
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنّف رفع الله
درجته
، المطلب العاشر في أنّا فاعلون ،
اتّفقت الإمامية والمعتزلة على أنّا فاعلون ، وادّعوا الضّرورة في ذلك ، فإنّ كلّ
عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطراريّة ، وأنّ هذا الحكم
مركوز في عقل كلّ عاقل ، بل قلوب
__________________
الأشعري قدوتهم الذي
اشتهروا به : الى أن معناه أن الله تعالى قد أجرى العادة بأن العبد متى اختار
الطاعة أو المعصية فعلها الله تعالى فيه ، وفعل فيه القدرة عليها ، والعبد له
الاختيار ، وليس لتلك القدرة في ذلك أثر ، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله
تعالى. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب التمهيد : ان معناه كون ذات الفعل
من الله تعالى وكونه معنونا بعنوان الطاعة أو المعصية أو غيرهما من العناوين من
العبد ، وذلك مناط التكليف وعليه يدور استحقاق الثواب والعقاب ، وذلك كلطمه اليتيم
فإنها تقع تأديبا وتقع ظلما ، فذات اللطمة منه تعالى وكونه تأديبا أو ظلما من
العبد.
وقال بعضهم : ان الاعتقاد بالكسب في
أفعال العباد لازم ، ولكن حقيقته غير معلومة لنا الى غير ذلك من التفاسير التي ترى
في كلمات الاشاعرة ، وهي في غاية الاضطراب والتشتت ، واكتفى بعضهم في تقريبه
وتفسيره بإيراد الامثلة وزاد عيا على عي.
ثم ان من القائلين بالتشريك بين
القدرتين في صدور الأفعال الشيخ أبو إسحاق الأسفراييني ، فيحكى عنه أنه ذهب الى أن
الفعل واقع بقدرته تعالى وقدرة العبد معا. والحق الحقيق بالقبول الذي تساعده
الأدلة العقلية والحجج السمعية ما ذهب اليه أصحابنا من الأمر بين الأمرين كما سبق
شرحه «ج ١ من ص ٤٠٦ الى ٤٢٢» وسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
قال الشريف الآية الباهرة السيد محمد
الباقر الطباطبائى الحائرى في منظومته (مصباح الظلام ص ٢٠):
ومن يضم قدرة
الله انى
|
|
قدرته أنقص ما
قد كملا
|
والكفر والفجور
في العبيد
|
|
وما استحقوه من
الوعيد
|
من العذاب
باقتحام النار
|
|
ونحوه آية
الاختيار
|
وهل ترى يخلق
فيمن قد اثم
|
|
ما حصل الإثم به
وينتقم
|
وليس يجديك حديث
الكسب
|
|
ان كان موجودا
بخلق الرب
|
واى مانع من
التعدي
|
|
عنه إذا نسبته
للعبد
|
الأطفال والمجانين ، فانّ الطفل لو ضربه
غيره بآجرة
تؤلمه ، فانه يذمّ الرّامي دون تلك الآجرة ، ولو لا علمه الضّروري بكون الرّامي
فاعلّا دون الآجرّة لما استحسن ذمّ الرّامي دون الآجرّة ، بل هو حاصل في البهائم ،
قال أبو الهذيل
حمار بشر أعقل من بشر ، لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلي جدول كبير ، فضربته لم
يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ، لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه
وبين ما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ، فحماره أعقل منه ، وخالفت الأشاعرة
في ذلك ، وذهبوا إلى أن لا مؤثر إلا الله ، فلزمهم من ذلك محالات «انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : مذهب
الأشاعرة أنّ أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرة الله وحدها ، وليس لقدرتهم
تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرةّ واختيارا فإذا
لم يكن هناك مانع ، أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا
لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته
وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له ، وهذا
مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله
تعالى مفعولة للعبد ، فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع ، هذا حقيقة مذهبهم ،
ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد ، حتّى يكون
الخلاف في أنّه فاعل أولا ، كما صدّر الفصل بقوله : إنّا فاعلون ، واعترض
الاعتراضات عليه ، فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به
، هل هو مخلوق لنا أو خلق الله فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا واختيارنا؟ وهذا شيء لا
يستبعده العقل ، فانّ الأسود هو الموصوف بالسّواد ، والسّواد مخلوق لله تعالى ،
فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله؟! ودليل الأشاعرة أنّ فعل
العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله ، لشمول قدرته كما ثبت في محلّه ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع
قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد لما هو ثابت في محلّه ، وهذا دليل لو تأمّله
المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقّ صريح ، ولا شكّ أنّ الممكن إذا صادفته القدرة
القديمة المستقلّة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة ، والمعتزلة اضطرّتهم الشّبهة
إلى اختيار مذهب رديّ ،
__________________
وهو إثبات تعدّد
الخالقين غير الله في الوجود ، وهذا خطاء عظيم ، واستجراء كبير ، لو تأمّلوا
قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع كما سنبيّن لك إن شاء الله في أثناء هذه
المباحثات ، ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الاماميّة أنّ أفعال العباد
الاختياريّة واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال ، بلا إيجاب بل باختيار ،
ولهم في اختيار هذا المذهب طرق ، منها ما اختاره أبو الحسين من مشايخهم وذكره هذا الرّجل وهو ادّعاء الضّرورة في إيجاد
العبد لفعله ، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروريّ لا حاجة به إلى الاستدلال وبيان ذلك
أنّ كلّ عاقل يجد من نفسه التّفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وأنّ الأوّل
مستند إلى دواعيه واختياره ، وأنّه لو لا تلك الدّواعي والاختيار ، لم يصدر عنه
شيء منه بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه ، وجعل أبو الحسين
ومن تابعه من الاماميّة إنكار هذا سفسطة مصادمة للضّرورة كما اشتمل عليه أكثر
دلائل هذا الرّجل في هذا المبحث ، والجواب : أنّ الفرق بين الأفعال الاختياريّة وغير
الاختياريّة ضروريّ لكنّه عائد إلى وجود القدرة ، منضمّة إلى الاختيار في الأولى ،
وعدمها في الثانية لا إلى تأثيرها في الاختيارية ، وعدم تأثيرها في غيرها ،
والحاصل أنّا نرى الفعل الاختياري مع القدرة والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق
بينهما يعلم بالضّرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم تأثيرها فيه ، وهذا محلّ النّزاع
__________________
فتلك التّفرقة
التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا. ثم إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا
المدّعى باطل صريح ، لأنّ علماء السّلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ،
ومعترفين مثبتين له بالدّليل ، فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضّرورة عن
هذا المتنازع فيه ، لا التّفرقة بالحسّ بين الفعلين فانّه لا مدخل له في إثبات
المدّعى ، لأنّه مسلّم بين الطرفين فكيف يسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضّرورة
فيه ، وأيضا أنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه ، علم أنّ إرادته للشّيء لا
تتوقف على إرادته لتلك الإرادة وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة يحصل المراد ، وبدونها لا يحصل ، ويلزم منها أنّه لا إرادة منه ، ولا حصول الفعل عقيبها منه ، وهذا
ظاهر للمنصف المتأمّل فكيف يدّعى الضرورة في خلافه؟ فعلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا
الرّجل من الضّرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه «انتهى».
أقول
إثبات القدرة بدون
التأثير من سخيف القول كما مرّ ، وسيجيء عن قريب إن شاء الله تعالى ، والتّمسك
بجريان العادة قد أسبقنا في بيان فساده ما لا يحتاج إلى الإعادة ، وأمّا الكسب فقد اكتسب من السّخف والفساد ما اكتسبا وزيادة ، وأمّا ما
ذكره بقوله : فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون إلخ فهو كاذب فيه ، كيف؟ وهم صرّحوا
__________________
بأنّ الفعل من
الله تعالى والكسب من العبد ولو سلّم إطلاقهم الفاعل على العباد ، فإنّما يتجوّزون
به عن معنى الكسب والمحلّيّة ، ولا يريدون به معناه الحقيقيّ الذي قصده المصنّف
هاهنا ، وهو الإيجاد والإصدار الذي يتعارفه أهل اللّسان ، وأمّا ما ذكره من أنّ
الأفعال التي يظهر صدورها عن العباد لا يستبعد العقل أن تكون صادرة في الحقيقة عن
الله تعالى مقارنة لقدرتنا ، فيتوجّه عليه ، أنّه يتضمّن إنكار البديهيّ الظاهر
المشاهد لكل أحد صدورها عن العباد ، وارتكاب نسبتها إلى الله تعالى على طريقة
الرّجم بالغيب ، والرّمى في الظلام ، فكيف لا يكون مستبعدا؟ وأىّ دليل قطعيّ او
إقناعيّ ظنيّ قام على خلاف المشاهد الظاهر حتى يكون رافعا لاستبعاد العقل؟ وبهذا
يظهر فساد تمثيله بالأسود فانّ السّواد قائم عليه بمعنى وقوعه عليه ، فلا وجه
لقياسه إلى الأفعال القائمة بالعباد بمعنى صدورها عنهم كالأكل والشّرب كما مرّ
بيانه ، ولهذا ترى أهل العدل يحكمون بأنّ السّواد والبياض ونحوهما من الأعراض فعل
الله تعالى ، والأكل والشّرب والزّنا والسّرقة ونحوها من فعل العبد ، وأما ما ذكره
من دليل الأشاعرة فهو مع كونه مشهورا معتمدا عليه عندهم ولهذا أيضا خصّه النّاصب
بالذّكر هاهنا مردود من وجوه ، أما أولا ، فلأنّ شمول قدرته تعالى لجميع المقدورات ممّا لم
يثبت عند المعتزلة ، فانّهم يخصصون خلق الأجسام بقدرة الله تعالى ، وأفعال العباد
بقدرتهم ، وأما ثانيا فلأنّه منقوض باتّخاذ الولد ونحوه ، فانّه ممكن في نفسه مع استحالته على
الله تعالى اتفاقا ، وما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذلك. وأما ثالثا ، فلأنّه
إن أريد بشمول قدرته لجميع الممكنات تعلّقها به بالذّات ، فهو ممنوع وغير لازم
ممّا استدلوا به على ذلك المطلوب ، بل يجوز أن يكون تعلّقها إلى بعض بالذّات وإلى
بعض آخر بالواسطة ،
__________________
وكلام الاصفهاني في شرحه للطوالع يدلّ على ذلك حيث قال : والحقّ أن انتهاء
كلّ الممكنات الموجودة إليه دليل على أنّه قادر على الكلّ ، وإن أريد تعلّقها به
على وجه الأعمّ ، فهذا لا ينافي كون أفعال العباد مقدورة لهم بالذّات ، وأما رابعا
فلأنّه إن أريد بشمولها للجميع تعلّقها به بالفعل فهذا غير لازم ممّا ذكروه في بيانه ،
لجواز أن لا يكون الإمكان علّة لتعلّقها به بالفعل ، بل لإمكان التعلّق وفعليته
يستند إلى ما ينضم إلى الإمكان ، وإن أريد به تعلّقها بالإمكان ، فذلك لا يستلزم
الفعليّة في جميع الممكنات ، حتّى يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين بالفعل في مقدور
واحد ، والحاصل أنّ الإمكان كما حققه المحقق الطوسي طيّب الله مشهده ، علّة
__________________
__________________
مصحّحة لتعلّق
القدرة لا موجبة له ، ولا يلزم من تحقّق العلّة المصححة لشيء تحققه بالفعل ، لجواز
أن يكون هناك ما يمنعه ، وبهذا يندفع دليل آخر للأشاعرة وهو أنّ العبد لو كان
موجدا لفعل نفسه ، لجاز أن يوجد الجسم لأنّ المصحّح لتعلّق الإيجاد بفعل نفسه هو
الإمكان ، وهو متحقق في الجسم والتّالي باطل «انتهى». وأما ما ذكره من أن أهل العدل اختاروا مذهبا رديّا هو إثبات
تعدّد الخالقين فهو كلام مبهم إذا كشف غطاؤه ، وظهر جودة ما اختاروه ، وذلك لأنّ
الرّدي إثبات تعدّد الخالق القديم الذي لا يكون مخلوقا لله ابتداء ، أو بواسطة كما
يلزم الأشاعرة من القول بزيادة الصّفات القديمة ، وأما اثبات الخالق الحادث الذي
يكون ذاته وحياته وقدرته وتمكينه وسائر صفاته وكمالاته مخلوقة لله تعالى كما هو
شأن العبد على رأى أهل العدل ، فلا رداءة فيه ، بل فيه جودة تنزيه الله تعالى عن
كونه فاعلا للقبائح والفواحش المنسوبة الى العبد كما مرّ مرارا ، وأما ما ذكره من
الجواب فهو ممّا ذكره صاحب المواقف وقد ظنّ الناصب المرتاب أنّه عين الصّواب ، بل كأنّه وجد
تمرة الغراب ، وفيه نظر ، أما أولا فلأنّ محصّل كلام أبي الحسين
والمصنف ومن وافقهم في هذا المقام دعوى البداهة في مقدّمات ثلاث ، إحداها علّية
القدرة والاختيار وتأثيرهما ، والثانية أنّ العبد فاعل لنحو الصعود إلى المنارة
بقدرته دون السقوط منها ودون حركته الارتعاشية ، والثالثة أنه لو لم تؤثر قدرته في
هذا الصعود لم يصعد ، لا أنهم جعلوا الاولى منها نظرية ، والثانيتين دليلا عليها
حتى
__________________
يتوجه أنه دوران
غير مفيد للعلية ، ثمّ لو جعل الدّوران تنبيها على المقدمة الأولي لكان له وجه ،
ويضعف منع لزوم العلّية ، واما ما ذكره من أنّ علماء السلف كانوا بين منكرين
لإيجاد العبد فعله ومعترفين مثبتين له بالدليل إلخ مدخول بأن ما ذكره السلف من أهل
العدل بصورة الدليل إنما هو تنبيهات على المدعى الضروري ، قد حملها من خالفهم من
الأشاعرة على الاستدلال ليمكنهم إيراد المنع والنقض والمعارضة عليها ، فلا يلزم ما توهمه الناصب من نسبة كل العقلاء إلى
إنكار الضرورة
__________________
بل اللازم نسبة
المعزولين عن العقل والشعور ، وهم الأشاعرة الذين هذا شأنهم في أكثر المسائل كما
لا يخفى ، وأما ثانيا فلأن وجود القدرة من غير تأثيرها إنما يورث الفرق على تقدير
تحققه في نفس الأمر ، لكنه غير متحقق بشهادة الوجدان بتأثيرها ، ثم لو كان الفارق وجود قدرة غير مؤثرة ، لزم
عدم الفرق فان الساقط من المنارة له قدرة إسقاط نفسه أيضا ولا شك أنه إذا سقط لم
تؤثر قدرته في هذه الحركة نعم إنهم قالوا : بتعلّق تلك القدرة والإرادة بالصعود
دون السقوط ، لكن إذا لم يكن
__________________
لها نحو تأثير في
الفعل ، غير أنها مقارنة لمحلّه ، فتعلّقها وعدم تعلّقها إنما يفيد في صحة إطلاق
اللّفظ دون التّغاير في نفس الفعل ، وكونه أثرا للقدرة مع أنّ البديهيّ هو الثّاني
، وبالجملة من أنصف من نفسه علم الفرق بين الحركتين ، بأنّ القدرة مؤثرة في الأولى
دون الأخرى ، وإثبات القدرة بدون التّأثير لا يكون له معنى محصّل ، بل غير معقول
أصلا كإثبات الباصرة للأعمى بدون الأبصار ، وإثبات السّامعة للأصّم بدون الاستماع
، وكما أنّ إنكار قدرة العبد مكابرة كذلك إنكار تأثيرها في بعض أفعاله مكابرة ، والاعتراف بأنّ الأوّل مكابرة دون الثّاني مكابرة
__________________
في مكابرة ، لأنّ
بديهة العقول حاكمة بأنّ بعض الأفعال تصدر منّا بتأثير قدرتنا فيها ، فإنكار كون
العبد موجدا لأفعاله الاختياريّة سفسطة مصادمة للضرورة ، ويوضحه أنّ تعلّق القدرة
بالفعل لا على وجه التّأثير ، كما اخترعوه وسمّوه بالكسب أمر خفىّ لا يهتدي إليه
العقل ، فانّه إذا لم يكن للقدرة تأثير ، لا يظهر وجه تعلّقها به ، فان قيل : تعلّقها
به هو أن تكون موجودة عنده قلنا : من أين يعلم وجودها عنده؟ فان قيل : علم وجودها
عنده من الفرق بين حركة المرتعش وحركة المختار بالبديهة ، قلنا : الفارق هو
الإرادة لأنّ حركة المرتعش حصلت من غير إرادة وحركة المختار حصلت بها ، والإرادة
غير القدرة لأنّها صفة مخصّصة لأحد المقدورين بالوقوع ، فان قيل : إذا كانت
الإرادة مخصّصة لأحد المقدورين بالوقوع فلا بدّ لوجودها من وجود القدرة. قلنا : لم
لا يجوز أن يكون مخصّصة لأحد مقدوري الله تعالى بالوقوع؟ فانّ عادة الله جرت
بأنّها إذا تعلّقت بأحد طرفي الممكن ، حصل ذلك الطرف ، وبالجملة القدرة الحادثة أى
قدرة العبد عند الأشاعرة صفة يوجد الفعل معها ، وبعبارة أخرى كيفيّة وجوديّة قائمة
بالفاعل موجودة عند الفعل ، فإذا لم يكن لها تأثير يكون في معرض الخفاء ، حتّى
يبرهن على ثبوته ، ولعمري أنّ القول : بكسب العبد وأنّ قدرته غير مؤثرة ، وإنّما المؤثر قدرة الله
سبحانه ثمّ القول بثواب العبد ، أو عقابه من باب أن يقال : إنّ أحدا قادرا على
الزّنا مثلا إذا كان معه قادر آخر ، تكون قدرته أشدّ من قدرته ، وليس له أن يمنعه
من الزّنا إذا لم يرتكب الزّنا وارتكب مصاحبة الزّنا ، صار هذا الشخص الغير المرتكب
له العاجز عن أن يمنع فاعله مستحقا للرجم ، دون المرتكب له وهو كما ترى ، والحاصل
أنّ القول : بالقدرة غير المؤثرة ممّا لا طائل تحته ، لأنّ القدرة صفة مؤثرة على وفق
الإرادة ، فلو لم تكن قدرة العبد مؤثرةّ تكون تسميتها قدرة مجرّد اصطلاح ، ويؤيده
الفرق
بين القدرة والعلم
بتأثير القدرة وعدم تأثير العلم. وأما ما ذكره العلامة الدواني في شرحه للعقائد العضديّة ، من أنّ القدرة لا تستلزم
التّأثير بل ما هو أعمّ منه ومن الكسب ، وأنّ الفرق بينهما وبين العلم بأنّ القدرة
تستلزم هذا ، ولا يستلزمه العلم فمردود بأنّ هذا إنّما يتم لو كان لكسب العبد
معنىّ محصل معقول ، وإنّما قالوا به عن فرط التعنّت والمحجوجيّة كما مرّ ، وسيجيء
إن شاء الله تعالى ، نعم يتوجّه على العدليّة أنّ الضروريّ هو الفرق بتأثير القدرة
في الاختياريّة دون غيرها ، وأمّا استقلال تأثير قدرة العبد فيها بالاختيار كما هو
مطلوبهم ، فليس بضروريّ ، بل هو ممنوع لا بدّ له من دليل ، لجواز أن يكون المؤثّر
مجموع القدرتين كما هو مذهب أبى إسحاق الأسفرايني ، أو يكون المؤّثر قدرة العبد فقط على سبيل الإيجاب كما هو
مذهب الفلاسفة. ويندفع بأنّ المقصود هاهنا بيان مدخلية قدرة العبد في الجملة في
بعض أفعاله ، ردّا لمذهب الأشاعرة ، لا بيان خصوص المذهب الحقّ كما لا يخفى على
المتأمل ، على أنّ مذهب الفلاسفة قد ثبت بطلانه بالدّليل العقليّ ، وبإجماع
المسلمين ، وما ذهب إليه الأسفرايني ، مع أنه قول بلا رفيق ، ولا دليل عليه ،
مردود أيضا بأنه إن أراد جواز أن يكون متعلّق القدرتين شيئا واحدا هو نفس الفعل ،
ويكون كلّ منهما مؤثّرا مستقلا فحينئذ يلزم اجتماع المؤّثرين على أثر واحد ، وإن
أراد جواز أن يكون مجموعهما من حيث المجموع ، مؤثّرا واحدا مستقّلا في التأثير دون
كلّ واحد منهما بانفراده فيلزم حينئذ عدم استقلال قدرته تعالى ، بل احتياجه إلى
معاون ومشارك تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وأما ما ذكره بقوله : وأيضا أنّ كلّ سليم
العقل إلخ فهو أيضا كلام صاحب المواقف ، وقد دلّ على عدم سلامة عقله ، لأنّا لو
سلّمنا
__________________
أنّ موجد إرادة
العبد لو كان نفسه فتتوقّف تلك الإرادة منه على إرادته لها ، فلمّا لم تتوقّف هي
عليها كما يعلم بالوجدان ، فلا تكون هي صادرة عنه بل تكون مخلوقة لله تعالى إلا
أنّا لا نسلّم أنّ حصول الفعل عقيبها ليس منه ، وكون الفعل يحصل عقيب تلك الإرادة
الجازمة الجامعة للشرائط ، وارتفاع الموانع لا يدلّ على ذلك ، إذ لا مانع من أن
تكون الإرادة مخلوقة لله تعالى ، والفعل الذي لا ينفكّ عنها على الشّرط المذكور
مخلوقا للعبد ، ولو قيل : إنّ مع تلك الإرادة المخلوقة لله تعالى عند تحقّق
الشّرط المذكور يتحقّق الفعل ، ولو لم يكن إيجاد من العبد فهو ممنوع لجواز أن يكون إيجاد العبد أيضا لازما لها غير منفكّ عنها
أصلا لا بالفعل ، ولا بالإمكان ، فلو فرض هذا المحال وهو انفكاك إيجاد العبد عن
تلك الإرادة ، لجاز وقوع محال آخر هو انفكاك الفعل أيضا عنها ، إذ المحال جاز أن
يستلزم المحال ، وخصوصا إذا كان بينهما علاقة ظاهرة كما فيما نحن فيه ، وأما أنّ
الفعل لا يحصل بدون تلك الإرادة فلا يدلّ على المطلوب أيضا إلّا إذا ثبت أنّ فعل
العبد إذا توقف حصوله على إرادة مخلوقة لله تعالى لا يمكن أن يكون مخلوقا للعبد ،
وهذا مع أنّه ممنوع ليس مذكورا
__________________
في المقدّمات ،
ولا لازما منها.
قال المصنّف رفع الله
درجته
منها مكابرة الضّرورة فإنّ العاقل يفرّق
بالضّرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة ، والبطش باليد اختيارا وبين
الحركة الاضطراريّة كالوقوع من شاهق ، وحركة الحيوان ، وحركة المرتعش ، وحركة
النبض ، ويفرق بين حركات الحيوان الاختياريّة وحركات الجماد ، ومن شكّ في ذلك فهو
سوفسطائي
، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : قد عرفت
جواب هذا فيما مرّ ، وقد ذكر هذا الرّجل هذا الكلام. ثمّ كرّره كما هو عادته في
التكرارات القبيحة الطويلة الخالية عن الجدوى ، والجواب ما سبق «انتهى».
أقول
لا تكرار فيما
ذكره المصنّف ، فانّ ذكره لدعوى الضّرورة سابقا إنّما كان عند تقرير مذهب العدليّة
، وذكره لها هاهنا إنّما هو في بيان ما يلزم من مذهب الأشاعرة والفرق بين المقامين
ظاهر ، وأما ما ذكره النّاصب هناك من كلام صاحب المواقف ممّا زعمه صالحا للجواب عن
هذا فقد دمّرنا عليه ثمّة وأبطلناه.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها إنكار الحكم الضروريّ من حسن مدح
المحسن ، وقبح ذمّه ، وحسن
__________________
ذمّ المسيء ، وقبح
مدحه ،فانّ كلّ عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما ، ولا يفعل شيئا من
المعاصي ويبالغ في الإحسان إلى النّاس ، ويبذل الخير لكلّ أحد ، ويعين الملهوف
ويساعد الضعيف ، وأنّه يقبح ذمّه ، ولو شرع أحد في ذمّه باعتبار إحسانه عدّه
العقلاء سفيها ، ولامه كل أحد ، ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم
والجور والتّعدي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس ، ويمتنع من فعل الخير وإن قلّ ،
وأنّ من مدحه على هذه الأفعال عدّ سفيها ولامه كلّ عاقل ويعلم ضرورة قبح المدح
والذمّ على كونه طويلا أو قصيرا ، أو كون السّماء فوقه ، والأرض تحته ، وإنّما
يحسن هذا المدح والذمّ أن لو كانا صادرين عن العبد فانّه لو لم يصدر عنه لم يحسن
توجّه المدح والذمّ إليه ، والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذم فلم يحكموا
بحسن مدح الله تعالى على إنعامه ولا الثناء عليه ولا الشّكر له ، ولا بقبح ذمّ
إبليس وسائر الكفّار والظلمة المبالغين في الظلم ، بل جعلوهما متساويين في استحقاق
المدح والذمّ ، فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ويتبع ما يقوده
عقله إليه ، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ، ويعتقد ضدّ الصّواب ، فانّه لا يقبل منه
غدا يوم الحساب وليحذر من إدخال نفسه في زمر الذين قال الله تعالى عنهم : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ
فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ)
«انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : حاصل ما
ذكره في هذا الفصل : أنّ المدح والذمّ يتوجهان إلى الأمور الاختياريّة ، ويحسن مدح
المحسن ويقبح ذمّه ، ويقبح مدح المسيء ويحسن ذمه ولو لا أن تكون الأفعال باختيار
الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة
__________________
والسيئة ولا
يستحقّ صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذّم فعلم أنّ
الأفعال اختياريّة وإلا يلزم التساوي المذكور وهو باطل ، والجواب أنّ ترتّب المدح
والذمّ على الأفعال باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل ، وكسبه ومباشرته
للفعل ، وأمّا أنه لتأثير قدرته في الفعل فذلك غير ثابت وهو المتنازع فيه ، ولا
يتوقف ترتّب المدح والذمّ على التأثير ، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول
الترتّب المذكور ، ثمّ ما ذكر أنّ المدح والذمّ لم يترتّب على ما لم يكن بالاختيار
فباطل مخالف للعرف واللّغة ، فانّ المدح يعمّ الأفعال الاختياريّة وغيره بخلاف
الحمد ، واختلف في الحمد أيضا ، وأما قوله : الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح ،
إن أراد أنّهم لم يقولوا بالحسن العقليّ للمدح والذمّ المذكورين فذلك كذلك ،
لأنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقليّ أصلا وإن أراد نفى الحكم بحسن مدح الله وثنائه مطلقا ، فهذا من
مفترياته ، فإنهم يحكمون بحسن مدح الله تعالى لأنّ الشرع أمر به لا لأنّ العقل حكم
به كما مرّ مرارا «انتهى».
أقول
الجواب الذي ذكره
مردود ، بأنّ وجود القدرة والاختيار في الفاعل الذي هو العبد وكسبه ومباشرته للفعل
، إمّا أن يكون له مدخل في وجود الفعل أولا ، فعلى الثاني يلزم الجبر ، ضرورة أنّه
إذا لم يكن لتعلّق قدرة العبد مدخل في الفعل أصلا لا يورث الفرق ، ولا تفاوت بين
وجوده وعدمه وعلى الاول إن لم يكن هذا التعلّق مستلزما لوجود الفعل ، يتمّ
الملازمات ، فانّ تعذيب العبد مثلا بفعل لا يكون منه قبيح بالضّرورة ، وهذا الفعل
لم يجب من قدرة العبد على هذا الفرض
__________________
فلم يوجد منه ، إذ
الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وإن كان مستلزما فهو مذهب أهل العدل ، فانّ مرادهم
باستقلال قدرة العبد في التّأثير استلزامها لفعله ، فانّ العلّة المستقلّة تطلق
على العلّة المستلزمة أيضا ، وهذا القدر يكفيهم فيما ادّعوه ، ولا يطابق مذهب
الأشاعرة حيث قالوا : بمحض مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثيرها فيه ، وأمّا
ما نسبه إلى المصنّف ، من أنّه قال : إنّ المدح والذمّ لا يترتّب على ما لم يكن
بالاختيار فليس كذلك ، وإنّما قال المصنف : إنّ الأفعال الصّادرة بغير الاختيار لا
يترتّب عليها مدح فاعلها وذمّه ، لا أنّه لا يترتّب مدح أو ذمّ على نفس تلك
الأفعال ، وكلام المصنّف صريح فيما ذكرنا ، حيث قال : فانّه لو لم يصدر عنه لم
يحسن توجّه المدح والذمّ إليه أى إلى العبد ، لا إلى الفعل الصّادر بغير اختيار
كما توهّمه النّاصب ، وما تعارف بين أهل العرف واللّغة إنّما هو تعلّق المدح أو
الذمّ بنفس تلك الأفعال كحسن الوجه وقبحه لا بمحلّهما وهو العبد فيقال : رجل حسن
الوجه ، أو قبيحه من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ولا يقال : رجل حسن أو رجل قبيح على الإطلاق ، وبالجملة
هذا إنّما يصحّح مطلق المدح ولا يصحح المدح والذمّ الاستحساني ، والاعتراضيّ
فتدبّر ، وأما ما ذكره من الترديد فقبيح جدّا ، لظهور أنّ كلام المصنّف في بيان
أنّ الأشاعرة لا يحكمون بعقولهم بحسن هذا المدح فهم معزولون عن العقل ، وهذا يكفي
في غرضه من تقبيح قولهم ، والتزام النّاصب لذلك لا يدفع التقبيح ، وإنّما يشهد على
قبح التزامه وقلّة حيائه كما لا يخفى ، على ان في الشقّ الأوّل منه اعترافا بنفي
الحسن العقلي أصلا ، وهو مناف لما ذكره النّاصب سابقا موافقا لما اختاره متأخّروا
أصحابه من إثبات الحسن العقلي في الجملة ، وبالنّظر إلى بعض المعاني الذي استثنوه
عن محلّ النزاع تفصّيا عن الاشكال كما أشرنا إليه سابقا فتذكّر.
__________________
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنّه يقبح منه تعالى حينئذ
تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، لأنّا غير قادرين على ممانعة القديم ، فإذا
كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى ، لم نقدر على الطاعة ، لأنّ الله تعالى إن
خلق فينا فعل الطاعة ، كان واجب الحصول ، وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول ، ولو لم
يكن العبد متمكّنا من الفعل والتّرك كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات ، وكما
أنّ البديهة حاكمة بأنّه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمّه وجب أن يكون الأمر
كذلك في أفعال العباد ، ولأنّه تعالى يريد منّا فعل المعصية ويخلقها فينا ، فكيف
نقدر على ممانعته؟ ولأنّه إذا طلب منّا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنّا ، بل
إنّما يفعله هو ، كان عابثا في الطلب مكلّفا لما لا يطاق ، تعالى الله عن ذلك
علوّا كبيرا انتهى.
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : هذه
الشّبهة اضطرّت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب ، وإلا لم يجزأ أحد من المسلمين على إثبات تعدّد الخالقين في الوجود ،
والجواب أنّ تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلّية لا باعتبار
الفاعليّة ، ولأنّ العبد لما كان قدرته واختياره مقارنا للفعل صار كاسبا للفعل ،
وهو متمكّن للفعل والتّرك باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسب والمباشرة ، وهذا
يكفي في صحّة التّكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقيّته للفعل وهو محلّ النزاع ، وأما
الثواب أو العقاب المترتّبان على الأفعال الاختياريّة فكسائر العاديات المترتبة
على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقليّ واتجاه سؤال ، وكما لا يصحّ عندنا أن
يقال : لم
__________________
خلق الله الإحراق
عقيب مسيس النار ، ولم لا يحصل ابتداء؟ فكذا هاهنا لا يصحّ أن يقال: لم أثاب عقيب
أفعال مخصوصة وعاقب عقيب أفعال أخرى؟ ولم لا يفعلها ابتداء ولم يعكس فيهما ، وأما
التكليف والتأديب والبعثة والدعوة ، فإنها قد تكون دواعي العبد إلى الفعل واختياره
فيخلق الله الفعل عقيبها عادة ، وباعتبار ذلك يصير الفعل طاعة ومعصية ويصير علامة
للثّواب والعقاب ثم ما ذكره أنّه يلزم إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى
أنّا لم نقدر على الطاعة ، لأنّه إن خلق الطاعة كان واجب الحصول ، وإلّا كان ممتنع
الحصول ، فنقول : هذا يلزمكم في العلم لزوما غير منفكّ عنكم ، لأنّ ما علم الله
عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصّدور عن العبد وما علم الله وجوده فهو واجب
الصّدور عن العبد ، ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار إذ لا قدرة
على الواجب والممتنع ، فبطل حينئذ التكليف لابتنائه على القدرة والاختيار
بالاستقلال كما ذكرتم ، فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم
الله تعالى بالأشياء «انتهى».
أقول
تسميته لذلك
الدّليل القطعي شبهة اشتباه نشأ عن القول بالكسب بمعنى المحلية ، كما صرّح به ،
وقد مرّ بيان فساد القول بالكسب مجملا ، وسيجيء إن شاء الله تعالى مفصلا ، ويتوجّه
على ما ذكره في الجواب من أنّ التّكليف باعتبار المحلّية إلخ من الرّد وجوه ،
الاول أنّ حاصل جوابه أنا لا نقول : إنّ العبد مكلف بإيجاد الفعل حتّى يتوجّه لزوم
تكليف ما لا يطاق بل نقول : إنّه مكلف بالكسب والمحلّيّة وهو ممّا يطاق ، وفيه أنّ
الكسب إن لم يكن بإيجاد العبد إيّاه فالتّكليف تكليف بما لا يطاق ، وإن كان
بإيجاده إيّاه ثبت أنّ العبد فاعل موجد وهو المطلوب ، وأيضا لا اختيار للعبد في
المحلّية على رأى الأشاعرة كما مرّ ، فلا يظهر وجه استحقاق
المدح والذّم
باعتبارها ، فنقول في تقرير دليل المصنّف : لو لم يكن العبد فاعلا لبعض الأفعال ،
بل كان فاعل الكل هو الله تعالى لم يكن الحسن والقبح شرعيّين كما زعمه الأشاعرة ،
إذ لو كانا شرعيين لم يتحقّق قبيح ، إذ لا فاعل إلا الله ولا قبيح منه كما قرّروا
، والكسب المنسوب إلى العبد فعل الله أيضا ، والذّم باعتبار المحلّية غير معقول
كما مرّ الثاني أنّ ما ذكره بقوله : وأمّا الثّواب والعقاب المترتّبان على الأفعال
إلخ مبنيّ على نفى الأسباب الحقيقية وقد مرّ ما فيه فتذكر ، على أن الكلام هاهنا
في ترتب استحقاق الثواب والعقاب لا في أنفسهما فافهم ذلك ، الثالث أنّ ما ذكره من
مثال الإحراق عقيب مسيس النار لا يطابق الممثل أصلا ، إذ مع قطع النظر عن المغايرة
بوجوه شتى يكابر فيها الأشاعرة لا ريب أنّ في المثال المذكور لم يقع أمر ونهى ووعد
ووعيد في فعل الإحراق ، فلهذا لا يصح السؤال عنه ، وأيضا إنما لا يسئل عن فعل
النار ، لأنّه جماد لا حياة له ولا إرادة ، لا لأنه ليس بسبب للإحراق حقيقة كما
توهموه ، وبالجملة لو كان ترتب الثواب والعقاب على الأفعال كترتب الإحراق على مسيس
النار من دون أن يكون له سببية حقيقية كما زعموه ، لم يكن للبعثة وما يتعلق بها من
الترغيب والترهيب والحثّ على تحصيل الكمالات وإزالة الرّذائل ونحو ذلك فائدة ، إذ
لا تظهر فائدة ذلك إلا إذا كان لقدرة العبد وإرادته تأثير في أفعاله ويتولى
مباشرتهما بالاستقلال ، الرابع أنّ قوله : وكما لا يصح عندنا أن يقال إلخ مع أنه
لا ارتباط له بكلام المصنف قدسسره مردود بما سبق من أنّ التصرف إن كان بطريق حسن ، فهو حسن ،
وإلّا فهو قبيح ، فانا إذا وعدنا عبيدنا بالاعتاق والانعام بفعل ما يورث مشقة
عظيمة عليهم ، وبالسياسة لتركه ففعله بعضهم على ما أردناه وتركه بعضهم مشتغلا بما
يلتذ به مما كنا مانعين عنه ، ثم أعتقنا العاصي وأنعمنا عليه وعاقبنا المطيع
المتحمل للمشقة انقيادا لأمرنا يحكم العقلاء بظلمنا البتة ، بخلاف ما لو أعتقنا
بعض عبيدنا ابتداء ، وأمرنا بعضا آخر بخدمة شاقة لا يتجاوز طاقته ، فانه لا يعد
ظلما واللازم على الأشاعرة نظير الأوّل دون الثاني ،
وظاهر أنه لو لم
يجب استقلال العبد في فعله ، لزم رفع فائدة البعثة ويصح السؤال لكونه ظلما على
التحقيق. الخامس أن ما ذكره من أنّ التكليف والتأديب والبعثة والدّعوة قد تكون
دواعي العبد إلى الفعل إلخ مدخول بأنّ الإنسان مجبول على الفعل سواء بعث إليه
النبيّ أولا ، فلا حاجة لهم في أصل الفعل إلى بعثة النبيّ الدّاعي لهم إلى ذلك كما
لا يخفى ، ثم ما ذكره الناصب من الإلزام غير لازم لما سيجيء من أنّ علمه تعالى
تابع للمعلوم ، لا علّة له ، فانتظر ، على أنه لو تمّ لزم أن تكون أفعاله تعالى
أيضا اضطرارية لجريانه فيه بعينه ، فما لم يلزمنا في مسألة علم الله تعالى ، لزمكم
في مسألة خلقه تعالى للأعمال المعللة بعلمه على ما زعمتموه فتدبر.
قال المصنف رفع الله
درجته
ومنها أنه يلزم أن يكون الله تعالى أظلم
الظالمين تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا لأنّه إذا خلق فينا المعصية ، ولم يكن لنا
فيها أثر البتة ، ثمّ عذبنا عليها وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا ، كان ذلك
نهاية الجور والعدوان ، نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى وصف الله تعالى بالظلم
والعدوان ، فأىّ عادل سوى الله تعالى وأىّ منصف سواه وأىّ راحم للعبد غيره؟ وأىّ
مجمع الكرم والرحمة والإنصاف؟ مع أنه يعذبنا على فعل صدر عنه ، ومعصية لم تصدر عنا
، بل منه «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : نعوذ بالله
من نسبة الظلم والعدوان إلى الله المنان ، وخلق المعصية في العاصي
__________________
لم يستوجب الظلم ،
والظلم تصرّف في حقّ الغير ، والله تعالى لا يظلم الناس في كلّ تصرّف يفعل فيهم ،
وقد روي أنّ عمرو بن العاص سأل أبا موسى الأشعري رضياللهعنه ، فقال : يخلق فيّ المعصية ثمّ يعذّبني بها فقال : أبو موسى لأنّه لم
يظلمك ، وتوضيح هذا المبحث أنّ النّظام الكلّي في خلق العالم يقتضي أن يكون فيه
عاص ومطيع كالبيت الذي يبنيه حكيم مهندس ، فانّه يقتضي أن يكون فيه بيت الرّاحة ،
ومحلّ الصلاة وإن لم يكن البيت مشتملا على المستراح كان ناقصا ، كذلك إن لم يكن في
الوجود عاص لم يكمل النظام الكلّي ، ولم يملأ النّار من العصاة ، وكما أنّه لا
يستحسن أن يعترض على المهندس إنّك لم عملت المستراح ولم لم تجعل البيت كلّه محلّ
العبادة ومجلس الأنس؟ كذلك لم يحسن أن يقال : لخالق النظام الكلّي : لم خلقت
العصاة؟ ولم لم تجعل العباد كلّهم مطيعين؟ لأنّ النّظام الكلّي كان يقتضي وجود
الفريقين ، فالتّصرف الذي يفعل صاحب البيت في جعل بعضه مسجدا ، وبعضه مستراحا هل
يقال : هو ظلم!؟ فكذلك تصرّف الحقّ سبحانه في الوجود بأىّ وجه يتفق لا يقال : إنّه ظلم ولكنّ
المعتزليّ الأعمى يحسب أنّ الخلق منحصر فيه ، وهو مالك لنفسه والله ملك عليه لا
يعلم أنّه مالك مطلق ، ألا ترى؟ أنّ الرّجل الذي يعمل عملا ويستأجر على العمل
رجالا ويستعمل معهم بعض عبيده الأرقّاء ، فإذا تمّ العمل أعطى الاجراء أجرتهم ،
ولم يعط العبيد شيئا هل يقال : إنّه ظلم العبد؟ لا شكّ أنّه لا يقول عاقل : إنّه
ظلم العبد ، وذلك لأنّه تصرّف في حقّه بما شاء ، ثمّ إنّ هذا الرجل لو حمل العبد
فوق طاقته ، أو قطع عنه القوت واللّباس يقال : إنّه ظالم ، وذلك لأنّه تجاوز عن
حدّ ما يملكه من العبد وهو التّصرّف حسبما أذن الله تعالى فيه ، فإذا تجاوز من ذلك
الحدّ ، فقد ظلم ، وذلك لأنه ليس بالمالك المطلق ، ولو كان هو المالك المطلق ،
وكان له التّصرف حيثما شاء وكيفما أراد لكان كلّ تصرّفاته عدلا لا جورا وظلما ،
كذلك الحقّ سبحانه هو المالك المطلق ، وله التّصرّف كيفما
شاء وحيثما أراد ،
فلا يتصوّر منه ظلم بأيّ وجه تصرّف ، خذ هذا التّحقيق ولا تعد عن هذا «انتهى».
أقول
تحقيق المسألة على
وجه يظهر به تمويه استعاذة النّاصب أنّه لا خلاف بين العلماء في أنّه تعالى عادل
متفضّل محسن ، وإنّما الخلاف في معناه ، قالت الأشاعرة إنّ معنى كونه تعالى عادلا
أنّه متصرّف في ملكه لا في ملك غيره كما مرّ ، وقالت العدليّة من الاماميّة
والمعتزلة معناه أنّه يختار الحسن ويخلّ القبيح ، لكن من المعلوم أنّ التّصرف في
الملك يمكن أن يكون على الوجوه الحسنة ، وأن يكون على الوجوه القبيحة ولا ريب في
أنّ التصرف في الملك على الوجوه القبيحة ظلم وجور ليس بعدل فالقائلون بأن لا مؤثر
إلا الله مع الاعتراف بحدوث الظلم والجور في العالم جاحدون لكونه تعالى عادلا في
المعنى ، لأنّ فاعل الظلم والجور لا يكون عادلا ، وأما القائلون بأن العبيد محدثون
لتصرّفاتهم ، فهم ينسبون الظلم إلى أنفسهم وينزّهون الله تعالى عمّا يقولون
ويفترون يعني النّواصب القدريّة ، وجوابهم عمّا ذكره أهل العدل بأنّا لا نسلم أنّ
خالق الظلم والجور ليس بعادل ، فانّ خلق جميع الأشياء ليس بقبيح بالنّسبة إليه ، وإنّما
تصير الأشياء قبيحة بالنّسبة إلى الخلائق ، وباعتبار قيامها بهم ، مكابرة تسدّ باب
المناظرة ثمّ إنّ النّاصب لم يجعل عمرو بن العاص هاهنا شريكا مع أبي موسى في الدّعاء برضاء
الله تعالى ، لأنّه وافق مذهب أهل
__________________
الاعتزال ، وغفل
عن كونه من أعداء أمير المؤمنين عليهالسلام ، وإلا لوجّه إليه السّلام والتّحية أيضا ، وأما ما ذكره
من التّمثيل بالبيت المشتمل على كيت وكيت فإنّما تمثّل به العلامة الدّواني في بعض
رسائله لبيان القول بالأصلح بنظام الكلّ على ما ذهب إليه الحكماء والإمامية دون
غيرهم من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ولا مطابقة فيه لمذهب الأشاعرة كما توهّمه النّاصب فانّ ما
اشتمل عليه ذلك البيت من المستراح يظهر عند العقل السّليم مدخليّته في نظام مجموع
البيت ، إذ لولاه لتلوّث جميع البيت وفزع أهله من الرّوائح المستقذرة ، بخلاف ما
اشتمال عليه العالم من الأفعال المتنازع فيها كالزّناء واللّواطة والسّرقة والكذب
والنّميمة ونحوها ، فانّها كما مرّ لا يظهر نفعها في نظام العالم ، بل يكون مخلّا
فيها ، وأيضا الكلام في دعواهم حسن مطلق التّصرّف من الله تعالى ، والتّصرّف الذي
، مثّل به تصرّف خاصّ يستحسنه العقل ، بخلاف بعض التّصرفات الّتى تنسبه الأشاعرة
إلى الله تعالى ويمنعه أهل العدل ، ثم ما ذكره من التّنوير المظلم ، لا مطابقة له ، مع المتنازع فيه ، لأنّ عدم إعطاء
السّيّد للعبيد أجرة في الصّورة المذكورة ، إنّما لا يستقبحه العقل لأنّهم عياله
وعليهم نفقته من المأكول والملبوس ، فلا يجب عليه عقلا ولا شرعا أن يعطيهم سوى ذلك
ممّا اعطى الاجراء الأحرار ، وان أراد بقوله لم يعطهم شيئا انه لم يعطهم شيئا أصلا
لا اجرة ولا قوتا ليسدّ رمقهم كان ظلما وهو ظاهر ، وأما ما ذكره بقوله : ثمّ إنّ
هذا الرّجل لو حمل العبد فوق طاقته ، أو قطع عنه القوت واللّباس يقال إنّه ظالم
إلخ فهو حجّة على النّاصب من حيث لا يشعر ، لدلالته على أنّ مطلق التصرّف لا يكون
عدلا كما ادعاه أهل العدل ، وأما تعليل كون ذلك ظلما بأنّه ليس بمالك على الإطلاق
فعليل ، وإنّما العلّة في كونه ظلما أنّه
__________________
تصرّف يستقبحه
العقل سواء صدر عن المالك على الإطلاق أو عن غيره كما لا يخفى وعلى ما حقّقناه
ينبغي لأصحاب النّاصب تعدّيهم سريعا عما سماه بالتحقيق ، وإن كان باسم ضدّه حقيق ،
والله ولي التوفيق.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنّه يلزم منه تجويز انتفاء ما
علم بالضرورة ثبوته ، بيانه إنّا نعلم بالضرورة أنّ أفعالنا إنّما تقع بحسب قصودنا
ودواعينا ، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي وثبوت الصوارف ، فانّا نعلم بالضّرورة أنّا
متى أردنا الفعل ، وخلص الدّاعي إلى إيجاده وانتفى الصّارف فانّه يقع ، ومتى كرهنا
لم يقع ، فانّ الإنسان متى اشتدّ به الجوع ، وكان تناول الطعام ممكنا ، فانّه يصدر
منه تناول الطعام ، ومتى اعتقد أن في الطعام سمّا انصرف عنه ، وكذا نعلم من حال
غيره ذلك ، فانّا نعلم بالضّرورة أنّ شخصا لو اشتدّ به العطش ولا مانع له من شرب
الماء فانّه يشربه بالضرورة ، ومتى علم مضرّة دخول النّار لم يدخلها ، ولو كانت
الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه وانتفى الدّاعي إليه ،
ويمتنع صدوره عنّا وإن أردناه وخلص الدّاعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله الله
تعالى ، وذلك معلوم البطلان ، فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهبا يقوده إلى بطلان ما
علم بالضرورة ثبوته؟ «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : قد سبق في
تحرير المذهب أنّ الأفعال تقع بقدرة الله تعالى عقيب إرادة العبد على سبيل العادة
فإذا حصلت الدّواعي وانتفت الصّوارف يقع فعل العبد وإن جاز عدم الوقوع عقلا كما في
سائر العاديات التي يجوز عدم وقوعها عقلا ويستحيل عادة فكذا كلّ ما ذكره من تناول
الطعام وشرب الماء ، فانّه يجوز أن لا يقع عقيب
إرادة الطعام ولكن
العادة جرت بوقوعها ، أما قوله : ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن يقع
الفعل وإن كرهناه ، فهذا أمر صحيح فانا كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها ، وهذا
الجواز مما لا ريب فيه ، وليس في إنكار هذا الجواز نفى ما علم بالضرورة «انتهى».
أقول
ما ذكره من جواز
عدم الوقوع عقلا هو عين الدعوى المخالفة للضرورة التي يتكلّم المصنّف عليها ، فانّ
العقل الصّحيح لا يجوز عدم وقوع شرب الماء عند العطش مع حصول الدّواعي وانتفاء
الصّوارف ، فكيف تصير إعادتها جوابا ودفعا لما ذكره المصنّف؟! وأما ما ذكره بقوله
: فانّا كثيرا مّا نفعل الأشياء ونكرهها إلخ فان أراد به أنّا كثيرا مّا نفعل
الأشياء التي نكرهها قبل الفعل فوقوع هذا غير مسلّم ومخالف للضرورة وإن أراد أنّا
كثيرا مّا نفعل الأشياء ونكرهها بعد الفعل لظهور قبحه وكراهته على العقل بعد ذلك
فمسلّم ، لكن المصنف إنّما ادّعى الضّرورة في نفي وقوع الفعل مع كراهة العقل له
قبل الفعل ، وأما قوله : وليس في إنكار هذا الجواز نفى ما علم بالضرورة فغلط ظاهر
، لأنّ المصنّف قدسسره قد ادّعى أنّ جواز وقوع الفعل مع كراهته مناف للضّرورة فهو
قدسسره منكر لذلك الجواز ، لكونه منافيا للضّرورة ، فإيراد
النّاصب عليه بأنه ليس في إنكار هذا الجواز نفى ما علم بالضرورة كما ترى ليس فيه
طائل ، ولا يرجع إلى حاصل.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنّه يلزم تجويز ما قضت الضّرورة
بنفيه ، وذلك لأنّ أفعالنا إنّما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده ، ولا يقع منّا
على الوجه الذي نكرهه ، فانّا نعلم بالضرورة
انّا إذا أردنا
الحركة يمنة لم تقع يسرة ، وإذا أردنا الحركة يسرة لم تقع الحركة يمنة ، والحكم
بذلك ضروريّ ، فلو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن تقع الحركة يمنة ونحن
نريد الحركة يسرة بالعكس ، وذلك ضروريّ البطلان ، «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : جواب هذا
ما سبق في الفصل السّابق أنّ هذه الأفعال تقع عقيب إرادة العبد عادة من الله تعالى
وأنّ الله تعالى يخلق هذه الحركات عقيب إرادة العبد وهو يخلق الإرادة ، والضرورة
إنّما تقضي على وقوع هذه الأفعال عقيب القصد والإرادة لا أنّها تقضي بأنّ هذه
الإرادة مؤثّرة خالقة للفعل ، والعجب أنّ هؤلاء لا يفرّقون بين هذين المعنيين ،
ثمّ من العجب كلّ العجب أنهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأمّلون أنّ هذه الإرادة
من يخلقها؟ أهم يخلقونها أم الله تعالى يخلقها؟ فالذي خلق الإرادة وإن لم يرد
العبد تلك الإرادة وهو مضطرّ في صيرورته محلا لتلك الإرادة خالق الفعل ، فإذا بلغ
أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل ونسبوا إلى أنفسهم خلق الأفعال وفيه
خطر الشرك «انتهى».
أقول
ما ذكره من العجب
ليس من جهله بعجب ويدفع تعجبه ما ذكرنا سابقا من أنّ القول بالقدرة والإرادة الغير
المؤثرتين سفسطة باطلة ، وكذا ما أتى به من كل العجب فان أصل الإرادة وإن كانت مخلوقة
لله تعالى ، لكن صرفها إلى الفعل من فعل العبد ، والحاصل أنّ المخلوق لله تعالى
أصل الإرادة وهو الكيفية النفسانية التي من شأنها ترجيح الفعل أو الترك لكن فعليّة
الترجيح وتعلّق القدرة والإرادة بالفعل أى جعلهما متعلقا به من العبد ، لا من الله
تعالى ، ونمنع ما ذكره العلامة الدّواني في رسالته
من أن تعلق
الإرادة منبعث عن مجرد تصوّر الملائم واعتقاد الملائمة التي لا يتخلف تحقق الفعل
عن تحققها ، وجميع ذلك بقدرة الله تعالى ، وإرادته لم (فلم ظ) لا يجوز أن يكون
منبعثا عن ذلك!؟ مع أنه أمر اعتباري كان منشأه العبد ، وهلّم جرا والتسلسل في
الأمور الاعتبارية مما لا يبالي بارتكابه ، وكأنه لهذا قال شارح المقاصد : الحق
أنّ مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرتهم واختيارهم ، ومبنى المبادي
البعيدة على إلجائهم واضطرارهم ، فلا يلزم من صيرورة العبد محلا لأصل تلك ـ الإرادة
أن يكون مضطرا في التعيين والترجيح كما توهّمه الناصب الحمار ، وزعم أنه قد أخرج
بذلك نفسه عن الوحل ، وسيأتي لهذا زيادة تحقيق وتوضيح في موضعه اللائق به إن شاء
الله تعالى.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنه يلزم مخالفة الكتاب العزيز
ونصوصه ، والآيات المتظاهرة فيه الدالة على استناد الأفعال إلينا ، وقد بيّنت في
كتاب الإيضاح مخالفة أهل السنة لنصّ الكتاب العزيز والسنة بالوجوه التي خالفوا
فيها آيات الكتاب العزيز حتى أنه لا تمضي آية من الآيات إلا وقد خالفوا فيها من
عدّة أوجه ، فبعضها يزيد على بضع
وبعضها يزيد على العشرين ، ولا ينقص شيء منها عن أربعة ، ولنقتصر في هذا المختصر
على وجوه قليلة دالة على أنهم خالفوا صريح القرآن ذكرها أفضل متأخّريهم وأكبر
علمائهم فخر الدّين الرّازي
، وهي
عشرة الاول الآيات الدّالة على إضافة الفعل إلى العبد ، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا)
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ
__________________
بِأَيْدِيهِمْ) ، (إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) ، (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ) ، (بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ، (فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ)، (كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) (ما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : اعلم أنّ
النّصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود ، فكلّما كان كذلك من كتاب الله وخالفه المكلّف
عالما به يكون كافرا نعوذ بالله من هذا ، وكلّ ما يحتمل الوجوه ولا يكون بحيث لا
يحتمل خلاف المقصود ، فالمخالفة له لا تكون كفرا ، بل هو محلّ للاجتهاد والترجيح
لما هو الأنسب والأقرب إلى مدلول الكتاب ، والعجب من هذا الرّجل! أنّه جمع الآيات
التي أوردها الامام الرّازي ليدفع عنها احتمال ما يخالف مذهب أهل السنّة ثمّ أتى
على الآيات كلّها ووافق مذهب اهل السنّة لها ودفع عنها ما احتمل تطبيقه على مذهب
المعتزلة ، وهذا الرّجل ذكر الآيات وجعلها نصوصا مؤيدة لمذهبه ولم يذكر ما ذكر
الامام في تأويل الآيات وتطبيقها على مذهب أهل السنّة والجماعة ، وهذا يدلّ على
غاية حمق الرّجل وحيلته وتعصّبه وعدم فهمه
__________________
أما كان يستحي من
ناظر في كتابه ، ومثله في هذا العمل كمثل من جمع السهام في وقعة حرب وكانت تلك
السّهام قتلت طائفة من أهل عسكره فأخذ السهام من بطون أصحابه ، ومن صدورهم
وأفخاذهم ، ثمّ يفتخر أنّ لنا سهاما قاتلة للرّجال ولم يعلم أنّ هذه السهام قتلت
أحبابه وأعوانه ، نعوذ بالله من الجهل والتعصب ، ثمّ جعل هذه الآيات دليلا على
مذهبهم الباطل من باب إقامة الدليل في غير محلّ النزاع فإنّا لا ننكر أنّ للفعل
نسبة وإضافة إلى الفاعل ونسبة وإضافة إلى الخالق كالسواد فانّ له إضافة إلى الأسود
لأنه محلّه وإلى الخالق الذي خلقه في الأسود حتّى صار به أسود ، فقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فيه إضافة الكفر إلى العبد ، ولا شكّ أنه كذلك ، وليس لنا
فيه نزاع أصلا والكلام في الخلق لا في الكسب والمباشرة وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، لا شكّ أنّ الكتابة تصدر من يد الكاتب وهذا محسوس لا
يحتاج إلى الاستدلال ، والكلام في الخلق والتأثير فنقول : الكتابة كسب العبد وخلق الحقّ ألم يقرأ هذا الرّجل آخر هذه
الآية؟ (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا
مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) صرّح بالكسب وأنّ كتابتهم كسب لهم ، لا أنه خلق لهم ، وقس
عليه باقي الآيات المذكورة «انتهى».
أقول
نعم هذا معنى
النّص لكن لا يلزم أن يكون حصول التّنصيص على المقصود من مجرّد مفهوم اللّفظ مع قطع
النّظر عن القرائن الدّاخلة والخارجة من مقتضيات الحال والمقال ، كما يفهم من كلام
النّاصب موافقا بجماعة زعموا مثله وبنوا عليه الحكم بندور النص في الكتاب والسنّة
، فانّ هذا مردود عند المحقّقين منّا ومنهم فقد
__________________
قال جلال الدّين
السيوطي الشافعي في كتاب الإتقان : إنّه بالغ إمام الحرمين وغيره في الرّد عليهم ، بأنّ الغرض من النّص الاستقلال
بافادة المعنى على قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال ، وهذا وإن عزّ حصوله
بوضع الصيغ ردا إلى اللّغة لكنه كثير مع القرائن الحاليّة والمقالية «انتهى».
وبالجملة كلّ ما يحتمل الوجوه بالنظر إلى مفهوم العبارة في بادي النظر ، ثمّ اندفع
تلك الوجوه والاحتمالات بالنظر إلى القرائن الظاهرة داخل في النص ومخالفته إذا كان
قرآنا أو حديثا يكون
__________________
كفرا ، وأما ما
ذكره من العجب ، فليس من جهله بعجب! ويدفعه أنه لما ادّعى المصنف نصوصية تلك
الآيات على مطلوبه فعلى تقدير تسليم أنّ الرازي ذكر لها تأويلات كان تعرّض المصنف
لذكرها لغوا مستدركا وكفى في ضعف ارتكاب التأويل ما قيل : إنّ يوم التأويل ليل
أليل ، سيما تأويل النصوص المعتضدة بدليل العقل ، وبالجملة تلك التأويلات صرف
للآيات تصريف الأفعال في غير ما أنزلت فيه وإحالة لكلام الله ، وتحريف للكلم عن
مواضعها وجعلها تابعة لهوى المذهب ، وإخراج للقرآن المبين عن أن يكون دليلا
للمحققين وحجة على المبطلين ، وفتح لباب تأويلات الباطنية الملحدين ، وما ندري ،
كيف يستجير من يعلم أنّ وعد الله حقّ مثل هذا في القرآن وفي دين الله المبين!؟ ،
وأما ما ذكره من المثل ، ففيه من الخبط ما يليق أن يضرب به المثل ، وذلك لأنّ المصنف
لما ادعى أنّ تلك الآيات كانت على مذهبه نصوصا ، فكانت على صدور الخصم نصولا ولها
إليهم إصابة ووصولا ، فكيف يصدق أنه كان قبل ذلك لها في يد الخصم حصولا ، وأنهم
جعلوا غيرهم بها مقتولا ، على أنا لو فرضنا أنّ الرازي أو غيره من أهل السنة
كابروا على نصوص تلك الآيات واستدلوا بها على مذهبهم قبل استدلال أهل العدل بها ،
فمثل المصنف في ذلك حينئذ مثل قوم من الأقوياء الرّماة لخصمهم من بعيد قد قابلهم
من الحمق الشديد جماعة كان قسيهم من الضعف في النزع ، وسهامهم خالية عن الأثر واللذع ، فقصرت سهامهم عن الوصول إلى الصدور والأصلاب ، ووقعت
قدّام هؤلاء الأقوياء على التراب فالتقط من الأقوياء من كان له من الرّماية سهم
وافر تلك السّهام القاصرة ورماها على رماتها تلك الجماعة الحمقى الخاسرة ، حتّى
قتل بتلك السهام أحبارهم والبقيّة
__________________
ولوا أدبارهم ثمّ
يفتخر ذلك الملتقط بأنّه قتل هؤلاء بسهامهم ونصولهم واستأصلهم بها عن أصولهم ،
وأما ما ذكره من أنّا لا ننكر أنّ للفعل نسبة وإضافة إلخ ففيه أنّ الكلام ليس في
مطلق النّسبة وإلا فللفعل إلى الزّمان والمكان أيضا نسبة مع أنّهما ليسا فاعلين له
اتفاقا ، بل الكلام في نسبة الفاعليّة ولم يعهد في العرف ولغة القرآن تسمية المحلّ
فاعلا وكاسبا ، بل الفاعل هو الخالق ، والفرق بين الخلق والكسب اصطلاح من الأشاعرة
لا يفيد في مقابلة الخصم على أنّ الكسب الذي ينسبونه إلى العبد بمعنى صرف العبد
القدرة ، أو بمعنى المباشرة والمقارنة والمحلّية ونحوها ، فخالق الصّرف ونحوه ،
إمّا الله تعالى فلا شيء للعبد ، وإمّا العبد فيلزم أن يكون خالق بعض أفعاله ، ولا
ينفع دعوى كونه اعتباريّا في إخراجه عن كونه مخلوقا للعبد ، لأنّ مسألة خلقه تعالى
الأعمال تعمّ الأفعال الاعتباريّة كما يدلّ عليه جعلهم الكفر من المخلوقات ، وبما
ذكرنا يندفع جميع ما ذكره النّاصب في تأويل الآيات الدّالة على إضافة الفعل إلى
العباد ، لأنّ معنى كفروا في العرف واللغة الذين فعلوا الكفر لا من صار محلا للكفر
، وأما الكسب بمعنى المباشرة وصرف القدرة فراجع إلى الفعل كما أشرنا إليه ، فينا
في ما ادّعوه من أنّه لا فاعل في الوجود إلا الله ، وإن جوّزوا صدور هذين الفعلين
من العبد فليجوّزوا صدور الأفعال المتنازع فيها منه أيضا من غير احتياج إلى تمحّل
اختراع الكسب المحال وأما ما ذكره : من أنه لا شكّ أنه تصدر الكتابة من يد
الكاتب ، وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال ، والكلام في الخلق والتأثير إلخ ففيه
ما مرّ من بطلان الفرق بين الخلق والفعل ، وبطلان القول بالقدرة الغير المؤثرة ،
والحاصل أنّ هذه الآية صريحة فيما ادّعاه المصنف قدسسره غير قابلة للتأويل لأنّ مفادها إثبات الفعل لأحد ، ونفيه
عن غيره ففيه إضافة الفعل إلى فاعله على أبلغ الوجوه ، وتوضيحه : أنّه تعالى عبّر
فيها
__________________
بالأيدي عن الأنفس
لأنّ أكثر أعمالهنّ بها ، ولأنّ العادة قد جرت باضافة الأفعال التي يلابسها
الإنسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى ، فجرى خطاب الله تعالى على عادتهم ،
ولأنّ ذكر اليد يحقّق ويؤيد إضافة الفعل إلى فاعله ، كما ورد في المثل يداك اوكتا وفوك نفخ يعنى يداك لا يدا غيرك ، وفوك لا فو
سواك يعنى أنت فعلت بآلتك ، لاستحالة أن يفعل أحد بجارحتك وأما قوله صرّح الله
بالكسب في الآية المذكورة فمدخول بما أشرنا إليه سابقا : من أنّ لفظ الكسب في
الآية بمعنى آخر غير ما اخترعه الأشاعرة ، لكنهم للفرار عن الجبر اضطروا إلى صرفه
عن ظاهره ، وصرفه كصرف الأفعال تارة إلى صرف القدرة نحو الفعل ، وتارة إلى
المقارنة والمباشرة ، وتارة إلى المحلّية وتارة إلى اتصاف الفعل بالطاعة أو
المعصية ، وشيء من هذه المعاني لم يعهد في اللّغة ، ولا فهم من الكتاب والسنّة كما
لا يخفى على من تأمل وأنصف.
قال المصنّف رفع الله
درجته
الثاني ما ورد في القرآن من مدح المؤمن
على إيمانه ، وذمّ الكافر على كفره ،
__________________
ووعده بالثواب على
الطاعة ، وتوعّده بالعقاب على المعصية كقوله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، (وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) ، (أَلَّا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ،
(لِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما تَسْعى) ،
(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ،
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) ؛
(مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ؛
، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي) (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) ،
و
(الَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ) ،
،
انتهى
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : مدح المؤمن
وذمّ الكافر بكونهما محلّا للكفر والايمان ، كما يمدح الرّجل لحسنه وجماله وتمدح
اللّؤلؤة بصفائها ، والوعد والوعيد لكونهما محلا للأعمال الحسنة والسّيئة كما يؤثر
، ويختار المسك ويحرق الحطب والحشيش ، والآيات المذكورة إنّما تدلّ على المدح
للمؤمن والذّم للكافر ، وبيان ترتب الجزاء وليس النزاع
__________________
في هذا لأنّ هذا
مسلّم ، والكلام في أنّ الأعمال المجزيّة هل هي مخلوقة لله تعالى أو للعبد؟ وأما
المباشرة للعمل والكسب الذي يترتّب عليه الوعد والوعيد والجزاء فلا كلام في أنها
من العبد ، ولهذا يترتّب عليها الجزاء ، فعلم أنّ في الآيات ليس دليل لمذهبه «انتهى».
أقول
قد مرّ أنّ القول
بسببية المحلّ والاتصاف الحاصل بدون الاختيار ضروريّ البطلان وينبه عليه بأنّ
أفعال العباد ممّا يصح المدح والذم عليه اتفاقا ، والغرائز الحاصلة في محلّها ليست
كذلك ، لما وقع فيها الاختلاف ، وبالجملة أنّا نعلم ضرورة قبح المدح والذّم على
كون الشخص طويلا أو قصيرا ، أو كون السّماء فوقه والأرض تحته ، وإنما يحسن هذا
المدح أو الذمّ لو كان للعبد فعل يصدر عنه ، واما تمثيله لذلك بمدح الرّجل بحسنه
وجماله وبمدح اللّؤلؤة بصفائها فمردود ، بأنّ المدح وإنّ عمّ الاختياري وغيره ،
لكن مدح المؤمن على إيمانه مثلا إنّما يقع من حيث اختياره في ذلك وإذ لا اختيار له
فيه فينتفى المدح من تلك الحيثية ، وهذا هو مراد المصنّف وحينئذ الاستشهاد بمدح
نحو اللّؤلؤة يكون خارجا عن المبحث كما لا يخفى.
قال المصنّف رفع الله
درجته
الثالث الآيات الدّالة على أنّ أفعال
الله تعالى منزهة عن أن يكون مثل أفعال المخلوقين من التّفاوت والاختلاف والظلم ،
قال الله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)
والكفر والظلم ليس
بحسن
__________________
وقوله : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ، والكفر ليس بحق وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ)
، (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ،
(وَما ظَلَمْناهُمْ) ، (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) ،
، (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً)
انتهى.
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : مذهب جميع
المليين أنّ أفعال الله تعالى منزهة عن أن يكون مثل أفعال المخلوقين فانّ أفعال
المخلوقين مشتملة على التفاوت والاختلاف والظلم ، وأفعال الله تعالى منزّهة عن هذه
الأشياء ، فالآيات الدّالة على هذا المعنى دليل جميع الملّيّين ولا يلزم الأشاعرة
شيء منها ، لأنّهم لا يقولون : إنّ أفعال العباد أفعال الله تعالى حتّى يلزم
المحذور ، بل إنّهم يقولون : أفعال العباد مخلوقة لله مكسوبة للعبد ، وهذا
التّفاوت والاختلاف والظلم بواسطة الكسب والمباشرة ، فالتفاوت والاختلاف واقع في
أفعال العباد كما في سائر الأشياء كالإنسان وغيره من المخلوقات ، فانّ الاختلاف
والتّفاوت واقعان فيها لا محالة ، فهذا التّفاوت والاختلاف في تلك الأشياء بما ذا
ينسب وبأىّ شيء ينسب فلينسب إليه اختلاف أفعال العباد وأمّا الاستدلال بقوله : (أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ) على أنّ الكفر ليس خلقه فباطل ، لأنّ الكفر مخلوق لا خلق ،
__________________
ولو كان كلّ مخلوق
حسنا لوجب أن لا يكون في الوجود قبيح ، وهو باطل لكثرة المؤذيات والقبائح المتحققة
بخلق الله تعالى على ما سيجيء ، وأما الاستدلال بقوله (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) على أنّ الكفر ليس مخلوقا لله تعالى لأنّه ليس بحقّ فباطل
، لأنّ معنى الآية : انّا ما خلقنا السّماوات والأرض إلا متلبّسين بالحقّ والصّدق
والجدّ ، لا بالهزل والعبث كما قال : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) و (ما خَلَقْناهُما) إلا بالحق ولو كان المعنى وما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما ،
إلّا بكون كلّ مخلوق حقّا لأفاد أنّ الكفر حقّ ، وأنّى يفهم هذا المعنى من هذا
الكلام ، نعم ربّما فهم ذلك الأعرابي الجافّ الحلّي الرّاطن ذلك المعنى من كلام الله «انتهى».
أقول
قد مرّ بيان أن
نفي الأشاعرة الظلم عن الله تعالى إنّما هو بحسب اللّفظ دون المعنى والحقيقة ،
وأنّ الكسب باطل بما مرّ مرارا وسيجيء في موضعه ، وأمّا قوله : فالتّفاوت
والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء كالإنسان وغيره من المخلوقات
، ففيه نظر من وجهين ، الاول : أنّه يشعر بأنّ في خلق الإنسان ونحوه من مخلوقات
الله تفاوتا واختلافا أيضا ، وهذا مع مخالفته لنصّ الآية مناف أيضا لما قاله سابقا
: من أنّ أفعال الله تعالى منزّهة عن التفاوت والاختلاف ، والثاني : أنّه فهم من نفي
الاختلاف الواقع في الآية نفى الاختلاف بحسب الأنواع والأشخاص
__________________
ونحوها ، ولهذا
وقع في ورطة مخالفة القرآن ومناقضة نفسه ، وليس كذلك بل المراد من التفاوت
والاختلاف المنفيّ في الآية عدم التناسب والنّظام بحيث يقول الناظر الفهم : لو كان
كذا لكان أحسن ، كذا في تفسير النيسابوريّ : ومن البيّن أنّ أكثر أفعال الإنسان
بهذه الحيثيّة ، وأما ما ذكره : من أنّ الكفر مخلوق لا خلق فغير قادح في استدلال
المصنّف بالآية لأنّها كما قصد المصنّف إنّما دلّ على حسن المخلوق لا الحلق لأنّ
الحسن المفهوم من قوله تعالى : (أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، إنّما يتعلّق بكلّ شيء خلقه ، بالخلق المفهوم من خلق
الماضي في قوله : خلقه ، ولا ريب في أنّ الشيء الذي خلقه الله هو مخلوقه لا خلقه ،
قوله : ولو كان كلّ مخلوق حسنا إلخ قلنا : بطلان اللازم ممنوع قوله : لكثرة
المؤذيات والقبائح المتحققة قلنا : هذا مع كونه منافيا لإنكاره سابقا كون القبائح
صادرة من الله تعالى مردود بأنّه إن أراد من المؤذيات والقبائح ما عدا الأفعال
الصّادرة عن العباد كخلق الحيات والعقارب والسباع ونحوها فقد بيّنا سابقا أنّها
ليست بقبيحة عند التأمّل في خواصّها ، وكون نفعها أكثر من ضررها ، وإن أراد به ما
يشمل أفعال العباد كالسّرقة واللّواطة والزّنا فلا نسلّم أنّها صادرة من الله
تعالى ، بل هو أوّل المسألة ، وأمّا ما ذكره من أنّ معنى الآية أنّا ما خلقنا
السمّاوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ والصّدق إلخ ففيه أنّه على تقدير تسليم أن
يكون الحقّ والصدق والجدّ ، معان متقاربة كما يدلّ عليه ظاهر كلامه ، لا معنى
للاية إلا أن تكون تلك
الأشياء حقّا لا
أنّ الحقّ أمر آخر مباين لها متلبّس بها مصاحب لها كالحجر الموضوع بجنب الإنسان ،
وبهذا علم أنّ قوله : وأنّى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام دليل على اعوجاج فطرته
المرّ المرواني ، وقصور فهمه عن إدراك واضحات المعاني ، فانّه لا يفهم أنّ ما ذكره
من تفسير الآية هل هو مضمون كلام المصنّف أو يدفعه ويمنعه
ولا يدري أين يذهب
رأسه؟ وبأيّ شيء يشتعل أو ينطفي نبراسه؟ والحمد لله على خلاصنا من عظيم ما ابتلوا به من المجاهرة
بالباطل ، ومعارضتهم الحقّ بأغث ما يكون من الكلام
قال المصنّف رفع الله
درجته
الرابع : الآيات الدّالة على ذمّ العباد
على الكفر والمعاصي كقوله تعالى : (كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللهِ)
والإنكار والتّوبيخ
مع العجز عنه محال ، ومن مذهبهم أنّ الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه ،
وهو لا يقدر على غيره فكيف يوبّخه عليه!؟ وقال الله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى)
وهو إنكار بلفظ
الاستفهام ومن المعلوم أنّ رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثمّ
يقول : ما منعك من التّصرّف في حوائجي قبح منه ذلك ، وكذا قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا)
(ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ)
وقوله : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا)
، (فَما
لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)
(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)
(عَفَا اللهُ
__________________
عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)
(لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ)
وكيف يجوز أن يقول
لم تفعل؟ مع أنّه ما فعله وقوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ)
، (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)
؟ قال الصاحب ابن
عبّاد : كيف يأمر بالايمان
ولم يرده؟ وينهى
__________________
عن الكفر وقد أراده؟
ويعاقب على الباطل وقدّره ، وكيف يصرفه عن الايمان ثمّ يقول (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)
، ويخلق فيهم الكفر
ثمّ يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ)؟
، ويخلق فيهم لبس الحقّ بالباطل ثم يقول : (لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ)
، وصدهم عن سواء السبيل ثمّ يقول: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ)
، وحال بينهم وبين الايمان ثم قال (وَما
ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
__________________
بِاللهِ)
، وذهب بهم عن
الرّشد ثمّ قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)
وأضلهم عن الدين حتى
أعرضوا ثمّ قال (فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)
«انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : قد سبق أنّ
ذمّ العباد على الكفر لكونهم محلّ الكفر ، والكاسبين المباشرين له والإنكار
والتوبيخ في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ) لكسبهم الكفر ، وهم غير عاجزين عن الكسب لوجود القدرة على
الكسب وإن كانوا عاجزين عن دفع الكفر عنهم بحسب الإيجاد والخلق ، والأوّل كاف في
ترتّب التوبيخ على فعلهم ، وأما ما ذكره من أنّ مذهبهم أنّ الله تعالى خلق الكفر
في الكافر وأراده منه وهو لا يقدر على غيره فكيف يوبّخه عليه فقد ذكرنا جوابه فيما
سبق أنّ التوبيخ باعتبار الكسب والمحلّية لا باعتبار التّأثير والخالقيّة ، وقد
ذكرنا فيما سبق : أنّ هذا يلزمهم في العلم بعينه وكذا حكم باقي ما ذكر من الآيات
المشتملة على توبيخ الله تعالى عباده بالشّرك والمعاصي فانّ كلّ هذه التّوبيخات
متوجهة إلى العباد باعتبار المحلّيّة والكسب ، لا باعتبار الخلق ، وأما ما ذكره من
كلمات الصّاحب ابن عباد فهو كان رجلا وزيرا متشدّقا في الإنشاء معتزليّا ذكر الكلمات وسردها على وتيرة أرباب
التّرسّلات والمراسلات ، وليس فيه دليل ، وما أحسن ما قيل في أمثال كلامه شعر :
كلامك يا هذا
كبندق فارغ
|
|
خليّ عن المعنى
ولكن يقرقر
|
«انتهى»
__________________
أقول
قد سبق أنّ القول
بالمحليّة والكسب لا محلّ له عند العقل ، ولا يكسب لهم خيرا ولا يصلح وجها لتوجّه
الإنكار والتّوبيخ من الله تعالى إلى العباد ، ولا يكفي في ترتبهما على فعلهم ،
وقد سبق أنّ مظنّة لزوم مثل ذلك علينا في العلم من قبيل (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ، وكذا الكلام في باقي ما ذكر من الآيات وأما ما ذكره في
دفع كلمات صاحب ابن عباد رحمهالله : من أنّه كان رجلا وزيرا متشدّقا معتزليا ، فلا يخفى ما
فيه إذ لا يقدح شيء من الوزارة وبلوغ الفصاحة والبلاغة والاعتزال في فضل الرّجل
وحسن مقاله ، انظر إلى ما قال ، ولا تنظر إلى من قال ، لكن النّاصب جعل ذلك وسيلة للهرب عن جوابه ، ولم
يمنعه عنه ما كان له بنفسه من إعجابه ، ثم ما ذكر : انّه كان من أهل الاعتزال
إنّما نشأ عن جهله بأحوال الرّجال وإنّما كان الصاحب رحمهالله شيعيا إماميا بالغا إلى نصابه نشأ في حجر التّشيع ، وأرضع من لبابه على رغم أنف النّاصب وأصحابه كما حقّقه أرباب التّاريخ في
بابه ، وأما ما ذكره من الشعر المشعر بأنّه رغم كلام الصّاحب
__________________
خاليا عن المعنى
فلينصف أولياء النّاصب أنّ الخالي عن المعنى هو الكسب الذي اضطربوا في تحصيل معناه
كما بيّناه ، أو الكلام المنقول عن الصاحب الذي جلّ أن يوصف لفظه إلّا بالدّر
المنظوم ، وكؤوس معانيه إلّا بالرحيق المختوم ، لكنّ الجاهل المعاند الذي ختم الله
على قلبه فلا يتقي من الله تعالى ولا يستحي من النّاس ولا يبالي بما أطلق به لسانه
لا يعجز عن الإتيان بمثل هذا الشعر الذي كلام شيخه الأشعري الخالي عن الشعور أولى
به ، ولا غرو أنّ الحقّ ينكره الجهول سيّما الفضول الذي هو على شفا جرف مهول كما قيل شعر :
الحقّ ينكره
الجهول لأنّه
|
|
عدم التصوّر فيه
والتصديقا
|
وهو العدوّ لكلّ
ما هو جاهل
|
|
فإذا تصوّره
يعود صديقا
|
قال المصنّف رفع الله
درجته
الخامس الآيات التي ذكرها الله تعالى
فيها تخيير العباد في أفعالهم ، وتعليقها بمشيتهم قال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ
فَلْيَكْفُرْ)
(اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) ، (فَسَيَرَى
اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ)
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ)
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ)
، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً)
، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ
__________________
مَآباً)
، وقد أنكر الله تعالى
على من نفى المشيّة عن نفسه وأضافها إلى الله تعالى بقوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا)
(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ)
«انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : هذه الآيات
تدلّ على أنّ للعبد مشيئة وهذا شيء لا ريب فيه ، ولا خلاف لنا فيه ، بل النزاع في
أنّ هذه المشيئة التي للعبد هل هي مؤثرة في الفعل موجدة إيّاه أو هي موجبة
للمباشرة والكسب؟ فإقامة الدّليل على وجود المشيئة في العبد غير نافعة له ، وأما
قوله : قد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه ، وأضافها إلى الله تعالى
بقوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ، فنقول : هذا الإنكار بواسطة إحالة الذّنب على مشيئة الله تعالى
عنادا أو تعنّتا فأنكر الله عليهم عنادهم ، وجعل المشيئة الالهيّة علّة
للذّنب ، وهذا باطل ، ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) كيف نسب عدم الاشراك إلى المشية : ولو لا أنّ الإنكار في
الآية الاولى لجعل المشيئة علّة للذّنب ، وفي الثانية لتعميم حكم المشيئة الموجبة
للخلق ، لم يكن فرق بين الاولى والثّانية والحال أنّ
__________________
الاولى واردة
للإنكار على ذلك الكلام وهو منقول عنهم ، والثّانية من الله تعالى من غير إنكار
فليتأمل المتأمّل ليظهر عليه الحقّ «انتهى».
أقول
قد مرّ بيان أنّ
إثبات القدرة والمشيئة بدون التّأثير لا محصّل له ، وأنّ القول بالكسب لا أثر له
في دفع الجبر ، وأما ما ذكره من أنّ هذا الإنكار بواسطة إحالة الذّنب على مشيئة
الله تعالى إلخ ففيه أنّ صريح الآية اعتقادهم أنّ مشيئة الله تعالى علّة لشركهم
وكون الشّرك ذنبا أو غيره غير مفهوم من لفظ الشّرك ، وإنّما فهم من خارج ، والقول
بعلّيّة مشيئة الله تعالى وعلمه للشّرك وجميع أفعال العباد ممّا شارك فيه الأشاعرة
مع المشركين ، وقد نفاها الله تعالى ، كما قرّره المصنّف فالعدول عن جعل مشيئة
الله تعالى في الآية علّة لنفس الشّرك وجعله علّة لوصف كونه ذنبا صرف للآية عن
ظاهرها والبناء على الكسب بالمعنى الذي ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني وفخر الدين
الرّازي حيث قالا : إنّ حقيقة الكسب صفة تحصل بقدرة العبد بفعله
الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصّلاة والقتل مثلا كلتاهما حركة وتتمايزان بكون
إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فأصل الحركة
لقدرة الله تعالى وخصوصيّة الوصف بقدرة العبد ، وأورد عليه أنّ امتياز المطلق عن
مقيّداته إنّما هو في العقل دون الخارج ، وهو لا يصحّح كون كلّ من هذين التمايزين
مقدورا بقدرة أخرى ، وأما ما ذكره من أنّه لو لا التأويل الذي ذكره في الآية
الاولى ، لما فرق بينها وبين الآية الثّانية فدفعه هين والفرق بيّن ، لأنّ المراد
بالمشيئة في الآية المشيئة المطلقة يعني أنّ الله تعالى لوشاء عدم الشّرك منّا لما
أشركنا ، لكنّه لم يشأ ذلك ، وحاصل الإنكار أنّكم كاذبون في أنّ الله تعالى لم يشأ
__________________
عدم شرككم ، لأنّه
تعالى شاء ذلك بالمشيئة التكليفيّة الاختياريّة التفويضيّة ، بأن تختاروا عدم
الشّرك بارادتكم ومشيئتكم فارتكبتم بسوء اختياركم الشّرك وتركتم التوحيد ، والمراد
بالمشيئة في الآية التي ذكرها النّاصب المشيئة الاجبارية الاضطراريّة ، وحاصل هذه
الآية أنّ الله تعالى لو أراد عدم شركهم بالمشيئة الاجبارية لما أمكنهم الشّرك ،
لكن لم يشأ ذلك على هذا الوجه لمنافاته غرض التكليف كما مرّ ، ولا منافاة بين معنى
الآيتين على هذا ، ولا تكلّف في التأويل كما ترى ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) .
قال المصنّف رفع الله
درجته
السادس الآيات التي فيها أمر العباد
بالأفعال (الإقبال خ ل) والمسارعة إليها قبل فواتها كقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ)
، (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ)
، (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)
، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)
(وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ)
(فَآمِنُوا خَيْراً
لَكُمْ)
(وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
__________________
وَأَنِيبُوا
إِلى رَبِّكُمْ)
، فكيف يصحّ الأمر
بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور ممنوعا عاجزا عن الإتيان به؟ وكما يستحيل
أن يقال للمقعد الزّمن قم ، ولمن يرمى من شاهق جبل احفظ نفسك فكذا هاهنا «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : أمر العباد
بالمسارعة في الخيرات من باب التكليف ، وقد سبق فائدة التكليف وأنّه ربّما يصير
داعيا إلى إقبال العبد إلى الله تعالى وخلق الثّواب والعقاب عقيب التكليف والبعثة
، وعمل العباد كخلق الإحراق عقيب النّار فكما أنّه لا يحسن أن يقال : لم خلق الله تعالى
الإحراق عقيب النّار؟ كذلك لا يحسن أن يقال : لم خلق الثّواب والعقاب عقيب الطاعة
والمعصية ، فانه تعالى مالك على الإطلاق ، ويحكم ما يريد ، وأمّا قوله : كيف يصحّ
الأمر بالطاعة والمأمور به عاجز ، فالجواب ما سبق أنه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ،
والكلام في الخلق والتأثير لا في الكسب والمباشرة «انتهى».
أقول
قد سبق أنّ العبد
بطبعه لا يخلو عن الفعل والترك ، فلا حاجة له في ذلك إلى التكليف فبقى أن يكون
التكليف للحثّ على الخيرات والزّجر عن المعاصي كما ذكره المصنف قدسسره ، وقد سبق أيضا أنّ نفى السببيّة الحقيقيّة سفسطة لا يلتفت
إليها ، وأنّ المالك على الإطلاق إنّما يحسن منه التّصرف على الوجه الحسن ، فإذا
تصرّف لا على وجه يستحسنه العقل السّليم يذمّ ويحكم عليه بالسّفه ، وأما ما ذكره
في الجواب
__________________
من أنّه ليس بعاجز
عن الكسب والمباشرة ، فقد مرّ وسيجيء دفعه بابطال الكسب بأىّ معنى كان إن شاء الله
تعالى.
قال المصنّف رفع الله
درجته
السابع الآيات التي حثّ الله تعالى فيها
على الاستعانة به كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)،(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ
الرَّجِيمِ)
،(اسْتَعِينُوا بِاللهِ)،
فإذا كان الله تعالى خلق الكفر والمعاصي كيف يستعان به (يستفاد منه خ ل) وأيضا
يلزم بطلان الألطاف والدّواعي ، لأنّه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد فأىّ
نفع يحصل للعبد من اللّطف الذي يفعله الله!؟ لكنّ الألطاف حاصلة كقوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ)
(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً)
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ
لَهُمْ)
، (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)
انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : خلق الكفر
والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من الخالق ، ولا يستعاذ به ،
__________________
فانّ الاستعانة والاستعاذة
لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاستعاذة ، ولو كان الأمر كما ذكروا لانسدّ
باب الدعاء والطلب من الله تعالى ، لأنّه خالق الأشياء ، وهذا من التّرهات التي لا
يتفوّه بها عاقل فضلا عن فاضل «انتهى».
أقول
يتوجّه عليه أنّ
الخلق بدون كسب العبد لمّا لم يوجب عندهم ثوابا ولا عقابا ، فلا حاجة إلى
الاستعاذة ، والقول بأنّ الاستعاذة عن الخلق يجوز أن تكون لئلا تؤدي الخلق إلى
الكسب مردود ، بأنّ هذه التأدية إن كانت بالجبر فيلزم أن يكون الكسب أيضا بالجبر ،
فيلزم الجبر المحض ، وإن كان باختيار العبد فلا وجه للاستعاذة فيه عن الله تعالى
فتدبّر.
قال المصنّف رفع الله
درجته
الثامن الآيات الدّالة على اعتراف
الأنبياء بذنوبهم ، وإضافتها إلى أنفسهم كقوله تعالى حكاية عن آدم عليهالسلام :
(رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا)
، وعن يونس عليهالسلام
: (سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
وعن موسى عليهالسلام
(رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي)
، وقال يعقوب عليهالسلام
لأولاده : (بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً)
وقال يوسف عليهالسلام:
(مِنْ بَعْدِ أَنْ
نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)
، وقال نوح عليهالسلام
: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)
، فهذه الآيات تدلّ
على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين
__________________
لأفعالهم «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : اعتراف
الأنبياء بكونهم فاعلين لا يدلّ على اعتقادهم بكونهم خالقين والمدّعى هو هذا وفيه
التنازع ، فانّ كلّ إنسان يعلم أنّه فاعل للفعل ، ولكنّ الكلام في الخلق والإيجاد
فليس فيها دليل لمدّعاه «انتهى».
أقول
يدفعه أنّ الأصل
في الإطلاق الحقيقة والضّرورة قاضية بذلك أيضا ، وقد مرّ مرارا ما في احتمال
الكسب من الهذر والفساد ، فما بقي لهم إلا العناد.
قال المصنّف رفع الله
درجته
التاسع الآيات الدّالة على اعتراف
الكفّار والعصاة ، بأنّ كفرهم ومعاصيهم كانت منهم كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ
مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)
إلى قوله : (أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)
، وقوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ)
، (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ
سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها)
إلى قوله : فكذبنا وقوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ
نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)
«انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : اعتراف
الكفّار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة ، وهو أنّ الكسب من العبد والخلق من
الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة : (فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) ، أي كان هذا الجزاء لكسبكم الأعمال السّيئة ، وكلّ هذا
يدلّ على أن للعبد كسبا يؤاخذ به يوم القيامة ، ويجزى به ، ولا يدلّ على ما هو
محلّ النّزاع وهو كونه خالقا لفعله وموجدا إيّاه فليس فيها دلالة على المقصود «انتهى».
أقول
يتوجّه عليه أنّ
ما حكم به بديهة العقول السّليمة والبرهان العقليّ لا يظهر خلافه في الآخرة ، لما
عرفت من إحكام قاعدة الحسن والقبح العقليّين ، وما ذكره من الآية لا تدلّ على
إرادة ما اخترعوه من الكسب الذي لا محصل له ، لظهور أنّ الكسب في الآية ليس
بالمعنى الذي اخترعوه فلا يصح الاستدلال بها على مذهبهم فهو في ذلك مطالب بالبيان
ودونه خرط القتاد.
قال المصنّف رفع الله
درجته
العاشر الآيات التي ذكر الله فيها ما
يحصل منهم من التحسّر في الآخرة على الكفر وطلب الرّجعة ، قال الله تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا
أَخْرِجْنا)
، قال : (رَبِّ ارْجِعُونِ
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ،
(رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) ،
أو
يقول :
__________________
(حِينَ تَرَى
الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
«انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : التّحسّر
وطلب الرّجعة لاكتساب الأعمال السيّئة والاعتقادات الباطلة التي من جملتها اعتقاد
الشّركاء لله تعالى كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من الملّيّين كالمعتزلة
وتابعيهم ، وليس في هذه الآيات دليل على دعواهم «انتهى».
أقول
قد مرّ أنّ الكسب
والاكتساب بالمعنى الذي اخترعوه بمعزل عن لغة القرآن. وأما ما نسبه إلى أهل العدل
من اعتقاد شركاء لله تعالى فهو أولى بالأشعريّة المثبتين للصّفات الزّائدة القديمة
كما سبق بيانه ، بل القول بالكسب وكونه مؤثّرا في وصف الطاعة والمعصية يستلزم ما
هو أشدّ من الشّرك الذي توهّموه من قول أهل العدل باستناد أفعال العباد إليهم كما
مرّ بيانه ، بل يلزمهم فيه مشاركة المجوس بل النصارى حذو النّعل بالنعل والقذّة
بالقذّة كما سبق.
قال المصنّف رفع الله
درجته
فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الكتاب
العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ)
، ولا من خلفه تنزيل
من حكيم حميد ، فما عذر فضلائهم؟ وهل يمكنهم الجواب عن
__________________
هذا السؤال كيف تركتم
هذه النّصوص ونبذتموها (وَراءَكُمْ
ظِهْرِيًّا)؟
إلا بانا طلبنا
الحياة الدّنيا وآثرناها على الآخرة ، وما عذر عوامهم في الانقياد إلى فتوى
علمائهم واتّباعهم في عقائدهم؟ وهل يمكنهم الجواب عن هذا السؤال كيف تركتم هذه
الآيات وقد جاءكم بها النّذير ، وعمرناكم ف (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ
مَنْ تَذَكَّرَ)؟
؟ إلا بأنّا قلّدنا
آبائنا وعلمائنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر مع كثرة الحلاف وبلوغ الحجة إلينا ،
فهل يقبل عذر هذين القبيلين؟ وهل يسمع كلام الفريقين؟ «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عرفت
فيما مضى أنّ النّص مالا يحتمل خلاف المقصود ، وقد علمت في كلّ الفصول من
استدلالاته بالآيات أنّها دالة على خلاف مقصوده ، فهي نصوص مخالفة لمدّعاه ،
والعجب أنّه يفتخر ويباهي بإتيانها ، ثم يقول : ما عذر علمائهم وعوامهم؟ فنقول : أمّا عذر
علمائهم فإنهم يقولون يوم القيامة : إلهنا كنّا نعلم أنّ لا خالق في الوجود سواك ،
وأنت خلقت كلّ شيء ، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة ، فان تعذّبنا فنحن عبادك ، وإن
تغفر لنا فبفضلك وكرمك ، ولك التّصرف فينا كيف شئت ، وأما عذر عوامهم فانّهم
يقولون : إلهنا إنّ نبيّك محمّدا صلىاللهعليهوآله أمرنا بأن نكون ملازمين للسّواد الأعظم ، فقال صلىاللهعليهوآله : عليكم بالسّواد الأعظم ، ورأينا في أمته صلىاللهعليهوآله السّواد الأعظم كان أهل السنة والجماعة ، فدخلنا فيهم
واعتقدنا مثل اعتقادهم ، ورأينا أنّ المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود يخفون
مذهبهم ويسمونه التقية ، ويهربون من كلّ شاهق إلى شاهق ، ولو نسب إليهم أنهم
معتزليون ، أو شيعة ، يستنكفون عن
__________________
هذه النسبة ،
فعلمنا أنّ الحق مع السواد الأعظم فتبعناهم «انتهى».
أقول
قد بينا فيما سبق
: أنّ النص ليس ما توهمه من ظاهر تعريفه المذكور ، بل هو ما لا يحتمل خلاف المقصود
ولو بمعونة القرائن الواضحة ، وأما ما ذكره : من أنّ الآيات كانت دالة على خلاف
مقصود المصنف فبناه في ذلك كما مرّ على أنّ لفظ الفعل المذكور في بعض تلك الآيات
بمعنى الكسب الذي اخترعه الأشعري ، وكذا ما ذكر فيها بلفظ الكسب ، وأنت تعلم أنّ
لفظ الفعل والكسب لم يجيء في اللّغة بالمعنى الذي اخترعه من المحلّية والمقارنة
ونحوهما ، ولا يدلّ عليه بإحدى الدّلالات الثلاث ، فاحتمال إرادته الكسب بذلك
المعنى كما هو خلاف مقصود المصنف مخالف لمقصود الله تعالى أيضا ، فلا يقدح في
استدلال المصنف بها على مقصوده ، ولا يدفع كونها نصا في معناها الحقيقي ، وأما ما
ذكره الناصب في تقرير عذر علماء نحلته ، فهو مما لا يبيض وجوههم ، إذ يكذّبهم الله
تعالى في ذلك ويقول لهم : كيف يصح دعواكم أنه لا خالق في الوجود سواك وأنت خلقت
كلّ شيء؟ مع أنكم أثبتم صفات سبعة زائدة قديمة ، وأنكرتم كونها مخلوقة لي وأنكم
نسبتموني إلى الظلم والسفه حيث نفيتم عن أنفسكم الفعل وأثبتم الكسب بالمعنى الذي
لا يوجب استحقاق العقاب والثواب ، وأما التضرع إلى الله بأنك إن تعذّبنا فنحن
عبادك وإن تغفر لنا فبفضلك ، فمشترك بين قاطبة أهل الإسلام لا اختصاص له بالأشاعرة
، وأما التصرف كيف شاء ، فإن أراد به أنواعا وأصنافا من الثّواب أو العقاب التي
يستحقها المكلّف في استحسان العقل فصادق ، لكن لا يفيده ، وان أراد به التصرّف
الحسن والقبيح فهو سبحانه منزّه عن القبيح فيرد بذلك برى على (ردّ على خ ل) وجوه
ضراعتهم ، وأمّا ما ذكره في عذر العوام ، فهو عذر غير مسموع ، إذ يقول الله تعالى
لهم في ردّ ذلك : من أين علمتم أنّ معنى السّواد الأعظم ذلك؟
مع أنّ سواد الكفر
أعظم من سواد جميع الإسلام ، ولم ما تتبعتم وما علمتم أنّ خوف الشّيعة والمعتزلة وتقيتهم
إنّما كان منكم ومن كثرة سوادكم سوّد الله وجوهكم ولم ما تذكّرتم أنّ أهل الحقّ
كانوا في زمان كلّ نبيّ قليلون؟ وأهل الباطل كثيرون وإنّما المعنىّ بالسّواد الأعظم ما تركه النبيّ صلىاللهعليهوآله في أمّته من الثقلين كتاب الله تعالى
__________________
وعترته ، ووصفه في
الحديث المشهور بأنّ أحدهما أعظم من الآخر وإنّما عبّر عنهما بالسّواد لأنّهما
قرتا أعين المؤمنين ، ونورا أبصار المستبصرين ، ولهذا قيل : النّور في السّواد ،
ويؤيد ما ذكرنا ما رواه الطيبي في شرح المشكاة عن سفيان الثوري في تفسير الجماعة حيث قال : لو أنّ فقيها على رأس جبل لكان
هو الجماعة ، ويعضده قول بعض الحكماء : جلّ جناب الحقّ أن يكون شريعة لكلّ وارد ،
وأن يطلع عليه (يطمع فيه) إلّا واحد ، وقال الشاعر.
__________________
خليليّ قطّاع الفيافي إلى الحمى
|
|
كثير وأمّا
الواصلون قليل
|
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها مخالفة العلم الضّروريّ الحاصل
لكلّ أحد يطلب من غيره أن يفعل فعلا ، فانّه يعلم بالضّرورة أنّ ذلك الفعل يصدر
عنه ، ولهذا يتلطف في استدعاء الفعل منه بكلّ لطيفة ويعظه ويزجره عن تركه ويحتال
عليه بكلّ حيلة ويعده ويتوعّده على تركه ، وينهاه عن فعل ما يكرهه ، ويعنفه على
فعله ، ويتعجّب من فعله ذلك ويستطرفه ويتعجّب العقلاء من فعله : وهذا كلّه دليل
على أنّه فعله ، ويعلم بالضّرورة الفرق الضّروري بين أمره بالقيام وبين أمره
بإيجاد السّماء والكواكب ، ولو لا أنّ العلم الضّروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا
لما صحّ ذلك «انتهى».
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : الطلب من
الغير للفعل ونهيه عن الفعل للحكم الضّروري بأنّه فاعل للفعل ، وهذا لا ينكره إلّا
من ينكر الضروريّات ، وقد مرّ مرارا أنّ هذا ليس محلا
__________________
للنّزاع ، فانّ
صدور الفعل عن أحدنا محسوس ولهذا نطلب منه ونتلطف ، ونزجر ونعد ونوعد ، وكلّ هذه
الأمور واقعة وليس النّزاع إلا في أنّ هذا الفعل هل هو مخلوق لنا أو نحن نباشره؟
فالنّزاع راجع إلى الفرق بين المباشرة والخلق وأنّهما متحدان ، أو متغايران ، وهذا
ليس بضروري ، ومن ادّعى ضرورية هذا فهو مكابر لمقتضى العقل ، فمخالفة الضرورة فيما
ذكر ليس في محلّ النزاع ، فليس له فيه دليل «انتهى».
أقول
لمّا اعترف الناصب
، بأن صدور الفعل عن أحدنا محسوس ، فاحتمال صدوره عن غيره يكون سفسطة وإنكارا
للمحسوسات وتشكيكا في البديهيّات ، ومكابرة على صريح العقل والتجاوز عن ظاهر النقل
فتأمّل .
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها مخالفة إجماع الأنبياء والرّسل
فإنه لا خلاف في أنّ الأنبياء أجمعوا على أنّ الله تعالى أمر عباده ببعض الأفعال ،
كالصّلاة والصّوم ، ونهى عن بعضها كالظلم والجور ، ولا يصحّ ذلك إذا لم يكن العبد
موجدا ، إذ كيف يصحّ أن يقال : ايت بفعل الايمان والصلاة ولا تأت بالكفر والزّنا
مع أنّ الفاعل لهذه الأفعال والتارك لها هو غيره ، فانّ الأمر بالفعل يتضمن
الاخبار عن كون المأمور قادرا عليه حتى أنه لو لم يكن المأمور قادرا على المأمور
به لمرض أو سبب آخر ، ثمّ أمره غيره فانّ العقلاء يتعجّبون منه وينسبونه إلى الحمق
والجهل والجنون ، ويقولون : إنّك تعلم أنّه لا يقدر على ذلك ثمّ تأمره به ، ولو
صحّ هذا لصحّ أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع الكتاب فيبلّغ إليها ما ذكرناه ،
ثمّ إنه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات ، ويعاقبها لأجل
__________________
أنّهم لم يمتثلوا أمر
الله ورسوله وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : أمر
الأنبياء عباد الله تعالى بالأشياء ونهيهم عن الأشياء لا يتوقّف على كون العبد
موجدا للفعل ، نعم يتوقّف على كون العبد فاعلا مستقلا في الكسب والمباشرة ومختارا
، وهذا مذهب الأشاعرة ، وما ذكره لا يلزم من يقول بهذا ، بلى يلزم أهل مذهب الجبر
وقد علمت أنّ الأشاعرة يثبتون اختيار العبد في كسب الفعل ، ويمنعون كون قدرته
مؤثّرة في الفعل مبدعة موجدة إيّاه ، وشتّان بين الأمرين ، فكلّ ما ذكره لا يلزم
الأشاعرة ، وليس في مذهبهم مخالفة لإجماع الأنبياء «انتهى».
أقول
قد علمت وستعلم
أنّه لا محصّل للكسب الذي يرام به الأشعري مهربا عن الجبر ، فيتوجه عليه ما يتوجه
على الجبرية سواء بسواء ، ولا يحصل له من كسبه سوى تطويل المسافة بلا طائل ، وقد
مرّ أنّ القول بالقدرة الغير المؤثرة هذر ، فكلّ ما ذكره المصنف يلزم الأشاعرة لزوما
لا سترة عليه.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنّه يلزم منه سدّ باب الاستدلال
على كونه تعالى صادقا ، والاستدلال على العلم بإثبات الصانع ، والاستدلال على صحة
النبوة ، والاستدلال على صحة الشريعة ، ويفضي إلى القول بخرق إجماع الامة ، لأنه
لا يمكن إثبات الصانع إلا بأن يقال : العالم حادث فيكون محتاجا إلى المحدث قياسا
على أفعالنا المحتاجة إلينا ، فمن منع حكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجدا لا
يمكنه استعمال هذه الطريقة فسدّ عليه باب إثبات الصانع وأيضا إذا كان الله تعالى
خالقا للجميع من القبائح وغيرها لم يمتنع منه إظهار المعجز
على يد الكاذب ، ومتى
لم يقطع بامتناع ذلك انسدّ علينا باب إثبات الفرق بين النبيّ والمتنبي ، وأيضا إذا
جاز أن يخلق الله تعالى القبائح جاز أن يكذب في إخباره ، فلا يوثق بوعده ووعيده
وإخباره عن أحكام الآخرة والأحوال الماضية والقرون الخالية ، وأيضا يلزم من خلقه
القبائح أن يدعو إليها ، وأن يبعث عليها ويحثّ ويرغب فيها ، ولو جاز ذلك جاز أن
يكون ما رغب الله تعالى فيه من القبائح ، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح التّشاغل بها
، وأيضا لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والضلال ويزيّنه له ويصدّه عن
الحقّ ويستدرجه
بذلك إلى عقابه ، للزم في دين الإسلام جواز أن يكون هو الكفر والضلال ، مع أنه
تعالى زينه في قلوبنا ، وأن يكون بعض الملل المتخالفة للإسلام هو الحقّ ، ولكنّ
الله تعالى صدّنا عنهم ، وزيّن خلافه في أعيينا ، فإذا جوّزوا ذلك لزمهم تجويز كون
ما هم عليه هو من الضلالة والكفر ، وكون ما خصمهم عليه هو الحقّ ، وإذا لم يمكنهم
القطع بأنّ ما هم عليه هو الحقّ ، وما خصومهم عليه هو الباطل لم يكونوا مستحقّين
للجواب «انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : في هذا
الفصل استدل بأشياء عجيبة ينبغي أن يتّخذه الظرفاء ضحكة لهم ، منها أنّه استدلّ
بلزوم انسداد باب إثبات الصّانع وكونه صادقا والاستدلال بصحّة النبوّة على كون
العبد موجد أفعاله ، وذكر في وجه الملازمة شيئا غريبا عجيبا وهو أنّا نستدلّ على
حدوث العالم بكونه محتاجا إلى المحدث قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا ، فمن منع
حكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجدا لا يمكنه استعمال هذه الطريقة وإثبات هذه
الملازمة من المضاحك ، أما أولا فلأنّه حصر حادثات العالم في أفعال الإنسان ، ولو
لم يخلق الله الإنسان وأفعاله أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات الحيوان وسائر
الأشياء الحادثة بوجوب وجود المحدث ، وكأنّ هذا الرجل لم يمارس قطّ شيئا من المعقولات ، والحقّ أنّه ليس أهلا
لأن يباحث لدناءة رتبته في العلم ، ولكن ابتليت بهذا مرّة فصبرت ، وأما ثانيا
فلأنّه استدلّ بلزوم عدم كونه صادقا على كون العبد موجد فعله ولم يذكر هذا في
الملازمة ، لأنّ النّسبة
__________________
بينه وبين هذه
الملازمة بعيدة جدّا ، وأما ثالثا فلأنّه استدلّ بلزوم انسداد باب إثبات صحّة
النّبوّة وصحّة الشّريعة على كون العبد موجد فعله ، وأين يفهم هذا من الملازمة؟
ثمّ ادّعى الإفضاء إلى خرق الإجماع ، وكلّ هذه الاستدلالات خرافات وهذيانات لا
يتفوّه به إلّا أمثاله في العلم والمعرفة ، ثمّ استدلّ على بطلان كونه خالقا
للقبائح بلزوم عدم امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب ، وقد استدلّ قبل هذا بهذا
مرارا وأجبناه في محالّه ، وجواب هذا ، وما ذكر بعده من ترتّب الأمور المنكرة على
خلق القبائح مثل ارتفاع الثّقة من الشّريعة والوعد والوعيد وغيرها ، أنا نجزم
بالعلم العاديّ وبما جرى من عادة الله تعالى أنّه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب
فهو محال عادة كسائر المحالات العاديّة وإن كان ممكنا بالذّات ، لأنّه لا يجب على
الله تعالى شيء على قاعدتنا ، فكلّ ما ذكره من لزوم جواز تزيّن الكفر في القلوب
عوض الإسلام ، وأنّ ما عليه الأشاعرة من اعتقاد الحقيّة ، يمكن أن يكون كفرا
وباطلا ، فلا يستحقّون الجواب ، فجوابه أنّ جميع هذه لا يقع عادة كسائر العاديّات
، ونحن نجزم بعدم وقوعه وإن جاز عقلا ، حيث لم يجب عليه تعالى شيء ، ولا قبيح
بالنّسبة إليه «انتهى».
أقول
يناسب ما أظهره (ذكره
خ ل) النّاصب من الضّحك على المصنّف قدسسره قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) ، وسنريه الآن سرّ قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ
الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) وأما ما ذكره : من أنّ المصنّف حصر حادثات العالم في أفعال
الإنسان ، فمطالب بأنّه من أين فهم هذا
__________________
الحصر في قول
المصنّف ، أفعالنا ، مع أنّ استعماله القياس الغائب على الشّاهد قرينة ظاهرة على
أنّه أراد بقوله أفعالنا الشّاهدة مطلقا ، سواء كان إنسانا أو حيوانا عجما ، وعلى
تقدير أن يكون المراد أفعال الإنسان ، لأنّ الكلام في المكلّفين فلا يقتضي الحصر
أيضا ، لأنّه لو دلّ على ذلك لدلّ بمفهوم اللّقب الضّعيف ، مع أنّ المفهوم مطلقا
إنّما يعتبر إذا لم يكن وجه التخصيص بالذكر ظاهرا ، وقد أشرنا إلى أنّ تخصيص
الإنسان بالذكر يجوز أن يكون لأجل أنّهم هم المكلّفون بالأمر والنّهي والوعد
والوعيد ، وهم المستدلون بحال الممكن على حال الواجب ، ومن الأثر على المؤثّر ،
دون الثّور والحمار وغيرهما من الحيوانات العجم ، وبهذا يظهر فساد قوله : ولو لم
يخلق الإنسان أفعاله أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات الحيوان وسائر الأشياء
الحادثة إلخ وذلك لما أشرنا إليه من أنّ الكلام في الاستدلال الواقع من المكلفين
في دار التكليف ، لا استدلال الله تعالى من الحوادث على احتياجهم إلى ذاته ، بل
هذا لغو من الكلام ، ولا استدلال الملائكة بها على الاحتياج إلى الله تعالى فإذا
لم يكن في الدّنيا إنسان أصلا كما فرضه النّاصب الهالك ، فمن ذا الذي يستدلّ بهذا
على ذلك ، وبالجملة هذا دليل على انسلاخ النّاصب عن الفطرة الانسانيّة وتمرّغه في المراتع الحيوانيّة ، فليضحك قليلا وليبك كثيرا ، وأما ما ذكره ثانيا من أنّ المصنّف استدلّ بلزوم عدم
كونه تعالى صادقا على كون العبد موجد فعله ، ولم يذكر الملازمة إلخ ففيه أنّ
المصنّف ذكر بيان الملازمة لذلك بعيد هذا بقوله : وأيضا إذا جاز أن يخلق الله
تعالى القبائح جاز أن يكذّب في إخباره إلخ وإذا لم يفهم النّاصب الجاهل ذلك بمجرّد
أن النّشر وقع على غير ترتيب اللّف فلا
__________________
لوم على المصنّف قدسسره كما قيل :
علىّ نحت
القوافي من معادنها
|
|
وما علىّ إذا لم
تفهم البقر
|
وأما ما ذكره
ثالثا من أنّه استدلّ بلزوم انسداد باب إثبات صحّة النبوّة وصحّة الشّريعة على كون
العبد موجد فعله وأين يفهم هذه إلخ فمردود بأنّ هذا أيضا يدلّ على كثرة جهله وقلّة
فهمه إذ كلّ من يترقّى أدنى درجة من العوام ، يفهم بقرينة محلّ النّزاع أنّ المراد
هو أنّ العبد موجد لفعله دون الله تعالى ، ولتصريح المصنّف به أيضا في عنوان
الدّعوى ، وفي أثناء بيان كثير من اللّوازم المذكورة سابقا ، وإنما أجمل هاهنا روما
للاختصار اعتمادا على السّياق ، ثم من البين أنّ امتناع الاستدلال على المطالب
الشرعيّة المذكورة الذي ألزمه المصنّف على الأشاعرة مخالف للإجماع بلا شبهة ، وقد
بيّنا لزومه عن مذهبهم فلم يبق للنّاصب إلّا العناد والجمود على ما لا يليق إلّا
بالحمار والجماد ، وأما ما ذكره في جواب باقي كلمات المصنّف وبنى فيه على علم
العاديّ وعلى أنّه لا يجب على الله تعالى شيء ولا قبيح بالنسبة إليه ، فقد مرّ
فيها مرارا ما يغنيك عن الاعادة ، والله وليّ الافادة.
قال المصنّف رفعه الله
ومنها تجويز أن يكون الله تعالى ظالما
عابثا لاعبا ، لأنّه لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد ومنها القبائح
كالظلم والعبث لجاز أن يخلقها لا غير حتّى تكون أفعاله كلّها ظلما وعبثا ، فيكون
الله تعالى ظالما عابثا لاعبا تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
قال النّاصب خفضه
الله
أقول : نعوذ بالله
من التّفوّه بهذه التّرهات ، وأنّى يلزم هذا من هذه العقيدة
والظلم والعبث من
أفعال العباد ، ولا قبيح بالنّسبة إليه وخالق الشّيء غير فاعله ، وهذا الرّجل لا
يفرق بين خالق الصّفة والمتّصف بتلك الصفة ، وكلّ محذوراته ناش من عدم هذا الفرق ،
ألا يرى أن الله تعالى خالق السّواد ، فهل يجوز أن يقال هو الأسود؟ كذلك لو كان خالق
الظلم والعبث ، هل يجوز أن يقال : إنّه ظالم وعابث نعوذ بالله من التعصب المؤدّي
إلى الهلاك البحت ثم إنّ هذا الرّجل يحصر القبيح في أفعال الإنسان ، ويدّعي أن لا
قبيح ولا شرّ في الوجود إلا أفعال الإنسان ، وذلك باطل ، فإنّ القبائح غير أفعال
الإنسان في الوجود كثيرة كالخنزير والحشرات الموذية ، وهل يصحّ له أن يقول : إنّ
هذه الأشياء غير مخلوقة لله؟ ، فإذا قال بانّها مخلوقة لله ، فهل يمنع قباحتها
وشرّها؟ وذلك مخالف للضرورة والحسّ ، فإذا يلزم ما ألزم الأشاعرة من القول بخلق
الأفعال القبيحة «انتهى».
أقول
قد مرّ مرارا بيان
قبح ما قالوا : أن لا قبيح بالنّسبة إليه تعالى ، وأنّ الفرق بين الخالق والفاعل
فاسد ، وما ذكره هاهنا في بيان الفرق من تنوير المظلم عين ما نقلناه سابقا عن شارح
العقائد ، ويتوجّه عليه ما أوردناه ثمّة وحاصله : أنّ خلق الله تعالى للسّواد في
الأجسام وصدورها عنه إنّما يقتضي اتّصافه تعالى بكونه مسوّدا ، لا بكونه أسود ،
وكأنه اشتبه على النّاصب سوّد الله وجهه حال الفاعل الكلاميّ الذي نحن فيه بحال
الفاعل النحويّ ، وهو مطلق ما أسند إليه الفعل ، فزعم أنّ الفاعل الحقيقي الكلاميّ
في قولنا : اسودّ زيد هو زيد ، فلو كان اتّصافه بكونه أسود لأجل الفاعليّة لوجب
اتّصاف الله تعالى أيضا بكونه أسود على تقدير القول بكونه فاعلا خالقا للسّواد ،
ويندفع الاشتباه بأنّ زيدا في قولنا اسودّ زيد فاعل نحويّ لا فاعل كلاميّ بمعنى
خالق السّواد ومصدره ، وإنما الخالق والفاعل الكلاميّ للسّواد في زيد هو الله
تعالى ، فلا جرم يتّصف سبحانه وتعالى بكونه مسوّدا ويتصف
زيد الذي هو
المفعول في الحقيقة بكونه أسود ، وبالجملة الفرق بين الظالم والعابث والآكل
والشّارب والزّاني والسّارق ونحوها ، وبين الأسود والأبيض ونحوهما بين جدّا بحسب
الصّدور وعدمه ، فانّ الظالم مثلا بمعنى فاعل الظلم ومصدره والأسود من وقع عليه
السّواد ، أو قام به ، لا فاعله ومصدره ، وإن كان في المثال المذكور يكون فاعلا
نحويّا كما قلناه ، فالسّواد والبياض كالحرارة والبرودة ونحوها من الصّفات التي أو
جدها الله تعالى في محالها وفاقا ، ولا يتصف بها إلا تلك المحالّ ، فلا وجه لقياس
الأفعال الصّادرة عن العباد عند أهل العدل إليها ، هذا ، وما زعمه من أنّ خلق
الخنزير والكلب ونحوها من الحشرات المؤذية قبيحة ، وأوردها نقضا على أهل العدل فقد
عرفت مرارا دفعه ، بابداء الفرق بين ما أورده نقضا وإلزاما وبين القبائح من أفعال
العباد والله وليّ السّداد.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنّه يلزم إلحاق الله تعالى
بالسّفهاء والجهال تعالى الله عن ذلك ، لأنّ من جملة أفعال العباد الشّرك بالله
ووصفه بالأضداد والأنداد
والصّاحبة والأولاد وشتمه وسبّه ، فلو كان الله تعالى فاعلا لأفعال العباد ، لكان
فاعلا للأفعال كلّها ، ولكلّ هذه الأمور ، وذلك يبطل حكمته ، لأنّ الحكيم لا يشتم
نفسه ، وفي نفى الحكمة إلحاقه بالسّفهاء ، نعوذ بالله من هذه المقالات الرديّة «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : ونحن أيضا
نعوذ بالله من هذه المقالات المزخرفة الباطلة ، وهذا أيضا نشأ له لعدم الفرق بين
الخالق والفاعل ، فانّ الله تعالى يخلق الأشياء ، فالسّب والشّتم له
__________________
إن كانا مخلوقين
لله تعالى فيما فعل العبد والمذمة للفعل لا للخلق ، فلا يلزم كونه شاتما لنفسه ،
وخلق هذه الأفعال ليس سفها حتّى يلزم إلحاقه تعالى بالسّفهاء ، نعوذ بالله من هذا
، لأنّ الله تعالى قدّر في الأزل شقاوة الشّاتم له والسّاب ، وأراد دخوله النّار ،
فيخلق فيه هذه الأفعال لتحصل الغاية التي هي دخول الشّاتم النّار فأى سفه في هذا؟ «انتهى».
أقول
استعاذة النّاصب
الشّقي من ذلك كإنكار الشّيطان لما يفعله من الإغواء ، والدّعوة إلى الشّرور كما
أخبر عنه تعالى بقوله : (وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية وقد علم بما ذكرنا قبيل ذلك أنّ ما ذكره النّاصب
هاهنا كلّها سفه وحماقة وأسخفها تجويزه مؤاخذة الله تعالى للعبد بما جعله عليه في
الأزل من الواجب الحتم ، فانّ القائل بذلك لا يستحقّ إلا الصّفع واللّعن والشّتم.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنّه يلزم مخالفة الضّرورة لأنّه
لو جاز أن يخلق الزّنا واللّواط ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه ، ولو جاز ذلك
لجوّزنا أن يكون فيما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلا للدّعوة إلى السّرقة والزّنا
واللّواط وكلّ القبائح ومدح الشّيطان وعبادته والاستخفاف بالله تعالى والشّتم له
والسّبّ لرسوله وعقوق الأبوين وذمّ المحسن ومدح المسيء «انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : لو أراد من
نفى جواز بعثة الرّسول بهذه الأشياء الوجوب على الله تعالى فنحن نمنعه ، لأنّه لا
يجب على الله شيء ، وإن أراد بنفي هذا الجواز الامتناع عقلا فهو لا يمتنع عقلا ،
وإن أراد الوقوع فنحن نمنع هذا ، لأنّ العلم العاديّ يفيدنا عدم وقوع هذا ، فهو
محال عادة ، والتّجويز العقليّ لا يوجب وقوع هذه الأشياء كما عرفته مرارا ، ثم
إنّه صدّر كلامه بلزوم مخالفة الضّرورة وأىّ مخالفة للضرورة في هذا البحث «انتهى».
أقول
نختار أولا الشّق
الأوّل ، ونقول : قد بيّنا سابقا أنّ الوجوب بالمعنى الذي ذهب إليه أهل العدل لا
يقبل المنع ، وثانيا الثاني فنقول : العقل السّليم إذا نظر إلى ذات الله المستجمع
لجميع الصّفات الكمال المنزّه عن آثار النّقس والاختلال يحكم بامتناع أن يبعث
رسولا دينه خلاف ما اقتضاه كماله ، وثالثا الشّق الثالث ونقول : إنّ ما ذكره من
أنّ العلم العاديّ يفيدنا عدم وقوع هذا تهمة على العلم العادي ، أو على وجدانهم ،
فانّ العادة كما ذكرنا سابقا لمّا جاز التّخلف فيها ، فلا يفيدهم ذلك إفادة قطعية
يقتضيه ما نحن فيه من تقرير العقيدة الدينيّة ، وبما قرّرناه ظهر أنّ ما ادّعاه
المصنّف عليهم من لزوم مخالفة الضّرورة ضروريّة ، فاستفهام النّاصب عن ذلك دليل
على قلّة فهمه أو مكابرته وإنكاره للضّروريّات كما هو عادته وعادة أصحابه.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها أنّه يلزم أن يكون الله تعالى
أشدّ ضررا من الشّيطان ، لأنّ الله تعالى لو خلق الكفر في العبد ، ثمّ يعذّبه عليه
، لكان أضرّ من الشّيطان لأن الشيطان لا يمكنه أن يلجئه إلى القبائح بل يدعوهم
إليها ، كما قال الله تعالى : (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا
أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ،
ولأنّ دعاء الشيّطان هو أيضا من فعل الله تعالى وأمّا الله فانّه يضطرّهم إلى
القبائح ولو كان كذلك لحسن من الكافر أن يمدح الشّيطان وأن يذم الله ، تعالى الله
عن ذلك علوّا كبيرا «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : نعوذ بالله
من التفوّه بهذه المقالة والاستجراء على تصوير أمثال هذه التّرهات ، فانّ الله
تعالى يخلق كلّ شيء ، والتعذيب مترتّب على المباشرة والكسب ، وخلق الكفر ليس بقبيح
، لأنّه غاية دخول الشقي في النار كما يقتضيه نظام عالم الوجود والتصرف في العبد
بما شاء ليس بظلم ، لأنّه تصرّف في ملكه ، وقد عرفت أنّ تصرّف المالك في الملك بما
شاء ليس بظلم ، والله تعالى وإن خلق الكفر في العبد ولكن العبد هو يباشره ويكسبه ،
والله تعالى بعث الأنبياء وخلق أيضا قوّة النظر وبثّ دلائل الوحدانية في الآفاق
والأنفس ، فهذه كلّها ألطاف من الله تعالى والشيطان يضرّ بالإغواء والوسوسة ، فأين
نسبة اللّطيف النافع الهادي وهو الله تعالى بالشيطان الضار المضل؟ ومن أين لزم هذا؟
«انتهى».
أقول
قد مرّ مرارا
وسيجيء أيضا أنّ الكسب لا محصل له ، وأنّ خلق الكفر قبيح ، ومن العجب استدلاله على
عدم قبح الكفر بأنه غاية دخول الشقيّ في النار ، فانّ الكفر لو كان فعل الكافر كما
قال به أهل العدل كان أولى بأن يجعل ذلك غاية لدخوله في النار كما لا يخفى ، وأما
اقتضاء نظام عالم الوجود للكفر فهو دعوى كاذبة لا يعجز أحد عن مثلها إذا فقد
الحياء ونهى النفس عن الوقاء ، وأما ما ذكره من أنّ
__________________
تصرّف المالك في
ملكه بما شاء ليس بظلم ، فقد مروجه الظلم فيه ، وأنّ التصرف ان كان على الوجه
الحسن حسن وإلا فقبيح ، وأما ما ذكره من أن الله تعالى بعث الأنبياء وخلق أيضا قوة
النظر ، وبث دلائل الوحدانية إلخ ففيه أن الكفر إذا كان مخلوقا لله تعالى بدون
مدخلية للعبد فيه بناء على بطلان الكسب الذي ارتكبوا مهربا عن الجبر فأىّ أثر
لبعثه الأنبياء وبث الدلائل في الهداية وأىّ مدخل لوسوسة الشيطان في الغواية.
قال المصنّف رفع الله
درجته
ومنها أنّه يلزم منه مخالفة العقل
والنّقل ، لأنّ العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله لم يستحقّ ثوابا ولا عقابا ، بل
يكون الله تعالى مبتدئا بالثّواب والعقاب من غير استحقاق منهم ، ولو جاز ذلك لجاز
منه تعذيب الأنبياء عليهمالسلام
وإثابة الفراعنة والأبالسة ، فيكون الله تعالى أسفه السّفهاء وقد نزّه الله تعالى
نفسه عن ذلك في كتابه العزيز فقال : (أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)
؟ (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ)
؟ «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : جوابه أنّ
استحقاق العبد للثّواب والعقاب بواسطة المباشرة والكسب وهو يستحقّ الثّواب والعقاب
بالمباشرة ، لا أنّه يجب على الله تعالى إثابته ، فالله تعالى متعال عن أن يكون
إثابة المطيع وتعذيب العاصي واجبا عليه ، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثّواب
عقيب العمل الصّالح والتّعذيب عقيب الكفر والعصيان ، وجواز تعذيب الأنبياء وإثابة
الفراعنة والأبالسة المراد به نفى الوجوب على الله وهو لا يستلزم
__________________
الوقوع ، بل وقوعه
محال عادة كما ذكرناه مرارا ، فلا يلزم المحذور «انتهى».
أقول
ما ذكره هاهنا
مدفوع بما ذكر مرارا سيّما في الفصلين المتّصلين بهذا ، وبالجملة أنّ العبد إنّما
يستحقّ الثّواب أو العقاب بالكسب لو كان الكسب بالمعاني التي أرادوا منه فعلا
وأثرا صادرا عن العباد ، وهم لا يقولون بذلك ، فيلزمهم الجبر المحض وما يلزم منه
من عدم استحقاق الثّواب والعقاب كما ذكره المصنّف قدسسره.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها أنّه يلزم منه مخالفة الكتاب
العزيز من انتفاء النّعمة عن الكافر لأنّه تعالى إذا خلق الكفر في العبد الكافر ،
لزم أن يكون قد خلقه للعقاب في نار جهنّم ولو كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا ،
فانّ نعمة الدّنيا مع عقاب الآخرة لا تعدّ نعمة كمن جعل لغيره سمّا في حلواء
وأطعمه ، فإنّه لا تعدّ اللّذة الحاصلة من تناوله نعمة ، والقرآن قد دلّ على أنّه
تعالى منعم على الكفّار قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً)
، (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ
إِلَيْكَ)
، وأيضا قد علم
بالضّرورة من دين محمّد صلىاللهعليهوآله
، أنّه ما من عبد إلا ولله عليه نعمة كافرا كان أو مسلما
«انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : هذا أيضا
من غرائب الاستدلالات فانّ نعمة الله تعالى على الكافر محسوسة ، والهداية أعظم
النّعم وإرسال الرّسل وبثّ الدّلائل العقليّة كلّها نعم عظام ، والكافر استحقّ
دخول النّار بالمباشرة والكسب ، والخلق من الله تعالى ليس بقبيح ، ثم ما ذكر من
لزوم عدم كون الكافر منعما عليه يلزمه أيضا بإدخاله النار فانّ الله تعالى يدخل
الكافر النّار البتّة ، فيلزم أن لا يكون عليه نعمة ، فان قال : إدخاله لكونه آثر
الكفر ورجحه واختاره. قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك وإدخاله لكونه باشر الكفر وكسبه
وعمل به ، ولو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر وهو المفهوم من ضرورة
الدّين لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار بأيّ وصف كان الكافر ، لأنه يلزم أن لا
يكون منعما عليه وهو خلاف ضرورة الدّين ، وأمثال هذه الاستدلالات ترّهات ومزخرفات «انتهى».
أقول
قد مرّ أنّ الكسب
غير معقول ، أو غير مفيد في إثبات مدّعاهم ، واما ما ذكره ، من أنّ ما قاله
المصنّف : من لزوم عدم كون الكافر منعما عليه يلزمه أيضا بإدخاله النّار ، ففيه
أنّ المصنّف قد صرّح بالتزام ذلك حيث قال : ولو كان خلقه للعقاب في نار جهنّم لم
يكن له عليه نعمة أصلا ، فانّ نعمة الدّنيا مع عقاب الآخرة لا تعدّ
__________________
نعمة إلخ فمع
تصريح المصنّف بالالتزام كيف يصحّ ما ذكره الناصب من الإلزام ، واما ما ذكره بقوله
: فإن قال إدخاله لكونه آثر الكفر إلخ فلا ارتباط له بما قبله من الإلزام ، فلا
يقوله المصنّف في هذا المقام ، وإنّما ذكره الناصب واشتغل بجوابه صرفا لعنان تأمّل
الناظرين عمّا في كلامه السّابق من الفساد وإيقاعه في أذهانهم أنّ ما يتراءى فيه
من الفساد ليس سوى ما استدركه هو بقوله فان قال إلخ ، وأجاب عنه بقوله قلنا إلخ ،
مع أنّ جوابه هذا مبنيّ على الكسب المهدوم كما لا يخفى ، واما ما ذكره من أنه لو
كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر وهو المفهوم من ضرورة الدّين لكان
الواجب إلخ فدليل على سوء فهمه وبعده عن مرتبة ذوي التحصيل ، إذ لا يلزم من كون
وجوب العلم بشيء وبداهته ناشئة من الدّين أن يكون ذلك الشيء المعلوم واجبا حتّى
يلزم من علمنا بداهة ، أو وجوبا بشمول نعمة الله تعالى للمؤمن والكافر أن يكون
واجبا عليه تعالى إنعامه للكافر ، على أن القول بوجوب ذلك على الله تعالى بالمعنى
الذي عرفته سابقا مما لا فساد فيه ، واما ما ذكره من أنه لو كان الانعام واجبا على
الكافر لكان الواجب عليه أن لا يدخله النار بأىّ وصف كان الكافر إلخ ، ففيه أنّ
المصنف لم يدّع وجوب تعلّق كلّ نعمة بالكافر حتى يلزم أن لا يعذب بالنار مع كفرانه
للنعمة ، بل قال : قد علم بالضرورة من الدّين أنه ما من عبد إلا ولله تعالى عليه
نعمة إلخ ، وذلك لا يستلزم شمول جميع النعماء لشيء من العباد فضلا عن الكافر ، ثم
ما ذكره من الملازمة المدلول عليها بقوله : لو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم
على الكافر لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار بأىّ وصف كان الكافر غير مسلم ،
لأنّ هذا إنّما يجب أن لو لم يخلقه الله تعالى على الفطرة الصحيحة ، ولم ينعم عليه
بأصول النعم السابقة على الاستحقاق والنعم اللاحقة من الألطاف المقربة لتحصيل
الثواب في الآخرة ، وفعل فيه ما يلجئه إلى فعل ما يورث عذاب الآخرة كخلق الكفر
والضلالة فيه ، والله تعالى منزّه عن هذا ، وإذا كان العبد هو المفوّت بكفره لنعم
الآخرة
تكون نعم الدنيا
في حقّه معتدّة بها ، فلا يلزم عدم كونه تعالى منعما عليه أصلا كما توهمه الناصب
الراسب في العذاب الواصب.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها صحّة وصف الله تعالى بأنّه ظالم
وجائر ومفسد ، لأنّه لا معنى للظالم إلا فاعل الظلم ، ولا الجائر إلا فاعل الجور ،
ولا المفسد إلا فاعل الفساد ، ولهذا لا يصحّ إثبات أحدهما حال نفى الآخر ، ولأنّه
لمّا فعل العدل سمّي عادلا فكذا لو فعل الظلم سمّى ظالما ، ويلزم أن لا يسمى العبد
ظالما ولا سفيها لأنّه لم يصدر عنه شيء من هذه «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عرفت أن
خالق الشيء غير فاعله ومباشره ، فالفعل تارة يطلق ويراد به الخلق كما يقال : الله
فاعل كلّ شيء ، وقد يطلق ويراد به المباشرة والاعتمال وعلى التقديرين فانّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك
الشيء الذي خلقه إن كان المخلوق من جملة الصفات كما قدّمنا ، فمن خلق الظلم لا
يقال : أنّه ظالم وقد ذكرنا أنه لم يفرّق بين هذين المعنيين ولو فرّق لم يستدلّ
بأمثال هذا «انتهى».
أقول
قد مرّ أن ذلك
الفرق كالكسب اصطلاح منهم ، وأنّ إطلاق الفعل على الكسب والمباشرة بالمعنى الذي
قصدوه لم يقع في لغة ولا قرآن ولا سنّة ، واما ما ذكره
__________________
من أنّ الخالق
للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء الذي خلقه فهو حقيقة منع للمقدّمة التي استدلّ
المصنّف عليها بقوله : ولهذا لا يصحّ إثبات أحدهما حال نفى الآخر وبقوله : ولأنّه
لما فعل العدل سمّي عادلا ، فكذا لو فعل الظلم سمّي ظالما فلا يلتفت إليه ، وأيضا
يتوجّه على ما قدمه ما قدّمناه ، ونزيد عليه هاهنا أنّ نفيه لكون الخالق للشيء
موصوفا بذلك الشيء مبنيّ على أنّ الوصف إنّما يترتب على الكسب ، وهو أوّل المسألة
، وبالجملة من لم يثبت عنده للصدور يعنى سوى الخلق ينحصر عنده أن يكون الاتّصاف
بالأوصاف المذكورة من جهلة الخلق ، والمانع للحصر مكابر لا يلتفت إليه.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها أنّه يلزم منه المحال ، لأنّه لو
كان هو الخالق للأفعال فاما أن يتوقّف خلقه لها على قدرنا ودواعينا أولا ،
والقسمان باطلان ، أما الاول فلأنّه يلزم منه عجزه تعالى عمّا يقدر عليه العبد ،
لأنّه يستلزم خلاف المذهب ، وهو وقوع الفعل منه والدّواعي من العبد ، إذ لو كان من
الله تعالى لكان الجميع من عنده ، ولأنّ القدرة والداعي إن أثرتا فهو المطلوب ،
وإلا كان وجودهما كوجود لون للإنسان وطوله وقصره ، ومن المعلوم بالضّرورة أنّه لا
مدخل للّون والطول والقصر في الأفعال ، وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع
جميع الأفعال المنسوبة إلينا منّا وأما الثاني فلأنّه يلزم منه أن يكون الله تعالى
أوجد أى خلق تلك الأفعال من دون قدرهم ودواعيهم حتّى يوجد الكتابة والنساجة
المحكمتان ممّن لا يكون عالما بهما ، ووقوع الكتابة ممّن لا يدله ولا قلم ، ووقوع
شرب الماء من الجائع في الغاية الرّيان في الغاية ، مع تمكنه من الأكل ، ويلزم
تجويز أن تنقل النّملة الجبال ، وأن لا يقوى الرّجل الشديد القوّة على رفع تبنة ،
وأن يجوز من الممنوع المقعد
العدو ، وأن يعجز
القادر الصّحيح من تحريك الأنملة ، وفي هذا زوال الفرق بين القويّ والضّعيف ، ومن
المعلوم بالضرورة الفرق بين الزّمن والصّحيح «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : نختار
القسم الثّاني وهو أنّ خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقّف على دواعينا وقدرنا ، وما
ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية ، فهي استبعادات
، والاستبعاد لا يقدح في الجواز العقليّ نعم عادة الله تعالى جرت على إحداث
الكتابة عند حصول اليد والقلم ، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون اليد والقلم
، ولكن هو من المحالات العادية كما مرّ غير مرّة ، وما ذكر أنه يلزم أن تكون
القدرة والدّاعية إذا لم تكونا مؤثرتين في الفعل كاللّون والطول والقصر بالنسبة
إلى الأفعال فهو ممنوع ، للفرق بأنّ الفعل يقع عقيب وجود القدرة كالاحراق الذي يقع
عقيب مساس النار عادة ، ولا يقال : لا فرق بالنسبة إلى الإحراق بين النّار وغيره ،
إذ لا تجري العادة بحدوث الإحراق عقيب مساس الماء ، فكذلك لم تجر عادة الله تعالى
باحداث الفعل عقيب وجود اللّون ، بل عقيب حصول القدرة والدّاعية مع أنّهما غير
مؤثّرتين «انتهى».
أقول
يتوجه عليه أنّ
حاصل ما ذكره المصنف دعوى البداهة في امتناع وجود الكتابة ممن لا يدله ولا قلم لا
مجرّد الاستبعاد ، وما ذكره الناصب من جريان العادة تشكيك في البديهيّ وسفسطة
مبنية على نفى الأسباب الحقيقية فلا يستحقّ الجواب ، وقد كشفنا النقاب عن ذلك فيما
سبق من الفصول والأبواب .
__________________
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا
أو محتاجا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لأن في الشاهد فاعل القبيح إما جاهل أو
محتاج مع أنه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة فلا يكون كذلك في الغائب الذي هو الفاعل
في الحقيقة أولى «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد مرّ أن
الخالق غير الفاعل بمعنى الكاسب والمباشر ، وخالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو
محتاجا حيث لا قبيح بالنسبة إليه كما في خلقه تعالى لما هو قبيح بالنسبة إلى
المخلوق فلا يلزم منه جهل ولا احتياج «انتهى».
أقول
قد سبق أنّ الفاعل
بمعنى الكاسب بالمعنى الذي اخترعه الأشاعرة لم يجيء في اللّغة فلا يتمّ الفرق ،
وأمّا قوله : خالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجا حيث لا قبيح بالنّسبة
إليه ، فكلام فاسد قبيح ، ضرورة أن القبيح قبيح سواء صدر من الواجب أو الممكن كما
مرّ مرارا.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها أنّه يلزم منه الظلم ، لأنّ الفعل
إمّا أن يقع من العبد لا غير ، أو من الله تعالى لا غير ، أو منهما معا بالشركة ،
بحيث لا يمكن تفرّد كلّ منهما بالفعل ، أولا من واحد منهما ، والاول هو المطلوب ،
والثاني يلزم منه الظلم حيث فعل الكفر ، وعذّب من لا أثر له فيه البتّة ، ولا قدرة
موجدة له ولا مدخل له في الإيجاد وهو أبلغ أنواع المظالم ، والثالث يلزم منه الظلم
، لأنّه شريك في الفعل ، وكيف يعذّب شريكه على فعل فعله هو وإيّاه؟ وكيف يبرئ نفسه
من المؤاخذة
مع قدرته وسلطنته
ويؤاخذ عبده الضّعيف على فعل فعل هو مثله؟ وايضا يلزم منه تعجيز الله تعالى ، إذ
لا يتمكّن من الفعل بتمامه ، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد ، وأيضا يلزم المطلوب
وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل ، وإذا جاز استناد أثر مّا إليه جاز استناد
الجميع إليه ، فأىّ ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات ، فما ترى لهم ضرورة إلى
ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص التي نزّه الله تعالى نفسه عنها وتبرّأ
منها «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : نختار أنّ
الفعل بمعنى الخلق يصدر من الله تعالى والعبد كاسب للفعل مباشر له ، ولا تأثير
لقدرة العبد في الفعل ، قوله : يلزم منه الظلم ، قلنا : قد سبق أنّ الظلم لا يلزم
أصلا ، لأنّه يتصرّف في ما هو ملك له ، والتصرّف في الملك كيف ما شاء المالك لا
يسمّى ظلما ، ثمّ إنّ تعذيب العاصي بواسطة كونه محلا للفعل الموجب للعذاب ، وأما
قوله : فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النّقائص ، فنقول :
إنّا نخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق بالله تعالى وهو الهرب والفرار من الشّرك
الصريح الذي لزم المخالفين ممّن يدّعون أنّ العبد خالق مثل الربّ وهذا فيه خطر
الشرك وهم يهربون من الشرك «انتهى».
أقول
قد مرّ أن ليس في
القول بالكسب إلّا كسب خطيئة ، وأنّ التّصرّف في الملك على الوجه القبيح
__________________
قبيح وظلم ، وبهذا
يعلم أيضا خطأ ما ذكره : من أنّ تعذيب العاصي بواسطة كونه محلا للفعل الموجب
للعذاب ، إذ لا اختيار للعبد في المحليّة التي هو أحد معاني الكسب على رأى
الأشاعرة ، فلا وجه لاستحقاق المدح والذمّ باعتبارها ، وأما ما أخبر به النّاصب من
الأمر الدّاعي لأصحابه إلى تخصيص الخلق بالله تعالى فليس فيه عن الصحّة خبر ، ولا
عين ولا أثر ، لما مرّ أنّ الشّرك ومماثلة العبد للربّ في الخالقية إنّما يلزم أهل
العدل لو لم يقولوا : بأنّ العباد أنفسهم من مخلوقاته تعالى وأنّ قدرتهم وتمكّنهم
منه تعالى ، وأنّ ما يخصّ بخلقه تعالى له من الجواهر الملكوتيّة والأجرام
السماويّة والأجسام الأرضيّة صنعا وإبداعا أجلّ وأعلى ممّا يخصّ العباد بخلقهم له
من بعض الأعراض التي أكثرها يليق بالنّفي والاعراض والذمّ والاعتراض ، ولو كان
مجرّد مشاركة العبد مع الربّ تعالى في خلق بعض الأعراض والأفعال الضعيفة موجبا
للشرك المهروب عنه لكان المشاركة في الوجود والشيئيّة والتعيّن والهويّة والصفات
الزّائدة والرؤية على مذهب الخصم موجبا للشرك المهروب عنه ، فانّ المشاركة في هذه
المذكورات أصرح من ذلك كما لا يخفى على المتأمّل.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم مخالفة القرآن العظيم (الكتاب
العزيز خ ل) والسنّة المتواترة والإجماع وأدلة العقل ، أما الكتاب فانه مملوّ من
اسناد الأفعال إلى العبيد
، وقد تقدّم بعضها ، وكيف يقول الله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)
ولا خالق سواه ،
وقوله : (إِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)
، ولا
__________________
تحقّق لهذا الشّخص
البتّة ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً)
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) (أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)
، ولا وجود لهؤلاء ثمّ كيف يأمر وينهى ولا فاعل وهل
هو إلا كأمر الجماد ونهيه؟ وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له ، نيّة المؤمن خير من عمله ، إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكلّ امرئ ما نوى
، والإجماع دلّ على وجوب الرّضا بقضاء الله تعالى فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى
لوجب الرّضاء به ، والرضاء بالكفر حرام بالإجماع ، فعلمنا أنّ الكفر ليس من فعله
تعالى فلا يكون من خلقه «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عرفت
فيما سبق أجوبة كلّ ما استدلّ به من آيات الكتاب العزيز ، ثم إنّ
__________________
كلّ تلك الآيات
معارضة بالآيات الدالة على أنّ جميع الأفعال بقضاء الله تعالى وقدره وإيجاده وخلقه
نحو : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) ، أى عملكم ، (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) وعمل العبد شيء (فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ) وهو يريد الايمان إجماعا ، فيكون فعّالا له وكذا الكفر إذ
لا قائل بالفصل وأيضا تلك الآيات معارضة بالآيات المصرّحة بالهداية والضّلال
والختم نحو : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) و (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها ، وأنت تعلم
أنّ الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل النّقليّة ، ووجب
الرّجوع إلى غيرها من الدلائل العقليّة القطعيّة ، وقد ذكرنا فيما سلف من الكلام
ما يغني في إثبات هذا المقصد ، وأما ما استدلّ به على تعدّد الخالقين من قوله
تعالى : (فَتَبارَكَ
اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، فالمراد بالخالقين هناك ما يدّعي الكافرون من الأصنام ،
فكأنّه يقول لهم : تبارك الله الذي هو أحسن من أصنامكم الّذين تجعلونهم الخالقين
بزعمكم ، فانّهم لا يقدرون على خلق شيء ، والله يخلق مثل هذا الخلق البديع المعجب
، أو المراد من الخالقين المقدّرين للخلق كالمصوّرين ، لا أنه تعالى أثبت لنفسه
شركاء في الخلق ، ولكنّ المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال الله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) .
__________________
أقول
قد سبق دفع أجوبة الناصب على التفصيل الذي يرتضيه أصحاب التحصيل
فليراجع إليه ، وأما ما ذكره من معارضة تلك الآيات بالآيات الدالة على أن جميع
الأفعال بقضائه وقدره ، فمردود بأنّ الآيات التي استدلّ بها المصنف من قوله تعالى
: (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ونحوها خاص ، والتي استدلّ بها الأشاعرة عامّ ، فيجب حمل
العام على الخاص كما تقرّر في الأصول بأن يراد من الآيات العامّة ما عدا أفعال
العباد فلا معارضة ، وأيضا لما اختلّت الأدلة العقليّة للأشاعرة ، وقد أتممنا
الدّلائل العقليّة الدالة على مذهب أهل العدل يجب حفظ ظواهر هذه الآيات بمطابقتها
العقل وصرف الآيات التي تمسّك بها الأشاعرة عن ظواهرها لمخالفتها إيّاه ، وأما ما
ذكره في تاويل قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، فمردود بما ذكرنا من وجوب حفظ ظاهره مع أنّ كلّا من
التأويلين الذين ذكرهما أوهن من نسج العنكبوت ، وأسخف من تأويلات ملاحدة ألموت ، واما ما ذكره بقوله :
__________________
ولكن المعتزلة ومن
تابعهم يناسب حالهم ما قال تعالى إلخ ففيه أنّ هذا خروج عن الإنصاف لأنّه إنّما
يناسب حال من يسمّى بالصفاتيّة القائلين بالصّفات الزائدة
__________________
المشاركة لذاته
تعالى في القدم واستغنائها عن خلق الله تعالى إيّاها ، ولا يناسب حال من سمّى بأهل
العدل والتوحيد لنفيهم مشاركة تلك الصّفات مع الله تعالى ، وأما المشاركة التي
توهّمها النّاصب من القول بخلق العباد لأفعالهم ، فقد عرفت أنّه مجرّد توهّم لا
حقيقة له أصلا.
قال المصنّف رفع الله درجته
المطلب الحادي عشر
: في نسخ شبههم ، اعلم أنّ الأشاعرة احتجّوا على مقالتهم
بوجهين ، هما أقوى الوجوه عندهم ، يلزم منهما الخروج عن العقيدة ونحن نذكر ما
قالوا : ونبيّن دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبيّ صلىاللهعليهوآله
، الأول قالوا : لو كان العبد فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار فامّا أن يتمكّن من
تركه أولا ، والثّاني يلزم منه الجبر لأنّ الفاعل الذي لا يتمكّن من ترك ما يفعله
موجب لا مختار كما يصدر عن النّار الإحراق ولا يتمكّن من تركه ، والأوّل إمّا أن
يترجّح الفعل على التّرك حالة الإيجاد أولا ، والثّاني يلزم منه ترجيح أحد طرفي
الممكن على الآخر لا لمرجّح لأنهما لمّا استويا من كلّ وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر
وبالنسبة إلى القادر الموجد كان ترجيح القادر للفعل على التّرك ترجيحا للمساوي
بغير مرجّح ، وان ترجح
فإن لم ينته إلى الوجوب أمكن حصول المرجوح مع تحقّق الرّجحان وهو محال ، أما أولا
فلامتناع وقوعه
حالة التساوي فحالة المرجوحية أولى ، وأما ثانيا فلأنّه مع قيد الرّجحان يمكن وقوع
المرجوح فلنفرضه واقعا في وقت والرّاجح في آخر ، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين
لا بدّ له
__________________
من مرجّح غير المرجّح
الأوّل
، وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين بغير مرجّح ، فينتهي إلى الوجوب وإلا تسلسل ،
وإذا امتنع وقوع الأثر إلا مع الوجوب ، والواجب غير مقدور ونقيضه ممتنع غير مقدور
أيضا فيلزم الجبر والإيجاب فلا يكون العبد مختارا ، الوجه الثاني أنّ كلّ ما يقع
فانّ الله تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه ، وكلّ ما لم يقع فانّ الله تعالى قد علم
في الأزل عدم وقوعه ، وما علم الله تعالى وقوعه فهو واجب الوقوع ، ولو لم يقع لزم
انقلاب علم الله تعالى جهلا وهو محال ، وما علم عدمه فهو ممتنع ، إذ لو وقع انقلب
علم الله جهلا وهو محال أيضا ، والواجب والممتنع غير مقدورين للعبد ، فيلزم الجبر «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : اول ما
ذكره من الدّليلين للأشاعرة قد استدلّ به أهل المذهب وهو دليل صحيح بجميع مقدّماته
كما ستراه واضحا إن شاء الله تعالى ، وأما الثاني ممّا ذكره من الدّليلين فقد ذكره
الإمام الرازي على سبيل النقض وليس هو من دلائل أئمة
__________________
الأشاعرة ، وقد
ذكر الامام هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير ، ثمّ إنّ هذا الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف إن لزم القائل بعدم استقلال
العبد في أفعاله فهو لازم لهم أيضا لوجوه ، الاول أنّ ما علم الله عدمه من أفعال
العبد فهو ممتنع الصّدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا ، وما علم الله
وجوده من أفعاله فهو واجب الصّدور عن العبد وإلا جاز الانقلاب ولا مخرج عنهما لفعل
العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ
التكليف وأخواته لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم ، فما لزمنا
في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء ، قال الامام
الرازي
__________________
ولو اجتمع جملة
العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا ، وقد أجابه شارح المواقف (١)
كما سيرد عليك «انتهى».
أقول
الدليل الثاني
أيضا ممّا ذكره صاحب المواقف وشارح التجريد بعنوان الاستدلال ولم نره فيما وصل إلينا من كتب فخر
الرّازي بصورة النقص ، ولعله ان صح أنّه سمّاه نقضا فهو جرى منه على ما قيل : من أنّ محصّل
المعارضة نقض بأن يقال : لو كان دليلكم صحيحا لما صدق نقيض مدلوله ، لكن
عندنا دليل دلّ على صدقه فلا يكون صحيحا ، وعلى هذا فلا ينافي الاستدلال ، والظاهر
أنّ النّاصب لما عجز عن إتمام ذلك الدّليل احتال في ذلك بتسميته نقضا لئلا يلزمه
إثبات ما يتوجه على مقدماته من المنع والنقض ، ومثل هذه الحيلة لا تذهب إلا على من
هو مثله في الجهل بأطراف كلام الأقوام واما ما زعمه من أنّ ما لزم الأشاعرة
__________________
يلزم مثله لأهل
العدل في مسألة علم الله تعالى فمدفوع بما سبق وسيجيء من أنّ هذا إنّما يلزم لو
قلنا بأنّ علمه تعالى علّة للمعلومات ، وأمّا إذا قلنا : إنّه تابع له كما هو
التحقيق فلا كما لا يخفى ، ثمّ لا يذهب عليك أنّ النّاصب ادّعى أنّ ما يلزم
الأشاعرة يلزم أهل العدل من وجوه ، ولم يذكر إلا وجها واحدا والظاهر أنّه أراد
إظهار قدرته أو قدرة أصحابه على إبداء الوجوه المتعددة في ذلك وإن كانت تلك الوجوه
بعد في بطن العدم ، فافهم.
قال المصنّف رفعه الله درجته
والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن
حيث المعارضة أما النقض ففي الأوّل من وجوه ، الاول وهو الحق أنّ الوجوب من حيث
الدّاعي والإرادة لا ينافي الإمكان في نفس الأمر ، ولا يستلزم الإيجاب وخروج
القادر عن قدرته ، وعدم وقوع الفعل بها ، فانّا نقول : الفعل مقدور للعبد يمكن
وجوده عنه ويمكن عدمه ، فإذا خلص الدّاعي إلى إيجاده وحصلت الشّرائط وارتفعت الموانع
، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة البتّة وجب من هذه
الحيثيّة إيجاد الفعل ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنّسبة إلى القدرة والفعل لا
غير «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : هذا الوجوب
يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفى الاختيار سواء كان ممكنا في نفس
الأمر أولا ، وكلّ من لا يتمكّن من الفعل وتركه فهو غير قادر سواء كان منشأ عدم
تمكّنه عدم الإمكان الذاتي لفعله أو عدم حصول الشّرائط ووجود الموانع ، فما ذكره
من النّقض ليس بصحيح «انتهى».
أقول
ما ذكره مدفوع
بأنّ نفى الاختيار على الوجه الأعم من الاختيار قبل الفعل وبعده
خروج عن المبحث ،
لأنّ الكلام في الاختيار والقدرة قبل الفعل ، وأما عند اختيار الفعل فلا يقدح
وجوبه في الاختيار المتنازع فيه ، لما تقرّر من أنّ الوجوب بالاختيار يحقّق الاختيار
ولا ينافيه ، والوجوب الحاصل من تحقّق الدّواعي ، والإرادة الجازمة من هذا القبيل
، والحاصل أنا نختار أنّ المرجح هو الإرادة وأنّ الفعل يجب بها ، وهذا الوجوب لا
ينافي الاختيار والتمكن من التّرك بالنظر إلى نفس القدرة ، بل يحقّقه ، لأنّ
القادر هو الذي يصحّ منه الفعل والتّرك قبل تعلّق الإرادة الجازمة له وإن وجب بعد
تعلق الإرادة به ، وبالجملة أنّ كون الفعل واجبا بالغير لا ينافي كونه اختياريا في
نفسه وأن لا يكون كحركة الجماد وهو المراد ، وأيضا من المقرر أن الشيء ما لم يجب
لم يوجد ولا شبهة أنّ هذا الوجوب وجوب بالغير ، فلو كان منافيا للاختيار لما وجد
قادر مختار أصلا ، إذ حين الوجوب لا يبقى التمكّن من الفعل والتّرك كما لا يخفى ،
واما ما ذكره النّاصب في الحاشية بقوله : لمّا امتنع أن يكون إلخ فهو اعتراض مذكور
في شرحي المواقف والتجريد ، وقد أجيب عنه بأنّ الفعل إنّما يجب بتعلّق إرادة العبد
به وهو إنّما يحصل بعد العلم بالنّفع واختياره وهذا التعلّق أيضا إراديّ مسبوق
بتعلّق آخر متعلّق إلى هذا التعلق وهكذا ، لكن هذه التعلّقات أمور انتزاعية
اعتباريّة لا استحالة للتّسلسل فيها ، والحاصل أنّا نريد فعلا واحدا والعقل يجد
بعد التأمل والتّفصيل أن قد صدر عنّا تعلّق الإرادة بهذا الفعل ، وتعلّقها بهذا
التعلّق وهكذا ، وبالجملة الدّاعي وهو تعلّق الإرادة الجازمة على ما
__________________
في الشّرح القديم للتجريد ، ويستفاد من كلام الشّارح الجديد أيضا يوجب الفعل ، وحيث اخترنا أنّ التعلّق بالاختيار لا
يستلزم الاضطرار ولكونه اعتباريّا لا يلزم التّسلسل المحال.
قال المصنّف رفع الله درجته
الثاني يجوز أن يترجح الفعل فيوجده
المؤثّر أو العدم فيعدمه ولا ينتهى الرّجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من
المتكلّمين ، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح من غير مرجح قوله مع ذلك الرجحان لا
يمتنع النقيض فلنفرض واقعا في وقت فترجيح الفعل في وقت وجوده يفتقر إلى مرجح آخر ،
قلنا : ممنوع بل الرجحان الأوّل كاف فلا يفتقر إلى رجحان آخر. «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول لا يصح أن
يكون المرجّح في وقت ترجيح الفعل هو المرجّح الأوّل ولا بدّ أن يكون هذا المرجّح
غير المرجح الأوّل لأنّ هذا المرجح موجود عند وقوع الفعل مثلا في وقت وقوعه ولهذا
ترجّح الفعل ، فلو كان هذا المرجّح موجودا عند عدم الفعل ولم يترجح به الفعل فلا
يكون مرجّحا ، وإذا ترجّح به الفعل فيكون
__________________
حكم الوقت مساويا
، فيلزم خلاف المفروض ، لأنّا فرضنا أنّ الفعل يوجد في وقت ويعدم في الآخر ، ولا
بدّ من مرجّح غير المرجّح الأوّل ليترجّح به الفعل في وقت وينتهي إلى الوجوب ، وإلا يتسلسل
فيتمّ الدّليل بلا ورود نقض «انتهى».
أقول
قد صرّح المصنّف
بأنّ الأوّل من وجوه النقض هو الحقّ إشارة إلى أنّ الوجوه الأخر ليست كذلك ، لكنّه
ذكر ذلك تعجيزا للأشاعرة ، وبالجملة هذا الوجه كما صرّح به المصنّف مبنيّ على ما
ذهب إليه جماعة من المتكلّمين من جواز وجود الممكن بالأولويّة الذاتيّة
وما ذكره النّاصب في دفعه مأخوذ من الوجوه التي ذكرها طائفة أخرى من المتكلّمين
والحكماء في نفي ذلك ، ولا يسلم شيء من ذلك عن مناقشة كما لا يخفى على من طالع
هذا المقام من الشّرح الجديد للتجريد وحواشيه القديمة والجديدة وكان بعض مشايخنا رحمهمالله يبالغ في
__________________
ذلك ويقول : إنّ
هذا المطلب لا يتمّ بالاستدلال وإنّ المحقّق قدسسره أثبته في التجريد بدعوى البداهة حيث قال : ولا تتصوّر
الأولويّة الذاتيّة وغفل عن ذلك الشّارحون وحملوا كلامه على إرادة الاستدلال ،
وذكروا في تقرير ما استدلّ به من تقدّمه من العلماء ، فيتوجّه عليه ما يتوجّه
عليهم ، ويتوجه عليه أيضا أنّ المفروض كفاية المرجّح الأوّل لترجيح الوجود في جميع
أوقاته على العدم فيه ولم يلزم من البيان الاحتياج إلى مرجّح آخر لهذا التّرجيح ،
بل إنّما يحتاج إليه لترجيح الوجود في بعض أوقات المرجّح الأوّل على الوجود في بعض
آخر منها وأين هذا من ذاك؟ تأمّل.
قال المصنّف رفع الله درجته
الثالث ؛ لم لا يوقعه القادر مع التّساوي؟
فانّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجّح ، وقد ذهب إلى هذا جماعة من
المتكلّمين
وتمثّلوا في ذلك بصور وجدانيّة كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه ،
فانّه يتناول أحدهما من غير مرجّح ولا يمتنع من الأكل حتّى يترجّح لمرجّح والعطشان
بحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه ، والهارب من السّبع إذا عنّ
له طريقان متساويان فانّه يسلك أحدهما ، ولا ينتظر حصول المرجّح ، وإذا كان هذا
الحكم وجدانّيا كيف يمكن الاستدلال على نقيضه!؟ الرابع أنّ هذا الدّليل ينافي
مذهبهم فلا يصحّ لهم الاحتجاج به لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين
فالمتمكّن من الفعل يخرج عن القدرة (فالتمكّن من الفعل يخرجه عن القدرة خ ل) لعدم
التمكّن من التّرك ، وإن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين لزمهم وجود
__________________
الضدّين دفعة واحدة ،
لأنّ القدرة لا تتقدّم على الفعل المقدور عندهم ، وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال
وجود قدرة الفعل لزمهم إمّا اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل ، فانظر إلى
هؤلاء القوم الذين لا يبالون في تضادّ أقوالهم وتعاندها «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : اتّفق
العقلاء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح والحكم بعد
تصوّر الطرفين أى تصوّر الموضوع الذي هو إمكان الممكن وتصوّر المحمول الذي هو معنى
كونه محوجا إلى السّبب ضروري بحكم بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما ، ولذلك
يجزم به الصبيان الذين لهم أدنى تميز ، ألا ترى؟ أنّ كفّتي الميزان إذا تساوتا
لذاتيهما وقال قائل : ترجّحت إحداهما على الأخرى بلا مرجّح من خارج لم يقبله صبيّ
مميّز وعلم بطلانه بديهة فالحكم بأنّ أحد المتساويين لا يترجّح على الآخر إلا
بمرجح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب بل الحكم مركوز في طبائع البهائم ، ولهذا تراها
تنفرّ من صوت الخشب ، وما ذكر من الأمثلة كالجائع في اختيار أحد الرّغيفين وغيره
فانّه لما خالف الحكم البديهيّ يجب أن يكون هناك مرجّح لا يعلمه الجائع والعلم
بوجود المرجح من القادر غير لازم بل اللّازم وجود المرجح ، وأما دعوى كونه وجدانيا
مع اتّفاق العقلاء بأنّ خلافه بديهيّ دعوى باطلة كسائر دعاويه والله أعلم. وأما
قوله في الوجه الرابع : أنّ هذا الدّليل ينافي مذهبهم فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ،
لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضّدين إلخ فنقول في جوابه : عدم صلاحيّة القدرة
للضدّين لا يمنع صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة ، فإنّ المراد من الاحتجاج نفى
الاختيار عن العبد وإثبات أنّ الفعل واجب الصّدور عنه وليس له التّمكّن من التّرك
وذلك يوجب نفى الاختيار ، فإذا كان المذهب أنّ القدرة لا تصلح للضدين وبلغ الفعل
حدّ الوجوب لوجود المرجّح الموجب ، لم يكن العبد قادرا على
التّرك فيكون
موجبا لا مختارا ، وهذا هو المطلوب ، فكيف يقول : إنّ كون القدرة غير صالحة
للضّدين يوجب عدم صحة الاحتجاج بهذه الحجة فعلم أنّه من جهله وكودنيّته لا يفرّق بين ما
هو مؤيّد للحجّة وما هو مناف لها ثم ما ذكر أنّهم إن خالفوا مذهبهم من تعلّقها
بالضّدين لزمهم إمّا اجتماع النّقيضين أو تقدم القدرة على الفعل فهذا شيء يخترعه
من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا ، والأشاعرة إنّما نفوا هذا المذهب وقالوا : إنّ
القدرة لا تصلح للضّدين ، لأنّ القدرة عندهم مع الفعل فيجب أن لا يكون صالحا
للضّدين ، وإلا لزم اجتماع النّقيضين ، انظروا معاشر المسلمين إلى هذا السّارق الحلّي الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات
__________________
حسب أنّ هذا
الكلام حطب يسرق كيف أتى بالدّليل وجعله اعتراضا والحمد لله الذي فضحه في آخر الزّمان
، وأظهر جهله وتعصبّه على أهل الايمان «انتهى».
اقول
نعم قد اتّفق
العقلاء على ذلك لكن وجه كلام المصنّف من الأشاعرة المعزولين عن العقل ، وهم قد جوّزوا أن يرجّح
القادر فعله لمجرّد الإرادة بلا داع يختصّ بها ، ومثلوا بما ذكره المصنّف من
الأمثلة الوجدانيّة ، وممّن صرّح بنسبة ذلك إلى الشّيخ الأشعريّ أيضا سيف الدّين
الأبهري الأشعري في مبحث الحسن والقبح
__________________
من حاشيته على شرح
المختصر فليطالع أصحاب النّاصب ذلك فيها ، ومن العجب أنّ النّاصب شتم القائل بذلك
ولم يعلم أنّ ذلك الشّتم يرجع إلى شيخه ، وإمامه ولم يميّز من غاية البهت خلفه من
أمامه ، ويؤيد تلك النّسبة الحديث الذي وضعه المحدّثون من الأشاعرة في شأن أبي بكر
، وهو قولهم : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو وضع أبي بكر في كفّة ميزان وجميع النّاس في كفّة أخرى
لترجّحت الكفّة التي كان فيها أبو بكر ، ولا يلتفت إلى ما نقل عن البهلول في ردّ ذلك من أنّه لو صحّ
__________________
__________________
هذا الحديث لكان
في ذلك الميزان عيب البتّة ، لأنّه كان رافضيّا مجنونا لا يصير كلامه حجّة على
الأشاعرة ، ثمّ من هذا القبيل أيضا قولهم بجواز تفضيل المفضول في باب الامامة
وتصريحهم بتفضيل أبي بكر على علي عليهالسلام مع روايتهم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه قال لضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين ، اللهم
إلا أن يقال : إنّ أبا بكر ليس من الثّقلين ، بل نقول : إنّ تجويزهم تعذيب الله تعالى
للأنبياء والأولياء المطيعين وإكرامه للفسّاق والأشرار العاصين أيضا من باب ترجيح
المرجوح كما لا يخفى ، فكيف يستبعد منهم تجويز التّرجيح بلا مرجّح؟ فافهم ،
وبالجملة مخالفة صريح العقل شأن الأشعري وأصحابه المعزولين عن العقل (الحق خ ل) ،
فلا وجه لاستدلال النّاصب على نفى قولهم بجواز الترجيح بلا مرجّح ، بكون ذلك
مخالفا لاتفاق العقلاء ، وأما ما ذكره في جواب الوجه الرّابع فمدفوع بأنّ المصنّف قدسسره لم يمنع صحّة سوق المقدمات المذكورة في الدّليل ، وارتباط
بعضها ببعض ، وتحقّق شرائط صورها واستلزامها لما قصدوه ، من نفي الاختيار ، بل
أراد أن مادّة المقدمة المذكورة في الدّليل بقولهم : لو كان العبد فاعلا لشيء مّا
بالقدرة والاختيار ، فاما أن يتمكّن من تركه أولا ، لا يصحّ بناء على ما أصّلوه من
أنّ القدرة لا تصلح للضدّين لأنّ المتمكّن من الفعل على هذا الأصل لا يقدر على التّرك
فيخرج عن أن يكون قادرا فلا يصحّ توصيفه بالقدرة وإجراء الترديد فيه بأنّه إما أن
يتمكن من التّرك أولا ، وهذا نظير ما قيل : من أنّه على تقدير نظريّة كلّ من
التّصورات والتّصديقات لا يمكن الاستدلال على بطلان نظريّتها ، لأنّ المستدلّ على
الابطال إن سلّم نظرية مقدمات دليله لا يحصل مطلوبه ، وإن ادّعى بداهة بعضها فهو
ينافي التّقدير ، والقول بأن ما ذكره الناصب من الفرض والترديد بجواز أن يكون على
جهة إلزام أهل العدل مخالف لما اشتهر بينهم من كون ذلك الدّليل تحقيقيا لما ذكره
النّاصب سابقا من أنّه دليل صحيح بجميع مقدّماته فتأمل ،
فعلم أنّ النّاصب
لجهله بقواعد المنطق ، بل لخروجه عن ذوي النطق ومدركي المعقولات لم يفرّق بين فساد
مادّة القياس وفساد صورته ، ولم يفهم أنّ لزوم النّتيجة المذكورة إنّما هو لتسليم
النّاصب المقدّمة التي ذكرها في قياسه الفاسد وأنّ القياس وإن كان فاسد المقدّمات
إذا سلّمت يلزم منها قول آخر ولم يعلم أنّ المصنّف لا يسلّم بعض المقدمات لا أنّه
يسلّم المقدّمات ويمنع اللّزوم ، وأما ما ذكره من أنّ قول المصنّف : إن خالفوا
مذهبهم من تعلّقها بالضّدين لزمهم إلخ شيء يخترعه من عند نفسه ، ثمّ يجعله محذورا
ففيه أنّ كلام المصنّف هذا مع ما ذكره سابقا يرجع إلى إيراد ترديد على الدّليل
المذكور ، ولا يلزم أن يكون كلا شقيّ التّرديد واقعيّا أو مطابقا لمذهب المستدلّ
به ، بل يكفي فيه الغرض ، لأنّ الغرض من التّرديد حصر احتمالات الكلام والرّد على
كلّ منها ، لئلا يرجع الخصم ، ويقول : إني أردت معنى لم تذكره أنت ولا يتوجّه عليه
شيء ممّا ذكرت ، وكذا الكلام فيما ذكره من نفى الأشاعرة لذلك المذهب ، فانظروا
معاشر العقلاء المؤمنين إلى هذا الفضول المهان الزّبّال في أصبهان أنه
لما اعتاد إصلاح فساد زرع شعيره بحمل الزّبل من المزابل واستعماله في اصول
السّنابل حاول إصلاح ما زرعه شيخه في خبيث أرض تقريره بكلّ ما خرج من مزبلة فمه
وبالوعة ضميره وقد قيل : شعر
وهل يصلح العطار
ما أفسد الدّهر؟
|
|
فكيف بالزّبال
الذي أنتن منه السرّ والجهر
|
وبالجملة أىّ ربط
لسرقة الحطب بأهل الحلّة؟ وأىّ نسبة للحطب بالفرات الخالي عن الآجام المضلّة
والمظلة وإنّما يناسب ذلك بحمّالة الحطب التي هي من
__________________
امّهات بعض خلفاء
النّاصب وبخليفة حمّال الحطب من سوق المدينة لاضرامه النّار في باب بيت صاحب
السّكينة ، وقصد إحراق الذين هم لنجاتنا أكرم سفينة والحمد لله الذي فضح النّاصب ورفع عنه الأمان ، وأوضح سوء
عاقبته على أهل الايمان حيث طرده من إيران وأماته في النيران أعني مظهر القهر من
بلاد ما وراء النّهر ووفّقنا لدفع شرّه الذي أورثه لأهل النّهر أعني نسخ كتابه الذي يشهد على أمه بالعهر بما لا يخفى وقعه على علماء الدّهر.
قال المصنّف رفع الله درجته
وفي الثاني من وجهين ، الاول العلم
بالوقوع تبع الوقوع فلا تؤثّر
فيه ، فانّ التابع
__________________
إنّما يتبع متبوعه ،
، ويتأخّر عنه بالذّات والمؤثّر متقدّم ، الوجه الثاني من وجهى النقض أنّ الوجوب
اللاحق لا يؤثر في الإمكان الذّاتي ،
ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن فانّ كلّ ممكن على الإطلاق ، إذا فرض موجودا
فانّه حالة وجوده يمتنع عدمه لامتناع اجتماع النقيضين وإذا كان ممتنع العدم كان
واجبا ، مع أنه ممكن بالنظر إلى ذاته والعلم حكاية عن المعلوم ، ومطابق له إذ لا
بدّ في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان والأصل في هيئة التطابق هو
المعلوم ، فانه لولاه لم يكن علما ، ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه بما هو
حكاية عنه وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم ، وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب ،
فكذا مع فرض العلم به ، وكما أنّ ذلك الوجوب لا يؤثر في الإمكان الذاتي كذا هذا
الوجوب
، ولا يلزم من تعلّق علم الله به وجوبه بالنسبة إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم «انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد ذكرنا
أنّ هذه الحجة أوردها الامام الرّازي على سبيل النّقض الاجمالي في مبحث التكليف
والبعثة ، وهذا صورة تقريره : ما علم الله عدمه من أفعال العبد ، فهو ممتنع الصدور
عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا ، وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب
الصدور عن العبد وإلا جاز ذلك الانقلاب ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنه يبطل
الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال ، كما ذكرتم ،
فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء قال
الامام الرّازي ، ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا حرفا
إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، وقال شارح
المواقف واعترض عليه ، بأنّ العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في
هذه المطابقة هو المعلوم ألا ترى أن صورة الفرس مثلا على الجدار إنّما كانت على
الهيئة المخصوصة ، لأنّ الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال
بينهما ، فالعلم بانّ زيدا سيقوم غدا مثلا إنّما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث
يقوم فيه دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة
والاختيار والا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا
__________________
مختارا لكونه
عالما بأفعاله وجودا وعدما انتهى كلام شارح المواقف ، فظهر أنّ الرّجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين
من كلام أهل السنة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم ، وجواب الاول من الوجهين إنّا لا
ندّعي تأثير العلم في الفعل كما ذكرنا ، حتى يلزم من تأخره عن المعلوم عدم تأثيره
، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا ، والتابعية لا تدفع هذا المحذور لما ستعلم ، وجواب
الثاني من الوجهين أنا نسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن
بالذات واجب بالغير والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل
اضطراريا وهو حاصل سواء كان الوجوب بالذّات أو بالغير ، وأما جواب شارح المواقف
فنقول : إنا لا نسلم أنّ العلم مطلقا تابع للمعلوم بل العلم الانفعالي الذي يتحقق
بعد وقوع المعلوم وهو تابع للمعلوم ، وإن أراد بالتابعية التطابق فلا نسلم أنّ
الأصل في المطابقة هو المعلوم في العلم الفعلي بل الأمر بالعكس عند التحقيق ، فانّ
علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت هو الأصل والعلّة لبناء البيت ، والبيت
يتبعه ، فان خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّره المهندس في علمه الفعلي لزم انقلاب
العلم جهلا وأنت تعلم أنّ علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعلي كعلم
المهندس الذي يحصل من ذاته ، ثمّ يطابقه البيت ، كذلك علم الله تعالى هو سبب حصول
الموجودات على النظام الواقع ويتبعه وجود الكائنات ، فان وقع شيء من الكائنات على
خلاف ما قدّره علمه الفعلي في الأزل لزم انقلاب العلم جهلا وهذا هو التحقيق «انتهى».
أقول
لا حجّة فيما
ينقله النّاصب لظهور خيانته في مثل ذلك مرارا ولو صحّ فلا ينافي
__________________
إيراد الامام
الرّازي لذلك على سبيل النقض إيراد غيره من الأشاعرة إيّاها على طريق الاستدلال
كيف؟ وقد صرّح الشارح الجديد للتجريد في بحث العلم من الاعراض بأنّ الأشاعرة
استدلوا بذلك ، حيث قال إنّ الأشاعرة لما استدلوا على كون أفعال العباد اضطرارية
بأنّ الله تعالى عالم في الأزل بصدورها عنهم ، فيستحيل انفكاكهم عنها لامتناع خلاف
ما علمه تعالى فكانت لازمة لهم ، فلا تكون اختياريّة وأجاب المعتزلة بأنّ العلم تابع للمعلوم فلا يكون علّة له ، قال
الأشاعرة : كيف يجوز أن يكون علمه الأزلي تابعا لما هو متأخّر عنه فانّه يستلزم
الدّور؟ فأجابوا : بأنّا لا نعني بالتابعيّة هاهنا التأخّر حتى يلزم الدّور ، بل
أصالة موازنة في التّطابق إلخ
__________________
وإنّما جعله
النّاصب نقضا ليصير أقلّ قبولا لورود أقسام البحث عليه فافهم ، وبما قررناه من كلام شارح التجريد ظهر بطلان ما ذكره
النّاصب من أنّ المصنّف سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنّة والجماعة إلخ ، وأما
ما ذكره في جواب الأوّل من الوجهين فمردود ، بأنّه لمّا كان المفروض أنّه تعالى
إنّما يعلم المعلوم كالفعل مثلا على الوجه الذي سيقع ، فمن أين يحصل في المعلوم
اختلاف يوجب انقلاب علمه تعالى جهلا ، وأما ما ذكره في جواب الثّاني منهما فمزيّف
: بأنّه لو كان الوجوب اللّاحق نافيا لاختيار الفاعل لكان الله تعالى أيضا غير
مختار فيما وجد من أفعاله : لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وذلك وجوب لاحق ، فيكون
الله تعالى مضطرّا غير مختار فيه ، وبطلانه ممّا لا يخفى ، وتحقيق الكلام في ذلك
أنّ مدار معنى القدرة والاختيار على أنّ هذا الفعل بالنسبة إلى ذات
هذا الفاعل بحيث إن شاء فعله وإن لم يشأ لم يفعله مع قطع النّظر عن الأمور العارضة
الموجبة والمحيلة للطرف الآخر كما في الواجب ، والامتناع الحاصل من علمه تعالى
بالفعل والتّرك خارج عن ذات الفاعل لاحق للفعل غير مؤثّر فيه ، فلا يوجب سلب اختياره
بالنظر
__________________
إلى أصل الفعل ولا
عدم استحقاقه لشيء من الثّواب والعقاب ، ويوضح ذلك أنّه إذا كان رجل حمّال مدار تعيّشه في كلّ يوم أن
يأخذ أجرة معيّنة على حمل قدر معيّن من الخمر مثلا من مكان إلى مكان ، فأمره سلطان
قاهر لا يعرفه هو بهذا الوصف ذات يوم بحمل شيء من ذلك بتلك الاجرة المقرّرة أو
أزيد منها في تلك المسافة المعهودة بعينها فانّ قاهريّة السّلطان واقتداره في
الواقع لا يوجب سلب اختيار المأمور المذكور في ذلك الفعل ، لأنّ الفرض أنّه كان
يفعل ذلك بطيب قلبه دائما ولم يقع إجبار السلطان له فعلا في ذلك الفعل مع ظهور أنّه لم يمكنه التخلّف عن أمر ذلك
السلطان ، فكما أنّ حصول القهر بالقوّة هاهنا لا يوجب سلب الاختيار ، لأنّه أمر لاحق
، كذلك الإيجاب الناشي من علمه تعالى بوقوع أحد طرفي الفعل من المكلّف لا يؤثر فيه
ولا يوجب سلب اختياره ، وكونه معذورا في ذلك الفعل المحرّم فتدبر ، وأما ما أورده على الجواب المذكور في (شرح المواقف)
أيضا فكلام منتحل مأخوذ عن بعض المتأخرين ، وقد أطال الناصب فيه بما لا طائل تحته
لئلا يظهر انتحاله إيّاه لكلّ أحد ، بل أفسده حيث قرّره بطريق المنع ، وخرج به عن
قانون المناظرة كما لا يخفى على من تأمل في المراتب التي نقلناها من كلام شارح
التجريد ، ومع هذا يمكن أن يدفع بأنّ للامامية والمعتزلة أن يقولوا : سلّمنا أنّ
علمه تعالى بما يصدر عنه فعليّ كعلم البنّاء بخصوصيات البناء قبل أن يصنعه لا
انفعاليّ إلا أنّا لا نسلّم أنّ علمه بأفعال العباد كذلك ، وإنما يسلّم ذلك أن لو
ثبت أنه فاعل لأفعالهم ولم يثبت عندنا ذلك بعد ، وإذا لم يكن علمه تعالى
__________________
بأفعالهم فعليّا
فلا مدخل له في وجوب هذه الأفعال أو امتناعها كما توهّمه صاحب الشّبهة ، وهاهنا
دفع آخر تركناه على ذوي الأفهام لضيق المقام.
قال المصنف رفع الله
درجته
فإنهما آيتان في حقّ واجب الوجود تعالى
فانا نقول في الأوّل : لو كان الله تعالى قادرا مختارا فامّا أن يتمكّن من الترك
أولا ، فان لم يتمكّن من التّرك كان موجبا مجبرا على الفعل لا قادرا مختارا ، وإن
تمكن فامّا أن ترجّح أحد الطرفين على الآخر أولا ، فان لم يترجّح لزم وجود الممكن
المتساوي من غير مرجّح ، فان كان محالا في حقّ العبد كان محالا في حقّ الله لعدم
الفرق ، وإن ترجّح فان انتهى إلى الوجوب لزم الجبر وإلا تسلسل أو وقع التّساوي من
غير مرجّح ، فكلّ ما تقولونه هاهنا نقوله نحن في حقّ العبد انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول : ذكر صاحب
المواقف هذا الدّليل في كتابه ، وأورد عليه أنّ هذا ينفي كون الله تعالى قادرا
مختارا لإمكان إقامة الدّليل بعينه (الدلالة بعينها خ ل) ، فيقال : لو كان تعالى
موجدا لفعله بالقدرة استقلالا فلا بدّ أن يتمكن من فعله وتركه ، وان يتوقّف فعله
على مرجّح إلى آخر ما مرّ تقريره وأجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدثة أى
الفعل يتوقف على مرجّح هو الإرادة الجازمة لكن إرادة العبد محدثة لكن ينتهي إلى إرادة
يخلقها الله فيه بلا إرادة واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادات التي نفرض صدورها
عنه ، وإرادة الله قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى ، فظهر الفرق واندفع النقض.
أقول
هذا الجواب من
جملة تشكيكات إمام النّاصب فخر الدّين الرّازي وقد ردّه سلطان المحقّقين قدسسره في التّجريد بما قرّره الشّارح الجديد بأنّ هذا الفرق لا يدفع التّسلسل المذكور إذ يقال :
إن لم يكن التّرك مع الإرادة القديمة كان موجبا لا قادرا مختارا ، وإن أمكن
فان لم يتوقّف فعله على مرجّح استغنى الجائز عن المرجّح ، وإن توقف عليه كان الفعل
معه واجبا فيكون اضطراريّا ، والفرق الذي ذكرتموه في المدلول مع الاشتراك في
الدّليل دليل على بطلان الدّليل ، وإنّما يندفع النّقض إذا بيّن عدم جريان الدّليل
في صورة التّخلّف ، وقد أشار صاحب المواقف أيضا إلى الجواب المذكور في شرحه لمختصر
ابن الحاجب حيث قال في مبحث الحسن والقبح منه إنّ تعلّق إرادته تعالى قديم لا يحتاج إلى مرجّح متجدّد ،
__________________
وردّ عليه سيّد
المحقّقين قدسسره في حاشيته بأنّه إن أراد بالتّعلق التعلّق الذي يترتّب
عليه الوجود لم يكن قديما وإلا لزم قدم المراد ، وإن أراد التّعلق المعنوي فمعه
يحتاج إلى مرجّح متجدّد وهو التّعلق الحادث الذي به الحدوث ، ولو قيل : بأنّ
إرادته تعلّقت في الأزل بوجود زيد في زمان مخصوص فعنده يوجده ولا حاجة له إلى
تعلّق آخر لم يتمّم أيضا لاحتياج وجوده في ذلك الزّمان إلى تعلّق حادث للقدرة
يترتّب عليه حدوثه كما صرّح به فيما تقدّم «انتهى» ، وأيضا يتوجه عليه ما قيل : من
أنّه لو اقتضى ذات الفاعل مع هذا التّعلق أن يحدث الحادث في زمان معين وذلك كان
كافيا فيه يلزم وجود الحادث في هذا الزّمان في الأزل وأيضا على هذا التقدير كان
محتاجا إلى حضور ذلك الزّمان ولم يكن كافيا في الاقتضاء فتأمل هذا ، وأما ما ذكره في حاشية هذا المقام من أنّ الكلام الذي ذكره المصنف نقض
سمّاه معارضة لجهله بآداب البحث ، ففيه أنّ قضية الجهل منعكسة ، فإنّ التّعبير عن النّقض
بالمعارضة اصطلاح آخر من أرباب المناظرة
__________________
وقد استعمله المحقّق الطوسي قدسسره أستاذ المصنّف رحمهالله في شرحه للاشارات ، فظهر أنّه جاهل بالاصطلاح غير مطالع
لشرح الإشارات أو قاصر عن فهم ما فيه من الإشارات والبشارات.
قال المصنّف رفع الله درجته
ونقول في الثّاني : إنّ ما علمه الله
تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منّا عن قدرته وإدخاله في الموجب
لزم في حق الله تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال ، فقد ظهر من هذا أنّ
هذين الدّليلين آتيان في حقّ الله تعالى ، وهما إن صحا لزم خروج الواجب تعالى عن
كونه قادرا ويكون موجبا ، هذا هو الكفر الصّريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة
إنّما هو هذه المسألة ، والحاصل أنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدّليلين لزمهم
الكفر وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما «انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عرفت في
كلام شارح المواقف أنّه ذكر هذا النّقض وليس هو من خواصه حتى يتبختر به ويأخذ
بالارعاد والابراق والطامات ، والجواب أما عن ما يرد على الدّليل الأوّل فهو أنّ فعل
الباري محتاج إلى مرجح قديم يتعلق في الأزل (الأوّل) بالفعل حادث في وقت معين ،
وذلك المرجح القديم لا يحتاج إلى مرجح آخر فيكون تعالى مستقلا في الفعل ولو قال
قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجح القديم كان موجبا لا مختارا ، قلنا : إنّ
الوجوب المترتب على الاختيار لا ينافيه بل يحققه ، فان قلت نحن نقول : اختيار
العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب لا ينافي كونه قادرا مختارا ، قلت : لا شكّ
أنّ اختياره حادث وليس صادرا عنه باختياره ، وإلا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار
وتسلسل ، بل عن غيره فلا يكون مستقلا في فعله باختياره ، بخلاف إرادة الباري فإنها
مستندة إلى ذاته فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه ، وأما عن ما
يرد على الدّليل الثاني فهو أنّ علم الله تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة
والإرادة ، فإذا علم الشيء وتعلّق به علمه تعلق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات
، وكل واحدة من الصفات الثلاث يتعلق بمتعلقه من الأشياء وكلّ ما تقتضيه ، فمقتضى
العلم التعلق من حيث الانكشاف ومقتضى الإرادة الترجيح ومقتضى القدرة صحة وقوع
الفعل والترك ، فلا يلزم الوجوب لأنّ صفة العلم لا تصادم صفة القدرة لأنهما
قديمتان حاصلتان معا بخلاف القدرة الحادثة ، فإنّ العلم القديم يصادمها ومقتضى
العلم القديم يسلب عنه القدرة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة ، بخلاف الصفات
القديمة ، فليس ثمة إيجاب تأمل فانّ هذا الجواب دقيق وبالتأمّل فيه حقيق ، وأما ما
ذكره من لزوم الكفر فمن باب طاماته وترهاته
__________________
وهذه مسائل علميّة
يباحث النّاس فيها فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصبه ينزله على الكفر والتّفسيق نعوذ
بالله من جهل ذلك الفسيق «انتهى».
أقول
من البيّن أنّ
المصنّف قدسسره مقدّم على صاحب المواقف ، فذكر صاحب المواقف لذلك الدّليل
لا يدلّ على أن لا يكون ذلك النقض من خواصّ المصنّف قدسسره ، فانّ ما في المواقف وسائر تصانيف القاضي العضدي من التحقيقات والتّدقيقات ملتقط من كلام من تقدّمه ومنتخب
عنه ، وليس له سوى الالتقاط والجمع ، فقد كان معزولا عن العقل والسّمع على أنّ
المصنّف لم يشعر بأنّ ذلك من خواص إفاداته والتّبختر في ذلك غير مفهوم من كلام
المصنّف ، والارعاد والابراق لا يتوقف على كون ذلك من خواصّه بل يكفي فيه أن يكون
من إفادات أصحابه ، واما ما اتى به النّاصب من الجواب عمّا يرد على الدّليل الأوّل
فقد مرّ ما يدفعه في الفصل السّابق على هذا ، ونزيد عليه هاهنا ونقول : إن ما ذكره
في المرتبة الأخيرة المتعلّقة
__________________
بهذا الجواب من
قوله : قلت لا شكّ انّ اختياره حادث إلخ مردود بأنّ كون اختيار العبد حادثا مسلّم
، لكن عدم كونه صادرا عنه باختياره غير مسلّم ، وبأنّ الاختيار في الفعل عبارة عن
تعلّق إرادة العبد مثلا بالفعل ، وهذا التّعلّق إراديّ مسبوق بتعلّق آخر متعلّق
إلى هذا التعلّق وهكذا ، وهذه التّعلقات امور انتزاعيّة اعتباريّة لا استحالة
للتّسلسل فيها كما مرّ ، وأما ما أتى به من الجواب عمّا يرد على الدّليل الثّاني
فيتوجّه عليه وجوه من الخلل ، منها منع قوله مقتضى العلم القديم يسلب القدرة عن ذي
القدرة الحادثة ، فان ذلك إنّما يسلم لو كان العلم القديم علّة للمعلوم المقدور ،
وكان مخالفا لما علمه الله تعالى في الأزل ، وكلتا المقدّمتين ممنوعتان مقدوحتان
كما مرّت الاشارة إليه ، فظهر أنّ ما زعمه النّاصب الغريق من باب التّدقيق حقيق
باسم الزّريق ودليل على كونه من الجهل في بحر عميق ، وأما ما ذكره من
أنّ لزوم الكفر من باب طاماته إلخ فلعله أراد به أنّ اللزوم غير الالتزام فإذا لزم
الكفر من الدّليل بحيث لا يشعر به المستدلّ لا يلزمه الكفر ولا يحكم به عليه ،
وأنت خبير بأنّ مراد المصنّف أنّ هؤلاء من أصحاب النّاصب إن اعترفوا بصحة
الدّليلين بعد ما أوضحنا لهم ما يلزم منها يلزمهم الكفر ، إذ اللزوم حينئذ يقترن
بالالتزام ولم يرد أنّه يلزمهم ذلك مع عدم شعورهم به حتى تكون من باب الطامات كما
زعمه ، فغاية الأمر أن يخلص من الكفر من لم يصل إليه كلام المصنّف قدّس سره
وإيضاحه للزوم ذلك ، وأمّا النّاصب المتورّط في العناد والعصبية فيلزمه التزام كفر
أهل الجاهلية بعد اطلاعه على تلك الملازمة الجليّة أعاذنا الله من تلك البليّة.
قال المصنّف رفع الله درجته
فلينظر العاقل من نفسه هل يجوز له أن
يقلد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتج به
__________________
غدا يوم القيامة وهو
يوجب الكفر والإلحاد ، وأىّ عذر لهم عن ذلك وعن الخروج عن الكفر والإلحاد؟ فما
لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ،
هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي قد عرفت أنّه يلزم
منها نسبة الله تعالى إلى كلّ خسيسة ورذيلة تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ،
فليحذر المقلد وينظر كيف هؤلاء القوم الذين يقلدونهم ، فان استحسنوا لأنفسهم بعد
البيان والإيضاح اتباعهم كفاهم بذلك ضلالا ، وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع
الأهواء عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفقهم الله تعالى لاصابة الصّواب «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عثرت
على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن
فضلات المعتزلة ، ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم
__________________
كمثل الزبّال يمر
على نجاسة رجل آكل بالليل بعض الاطعمة الرقيقة كماء الحمص فجرى في الطريق فجاء
الزّبال وأخذ الحمص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذذ به ، فهذا ابن المطهر النجس
كالزبال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفر به سادات العلماء
ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال والله
الهادي.
أقول
قد اطلعت على ما
ذكرناه في دفع مدافعته المدخولة المموّهة التي زيّنها له الشّيطان وأنّها هذيان ما أنزل الله به من سلطان ، وأنّه في أكثرها قد عدل لعجزه عن إتمام
الكلام على وفق اصول أصحابه الأشاعرة إلى اختيار وضع الدّعاوي الأخرى الفاجرة
القاصرة عن مرتبة تلك الأصول الخاسرة وتقويته للمقصود على وجه جعل الصبيان عليه
ساخرة ، وما أشبهه في اختياره تلك الدّعاوى المزيّفة على تلك الأصول المموّهة إلا
بكلب خلى عن عظم في فيه حرصا على ما رآه خياله في الماء فضيّع الموجود ولم ينل
المقصود وأما تمثيله بالزّبّال فكما ذكرناه سابقا أنسب بحال أهل أصفهان وحملهم
دائما للزّبل إلى الأرض الخبيث المهان ، وأمّا
__________________
الفضلات فهي مشتقة
من فضل بن روزبهان ، وعند الامتحان يكرم الرّجل أو يهان. .
قال المصنّف رفع الله درجته
المطلب الثاني عشر في إبطال الكسب ،
اعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لما لزمهم هذه الأمور الشنيعة والالتزامات
الفضيحة والأقوال الهائلة من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته وهو الفرق بين الحركات
الاختياريّة والحركات الجماديّة وما شابه ذلك التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو
وأتباعه الخلاص من هذه الشّناعات ، (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)
فقال : مذهبا غريبا
عجيبا لزمه بسببه إنكار المعلوم الضروريّة كما هو دأبه وعادته فيما تقدّم من إنكار
الضروريّات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد فقال الله تعالى موجد للفعل والعبد مكتسب
له ، فإذا طولب بتحقيق الكسب وما هو؟ وأىّ وجه يقتضيه؟ وأىّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب
هو وأصحابه في الجواب عنه فقال
__________________
بعضهم : معنى الكسب
خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل وعدم الفعل عقيب اختياره العدم
فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الفعل عند اختيار العبد ، وقال بعضهم معنى الكسب
أنّ الله يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر البتّة لكن العبد يؤثّر في وصف
كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من
العبد ، وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معقول ولا معلوم مع أنّه صادر عن العبد «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد مر أنّ
مذهب الشّيخ أبي الحسن الأشعري أنّ أفعال العباد الاختياريّة مخلوقة لله تعالى
مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك
منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له ، هذا مذهب الشيخ ، ولو رجع المنصف
إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد وتنزيه الله تعالى عن
الشركاء في الخلق مع إثبات الكسب للعبد حتى تكون قواعد الإسلام ورعاية أحكام
التكليف والبعثة والثّواب والعقاب محفوظة مرعيّة من غير تكلف إيجاد الشّركاء في
الخلق ، ونحن إن شاء الله تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه
يرتضيه المنصف وينقاد لصحّته المتعسّف فنقول : يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب
العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة وفسّره بكون العبد محلا للفعل تارة
وتحقيقه أنّ الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء وقدرة يصحّ بها
الفعل والترك ، ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريّات عند حدوث الفعل ، وهاتان
الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ، فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين
الصّفتين لإيجاد الفعل وذلك الفعل ممكن والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة
وحصل الترجيح فهو يوجد لا محالة
بقدم الإرادة
القديمة الدّائمة الالهيّة والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما أتمّ
من الإرادة والقدرة الحادثة ، والصّفة القويّة تغلب الصّفة الضعيفة كالنّور القويّ
يقهر النّور الضعيف ويغلبه ، فلمّا أوجد الله تعالى الفعل وكان قبل الإيجاد تهيّأت
صفة اختيار العبد إلى إيجاد ذلك الفعل ، ولكن سبقت القدرة الالهيّة فأحدثته فبقى
للفعل نسبتان نسبة إلى العبد وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيئه الإرادة والاختيار
نحو تحصيل الفعل وحصول الفعل عقيب تهيئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب لأنّ
الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد
، ونسبة إلى الله تعالى وهو انه كان مخلوقا لله تعالى موجدا منه ، وهذا معنى كون
الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد ، ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون العبد
محلا له لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته كالأسود ، فإنّه محلّ السواد فيجوز أن يقال
باعتبار كون الفعل صفة له إنه كسبه ، ومعنى الكسب كونه محلا له ، والثواب والعقاب
يترتب على المحلية كالاحراق الذي يترتب على الحطب بواسطة كونه محلا له لليبوسة
المفرطة ، وهل يحسن أن يقال : لم ترتب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلا لليبوسة
والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة ، وأىّ ذنب للحطب وهل هذا الإحراق إلا
الظلم والجور والعدوان ، إن حسن ذلك حسن أن يقال لم جعل الله تعالى الكافر محلّ
الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟ والعاقل يعلم أنه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني ، فرّغ
جهدك لنيل ما حققناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري لئلا تبقى لك شبهة فهذا
نهاية التوضيح ، ولكنّ المعتزلي
__________________
عمى بصره فعظم
ضرره ألقته الشبهة في مهواة غائلة واغتاله الغول في مهمة هائلة ونعم ما قلت شعر
ظهر الحقّ من
الأشعر والنّور جلى
|
|
طلع الشّمس ولكن
عمى المعتزلي
|
__________________
فانظر الى هذا
الحلي الجاهل كيف افترى في معنى الكسب وخلط المذاهب والأقوال كالحمار الرّاتع في
جنّة عالية قطوفها دانية والله تعالى يجازيه «انتهى».
أقول
قد مرّ بيان أنّ
الأشعري في ذلك على شفا جرف هار ، وسيظهر عند انكشاف الغبار أنّه على متن فرس أم حمار ، وقد
سبق أيضا ما يفيد أنّ الله تعالى لا يقبل عن الأشاعرة منّة هذا التمويه الذي سمّوه
بالتنزيه ، وأنّه لا يلزم العدليّة
__________________
الشرك الذي توهّمه
النّاصب السّفيه ، وأنه لا يتأتّى للأشاعرة بذلك رعاية احكام التكليف والترغيب
والتخويف ، وأما ما ذكره من التحقيق فهو بالاعراض حقيق ، لأنّا نسلّم أنّ أصل
القدرة والإرادة مخلوقتان في العبد ، لكنّ الفعل إنّما يتحقق بالارادة الجازمة
الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع كما سبق وهي اختياريّة ، بيان ذلك أنّه إذا حصل
لنا العلم بنفع فعل يتعلّق به الإرادة بلا اختيارنا ، لكن تعلّق الإرادة به غير كاف
في تحققه ما لم تصر جازمة بل لا بدّ من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير الإرادة
جازمة موجبة للفعل ، فانّا قد نريد شيئا ومع هذا نأبى ونكفّ نفسنا عنه لحياء
وحميّة ، وذلك الكف أمر اختياريّ يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الدّاعي
إليه ، فانّ عدم علّة الوجود علّة العدم ، وعدم الدّاعي إلى هذا الدّاعي وهكذا ، وغاية ما يلزم منه التّسلسل في العدمات ولا
استحالة فيه ، وبالجملة الإرادة الجازمة اختياريّة لاستناد عدم الكفّ المعتبر فيها
بالاختيار وإن
__________________
لم تكن نفسها
إرادية ولا يلزم التسلسل المحال ، وأما ما ذكره من أنّ الممكن إذا تعلّقت به
القدرة والإرادة وحصل الترجيح تقدّم الإرادة القديمة الدّائمة الالهيّة إلخ فمن
قبيل الرّجم بالغيب والرّمي في الظلام ومخالف لبديهة عقلاء الأنام ، وأيضا يدلّ
ذلك على أنّ إرادة الله تعالى اختياره لفعل من الأفعال فجاز أن يتقدّم على فعل
العبد وليس كذلك ، لأنّك قد عرفت فيما سبق أنّ إرادته تعالى عبارة عن العلم بما في
الفعل من المصلحة ، فلا معنى لقوله بقدم الإرادة القديمة إلى إيجاد الفعل ، وبهذا
تندفع شبهة أخرى لهم في هذا المقام ، وهو أنّه لو أراد الايمان من الكافر والطاعة
من العاصي وقد صدر الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لزم أن لا يحصل مراد الكافر
والعاصي ، فيلزم أن يكون الله تعالى مغلوبا والكافر والعاصي غالبين عليه ، بل يلزم
أن يكون أكثر ما يقع من عباده خلاف مراده ، والظاهر أنّه لا يصبر على ذلك رئيس
قربة من عباده انتهى ووجه الدفع أنّه إذا كان إرادته تعالى عبارة عن العلم بما في
الفعل من المصلحة فلو علم الله أنّ في الفعل الفلاني مصلحة ولم يختر العبد ذلك الفعل
بل اختار نقيضه لم يلزم قدح مغلوبيّته ولا نقصه ، إذ ليس بين علمه تعالى بالمصلحة
في الفعل وبين عدم اختيار العبد إيّاه تنافي وتعارض حتى يلزم هناك المغلوبيّة ،
نعم لو اختاره تعالى واختار العبد نقيضه وحصل مختار العبد دون مختاره تعالى للزم
المغلوبية ، لكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، وأما ما ذكره من أنّ الغالب في
القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثّواب والعقاب على فعل العبد فمدخول
بأنّه كيف يحمل الكسب الواقع في القرآن على المعنى الذي ذكره الأشاعرة مع أنه لم
يجيء في اللّغة التي نزل بها القرآن بشيء من المعاني التي ذكروها له ، وإنّما ذلك
اختراع منهم من عند أنفسهم فرارا عن الجبر المحض كما مرّ ، ولهذا قيل : إنّ هرب
الأشعري من الجبر المحض إلى الكسب
كالهرب من المطر
إلى الميزاب إذ قوله به مشتمل على جميع مفاسد الجبريّة مع ارتكاب أمر
زائد غير معقول ، ثم اى دلالة لغلبة ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء على كون
المراد من الكسب المعنى الذي ذكره الأشاعرة دون الفعل بمعناه الحقيقي المساوق
للخلق ، وهل هذا إلا وهما منهم على وهم؟ ، والحق أن معنى الخلق والفعل واحد وهو
إيجاد ما لم يكن ، غاية الأمر أنه إذا كان ذلك الإيجاد بلا آلة كما في فعل الله
تعالى يقال : إنّه خلقه ، وإذا كان بآلة كما في فعل العبد يقال : فعله ، وكذا
الكلام في الكسب ، فانّه إنّما يطلق على فعل العبد ، لأنه يقصد بفعله إيصال نفع
إليه أو دفع مضرة عنه ، ولمّا كان الله تعالى منزّها عن النفع والضرّ لا يطلق على
فعله الكسب فاحفظ هذا ، وأما ما ذكره من أنّ الثواب والعقاب يترتّب على المحلية
فهو كترتّب الذّمّ على الجماد باعتبار كونه محلّا للون كدر وهو غير معقول كما لا
يخفى ، والقياس على الحطب واه لظهور انتفاء القدرة والإرادة فيه ، قوله : وهل يحسن
أن يقال لم ترتّب الإحراق على الحطب إلخ قلنا : نعم لا يحسن قوله وهل هذا إلا
الظلم والجور والعدوان ، قلنا : هاهنا أمران ، أحدهما خلق قوّة
__________________
الاحتراق في الحطب
وثانيهما صرف الحطب نحو الإحراق بضمّ النّار إليه ، والأوّل ليس بظلم ولا عدوان ،
لأنّ نفعه أكثر من ضرّه وخيره أعظم من شرّه كما لا يخفى والثاني ظلم وعدوان لكنّه
فعل العبد دونه سبحانه ، وأما قوله : وإن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله
الكافر محلا للكفر ثمّ أحرقه بالنار فمدفوع ، بأنّ الله تعالى لم يجعل الكافر محلا
للكفر وإنما جعله محلا للفطرة الصحيحة كما ورد في الحديث المشهور وهو باختياره السوء جعل نفسه محلا للكفر فلهذا لا يحسن أن
يقال لم جعل الله الكافر محلا للكفر لا للقياس الفاسد الذي ذكره الناصب ، وخلاصة
الكلام في هذا المقام أنّ الكسب بأىّ معنى يرام لا يوجب خلاصهم عن الشّناعة
والملام لما مرّ ، وسيجيء إليه الاشارة في كلام المصنّف قدسسره من أنّ العبد إن استقلّ بإدخال شيء في الوجود بطل ما قالوا
: إن قدرة العبد لا تؤثّر وإن لم تستقلّ فلا يكون كاسبا ، ويكون الكلّ بقدرة الله
تعالى وهو مخالف للضرورة
__________________
والبرهان ، وقال
البزدوى الحنفي في أصوله وشارحه الهندي : إنّ أفعال
__________________
العباد وإن كانت
بقضاء الله وقدره ومشيته وإرادته وخلقه وإيجاده لكنه قضى وقدّر وشاء حصولها
ووجودها بآلات العباد بعد خلق الاختيار منهم وجعلهم في صورة الفاعلين الكاسبين ،
وهذا جبر بصورة الاختيار منهم وانفعال بصورة الفعل شعر :
فجبر بمعنى
واختيار بصورة
|
|
فلا تترك المعنى
ولا تهدر الصور
|
فمن أهدر الصورة
فهو جبريّ
|
|
فمن ترك المعنى
فهو قدريّ
|
والحقّ الجمع
بينهما «انتهى» ، والإنصاف أنّ الاختيار الصوري والكسب المحلّي على تقدير تحصيل
معناه يصلح لجعله سببا للثواب ، لأنّه تفضّل في المآل كما أشرنا إليه سابقا ، أما
جعله سببا للعقاب ، فمشكل جدّا ، لأنّه إذا لم يكن فاعلا وكان كسبه وفعله صوريا
كان جعله سببا للعقاب ، وبناء العقاب عليه باعتبار حقيقة الفعل
__________________
جورا وظلما تعالى
الله عن ذلك علوا كبيرا ، مع أنه لا يظهر وجه في خلق الاختيار في العبد وجعله
كاسبا صورة ومأخوذا بحسبه فتأمل ، وأما وصية الناصب للناظرين بتفريغ جهدهم لنيل ما
ذكره في تحقيق الكسب فهي كالكسب لا حقيقة ولا معنى له لأنه قد بذل جهده في إيراد
السخف لترويج هذا المطلب المستخفّ بما يعجز عنه كسب غيره ولا يبلغ إليه أحد في
سيره ، واما ما ذكره من البيت فمقابل ببيتين ارتجلت في نظمهما وهما شعر :
الأشعري عن
الشعور بمعزل
|
|
عوج مشاعره كضان أعزل
|
ما كسبه عند
المشاعر غير ما
|
|
دون الشّعور تدار فلكة مغزل
|
فانظروا معاشر
الاخوان إلى هذا النّاصب الشّقي كيف يبذل جهده وقواه في ترويج فاسد الأشعري الذي
وافق هواه ، مع ما علم أنّه ذلك الشّيخ المبهوت الذي ورث الحماقة عن جدّه أبي موسى ، وكان عن العقل والشعور يئوسا فلم يكن له عن
__________________
الحماقة خلاص إلى
أن لعب به عمرو بن العاص وأورده مورد طعن العام والخاصّ ، حتّى حكى أنّ رجلا راى
في الطريق (السكّة خ ل) واحدا من أولاد أبي موسى المذكور يمشي في الأرض مرحا
متبخترا ، فقال الرّجل لصاحب كان معه : انظروا إلى هذا الأحمق انّه يتبختر في
المشي على وجه كأنه يظنّ أنّ أباه لعب بعمرو بن العاص ، وأنا أظنّ أنّ ذلك الماشي
كان أبا الحسن شيخ هذه البهائم والمواشي والله كاشف الغواشي.
قال المصنّف رفع الله درجته
وهذه الأجوبة فاسدة ، أمّا الأوّل فلانّ
الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل
الفعل منه ، وأىّ فرق بينهما ، وأىّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا ، وهو أن ينسب
القبائح بأسرها إلى الله تعالى وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان
وغير ذلك وليس بمعلوم ، وأيضا دليلهم آت في نفس هذا الاختيار فان كان صحيحا امتنع
إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به
، وأيضا إذا كان الاختيار الصّادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل كان الفعل مستندا
إلى فاعل الاختيار إمّا العبد أو الله ، فلا وجه للمخلص (التخلّص خ ل) بهذه
الواسطة ، وإن لم يكن موجبا لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى
إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير من غير شركة للعبد فيه ،
وأيضا العادة غير واجبة الاستمرار فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى
الفعل عقيبه ويخلق الله الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار فحينئذ ينتفي المخلص (التخلّص
خ ل) بهذا العذر
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد علمت
معنى الكسب كما ذكره الشّيخ ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها
عن الأصحاب فما
رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب. وأما ما أورد على القول
الأوّل وهو أنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال فباطل لأنهما من جملة الصّفات ،
وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها الله
تعالى في العبد والعبد بهما يرجّح الفعل ، فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم
منه ، فانّه صار قائلا بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، ولكن ربما
يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطراريّة ، وعين المكابرة أن يقال الاختيار فعل اضطراري
، وأما قوله دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، وبيانه أنّ الاختيار فعل من الأفعال
فيكون مخلوقا لله ، لأنّه ممكن وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور
لله فيكون مخلوقا لله ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار ،
فجوابه أنّ الاختيار من الصّفات التي يخلقها الله تعالى أوّلا في العبد كسائر
صفاته النفسانية وكيفيّاتها المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتب عليه الفعل ، فلا يأتي
ما ذكره من المحذور ، لأنّا نختار أنّ الدّليل صحيح وليس هو مسندا إلى العبد ، وهو
صادر عن الله تعالى ، وأما قوله : وإذا كان الاختيار صادرا عن العبد موجبا لوقوع
الفعل كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار إلى آخر الدليل ، فجوابه به أنّا نختار
أنّ الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد ، وأيضا نختار أنّ الاختيار ليس
موجبا للفعل ، قوله : لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع
الفعل وعدمه ، قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب العبد التّوجه نحو
تحصيل الأفعال ويخلق الفعل عقيب توجّه العبد للاختيار والفعل مقارن لذلك الاختيار
، وليس الأكل كذلك فالفرق واضح ، وأما قوله العادة غير واجبة الاستمرار فجاز أن
يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد
بالجواز هو الإمكان الذّاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب
خلق الفعل عقيب الاختيار «انتهى».
أقول
قد علم أيضا أنّ
معنى الكسب كما ذكره شيخ النّاصب لا محصّل له ، وأما الأقوال الباقية فهي مذكورة
في كتاب الطوالع للبيضاوي وشرح المقاصد للتفتازاني وغيرهما من كتب أهل السنّة فليطالع ثمة ، وسيعترف الناصب
بأنّ القول الثاني من هذه الأقوال مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني من الأشاعرة ، فعلم أنّ إنكاره لذلك عناد ، وأما ما ذكره
من أنّ الإرادة من جملة الصفات دون الأفعال فسقوطه ظاهر ، لأنّ ما هو من جملة
الصفات هو المريد ، وإطلاق الصفة على الإرادة مسامحة من باب إطلاق المصدر وإرادة
المشتق ، وكذا الكلام في الكلام بل العلم والقدرة والحياة أيضا ، فإنّ من طالع صرف
الزّنجاني ونحوه يعلم أنّ الإرادة بمعنى «خواستن» وكذا العلم بمعنى «دانستن»
من الأفعال والمصادر فضلا عمّن يدّعي صرف عمره في متداولات العلوم والنّوادر ،
وأماما زعمه النّاصب
__________________
المرتاب من أنّ
المصنّف نطق بخلاف مذهبه في هذا الباب وارتاح بذلك كأنّه وجد تمرة الغراب فمدفوع
رغما لأنفه بما أوضحناه سابقا من أنّ أصل الإرادة مخلوق لله تعالى والإرادة
الجازمة فعل للعبد ، ثم القول بأنّ الاختيار فعل اضطراري انّما يكون مكابرة كما
ذكره النّاصب لو أريد بذلك أنّ اختيار العبد مثلا فعل اضطر العبد نفسه إليه ، وأما
إذا أريد أنّه فعل اضطر الله تعالى أو غيره العبد إليه بأن قال له على سبيل الجبر
والقسر : اختر هذا فلا ، وإنّما نشأ له هذا التّوهم من مقابلة الاختيار للجبر
والاضطرار ولم يعلم أنّ أحد المتقابلين ربّما يتعلّق بالمقابل الآخر كتعلّق
التّصوّر بالتّصديق مع كونهما قسمين متقابلين للعلم ، وأما ما ذكره من المترتبتين
الآتيتين في الجواب فمبناهما على فهم أنّ مراد المصنّف من الاختيار والإرادة
اللّذين حكم بكونهما فعل العبد أصل الاختيار والإرادة وقد علمت أنّ المراد
الاختيار الجازم والإرادة الجازمة ، وأما قوله فنقول : هذا هو المدّعى والمراد
بالجواز الإمكان الذّاتي إلخ فظاهر أنّه أراد به أنّ ما ذكره المصنّف من جواز أن
يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه مدّعانا ، والمراد بالجواز المأخوذ في
هذا المدّعى هو الإمكان الذّاتى الذي تخالفه العادة ، وأنت خبير بأنّه إذا سلّم
إمكان أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه ، وسلّم أنّ العادة غير واجبة
الاستمرار فما المانع من خروج الإمكان إلى الفعل ، وكيف يحصل الأمان من الوقوع بأن
لا يخلق الله الفعل عقيب وجود الاختيار.
قال المصنّف رفع الله درجته
وأما الثاني فلأنّ كون الفعل طاعة أو
معصية إمّا أن يكون نفس الفعل في الخارج أو أمرا زائدا عليه ، فان كان الأوّل كان
أيضا من الله فلا يصدر عن العبد شيء البتة
__________________
فيبطل العذر ، وان
كان الثاني كان العبد مستقلا بفعل هذا الزّائد ، وإذا جاز استناد هذا الفعل فليجز
استناد أصل الفعل ، وأىّ ضرورة للتمحل
بمثل هذه المعاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار ، وأى فارق بين الفعلين ، ولم
كان أحدهما صادرا عن الله تعالى والآخر صادرا عن العبد؟ وأيضا دليلهم آت في هذا
الوصف فان كان حقا عندهم امتنع استناد هذا الوصف إلى العبد وإن كان باطلا امتنع
الاحتجاج به ، وأيضا كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه
موافقا لأمر الشّريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل إن طابق الأمر كان طاعة
وإلّا فلا ، وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد لا في ذاته ولا في شيء من
صفاته ، فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأوّل ، وأيضا الطاعة حسنة
والمعصية قبيحة ، ولهذا ذمّ الله تعالى إبليس وفرعون
على مخالفتهما أمر الله ، وكلّ فعل يفعله الله فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن
عندهم سوى صدوره من الله تعالى ، فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى امتنع وصفه
بالقبح وكان موصوفا بالحسن ، فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة عنه
تعالى امتنع وصفها بالقبح فلا تكون معصية فلا يستحق فاعلها الذّم والعقاب ، فلا
يحسن من الله تعالى ذمّ إبليس
__________________
وأبي لهب وغيرهما حيث
لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية ، فلا تتحقّق معصيته من العبد البتّة ، وايضا المعصية
قد نهى الله تعالى عنها إجماعا والقرآن مملوّ من المناهي والتّوعد عليها ، وكلّ ما
نهى الله عنه فهو قبيح ، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلا ما نهى الله تعالى عنه مع
أنّها قد صدرت من إبليس وفرعون وغيرهما من البشر ، وكل ما صدر من العبد فهو مستند
إلى الله تعالى والفاعل له هو الله تعالى لا غير عندهم ، فيكون حسنا حينئذ وقد
فرضناه قبيحا هف ، وأما الثالث فهو باطل بالضّرورة إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول
وكفاهم من الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمونه ، وهل يجوز لعاقل منصف من نفسه
المصير إلى هذه الجهالات والدّخول في هذه الظلمات والاعراض عن الحقّ الواضح
والدّليل اللائح والمصير إلى القول بما لا يفهمه القائل ولا السّامع ولا يدري هل
يدفع عنهم ما التزموا به أولا؟ فانّ هذا الدّفع وصف من الصّفات والوصف إنما يعلم
بعد العلم بالذات فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به ، فلينظر العاقل في
نفسه قبل دخوله في رمسه
ولا يبقى للقول مجال ولا يمكن الاعتذار بمثل هذا المحال
«انتهى»
قال النّاصب خفضه الله
أقول : القول
الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني من الأشاعرة ،
ومذهبه أنّ الأفعال الاختياريّة من العبد واقعة بمجموع القدرتين على أن تتعلّق
قدرة الله تعالى بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته أعني بكونه طاعة أو معصية إلى غير
ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء
، فان ذات اللّطم واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره وكونه طاعة على الأوّل
__________________
ومعصية على
الثّاني بقدرة العبد وتأثيره ، هذا مذهب القاضي وهو غير مقبول عند عامّة الأصحاب
من الأشاعرة لشمول الأدلّة المبطلة لمدخليّة اختيار العبد في التأثير في أصل الفعل
تأثيره في الصّفة بلا فرق ، وهذا الابطال مشهور في كتب الأشاعرة فليس من خواصّه ،
وأما باقي ما أورده على معنى الكسب حسبما هو مذهب القاضي فغير وارد عليه ونحن
نبطله حرفا بحرف فنقول : أمّا قوله : كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر
الشريعة وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل إلى آخر
الدّليل ، فجوابه أنّا لا نسلّم أنّ كونه موافقا لأمر الشريعة شيء يرجع إلى ذات
الفعل ، فانّ المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنّه ليس صفة للفعل بل
هو ذات الفعل فبطلانه ظاهر ، وإن كان المراد أنّه راجع إلى الذّات بمعنى أنّه وصف
للذّات فمسلّم ، لكن لا نسلّم عدم جواز استناده إلى العبد باعتبار الصّفة وهذا
أوّل الكلام ، ثمّ ما ذكر أنّ الطاعة حسنة والمعصية قبيحة وكلّ فعل يفعله الله فهو
حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله تعالى فلو كان أصل الفعل
صادرا من الله تعالى امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن إلخ ، فجوابه أنّ
الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة ولكن مدرك هذا الحسن والقبح هو الشّرع لا
العقل ، فكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن بالنسبة إليه وربّما يكون قبيحا
بالنسبة إلى المحلّ كالمعاصي قوله : فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى امتنع
وصفه بالقبح ، قلنا : المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى وكلّ ما كان صادرا
من الله تعالى كالخلق امتنع وصفه بالقبح ، والمعصية صادرة من العبد ويجوز وصفها
بالقبح فلا يلزم شيء ممّا ذكره بتفاصيله وأما قوله : وأمّا الثّالث فهو باطل
بالضرورة إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ، فنقول : هذا القول إن صدر عن الأشاعرة
يكون مراد القائل أنّ هناك شيء ينسب إليه أوصاف فعل العبد ولا بدّ من إثبات شيء
لئلا يلزم بطلان التكليف والثّواب والعقاب ، ولكنّه غير معلوم الحقيقة ، وعلى هذا
الوجه لا خلل في الكلام «انتهى».
أقول
لا يخفى أنّ
القاضي إنّما عدل عن تفسير شيخه الأشعريّ إلى هذا لمّا رأى فساد ذلك فهو شاهد لنا
على ما ادّعينا من ظهور فساد كلام الأشعري ، واعتراف الناصب بفساد كلام القاضي
شهادة بأنّه ليس لهم للكسب تفسير له محصّل ، ولهذا قال بعضهم : إنّه غير معقول ولا
معلوم كما نقله المصنّف قدسسره ، وكفى بذلك شناعة ، وأما ما ذكره من أنّ هذا الابطال
مشهور مذكور في كتب الأشاعرة إلخ فنقول : نعم مذكور في كتب متأخري الأشاعرة لكنّه
من تصرّفات الاماميّة لظهور انقراض المعتزلة قبل ذلك بستمائة سنة تقريبا ، ووضوح
أنّ الأشاعرة لا يهتمّون بابطال مطالب أنفسهم بل هم قاصرون عن أمثال هذا الدّقيق
من الإبطال ، ولم يدّع المصنّف أنّ ذلك من خواصّه حتّى يكون وجوده في كتب من
تقدّمه من الأشاعرة أو الاماميّة مكذبا له ، وأما ما ذكره في أوّل الحرف من جوابه
، فانحرافه عن الحقّ ظاهر لأنّ غاية ما يلزم من جواز إسناد صفة الفعل إلى العبد أن
يكون وصفا له بحال متعلّقة كحسن الغلام وهو وصف مجازي لا يصلح لبناء ثواب العبد
وعقابه مثلا عليه ، وأما ما ذكره بقوله : فجوابه أنّ الطاعة حسنة إلخ فمردود بما
عرفت من بطلان كون الحسن والقبح شرعيّين ، وبما مرّ من تقبيح قولهم : بأنّه لا
قبيح بالنسبة إليه تعالى وتزييف مؤاخذة المحلّ بالقبح المخلوق فيه من الله تعالى.
واما ما ذكره من أنّ مراد القائل إنّ هناك شيء تنسب إليه أوصاف الفعل إلخ ففيه
أنّه إعادة لكلام القائل بعبارة أخرى ، ويتوجّه عليه ما يتوجّه على ذلك : من أنه
رمى في الظلام فلا يصلح لبناء المذهب عليه والاحتجاج به على الأقوام ، وكفى هذا
خللا وفسادا في الكلام.
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الثالث عشر في أنّ القدرة
متقدّمة
ذهبت الاماميّة والمعتزلة كافة إلى أنّ القدرة التي للعبد متقدّمة على الفعل ،
وقالت الأشاعرة هاهنا : قولا غريبا عجيبا وهو أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة
عليه لا بزمان ولا بآن
، فلزمهم من
__________________
ذلك محالات ، منها
تكليف ما لا يطاق ، لأنّ الكافر مكلّف بالايمان إجماعا منّا ومنهم ، فإن كان قادرا
عليه حال كفره ناقضوا مذهبهم من أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه ، وان لم
يكن قادرا عليه لزمهم تكليف ما لا يطاق ، وقد نصّ الله تعالى على امتناعه فقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها)
، والعقل دلّ عليه
وقد تقدّم ، وإن قالوا انّه غير مكلّف حال كفره لزمهم خرق الإجماع من أنّ الله
تعالى أمره بالايمان بل عندهم أنّه أمرهم في الأزل ونهاهم ، فكيف لا يكون مكلّفا «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : مذهب
الأشاعرة أنّ القدرة الحادثة مع الفعل وأنّها توجد حال حدوث الفعل وتتعلّق به في
هذه الحالة ، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلّقها به إذ قبل الفعل لا
يمكن الفعل ، بل امتنع وجوده فيه وإن لم يمتنع وجوده قبله ، بل أمكن فلنفرض وجوده
فيه فالحالة التي فرضناها أنّها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك ، بل هي حال الفعل
هذا خلف محال ، لأنّ كون المتقدّم على الفعل مقارنا له يستلزم اجتماع النقيضين
أعني كونه متقدّما وغير متقدّم ، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال فلا يكون ممكنا
، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات ، وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله
__________________
فلا تكون القدرة
عليه موجودة حينئذ ، ولا شكّ أنّ وجود القدرة بعد الفعل ممّا لا يتصوّر ، فتعيّن
أن تكون موجودة معه وهو المطلوب ، هذا دليل الأشاعرة على هذا المدّعى ، وأما ما
ذكر من لزوم المحالات بأنّ الكافر مكلّف بالايمان بالإجماع فإن كان قادرا على
الايمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدّمة على الفعل وهو خلاف مذهبهم وإن لم
يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق ، فجوابه أنّا نختار أنّه غير قادر على الايمان
حال الكفر ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق ، لأنّ شرط صحّة التكليف عندنا أن يكون
الشيء المكلّف به متعلقا للقدرة ، أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة ، وهذا الشرط حاصل
في الايمان ، فانّه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه لكن تركه بالتّلبس بضدّه الذي
هو الكفر مقدور له حال كونه كافرا «انتهى».
أقول
قد أجاب أصحابنا
عن الدّليل الذي نقله عن الأشاعرة أوّلا بالنقض بالقدرة القديمة فان قيل : لا يلزم
من وجود القدرة القديمة قبل الفعل وجود تعلّقها قبله ، فالقدرة القديمة تعلّقها مع
الفعل ومقدورية الفعل إنّما تجب في زمان تعلّق القدرة به ، قلنا : فليجز مثل ذلك
في القدرة الحادثة وهو أن تكون نفسها موجودة قبل الفعل وتعلّقها مقارنا للفعل ،
وثانيا بالحل وهو تحقيق معنى قوله : حصول الفعل قبل وقوعه محال بانّه قد يراد به
معنيان ، الاول أنّ حصول الفعل في زمان قبل زمان الفعل مشروطا بشرط كونه قبله محال
، والثاني أنّ حصول الفعل في زمان قبل زمان حصوله لكن غير مشروط بشرط كونه قبله
محال ، ولا اشتباه في استحالة المعنى الأوّل لكنّه لا ينافي المقدورية وإمكان حصول
الفعل من القادر ، لأنّ هذا المحال لم يلزم من وجود الفعل في ذلك الزّمان وحده
حتّى يلزم امتناعه قبله فيه بل منه مع فرض كون
ذلك الزّمان قبل
زمان الفعل مقارنا لعدمه ، فيكون هذا المجموع محالا دون الفعل وحده ، بل هو ممكن
في ذاته قطعا ، فلا يتّصف بالامتناع الذّاتي ، بل الامتناع بالغير ، وذلك لا ينافي
تعلّق القدرة به ، والمعنى الثّاني غير محال ، فإنّه يمكن أن يزول عن ذلك الزّمان
وصف كونه قبل زمان وقوع الفعل ويحصل بدله وصف كونه زمان وقوع الفعل فلا يلزم
اجتماع النّقيضين ، وهذا كما يقال : قعود زيد محال بشرط قيامه إذ يمتنع كونه قائما
وقاعدا ، وليس بمحال في زمان قيامه ، إذ يمكن أن ينعدم القيام ويوجد بدله القعود
هذا ، وأما ما ذكره في جواب لزوم المحالات : من أنّ شرط صحّة التّكليف عندنا أن
يكون الشيء المكلف به متعلّقا للقدرة أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة إلخ فمردود
بأنّه مبنيّ على أنّ القدرة متعلّقة بأحد الطرفين وقد مرّ ما فيه فتذكر.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها الاستغناء عن القدرة ، لأنّ
الحاجة إلى القدرة ، إنّما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود وهذا إنّما يتحقّق
حال العدم ، لأنّ حال الوجود هو حال الاستغناء عن القدرة ، لأنّ الفعل حال الوجود
يكون واجبا فلا حاجة إلى القدرة ، على أنّ مذهبهم أنّ القدرة غير مؤثّرة البتّة ،
لأنّ المؤثّر في الموجودات كلّها هو الله تعالى ، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من
باب الفضول ، لأنّه خلاف مذهبهم «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : الحاجة إلى
القدرة اتصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار حتّى يصح كونه محلا للثّواب والعقاب ،
إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل لا يتحقّق له صورة الاختيار ، والله تعالى
حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى ، ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثّرة في الفعل
الاستغناء عنها من جميع الوجوه ، ولا يلزم أن
يكون البحث عنها
فضولا «انتهى».
أقول
من البيّن أنّ
الصّفة التي يخرج الاتّصاف بها العبد من الاضطرار في الفعل يجب أن تكون مؤثّرة في
الفعل وإلّا لكانت لغوا ضائعا ، وأيضا إذا لم تكن القدرة مؤثّرة كيف يعلم حدوثها
مع الفعل ، وكيف يتحقّق بها صورة الاختيار مع أنّ القول بالصّورة لا معنى له ،
وأيضا قد مرّ أنّ القدرة صفة تؤثّر على وفق الإرادة ، وقال شارح العقائد : إنّها صفة أزليّة تؤثّر في المقدورات عند تعلّقها بها ،
فإذا لم تكن قدرة العبد مؤثّرة لم تكن قدرة ، وأما ما ذكره من أنّ الله تعالى حكيم
يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى ، ففيه أنّ المصنّف لم يقل : إنّ مصلحة خلق القدرة
منحصرة في التأثير حتّى يتّجه أن يقال : يحتمل أن يكون للحكيم في خلقه مصالح أخرى
لا تحصى ، بل الكلام في أنّ المصلحة في خلق القدرة في العبد كما يدلّ عليه مفهوما
هو التّأثير في الفعل ، فإذا لم تكن مؤثّرة لم تكن حاجة في ذلك إلى خلقها ، ويكون
البحث عنها من هذه الجهة فضولا ، وهذا لا ينافي اعتداد البحث عنها من جهة أخرى
ولمصلحة أخرى ، وهل الذي ذكره النّاصب إلّا مثل أن يقال : مثله أنّ الفرس مخلوقة
لمصلحة الكتابة ، فإذا قيل له : إنّ هذه المصلحة لا تظهر في الفرس ، فيكون القول
بكون تلك مصلحة خلقه لغوا يجيب بأنّه يجوز أن يكون في خلق الفرس مصالح أخرى لا
تحصى وفساده ممّا لا يخفى ، هذا. ويقال لهم : أليس تأثير القدرة في الفعل آكد من
تأثير الآلة؟ فلا بدّ من بلى ، فيقال : إذا كان فاقد الآلة وتأثيرها عندكم يعذر في
التّرك وجب مثله في فاقد القدرة وتأثيرها ، فيكون الكافر معذورا في ترك الايمان ،
ويقال لهم؟ في قولهم : بعدم تقدّم القدرة على الفعل : متى يقدر
__________________
أحدنا على
الانتقال من الشّمس إلى الظلّ إن قلتم يقدر وهو في الشّمس تركتم مذهبكم ، وإن قلتم
: وهو في الظلّ فأىّ حاجة إلى القدرة حينئذ ، فان قالوا يقدر حالة الانتقال قلنا :
ليس بين كونه في الشّمس وكونه في الظل حالة تسمى حالة الانتقال وتكون متقدّمة على
أحدهما متأخرة عن الآخر ، ويقال لهم : ما عندكم في رجل قتل نفسه أقدر على قتلها
وهو حىّ؟ فهو الذي نقول : أو وهو ميّت ، فكيف يقدر الميّت على أن يقتل؟ ثمّ إذا
كان قد حصل الموت بالقتل فعلى أىّ شيء قدر؟.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها إلزام حدوث قدرة الله أو قدم
العالم ، لأنّ القدرة مقارنة للفعل وحينئذ يلزم أحد الأمرين ، وكلاهما محال لأنّ
قدرة الله تعالى تستحيل أن تكون حادثة ، والعالم يمتنع أن يكون قديما ، ولأنّ
القدم مناف للقدرة ، لأنّ القدرة إنّما تتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فإذا كان الفعل
قديما امتنع استناده إلى القادر ، ومن اعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد
، والكلام في أحكامها مع أنّ القدرة غير مؤثّرة في الفعل البتّة ، وأنّه لا مؤثّر
غير الله ، فأيّ فرق بين القدرة واللّون والمقدار وغيرها بالنسبة إلى الفعل إذا
كانت غير مؤثّرة ولا مصحّحة لتأثيره ، وقال أبو علي بن سينا
ردّا عليهم : لعلّ القائم لا يقدر على القعود «انتهى».
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : حاصل هذا
الاعتراض أنّ كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره تعالى
، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا ، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته أو
من قدم قدرته قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزليّة إجماعا متعلّقة في الأزل
بمقدوراته ، فقد ثبت تعلّق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في
القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا ، وأجاب شارح المواقف عن هذا الاعتراض
بأنّ القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز
بقاؤها عندنا ، فلا يلزم من جواز تقدّمها على الفعل جواز تقدّم حادث
عليه ، ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل بالفعل تعلّقا معنويّا لا يترتّب
عليه وجود الفعل ولها تعلّق آخر حال حدوثه تعلقا حادثا موجبا لوجوده ، فلا يلزم من
قدمها مع تعلقها المعنويّ قدم آثارها ، فاندفع الاشكال بحذافيره
__________________
وأمّا ما ذكره من
التعجّب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنّها غير مؤثّرة في الفعل ، فبالحرى
أن يتعجّب من تعجّبه لأنّ القدرة صفة حادثة في العبد وهي من صفات الكمال ، فالبحث
عنها لكونها من الاعراض والكيفيّات النفسانيّة وعدم كونها مؤثّرة في الفعل من جملة
أحوالها المحمولة عليها ، فلم لم يباحث عنها؟ ، وأما قوله : أن لا فرق بينها وبين
اللون فقد أبطلنا هذا القول فيما سبق مرارا بأنّ اللّون لا نسبة له إلى الفعل ،
والقدرة تخلق مع الفعل ليترتّب على خلقها صورة الاختيار ويخرج بها العبد من الجبر
المطلق ، ويترتّب على فعله الثّواب والعقاب والتّكليف والله أعلم ، قال الامام
الرّازي : القدرة تطلق على مجرّد القوّة التي هي مبدأ الأفعال
المختلفة الحيوانيّة ، وهي القوّة العضليّة التي هي بحيث متى انضمّت إليها إرادة
أحد الضدّين حصل ذلك الضد ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر حصل ذلك الآخر ،
ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين سواء ، وهي قبل الفعل والقدرة أيضا تطلق على
القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدّين معا وإلا
اجتمعا في الوجود ، بل هي إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، وذلك
لاختلاف الشّرائط ، وهذه القدرة مع الفعل ، لأنّ وجود المقدور لا يتخلّف عن المؤثر
التامّ ، ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ولذلك
حكم بأنّها مع الفعل وأنّها لا تتعلّق بالضدّين والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرّد
القوة العضليّة فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلّقها بالأمور المضادّة ، فهذا
وجه الجمع بين المذهبين ، وبهذا يخرج جواب أبي علي ابن سينا حيث قال : لعلّ القائم لا يقدر على
القعود فانّه غير قادر بمعنى أنّه لم
__________________
يحصل له بعد
القوّة المستجمعة لشرائط التأثير وهو قادر بمعنى أنّه صاحب القوّة العضليّة انتهى.
أقول
وبالله التوفيق :
أنّ جواب شارح المواقف ممّا ذكر الشّارح الجديد للتجريد أيضا من غير إيراد عليه ، وكنت أظنّه واردا
إلى الآن ، وقد سنح لي عند النظر إلى هذا المقام أنّه مردود ، لأنّ كلام
المصنّف مبنيّ على إلزام آخر للأشاعرة ، بيانه أنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ صفات الله
تعالى موجودات زائدة قائمة به وقد صرّحوا بأنّها ليست جواهر حذرا عن أن يلزمهم شرك
النصارى القائلين بالذّوات القديمة فلا بدّ أن تكون أعراضا لانحصار الموجود في
الجوهر والعرض فالتزام التفرقة بين القدرة الالهيّة وقدرة العبد بكون أحدهما عرضا
لا يجوز بقاؤها دون الأخرى تحكم قصدوا به الفرار عن الإلزام ، فظهر أنّ اللازم لهم
في الحقيقة أمران ، إحداهما ما ذكرناه من التحكّم البارد ، والآخر ما ذكره المصنّف
من الإلزام الوارد ، فحال النّاصب في استفادته من كلام شارح المواقف مع أداء ذلك
إلى تقوية مطلوبه وتضعيف مهروبة كحال الحمار الذي أشار إليه الشاعر بقوله. شعر :
ذهب الحمار ليستفيد لنفسه
|
|
قرنا فآب وما له
أذنان
|
وأما ما زعمه من
أنّ كلام الرّازي يصير وجها للجمع بين المذهبين ففاسد ، إذ يتوجّه عليه ما اعترض
به صاحب المواقف أيضا ، وحاصله أنّ الامام إن أراد بالقدرة
__________________
القدرة القديمة
فليست مستجمعة لشرائط التأثير ، وإن أراد الحادثة فليست مؤثّرة ، واما ما ذكره من
أنّه يخرج بهذا جواب أبي عليّ بن سينا فهو مدخول بما يتّصل بذلك من كلام أبي علي
لتصريحه فيه بأنّ القدرة ليست إلا القوّة التي يكون لها التأثير بالقوّة ، وردّه
على من فسّره بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، فكيف يردّ عليه بهذا التفسير؟
وهو الحكيم الإسلامي المقنّن للأوضاع والقوانين ، وقد بالغ في ذلك حتّى حكم بالعمى على
القائل به من بعض الأوائل ، والذين وافقوهم من الأشاعرة حيث قال : في فصل القوّة
والفعل والقدرة والعجز من إلهيّات الشّفا : وقد قال بعض الأوائل وغاريقون ، منهم أنّ القوّة تكون مع الفعل ولا تتقدّم وقال بهذا
أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير ، فالقائل بهذا القول كأنّه يقول : إنّ القاعد
ليس يقوى على القيام ، أى لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم ، فكيف يقوم؟ وأنّ
الخشب ليس في جبلّته أن ينحت منه باب فكيف ينحت؟ وهذا القائل لا محالة غير قوي على
أن يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا ، فيكون بالحقيقة أعمى انتهى ، وايضا ما اشتهر
من أنّ القدرة صفة تؤثر (مؤثرة خ ل) على وفق الإرادة وكذا التفسير الذي نقلناه
سابقا عن شارح العقائد يدفع وقوع إطلاقها على ما استجمع
__________________
الشرائط ، ويشعر
بأنّه اصطلاح جديد وتمحّل عنيد كحيل عمرو بن العاص ارتكبوه للخلاص عن تشنيع
الخواصّ ولات حين مناص .
قال المصنّف رفع الله درجته
المطلب الرابع عشر في أنّ القدرة صالحة
للضدّين
، ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة ، فانّهم قالوا القدرة غير صالحة للضدّين
، وهذا مناف لمفهوم القدرة فانّ القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل وإذا شاء أن
يترك ترك ، فلو فرضنا القدرة على أحد الضدّين لا غير لم يكن الآخر مقدورا ، فلم
يلزم من مفهوم القادر أنّه إذا شاء أن يترك ترك «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : مذهب
الأشاعرة أنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالضدّين بناء على كون القدرة عندهم مع
الفعل لا قبله ، بل قالوا : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بمقدورين مطلقا سواء كان
متضادّين أو متماثلين أو مختلفين لا معا ولا على سبيل البدل بل القدرة الواحدة لا
تتعلّق إلا بمقدور واحد ، وذلك لأنّها مع المقدور ولا شكّ أنّ ما نجده عند صدور
أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر ، ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من
الاماميّة أنّ قدرة العبد تتعلّق بجميع مقدوراته المتضادّة وغير المتضادّة وأنا
أقول : ولعلّ النّزاع لفظيّ لا على الوجه الذي ذكره الامام الرّازي ، فإنّ الأشاعرة يجعلون كلّ فرد من أفراد القدرة الحادثة
متعلقا بمقدور واحد وهو الكائن عند حدوث الفعل فكلّ فرد له متعلّق ، والمعتزلة
يجعلون القدرة مطلقا متعلّقة بجميع المقدورات ، وهذا لا ينافي جعل كلّ فرد ذا
تعلّق واحد ، والمعتزلي لا يقول
__________________
إنّ الفرد من
أفراد القدرة الحادثة إذا حدث وحصل منه الفعل فعين ذلك الفرد لا يتعلّق بضدّه بل
يقول : إنّ القدرة الحادثة مطلقا تتعلّق بالضدّين ، وهذا لا ينفيه الأشاعرة ،
فالنّزاع لفظيّ تأمّل وأما ما ذكره من أنّه يوجب عدم كون القادر قادرا لأنّه إذا
لم تصلح القدرة للضدّين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو الترك ، فيكون
مضطرّا لا قادرا ، فالجواب عن ذلك أنّه إن أريد بكونه مضطرّا أنّ فعله غير مقدور
له فهو ممنوع ، وإن أريد به أنّ مقدوره ومتعلّق قدرته متعيّن وأنّه لا مقدور له
بهذه القدرة سواه ، فهذا عين ما ندّعيه ونلتزمه ولا منازعة لنا في تسميته مضطرّا ،
فانّ الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ، ألا ترى أنّ من أحاط به
بناء من جميع جوانبه بحيث يعجز عن التقلب من جهة إلى أخرى فانّه قادر على الكون في
مكانه بإجماع منّا ومنهم مع أنّه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره «انتهى».
أقول
قد مرّ أنّ القول
بأنّ القدرة مع الفعل مهدوم ، فالبناء عليه يكون ملوما مذموما ، وأمّا ما أظهر
التفرّد به من جعل النّزاع لفظيّا فساقط جدّا ، وهو دليل كونه متفرّدا فيه وذلك
لأنّ مبناه على ما خان فيه النّاصب أوّلا حيث قيّد القدرة بالواحدة وبدّل
صلاحيّتها للضّدّين بتعلقها بهما ، فانّ المسألة على وجه عنون به المصنّف هاهنا
وغيره في غيره هو أنّ القدرة صالحة للضدّين ، وقال النّاصب عند تقرير المبحث أقول
: مذهب الأشاعرة أنّ القدرة صالحة للضدّين ، وقال النّاصب عند تقرير المبحث أقول :
مذهب الاشاعرة أنّ القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدّين ، ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ
الكلام في أصل القدرة بلا قيد الواحدة وفي صلاحيّتها دون تعلقها كلام شارح العقائد
في مسألة الاستطاعة حيث قال : إنّ القدرة صالحة للضّدّين عند أبي حنيفة حتّى أنّ القدرة المصروفة
__________________
__________________
إلى الكفر هي
بعينها القدرة التي تصرف إلى الايمان لا اختلاف إلّا في المتعلّق وهو لا يوجب
الاختلاف في نفس القدرة إلخ ، وهذا موافقة من أبي حنيفة مع المعتزلة في موضعين ،
أحدهما المسألة التي نحن فيها وهو ظاهر ، والثاني مسألة بقاء الأعراض فانّ في قوله
هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الايمان تسليم لاستقامة بقاء الأعراض كما ذهبت
إليه المعتزلة وهو معتزلي عند التّحقيق ، ولهذا قلّده المتأخّرون من
__________________
المعتزلة في الفروع
الفقهيّة ومنهم الزّمخشري
الحنفي المعتزلي وبعد الاطلاع على
__________________
__________________
هذه الخيانة التي
ارتكبها النّاصب أوّلا في مقام الإجماع يظهر للنّاظر فساد ما فرّعها عليه في مقام
التّفصيل ، ولعلّه أخذ ذلك من كلام نقله شارح العقائد بعد الكلام الذي نقلناه عنه
قبيل ذلك ، ثمّ ردّ عليه ، والنّاصب غير ذلك الكلام نحو تغيير على وفق هواه ، وترك
ردّه لمخالفته لما أهواه ، قال الشارح : فان أجيب بأنّ المراد أنّ القدرة وإن صلحت
الضّدّين لكنّها من حيث التّعلّق بأحدهما لا تكون إلا معه حتّى أنّ ما يلزم
مقارنتها للفعل هي القدرة المتعلقة بالفعل وما يلزم مقارنتها للتّرك هي القدرة
المتعلّقة بالتّرك ، وأما نفس القدرة فقد تكون متقدّمة متعلّقة بالضّد ، قلنا :
هذا لا يتصوّر فيه نزاع ، بل هو لغو من الكلام انتهى ، وأما ما ذكره من الجواب عن إلزام المصنّف
فمردود من وجهين ، أحدهما أنّ المصنّف قد استدلّ على ما ذكره بمنافاته لمفهوم
القدرة والنّاصب لم يتعرّض له وحرّر كلام المصنّف على وجه آخر واعترض عليه
بالتّرديد الذي ذكره ، وحيث كان الاعتراض على كلام نفسه فحصر الاعتراض فيما ذكره
ممنوع بل يتوجّه عليه من الفساد والخلل ما لا يحصى ، وثانيهما أنّ ما ذكره من
التنوير مظلم ، وذلك لأنّ من أحاط به البناء من جميع جوانبه إن كانت تلك الإحاطة
المستلزمة لعدم الانفكاك بفعل نفسه فيصدق عليه أنّه كان قادرا قبل ذلك على
الانفكاك من ذلك المضيق ، فتكون قدرته صالحة للضدّين وإن كان بإجبار غيره وإدخاله
إياه في ذلك المضيق ، فحيث كان مسلوب القدرة عند الإيقاع في ذلك المضيق لا يصدق
__________________
عليه أنّه كان
قادرا على شيء فلا يصدق عليه أنّه قادر على الكون في ذلك المضيق لأنّ العرف إنّما
يحكم على قدرته إذا كان قبل ذلك قادرا على الكون وعدمه والمفروض خلافه ، فقوله
إنّه قادر على الكون في مكانه كذب كما لا يخفى ، على أنّ دعوى الإجماع في ذلك
مردود بما ذكره الرّازي في بعض كتبه حيث قال : عند عدّ الاختلافات الواقعة بين
المعتزلة والأشاعرة في هذه المسألة ، الاختلاف الثّاني أنّ الممنوع من جميع أضداد
الشّيء هل يكون ممنوعا من ذلك الشيء وذلك كمن أحاط به بناء محكم من جميع جوانبه
مانع له من الحركة إلى جميع الجهات هل يكون ممنوعا من السكون في ذلك المكان؟ فالذي
ذهب إليه الجبائي المنع واستدلّ على ذلك بثلاثة مسالك ، الأوّل أنّه لو لم
يكن المحاط به ممنوعا من السّكون لكان مع قدرته عليه متمكّنا منه ، واللازم ممتنع
، وبيان الملازمة أنّه إذا كان قادرا على السّكون وقد عدم كلّ مانع فالتمكّن لازم
بالضّرورة ، أمّا بيان انتفاء اللازم فهو أنّ المتمكّن من فعل الشيء يستدعي عندنا
أن يكون متمكنا من فعله وتركه ، والسكون غير متمكن من تركه بل هو مضطر إليه على ما
لا يخفى «انتهى»
__________________
قال المصنف رفع الله
درجته
المطلب الخامس عشر في الإرادة ذهبت
الاماميّة وجميع المعتزلة إلى أنّ الإنسان مريد لأفعاله ، بل كلّ قادر فانّه مريد
لأنّ الإرادة صفة تقتضي التّخصيص وأنّها نفس الدّاعي ، وخالفت الأشاعرة في ذلك
فأثبتوا صفة زائدة عليه وهذا من أغرب الأشياء وأعجبها ، لأنّ الفعل إذا كان صادرا
عن الله ومستندا إليه وأنّه لا مؤثّر إلّا الله فأىّ دليل يدلّ حينئذ على ثبوت
الإرادة وكيف يمكنهم ثبوتها لنا؟ لأنّ طريق الإثبات هو أنّ القادر كما يقدر على
الفعل كذلك يقدر على التّرك ، فالقدرة صالحة للإيجاد والتّرك ، وإنّما يتخصّص أحد
المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التّابع ،
فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سدّ عليهم ما علم وجوده بالضرورة ، وهو القدرة والإرادة
فلينظر العاقل المنصف من نفسه هل يجوز له اتباع من ينكر الضّروريات ويجحد
الوجدانيات وهل يشكّ عاقل في أنه قادر مريد؟ وأنه فرق بين حركاته الاختيارية (الارادية
خ ل) وحركته الجمادية؟ وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربه وهل
تتمّ له المحاجة عند الله تعالى بأني اتبعت هؤلاء ولا يسئل يومئذ كيف قلّدت من
تعلم بالضرورة بطلان قوله؟ وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز
مطلقا فكيف لأمثال هؤلاء؟ فما يكون جوابه غدا لربّه؟ (وَما عَلَيْنا إِلَّا
الْبَلاغُ)
، وقد طوّلنا في هذا
الكتاب ليرجع الضّال عن زلله ، ويستمر المستقيم على معتقده.
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : هذا المطلب
لا يتحصّل مقصوده من عباراته الرّكيكة ، والظاهر أنّه أراد أنّ الأشاعرة لا يقدرون
على إثبات صفة الإرادة لأنّ إسناد الفعل إلى الله وأنّه لا مؤثّر إلا هو يوجب عدم
إثبات صفة الإرادة ، وقد علمت فيما سلف بطلان هذا ، فانّ وجود القدرة والإرادة في
العبد معلوم بالضرورة ، وكونهما غير مؤثّرتين في الفعل لا يوجب عدم ثبوتهما في
العبد كما مرّ مرارا والله أعلم ، وما ذكره من الطّامّات قد كرّره مرّات ، ومن
كثرة التطويل الذي كلّه حشو حصل له الخجل وما احسن ما قلت في تطويلاته شعر :
وقد طوّلت
والتطويل حشو
|
|
وفيما قلته نفع
قليل
|
وقالوا الحشو لا
التطويل لكن
|
|
كلامك كله حشو
طويل
|
أقول
قد بيّنا سابقا
بطلان ما ذكره الناصب فيما سلف على وجه لا مزيد عليه ولا تتوجّه مناقشة إليه
فتذكر. وأما ما نسبه إلى المصنّف من الطامّات وإيراد الحشو في العبارات فهو إنّما
يليق بأصحابه الحشو الملقّبين بالحشويّة ، وحاشا عن أن يوجد في كلام المصنّف العلم العلّامة حشو أو
تطويل لا يؤدّي إلى طائل كما لا يخفى على فصيح عن التعصّب مائل ، وإنّما نسبه الناصب إلى التطويل لبعده عن فهم كلام أهل
التحصيل وكونه عن المصنّف في فزع وعويل مع أنّ في شعره المبرود
__________________
ما لا يخفى من
الحشو المردود ، أما في البيت الأوّل فلأنّ قوله التطويل حشو غير صحيح لما حقّق من مغايرتهما في
علم المعاني ، فيكون تطويلا بلا حشوا وأما في البيت الثاني فلأنّ قوله طويل حشو لا
يناسب مقصوده ، لأنّ المردود هو التطويل لا مطلق الكلام الطويل ، وها أنا أقول في
مقابلة ما أنشده من شعره الحشو الذّميم مخاطبا إيّاه بما يستحقّه من الطعن والشّتم
الأليم شعر :
أراك على شفا
جرف عظيم
|
|
بما أوعيت جوفك
من قضيم
|
لعلّك أنت لم
ترزق أديبا
|
|
لكي يعركك عركاللأديم
|
وأنت الحشو تعزى
الحشو جهلا
|
|
إلى عالى كلام
من عليم
|
براعته كوحى من كلام
|
|
يراعته عصا ليد الكليم
|
أما أنت الذي
أكثرت لحنا
|
|
وقد تنعق نعيقا كالبهيم
|
وكم ألفت من لفظ
ركيك
|
|
وكم رتّبت من
قول عقيم
|
لأوهن من بيوت
العنكبوت
|
|
وأهون من قوى
العظم الرّميم
|
__________________
لتبلع دائما من
جوع جهل
|
|
فضولا قاءه طبع اللّئيم
|
تعيد القول من
سلف إلى من
|
|
مرارا ردّه ردّ
المليم
|
كفاية أنّه في
سالف الدّهر
|
|
جرى مجرى الكلام
المستقيم
|
كمن يأكل خرى من
غاية الحمق
|
|
لما قد كان خبزا
في القديم
|
لقد أنشدت
وأنشدنا جزاء
|
|
فذق ما أنت
بالعزّ الكريم
|
جزاء عاجل هذا
ولكن
|
|
ستصلى آجلا نار
الجحيم
|
لقد هاجت لدين
الله نفسي
|
|
فعذري واضح عند
الكريم
|
وماج الطبع مع
حلمي وحسبي
|
|
معاذ الله من
غضب الحليم
|
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب السادس عشر في المتولد ، ذهبت
الامامية إلى أنّ المتولد
من أفعالنا مستند إلينا ، وخالف أهل السنّة في ذلك وتشعبّوا في ذلك وذهبوا كلّ
مذهب
__________________
فزعم معمّر
أنّه لا فعل للعبد إلّا الإرادة وما يحصل بعدها فهو من طبع المحل وقال بعض
المعتزلة : لا فعل للعبد إلا الفكر ، وقال النظام
لا فعل للعبد إلّا ما يوجده في محلّ قدرته وما تجاوزها فهو واقع بطبع المحلّ ،
وذهبت الاشاعرة إلى أنّ المتولد من فعل الله ، وقد خالف الكلّ ما هو معلوم
بالضّرورة عند كلّ عاقل فانّا نستحسن المدح والذّم على المتولد كالمباشر للكتابة
والبناء والقتل وغيرها ، وحسن المدح والذّم فرع على العلم بالصّدور عنّا ، ومن
كابر في حسن مدح الكاتب والبناء المجيدين في صنعتهما المتبوعين فيهما (المتبرعين
بها خ ل) فقد كابر
__________________
مقتضى عقله «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : اعلم أنّ
المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتّبا قالوا بالتّوليد : وهو
أن يوجد فعل لفاعله فعلا آخرا نحو حركة اليد وحركة المفتاح والمعتمد في إبطال
التّوليد عند الأشاعرة استناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء وأمّا ترتّب
المدح والذّمّ للعبد فلأنّه محل للفعل ومباشر وكاسب له وكذا ما يترتب على فعله ،
وإن أحدثه الله تعالى بقدرته فلا يلزم مخالفة الضّرورة كما مرّ مرارا «انتهى».
أقول
ما اعتمد عليه
مهدوم بما بيّنّاه مرارا من استناد بعض الممكنات كقبائح الأفعال إلى العبد دونه
تعالى ، وبما أوضحناه من إبطال القول بالكسب وأنّه لا يؤدّي إلى طائل ولا يرجع إلى
حاصل فتذكر واستقم كما أمرت.
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب السابع عشر : في التّكليف ، لا
خلاف بين المسلمين في أنّ
الله كلّف
__________________
عباده فعل الطاعات
واجتناب المعاصي ، وأنّ التّكليف سابق على الفعل ، وقالت الأشاعرة هاهنا مذهبا
غريبا عجيبا : وهو أنّ التّكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله وهذا يلزم منه محالات «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : لمّا ذهبت
الأشاعرة إلى أنّ القدرة مع الفعل والتّكليف لا يكون إلّا حال القدرة ، فيلزم أن
يكون التكليف مع الفعل ، وهذا شيء لزم من القول الأوّل «انتهى».
أقول
قد عرفت إبطالنا
للقول الأوّل ، فيلزم إبطال ما لزم منه من القول الثّاني والله المستعان.
قال المصنف رفع الله درجته
وهذا يلزم منه محالات ، المحال الاول أن
يكون التّكليف بغير المقدور ، لأنّ الفعل حالة وقوعه يكون واجبا والواجب غير مقدور
«انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : لا نسلّم
أنّ الواجب غير مقدور مطلقا ، بل ما أوجبته القدرة الحادثة فهو
__________________
مقدور لتلك القدرة
التي أوجبها ، وكذلك فعل العبد بعد الحصول ، فيكون مقدورا ، وإذا صار مقدورا تعلّق
به التكليف ولا محذور فيه «انتهى».
أقول
هذا المنع مكابرة
بل مخالف لإجماع العقلاء ، كيف ولو كان الواجب مقدورا لكان حركة المرتعش والسّاقط
من المنارة مثلا مقدورا أيضا وهو سفسطة لا تخفى.
قال المصنف رفع الله
المحال الثاني يلزم أن لا يكون أحد
عاصيا البتة ، لأنّ العصيان مخالفة الأمر ، فإذا لم يكن الأمر ثابتا إلا حالة
الفعل وحالة العصيان هي حال عدم الفعل فلا يكون مكلّفا حينئذ وإلا لزم تقدّم
التكليف على الفعل وهو خلاف مذهبهم ، لكنّ العصيان ثابت بالإجماع ونصّ القرآن ،
قال الله تعالى : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)
(وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً)
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ)
ويلزم انتفاء الفسق
الذي هو الخروج من الطاعة أيضا ، فلينظر العاقل لنفسه هل يجوز لأحد تقليد هؤلاء
الذين طعنوا في الضّروريّات فانّ كلّ عاقل يعلم بالضّرورة من دين النبيّ صلىاللهعليهوآله
سلم أنّ الكافر عاص وكذا الفاسق (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)
فأىّ سداد في هذا
القول المخالف لنصوص القرآن «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : الأمر
عندنا قديم أزليّ فكيف ينسب إلينا أنّ الأمر عندنا لم يكن ثابتا
__________________
إلا حالة الفعل ،
وأما قوله : حالة العصيان حال عدم الفعل فنقول : ممنوع لأنّ الأمر إذا توجّه إلى
المكلّف وتعلّق به فهو إمّا أن يفعل المأمور أو لا يفعل ، فان فعل المأمور فهو
مطيع ، وإن فعل غيره فهو عاص ، فالطاعة والعصيان يكونان مع الفعل ، والتّكليف حاصل
معه ، فكيف يصحّ أن يقال : إنّ العصيان حال عدم الفعل والعصيان صفة الفعل وحاصل
معه؟ والحاصل أنّ عصيان الأمر مخالفة وإذا صدر الفعل عن المكلّف فان وافق الأمر
فهو طاعة وإن خالفه فهو عصيان ، فالعصيان حاصل حال الفعل ولا يلزم أصلا من هذا
الكلام أن لا يكون العصيان ثابتا ، وأما قوله : والعصيان ثابت وإقامة الأدلة على
هذا المدّعي فهو من باب طامّاته وإقامته الدّلائل الكثيرة على مدّعى ضروري في
الشّرع متّفق عليه «انتهى».
أقول
يظهر من كلام
الناصب هاهنا أنّه جاهل بمذهبه أيضا ، فانّ الأمر الذي ذهب أصحابه إلى قدمه هو
الأمر المعنوي الذي لا معنى له كما سيجيء تحقيقه في مسائل اصول الفقه دون الأمر
التنجيزي ، والتكليف إنّما هو بالأمر التنجيزي لظهور أنّ المكلّف لا اطلاع له على
الأمر المعنوي الأزلي ، وأما ما ذكره من منع ما زعمه قول المصنّف وهو أنّ حالة
العصيان حالة عدم الفعل فهو منع وارد ، لكن نعلم قطعا أنّ الناصب خان في النّقل ،
وإنّما قول المصنّف إنّ العصيان حال عدم الأمر ، وهذا هو الذي يرتبط به باقي كلام
المصنّف ولم يقبل المنع كما لا يخفى ، وكيف يقول فاضل فضلا عن المصنّف العلّامة :
إنّ العصيان حال عدم الفعل مع أنّ العصيان ليس إلا فعل المعصية كما ذكره الناصب
أيضا ، وأما إقامة المصنّف الأدلّة الكثيرة على المدّعى الضّروري ، فضروريّ له
لأنّ الكلام مع من كان من شأنّه المكابرة على
الضّروري ، فيلزمه
سوق الكلام على قدر فهمه ، والتكلّم معه على مقدار عقله لما قد قيل شعر :
صد پرده پست
كرده ام آهنگ قول خويش
|
|
تا بو كه اين
سخن بمذاق تو در شود
|
قال المصنف رفع الله درجته
الثالث : لو كان التكليف حالة الفعل
خاصّة لا قبله لزم إمّا تحصيل الحاصل أو مخالفة التقدير ، والتّالي باطل بقسميه
بالضرورة فالمقدّم مثله ، بيان الشرطيّة أنّ التكليف إمّا أن يكون بالفعل الثّابت
حالة التكليف أو بغيره ، والأوّل يستلزم تحصيل الحاصل ، والثّاني يستلزم تقدّم
التكليف على الفعل وهو خلاف الفرض ، وأيضا هو المطلوب وأيضا يستلزم التكرار «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : نختار أنّ
التكليف بالفعل الثّابت حالة التكليف ، قوله يستلزم تحصيل الحاصل قلنا : تحصيل
الحاصل بهذا التحصيل ليس بمحال وهاهنا كذلك ، لأنّ التكليف وجد مع القدرة والفعل
فهو حاصل بهذا التحصيل ، فلا محذور «انتهى».
أقول
يكفي في إظهار
عناد النّاصب كلام الفاضل البدخشي الحنفي في شرحه للمنهاج
__________________
حيث قال : أقول :
والحقّ في هذه المسألة أنّ التّكليف قبل المباشرة وإلا لزم أن لا يكون الكافر حال
كفره مكلّفا بالايمان وتارك الصّلاة بالصّلاة بعد دخول الوقت ، وأن لا يذمّ تارك
المأمور به أصلا : وقال الشارح العضدي فرارا عن الزّحف جاعلا المناقشة لفظيّة : لا خلاف في ثبوت التكليف بالفعل
قبل حدوثه وينقطع بعد الفعل ، وإنّما الخلاف في أنّه هل هو باق حال حدوثه لا ينقطع
أم لا إلخ ، وأما ما ألزمه المصنّف من لزوم تحصيل الحاصل فهو ممّا ذكره الشارح
العضدي في هذا المقام بعبارة أخرى ، وهي لزوم إيجاد الموجود ، وأجاب عنه الفاضل
التفتازاني والشارح البدخشي للمنهاج بما ذكره النّاصب هاهنا ظنّا منه
أنّه وجد تمرة الغراب
__________________
أو مسّ عرب
الأتراب مع أنّه غير متوجّه على عبارة الكتاب ، وذلك لأنّ اللازم من
كون التّكليف بالفعل الثابت الموجود حال التكليف كما ذكره المصنّف هو تحصيل الحاصل
الثابت بتحصيل سابق على هذا التحصيل لا بنفس هذا التحصيل كما لا يخفى ، وسيجيء
لهذا مزيد إيضاح في المسائل الاصولية إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الثامن عشر : في شرائط التكليف :
ذهبت الإماميّة إلى أنّ شرائط التكليف
__________________
ستّة الاول وجود
المكلّف
لامتناع تكليف المعدوم ، فانّ الضرورة قاضية بقبح أمر الجماد وهو إلى الإنسان أقرب
من المعدوم ، وقبح أمر الرّجل عبيدا يريد أن يشتريهم وهو في منزله وحده ويقول : يا
سالم قم ، ويا غانم كل ، ويعدّه كلّ عاقل سفيها وهو إلى الإنسان الموجود أقرب ،
وخالفت الاشاعرة في ذلك فجوّزوا تكليف المعدوم ومخاطبته والاخبار عنه فيقول الله
تعالى : في الأزل (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)
ولا شخص هناك ويقول (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً)
ولا نوح هناك ، وهذه
مكابرة في الضرورة «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عرفت
جواب هذا في مبحث إثبات الكلام النفساني وأنّ الخطاب موجود في الأزل قبل وجود
المخاطبين بحسب الكلام النفساني ويحدث التعلّق عند وجودهم ولا قبح في هذا ، فانّ
من زوّر في نفسه كلاما ليخاطب به العبيد الذين يريد أن يشتريهم بأن يخاطبهم بعد
الاشتراء لا يعدّ سفيها ، ثم ما ذكر أنّ الأشاعرة
__________________
جوّزوا تكليف
المعدوم ، فهذا ينافي ما أثبته في الفصل السابق ، أنهم يقولون : إنّ التكليف مع
الفعل ، وليس قبله تكليف ، فإذا كان وجود التكليف عند الأشاعرة مع الفعل ، فهل
يجوز عندهم أن يقولوا بتكليف المعدوم؟.
أقول
قد بينا عند إبطال
الكلام النفساني أنّ الكلام النفسي يرجع إلى العلم كما يدلّ عليه أيضا قول الناصب
هاهنا : فانّ من زوّر في نفسه كلاما ليخاطب به إلخ والكلام هاهنا في صحة الخطاب
والأمر والنهي ، فإثبات الكلام النفسي على الوجه المذكور لا يدفع قبح الأمر
والخطاب في الأزل ، ولو أريد بالكلام النفسي الأزلي ما يتحقق في ضمن الخطاب والأمر
فهو كالخطاب والأمر قبيح غير معقول أيضا كما لا يخفى ، ثم ما ذكره من أنّ ما نسب
المصنّف إلى الأشاعرة من جواز تكليف المعدوم ينافي ما نسبه إليهم سابقا من أنّ
التكليف مع الفعل مردود ، بأنّ غاية ما يلزم من ذلك توجّه اعتراض آخر على الأشاعرة
بتنافي أقوالهم لا على المصنّف ، نعم لو لم يثبت النقل في أحد الموضعين لتوجّه على
المصنّف أنّه خان في النّقل ، وهو بحمد الله تعالى بريء عن ذلك كما لا يخفى على
المتتبّع ، والله أعلم.
قال المصنّف رفع الله درجته
الثاني : كون المكلّف عاقلا فلا يصحّ
تكليف الرّضيع ولا المجنون المطبق ، وخالفت الأشاعرة في ذلك ، وجوّزوا تكليف هؤلاء
، فلينظر العاقل هل يحكم عقله بأن يؤاخذ المولود حال ولادته بالصّلاة وتركها وترك
الصّوم والحجّ والزّكاة ، وهل يصحّ مؤاخذة المجنون المطبق على ذلك انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : مذهب
الأشاعرة أنّ القلم مرفوع عن الصّبي حتّى يبلغ الحلم وعن المجنون
حتّى يفيق ، وما
ذكره افتراء محض كما هو عبادته في الافتراء والكذب والاختراع «انتهى».
أقول
ما ذكره مضمون
الحديث لا مذهب الأشاعرة والدّليل عليه أنّهم جوّزوا تكليف
المعدوم كما مرّ قبيل ذلك ، فلا يستبعد منهم القول بجواز تكليف الصّبي والمجنون بل
تكليفهما أولى بالجواز من تكليف المعدوم كما لا يخفى ، وكيف ينكر ذلك مع ذكر
احتجاجهم والردّ عليهم في كتب الأصول فانّهم احتجّوا بأنّ الأمر بالمعرفة إن توجّه
على العارف لزم تحصيل الحاصل ، وإلا ثبت المطلوب ، لاستحالة معرفة الأمر قبل معرفة
الآمر وبأنّ الغرامة تجب على الصبي والمجنون ولقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكارى) والجواب أنّ المعرفة واجبة عقلا لا بالأمر وإيجاب الغرامة
لا يستلزم الوجوب على المجنون والصّبي ، فانّ وجوب ضمان قيمة التّلف وثبوت الزكاة
في أموالهم لا يتعلّقان بأفعالهم وليس ذلك تكليفا لهم ، بل هو من باب الأسباب
والمكلّف بإخراجها الوليّ ، وصلاة المميّز غير مأمور بها من جهة الشّارع بل من جهة
الولي ، وخطابه مفهوم للصبيّ بخلاف خطاب الشّارع ، وبأنّ المراد بالسّكران هاهنا
من ظهرت منه مبادي الطرب ولم يزل عقله وهو الثّمل ، وأيضا قال الشّارح البدخشي للمنهاج عند قول المصنّف :
المسألة الثانية
__________________
لا يجوز تكليف
الغافل من أحال تكليف المحال : وأمّا القائلون بجواز التكليف بالمحال فقد اختلفوا
فيه ، فالجمهور ذهبوا إلى جوازه ومنعه بعضهم إلخ ، ولا ريب أنّ المجوّزين للتكليف
بالمحال هم الأشاعرة وتكليف الغافل يشمل تكليف الصبيان والمجانين ، فصحّ ما نسبه
المصنّف هاهنا إليهم كما لا يخفى.
قال المصنّف رفع الله درجته
الثالث فهم المكلّف ، فلا يصحّ تكليف من
لا يفهم الخطاب قبل فهمه ، وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فلزمهم التكليف بالمهمل
وإلزام المكلّف معرفته ومعرفة المراد منه مع أنّه لم يوضع لشيء البتّة ولا يراد
منه شيء أصلا ، فهل يجوز للعاقل أن يرضى لنفسه المصير إلى هذه الأقاويل؟ «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : مذهب
الأشاعرة أنّه لا يصحّ خطاب المكلّفين بما لا يفهمونه ممّا يتعلّق بالأمر والنّهى
، وما لا يتعلّق به اختلف فيه ، فذهب جماعة منهم إلى جواز المخاطبة بما لا يفهمه
المكلّف كالمقطّعات في أوائل السّور ، ولكن ليس هذا مذهب العامّة «انتهى».
أقول
كفى في صدق كلام
المصنّف كون ذلك مذهبا لجماعة من الأشاعرة كما اعترف النّاصب وأمّا التشنيع في ذلك
فراجع إلى الكلّ بدليل قول شاعرهم :
چه از قومي يكى
بى دانشى كرد
|
|
نه كه را منزلت
مانده نه مه را
|
قال المصنّف رفع الله درجته
الرابع : إمكان الفعل
من المكلّف فلا يصحّ التّكليف بالمحال ، وخالفت
__________________
الأشاعرة فيه ،
فجوّزوا تكليف الزّمن الطيران إلى السماء ، وتكليف العاجز خلق مثل الله تعالى
وضدّه وشريكه وولد له ، وأن يعاقبه على ذلك ، وتكليفه الصعود إلى السطح العالي بأن
يضع رجلا في الأرض ورجلا على السطح ، وكفى من ذهب إلى هذا نقصا في عقله وقلّة في
دينه وجرما عند الله تعالى ، حيث نسبه إلى إيجاد ذلك ، بل مذهبهم أنّه تعالى لم
يكلّف أحدا إلا بما لا يطاق ، وترى ما يكون جواب هذا القائل إذا وقف بين يدي الله
تعالى وسأله كيف ذهبت إلى هذا القول وكذّبت القرآن العزيز وأنّ فيه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها)
«انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عرفت في
الفصل الذي ذكر فيه بيان تكليف مالا يطاق ، أنّ مالا يطاق على ثلاث مراتب ، ولا
يجوز التّكليف بالوسطى دون الثالثة والاولى واقعة بالاتّفاق كتكليف أبي لهب
بالايمان وهذا بحسب التّجويز العقلي ، والاستقراء يحكم بأنّ التكليف بما لا يطاق
لم يقع ، ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، هذا مذهب الأشاعرة ، والعجب من هذا الرجل أنه يفترى
الكذب ثمّ يعترض عليه فكأنّه لم يتّفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة
وسمع عقائدهم
__________________
من مشايخه من
الشّيعة ، وتقرّر بينهم أنّ هذه عقائد الأشاعرة ، ثمّ لم يستحي من الله ومن
النّاظر في كتابه وأتى بهذه التّرهات والمزخرفات «انتهى».
أقول
قد سبق في الفصل
الذي ذكره النّاصب أنّ تفصيل المراتب على الوجه الذي ذكره لا يسمن ولا يغني من جوع
، وأنّ ما ظنّه افتراء من المصنّف عليهم من قبيل أنّ بعض الظنّ إثم ، لكنّ النّاصب
العاجز المسكين حيث لا يقدر على إخراج نقد من كيسه يموّه للشّغب ، فتارة يعيد المزيف من كلام أصحابه ، وتارة ينكر مذهبه ،
وأخرى يطير من غصن إلى غصن ، ولا محيص له بشيء من ذلك إن شاء الله تعالى.
قال المصنّف رفع الله درجته
الخامس أن يكون الفعل ما يستحق به
الثواب ، وإلا لزم العبث والظلم على الله تعالى ، وخالفت الأشاعرة فيه فلم يجعلوا
الثّواب مستحقا على شيء من الأفعال ، بل جوّزوا التّكليف بما يستحقّ عليه العقاب
وأن يرسل رسولا يكلّف الخلق فعل جميع القبائح وترك جميع الطاعات ، فلزمهم من هذا
أن يكون المطيع المبالغ في الطاعة من أسفه النّاس وأجهل الجهلاء من حيث يتعب بماله
وبدنه في فعله شيئا ربّما يكون هلاكه فيه ، وأن يكون المبالغ في المعصية والفسوق
أعقل العقلاء ، حيث يتعجّل اللّذة ، وربّما كان تركها سبب الهلاك وفعلها سبب
النّجاة ، فكان وضع المدارس والرّبط والمساجد من أنقص التّدبيرات البشريّة حيث
يخسر الأموال فيما لا نفع له فيه ولا فائدة عاجلة ولا آجلة «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : شرط الفعل
الذي يقع به التّكليف أن يكون ممّا يترتّب عليه الثّواب في
__________________
عادة الله تعالى
لا أنّه يجب على الله تعالى إثابة المكلف المطيع ، لأنّه لا يجب عليه شيء ، بل جرى
عادة الله تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصّالح ، وليس للمكلفين على الله دين
يجب عليه قضاءه ، ولو كان الأمر كذلك للزم أن تكون العباد متاجرين معاملين مع الله كالاجراء الذين يأخذون أجرتهم عند الفراغ
من العمل ولو لم يعط الموجر أجرتهم لكان ظالما وجائرا ، وهذا مذهب باطل لا يذهب إليه
من يعرف نعم الله تعالى على عباده ويعرف علوّ الشّان الإلهي ، وأنّ النّاس كلهم
عبيد له ، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لهم عليه حق ولا استحقاق بل الثّواب
بفضله وجرى عادته أن يعطي العبد المطيع عقيب طاعته كما جرى عادته بإعطاء الشبع
عقيب أكل الخبز ، وهل يحسن أن يقال : إذا لم يجب على الله تعالى إعطاء الشّبع عقيب
أكل الخبز يموت الناس من الجوع؟ كذلك لا يحسن أن يقال لو لم يجب على الله تعالى
إثابة المطيع وجزاء العاصي لارتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، ولكان فعل الخيرات
وإثارة المبرّات ضائعا عبثا لأنّا نقول : جرت عادة الله التي لا تتخلّف إلّا بسبيل
الخرق على إعطاء الثواب للمطيع من غير أن يجب عليه شيء ، فلم يرتفع الفرق بين
المطيع والعاصي كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، فهل يكون من أكل
الخبز فشبع كمن ترك أكل الخبز فجاع؟ «انتهى».
أقول
قد بيّنا سابقا
انهدام البناء على العادة ، فلا حاجة إلى الاعادة ، وكذا سبق الكلام في أنّ الوجوب
الذي يدّعيه أهل العدل ليس معناه ما زعمته الأشاعرة ، وإنّما المعنى به ما يحكم به
صحيح العقل ويؤيده صريح النّقل ، ومنه قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ
تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ
__________________
فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ولا يلزم من الوجوب بالمعنى المشار إليه أن يكون الجزاء
كالدّين وإن جاز أن يكون بعض العطايا في ذمّة همّة الجواد الحكيم كالدّين ، وأما
لزوم كون العباد متاجرين معاملين ، فلا مانع من العقل والنّقل في التزامه لأنّ
الله تعالى هو الذي أرشدهم إلى التجارة والمعاملة والقرض ، ووعدهم الجزاء في يوم
العرض بقوله : (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) ، (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ، وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الآية. وقوله تعالى : في سورة واحدة هي سورة الحديد : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) ، (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ
__________________
بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ، (وَأَقْرَضُوا اللهَ
قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ، (فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) ، إلى غير ذلك من الآيات والرّوايات ، وأما قول الناصب :
لو لم يعطهم لكان ظالما جائرا فمجاب ، بأنّا هكذا نقول ولا فساد فيه كما لا فساد
في القول بأنّه تعالى لو أدخل الأنبياء في النار والأشقياء في الجنّة كان ظالما جائرا
فافهم ، وأما ما ذكره من مثال الموت من الجوع فلا يغني من جوع ، لأنّ ذلك إنّما لا
يحسن لأنه ليس بواجب على الله تعالى عند أهل العدل ، وإنما الذي أوجبوه على الله
تعالى الألطاف المقرّبة وما وعدهم الله تعالى من الثواب بإزاء الطاعة ، والعقاب
بإزاء المعصية ونحو ذلك ، وأما إعطاء الشّبع عقيب أكل الخبز ، فلم يقل أحد بوجوبه
على الله تعالى ، لجواز أن يكون ذلك من قبيل سائر الأسقام والآلام الذي يمتحن الله تعالى به
العبد ، فالذي يجب عليه تعالى حينئذ عوض تلك الآلام على التفصيل الذي سيأتي في
كلام المصنّف عن قريب ، وحيث ظهر بهذا بطلان ما ذكره بقوله : وهل يحسن أن يقال إلخ؟
ظهر بطلان ما فرّعه عليه بقوله : كذلك لا يحسن أن يقال إلخ : فأحسن التأمّل ، وأما
ما ذكره من أنّ عادة الله تعالى التي لا تتخلّف قد جرت على إعطاء
__________________
الثواب إلخ ، ففيه
ما مرّ من أنّ هذه العادة لما لم تكن واجبة الاستمرار ولو بطريق الخرق ، فجاز أن
تنعكس القضيّة ، فلا يحصل الفرق ويرتفع الأمان عن الوعد والوعيد كما مرّ غير بعيد
، وبالجملة أنّ أصحاب النّاصب ييئسون العباد من رحمة الله وعدله بتجويزهم التخلّف
في ترتّب الثواب والعقاب وأن يعذب الله تعالى من غير ذنب ، وأنّه خلق خلقا للنّار
، فلا تنفعهم الطاعة ، وآخر للجنّة فلا تضرّهم المعصية فلا تسكن نفس مطيع بطاعة
ولا تخاف نفس عاص عن معصية ، بل هم يغرون بالمعاصي ويسهلونها بقولهم : ما قدّره
الله كان وما لم يقدّره لم يكن ، فلا يبقى وجه للصّبر عن المعصية والتحفّظ عنها
كما لا يخفى.
قال المصنّف رفع الله درجته
السادس أن لا يكون حراما لامتناع كون
الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيّا عنه ، لاستحالة التكليف بما لا
يطاق ، وأيضا أن يكون الشيء مرادا ومكروها في وقت واحد من جهة واحدة من شخص واحد ،
وهذا مستحيل عقلا ، وخالفت أهل السنّة (الأشاعرة خ ل) في ذلك ، فجوّزوا أن يكون
الشيء الواحد مأمورا به منهيّا عنه لإمكان تكليف ما لا يطاق عندهم «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : لا خلاف في
أنّ المأمور به لا بدّ أن لا يكون حراما لأنّ الحرام ما نهى الله تعالى عنه ولا
يكون الشيء الواحد مأمورا به منهيّا عنه في وقت واحد من جهة واحدة ، ولكن إن اختلف
الوقت والجهة والشرائط التي اعتبرت في التناقض ، يجوز أن يتعلق به الأمر في وقت من
جهة والنهى في وقت آخر من جهة أخرى ، فهذا
__________________
مذهب أهل السنّة ،
وأمّا إمكان التكليف بما لا يطاق فقد سمعته غير مرّة ، وأنّه لا يقع ولم يقع «انتهى».
أقول
سيجيء تحقيق هذه
المسألة في الموضع اللائق بها من مسائل اصول الفقه فانتظر.
قال المصنّف رفع الله درجته
والعجب أنّهم حرموا الصّلاة في الدار
المغصوبة ومع ذلك لم يوجبوا القضاء وقالوا : إنّها صحيحة مع أنّ الصحيح هو المعتبر
في نظر الشرع ، وإنّما يطلق على المطلوب شرعا ، والحرام غير معتبر في نظر الشّارع
مطلوب الترك شرعا ، وهل هذا إلا محض التناقض؟ «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : الصّلاة
الصّحيحة ما استجمعت شرائط الصّحة التي اعتبرت في الشّرع ، فالصّلاة في الدار
المغصوبة صحيحة لأنّها مستجمعة لشرائط الصحة التي اعتبرت في الصّلاة في الشرع ،
وليس وقوعها في مكان مملوك غير مغصوب من شرائط صحّة الصّلاة ، نعم من شرائطها أن
تقع في مكان طاهر من النّجاسات ، ولو كان من شرائط الصحّة وقوعها في مكان غير
مغصوب لكان الواقع في المكان المغصوب منها فاسدا وكان يجب قضاؤها لكونها غير
معتبرة في نظر الشّرع لعدم استجماعها الشّرائط المعتبرة فيها ، وأما كونها حراما
فلأجل أنّها تتضمن الاستيلاء على حقّ الغير عدوانا فهي بهذا الاعتبار حرام ،
فالحرمة باعتبار والصحة باعتبار آخر ، فأين التناقض
__________________
والعجب أنه مشتهر
بالدربة في المعقولات ولا يعلم شرائط حصول التناقض «انتهى».
أقول
ستجيء هذه المسألة
أيضا في مسائل اصول الفقه لكن نذكر هاهنا أنموذجا لئلا يظن الناظر في أوّل النظر
أنه وعد بلا وفاء ، فنقول : إنّ ما ذكره من أنّ وقوع الصلاة في مكان مملوك غير
مغصوب ليس من شرائط الصلاة إلخ مردود ، بأنّ الكلام في الصلاة الشخصية في الدّار
المغصوبة ، وتحقق التلازم بين الغصب والصلاة فيها ظاهر ، والأمر بالشيء أمر
بلوازمه كما حقق في الأصول ، فلو كانت هذه الصلاة مأمورا بها لكان الغصب مأمورا به
مع كونه منهيا عنه (هف) ، والتعجب الحاصل للناصب من كلام المصنّف إنما نشأ من أنه
أكبّ مدّة عمره على تقليد الأشعري البليد الذي به يسخر ولا يدري أىّ طرفيه أطول من
الآخر ، فإذا ورد على سمعه قول يخالف رأى الأشعري يفزع ويتعجب منه ويردّه ولا
يقبله بكل حيلة وينسب قائله إلى الجهل لجمود طبعه وإفناء عمره في التقليد الذي من
خواصه أن يكون مقلّده بليدا في أضيق تقييد ، وقال الرّئيس المحقق في الحكمة اليونانية ، إنّ من تعوّد أن يصدّق من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة الانسانية.
__________________
قال المصنّف رفع الله درجته
المطلب التاسع عشر : في الأعواض
ذهبت الامامية إلى أنّ الألم الذي
__________________
يفعله الله تعالى
بالعبد إما أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة وهو المستحق لقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
__________________
خاسِئِينَ)
، وقوله : (أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا
يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)
، ولا عوض فيه ، وإما
أن يكون على وجه الابتداء وإنما يحسن فعله من الله تعالى بشرطين ، أحدهما أن يشتمل
على مصلحة إما للمتألم أو لغيره ، وهو نوع من اللّطف ، لأنه لو لا ذلك لكان عبثا
والله تعالى منزّه عنه ، الثاني أن يكون في مقابلته عوض للمتألم يزيد على الألم
بحيث لو عرض على المتألم الألم والعوض اختار الألم وإلا لزم
الظلم والجور من الله تعالى على عبيده ، لأنّ إيلام الحيوان وتعذيبه على غير ذنب
ولا لفائدة تصل إليه ظلم وجور وهو على الله تعالى محال ، وخالفت الاشاعرة في ذلك
فجوزوا أن يؤلم الله عبده بأنواع الألم من غير جرم ولا ذنب لا لغرض وغاية ولا يوصل
إليه العوض ، ويعذّب الأطفال والأنبياء والأولياء من غير فائدة ، ولا يعوّضه على
ذلك بشيء البتة ، مع أنّ العلم الضروري حاصل لنا بأنّ من فعل من البشر مثل هذا
عدّه العقلاء ظالما جائرا سفيها ، فكيف
__________________
يجوز لهؤلاء نسبة
الله سبحانه إلى مثل هذه النقائص ولا يخشى ربه؟ وكيف لا يخجل منه غدا يوم القيامة
إذا سألته الملائكة يوم الحساب هل كنت تعذّب أحدا من غير الاستحقاق ولا تعوضه على
ألمه عوضا يرضى به؟ فيقول كلا ما كنت أفعل ذلك ، فيقال له : كيف نسبت ربك إلى هذا
الفعل الذي لا ترضاه لنفسك «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول اعلم أنّ
الأعواض مذهب المعتزلة ولهم على هذا الأصل اختلافات ركيكة تدلّ على فساد الأصل
مذكورة في كتب القوم ، وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء
لا عوض على الألم ولا غيره ، لأنه يتصرف في ملكه ما يشاء ، والعوض إنّما يجب على
من يتصرّف في غير ملكه نعم جرت عادة الله تعالى على أنّ المتألم بالآلام إمّا أن
يكفر عنه سيّئاته أو يرفع له درجاته إن لم تكن له سيّئات ولكن لا على طريق الوجوب
عليه ، وأمّا حديث العوض في أفعال الله تعالى فقد مرّ بطلانه فيما سبق ، وأما
تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء ففيه فوائد ترجع إليهم من رفع الدّرجات وحط
السيّئات كما أشير إليه في الأحاديث الصّحاح ، ولكن على سبيل جرى العادة لا على
سبيل الوجوب ، فلا يلزم منه جور ولا ظلم ، ثمّ ما ادّعى من العلم الضّروري بأنّ
البشر لو عذّب حيوانا بلا عوض لكان ظالما ، فهذا قياس فاسد ، لأنّ البشر يتصرّف في
الحيوان بما ليس له والله تعالى مالك مطلق يتصرّف كيف يشاء ، ونحن لا نمنع عدم
وقوع الجزاء والمنافع ولكن نمنع
__________________
وجوب هذا ، ونحن
نقول : من يعتقد أنّ الله تعالى يجب عليه الأعواض عن الآلام إذا حضر يوم القيامة
عند ربّه ورأى الجلال الالهي والعظمة الرّبانيّة والتّصرف المطلق الذي حاصل له في
الملك والملكوت سيّما في موقف القيامة التي يقال فيها : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ،؟ لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أما يكون مستحييا من الله تعالى أن يعتقد في الدّنيا أنّه
مع الله تعالى كالتّاجر والعامل أعطى الأعمال والآن يريد جزاء الواجب على الله
تعالى فيدعي على الله في ذلك المشهد إنّك عذّبتني وألمتني في الدّنيا فالآن لا
أخليك حتّى آخذ منك العوض لأنّه واجب عليك أن تعوّضني ، فيقول الله تعالى : يا عبد
السّوء أنا خلقتك سويّا وأنعمت عليك كيت وكيت أتحسبني كنت متاجرا معك معاملا لك
حتّى توجب علىّ العوض ، أدخلوا العبد السّوء النّار ، فيقول : هكذا علّمني ابن
المطهر الحلّي وهو كان إمامي وأنا الآن بريء منه ، فيقول الله تعالى : ادخلوا
جميعا النار ، (كَذلِكَ يُرِيهِمُ
اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) والله أعلم وهو أصدق القائلين «انتهى».
أقول
نعم الأعواض مذهب
المعتزلة ، لكن الأصل في ذلك الاماميّة والاختلاف بينهم ، واختلاف المعتزلة إنّما
وقع لعدم تحقيقهم حقيقة ذلك الأصل على وجه حقّقه الامامية ، فاختلافهم في ذلك
الأصل لا يدلّ على فساده عن أصله ، وإلا لكان الاختلاف في كلّ أصل من اصول الدّين
كصفات الله وأفعاله وصفات النّبيّ والامام عليهمالسلام كذلك ، وفساده أظهر من أن يخفى ، ولو سلم فاختلاف المعتزلة
لا يقدح في مذهب
__________________
الاماميّة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، وأما ما ذهبت إليه الأشاعرة من نفى الوجوب عليه تعالى
فقد مرّ أنّه مبنى على عدم فهمهم لمعنى الوجوب الذي أثبته العدليّة ، واما حديث
التّصرف في الملك فقد مرّ أنّ التّصرف من المالك كائنا من كان إن كان على وجه حسن
فحسن ، وإن كان على وجه قبيح فقبيح ، وحديث جريان العادة قد جرى عليه ما جرى ،
وحثونا على رأس قائله تراب الثّرى ، وإثبات الفوائد في تعذيب
الأطفال ونحوه بعد تجويز أن يعذبهم من غير جرم كما ترى ، وفي حكمه بفساد قياس
المصنّف بناء على حديث التّصرف في الملك فساد لا يخفى على الورى ، وفي باقي
المقدّمات سترى أنّه يأكل الخرى ، وبالجملة إنّ الله تعالى لمّا كتب على نفسه
الرّحمة والإفضال ، وأوجب في حكمته وجوده إعطاء جزاء الأعمال وليس له فقر وحاجة أو
كسالة وكلال ، يدعوه إلى التأخير والإهمال ، فلا يحصل للعبد في حضرته انتظار ، ولا
يؤدّيه إلى الطلب والدّعوى اضطرار ، كما قال بعض الأبرار ظطنظم :
أرباب حاجتيم
وزبان سؤال نيست
|
|
در حضرت كريم
تقاضا چه حاجتست
|
وكما قلت في جملة
قصيدة في مدح مولاي الرّضا عليهالسلام نظم :
سؤال از تو چه
حاجت كه جود ذات ترا
|
|
بود تقدّم
بالذّات بر وجود سؤال
|
__________________
قال المصنّف رفع الله
درجته
المسألة الرابعة في
النبوة
وفيه مباحث المبحث الاول في نبوّة محمّد
صلىاللهعليهوآلهوسلم
، اعلم أنّ هذا أصل عظيم في الدّين وبه يقع الفرق بين المسلم والكافر ، فيجب
الاعتناء به وإقامة البرهان عليه ، ولا طريق في إثبات النبوّة على العموم ولا على
الخصوص إلا بمقدّمتين ، إحداهما أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ادّعى رسالة ربّ العالمين له إلى الخلق كافة ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض
التصديق له ، والثانية أنّ كلّ من صدّقه الله فهو صادق ، وهاتان المقدمتان لا يقول
بهما الأشاعرة ، أما الاولى فلأنّه يمتنع أن يفعل الله فعلا لغرض من الأغراض أو
لغاية من الغايات ، فلا يجوز أن يقال : إنّه تعالى فعل المعجز على يد مدّعي
الرّسالة لا لغرض تصديقه ولا لأجل تصحيح دعواه ، بل فعله مجّانا ومثل هذا لا يمكن أن
يكون حجّة للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، لأنّا لو شككنا في أنّ الله تعالى لو فعله لغرض التّصديق أو لغيره لم يمكن
الاستدلال على صدق مدّعي النبوّة مع هذا الشكّ فكيف يحصل الجزم بصدقه مع الجزم
بأنّه لم يفعله لغرض التصديق وأما الثانية فانّها لا تتمّ على مذهبهم ، لأنّهم
يسندون القبائح كلّها إلى الله تعالى ويقولون : كلّ من ادّعى النبوّة سواء كان
محقا أو مبطلا فانّ دعواه من فعل الله تعالى وأثره ، وجميع أنواع الشّرك والمعاصي
والضلال في العالم من عند الله تعالى ، فكيف يصحّ مع هذا أن يعرف أنّ هذا الذي
صدّقه صادق في دعواه ، فجاز أن يكذب في دعواه ويكون هذا الإضلال من الله تعالى
كغيره من الأضاليل التي هو فعلها ، فلينظر العاقل هل يجوز له أن يصير الى مذهب لا
يمكن إثبات نبوّة نبيّ من الأنبياء البتّة ولا يمكن الجزم بشريعة من الشّرائع؟
والله تعالى قد قطع أعذار المكلّفين بإرسال الرّسل
فقال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)
وأيّ حجّة أعظم من
هذه الحجّة عليه تعالى؟ ، وأىّ عذر أعظم من أن يقول العبد لربّه تعالى : إنّك
أضللت العالم وخلقت فيهم الشّرور والقبائح ، وظهر جماعة خلقت فيهم كذب ادّعاء
النبوّة وآخرون ادّعوا النبوّة ولم تجعل لنا طريقا إلى العلم بصدقهم ، ولا سبيل
لنا إلى معرفة صحّة الشرائع التي أتوا بها ، فيلزم انقطاع حجة الله تعالى ، وهل
يجوز لمسلم أو من يخشى الله تعالى وعقابه أو يطلب الخلاص من العذاب ، المصير إلى
هذا القول نعوذ بالله من الدّخول في الشّبهات «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : هذا الكلام
المموّه الخارج عن طريق المعقول قد ذكره قبل هذا بعينه في مسألة خلق الأعمال وقد
أجبنا عنه هناك ، ولمّا أعاد الكلام في هذا المقام لزمنا مؤنة الاعادة في الجواب
فنقول ، أما المقدمة الاولى من المقدّمتين اللّتين ادّعى توقّف ثبوت النبوّة
عليهما وهو أنّ النبيّ ادّعى الرّسالة وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التّصديق
له فقد بيّنا قبل هذا أنّ غاية إظهار المعجزة والحكمة والمصلحة فيه تصديق الله
تعالى النبيّ فيما ادّعاه ، وهذا يتوقّف على كون إظهار الله المعجزة مشتملا على
الحكمة والمصلحة والغاية ، لا على إثبات الغرض والعلّة الغائية الموجبة للنقص
والاحتياج ، فثبت المقدّمة الاولى على رأى الأشاعرة ، وبطل ما أورد عليهم ، وأما
المقدمة الثانية وهي أنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق فهذا شيء تثبته
الأشاعرة ، ويستدلون عليه بالدّلائل الحقّة الصّريحة ، ولا يلزم من خلق الله تعالى
القبائح التي ليست بقبيحة بالنسبة إليه أن يكون كلّ مدّعي للنبوّة سواء كان
__________________
محقّا أو مبطلا
دعواه من الله تعالى ، وما ذا يريد من أنّ دعوى المحقّ والمبطل من الله؟ إن أراد
أنّه من خلق الله تعالى ، فلا كلام في هذا ، لأنّ كل فعل يخلقه الله تعالى ، وإن
أراد أنّه مرضى من الله تعالى والله يرسل المحقّ والمبطل ، وهذا باطل صريح ، فانّه
تعالى (لا يَرْضى لِعِبادِهِ
الْكُفْرَ) والضّلال وإن كان بخلقه وتقديره كما سمعت مرارا ، وكلّ من يدّعي
النبوّة وهو مبعوث من الله فقد جرت عادة الله تعالى على إظهار المعجزة بيده
لتصديقه ولم تتخلّف عادة الله عن هذا ، وجرت عادته التي خلافها جار مجرى المحال
العادي بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّاب ، والحاصل أنّ الأشاعرة يقولون : بعدم
وجوب شيء على الله تعالى ، لأنّه المالك المطلق ، ولا يجب عليه شيء ، وما ذكره من
أنّه كيف يعرف أنّ هذا الذي صدّقه صادق في دعواه ، فنقول : بتصديق المعجزة يعرف
هذا ، قوله : يجوز أن يظهر المعجزة على يد الكاذب ، قلنا : ما ذا تريدون من هذا
الجواز؟ ، الإمكان العقلي ، فنقول : يمكن هذا عقلا أم تريدون أنّه يجوزه العقل
بحسب العادة ، فنقول : هذا ممتنع عادة ، ويفيدنا العلم العادي بأنّ هذا لا يجري في
عادة الله تعالى كالجزم بأنّ الجبل الفلاني لم يصر الآن ذهبا ، فلا يلزم ما ذكر
وأما ما أطال من الطامات والترهات فنعمل بقوله تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ) انتهى.
أقول
أولا : إنّ تخصيصه
لاعادة الكلام بهذا المقام ممّا لا وجه له ، لأنّ جميع مراتب كلامه إعادة منه لما
نقلها المصنّف من كلام أقوامه ، غاية الأمر أنّه إعادة على
__________________
طريقه إعادة
الثّورة لما قضمه مرّة بأن زاده هضما ومضرة ، وثانيا انّ ما ذكره في بيان اتّجاه
المقدمة الاولى على رأى الأشاعرة غير موجّه ، لأنّ المصنف قدسسره عمّم في الكلام وقال لغرض من الأغراض وغاية من الغايات ،
فيشتمل الغاية التي اعترف النّاصب باعتبارها في الأفعال فكيف يصير ذلك جوابا دافعا
لكلام المصنّف ، نعم لو قال في الجواب : إنّ الأشعري لا ينفي مطلق الغاية لكان
متجها لكنّه ناف لذلك كما شحنوا به كتبهم ، فالقول بالغاية مطلقا من قبل الأشعري لدفع
الإلزام عنه يكون وكالة فضوليّة ، والحاصل أنّ الأشعري ينفي مطلق الغاية والغرض ،
سواء أخذ بمعنى العلّة الغائية أو الفائدة والمصلحة ، وكيف يكون قائلا بذلك مع
تصريحه بنفي أن يكون للفعل جهة محسنة أو مقبحة في ذاته وفي صفاته اللازمة أو
الجهات والاعتبارات كما مرّ في مبحث الحسن والقبح ، ولو كان قائلا بما اعترف به النّاصب من قبله لما خفى ذلك
على الفاضل التفتازاني من اتباعه المتعصّبين له ، ولما قال في مقام الرّد عليه من
شرحه على شرح المختصر : الحقّ أنّ تعليل بعض الأفعال سيّما شرعية الأحكام والمصالح
ظاهر كإيجاب الحدود والكفّارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك ، والنّصوص أيضا
شاهدة بذلك كقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) و (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ
كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ)
__________________
الآية (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، ولهذا يكون القياس حجة إلا عند شرذمة ، وأما تعميم
ذلك فمحلّ بحث انتهى كلامه ، وبالجملة لو كان النزاع في التعبير عن منشأ الحكم
بالغرض والعلّة الغائية دون المصلحة والغاية كما ذكره النّاصب لما اضطرّ ذلك
الفاضل إلى المحاكمة بتخصيص المبحث ، والملخص أنّ العلّة الغائية والغرض والمصلحة
متقاربة في المعنى وتكلّف الفرق بينها والهرب من بعضها إلى بعض كما ارتكبه بعض
المتأخّرين إنّما هو لضيق الخناق لا لقصد الاتّفاق ، وعلى التقديرين فمرحبا بالوفاق. وأيضا
الدّليل الذي قاد الأشعري إلى نفى التّعليل وهو لزوم تأثّر الرّبّ عن شعوره بخلقه
كما ينفي التعليل ينفي مراعاته للمصالح أيضا ، فلا وجه لنسبة إثبات المصالح في
الأفعال إليه ، وقد ذكرنا هذا الدّليل مع ما فيه في أوائل الكتاب والله الموفق
للصّواب ، وثالثا أنّ ما ذكره في توجيه المقدّمة الثّانية من التّرديد مردود قوله
في الشّق الأول : لا كلام في هذا ، قلنا فيه كلام من وجوه ، منها ما مرّ في بحث
خلق الأفعال ، ومنها أنّه إذا كان دعوى المحق والمبطل من خلق الله تعالى ولم يكن
شيء من القبائح قبيحا بالنّسبة إلى الله تعالى فمن أين يعلم أنّ
__________________
هذا قبيح منهيّ
عنه خلقه الله تعالى في مدّعي النّبوة ، وأجرى كسب العبد على وفقه حتّى لا نقبله
أو حسن مرضى له تعالى حتّى نتبعه ، والاعتراف بكونه (لا يَرْضى لِعِبادِهِ
الْكُفْرَ) والضّلال إنّما يفيد لو كان هناك ما يتميّز به عند العقل
الكفر والضّلال عن غيره ، واما إذا كانت الأفعال سواسية في عدم اتّصافها
بالحسن والقبح الذاتي والوصفي والاعتباري كما ذهب إليه الأشعري فكيف يهتدي المكلف
إلى أنّ ذلك المخلوق فيه حسن مرضي لله تعالى أو قبيح ليس بمرضي له ، وأما ما ذكره
من التّرديد في الجواز بقوله : أتريدون الإمكان العقلي إلخ ، ففيه من التّمحل والتمويه ما لا يخفى ، لأنّه جعل الإمكان العقلي مقابلا
للتجويز العقلي بحسب العادة ، مع أنّ المتقابلين في هذا المقام هما الإمكان العقلي
والإمكان العادي ، وليت شعري ما معنى تجويز العقل بحسب العادة؟! وبالجملة انّا
نختار الشّق الأوّل ونقول : المراد الإمكان العقلي بمعنى تجويز العقل وقوع الكذب ،
فيصير حاصل دليل المصنّف أنّه على تقدير نفى القبح العقلي لا يمتنع الكذب عليه
تعالى امتناعا عقليّا ، بمعنى أن يجزم العقل بسلب صدوره عنه تعالى ، إذ لا دليل
على هذا الجزم إلّا أنّه يقبح عقلا صدور القبح عنه ، وإذا لم يجزم العقل بسلب صدور
القبيح عنه تعالى فيجوز إظهار المعجزة على يد الكاذب وإذا جوّز العقل ذلك انسدّ
باب إثبات النّبوّة ، فلا يثبت نبوّة نبي كما ذكره المصنّف «قده» والحاصل أنّهم
إذا اعترفوا بجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب وتصديقه تعالى إيّاه فمجرد الدّعوى
في الجزم بعدمه غير كاف ، ضرورة أنّه ليس ببديهي ، بل لا بدّ من إثباته حتى يثبت
__________________
به النّبوة ، ولا
دليل عليه على طريقة الأشعري ، اما شرعا فلعدم ثبوت الشّرع قبل ثبوت النّبوة ،
واما عقلا فلفرض أن ليس في الأفعال بحسب ذواتها وصفاتها واعتباراتها ما يحسنها أو
يقبحها كما زعمه حتّى يستدلّ به العقل على حالها من الحسن والقبح والرّضا والسّخط
، واما عادة فلانّها كما مرّ عبارة عن تكرار (تكرّر خ ل) أمر من غير علاقة عقلية ،
فلا يجري في معجزة النبي الأوّل بل الثّاني كما سبق ، بل ربما لا يفيد في معجزة
نبيّنا خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم فانّ من بعث نبيّنا إليهم من أهل الجاهليّة الذي نشئوا في
أيّام فترة من الرّسل ربّما لا يكون لهم اطلاع على أحوال الأنبياء السّابقين
ومعجزاتهم وكيفية جريان العادة فيها فكيف يحصل لهم العلم العادي بصدق مدّعي النبوة
وكذبه ، فلا محالة يلزم الافحام وسدّ باب إثبات النبوّة ، وقد ظهر بما قرّرنا به
الدّليل وأوضحنا به السبيل أن تشبيه ما في كلام المصنف من حقايق الإلهامات
بالترهات والطامات تعصب فاسد وتمويه كاسد لا يروج إلا على من حرم التوفيق ولم ينعم
النظر في أوّل ما يفجئونه من الزفير والشهيق والتيتال المشتبه بالتدقيق وبالله التوفيق.
قال المصنف رفع الله درجته
المبحث الثاني في أنّ الأنبياء معصومون
ذهبت الامامية كافّة إلى أنّ الأنبياء
__________________
__________________
معصومون عن الصّغائر
والكبائر منزّهون عن المعاصي قبل النّبوة وبعدها على سبيل العمد والنسيان وعن كل
رذيلة ومنقصة ، وما يدلّ على الخسّة والضعة ، وخالفت أهل السّنة كافة في ذلك وجوّزوا عليهم المعاصي وبعضهم جوّزوا الكفر عليهم قبل النّبوة وبعدها
وجوّزوا عليهم السّهو
والغلط
ونسبوا
رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى السهو في القرآن (القراءة خ ل) بما يوجب الكفر فقالوا : إنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
صلّى يوما الصبح وقرء في سورة النجم عند قوله تعالى ، (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)
: تلك الغرانيق
العلى منها الشفاعة ترتجى وهذا اعتراف منه بأنّ تلك الأصنام ترتجى الشفاعة منهم
نعوذ بالله من هذه المقالة التي نسب النبيّ صلىاللهعليهوآله
إليها وهي توجب الشرك ، فما عذرهم غدا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله
وقد قتل جماعة كثيرة من أهله وأقاربه على عبادة الأصنام ، ولم يأخذه في الله لومة
لائم وينسب إليه هذا القول
الموجب للكفر والشرك وهو في مقام إرشاد العام (العالم خ ل) وهل هذا إلا أبلغ أنواع
الضلال ، وكيف يجامع هذا قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)
وهل أبلغ من هذه
الحجة وهو أن يقول العبد : إنك أرسلت إلينا رسولا يدعو إلى الشرك والكفر وتعظيم
الأصنام وعبادتها ، ولا ريب أنّ القائلين بهذه المقالة صدق عليهم قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)
انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : إنّ أهل
الملل والشّرائع بأجمعهم أجمعوا على وجوب عصمة الأنبياء ، عن تعمّد الكذب فيما دلّ
المعجز القاطع على صدقهم فيه كدعوى الرّسالة وما يبلغونه
__________________
(فيما يبلغونه خ ل)
من الله تعالى إلى الخلائق ، إذ لو جاز عليهم التقوّل والافتراء في ذلك عقلا لأدّى
إلى إبطال دلالة المعجزة وهو محال ، وفي جواز صدور الكذب عنهم فيما ذكر على سبيل
السّهو والنسيان خلاف ، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمّة الأعلام لدلالة المعجزة على صدقهم في
الأحكام ، فلو جاز الخلف في ذلك لكان نقضا لدلالة المعجزة ، وهو ممتنع ، وأما سائر
الذّنوب فهي إمّا كفر أو غيره ، أمّا الكفر فأجمعت الامّة على عصمتهم منه قبل النبوّة وبعدها ، ولا خلاف لأحد منهم
في ذلك وجوّز الشيعة للأنبياء إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك ، وذلك باطل قطعا
، لأنّه يفضي إلى إخفاء الدّعوة بالكلّيّة وترك تبليغ الرّسالة ، إذ أولى الأوقات
بالتقيّة وقت الدّعوة للضعف وكثرة المخالفين ، انظر إلى هؤلاء المتصلّفين يجوّزون إظهار الكفر على الأنبياء للتقيّة وحفظ أرواحهم
وترك حقوق الله ، ثمّ يشنعون على أهل السنّة أنّهم يجوّزون السّهو على الأنبياء عليهمالسلام ، وأمّا الصّغائر والكبائر كلّ منهما إمّا أن يصدر عمدا
وإمّا أن يصدر سهوا ،
__________________
أمّا الكبائر
فمنعه الجمهور من المحقّقين ، والأكثر على أنّه ممتنع سمعا ، قال القاضي والمحقّقون من الأشاعرة : إنّ العصمة فيما وراء التبليغ
غير واجبة عقلا ، إذ لا دلالة للمعجزة عليه ، فامتناع الكبائر منهم عمدا يستفاد من
السّمع وإجماع الامّة قبل ظهور المخالفين في ذلك ، واما صدورها سهوا أو على سبيل
الخطأ في التأويل ، فالمختار عدم جوازه ، وأما الصّغائر عمدا فجوّزها الجمهور ،
اما سهوا فهو جائز اتّفاقا بين أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة إلّا الصّغائر الخسيسة
كسرقة حبّة أو لقمة ممّا ينسب فاعله إلى الدّناءة والخسة والرذالة ، وقالت الشيعة
: لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة لا عمدا ولا سهوا ولا خطأ في التأويل ، وهم
مبرّؤن عنها قبل الوحى فكيف بعد الوحى ، ودليل الاشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من
الكبائر سهوا وعمدا من وجوه ، ونحن نذكر بعض الأدّلة لا للاحتجاج بها على الخصم ،
لأنّه موافق في هذه المسألة ، بل لرفع افترائه على الأشاعرة في تجويز الكبائر على
الأنبياء الاول لو صدر عنهم ذنب لحرم اتّباعهم فيما صدر عنهم ، ضرورة أنّه يحرم
ارتكاب الذّنب ، واتباعهم واجب للإجماع عليه ، ولقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، وهذا الدّليل يوجب وجوب عصمتهم عن الصّغائر والكبائر ،
ذكره الأشاعرة وفيه موافقة للشيعة ، فعلم أنّ الأشاعرة يوافقونهم في وجوب عصمة
الأنبياء من الصّغائر والكبائر ، لكن في الصغائر تجويز عقلي لدليل آخر كما سيأتي
في تحقيق العصمة الثاني لو أذنبوا لردّت شهادتهم ، إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ،
واللّازم باطل بالإجماع ، لأنّ ما لا يقبل شهادته في القليل الزّائل من متاع
الدّنيا كيف تسمع شهادته في الدّين القيّم إلى يوم القيامة ، وهذا
__________________
الدّليل يدلّ على
وجوب عصمتهم من الكبائر والإصرار على الصّغائر ، لأنّها توجب الردّ لا نفس صدور
الصغيرة ، الثالث إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم لعموم وجوب الأمر بالمعروف
والنّهى عن المنكر وإيذائهم حرام إجماعا ، وأيضا لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى
: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) وتحت قوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) ، وتحت قوله تعالى لوما ومذمّة : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وقوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) فيلزم كونهم موعدين بعذاب جهنّم وملعونين ومذمومين ، وكل
ذلك باطل إجماعا ، وهذا الدّليل أيضا يدلّ على عصمتهم من كلّ الذّنوب ، وغيرها من
الدّلائل التي ذكرها الامام الرّازي ، والغرض أنّ كلّ ما ذكر هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب
الأنبياء من لزوم إبطال حجّة الله تعالى فمذهب الأشاعرة بريء عنه ، وهم ذكروا هذه
الدّلائل ، وأمّا تجويز الصغائر التي لا تدلّ على الخسّة ، فلأنّ الصغيرة النّادرة
عمدا معفوّة عن مجتنب الكبائر ، والنّبي بشر ولا يبعد من البشر وقوع هذا ، ثمّ
اعلم أنّ تحقيق هذا المبحث يرجع إلى تحقيق معنى العصمة ، وهي عند الأشاعرة على ما
يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الفاعل المختار ابتداء أن لا يخلق الله
فيهم ذنبا ، فعلى هذا تكون الأنبياء معصومين من الكفر والكبائر والصّغائر الدّالة
على الخسّة والرّذالة ، وأمّا غيرها من الصّغائر فانّهم يقولون : لا تجب عصمتهم
عنها لأنّها معفوّ عنها بنصّ الكتاب من تارك الكبيرة : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ
__________________
هُوَ
أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) دلّت الآية على أنّ مجتنب الكبيرة والفاحشة معفوّ عنه ما
صدر من الصّغائر عنه ، وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لما خلق من الأرض ونشأ
منها فلا يخلو عن الكدورات الترابيّة التّي تقتضي الذّنب والغفلة فكان بعض الذنوب
يصدر بحسب مقتضى الطبع ، ولمّا لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به ، وأما
العصمة عند الحكماء فهي ملكة تمنع الفجور ، وتحصل هذه ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحى
إليهم بالأوامر الدّاعية إلى ما ينبغي والنّواهي الزّاجرة عمّا لا ينبغي ، ولا
اعتراض على ما يصدر عنهم من الصّغائر سهوا أو عمدا عند من يجوّز تعمّدها من ترك
الاولى والأفضل ، فانّها لا تمنع العصمة التي هي الملكة فانّ الصّفات النّفسانيّة تكون في ابتداء حصولها أحوالا ثمّ تصير ملكات بالتدريج ثمّ إنّ الأنبياء مكلفون بترك
الذّنوب مثابون به ، ولو كان الذّنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك إذ لا تكليف
بترك الممتنع ولا ثواب عليه ، وأيضا فقوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) يدلّ على مماثلتهم لسائر النّاس فيما يرجع إلى البشريّة
والامتياز بالوحي لا غير ، فلا يمتنع صدور الذّنب عنهم كما في سائر البشر هذا
حقيقة مذهب الأشاعرة ، ومن
__________________
تأمّل فيه علم
أنّه الحقّ الصريح المطابق للعقل والنقل ، وكلّ ما ذكره هذا الرّجل على سبيل
التشنيع فلا يأتي عليهم كما علمته مجملا وستعلمه مفصلا عند أقواله. وما ذكره من
قصة سورة النجم وقراءة النبي صلىاللهعليهوآله ما لم يكن من القرآن فهذا أمر لم يذكر في الصحاح بل هو
مذكور في بعض التفاسير ، وذكروا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا اشتد عليه اعتراض قومه عن دينه تمنى أن يأتيه من الله
تعالى ما يتقرّب إليهم ويستميل قلوبهم ، فأنزل الله عليه سورة النجم ولمّا اشتغل
بقراءتها قرأ بعد قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، فلما سمعه قريش
فرحوا به وقالوا قد ذكر آلهتنا بأحسن الذّكر فأتاه جبرئيل بعد ما أمسى وقال له تلوت على النّاس ما لم أتله عليك ،
فحزن النبيّ صلىاللهعليهوآله لذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا عظيما ، فنزل لتسليته :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) الآية هذا ما ذكره بعض المفسّرين واستدلّ به من جوّز الكبائر على
الأنبياء ، والأشاعرة أجابوا عن هذا بأنّه على تقدير حمل التمني على القراءة هو
أنّه من إلقاء الشيطان يعني أنّ الشّيطان قرأ هذه الآية المنقولة وخلط صوته بصوت
النّبي حتى ظنّ أنّه عليهالسلام قرأها ، قالت الأشاعرة : وإن لم يكن من إلقاء الشّيطان بل
كان النّبي صلّى الله عليه قاريا لها كان ذلك كفرا صادرا عنه وليس بجائز إجماعا ،
وأيضا ربّما كان ما ذكر من العبارة قرآنا وتكون الاشارة بتلك الغرانيق إلى
الملائكة فنسخ تلاوتها للايهام
__________________
ومن قرأ سورة
النّجم وتأمّل في تتابع آياتها علم أنّ هذه الكلمات لا يلتئم وقوعها بعد ذكر
الأصنام ولا في أثنائها ولا يمكن للبليغ أن يتفوّه بها في مدح الأصنام عند ذكر
مذمتها ، نعم يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة وهو قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيَرْضى) فهاهنا ما يناسب أن تقرأ تلك الغرانيق العلى وأنّ شفاعتهن
لترتجى ، فعلم أنّه لو صحّ هذا لكان في وصف الملائكة ثم نسخ للايهام أو لغيره والله أعلم. هذه اجوبة الأشاعرة ، فعلم أنّ ما
اعترض عليهم هذا الرّجل فهو من باب مفترياته وأما المغاربة . فهم يمنعون صحّة هذا عن أصله ، وذكر الشيخ الامام القاضي
أبو الفضل موسى بن عياض اليحصبي المغربي في كتاب الشّفا بتعريف حقوق المصطفى صلىاللهعليهوآله : إنّ هذا من المفتريات وتعلّق بها الملاحدة ولا أصل له ، وبالغ في هذا كلّ المبالغة انتهى.
أقول
يتوجّه عليه وجوه
من الكلام وضروب من الملام اما أولا فلأنّ قوله : فمنعه
__________________
الأستاذ أبو إسحاق
وكثير من الأئمة الأعلام لا يخلو عن تمويه إذ جوّزه القاضي أبو بكر كما ذكر في
المواقف وهو من أعلام الأشاعرة ، واما ثانيا فلأنّ دعواه الإجماع على عصمة
الأنبياء من الكفر قبل النبوّة وبعدها كاذبة ، لأنّ ابن فورك من الأشاعرة مخالف في ذلك وجوّز بعثة من كان كافرا ، ويدلّ
عليه أيضا ما سنذكره من كلام الغزالي في المنخول ، وقال بعض الحشوية : إنّ نبينا صلىاللهعليهوآله كان كذلك لقوله تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى) وهو غلط إذ الضّلال هاهنا عدم الرّشد فيما يتعلّق بالأمور
الشرعيّة قبل البعثة ، واما ثالثا فلأنّ ما ذكره من أنّه جوز الشيعة إظهار الكفر
تقية شيء ذكره صاحب المواقف وهو فرية بلا مرية (وَقَدْ خابَ مَنِ
افْتَرى) ، يدل على ذلك كلام الفاضل البدخشي الحنفيفي بحث الأفعال من
شرح
__________________
منهاج الأصول حيث
قال : الأكثر من المحقّقين على أنه لا يمتنع عقلا قبل النبوّة ذنب من كبيرة أو
صغيرة خلافا للرّوافض مطلقا وللمعتزلة في الكبائر ولا خلاف لأحد في امتناع الكفر
عليهم إلا الفضيلية من الخوارج بناء على أصلهم من أنّ كلّ معصية كفر وقد قال
تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) جوّز البعض عليهم عند خوف تلف
__________________
المهجة إظهار الكفر
وأمّا بعد النبوة فالإجماع على عصمتهم عن تعمد الكذب في الأحكام لدلالة المعجزة
على صدقهم ، وأما الكذب غلطا فجوّزه القاضي ومنعه الباقون إلخ وقد علم من هذا
أمران أحدهما أنّ من جوّز إظهار الكفر على الأنبياء خوفا جماعة مجهولة غير الشيعة
وإلا لصرح بهم كما قال سابقا خلافا للروافض وثانيهما أنّ من جوّز ذلك إنما جوّزه
قبل النبوّة لا بعدها حتى يتوجه عليه ما ذكره الناصب من أن ذلك يفضى إلى إخفاء
الدعوة بالكلية وناهيك في ذلك أنّ الامامية قالوا إنّ إظهار التبري عن الأئمة عليهمالسلام في مقام التّقية حرام ، واستدلوا عليه بقول أمير المؤمنين عليهالسلام : أمّا السبّ فسبوني فانه لي زكاة ولكم نجاة واما البراءة
فمدّوا الأعناق ومن البين أنهم إذا لم يجوّزوا لأنفسهم الضعيفة إظهار
البراءة عن أئمّتهم تقيّة فكيف يجوّزون إظهار الكفر للأنبياء والأئمّة عليهمالسلام مع تأيدهم بالنفوس القوية القدسية والقوى الرّبانية ثم لا
يخفى ما في كلام الناصب من سماجة تكرار قوله : يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية من
غير طائل أصلا واما رابعا فلأنّ ما ذكره بقوله : واما الكبائر فمنعه الجمهور
__________________
من المحقّقين مردود بأنّ المحققين منهم إنّما منعوا ذلك في زمان نبوّتهم
لا قبله فظهر التّفاوت بين مذهبهم ومذهب الشّيعة تفاوت ما بين الأرض والسّماء ،
وقد صرّح في المواقف وشرحه بما ذكرناه حيث وقع فيهما لنا على ما هو المختار عندنا
وهو أنّ الأنبياء في زمان نبوّتهم معصومون عن الكبائر مطلقا وعن الصغائر عمدا وجوه
(الاول) إلى آخره ، والظاهر أنّهم إنّما جوّزوا ذلك على الأنبياء ليدفعوا استبعاد
خلافة خلفائهم الثّلاثة مع سبق كفرهم ، فكيف يرجع محققوهم عن ذلك ، واما خامسا
فلأنّ قوله : فامتناع الكبائر منهم عمدا مستفاد من السّمع وإجماع الامّة قبل ظهور
المخالفين في ذلك لا يدفع تشنيع المصنّف عنهم ، لأنّ المخالفين في ذلك إنّما هم
جماعة من أهل السنّة والجماعة ، فيرجع وباله إلى جميعهم ، واما سادسا فلأنّ قوله :
ونحن نذكر بعض الأدلة لا للاحتجاج بها على الخصم لأنّه موافق في هذه المسألة ،
مدخول بأنّ الأشاعرة لم يوافقوا الخصم من المعتزلة والاماميّة إلا فيما بعد النبوة
، وأمّا قبلها فقد قال الأشاعرة : بجواز صدور الكبائر
__________________
عنهم دون الشّيعة
والمعتزلة كما مرّ ، ففي كلامه هذا أيضا تمويه وتلبيس كما لا يخفى وكذا الكلام
فيما ذكره عند تقرير الدّليل الأوّل بقوله : فعلم أنّ الأشاعرة يوافقون في وجوب
عصمة الأنبياء من الصّغائر والكبائر إلخ ، والحاصل أنّ الدلائل الّتى ذكرها إنّما
استدلوا بها على وجوب عصمة الأنبياء عن الكبائر والصغائر بعد البعثة وهذا هو الذي
ادّعاه الأشاعرة كما صرّح به السّيد قدّس سره في هذا المقام في شرح المواقف وفخر الدّين
الرّازي في تفسير سورة يوسف عليهالسلام حيث قال : المعتبر عندنا عصمة الأنبياء في وقت حصول
النّبوة ، فأمّا قبلها فذلك غير واجب انتهى ، فما ذكره الناصب من موافقة الأشاعرة
مع الاماميّة والمعتزلة في ذلك لا يصحّ على إطلاقه ، وإنما الموافقة في حكم ما بعد
البعثة فقط كما عرفت ، وما ذكره من أنّ نسبة تجويز الكبائر إلى الأشاعرة افتراء لا
يصحّ مطلقا إذ التجويز منهم واقع قبل البعثة وبعدها كما دلّ عليه كلام المواقف ، على أنّه قد هدم
صاحب المواقف دعوى العصمة عن اسّه حيث قال عند منع عصمة فاطمة المعصومة عليهاالسلام : إنّ قوله صلىاللهعليهوآله بضعة منّي مجاز لا حقيقة فلا يلزم عصمتها ، وايضا عصمة
النبيّ صلىاللهعليهوآله تقدّم ما فيه انتهى ، وقد سبقه في ذلك الغزالي بل القاضي
أبو بكر ، قال الغزالي في بحث أفعال الرّسول من كتابه الموسوم بالمنخول في الأصول
، والمختار ما ذكره القاضي : وهو أنّه لا يجب عقلا عصمتهم إذ لا يستبان (يثبت خ ل)
استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظره ، وليس هو مناقضا لمدلول
__________________
المعجزة ، فانّ
مدلوله صدق اللهجة (وعدم كذبه ظ) فيما يخبر عن الله تعالى لا عمدا ولا سهوا ،
ومعنى التنفير باطل ، فانّا نجوّز أن ينبّئ الله تعالى كافرا ويؤيّده بالمعجزة
انتهى ، وظنّي أنّ هذا الاضطراب والاختلاف منهم إنّما هو لأنّهم إذا نظروا إلى
علوّ شأن الأنبياء عليهمالسلام قالوا بعصمتهم في الجملة ، وإذا نظروا إلى حال أبي بكر
وعمر وعثمان وأنّه يلزم من عدم العصمة في الواقع عدم صلاحيتهم لأن يكونوا خليفة
ونائبا عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ندموا عمّا قالوا أوّلا ، وقالوا لحفظ حالهم وخلافتهم :
إنّ الأنبياء أيضا ليسوا بمعصومين ، ويحتمل أن يكون الاختلاف لاختلاف طبائعهم في
الاتّصاف بالحياء عن الخالق والخلائق وعدمه فتأمّل ، فانّ الفكر فيهم طويل ، وأما سابعا فلأنّ ما ذكره بقوله : والغرض أنّ كلّ ما ذكر
هذا الرّجل ممّا يترتب على ذنوب الأنبياء عليهمالسلام من لزوم إبطال حجّة الله ، فمذهب الأشاعرة عنه بريء ، وهم
ذكروا هذه الدّلائل إلخ مدفوع ، بأنّ غرضه هذا مشوب بالحيلة والتلبيس كغيره من
المقدّمات السّابقة ، فانّ المصنّف إنّما رتّب إبطال حجة الله تعالى على ما نسبوا
إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله من اعترافه بحقية الأصنام وكون صدور مثل ذلك عنه صلىاللهعليهوآله يبطل حجّته مما لا يمكن إنكاره ، وقد عرفت مما أسبقناه
استعماله التمويه والتلبيس أيضا في قوله : وهم ذكروا هذه الدّلائل ، لما ذكرنا من
أنّهم إنّما أقاموا هذه الدّلائل على عصمة الأنبياء بعد البعثة لا قبلها ، ولا
نسلّم حجّية من صدر عنه الكفر وغيره من الكبائر قبل البعثة كما سنبيّنه إن شاء
الله تعالى واما ثامنا فلأنّ ما ذكره من أنّ الأشاعرة يقولون ، لا تجب عصمة
الأنبياء عن الصغائر ، لأنّها معفوّة بنص الكتاب إلخ ، مردود بأنّ استعقاب بعض
الذّنوب للعفو
__________________
لا يدفع النفرة عن
صاحبه وفتور الاعتقاد فيه ، فيسقط محلّه ورتبته عند العوام ، فلا ينقادون إلى
إطاعته ، فتنتفي فائدة البعثة كما سيأتي في كلام المصنف ، واما تاسعا فلأنّ في
قوله : وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خلق من الأرض إلخ ، كلام سنشير إليه
إن شاء الله تعالى عن قريب ، واما عاشرا فلان قوله : ولمّا لم يكن خلاف ملكة
العصمة فلا مؤاخذة فيه ، فيه مؤاخذتان ظاهرتان ، إحداهما أنّ الاعتبار بمخالفة
ملكة العصمة وعدمها غير مفهوم من صريح القرآن ولا من إشارته ، بل هو صريح البطلان
، وكيف يقول عاقل : إنّ صدور الذنب لا ينافي ملكة العصمة وثانيتهما أن العصمة
بمعنى الملكة من اصطلاحات الحكماء ، فعدم مخالفتها بذلك المعنى لا تصير حجة على
العدلية كما سنوضحه عن قريب إن شاء الله تعالى ، واما الحادي عشر فلأنّ قوله :
وأما العصمة عند الحكماء إلخ ، لغو من الكلام كما أشرنا إليه ، أو رجوع عما أنكره
سابقا من الاستناد بكلام الفلاسفة ولحس فضلاتهم ، وبالجملة تشبثه بكلام الحكماء
هاهنا دون كلام إحدى الطائفتين من المسلمين تلبيس وتمويه لا يخفى على المتأمل ،
فانه لمّا رأى أن صدور الصغائر عن الأنبياء مخالف للعصمة بمعنى عدم خلق الله فيهم
ذنبا كما ذهب الأشاعرة ، وكذا بمعنى اللّطف الذي يفعله الله فيهم بحيث لا يصدر
عنهم ذنب ولا يبلغ إلى حدّ الإلجاء كما ذهب إليه أهل العدل ، خلط المبحث وعدل إلى
التشبّث بمذهب الفلاسفة ، ومع ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع كما ستطلع عليه ، واما
الثاني عشر فلأنّ قوله : ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهوا أو عمدا عند
من يجوز تعمّدها من ترك الأولى والأفضل ، فيه خلط وخبط لا يخفى ، لأنّ خلاف الأفضل والأولى لا يسمّى صغيرة حقيقة
ولا يعدّ من الذنوب التي وقع النزاع في نفيها وإثباتها ، واما ما هو صغائر حقيقة
سيّما إذا وقع عمدا فهو في معرض الاعتراض ، بل الاعراض عنهم أيضا ، قوله : فانّها
لا تمنع العصمة التي
__________________
هي الملكة ، قلنا
: عدم المنع ممنوع ، قوله : فانّ الصّفات النفسانيّة تكون في ابتداء حصولها أحوالا
ثمّ تصير بالتدريج ملكة ، قلنا؟ نعم ، لكن ما لم تصر ملكة لا يسمّى صاحبها معصوما
، فيثبت المنع ، وسيجيء مزيد توضيح لذلك في مسألة عصمة الامام فانتظر ، واما
الثالث عشر ، فلأنّ ما ذكره من أنّ الآية تدلّ على مماثلتهم لسائر النّاس فيما
يرجع إلى البشريّة والامتياز بالوحي لا غير ، ففيه أنّ الدّلالة على المماثلة في
سائر الأوصاف البشريّة ممنوعة ، وإنّما المراد المماثلة في القدرة على الذّنوب
ليستحقّوا المدح والثواب على ذلك لكن يثبتهم الله تعالى على العصمة بلطفه ورحمته ،
على أنّ القول بمثل هذه المماثلة سيّما مع ما ذكره النّاصب من التأكيد والحصر بقوله
لا غير يخالف تصريحهم بنوريّة النبيّ صلىاللهعليهوآله بل سائر الأنبياء عليهمالسلام وتفضيلهم على الملائكة في الصفاة الفاضلة ، وقال القاضي عياض في كتاب الشفا : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله وإن كان من البشر ويجوز على جبلّته ما يجوز على
__________________
جبلة البشر فقد
قامت البراهين القاطعة وتمّت كلمة الإجماع على خروجه عنهم وتنزيهه عن كثير من
الآفات التي تقع على الاختيار وعلى غير الاختيار كما سنذكره إن شاء الله تعالى
انتهى ، واما الرابع عشر فلأنّ ما ذكره من أنّ قصّة سورة النّجم لم تذكر في
الصّحاح إلخ ففيه أنّه وإن لم تذكر في الجوامع التي سمّوها بالصّحاح تسمية للشيء
باسم ضدّه لكن قال الشيخ شهاب الدين احمد بن محمد القسطلاني في كتابه الموسوم بالمواهب اللّدنيّة : إنّ لهذه القصّة
أصلا فقد خرّجها ابن أبي حاتم والطبري
__________________
وابن المنذر من طرق وكذا ابن مردويه والبزّاز وابن
__________________
إسحاق في السيرة وموسى
بن عقبة في المغازي وأبو معشر في السيرة كما نبّه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره ، وكذا نبّه على ثبوت أصلها
__________________
شيخ الإسلام
والحفّاظ أبو الفضل القسطلاني فقال : أخرج أبو حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن
شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير ذلك ، وأخرج البزّاز وابن مردويه من طريق أميّة بن خالد عن شعبة ، فقال في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن
عبّاس فيما أحسب ، ثمّ ساق الحديث ، قال البزّاز لا يروي متّصلا
__________________
إلا بهذا الاسناد
، وتفرد بأصل أميّة بن خالد وهو ثقة مشهور قال : وإنّما يروي هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس انتهى ، والكلبي متروك
__________________
لا يعتمد عليه ،
وكذا أخرجه النخّاس بسند آخر فيه الواقدي ، وذكرهما ابن إسحاق في السيرة المطوّلة وأسندهما عن محمّد بن الكعب ، وكذلك
__________________
موسى بن عقبة في
المغازي عن ابن شهاب الزهري ، وكذا أبو معشر في السيرة له عن محمّد بن كعب
القرظي ومحمد وموسى بن قيس ، وأورده من طريق الطبري وأورده ابن حاتم من طريق
أسباط عن السدي ، ورواه ابن مردويه عن طريق عبادة بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبي عن أبي صالح وعن
__________________
أبي بكر الهذلي وأيّوب عن عكرمة وسليمان التميمي عمّن حدّثه ، ثلاثتهم عن ابن عبّاس ، وأورده
الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عبّاس ، ومعناهم كلّهم في ذلك واحد ، وكلّها سوى
طريق سعيد بن جبير إمّا ضعيف وإمّا منقطع ، لكن كثرة الطرق تدلّ على أنّ للقصة
أصلا مع أنّ لنا طريقين
__________________
مرسلين ، رجالهما
على شرط الصحيح ، أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس ابن يزيد عن ابن شهاب ،
والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعمّر بن سليمان ، قال الحافظ بن حجر : وقد تجرّأ ابن العربي كعادته ، فقال : ذكر
__________________
الطبري في ذلك
روايات كثيرة لا أصل لها ، وهو إطلاق مردود عليه ، وكذا قول القاضي عياض : هذا
الحديث لم يخرجه أهل الصحّة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب
رواياته وانقطاع اسناده ، وكذا قوله : ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين
والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة
واهية ، قال وقد بيّن البزّاز أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلّا طريق أبي بشر عن
سعيد بن جبير مع الشكّ الذي وقع في وصله ، واما الكلبي فلا تجوز الرّواية عنه ،
لقوّة ضعفه ثم ردّه من طريق النظر بأنّ ذلك لو وقع لارتدّ كثير ممن أسلم ولم ينقل
ذلك «انتهى» ، وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد فانّ الطرق إذا كثرت وتباينت
مخارجها دلّ ذلك على أنّ لها أصلا ، وقد ذكرنا أنّ ثلاثة أسانيد منها على شرط
الصحيح مراسيل يحتجّ بمثلها من يحتجّ بالمرسل ،
__________________
وكذا من لا يحتجّ
به لاعتضاد بعضها ببعض «انتهى كلامه» ، ثم أقول إنّ من اللّطائف التي ينبغي أن
تذكر في هذا المقام ما روى في كتاب عيون أخبار الرّضا عن المأمون العباسي أنه قال
مخاطبا لواحد من علماء أهل السنة : وإني لأتعجب من روايتكم : أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : دخلت الجنة فسمعت حس (خفق خ ل) نعلين فإذا بلال مولى
أبي بكر وقد سبقني إلى الجنة ، وذلك لأنّ الشيعة قالت (وانما قالت الشيعة خ ل)
عليّ خير من أبي بكر فقلتم في روايتكم هذه عبد أبي بكر خير من الرّسول صلىاللهعليهوآله ، لأنّ السابق أفضل من المسبوق وهذا نظير ما رويتم أيضا
أنّ الشيطان يفرّ من حسّ عمر وألقى على لسان رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنهنّ الغرانيق العلى ففرّ من عمر وألقى على لسان رسول
الله صلىاللهعليهوآله الكفر «انتهى» أقول : لا أدري أنّ من قال بصحّة هذه القصة
ووقوع كلمة الكفر على لسان النبيّ صلىاللهعليهوآله ، كيف يجمع بينه وبين قوله تعالى في شأنه في صدر هذه
السورة : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) اللهمّ إلا أن يقال : إنّ هذه الآية نزلت بعد وقوع تلك
القصة وجوّز صدور كلمة الكفر عنه قبل ذلك ، وليس بمستبعد منهم القول به ، إذا
قالوا بوقوع أصل القصة التي هي أفسد وأشنع كما لا يخفى ، واما الخامس عشر فلأنّ
الجواب الذي نسبه إلى الأشاعرة بقوله : والأشاعرة أجابوا إلخ قد نقل القاضي عياض في الشفا أصله عن
الكلبي حيث قال : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله حدّث نفسه فقال
__________________
ذلك الشيطان على
لسانه وأوضح منه ما نقله عن موسى بن عقبة حيث قال : حكى عن موسى بن عقبة في مغازيه
أنّه قال : إنّ المسلمين لم يسمعوها وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين
وقلوبهم «انتهى» وكلّ من الكلبي وصاحب المغازي متقدّم على وجود شيخ الأشاعرة بمائة سنة أو أكثر فكيف ينسب
الناصب ذلك الجواب إلى الأشاعرة ، نعم قد أوضحه من تأخر عنهما بما ذكر في كتب
الأشاعرة كالمواقف وغيره من غير نسبة إلى الأشاعرة ، ومن جهالات الناصب وعدم
معرفته بأساليب الكلام أنّ الجواب المذكور قد وقع في المواقف بقوله : والجواب على تقدير حمل التمني على القراءة هو أنه
من إلقاء الشيطان إلخ ولم يعلم الناصب إذا غير لفظ الجواب بقوله : أجابوا يلغو
قوله : هو أنه ، وهذا دليل على أنه إنما وقع في هذا الغلط لو بان حرصه على الكذب
والتعصب بنسبة الجواب إلى الأشاعرة وكسب فضيلة لهم حيث قال : والأشاعرة أجابوا إلخ
فافهم ، واما السادس عشر فلأن قوله فعلم أنه لو صحّ هذا لكان في وصف الملائكة ثمّ
نسخ للايهام أو لغيره إن أراد به أنه لو صحّ وقوع تلك الكلمات بعد ذكر
الأصنام ، وفي أثنائها لكان في وصف الملائكة فهذا يناقض ما قرّره قبيل ذلك في ردّ
الجواب المصدّر بقوله : وأيضا إلخ من بطلان كونه في وصف الملائكة وعدم مناسبته ،
وإن أراد أنه لو صحّ وقوع ذكرها عند ذكر الملائكة بعد ذلك بقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) الآية كما احتمله سابقا فهو مع أنه احتمال بعيد غير مناسب
أيضا ، مردود بأنه على هذا لا تظهر حاجة إلى نسخه ، إذ لا إيهام عند ذكر
__________________
ذلك في هذا الموضع
حتى يجوز النسخ لأجله ، واما السابع عشر فلأنّ ما نسبه إلى القاضي عياض : من أنه
قال في كتاب الشفا : إنّ هذا من مفتريات الملاحدة إلخ افتراء على القاضي المذكور ،
لأنه لم يقل : إنّ ذلك من مفتريات الملاحدة بل قال : ذكره المفسرون وتعلّق به
الملحدون إلخ ولو سلّم أنّ ذلك من مفتريات الملاحدة فهذا يوجب مزيد الشناعة على
طائفة من أهل السنة ذكروا هذه القصة في كتبهم ولم يفهموا فساد اسناده ومتنه ، حتى
شنع به غيرهم عليهم فاضطربوا في التفصي عنه بما لا يؤدّي إلى طائل ولا يرجع إلى
حاصل.
قال المصنف رفع الله درجته
ورووا عنه عليهالسلام أنّه صلّى الظهر ركعتين فقال أصحابه أقصرت الصّلاة أم نسيت
يا رسول الله فقال كيف ذلك فقالوا إنّك صلّيت ركعتين فاستشهد على ذلك رجلين فلمّا
شهدا بذلك قام فأتم الصّلاة ورووا في الصحيحين أنه عليهالسلام صلّى بالناس صلاة العصر ركعتين ودخل حجرته ثمّ خرج لبعض
حوائجه فذكره بعض أصحابه فأتمها وأىّ نسبة أنقص من
هذه وأبلغ في الدناءة فإنها تدلّ على إعراض النبي عليهالسلام
من عبادة ربه وإهمالها والاشتغال عنها بغيرها والتكلم في الصلاة وعدم تدارك السهو
من نفسه لو كان نعوذ بالله من هذه الآراء الفاسدة انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : ما رووا من
رسول الله صلىاللهعليهوآله في الصلاة حتى قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا
رسول الله فلما علم وقوع السهو عنه تدارك وأى نقص ودناءة في السهو
__________________
وقد قال الله
تعالى في القرآن (وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) وهذا تصريح بجواز
السهو والنسيان عليه والسر والحكمة فيه أن يصير هذا تشريعا للسهو في الصلاة وأنّ
الكلام القليل الذي يتعلّق بأمر الصلاة لا يضر وكذا الحركة المتعلّقة بالصلاة
فيمكن أن الله تعالى أوقع عليه هذا السهو وأنساه الصلاة لتشريع هذه الأمور التي
ذكرناها ، ولا يقدح السهو الذي ذكرنا فوائده في العصمة ، وأىّ دناءة ونقص في هذا؟
فانّ الله تعالى أنساه لوقوع التشريع ، وقد قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) فانّ الإنساء في أحد المعنيين هو إيقاع النسيان عليه ، وقد
قال تعالى في حقّ يوسف وهو من الأنبياء المرسلين : (فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) وكما أنه يجب أن يقدر الله تعالى حقّ قدره لقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) كذلك يجب أن يقدّر الأنبياء حقّ قدرهم ويعلم ما يجوز عليهم
وما لا يجوز ، وقد قال تعالى : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ) وقد عاب الله الكفار بالمبالغة في تنزيه الأنبياء عن أوصاف
البشر بقوله : (وَقالُوا ما لِهذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) وقال تعالى : (سُبْحانَ رَبِّي هَلْ
كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) انتهى.
__________________
أقول
قد وقع في رواية مسلم عن أبي سفيان عن أبي هريرة صلّى بنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في ركعتين فقام ذو اليدين فقال : أقصرت الصّلاة أم نسيت ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّ ذلك لم يكن ، فقال : قد كان بعض ذلك يا رسول الله وفي
رواية بل قد نسيت ، وقد يقدح في صحّة هذه الرّواية أوّلا كون راويها أبا هريرة
، والله أعلم بحال الوسائط وسيجيء في المبحث الخامس من مباحث الامامة وجه القدح في
رواية أبي هريرة إن شاء الله تعالى ، وثانيا أنّها تنافي ما علم من إخلاص ذى
الشّهادتين واعتقاد كون النّبيّ صلىاللهعليهوآله منزّها عن الجور والبهتان والسهو والنسيان حتى شهد للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في قضيّة دعوى الأعرابي بمجرّد علمه بعصمة النبي صلىاللهعليهوآله وصدقه من غير أن يكون له اطلاع على أصل القضيّة ومن غير أن
يحتمل في شأنه عليهالسلام شيئا من السّهو والنسيان في ذلك ، وثالثا أنّه لمّا كان ذو
الشهادتين عدلا بل حكم النبيّ صلىاللهعليهوآله بقيام شهادته مقام شهادة العدلين كيف لم يقبل النبي صلىاللهعليهوآله خبره بانفراده واحتاج معه إلى استشهاد غيره من الرّجلين ،
وقال المصنّف رفع الله درجته في كتاب تذكرة الفقهاء : خبر ذي اليدين عندنا باطل ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لا يجوز عليه السّهو مع أنّ جماعة من أصحاب الحديث طعنوا
فيه ، لأنّ راويه أبو هريرة وكان إسلامه بعد موت ذي اليدين
__________________
بسنين ، فانّ ذا اليدين قتل يوم بدر وذلك بعد الهجرة بسنتين ،
وأسلم أبو هريرة بعد الهجرة بسبع سنين ، قال المحتجون به : إنّ المقتول يوم بدر هو
ذو الشمالين واسمه عبد الله بن عمرو بن فضلة الخزاعي وذو اليدين عاش بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ومات في أيّام معاوية عليه ما عليه وقبره بذي خشب ، واسمه
الخرباق ، لأنّ عمران بن الحصين روى هذا الحديث فقال فيه فقام الخرباق فقال
: أقصرت الصّلاة ، وأجيب بأن الأوزاعى قال فقام ذو الشمالين فقال : أقصرت الصّلاة وذو الشمالين قتل
يوم بدر لا محالة ، وروي في هذا الخبر أنّ ذا اليدين قال أقصرت الصّلاة أم نسيت يا
رسول الله فقال : كلّ ذلك لم يكن وروى أنّه قال إنّما أسهو لابيّن لكم ، وروى أنّه
قال لم أنس ولم تقصر الصّلاة ، وروي من طريق الخاصة عن الصادق عليهالسلام أنّ ذا اليدين كان يقال له ذو الشمالين انتهى ، وأما ما
استدل به على عدم الدناءة
__________________
والنّقص في السّهو
والنسيان بقوله تعالى : (وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) فمردود بتصريح المحقّقين من المفسّرين بأنّ المراد إن
أنساك الشيطان قبل النّهى قبح مجالستهم فلا تقعد معهم بعد أن ذكرناك قبحها
ونبّهناك عليه ، وكيف لا يكون السّهو نقصا مع ما يحصل منه الوهن في الإسلام
والتنفير عن اتباع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلمّ ، وأيضا ينافي جواز مثل هذا السّهو على النبيّ ما روى البخاري من قوله عليه الصّلاة والسّلام سوّوا صفوفكم فانّى أرى من
ورائي كما أرى من أمامي فافهم. وقد فهم هذا بعض المتأخّرين من أهل السنّة على ما
ذكره ابن همام الحنفي في كتاب المسايرة فمنع السّهو عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
__________________
وصرّح بأنّ سلامه
على الركعتين حديث ذي اليدين كان قصدا منه وأبيح له ذلك ليبيّن للنّاس حكم السّهو (انتهى)
، لكن يتوجه عليه وعلى ما ذكره النّاصب من السرّ الذي ليس فيه برّ انّ هذا من قبيل
الرّجم بالغيب والرّمى في الظلام ، وأىّ حديث صحيح أو أثر صريح دلّ على تعليل ذلك بما ذكروه من السّر حيلة للتخلّص
عن شناعة الأنام؟ وأىّ ضرورة داعية في إظهار تشريع ذلك إلى إيقاع مثل هذه البليّة
على النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع وقوع حديث رفع القلم عن السّهو والنّسيان ،
وأمّا الذي منع من التنصيص على اختصاص النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلمّ بالتنزّه عن السّهو والنّسيان دونهم كما في سائر خواصّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله سلمّ ، مع أنّ ما ذكر في المسايرة متناقض
__________________
المقاصد لا يحلى
منه بطائل كما ذكره صاحب الشّفاء لاستلزامه اجتماع العمد والسّهو في حال كما لا يخفى ، وأما
ما استدل به من آية سورة يوسف فسقوطه ظاهر لأنّ تمام الآية هكذا ، (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ
مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
__________________
فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) الآية والمعنى الظاهر الذي اختاره أرباب التنزيه هو أنّ
ضمير أنساه راجع إلى الشرابي ، والحاصل أنّه أنسى الشرابي أن يذكر لربّه ، وعلى
هذا تكون الآية عليه لاله ، نعم النّاصب وأصحابه لعدم حسن ظنّهم بالأنبياء عليهم
الصّلاة والسّلام فسّروه بما يوافق مذهبهم وقالوا : المراد أنّه أنسى الشيطان يوسف
ذكر ربّه في تلك الحال حين وكل أمره إلى غيره حيث استغاث بمخلوق ـ واما ما تمسك به
من قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فقد مر أن المراد المماثلة في النوع والصنّف كما صرّح به المفسّرون أو المماثلة في القدرة على
الذّنوب ، لكن ميزهم الله تعالى عمّن عداهم بأن ثبّتهم على العصمة بلطفه وفضله ،
وقد وقع النّصّ على ذلك في سورة إبراهيم حيث قال تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الآية وقال النيسابوري في تفسيره : إنّه تعالى أمر نبيّه أن يسلك سبيل التواضع
وهو أنّ حاله مقصور على البشريّة لا يتخطاها إلى الملكيّة إلا أنّه امتاز بنعت
الإيحاء وكفى به بونا ومباينة.
__________________
قال المصنف رفع الله درجته
ونسبوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كثيرا
من النّقص ، فروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن عائشة قالت : كنت ألعب بالبنات
عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وكانت لي صواحب يلعبن معي وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا دخل تقمعن (ينقمعن خ ل) منه فيشير إليهن (فيسرّ بهن خ
ل) فيلعبن معي ، وفي الحديث عن الحميدي أيضا كنت ألعب بالبنات في بيته ، وهي
اللّعب مع أنّهم رووا عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم في صحاح الأحاديث أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة
مجسّمة أو تماثيل ، وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصورة
والتماثيل فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وإلى زوجته من عمل الصورة في بيته الذي قد اسّس للعبادة؟ وهو محل هبوط الملائكة
والرّوح الأمين في كلّ وقت ولمّا راى النّبي الصّور في الكعبة لم يدخلها حتّى محيت
مع أنّ الكعبة بيت الله تعالى فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلوّ مرتبته فكيف يتخذ
في بيته وهو أدون من الكعبة صورا ويجعلها محلا لها انتهى.
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد صحّ أن
عائشة كانت تلعب باللّعب وكان هذا لكونها صغيرة غير مكلفة ، فقد صحّ أنّه دخل
عليها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي بنت تسع سنين ، وهذه اللّعب ما كانت مصوّرة بصورة
الإنسان بل كانت على صورة الفرس لما روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى عند عائشة أفراسا لها أجنحة ، فقال : الفرس يكون له
جناحان فقالت عائشة أما سمعت أنّ خيل سليمان كانت لها أجنحة : فتبسّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وهيئة الفرس لا تسمى صورة لأنّ الأطفال لا يقدرون على
تصوير الصورة وإنّما يكون مشابها للصورة ، ولا حرمة في عمل اللّعبة على هيئة الخيل
بل هذا في الإنسان ، وقيل في ما عبد من الحيوانات والملائكة والإنسان ، وايضا يحتمل
أن يكون هذا قبل تحريم الصّور فان تحريم الصور كان عام الفتح على ما ثبت ، ولعب
عائشة كانت في أوائل الهجرة ، وللصّور شرائط إنّما تحرم عند وجودها وربّما لم يكن
شرط من الشرائط موجودا ، ولمّا صحّ الأخبار وجب التأويل والجمع وليس أخبار الصحاح الستة مثل أخبار الرّوافض ، فقد وقع إجماع الأئمة على
صحتها انتهى.
__________________
أقول
قد يتوجه عليه أنّ
كلام المصنف إنما هو في تجويز تمكين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اللّعب باللّعب والصور ، والاشارة إلى الإتيان بها دون
المنع عنها ، لا في تجويز لعب عائشة بها حتى يجاب بأنها كانت حينئذ غير مكلفة مع
ظهور الكذب فيه ، وأما ما ذكره من أنّ هذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان إلخ
ففيه : أنّ البنات لا تطلق إلا على ما يعملونه من اللعب بصورة البنات من الإنسان
وهو المتبادر الظاهر من البنات دون الأفراس ومن جملة خياناته الظاهرة المنشورة في
كتابه ما استدلّ به على أنّ لعب عائشة كانت منحصرة في الأفراس من الرواية التي
وضعها بالتّصرف في حديث مذكور في جامع الأصول يدلّ بصريحه على أنّ عائشة كانت تلعب
بالبنات المصوّرة بصورة الإنسان وبينها ما هو في صورة فرس له جناحان حيث قال :
ولأبى داود في رواية أخرى أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قدم من غزوة تبوك او خيبر وفي سهوتها ستر فهبّت ريح فانكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب
بها (لعب خ ل) فقال : ما هذه يا عائشة قلت بناتي ورأى وسطهن (بينهن خ ل) فرسا له
جناحان من رقاع فقال : وما هذا الذي أرى وسطهنّ؟ قالت : فرس قال : وما هذا الذي
عليه قالت : جناحان ، قال : فرس يكون له جناحان ، قالت : أما سمعت أنّ لسليمان
خيلا لها أجنحة ، فضحك حتّى رأيت نواجذه انتهى ومن العجب استدلاله على الجزم بأنّ عائشة ما كانت
تلعب بالبنات المصوّرة بصورة الإنسان بالرّواية الدّالة على أنّها قد لعبت مرة بما
كان في صورة الأفراس ، وايضا حكمه هاهنا
__________________
بعدم حرمة اللّعب
بما هو في صورة الخيل ينافي ما سيذكره في مسائل الشّهادات من المسائل الفقهية من
أنّ عدم حرمة اللّعب بالشطرنج عند الشافعي مشروط بشروط أربعة منها أن لا تكون أسبابه مصوّرة بصورة الحيوانات ، ثم ما
ذكره من أنّ هيئة الفرس لا تسمّى صورة ففيه مكابرة على العرف واللغة ، قال في
القاموس ، الصّورة بالضّم الشكل جمعه صور وصور وصور بالثّلاث انتهى ، ومن المضحكات
استدلاله على ذلك بقوله لأنّ الأطفال لا يقدرون على تصوير الصورة ، فانّ لعب
الأطفال بذلك لا يستدعي إقدارهم على تصوير الصّورة بأنفسهم بل ربّما يعمل ذلك لهم
غيرهم من امّهاتهم وأخواتهم وخالاتهم وأمثالهنّ مع أن عائشة لم تكن طفلا عند
اللّعب ، بل قد بلغ عمرها تسع سنين كما اعترف به النّاصب قبل ذلك ، والطّفل لا
يطلق إلا على الولد الرّضيع ، ثم إذا فطم يقال له فطيم أو فطيمة
__________________
أو وليد أو وليدة
كما ذكره الثعالبي في كتابي فقه اللّغة وسرّ العربيّة ، بل كانت بالغة على مذهب بعض
الفقهاء كما لا يخفى ، ثمّ قوله ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل ممنوع بل
الظّاهر من الصّور والتماثيل المذكورة في حديث التحريم ما يعم كلّ صورة لإطلاق
الحديث ، وقد صرّح بذلك البغوي في المصابيح والبيضاوي في شرحه ، وأمّا ما
ذكره من التّاريخ المضحك فلعله مأخوذ من تاريخه الفارسي المشتمل على الأكاذيب ،
فالاولى أن يدعه في مخلات جهالاته ، وأما ما ذكره من أن أخبار الصّحاح السّتة ليس
مثل أخبار الرّوافض ، فهو مسلّم فكيف تكون أخبار أهل سنّة معاوية وجماعة يزيد مثل
أخبار الرّافضين للباطل المتمسّكين بالكتاب والعترة ، واما قوله : فقد وقع إجماع
الأئمة على
__________________
صحّتها فمردود
بأنّ مراده من الأئمّة الأئمّة الدّعاة إلى النّار ، فإجماعهم خارج عن درجة الاعتبار ، وسيأتي تحقيق الكلام في
أخبار الفريقين في موضعه اللائق إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رفع الله درجته
وروى الحميدي أيضا في الجمع بين الصحيحين قالت عائشة : رأيت
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد
فزجرهم عمر وروى الحميدي عن عائشة قالت دخل علىّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال
مزمارة الشيطان عند النبّي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأقبل عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال دعها ،
__________________
فلمّا غفل غمزتهما ،
فخرجتا ، وكيف يجوز للنّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
الصبّر على هذا مع أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نص على تحريم اللّعب واللهو والقرآن مملو منه ، وبالخصوص مع زوجته ، وهلا دخلته
الحميّة والغيرة مع أنّه عليه الصّلاة والسّلام أغير النّاس وكيف أنكر أبو بكر
وعمر ومنعهما عليه الصّلاة والسّلام ، فهل كانا أفضل منه وأكمل؟ وقد
رووا عنه أنه لما قدم إلى المدينة من سفره خرجن إليه نساء المدينة يلعبن بالدّف
فرحا بقدومه وهو يرقص باكمامه هل يصدر مثل هذا عن
رئيس أو من له أدنى وقار؟! نعوذ بالله من هذه السقطات ، مع أنّه لو نسب الشخص
أحدهم إلى مثل هذا قابله بالسبّ والشتم وتبرّأ منه ، فكيف يجوز نبسة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى مثل هذه الأشياء التي يتبرّأ منها انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : ضرب الدفّ
ليس بحرام مطلقا ، وكذا اللهو كما ذكر في موضعه ، وما ذكر من ضرب الجاريتين بالدّف
عند عائشة كان أيّام عيد ، واتّفق العلماء على جواز اللهو وضرب الدّف في أوقات
السّرور كالأعياد والختان والاملاك ، وأمّا منع أبي بكر عنه فانّه كان لا يعلم جوازه في أيّام
العيد ، وتتمّة الحديث أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لأبي بكر : دعهما فانّها أيّام عيد فلذلك منعه أبو
بكر ، فعلمه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن ضرب الدفّ والغنا ليس بحرام في أيّام العيد وما ذكران
نساء المدينة خرجن إليه في عوده من السفر فذلك كان من خصال نساء المدينة ولم
يمنعهنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّها كانت قبل نزول الحجاب ولأنّهنّ كنّ يظهرن السّرور
بمقدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو عبادة ، وان ترك المروّة في أمثال هذه الأمور التي
توجب الالفة والموافقة وتطييب الخواطر وتشريح المسائل جائز ولكن نعم ما قيل شعر :
__________________
وعين الرّضا عن
كلّ عيب كليلة
|
|
ولكن عين السخط
تبدي المساويا
|
أقول
استدلال النّاصب
وأصحابه على عدم الحرمة منحصر في هذه الرّواية وما يشاكلها ممّا شنع عليه الخصم
فان استند في الحكم بعدم الحرمة بهذه الرّواية كان مصادرة ، وإن كان له دليل آخر من القرآن والإجماع فليذكر حتّى
ينظر في دلالته على أنّ قول أبي بكر مزمارة الشيطان صريح في أنّه فعل الشيطان ولم
ينكر عليه النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في قوله هذا ، ولعلّه أراد بجواز اللّعب المذكور في موضعه
قوله تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) الآية كما استدلّ به عبيد
__________________
الزّاكانى في
رسالة الأخلاق من جانب أصحاب مذهب المختار فليضحك وليّه قليلا ، واما ما احتمله من أنّ أبا بكر لم يعلم جواز ذلك في
العيد فكفى نقصا له حيث جهل ما علمته طفلته الصغيرة والجاريتان واما ما ذكره من
تتمّة الحديث فهو من إضافاته ومخترعاته التي لا تروج إلّا على جاهل مثله ، مع ما
فيه من لزوم جهل أبي بكر بما علمه الأطفال والسوقية كما مرّ واما ما ذكره من أنهنّ
كنّ يظهرن السّرور بمقدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو عبادة مدفوع بأنّ السّرور عبادة ، لكن ما قرنوه به من
اللّعب مع الدّف معصية ، والكلام فيه وفي رقص النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم واما ما ذكره من أنّ ترك المروءة في أمثال هذه الأمور التي
توجب الالفة والموافقة وتطييب الخواطر وتشريع المسائل جائز مردود بأن كثيرا ممّا
يعدّ من ترك المروءة ويقدح في العدالة اتفاقا ربّما يوجب الالفة والموافقة مع
جماعة لا يبالون بترك المروءة والتقوى ، فعلى قياس ما ذكره يلزم أن يكون
__________________
جائزا وهو ممّا لا
يقول به عاقل مسلم ، وأما إرادة تشريع المسائل فقد علمت ما فيه.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الصحيحين
أن ملك الموت لما جاء ليقبض روح موسى عليهالسلام لطمه موسى فقلع (ففقأ خ ل ظ)
عينه فكيف
يجوز لعاقل أن ينسب موسى مع عظمته وشرف منزلته وطلب قربه من الله تعالى والفوز
بمجاورة عالم القدس إلى هذه الكراهة؟ وكيف
يجوز منه أن يوقع بملك الموت عليهالسلام ذلك وهو مأمور من قبل الله تعالى انتهى.؟
قال النّاصب خفضه الله
أقول الموت بالطبع
مكروه للإنسان وكان موسى عليهالسلام رجلا حادّا كما جاء في الأخبار والآثار ، فلمّا صحّ الحديث وجب أن يحمل على كراهته للموت ،
وبعثته الحدة على أن لطم ملك الموت كما أنّه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه
إليه ، وهذا الاعتراض وارد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه الله
تعالى إيّاها هدى ورحمة ، ويمكن أن يقال : كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء
الألواح وطرح كتاب الله تعالى وكسر لوحه إهانة لكتاب الله ، وكيف يجوز له ضرب
هارون وهو نبيّ مرسل ، وكلّ هذه عند أهل الحقّ محمول على ما يعرض البشر من الصّفات
البشرية ، وليس فيه قدح في ملكة عصمة الأنبياء ، وأمّا عند ابن المطهر فهي محمولة
على ذنوب الأنبياء ولو لم يكن القرآن متواترا ، ونقل لابن المطهر الحلي أن موسى
ألقى الألواح وأخد برأس أخيه يجرّه إليه لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه
__________________
الاعتراضات ، فلو
أنّه أنصف من نفسه يعلم أنّ ما نقول في تعصبّه حقّ انتهى.
أقول
وقد حكم القاضي
عياض المالكي أيضا بصحّة الحديث ، لأنّه مذكور في كتابين سمّاهما مؤلّفاهما
بالصّحيح ، وأجاب عمّا يتضمّنه من نسبة الذّنب إلى موسى عليهالسلام بأنّ الحديث ليس فيه ما يحكم على موسى بالتعدّي وفعل ما لا
يجب له إذ هو ظاهر الأمر بين الوجه جائز الفعل ، لأنّ موسى دافع من نفسه مدافعة من
أتاه لإتلافها ، وقد تصوّر له في صورة آدمي ولا يمكن أنّه علم حينئذ أنّه ملك
الموت فدافعه عن نفسه مدافعة أدّت إلى ذهاب عين تلك الصورة التي تصوّر له فيها
الملك امتحانا من الله فلمّا جاءه بعد وأعلمه الله أنّه رسوله إليه استسلم انتهى ،
وفيه ما فيه أمّا أولا فلأنّ عدم إمكان الاستعلام ممنوع إذ كثيرا ما تتصوّر
الملائكة للأنبياء بصورة غيرهم ويعلمون بهم على أنّ في الحديث أنّ ملك الموت لما رجع إلى ربّه ، وقال : أرسلتنى
إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه وقل له يضع يده إلخ ، وهذا قرينة شعوره بالملك ، واما ثانيا فلأنّه لا وجه
للاختيار والامتحان بعد القول بأنّه فعل الواجب من المدافعة فافهم ، وقد يجاب بحمل
فقأ عينه على المجاز من قولهم فقأ عين حجّته ، فالمراد صكّه ولطمه بالحجّة وفقأ
عين حجّته ، وفيه أنّه لا يلائم ما وقع في
الحديث بقوله :
فرد الله عليه عينه ، وايضا فما المباحثة الواقعة مع ملك
الموت عند قبض روحه حتّى يحتاج إلى إيراد حجّته وإبطاله ، وأجاب بعضهم بأنّه يحتمل
أن يكون هذا الفعل وقع منه من غير اختيار ، لأنّ للموت سكرات انتهى ، وأقول : هذا
الجواب الخارج عن الصّواب مأخوذ عمّا سيجيء من قول الثاني في شأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ الرّجل ليهجر أو ليهذو على اختلاف الرّوايتين ،
فانظروا أيّها الاخوان بنظر الإنصاف والعناية أنّ سعة ميدان الغواية إلى أى غاية؟
ثمّ ليس الكلام في مجرّد نسبة الذنب إلى
__________________
موسى عليهالسلام بل في سخافة اعتقادهم أيضا أنّ ملك الموت مع تلك القدرة
والتأييد من الله تعالى يعجز عن مقاومة موسى عليهالسلام في حال مرضه وضعفه بحيث يتلف عينه ويحتاج إلى الشكاية عند
ربّه إلى غير ذلك من المضحكات التي يتلهى بها الصبيان فتأمل فان الفكر فيهم طويل ،
واما ما ذكره الناصب من المعارضة بقصّة غصّة موسى عليهالسلام في إلقاء الألواح وجرّ رأس أخيه فلا يصلح للمعارضة أصلا ،
لأنّ له محملا صحيحا وتأويلا جميلا قد ذكره السّيد الشريف المرتضى علم الهدى رضياللهعنه واستحسنه فخر الدّين الرّازى وذكره في تفسيره الكبير ، وهو أنّ بنى إسرائيل كانوا في
نهاية سوء الظن بموسى عليهالسلام حتّى أنّ موسى عليهالسلام لما غاب عنهم غيبته قالوا لهارون عليهالسلام : أنت قتلته ، فلما وعد الله موسى عليهالسلام بثلاثين ليلة وأتمّها بعشرة وكتب له في الألواح من كلّ شيء
فرجع فرأى في قومه ما رأى ، فأخذ برأس أخيه ليدنيه من نفسه ويتفحص عن كيفية
الواقعة فخاف هارون عليهالسلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقا على موسى عليهالسلام (لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) لئلا يظن القوم انك تريد أن تضربني وتؤذيني انتهى ، وأقول
لا يخفى أنّ أخذ اللّحية والرأس عند الملاقاة والمشاورة عادة جارية بين العرب إلى
الآن ، ولو كان ذلك للاهانة لقارنت لطمة واحدة ولنقل وإذ ليس فليس ، ثم أقول :
يجوز أن يكون ذلك الاعتراض والتعرض من باب قولهم : إياك أعني واسمعي يا جاره بل قيل إن أكثر أساليب
__________________
الإنذارات
المتوجّهة إلى الأنبياء عليهمالسلام كقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ) الآية من هذا القبيل ، والحاصل أنّ إلقاء الألواح
__________________
انّما كان لمصلحة
إظهار الغضب على القوم وانزجارهم عمّا صدر عنهم من الغواية ولا مصلحة دينيّة في
لطم ملك الموت وفقأ عينه ، بل كان المصلحة في تمكينه كما مرّ ، واما ما ذكره من
كسر الألواح وقصة إهانة كتاب الله تعالى فذلك من إضافات النّاصب عدوّ الله وعدوّ
أنبيائه وأوليائه كما لا يخفى ، ومن أين علم أن قصد موسى من إلقاء الألواح كان
إهانة كتاب الله تعالى دون ما ذكرناه من المصلحة ، ولو صحّ قصده لذلك لكفى قدحا في
عصمته سواء دعاه الحدّة إلى ذلك أو غيرها ، وأما قوله وكلّ هذه عند أهل الحقّ
محمول على ما يعرض البشر إلخ فيوجب خروج إمامه فخر الدّين الرّازي وشيخه صاحب
المواقف عن أهل الحقّ حيث حملوا ذلك على ما حمله عليه ابن المطهّر
طهّر الله رمسه ممّا لا ينافي طهارة الأنبياء عليهمالسلام ، فالعجب أنّ النّواصب يحملون الآيات التي ظاهرها عتاب
الأنبياء عليهمالسلام على ترك الأولى والأفضل على ظواهرها ويحكمون عليهم
بالمعاصي والخطاء مع دلالة العقل على وجوب تنزيههم عن ذلك ، ومع وجود المحامل
لظواهر تلك الآيات ، ويحملون هذيانات عمر بن الخطاب وكلماته التي ظاهرها منكر
ومرتبته أقلّ من مراتب الأنبياء عليهمالسلام بأضعاف لا تحصى على خلاف ظاهرها ويمنعون من جواز حملها على
ظواهرها مع أنّ كلامه لا محمل له ويتركون العمل بظاهره بغير تأويل واضح وتوجيه بين
، وهلّا ساووا بينه وبين الأنبياء الذينهم في محلّ التعظيم؟ وما ذاك إلا من قلّة
الإنصاف وشدّة العصبية والاعتساف ، وأما قوله : ولو لم يكن القرآن متواترا ونقل
لابن المطهّر أنّ موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه لكان ينكر هذا إلخ
، فرجم بالغيب ورمى في الظلام كما لا يخفى ، ومن أين علم أنّه لم يكن يحمله على ما
ذكرناه من المحمل الذي ارتضاه مرتضى الشّيعة
__________________
ووافق فيه فخر
الدّين الرّازي وغيره.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الجمع بين الصحيحين أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال في صفة حال الخلق يوم القيامة : وأنّهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر
إليهم فيأتون نوحا فيعتذر إليهم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبيّ الله
وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربّك أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم : إنّ ربّي
قد غضب غضبا لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله ، وإنّي قد كذبت ثلاث كذبات نفسي
نفسي اذهبوا إلى غيري ، وفي الجمع بين الصحيحين
انّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال لم يكذب إبراهيم النبيّ عليهالسلام
قط إلا ثلاث كذبا ، كيف يحلّ لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء وكيف يبقى الوثوق
بشرائعهم مع الاعتراف بتعمّد كذبهم انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد عرفت
فيما مضى أنّ الإجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب واما الكذبات المنسوبة
إلى إبراهيم لمّا صحّ الحديث فالمراد منه صورة الكذب لا حقيقته كما قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا
فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، وكان مراده إلزامهم ، ونسبة الفعل إلى كبيرهم ، لأنّ
الفاس الذي كسر به الأصنام وضعه على رقبة كبير الأصنام فالكذب المأوّل ليس كذبا في
الحقيقة ، بل هو صورة الكذب إذا كان التأويل ظاهرا وهذا لا بأس به عند وقوع
الضرورة انتهى.
__________________
أقول
قد مرّ أنّ
الإجماع لم ينعقد على العصمة عن الكذب على إطلاقه ، بل خصّها الأشاعرة بما بعد
النبوّة ، واما ما ذكره من أنّ المراد بكذبات إبراهيم ما كان في صورة الكذب لا
حقيقته فممّا يأبى عنه استعذار إبراهيم عليهالسلام عن شفاعة النّاس بأنّه كذب ثلاث كذبات فلا يليق بطلب
الشّفاعة من الله تعالى ، وايضا يأبى عنه قوله عليهالسلام في الرّواية الثانية : إنّ إبراهيم لم يكذب قطّ إلا ثلاث
كذبات فانّ ما يفيده سوق الكلام من الحصر والتأكيد بقوله قطّ يدلّ على أنّه أراد
حقيقة الكذب كما لا يخفى ، والحاصل أنّا نعلم أنّ الكذب الذي يتراءى في الآية ليس
بكذب بل هو من المعاريض التي يقصد بها الحقّ وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال
صاحبك
__________________
وقد كتبت كتابا
بخطّ في غاية الحسن أنت تكتب هذا وصاحبك امّيّ لا يحسن الخط ، فقلت له : بل كتبته
أنت كان قصدك بذلك الجواب تقريره ذلك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للامّي ،
لكن الكلام في الكذب المذكور في الحديث المنقول ، فانّه إذا لم يكن ذلك الكذب كذبا
حقيقة كما ذكر أوّلا لم يكن به بأس كما ذكره ثانيا فما وجه ما وصف في متن الحديث
من شدّة غضبه تعالى في ذلك حتّى يئس إبراهيم عن قبول شفاعته وعدل إلى الاعتذار.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الجمع بين
الصحيحين أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي) (ويرحم الله لوطا
لقد كان يأوى إلى ركن شديد) ولو لثبت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الدّاعيكيف يجوز؟! لهؤلاء القوم الاجتراء على
النبيّ
__________________
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالشك في العقيدة انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : كان من
عادة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم التواضع مع الأنبياء كما قال لا تفضلوني على يونس بن متى
وقال لا تفضلوني على موسى قد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء عليهمالسلام ، فذكر ثبات إبراهيم في الايمان ، والمراد من الحديث أنّ
إبراهيم مع ثباته في الايمان وكمال استقامته في إثبات الصانع والحشر كان يريد
الاطمئنان ويقول ولكن ليطمئنّ قلبي فغيره أحقّ بهذا التردّد الذي يوجب الاطمئنان ،
وأمّا التّرحّم على لوط فهو أمر واقع ، فانّ لوطا كان يأوي إلى ركن شديد كما قال :
أو آوي إلى ركن شديد فترحّم له رسول الله صلىاللهعليهوآله لأنّه كان ضعيفا ، وليس فيه الدلالة على أنّه صلىاللهعليهوسلم عاب لوطا في اويه إلى ركن شديد ، واما قوله : لو لبثت في
السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي ففيه وصف يوسف عليهالسلام بالصّبر والتثبّت في الأمور وأنّه صبر مع طول السّجن حتّى
تبيّن أمره ، فانظروا معاشر النّاظرين هل في هذه الأمور يرجع عيب وشين إلى
الأنبياء مع أنّ الحديث صحّ وهو بطعن في قول النبيّ صلىاللهعليهوآله نعوذ بالله من رأيه الفاسد انتهى.
أقول
لا دلالة للجملة
الاولى من الحديث على إرادة نبيّنا صلىاللهعليهوآله للتواضع مع إبراهيم ، وأىّ تواضع في إثباته له الشكّ الذي
هما بريئان عنه في الواقع؟ مع صراحة كلامه المحكي في القرآن على أنّه لم يزد الشك
، بل قال ذلك لزيادة الاطمئنان ولاعتضاد النّقل بالعقل ، وبهذا ظهر أنّ ما ذكره
الناصب من المراد بالحديث لا يرتبط بالشك قطعا هذا ، وقد نقل القسطلاني (العسقلاني
خ ل) شارح البخاري عن الشافعي أنّه قال : معنى الحديث أنّ الشكّ يستحيل في حقّ
إبراهيم ولو كان الشكّ متطرّقا
إلى الأنبياء عليهمالسلام لكنت أحقّ به من إبراهيم وقد علمتم أنّ إبراهيم لم يشك
فإذا لم أشكّ أنا ولم أرتب في القدرة على الاحياء فإبراهيم أولى بذلك انتهى ،
وأقول : هذا التأويل الطويل العليل المشتمل على التمويه والتسويل يوجب إلحاق
الحديث بالتعمية والالغاز فكان يجب على الشّافعي أن يسأل الله تعالى طول عمره
__________________
ليصحب هذا الحديث
أينما سار ويذكر تأويله لمن تلقى ظاهره بالإنكار ، ونقل عن الزركشي
__________________
أنّه قال ذكر صاحب
الأمثال السائرة أنّ أفعل يأتي في اللغة لنفى المعنى عن الشيئين نحو الشيطان
خير من زيد أى لا خير فيهما وكقوله تعالى (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ) أى لا خير في الفريقين ، وعلى هذا فمعنى قوله : نحن أحق
بالشك من إبراهيم لا شك عندنا جميعا وهو أحسن ما يتخرج عليه هذا الحديث انتهى ،
وأقول : قبحه ظاهر إذ قياس ما نحن فيه على العبارتين السابقتين يقتضي أن يكون
معناها نفي الأحقية بالشكّ لا نفي الشكّ وهذا ظاهر لا يشكّ فيه المتأمّل ، واما ما
ذكره من أنّ في الجملة الثالثة وصف يوسف عليهالسلام بالصبر والتثبّت في الأمور إلخ فمدفوع بأنّه مع ذلك يتضمّن
إظهار النبيّ عليهالسلام عدم صبره على ذلك في سبيل الله وأنّه لو كان في مقام يوسف
لأجاب دعوة زليخا وهذا هو محط التشنيع الذي ينبغي براءة النبيّ صلىاللهعليهوآله عنه وهذا ما أراده المصنّف قدسسره ، واما الجملة الثانية فهي وإن كانت في نفسها ظاهرة فيما
ذكره الناصب ، لكن مجموع ما ذكره من الجمل
__________________
الثلاثة حديث واحد
مذكور في صحيح البخاري والاولى والثالثة صريحتان في الشكّ وعدم الصبر ، فيلزم أن
تكون الثّانية أيضا واقعة على ما يناسبه سياقهما بأن فهم النبيّ صلىاللهعليهوآله منها أنّ الباعث للوط عليهالسلام على الالتجاء لركن شديد ضعف اعتقاده وفتور اعتماده ،
واتّكاله على الله تعالى ، ولهذا أوّله القسطلاني بانّ المعنى لو أراد لآوى إليه
ولكن آوى إلى الله انتهى ، ويؤيد ما ذكرناه ما ذكره البخاري بعيد ذلك من قوله باب قصّة لوط عليهالسلام حدّثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج
__________________
عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : يغفر الله للوط أن كان ليأوى إلى ركن شديد انتهى ،
فان فيه دلالة على أن لوطا يحتاج أن يستغفر له إن قال ذلك وقصر في الصبر على أذى
القوم والله المستعان.
__________________
قال المصنّف رفع الله درجته
وفي الصحيحين وقال بينما الحبشة يلعبون عند النبيّ صلىاللهعليهوآله بحرابهم فدخل عمر فأهوى إلى الحصى (الحصباء) فحصاهم بها فقال له
رسول الله صلىاللهعليهوآله دعهم يا عمر ، وروى الغزالي في إحياء علوم الدّين أنّ النبي صلىاللهعليهوآله كان جالسا وعنده جوار يتغنّين ويلعبن فجاء عمر فاستأذن ،
فقال النبي صلىاللهعليهوآله للجواري : اسكتن فسكتن فدخل عمر وقضى حاجته ثمّ خرج ، فقال
لهن : عدن فعدن إلى الغناء ، فقلن يا رسول الله : من هذا الذي كلما دخل قلت اسكتن
وكلّما خرج قلت عدن إلى الغناء ، فقال هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل ،
كيف يحلّ لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النّبي صلىاللهعليهوآله
أيرى عمر أشرف من النبيّ صلىاللهعليهوآله
حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبيّ يؤثره انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : أمّا لعب
الحبشة بالحراب فانه كان يوم العيد وقد ذكرنا أنّه يجوز اللهو يوم العيد بالاتفاق
، ويمكن أن يكون تجويز ذلك اللّعب بالحراب لأنّه ينفع في الحرب ، وفيه المهارة من
طعن الحربة وكيفيّة تعليمه وإلقائه في الحرب ، وكلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس
به ، ويمكن أن يكون عمر لم يعلم جوازه ، فعلّمه النّبي صلىاللهعليهوآله ، واما ما روى عن الغزالي فان صحّ يمكن حمله على جواز
اللّعب مطلقا وفي أيّام الأعياد ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآله يسمعه لضرورة التشريع حتّى يعلم أن اللهو ليس بحرام ،
وربّما كان عمر يمتنع منه ومكّنه رسول الله صلىاللهعليهوآله على عدم السّماع ليعلم أنّ الأولى تركه ، وسمع هو كما
ذكرنا لضرورة التشريع ، فهل يلزم من هذا أن يكون عمر أشرف من النّبي صلىاللهعليهوآله وعمر من
__________________
امّته وممّن
يتعلّم منه الشريعة انتهى.
أقول
ما ذكره من أنّ
ذلك اللّعب كان يوم العيد رجم بالغيب كما مرّ ، وما ذكره من أنّه يجوز اللهو يوم
العيد دعوى من غير دليل ، ودعواه الاتّفاق على جواز ذلك ممنوع ، لظهور مخالفة
الشيعة ومن وافقهم في ذلك ، اللهم إلّا أن يريد اتّفاق الفسّاق من أهل النّصب
والنفاق عليه ، وليس في اتفاقهم رواج ونفاق كما لا يخفى ، ومن هذا يعلم أيضا بطلان قوله : ويمكن أن
يكون تجويز ذلك إلخ ، وقد علم بطلان قوله : ويمكن أن يكون عمر إلخ ، بما ذكرناه في
بعض الفصول السابقة فتذكر ، وأما قوله وكان النبي صلىاللهعليهوآله يسمعه لضرورة التّشريع إلخ فيقال في جوابه : ثبت العرش ثمّ
انقش ، وهل كون ذلك شرعيا إلّا أوّل البحث والنزاع ، وكذا الكلام في توجيهه لما
روى الغزالي ، وبالجملة ما ذكره النّاصب من التأويلات الباردة الشبيهة بتأويلات
الباطنيّة من الملاحدة الماردة ممّا يأبى عنها ما نسب في الرّواية إليه عليهالسلام من قوله : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل ، فانّ ما هو جائز
أو مكروه لا يوصف بالباطل ، فيلزم منه أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله مريد لسماع الباطل دون عمر ، وهذا كفر محض ممّن يعتقده كما
لا يخفى علي من آمن بالله ورسوله فضلا عن استلزامه أشرفيّة عمر عن النبي صلىاللهعليهوآله فيه ، على أنّ ما يكون تشريعه ضروريّا لا يكون تركه أولى
فتأمّل
قال المصنّف رفع الله درجته
وفي الصّحيحين عن أبي هريرة قال : أقيمت الصلاة وعدلت الصّفوف قياما قبل
__________________
أن يخرج إلينا رسول
الله صلىاللهعليهوآله
، فخرج إلينا رسول الله صلىاللهعليهوآله
فلمّا قام في مصلاه ذكر أنّه جنب ، فقال
لنا : مكانكم ، فلبثنا على هيأتنا قياما ثمّ رجع فاغتسل ثمّ خرج إلينا ورأسه يقطر
فكبّر فصلّينا ، فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى النّاس بأنّه يحضر في الصّلاة
ويقوم في الصّف وهو جنب؟ وهل ذلك إلا من تقصيره في عبادة ربّه وعدم المسارعة إليها؟
وقد قال الله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)
فأىّ مكلّف أجدر
بقبول هذا الأمر من النبي صلىاللهعليهوآله
، وفي الجمع بين الصحيحين عن
أبي هريرة قال صلّى بنا رسول الله (النبيّ) صلىاللهعليهوآله
إحدى صلاتي العشى قال محمّد وأكثر ظني أنّها العصر ركعتين ، ثمّ سلّم ثمّ قام إلى
خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يكلّماه وخرج
سرعان النّاس وقالوا : أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعى ذا اليدين قال يا نبيّ الله أنسيت
أم قصرت الصلاة؟ فقال لم أنس ولم أقصر ، وقال بلى قد نسيت ، قال : صدق ذو اليدين
فقام فصلّى ركعتين ثمّ سلّم ، فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا الفعل إلى رسول الله
صلىاللهعليهوآله
وكيف يجوز منه عليهالسلام أن يقول ما نسيت؟ ، فان هذا سهو في سهو ومن يعلم أن أبا
بكر وعمر حفظا ما نسى رسول الله صلىاللهعليهوآله
مع أنّهما لم يذكرا ذلك للنّبي صلىاللهعليهوآله
انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد مرّ
فيما سبق جواز السّهو والنسيان على الأنبياء ، لأنّهم بشر سيّما إذا
__________________
كان السّهو موجبا
للتشريع ، فانّ التشريع في الأعمال الفعلية آكد وأثبت من الأقوال فما ذكر من حديث
تذكر الجنابة فمن باب النسيان وفيه تشريع العمل بعد النسيان إذا تذكر ، ولهذا ترجم
البخاري الباب الذي ذكر فيه هذا الحديث بقوله : باب إذا ذكر في المسجد أنّه
جنب يخرج كما هو ولا يتيمّم ، ولا يلزم من هذا نقص ، وما ذكر من سهو رسول الله صلىاللهعليهوآله في الصّلاة فهو سهو يتضمّن التشريع فلا بأس به ، وما ذكره
من نسيانه السّهو فهذا أيضا يتضمّن التشريع لأنّه شرّع بذلك النسيان جواز وقوع
الفعل المتعلّق بالصّلاة في أثناء الصلاة وكذا الكلام القليل ، والعجب أنّه قال :
كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر مانسى رسول الله صلىاللهعليهوآله وأىّ عجب في هذا؟ فان الامام كثيرا مّا يسهو والمأمومون لا
يسهون ، فلا يلزم من هذا تفضيل المأموم على الامام ، وهل هذه الكلمات إلا ترّهات
ومزخرفات انتهى.
أقول
قد سبق الكلام
منّا أيضا على ما ارتكبه من الجواز وعلى ما استدلّ عليه من أنّ النبيّ بشر وعلى
جعل السّهو والنسيان وسيلة إلى التّشريع ، واما ما خصّ هذا المقام به من أنّ
التشريع في الأعمال الفعليّة آكد فممنوع بل القضية منعكسة لجواز أن يكون التشريع
الفعلي مخصوصا به بخلاف الأمر القولي العام ، وبهذا يعلم ضعف ما التزم صحته من
التشريعات الفعلية المتتالية ، واما قوله : لأنه شرع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل
المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة ففساده ظاهر ، لأنّ ظهور تشريع النسيان لم يكن
متوقفا على أن يقف النبي صلىاللهعليهوآله بعد الصلاة قائما على خشبة المسجد واضعا يديه عليها ، ثمّ
يدخل الحجرة ثمّ يخرج فيسأل عنه فيجيب بأربع كلمات ثمّ يسأل عنه فيجيب بمثل الأوّل
مع أنّ التكلم بكلام الآدميين والفعل الكثير مبطل
__________________
للصلاة عند
الفقهاء الأربعة أيضا ، اما الاول فلما في كتاب الينابيع أنّ مما يتوقف عليه صحة الصلاة ترك الكلام لقوله عليه الصلاة والسّلام : لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ،
قال الشارح الأنصاري : المراد بكلام الناس ما يتخاطب به الناس وما من جنسه ،
وفي التتمة وغيره هو المسموع المتهجى (المهجي خ ل) سواء كان مفهما أم
لا ، هذا هو مذهب الفقيه وعليه اللغوي والاصولي ، وأما النحوي فلا يطلق الكلام إلا
على المفهم ، فلما شرط فيها ترك الكلام فتبطل بالنطق بحرفين وحرف مفهم ولو ممدودا
، إذ المدّ حرف «انتهى» نعم قال الشافعي : إنه لا تبطل الصّلاة بالكلام الصّادر
نسيانا أو جهلا إن لم يكثر ذلك الكلام بحسب العادة على الصحيح الذي في الامّ وقطع به جمهور الشافعيّة ، وعند أبي حنيفة على ما في الهداية
__________________
وغيرها تبطل
بالنسيان والجهل لعموم ما مرّ من الحديث ، وبهذا ظهر أنّ ما زعمه النّاصب من أنّ
ما نسب إلى النّبيّ صلىاللهعليهوآله من مراتب الجواب داخل في الكلام القليل باطل مخالف لمذهب
أصحابه أيضا ، واما الثاني فلما قال في الينابيع وشرحه أيضا : إنّه تبطل الصّلاة
بغير فعل مجانس لأفعال الصلاة إن فحش ذلك الفعل كوثبة المصلّي وإن لم يكن كثيرا أو
فعل غير مجانس صادر للّعب مثل ضرب إحدى الرّاحتين بالاخري أو أن يفعل غير (زائد ظ)
مجانس كثير ذلك الفعل بحسب العادة فتبطل الصّلاة علي أظهر الوجوه الذي عليه
الأكثرون ، والفعل الكثير مثل ضربات ثلاث وخطوات ثلاث متوالية كلّ واحدة فلا تبطل
بأقلّ من ثلاث ولا بثلاث وأكثر عن غير متوالية والقلّة والكثرة بحسب العرف والعادة
على الأصحّ الّذي عليه الجمهور انتهى ، واما ما ذكره في مقام دفع التعجّب من أنّ
الامام كثيرا مّا يسهو والمأمومون لا يسهون إلخ فقد سهى فيه عن علوّ شأن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فانّ الكلام سهوا ليس في إمام الصّلاة الذي جوّز أهل
السّنة أن يكون عاميا جاهلا فاجرا ، بل في الامام النبيّ المعصوم المؤيّد بالنفس
القدسي والوحى الالهي الذي يتوقع ببركته صيانة المأمومين عن السهو والنسيان والخطأ
والطغيان كما قال مادح أئمّة أهل البيت عليهمالسلام بالفارسيّة نظم :
زهي إمام كه
پاسش نگاه ميدارد
|
|
بوقت نيّت از
انديشه خاطر مأموم
|
مگر حجاب نماند
وگرنه از در وصف
|
|
بصد كتاب نگردد
مقام او معلوم
|
ولقد علم بما
قررناه وأوضحناه أنّ ما ذكره المصنّف مزخرفات بمعنى المحبّرات والمزيّنات وبالمعنى
الآخر لا يصدق إلّا على أمثال ما أتى به النّاصب من ركيك الهفوات.
قال المصنّف رفع الله درجته
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أنّه كان يحدث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه لقى
__________________
زيد
بن عمرو بن نفيل بأسفل بلد ح وذلك قبل أن ينزل الوحى على رسول الله صلىاللهعليهوآله
، فقدم إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله
سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثمّ قال : إنّي لا آكل ممّا تذبحون على
أنصابكم ولا آكل إلا ممّا ذكر اسم الله عليه ، فلينظر العاقل هل يجوز له أن ينسب
نبيّه عليه الصّلاة والسّلام إلى عبادة الأصنام والذبح على الأنصاب ويأكل منه؟
وأنّ زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف بالله منه وأتمّ حفظا ورعاية لجانب الله ، نعوذ
بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : من غرائب
ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرّجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله رواية هذا
الحديث فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه وهو الطعن في رواية الصّحاح وما
ذكر تمامه ، وتمام الحديث أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لما قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال : وأنا أيضا
لا آكل من ذبيحتهم وممّا لا يذكر عليه اسم الله تعالى فأكلا معا ، وهذا الرّجل لم
يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرّواية نسأل الله العصمة من التعصّب فانّه
بئس الضجيع انتهى.
أقول
من بدائع حيل هذا
الناصب الفاجر الكاذب الخائن أنّه لمّا أراد التفصّي عن التشنيع المتوجّه على
أصحابه في هذه الرّواية بضمّ بعض ما اخترعه من العبارات أرعد وأبرق أوّلا وتشدّد
في إظهار التعجّب والغرابة ونسبة المصنّف قدسسره إلى الخيانة والتقصير وختم ذلك بسؤال العصمة عن التعصّب
ليسدّ بذلك باب رجوع الناظرين
__________________
إلى مأخذ الرّواية
فلا يظهر خيانته فيها بالزّيادة عليها ، والحاصل انّا قد راجعنا صحيح البخاري فكان
الحديث كما نقله المصنّف قدسسره ولم يكن من الاضافة التي ذكرها هذا الناصب الخائن الشقيّ
عين ولا أثر ، ومن أبي لحسن ظنّه في هذا الشقي السّقيم فليراجع ذلك الصحيح ليتّضح
له ما أتى به من الكذب الصريح ، ومن هنا أيضا يظهر صدق ما أشرنا إليه في بعض
المراتب من أنّ أصحاب النّاصب بعد ما نبّههم الشّيعة على شناعة بعض أحاديثهم
يزيدون على ذلك أو ينقصون عنه على حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق ، فلا يعتدّ بما
يرويه أهل الشّقاق.
قال المصنّف رفع الله درجته
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال : كنت مع النبيّ صلىاللهعليهوآله فانتهى إلى
__________________
سباطة
قوم فبال قائما ، فتنحّيت ، فقال : ادن ، فدنوت ، حتّى قمت عند عقيبه فتوضّأ ومسح
على خفّيه ، فكيف يجوز أن ينسب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
البول قائما مع أنّ أرذل النّاس لو نسب إليه هذا تبرّأ عنه ، ثم المسح على الخفّين
، والله يقول : (وَأَرْجُلَكُمْ)
فانظروا إلى هؤلاء
القوم كيف جوّزوا الخطاء والغلط على الأنبياء وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
يجوز أن يسرق درهما ويكذب في أخس الأشياء وأحقرها «انتهى».
قال النّاصب خفضه الله
أقول : اختلف في
جواز البول قائما ، فالذي يجوّزه يستدلّ بهذا الحديث ، وعن الأطبّاء أنّ البول
قائما ينفع الكلية والمخصر ، فالنبيّ صلىاللهعليهوآله عمل هكذا ليشرع
__________________
جواز البول قائما
، وأىّ منقصة يتصوّر من البول قائما سيّما إذا كان متضمّنا للتشريع وطلب الدّنوّ
من حذيفة ربّما يكون لتشريع جواز البول قائما بقرب من النّاس بخلاف الغائط لغلظته
ولتقذره ، ولهذا كان يبعد من الناس في الغائط دون البول ، واما المسح على الخف فهو
جائز بالإجماع من أهل السنّة كما سيأتي في مباحث الفقه إن شاء الله تعالى والله
أعلم. ثم ما ذكر أنّهم جوّزوا الخطأ والغلط على الأنبياء والنبيّ يجوز أن يسرق
درهما فقد ذكرنا أنّ هذا افتراء محض ووجب تنزيه الأنبياء من الصغيرة الدالة على
الخسّة انتهى.
أقول
لا يخفى أنّ نفع
الكلية عند الأطبّاء لا ينحصر في البول قائما
__________________
ولا هو من
المعالجات التي يحصل بها سرعة البرء حتى هذا يعارض قبحه الظاهر ويضطرّ معه إلى
تشريعه ، ولو تنزلنا عن ذلك فنورد عليهم مثل ما أورده القفّال الشافعي على الحنفيّة من أنّا نعلم ببديهة العقل أنّ الله سبحانه
لم يرسل رسولا لأجل تشريع مثل هذا الحكم ، وتحقيق وجه ابتلاء القوم بهذه الرّواية
الموضوعة أنّه لما قال الثاني وبعض أصحابه : إنّ البول قائما أحصن
للدّبر وفعلوه لذلك كما ذكره النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم ورأوا أنّ فيه
قباحة وشناعة وشرّكوا معه النّبي صلىاللهعليهوآله بوضع هذا الحديث لئلا يجترئ أحد على تشنيعه ، ويؤيد هذا ما نقل عن عائشة في هذا المقام أنها قالت من حدثكم أنّ
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يبول قائما فلا تصدّقوه ، ما كان يبول إلا قاعدا ، ثم
نقل عن ابن المنذر في الاشراف انه قال : اختلفوا في البول قائما فثبت عن عمر
بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد أنّهم بالوا قياما انتهى هذا ، واما ما ذكره من أنّ نسبة تجويز سرقة الدّرهم على
الأنبياء إلى أهل السنّة افتراء فمكابرة ومراء ، لما سيجيء في مباحث الحدود
والجنايات من المسائل
__________________
الفقهيّة أنّهم
قالوا : إنّ الدّرهم ليس بمال ، لأنّه لا قطع فيه فسرقته لا تكون كبيرة وقد مرّ أن
الصغيرة جائزة على الأنبياء عند جماعة من أهل السّنة فظهر تجويزهم لسرقة الدّرهم
عليهم كما ذكره المصنّف.
قال المصنّف رفع الله درجته
وقد لزمهم من ذلك محالات منها جواز
الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها ، فانّ المبلغ إذا جوّزنا عليه الكذب وسائر
المعاصي جاز أن يكذب عمدا أو نسيانا أو يترك شيئا مما اوحي إليه أو يأمر من عنده
فكيف يبقى اعتماد على أقواله انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد علمت
فيما سبق مذهب الأشاعرة وأنّهم لا يجوّزون الكذب عمدا على الأنبياء ولا سهوا ،
وهذا مذهبهم ، وأمّا السّهو في غير الكذب فيجوّزونه ولا بأس فيه ، لأنّ الله تعالى
هو الذي يوقع عليه السّهو ليجعله سببا للتّشريع انتهى.
أقول
الكلام مع من أجاز
من أهل السّنة وقوع الكذب وغيره من المعاصي عن إبراهيم وغيره من الأنبياء في حال
النّبوة كما مرّ ، ولا يدفع ذلك القول بأنّ خصوص الأشاعرة منهم لا يجوّزون الكذب
إلخ ، على أنّ الأشاعرة حيث يجوّزون عليهم الكذب وسائر الكبائر قبل البعثة فلا
يبقى اعتماد على أقوالهم بعدها أيضا كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، واما ما ذكره
من أنّ الله تعالى يجعل السهو على النّبي صلىاللهعليهوآله سببا للتشريع فقد مرّ أنّ الله متعال عن هذا التشريع
الشنيع.
قال المصنّف رفعه الله
ومنها أنّه إذا فعل المعصية فامّا أن
يجب علينا اتباعه فيها فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه ، واجتمع الضدّان وإن
لم يجب انتفت فائدة البعثة انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد ذكرنا
هذا الدّليل فيما مضى من قبل الأشاعرة وهو حجّة على من يجوّز المعاصي على الأنبياء
، وهذا ليس مذهب الأشاعرة ، والصّغائر التي يجوّزونها على الأنبياء ما يقع على
سبيل النّدرة ولا يقدح هذا في ملكة العصمة كما قد قدّمناه ، ويجب أن يكون في محلّ
يعلم أنّها واقعة منه على سبيل النّدرة ، والنّبي يبيّن أنّ هذا ليس محل المتابعة
، وبالجملة قد قدّمنا أنّ تجويز المعصية على الأنبياء مطلقا محلّ تأمّل لهذا
البرهان والله أعلم.
أقول
ما ذكره هاهنا
مدفوع ، بمثل ما دفعنا جوابه عن الفصل السّابق فعليك بالتّأمّل في التطبيق وبالله
التوفيق.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها أنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذائه
والتبري منه ، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، لكنّ الله تعالى قد
نصّ على تحريم إيذاء النبي صلىاللهعليهوآله
، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)
انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد ذكرنا
هذا الدّليل من قبل الأشاعرة وهو حجّة على من يجوّز الكبائر ، وأمّا الصّغائر فمن
لم يباشر الكبيرة فهي معفوّة عنه فلا زجر ولا تعنيف ولا إيذاء «انتهى».
أقول
يندفع هذا أيضا
بمثل ما ذكرناه في الفصل السابق وقد مرّ أنّ الأشاعرة يجوّزون
__________________
الكذب في غير ما
يتعلّق بالرسالة وغيرها من الكبائر فهذا الدّليل حجّة على الأشاعرة أيضا.
قال المصنّف رفع الله درجته
ومنها سقوط محلّه ورتبته عند العوام فلا
ينقادون إلى طاعته ، فتنتفى فائدة البعثة ، ومنها أنّه يلزم أن يكون أدون حالا من
آحاد الامّة ، لأنّ درجات الأنبياء في غاية الشرف ، وكلّ من كان كذلك كان صدور
الذنب عنه أفحش كما قال الله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ)
والمحصن يرجم وغيره
يحدّ وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ ، والأصل فيه أنّ علمهم بالله أكثر وأتمّ وهم مهبط
وحيه ومنازل ملائكته ، ومن المعلوم أنّ كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع
والخشوع ، فينافي صدور الذّنب لكنّ الإجماع دلّ على أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
لا يجوز أن يكون أقلّ حالا من آحاد الامّة ، ومنها أنه يلزم أن يكون مردود الشهادة
لقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)
فكيف يقبل عموم
شهادته في الوحى؟ ويلزم أيضا أن يكون أدنى حالا من عدول الامّة وهو باطل بالإجماع
، ومنها أنّه لو صدر عنه الذّنب لوجب الاقتداء به لقوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)
فاتبعوني
والتالي باطل بالإجماع وإلا اجتمع الوجوب والحرمة انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : قد سبق أنّ
هذه الدّلائل حجّة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم
__________________
والإكثار من
الصّغائر حتّى يصير سببا لحطّ منزلتهم عند النّاس وموجبا للإيذاء والتعنيف وترجيح
الامّة عليه ، وأمّا صدور الصغائر التي عفا الله عنها إذا كان على سبيل الندرة
فغير ممتنع ، ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها عنهم ، وكلّ هذه الدّلائل
قد ذكرناها فيما سلف وأنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال على من يقول بجواز
الكبائر ، وقد قدمنا أنّ بعض تلك الأدلة يدلّ على وجوب نفي الذنب عن الأنبياء
مطلقا والله تعالى أعلم انتهى.
أقول
ما ذكره النّاصب
هاهنا يدلّ على بهته واضطرابه واشتباه حقيقة مذهبه عليه ونسيانه لما ذكره سابقا ،
فإنّه لم يقل سابقا ، إنّ هذه الدلائل حجّة على من قال : بجواز صدور الكبائر عن
الأنبياء ، ولو اعترف بذلك فقد تمّ لنا الدست وقامت الحجة عليه وعلى أصحابه ، لأنّ النزاع بين الفريقين
إنّما كان في أنّ المخلّ بالنبوّة والمانع من امتثال أمر الأنبياء هل هو وقوع
الكبائر والصغائر أو جواز وقوعهما؟ فالاشاعرة كانوا يقولون : إنّ مجرّد الجواز لا
يخلّ بذلك ، والامامية كانوا قائلين باخلاله ، وبالجملة الأشاعرة قائلون بجواز
وقوع الكبائر عنهم ، غاية الأمر أنّهم يقولون : إنّ العقل والسمع دلّ على عدم وقوع
بعض الكبائر المخل بالمعجزة كالكذب ، وكيف ينكر هذا؟ وعنوان أدلته ثمة صريحة فيه
حيث قال : الأول أنه إن صدر عنهم الكذب إلخ والثاني أنّهم لو أذنبوا إلخ والثالث
أنّه إن صدر عنهم ذنب إلخ وحاصل اللّوازم التي ذكرها المصنّف إذا افرغ في قالب
الدليل يصير أنه لو جاز صدور الذنب عنهم لكان كذا ، ولو جاز وقوع الكبائر عنهم
لكان كذا ، والفرق بين العنوانين لفظا ومعنى ظاهر جدّا ، وايضا قد سبق منّا أيضا
أن هذه اللّوازم التي
__________________
سماها الناصب
دلائل إنما أوردها المصنّف على من قال بجواز صدور الكبائر والصغائر عن الأنبياء عليهمالسلام مطلقا قبل البعثة وصدور بعض منها بعدها لا على خصوص
الأشاعرة فلا يفيد في دفعها إظهار تنزيه الأشاعرة عن ذلك مع أنّ الأشاعرة بأجمعهم
ليسوا برآء عن ذلك كما مرّ أيضا ، ان قيل : حاصل ما ذكر في المقام من الدّليلين
الأوّلين أنّ تجويز صدور المعاصي عن الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام يقدح فيما هو الغرض من بعثة الأنبياء ونصب الامام أعني
قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم ونواهيهم ، فبيّنوا لنا وجه القدح في ذلك وسقوط
مرتبتهم عند الناس ، إذ هو خفي جدّا ، ولهذا طال الكلام في المسألة بين الفريقين
قلت : وجهه أنّ من يجوز عليه الكبائر والمعاصي فانّ النّفس لا تسكن ولا تطمئن إلى
قبول قوله مثل (كما تسكن وتطمئن خ ل) ما تطمئنّ إلى قول من لا يجوز عليه شيء من
ذلك جزما قال الشريف المرتضى رضياللهعنه وهذا هو معنى قولنا : إنّ وقوع الكبائر والمعاصي ينفر عن
القبول والامتثال والمرجع فيما ينفر ولا ينفر إلى العادات وليس ذلك ممّا يستخرج بالدّليل ، ومن رجع إلى العادة علم
صدق ما ذكرناه فانّ الكبائر في باب التنفّر لا تنحطّ عن المباحاة التي تدلّ على
خسّة صاحبها وعن المجون والسّخافة ولا خلاف في أنّها ممتنعة عنهم ، فان قيل : أو
ليس قد جوز كثير من النّاس الكبائر على الأنبياء والأئمّة ومع ذلك لم ينفروا عن
قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم؟ وهذا يناقض قولكم إنّ الكبائر منفرة ، قلنا : هذا
من لا يعرف معنى التنفير ، إذ لم نرد به ارتفاع التصديق والامتثال رأسا ، بل ما
ذكرناه من عدم سكون النّفس وحصول
__________________
الاطمئنان ، ولا
يشكّ عاقل في أنّ النّفس حال عدم تجويز الكبائر أقرب منها إلى ذلك عند تجويزها ،
وقد يبعد الأمر عند الشيء ولا يرتفع كما يقرب من الشيء ولا يقع عنده ، ولا يرى أنّ
عبوس الدّاعي إلى طعامه وتضجّره منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد
يقع مع ما ذكرناه الحضور والتّناول ولا يخرجه من أن يكون منفرا ، وكذلك طلاقة وجهه
واستبشاره وتبسّمه يقرب من الحضور والتّناول وقد يرتفع عند ذلك ، لا يقال : هذا
يقتضي أن لا تقع الكبائر عنهم حال النبوّة والامامة ، وأمّا قبلها فلا لزوال حكمها
بالتّوبة المسقطة للعقاب والذمّ ولم يبق وجه يقتضي التنفير ، لأنا نقول : إنّا لم
نجعل المانع عن ذلك استحقاق العقاب والذّمّ فقط ، بل ولزوم التنفير أيضا ، وذلك
حاصل بعد التّوبة ، ولهذا نجد ذلك من حال الواعظ الدّاعي إلى الله وقد عهدنا منه
الاقدام على كبائر الذّنوب وإن تاب عنها ، بخلاف من لم يعهد منه ذلك ، والضرورة فارقة بين الرّجلين فيما يقتضي القبول والنفور
، وكثيرا ما نشاهد أنّ النّاس يعيّرون من عهد منه القبائح المتقدّمة وإن حصلت منه
التّوبة والنزاهة ويجعلونها نقصا وعيبا وقدحا ، غاية ما في الباب أنّ الكبائر بعد
التّوبة أقلّ تنفيرا منها قبل التّوبة ولا يخرج بذلك عن كونها منفرة ، فان قلت فلم
قلتم : إنّ الصغائر لا تجوز عليهم مطلقا ولا تنفير فيها؟ قلت : بل التنفير حاصل
فيها أيضا عند التّأمّل ، لأن اطمئنان النفس وسكونها إنّما هو مع الأمن عن ذلك لا
مع تجويزها ، والفرق بأنّ الصغائر لا توجب عقابا وذمّا ساقط ، لأنّ المعتبر
التنفير كما ذكرنا مرارا ، الا ترى أنّ كثيرا من المباحات منفرة ولا ذم ولا عقاب
فيها
__________________
بل نقول : إنّه
ربّما يحصل التنفير عمّا يورث لفاعله ثوابا أيضا باعتراف الخصم ، فانّهم أيضا
ربّما حكموا على بعض الاجتهادات البعيدة عن قانون العقل والنّقل بكونه منفرا
للعوام مع تصريحهم بأنّ المجتهد المخطئ مثاب ، قال أبو المعالي الجويني الملقّب بإمام الحرمين في رسالته المعمولة في بيان حقيّة (أحقيّة
خ ل) مذهب الشافعيّ ، فان قيل : قد اتّفق للشافعي أصل مقطوع ببطلانه على وجه أجمعت الامّة شارقة وغاربة أرضا
فأرضا طولا وعرضا على بطلان ذلك الأصل ، وهو أنّه لم يجوز نسخ السنة بالكتاب ولم
يجوز نسخ الكتاب بالسنّة وهذا من أمحل المحالات والعاصي إذا سمع هذا يستنفر طبعه
وينزوي من تقليده والاقتداء به ، الجواب قلنا : هذا الأصل غير مقطوع ببطلانه ،
فانّه إنّما لم يجوز نسخ السنّة المتواترة بالكتاب لأنّ الله تعالى إلخ ، وتقرير
الكلام على هذا التفصيل والتدقيق من نفائس هذا التعليق فاحفظه فانّه بذلك حقيق.
قال المصنّف رفع الله درجته
المبحث الثالث في أنّه يجب أن يكون
منزّها عن دناءة
الآباء وعهر الامّهات ،
__________________
__________________
ذهبت الامامية إلى
أنّ النبيّ يجب أن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات
__________________
بريئا من الرّذائل
والأفعال الدّالة على الخسّة كالاستزراء
به (كالاستهزاء خ ل) والسخريّة والضحك عليه ، لأنّ ذلك يسقط محلّه عن القلوب
وينفرّ الناس عن الانقياد له ، فانّه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشكّ
والارتياب ، وخالفت السنّة فيه ، أمّا الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح فلزمهم
أن يذهبوا إلى جواز بعثة من ولد من الزّنا المعلوم لكلّ أحد ، وأن يكون أبوه فاعلا
لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك ، وهو ممّن يتمسخر به ويضحك عليه ويصفع
في الأسواق ويستهزئ به قوّادا ، تكون امّه في غاية الزّناء والقيادة والافتضاح
بذلك لا ترديد لا مس ، ويكون هو عليهالسلام في غاية الدناءة والسقاطة حال النبوّة
وقبلها يصفع في الأسواق ويعتمد المناكير ويكون قوّادا بصّاصا (بطاطا خ ل. بطالا خ
ل) فهؤلاء يلزمهم القول بذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليين ، وأنّ ذلك ممكن
، فيجوز وقوعه من الله تعالى وليس هذا أبلغ من تعذيب الله لمن لا يستحق العذاب بل
يستحقّ الثّواب طول الأبد انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : نعوذ بالله
من هذه الخرافات والهذيانات وذكر هذه الفواحش عند ذكر الأنبياء والدّخول في زمرة (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) وكفى به إساءة للأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء عليهمالسلام أمثال هذه الترهات ، ثم يفتري على مشايخ السنّة وعلماء
الإسلام مالا يلزم من قولهم شيء منه ، وقد علمت أنّ الحسن والقبح يكون بمعاني
ثلاثة ، أحدها
__________________
وصف النقص والكمال
، والثاني الملائمة والمنافرة ، وهذان المعنيان عقليّان لا شكّ فيه ، فإذا كان
مذهب الأشاعرة أنّهما عقليان فأىّ نقص أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة الالهيّة
موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرّجل السوء الفحّاش وكأنّه حسب أنّ الأنبياء
أمثاله من رعاع الحلة الذين يفسدون على شاطئ الفرات بكل ما ذكره نعوذ بالله من
التعصّب فانّه أورده النار انتهى.
أقول
الخرافة الظاهرة
ما ظهر عن هذا النّاصب الفاجر العاجز المبهوت الذي ينسج عليه أمورا واهية كنسج
العنكبوت ، فمقصود المصنّف عنه يفوت ، فانّه لم يفهم مقصود المصنّف قدس سرّه مع
ظهوره كالنّور على شاهق الطور فأتى بما شاء من الفتور والفطور ، وذلك لأنّ كلام
المصنّف قدسسره في فعل الله وهو البعثة كما صرّح به بقوله : فلزمهم أن
يذهبوا إلى جواز بعثة من ولد من الزناء إلخ ولزوم ما ذكره مع القول بالحسن والقبح بالمعنيين المذكورين
وتجويز صدور القبائح عنه تعالى ظاهر لا خفاء فيه ، اما بالنظر إلى المعنى الأوّل
فلأنّ الكمال والنقصان مخصوصان بالصفات كما صرّحوا به فيما نقل سابقا ، والبعثة من
الأفعال فلا يجريان فيها ، واما بمعنى الملائمة والمنافرة فلأنّ بعثة من يفعل به
كل شنيع قد يلائم غرض الفاعلين فجاز أن يبعث الله تعالى مثل هذا الشخص لملاءمته
غرض هؤلاء ، إذ هو حاكم على الإطلاق ولا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء بل كلّ
قبيح يصير حسنا بفعله كما قال به الأشعري ، فكيف يحكم العقل بأحد المعنيين على عدم
جواز ذلك على الله تعالى ، وقد أشار المصنّف إلى انضمام باقي المقدّمات التي
ذكرناها بقوله : وإنّ ذلك
__________________
ممكن فيجوز وقوعه
من الله وليس هذا أبلغ من تعذيب الله تعالى من لا يستحق العذاب بل يستحق الثّواب
وفصّل ذلك فيما سيجيء بعيد ذلك متّصلا به عند الكلام على المعتزلة فلا تغفل. ولقد
اتضح بما ذكرناه أنّه لا يرتبط بما ذكره المصنّف قدسسره ما ذكره هذا النّاصب بقوله : فان كان مذهب الأشاعرة أنّهما
عقليّان فاىّ نقص أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة الالهيّة موصوفا بهذه القبائح إلخ ،
وذلك لظهور أنّه لا يلزم من إدراك العقل بأحد المعنيين قبح اتّصاف صاحب الدّعوة
بذلك إدراكه قبح إرسال الله تعالى لمثل هذا الشّخص ، وكيف يدرك ذلك مع أنّه على
قاعدة القوم لا يقبح شيء عن الله تعالى ، فيجوز عليه بعثة مثل ذلك الشّخص كما
جوّزوا عليه صدور غيره من القبائح والظلم حسب ما أشار إليه المصنّف قدسسره ويؤكده ما في المواقف وشرحه من أنّ النّبوة عند أهل الحقّ من الأشاعرة من قال له الله
: أرسلتك إلى قوم كذا ولا يشترط في الإرسال شرط من الأعراض والأحوال المكتسبة بالرّياضات
والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات ، ولا استعداد ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء
الفطرة كما يزعمه الحكماء ، بل الله سبحانه (يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده ، فالنبوّة رحمة وموهبة متعلّقة بمشيئته فقط انتهى ، هذا ،
واما الآيات التي ذكرها في توبيخ المصنّف قدسسره فانّما تناسب بحال أسلاف النّاصب حيث أشاعوا تلك الرّوايات
الفاحشة وذكروها في صحاحهم وغيرها من جوامعهم وتداولوها بينهم في أنديتهم ومجالسهم
قرنا بعد قرن ، فانّ كون قصدهم في ذلك تشييع الفاحشة ظاهر لا مجال للمناقشة فيه ،
وأمّا المصنّف فليس قصده في هذا المقام إلا استقباح أمر السّلف في إشاعة تلك
الفواحش ليرتدع الخلف عن اتباعهم. بل الذي فعله المصنّف من قبيل الجرح والتعديل
الذي قد أوسعوا له السّبيل ،
__________________
وفي تفسير
النيسابوري أنّ بعضهم حمل الفاحشة على الزّنا وخصّص من يحب شيوع الفاحشة بعبد الله
بن أوفي ، فعلى هذا لا ترتبط الآية بما نقله القوم أيضا فضلا عن المصنّف قدسسره ، واما ما ذكره من أنّ المصنّف أساء الأدب بذكر تلك
القبائح والمعايب عند ذكر الأنبياء عليهمالسلام فهذا أيضا من بركة البرامكة ، فانّ الأشاعرة وهم الذين قالوا : بجواز صدور الفواحش عنهم
، فيلزم النّاقل لكلامهم ما لزمهم من المقارنة في الذّكر ونقل الكفر ليس بكفر
بالاتّفاق ، وأيضا كثيرا ما يفرض الحكماء والمتكلمون عند الاستدلال على وجود
الواجب أو على وحدته : مثلا عدمه أو تعدده المستلزم لكفر قائله أو شركه ، ولم
يتوجّه عليهم إلى الآن مؤاخذة عن عاقل فضلا عن فاضل بأنّ ذلك إساءة أدب أو كفر أو
شرك ، فكذا فيما أتى به المصنّف هاهنا لاتّحاد أسلوب الكلامين ، وإنّما الذي حمل
النّاصب على هذا التشنيع عجزه عن الجواب أو انحرافه عن سمت الحق والصّواب ، كما
حكى أنّ رجلا رأى فقيها ناقصا كالنّاصب في مسجد فسأله عن مسألة من مسائل الحيض أو
الاستحاضة ولما رأى الفقيه أنّه عاجز عن جواب مسألته اضطرب وقال ساخطا عليه ، اخرج
هذه القاذورات من بيت الله وموّه عليه جهل نفسه ، فلينظر أولياء النّاصب أنّ هذه
__________________
الحيل والتّمويهات
أفسد أو ما يصدر من رعاع الحلّة على شاطئ الفرات.
قال المصنّف رفع الله درجته
واما المعتزلة فانّهم حيث جوّزوا صدور
الذّنب عنهم لزمهم القول بجواز ذلك أيضا ، واتّفقوا على وقوع الكبائر منهم قبل
البعثة كما في قصة إخوة يوسف ، فلينظر العاقل بعين الإنصاف هل يجوز المصير إلى هذه
الأقاويل الفاسدة والآراء الرديّة؟ وهل يبقى مكلف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل
به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوته وأنه يصفع ويستهزئ به حال النبوّة ، وهل يثبت
بقول مثل هذا حجة على الخلق ، واعلم أنّ البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط
وأنهم إن بحثوا في ذلك فقد استعملوا الفضول لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلف على أنه
لم يفعل ما أمره الله تعالى به من غير أن يعلم ما أمره به ولا أرسل إليه رسولا
البتّة ، بل على امتثال ما أمره به وأنّ جميع القبائح من عنده تعالى وأنّ كلّ ما
هو واقع في الوجود فانه من فعله تعالى وهو حسن ، لأن الحسن هو الواقع والقبيح هو
الذي لم يقع ، فهذه الصفات المذكورة الخسيسة في النبيّ وأبويه تكون حسنة لوقوعها
من الله تعالى ، فأىّ مانع حينئذ من البعثة باعتبارها ، فكيف يمكن للأشاعرة منع
كفر النبيّ وهو من الله وكل ما يفعله تعالى فهو حسن ، وكذا أنواع المعاصي وكيف
يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء ، نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى تحسين
الكفر وتقبيح الايمان وجواز بعثة من اجتمع فيه كلّ الرّذائل والسقطات ، وقد عرفت
من هذا أنّ الأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا الضروريات انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : استدلال
المعتزلة على وقوع الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصة إخوة يوسف
__________________
استدلال قوي ،
لأنّ الإجماع واقع على أنّ إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء يوسف في الجبّ
وغيره من الذّنوب التي لا شك أنّها كبائر ، وهذا الرّجل ما تعرّض بجوابه إلا
بالفحش والخزعبلة واللوذعية كالرّعاع والأجلاف السوقيّة ، والمعتزلة يثبتون الوقوع وهو لا يقدر على الدفع
ويبحث معهم في الجواز ، وهذا من غرائب أطواره في البحث ، ثم ما ذكر أنّ البحث مع
الأشاعرة ساقط لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلف وغيره من الطامات ، وقد عرفت فيما سبق
جواب كلّ ما ذكر وأن الحسن والقبح شرعيان بمعنى وعقليّان بمعنيين آخرين ، وعلمت
أنّ كل ما ذكره ليس بمذهبهم ولا يرد عليهم شيء وأنّهم لا يخالفون ضرورة العقل
انتهى.
أقول
دعوى الإجماع
ممنوع ، وإنما ذهب من ذهب إلى كونهم أنبياء من تفسيره الاجتباء بالنبوّة في قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) ، الآية وليس الاجتباء صريحا ولا ظاهرا في هذا المعنى كما
يشعر به قوله تعالى : (وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ) ، فانّ معناه على ما ذكره فخر الدّين الرّازي في تفسيره
كما
__________________
اجتباك بمثل هذه
الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعزّ وكبرياء شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام ، قال
الزّجاج : الاجتباء مشتقّ من جبيت الشيء إذا أخلصته لنفسك ومنه
الماء في الحوض ، وأيضا قال الرازي واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء فقال الحسن : يجتبيك ربك
بالنبوّة ، وقال آخرون : المراد به إعلاء الدّرجة وتعظيم المرتبة ، فأمّا تعيين
النبوّة فلا دلالة في اللّفظ عليه ، ثم قال : واعلم أنّا لمّا فسرنا هذه الآية
بالنبوّة لزم الحكم بأنّ أولاد يعقوب كلّهم كانوا أنبياء ، وذلك لأنه قال : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى
آلِ يَعْقُوبَ) ، وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب فلما كان المراد
من تمام النعمة هو النبوّة لزم حصولها لآل يعقوب وترك العمل به في حقّ من عدا من
أبنائه وجب أن يبقى معمولا به في حقّ أولاده انتهى ، وكلّ ذلك صريح في عدم الإجماع
، وأصرح من ذلك ما في الشفاء للقاضي عياض حيث قال : وأما قصة يوسف وإخوته فليس على يوسف منها تعقب (فيها
تعتب خ ل) وأما إخوته فلم تثبت نبوّتهم فيلزم الكلام على أفعالهم وذكر الأسباط
وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحا في كونهم من أهل
__________________
الانباء قال
المفسرون يريد من نبئ من أبناء الأسباط (انتهى) وكيف ينعقد الإجماع في ذلك مع
اتفاق أئمة أهل البيت عليهمالسلام وعلماء شيعتهم على خلاف ذلك وأنهم لم ينالوا عهد النبوة
والامامة ، على أنّ الشارح الجديد للتجريد ذكر أنّ كثيرا من المعتزلة ذهبوا إلى
نفى الكبائر قبل البعثة أيضا ، فكيف يتأتى بالنظر إليهم دعوى الإجماع على إخوة
يوسف ، مع أنّ قولهم فيما حكى الله عنهم في كتابه : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ
أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) محض الحسد ، والحسد من امّهات الكبائر ، لا سيّما وقد
أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصّالح وإلقائه في غيابة الجبّ وذلّ
العبودية وتبعيده عن الأب المشفق ، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم ،
وأقدموا على الكذب ، فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا
بها ، وكلّ ذلك يقدح في العصمة والنبوّة ، وأما قول الناصب : إن المصنّف ما تعرض
بجواب استدلال المعتزلة إلا بالفحش ، فمجاب بأنّ من يكابر ضرورة العقل لا يستحق من
الجواب إلا مثل ذلك كما مرّ وأما قوله : والمعتزلة يثبتون الوقوع ففيه أن إثبات
وقوع نبوة إخوة يوسف مما دونه خرط القتاد ، لأن هذا الناصب زعم ثبوته بالإجماع وقد
أوضحنا بطلانه ، ولنعم ما فعل من جعل الطامات بيانا لما ذهبت إليه الأشاعرة في
قوله : ثمّ ما ذكر أنّ البحث مع الأشاعرة ساقط لأنهم يجوزون تعذيب المكلف وغيره من
الطامات إلخ فافهم ، وأما ما أحال جوابه إلى ما ذكر فيما سبق فقد دمّرنا عليه نحن
فيما سبق فتذكر.
__________________
في مباحث الامامة
قال المصنّف رفع الله درجته
المسألة الخامسة في الامامة
وفيها مباحث الاول في أن الامام يجب أن
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
يكون معصوما ، ذهب الامامية إلى أنّ الأئمة
كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن
__________________
جميع القبائح
والفواحش من الصّغر إلى الموت عمدا وسهوا ، لأنهم حفظة الشرع والقوامون به ، حالهم
في ذلك كحال النبي صلىاللهعليهوسلم
، ولأنّ الحاجة إلى الامام إنما هي للانتصاف من المظلوم عن الظالم ورفع الفساد
وحسم مادّة الفتن ، وأنّ الامام لطف يمنع القاهر من التّعدّي ويحمل النّاس على فعل
الطاعات واجتناب المحرّمات ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ الفسّاق ويعزّر من يستحق
التعزير ، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد وافتقر إلى إمام آخر
وتسلسل ، وخالفت السنة في ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة الفساق والعصاة والسّراق كما
قال الزّمخشري
وهو من أفضل علمائهم : لا كالدوانيقى المتلصّص يشير به إلى
__________________
المنصور
، فأى عاقل يرتضى (يرضى خ ل) لنفسه الانقياد الدّيني والتقرب إلى الله بامتثال
أوامر من كان يفسّقونه طول وقته وهو غائض في القيادة وأنواع الفواحش ويعرض عن
المطيعين المبالغين في الزّهد والعبادة ، وقد أنكر الله تعالى بقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ
ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ)
فالأشاعرة لا يتمشى
هذا على قواعدهم حيث جوّزوا صدور القبائح عنه تعالى ، ومن جملتها الكذب فجاز الكذب
في هذا القول تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، واما الباقون فانّهم جوّزوا تقديم المفضول
على الفاضل فلا يتمشى هذا الإنكار على قولهم أيضا فقد ظهر أنّ الفريقين خالفوا
الكتاب العزيز انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : اعلم أنّ
مبحث الامامة عند الأشاعرة ليس من اصول الدّيانات والعقائد،
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
بل هي عند الأشاعرة
من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلفين ، والامامة عند الاشاعرة
__________________
__________________
__________________
__________________
هي خلافة الرّسول
في إقامة الدّين وحفظ حوزة الملّة بحيث يجب اتّباعه على كافة الأمّة وشروط الامام
الذي هو أهل للامامة ومستحقّها أن يكون مجتهدا في الأصول والفروع ليقوم بأمر
الدّين ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش ، شجاعا قوى القلب ليقوى على
الذّب من الحوزة ، عدلا لئلا يجور ، فانّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه
، والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم يصرّ على الصّغائر ، عاقلا ليصلح
للتصرّفات الشرعيّة بالغا لقصور عقل الصّبي ذكرا إذ النّساء ناقصات العقل والدّين
حرا قرشيا فمن جمع هذه الصفات فهو أهل للامامة والزّعامة الكبرى ، واما العصمة فقد
شرطها الشيعة الاماميّة والاسماعيليّة ، واستدلّ عليها هذا الرّجل بأنّ الحاجة إلى
الامام بالأمور المذكورة ، ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد ،
ونقول : ما ذا يريد من العصمة؟ ان أراد وجوب الاجتناب في جميع أحواله عن الصّغائر
والكبائر فلا نسلّم لزوم ذلك ، لأنّ صدور بعض الصغائر المعفوّ عنها مع اجتنابه عن
الكبائر لا يوجب أن لا يكون منتصفا من الظالم للمظلوم ، وباقي الأمور المذكورة ،
وان أراد وجود ملكة مانعة من الفجور فنحن أيضا نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام ،
لأنّا شرطنا أن يكون عدلا والعدل من له ملكة العصمة المانعة من الفجور ، وصدور بعض
الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة لأنّ الملكة كيفية راسخة في النفس
متى يراد صدور الفعل عنه صدر بلا مشقّة وروية وكلفة ، وصدور خلاف مقتضى الملكة لا
ينفى وجود الملكة لعوارض لا يخلو الإنسان عنها كصاحب الملكة الخلقية من العفّة
والشّجاعة قد يعرض له ما يعرضه إلى إصدار خلاف الملكة ، ومع ذلك لا تزول عنه
الملكة ، فالعصمة بمعنى الملكة حاصلة للمجتنب عن الكبائر المصر في تركها وإن صدر
عنه نادرا بعض الصغائر ، فاندفع هذا الاشكال ولم يلزم التسلسل كما ذكره ، وأما ما
قال : إنّ أهل السّنة خالفوا ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة السّراق والفساق
فأنت تعلم أنّ هذا
من مفترياته ، لأنّ كتب أهل السنّة مشحونة بالقول بوجوب عدالة الأئمة ، فالفاسق كيف يجوز عندهم أن يكون إماما والحال أنّه ضد
العدل فعلم انه مفتر كذاب ونعم ما قلت فيه شعر :
إذا ما رأى طيبا
في الكلام
|
|
بقاذورة الكذب
قد دنّسه
|
يخلط بالطهر
أنجاسه
|
|
فابن المطهر ما
أنجسه
|
والباقي من الكلام
قد علمت أجوبته غير مرّة انتهى.
أقول
فيه نظر من وجوه
اما أولا فلأنّ ما ذكره من أنّ مبحث الامامة عند الأشاعرة ليس من اصول الدّيانات
بل من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلفين إلخ دليل على عدم ديانتهم أو عدم اطلاعهم
على حقائق اصول الدّين ، فانّ إنكارهم لأصالته مكابرة مردودة بما ذكره المصنّف :
من أنّ الأئمّة حفظة الشرع والقوّامون به ، حالهم كحال النّبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم ولقوّة هذا الدّليل أغمض عنه النّاصب ولم يتعرّض له
بل تعرّض لما ذكره المصنّف بعد ذلك بقوله : ولأنّ الحاجة إلى الامام إلخ حيث قال :
واستدلّ عليه هذا الرّجل بأن الحاجة إلى الامام إلخ فافهم ، ومن العجب أنّهم
بالغوا في فرعيّة هذه المسألة حتّى قالوا : لا يجب البحث عنها ولا طلب الحقّ فيها
بل يكفي فيها التقليد ، ولهذا لا يكفر مخالفها بل لا يفسق في ظاهر أقوالهم ،
وإنّما التزموا ذلك لتحصل الغفلة عمّا اقترحوه من ثبوت الامامة بالاختيار دون
النّص والاعتبار ، ولئلا يحصل الظفر بفساد ما انتحله خلفائهم من حقوق الأئمّة
الأعلام واختلقوه من الأحاديث التي
__________________
أسندوها إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم ، ثمّ ناقضوا ذلك وصرّحوا بأنّ حقوق النبوّة من حماية
بيضة الإسلام وحفظ الشّرع ونصب الألوية والأعلام في جهاد الكفّار والبغاة
والانتصاف للمظلوم وإنفاذ المعروف وإزالة المنكر وغير ذلك من توابع منصب النبوّة
ثابتة للامامة ، لأنّها خلافة عنها ، ولقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهو الامام بالاتّفاق ، فيجب معرفته أصالة لا من باب
المقدمة ولما رووه في كتبهم كالحميدي في الجمع بين الصحيحين من أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم قال من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة ،
وهو نصّ صريح في أنّ الامامة من الأصول للعلم الضروريّ بأنّ الجاهل بشيء من الفروع
وإن كان واجبا لا تكون ميتته ميتة جاهليّة ، إذ لا يقدح ذلك في إسلامه ، وليس
المراد من إمام زمانه القرآن المجيد كما زعموا وإلا لكان تعلّمه واجبا على الأعيان
، ولان النبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم أضاف الامام إلى الزّمان وفيه دليل على اختصاص أهل
كلّ زمان بإمام يجب عليهم معرفته ومع القول بأنّه القرآن أو بعضه كالفاتحة لا يبقى
لهذا التخصيص فائدة أصلا ، سيّما على مذهب الحنفي الذي لا يوجب تعلّم القرآن ولا
الفاتحة ولا بعضا آخر منه ، بل يحكمون بكفاية أن يقال بالفارسية (دو برك سبز) كما هو المشهور بين الجمهور
__________________
فلا يكون هذا
التأويل مطابقا لمقتضى الحديث قطعا بل قد صرح القاضي البيضاوي في مبحث الأخبار من
كتاب المنهاج وجمع من شارحي كلامه بأنّ مسألة الامامة من أعظم مسائل اصول الدّين
الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة ، وقال الاسروشنى من الحنفيّة في
كتابه المشهور بينهم بالفصول الاسروشني بتكفير من لا يقول بامامة أبي بكر ، بل هم
يناقضون ذلك بفعلهم أيضا حيث يتصدّون لقتل من ظنّ أنّ
__________________
أبا بكر ليس بإمام
أو قال أنا أعتقد أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام خليفة النبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم بلا واسطة لظنّ أدّاني إليه أو تقليد لبعض المجتهدين
، وبالجملة لو كانت هذه المسألة من الفروع لكفي فيها ظنّ المجتهد أو تقليد الغير ،
فلا يكون سبيل إلى تخطئة المجتهد الذي ظنّ أو قال شيئا ممّا تقدّم فضلا عن قتله
والحال أنّ فتواهم بل فعلهم بخلاف ذلك هذا ، واستدل في المواقف وشرحه على أنّها من الفروع بأنّ نصب الامام
واجب على الامّة سمعا لوجهين الاول أنّه تواتر اجماع المسلمين في الصدر الأوّل بعد
وفات النبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم على امتناع خلوّ الوقت عن إمام حتّى قال أبو بكر ألا إنّ محمّدا قد مات ولا بدّ
لهذا الدّين ممّن يقوم به فبادر الكلّ إلى قبوله وتركوا أهمّ الأشياء وهو دفن رسول
الله صلىاللهعليهوآله سلّم والصّلاة عليه والتعزية لأهل البيت عليهمالسلام وتسليتهم ، ولم يزل الناس بعد الخلفاء على ذلك في كلّ عصر
إلى زماننا هذا من نصب إمام متّبع ، الثاني أنّ فيه دفع ضرر مظنون وأنّه واجب
إجماعا ، وبيانه أنّا علمنا علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع إنّما هو
مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا انتهى ، وأقول : فيه وجوه من الخلل وصنوف من
الزّلل ، أمّا في استدلاله على ذلك بأن نصب الامام واجب على الامّة إلخ ، فلانّه
مصادرة على المطلوب لأنّ وجوب النصب على الامة متفرع على كونها من الفروع مع أن
الوجوب السمعي
__________________
منحصر في الكتاب
والسّنة والإجماع ، والكلّ مفقود هاهنا باعتراف الخصم كما سيظهر لك قريبا ، وأيضا
وجوب نصبه على الامّة يقتضي أنّهم إذا لم يتّفقوا لم يحصل انعقاد الامامة ، بل يجب
إعادة النّظر مرّة بعد أخرى ، وقد لا يثمر شيئا من ذلك اتفاقهم لاختلاف الآراء
غالبا وهو يبطل تعليقها على رأى الامّة وإلا لزم تعذّر نصب الامام أو جواز عمل كلّ
فريق برأيه فيكون منصوب كلّ فريق إماما عليهم خاصّة وهو خلاف المطلوب ، واما قوله
: تواتر إجماع المسلمين على امتناع خلوّ الوقت عن إمام إلخ فلأنّ امتناع خلوّ
الزّمان (الوقت خ ل) عن الامام أعمّ من أن يكون منصوبا من الله ورسوله أو من قبل
الامّة ، ولا دلالة للعامّ على الخاص ، فلا يستلزم المطلوب مع أنّ الإجماع المذكور
حجّة عليهم ، لأنّا نجد كثيرا من الزّمان خاليا عن إمام جامع للشرائط المعتبرة
عندهم وهي القرشيّة عندهم بالاتفاق ، والعدالة والاجتهاد على الخلاف ، والقول
بوجوده في ناحية غير معلومة مكابرة ، واما قوله : فبادر الكلّ ، فلأنّ هذا الكلّ
كان بعضا من الكلّ باتّفاق الكلّ فلا يكون حجّة على الكل عند الكل ، ولأنّه يحتمل
أن تكون المبادرة للتفحص عن إمام منصوب من الله تعالى ورسوله ، واما قوله : وتركوا
أهمّ الأشياء فلأنّ الذي ترك الامام ودفن الرّسول كان جائرا جاهلا زنديقا لا عالما عادلا صديقا ، فليس ذلك مستلزما للمطلوب لقيام
الاحتمال المذكور ، والشيعة يستدلون بفعلهم الشّنيع هذا على عصيانهم بل عدم
ايمانهم واختيارهم الدّنيا على الآخرة وذلك لأنّهم يذكرون حديثا وهو أنّه من صلّى
علىّ مغفور غفر له ذنوبه فلو كانوا مصدّقين بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لما أعرضوا عن هذه السعادة الكبرى والمغفرة العظمى مع أنّ
المصلحة والمشورة في امور الدّين والدّنيا ما يفوت بيوم أو يومين ، فلو كان لهم
ايمان ومروّة لصبروا للصّلاة عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم والتعزية لأهل البيت عليهمالسلام وإدخالهم في المشورة ، إذ النزاع كان معهم
__________________
ولذلك قال عليّ عليهالسلام كيف الشورى والمشيرون غيّب وليت شعري كيف صار
ذلك واجبا فوريّا مع أنّه حين أراد النبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم أن يكتب في مرضه كتابا في هذا الباب منع منه عمرو قال
: حسبنا كتاب الله كما سيجيء ، واما قوله ولم يزل النّاس إلخ
__________________
فلأنّه مكابرة
وخلافه ظاهر لا يخفى على أحد ، واما قوله : لأنّ فيه دفع ضرر فلأنّ في نصب الامام
بعد النبيّ وخلفه ضرر مظنون بل مجزوم به ، وكذا بعد ذلك في بعض الأوقات : واما
قوله : لأنّا نعلم إلخ فلأنّ هذا القول مع عدم دلالته على المقصود اعتراف منه بأنّ
أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض لعدم الفرق بين المقصود والغرض ، والقول بأنّ
مقصوده أو غرضه جلّ جلاله لا يكون باعثا على فعله مكابرة
__________________
صريحة كما لا يخفى
، وقد تحقق بما فصّلناه أنّ الامامة خلافة عن النّبوة قائمة مقامها كما أشار إليه
المصنّف ، فإذا كان كذلك فكلّ ما استدللنا به على وجوب النبوّة في حكمة الله تعالى
فهو بعينه دالّ على وجوب الامامة في حكمته أيضا ، لأنّها سادة مسدّها لا فرق بينها
وبينها إلا في تلقي الوحى الإلهي بلا واسطة ، وكذا الكلام في الشرائط المعتبرة
عندنا ، واما ما ذكره الناصب من اشتراط الاجتهاد فمردود بأنّ رتبة الامام أجل
وأعلى من ذلك كما أنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كذلك لما سيجيء في مباحث اصول الفقه من الأدلة الدّالة على
ذلك : ومنها أنّ الاجتهاد قد يخطئ ووقوع الخطاء من النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عندنا كان محالا لثبوت عصمته كما مرّ ، فكذا الامام القائم
مقامه كما سبق ، ولأنّ الامام وإن لم يكن مؤيّدا بالوحي لكنّه متمكّن من الإلهام
ومطالعة اللوح المحفوظ كما يدلّ عليه كلام الشّيخ ابن حجر العسقلاني في شرح ما رواه البخاري من حديث اعتراض
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على الحسن عليهالسلام أيام رضاعه عند وضع بعض تمرات الصّدقة في فمه بقوله : كخ
كخ أما تعلم أن الصدقة حرام علينا ، فانّ الشيخ المذكور أجاب عن قول من استبعد
اعتراض النّبي صلىاللهعليهوآله سلّم على الحسن في حال رضاعه وعدم كونه مكلفا بعدم استواء
حال الحسن عليهالسلام وحال غيره ، لأنّ الحسن عليهالسلام في تلك الحال كان يطالع اللّوح المحفوظ ، على أنّه لو بنى
على كفاية اشتراط الاجتهاد في الامام فربّما لزم إفحامه ، لأنّه يقول له المكلف : لا
يجب علىّ اتباعك حتّى أعرف أن ما تقوله صواب غير ناش عن حال غلبة القوّة الشهويّة
ولا أعرفه إلّا بقولك وقولك ليس بحجّة دائما بل حال غلبة القوّة العقلية المساوقة
للعصمة ، ولا أعرف أنّ هذه الحال هي تلك الحال فينقطع الامام ، لا يقال : لم لا
يجوز
__________________
معرفة صحّة قوله
بكونه مجتهدا ، سلمنا لكن لم لا يجب قبول قوله كقبول قول المفتي فانّه يجب على
المقلّد قبول قوله دائما وإن لم يكن معصوما ، لأنا نقول : أمّا مدّعي الاجتهاد
فيلزم إفحامه أيضا لأنّه إذا ألزمه المكلّف له أن يقول : إنّي اجتهدت فادّى اجتهادي إلى عدم
وجوب قبول قولك في هذه الحالة فينقطع ، وأما وجوب قبول قوله كالمفتي فهو باطل
لوجوه ، منها : أن قبول قول المفتي إنّما هو على العامي المحض الذي لا يتمكّن من
معرفة الصّواب عن الخطاء بالاجتهاد ، أما من يتمكّن فلا يجب عليه قبول اجتهاد آخر ، ومنها ما هو مذكور في كتاب الألفين للمصنّف قدسسره فليرجع إليه من أراد زيادة الإفادة ، وأمّا اشتراطهم
للبصارة بتدبير الحروب فهي من لوازم اشتراط العصمة ، إذا المعصوم مؤيّد ضرورة
بالعقل والبصارة في ضروريّات الدّين وكذا الشجاعة ، ولعلّ النّاصب لما رأى أنّ
دعوى الشجاعة المقرونة بصدور الآثار للثلاثة الذين فرّوا مرارا وذهبوا عريضا في غزوات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما سيجيء مشكلة أردفها بقوله : قوي القلب ليكون
__________________
مهربا له عند
اعتراض أحد عليه في دعوى الشّجاعة لهم ، بأن يقول له على طريقة الرّجم بالغيب
والرّمي في الظلام : إنّ قوّة القلب التي هي منشأ الشّجاعة أمر غيبي لا يعلمه إلا
الله كانت حاصلة فيهم وإن لم يظهر فيهم لوازمها وآثارها ، وفيه ما فيه ، وأما
العدالة فقد أغنى الامام ما اشترطنا فيه من العصمة عن اشتراط التي دونها في
المرتبة فلا يخفى ما في استدلاله على اشتراط العدالة وعدم الجور بقوله : فانّ
الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه ، فانّه أخصّ من المدّعى كما لا يخفى ،
واما اشتراط الحرية فهو ممّا لا كلام فيه ، وأما القرشية فليس بشرط لكنّه قد اتّفق
كون أئمّتنا المعصومين الاثني عشر عليهمالسلام من قريش من بني هاشم ثمّ من بني عبد المطلب ثمّ من آل
النبيّ صلوات الله عليه وآله ، واما ثانيا فلأن قوله : واستدلّ عليه هذا الرّجل
بأنّ الحاجة إلى الامام إلى آخر ما ذكره من الإيراد والتّرديد مردود أولا بأنّ ما
أتى به من منع اللزوم منع للمدعى المستدلّ عليه ، فيكون خارجا عن قانون المناظرة ،
وثانيا أنّا نختار أوّلا الشق الأوّل ونقول : إنّ المنع الذي ذكره بقوله لا نسلّم
لزوم ذلك اما منع لوجوب الاجتناب عن الصغائر كما يدلّ عليه قوله : لأنّ صدور بعض
الصغائر إلخ او منع لوجوب الاجتناب في جميع الأحوال أيضا ، والثاني ظاهر البطلان ،
إذ من الأحوال حال الكهولة والشيخوخة والسّفر والحضر وحال القعود والقيام وحال
كونه راكبا أو راجلا إلى غير ذلك ، ومن البين أنّ عدم انتصافه للمظلوم عن الظالم
في بعض هذه الأحوال يخلّ بفائدة إمامته وكذا الأوّل ، لأنّ الكلام ليس في صدور
الصغائر وفي إيجاب ذلك عدم الانتصاف عن الظالم للمظلوم بل في جواز صدور الصغائر
والكبائر عنه واستلزام ذلك جواز أن يخطأ ولا ينتصف فيحتاج إلى إمام آخر وهكذا
فيلزم التسلسل والحاصل أنّ الغرض من نصب الامام أن يبعّد المكلّفين عن الخطأ
والعصيان ويقرّبهم إلى الطاعة والرّضوان ، فلو كان هو أيضا جائز الخطأ لاحتاج إلى
إمام آخر ، وذلك
الآخر أيضا لو لم
يكن معصوما لاحتاج إلى ثالث وهكذا فلو لم يكن في شيء من المراتب إمام معصوم يلزم
التسلسل ، وقد شابه هذا الدّليل دليل وجوب انتهاء الممكنات إلى الواجب تعالى دفعا
للتّسلسل كما لا يخفى هذا ، وربما يكابر المخالف ويقول : ليس الغرض من الامام ما
ذكرتم من التبعيد والتقريب ، بل الغرض منه حفظ أهل الإسلام وترتيب أمورهم على وجه
النّظام حتّى لا ينتهي إلى الفتنة والفساد واختلال أحوال العباد ، وفي كلام
النّاصب إشعار بهذا أيضا ، ودفعه ظاهر لأنّ نظام الأمور على الوجه المخالف للشريعة
ليس بمطلوب للشارع ، فيجب أن يكون الامام معصوما وإلا لما كان نظام الأمور مع
وجوده على الوجه الشّرعي ولا أقلّ من جهة معصيته فيحتاج إلى آخر يحصل منه الانتظام
الشّرعي ويتسلسل ، وثالثا أنّا نختار الشقّ الثّاني ونقول : إنّ أكثر ما ذكره من
أحكام الملكة باطل مخترع من عند نفسه سيّما ما ذكره بقوله : وصدور بعض الصغائر عنه
في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة فانّه دعوى كاذبة باطلة ، وما استدلّ عليه
بقوله : لأنّ الملكة كيفيّة راسخة في النّفس متى يراد صدور الفعل إلخ أكذب منه ،
وإنّما المذكور في الكتب المتداولة في تعريف الملكة ما أخذ فيه قيد الدّوام والضبط
قال العلامة الدواني في رسالته الفارسيّة المشهورة المعمولة في تحقيق معنى
العدالة ما هذه عبارته : وچون نفس متمرّن بملكات ثلاث حكمت وعفّت وشجاعت گردد بر
وجهى كه على الدّوام أفعال بر قانونى مضبوط ونهجى مقرّر از او صدور يابد بى تجشم
رويّتى جديد وسعى مستأنف آن ملكه عدالت باشد» انتهى ، وقد عرّف ابن الحاجب في مختصره وغيره في غيره العدالة بأنّها كيفيّة راسخة تبعث
المتّصف بها على ملازمة التّقوى والمروّة ، والرّسوخ والملازمة يقتضيان الدّوام
وعدم التخلّف كما لا يخفى ،
__________________
وهل يقول عاقل : إنّ
الكتابة إذا صارت ملكة لا ينافيها وقوع الغلط فيها بعد ذلك؟ بل الذي نقله هذا
الناصب سابقا في شرح مسألة عصمة الأنبياء من تعريف الأشاعرة وهو أن لا يخلق الله
فيهم ذنبا يقتضي الدّوام واللّزوم أيضا ، بل ما نقله من تعريف الحكماء ثمّة يستدعي
ذلك أيضا ، فما ذكره من أنّ صدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفي وجود الملكة مقدّمة
فاسدة مخالفة للعقل والنّقل ، نعم يمكن وقوع خلاف ملكة العدالة ظاهرا لعارض كالجبر
بأن أوجر الخمر في حلق صاحب تلك الملكة أو كوجوب الكذب لانقاذ
النبيّ الذي قصده الأعداء فانّ ارتكاب الكذب هاهنا إنّما هو لكونه أقل القبيحين وقد
قال الشارع عليهالسلام : من ابتلى ببليّتين فليختر أيسرهما وحيث لا مخالفة للشّرع
حقيقة في هاتين الصّورتين وما يحذو حذوها فلا يكون الإتيان بهما قادحا في ملكة
العدالة ، ومن هذا الباب ما يصدر في حال التقيّة كما لا يخفى ، واما ثالثا فلأنّ
إنكاره لما نسبه المصنّف إلى أصحابه من تجويزهم إمامة الفسّاق والسرّاق حيلة لا
تفي بإصلاح ما أفسده أسلافه ، فقد قال الأسفرايني الشافعي في كتاب الجنايات من الينابيع : وتنعقد الامامة ببيعة أهل
الحلّ والعقد من العلماء والرّؤساء ووجوه النّاس الذين يتيسّر حضورهم الموصوفين
بصفات الشهود كامامة
__________________
الصدّيق واستخلاف
من قبله ولو لبعضهم كامامة الفاروق وبجعله الشّورى كامامة عثمان وبقبول
المولى من عهد المولى إلى موته بالقهر والاستيلاء ولو فاسقا أو جاهلا أو عجميا
انتهى ، وقال شارح العقائد النسفيّة : إنّه لا ينعزل الامام بالفسق والجور لأنّه قد ظهر
الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء ، والسّلف كانوا
__________________
ينقادون لهم
ويقيمون الجمعوالأعياد بإذنهم انتهى ، وقال شارح الوقاية في فقه الحنفيّة لا يحدّ الامام حدّ الشرب ، لأنّه نائب من
الله تعالى انتهى ، وإنّما تكلّفوا هذه الخرافات ليتيسّر لهم حفظ صحّة إمامة
معاوية ويزيد وأمثالهم ، ومن قال منهم : إنّ الامام يشترط أن يكون من أهل العدالة
فالظاهر أنّه شرط استحساني عنده لا شرط لازم كما قال في المطول : إنّ اعتقاد التنافي في شرط حسن قصر القلب ، وقال عليه الصّلاة والسّلام لا صلاة إلا بحضور القلب أي لا كمال
__________________
إلا بها فتدّبر ،
واما ما قاله نظما فمقابل بما قلت ارتجالا شعر :
إذا ما رأى
فاضلا في الأنام
|
|
بفضلة فيه لقد
دنّسه
|
يلوث المطهّر
بما فضله
|
|
فضول اصفهاني ما
انجسه
|
قال المصنف رفع الله درجته
المبحث الثاني في أنّ الامام يجب أن
يكون أفضل من الرعيّة ، اتّفقت الامامية
على ذلك وخالف فيه الجمهور فجوّزوا تقديم المفضول على الفاضل ، وخالفوا مقتضى
العقل
__________________
ونصّ الكتاب ، فانّ
العقل يقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل ورفع مرتبة المفضول وخفض مرتبة الفاضل ،
والقرآن نصّ على إنكار ذلك فقال تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)
وقال الله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)
وكيف ينقاد الأعلم
الأزهد الأشرف حسبا ونسبا للأدون في ذلك كلّه انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : المراد من كون
الامام أفضل من الرّعيّة إن كان كونه أحسب وأنسب وأشرف وأعرف وأعفّ وأشجع وأعلم
فلا يلزم وجوبه عقلا كما ادّعاه على تقدير القول بالوجوب العقليّ ، لأنّ صريح
العقل يحكم بأنّ مدار الامامة على حفظ الحوزة والعلم بالرئاسة
__________________
وطريق التعيّش مع
الرعيّة بحيث لا يكون فظّا غليظا منفرا ولا سهلا ضعيفا يستولي عليه الرّعية ، ويكون حامي الذمار ويكفيه من العلم ما يشترط القوم من
الاجتهاد ، وكذا الشجاعة والقرشية في الحسب والنسب ، وإن وجد في رعيّته من كان في
هذه الخصال أتمّ ولا يكون مثله في حفظ الحوزة فالذي يكون أعلم بتدبير حفظ الحوزة
فالعقل يحكم بأنّه هو الأولى بالامامة ، وكثير من المفضولين يكونون أصلح للامامة
من الفاضلين ، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر والقيام به معرفة مصالحه ومفاسده وقوّة
القيام بلوازمه ، وربّ مفضول في علمه وعمله وهو بالزّعامة والرياسة أعرف وبشرائطها
أقوم وعلى تحمّل اعبائها أقدر ، وان أراد بالأفضل أن يكون أكثر ثوابا عند الله
فهذا أمر يحصل له الشرف والسعادة ولا تعلّق له بالزعامة والرئاسة وان أراد بالأفضل
الأصلح للامامة لكونه أعلم بحفظ الحوزة وتدبير المملكة فلا شكّ أنّه أولى ، ولا
يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون ، بل الأولى والأنسب تقديم هذا إذا لم
يسبق له عقد بيعة ، فان سبق وكان في تغييره مظنّة فتنة فلا يجوز التغيير ، هذا
جواب ما استدلّ به على هذا المطلب من لزوم القبح العقلي مع أنّا غير قائلين به ،
واما ما استدلّ به من الآية فهو يدلّ على عدم استواء العالم والجاهل
__________________
وعدم استواء
الهادي والمضلّ والمهتدي والضالّ وهذا أمر مسلّم ، فذلك الفاضل الذي لم يصر إماما وصار
المفضول إماما يترجح على المفضول بالعلم والشرف ، ولكنّ المفضول إذا كان أحفظ
لمصالح الحوزة وأصلح للامامة فهو أحقّ بالامامة ، والفاضل على فضله وشرفه ولا
محذور في هذا ، ومن الاشاعرة من فصّل في هذه المسألة وقال : نصب الأفضل إن أثار فتنة
لم يجب كما إذا فرض أنّ العسكر والرّعايا لا ينقادون للفاضل بل للمفضول وإلا وجب
انتهى.
أقول
مراد المصنّف قدسسره أنّه يجب أن يكون الامام أفضل وأكمل من الرعيّة في جميع
أوصاف المحامد كالعلم والزّهد والكرم والشّجاعة والعفّة وغير ذلك من الصّفات
الحميدة والأخلاق المرضيّة ، وبالجملة يجب أن يكون أشرفهم نسبا وأعلاهم قدرا
وأكملهم خلقا وخلقا كما وجب ذلك في النّبي بالنّسبة إلى امّته ، وهذا الحكم متّفق
عليه من أكثر العقلاء إلا أنّ أهل السنّة خالفوا في أكثره كالأعلميّة والأشجعية
والأشرفيّة لأنّ أبا بكر لم يكن كذلك مع أنّ عمر وأبا عبيدة نصباه إماما ، وكذا
عمر لم يكن كذلك وقد نصبه أبو بكر إماما ، ولم يتفطنوا بأنّ هذا الاختيار السوء قد
وقع مواضعة ومخادعة من القوم حبّا لجاه الخلافة وعداوة لإمام الكافّة كما يكشف عنه
قول طلحة حين كتب أبو بكر وصية لعمر بالولاية والخلافة حيث قال مخاطبا لعمر : وليته أمس ولّاك اليوم إلى غير ذلك من
__________________
المكايد والحيل
والخديعة التي استعملوها في غصب الخلافة عن أهلها ، وكذلك فريق من المعتزلة منهم
عبد الحميد بن أبي الحديد المدايني قالوا بجواز تقديم المفضول على الفاضل لمصلحة مّا
، وقالوا : إنّ عليّا أفضل من أبي بكر وجاز تقديم أبي بكر عليه لمصلحة ، وهذا
القول غير مقبول : إذ يقبح من اللّطيف الخبير أن يقدّم المفضول والمحتاج
__________________
إلى التكميل على
الفاضل الكامل عقلا ونقلا كما تقدّم في النبوّة ، ومنشأ شبهتهم في هذا التجويز أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قدّم عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر ، وكذا قدّم أسامة بن
زيد عليهما مع أنّهما أفضل من كلّ منهما ، والجواب بعد تسليم أفضليتهما والإغماض
عن أنّ هذه الأفضليّة إنّما توهّم لهما بعد غصبهما الخلافة انهما إنّما قدّما
عليهما في أمر الحرب فقط ، وقد كانا أعلم منهما فيه قطعا ، كما دلّ عليه الأخبار
والآثار ، هذا إن جعلنا التقديم والتأخير منوطا باختيار الله تعالى وإن جعلناه
منوطا باختيار الامّة كما هو مذهب جمهور النّاصبة فهو أيضا غير مقبول لأنّه يقبح
في العقول أيضا أن يجعل المفضول المبتدي في الفقه مقدّما على ابن عباس وذلك بين
عند كلّ عاقل والمخالف فيه مكابر ، ومن العجائب أنّ عبد الحميد بن أبي الحديد نسب
هذا التقديم الذي ذهب إليه إلى الله عزوجل فقال في خطبة شرحه لنهج البلاغة : وقدّم المفضول على الفاضل لمصلحة اقتضاها التكليف ، وهذا
القول في غاية ما يكون من السخف ، لأنّه نسب ما هو قبيح عقلا إلى الله عزوجل مع أنّه عدليّ المذهب وقد خالف مذهبه ، ولهذا حمل الشكايات
الواردة من عليّ عليهالسلام عن الصّحابة والتّظلم منهم في الخطبة الموسومة بالشقشقيّة على ذلك ، ولا يخفى أنّ الحمل على ذلك ممّا لا وجه له سوى
التحامل على عليّ عليهالسلام ، لأنّ هذا التّقديم إن كان من الله تعالى لم يصح من علي عليهالسلام الشكاية مطلقا ، لأنّها حينئذ تكون ردّا على الله والرّد عليه
على حدّ الكفر ، وإن كان من الخلق فان كان هذا التقديم لمصلحة المكلّفين علم بها
جميع الخلق غير عليّ عليهالسلام ، فقد نسبه عليهالسلام إلى الجهل بما عرفه عامة الخلق ، وإن كان لا لمصلحة كان
تقديما بمجرّد التشهّي فلم تكن
__________________
الشكاية على الوجه
الذي توهّمه ، فلا وجه لحملها عليه فتوجّه ، ثم أقول : يمكن أن يستدلّ على عدم
جواز تفضيل المفضول بقول أبي بكر : أقيلوني أقيلوني فانى لست بخيركم وعلى فيكم وهذا
من خواصّ هذا التّعليق فاحفظه فانّه به حقيق ، ثمّ هذا الذي أجبنا به عن جانب
المصنّف اختيار للأعمّ من الاحتمالات التي ذكرها النّاصب في ترديده الثلاثي ،
وتتضح صحّته وإفادته في المقصود عند القدح التفصيلي على مقدّمات ترديده المردود
فنقول وبالله التّوفيق : أما ما ذكره الأعرف مع الأعلم في الشّق الأوّل فمحلّ
تامّل ، لأنّه إن أراد به الأعلم فيلزم الاستدراك ، وإن أراد به الأعرف لقواعد
الرئاسة وحفظ الحوزة كما ذكره في الشّق الثالث فلا وجه لمنع وجوبه عقلا هاهنا
وإثباته هناك ، واما قوله : لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الامامة على حفظ
الحوزة إلخ فمردود بأنّا سلمنا أنّ المدار على حفظ الحوزة لكن ذلك الحفظ يعتبر أن
يكون على الوجه الشّرعي الخالي عن شوائب الجور والظلم الذي لا يحصل إلّا ممّن
اتّصف بالعلم والفقه والزّهد والشجاعة بل بالعصمة كما مرّدون الوجه العرفي
السّياسي الحاصل من
__________________
معاوية الباغي
وجروه يزيد والوليد الأموي الجبّار العنيد الذي استهدف المصحف المجيد ، والحجّاج
الظالم الفاتك الشّديد ، واللّص المتغلّب الدوانيقي ونحوهم من كلّ شيطان مريد ،
فانّهم كانوا يدفعون الفتنة المتوهّمة على الحوزة بل على خصوص سلطنتهم وجاههم بقتل
كلّ متهم وصلب كلّ عدوّ متوهم وإحراق بيوت أقوامهم وجيرانهم وضرب أعناقهم إلى غير ذلك من العذاب والنكال بلا ثبوت ذنب منهم على وجه
شرعي ، وبالجملة أنّ حفظ الحوزة على الوجه المشتمل على الانتظام الظاهري ودفع
الهرج والمرج ودفع تطاول بعض الآحاد على بعض قد يترتّب على وجود الخلفاء
المجازيّة والملوك الجائرة بل بوجود الشحنة والعسس بل ربّما يحصل هذا القسم من الانتظام دون غيرهم من الخلفاء
الحقيقيّة فانّهم بموجب سياساتهم العرفيّة المذكورة ربّما يدفعون تطاول آحاد
النّاس على غيرهم من العباد بوجه لا يتيسّر لغيرهم من الخلفاء الأمجاد ، لكنّهم
أنفسهم وأولياء دولتهم يعملون من ضعفاء العباد ما يشاؤن من الجور والفساد ، ولو
وقع خلل في أحكام الدّين القويم واعوجاج في أركان الطريق المستقيم عجزوا عن
الإصلاح والتقويم كما أشار إليه عبيد الله بن الحرّ في جملة قوله شعر :
__________________
تبيت النشاوى من أميّة نوّما
|
|
وبالطفّ قتلى ما
ينام حميمها
|
وما ضيّع
الإسلام إلّا قبيلة (عصابة خ ل)
|
|
تأمّر نوكاها ودام نعيمها
|
فاضحت قناة
الدّين في كفّ ظالم
|
|
إذا اعوجّ منها
جانب لا يقيمها
|
__________________
وليتأمل ذو الرّأي
السّديد أنّ فيما وقع أيّام تغلب يزيد عليه من اللعنة ما يربو ويزيد من قتل الحسين
عليهالسلام شيء من حفظ حوزة الإسلام؟! أو في قتله لأهل المدينة وافتضاض ألف بكر من أولاد الصّحابة والتّابعين الكرام رعاية حقوق الأنام؟!
أو في رمى المناجيق على الكعبة وتخريب بيت الله الحرام عمارة لما اختلّ من النظام أو دعوة لمن دخلها إلى دار
السّلام؟! وأمّا ما اشترط النّاصب من عدم كون الامام فظا غليظا فيشكل بحال إمامه عمر ، فانّه كان مذكورا على لسان
الصحّابة بهاتين الصّفتين كما سيجيء بيانه ، واما كفاية اشتراط العلم الاجتهادي
فقد مرّ ما فيه وسيجيء بيان الخطايا الفاحشة الصادرة عن اجتهاد عمر التي اعترف
فيها بقوله : لو لا علي عليهالسلام لهلك عمر وقوله : كلّ الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال واما ما فرض بقوله : وإن وجد في رعيته من كان بهذه
__________________
الخصال إلخ. ففرض
محال ؛ إذ لا يعقل كون الشخص متصفا بالأحسبية والأنسبية والأشرفية والأعرفية
والأعلمية والأشجعية ويكون غيره أعلم بحفظ الحوزة على الوجه المطابق للقانون
الشرعي ، ولعلّهم زعموا أنّ أبا بكر وعمر كانا كذلك بالنسبة إلى علي عليهالسلام وبطلانه ظاهر ، لما اشتهر من أنّ أكثر ما استعمله عمر من تدبير فتح العجم ونشر الإسلام في بلادهم
إنما كان باشارة علي عليهالسلام ، ومن أعظم ذلك وأشهره أنّه لمّا وصل إلى المدينة خبر
انتكاس راية أهل الإسلام في مقابل راية أهل العجم المسمّاة بالدّرفش الكاوياني
بخاصيّة ما كتب عليها بعض أهل الطلسمات من الجدول المشتمل على مائة بيت في مائة بيت ، رسم أمير المؤمنين عليهالسلام بقواعد علم
__________________

الجفر المختص به على
راية أهل الإسلام جدولا مشتملا على مائة وواحد حتّى أبطل خاصيّة ذلك الطلسم
وانكسرت راية العجم عند المقابلة في المرّة الثانية من الحرب نعم كان عليهالسلام محترزا عن استعمال الغدر والمكيدة والحيلة والخديعة التي
يعدّ العرب مستعملها من الدهات ، وكانوا يصفون معاوية بذلك ، فقد حكى أنّه لمّا
بلغ علي عليهالسلام أن جماعة من عسكره يقولون : إنّ معاوية صاحب الدهاء دون
علي عليهالسلام ، قال لهم : لو لا الدين لكنت من أدهى العرب وكذا الكلام في
الشق الثّاني من ترديده ، إذ لا يعقل أن يكون من هو أكثر ثوابا عند الله من جميع
أهل عصره خاليا عن العلم بقوانين الامامة والرئاسة مفضولا فيه عن سائر أهل عصره ،
واما ما ذكره في الشق الثالث من أنّه لا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون ،
ففيه أن هذا عين الاعتراف بجواز تقديم المفضول من حيثيّة يصلح للامامة على الفاضل
من تلك الحيثيّة ، وتقديم المفضول على الفاضل الذي أنكره العقل والنقل وجعله
المصنّف شناعة على القائل به
__________________
هو هذا ، فكان
الواجب على النّاصب أن يقصّر المسافة على نفسه ويقول إنّ تفضيل المفضول جائز إذا
انتظمت الرئاسة بالمفضول أيضا لئلا يصير باقي المقدّمات لغوا مستدركا ، وايضا
سيصرّح النّاصب المردود أنّه في هذا الجواب المردود بصدد المماشاة مع الخصم في
المحافظة على قاعدة الحسن والقبح العقليّين مع ان ما ذكره في هذا الشق مخالف لما
ذكره أعقل الحكماء ورئيسهم في إلهيات الشّفا حيث قال بعد اشتراط
النّصّ والأفضليّة ونحوها من الصفات في الخليفة والمعوّل الأعظم العقل وحسن
الايالة ممّن كان متوسّطا في الباقي بعد أن لا يكون غريبا في البواقي ولا يكون
بمنزلته في هذين ، فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما ويلزم أعقلهما أن يعتضد به
ويرجع إليه مثل ما فعل عمر وعلي انتهى ، إذ يفهم من عبارته أنّ الغريب من العلم
الصائر إلى الجهل مع كونه عارفا بحسن الايالة وقانون العدالة لا ينبغي للخلافة ،
وأنّ الأعرف بالسياسة إنّما كان أولى من الأعلم إذا لم يكن الأعلم بمنزلته في
العدالة والايالة ، فلا يكون عمر على تقدير كونه أعرف بالسياسة أولى من علي عليهالسلام ، لأنّ عليّا عليهالسلام كان في الأمرين على منزلة رفيعة كما اعترف به الخصم أيضا
هذا ، وفي تمثيل الشيخ لذلك بحال علي وعمر دقيقة ذكرناها في كتاب مجالس المؤمنين ، ولعلّ النّاصب زعم أنّ مضمون هذا الشق منطبق على حال
خلفائه الثلاثة وأنّهم كانوا مفضولين عن علي عليهالسلام في العلم بحفظ الحوزة أيضا ، لكنّ المفضول في ذلك يجوز نصبه
مع وجود الفاضل فيه ، وفيه أنّه لو كان لهم علم بحال الرّياسة والقيادة لما أمّر
النبي صلىاللهعليهوآله سلّم عليهم عمرو بن العاص مرة وزيد بن حارثة مرة وأسامة بن
زيد أخرى ، وإنما حصل ما حصل في زمان تقمصهم الخلافة من بعض النظام بمعاضدة غيرهم
من أصحاب الأشرار كما لا يخفى على من تتبع الآثار والأخبار ، واما ما ذكره من أنّ
هذا جواب ما
__________________
استدلّ به على هذا
المطلب من لزوم القبح العقلي مع أنا غير قائلين به ، ففيه أنّ المصنّف لم يستدل
على ذلك بالحسن والقبح العقلي بالمعنى المتنازع فيه ، بل تمسّك بغيره من الملائمة
والمنافرة والنقص والكمال كما تمسّك به النّاصب سابقا في الفصل المعقود لبيان
تنزيه الأنبياء عن عهر الامّهات ونحوه ، ولا ريب في أنّ الفاضلية والمفضولية من
باب الكمال والنقص والملائمة والمنافرة الذي يستقل بادراكه العقل ويحكم بترجيح
أحدهما علي الآخر ، واما ما ذكره من أنّ ما استدلّ به المصنف من الآية فهو يدلّ
على عدم استواء العالم والجاهل وعدم استواء الهادي والمضل إلخ ففيه إغماض وتجاهل
عن تتمّة الآية وهو قوله تعالى : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي
إِلَّا أَنْ يُهْدى) ، فانّه صريح في أنّ من يحتاج في الهداية إلى أمر إلى غيره
لا يليق بالاتباع وهذا هو محطّ استدلال المصنّف بالآية ، فصار جلّ ما ذكره النّاصب
لغوا لا طائل تحته كما لا يخفى ، ولو سلّم دلالته على مجرّد عدم استواء العالم
والجاهل لكن نفى الاستواء يقتضي العموم كما تقرّر في الأصول فيدل على عدم جميع
وجوه المساواة فيلزم عدم استواء الجاهل مع العالم في الامامة أيضا وهو المطلوب ،
لا يقال : المذكور في الأصول أنّ نفى المساواة في نفى قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ
وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) يقتضي العموم ، وكلمة النّفى غير موجودة فيما نحن فيه من
الآية ، فلا يحصل المطلوب ، لأنا نقول : المراد من النّفى ما هو أعمّ من المفهوم
من كلمة لا ومعناها ، وكلمة هل في قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) الآية استفهام إنكاري يدلّ على المبالغة في النّفى فضلا عن
أصل النفي فافهم ، وأما من فصل من الأشاعرة في هذه المسألة بما ذكره النّاصب
فالظاهر أنّه أشار بذلك إلى أنّ عليّا عليهالسلام وإن كان أفضل وأكمل ، لكن عساكر قريش وهم الصّحابة في ذلك
الزمان لم يكونوا ينقادون له لما في قلوبهم من الأضغان الجاهليّة والأحقاد البدرية
الناشئة من هلاك صناديدهم وأولادهم وإخوانهم بسيفه عليهالسلام ، ويؤول حاصل هذا الكلام إلى أنهم لم يستخلفوا عليا مع
استحقاقه للخلافة
، لأنهم لو استخلفوه لما انقادوا له وأثاروا الفتنة كما أثاروها عند وصول الخلافة
إليه بعد الثلاثة وفساده ظاهر.
قال المصنف رفع الله درجته
البحث الثالث في طريق تعيين الامام ذهبت
الامامية كافة إلى أنّ الطريق إلى تعيين الامام أمران النص من الله تعالى أو نبيه
أو إمام ثبتت إمامته بالنص عليه أو ظهور المعجزات على يده ، لأنّ شرط الامام العصمة
وهي من الأمور الخفية الباطنة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، وخالفت السنة في
ذلك وأوجبوا إطاعة أبي بكر على جميع الخلق في شرق الأرض وغربها باعتبار مبايعة عمر
بن الخطاب له برضاء أربعة : أبي عبيدة
وسالم مولى حذيفة
وبشير بن سعد
وأسيد بن حضير أبو الحصين
__________________
لا غير ، فكيف يحلّ
لمن يؤمن بالله واليوم الآخر إيجاب اتباع من لم ينصّ الله ولا رسوله ولا اجتمعت
الامة عليه على جميع الخلق لأجل مبايعة أربعة أنفار ، بل قد ذهب الجويني
وكان من أكثرهم علما وأشدّهم عنادا لأهل البيت عليهمالسلام
إلى أن البيعة تنعقد بشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير ، فهل يرضى
العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب وأن يوجب على نفسه الانقياد وبذل الطاعة لمن
لا يعرف عدالته أيضا ولا يدري حاله من الايمان وعدمه ، ولا عاشره ليعرف جيّده من
رديّه وحقّه من باطله لأجل أنّ شخصا لا يعرف عدالته أيضا بايعه ، وهل هذا إلا محض
الجهل والحمق والضلال عن سبيل الرّشاد؟ نعوذ بالله من اتّباع الهوى وغلبة حبّ
الدّنيا ، ومن أغرب الأشياء وأعجبها بحث الأشاعرة عن الامامة وفروعها وعن الفقه
وتفاصيله مع تجويز أن يكون جميع الخلق على الخطاء والزّلل وأن يكون الله قد قصد
إضلال العبيد بهذه الشرائع والأديان ، فانّهم غير جازمين بصدقها بل ولا ظانّين ،
فانّ مع غلبة الإضلال والكفر وأنواع العصيان الصّادرة منه تعالى كيف يظنّ عاقل أو
يشك في صحّة الشرائع؟ بل يظن بطلانها عندهم حملا على الغالب ، إذ الصّلاح في
العالم أقلّ من القليل ، ثمّ مع تجويزهم أن يحرم الله تعالى علينا التّنفّس في
الهوى مع الضرورة والحاجة إليه وعدم المفاسد عنه من كلّ وجه ويحرم علينا شرب الماء
السّائغ مع شدة العطش والانتفاع بذلك الماء وعدم التضرر
__________________
به وانتفاء المفاسد
كلها كيف يحصل الجزم بأنّه يفعل اللّطف بالعبد والمصلحة في إيجاب اتّباع هذا
الامام انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : اعلم أنّ
الشخص بمجرد صلوحه للامامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما ، بل لا بدّ في ذلك من
أمر آخر ، وإنّما يثبت بالنّص من الرّسول ومن الامام السابق بالإجماع ، ويثبت أيضا
ببيعة أهل الحلّ والعقد عند أهل السّنة والجماعة والمعتزلة والصّالحية من الزّيدية
خلافا للامامية من الشّيعة ، فانّهم قالوا لا طريق إلا النّص ، لنا ثبوت إمامة أبي
بكر ببيعة أهل الحل والعقد كما سيأتي بعد هذا مفصلا إن شاء الله في محاله ، وأما
ما ذكر أن خلافة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ورضاء أربعة لا غير ، فهذا أمر باطل
يكذبه النّقول المتواترة وإجماع الأمّة ، فانّ خلافة أبي بكر انعقدت يوم السّقيفة
بمحضر من أرباب الحلّ والعقد ، وهم كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار سيّما الخزرج ،
لأنّ المراد من أهل الحلّ والعقد أمراء العساكر ومن لم يتم أمر الامارة والخلافة
بغير رضاهم ، وكانت في ذلك الوقت جماعة الأنصار أهل الحلّ والعقد بهذا المعنى ،
وهل اختلف رجل واحد من زمان الصّحابة إلى اليوم من أرباب التواريخ أنّ أبا بكر لم
يفارق السقيفة حتى بايعه جميع الأنصار إلّا سعد بن عبادة وهو كان مريضا ومات بعد
سبعة أيّام؟ ، فكيف يقول : إنّ خلافته انعقدت ببيعة عمر ورضاء أربعة من الصحابة ،
وهل هذا إلا افتراء باطل يكذبه جميع التواريخ المثبتة في الإسلام ، نعم البادي في
البيعة كان عمر بن الخطاب وتتابع الأنصار وبايعوه بعد تلجلج وتردّد ومباحثة ، ولو
كان الأنصار سمعوا من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم النص على خلافة على عليهالسلام فلم لم يجعلوه حجة على أبي بكر؟ ولم لم يدفعوا خلافته بهذه
الحجّة ، أكانوا
يخافون من أبي بكر وعمر وهم كانوا في عقر دارهم؟ وقد اجتمعوا لنصب الامام من قومهم وكانوا زهاء ألف أو زيادة وقالوا بعد المباحثة : منّا أمير ومنكم أمير
، فلم لم يقولوا : يا أبا بكر يا عمر إنّ العهد لم يطل وإن رسول الله صلىاللهعليهوآله سلّم في غدير خم نصّ بخلافة علي عليهالسلام فلم تبطلون قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم لا تنقادون بقوله؟ وكان أقل فائدة هذه المباحثة دفع
البيعة عن أنفسهم ، ولم يجترئ أحد من الاماميّة أن يدّعى أنّ الأنصار قالوا يوم
السّقيفة هذا القول ، فيا معشر العقلاء تأمّلوا هل يمكن وجود النّص في محضر جميع
الناس ولم يحضر الأنصار؟ ، وهل يمكن أن الأنصار الذين نصروا الله ورسوله وتبوّءوا
الدّار والايمان وارتكبوا عداوة العرب وقتل الأشراف في نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا ساكتين في وقت المعارضة ولم يذكروا النّص أصلا؟ مع
أنّ عمر وأبا عبيدة ألزماهم بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الأئمة من قريش ،
فلم لم يقولوا الامامة لعلي بنصّ من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم غدير خم ، والعاقل المسلم المنصف لو تأمّل فيما قلنا
من سكوت الأنصار وعدم الاستدلال في دفع بيعة أبي بكر بالنّص على عليّ عليهالسلام لجزم بعدم النّص من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على أحد ، ويعلم أنّ خلافة أبي بكر ثبتت ببيعة أرباب الحلّ
والعقد ، ثمّ ما ذكر هذا الرّجل من أنّ الأشاعرة لا يقدرون على هذا المبحث وتعجب
عن بحثهم في الامامة لقولهم : بأنّ الله خالق كلّ شيء فهذا شيء ذكره مرارا وهو لا يعرف
غير هذا ، وتصوير المحالات على رأيه الباطل الفاسد ، وقد بيّنا لك أنّ شيئا ممّا
ذكره لا يلزم الأشاعرة ، وكثرة التّكرار من شأن الكوزيّين وأمثالهم انتهى.
أقول
فيه وجوه من الجهل
وضروب من التّجاهل ، أما أولا فلما في قوله : إنّ الشخص
__________________
بمجرّد صلوحه
للامامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما إلخ أنّ هذه المقدّمة لا تفيد في إثبات
مطلوبة ، لأنّ مجرّد استجماع الشرائط وإن لم يوجب كون الشخص إماما لكن من البيّن
أنّ الشّخص لا يصير إماما منصوصا عليه من الله تعالى ما لم يكن مستجمعا للشرائط ، والكلام
في أنّ غير عليّ عليهالسلام هل كان مستجمعا لها أم لا فافهم؟ ، وأما ثانيا فلأنّ حكمه
ببطلان ما ذكره المصنّف من أنّ إمامة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ورضاء أربعة لا غير
جهل أو تجاهل ظاهر لظهور أنّه حق جرى على لسان باطل من أصحابه وهو صاحب المواقف
وشرحه الشّارح قدسسره الشّريف على منواله حيث قال : وإذا ثبت حصول الامامة بالاختيار والبيعة فاعلم أنّ ذلك
__________________
الحصول لا يفتقر
إلى الإجماع من جميع أهل الحلّ والعقد إذ لم يقم عليه أى على هذا الافتقار دليل من
العقل والسّمع ، بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف في ثبوت الامامة
ووجوب اتّباع الامام على أهل الإسلام ، وذلك لعلمنا بأنّ الصّحابة مع صلابتهم في
الدّين وشدّة تحافظهم على امور الشرع كما هو حقّها
__________________
اكتفوا في عقد
الامامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرّحمن بن
عوف لعثمان ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحلّ والعقد فضلا
عن إجماع الامّة من علماء أمصار الإسلام ومجتهدي جميع أقطارها هذا كما مضى ولم
ينكر عليهم أحد ، وعليه أى وعلى الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الامامة انطوت
الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا «انتهى» ومن العجب أنّ هذا النّاصب أخذ جلّ ما ذكره
في هذا القسم من الكتاب من المواقف وشرحه ولم يصل هذا الذي نقلناه إلى نظره ، ثم
نقول على تقدير أن يكون أهل البيعة أناسا كثيرين لا خفاء في أنّهم تابعون لتصرّف
الشّرع فيهم لا تصرّف لهم في أنفس غيرهم من آحاد الامّة ، وفي أقلّ مهمّ من
مهمّاتهم فكيف يولّون الغير على أنفس الخلائق منهم ومن غيرهم ، فانّ من لا يعقل له
التّصرف في أقلّ الأمور لأدنى الأشخاص كيف يكون له قدرة على جعل الغير متصرّفا في
نفوس أهل الشرق والغرب وفي دمائهم وأموالهم وفروجهم ، هذا على أنّ ادعائه النقول
المتواترة على دعواه الباطلة المذكورة ينافي ما سيذكره عند ذكر مناقب عليّ عليهالسلام من إنكار وجود النقل المتواتر في العالم سوى واحد ، وأما
ثالثا فلأنّ قوله : أهل الحلّ والعقد كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار يدلّ بظاهر
الحصر المفهوم منه على أنّ عمر وأبا عبيدة الذين كانا عمدة أهل البيعة خارجان عن
أهل الحلّ والعقد غير متّصفين بالاجتهاد وهذا إزراء بجلالة قدر الرّجلين عندهم كما
لا يخفى ، ثم استدلاله على هذا الحصر بقوله : لأنّ المراد من أهل الحلّ والعقد
أمراء العساكر إلخ مدخول من وجهين : أحدهما أنّ تفسير أهل الحلّ والعقد بامراء
العساكر اختراع من النّاصب لا يوجد في شيء من كتب أصحابه ولا غيرهم ، وانما الذي
صرّح به ابن الحاجب في مختصره والعضد الإيجي في شرحه وغيرهما في غيرهما أن الإجماع اتفاق المجتهدين من
أمّة
__________________
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في عصر على أمر ديني أو دنيوي ، وثانيهما أنّ تفسير أمراء
العساكر وحصرها في الأنصار يوجب خروج أمير المؤمنين وأبي بكر وعمر وعثمان وأسامة
بن زيد الذي كان أميرا على الثلاثة وغيرهم عند وفات النبيّ صلىاللهعليهوآله سلّم ، فانّ هؤلاء كلّهم أمراء مهاجرون كما لا يخفى ، نعم
قال بعض المتكلّفين من أهل السّنّة : إنّه وإن لم يتحقّق الإجماع على خلافة أبي
بكر في يوم السقيفة ، لكنّه بعد ذلك إلى ستّة أشهر قد تحقّق اتّفاق الكل على
خلافته ورضوا بإمامته فتمّ الإجماع حينئذ ، وفيه أنّ ذلك أيضا ممنوع بعدم بيعة
عليّ عليهالسلام وأصحابه له ولو بعد ستّة أشهر ، ولو سلّم أنّه صفق على يده
كما يفعله أهل البيعة فلا ريب في أنّ سعد بن عبادة وأولاده لم يتفقوا على ذلك ولم
يبايعوا أبا بكر ولا عمر كما سنبيّنه ، ولو سلّم فنقول : قد اعتبر في تعريف
الإجماع اتفاق أهله على أمر واحد في وقت واحد ، إذ لو لم يقع ذلك في وقت واحد احتمل
رجوع المتقدّم قبل موافقة المتأخّر ، فلا معنى لحصول الإجماع على خلافة أبي بكر
تدريجا وبالجملة إن ادّعوا اتفاق الكلّ في وقت واحد على خلافة أبي بكر فهو خلاف
الواقع بالاتفاق ، وإن ادّعوا حصول الاتفاق في أوقات متعدّدة فإثباته أصعب من خرط
القتاد كما عرفت ، والظاهر أنّ هذا النّاصب في عدم مبالاته بالكذب وإكثاره من
الافتراء على الكتاب والسنّة والتّاريخ قد اعتمد على ظنّ منه أنّ كتابه هذا ممّا
لا يمكن أن يصل إلى أيدي علماء الاماميّة ومن ضاهاهم من أهل العلم والبصيرة ولا
يبعد ذلك ، لأنّه كتب هذا الكتاب في بلدة قاسان من بلاد ما وراء النّهر عند فراره
عن السّلطان الأعظم شاه إسماعيل الحسيني الصّفوي أنار الله برهانه كما قرره
__________________
__________________
في أوّل الكتاب
متحفا لكتابه إلى شاه بيك خان والى تلك البلاد ، وقرّر على
__________________
نفسه أنّ أحدا من
علماء الامامية لا يمكن أن يوجد هناك خوفا عن الهلاك ، وكوادن أهل ما وراء النّهر
لا معرفة لهم بما عدا فقه أبي حنيفة وأصوله وطرف من ظاهر العربيّة فلا يطلع أحد
منهم أيضا على الأكاذيب المودعة في كتابه ، والحق أنّه قد أصاب المخطي في ذلك ،
ولهذا قد رأيت في ظهر نسخته الميشومة بخط بعض قضاة ما وراء النّهر سطورا بالغ فيها
في مدح هذا الكتاب والثّناء على مؤلّفة قاتلهم الله ، وأما رابعا فلأنّ ما ذكره من
أنّ أبا بكر لم يفارق السّقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار إلا سعد بن عبادة فكاذب من وجوه كما يدلّ عليه كلام ابن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب حيث قال في ترجمة أبي
بكر : إنّه بويع له بالخلافة في اليوم الذي قبض (مات خ ل) فيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في سقيفة بني ساعدة ثمّ بويع بيعة العامّة يوم الثلاثاء من
غد ذلك اليوم وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش إلخ
وكذا ما ذكره من أنّ سعد
__________________
ابن عبادة مات بعد
سبعة أيام من خلافة أبي بكر كذب صريح يكشف عنه ما ذكره ابن عبد البرّ في كتابه
المذكور وابن حجر العسقلاني في كتابه الاصابة في معرفة الصحابة حيث قالا : إنّ سعدا لم
يبايع أحدا من أبي بكر وعمر ولم يقدروا على إلزامه كإلزامهم لغيره لكثرة أقوامه من
الخزرج ، فاحترزوا عن فتنتهم ولمّا وصل حكومة أهل الإسلام إلى عمر مرّ ذات يوم سعد
على سوق المدينة فوقع عليه نظر عمر وقال له ادخل يا سعد في بيعتنا أو اخرج من هذا
البلد ، فقال سعد حرام عليّ أن أكون في بلد أنت أميره ، ثمّ خرج من المدينة إلى
الشّام وكان له قبيلة كثيرة في نواحي دمشق كان يعيش في كلّ أسبوع عند طائفة منهم ،
ففي تلك الأيّام كان يذهب يوما من قرية إلى أخرى فرموه من وراء بستان كان على
طريقه بسهم فقتل رضياللهعنه ، وقال صاحب روضة الصّفا ما معناه : أنّ سعدا لم يبايع أبا بكر
وخرج من المدينة إلى جانب الشّام وقتل بعد مدّة فيها بتحريك بعض العظماء ، وقال
البلاذري
__________________
في تاريخه : إنّ
عمر بن الخطاب أشار إلى خالد بن الوليد ومحمّد بن مسلمة الأنصاري بقتل سعد فرماه كل واحد بسهم فقتل ، ثمّ أوقعوا على أوهام
النّاس أنّ الجنّ قتلوه لأجل خاطر عمر ووضعوا هذا الشّعر على لسانهم :
قد قتلنا سيّد
الخزرج سعد بن عبادة
|
|
فرميناه بسهمين
فلم يخطئ فؤاده
|
__________________
وأما خامسا فلأنّ
قوله : فلو كان الأنصار سمعوا إلخ غير مسموع ، لأنّهم سمعوا ذلك النّص وتذاكروه
فيما بينهم ، لكنّهم لم يجعلوه ذلك اليوم حجّة على أبي بكر لشبهة أوقعها أولياء
أبي بكر وغيره في قلوب النّاس من أنّ عليّا عليهالسلام قد تقاعد عن تصدّي الخلافة والتزم البيت وأمسك عن إحياء
هذا الميت ، فانّ المذكور في المعتبر من كتب السّير والتواريخ أنه لمّا توفّى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم واشتغل عليّ عليهالسلام مع أصحابه من بني هاشم وغيرهم بتجهيز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وتعزيته معتقدا أنّ أحدا لا يطمع في هذا الأمر مع وجوده عليهالسلام أوقع بعض المنحرفين عن عليّ عليهالسلام في قلوب الناس أنّه عليهالسلام قد تقاعد عن تصدّي الخلافة لشدّة ما أصابه من مصيبة النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم وسكن قعر بيته مشتغلا بالحزن والتعزية ، فجاء خزيمة بن
ثابت الأنصاري وقال
__________________
لقومه من الأنصار
ما سمعه من حال عليّ عليهالسلام وذكر أنه لا بدّ ممن يلي هذا الأمر وليس سواه قرشي يليق
بذلك ، فخاف الأنصار أن تشتد عليهم البلية ويلي هذا الأمر قرشي فظ غليظ ينتقم منهم
للثارات الجاهلية والأضغان البدرية ، فتوجهوا إلى سعد بن عبادة سيد الأنصار وحضروا
السقيفة ملتمسين منه قبول الخلافة ، فأبى سعد عن ذلك لمكان عليّ عليهالسلام وأنه المنصوص بالخلافة عن الله تعالى ورسوله عليهالسلام ، فلما سمع قريش بذلك وكانوا منتهزين للفرصة دلسوا في
الأمر وعجّلوا في البيعة لأبي بكر ، فبادروا إلى السقيفة لتسكين نائرة الأنصار
والتمسوا بيعة أبي بكر عنهم بالطوع والإجبار فقال لهم الأنصار إذا تركتم نصّ الله
تعالى ورسوله عليه الصّلاة والسّلام فليس أحد منّا ومنكم بعد عليّ بن أبي طالب عليهالسلام أولى من غيره ، فمنّا أمير ومنكم أمير ، فأبى أبو بكر
وأصحابه عن ذلك محتجّين في ذلك بأنّ الأئمة من قريش ، وأبي سعد عن قبول إمارتهم
متمسّكا بأنّ المنصوص لذلك غيرهم ، فاضطرب الحال إلى أن مال قلب بشير بن سعد بن
ثعلبة الأنصاري رغما لابن عمّه سعد بن عبادة إلى ترجيح جانب قريش
وموافقتهم ، فقوى أمر قريش وبادر عمر إلى صفق يده على يد أبي بكر وبايعه هو وجماعة
من أضرابه فلتة كما أخبر عنه هو بعد ذلك بقوله : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله
شرّها عن المسلمين ، وفي كتاب المواهب لمحمّد بن جرير الطبري الشافعي عن أبي علقمة
، عن سعد بن عبادة قال أبو علقمة : قلت لابن عبادة وقد مال النّاس إلى بيعة أبي
بكر : ألا تدخل فيما دخل فيه المسلمون ، قال : إليك عنّي فو الله لقد سمعت
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إذا أنا متّ تضل الأهواء ويرجع النّاس على أعقابهم
، فالحق يومئذ مع عليّ وكتاب الله بيده لا تبايع أحدا غيره ، فقلت له هل سمع هذا
الخبر أحد غيرك من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال أناس في قلوبهم أحقاد وضغائن ، قلت بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون
الناس كلّهم ، فحلف أنّه لم يهمّ بها ولم يردها وأنّهم لو بايعوا عليّا كان أوّل
من بايع سعد انتهى ، وروى الشّيخ الفاضل أبو السّعادات الحلّي رحمة الله
تعالى عليه في شرح دعاء صنمي قريش أنّه اجتمع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وإخوانهم في
سقيفة بني ساعدة يطلبون الحكم والبيعة من غير اكتراث من أهل البيت وبني هاشم وكلّ واحد من هؤلاء الثلاثة يرجو
الأمر والحكم لنفسه ويعطفه على (عن خ ل) صاحبه فأنكر عليهم الأنصار
__________________
وأصرّوا على الدّفاع
والامتناع ، واحتجوا عليهم بما قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عليّ من التّوكيد في إمامته في مواطن شتّى وأمره إيّاهم
بالتّسليم عليه بامرة المؤمنين فقال أبو بكر قد كان ذلك لكن نسخه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقوله : إنا أهل
بيت كرمنا الله واصطفانا بالنّبوة ولم يرض لنا بالدّنيا وأنّ الله لا يجمع لنا
النبوّة والخلافة فصدّقاه عمر وأبو عبيدة في ذلك وعللا قعود علي في بيته
والاشتغال بتجهيز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دون تصدّي أمر الخلافة بعلمه بتحويل الأمر عنه ، فقالت
الأنصار إذا لا نرضى بأمارة غيرنا علينا منّا أمير ومنكم أمير ، وذكروا عن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الأئمة من قريش وشبّهوا الأمر على الأنصار وسائر الامة
وقطعوا بذلك حجّتهم وأخذوا بيعتهم ، ولمّا فرغ علي وأصحابه عن تجهيز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ودفنه وتكلموا في ذلك اعتذروا تارة بأنّ النّاس بايعوا ولم
يكن لهم علم بأنّك تنازعهم في الأمر. ونكث البيعة الواقعة يورث مفاسد بين المسلمين
وخللّا في أركان الدين ، وتارة بأنّهم ظنوا أنّك بشدة مصيبة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم طرحت الخلافة والأمارة ، فاتّفق أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على تفويض الأمر إلى أبي بكر إلى غير ذلك من الأعذار التي
ستجيء مع أجوبتها في الموضع اللائق بها ، ومما يقلع عرق إنكارهم ويوضح رجوعهم على
إدبارهم ما ذكره ابن قتيبة وهو من أكبر شيوخ
__________________
أهل السنّة وله
عدّة مصنفات في إمامة أبي بكر وغيرها من الكتب ، قال في كتاب السّياسة في باب إمامة أبي بكر وإباء عليّ عن
بيعته : ما هذه صورته ، وذكروا أنّ عليّا اتى به أبو بكر وهو يقول أنا عبد الله
وأخو رسوله ، فقيل له بايع أبا بكر ، فقال أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم
، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وتأخذونه منّا أهل البيت غصبا ، ألستم زعمتم للأنصار أنكم
أولى بهذا الأمر لمكان محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم منكم ، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الأمارة فأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم
به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيّا وميتا فأنصفونا إن كنتم تخافون من أنفسكم وإلا
تبوّءوا بالظلم وأنتم تعلمون ، فقال له عمر : أنت لست متروكا حتّى تبايع ، فقال له
عليّ احلب حلبا لك شطره اشدده له اليوم ليرده عليك غدا ، ثمّ قال : والله يا عمر
لا أقبل قولك ولا أبايعه ، فقال له أبو بكر : فان لم تبايعني فلا أكرهك ، فقال
عليّ : يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ،
وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت
أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فيه القاري لكتاب الله الفقيه في دين الله العالم
بسنن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، انتهى ما قصدنا إيراده من كلامه ، وفيه كما قال بعض الفضلاء عدّة
شواهد على ما تدعيه الشيعة من قوله :
__________________
أنا أحق بهذا
الأمر منكم ، وقوله : تأخذونه منا أهل البيت غصبا ، وقوله : لنحن أولى برسول الله
حيا وميتا ، وقوله : لا تخرجوا سلطان محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في العرب من داره وقعر بيته وتدفعوا أهله عن مقامه في
الناس وحقه ، فو الله لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ، ونحن معاشر الامامية نقول : صدق
عليّ في جميع ذلك ، والنواصب يلزمهم أن يقولوا كذب ، وليت شعري أين محبتهم لأهل
البيت وكيف يجعلونه كاذبا في جميع ذلك وهو عندهم إمام؟ أم كيف يجعلونه صادقا فيلزم
تكذيب إمامهم الأوّل؟ وكيف يجمع ابن قتيبة بين هذا الحديث وبين قوله بأيهم اقتديتم اهتديتم ، (يَهْدِي اللهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ، وأما سادسا فلأن ما ذكروه من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الأئمة من قريش صحيح ويؤيده قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في صحاح الأحاديث : إنّ الإسلام لا يزال عزيزا ما مضى فيهم اثنا عشر خليفة
كلّهم
__________________
__________________
من قريش وكان المراد من
الخليفة الأوّل القرشي عليّ عليهالسلام لكن لمّا أوقعوا في القلوب أنّه عليهالسلام تقاعد عن تصدّي الخلافة كما ذكرنا سابقا موّهوا ذلك بجواز
العدول إلى قرشي آخر ، وأما سابعا فلأنّ قوله : فلم لم يقولوا : الإمامة لعليّ
بنصّ من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلخ مدفوع بما مرّ وسيجيء من أنّهم قالوا ذلك ، لكن شبّهوا
الأمر على الناس بتقاعد عليّ عليهالسلام ومع هذا قد أصرّ بعض أهل السقيفة في التّخلّف عن بيعة أبي
بكر وقالوا : لا نبايع أحدا غير عليّ بن أبي طالب عليهالسلام كما مرّ أيضا ، وقد صرّح به سيّد
__________________
المحدثين في روضة الأحباب ، وبما قررناه يعلم أيضا بطلان ما ذكره
النّاصب آخرا من سكوت الأنصار ، واما ثامنا فلأنّ ما ذكره أنّ شيئا ممّا ذكره
المصنّف لا يلزم الأشاعرة حقّ وصدق لكن من حيث إنّهم ذهبوا إلى أنّ الله تعالى
خالق كلّ شيء فان لزم شيء فهو لازم لله على مذهبهم فافهم هذا فانّه لطيف جدّا.
قال المصنّف رفع الله درجته
المبحث الرابع في تعيين الامام ذهبت
الاماميّة كافة إلى أنّ الامام بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
هو عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وقالت السّنة : إنّه أبو بكر بن أبي قحافة ، ثمّ
عمر بن الخطاب ثمّ عثمان بن عفّان ثمّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام
وخالفوا المعقول والمنقول ، مّا المعقول فهي الأدلّة الدّالة على
إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام من حيث العقل وهي من وجوه الوجه الاول الامام يجب
أن يكون معصوما على ما تقدّم وغير عليّ من الثلاثة
لم يكن معصوما بالإجماع ، فتعيّن أن يكون هو الامام ، الثاني
شرط الامام أن لا يسبق منه المعصية على ما تقدّم والمشايخ
قبل الإسلام كانوا يعبدون الأصنام فلا يكونون
__________________
أئمة فتعيّن عليّ عليهالسلام
لعدم الفارق
،الثالث الامام يجب أن يكون منصوصا عليه على ما تقدّم وغير
علي عليهالسلام
من الثلاثة لم يكن كذلك فتعيّن هو ، الرابع الامام يجب أن
يكون أفضل من الرّعيّة وغير عليّ من الثلاثة لم يكن كذلك
فتعيّن عليّ عليهالسلامالخامس
الامامة رياسة عامّة وإنّما تستحقّ بأوصاف الزّهد والعلم
والعبادة والشجاعة والايمان وسيأتي أنّ عليّا عليهالسلام
هو الجامع لهذه الصفات على الوجه الأكمل الذي لم يلحقه غيره فيكون هو الامام
انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : مذهب أهل
السنّة والجماعة أنّ الامام بالحقّ بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبو بكر الصدّيق وعند الشّيعة عليّ المرتضى عليهالسلام كرّم الله وجهه ورضي عنه ودليل أهل السنّة وجهان الاول أنّ
طريق ثبوت الامامة إمّا النص أو الإجماع بالبيعة ، أما النص فلم يوجد لما ذكرناه
ولما سنذكر ونفصل بعد هذا إنشاء الله تعالى ، وأما الإجماع فلم يوجد في غير أبي
بكر اتّفاق من الامة الوجه الثاني أنّ الإجماع منعقد على حقيّة إمامة أحد الثلاثة
أبي بكر وعلي والعباس ، ثمّ إنهما لم ينازعا أبا بكر ولو لم يكن على الحقّ لنازعاه
كما نازع عليّ عليهالسلام معاوية ، لأنّ العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك ، ولأنّ
ترك المنازعة مع الإمكان مخلّ بالعصمة إذ هو معصية كبيرة توجب انثلام العصمة ،
وأنتم توجبونها في الامامة وتجعلونها شرطا لصحة إمامته ، فان قيل لا نسلّم الإمكان
أى إمكان منازعتهما أبا بكر ، قلنا : قد ذهبتم وسلّمتم أنّ عليا عليهالسلام كان أشجع من أبي بكر وأصلب منه في الدّين وأكثر منه قبيلة
وأعوانا وأشرف منه نسبا وأتمّ منه حسبا ، والنص الذي تدّعونه لا شك أنّه كان بمرئى
من الناس وبمسمع منه ، والأنصار لم يكونوا يرجحون أبا بكر على عليّ عليهالسلامو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذكر في آخر
__________________
عمره على المنبر
وقال : إنّ الأنصار كرشي وعيبتي وهم كانوا الجند
الغالب والعسكر وكان ينبغي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أوصى الأنصار بامداد عليّ عليهالسلام في أمر الخلافة وأن يحاربوا من يخالف نصه في خلافة عليّ ،
ثمّ إنّ فاطمة عليهاالسلام مع علوّ منصبها زوجته والحسن والحسين مع كونهما سبطي رسول
الله ولداه والعباس مع علوّ منصبه عمه ، فانه روي أنه قال لعلي عليهالسلام : امدد يدك أبايعك حتى يقول الناس بايع عمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ابن عمه فلا يختلف فيك اثنان والزّبير مع شجاعته كان معه
حتى قيل : إنه سلّ السيف وقال لا أرضى بخلافة أبي بكر ، وقال أبو سفيان : أرضيتم
يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيمي والله لأملان الوادي خيلا ورجلا ، وكرهت
الأنصار خلافة أبي بكر فقالوا : منا أمير ومنكم أمير كما ذكرنا ، ولو كان على
إمامة عليّ نصّ جلي لأظهروه قطعا ولأمكنتهم المنازعة جزما كيف لا وأبو بكر عندهم
شيخ ضعيف جبان لا مال له ولا رجال ولا شوكة ، فأنى يتصور امتناع المنازعة معه ،
وكلّ هذه الأمور يدلّ على أنّ الإجماع وقعت على خلافة أبي بكر ولم يكن نصّ على
خلافة غيره ، وبايعه عليّ عليهالسلام حيث رآه أهلا للخلافة عاقلا صبورا مداريا شيخا للإسلام ،
ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزّعامة ، بل غرضهم كان إقامة الحق وتقويم
الشريعة ليدخل الناس كافة في دين الإسلام ، وقد كان يحصل هذا من خلافة أبي بكر
فسلموا إليه الأمر وكانوا أعوانا له في إقامة الحقّ ، هذا هو المذهب الصحيح والحقّ
الصريح الذي عليه السواد الأعظم من الامة ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : عليكم بالسواد الأعظم ،
وأما ما استدل به من الوجوه العقلية على خلافة علي عليهالسلام فالأول وجوب كون الامام معصوما وقد قدّمنا عدم وجوبه لا
عقلا ولا شرعا ، وجواب الثاني عدم اشتراط أن لا يسبق منه معصية كما قدّمنا ، وجواب
الثالث عدم وجوب النصّ لأنّ الإجماع في هذا كالنصّ ، وجواب الرابع عدم وجوب
__________________
كون الامام أفضل
من الرّعية كما ذكر إذا ثبت أفضلية علي كرم الله وجهه ، وجواب الخامس أنّ أوصاف
الزّهد والعلم والعبادة والشجاعة والايمان كانت موجودة في المشايخ الثلثة ، وأما
الأكملية في هذه الأوصاف فهي غير لازمة إذا كانوا أحفظ للحوزة انتهى.
أقول
مواقع الإيراد في
كلامه مما لا يحصى ، أما أولا فلأنّ إنكاره للنصّ باطل بما ذكرناه وسنذكره إن شاء
الله تعالى مفصلا ، واما ثانيا فلأنّ انعقاد الإجماع على إمامة أبي بكر ممنوع بل
محقّق العدم كما مرّ بيانه مفصلا ونزيد عليه هاهنا ، ونذكر ملخّص ما أفاده بعض
أعلام علمائنا قدسسرهم من أنّ الإجماع على ما في منهاج البيضاوي ومختصر ابن الحاجب وشروحه عبارة عن اتفاق جميع أهل الحلّ والعقد يعني
المجتهدين وعلماء المسلمين على أمر من الأمور في وقت واحد ، والجمهور أنفسهم قد
تكلموا على تحقق الإجماع وشرائطه حسبما ذكر في الشرح العضدي وغيره بأنّ الإجماع
أمر ممكن أو محال ، وعلى تقدير إمكانه هل له تحقق أولا ، وعلى التقادير كلّها هل
هو حجة ودليل على شيء أم لا؟ وعلى تقدير كونه حجة ودليلا هل هو كذلك ما لم يصل
ثبوته إلى حدّ التواتر أولا؟ وفي كلّ ذلك اختلاف بين علمائهم فلا بدّ لهم من إثبات
ذلك كلّه حتى يثبت إمامة أبي بكر ، وليت شعري أنّ من لم يقل منهم بذلك كلّه كيف
يدعي حقية إمامة أبي بكر ويتصدّي لإثباتها ، ثم بعد ذلك خلاف آخر وهو أنه هل يشترط
في حقيقة الإجماع أن لا يتخلّف ولا يخالف أحد من المجمعين
__________________
إلى أن يموت الكلّ
وايضا قد اختلفوا في أنّ الإجماع وحده حجة أوّلا أو لا بدّ له من سند هو الحجة
حقيقة ، والسند الذي قد ذكروه في دعوى إجماعهم على خلافة أبي بكر هو قياس فقهي
قاسوه فقالوا : إنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه أمر أبا بكر أن يصلي إماما للجماعة ، وإذا جعله
إماما في أمر الدّين ورضي به فيكون أرضى لإمامته في أمر الدّنيا وهو الخلافة فقد
قاسوا أمر الخلافة على إمامة الصلاة وزعموه سندا وقد عبروا عن ذلك بعبارات متقاربة مذكورة في
شرح التجريد والمواقف والطوالع والكفاية للصابوني الحنفي والصواعق المحرقة لابن حجر المتأخر الشافعي
__________________
والرّسالة
الفارسية في العقائد لأحمد الجندي الحنفي وغيرها أشهرها ما ذكرناه
__________________
__________________
ولا يخفى فساده
على من له أدنى معرفة بالأصول لأنّ إثبات حجية القياس في غاية الاشكال وعلماء أهل
البيت عليهمالسلام والظاهرية من أهل السنة وجمهور المعتزلة ينفون حجيته ويقيمون على
قولهم حججا عقلية ونقلية وسيجيء نبذ منها في بحث القياس من مسائل اصول الفقه ،
ولغيرهم أيضا في أقسامه وشرائطه اختلاف كثير ، وعلى تقدير ثبوت ذلك الذي دونه خرط
القتاد إنما يكون القياس فيما إذا كان هناك علّة في الأصل ويكون الفرع مساويا
للأصل في تلك العلّة ، وهاهنا العلّة مفقودة بل الفرق ظاهر لأنّ الصلاة خلف كلّ
برّ وفاجر جايز عندهم بخلاف الخلافة إذ شرطوا فيها العدالة والشجاعة والقرشية
وغيرها ، وأيضا أمر إمامة الجماعة أمر واحد لا يعتبر فيه العلم الكثير ولا الشجاعة
والتدبير وغيرها مما يشترط عندهم في الخلافة فإنها لمّا كانت سلطنة وحكومة في جميع
امور الدين والدنيا يحتاج إلى علوم وشرائط كثيرة لم يكن شيء منها موجودا في أبي
بكر وأخويه فلا يصح قياس هذا بذاك وقول بعضهم : إنّ الصلاة من امور الدّين
والخلافة من امور الدنيا غلط ظاهر ، لأنّ المحققين
__________________
منهم كالشارح
الجديد للتجريد عرّفوا الامامة بالحكومة العامة في الدّين
والدّنيا وظاهر أنّه كذلك مع أنّ الأصل ليس بثابت ، لأنّ الشيعة ينكرون ذلك كمال
الإنكار ويقولون : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر النّاس في مرضه بالصّلاة ، فقالت عائشة بنت أبي بكر
لبلال ، إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر أن يؤمّ أبو بكر النّاس في الصّلاة فلمّا اطلع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
على هذا الحال
المورث للفساد وضع يده المباركة على منكب عليّ عليهالسلام وأخرى على منكب الفضل بن عبّاس وخرج إلى المسجد ونحى أبا
بكر عن المحراب ، فصلى بالنّاس حتّى لا تصير إمامة أبي بكر موجبة للخلل في الدّين
، ويعضد ذلك ما رواه البخاري بإسناده إلى عروة فوجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من نفسه خفّة فخرج إلى المحراب فكان أبو بكر يصلي بصلاة
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والنّاس يصلّون بصلاة أبي بكر أى بتكبيره انتهى ، ولقد ضحك السّيد الشّريف الجرجاني على لحية القوم في شرحه للمواقف
فانّه ذكر هذه الرّواية وحيث رأى أنّها مخالفة لأصل ما وضعوه واخترعوه من رواية
ايتمام النّاس بأبي بكر فضلا عن رواية ايتمام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم به حملها على أنّه كان في وقت آخر وفيه ما فيه ، وأيضا لو
كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحا كما زعموا وكان مع صحته دالا على إمامته
لكان ذلك نصّا من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالامامة ومتى حصل النّص لا يحتاج معه إلى غيره ، فكيف لم
يجعل أبو بكر وأصحاب السقيفة ذلك دليلا على إمامة أبي بكر وكيف لم يحتجّوا به على
الأنصار؟ وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل عليهم فيها الاختلاف والاحتياج
إلى اشتهار السيوف وعدلوا عن الاحتجاج بالنّص المذكور؟ مع ظهور أنّ العاقل لا
يختار الأعثر الأصعب مع وجود الأسهل
__________________
إلا لعجزه عنه ، فعلم أنّ ذلك ليس فيه حجة أصلا ، وأيضا الظاهر أنّ الامامة
من الأصول ولهذا ذكر في الأصول وقد مرّ الكلام في اصالتها مستقصى ، فلا يصحّ
إثباته بالقياس على تقدير تحقّق القياس الصّحيح ، لأنّ القياس الفقهي إنّما يجري
في الفروع كما لا يخفى ، وما ذكر في المواقف من نفى كون الامامة من الأصول ظاهر
البطلان ، وكيف يكون ذلك مع أنّه صنو النّبوّة كما مرّ ، ولو كان ظنّ المجتهد
كافيا في مسألة الامامة كما في مسائل الفروع الفقهيّة فيكون تخطئة المجتهد الذي
ظنّ أنّ أبا بكر لم يكن إماما باطلا وكان تقليد ذلك المجتهد جائزا ، مع أنّه لو
قال أحد عندهم : إنّي أعتقد إمامة عليّ عليهالسلام لظنّ غلب علىّ أو تقليدا للمجتهد الفلاني يخطئونه بل
يقتلونه ، وأيضا الاستخلاف لا يقتضي الدّوام إذ الفعل لا دلالة له على التّكرار
والدّوام إن ثبتت خلافته بالفعل ، وإن ثبتت بالقول فكذلك كيف وقد جرت العادة
بالتّبعيّة مدّة غيبة المستخلف والانعزال عند مجيئه ، وايضا ذلك معارض بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم استخلف عليا عليهالسلام في غزوة تبوك في المدينة وما عزله ، وإذا كان خليفة على
المدينة كان خليفة في سائر وظائف الامّة لأنّه لا قائل بالفصل والترجيح معنا ،
لأنّ استخلافه على المدينة أقرب إلى الامامة الكبرى ، لأنّه متضمّن لأمور الدّين
والدنيا بخلاف الاستخلاف في الصّلاة كما مرّ ، وبعد تسليم ذلك كلّه نقول : إنّ
إجماع الامّة بأجمعهم على إمامة أبي بكر لم يتحقق في وقت واحد وهذا واضح جدا مع
قطع النظر عن عدم حضور أهل البيت عليهمالسلام وسعد بن عبادة سيّد الأنصار وأولاده وأصحابه
__________________
ولهذا طوى صاحب
المواقف دعوى ثبوت خلافة أبي بكر بالإجماع ، واكتفى في إثباته بالبيعة كما مرّ ،
والحاصل أنّ الناصب وأصحابه ان أرادوا بوقوع الإجماع على خلافة أبي بكر حصول
الاتّفاق على ذلك بعد النبيّ بلا فصل أو في زمان قليل فهو معلوم البطلان بالاتفاق
، وإن أرادوا بعد تطاول المدّة ، فهو وإن كان مخالفا لما اعتبر في حقيقة الإجماع
من اتّحاد الوقت كما مرّ وممنوعا أيضا لما مرّ ، لا يقوم حجّة إلا إذا دخل الباقون
طوعا ، اما إذا استظهر الأكثر وخاف الأقلّ ، ودخل فيما دخل فيه الأكثر خوفا وكرها
فلا ، ولا شكّ أنّ الحال كان كذلك ، فانّ بني هاشم لم يبايعوا أوّلا ، ثمّ قهروا
فبايعوا بعد ستة أشهر ، وامتنع عليّ عليهالسلام ولزم بيته ولم يخرج إليهم في جمعة ولا جماعة إلى أن وقع ما
نقله أهل الأحاديث والأخبار واشتهر كالشّمس في رابعة النهار حتّى أنّ معاوية بعث
__________________
إلى عليّ عليهالسلام في كتاب كتبه إليه يقول فيه : إنك كنت تقاد كما يقاد الجمل
المخشوش حتّى تبايع يعيّره ويؤنبه بأنّه لم يبايع طوعا ولم يرض ببيعة
__________________
أبي بكر حتّى
استكره عليها خاضعا ، ذليلا كالجمل إذا لم يعبر على قنطرة وشبهها ، فانّه يكره
ويخشّ بالرّماح وغيرها ليعبر كرها ، فكتب إليه بالجواب عنه ما ذكر في نهج
البلاغة المتواتر نقله عنه عليهالسلام ، وهذا لفظه : وقلت إنّى كنت أقاد كما يقاد
__________________
الجمل المخشوش
حتّى أبايع ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم
من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه أو مرتابا في يقينه وهذه حجّتي
إلى غيرك، وأوضح من هذا ما ذكره في الخطبة الموسومة بالشقشقيّة المذكورة في النّهج أيضا وهي التي خطبها بعد مبايعة النّاس له وهي
مشهورة وسيذكرها المصنّف في هذا الكتاب ، وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه للنّهج عند عدّه فضائل عمر : إنّ عمر هو
الذي وطَّأ الأمر لأبي بكر وقام فيه حتّى أنّه دفع في صدر المقداد وكسر سيف
الزّبير وكان قد شهره عليهم وهذا غاية الإكراه ، ومما يوضح ذلك ويسدّ باب الإنكار
على الخصم ويسجّل على أنّ بيعة عليّ عليهالسلام كانت كرها ما رواه الحميدي في سادس حديث من المتّفق عليه من صحيح البخاري
ومسلم من مسند أبي بكر قال : ومكثت فاطمة بعد وفات رسول الله ستّة أشهر ثمّ توفيت
، قالت عائشة : وكان لعلي عليهالسلام وجه بين النّاس في حياة فاطمة فلمّا توفيت فاطمة انصرفت
وجوه النّاس عن عليّ عليهالسلام وفي جامع الأصول قالت يعني عائشة : فكان لعلي وجه بين النّاس في
حياة فاطمة فلمّا توفيت فاطمة انصرفت وجوه النّاس عن عليّ عليهالسلام ، ومكثت فاطمة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ستّة أشهر ثمّ توفيت فاطمة فلمّا رأى عليّ عليهالسلام انصراف وجوه النّاس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر وأرسل إليه
ايتنا ولا تأتينا معك بأحد ، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدّة عمر ، فقال عمر لا
تأتيهم وحدك ، فقال أبو بكر والله لآتينهم وحدي عسى أن يصنعوا بي فانطلق أبو بكر فدخل
على عليّ وقد جمع بني هاشم عنده
__________________
إلى آخر الحديث ،
وفيه وجوه من الدّلالة على ما ادّعيناه كما لا يخفى على المتأمّل وذكر الواقدي أنّ عمر جاء إلى علي في عصابة منهم أسيد بن الحصين
__________________
وسلمة بن سلامة الأشهلي فقال اخرجوا أو لنحرقنها عليكم ، وذكر
ابن خذابة
__________________
__________________
في غرره قال زيد
بن أسلم كنت ممّن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع عليّ وأصحابه عن
البيعة ، فقال عمر لفاطمة اخرجي من البيت أو لأحرقنّه ومن فيه قال وفي البيت عليّ
والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبيّ ، فقالت فاطمة أفتحرق علىّ ولدي؟ فقال اي
والله أو ليخرجن وليبايعنّ ، وفي هذا كفاية ، وقد ذكر
__________________
مؤلف كتاب الملل والنّحل ما في معناها رواية عن النّظام والملخّص
أنّه قد تقرّر في علم الميزان أنه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال وقد قام احتمال
الإكراه بل وقوعه في هذا الإجماع النّاقص فيكون باطلا وما ظنك بأمر يدفع فيه صدور
المهاجرين وتكسر سيوفهم وتشهر فيه السيوف على رؤس المسلمين ويقصد إحراق بيوت
ساداتهم إلى غير ذلك وكيف لا يكون ذلك إكراها لو لا عمى الأفئدة ، فانّها (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) واما ثالثا فلأنّ الإجماع الثلاثي الذي ذكره باطل كالتثليث
فانّ ما سيجيء من آية اولي الأرحام نصّ في بطلان خلافة عباس وأبي بكر كما
سنبيّنه هناك إن شاء الله تعالى وايضا القول بامامة عباس مستحدث أحدثه الجاحظ في زمان خلافة العبّاسيّة تقرّبا إليهم كما صرّح به أهل
البصيرة بالأخبار ، واما رابعا فلأنّ قوله : ثمّ إنّهما لم ينازعا أبا بكر ممنوع
بل هو أوّل النّزاع وقد بينّا ذلك قبل هذا بما فيه كفاية فلا حاجة إلى الاعادة
واما خامسا فلأنّ قوله ترك المنازعة مع الإمكان مخلّ بالعصمة مسلّم لكن لم يكن
للنّزاع بالحرب والقتال
__________________
في عالم الإمكان
مكان لما ذكرنا من اتّفاق ساير قريش على ذلك مع استمالتهم لأكثر الأنصار ، واما
سادسا فلأنّ قوله : إذ هو معصية كبيرة توجب انثلام العصمة مناف لما حقّقه سابقا من
أنّ صدور المعصية لا يوجب الخلل في ملكة العصمة فتذكر وتدّبر واما سابعا فلأنّ
قوله : قلنا : قد ذهبتم وسلّمتم أنّ عليّا كان أشجع من أبي بكر وأصلب منه في
الدّين وأكثر منه قبيلة إلخ مدخول بأنا قلنا : إنّه أشجع من نفس أبي بكر والآحاد
من شجعان الدّنيا لا من جميع النّاس مجتمعا مزدحما عليه وإلا لزم انثلام عصمة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في عدم قتل الكفّار في أوّل الأمر ، ثمّ في عام الحديبيّة حيث صالح معهم مع وجود من معه من عليّ عليهالسلام وخلق كثير من الصحابة حتى أبي بكر الشّجاع وعمر المقدام ،
والجواب الجواب ، بل كان توقف عليّ عليهالسلام عن الحرب مع هؤلاء المتظاهرين بالإسلام أظهر في الصّواب كما لا يخفى على اولي الألباب ،
وكذا قلنا : إنّ بني هاشم كانوا أكثر قبيلة من تيم لا من جميع طوائف قريش الذين
اجتمعوا على خلافة أبي بكر عداوة لعليّ عليهالسلام حتّى روى أنّه لهذه العداوة كان مع عليّ منهم في حرب صفين
خمس نفر من قريش وهم محمّد بن أبي بكر
__________________
ربيبه ، وجعدة بن
هبيرة المخزومي ابن أخته ، وأبو الرّبيع بن أبي العاص
__________________
ابن ربيع المشهور بأنّه كان صهرا للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومحمّد بن أبي حذيفة بن عتبة ابن اخت
__________________
معاوية ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخ سعد بن أبي وقاص وكان مع
معاوية ثلاث عشر قبيلة منهم مع أهلهم وعيالهم وقد قال عليهالسلام في بعض خطبه إظهارا لتظلّمه عنهم : اللهم إنّي أستعديك على
قريش ومن أعانهم فانّهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا
__________________
إنائى وأجمعوا على
منازعتي حقّا كنت أولى به من غيرى ثمّ قالوا ألا إن في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ
أن تمنعه فاصبر مغموما أومت متأسفا فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلا
أهل بيتي فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشجى وصبرت من كظم
الغيظ على أمرّ من العلقم وآلم للقلب من حزّ الشفار انتهى كلامه عليهالسلام ، وكذا قلنا إنّ النّص كان بمرأى من الناس وبمسمع من
الأنصار لكن لم نقل : إنه لم يمكنهم أن يشبهوا الأمر على الناس وعلى الأنصار
بالوجوه التي وقع عليها الاشعار ، واما قوله : والأنصار لم يكونوا يرجحون أبا بكر
على عليّ عليهالسلام ففيه دليل واضح على أنّ ترجيح قريش لأبي بكر على علي عليهالسلام كان من محض العداوة والعناد ، واما ما ذكره من أنّ الأنصار
كانوا الجند الغالب فغير مسلّم ولو سلّم فقد علم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يؤول حالهم إليه بعد وفاته من خذلان بعضهم لبعض كما مرّ
فضلا عن خذلان علي عليهالسلام واما ثامنا فلأنّ إعانة عباس والزّبير لم تكن وافية في دفع
جمهور قريش ، وأبو سفيان كان منافقا ولم يكن غرضه من قوله ذلك إلا إثارة الفتنة لا
نصرة عليّ عليهالسلام وحيث علم عليّ عليهالسلام ذلك أعرض عنه وقال له ما حاصله : إنك من أهل النفاق لا
يعبأ بكلامك ، ولهذا ايضا لمّا سمع أبو بكر وعمر كلامه لعلي عليهالسلام في ذلك استألفوه واستمالوه بتولية ابنه يزيد على الشام فسكت وصار من أعوانهم وأنصارهم ، مع أنّ ذلك
الأقوال من عباس والزّبير وأبي سفيان إنّما كان بعد اتّفاق جمهور قريش والأنصار
على بيعة أبي بكر فلتة وكان النّزاع بالحرب معهم مؤدّيا إلى الفساد. واما تاسعا
فلأنّ ما ذكره من أنّ أبا بكر عند الشّيعة شيخ ضعيف جبان لا مال له إلخ مسلّم وما
عندهم حقّ ، إذ لا ريب لأحد في
__________________
ضعفه في نفسه
ورذالته وانحطاطه في ذاته كما اعترف به أبوه أبو قحافة أيضا وتعجّب من اتّفاق قريش
عليه كما رواه ابن حجر في صواعقه حيث قال : وأخرج الحاكم أنّ أبا قحافة
لمّا سمع بولاية ابنه قال : هل رضى بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة قالوا : نعم ،
قال لا واضع لما رفعت ولا رافع لما وضعت وإنّما تقوى أبو بكر في أمر
__________________
الخلافة باتّفاق
جمهور قريش على إعانته عداوة لعليّ عليهالسلام كما مر مرارا ، وإنّما اختاروا الشيخ الضعيف اللئيم من
بينهم ليدفعوا عن أنفسهم تهمة العداوة والأغراض الفاسدة ، بالجملة فيقول الناس :
إنه لو كان غرضهم في ذلك مدافعة عليّ عليهالسلام عن حقه من الخلافة لارتكبها واحد من أشرافهم وأكابرهم أو
قسموها بينهم وليس فليس فافهم ويكشف عن هذه ما روي في المشكاة وغيره في جملة حديث من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن تأمّروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ
بكم الطريق المستقيم ويوضح عنه ما رواه ابن حجر في صواعقه حيث قال وصح أنّ العباس قال يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يلقون من قريش من تعبيسهم وجوههم وقطعهم حديثهم عند
لقائهم فغضب صلىاللهعليهوآلهوسلم غضبا شديدا حتى احمرّ وجهه ودرّ عرق بين عينيه وقال :
والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبكم لله ورسوله ويؤيده ما رواه في
موضع آخر من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلمإنّ أهل بيتي
سيلقون بعدي من أمتي قتلا وتشريدا وإنّ أشدّ أقواما لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة
وبنو المخزوم صححه الحاكم وفي موضع آخر عن السلفي
__________________
في الطيوريات عن
عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سألت عن
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
أبي ، عن علي
ومعاوية فقال : اعلم ان عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه شيئا فلم يجدوا
فجاءوا الى رجل قد حاربه وقاتله فاطردوه كيادا منهم له انتهى كلامه ووجه التأييد
أنّ أعداء عليّ عليهالسلام في زمانه لم يكونوا من اليهود والنصارى ولا من الأنصار
وأعراب البوادي والبراري وإنما كانوا طوائف قريش الفجار فجاءوا أوّلا برجل قد أخذ
بتقويتهم الخلافة عنه من غير احتياج إلى استعمال السيف والسنان وثانيا برجل حاربه
وقاتله كما قيل ، ويفصح عن ذلك ما روي عنه في الخطبة
__________________
الطالوتية حيث قال بعد الحمد والصلاة مخاطبا لمن حضره من المحبين
والمنافقين ولمن غاب منهم : أيتها الامة التي خدعت فانخدعت وعرفت خطيئة من خدعها
فأصرت على ما عرفت واتبعت أهواها وضربت في عشواء غوايتها (عوائها خ ل) وقد استبان
لها الحق فصدعت (فصدت خ ل) عنه ، والطريق الواضح فتنكبته ، أما والذي فلق الحبة
وبرء النسمة لو اقتبستم العلم من معدنه وشربتم الماء من منبعه (بعذوبته خ ل)
وادّخرتم الخير في موضعه وأخذتم الطريق من واضحه وسلكتم من الحق نهجه لنهجت (لابتهجت
خ ل) بكم السبيل وبدت لكم الأعلام وأضاء لكم الإسلام فأكلتم رغدا ، وما عال فيكم عائل ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد ولكن سلكتم
سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها وسدّت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم واختلفتم في دينكم
فأفتيتم في دين الله بغير علم واتّبعتم الغواة فأغوتكم وتركتم الأئمة فتركوكم
فأصبحتم تحكمون بأهوائكم إذا ذكر الأمر سئلتم أهل الذكر فإذا أفتوكم قلتم هو العلم
بعينه ، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه ، رويدا عمّا قليل تحصدون جميع ما زرعتم وتجدون وخيم ما
اجترمتم ، (اجتنيتم خ ل) والذي فلق الحبّة وبرء النسمة لقد علمتم
أنّي صاحبكم والذي به أمرتم ، وأنّي عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ووصي نبيّكم وخيرة
ربّكم ولسان نوركم والعالم بما يصلحكم ، فعن قليل
__________________
رويدا ينزل بكم ما
وعدتم وما نزل بالأمم قبلكم وسيسألكم الله عزوجل عن أئمتكم معهم تحشرون وإلى الله عزوجل غدا تصيرون ، أما والله لو كان لي عدّة أصحاب طالوت أو
عدّة أهل بدر وهم أعداؤكم لضربتكم بالسيف حتّى تولوا إلى الحق وتنيبوا للصّدق فكان
أرتق للفتق وآخذ بالرّفق اللهم فاحكم بيننا بالحقّ وأنت خير الحاكمين انتهت ولنعم ما قال
الشاعر في هذا المعنى شعر :
لو سلّموا لولاة
الأمر أمرهم
|
|
ما سلّ بينهم في
الأرض سيفان
|
__________________
وأما عاشرا فلأن
ما ذكره من أنّه لم يكن غرض بين الصّحابة لأجل السّلطنة إلخ فيه من آثار الغرض
والعصبيّة والمرض ما لا يخفى ، وكيف يخفى ذلك بعد ما قدّمناه من استعجالهم
واستعمالهم كلّ حيلة ومكيدة في تقمص الخلافة وبعد ما نقده الصغاني في المشارق عن
البخاري من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم مخاطبا لأصحابه : إنّكم ستحرصون على الامارة وإنّها ستكون
ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة الحديث ، وقال الشّارح الهروي أخرجه البخاري في الأحكام ، والسّين في (ستحرصون)
__________________
للاستقبال كما في
ستكون ويكون المراد بيان حرصهم عليها بعد ذلك الزّمان ، ويحتمل أن يكون للتأكيد
كما في قوله تعالى (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) الآية ، والمراد بيان شدّة حرصهم على ذلك ، وكرّر لفظة ان
في قوله : وإنّها للتأكيد وبيان أن ذلك واقع البتّة (انتهى).
وقد أنصف واعترف
شارح المقاصد بظهور ما وقع بين الصحابة من التشاجر والخلافة وتعريض النّفوس لكلّ
بليّة وآفة فلا ينفع في إصلاحها ما تكلفه النّاصب من التأويلات الباردة الصّادرة
عن الحماقة والخرافة ، ولنذكر كلام شارح المقاصد قصرا للمسافة على النّاظر الذي
يطول عليه الرّجوع ولا يسمنه الاشارة ولا يغني من جوع ، فنقول : قد أنطق الله
لسانه بالحقّ فقال رغما لأنفه : إنّ ما وقع بين الصّحابة من المحاربات والمشاجرات
على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثّقات يدلّ بظاهره على
أنّ بعضهم قد حاد عن الطريق الحق وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث عليه الحقد
والعناد والحسد واللّداد وطلب الملك والرّياسات والميل إلى اللّذات والشّهوات ، إذ
ليس كل صحابى معصوما ولا كل من لقى النبي (ص) بالخير موسوما إلا أنّ العلماء لحسن
ظنهم بأصحاب رسول الله (ص) ذكروا لها محامل وتأويلات بها يليق وذهبوا إلى أنّهم
محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق صونا لعقائد المسلمين من الزّيغ والضّلالة في
حقّ كبار الصّحابة سيّما المهاجرين منهم والأنصار المبشّرين بالثّواب في دار
القرار ، واما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبيّ (ص) فمن الظهور بحيث لا
مجال للاخفاء ومن الشّناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ويكاد يشهد به الجماد
__________________
العجماء ويبكي له
من في الأرض والسّماء وتنهدم منه الجبال وتنشق منه الصخور ويبقى سوء عمله على كرّ
الشّهور والدّهور فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى ، ولعذاب الآخرة أشدّ
وأبقى انتهى.
واما الحاديعشر
فلأنّ إشعاره بأنّ الحق هو الذي عليه السّواد الأعظم من الامّة مردود بأنّ اتّفاق
السّواد الأعظم بمعنى أكثر النّاس على ما فهمه النّاصب سوّد الله وجهه ممّا لا
يركن إلى اعتباره إلا القلوب الساذجة والأنفس الخالية من معرفة الحقّ واليقين
الغافلة عن قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّهم في النّار إلا واحدة ، فانّه دلّ على أنّ النّاجي قليل بل نادر بالنّسبة إلى
الكثير من الهالكين وقد نصر الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز بقوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ) (وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ) (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) إلى غير ذلك.
والحق أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد بالسّواد الأعظم في قوله عليكم بالسواد الأعظم الكتاب والعترة كما مرّ بيانه أو خصوص مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام كما يشعر به
__________________
كلام الزمخشري وفخر
الدّين الرّازي في تفسيرهما لما ورد في شأنه عليهالسلام من قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ) على ما سيذكره المصنّف فانّهما قالا : فان قيل لم قال أذن
واعية على التوحيد والتنكير ، قلنا للإيذان بأنّ الوعاة فيهم قلّة وتوبيخ النّاس
بقلّة من يعي فيهم والدلالة على أنّ الاذن الواحدة إذا وعت فهو السّواد الأعظم
وأنّ ما سواها لا يلتفت إليهم وان امتلأ العالم منهم (انتهى) فظهر أنّ الحديث
النّبوي لنا لا علينا ، ويمكن أن يقال : لعلّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما قال ذلك في بعض الغزوات إشارة إلى طائفة من عسكره
بالقصد والتعرض بجماعة كثيرة من جيش العدوّ المجتمعين في ناحية كما نقل ابن اعثم في الفتوح نظير هذه العبارة عن
__________________
عليّ عليهالسلام في حرب صفّين حيث قال : إنّ في بعض أيّام صفين أصحب معاوية
جماعة من قبايل يحصب وكندة ولخم
__________________
وجذام مع ذي الكلاع الحميري وقال له : اخرج واقصد بحربك همدان خاصّة ، فلمّا
علم عليّ عليهالسلام بذلك أخبر همدان عن ذلك وقال لهم : عليكم بهذا الخيل فانّ
معاوية قد قصدكم بها خاصّة دون غيركم (انتهى).
__________________
واما الثاني عشر
فلأنا قد أعد منا ما قدّمه من عدم وجوب العصمة ورميناه في ظلمات العدم ، وكذا ما
قدّمه في جواب الدّليل الثّاني من عدم اشتراط أن لا يسبق من الامام معصية ، ونستدل
على الاشتراط هاهنا بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) في جواب إبراهيم عليهالسلام حيث سأل الامامة لذريته بقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) الآية تقرير الاستدلال أنّ لفظة من تبعيضيّة كما هو الظاهر
، وصرّح به المفسّرون ، وحينئذ نقول : إنّ سؤال الامامة إمّا أن كان لبعض ذرّيته
المسلمين العادلين مدّة عمرهم أو لذريته الظالمين في تمام عمرهم أو لذريته
المسلمين العادلين في بعض أيّام عمرهم الظالمين في البعض الآخر ، لكن يكون مقصوده عليهالسلام إيصال ذلك إليهم حال الإسلام وعدالتهم أو للأعم من ذلك ،
فعلى الاول يلزم عدم مطابقة الجواب للسؤال ، وعلى الثاني يلزم طلب الخليل ذلك
المنصب الجليل للظالم حال ظلمه وهذا لا يصدر عن عاقل بل جاهل من أمته فضلا عنه ، وعلى الثالث والرابع يلزم
__________________
المطلوب وهو أنّ
الامامة ممّا لا ينالها من كان كافرا ظالما في الجملة وفي بعض أيّام عمره ، ان قيل
: إنّ بعضا من المفسّرين حمل العهد في الآية على عهد النّبوّة وحينئذ لا دلالة في
الآية على اشتراط عدالة الامام في جميع عمره ، وأيضا أنّ هاهنا شقا خامسا قد
أهملتم أخذه في الاستدلال وذلك لجواز أن يكون إبراهيم عليهالسلام قد زعم أنّ ذلك البعض من ذريته الذين سأل لهم الامامة
يكونون متّصفين بالإسلام والعدالة وقد كان زعمه هذا في جميع أفراد ذلك البعض أو في
بعضها مخالفا لما في نفس الأمر فأجابه تعالى بأنّ عهد الامامة ممّا لا تناله
الظالمون تنبيها على بطلان ما زعمه لاسلام هؤلاء كلا أو بعضا ، وحينئذ لا يلزم
سؤال ما لا يليق بشأن النّبوة ولا عدم مطابقة الجواب للسؤال ، فلا يثبت الاشتراط.
قلت في الجواب عن
الأول : إنّه يكفي في دلالة الآية على ما ذكرنا وحجيّته على الخصم تصريح البعض
الآخر بل أكثرهم ، ومنهم صاحب الكشّاف وأمثاله من أكابر المفسّرين على أنّ المراد
بالعهد عهد الامامة وهو الظاهر أيضا من سياق الآية ، على أنا نقول يلزم من اشتراط
ذلك في النّبي اشتراطه في الامام بطريق أولى لعدم تأييده بالوحي العاصم عن الخطاء
، وقد مرّ تحقيق الكلام في وجوب عصمتهم عليهمالسلام.
وعن الثاني أنّ
بطلان زعم إسلام بعض من جماعة إنّما يتصوّر إذا كان ذلك البعض موجودا متعيّنا يمكن
أن ينظر في سلامة أحواله واختلالها أو إذا كان هؤلاء الجماعة بأجمعهم ممّن يتّصفون
أو سيتّصفون بالكفر والضّلال ، ومن البين أنّ الموجودين في زمان إبراهيم عليهالسلام من ذريته كإسماعيل وإسحاق كانوا معصومين لا مجال لزعم
الباطل فيهما ، ومن وجد بعده من ذرّيته إلى يومنا هذا كان بعض منهم أنبياء معصومين
أيضا وبعضهم أولياء مرحومين وبعضهم من فسّاق المسلمين وبعضهم من الكفّار
المردودين كما
أخبر الله تعالى عن ذلك في سورة الصافات بقوله : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) الآية ولا ريب في أنه عليهالسلام إذا طلب الامامة لبعض ذرّيته المعدومين لا بدّ بمقتضى شأن
نبوّته وقرينة تخصيصه بالبعض أن يكون طلبه ذلك لهم بشرط اتصافهم بالإسلام والعدالة
الدائمتين أو في الجملة ولما احتمل أن يكون بعض من ذرّيته المعدومين مسلمين عادلين
في الواقع ولم يكونوا متعينين عنده حتى ينظر في حالهم فيزعم فيهم ما ليسوا عليه في
نفس الأمر صار احتمال كون ذلك البعض الذي خصهم بسؤال الامامة لهم ممن كانوا على
خلاف ما زعم فيهم عليهمالسلام ساقطا عن أصله وقد منع بعض القاصرين لزوم عدم مطابقة الجواب للسؤال قائلا إنّ الله تعالى لمّا
عدل عن جواب سؤال إبراهيم عليهالسلام إلى الاخبار بعدم نيل الظالم لعهد الامامة فكأنّه أجاب
دعائه مع زيادة ، ووهنه ظاهر إذ لم يعهد في فصيح الكلام فضلا عن كلام الملك العلام
أن يسكت رأسا عن جواب ما ذكر في السؤال ويقال في مقام الجواب ما لم يسأل عنه أصلا
إلا إذا إذا كان السؤال ممّا لا يستحق الجواب كما قاله أئمة البيان في أسلوب
الحكيم وما نحن فيه ليس كذلك على أنّ هذا التّوجيه يجري في كلّ
مقام يعترض فيه بأنّ الجواب ليس بمطابق للسّؤال فلو صحّ لزم أن لا يكون إيراد هذا
القسم من الاعتراض موجّها في شيء من المواضع أصلا فضلا عن أن يكون واردا أو
متوجّها فتوجّه فكذا الكلام فيما
__________________
قدّمه من جواب
الدّليل الرّابع والخامس واشتراط الأكمليّة والأفضليّة والأشرفيّة فتذكر.
قال المصنّف رفع الله
درجته
وأمّا المنقول فالقرآن والسنّة
المتواترة ، أمّا القرآن فآيات ، الاية الاولى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ) أجمعوا على نزولها
في عليّ عليهالسلام وهو مذكور في الجمع بين الصّحاح الستة لمّا
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
تصدّق بخاتمه على
المسكين في الصّلاة بمحضر من الصحابة
، والولي هو المتصرّف وقد أثبت الله الولاية لذاته وشرّك معه الرّسول وأمير
المؤمنين عليه الصلاة والسّلام ، وولاية الله تعالى عامّة فكذا النبي والولي
انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : جوابه أنّ
المراد من الولي في الآية الناصر فانّ الوليّ لفظ مشترك يقال للمتصرف والنّاصر
والمحبّ والأولى بالتّصرف كوليّ الصبي والمرأة ، والمشترك إذا تردّد بين معانيه
يلزم وجود القرينة للمعنى المطلوب منه ، وهاهنا كذلك ، فلا يكون هذا نصّا على
إمامة عليّ عليهالسلام ، فبطل الاستدلال به ، وأمّا القرائن على أن المراد بالولي
النّاصر في الآية لا الأولى والأحقّ بالتّصرف ، لأنّه لو حمل على هذا
__________________
__________________
لكان غير مناسب
لما قبلها وهو قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، فانّ الأولياء هاهنا بمعنى الأنصار لا بمعنى الأحقّين
بالتصرف ، وغير مناسب لما بعدها وهو قوله (وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) ، فانّ التولي هاهنا بمعنى المحبّة
__________________
والنصرة فوجب أن
يحمل ما بينهما على النصرة أيضا لتتلاءم أجزاء الكلام انتهى.
أقول
فيه نظر من وجوه
أما أولا فلأنّ القرينة في أنّ المراد بالوليّ الأولى بالتّصرف دون المعاني الأخر
موجودة فانّ حصر الولاية في المؤمنين الموصوفين في الآية بإيتاء الزّكاة حال
الرّكوع يدلّ على عدم إرادة معنى النّصرة والّا لزم بمقتضى الحصر أن يكون من شرط
الوليّ المؤمن مطلقا إيتاء الزّكاة حال الرّكوع وفساده ظاهر والحاصل أنّه إن
أريد بالولي النّاصر وبالذين آمنوا جماعة من المؤمنين الذين يمكن اتّصافهم
بالنّصرة فيستقيم الحصر حينئذ لكن لا يستقيم الوصف بإيتاء الزّكاة حالة الرّكوع ،
وان أريد به النّاصر وبالذين آمنوا عليّ عليهالسلام يبطل الحصر وان أريد به الأولى بالتصرّف وبهم عليّ عليهالسلام يستقيم الحصر والوصف معا لأنّ كون إيتاء الزّكاة حال
الرّكوع من شأن الامام الأولى بالتصرّف في أحكام المؤمنين غير مستبعد بل روى انّه قد وقع هذه الكرامة عن باقي الأئمة المعصومين عليهمالسلام واما ثانيا فلأنّ الولاية بمعنى الامامة والتصرّف في
الأمور أعمّ من الولاية بمعنى النصرة في الجملة فنفى الولاية بمعنى الامامة مفيد
لنفى الولاية المنفيّة عن اليهود والنّصارى في الآية الاولى على أتمّ وجه بأنّ نفى
العام نفى الخاص مع الزّائد ، فهو أتمّ في النّفي فتكون المناسبة حاصلة ، وكذا
الكلام في ما بعد الآية فلا دلالة
__________________
على مقصودهم إلا
إذا حمل حزب الله على معنى أنصار الله كما تمحله بعضهم وهو كما ترى وأيضا العطف
دالّ على تشريك الثلاثة في اختصاص الولاية (النصرة خ ل) بأىّ معنى كان بهم ولا
خفاء في أنّ نصرة الله ورسوله للمؤمنين مشتملة على التصرف في أمرهم على ما ينبغي ،
فكذلك نصرة الذين آمنوا ، غاية الأمر أنّ التّصرف في أمرهم مفهوم مشكك يختلف
بالأولوية والأشدّيّة ، بل حقّق أنّ جميع المعاني العشرة التي ذكروها للوليّ
مرجعها إلى الأولى بالتصرف ، لأنّ مالك الرّق وهو أحد تلك المعاني أولى برقّه
والرّقّ أولى به ، وكذا المعتق أولى بمعتقه وبالعكس وكذا الجار بالجار والحليف
بالحليف والنّاصر بالمنصور وابن العمّ بالعمّ فانّ كلا من هذه المذكورات وما لم
يذكر أولى بصاحبه من الذين ليس له تلك الولاية كما لا يخفى على من تأمّل وأنصف ،
واما ثالثا فلأنّ توافق الآيات إنّما يجب إذا لم يمنع عنها مانع وقد بينّا عدم
صحّة حمل الولي هاهنا على النّاصر والمحبّ ونحوهما ، وايضا هذه الآيات الثلاث لم
تنزل دفعة حتّى تلائم أن يكون الوليّ في جميعها بمعنى واحد بل نزلت تدريجا
والصحابة جمعوها بهذا الوجه ، بل نقول : لو سلّم عدم الملائمة على التّقدير
المذكور فهذا اعتراض يرد في الحقيقة على خليفتهم عثمان حيث جمع المصاحف على مصحف
واحد وحرّف الكلم عن مواضعها ولم يرتّب الآيات كما هو حقّها وكان له في ذلك مآرب شتّى لا
يخفى على اولي النّهى.
واما رابعا فلأن
تفريع الوجوب في قوله : فيجب أن يحمل إلخ على ما قبله محلّ تأمّل ، وقوله :
لتتلاءم أجزاء الكلام لا يدلّ على الوجوب خصوصا إذا دلّ الدّليل على أنّه لا يصح
إرادة النّصرة فتأمّل هذا ،
واعترض شارح
المقاصد على احتجاج الشّيعة بالآية المذكورة بأنّ الحصر إنّما يكون فيما فيه تردّد
ونزاع ، ولا خفاء في أنّ النزاع في الولاية والامامة لم يكن
__________________
عند نزول الآية
ولم تكن في ذلك الزّمان إمامة حتّى يكون نفيا للتردّد ، والجواب عنه من وجوه اما
أولا فلما يستفاد من كلامه في شرحه للتّلخيص في مبحث القصر حيث قال : إنّ اعتقاد
المخاطب بثبوت ما نفاه المتكلم قطعا أو احتمالا مختصّ بالقصر الغير الحقيقي ، ألا
ترى أنّهم اتفقوا على صحّة ما في الدّار إلا زيد قصرا حقيقيّا مع أنّه ليس ردّا
على من اعتقد أنّ جميع النّاس في الدّار ، والحاصل أنّه يجوز أن يكون هذا القصر
قصر الصّفة على الموصوف قصرا حقيقيا ودفع التردّد والنّزاع وردّ الخطاء إنما يشترط
في القصر الاضافي واما ثانيا فلأنه يجوز أن يكون قصرا إضافيا فانه تعالى عالم
بجميع الأشياء فلما علم اعتقادهم إمامة غيره في الاستقبال كما يدلّ عليه حديث
المشكاة الذي من جملته وإن أمّرتم عليا ولا أراكم فاعلين إلخ قال
لهم على أبلغ وجه وآكده (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ) تتميما للحجة ، وأما ثالثا فلأنه يجوز أن يكون الحصر لدفع
التردّد الواقع من بعضهم عند نزول الآية بين انحصار الولاية في الله ورسوله
واشتراكه بينهما وبين غيرهما على أن يكون القصر لتعيين الاشتراك كما أنّ القصر في
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) قصر القلب لتحقيق اشتراك الرّسالة وعمومها لجميع الناس
وردّ اختصاصها بالعرب كما زعمته اليهود والنصارى ، واما رابعا فلأن حاصل كلام
المعترض هو الاعتراض على الله تعالى ونسبة اللّغو إليه ، إذ محصله أنّ النزاع في
خلافة الثلاثة وولايتهم إنما وقع بعد النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فالحصر لا يرفعه ، وباعتقادهم لم يكن في حال حياة
النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إمام وخليفة وتردّد في خلافة أحد فيكون الحصر لغوا واما
خامسا فلأنّ الحصر يدلّ على نفى إمامة من ينازع مطلقا لا أن ينازع في ذلك الوقت ،
وإلا لزم أن تكون كلمة التوحيد نافيا لالوهية من ادّعى الالوهية في وقت نزولها
__________________
لا مطلقا وهو ظاهر
الفساد هذا ،
وقد اعترض ايضا بعض المتعصبين
على الاحتجاج بهذه الآية وقال إنكم تقولون إنّ عليّا عليهالسلام في حال صلاته في
غاية ما يكون من الخشوع والخضوع واستغراق جميع حواسه وقواه وتوجهها شطر الحقّ حتى
أنكم تبالغون وتقولون كان إذا أريد إخراج السهام والنصول من جسمه الواقعة فيه وقت
الحرب تركوه إلى وقت صلاته فيخرجونها منه وهو لا يحس بذلك لاستغراق نفسه وتوجهها
نحو الحقّ ، فكيف مع ذلك أحس بالسائل حتى أعطاه خاتمه في حال صلاته ، وأجاب
عنه بعض علمائنا فقال : شعر :
يعطي ويمنع لا
تلبيه سكرته
|
|
عند النديم ولا
يلهو من الكاس
|
أطاعه سكره حتى
تمكن من
|
|
فعل الصحاة وهذا
أفضل الناس
|
وحاصل الجواب أنه عليهالسلام في تلك الحالة وإن كان كما ذكر لكنه حصل منه التفات أدرك
به السائل وسؤاله ولا يلزم منه التفاته إلى غير الحقّ لأنّه فعل فعلا تعود نهايته
إلى الحقّ ، فكان كالشارب الذي فعل حال سكرته فعلا موافقا لفعل الصحاة ولم يلهه ذلك عن نديمه ولا عن كأسه ولا خرج
بذلك عن سكرته فتأمل ،
__________________
وأقول : في الجواب
أيضا أنّ غاية الأمر في ذلك أن يكون في مرتبة ما يحصل للأولياء من الوحدة في
الكثرة والخلوة في الجلوة وقد أثبت النقشبندية من متصوّفة أهل السنة هذه المرتبة لأنفسهم واشتهر منهم
أنهم يقولون : «خلوت در أنجمن ميداريم» فلا ينبغي أن ينازع مع علي عليهالسلام في حصول نظير هذه المرتبة له ، اللهم إلا أن يقال : إن النقشبندية قد
نسبوا خرقتهم في التصوف إلى أبي بكر ، فجاز أن يحصل لهم من بركات أبي بكر مرتبة لا
تحصل لعليّ عليهالسلام ، فانّ هذا كلام لا دافع له إلّا غضب الله تعالى
قال المصنّف رفع الله
درجته
الاية الثانية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) نقل الجمهور أنها نزلت في بيان فضل عليّ عليهالسلام يوم الغدير ، فأخذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بيد عليّ عليهالسلام وقال : أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم ، قالوا بلى يا
رسول الله
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
قال : من كنت مولاه
فهذا عليّ مولاه
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه كيفما
دار ، والمولى يراد به الأولى بالتصرّف لتقدّم ألست أولى ولعدم صلاحية غيره هاهنا
انتهى.
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
قال النّاصب خفضه الله
أقول : أماما ذكر
من إجماع المفسرين على أنّ الآية نزلت في عليّ فهو باطل فانّ المفسرين لم يجمعوا
على هذا ، وأما ما روى من أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذكره يوم غدير خم حين أخذ بيد عليّ وقال : ألست أولى ، فقد
ثبت هذا في الصّحاح وقد ذكرنا سرّ هذا في ترجمة كتاب كشف الغمّة في معرفة الأئمة
ومجمله : أنّ واقعة غدير خم كان في مرجع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عام حجة الوداع وغدير خم محلّ
__________________
افتراق قبايل
العرب وكان النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلم أنّه آخر عمره وانّه لا يجتمع العرب بعد هذا عنده مثل
هذا الاجتماع ، فأراد أن يوصي العرب بحفظ محبّة أهل بيته وقبيلته ، ولا شكّ أنّ
عليّا عليهالسلام كان بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سيّد بني هاشم وأكبر أهل البيت فذكر فضائله وساواه بنفسه
في وجوب الولاية والنصرة والمحبّة معه ، ليأخذه العرب سيّدا ويعرفوا فضله وكماله ،
ولينصف المنصف من نفسه لو كان يوم غدير خم صرح رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بخلافة عليّ نصّا جليّا لا يحتمل خلاف المقصود الا ترى
العرب مع جلافتهم وكفرهم بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجعلهم الأنبياء ، فيهم مثل مسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة كانوا يسكتون على خلافة أبي بكر وكانوا لا يتكلمون بنباس في أمر خلافة عليّ عليهالسلام مع أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نصّ على المنبر بمحضر جميع قبائل العرب : إن أنصف المتأمّل
العاقل علم أنّه لا نصّ هناك (انتهى)
أقول
أولّا أنّ المصنّف
لم يدّع إجماع المفسرين بل قال : نقل الجمهور ، والمعنيّ بالجمهور أكثرهم ،
وبالجملة مراد المصنّف من ذلك موافقة جماعة من مفسري الجمهور مع مفسري الاماميّة
فيما ذكر ولا يهمّنا اتفاق كافتهم في ذلك ، إذ ما ذهب إليه بعض من طائفة ووافق فيه
آخرون من خصامهم يكون حجّة على باقي تلك الطائفة ولهذا ترى أنّ علماء الشيعة
يحتجّون على جمهور أهل السّنّة بأنّ أبا حنيفة قال كذا ، والغزالي قال كذا إلى غير
ذلك من آحاد علمائهم وكذا العكس كما وقع
__________________
عن هذا النّاصب في
خطبة كتابه حيث احتجّ على الامامية قاطبة بأنّ الحاكم أبا عبد الله روى كذا وهو
شيعيّ إماميّ ، وصدور المخالفة عن بعض أهل السنّة خصوصا المتأخرين منهم لا يقدح في
ذلك ، بل ذلك دليل على أنّهم بعد ما رأوا قيام حجة الشّيعة عليهم بذلك استحسنوا
المخالفة بوضع الرّواية المنافية إخفاء للحقّ وترويجا لما ركنوا إليه من الباطل
كما فعله النّاصب في الآية الآتية ، بل نقول : إنّ الإجماع واقع على حقيّة ذلك
أوّلا وظهور الخلاف إنّما حدث بعد الإجماع للأغراض المذكورة والذي يدلّ على ذلك
أنّ المفسّرين الذين رووا خلاف ذلك كانوا متأخرين عن الثعلبي ومن يحذو حذوه فضلا عن قدماء المفسرين من الصحابة
والتّابعين ، وبالجملة من قبائح عادات القوم وفضائح وقاحاتهم أنّهم إذا وجدوا آية
نازلة في فضائل أهل البيت ومناقبهم قد استدل به الشيعة على أفضليّتهم وأحقيّتهم
فمع أنّهم رووه أيضا قبل ذلك في كتبهم يردّونه حينئذ تارة بإحداث مخالف وتارة بضعف
الرّاوي وتارة بالتخصيص وتارة بالتعميم وتارة بالتأويل ، كأنّهم مفوّضون في وضع
الدّين موكلون في تشريع الشرائع لسيّد المرسلين ولم يسمعوا كلام ربّ العالمين حيث
قال : (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (إِنَّ الَّذِينَ
__________________
يَكْتُمُونَ
ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ومع ذلك كله لا يعتدون برواية كبار أسلاف الذّرية الأطهار
وأخلاف أهل بيت النّبي المختار صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل زين العابدين وباقر علوم الدّين وإمام الصّادقين وباقي
الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ومن شايعهم من الصّلحاء المؤمنين
ووالاهم وتابعهم من العرفاء الموقنين ، ويطعنون فيما هم أولى به من أهل الحق
واليقين حيث لا يجدون كلامهم مطابقا لمرامهم ، وما أقلّ حيائهم وأكثر اعتدائهم ،
فأى خير في ذلك السّلف وأيّ جميل يترقب من هذا الخلف ، لا يرحمهمالله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، ولقد فضحهم هذا النّاصب الشّقي العتل الزّنيم حيث ارتكب تحريف آيات الكتاب العظيم وأحاديث الرّسول
الكريم سيّما ما أتى به في مسألة إجماع العترة الطاهرة من تنظير آية التطهير بما
اخترعه من الآية الحاكمة عليه بالتكفير فضلا عن عداوة أمير الغدير ، على انه روى الحديث
في صحاح القوم كالبخاري ورواه أحمد بن حنبل إمامهم في مسنده بطرق متعدّدة
على الوجه الذي ذكره المصنّف ، وكذا رواه الثعلبي في تفسيره وابن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب من طرق شتى وابن
__________________
عقدة في مائة وخمس طرق
وذكر الشّيخ ابن كثير الشّامي
__________________
الشافعي عند ذكر أحوال محمّد بن جرير الطبري الشافعي انّي رأيت كتابا جمع فيه أحاديث غدير
خمّ في مجلدين ضخمين وكتابا جمع فيه طرق حديث الطير ونقل عن أبي المعالي الجويني أنّه كان يتعجب ويقول : شاهدت مجلّدا ببغداد في يد صحّاف
فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق من كنت مولاه
فعليّ مولاه ويتلوه المجلّدة التّاسعة والعشرون وأثبت الشّيخ ابن الجوزي الشّافعي في
رسالته الموسومة بأسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام تواتر هذا الحديث من طرق كثيرة ، ونسب منكره إلى الجهل
والعصبية ، وبالجملة قد بلغ
__________________
هذا الخبر في
الاشتهار إلي حد لا يوازي به خبر من الاخبار وتلقته محققوا الامة بالقبول والاعتبار
فلا يردّه إلا معاند جاهد أو من لا اطلاع له على كتب الحديث والآثار ، وثانيا أنّ
ما سرده في بيان سرّه الذي زعم كونه قادحا في دعوى نصوصية الحديث مدفوع بأنّ فضل
عليّ عليهالسلام وكماله وعلمه وجوده وشجاعته وقربه من النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بكونه صهره وابن عمّه وكاشف غمّه كان ظاهرا على
كافة العرب سيّما قريش الذين كان الوصية إليهم أهم وقد نطق القرآن بوجوب محبّتهم
قبل
__________________
ذلك بقوله تعالى :
(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وقال النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في شأنهم : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل
بيتي ، الحديث وقال أذكركم الله في أهل بيتي مرّات كما ذكره ابن حجر في صواعقه
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة المتضمنة للترغيب على حبّهم ومزيد توقيرهم
وتعظيمهم والتحذير عن مخالفتهم كما فصّل في كتب الحديث سيّما المناقب ، وقد ذكر المصنّف قدسسره نبذا منها في هذا الكتاب ، فبديهة العقل حاكمة بأنّ نزول
النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في زمان ومكان لم يكن نزول المسافر متعارفا فيهما حيث كان الهواء على ما روي في
غاية الحرارة حتّى كان الرّجل يستظل بدابّته ويضع الرّداء تحت قدميه من شدّة
الرّمضاء والمكان مملوّ من الأشواك ، ثمّ صعوده صلىاللهعليهوآلهوسلم على منبر من الأقتاب والدّعا لعليّ عليهالسلام على وجه يناسب لشأن الملوك والخلفاء وولاة العهد لم يكن
إلا لنزول الوحى الإيجابي الفوري المذكور في ذلك الزمان لاستدراك أمر عظيم الشأن
جليل القدر يختصّ بخصوص عليّ عليهالسلام دون سائر أهل البيت كنصبه
__________________
للامامة والخلافة
لا لمجرّد طلب المحبّة والنّصرة ونظائرهما سيّما وقد انضمّ إلى ذلك ما لا مجال معه
للاحتمال الذي توهّمه النّاصب الشّقي وهو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألست أولى بكم من أنفسكم فانّه نصّ صريح في إرادة رياسة
الدّين والدّنيا ، فانّ الأولى بنفس الامّة منهم هو النّبي والامام عليهمالسلام كما مرّت الاشارة إليه في تحقيق الآية السابقة وقد فهم هذا
المعنى من الفصحاء السّامعين لذلك العارفين بمدلولات الكلام العربي عمر بن الخطاب وحسّان بن ثابت وحارث بن نعمان
__________________
الفهري أما عمر فلما
تواتر من أنّه هنأ عليا عليهالسلام هناك بقوله : بخّ بخّ لك يا بن أبي طالب صرت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة قال
الغزالي في كتابه المسمى بسرّ العالمين في مقالته الرابعة التي وضعها لتحقيق أمر
الخلافة بعد عدّة من الأبحاث وذكر الاختلاف ما هذه عبارته : لكن أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من
خطبته صلوات الله عليه في يوم غدير باتفاق الجميع وهو يقول : من كنت مولاه فعليّ
مولاه فقال عمر : بخّ بخّ لك يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ،
فهذا تسليم ورضاء وتحكيم ، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحبّ الرّياسة وحمل عمود الخلافة
وعقود البنود (خ ل عقد البنود)
وخفقان الهواء في قعقعة
__________________
الرّايات واشتباك ازدحام الخيول وفتح الأمصار سقتهم كاس الهوى فعادوا إلى
الخلاف الأوّل فنبذوا الحقّ وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون انتهى
واما حسان فلأنّه أنشد في مدحه عليهالسلام
الأبيات المشهورة الصّريحة فيما ذكرناه فاستحسنها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأثنى عليه ،
وأما حارث فلما رواه الثعلبي قدوة
مفسّري أهل السنّة في شأن نزول قوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ)
الآية من أنّه لمّا كان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بغدير خمّ نادى النّاس فاجتمعوا فأخذ بيد عليّ عليهالسلام
فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ الحارث بن نعمان
الفهري فأتى نحو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
على ناقته حتّى أتى الأبطح فنزل عن
ناقته فأناخها وعقلها ، ثمّ أتى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو في ملاء من أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن تشهد أن لا إله إلا الله
وأنك رسول الله ففعلناه وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان
فقبلناه وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه ثم لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمك
وفضّلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه أهذا شيء منك أم من الله ، فقال
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والذي لا إله إلّا هو انّه من الله ، فولى الحارث بن نعمان يريد راحلته وهو يقول :
اللهمّ إن كان ما يقول محمّد حقا فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب
أليم فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله ،
وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ)
انتهى
__________________
فبعد تواتر الحديث
كما اعترف به أكابر أهل السنة ووضوح حجّته وصراحة مدلوله على ما قرّرنا وفهمه
فصحاء قريش يكون ارتكاب القدح والمنع عليه أو تأويله على وجه ينقبض عنه العقل
السليم ناشيا عن اعوجاج الفطرة وسوء الاستعداد والتّورّط في العصبيّة والعناد ،
ولو كان باعث إتيان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بتلك الخطبة في ذلك الزمان والمكان خوف افتراق قبائل العرب
كما زعمه النّاصب الشقي دون نزول الوحى بالأمر الفوري كما ترويه الشّيعة عن أئمتهم
عليهمالسلام لكان النبي قرّر في نفسه قبل الوصول إلى ذلك المقام قراءة
تلك الخطبة عند اجتماع الناس في ذلك اليوم ولكان الظاهر حينئذ أن يأتي به في صباح
ذلك اليوم لا في حرّ الظهر وأثناء الارتحال ، بل كان الظاهر على ذلك التّقدير أن
يخطب به في أيّام الحجّ حتّى يسمعه كلّ من حضرها لظهور أنّ جميع من حضر الحجّ من
العرب وغيرهم لم يصحبوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من مكّة إلى غدير خم ، بل بعضهم بقي في مكّة ومن كان من
أهل اليمن وباقي جزيرة العرب عادوا من مكّة إليهما ، فظهر أنّ الاعلام بذلك في ذلك
الزّمان والمكان لم يكن من عند النبيّ ولا لأجل ما علّله النّاصب به ، وإنّما كان
بالوحي الإلهي ولأجل أنّ مقاساة المشقة عند استماع مضمون الخطبة في ذلك الزمان
والمكان كان أدعى إلى عدم نسيانه كما قيل : إنّ في الكسبيّات اعتمال قلما تنسى ، ولأنّ ذلك أدلّ على كون ذلك مقتضى الحكم
الإلهي دون اجتهاد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما جوزه القوم عليه إلى غير ذلك من الحكم الظاهرة والآيات
الباهرة
ومما يدل على ذلك دلالة صريحة أنّ إبلاغ
محبّة أهل البيت ونصرتهم ونحو ذلك ممّا احتمله النّاصب بعد ما سبق إبلاغهما منه عليهالسلام
مكرّرا لا يوجب التأكيد والمبالغة من الله تعالى في ذلك بحيث يخاطب نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأنّه إذا لم يفعل ذلك كان كمن لم يبلغ شيئا من أحكامه تعالى ، فتعيّن أن يكون
المراد بالابلاغ إبلاغ حكم يتحقّق بإبلاغه
__________________
إبلاغ مجموع
الأحكام وبه إكمال الدّين وإتمام الانعام وأنّه هو الحكم الذي كان صعبا ثقيلا على
الأقوام من تعيين مصداق الأصل الخامس من اصول دين الإسلام بنصب عليّ عليهالسلام وإظهار إمامته ووجوب طاعته على الأنام لما علم أنّ قلوب
القوم كانت مملوّة من بغض عليّ عليهالسلام بقتله لآبائهم وإخوانهم وأولادهم وأقاربهم في غزوات النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم كما تضمنته الرّواية السابقة من الثعلبي وغيره من الأعلام
، فكأنّه تعالى قال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ) الأمر الإيجابي الفوري في تعيين عليّ للامامة ، فان لم
تفعل وأهملت فيه كنت كمن لا يبلغ الكلّ ، ونظير ذلك أنّ المكلف بجميع ما جاء به
النبي لو لم يؤمن بجميع ما جاء به وآمن بالبعض دون البعض الآخر كان كمن لم يؤمن
بشيء ممّا جاء به ، ثمّ إنّه تعالى لما علم أنّ ذلك الخطب كان صعبا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حذرا عن أضغان القوم قال لتوطين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتسليته وعدم مبالاته منهم (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) فقد تمّ النّص واندفع الاحتمال الذي قصد الشّقي الخنّاس أن
يوسوس به في صدور عوام النّاس ،
وثالثا أن ما أشار إليه الناصب بقوله :
وساواه في وجوب الولاية والنّصرة والمحبّة إلخ من أنّ المولى ليس بمعنى الأولى
بالتصرف بل بمعنى المحبّة والنّصرة يرجع إلى منع المقدّمة التي استدل عليها
المصنّف بقوله ألست أولى إلخ فلا يكون مسموعا نعم قد عارض ذلك صاحب المواقف
بما في آخر الحديث من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
اللهم وال من والاه وبأنّ مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من الأئمّة العربية وبأن
الاستعمال أيضا يدل على أنّ المولى ليس بمعنى الأولى لجواز أن يقال هو أولى من كذا
وأن يقال أولى الرّجلين وأولى الرّجال دون مولى الرّجلين ومولى الرّجال
__________________
وان سلم أن المولى
بمعنى الأولى ، فأين الدّليل على أنّ المراد الأولى بالتصرف والتدبير ، بل يجوز أن
يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) وأراد الأولويّة في الاتباع والاختصاص به والقرب منه لا في
التصرف فيه انتهى
وأقول فيه للنّظر تصرفات منها أنّ إشعار
آخر الحديث بارادة المحبّة والنّصرة إنّما يتمّ لو قيل : إنّ اللّفظ بعد ما اطلق
على أحد معانيه لا يناسب أن يطلق ما يناسبه ويدانيه في الاشتقاق على معنى آخر وليس
كذلك ، بل قد يعدّ ذلك من وجوه المحسنات البديعية ، فالاشعار بذلك ممنوع خصوصا مع
المقدّمة المتواترة ، وأيضا مؤخّر الخبر جملة دعائية مستأنفة ليس ارتباطه بوسط
الحديث كارتباط المقدمة به ، فاشعاره بذلك لا يعارض إشعار المقدّمة بخلافه كما لا
يخفى ، ومع هذا ليس الاستدلال على
__________________
تعيين المراد
بمجرد تناسب المقدمة بل العمدة فيه ما ذكرناه من دلالته عليه بمعونة المقام وإنما
المقدمة ضميمة الاستدلال
ثم أقول مترقيا عن ذلك إنّ مؤخّر الخبر
لنا لا علينا ، لأنّ دلالته على ما قلناه أولى من دلالته على ما ذكرتم فانّ قوله صلىاللهعليهوآله وآله وسلّم اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من
نصره واخذل من خذله لا يليق إلا بمن كان له أولياء وأعداء ويحتاج إلى النصرة ويحذر
من الخذل ولا يكون كذلك إلا سلطان وإمام كما لا يخفى
ومنها أن مجيء
مفعل بمعنى أفعل ممّا نقله الشارح الجديد للتجريد عن أبي عبيدة عن أئمة اللغة ، وأنّه فسر قوله تعالى : مولاكم النار
بأولاكم وقال النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها أى الأولى بها والمالك
لتدبيرها ومثله في الشعر كثير ، وبالجملة استعمال المولى بمعنى
المتولي
__________________
والمالك للأمر
والأولى بالتصرف شايع في كلام العرب منقول عن أئمة اللغة والمراد أنّه اسم بهذا المعنى لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض
بأنّه ليس من صيغة اسم التفضيل ، وأنّه لا يستعمل استعماله ، وأيضا كون اللفظين
بمعنى واحد لا يقتضي صحّة اقتران كلّ منهما في الاستعمال بما يقترن به الآخر من
الصّلات لأنّ صحة اقتران اللّفظ باللّفظ من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني
ولأنّ الصّلاة مثلا بمعنى الدّعاء والصّلاة إنّما يقترن بعلي والدّعاء باللام يقال
صلّى عليه ودعا له ولو قيل دعا عليه لم يكن بمعناه ،
وقد صرح الشّيخ
الرّضي بمرادفة العلم والمعرفة مع أنّ العلم يتعدّى إلى
__________________
مفعولين دون
المعرفة وكذا يقال : إنّك عالم ولا يقال إنّ أنت عالم مع أنّ المتصل والمنفصل
هاهنا مترادفان كما صرّحوا به وأمثال ذلك كثير ،
ومنها أنّ التّقييد بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أنفسهم قد دلّ أنّ المراد من الأولى هو الأولى بالتّصرف
دون الأولوية في أمر من الأمور ، وذلك لأنّه لا معنى للأولوية من النّاس بنفس
النّاس إلا الأولوية في التصرّف ، نعم لو لم يوجد القيد المذكور لتم معارضته
واستشهاده بقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ)
، فانّه لو كان نظم الآية مثلا إنّ أولى النّاس بإبراهيم من نفسه لكان المراد الأولى
بالتّصرف وقس عليه فعلل وتفعلل.
ورابعا أنّ ما صدّره بقوله : فلينصف
المنصف إلى آخره خال عن معنى الإنصاف مشتمل على غاية التعصب والاعتساف ، إذ لا
يخفى أنّ عمدة العرب من أركان الدّين وأنساب سيّد المرسلين وسادة العرب أجمعين
إنّما كانوا طوائف قريش الحافّين بمهبط الوحى والنّبوة من مكّة والمدينة ، وقد مرّ
أنّهم كانوا منحرفين عن عليّ عليهالسلام لما في صدورهم من ضغائن ثارات الجاهليّة
كما اعترف به هذا الناصب الشقي فيما بعد ، وباقي طوائف العرب كانوا أعرابا رعايا
يرعون دوابهم في الصحاري لا سابقة لهم في
__________________
الإسلام ولا
ممارسة لهم في الأحكام ، فلا يتوجه إليهم في ذلك خطاب ولا يعتبر منهم امتناع ولا
ارتكاب ، مع أنّ منشأ مخالفة طوائف العرب الذين منعوا أبا بكر في أيام خلافته عن
الزّكاة حتى سماهم بأهل الرّدة إنما كان اعتقادهم حقية خلافة أهل
البيت عليهمالسلام وقدحهم في خلافة أبي بكر كما ذكره صاحب كتاب الفتوح عن بني
حنيف وبني كندة وغيرهم على ما نقلناه في كتابنا الموسوم بمجالس المؤمنين
ويعضده ما ذكره ابن حزم في مسألة أحكام المرتدين من كتابه الموسوم بالمحلى حيث قال
إنّ أهل الرّدة كانوا قسمين قسما لم يؤمن قط كأصحاب مسيلمة وسجاح فهؤلاء حربيون لم
يسلموا قط لا يختلف أحد في أنّه تقبل توبتهم وإسلامهم ، والقسم الثاني قوم أسلموا
ولم يكفروا بعد إسلامهم ، لكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها إلى أبي بكر ، فعلى هذا
قوتلوا ، ولا يختلف الحنفيون ولا الشافعيون
__________________
في أن هؤلاء ليس
لهم حكم المرتد أصلا ، وهم قد خالفوا فعل أبي بكر فيهم ولا تسميهم أهل ردة ، ودليل
ما قلناه شعر الحطيئة المشهور الذي يقول فيه :
شعر :
أطعنا رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم ما كان بيننا
|
|
فيا لهفنا ما
بال دين أبي بكر
|
أيورثها بكرا
إذا مات بعده
|
|
فتلك لعمر الله
قاصمة الظهر
|
وأنّ التي
طالبتم فمنعتم
|
|
لك التمر أو
أحلى لدى من التمر
|
فدا لبني بكر بن
زوران رحلي ونا
|
|
قتى عشية يحدي
بالرّماح أبو بكر
|
(انتهى)
وبالجملة إخفاء
الجمهور للنص غير مستبعد عادة ، فانّ وجود النص لا يقتضي تواتره ولا اشتهاره عند
الجميع سيما مع داعي الكتمان كما عرفته فيما نحن فيه ، وذلك كما أنّه وقع ثلاثا
وعشرين سنة بعد الوحى النص على سنية رفع اليدين خمس مرّات في اليوم والليلة وعلى
جهر البسملة وإخفاتها ثلاث مرّات في كلّ يوم وليلة مع أنّه لم يتواتر أحدهما بحيث
يرتفع الخلاف مع توفر الدواعي ، وكذا الأمر في فصول الأذان والمسح والغسل في
الوضوء وغيرهما ، وعدم ترك الاحتجاج لازم على تقدير عصمتهم وأنتم تجوزون الصغيرة
على الأنبياء عمدا ، والكبيرة قبل الوحى ، فما بال غيرهم ، والمقصود أنّه إذا لم
يتحقق مع وجود النص على المسائل المذكورة كلّ يوم وليلة إلى ثلاث وعشرين سنة
ارتفاع الخلاف وتعيين أحد الأمرين عند الجميع ، فالامامة التي وقع النصّ عليها
بتلك الآية أو بغيرها مرّة أو مرتين أو ثلاث مرّات في تلك المدّة طريق أولى ،
قال بعض الحنفية
في شرح بعض كتب اصول الفقه المسمى بالتحقيق في بحث
__________________
خبر الواحد : إنّ
لقبوله شروطا رابعها أن لا يكون متروك المحاجة عند ظهور الاختلاف فإنهم إذا تركوا
الاحتجاج به عنده فيما بينهم يكون مردودا عند بعض أصحابنا المتقدّمين وعامة
المتأخرين ، وخالفهم في ذلك غيرهم من الأصوليين وأهل الحديث قائلين بأنّ الحديث
إذا ثبت سنده فخلاف الصحابي إياه وترك العمل به والمحاجة لا يوجب ردّه ، لأنّ
الخبر حجة على جميع الأنام ، فالصحابي محجوج به كغيره انتهى ، والذي يلوح عند
التأمل أنّ تقديم هؤلاء الجهلاء على أمير المؤمنين عليهالسلام غلط نشأ واشتهر حتى صار مذهبا بين الناس ، لعدم التمييز
للبعض وعدم قوّة إظهار الحق للبعض الآخر ، أو لعروض الشبهة كما تقدّم ، وهذا كما
قال الفاضل التفتازاني في شرح التلخيص من أنّ التمليح بتقديم الميم على اللام
مصدر ملّح الشعر إذا أتى بشيء مليح وهو هاهنا خطاء محض نشأ من قبل الشارح العلامة
حيث سوّى بين التمليح والتلميح وفسرهما بأن يشار إلى قصة ومثل وشعر ثمّ صار الغلط مستمرا وأخذ مذهبا لعدم التمييز وكم
مثله للعلماء المحققين كما وقع لابن الحاجب في بحث كلمة لو من الرّجوع إلى قول
الحكماء وترك قول المتقدمين من أهل العربية فتأمل.
قال المصنف رفع الله
درجته
الاية الثالثةقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)
__________________
أجمع المفسّرون وروى الجمهور كأحمد بن حنبل وغيره أنّها نزلت في عليّ عليهالسلام فاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام
، وروى أبو عبد الله بن محمّد بن عمران
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
المرزباني عن أبي
الحمراء قال خدمت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نحوا من تسعة أشهر أو عشرة وكان عند كلّ فجر لا يخرج من
بيته حتّى يأخذ بعضادتي باب علي عليهالسلام ثم يقول السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيقول عليّ
وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام وعليك السّلام يا نبي الله ورحمة الله وبركاته ، ثمّ يقول
الصّلاة رحمكم الله (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ثمّ ينصرف إلى مصلاه والكذب من الرّجس ، ولا خلاف في أنّ
أمير المؤمنين عليهالسلام ادّعى الخلافة لنفسه فيجب أن يكون صادقا انتهى.
قال النّاصب خفضه الله
أقول : أمّا إجماع
المفسّرين على أنّ الآية نزلت في عليّ فخلاف الواقع ولم يجمعوا على ذلك بل أكثر
المفسرين على أنّ الآية نزلت في شأن أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو
__________________
المناسب لنظم
القرآن ، قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً) هذا نص القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّه مذكور في قرن حكاياتهن والمخاطبة معهنّ ، ولكن لمّا
عدل عن صيغة خطاب المؤمنين إلى خطاب الذكور فلا يبعد أن تكون نازلة في شأن كل أهل
بيت النبيّ من الرّجال والنساء فشملت عليّا وفاطمة والحسن والحسين وأزواج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى هذا فليس الرّجس هاهنا محمولا على الطهارة من كلّ
الذنوب ، بل المراد من الرّجس الشّرك وكبائر الفواحش كالزنا كما يدلّ عليه سابق
الآية وهو قوله تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ، ولو سلّمنا هذا فلا نسلّم أنّ عليّا عليهالسلام ادّعى الامامة لنفسه ، ولو كان يدعيها لما كان يدّعيها
بالعجز والخفية لوجود القوّة والشّجاعة والأعوان وكثرة القبائل والعشائر وشرف
القوم وغيرها من الفضائل ، ثم لو كان الرّجس محمولا على الذّنب لما كانت عائشة
مؤاخذة بذنبها في وقعة جمل ، لأنّ الآية نزلت فيها وفي أزواج النبيّ غيرها على قول
أكثر المفسرين فلا يتم له الاستدلال بهذه الآية انتهى.
__________________
أقول
فيه نظر من وجوه ،
أما أولا فلما مرّ من أنّ مراد المصنف من إجماع المفسرين هاهنا وفي أمثاله اتّفاق
المفسّرين من الشيعة والسنة على ذلك ، وأنّ هذا المعنى يتحقق بموافقة بعض
المفسّرين من أهل السنّة معهم ، وأنّ ما ذهب إليه بعض من طائفة ووافق فيه آخرون من
خصامهم حجة على الكلّ ، وأيضا قد قلنا سابقا : إنّ مراد المصنّف دعوى إجماعهم على
ذلك قبل ظهور المخالف ، والمخالف حادث لا يعتد به ، والذي يدلّ على ذلك أنّ من
المفسّرين من روى خلاف ذلك كانوا متأخّرين عن الثعلبي وأحمد بن حنبل ، ولهذا لم
يذكر النّاصب الرّجس المارد من أكثر هؤلاء المفسّرين المخالفين الذي ادّعى وجودهم
واحدا باسمه بل قد كذبه في ذلك من هو أعلم منه
__________________
بالحديث والتّفسير
من مشايخ نحلته ، إذ قال الشيخ ابن حجر في صواعقه (٢) إنّ أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في علي
وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير عنكم إلخ.
واما ثانيا فلأنّ
ما ذكره من المناسبة إنّما تجب رعايتها إذا لم يمنع عنه مانع ، ومن البيّن أنّ
تذكير ضمير عنكم ويطهركم وبعض القرائن الخارجة الآتية مانع عن ذلك ، فمن ذهب من
المفسرين إلى حمل الآية على خصوص الأزواج نظرا إلى تلك المناسبة قد جعل نفسه موردا
لقول الشاعر :
حفظت (أتيت خ ل)
شيئا وغابت عنك أشياء
على ان في تغيير
الأسلوب في الآيات المتقاربة المسوقة لذكر أهل البيت والأزواج دقيقة هي أنّ
الأزواج في محلّ وأهل البيت في محل آخر عند الله تعالى ، واما ثالثا فلأنّ قوله : هذا
نصّ القرآن يدل إلخ إن أشار فيه بقوله هذا إلى الآيات التي ذكرها النّاصب وهي
السابقة على آية التطهير التي ذكرها المصنّف فمسلّم أنها تدلّ على إرادة الأزواج ،
لكن لا يجديه نفعا ، وإن أشار به إلى ما يعمّها وآية التطهير فكون خصوص آية
التطهير أيضا دالة على ذلك ظاهر البطلان ، بل هو نصّ في خلاف ذلك لما عرفت وستعرفه
، وأما استدلاله على ما فهمه من الدّلالة بقوله : لأنّه مذكور في قرن حكاياتهن إلخ
ففيه أنّ كون الآية الاولى في أزواجه عليهالسلام لا يمنع عن كون ما هو في قرنها متصلا بها بعدها في غير هنّ
، سيّما إذا قام الدّليل على ذلك وهو تذكير ضمير عنكم ويطهركم
__________________
وما روى من أنه عليهالسلام لمّا نزلت هذه الآية جمع عليّا وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام وجلّلهم بكساء فدكي فقال هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم
تطهيرا ، وكذا ما رواه المصنّف هاهنا عن محمّد بن عمران وما رواه الشيخ ابن حجر في
الباب العاشر من صواعقه حيث قال في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم انّه صلىاللهعليهوسلم قال أذكركم الله في أهل بيتي قلنا لزيد : من أهل بيته
نساءه؟ قال : لا ايم الله إنّ المرأة يكون مع الرّجل العصر من الدّهر ثم يطلقها
فيرجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته هاهنا أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده وهو
مذكور في جامع الأصول أيضا.
وأقول : يفهم من
قوله إنّ المرأة يكون مع الرّجل العصر من الدهر إلخ أنّ إطلاق أهل البيت على
الأزواج ليس على أصل وضع اللغة وإنّما هو إطلاق مجازي ، ويمكن أن يكون مراده أنّ
الذي يليق أن يراد في أمثال هذا الحديث من أهل البيت أصله وعصبته الذين لا تزول
نسبتهم عنه أصلا دون الأزواج ، وعلى التقديرين فهو مؤيّد لمطلوبنا.
وذكر سيد المحدثين
جمال الملة والدين عطاء الله الحسيني في كتاب تحفة الأحباء خمسة أحاديث : اثنان منها وهما
المسندان إلى أمّ سلمة رضياللهعنها نصّان صريحان
__________________
في الباب لأنّ
أحدهما وهو الذي نقله من جامع الترمذي ، وذكر أنّ الحاكم حكم بصحته وقد اشتمل
على أنّه لمّا قال النّبي صلىاللهعليهوسلم عند إدخال علي وفاطمة وسبطيه في العباء ما قال ، قالت امّ
سلمة رضياللهعنها يا رسول الله ألست من أهل بيتك؟ ، قال إنّك على خير أو إلى
خير ، والحديث الثاني هو الذي نقله عن كتاب المصابيح بيان شأن النزول لأبي العباس أحمد بن حسن المفسّر الضرير (خ
ل النصير) الأسفرايني قد تضمّن أنّه عليهالسلام لما أدخل عليّا وفاطمة وسبطيه في العباء قال : اللهم هؤلاء
أهل بيتي وأطهار عترتي وأطايب ارومتي من لحمي ودمي إليك لا إلى النّار ، أذهب عنهم الرّجس
وطهرهم تطهيرا ، وكرّر هذا الدّعاء ثلاثا قالت ام سلمة (رض) : قلت يا رسول الله :
وأنا معهم ، قال : إنك إلى خير وأنت من خير أزواجي ، ثم قال السيد قدسسره : فقد تحقق من هذه الأحاديث أنّ الآية إنّما نزلت في شأن
الخمسة المذكورين عليهمالسلام ، ولهذا يقول لهم آل العباء ولله درّ من قال من أهل الكمال
: شعر
على الله في كلّ
الأمور توكّلي
|
|
وبالخمس أصحاب
العباء (الكساء خ ل) توسّلي
|
محمّد المبعوث
حقّا وبنته
|
|
وسبطيه ثم
المقتدى المرتضى علي
|
ان قيل ما ذكر من
الأحاديث معارضة بما روي أنّ أمّ سلمة قالت لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم ألست من أهل البيت؟
فقال بلى إن شاء الله ، قلنا لا نسلم صحة سندها ، ولو سلّم نقول : إنّها رضياللهعنها في هذه الرّواية في معرض التّهمة بجر نفع وشرف لنفسها ،
فلا يسمع قولها وحدها ، ولو سلم نقول : إنّ كونها من أهل البيت
__________________
قد علّق فيها
بمشية الله تعالى ، فلا يكون من أهل البيت جزما مع أنّها لو كانت منهم لما سألته ،
لأنّها من أهل اللّسان والترّجيح معنا بعد التّعارض وهو ظاهر.
وايضا أهل بيت
الرجل في العرف هم قرابته من عترته لا أزواجه بدليل سبق الفهم إلى ذلك ، وهو السابق
إلى فهم كلّ عصر والمتداول في أشعارهم وأخبارهم ، فما أحد يذكر أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في شعر أو غيره ، إلّا وهو يريد من ذكرناه ، لا أزواجه ولا
يمكن إنكار هذا ، ثم أقول : إن مناقشة الجمهور في هذا المقام ، إنّما نشأ من حملهم
البيت في الآية والحديث على البيت المبني من الطين والخشب المشتمل على الحجرات
التي كان يسكنها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أهل بيته وأزواجه ، إذ لو أريد بالبيت : ذلك لاحتمل ما
فهموه ، لكن الظاهر أن المراد بأهل البيت على طبق قولهم : أهل الله وأهل القرآن ،
أهل بيت النبوة ، ولا ريب أن هذا منوط بحصول كمال الأهلية والاستعداد المستعقب
للتنصيص والتعيين من الله ورسوله على المتّصف به ، كما وقع في الآية والحديث ،
ولهذا احتاجت امّ سلمة إلى السؤال عن أهليتها للدّخول فيهم كما مرّ ونظير ذلك أنّ
المتبادر من الإرث في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) هو إرث المال وقد قيل : المراد به إرث النبوة أو العلم
فافهم. وفوق ما ذكرناه كلام ، وهو : أنّه لا يبعد أن يكون اختلاف آية التطهير مع
ما قبلها على طريق الالتفات
__________________
من الأزواج إلى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام على معنى أن تأديب الأرواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد من
توابع إذهاب الرّجس والدّنس عن أهل البيت (ع) فالحاصل نظم الآية على هذا : أنّ
الله تعالى رغّب أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى العفة والصّلاح ، بأنّه إنّما أراد في الأزل أن يجعلكم
معصوما يا أهل البيت واللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفا صالحا كما قال : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) ، وأيضا فما الدليل على أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة
بهذا الترتيب وكانت في اللوح بهذا الوجه؟ وما المانع من أن يكون قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) الآية نزلت في غير وقت الذي نزلت فيه أقمن الصلاة وآتين
الزكاة؟ ويكون عثمان أو غيره جعلها في هذا الموضع ظنا منه أنهن المعنيات بها واجتهادا
في الترتيب ، وليس يمكن إنكار هذا ، لأن من المعلوم أنه وقع اختلاف كثير في ترتيب
المصاحف حتى اصطلح الناس على مصحف عثمان ، والاختلاف إنما هو في الترتيب البتّة ،
لأنّ القرآن متواتر كما لا يخفى ، واما رابعا فلأنّ قول الناصب الرجس وعلى هذا
فليس الرجس هاهنا محمولا على الطهارة من كل الذنوب إلخ مردود ، بأنّ الرجس لا يحمل
على الطهارة لظهور بطلان ذلك ، وإنما يحمل الطهارة على الطهارة عن الرجس ، وأيضا
الذي حمل الطهارة على الطهارة من كل الذنوب ، إنما حملها عليها على تقدير أن يكون
المراد من أهل البيت المذكور في الآية الخمسة من آل العباء لا على تقدير أن يراد
منها الأرواج ، فنفى كون الطهارة محمولا على الطهارة عن كل الذنوب على التقدير
الثاني ظاهر لا حاجة إلى ذكره واما ما ذكره من أنا لا نسلم أن عليا ادعى الامامة
لنفسه ، فقد مر الاستدلال عليه مفصلا ، واما خامسا فلأن ما ذكره بقوله ثم لو كان
الرّجس محمولا على الذّنب لما كانت عائشة مأخوذة بذنبها في وقعة جمل إلخ فيه
__________________
مؤاخذة ظاهرة لأنّ
دخول عائشة في الآية فرض محال ، ومن الجايز أن يستلزم محال محالا آخر فافهم وتدبّر ، ومما ينبغي أن ينبّه عليه أنّ الخبر في
الإرادة المدلول عليها بقوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ) الآية إنّما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون الإرادة التي
يكون بها لفظ الأمر أمرا لأنّ قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ) ، لفظ عامّ في الآيتين ، فلو لم يكن بين آية التّطهير وبين
هاتين الآيتين ، فرق لما كان لتخصيصها بأهل البيت عليهمالسلام معنى ، لأنّه جلّ جلاله أراد بها المدح لهم ، ولا يحصل
المدح إلّا بوقوع الفعل ولا يتوهمن
__________________
أحد أنّ الإذهاب
لا يكون إلا بعد الثبوت ، فقوله تعالى : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ) ، يكون دالا على أنّه كان ثابتا فيهم ، لأنّ هذا مدفوع
بأنّ مبنى هذا القول على التخيّل الذهني
__________________
ولا يكون ثابتا ،
ألا ترى أنك تقول للمخاطب : أذهب الله عنك كل مرض وإن كان ذلك غير حاصل فيه ، فهذه
الآية تزيل الخيال الذي يتصوّره الإنسان في ذهنه ، هذا وسيجيء في بحث الإجماع من
اصول الفقه عند استدلال المصنف على حجية إجماع أهل البيت عليهمالسلام بهذه الآية ما اخترعه النّاصب هناك من نظير هذه الآية في
شأن ساير الناس مع التنبيه منّا على ما يلزمه من كفره بالله تعالى وبغضه وعداوته
لأهل البيت عليهمالسلام فطالعه هناك والعنه لعنا وبيلا ثمّ إنّ لنا في
تحقيق هذه الآية رسالة منفردة ، فمن أراد زيادة استبصار في المرام فعليه بها
وبالله التوفيق.
__________________
إن كان حبّ
المرتضى ذنبا فلا
|
|
يعطى كتاب الأمن
إلّا المذنب
|
إن تفردوا عنّا
الجحيم بحبّه
|
|
فرضيت أني في
الجحيم معذّب
|
يا أيّها الرّجل
المعاند قل لنا
|
|
من للمواضي
والمنابر يندب
|
من للتقى من
للوغى من للندى
|
|
من للشريعة
والمشاكل يطلب
|
من ذا الّذي ذلّ
الطغاة بسيفه
|
|
من ذا حبيب
المصطفى والأقرب
|
تا لله ما غير
الوصي باهلها
|
|
لكنّما تعمى
القلوب وتعتب
|
يا صنو طه
المصطفى أنت الّذي
|
|
لله يرضى في
الأنام ويغضب
|
أنت الإمام
المرتضى علم التقى
|
|
قمر الدّجى شمس
الهدى لا تغرب
|
هيهات يا رب
الفضائل والعلى
|
|
ربّ الفصاحة عن
مديحك يعزب
|
يا ذا المناقب
كالنّجوم مضيئة
|
|
دون التي فيها
الأعادي كذّبوا
|
قد أخفت الأعداء
مناقبك التي
|
|
ما ذاع منها ما
يعدّ ويكتب
|
يا سيّدي إنّ
المسيء أتاكم
|
|
هذي سفينته
ببابك ترسب
|
من كان مثلك في
القيامة حاكما
|
|
أحرى بأن يشكو
إليه المذنب
|
قسما بعزة مجدكم
وجلالكم
|
|
إنّي محبّ لا
أقول فأكذب
|
وهواكم يجري
بلحمي مع دمي
|
|
وسقيته مذ كنت
طفلا ألعب
|
لفقيد الشعر
والفضل العلّامة المرحوم الشيخ بشير العاملي البيروتي حشره الله مع أحبته ومواليه.
|