٠٨ هـ ) تأريخ ابن
خلدون ، مكتبة النهضة بمصر ، القاهرة ، ١٩٣٦
م.
١٢ ـ ابن سعد ، أبو عبد الله محمد بن
سعد الزهري ( ت : ٢٣٠ هـ ) ، الطباقات
الكبرى ، دار بيروت ، بيروت ١٩٥٧ م.
١٣ ـ الصدوق ، أبو جعفر محمد بن علي بن
الحسين بن باويه ( ت : ٣٨١ هـ ) ، الأمالي
، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، ١٩٧١ م.
١٤ ـ الصدوق نفسه ، الخصال
، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، ١٩٧١ م.
١٥ ـ الطبراني ، أبو القاسم سليمان بن
أحمد ( ت : ٣٦٠ هـ ) ، المعجم
الكبير ، تحقيق : حمدي عبد المجيد السلفي ،
مطبعة الزهراء الحديثة ، الموصل ، ١٩٨٩ م.
١٦ ـ الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسين
( ت : ٥٤٨ هـ ) ، مجمع
البيان في تفسير القرآن ، مطبعة العرفان ،
صيدا ، ١٣٣٣ هـ.
١٧ ـ الطبرسي ، أبو منصور أحمد بن علي
بن أبي طالب ، ( ت : ٥٨٨ هـ ) ، الاحتجاج
، مطبعة النعمان ، النجف الأشرف ، ١٩٦٦.
١٨ ـ الطبري ، أبو جعفر محمد بن جرير (
ت : ٣١٠ هـ ) ، تأريخ
الرسل والملوك ، تحقيق محمد أبو
الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، الطبعة الثانية ، القاهرة.
١٩ ـ طه حسين ( عميد الأدب العربي
الراحل ) ( ت : ١٩٧٣ م ) ، الفتنة
الكبرى ، دار المعارف بمصر ، القاهره ، ١٩٦٨.
٢٠ ـ ابن أبي طيفور ، أبو الفضل أحمد بن
أبي طاهر ( ت : ٢٨٠ هـ ) ، بلاغات
النساء ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ،
١٣٦١ هـ.
٢١ ـ ابن عبد البر ، أبو عمرو يوسف بن
عبد الله القرطبي ( ت : ٤٦٣ هـ ) ، الاستيعاب في أسماء الأصحاب
، مطبعة مصطفى محمد ، القاهره ، ١٩٣٩.
٢٢ ـ ابن عبد ربه ، أبو عمر أحمد بن
محمد الأندلسي ( ت : ٣٢٨ هـ ) ، العقد
الفريد ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
، القاهرة ، ١٩٥٦م.
٢٣ ـ عبد الفتاح عبد المقصود ، الامام علي بن أبي
طالب ، دار العرفان ، بيروت ، د. ت.
٢٤ ـ العقاد ، عباس محمود ، عبقرية الامام
، طبعة دار الهلال القاهرة.
٢٥ ـ أبو الفرج ، علي بن الحسين
الأصبهاني ( ت : ٣٥٦ هـ ) ، مقاتل
الطالبين ، تحيق السيد أحمد صقر ، دار إحياء
الكتب العربية ، القاهرة ، ١٩٤٩ م.
٢٦ ـ أبو الفداء ، عماد الدين إسماعيل (
ت : ٧٣٢ هـ ) ، المختصر في
أخبار البشر ، المطبعة الحسينية
، القاهرة ، ١٣٢٥ هـ ).
٢٧ ـ الفكيلي ، توفيق الفكيلي ( ت :
١٩٧٠ م ) ، الراعي
والرعية ، مطبعة أسعد ، بغداد ، ١٣٨٢ هـ.
٢٨ ـ ابن قتيبة ، أبو محمد عبد الله بن
مسلم الدينوري ، ( ت : ٢٧٦ هـ ) ، الامامة والسياسية
، الطبعة الثانوية ، القاهرة ، ١٣٢٥ هـ.
٢٩ ـ قدامة بن جعفر ( ت ٣٣٧ هـ ) ، الخراج وصنعة الكتابة
، تحقيق د. محمد حسين الزبيدي ، دار الحرية ، بغداد ، ١٩٨١.
٣٠ ـ القندوزي ، سليمان بن إبراهيم
الحسيني البلخي ، يناييع المودة ، مطبعة أخثر ، أسلامبول ، ١٣٠١ هـ.
٣١ ـ كارليل ، توماس كارليل ، الأبطال
، ترجمة محمد السباعي ، دار الكاتب العربي ، القاهرة.
٣٢ ـ محمد الدسوقي ( الدكتور ) ، أيام مع طه حسين
، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ١٩٧٨ م.
٣٣ ـ المسعودي ، أبو الحسن علي بن
الحسين ( ت ٣٣٦ هـ ) ، التنبيه
والأشراف ، ليدان ، ١٨٩٣ م.
٣٤ ـ المسعودي نفسه ، مروج الذهب
، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، مطبعة السعادة ، القاهرة ، ١٩٦٤.
٣٥ ـ المظفر ، محمد حسن ( ت : ١٣٧٥ هـ )
، دلائل
الصدق ، مطبعة جمهري ، طهران ، ١٣٧٣ هـ.
٣٦ ـ المفيد ، أبو عبد الله محمد بن
محمد بن النعمان البغدادي ( ت ٤١٣ هـ ) ، الأرشاد
، دار الكتب الاسلامية ، طهران ، ١٣٧٧ هـ.
٣٧ ـ المفيد نفسه ، الأفصاح في إمامة علي بن
أبي طالب ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشراف ،
١٩٦٣.
٣٨ ـ العزيزي ، أبو محمد أحمد بن علي (
ت ٨٤٥ هـ ) ، النزاع
والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم
، المطبعة الإبراهيمية ، القاهرة ، ١٩٣٧ م.
٣٩ ـ ابن النديم ، أبو الفرج محمد بن
أبي يعقوب إسحاق البغدادي ( ٣٨٠ ـ ٣٨٥ هـ ) ، الفهرست
، نشر الأستاذ فلوجل ، لانبرج ، ١٨٧١ ـ ١٨٧٢ + تحقيق : رضا تجدد ، مطبعة وانشكاه ،
طهران ، ١٣٩١ هـ.
٤٠ ـ النسائي ، أبو عبد الرحمن أحمد بن
شعيب ( ت : ٣٠٣ هـ ) ، خصائص
أمير المؤمنين ، المطبعة الحيدرية
، النجف الأشرف ، ١٣٦٩ هـ.
٤١ ـ نصر بن مزاحم المنفردي ( ت : ٢١٢
هـ ) ، وقعة ضفين ،
تحقيق عبد السلام محمد هارون ، المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع ،
القاهرة ، ١٩٨٢ م.
٤٢ ـ نصر بن مزاحم ، وقعة الجمل.
٤٣ ـ أبو نعيم ، أحمد بن عبد الله الأصبهاني (
ت : ٤٣٠ هـ ) ، حلية
الأولياء وطبقات الأصفياء ، مطبعة
السعادة ، القاهرة ، ١٣٥١ هـ.
٤٤ ـ نوري جعفر ( الدكتور ) ( ت : ١٩٩٢
م ، علي
ومناوئوه ، مطبعة دار الحديث ، بغداد ، ١٩٥٦ م.
٤٥ ـ ابن هشام ، أبو محمد عبد الملك بن
هشام الحميري ( ت ٢١٨ هـ ) ، السيرة
النبوية ، تحقيق مصطفى السقا وآخرون ، مطبعة الباني
الحلبي ، القاهرة ، ١٣٥٥ هـ.
٤٦ ـ الواقدي ، محمد بن عمر ( ت : ٢٠٧
هـ ) ، المغازي
، تحقيق الدكتور مارسدن جونس ، لندن ، ١٩٦٦ م.
٤٧ ـ اليعقوبي ، أخمد بن أبي يعقوب ( ت
٢٩٢ هـ ) ، تأريخ
اليعقوبي ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف
، ١٩٦٤ م.
فهرس الآيات القرآنية
الآية
|
الرقم
|
الصفحة
|
سورة البقرة
|
|
|
( الَّذِينَ يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا ... )
|
البقرة / ٢٧٤
|
٣٣
|
( إِن تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ... )
|
البقرة / ١٨٠
|
١٣١
|
( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )
|
البقرة / ١٢
|
١٣٦
|
( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ ... )
|
البقرة / ٢٣٣
|
١٦٣
|
( يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ )
|
البقرة / ٢٣٥
|
١٧٨
|
سورة آل عمران
|
|
|
( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ
مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ ... )
|
آل عمران / ٦١
|
٧٤
|
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن ... )
|
آل عمران / ١٤٤
|
٨٧
|
( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
|
آل عمران / ١٠٢
|
١٢٦
|
( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ... )
|
آل عمران / ٨٥
|
١٢٨
|
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... )
|
آل عمران / ١٤٤
|
١٣٢
|
( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا
مِن بَعْضٍ )
|
آل عمران / ٣٤
|
٢٧٣
|
سورة النساء
|
|
|
( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي
أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ )
|
النساء / ١١
|
١٣١
|
سورة المائدة
|
|
|
( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ
... )
|
المائدة / ٥٥ ، ٥٦
|
٣٣
|
(*
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ
تَفْعَلْ )
|
المائدة / ٦٧
|
٧٦
|
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ )
|
المائدة / ٣
|
٧٩
|
( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ
نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ )
|
المائدة / ٦٤
|
١٢٧
|
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ )
|
المائدة / ٥٠
|
١٢٨
|
( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ
لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي )
|
المائدة / ٨٠
|
١٣٥
|
سورة الأنعام
|
|
|
( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )
|
الأنعام / ٦٧
|
١٣١
|
سورة الأعراف
|
|
|
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ )
|
الأعراف / ٩٦
|
١٣٥
|
سورة الأنفال
|
|
|
( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ
إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ )
|
الأنفال / ٧
|
٢٣
|
( وَالَّذِينَ آمَنُواْ
مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ )
|
الأنفال / ٧٥
|
١٢٨
|
سورة التوبة
|
|
|
( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ )
|
التوبة / ٢٥،٢٦
|
٦٥
|
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ
مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ )
|
التوبة / ١٠٧ ،
١٠٨
|
٦٩
|
( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ
مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ )
|
التوبة / ١٢٨
|
١٢٦
|
( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ )
|
التوبة / ٤٩
|
١٢٧
|
( نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم
)
|
التوبة / ١٣
|
١٢٩
|
( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا )
|
التوبة / ٣٤
|
١٩٨
|
سورة يونس
|
|
|
( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى )
|
يونس / ٣٥
|
١٣٦
|
سورة هود
|
|
|
( وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ... )
|
هود / ١٢١ ، ١٢٢
|
١٢٩
|
( أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
)
|
هود / ٢٨
|
١٣٦
|
سورة يوسف
|
|
|
( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ )
|
يوسف / ١٨
|
١٣١
|
سورة الرعد
|
|
|
( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ
قَوْلُهُمْ )
|
الرعد / ٥
|
١٣٦
|
سورة إبراهيم
|
|
|
( إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ
وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) )
|
إبراهيم / ٨
|
١٢٩
|
سورة النحل
|
|
|
( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )
|
النحل / ١٠٦
|
٢٠
|
سورة الكهف
|
|
|
( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ
بَدَلًا )
|
الكهف / ٥٠
|
١٢٧
|
( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ
بَدَلًا )
|
الكهف / ٥٠
|
١٣٦
|
سورة مريم
|
|
|
( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ
وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ
آلِ يَعْقُوبَ )
|
مريم / ٥ ، ٦
|
١٢٨
|
( يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ )
|
مريم / ٦
|
١٣١
|
سورة الحج
|
|
|
( لَبِئْسَ الْمَوْلَى
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) )
|
الحج / ١٣
|
١٣٦
|
سورة الشعراء
|
|
|
( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) )
|
الشعراء / ٢١٤
|
١٧
|
( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )
|
الشعراء / ٢٢٧
|
١٢٩
|
سورة النمل
|
|
|
( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ
دَاوُودَ )
|
النمل / ١٦
|
١٢٨
|
( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ
دَاوُودَ )
|
النمل / ١٦
|
١٣١
|
سورة القصص
|
|
|
( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ )
|
القصص / ٦٨
|
١٥٧
|
سورة العنكبوت
|
|
|
( الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن
يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا )
|
العنكبوت / ١ ـ ٤
|
١٠٥
|
سورة الأحزاب
|
|
|
( وَأَنزَلَ الَّذِينَ
ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ )
|
الأحزاب / ٢٦ ، ٢٧
|
٥١
|
( إِذْ جَاؤُوكُم مِّن
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ )
|
الأحزاب ١٠ ـ ١٢
|
٤٥
|
( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ )
|
الأحزاب / ٢٥
|
٤٨
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا )
|
الأحزاب / ٧٠
|
١٦٣
|
سورة فاطر
|
|
|
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )
|
فاطر / ٢٨
|
١٢٦
|
سورة يس
|
|
|
( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ )
|
يس / ٩
|
٢١
|
سورة الزمر
|
|
|
( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم
مَّيِّتُونَ (٣٠) )
|
الزمر / ٣٠
|
٨١
|
( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ
يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (٤٠) )
|
الزمر / ٤٠
|
١٣١
|
( أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ )
|
الزمر / ١٥
|
١٣٥
|
( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا )
|
الزمر / ٥١
|
١٣٥
|
سورة الأحقاف
|
|
|
( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً )
|
الأحقاف / ١٥
|
١٦٢
|
سورة محمد
|
|
|
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )
|
محمد / ٢٤
|
١٣٢
|
سورة الفتح
|
|
|
( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ )
|
الفتح / ٢٧
|
٥٦
|
سورة الحجرات
|
|
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا )
|
الحجرات / ٦
|
١٨٦
|
سورة القمر
|
|
|
( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) )
|
القمر / ٤٥
|
٢٧
|
سورة المجادلة
|
|
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ )
|
المجادلة / ١٢
|
٣٤
|
( أَأَشْفَقْتُمْ أَن
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ
)
|
المجادلة / ١٣
|
٣٥
|
سورة الحشر
|
|
|
( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )
|
الحشر / ٩
|
٣٢
|
سورة الممتحنة
|
|
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم
)
|
الممتحنة / ١
|
٥٩
|
سورة القيامة
|
|
|
( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ
أَن يُتْرَكَ سُدًى )
|
القيامة / ٣٦
|
١٦٣
|
سورة النبا
|
|
|
( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ
كَانَ مِيقَاتًا )
|
النبا / ١٧
|
١٦٤
|
سورة الزلزله
|
|
|
( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ )
|
الزلزلة / ٧ ، ٨
|
٣٥٤
|
سورة الإنسان
|
|
|
( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨)
إِنَّمَا ... )
|
الإنسان / ٨ ، ٩
|
٣٢
|
سورة المطففين
|
|
|
( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ
)
|
المطففين / ١
|
٣٢٦
|
سورة المسد
|
|
|
( تَبَّتْ يَدَا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ )
|
المسد / ١
|
١٨
|
فهرس الأعلام
حرف الألف
أبي بن كعب : ١٠١ ، ١١٦.
ابن الأثير : ١٠٤ ، ٢٢٩ ، ٣٥٥.
أثير بن عمرو بن هاني : ٣٥٤.
أحمد = محمد رسول الله (ص) : ٨٨.
أحمد بن حنبل : ٣٠١.
الأحنف بن قيس : ٢٨٦ ، ٢٩٧.
أسيد بن خصير : ٩٥ ، ١١٧.
إسماعيل : ٢٤٨.
أسد بن عبد العزى : ٢٨.
أبي أسيد الساعدي : ٢١٣.
أسامة بن زيد بن حارثة : ٨١ ، ٨٢ ، ٨٣
، ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٩٠ ، ١٦٤ ، ٢٣٨.
الإسكندر : ١٦١.
أوس بن خولي : ٨٨.
أبي الأسود الدؤلي : ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، ٣٥٣.
الأسواد بن يزيد النخعي : ٢١٥.
الأسواد العنسي : ١٤٤.
|
|
الأشعث بن قيس الكندي : ٢٨٩ ، ٢٩٠ ،
٢٩١ ، ٣١٢ ، ٣٥٢.
الأشهب بن بشر البجلي : ٣١٠.
أرطأة بن عبد شرحبيل : ٣٨.
ابن الإطنابة : ٢٨٨.
أمية بن أبي حذيفة : ٤٠.
الأمين الحسيني العاملي الشقرائي :
٢٢٩ ، ٣٥٥.
أم أيمن : ١٢٠.
أبو أيوب الأنصاري : ١٠٢ ، ٢٦٣.
حرف الباء
أبي بكر الصديق (رض) : ١٣ ، ٢١ ، ٢٩ ،
٤٨ ، ٥٤ ، ٥٧ ، ٦٥ ، ٧٣ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٨٧ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٧
، ٩٨ ، ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٧ ، ١١١ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١١٤ ، ١١٥ ، ١١٦ ، ١١٧
، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٣ ، ١٢٩ ، ١٣٢ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤٢ ،
|
١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٥ ، ١٤٩ ، ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٤ ، ١٥٦ ، ١٥٧ ، ١٥٨ ،
١٧٤ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٨ ، ١٩٧ ، ٢٠٣ ، ٢٤٨ ، ٣٦٥ ، ٣٦٦.
عمر بن الخطاب (رض) : ٢٨ ، ٢٩ ، ٤٨ ،
٥٤ ، ٥٨ ، ٦٠ ، ٧٩ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٥ ، ٧٨ ، ٨٠ ، ٩١ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧
، ١٠٠ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٧ ، ١١٤ ، ١١٦ ، ١١٨ ، ١٢٠ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤٥ ، ١٥٠ ، ١٥٢
، ١٥٤ ، ١٥٥ ، ١٥٦ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ، ١٦٠ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٣ ، ١٦٤ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٦٧
، ١٦٨ ، ١٦٩ ، ١٧٠ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٨ ، ١٩٧ ، ٢٠٣
، ٢٠٦ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢١٩ ، ٢٧٢ ، ٢٧٧ ، ٣١٧ ، ٣٦٥ ، ٣٦٦.
أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري :
١٣٤.
أبي بكر الأنباري : ١٦٤.
أبا بكرة : ١٦٩.
البّراء بن عازب : ٧٢ ، ١٠٣.
بريدة الأسلمي : ١٠١.
بسر بن أرطأة : ٣٠٨ ، ٣١١.
بشير بن سعد الأنصاري : ٩٤ ٩٦ ،
|
|
١١٥.
بلال الحبشي : ٢٠ ، ٣٠ ، ٥٠ ، ٨٢ ،
١٠٣.
البلاذري : ٢٢٩ ، ٢٨٠ ، ٣٥٥.
حرف التاء
تيم بن مرة : ٩٩ ، ١١٠.
توفيق الفكيلي : ٣٣٩ ، ٣٥٦.
توماس كارليل : ٣٥٦.
حرف الثاء
ثابت بن قيس الهمداني : ١١١ ، ٢١٥.
حرف الجيم
جبرائيل : ٣٢ ، ٣٩ ، ٧١ ، ٧٣ ، ٧٧ ،
٨٦ ، ٨٨.
أبو جرول : ٦٦.
جعفر بن أبي طالب : ٢٠ ، ٥٦ ، ٢٨٨.
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي : ١٣٣
، ٢٢٩.
جندب بن جنادة : ١٩٧.
جندب بن زهير العامري : ٢١٥.
جندب بن كعب الأزدي : ٢١٥.
جناحاً مولى حرب بن أمية : ٢٢.
جذيمة بن عامر : ٦٣.
جرير بن عبدالله البجلي : ٢٧٩.
ابن جر موز غيلة : ٢٦٦.
|
جعدة بن هبيرة المخزومي : ٢٧٥ ، ٣٦٢.
جورج جرداق : ٣٥٦.
جبلة بن عمر : ٢١٤.
جفينة : ١٦٩.
أبي جهل : ٢٧ ، ٢٠٣.
الجاحظ : ٢٢٩ ، ٣٥٦.
جارية بن قدامة السعدي : ٢٥٩ ، ٣٠٨.
حرف الحاء
الإمام الحسين (ع) : ٦ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٧٤
، ١٠١ ، ١٢٠ ، ١٣٤ ، ١٤١ ، ١٤٢ ، ٢٠٠ ، ٢١١ ، ٢١٣ ، ٢٢٤ ، ٢٦٣ ، ٣١٩ ، ٣٥٥ ، ٣٥٨
، ٣٦٢.
الإمام الحسن (ع) : ٦ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٥٨
، ٧٤ ، ١٠١ ، ١٢٠ ، ١٤١ ، ١٤٢ ، ٢٠٠ ، ٢١١ ، ٢١٣ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٨ ، ٢٥٢ ، ٢٥٣
، ٢٦٣ ، ٣١٨ ، ٣١٩ ، ٣٢٨ ، ٣٥٥ ، ٣٦٢ ، ٣٦٣.
الحجاج بن عبد الله الصريمي : ٣٥١.
أبي الحكم بن الأخنس بن شريف : ٤٠.
الحكم بن أبي العاص : ١٨٥ ، ٢١٠.
الحاكم : ١٤٢.
حكيم بن جبلة العبدي : ٢١٦٠ ، ٢٢٣.
حمزة بن عبد المطلب : ٢٧ ، ٣٩ ، ٤٠ ،
٤٦ ، ١٧٦ ، ٢٧٧ ، ٢٨٨.
|
|
حذيفة بن اليمان : ٧٠ ، ١٠٣.
حفصة : ٨٢ ، ٨٥ ، ٩١ ، ٢٤٨.
حجر بن عدي : ٢٠١.
ابن حجر : ١٠٤ ، ٢٢٩ ، ٣٥٥.
حنظلة بن أبي سفيان : ٢٨.
ابن الحنظلية : ٢٧.
ابن الحضرمية : ٢١٠.
حبيب بن مسلمة الفهري : ٢٢٧.
الحباب بن المنذر : ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥.
حرقوص بن زهير السعدي : ٢١٦ ، ٢٥٧ ،
٢٥٨ ، ٣٤٩.
الحرث بن مروان : ١٨٤.
الحارث بن هشام المخزومي : ٢٨ ، ١١١.
حرب بن الصمة : ٤١.
حرب بن أمية : ٢٢.
أبي حرب الغافقي : ٢١٦ ، ٢٢٤ ، ٢٣٣.
حارثة بن النعمان : ٣١.
حسان بن ثابت : ٢١٣ ، ٢٣٨.
حسان بن حسان : ٣٠٧.
حيي بن أخطب : ٤٤ ، ٥١.
حاطب بن أبي بلتعة : ٥٩.
ابن أبي الحديد : ١٠٤ ، ١٢٣ ، ١٣٤ ،
١٦٣ ، ١٦٤ ، ١٨٤ ، ٢٢٣ ، ٢٢٩ ، ٢٩٠ ، ٣٥٥.
|
حرف الخاء
ابن خلدون : ٢٢٩ ، ٣٥٦.
خباب بن الأرت : ٢٠.
خديجة بنت خويلد : ٦ ، ٢٤٩.
خالد بن الوليد : ٣٨ ، ٥٦ ، ٦٣ ، ٦٤ ،
٧٢ ، ١٤٥ ، ٢٨٦.
خالد بن سعيد بن العاص : ١٠٠ ، ١١١ ،
٢٤٢ ، ٢٤٣.
الخطيب البغدادي : ١٠٥ ، ٣٥٦.
خزيمة بن ثابت الأنصاري : ١٠١ ، ١١٦ ،
٢٨٦ ، ٢٨٧.
خارجة بن حذافة العدوي : ٣٥١.
الخريث بن راشد : ٣٠٢ ، ٣٠٣.
ابن الخثعمية : ٢٦٨.
حرف الدال
دريد بن الصمة : ٢٩٣.
أبو دجانة الأنصاري : ٣٨ ، ٤٠ ، ٤١.
حرف الذال
أبي ذر الغفاري : ٣٢ ، ١٠١ ، ١٠٤ ،
١١٧ ، ١٩٧ ، ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢٠٨ ، ٣٩٧.
حرف الراء
رملة بنت الحارث : ٥٠.
|
|
ابن رفاعة : ٢٥٣ ، ٢٥٤.
ابن أبي رافع : ٣١٩.
حرف الزاء
زيد بن أرقم : ١٨٤.
زيد بن ثابت : ١٩٨ ، ٢١٣ ، ٢٢٣ ، ٢٣٨.
زيد بن حارثة : ٥٦.
زيد بن صوحان :٢١٥ ، ٢١٦.
زيد بن مليص : ٢٨.
زبيد بن كثير : ٢٠٤.
زياد ابن أبيه : ١٦٩ ، ٣١١.
زياد : ١٦٩.
زياد بن النضر الحارثي : ٢١٦.
زياد بن حفصة : ٣١٦.
أبو زمعة بن الأسود : ٢٨.
الإمام زين العابدين (ع) : ٦.
زينب : ٣١ ، ٣٦٢.
ابن الزبعرى : ٣٦.
الزبير بن العوام : ٥٩ ، ١١٧ ، ١٧١ ،
١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٩٤ ، ١٩٨ ، ٢٠٦ ، ٢٠٨ ، ٢١١ ، ٢١٦ ، ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٣٣ ، ٢٣٤ ،
٢٤٤ ، ٢٤٥ ، ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، ٢٥٠ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٥ ،
٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٣٢٥ ، ٣٤٢.
|
حرف السين
سعد بن بكر : ٧٢.
سعد بن عبادة : ٤١ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٨١ ،
٨٣ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ١٠٩ ، ١١٦.
سعيد بن العاص : ١٨٧ ، ٢١٥ ، ٢٢١ ،
٢٢٢ ، ٢٤٨.
ابن سعد : ٦٨ ، ١٠٤ ، ١٩٤ ، ٢٢٩.
سعد بن أبي وقاص : ١٦٩ ، ١٧١ ، ١٧٣ ،
١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٨٦ ، ١٩٥ ، ٢٢٣ ، ٢٣٧.
سعد بن قفل التيمي : ٣١٠.
ابن سعدة الفزاري : ٣٠٦.
سعد بن معاذ : ٤١ ، ٥٠.
سعد بن مالك : ١٦٢.
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ٢٩٦.
أبي سفيان بن حرب : ٢٣ ، ٢٥ ، ٣٦ ، ٣٧
، ٤٠ ، ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٨ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٦٠ ، ٦١ ، ٦٦ ، ٩٧ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٦٩ ، ١٨٠ ،
١٨٤ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧.
سفيان بن عوف الغامدي : ٣٩ ، ٣٠٦.
سلمان : ٢٩.
سلمان الفارسي : ٤٤ ، ١٠٠ ، ١٠٣ ، ١٠٤
، ١١٧.
سالم مولى أبي حذيفة : ١٧٠.
سويد بن غفلة : ١٣٦.
|
|
سودان بن حمران السكوني : ٢١٦.
سهل بن حنيف الأنصاري : ٤١ ، ١٠٢ ،
٢٤٢ ، ٢٤٣ ، ٢٧٥ ، ٣٤٢.
سهيل بن عمرو : ٥٣ ، ١١٠.
سمية : ١٩ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨.
أم سلمة : ٣٠ ، ٨٥ ، ٢٠٧ ، ٢٤٨ ، ٢٥٠.
سماك بن خرشة : ٤١.
حرف الشين
شريح بن الحارث : ٣٤٤ ، ٣٤٥.
شريح بن هاني : ٢٩٦.
شبل بن معبد : ١٦٩.
شيبة بن ربيعة : ٢٧ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧.
شبيب بن بحران : ٣٥٢ ، ٣٥٣.
حرف الصاد
الصدوق : ١٠٤ ، ٢٢٩ ، ٣٥٦.
الصادق الأمين : ٢٠١.
صعصعة بن صوحان : ٢١٥ ، ٣١٣.
صفية بنت الحارث بن أبي طلحة العبدري
: ٢٧١.
حرف الضاد
ضرار بن أبي ضمرة : ٣٢٧.
الضحاك بن قيس : ٣٠٦.
|
حرف الطاء
الطبري = أبو جعفر : ٤٥ ، ١٠٥ ، ٢١٣ ،
٢٢٢ ، ٢٢٩ ، ٢٦٠ ، ٣٥٢ ، ٣٥٦.
طلحة بن عبيد الله : ٣٨ ، ١٠٤ ، ١٧١ ،
١٧٤ ، ١٩٤ ، ١٩٨ ، ٢٠٨ ، ٢١١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٣٣ ، ٢٣٤ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، ٢٤٦ ،
٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٥٠ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٥ ، ٢٦٧ ،
٣٢٥ ، ٣٤٢.
أبا طلحة : ١٧٢.
طليحة الأسدي : ١٤٤.
طارق : ٣٧.
طه حسين : ١٦ ، ١٠٥ ، ١١٩ ، ٢٢٩ ،
٣٥٦.
ابن أبي طيفور : ٢٢٩.
طعيمة بن عدي : ٢٨.
الطاغوت القرشي : ٢٠.
أبو طالب : ١٥ ، ١٨ ، ١٩.
حرف العين
الإمام علي بن أبي طالب (ع) = أمير
المؤمنين : ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ١٣ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠ ،
|
|
٢١ ، ٢٢ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٧ ، ٢٨ ،
٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦
، ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٦٤ ،
٦٥ ، ٦٦ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٨١
، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٣ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠١
، ١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٧ ، ١٠٩ ، ١١٠ ، ١١١ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١١٤ ، ١١٥ ، ١١٦
، ١١٧ ، ١١٨ ، ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، ١٣٣ ، ١٣٥ ، ١٣٦ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١
، ١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٥ ، ١٤٦ ، ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٤٩ ، ١٥٠ ، ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٤ ، ١٥٥
، ١٥٦ ، ١٥٧ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ، ١٦٠ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٣ ، ١٦٤ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٦٧ ، ١٦٨
، ١٧٠ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٧٨ ، ١٧٩ ، ١٨٢ ، ١٨٧ ، ١٨٩
، ١٩٠ ، ١٩٧ ، ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢٠٩ ، ٢١١ ،
|
٢١٢ ، ٢١٣ ، ٢١٤ ، ٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢٢٠ ، ٢٢١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٣ ،
٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٦ ، ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٣١ ، ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٧ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤٠ ،
٢٤١ ، ٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥١ ، ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٥٥ ،
٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٢٧٠ ،
٢٧١ ، ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، ٢٧٤ ، ٢٧٥ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٨١ ، ٢٨٢ ، ٢٨٣ ،
٢٨٤ ، ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٢٨٨ ، ٢٩٠ ، ٢٩١ ، ٢٩٢ ، ٢٩٣ ، ٢٩٤ ، ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، ٢٩٨ ، ٢٩٩ ،
٣٠٠ ، ٣٠١ ، ٣٠٢ ، ٣٠٣ ، ٣٠٥ ، ٣٠٦ ، ٣٠٧ ، ٣٠٨ ، ٣٠٩ ، ٣١٠ ، ٣١٢ ، ٣١٣ ، ٣١٤ ،
٣١٦ ، ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣١٩ ، ٣٢٠ ، ٣٢١ ، ٣٢٢ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤ ، ٣٢٥ ، ٣٢٧ ، ٣٢٨ ، ٣٢٩ ،
٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٣٣٤ ، ٣٣٥ ، ٣٣٦ ، ٣٣٧ ، ٣٣٨ ، ٣٣٩ ، ٣٤٠ ، ٣٤١ ، ٣٤٢ ،
٣٤٣ ، ٣٤٤ ،
|
|
٣٤٥ ، ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، ٣٤٨ ، ٣٤٩ ، ٣٥٠ ،
٣٥١ ، ٣٥٢ ، ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، ٣٥٦ ، ٣٥٧ ، ٣٦١ ، ٣٦٢ ، ٣٦٣ ، ٣٦٤ ، ٣٦٥ ، ٣٦٦ ،
٣٦٧ ، ٣٦٨ ، ٣٦٩ ، ٣٧٠.
علي بن الفارقي : ١٢٣.
علي الصغير : ٣٥٧.
علي الخاقاني : ٣٥٧.
عثمان بن عفان : ١٠ ، ٥٣ ، ٨٣ ، ١٠٧ ،
١٥٥ ، ١٧٠ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٧٨ ، ١٧٩ ، ١٨٠ ، ١٨١ ،
١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٨٨ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ١٩٣ ، ١٩٤ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ،
١٩٧ ، ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢٠٩ ، ٢١٠ ،
٢١١ ، ٢١٢ ، ٢١٣ ، ٢١٥ ، ٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢١٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ،
٢٢٥ ، ٢٢٦ ، ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ٢٣٢ ، ٢٣٤ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤١ ، ٢٤٢ ، ٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٤٦ ،
٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥٧ ، ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٧ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ،
٢٨١ ، ٢٨٢ ،
|
٢٨٣ ، ٢٨٥ ، ٢٩٢ ، ٣٠٣ ، ٣١٠ ، ٣١٢ ، ٣١٧ ، ٣٦٧.
عبد الله بن بديل : ٢٦٥.
عبد الله بن جعفر : ٢٦٤ ، ٣٦٢.
عبد الله بن جبير : ٣٨.
عبد الله بن الحسن : ١٣٤.
عبد الله بن خالد بن أسيد : ١٨٤.
عبد الله بن خلف الخزاعي : ٢٦٨ ، ٢٧١.
عبد الله بن خباب بن الأرت : ٣٠٠.
عبد الله بن الزبير : ٢١٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٨
، ٢٤٩ ، ٢٥٦ ، ٢٦٢ ، ٢٦٦ ، ٢٩٦.
عبد الله بن زمعة : ٣٤٣.
عبد الله بن سعد بن أبي سرح : ١٨٥ ،
١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٩٨ ، ٢٠٤ ، ٢٠٨ ، ٢١٣ ، ٢١٤ ، ٢٢١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٥.
عبد الله بن رواحة : ٥٦.
عبد الله بن عامر بن كريز : ١٨٧ ، ٢٢١
، ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٥ ، ٢٤٢ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥٨.
عبد الله بن عمر : ٣٤ ، ١٦٩ ، ١٧٠ ،
٢٢٤ ، ٢٣٧ ، ٢٤٨ ، ٢٨٦ ، ٢٩٧.
عبد الله بن مسعود : ١٩٧ ، ٢٠٢ ، ٢٠٣
، ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٣٦٧.
عبد الله بن أبي ابن سلول : ٦٨.
عبد الله بن الأصم الغامدي : ٢١٦.
|
|
عبد الله بن محمد الأزدي : ٣٥٣.
عبيد الله بن العباس : ٢٧٥.
عمرو بن العاص : ٣٦ ، ١٦٩ ، ٢١٢ ، ٢١٣
، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، ٢٨٨ ، ٢٨٩ ، ٢٩٢ ، ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، ٢٩٨ ، ٣١٤ ، ٣٢٧ ، ٣٥١.
عمرو بن عبدود : ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٨ ، ٤٩ ،
٥٠.
عمرو بن الحمق الخزاعي : ٢١٥.
عمرو بن نوفل : ٤٦ ، ٤٧ ، ٤٨.
عمرو بن سالم الخزاعي : ٥٦.
عمرو بن بكير : ٣٥١.
عمران بن حصين : ٢٥٨ ، ٢٦٠.
عمر بن عبد العزيز : ٢٧٦.
عمراً : ٤٦.
عمير بن عثمان : ٢٨.
عمرة بنت عبدود : ٤٩.
عامر بن عبد القيس : ٢١٤.
عامر بن عبد الله : ٢٨.
ابن عامر : ٢١٤.
أبي عامر الفاسق : ٦٩.
عمارة بن شهاب : ٢٤٢.
عمار ذو الكلاع الحميري : ٢٨٨.
عمار بن ياسر : ٢٠ ، ٧٠ ، ١٠١ ، ١٠٣ ،
١٠٤ ، ١١٧ ، ١٧٩ ، ١٨٠ ، ١٩٧ ، ٢٠٣ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ،
|
٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٦٣ ، ٢٦٥ ، ٢٦٨ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، ٢٨٨ ، ٣٦٧.
عبد الرحمن بن عوف : ٦٣ ، ٦٤ ، ١١٦ ،
١٥٥ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٨٠ ، ١٩٣ ، ١٩٤ ، ٢٠٥ ، ٢١٠ ،
٢١٢ ، ٣٦٧.
عبد الرحمن بن جنيد الجمحي : ١٨٣.
عبد الرحمن بن أبي بكر : ١٦٩.
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد : ٢١٦ ،
٢٨٦.
عبد الرحمن بن عديس البلوي : ٢١٦.
عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد : ٢١٢.
عبد الرحمن بن ملجم المرادي : ٣٥١ ،
٣٥٢ ، ٣٥٣ ، ٣٥٤.
أبا عبد الرحمن بن عوف : ٦٣.
العاص بن سعيد بن العاص : ٢٨.
أبو العاص بن قيس : ٢٨.
العاص بن منبه : ٢٨.
العاص بن هاشم المخزومي : ٢٨.
أبو عبيدة بن الجراح : ٨١ ، ٨٢ ، ٨٣ ،
٩٠ ، ٩١ ، ٩٥ ، ٩٧ ، ١٠٠ ، ١٠٤ ، ١١٤ ، ١١٥ ، ١١٦ ، ١٧٠ ، ٣٦٥.
عبيدة : ٢٧ ، ٤٦ ، ٢٨٨.
عبيد الله بن العباس : ٢٤٢ ، ٣٠٨ ،
٣٠٩ ، ٣١١.
عبيد الله بن عمر بن الخطاب : ٢١٠ ،
|
|
٢٨٨.
عبد الحسين الأميني : ١٠٥.
عبد الحميد السماوي : ٣٧٠.
عبد المطلب : ١٦٤ ، ٢٦٦ ، ٢٨٣.
عبد الفتاح عبد المقصود : ١٠٥ ، ٢٩٩ ،
٣٥٦.
ابن عباس = عبد الله بن عباس : ٣٣ ،
٨٤ ، ١٥٦ ، ١٦٠ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٧٣ ، ١٨٣ ، ٢١٢ ، ٢٢٧ ، ٢٤٢ ، ٢٤٤ ، ٢٧٢ ، ٢٧٣ ،
٢٩٢ ،٢٩٤ ، ٢٩٦ ، ٢٩٩ ، ٣٠٣ ، ٣١١ ، ٣١٩.
العباس = أبا الفضل : ٦٠ ، ٦١ ، ٦٥ ،
٨٥ ، ٨٨ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٤.
ابن عبد البر : ١٠٥.
عبد الدار : ٣٧ ، ٣٨.
ابن عبد مناف : ٤٧.
عبد مناف : ٩٩ ، ١١١.
ابن أم عبد : ٢٠٣.
عكرمة بن أبي جهل : ٣٨ ، ٤٠ ، ١١٠.
علقمة بن قيس : ٢١٥.
عوف : ٦٤.
عروة بن الجعد : ٢١٥.
أبو عزة الجمحي : ٣٦.
العنبري : ٢١٥.
العقاد : ١٠٥ ، ٣٥٦.
|
عائشة : ٨٣ ، ٨٥ ، ٩١ ، ١٢٣ ، ١٨٤ ،
٢٠٤ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢١١ ، ٢١٢ ، ٢٤٦ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦ ،
٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦٢ ، ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٢٧١ ، ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، ٣٠١ ، ٣٤٢ ، ٣٥٦.
عبادة بن الصامت : ١٠٢.
عقبة بن أبي معيط : ٢٠٢.
عتبة بن ربيعة : ٢٧ ، ٢٠٨ ، ٢٧٦ ،
٢٧٧.
عثمان بن حنيف : ١٠٢ ، ٢٤٢ ، ٢٥٨ ،
٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٣٢٠.
عدي : ٩٩.
عقيل بن الأسود : ٢٨.
عقيل بن أبي طالب : ٢٠٠ ، ٢٦٤ ، ٣١٨ ،
٣٤٤ ، ٣٦٢.
حرف الغين
غامد : ٣٠٧.
غنم بن عوف : ٦٨.
ابن غزية الأنصاري : ٢٥٤.
حرف الفاء
فاطمة بنت محمد (ص) = الزهراء : ٢٩ ،
٣٠ ، ٣١ ، ٣٤ ، ٤١ ، ٥٥ ، ٥٨ ، ٧٤ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٨٨ ، ١٠٧ ، ١١٦ ، ١١٧ ،
|
|
١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ،
١٢٥ ، ١٢٦ ، ١٢٩ ، ١٣٠ ، ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٣٤ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، ١٤٢ ،
١٨٤ ، ٢٤٩ ، ٣٦٥ ، ٣٦٦.
فاطمة بنت أسد : ١٥.
الفضل بن العباس : ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٧ ، ٨٨.
الفارسي : ٣٤٢ ، ٣٤٣.
الفاكه بن المغيرة : ٦٣ ، ٦٤.
فرعون : ١٧٤.
فضة : ٣١.
أبو الفرج الأصبهاني : ٣٥٢ ، ٣٥٣.
أبو الفداء : ٢٢٩.
فلهاوزن : ٣٥٢.
حرف القاف
القعقاع بن عمرو : ٢٢٣ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨.
قرظة بن كعب الأنصاري : ٢٥٢.
قيصر : ٦٩.
قتيرة بن وهب السكسكي : ٢١٦ ، ٢٢٣.
قنبر : ٣١٨.
قثم بن العباس : ٣١١ ، ٣٣٥.
ابن أبي قحافة : ١٠٤ ، ١١٨ ، ١٢٨ ،
٢١٧.
ابن قتيبة : ١٠٥ ، ١١٨ ، ٢٢٩ ، ٢٦١.
ابن قميئة : ٣٩.
|
قيس بن سعد بن عبادة : ٢٤٢ ، ٢٦٣ ،
٢٧٥.
أبو قيس بن الوليد : ٢٨.
أبو قتادة بن ربعي : ٢٦٣.
قدامة بن جعفر : ٢٢٩.
القندوزي : ١٠٥ ، ٢٢٩.
حرف الكاف
كعب بن مالك : ٢١٣.
كعب الأحبار : ١٦٩ ، ١٩٩.
كميل بن زياد النخعي : ٢١٥ ، ٣٣٤.
كسرى بن هرمز : ٣٤٣.
كنانة بن بشر الليثي : ٢١٦.
كذي الكلاع الحميري : ٢٨٦.
حرف اللام
أبو لهب : ١٧.
أبو لؤلؤة : ١٦٩ ، ١٧٠.
حرف الميم
النبي (ص) = محمد بن عبد الله (ص) : ١٠
، ١١ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٧ ، ٢٩ ،
٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٦ ، ٤٧ ، ٤٨
، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٢ ،
|
|
٥٣ ، ٥٤ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٥٩ ،
٦٠ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦
، ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٨١ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ،
٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١١١ ، ١١٣ ، ١١٤ ،
١١٥ ، ١١٦ ، ١١٧ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٢٦ ، ١٢٧ ، ١٢٨ ،
١٢٩ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٣٤ ، ١٣٥ ، ١٣٦ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١ ،
١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٦ ، ١٤٨ ، ١٥٠ ، ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٥ ، ١٥٧ ، ١٥٨ ، ١٦١ ، ١٦٤ ،
١٧٠ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٦ ، ١٧٩ ، ١٨٠ ، ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٦ ، ١٨٨ ، ١٩٠ ، ١٩٣ ، ١٩٤ ،
١٩٧ ، ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢٠٢ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢١١ ، ٢١٣ ، ٢١٤ ، ٢١٧ ،
٢٢٥ ، ٢٣١ ، ٢٣٤ ، ٢٣٧ ، ٢٣٩ ، ٢٤٥ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥١ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٥٩ ،
٢٦٢ ، ٢٦٣ ، ٢٦٦ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٢٦٠ ، ٢٧٢ ، ٢٧٥ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، ٢٨٠ ، ٢٨١ ، ٢٨٦ ،
٢٨٧ ، ٢٨٨ ،
|
٢٩٠ ، ٢٩٢ ، ٢٩٤ ، ٢٩٩ ، ٣٠٠ ، ٣٠١ ، ٣٠٨ ، ٣١٠ ، ٣٢١ ، ٣٢٣ ،
٣٢٩ ، ٣٣١ ، ٣٣٧ ، ٣٣٩ ، ٣٤٥ ، ٣٤٨ ، ٣٥٠ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، ٣٥٧ ، ٣٥٨ ، ٣٦١ ، ٣٦٤ ،
٣٦٥ ، ٣٦٦ ، ٣٦٨.
محمد بن الحنفية : ٢٦٤ ، ٢٦٨ ، ٣٤٢.
محمد بن أبي بكر : ٢١٦ ، ٢٥٢ ، ٢٦٨ ،
٣١٤ ، ٣٣٧.
محمد بن مسلمة : ٢٢٣ ، ٢٣٨.
محمد بن أبي حذيفة بن عتبة : ١٨٥ ،
٢٠٨ ، ٢١٦.
الإمام محمد باقر (ع) : ٦.
محمد بن إسحاق : ٤١.
محمد حسين علي الصغير : ٦، ١١.
محمد : ٢١٣.
محمد بن طلحة : ٢١٣ ، ٢٢٤ ، ٢٤٩ ، ٢٥٦
، ٢٦٢.
محمد الدسوقي : ١١٩ ، ٢٢٩.
محمد الحسين كاشف الغطاء : ٣٥٧.
مالك الأشتر : ٢٠١ ، ٢١٥ ، ٢١٦ ، ٢٣٦
، ٢٤٢ ، ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٧٩ ، ٢٨٩ ، ٢٩١ ، ٢٩٢ ، ٣١٤ ، ٣٢٢ ، ٣٣٧.
مالك بن عوف : ٦٥.
مالك بن نويرة : ١٤٥.
|
|
مالك بن كعب الأرحبي : ٢١٥.
المغيرة بن نوفل بن الحارث : ٣٥٤.
مروان بن الحكم : ١٨١ ، ١٨٢ ، ١٨٤ ،
١٨٥ ، ١٨٨ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ٢٠٨ ، ٢١٢ ، ٢١٤ ، ٢١٨ ، ٢٢٠ ،
٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٥ ، ٢٢٦ ، ٢٢٨ ، ٢٣٨ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٦١ ، ٢٦٧ ، ٢٧٢ ، ٢٨٦ ، ٣٦٧.
موسى بن عمران : ٧٠ ، ٧٥ ، ٨٧.
أبو موسى الأشعري : ١٨٤ ، ٢٤٢ ، ٢٥٢ ،
٢٩٢ ، ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، ٢٩٨.
مسليمة الكذاب : ١٤٤.
أبو مسلم الخولاني : ٢٨٠ ، ٢٨٢.
مرحب : ٥٤.
مصعب بن عمير : ٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩.
المسور بن مخرمة : ١٧٦.
منبه بن الحجاج : ٢٨.
معاذ بن ثابت : ١١٦.
معقل بن قيس الرياحي : ٣٣١.
المنذر بن الجارود العبدي : ٢٦٢ ، ٣١٢
، ٣١٣.
مصقلة بن هبيرة الشيباني : ٣٠٣ ، ٣١١.
أبو مريم السعدي : ٣١٠.
|
مسروق : ٣٠١.
أبي مخنف : ٣٥٣.
المسعودي : ١٠٥ ، ٢٢٩ ، ٢٦٢ ، ٣٥٦.
المغازي : ٢٢٩.
السيد المرتضى : ١٣٣.
المقداد بن عمرو : ١٠١ ، ١٠٣ ، ١١٧ ،
١٧٩ ، ١٨٠.
الشيخ المفيد : ٦٥ ، ٧٢ ، ٢٢٩ ، ٣٥٦.
معاوية بن أبي سفيان : ٩ ، ٣٥ ، ١٨٧ ،
١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٠٨ ، ٢١٤ ، ٢١٥ ، ٢١٨ ، ٢١٩ ، ٢٢١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٥ ، ٢٢٧ ، ٢٣١ ، ٢٤١ ،
٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٥١ ، ٢٦٦ ، ٢٧٥ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٨١ ، ٢٨٢ ، ٢٨٣ ، ٢٨٤ ،
٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، ٢٨٨ ، ٢٨٩ ، ٢٩٠ ، ٢٩١ ، ٢٩٢ ، ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، ٣٠٤ ، ٣٠٥ ، ٣٠٨ ،
٣٠٩ ، ٣١١ ، ٣١٢ ، ٣١٤ ، ٣٢٤ ، ٣٢٧ ، ٣٣٥ ، ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، ٣٤٨ ، ٣٤٩ ، ٣٥٠ ، ٣٥١ ،
٣٥٢ ، ٣٥٣.
حرف النون
نوفل بن عبد الله بن المغيرة : ٤٨.
نوفل بن خويلد : ٢٨.
نائلة : ١٨٩.
|
|
نبيه بن الحجاج : ٢٨.
النضر بن الحارث بن كلدة : ٢٨.
نافع : ١٦٩.
نيار بن عياض الأسلمي : ٢٢٨.
النعمان بن بشير : ٣٠٦.
أبو نعيم : ٢٢٩.
ابن النديم : ٣٥٦.
نوري جعفر : ٣٥٦.
نصر بن مزاحم : ٣٥٦.
حرف الهاء
هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي :
٢٠٨.
ابن هشام : ٤٥ ، ٦٨ ، ١٠٥ ، ٣٥٦.
هاشم معروف : ٢٢٩.
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص : ٢٨٦.
هاشم بن عتبة المرقال : ٢٨٦.
أم هاني بنت أبي طالب : ٦٢ ، ٢٧٥.
هند بنت عتبة : ٣٧ ، ٣٩ ، ٦١ ، ٢٧٧ ،
٣٧٠.
أبو هلال العسكري : ١٧٧.
هارون : ٧٠ ، ٧٥.
الهرمزان : ١٦٩.
أبو الهيثم بن التيهان : ١٠٢ ، ١٠٣ ،
٢٨٦.
هلال بن علقمة التيمي : ٣١٠.
|
حرف الواو
الوليد بن عتبة : ٢٧ ، ٢٨.
الوليد بن عقبة بن أبي معيط : ١٨٦ ،
١٨٧ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤.
الواقدي : ٤١ ، ١٠٥ ، ٢٢٩.
وحشي : ٣٩.
وردان بن مجالد : ٣٥٢.
|
|
حرف الياء
اليعقوبي : ٢٢٩ ، ٢٦١.
يحيى بن زكريا : ١٢٨.
يزيد بن شجرة الرهاوي : ٣١١.
يزيد ين أبي سفيان : ١٠٠.
ياسر : ١٩ ، ٢٠٦ ، ٢٠٨.
يعلى بن أمية : ١٨٨ ، ٢٤٢ ، ٢٤٩ ،
٢٥٠.
|
فهرس الموضوعات
كلمة الناشر.................................................................. ٥
المقدمة....................................................................... ٧
الفصل الأول................................................................. ١٣
من الميلاد حتى الهجرة........................................................ ١٥
الإعداد الخاص حتى
معركة بدر الكبرى........................................ ٢٤
عليٌ في عنفوان شبابه
ومرحلة الزهد والإيثار.................................... ٢٩
عليٌ فارس المهمّات
الصعبة................................................... ٣٦
عليّ يتحرك نضاليا في
المشاهد كلها........................................... ٤٣
الراية العظمى في كل
الفتوح.................................................. ٥٠
فتح مكة وموقع الإمام....................................................... ٥٦
أنباءٌ تكدّر صفو
الفتح ... وعليٌّ يذود الكتائب................................. ٦٣
عليٌّ رفيق النبي في
حربه وسلمه............................................... ٦٨
عليٌّ في حجة الوداع
وبيعة الغدير............................................. ٧٥
النبيّ يمهّد للإمام :
ويلتحق بالرفيق الأعلى...................................... ٨١
قيادة قريش تقتحم
السقيفه وتبعد أهل البيت................................... ٩٠
بيعة أبي بكر ومرجعية
الصحابة............................................... ٩٧
الفصل الثاني................................................................ ١٠٧
الانصار تحتج وعلي
يمسك عن البيعة......................................... ١٠٩
ظلامة الزهراء في
انعطاف تاريخي............................................ ١١٩
شكوى الزهراء وخطبها
يشقّان عنان السماء.................................. ١٣٤
الثورة المضادّة
للإسلام وأعاصير الرِدّة........................................ ١٤٤
أبو بكر يقدّس علياً
ويعهد إلى عمر.......................................... ١٥٢
سيرة عمر واتكاؤه على
أمير المؤمنين......................................... ١٦٠
عمر يتناسى علياً
ويعيّن مجلس الشورى....................................... ١٦٨
المسلمون يستقبلون
بيعة عثمان بالكراهية..................................... ١٧٩
سياسة عثمان من
الصحابة والمعارضة......................................... ١٩٦
المسلمون ينقمون على
عثمان والأمصار تتجمع................................ ٢١٠
تفاقم الأمر على عثمان
ومصرعه............................................ ٢٢١
الفصل الثالث............................................................... ٢٣١
الثورة ترشح الإمام
للخلافة والإمام يستقرىء الغيب المجهول.................... ٢٣٣
استقبال خلافة الإمام
بين المحرومين والأُستقراطيين............................. ٢٤١
المتمرّدون في مجابهة
الإمام متظاهرين بالثأر لعثمان.............................. ٢٤٧
قيادة الناكثين بين
التردد واقتحام البصرة..................................... ٢٥٦
حرب الجمل وهزيمة
المتمردين............................................... ٢٦٥
عليٌّ في البصرة بسيرة
رسول الله............................................. ٢٧٠
عليٌّ يتخذ الكوفة
عاصمة ويقدّم طلائعه إلى صفّين............................ ٢٧٤
معركة صفّين وإنحياز
الخوارج............................................... ٢٨٥
الوفاء بشأن التحكيم
ومعركة النهروان....................................... ٢٩٦
معاوية والخوارج
يقتسمان الأحداث الدموية.................................. ٣٠٥
ظواهر العدل الاجتماعي
عند الإمام تقلب الموازين............................. ٣١٧
المهمات القيادية
السياسية والتعليمات العسكرية لأمير المؤمنين................... ٣٢٩
تهذيب النفس الإنسانية
لدى الإمام في إدارة الحكم الإسلامي................... ٣٤١
عليٌّ ومناوئوه حتى
استشهاد الإمام........................................... ٣٤٩
قصيدة الشيخ علي
الصغير في أمير المؤمنين الإمام علي 7..................... ٣٥٧
خاتمة المطاف ونتائج
البحث................................................. ٣٦١
المصادر والمراجع........................................................... ٣٧١
فهرس الآيات القرآنية...................................................... ٣٧٦
فهرس الأعلام............................................................. ٣٨٤
فهرس الموضوعات......................................................... ٣٩٨
|