
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي
هدانا بواضح الدليل على سبيل معادن العلم والتأويل ، وسقانا بكأس رحيق السلسبيل من
زلال عيون الوحي والتنزيل ، وعرج بنا الى معارج الهداية والدراية ، وفتح لنا
مغلقات الأحكام بمحكمات الآية والرواية ، وشرح لنا مبهمات الحلال والحرام بلامعات
الولاية الدامغة لدلهمات الغواية ، والصلاة على مؤسس قواعد الدين بالقواعد الباهرة
والبراهين. وآله الرافعين لإعلام ما أسس والمشيدين ، صلاة توجب لنا الفوز بجوارهم
في أعلى عليين.
(أما بعد)
فيقول الفقير الى ربه الكريم ، والمتعطش الى فيض جوده العميم يوسف بن احمد بن
إبراهيم أصلح الله تعالى له أمر داريه ، ورزقه حلاوة نشأتيه ، وثبته بالأمر الثابت
لديه ، ووفقه لتدارك ذنوبه قبل أن يخرج الأمر من يديه ، وألحقه بأئمته مع جملة
ولده وإخوانه ووالديه : اني كثيرا ما تشوقت نفسي إلى تأليف كتاب جامع للأحكام
الفقهية المذيلة بالأخبار النبوية والآثار المعصومية ، مشتمل على أمهات المسائل
وما يتبعها من الفروع المرتبطة بالدلائل ، فيعوقني عن ذلك تلاطم أمواج الفتن
والغارات ، وتزاحم أفواج المحن والشتات ، وتراكم حنادس عوائق الزمان ، وتصادم
بوائق الحدثان ، وانجذام يد الدين المنيف ، وخمود صيت الشرع الشريف ، في كل
ناحية ومكان. وتشتت أهاليه في اقاصي البلدان ، بل اضمحلال الفضلاء منهم والأعيان ،
حتى لقد أصبحت عرصات العلم دارسة الآثار ، ومنازله مظلمة الأقطار ، وعفت اطلاله
ومعالمه ، وخلت دياره ومراسمه.
خلت من
أهاليها الكرام وأقفرت
|
|
فساحتها تبكي
عليهم تلهفا
|
وأوحش ربع
الانس بالإنس بعدهم
|
|
كأن لم يكن
بين الحجون الى الصفا
|
ولم تبق في
ساحتها إلا قوم ببلدح عجفى. ولا من عرصاتها إلا دمنة لم تكلم من أم أوفى. وكنت ممن
رمته أيدي الحوادث في الديار العجمية ، وقذفته في تلك الأقطار منجنيق الرزية ، على
ما هي عليه من ترادف البلايا بلية اثر بلية ، واضمحلال اسم الشرع فيها بالكلية ،
وتلبس الأغبياء بلباس الأفاضل. وتصدر الجهلاء لافتاء المسائل. فلم تزل تترامى بي
أقطارها فأطوي هناك المراحل ، وأقصد اليم فتقذفني الأمواج إلى الساحل
يوما بحزوى
ويوما بالعقيق وبالعذيب
|
|
يوما ويوما
بالخليصاء
|
`حتى انخت ركابي بدار العلم شيراز ، ومن الله تعالى
بالإكرام فيها والإعزاز ، فبقيت فيها برهة من السنين مع جملة الأهل والبنين ، في
أرغد عيش وأصفاه ، وأهنأ شراب وأوفاه ، مشتغلا بمدارسة العلوم الدينية. وممارسة
الاخبار المعصومية ، فخطر بي ذلك الخاطر القديم. وناداني المنادي أن يا إبراهيم ،
فبقيت أقدم رجلا وأؤخر أخرى. وارى ان التقديم أحق وأحرى ، فكم استنهضت مطي العزم
على السير فلم تساعد. وبئس السير على ذلك العير الغير المساعد. إلا اني قد أبرزت
ضمن تلك المدة جملة من الرسائل في قالب التحقيق. ونمقت شطرا من المسائل على نمط
أنيق وطرز رشيق ، حتى عصفت بتلك البلاد ريح عاصف حتت الورق ، وفرقت من عقد نظامها
ما اتسق. ولعبت بها أيدي الحوادث التي لا تنيم ولا تنام ، وسقت أهلها من مرير
علقمها كؤوس الحمام ، قتلا وسلبا وأسرا وهتكا ، كأنهم
ممن خلع ربقة الإسلام ، واستبدل بها عبادة الأوثان والأصنام ، وحيث من الله
تعالى بمزيد كرمه بالسلامة من تلك الأخطار ، والنجاة من أيدي أولئك الأشرار ، ركبت
الفرار الى بعض النواحي ، وأغمضت عن عذل العذال واللواحي ، واتخذت العزلة عن أشباه
الناس وطنا ، والوحدة من الدنفاس سكنا ، وفي ذلك سلامة الدنيا والدين ، والفوز
بسعادة الحق واليقين ، وضربت صفحا عن الطموح الى زهرة هذه الدار ، وطويت كشحا دون
النظر الى ما اسدته الأقدار ، من البأس حلل اليسار أو اطمار الإعسار ، وثوقا بضامن
الأرزاق والمعطي على قدر الاستحقاق ، وعند ذلك هجس بفكري ما كنت أتمناه من ذلك
الكتاب ، وان هذه الخلوة أعز من أن تصرف في غير هذا الباب ، ورأيت انتهاز الفرصة
فإنها تمر مر السحاب ، ولم يثن عزمي قلة الطلاب ، ولا إشراف شموس الفضل على الغياب
، بل صار ذلك أقوى سبب لي على القدوم ، لما استفاض عن سدنة الحي القيوم من الحث
الأكيد ومزيد التأكيد في إحياء هذا الدين ونشر شريعة سيد المرسلين ، وعسى الله
سبحانه أن ينفع به بعض الاخوان المؤمنين ، والخلان الطالبين للحق واليقين ، وقد
سميته ب (كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) واليه سبحانه أرغب في التوفيق
سيما للإتمام والعصمة من زلل أقدام الأقلام في ميادين الإحكام ، إنه تعالى أكرم من
رغب اليه واكفى من توكل عليه.
وقد رأيت أن
أبدأ أولا بتمهيد جملة من المقدمات التي يتوقف عليها الاستدلال ، ويرجع إليها في
تحقيق الأحوال ، ليكون كتابنا هذا كافلا بتحقيق ما يحتاج اليه من أصول وفروع ،
مغنيا عن الافتقار الى غيره والرجوع.
المقدمة الأولى
غير خفي ـ على
ذوي العقول من أهل الايمان وطالبي الحق من ذوي
الأذهان ـ ما بلي به هذا الدين من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيد
المرسلين ، وغصب الخلافة من وصيه أمير المؤمنين ، وتواثب أولئك الكفرة عليه ،
وقصدهم بأنواع الأذى والضرر اليه ، وتزايد الأمر شدة بعد موته صلوات الله عليه ،
وما بلغ اليه حال الأئمة صلوات الله عليهم من الجلوس في زاوية التقية ، والإغضاء
على كل محنة وبلية. وحث الشيعة على استشعار شعار التقية ، والتدين بما عليه تلك الفرقة
الغوية ، حتى كورت شمس الدين النيرة ، وخسفت كواكبه المقمرة ، فلم يعلم من أحكام
الدين على اليقين إلا القليل ، لامتزاج اخباره باخبار التقية ، كما قد اعترف بذلك
ثقة الإسلام وعلم الاعلام (محمد بن يعقوب الكليني نور الله تعالى مرقده) في جامعه
الكافي ، حتى انه (قدسسره) تخطأ العمل بالترجيحات المروية عند تعارض الاخبار ،
والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للأئمة الأبرار. فصاروا صلوات الله عليهم ـ محافظة
على أنفسهم وشيعتهم ـ يخالفون بين الأحكام وان لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام ،
فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وان لم يكن بها قائل من المخالفين
، كما هو ظاهر لمن تتبع قصصهم واخبارهم وتحدى سيرهم وآثارهم.
وحيث ان
أصحابنا رضوان الله عليهم خصوا الحمل على التقية بوجود قائل من العامة. وهو خلاف
ما أدى اليه الفهم الكليل والفكر العليل من اخبارهم صلوات الله عليهم ، رأينا أن
نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالة على ذلك ، لئلا يحملنا الناظر على مخالفة
الأصحاب من غير دليل. وينسبنا الى الضلال والتضليل.
فمن ذلك ما
رواه في الكافي في الموثق عن زرارة عن ابي جعفر عليهالسلام قال : (سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاءه رجل فسأله
عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي
، فلما خرج الرجلان قلت :
__________________
يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كل
واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال : يا زرارة ان هذا خير لنا وأبقى لكم. ولو
اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال : ثم قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا
وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل جواب أبيه).
فانظر إلى
صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليهالسلام في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة ، ولو كان
الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جواب واحد بما هم عليه ، ولما تعجب زرارة
من ذلك ، لعلمه بفتواهم عليهمالسلام أحيانا بما يوافق العامة تقية ، ولعل السر في ذلك أن
الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كل ينقل عن امامه خلاف ما ينقله الآخر ، سخف مذهبهم
في نظر العامة ، وكذبوهم في نقلهم ، ونسبوهم الى الجهل وعدم الدين ، وهانوا في
نظرهم ، بخلاف ما إذا اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم ، فإنهم يصدقونهم ويشتد بغضهم
لهم ولإمامهم ومذهبهم ، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة ، والى ذلك يشير قوله عليهالسلام : (ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا. إلخ).
ومن ذلك ايضا ما
رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح ـ على الظاهر ـ عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد
الله (ع) قال : (سأله إنسان وأنا حاضر فقال : ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلي
العصر ، وبعضهم يصلي الظهر؟ فقال : أنا أمرتهم بهذا ، لو صلوا على وقت واحد لعرفوا
فأخذ برقابهم). وهو أيضا صريح في المطلوب ، إذ لا يخفى أنه لا تطرق للحمل هنا على
موافقة العامة ، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك.
__________________
وما رواه الشيخ
في كتاب العدة مرسلا عن الصادق عليهالسلام : انه (سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت؟ فقال : انا
خالفت بينهم).
وما رواه في
الاحتجاج بسنده فيه عن حريز عن ابي عبد الله (ع) قال : (قلت له :
انه ليس شيء أشد علي من اختلاف أصحابنا. قال ذلك من قبلي).
وما رواه في
كتاب معاني الاخبار عن الخزاز عمن حدثه عن ابي الحسن (ع) قال : (اختلاف
أصحابي لكم رحمة وقال (ع) : إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد). وسئل عن اختلاف
أصحابنا فقال عليهالسلام : (انا فعلت ذلك بكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ
برقابكم).
وما رواه في
الكافي بسنده فيه عن موسى بن أشيم قال : (كنت عند ابي عبد الله
عليهالسلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله عزوجل فأخبره بها ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره
بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني من ذلك ما شاء الله ، الى أن قال : فبينما أنا
كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي ،
فسكنت نفسي وعلمت ان ذلك منه تقية. قال : ثم التفت إلي فقال : يا ابن أشيم ان الله
عزوجل فوض الى سليمان بن داود فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسابٍ). وفوض الى نبيه صلىاللهعليهوآله
__________________
فقال : (ما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). فما فوض الى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقد فوضه إلينا).
ولعلك بمعونة
ذلك تعلم ان الترجيح بين الاخبار بالتقية ـ بعد العرض على الكتاب العزيز ـ أقوى
المرجحات. فان جل الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كله عند التأمل والتحقيق إنما نشأ
من التقية ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا رضوان
الله عليهم ، فظنوا ان هذا الاختلاف إنما نشأ من دس أخبار الكذب في أخبارنا ،
فوضعوا هذا الاصطلاح ليميزوا به صحيحها عن سقيمها وغثها من سمينها ، وقوى الشبهة
فيما ذهبوا إليه شيئان : (أحدهما) رواية مخالف المذهب وظاهر الفسق والمشهور بالكذب
من فطحي وواقفي وزيدي وعامي وكذاب وغال ونحوهم. و (ثانيهما) ما ورد عنهم عليهمالسلام من ان لكل رجل منا رجلا يكذب عليه وأمثاله مما يدل على
دس بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم عليهمالسلام ، ولم يتفطنوا نور الله ضرائحهم الى ان هذه الأحاديث
التي بأيدينا إنما وصلت إلينا بعد أن سهرت
__________________
العيون في تصحيحها وذابت الأبدان في تنقيحها ، وقطعوا في تحصيلها من
معادنها البلدان ، وهجروا في تنقيتها الأولاد والنسوان ، كما لا يخفى على من تتبع
السير والأخبار ، وطالع الكتب المدونة في تلك الآثار ، فان المستفاد منها ـ على
وجه لا يزاحمه الريب ولا يداخله القدح والعيب ـ انه كان دأب قدماء أصحابنا
المعاصرين لهم (عليهمالسلام) الى وقت المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على ثلثمائة سنة
ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمة ، والمسارعة إلى إثبات ما يسمعونه خوفا من
تطرق السهو والنسيان ، وعرض ذلك عليهم ، وقد صنفوا تلك الأصول الأربعمائة المنقولة
كلها من اجوبتهم (عليهمالسلام) وانهم ما كانوا يستحلون رواية ما لم يجزموا بصحته ،
وقد روي أنه عرض على الصادق (ع) كتاب عبيد الله بن علي الحلبي فاستحسنه وصححه ،
وعلى العسكري (ع) كتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان فاثنى عليهما ،
وكانوا (عليهمالسلام) يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين ، ويأمرونهم
بمجانبتهم ، وعرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز والسنة النبوية وترك ما
خالفهما.
فروى الثقة
الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال بإسناده عن محمد ابن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد
الرحمن : ان بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال : يا أبا محمد ما أشدك في الحديث
وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ، فما الذي يحملك على رد الحديث ؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم انه سمع أبا عبد الله (ع)
يقول : «لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من
أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دس في كتب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا
علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا صلىاللهعليهوآله». قال يونس : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي
جعفر ووجدت أصحاب
__________________
أبي عبد الله (ع) متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على
ابي الحسن الرضا (ع) ، فأنكر منها أحاديث كثيرة ان تكون من أحاديث أبي عبد الله ، وقال
: «ان أبا الخطاب كذب على ابي عبد الله (ع) لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي
الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب ابي عبد الله (ع) ، فلا
تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ،
انا عن الله وعن رسوله نحدث ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، ان كلام
آخرنا مثل كلام أولنا. وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدثكم
بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فان لكلامنا حقيقة وعليه نورا
، فما لا حقيقة له ولا عليه نور فذلك قول الشيطان».
أقول : فانظر ـ
أيدك الله تعالى ـ الى ما دل عليه هذا الحديث من توقف يونس في الأحاديث واحتياطه
فيها. وهذا شأن غيره ايضا كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وأمرهم (عليهمالسلام) بعرض ما يأتي من الأخبار من غير المؤتمن على الكتاب
والسنة تحرزا من تلك الأحاديث المكذوبة ، فهل يجوز في العقول السليمة والطباع
المستقيمة ان مثل هؤلاء الثقات العدول إذا سمعوا من أئمتهم مثل هذا الكلام ان
يستحلوا بعد ذلك نقل ما لا يثقون بصحته ولا يعتمدون على حقيقته. بل من المقطوع
والمعلوم عادة من أمثالهم انهم لا يذكرون ولا يروون في مصنفاتهم إلا ما اتضح لهم
فيه الحال وانه في الصدق والاشتهار كالشمس في رابعة النهار كما سمعت من حال يونس ،
وهذا كان دأبهم (عليهمالسلام) في الهداية لشيعتهم. يوقفونهم على جميع ما وقع وما عسى
أن يقع في الشريعة من تغيير وتبديل ، لأنهم (صلوات الله عليهم) حفاظ الشريعة
وحملتها وضباطها وحرستها. ولهم نواب فيها من ثقات أصحابهم وخواص رواتهم ، يوحون
إليهم أسرار الأحكام ، ويوقفونهم على غوامض كل حلال وحرام ، كما قد روي ذلك
بأسانيد عديدة ، على ان المفهوم من جملة من تلك الأخبار ان تلك الأحاديث المكذوبة
كلها كانت من أحاديث الكفر والزندقة والاخبار بالغرائب.
فمن ذلك ما
رواه في الكتاب المتقدم عن يونس عن هشام بن الحكم : انه سمع أبا عبد الله (ع)
يقول : «كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على ابي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه
المستترون بأصحاب ابي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس
فيها كتب الكفر والزندقة ويسندها الى ابي (عليهالسلام) ، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة.
فكل ما كان في كتب أصحاب ابي (عليهالسلام) من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم».
وبإسناده عن
حماد عن حريز قال ـ يعني أبا عبد الله (ع) ـ : ان أهل الكوفة لم يزل فيهم كذاب ،
اما المغيرة بن سعيد فإنه يكذب على ابي ـ يعني أبا جعفر (عليهالسلام) ـ قال : حدثه ان نساء آل محمد (صلىاللهعليهوآله) إذا حضن قضين الصلاة. وكذب والله ما كان من ذلك شيء
ولا حدثه. واما أبو الخطاب فكذب علي وقال : اني أمرته هو وأصحابه ان لا يصلي
المغرب حتى يروا الكواكب.» الحديث.
على ان مقتضى
الحكمة الربانية وشفقة الأئمة (صلوات الله عليهم) على من في أصلاب الرجال من
شيعتهم تمنع من ان يتركوهم هملا يمشون على غير طريق واضح ولا منار لائح ، فلا
يميزون لهم الغث من السمين. ولا يهدونهم إلى جادة الحق المبين. ولا يوقفونهم على
ما يقع في الشريعة من تغيير وتبديل. وما يحدثه الكذابون المفترون من البدع
والتضليل ، كلا ثم كلا ، بل اوضحوا الدين المبين نهاية الإيضاح. وصفوه من شوب كل
كدر ، حتى أسفر كضوء الصباح. الا ترى الى ما ورد عنهم من حثهم شيعتهم على الكتابة
لما يسمعونه منهم. وأمرهم بحفظ الكتب لمن يأتي بعدهم. كما
__________________
ورد في جملة من الأخبار التي رواها ثقة الإسلام في جامعه الكافي وغيره في
غيره. والى تحذيرهم الشيعة عن مداخلة كل من أظهر البدع وأمرهم بمجانبتهم ،
وتعريفهم لهم بأعيانهم ، كما عرفت فيما تلونا من الاخبار.
ومن ذلك ايضا
ما خرج عن الأئمة المتأخرين (صلوات الله عليهم أجمعين) في لعن جماعة ممن كانوا
كذلك ، كفارس بن حاتم القزويني ، والحسن بن محمد بن بابا ، ومحمد بن نصير النميري
، وابي طاهر محمد بن علي بن بلال ، واحمد بن هلال ، والحسين بن منصور الحلاج. وابن
ابي العزاقر ، وابي دلف ، وجمع كثير ممن يتسمى بالشيعة. ويظهر المقالات الشنيعة من
الغلو والإباحات والتناسخ ونحوها ، وقد خرجت في لعنهم التوقيعات عنهم (عليهمالسلام) في جميع الأماكن والبراءة منهم. وقد ذكر الشيخ (قدسسره) في كتاب الغيبة جمعا من هؤلاء ، وأورد الكشي اخبارا
فيما أحدثوا. وما خرج فيهم من التوقيعات لذلك ، من أحب الوقوف عليها فليرجع اليه.
وقد شدد أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) الأمر في ذلك ، حتى ربما تجاوزوا المقام. حتى انهم
كانوا يجانبون الرجل بمجرد التهمة بذلك ، كما وقع لأحمد بن محمد ابن عيسى مع احمد
بن محمد بن خالد البرقي من إخراجه من برقة قم لما طعن عليه القميون ، ثم اعاده
إليها لما ظهر له براءته. ومشى في جنازته حافيا إظهارا لنزاهته مما رمي به ، وكما
أخرج سهل بن زياد الأدمي. وأظهر البراءة منه ومنع الناس من السماع عنه ، وكما
استثنى محمد بن الحسن بن الوليد جملة من الرواة ، منهم جماعة ممن روى عنهم محمد بن
احمد بن يحيى الأشعري وغيرهم ، وقد عدوا جماعة من الرواة في الضعفاء. ونسبوهم الى
الكذب والافتراء. ومنهم من خرجت التوقيعات فيه عنهم (عليهمالسلام) ومنهم من اطلعوا على حاله الموجب لضعفه ، ومنهم محمد
بن علي الصيرفي أبو سمينة. ومحمد بن سنان. ويونس بن ظبيان. ويزيد الصائغ وغيرهم ،
وذلك ظاهر لمن تصفح كتب
الرجال واطلع على ما فيها من الأحوال. ومن الظاهر البين الظهور انه مع شهرة
الأمر في هؤلاء المعدودين وأمثالهم ، فإنه لا يعتمد أحد ممن اطلع على أحوالهم على
رواياتهم ، ولا يدونونها في أصولهم إلا مع اقترانها بما يوجب صحتها ويعلن بثبوتها كما صرح
__________________
به شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين ، وقد نقل الصدوق (قدسسره) في كتاب عيون أخبار الرضا حديثا في سنده (محمد بن عبد
الله المسمعي) ، ثم قال بعد تمام الحديث ما هذا لفظه : قال مصنف هذا الكتاب : كان
شيخنا (محمد بن الحسن ابن الوليد) سيء الرأي في (محمد بن عبد الله المسمعي) راوي
هذا الحديث ، وانما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لانه كان في كتاب الرحمة وقد
قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي ، انتهى. أقول : وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله.
فانظر إلى شدة احتياطهم وتورعهم في عدم نقل ما لا يثقون به إلا مع انضمام القرائن
الموجبة لصحته وثبوته. وبالجملة : فالخوض في كتب الرجال ـ والنظر في مصنفات
المتقدمين والاطلاع على سيرتهم وطريقتهم ـ يفيد الجزم بما قلنا ، واما من أخذ
بظاهر المشهور من غير تدبر لما هو ثمة مذكور فهو فيما ذهب اليه معذور. وكل ميسر
لما خلق له ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
المقدمة الثانية
قد صرح جملة من
أصحابنا المتأخرين بأن الأصل في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة المشهورة هو
العلامة أو شيخه جمال الدين بن طاوس نور الله تعالى مرقديهما ، واما المتقدمون
فالصحيح عندهم هو ما اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه من القرائن والأمارات التي
ذكرها الشيخ (قدسسره) في كتاب العدة. وعلى هذا جرى جملة من أصحابنا المحدثين
وطائفة من متأخري متأخري المجتهدين كشيخنا المجلسي رحمهالله وجمع ممن تأخر عنه. وقد اتسع خرق الخلاف بين المجتهدين
من أصحابنا والأخباريين في جمل عديدة من مسائل الأصول التي تبنى عليها الفروع
الفقهية ، وبسط كل من علماء الطرفين لسان التشنيع على الآخر ، والحق الحقيق
بالاتباع ما سلكه طائفة من
متأخري المتأخرين كشيخنا المجلسي (طاب ثراه) وطائفة ممن أخذ عنه. فإنهم
سلكوا من طرق الخلاف بين ذينك الفريقين طريقا وسطى بين القولين ونجدا أوضح من ذينك
النجدين و (خير الأمور أوسطها). ونحن قد بسطنا الكلام في إيضاح هذا المرام في جملة
من مؤلفاتنا ولا سيما كتاب المسائل ، فإنا قد أعطينا المسألة حقها من الدلائل ،
ولا بأس بذكر طرف من ذلك في هذا الكتاب ، حيث انا قد قصدنا فيه ضرب الصفح غالبا عن
الكلام في أسانيد الأخبار والطعن فيها بذلك. فربما يظن الناظر الغير العالم
بطريقتنا ان ذلك عن عجز أو غفلة أو نحو ذلك ، فرأينا أن نبين هنا ان ذلك إنما هو
من حيث ثبوت صحة تلك الاخبار عندنا والوثوق بورودها عن أصحاب العصمة (صلوات الله
عليهم).
فنقول : قد صرح
شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين وقبله المحقق الشيخ حسن (أعلى الله رتبتهما)
في مقدمات كتاب المنتقى بما ملخصه : ان السبب ـ الداعي إلى تقرير هذا الاصطلاح في
تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة ـ هو انه لما طالت المدة بينهم وبين الصدر الأول
وبعدت عليهم الشقة وخفيت عليهم تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند المتقدمين.
وضاق عليهم ما كان متسعا على غيرهم ، التجأوا الى العمل بالظن بعد فقد العلم ،
لكونه أقرب مجازا إلى الحقيقة عند تعذرها ، وبسبب التباس الأخبار غثها بسمينها
وصحيحها بسقيمها التجأوا الى هذا الاصطلاح الجديد. وقربوا لنا البعيد ، ونوعوا
الحديث إلى الأنواع الأربعة. وزاد في كتاب مشرق الشمسين : انهم ربما سلكوا طريقة
القدماء في بعض الأحيان ، ثم عد (قدسسره) مواضع من ذلك. هذا خلاصة ما ذكروا في تعليل ذلك ، ونحن
نقول : لنا على بطلان هذا الاصطلاح وصحة أخبارنا وجوه.
(الأول) ما قد
عرفت في المقدمة الاولى من أن منشأ الاختلاف في أخبارنا إنما هو التقية من ذوي
الخلاف لا من دس الاخبار المكذوبة حتى يحتاج الى هذا
الاصطلاح. على انه متى كان السبب الداعي إنما هو دس الأحاديث المكذوبة كما
توهموه (رضوان الله عليهم) ففيه انه لا ضرورة تلجئ الى اصطلاحهم ، لأنهم (عليهمالسلام) قد امرونا بعرض ما شك فيه من الاخبار على الكتاب
والسنة فيؤخذ بما وافقهما ويطرح ما خالفهما ، فالواجب في تمييز الخبر الصادق من
الكاذب مراعاة ذلك ، وفيه غنية عما تكلفوه ، ولا ريب ان اتباع الأئمة (عليهمالسلام) اولى من أتباعهم.
(الثاني) ان
التوثيق والجرح الذي بنوا عليه تنويع الاخبار إنما أخذوه من كلام القدماء ، وكذلك
الأخبار التي رويت في أحوال الرواة من المدح والذم إنما أخذوها عنهم ، فإذا
اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما صححوه من الاخبار
واعتمدوه وضمنوا صحته كما صرح به جملة منهم ، كما لا يخفى على من لاحظ ديباجتي
الكافي والفقيه وكلام الشيخ في العدة وكتابي الأخبار فإن كانوا ثقاتا عدولا في
الاخبار بما أخبروا به ففي الجميع ، وإلا فالواجب تحصيل الجرح والتعديل من غير
كتبهم وأنى لهم به (لا يقال) إن أخبارهم بصحة ما رووه في كتبهم يحتمل الحمل على الظن
القوي باستفاضة أو شياع أو شهرة معتد بها أو قرينة أو نحو ذلك مما يخرجه عن محوضة
الظن (لأنا نقول) فيه (أولا) ان أصحاب هذا الاصطلاح مصرحون بكون مفاد الاخبار عند
المتقدمين هو القطع واليقين وانهم إنما عدلوا عنه الى الظن لعدم تيسر ذلك لهم كما
صرح به في المنتقى ومشرق الشمسين
__________________
(واما ثانيا) فلما تضمنته تلك العبارات مما هو صريح في صحة الاخبار بمعنى
القطع واليقين بثبوتها عن المعصومين (فان قيل) تصحيح ما حكموا بصحته أمر اجتهادي
لا يجب تقليدهم فيه ، ونقلهم المدح والذم رواية يعتمد عليهم فيها (قلنا) فيه ان
أخبارهم بكون الراوي ثقة أو كذابا أو نحو ذلك إنما هو أمر اجتهادي استفادوه
بالقرائن المطلعة على أحواله أيضا.
(الثالث) ـ تصريح
جملة ـ من العلماء الاعلام وأساطين الإسلام ومن هم المعتمد في النقض والإبرام من
متقدمي الأصحاب ومن متأخريهم الذين هم أصحاب هذا الاصطلاح أيضا ـ بصحة هذه الأخبار
وثبوتها عن الأئمة الأبرار ، لكنا نقتصر على ما ذكره أرباب هذا الاصطلاح في المقام
، فإنه أقوى حجة في مقام النقض والإلزام.
فمن ذلك ما صرح
به شيخنا الشهيد (نور الله مضجعه) في الذكرى في الاستدلال على وجوب اتباع مذهب
الإمامية ، حيث قال ما حاصله : انه كتب من أجوبة مسائل أبي عبد الله (عليهالسلام) أربعمائة مصنف لاربعمائة مصنف. ودون من رجاله
المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام. وكذلك عن مولانا
الباقر (ع) ، ورجال باقي الأئمة (ع) معروفون مشهورون أولوا مصنفات مشتهرة ،
فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم ، الى أن قال بعد عد جملة من كتب
الاخبار وغيرها مما يطول تعداده بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان
والقوية : فالإنكار بعد ذلك مكابرة محضة وتعصب صرف. ثم قال : (لا يقال) فمن اين
وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين (ع) وفتواهم
عن المطهرين (ع)؟ (لأنا نقول) محل الخلاف اما من المسائل المنصوصة أو مما فرعه
العلماء ، والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها كما هو بين سائر علماء الأمة
، واما الأول فسببه اختلاف الروايات ظاهرا ، وقلما يوجد فيها التناقض بجميع شروطه
، وقد كانت الأئمة (ع) في زمن تقية واستتار من مخالفيهم. فكثيرا ما يجيبون
السائل على وفق معتقده أو معتقد بعض الحاضرين أو بعض من عساه يصل اليه من
المناوئين ، أو يكون عاما مقصورا على سببه أو قضية في واقعة مختصة بها أو اشتباها
على بعض النقلة عنهم أو عن الوسائط بيننا وبينهم (عليهمالسلام). انتهى.
ولعمري انه
كلام نفيس يستحق ان يكتب بالنور على وجنات الحور ، ويجب ان يسطر ولو بالخناجر على
الحناجر. فانظر الى تصريحه بل جزمه بصحة تلك الروايات التي تضمنتها هذه الكتب التي
بأيدينا ، وتخلصه من الاختلاف الواقع بين الاخبار بوجوه تنفي احتمال تطرق دخول
الأحاديث الكاذبة في أخبارنا.
ومن ذلك ما صرح
به شيخنا الشهيد الثاني (أعلى الله تعالى رتبته) في شرح الدراية ، حيث قال : «كان
قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولا فكان عليها اعتمادهم ، تداعت
الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول ، ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على
المتناول. وأحسن ما جمع منها : الكافي. والتهذيب والاستبصار. ومن لا يحضره الفقيه».
فانظر الى
شهادته (قدسسره) بكون أحاديث كتبنا هي أحاديث تلك الأصول بعينها وحينئذ فالطاعن في هذه كالطاعن في تلك الأصول. ثم ان
الظاهر ان تخصيصه هذه الكتب الأربعة بالأحسنية إنما هو من حيث اشتمالها على أبواب
الفقه
__________________
كملا على الترتيب
بخلاف غيرها من كتب الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار. ولا يتوهم ـ من
ظاهر قوله : تداعت الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول ولخصها الى آخره ـ ان تلخيص تلك
الجماعة لها إنما وقع بعد ذهاب معظمها ، فان ذلك باطل (أما أولا) فلأن التلخيص وقع
عطفه في كلامه بالواو ، دون ـ ثم ـ المفيدة للترتيب. (واما ثانيا) فلان الظاهر ـ كما
صرح به بعض فضلائنا ـ إن اضمحلال تلك الأصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه
الكتب التي دونها أصحاب الأخبار ، لكونها أحسن منها جمعا وأسهل تناولا. وإلا فتلك
الأصول قد بقيت الى زمن ابن طاوس (رضياللهعنه)
، كما ذكر ان أكثر تلك الكتب كان عنده ونقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبع
مصنفاته. وبذلك يشهد كلام ابن إدريس في آخر كتاب السرائر. حيث انه نقل ما استطرفه
من جملة منها شطرا وافرا من الاخبار. وبالجملة : فاشتهار تلك الأصول في زمن أولئك
الفحول لا ينكره إلا معاند جهول.
ومن ذلك ما صرح
به المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني. حيث قال في بحث الإجازة من المعالم
ما صورته : «ان أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل انما يظهر حيث لا يكون متعلقا
معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا. فإنها متواترة إجمالا ، والعلم بصحة مضامينها
تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا».
ومن ذلك ما صرح
به شيخنا البهائي (نور الله مضجعه) في وجيزته ، حيث قال : «جميع أحاديثنا ـ إلا ما
ندر ـ ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (عليهمالسلام) وهم ينتهون فيها إلى النبي (صلىاللهعليهوآله) الى أن قال : وكان قد جمع قدماء محدثينا ما وصل إليهم
من كلام أئمتنا (عليهمالسلام) في أربعمائة كتاب تسمى (الأصول) ثم
تصدى جماعة من المتأخرين (شكر الله سعيهم) لجمع تلك الكتب وترتيبها تقليلا
للانتشار وتسهيلا على طالبي تلك الاخبار ، فالفوا كتبا مضبوطة مهذبة مشتملة على
الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (عليهمالسلام) كالكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ،
والاستبصار. ومدينة العلم ، والخصال. والأمالي. وعيون الاخبار ، وغيرها».
هذا ما حضرني
من كلامهم (نور الله تعالى مراقدهم) ، واما كلام المتقدمين ، كالصدوق في الفقيه ،
وثقة الإسلام في الكافي ، والشيخ الطوسي في جملة من مؤلفاته ، وعلم الهدى وغيرهم
ممن نقلنا كلامهم في غير هذا الكتاب ، فهو ظاهر البيان ساطع البرهان في هذا الشأن.
ثم العجب من
هؤلاء الفضلاء الذين نقلنا كلامهم هنا انه إذا كان الحال على ما صرحت به عبائرهم
من صحة هذه الاخبار عن الأئمة (عليهمالسلام) فما الموجب لهم إلى المتابعة في هذا الاصطلاح الحادث؟
وأعجب من ذلك كلام شيخنا البهائي (ره) في كتاب مشرق الشمسين ، حيث ذكر ما ملخصه :
ان اجتناب الشيعة لمن كان منهم ثم أنكر إمامة بعض الأئمة (عليهمالسلام) كان أشد من اجتناب المخالفين في أصل المذهب. وكانوا
يتحرزون عن مجالستهم والتكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم ، فإذا نقل علماؤنا
رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها وقالوا بصحتها مع
علمهم بحاله. فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق
اليه القدح ، ولا الى ذلك الرجل الثقة الراوي عمن هذا حاله ، كأن يكون سماعه منه
قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق ، أو ان النقل
إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألفه بعد
الوقف ولكنه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ككتب علي بن
الحسن الطاطري ، فإنه وان كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية إلا أن
الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم.
الى غير ذلك من المحامل الصحيحة ، إلى آخر كلامه (طاب ثراه).
ولقد أجاد فيما
أفاد ولكنه ناقض نفسه فيما أورده من العذر للمتأخرين في عدولهم الى تجديد هذا
الاصطلاح ، لأن قوله ـ : كانوا يتحرزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم.
وقوله : فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح ـ يستلزم أن
تكون أحاديث كتب هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين شهدوا بصحة ما رووه فيها كلها صحيحة.
(الرابع) ـ انه
لو تم ما ذكروه وصح ما قرروه للزم فساد الشريعة وإبطال الدين ، لأنه متى اقتصر في
العمل على هذا القسم الصحيح أو مع الحسن خاصة أو بإضافة الموثق ايضا ورمي بقسم الضعيف
باصطلاحهم من البين والحال ان جل الاخبار من هذا القسم كما لا يخفى على من طالع
كتاب الكافي أصولا وفروعا وكذا غيره من سائر كتب الاخبار وسائر الكتب الخالية من
الأسانيد. لزم ما ذكرنا وتوجه ما طعن به علينا العامة من ان جل أحاديث شريعتنا
مكذوبة مزورة ، ولذا ترى شيخنا الشهيد في الذكرى كيف تخلص من ذلك بما قدمنا نقله
عنه دفعا لما طعنوا به علينا ونسبوه إلينا. ولله در المحقق (ره) في المعتبر حيث
قال : أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر وما فطنوا الى ما
تحته من التناقض. فان من جملة الأخبار قول النبي (صلىاللهعليهوآله) : «ستكثر بعدي القالة». الى أن قبل : واقتصر بعض عن
هذا الإفراط فقال : كل سليم السند يعمل به. وما علم ان الكاذب قد يصدق والفاسق قد
يصدق ولم يتنبه ان ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب. إذ لا مصنف إلا وهو
يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل ، الى أن قال : وكل هذه الأقوال منحرفة عن
السنن. والتوسط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن
على صحته عمل به وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه. انتهى. وهو قوي
متين بل جوهر ثمين.
(الخامس) ـ ان
ما اعتمدوه من ذلك الاصطلاح غير منضبط القواعد والبنيان ولا مشيد الجوانب والأركان
(أما أولا) فلاعتمادهم في التمييز بين أسماء الرواة المشتركة على الأوصاف والألقاب
والنسب والراوي والمروي عنه ونحوها ، ولم لا يجوز اشتراك هذه الأشياء؟ وذلك ، لان
الرواة عنهم (عليهمالسلام) ليسوا محصورين في عدد مخصوص ولا في بلدة واحدة ، وقد
نقل الشيخ المفيد (ره) في إرشاده : ان الذين رووا عن الصادق (ع) خاصة من الثقات
على اختلافهم في الآراء والمقالات كانوا أربعة آلاف رجل. ونحو ذلك ذكر ابن شهرآشوب
في كتاب معالم العلماء. والطبرسي في كتاب اعلام الورى ، والجميع قد وصفوا هؤلاء
الأربعة آلاف بالتوثيق وهو مؤيد لما ادعيناه ومشيد لما أسسناه ، فإذا كان هؤلاء
الرواة عن الصادق (عليهالسلام) خاصة فما بالك بالرواة عن الباقر إلى العسكري (عليهمالسلام)؟ فأين تأثير القرائن في هذه الاعداد؟ واين الوصول الى
تشخيص المطلوب منها والمراد؟ (واما ثانيا) فلان مبنى تصحيح الحديث عندهم على نقل
توثيق رجاله في أحد كتب المتقدمين. ككتاب الكشي. والنجاشي. والفهرست ، والخلاصة.
ونحوها ، نظرا الى ان نقلهم ذلك شهادة منهم بالتوثيق ، حتى ان المحقق الشيخ حسن في
كتاب المنتقى لم يكتف في تعديل الراوي بنقل واحد من هؤلاء بل أوجب في تصحيح الحديث
نقل اثنين منهم لعدالة الراوي ، نظرا إلى انها شهادة فلا يكفي فيها الواحد.
وأنت خبير بما
بين مصنفي تلك الكتب وبين رواة الاخبار من المدة والأزمنة المتطاولة فكيف اطلعوا
على أحوالهم الموجب للشهادة بالعدالة أو الفسق؟ والاطلاع على ذلك ـ بنقل ناقل أو
شهرة أو قرينة حال أو نحو ذلك كما هو معتمد مصنفي تلك الكتب في الواقع ـ لا يسمى
شهادة. وهم قد اعتمدوا على ذلك وسموه شهادة ، وهب
ان ذلك كاف في الشهادة ، لكن لا بد في العمل بالشهادة من السماع من الشاهد
لا بمجرد نقله في كتابه ، فإنه لا يكفي في كونه شهادة ، هب انا سلمنا الاكتفاء به
في ذلك. فما الفرق بين هذا النقل في هذه الكتب وبين نقل أولئك ـ الأجلاء الذين هم
أساطين المذهب ـ صحة كتبهم وانها مأخوذة عن الصادقين (عليهمالسلام)؟ فيعتمد عليهم في أحدهما دون الآخر (واما ثالثا)
فلمخالفتهم أنفسهم فيما قرروه من ذلك الاصطلاح فحكموا بصحة أحاديث هي باصطلاحهم
ضعيفة كمراسيل ابن ابي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وغيرهما. زعما منهم ان هؤلاء لا
يرسلون إلا عن ثقة. ومثل أحاديث جملة من مشايخ الإجازة لم يذكروا في كتب الرجال
بمدح ولا قدح. مثل احمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ، واحمد بن محمد بن يحيى
العطار ، والحسين بن الحسن بن ابان ، وابي الحسين ابن ابي جيد. وأضرابهم. زعما
منهم ان هؤلاء مشايخ الإجازة وهم مستغنون عن التوثيق. وأمثال ذلك كثير يظهر
للمتتبع (واما رابعا) فلاضطراب كلامهم في الجرح والتعديل على وجه لا يقبل الجمع
والتأويل ، فترى الواحد منهم يخالف نفسه فضلا عن غيره ، فهذا يقدم الجرح على
التعديل ، وهذا يقول لا يقدم إلا مع عدم إمكان الجمع ، وهذا يقدم النجاشي على
الشيخ ، وهذا ينازعه ويطالبه بالدليل. وبالجملة : فالخائض في الفن يجزم بصحة ما
ادعيناه ، والبناء من أصله لما كان على غير أساس كثر الانتقاض فيه والالتباس.
(السادس) ـ ان
أصحاب هذا الاصطلاح قد اتفقوا على ان مورد التقسيم إلى الأنواع الأربعة إنما هو
خبر الواحد العاري عن القرائن. وقد عرفت ـ من كلام أولئك الفضلاء المتقدم نقل
كلامهم ، وبذلك صرح غيرهم ايضا ـ ان اخبار كتبنا المشهورة محفوفة بالقرائن الدالة
على صحتها. وحينئذ يظهر عدم وجود مورد التقسيم المذكور في اخبار هذه الكتب. وقد
ذكر صاحب المنتقى : ان أكثر أنواع الحديث المذكورة في دراية الحديث بين المتأخرين
من مستخرجات العامة بعد وقوع معانيها
في أحاديثهم وانه لا وجود لأكثرها في أحاديثنا. وأنت إذا تأملت بعين الحق
واليقين وجدت التقسيم المذكور من هذا القبيل. الى غير ذلك من الوجوه التي انهيناها في كتاب المسائل إلى اثني عشر وجها ،
وطالب الحق المصنف تكفيه الإشارة والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة.
__________________
(تتمة مهمة)
قد اشتهر بين
أكثر متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) قصر العمل بالاخبار على ما في هذه الكتب
الأربعة المشهورة ، زعما منهم ان غيرها لم يبلغ في الضبط والانتقاد على وجه يوجب
الاعتماد على مثله. وقد علت ـ مما قدمنا من كلام شيخنا البهائي (رحمهالله) في الوجيزة ، ومثله ايضا شيخنا الشهيد في الذكرى مما
طويناه في أثناء كلامه المتقدم ذكره ـ عدم الانحصار في الكتب المشار إليها ، وهو
الحق الحقيق بالاتباع ، قال السيد المحدث السيد نعمة الله الجزائري (طيب الله
مرقده) في مقدمات شرحه على التهذيب : «والحق ان هذه الأصول الأربعة لم تستوف
الأحكام كلها ، بل قد وجدنا كثيرا من الأحكام في غيرها ، مثل عيون أخبار الرضا.
والأمالي ، وكتاب الاحتجاج ، ونحوها. فينبغي مراجعة هذه الكتب وأخذ الأحكام منها
ولا يقلد العلماء في فتاويهم ، فإن أخذ الفتوى من دليلها هو الاجتهاد الحقيقي ،
وكم قد رأينا جماعة من العلماء ردوا على الفاضلين بعض فتاويهم لعدم الدليل فرأينا
دلائل تلك الفتاوى في غير الأصول الأربعة ، خصوصا كتاب الفقه الرضوي الذي اتي به
من بلاد الهند في هذه الأعصار إلى أصفهان وهو الآن في خزانة شيخنا المجلسي ، فإنه
قد اشتمل على مدارك كثيرة للاحكام وقد خلت عنها هذه الأصول الأربعة وغيرها» انتهى
كلامه زيد مقامه. ولقد أجاد فيما حرر وفصل وأشاد وطبق المفصل وعليه المعتمد
والمعول. ولقد وفق الله تعالى شيخنا غواص بحار الأنوار الى استخراج كنوز تلك
الآثار فجمعها في جامعه المشهور ب (البحار) بعد التقاطها من جميع الأقطار ، جزاه
الله تعالى عن علماء الفرقة المحقة أفضل جزاء الأبرار. وقد جمع فيه أخبارا جمة من
الأصول المندرسة وأظهر كنوزا من الأحكام كانت بمرور الأيام منطمسة. ومن جملتها
كتاب الفقه الرضوي الذي ذكره السيد المتقدم ذكره. قال شيخنا المشار إليه في مقدمات
كتاب البحار
في ضمن تعداد الكتب التي نقل منها ما لفظه : «كتاب فقه الرضا (عليهالسلام) أخبرني به السيد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين (طاب
ثراه) بعد ما ورد أصفهان. قال : قد اتفق في بعض سني مجاورتي ببيت الله الحرام ان
أتاني جماعة من أهل قم حاجين. وكان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا (عليهالسلام). وسمعت الوالد (رحمهالله) انه قال : سمعت السيد يقول : كان عليه خطه (صلوات الله
عليه) وكان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء. وقال السيد : حصل لي العلم بتلك
القرائن أنه تأليف الإمام (عليهالسلام) وأخذت الكتاب وكتبته وصححته. فأخذ والدي (قدس الله
روحه) هذا الكتاب من السيد واستنسخه وصححه. وأكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق
أبو جعفر بن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند وما يذكره والده في
رسالته اليه ، وكثير من الأحكام ـ التي ذكرها أصحابنا ولا يعلم مستندها ـ مذكورة
فيه كما ستعرف في أبواب العبادات» انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه.
أقول : وما
ذكره (قدسسره) ـ من مطابقة كلام الصدوق في الفقيه ووالده في رسالته
لما في الكتاب المذكور ـ قد وقفت عليه في غير موضع وسيمر بك ان شاء الله تعالى في
كتابنا هذا ، وقد اعتمدنا في الاستدلال في كتابنا هذا على ما اعتمده شيخنا المذكور
من الكتب المعدودة في كتابه ، وستمر بك اخبارها في أثناء الأبحاث ان شاء الله
تعالى.
المقدمة الثالثة
في مدارك
الأحكام الشرعية ، وهي عند الأصوليين أربعة : (الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل)
وحيث تقدم مجمل الكلام في السنة يبقى الكلام هنا في مقامات ثلاثة :
(المقام الأول) ـ في الكتاب العزيز ، ولا خلاف بين أصحابنا الأصوليين في العمل به في
الأحكام الشرعية والاعتماد عليه حتى صنف جملة منهم كتبا في الآيات المتعلقة بالأحكام
الفقهية وهي خمسمائة آية عندهم ، واما الأخباريون فالذي وقفنا عليه من كلام
متأخريهم ما بين إفراط وتفريط. فمنهم من منع فهم شيء منه مطلقا حتى مثل قوله «قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ» إلا بتفسير من أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم) ومنهم
من جوز ذلك حتى كاد يدعي المشاركة لأهل العصمة (عليهمالسلام) في تأويل مشكلاته وحل مبهماته.
والتحقيق في
المقام ان الأخبار متعارضة من الجانبين ومتصادمة من الطرفين ، إلا ان اخبار المنع أكثر عددا وأصرح دلالة.
ففي جملة منها
ـ قد ورد في تفسير قوله تعالى «ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا الآية» ـ دلالة على اختصاص ميراث الكتاب بهم (عليهمالسلام) وجملة في تفسير قوله تعالى : «بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...» بأن
__________________
المراد بهم الأئمة (صلوات الله عليهم) ، وجملة في تفسير «قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» قال : إيانا عنى. ومثل ذلك في تفسير قوله سبحانه : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ ...» . وكذا في تفسير قوله تعالى : «وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ...» .
وفي جملة من
تلك الاخبار : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن».
وفي مناظرة
الشامي لهشام بن الحكم بمحضر الصادق (عليهالسلام) المروية في الكافي وغيره : «قال هشام : فبعد رسول صلىاللهعليهوآله من الحجة؟ قال الشامي : الكتاب والسنة. فقال هشام : فهل
نفعنا الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي : نعم. قال هشام : فلم
اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ فسكت الشامي. فقال أبو
عبد الله (عليهالسلام) للشامي ما لك لا تتكلم؟ فقال الشامي : ان قلت لم نختلف
كذبت وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت ، لأنهما يحتملان الوجوه
، الى ان قال الشامي : والساعة من الحجة؟ فقال هشام : هذا القاعد الذي تشد اليه
الرحال ويخبرنا باخبار السماء.» الحديث. ولا يخفى ما فيه من الصراحة.
وفي بعض آخر : «قال السائل : أو ما يكفيهم القرآن؟ قال (عليهالسلام) : بلى لو وجدوا له مفسرا. قال : أو ما فسره رسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال :
__________________
بلى فسره لرجل واحد وفسر للأمة شأن ذلك الرجل.» الحديث.
وفي آخر «انما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ولقوم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه. واما غيرهم فما أشد
إشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم ، الى ان قال : وإنما أراد الله بتعميته في
ذلك ان ينتهوا الى بابه وصراطه ويعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه
والناطقين عن امره وان يستنبطوا ما احتاجوا اليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.».
الحديث .
ويدل على ذلك
الحديث المتواتر بين العامة والخاصة من قوله (صلىاللهعليهوآله) «اني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ،
لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». فان الظاهر ان المراد من عدم افتراقهما إنما هو
باعتبار الرجوع في معاني الكتاب إليهم (صلوات الله عليهم) وإلا لو تم فهمه كلا أو
بعضا بالنسبة إلى الأحكام
__________________
الشرعية والمعارف الآلهية بدونهم لصدق الافتراق ولو في الجملة.
ويؤيد ذلك ايضا
قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : «القرآن كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله
الناطق» . فلو فهم معناه بدونه (عليهالسلام) لم يكن لوصفه بكونه صامتا معنى .
ولا يخفى على
الفطن المنصف صراحة هذه الأدلة في المدعى ، وظني ان ما يقابلها مع تسليم التكافؤ
لا صراحة له في المعارضة.
فمن ذلك ـ الأخبار
الواردة بعرض الحكم المختلفة فيه الأخبار على القرآن والأخذ بما يوافقه وطرح ما
يخالفه. ووجه الاستدلال انه لو لم يفهم منه شيء إلا بتفسيرهم (عليهمالسلام) انتفى فائدة العرض. والجواب انه لا منافاة ، فإن
تفسيرهم (عليهمالسلام) إنما هو حكاية مراد الله تعالى فالأخذ بتفسيرهم أخذ
بالكتاب ، واما ما لم يرد فيه تفسير عنهم (صلوات الله عليهم) فيجب التوقف فيه
وقوفا على تلك الأخبار وتقييدا لهذه الاخبار بها.
ومن ذلك الآيات
، كقوله سبحانه : «وَنَزَّلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ...» وقوله : «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
...» وقوله : «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
__________________
يَسْتَنْبِطُونَهُ
...» وقوله : «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ
عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» .
والجواب ان
الآيتين الأوليين لا دلالة فيهما على أكثر من استكمال القرآن لجميع الأحكام وهو
غير منكور ، وأما كون فهم الأحكام مشتركا بين كافة الناس كما هو المطلوب
بالاستدلال فلا ، كيف؟ وجل آيات الكتاب سيما ما يتعلق بالفروع الشرعية كلها ما بين
مجمل ومطلق وعام ومتشابه لا يهتدى منه ـ مع قطع النظر عن السنة ـ إلى سبيل. ولا
يركن منه الى دليل. بل قد ورد من استنباطهم (عليهمالسلام) جملة من الأحكام من الآيات ما لا يجسر عليه سواهم ولا
يهتدى إليه غيرهم ، وهو مصداق ما تقدم من قولهم : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال
من تفسير القرآن». كالأخبار الدالة على حكم الوصية بالجزء من المال ، حيث فسره (عليهمالسلام) بالعشر مستدلا بقوله سبحانه : «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى
كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ...» وكانت الجبال عشرة ، والوصية بالسهم. حيث فسره بالثمن
لقوله سبحانه : «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... الآية» والنذر بمال كثير. حيث فسره (عليهالسلام) بالثمانين لقوله تعالى : «فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...» وكانت ثمانين موطنا ، وأمثال ذلك مما يطول به الكلام.
واما الآية
الثالثة فظاهر سياق ما قبلها وهو قوله : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ ...» يدل على كون المستنبطين هم الأئمة (عليهمالسلام) وبذلك توافرت الأخبار عنهم (عليهمالسلام) ، ففي الجوامع عن الباقر (عليهمالسلام) : «هم الأئمة المعصومون». والعياشي عن الرضا (عليهالسلام) : «يعني آل محمد وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون
الحلال والحرام». وفي الإكمال عن الباقر (عليهالسلام) مثل ذلك. وقد تقدم في بعض الاخبار التي قدمناها ما
يشعر
__________________
بذلك ايضا. واما الآية الرابعة فانا ـ كما سيتضح لك ـ لا نمنع فهم شيء من
القرآن بالكلية ليمتنع وجود مصداق الآية ، فإن دلالة الآيات ـ على الوعد والوعيد
والزجر لمن تعدى الحدود الإلهية والتهديد ـ ظاهر لامرية فيه ، وهو المراد من
التدبر في الآية كما ينادي عليه سياق الكلام.
والقول الفصل
والمذهب الجزل في ذلك ما أفاده شيخ الطائفة (رضوان الله عليه) في كتاب التبيان
وتلقاه بالقبول جملة من علمائنا الأعيان ، حيث قال بعد نقل جملة من اخبار الطرفين
ما ملخصه : والذي نقول : ان معاني القرآن على أربعة أقسام : (أحدها) ـ ما اختص
الله تعالى بالعلم به. فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه (وثانيها) ـ ما يكون ظاهره
مطابقا لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه. مثل قوله : «وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالْحَقِّ ...» (وثالثها) ـ ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به
مفصلا مثل قوله «أَقِيمُوا
الصَّلاةَ ...» ثم ذكر جملة من الآيات التي من هذا القبيل وقال : انه لا
يمكن استخراجها إلا ببيان من النبي (صلىاللهعليهوآله) (ورابعها) ـ ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد
عليهما ويمكن ان يكون كل واحد منهما مرادا. فإنه لا ينبغي ان يقدم أحد فيقول ان
مراد الله بعض ما يحتمله إلا بقول نبي أو إمام معصوم ، الى آخر كلامه «زيد في
إكرامه» وعليه تجتمع الاخبار على وجه واضح المنار. ويؤيده ما رواه في الاحتجاج
__________________
عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) في حديث الزنديق الذي جاء اليه بآي من القرآن زاعما تناقضها.
حيث قال (عليهالسلام) في أثناء الحديث : «ان الله جل ذكره لسعة رحمته ورأفته
بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل قسما
منه يعرفه العالم والجاهل. وقسما منه لا يعرفه إلا من صف ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه
ممن شرح الله صدره للإسلام. وقسما لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم
، وإنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل المستولون على ميراث رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم ، وليقودهم
الاضطرار الى الائتمار لمن ولاه أمرهم. الى أن قال : فاما ما علمه الجاهل والعالم
من فضل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من كتاب الله. فهو قوله سبحانه : «مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ...» وقوله : «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً» ولهذه الآية ظاهر وباطن. فالظاهر هو قوله : (صَلُّوا عَلَيْهِ) والباطن (يُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً) اي سلموا ـ لمن وصاه واستخلفه عليكم ـ فضله وما عهد
اليه تسليما. وهذا مما أخبرتك انه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه وصفا ذهنه وصح
تمييزه ، وكذلك قوله «سلام على آل يس» لأن الله سمى النبي (صلى الله
__________________
عليه وآله) بهذا الاسم. حيث قال «يس وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» لعلمه انهم يسقطون «سلام على آل محمد» كما أسقطوا غيره.
الحديث».
(أقول) :
والقسم الثاني من كلام الشيخ (قدسسره) هو الأول من كلامه (صلوات الله عليه) وهو الذي يعرفه
الجاهل والعالم ، وهو ما كان محكم الدلالة. وهذا مما لا ريب في صحة الاستدلال به
والمانع مكابر. والقسم الرابع من كلامه (رضوان الله عليه) هو الثاني من كلامه (صلوات
الله عليه) وهو الذي لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه ، والظاهر انه أشار بذلك
إلى الأئمة (عليهمالسلام) ، فإنهم هم المتصفون بتلك الصفات على الحقيقة ، وان
ادعى بعض من أشرنا إليه آنفا دخوله في ذلك ، والآيات ـ التي جعلها (عليهالسلام) من هذا القسم ـ دليل على ذلك. فإنها كما أشار إليه (صلوات
الله عليه) من التفسير الباطن الذي لا يمكن التهجم عليه إلا من جهتهم (لا يقال) :
انه يلزم اتحاد القسم الثاني من كلامه (صلوات الله عليه) بما بعده. لكون القسم
الثالث ايضا من المعلوم لهم (عليهمالسلام) (لأنا نقول) : الظاهر تخصيص القسم الثالث بعلم الشرائع
الذي يحتاج الى توقيف ، وانه لا يعلمه إلا هو (جل شأنه) أو أنبياؤه بالوحي إليهم
وان علمه الأئمة (عليهمالسلام) بالوراثة من الأنبياء. بخلاف الثاني. فإنه مما
يستخرجونه بصفاء جواهر أذهانهم ويستنبطونه بإشراق لوامع إفهامهم ، وحينئذ فالقسم
الثالث من كلام الشيخ (قدسسره) هو الثالث من كلامه (صلوات الله عليه) ولعل عدم ذكره (صلوات
الله عليه) للقسم الأول من كلام الشيخ لقلة أفراده في القرآن المجيد إذ هو مخصوص
بالخمسة المشهورة ، أو أن الغرض التام إنما يتعلق بذكر الأقسام التي أخفاها (جل
شأنه) عن تطرق تغيير المبدلين وان ذكر معها القسم الأول استطرادا ، ومرجع هذا
الجمع الذي ذكره الشيخ (قدسسره) الى حمل أدلة الجواز على القسم الثاني من كلامه (طاب
ثراه) واخبار المنع على ما عداه. واما ما يفهم من كلام المحدث الكاشاني (قدسسره) ـ في المقدمة الخامسة من كتاب الصافي من الجمع بين
الاخبار بالحمل على تفاوت مراتب الناس في الاستعداد والوصول الى تحصيل
المقصود منه والمراد ـ فظني بعده عن سياق الأخبار. فإن أخبار المنع ـ كما عرفت من
الشطر الذي قدمناه منها ـ قد دلت على الاختصاص بالأئمة (عليهمالسلام). وادعاء مزاحمتهم (صلوات الله عليهم) في تلك المرتبة
يحتاج إلى جرأة عظيمة. ومن أراد تحقيق الحال والإحاطة بأطراف المقال فليرجع الى
كتابنا الدرر النجفية.
(المقام الثاني) ـ في الإجماع. ومجمل الكلام فيه ما افاده المحقق (طاب ثراه) في
المعتبر واقتفاه فيه جمع ممن تأخر ، قال (قدسسره) : «وأما الإجماع فهو عندنا حجة بانضمام المعصوم. فلو
خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة ، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة ،
لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله (عليهالسلام). فلا تغتر إذا بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة
والعشرة من الأصحاب مع جهلة قول الباقين» انتهى. وحينئذ فالحجة هو قوله (عليهالسلام) لا مجرد الاتفاق ، فيرجع الكلام ـ على تقدير ثبوت
الإجماع المذكور ـ الى خبر ينسب الى المعصوم (عليهالسلام) إجمالا. وترجيحه على الاخبار المنسوبة إليه تفصيلا غير
معقول. وكأنهم زعموا ان انتسابه إليه في ضمن الإجماع قطعي ولا في ضمنه ظني. وهو
ممنوع. على ان تحقق هذا الإجماع في زمن الغيبة متعذر. لتعذر ظهوره (عليهالسلام) وعسر ضبط العلماء على وجه يتحقق دخول قوله في جملة
أقوالهم. إلا أن ينقل ذلك بطريق التواتر والآحاد المشابه له نقلا مستندا الى الحس
، بمعاينة اعمال جميع من يتوقف انعقاد الإجماع عليه ، أو سماع أقوالهم على وجه لا
يمكن حمل القول والعمل على نوع من التقية ونحوها. ودونه خرط القتاد. لما يعلم
يقينا من تشتت العلماء وتفرقهم في أقطار الأرض بل انزوائهم في بلدان المخالفين
وحرصهم على ان لا يطلع أحد على عقائدهم ومذاهبهم.
وما يقال ـ من
انه إذا وقع إجماع الرعية على الباطل يجب على الامام ان يظهر
ويباحثهم حتى يردهم إلى الحق لئلا يضل الناس ، أو انه يجوز ان تكون هذه
الأقوال ـ المنقولة في كتب الفقهاء التي لا يعرف قائلها ـ قولا للإمام (عليهالسلام) ألقاه بين أقوال العلماء حتى لا يجتمعوا على الخطأ كما
ذهب اليه بعض المتأخرين ، حتى انه (قدسسره) كان يذهب الى اعتبار تلك الأقوال المجهولة القائل لذلك
ـ فهو مما لا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه. وعلى هذا فليس في عد
الإجماع في الأدلة إلا مجرد تكثير العدد واطالة الطريق ، لأنه ان علم دخوله (عليهالسلام) فلا بحث ولا مشاحة في إطلاق اسم الإجماع عليه وإسناد
الحجة اليه ولو تجوزا ، وإلا فإن ظن ولو بمعاضدة خبر واحد فكذلك ، وإلا فليس نقل
الإجماع بمجرده موجبا لظن دخول المعصوم (عليهالسلام) ولا كاشفا عنه كما ذكروه. نعم لو انحصر حملة الحديث في
قوم معروفين أو بلدة محصورة في وقت ظهوره (عليهالسلام) كما في وقت الأئمة الماضين (صلوات الله عليهم أجمعين)
اتجه القول بالحجية. ويقرب منه ايضا ما لو أفتى ـ جماعة من الصدر الذي يقرب منهم
كعصر الصدوق وثقة الإسلام الكليني (عطر الله مرقدهما) ونحوهما من أرباب النصوص ـ بفتوى
لم نقف فيها على خبر ولا مخالف منهم ، فإنه أيضا مما يقطع بحسب العلم العادي فيها
بالحجية ودخول قول المعصوم (عليهالسلام) فيهم لوصول نص لهم في ذلك ، ومن هنا نقل جمع من
أصحابنا
__________________
ان المتقدمين كانوا إذا اعوزتهم النصوص في المسألة يرجعون الى فتاوى علي بن
الحسين ابن بابويه.
وممن صرح
بامتناع انعقاد الإجماع في زمن الغيبة المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ، حيث قال
: «الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة
النقل ، إذ لا سبيل الى العلم بقول الامام (عليهالسلام) كيف؟ وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ، ليدخل
في جملتهم ويكون قوله مستورا بين أقوالهم ، وهذا مما يقطع بانتفائه ، فكل إجماع ـ يدعى
في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ الى زماننا هذا وليس مستندا الى نقل متواتر
أو آحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم ـ فلا بد ان يراد به ما ذكره
الشهيد من الشهرة. واما الزمان السابق على ما ذكرناه المقارب لعصر ظهور الأئمة (عليهمالسلام) وإمكان العمل بأقوالهم ، فيمكن فيه حصول الإجماع
والعلم به بطريق التتبع والى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف ، حيث قال :
الإنصاف انه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمان الصحابة. حيث كان
المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل» انتهى كلام المحقق المذكور (منحه
الله تعالى البهجة والسرور).
والتحقيق ان
أساطين الإجماع كالشيخ والمرتضى وابن إدريس وأضرابهم قد كفونا مؤنة القدح فيه
وإبطاله بمناقضاتهم بعضهم بعضا في دعواه. بل مناقضة الواحد منهم نفسه في ذلك كما
لا يخفى على المتتبع البصير. ولا ينبئك مثل خبير. ولقد كان عندي رسالة. الظاهر
انها لشيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) كتبها في الإجماعات التي ناقض الشيخ فيها نفسه. وقد
ذهبت في بعض الحوادث التي جرت على جزيرتنا البحرين.
(فان قيل) : ان
بعض الاخبار مما يدل على حجية الإجماع واعتباره ، كمقبولة عمر
ابن حنظلة حيث قال السائل : «فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ليس
يتفاضل واحد منهما على صاحبه؟ فقال (عليهالسلام) : ينظر الى ما كان ـ من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما
به ـ المجمع عليه أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند
أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه».
وما رواه في
الكافي في باب إبطال الرؤية في الصحيح عن صفوان ، قال : «سألني أبو قرة المحدث أن
ادخله على ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) الى أن قال : فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات؟ فقال
أبو الحسن (عليهالسلام) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما اجمع
عليه المسلمون انه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار. الحديث».
وما رواه في
الكافي أيضا في الباب المذكور عن محمد بن عبيد. قال : «كتبت الى ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) اسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة ، وسألته ان
يشرح لي ذلك. فكتب بخطه : اتفق الجميع لا تمانع بينهم ان المعرفة من جهة الرؤية.
الحديث».
(فالجواب) عن
ذلك ممكن إجمالا وتفصيلا. اما الأول فلأن المسألة من الأصول المنوطة بالقطع عندهم.
والاخبار المذكورة لا تخرج عن خبر الآحاد الذي قصاراه الظن عندهم فلا يتم
الاستدلال. واما الثاني فاما عن الخبر الأول (فأولا) ان غاية ما يستفاد منه كون الإجماع
مرجحا لأحد الخبرين على الآخر عند التعارض وهو مما لا نزاع فيه. انما النزاع في
كونه دليلا مستقلا برأسه. والخبر لا يدل عليه. (وثانيا) فان ظاهره بل صريحه كون
الإجماع في الرواية وهو مما لا نزاع فيه. لا في الفتوى كما هو المطلوب
__________________
بالاستدلال. واما عن الأخيرين فيمكن (أولا) الحمل على كون الاستدلال جدليا
إلزاميا للخصم القائل بجواز الرؤية بالإجماع الذي يعتقد حجيته على ما ينافي مدعاه
من جوازها. و (ثانيا) بأنه على تقدير دلالتهما على الحجية في الجملة فلا دلالة
لهما على العموم في الأمور العقلية والنقلية ، إذ متعلق الاستدلال هنا الأمور
العقلية. والجواب ـ بأنه لا قائل بالفرق ـ مردود بان اللازم من ذلك الاستدلال بفرع
من فروع حجية الإجماع قبل ثبوت أصل حجيته. على ان المفهوم ـ من رسالة الصادق (عليهالسلام) التي كتبها لشيعته وأمرهم بتعاهدها والعمل بما فيها
المروية في روضة الكافي بأسانيد ثلاثة ـ ان أصل الإجماع من مخترعات العامة
وبدعهم ، قال (عليهالسلام) : «وقد عهد إليهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قبل موته فقالوا : نحن بعد ما قبض الله تعالى رسوله
يسعنا أن نأخذ ما اجتمع عليه رأي الناس بعد قبض رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الى أن قال (عليهالسلام) : فما أحد اجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك
وزعم ان ذلك يسعه. الحديث».
وبالجملة :
فإنه لا شبهة ولا ريب في انه لا مستند لهذا الإجماع من كتاب ولا سنة. وإنما يجري
ذلك على مذاق العامة ومخترعاتهم ، ولكن جملة من أصحابنا قد تبعوهم فيه غفلة ، كما
جروا على جملة من أصولهم في مواضع عديدة مع مخالفتها لما هو المستفاد من الاخبار ،
كما سيظهر لك إن شاء الله في ضمن مباحث هذا الكتاب.
وقد نقل المحدث
السيد نعمة الله الجزائري (قدسسره) ـ عن بعض مشايخه في بيان وجه العذر لمشايخنا المتقدمين
في اختلاف الإجماعات المنقولة عنهم ـ ما ملخصه : أن الأصول التي كان عليها المدار
وهي التي انتخبوا منها كتب الحديث المشهورة الآن كانت بأيديهم ، وإنما حدث فيها
التلف والاضمحلال من زمان ابن إدريس لأسباب
__________________
ذكرها ، وكانوا ـ بملاحظة ما اشتملت عليه جميعها أو أكثرها من الأحكام ـ يدعون
عليه الإجماع. وربما اختلفت الأخبار في ذلك الحكم بالتقية وعدمها والجواز والكراهة
ونحوها ، فيدعي كل منهم الإجماع على ما يؤدي إليه نظره وفهمه من تلك الأخبار بعد
اشتمال أكثر تلك الأصول أو كلها على الأخبار المتعلقة بما يختاره ويؤدي إليه نظره.
(أقول) : وعندي
ان هذا الاحتمال ليس ببعيد ، فان الظاهر ان مبدأ التفريع في الأحكام والاستنباط
إنما هو من زمن المرتضى والشيخ (رضوان الله عليهما) فان كتب من تقدمهما من المشايخ
إنما اشتملت على جمع الاخبار وتأليفها ، وان كان بعضها قد اشتمل على مذهب واختيار
في المسألة ، فإنما يشار إليه في عنوان الأبواب وينقل ما يخصه من الاخبار ، كما لا
يخفى على من لاحظ الكافي والفقيه ونحوهما من كتب الصدوق وغيره وكذلك ايضا فتاويهم
المحفوظة عنهم لا تخرج عن موارد الاخبار ، وحينئذ فنقل الشيخ والسيد (قدسسرهما) إجماع الطائفة على الحكم مع كون عمل الطائفة إنما هو
على ما ذكرنا من الأخبار وكونهما على اثر أولئك الجماعة الذين هذه طريقتهم من غير
فاصلة ، فكيف يصح حمل ما يدعونه من الإجماع على الإجماع في الفتوى وان كان من غير
خبر؟ بل الظاهر إنما هو الإجماع في الاخبار. الا ترى ان الشيخ في الخلاف والمرتضى
في الانتصار إنما استندا في الاستدلال الى مجرد الإجماع وجعلوه هو المعتمد
والمعتبر مع كون الأخبار بمرأى منهم ومنظر ، وليس ذلك إلا لرجوعه إليها وكونه
عبارة عن الإجماع فيها. وهذا أحد الوجوه التي اعتذر بها شيخنا الشهيد في الذكرى عن
اختلافهم في تلك الإجماعات. وهو أظهرها وان جعله آخرها.
(المقام الثالث) ـ في دليل العقل ، وفسره بعض بالبراءة الأصلية والاستصحاب ، وآخرون قصروه
على الثاني ، وثالث فسره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب ، ورابع بعد
البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج
فيه مقدمة الواجب واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص والدلالة
الالتزامية ولا بد لنا ان نتكلم على ما لا بد منه في مطالب :
(المطلب الأول) ـ في البراءة الأصلية ، اعلم ان الأصل ـ كما ذكره جملة من الفضلاء ـ يطلق على
معان (أحدها) ـ الدليل كما يقال : الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة و (ثانيها)
ـ الراجح كقولهم : الأصل في الكلام الحقيقة و (ثالثها) ـ القاعدة كقولهم : الأصل
في البيع اللزوم ، والأصل في تصرفات المسلمين الصحة.
و (رابعها) ـ الاستصحاب
كقولهم : إذا تعارض الأصل والظاهر فالأصل مقدم. والأصل فيما نحن فيه اما بمعنى
الراجح ، والمراد منه ما يترجح إذا خلى الشيء ونفسه ، بمعنى انه متى لوحظت الذمة
من حيث هي هي مع قطع النظر عن التكليفات فان الراجح براءتها ، كما في قولهم :
الأصل في الكلام الحقيقة ، بمعنى ان الراجح ذلك لو خلي الكلام ونفسه من غير قرينة
صارفة عن معناه الموضوع له. ويحتمل ان يكون الأصل هنا ايضا بمعنى استصحاب الحالة
التي كان عليها الشيء قبل التكليف أو قبل حال الاختلاف كاستصحاب براءة الذمة قبل
ذلك. ومن هنا صرح بعضهم بان الوجه في التمسك بالبراءة الأصلية من حيث ان الأصل في
الممكنات العدم.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان المعنى الأول من هذه المعاني مما لا اشكال ولا خلاف فيه ، وكذا الثاني في
غير البراءة الأصلية. واما فيها ففيه ما سيتضح لك من التفصيل
__________________
ان شاء الله تعالى. واما الثالث فان كانت تلك القاعدة مستفادة من الكتاب
والسنة فلا إشكال في صحة البناء عليها ، ومنه قولهم : الأصل في الأشياء الطهارة ،
أي القاعدة المستفادة من النصوص ـ وهي قولهم (عليهمالسلام) : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر» ـ تقتضي طهارة كل شيء ، واما الرابع فهو محل الاختلاف
في المقام ومرمى سهام النقض والإبرام.
ثم انه يجب ان
يعلم ان الأصل بمعنى النفي والعدم إنما يصح الاستدلال به ـ على تقديره ـ على نفي
الحكم الشرعي لا على إثباته ، ولهذا لم يذكر الأصوليون البراءة الأصلية في مدارك
الأحكام الشرعية ، وحينئذ فإذا كانت أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمة من جهة أخرى
امتنع الاستدلال بها ، كما إذا علم نجاسة أحد الثوبين أو الإناءين بعينه واشتبه
بالآخر ، فإنه لا يصح الاستدلال على طهارة كل واحد منهما بان يقال : الأصل عدم
نجاسته ، فإنه ينتج من ذلك الحكم بطهارتهما ويلزم منه اشتغال الذمة بالنجاسة
لمعلوميتها كما عرفت وان جهل تعيينها ، ولذلك فروع كثيرة في أبواب
__________________
الفقه يقف عليها المتدبر. والسر في ذلك ان حجية الأصل في النفي والعدم إنما
هو من حيث لزوم قبح تكليف الغافل كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى ، وهذا لا يجري
في إثبات الحكم به ، ولا دليل سوى ذلك ، فيلزم إثبات حكم بلا دليل.
إذا تقرر ذلك
فاعلم ان البراءة الأصلية على قسمين : (أحدهما) ـ انها عبارة عن نفي الوجوب في فعل
وجودي الى ان يثبت دليله ، بمعنى ان الأصل عدم الوجوب حتى يثبت دليله. وهذا القسم
مما لا خلاف ولا إشكال في صحة الاستدلال به والعمل عليه ، إذ لم يذهب أحد الى أن
الأصل الوجوب ، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق وللأخبار الدالة على ان «ما حجب
الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» . و «الناس في سعة ما لم يعلموا» . و «رفع القلم عن تسعة أشياء ، وعد منها
__________________
ما لا يعلمون» . و (ثانيهما) ـ انه عبارة عن نفي التحريم في فعل وجودي
الى ان يثبت دليله بمعنى ان الأصل الإباحة وعدم التحريم في ذلك الفعل الى ان يثبت
دليل تحريمه ، وهذه هي البراءة الأصلية التي وقع النزاع فيها نفيا وإثباتا ،
فالعامة كملا وأكثر أصحابنا على القول بها والتمسك في نفي الأحكام بها ، حتى طرحوا
في مقابلتها الأخبار الضعيفة باصطلاحهم بل الأخبار الموثقة ، كما لا يخفى على من
طالع كتبهم الاستدلالية كالمسالك والمدارك ونحوهما ، فالأشياء عندهم اما حلال أو
حرام خاصة ، وجملة علمائنا المحدثين وطائفة من الأصوليين على وجوب التوقف والاحتياط ، فالأشياء
عندهم مبنية على التثليث (حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك) ، وربما نقل ايضا القول بأن الأصل
التحريم الى ان تثبت الإباحة ، وهو ضعيف.
والحق ـ الحقيق
بالاتباع ، وهو المؤيد باخبار أهل الذكر (صلوات الله عليهم) ـ هو القول الثاني ، ولنا
عليه وجوه :
__________________
(الأول) ـ ان
ما عداه قول بلا دليل فيجب إطراحه ، وأدلة الخصم لا تنهض بالدلالة كما سيتضح لك ان
شاء الله تعالى.
(الثاني) ـ استفاضة
الاخبار بان لله في كل واقعة حكما شرعيا مخزونا عند أهله حتى أرش الخدش والجلدة
ونصف الجلدة ، وحينئذ فإذا كان جميع الأحكام قد ورد فيها خطاب شرعي فكيف يصح
التمسك بأصالة العدم والاستدلال به؟ نعم الاستدلال بذلك انما يتجه على مذهب
المخالفين القائلين بأن جميع ما جاء به النبي (صلىاللهعليهوآله) أظهره للصحابة ولم يكتم شيئا منه لا عن الأبيض ولا
الأسود ، ولا خص أحدا دون أحد بشيء من علومه ، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء شيء
مما جاء به (صلىاللهعليهوآله) فالمجتهد إذا فحص وفتش عن الأدلة الشرعية ولم يقف على
دليل ذلك الحكم يجب عنده الجزم بنفي ذلك الحكم ويكون التمسك بالبراءة الأصلية على
نفيه ، كما قالوا : عدم وجود المدرك للحكم الشرعي مدرك شرعي لعدم الحكم ، وبعبارة
أخرى عدم وجود الدليل دليل على العدم. واما عندنا معاشر الإمامية فحيث استفاض في
أخبارنا ـ بل صار من ضروريات ديننا ـ إنه أودع علومه عند أهل بيته وخصهم بها دون
غيرهم ، واستفاض ايضا انه لم يبق شيء من الأحكام جزئي ولا كلي إلا وقد ورد فيه
خطاب شرعي وحكم إلهي وان جميع ذلك عندهم ، وانهم كانوا في زمن تقية وفتنة ، فقد
يجيبون عن السؤال بما هو الحكم الشرعي الواقعي تارة وقد يجيبون بخلافه تقية وقد لا
يجيبون أصلا ، فلا يتجه اجراء هذا الكلام ولا صحته في هذا المقام ، ولا تمام هذه القاعدة ولا ما يترتب عليها من الفائدة
، ولا يمكن التمسك بالعدم الأصلي الذي هو عبارة عن عدم تعلق التكليف
__________________
ووقوعه بالكلية. وما ذكرنا سابقا ـ من صحة الاستدلال بالقسم الأول من قسمي
البراءة الأصلية على نفي الوجوب في فعل وجودي ـ لا باعتبار عدم الحكم واقعا بل
لعدم وصول الحكم وللزوم تكليفنا بذلك مع عدم العلم بالحكم للحرج المنفي بالآية
والرواية ، وللاخبار المشار إليها ثمة. نعم ما ذكروه يتم عندنا فيما تعم به البلوى
من الأحكام كما نبه على ذلك جملة من علمائنا الاعلام واليه أشار المحقق في المعتبر حيث قال في بيان معاني
الاستصحاب : «الثاني ـ ان يقال : عدم الدليل على كذا فيجب نفيه. وهذا يصح فيما
يعلم انه لو كان هناك دليل لظفر به ، اما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف» انتهى.
(الثالث) ـ استفاضة
الأخبار بتثليث الأحكام «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك». ولو تم ما ذكروا من
العمل بالبراءة الأصلية المقتضي لدخول ما دلت عليه في الحلال البين ، لم يبق للقسم
الثالث فرد يندرج تحته ولما كان للتثليث وجه ، بل يتعين القول بالتثنية وهو الحلال
والحرام خاصة ، والاخبار بخلافه.
(الرابع) ـ الأخبار
المتكاثرة بل المتواترة معنى انه مع عدم العلم بالحكم الشرعي يجب السؤال منهم (عليهمالسلام) أو من نوابهم ، والا فالتوقف والوقوف على جادة
الاحتياط. ولو كان للعمل بالبراءة الأصلية أصل في الشريعة لما كان لأمرهم (عليهمالسلام) بالتوقف وجه.
__________________
(الخامس) ـ انه
قد ورد عنهم (عليهمالسلام) جملة من الطرق لترجيح الاخبار كما تقرر في مقبولة عمر
بن حنظلة وغيرها ، ولم يذكروا البراءة الأصلية في جملة تلك الطرق ، بل قد اشتملت
مقبولة عمر بن حنظلة بعد التوافق في جميع طرق الترجيح على الإرجاء حتى يلقى امامه ، معللا له بان «الوقوف في الشبهات خير من الاقتحام في
الهلكات». وحينئذ فإذا كان الواجب مع الاتفاق في جميع تلك الطرق هو ترك الحكم من
كل منهما والتوقف فأي ترجيح بأصالة البراءة التي ذكروها؟ إذ لو كانت دليلا شرعيا
على العدم وموجبة لترجيح ما اعتضد بها لترجح بها هنا أحد الجانبين وما ربما يظهر
من كلام بعض الأجلاء ـ من أن ذلك مخصوص بالمنازعات في الأموال والفرائض والمواريث
كما يعطيه صدر الخبر وهو قول السائل : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو
ميراث». ـ ففيه (أولا) ـ ان خصوص السؤال لا يخصص عموم الجواب كما تقرر عندهم. و (ثانيا)
ـ ان هذه الترجيحات التي ذكرها (عليهالسلام) لم يخصها أحد من الأصحاب بالاخبار المتعارضة في خصوص
هذه الأشياء التي ذكرها بل يجرونها في كل حكم تعارضت فيه الأخبار ، كما لا يخفى
على من جاس خلال تلك الديار وذاق لذيذ تلك الثمار.
احتج بعض فضلاء
متأخري المتأخرين بأن القول بالبراءة الأصلية مما تدل عليه الآية والاخبار ، كقوله
تعالى : «خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» وقول الصادق
__________________
(عليهالسلام) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» . قال : على انا لا نعني بالبراءة الأصلية عدم التكليف
بالكلية ، لظهور فساده بما استفاض في الاخبار انه لا حكم من الأحكام الا وقد ورد
فيه خطاب شرعي ، وانما نعني بها عدم تعلق التكليف بنا وأصالة براءة الذمة منه ،
لعدم الوقوف على دليله ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان. ولعين ما تقدم من الاخبار
المشار إليها في المعنى الأول من معاني البراءة الأصلية. وأجاب بتخصيص الشبهة
والتثليث في الأحكام بما تعارضت فيه الاخبار ، واما ما لم يرد فيه نص فليس من
الشبهة في شيء ، وعلى تقدير تسليم كونه شبهة وشمول تلك الاخبار له يخرج بالأخبار
الدالة على ان
«كل شيء مطلق
حتى يرد فيه نهي» ونحوه.
وما ذكره (قدسسره) محل نظر ، أما الآية المذكورة فالجواب عنها (أولا) ـ ما
عرفت في المقام الأول من ان محل الاستدلال من القرآن العزيز هو ما كان محكم
الدلالة. والآية المذكورة مجملة محتملة لمعان عديدة كما سيظهر لك و (ثانيا) ـ انه
قد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قال : «خلق لكم ما في الأرض
لتعتبروا به. الحديث». وعلى هذا يسقط الاستدلال رأسا و (ثالثا) ـ ان غاية ما تدل
عليه انه (سبحانه) خلق ما في الأرض لأجل منافع العباد الدينية والدنيوية بأي وجه
اتفق ، وذلك لا يستلزم اباحة كل شيء ، ومجرد خلقه للانتفاع لا يستلزم حلية ما لم
يرد في حليته نص ، لجواز الانتفاع به على وجه آخر ، إذ لا شيء من الأشياء إلا
وفيه وجوه عديدة من المنافع. ولئن سلمنا الدلالة فالتخصيص قائم بما قدمنا من
الأخبار كما قد خصت بغيرها مما لا يخالف فيه الخصم.
__________________
واما الرواية
فمن وجوه أيضا عديدة : (أحدها) ـ ان هذا الخبر وما ضاهاه مما استدلوا به اخبار
آحاد لا تفيد إلا الظن ، والمسألة من الأصول المطلوب فيها القطع عندهم. و (ثانيها)
ـ ان هذا الخبر وما شاكله موافق للعامة ، لدلالتها على التثنية في الأحكام بالحل
والتحريم وانه لا وجود للتشابه فيها ، وانه لا توقف ولا احتياط في شيء من الأحكام
كما هو مذهبهم ، والاخبار التي قدمناها دالة على التثليث والتوقف ووجوب الاحتياط
في بعض وهو المتشابه ، وقد تقرر في أخبارنا وجوب الأخذ بخلافهم فان الرشد فيه. و (ثالثها)
ـ ان المفروض في الخبر المذكور عدم وجود النهي وعدم حصول العلم ، والحال ان النهي
موجود فيما أشرنا إليه آنفا من الاخبار وهو النهي عن القول بغير علم في الأحكام
الشرعية والنهي عن ارتكاب الشبهات ، وحصل ايضا العلم منها وهو العمل بالاحتياط في
بعض افراد موضع النزاع والتوقف في بعض ، وعلى هذا يكون مضمون هذا الخبر وأمثاله
مخصوصا بما قبل إكمال الشريعة أو بمن لم يبلغه النهي العام المعارض لهذه الاخبار ،
فيبقى الآن مضمونها غير موجود عند العلماء العارفين بمعارضاتها. و (رابعها) ـ الحمل
على الخطابات الشرعية ، وحاصل معناه : ان كل خطاب شرعي فهو باق على إطلاقه وعمومه
حتى يرد فيه نهي في بعض افراده يخرجه عن ذلك الإطلاق ، مثل قولهم : «كل شيء طاهر
حتى تعلم انه قذر» . و «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم
الحرام بعينه» . ونحو ذلك من القواعد الكلية والضوابط الجلية. و (خامسها)
ـ ان العمل بهذا الخبر وما شابهه خلاف الاحتياط وما يقابلها موافق للاحتياط ، فإنه
لا خلاف في رجحان
__________________
الاحتياط في المقام وإنما الخلاف في وجوبه أو استحبابه ، فالنافون للبراءة
الأصلية على الوجوب والمثبتون لها على الاستحباب ، والأخبار الدالة على الأمر
بالاحتياط في الدين أوضح دلالة وأكثر عددا فالعمل بها أرجح البتة.
وأما قوله :
على انا لا نعني بأصالة البراءة ، الى آخره. فان فيه انه خروج عن ظاهر العبارة بل
عن تصريحاتهم بذلك كما لا يخفى على من راجع كلامهم ، فان مرادهم بالإباحة هي
الإباحة الأصلية التي هي عبارة عن عدم تعلق التكليف ، لكن هذا القائل حيث استشعر
الإيراد بالأخبار التي أشرنا إليها التجأ إلى القول بما ذكره ، مع ان فيه ايضا ان
الإباحة الشرعية أحد الأحكام الشرعية المتوقفة ايضا على الدليل ، ولا دليل على
اباحة ما لا نص فيه ، والآية والخبر اللذان هما عمدة أدلة أولئك القائلين بالحجية
قد عرفت ما فيهما.
وأما الأخبار
التي استند إليها في عدم تعلق التكليف بنا حتى يظهر دليله ، فهي محمولة على المعنى
الأول من معنيي البراءة الأصلية كما ينساق للناظر من ظواهر ألفاظها لا المعنى
الثاني منهما ، لمعارضتها بالأخبار المستفيضة التي أشرنا إليها آنفا من حيث
دلالتها على وجوب الكف والتثبت في كل فعل وجودي لم نقطع بجوازه عند الله تعالى.
واما جوابه ـ بتخصيص
الشبهة والتثليث في الأحكام بما تعارضت فيه الاخبار بناء على ظنه انحصار الدليل في
مقبولة عمر بن حنظلة ونحوها ـ ففيه ان الاخبار دالة على ما هو أعم بل صريحة في
الفرد الذي ندعيه ، ومن ذلك ما رواه في الفقيه من خطبة أمير المؤمنين (عليهالسلام) حيث قال : «ان الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض
فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم
فاقبلوها ، ثم قال (عليهالسلام) : حلال بين وحرام بين وشبهات
__________________
بين ذلك. الحديث». ومن المعلوم ان السكوت عنها إنما هو باعتبار عدم النص
عليها بالكلية. وفي حديث الطيار عن الصادق (عليهالسلام) : «لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون الا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم
فيه على القصد». وبمضمونه أخبار عديدة. وحينئذ فلا يتجه ما ذكره من إخراج ما لم
يرد فيه نص من الشبهة على تقدير شمول تلك الأخبار ، فإن الدليل على دخوله في
الشبهة ليس مختصا بعموم اخبار الشبهة كما توهمه ، بل خصوص هذه الاخبار الناصة عليه
بخصوصه الآمرة بالتوقف فيه والرد إلى أصحاب العصمة (سلام الله عليهم).
واما الاخبار
التي ادعى الاستناد إليها والتخصيص بها فقد عرفت وجه الجواب عنها مفصلا. (المطلب
الثاني) ـ في الاستصحاب ، اعلم انهم صرحوا بان الاستصحاب يقع على أقسام أربعة : (أحدها) ـ استصحاب
نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة منه الى ان يظهر دليله ، وهو المعبر عنه بالبراءة
الأصلية التي تقدم الكلام عليها بمعنييها. و (ثانيها) ـ استصحاب حكم العموم الى ان
يقوم المخصص ، وحكم النص الى ان يرد الناسخ. و (ثالثها) ـ استصحاب إطلاق النص الى
ان يثبت المقيد. و (رابعها) ـ استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم
شمول الحكم لها ، بمعنى انه يثبت حكم في وقت ثم يجيء وقت آخر ولا يقوم دليل على
انتفاء ذلك
__________________
الحكم فيه ، فيحكم ببقائه على ما كان ، استصحابا لتلك الحالة الأولى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه لا خلاف ولا إشكال في حجيته بالمعنى الثاني والثالث ، لان مرجعها الى
الاستدلال بعموم النص وإطلاقه ، وإنما الاشكال والخلاف في أحد معنيي البراءة
الأصلية. وقد تقدم وفي المعنى الرابع ، وهو محل الخلاف في المقام ومنتصل سهام
النقض والإبرام ، فجملة من علمائنا الأصوليين بل أكثرهم على ما نقله البعض على
القول بالحجية ، والمشهور بين المحدثين وجملة من علمائنا الأصوليين ـ بل نقل بعض
انه مذهب أكثرهم ايضا ـ على العدم ، وهو المنقول عن الشيخ والسيد المرتضى والمحقق.
وهو اختيار صاحبي المعالم والمدارك. ومثلوا له بالمتيمم إذا دخل في الصلاة ثم وجد
الماء في أثنائها ، فإن الاتفاق واقع على وجوب المضي فيها قبل الرؤية ، لكن هل
يستمر على فعلها والحال كذلك أم يستأنف؟ مقتضى الاستصحاب الأول.
احتج القائلون
بالحجية بوجوه : (أحدها) ـ ان المقتضي للحكم الأول ثابت والعارض لا يصلح رافعا له
، فيجب الحكم بثبوته في الثاني. وجوابه ان صلاحية العارض للرفع وعدمها فرع الثبوت
في الثاني ، فإن غاية ما دل عليه الدليل ثبوت الحكم في الزمن الأول ، وثبوته في
الثاني يحتاج الى دليل.
و (ثانيها) ـ ان
الثابت أولا قابل للثبوت ثانيا ، وإلا لانقلب من الإمكان الذاتي إلى الاستحالة ،
فيجب ان يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم إلا بمؤثر ،
لاستحالة خروج الممكن عن أحد طرفيه الى الآخر إلا لمؤثر ، فإذا كان التقدير عدم
العلم بالمؤثر يكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح واجب.
وجوابه ان توقف الانعدام على مؤثر فرع الوجود بالفعل لا إمكان الوجود.
وبالجملة
فالمانع مستظهر ، قال سيدنا المرتضى (قدسسره) ـ في الاحتجاج
على إبطال العمل بالاستصحاب ـ ما حاصله : ان في الاستصحاب جمعا بين حالين
مختلفين في حكم من غير دلالة ، فانا إذا كنا أثبتنا الحكم في الحالة الأولى بدليل
فالواجب ان ننظر ، فان كان الدليل يتناول الحالين ، سوينا بينهما فيه إلا أنه ليس
من الاستصحاب في شيء ، وان كان تناول الدليل إنما هو للحالة الأولى فقط والثانية
عارية عن الدليل ، فلا يجوز إثبات مثل الحكم لها من غير دليل ، وجرت هذه الحالة مع
الخلو عن الدليل مجرى الأولى لو خلت من دلالة ، فإذا لم يجز إثبات الحكم للأولى
إلا بدليل فكذلك الثانية. انتهى. وهو جيد.
و (ثالثها) ـ ان
الفقهاء عملوا باستصحاب الحال في كثير من المسائل ، والموجب للعمل هناك موجود في
موضع الخلاف ، وذلك كمسألة من تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه يعمل على يقينه.
وجوابه انه قياس مع وجود الفارق ، لان الاستصحاب المقاس عليه من القسم الثاني من
الأقسام المتقدمة ، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر. (أما أولا) ـ فإن محل
الاستصحاب المتنازع فيه هو الحكم الشرعي ، وذلك القسم محل الاستصحاب فيه جزئيات
الحكم الشرعي ، والشارع قد أوجب في الحكم الشرعي البناء على العلم واليقين دون
جزئيات الحكم ، فان الحكم فيها مختلف كما أوضحناه في محل أليق و (اما ثانيا) ـ فلأن الاستصحاب المقاس عليه ليس هو في التحقيق من
الاستصحاب في شيء كما صرح به علم الهدى (رضياللهعنه) فيما تقدم من كلامه ، بل هو عمل بإطلاق الدليل أو
عمومه ، لأن قوله ـ : «لا تنقض اليقين بالشك. ولا تنقضه إلا بيقين آخر». وقوله : «كل
شيء طاهر حتى تعلم انه قذر». ونحو ذلك ـ دال على ثبوت تلك الأحكام في جميع
الأحوال والأزمان الى ان يحصل يقين وجود الرافع ، بخلاف الاستصحاب المتنازع فيه ،
فان الدليل ـ كما عرفت ـ إنما دل
__________________
على حكم الحال الاولى وسكت عن الثانية ، ولهذا سمي تعديته الى الحال
الثانية حيث كانت عارية عن الدليل استصحابا ، ومن ثم ايضا جعل الاستصحاب دليلا
برأسه مقابلا للسنة ، وبإبطال الأدلة المذكورة تنتفي الحجية ويزيد ذلك بيانا ايضا
وجوه :
(الأول) ـ ان
مفاد الاستصحاب ـ على ما ذكروه ـ إنما هو الظن ، وقد قامت الأدلة القاطعة ـ كما
بسطنا الكلام عليه في كتاب المسائل ـ على ان الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى غير
معتبر شرعا. على ان وجود الظن ايضا فيه ممنوع ، لان موضوع المسألة الثانية مقيد
بالحالة الطارئة وموضوع المسألة الأولى مقيد بنقيض تلك الحالة ، فكيف يظن بقاء
الحكم الأول؟
(الثاني) ـ انه
لا يخفى ـ على من راجع الاخبار وغاص لجج تلك البحار ـ انه قد ورد من الشارع في بعض
الصور حكم يوافق الاستصحاب بالمعنى الذي ذكروه وفي بعضها ما يخالفه. ومنه يعلم انه
ليس حكما كليا ولا قاعدة مطردة تبنى عليه الأحكام ، ومن تأمل ـ في أحاديث مسألة
المتيمم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة التي هي المثال الدائر للاستصحاب ـ ظهر
له صحة ما قلنا ، فان بعضها قد دل على انه ينصرف من الصلاة ويتوضأ ما لم يركع ،
وبعضها على انه يمضي في صلاته مطلقا ، وبعضها على انه ينصرف بعد أن صلى ركعة
ويتوضأ ويبني على ما مضى ، وجل الاخبار دال على الانصراف وان كان في بعضها (ما لم
يركع) وبعضها (ولو بعد تمام الركعة) ولم يرد بالمضي إلا رواية محمد بن حمران ، فلو
كان الاستصحاب ـ الذي اعتمدوه دليلا في الأحكام ومثلوا له بهذا المثال ـ دليلا
برأسه. لوجب ـ على هذا المصلي بمقتضى ذلك ـ المضي في الصلاة ولزم طرح هذه الاخبار.
وفيه من البطلان ما لا يحتاج الى البيان .
__________________
(الثالث) ـ ان
هذا الموضع من المواضع الغير المعلوم حكمه تعالى فيها في غير ما دلت عليه النصوص ،
وقد تواترت الاخبار في مثل ذلك بوجوب التوقف والاحتياط كما سلف تحقيقه. هذا.
والمفهوم ـ من كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في تعليقاته على المدارك ـ الميل الى العمل بالاستصحاب
على تفصيل ذكره هناك. وقد بسطنا الكلام على المسألة المذكورة في كتاب الدرر
النجفية ، ونقلنا كلام المحدث المذكور وأوضحنا ما فيه من القصور ، وكذا كلام بعض
الاعلام في المقام وما يتعلق به من النقض والإبرام ، وههنا مواضع من الأحكام قد
حصل الشك في اندراجها تحت القسم الثالث الذي هو عبارة عن إطلاق النص ، أو القسم
الرابع الذي هو محل النزاع سيأتي التنبيه عليها في مواضعها ان شاء الله تعالى.
(المطلب الثالث) ـ في لحن الخطاب وفحوى
الخطاب ودليل الخطاب. ومرجع ذلك الى
دلالة المفهوم موافقة أو مخالفة.
وتفصيل القول
في ذلك ان دلالة اللفظ على معناه اما ان تكون في محل النطق أو لا في محله.
والأول ـ اما
ان يكون مطابقة أو تضمنا أو التزاما ، والا ولان صريح المنطوق والثالث غير صريحه ،
وهو أقسام :
(أحدها) ـ ما
يتوقف صدق المعنى أو صحته عليه ، ويسمى دلالة اقتضاء. و (الأول) ـ نحو قوله (صلىاللهعليهوآله) : «رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان. الحديث» . فان صدقه يتوقف على تقدير المؤاخذة ونحوها. و (الثاني)
ـ نحو قوله سبحانه : «وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ» فإن صحة المعنى تتوقف على تقدير
__________________
الأهل ، لأن السؤال من القرية لا يصح عقلا ، وحجية هذا القسم ظاهرة إذا كان
الموقوف عليه مقطوعا به.
(الثاني) ـ ما
لا يتوقف عليه صدق المعنى ولا صحته لكنه اقترن بحكم على وجه يفهم منه انه علة لذلك
الحكم ، فيلزم حينئذ جريان الحكم المذكور في غير هذا المورد مما اقترن بتلك العلة
، ويسمى بدلالة التنبيه والإيماء ، نحو قوله (صلىاللهعليهوآله) : «أعتق رقبة» . حين قال له الأعرابي : واقعت أهلي في شهر رمضان. فإنه
يفهم منه ان علة وجوب العتق هي المواقعة فتجب في كل موضع تحققت ، وكما إذا قيل له (عليهالسلام) : صليت مع النجاسة فقال : أعد صلاتك. فإنه يفهم منه ان
علة الإعادة هي النجاسة ، فتجب الإعادة حينئذ في كل موضع تحققت النجاسة ، والظاهر
حجيته مع علم العلية وعدم مدخلية خصوص الواقعة في ذلك. وهذا أحد قسمي تنقيح المناط
، واليه أشار المحقق في المعتبر حيث حكم بحجية تنقيح المناط القطعي ، وهو كذلك ،
فان مدار الاستدلال في جل الأحكام الشرعية على ذلك ، إذ لو لوحظ خصوصية السائل أو
الواقعة لم يثبت حكم كلي في مسألة شرعية إلا نادرا.
(الثالث) ـ ما
لم يقصد عرفا من الكلام ولكنه يلزمه ، نحو قوله تعالى : «وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» مع قوله سبحانه : «وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» فإنه يعلم منه ان أقل مدة الحمل ستة أشهر ، والمقصود من
الآية الأولى إنما هو بيان حق الوالدة وتعبها ، وفي الثانية بيان مدة الفصال ،
ولكن قد لزم منهما بيان أقل الحمل ، وتسمى دلالة إشارة ، وحجيته ظاهرة مع قطعية
اللزوم.
__________________
واعترض بعض
الفضلاء على عد الدلالة الالتزامية بأقسامها الثلاثة من المنطوق واختار دخولها في
المفهوم ، محتجا بان المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم ما دل عليه
لا في محله ، والمطلوب بالدلالة الالتزامية ليس مدلولا عليه في محل النطق.
والثاني ـ وهو
دلالة اللفظ لا في محل النطق ، وتسمى دلالة المفهوم ـ قسمان : مفهوم موافقة ومفهوم
مخالفة ، لان حكم غير المذكور اما موافق لحكم المذكور نفيا وإثباتا أو لا ، والأول
الأول والثاني الثاني.
فالقسم الأول
يسمى بفحوى الخطاب ولحن الخطاب. ومثلوه بقوله تعالى : «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ...» فإنه يعلم من حال التأفيف وهو محل النطق حال الضرب وهو
غير محل النطق ويعلم اتفاقهما في الحرمة ، وقوله سبحانه : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فإنه يعلم منه حال ما زاد على الذرة والمجازاة عليه.
ومرجعه الى التنبيه بالأدنى اي الأقل مناسبة على الأعلى اي الأكثر مناسبة ، وهو
حجة إذا كان قطعيا ، بمعنى قطعية العلية في الأصل كالاكرام في منع التأفيف وعدم
تضييع الإحسان والإساءة في الجزاء ، وكون العلة أشد مناسبة في الفرع ، واما إذا
كان ظنيا فيدخل في باب القياس المنهي عنه ، كما يقال : يكره جلوس الصائم المجبوب
في الماء لأجل ثبوت الكراهة للمرأة الصائمة. لعدم علم كون علة الكراهة للمرأة هو
جذب الفرج الماء.
والقسم الثاني
ويسمى دليل الخطاب ـ ينقسم الى مفهوم الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم الصفة.
ومفهوم الحصر. ومفهوم العدد. ومفهوم الزمان والمكان.
وقد وقع الخلاف
بين الأصوليين من أصحابنا وغيرهم في حجية المفهوم بجميع
__________________
أقسامه ، فنفاه من أصحابنا المرتضى (رضياللهعنه) وجماعة من العامة ، واليه مال المحدث السيد نعمة الله
الجزائري والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (قدس الله سرهما) وأدلة القوم ـ في
كتب الأصول من الطرفين ـ متصادمة ، والاحتجاجات متعارضة ، الا ان الظاهر تبادر ذلك
في كثير من الأمثلة الواردة في جملة منها. ولعل ذلك بحسب العرف ولم نقف في النصوص
على ما يقتضي الحجية في شيء منها سوى مفهوم الشرط ، فقد ورد في جملة منها ما يدل
على ذلك.
فمنها ـ ما ورد
عن الصادق (عليهالسلام) في تفسير قوله تعالى : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا
فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» قال : «والله ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم. فقيل :
كيف ذاك؟ قال : انما قال : فعله كبيرهم هذا ان نطقوا ، وان لم ينطقوا فلم يفعل
كبيرهم هذا شيئا».
و (منها) ـ ما
رواه الشيخ في التهذيب في باب النفر من منى عنه (عليهالسلام) في حديث قال فيه : «فان الله عزوجل يقول : «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجل لكنه قال ومن تأخر فلا اثم
عليه».
و (منها) ـ ما
رواه في الكافي والفقيه عن عبيد بن زرارة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال : ما أبينها من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه».
__________________
و (منها) ـ ما
رواه في الفقيه في باب الشقاق. في الصحيح عن ابن ابي عمير عن هشام بن الحكم : «انه
تناظر هو وبعض المخالفين في الحكمين بصفين : عمرو ابن العاص وأبي موسى الأشعري ،
فقال المخالف : ان الحكمين لقبولهما الحكم كانا مريدين للإصلاح بين الطائفتين.
فقال هشام : بل كانا غير مريدين للإصلاح بين الطائفتين. فقال المخالف : من اين قلت
هذا؟ قال هشام : من قول الله تعالى في الحكمين : «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما» فلما اختلفا ولم يكن بينهما اتفاق على أمر واحد ولم
يوفق الله بينهما. علمنا انهما لم يريدا الإصلاح.».
ولا ريب ان
هشاما من أجلاء ذوي الأفهام ورؤساء علماء الكلام ، ولهذا ان خصمه سلم اليه ولم
يمكنه الرد عليه.
والعجب هنا من
المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (طاب ثراه) في كتاب الفوائد الطوسية ،
حيث بالغ في إنكار حجية مفهوم الشرط. وأورد جملة من الآيات القرآنية دالة على عدم
جواز اعتبار مفهوم الشرط. مع ورود ما سردناه من الاخبار الدالة على ذلك بأوضح
دلالة ، وانه قد تقرر ـ عند القائلين بحجيته ـ ان اعتبار المفهوم إنما يصار إليه
إذا لم يكن للتعليق على الشرط فائدة سوى الانتفاء بانتفائه ، وما أورده من الآيات
كلها من ذلك القبيل. هذا.
واما ما ذكروه
ـ من الملازمة بالنسبة الى مقدمة الواجب وكذلك استلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده
الخاص ـ فلم نقف له في الاخبار على اثر ، مع ان الحكم في ذلك مما تعم به البلوى.
وقد حققنا ـ في كتاب الدرر النجفية في مسألة البراءة الأصلية ، وأشرنا الى ذلك
ايضا هنا في المطلب الأول من المقام الثالث ـ ان التمسك بالبراءة الأصلية فيما تعم
به البلوى من الأحكام بعد تتبع الأدلة وعدم الوقوف على ذلك
__________________
فيها حجة واضحة ، ولو كان الأمر كما ذكروا ، لورد عنهم (عليهمالسلام) النهي عن أضداد الواجبات من حيث هي كذلك بالنسبة إلى
مسألة استلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص. والتالي باطل. على انه لا يخفى
ما في القول بذلك من الحرج المنفي بالآية والرواية كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني
وحينئذ فيكون داخلا في باب «اسكتوا عما سكت الله عنه» .
تتميم نفعه عميم
جمهور
الأصوليين من أصحابنا وغيرهم على حجية قياس الأولوية ومنصوص العلة ، ومثلوا للأول
بدلالة تحريم التأفيف في الآية على تحريم أنواع الأذى الزائدة عليه. وسماه بعضهم
بالقياس الجلي ، وأنكره المحقق وجمع من الأصحاب ، واختلفوا في وجه التعدية في
الآية ، فذهب بعض إلى انه من قبيل دلالة المفهوم وهو مفهوم الموافقة كما تقدم
تحقيقه ، وقيل انه منقول عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى ، لاستفادة
ذلك المعنى من اللفظ من غير توقف على استحضار القياس ، وهو اختيار المحقق.
ويدل على عدم
حجيته من الاخبار ما رواه الصدوق في كتاب الديات عن ابان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟
قال عشرة من الإبل. قلت : قطع اثنين : قال عشرون
__________________
قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون. قلت : سبحان
الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ ان هذا كان
يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله ، ونقول : الذي قاله شيطان. فقال. مهلا يا ان
هذا حكم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية ، فإذا بلغت
الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنك أخذتني بالقياس ، والسنة إذا قيست محق
الدين» ورواه في كتاب المحاسن ، وزاد ـ بعد قوله : «إنك أخذتني بالقياس» ـ «ان
السنة لا تقاس ، ألا ترى انها تؤمر بقضاء صومها ولا تؤمر بقضاء صلاتها». ولا يخفى
عليك ما في الخبر المذكور من الصراحة في المطلوب.
و (منها) ـ ما
ورد من قول الصادق (عليهالسلام) لأبي حنيفة : «اتق الله ولا تقس الدين برأيك ، فإن أول
من قاس إبليس ، الى أن قال : ويحك أيهما أعظم ، قتل النفس أو الزنا؟ قال : قتل
النفس. قال : فان الله عزوجل قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا
أربعة. ثم قال : أيهما أعظم ، الصلاة أو الصوم؟ قال : الصلاة. قال : فما بال
الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ، فكيف يقوم لك القياس؟
فاتق الله ولا
تقس».
و (منها) ـ قوله
(عليهالسلام) لأبي حنيفة في عدة اخبار : «البول أقذر أم المني؟ فقال
: البول أقذر. فقال : يجب على قياسك ان يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب
الله الغسل من المني دون البول .
__________________
و (منها) ـ ما
رواه في تفسير العسكري (عليهالسلام) عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : قال : قال : «يا
معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا إياكم وأصحاب الرأي ، الى أن قال : اما لو كان
الدين بالقياس لكان باطن الرجلين اولى بالمسح من ظاهرهما». الى غير ذلك من الاخبار
التي يقف عليها المتتبع وقد دلت على كون ذلك قياسا ولا سيما الخبر الأول منها ،
مع انه قد استفاضت الأخبار عنهم (عليهمالسلام) بالمنع عن العمل بالقياس بقول مطلق من غير تخصيص بفرد
بل صار ذلك من ضروريات مذهب أهل البيت (عليهمالسلام).
فما يظهر ـ من
بعض مشايخنا المتأخرين من كون ذلك ليس من باب القياس ، مستندا الى ان ما جعل
فرعا على الأصل في الحكم أولى بالحكم من الأصل فكيف يجعل فرعا عليه؟ ـ اجتهاد في
مقابلة النصوص أو غفلة عن ملاحظة ما هو في تلك الاخبار مسطور ومنصوص. على انه يمكن
الجواب عما ذكره من عدم الفرعية بأن الحكم إنما ثبت أولا وبالذات بمنطوق الكلام
للتأفيف مثلا ، لمنافاته لوجوب الإكرام ، والضرب إنما ثبت له لمشاركته للأول في
العلة المذكورة وان كانت العلة أشد بالنسبة إليه
__________________
وأشديتها بالنسبة إليه لا تخرجه عن الفرعية ، إذ اعتبار الأصالة والفرعية
إنما هو بالنظر الى ما دل عليه الكلام أولا وبالذات وثانيا وبالعرض.
وربما استند
بعض الفضلاء الى الاستدلال على الحجية بقول أمير المؤمنين (عليهالسلام) في خطابه للأنصار : «أتوجبون عليه الحد والرجم ، ولا
توجبون عليه صاعا من ماء؟» .
وسيأتي الجواب
عن ذلك في باب غسل الجنابة في مسألة الجماع في دبر المرأة.
وأما منصوص
العلة فظاهر كلام المرتضى (رضياللهعنه) إنكاره. والعلامة وجمع من الأصحاب على القول به.
احتج المرتضى (رضياللهعنه) بما ملخصه : ان علل الشرع انما تنبئ عن الدواعي إلى
الفعل أو عن وجه المصلحة فيه ، وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة ويكون في أحدهما
داعية في فعله دون الآخر مع ثبوتها فيه ، وقد يكون مثل المصلحة مفسدة ، وقد يدعو
الشيء إلى غيره في حال دون حال وعلى وجه دون وجه. الى ان قال : «فإذا صحت هذه
الجمل لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي والقياس وجرى النص على العلة مجرى
النص على الحكم في قصره على موضعه».
وحكى العلامة (قدسسره) عن المانعين الاحتجاج بان قول الشارع : حرمت الخمر
لكونها مسكرة. يحتمل أن تكون العلة هي الإسكار ، وان تكون إسكار الخمر بحيث يكون
قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلة. وإذا احتمل الأمران لم يجز القياس. ثم
أجاب بالمنع من احتمال اعتبار القيد في العلية ، ثم أطال في البحث الى ان قال : «والتحقيق
ان النزاع هنا لفظي. لأن المانع إنما يمنع من التعدية لأن قوله : حرمت الخمر لكونه
مسكرا. محتمل لان يكون في تقدير التعليل بالإسكار المختص بالخمر ، فلا
__________________
يعم ، وان يكون في تقدير التعليل بمطلق الإسكار فيعم ، والمثبت يسلم ان
التعليل بالإسكار المختص بالخمر غير عام وان التعليل بالمطلق يعم. فظهر انهم
متفقون على ذلك. نعم النزاع وقع في أن قوله ـ : حرمت الخمر لكونه مسكرا ـ هل هو
بمنزلة علة التحريم للإسكار أم لا؟ فيجب ان يجعل البحث في هذا لا في ان النص على
العلة هل يقتضي ثبوت الحكم في جميع مواردها ، فان ذلك متفق عليه» انتهى (وفيه) ان
الأمر كما ذكر لو كان حجة الخصم ما ذكره خاصة ، وقد عرفت من كلام السيد (رضياللهعنه) التعليل بغير ذلك مما لا ينطبق عليه هذا التفصيل الذي
ذكره.
ونقل عن المحقق
(رحمهالله) التفصيل في المسألة بأنه إذا نص الشارع على العلة وكان
هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم ، جاز تعدية
الحكم وكان ذلك برهانا. واليه مال ايضا المحقق الشيخ حسن في المعالم ، وأجاب فيه
عن حجة المرتضى (رضياللهعنه) بان المتبادر من العلة ـ حيث يشهد الحال بانسلاخ الخصوصية
فيها ـ تعلق الحكم بها لا بيان الداعي ووجه المصلحة. وما ذكره (قدسسره) جيد بالنظر الى مفهوم العلة ، إلا ان المتتبع ـ لعلل
الشرع الواردة في الاخبار ـ لا يخفى عليه ان جلها إنما هو من قبيل ما ذكره المرتضى
(رضياللهعنه).
وقال بعض فضلاء
متأخري المتأخرين : «والحق أن يقال : إذا حصل القطع بان الأمر الفلاني علة لحكم
خاص من غير مدخلية شيء آخر في العلية وعلم وجود تلك العلة في محل آخر لا بالظن بل
بالعلم ، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا المحل الآخر ، لأن الأصل حينئذ
يصير من قبيل النص على كل ما فيه تلك العلة ، فيخرج في الحقيقة عن القياس. وهذا
مختار المحقق لكن هذا في الحقيقة قول بنفي حجية القياس المنصوص العلة ، إذ حصول
هذين القطعين مما يكاد ينخرط في سلك المحالات إلا في تنقيح المناط» انتهى. وهو
جيد.
وبالجملة فالحق
هو عدم القول بالحجية في كلا الموضعين إلا مع الدلالة العرفية في بعض الموارد أو
بما يرجع الى تنقيح المناط القطعي والله وأولياؤه أعلم.
المقدمة الرابعة
في الاحتياط
وقد اختلف
أصحابنا (رضوان الله عليهم) في وجوبه واستحبابه ، فالمجتهدون على الثاني ،
والأخباريون على وجوبه في بعض المواضع ، وربما يظهر من كلام بعض متأخري المجتهدين
عدم مشروعيته.
قال المحقق (قدسسره) ـ على ما نقله عنه غير واحد ـ في كتاب الأصول : «العمل
بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون الى وجوبه ، وقال آخرون مع اشتغال الذمة : يكون
العمل بالاحتياط واجبا ومع عدمه لا يجب مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الإناء ، نجس.
واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة أم لا بد من سبع؟ وفيما عدا الولوغ هل يطهر بغسلة أم
لا بد من ثلاث؟ احتج القائلون بالاحتياط بقوله (صلىاللهعليهوآله) : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك». وبأن الثابت اشتغال
الذمة يقينا ، فيجب ان لا يحكم ببراءتها إلا بيقين ولا يكون هذا إلا مع الاحتياط.
والجواب عن الحديث ان نقول : هو خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الأصول. سلمناه
لكن إلزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة ، لأنه إلزام مشقة لم يدل الشرع عليها. فيجب
اطراحها بموجب الخبر.
__________________
والجواب عن الثاني ان نقول : البراءة الأصلية مع عدم الدلالة الناقلة حجة ،
وإذا كان التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية على الزيادة في المثال المذكور كان
العمل بالأصل أولى ، وحينئذ لا نسلم اشتغالها مطلقا بل لا نسلم اشتغالها إلا بما
حصل الاتفاق عليه أو اشتغالها بأحد الأمرين. ويمكن ان يقال : قد أجمعنا على الحكم
بنجاسة الإناء واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن نأخذ بما حصل الإجماع عليه في
الطهارة ، ليزول ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة».
انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو محل نظر من
وجوه : (أحدها) ـ ان ما جعله موضوعا للنزاع من مسألة إناء الولوغ ونحوها ليس كذلك
على إطلاقه ، لأنه مع تعارض الأدلة فللناظر الترجيح بينها والعمل بما يترجح في
نظره من أدلة أي الطرفين ، وحينئذ فلا مجال هنا للقول بوجوب الاحتياط ، واما
الاستحباب فيمكن إذا ترجح عنده الأقل ، فإنه يمكن حمل الزائد على الاستحباب كما هو
المعروف عندهم في أمثال ذلك. نعم مع عدم الترجيح فالمتجه ـ كما سيأتي تحقيقه ـ وجوب
الاحتياط في العمل والتوقف في الحكم.
و (ثانيها) ـ ما
أجاب به أولا عن الخبر المذكور ، فإنه مبني على اشتراط القطع في الأصول وعدم العمل
بالآحاد مطلقا ، وكلاهما محل نظر (اما الأول) فلعدم الدليل عليه ، ومن تأمل
اختلافاتهم في الأصول وتكثر أقوالهم وادعاء كل منهم التبادر على خلاف ما يدعيه
الآخر ، علم ان البناء على غير أساس ، ومن ثم وقع الإشكال في جل مسائله والالتباس
، ولو كانت أدلته مما تفيد القطع كما يدعونه لما انتشر فيه الخلاف ، كما لا يخفى
على ذوي الإنصاف. على انه لو ثبت ثمة دليل على اشتراط القطع في الأصول لوجب تخصيصه
بالأصول الكلامية والعقائد الدينية ، إذ هي المطلوب فيها ذلك بلا خلاف ، دون هذه
التي لم يرد لها أصل في الشريعة. وانما هي من محدثات العامة ومخترعاتهم كما حققناه
في محل أليق.
و (اما الثاني)
فلما صرح به جم غفير من أصحابنا ـ متقدميهم ومتأخريهم ـ ولا سيما هذا القائل نفسه
في كتاب المعتبر وكذا في كتابه في الأصول ، بل الظاهر انه إجماعي كما ادعاه غير
واحد منهم ، من حجية خبر الواحد والاعتماد عليه ، وعلى ذلك يدل من الاخبار ما يضيق
عن نشره نطاق البيان ، وما سبق الى بعض الأوهام ـ من تناقض كلامي الشيخ في العمل
بخبر الواحد ودعوى المرتضى الإجماع على عدم جواز العمل به ـ فهو توهم بارد وخيال
شارد نشأ عن قصور التتبع لكلامهم والتطلع في نقضهم وإبرامهم ، لدلالة كلام الشيخ (رضوان
الله عليه) في غير موضع من كتبه على صحة أخبارنا وتواترها عن الأئمة المعصومين (صلوات
الله عليهم) ، وان المراد بالخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد به هو ما كان من
طريق المخالفين مما لم تشتمل عليه أصولنا التي عليها معتمد شريعتنا قديما وحديثا.
ولتصريح المرتضى (رضياللهعنه) على ما نقله عنه جمع : منهم صاحب المعالم ، من أن أكثر
أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحتها اما بالتواتر أو بأمارة وعلامة
دلت على صحتها وصدق رواتها فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وان وجدناها مودعة في
الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد. انتهى. وحينئذ فيرجع كلامه الى كلام الشيخ في
معنى الخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد به ، وقد مضى في المقدمة الثانية ما فيه
مقنع للبيب ومرجع للموفق المصيب.
و (ثالثها) ـ ما
أجاب به عن الدليل الثاني من الاستناد إلى حجية البراءة الأصلية في المقام. وفيه
ما تقدم نقله عنه (قدسسره) في المعتبر. من ان الاعتماد على البراءة الأصلية إنما
يتجه فيما يعلم انه لو كان هناك دليل لعثر عليه ، اما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف.
والدليل في الجملة هنا موجود. ووجود المعارض لا يخرجه عن كونه دليلا. ولو عورض
بمرجوحيته في مقابلة المعارض فلا يصلح للدلالة ، فالدليل العام
على وجوب الاحتياط كاف في الخروج عن قضية الأصل ووجوب الزيادة.
و (رابعها) ـ قوله
: ويمكن ان يقال قد أجمعنا. إلخ. فإن فيه ان ثبوت الإجماع إنما هو قبل الغسل
بالمرة. واما بعد الغسلة الواحدة فليس ثمة إجماع ، فالاستصحاب غير ثابت. على ان في
الاستدلال بالاستصحاب ما قد عرفت آنفا. نعم يمكن ان يقال : ان مقتضى صحاح الاخبار
ان يقين كل من الطهارة والنجاسة لا يزول إلا بيقين مثله. والنجاسة هنا ثابتة بيقين
قبل الغسل بالكلية ، ولا تزول إلا بيقين وهو الغسل بالأكثر. وزوالها بالأقل مشكوك
فيه ، وهو لا يرفع يقين النجاسة ، والاستصحاب هنا مما لا خلاف في حجيته ، لدلالة
صحاح الاخبار عليه كما سبق تحقيقه في المسألة المذكورة. هذا.
والتحقيق في
المقام ـ على ما أدى اليه النظر القاصر من أخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) ـ هو ان يقال : لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا
واستفاضة الأمر به ، كما سيمر بك شطر من اخباره. وهو عبارة عما يخرج به المكلف من
عهدة التكليف على جميع الاحتمالات ، ومنه ما يكون واجبا ، ومنه ما يكون مستحبا.
(فالأول) ـ كما
إذا تردد المكلف في الحكم ، اما لتعارض أدلته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ،
أو لعدم الدليل بالكلية بناء على نفي البراءة الأصلية ، أو لكون ذلك الفرد مشكوكا
في اندراجه تحت بعض الكليات المعلومة الحكم ، أو نحو ذلك.
و (الثاني) ـ كما
إذا حصل الشك باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعي احتمالا مستندا الى
بعض الأسباب المجوزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعي إباحة شيء وحليته ، لكن
يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب انه مما حرمه الشارع وان لم يعلم به المكلف ،
ومنه جوائز الجائر ونكاح امرأة بلغك انها أرضعت معك
الرضاع المحرم إلا انه لم يثبت ذلك شرعا. ومنه ايضا الدليل المرجوح في نظر
الفقيه ، اما إذا لم يحصل له ما يوجب الشك والريبة في ذلك ، فإنه يعمل على ما ظهر
له من الدليل وان احتمل النقيض باعتبار الواقع ، ولا يستحب له الاحتياط هنا ، بل
ربما كان مرجوحا ، لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين
ما يحتمل تطرق احتمال النجاسة أو الحرمة اليه كاخبار الجبن واخبار الفراء ، جريا
على مقتضى سعة الحنيفية ، كما أشار إليه في صحيحة البزنطي الواردة في السؤال عن شراء جبة فراء لا يدرى أذكية هي
أم غير ذكية ليصلي فيها ، حيث قال (عليهالسلام) : «ليس عليكم المسألة. ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول : ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ،
وان الدين أوسع من ذلك».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الاحتياط قد يكون متعلقا بنفس الحكم الشرعي وقد يكون متعلقا بجزئيات
الحكم الشرعي وافراد موضوعه. و (كيف كان) فقد يكون الاحتياط بالفعل وقد يكون
بالترك وقد يكون بالجمع بين الافراد المشكوك فيها ، ولنذكر جملة من الأمثلة يتضح
بها ما أجملناه ويظهر منها ما قلناه.
فمن الاحتياط
الواجب في الحكم الشرعي المتعلق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدليل بان تردد بين
احتمالي الوجوب والاستحباب ، فالواجب التوقف في الحكم والاحتياط بالإتيان بذلك
الفعل ، ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة للاستحباب.
وفيه (أولا) ـ ما
عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام الشرعية.
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكروه يرجع الى ان الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة الأصلية ، ومن
المعلوم ان أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المنظورة له تعالى
__________________
وهو أعلم بها ، ولا يمكن ان يقال : مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصلية ،
فإنه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.
ومن هذا القسم
ايضا ما تعارضت فيه الاخبار على وجه يتعذر الترجيح بينها بالمرجحات المنصوصة ، فإن
مقتضى الاحتياط التوقف عن الحكم ووجوب الإتيان بالفعل متى كان مقتضى الاحتياط ذلك.
(فان قيل) : ان
الأخبار في الصورة المذكورة قد دل بعضها على الإرجاء وبعضها على العمل من باب
التسليم (قلنا) : هذا ايضا من ذلك ، فان التعارض المذكور ـ مع عدم ظهور مرجح لأحد
الطرفين ولا وجه يمكن الجمع به في البين ـ مما يوجب دخول الحكم المذكور في
المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط ، وسيأتي ما فيه مزيد بيان لذلك.
ومن هذا القسم
ايضا ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا تعم بها البلوى عند من لم يعتمد على
البراءة الأصلية ، فإن الحكم فيه ما ذكر كما سلف بيانه في مسألة البراءة الأصلية.
ومن الاحتياط
الواجب في الحكم الشرعي ـ لكن بالترك ـ ما إذا تردد الفعل بين كونه واجبا أو محرما
، فان المستفاد من الاخبار ان الاحتياط هنا بالترك.
كما تدل عليه موثقة
سماعة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في
أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه
حتى يلقى من يخبره. فهو في سعة حتى يلقاه».
وموثقة زرارة «في أناس من أصحابنا حجوا بامرأة معهم فقدموا الى الوقت
__________________
وهي لا تصلي ، وجهلوا ان مثلها ينبغي أن يحرم. فمضوا بها كما هي حتى قدموا
مكة وهي طامث حلال ، فسألوا الناس فقالوا : تخرج الى بعض المواقيت فتحرم منه.
وكانت إذا فعلت ذلك لم تدرك الحج ، فسألوا أبا جعفر (عليهالسلام) فقال : تحرم من مكانها ، قد علم الله نيتها».
وجه الدلالة ان
المرأة المذكورة قد تركت واجبا لاحتمال حرمته عندها ، والامام (عليهالسلام) قررها على ذلك ولم ينكره عليها ، بل استحسن ذلك من
فعلها بقوله : قد علم الله نيتها.
وما توهمه ـ بعض
مشايخنا (رضوان الله عليهم) من دلالة هذه الرواية على عدم الاحتياط ، حتى نظمها في
سلك اخبار زعم انها تدل على عدم الاحتياط وجعلها معارضة لاخبار الاحتياط ـ ناشىء
عن عدم إعطاء التأمل حقه من التحقيق ، وعدم النظر في الأخبار بعين التدقيق.
ومن الاحتياط
المستحب في الحكم الشرعي بالفعل أو الترك ما إذا تعارضت الأدلة في حكم بين فعله
وجوبا أو استحبابا وترجح في نظر الفقيه الثاني بأحد المرجحات الشرعية ، فإن
الإتيان بالفعل أحوط ، ولذا ترى الفقهاء في مثل هذا الموضع يحملون الدليل المرجوح
على الاستحباب تفاديا من طرحه ، كاخبار غسل الجمعة عند من يرجح الاستحباب. أو
تعارضت الاخبار بين الحرمة والكراهة مع ترجيح الثاني ، فإن الاحتياط هنا بالترك ،
وعلى هذا أيضا جرى الفقهاء (رضوان الله عليهم) في غير موضع.
ومن الاحتياط
الواجب في جزئيات الحكم الشرعي بالإتيان بالفعل ما إذا علم أصل الحكم وكان هو
الوجوب ولكن حصل الشك في اندراج بعض الافراد تحته ،
__________________
وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في جزاء الصيد دالة على ذلك.
ومن هذا القسم
ـ لكن مع كون الاحتياط بالترك ـ ما إذا كان الحكم الشرعي التحريم وحصل الشك في
اندراج بعض الجزئيات تحته ، فان الاحتياط هنا بالترك ، كحكم السجود على الخزف
والحكم بطهارته بالطبخ ، فإن أصل الحكم في كل من المسألتين معلوم ، ولكن هذا الفرد
بسبب الشك في استحالته بالطبخ وعدمها قد أوجب الشك في اندراجه تحت أصل الحكم ،
فالاحتياط ـ عند من يحصل له الشك المذكور ـ واجب بترك السجود وترك استعماله فيما
يشترط فيه الطهارة. ومنه الشك في اندراج بعض الأصوات تحت الغناء المعلوم تحريمه ،
فان الاحتياط واجب بتركه ، واما من يعمل بالبراءة الأصلية فإنه يرجح بها هنا جانب
العدم ، فلا يتجه ذلك عنده.
ومن الاحتياط
الواجب بالجمع بين الافراد المشكوك فيها ما إذا اشتغلت ذمته يقينا بواجب لكن تردد
بين فردين أو أزيد من افراد ذلك الواجب ، فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع. ومنه من
اشتغلت ذمته بفريضة من اليومية مع جهلها في الخمس مثلا ، فإنه يجب عليه الإتيان
بالخمس مقتصرا فيما اشترك منها في عدد على الإتيان بذلك العدد مرددا في نيته. ومنه
التردد في وجوب الجمعة ، فإنه يجب عليه الجمع بينها وبين الظهر. الى غير ذلك من
المواضع التي يقف عليها المتتبع.
واما الاحتياط
المستحب فعلا أو تركا فقد تقدم لك شطر من أمثلته ، والمتدرب لا يخفى عليه استنباط
ذلك.
ولا بأس بنقل
جملة من الاخبار المشتملة على ذكر الاحتياط وتذييل كل منها بما يوقف الناظر على
سواء الصراط ، فإن جملة من مشايخنا (رضوان الله عليهم) قد اشتبه عليهم ما تضمنته
من الأحكام ، حتى صرحوا بتعارضها في المقام على وجه يعسر
الجمع بينها والالتئام كما تقدمت الإشارة إليه .
فمن ذلك ـ صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء عليهما ، أم
على كل واحد منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما عن الصيد. قلت
: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال (عليهالسلام) : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط» .
وهذه الرواية
قد دلت على وجوب الاحتياط في بعض جزئيات الحكم الشرعي مع الجهل به وعدم إمكان
السؤال. وذلك لان ظاهر الرواية ان السائل عالم بأصل وجوب الجزاء وإنما شك في موضعه
بكونه عليهما معا جزاء واحدا أو على كل منهما جزاء بانفراده.
ومن ذلك ـ صحيحته
الأخرى عن أبي إبراهيم (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة؟ أهي
ممن لا تحل له أبدا. فقال : لا اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ،
وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت : بأي الجهالتين أعذر :
بجهالته ان يعلم ان ذلك محرم عليه أم بجهالته انها في عدة؟ فقال : احدى الجهالتين
أهون من الأخرى ، الجهالة بأن
__________________
الله حرم عليه ذلك ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت : هو في
الأخرى معذور ، فقال : نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها. الحديث».
وهذه الرواية
قد اشتملت على فردي الجاهل بالحكم الشرعي والجاهل ببعض جزئياته ، ودلت على معذورية
كل منهما إلا ان الأول أعذر ، لعدم قدرته على الاحتياط ، وبيان ذلك : ان الجاهل ـ بالحكم
الشرعي وهو تحريم التزويج في العدة جهلا ساذجا غير متصور له بالمرة ـ لا يتصور
الاحتياط في حقه بالكلية ، لعدم تصوره الحكم بالمرة كما عرفت. واما الجاهل بكونها
في عدة مع علمه بتحريم التزويج في العدة ، فهو جاهل بموضوع الحكم المذكور مع
معلومية أصل الحكم له ، ويمكنه الاحتياط بالفحص والسؤال عن كونها ذات عدة أم لا ،
إلا انه غير مكلف به ، بل ظاهر الاخبار مرجوحية السؤال والفحص كما في غير هذا
الموضع مما قدمنا الإشارة اليه ، وكل ذلك عملا بسعة الحنيفية وسهولة الشريعة. نعم لو
كان في مقام الريبة فالأحوط السؤال ، كما يدل عليه بعض الاخبار.
ومن ذلك ـ رواية
عبد الله بن وضاح قال : «كتبت الى العبد الصالح (عليهالسلام) يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا
وتستتر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون ، أفأصلي حينئذ أو
أفطر إن كنت صائما ، أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلي : أرى لك
أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك».
(أقول) :
والاحتياط هنا ـ بالتوقف على ذهاب الحمرة عند من قام له الدليل على ان الغروب
عبارة عن استتار القرص المعلوم بعدم رؤيته عند المشاهدة مع عدم
__________________
الحائل ـ محمول على الاستحباب. واما عند من يجعل امارة الغروب زوال الحمرة
ـ كما هو المختار عندنا ، لحمل تلك الأخبار على التقية ـ فهو محمول على الوجوب ،
وكلامه (عليهالسلام) هنا محتمل لكلا الأمرين.
ومن ذلك ـ صحيحة
أحمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليهالسلام) في المتمتع بها حيث قال فيها : «اجعلوهن من الأربع فقال له صفوان ابن يحيى : على الاحتياط. قال : نعم».
والظاهر كما
استظهره أيضا جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) حمل الاحتياط هنا على المحاذرة
من العامة والتقية منهم ، لاستفاضة النصوص وذهاب جمهور الأصحاب الى عدم الحصر في
المتعة وانها ليست من السبعين فضلا عن الأربع ، ولعل وجهه انه إذا اقتصر على جعلها
رابعة لم يمكن الاطلاع عليه بكونها متعة ليطعن عليه بذلك ليتيسر دعوى الدوام له ،
بخلاف ما إذا جعلها زائدة على الأربع ، فإنه لا يتم له الاعتذار ولا النجاة من
أولئك الفجار.
ومن ذلك ـ رواية
شعيب الحداد قال : «قلت لأبي عبد الله (ع) : رجل من مواليك يقرئك
السلام وقد أراد أن يتزوج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج
فطلقها ثلاثا على غير السنة ، وقد كره ان يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت
تأمره ، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : هو الفرج وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ونحن
نحتاط فلا يتزوجها».
(أقول) : ظاهر
هذا الخبر كما ترى كون المطلق مخالفا ، ولا خلاف بين
__________________
الأصحاب في إلزامه بما الزم به نفسه من صحة الطلاق ، وبه استفاضت جملة من
الأخبار ايضا ، وحينئذ فيحمل الاحتياط هنا على الاستحباب ، إلا ان الأقرب عندي هو
أن يقال : ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) وان اتفقوا على الحكم المذكور ، إلا ان
الروايات فيه مختلفة ، فإن جملة من الأخبار كما دلت على ما ذهب إليه الأصحاب ،
كذلك جملة منها ايضا قد دلت على انه «إياكم وذوات الأزواج المطلقات على غير السنة»
وحمل ـ بعض الأصحاب لها على غير المخالف ـ يرده ما اشتمل عليه بعضها من ذكر
المخالف. والحكم لا يخلو من نوع اشتباه ، لتعارض الأخبار ، والاحتياط فيه مطلوب.
والأمر بالاحتياط هنا مما قوى الشبهة وأكدها ، وحينئذ فلا يبعد وجوب الاحتياط هنا.
ويحتمل أن يكون هذا الخبر من جملة الأخبار المانعة وان عبر عن ذلك بالاحتياط وجعله
في قالبه ، فيتحتم كون الاحتياط فيه على جهة الوجوب. والله سبحانه وقائله أعلم
بحقيقة الحال.
وأما الأخبار
الدالة على رجحان العمل بالاحتياط على الإطلاق في هذا الشأن فهي أكثر من أن يحويها
نطاق البيان في هذا المكان ومنها قول أمير المؤمنين (عليهالسلام) لكميل بن زياد كما رواه الشيخ (رحمهالله) في كتاب الأمالي مسندا عن الرضا (عليهالسلام) : «يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك». وما رواه الشهيد
عن الصادق (عليهالسلام) في حديث طويل قال فيه : «وخذ بالاحتياط لدينك في جميع
أمورك ما تجد اليه سبيلا». وما رواه الفريقان عنه (صلىاللهعليهوآله) من قوله : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك». وما روي
عنهم (عليهمالسلام) : «ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» الى غير
ذلك من الأخبار ، وحينئذ فما ذهب اليه ذلك البعض ـ من عدم مشروعية الاحتياط ـ خروج
عن سواء
__________________
ذلك الصراط ، حيث قال : «ان الاحتياط ليس بحكم شرعي فلا يجوز العمل بمقتضاه
، بل الواجب ان ما يعمل به هو ما ساق اليه الدليل ورجحه. وكلما ترجح عنده تعين
عليه وعلى مقلده العمل به ، والعمل بالاحتياط عمل بما لم يؤد إليه الدليل» غفلة
عما فصلته تلك الأخبار التي ذكرناها وأجملته هذه الأخبار التي تلوناها ، والدليل ـ
كما رجح العمل بما ترجح في نظر الفقيه ـ رجح ايضا العمل بما فيه الاحتياط ، وقوله
ـ : «انه ليس بدليل شرعي» على إطلاقه ـ ممنوع كما عرفت مما تلوناه. نعم لو كان ذلك
الاحتياط إنما نشأ من الوساوس الشيطانية والأوهام النفسانية كما يقع من بعض الناس
المبتلين بالوسواس ، فالظاهر من الأخبار تحريمه كما ورد عنه (صلىاللهعليهوآله) من قوله : «ان الوضوء مد والغسل صاع ، وسيأتي أقوام
يستقلون ذلك ، فأولئك على غير سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس» . ولانه مع اعتقاد شرعيته تشريع في الدين ، والله يهدي
من يشاء الى صراطه المبين.
المقدمة الخامسة
في حكم الجاهل بالأحكام
وقد اختلف في
ذلك كلام علمائنا الأعلام (أسكنهم الله تعالى أعلى درجة في دار السلام) فالمشهور
بينهم عدم المعذورية إلا في أحكام يسيرة كحكمي الجهر والإخفات والقصر والإتمام ،
وفرعوا على ذلك بطلان عبادة الجاهل ـ وهو عندهم من لم يكن مجتهدا ولا مقلدا ـ وان
طابقت الواقع ، حيث أوجبوا معرفة واجبها وندبها وإيقاع كل منهما على وجهه. وان تلك
المعرفة لا بد أن تكون عن اجتهاد أو تقليد ، فصلاة المكلف ـ بدون أحد الوجهين ـ باطلة
عندهم وان طابقت الواقع وطابق اعتقاده
__________________
وإيقاعه الواجب والندب ـ ما هو المطلوب شرعا.
وذهب جمع من
المتأخرين ومتأخريهم إلى معذورية الجاهل مطلقا إلا في مواضع يسيرة ، حتى حكم بعض
متأخري المتأخرين بصحة صلاة العوام كيف كانت ، واقتصر بعض على ما طابق
الواقع من ذلك.
وظواهر الأخبار
في المسألة لا تخلو عن تناقض يحتاج الى مزيد كشف وبيان لترتفع به غشاوة الشبهة عن
جملة الأذهان.
فمن الأخبار
الدالة ـ على القول المشهور ـ قول ابي الحسن (عليهالسلام) في مرسلة يونس بعد أن سأله السائل «هل يسع الناس ترك
المسألة عما يحتاجون اليه؟ فقال : لا» . وقول الصادق (عليهالسلام) لحمران بن أعين في شيء سأله عنه : «إنما يهلك الناس
لأنهم لا يسألون» . وقوله (عليهالسلام) : «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا» . وكذا يدل على ذلك الأخبار المستفيضة بالأمر بطلب العلم
والأمر بالتفقه في الدين. ومما يدل على القول الآخر أخبار مستفيضة متفرقة
في جزئيات الأحكام ،
__________________
فمن ذلك ما ورد في باب الحج وهو أخبار كثيرة.
(منها) ـ صحيحة
زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «من لبس ثوبا لا ينبغي له لبسه وهو محرم ففعل ذلك
ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه».
ومرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهماالسلام) : «في رجل نسي أن يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلها
وطاف وسعى؟ قال : تجزيه نيته إذا كان قد نوى ذلك فقد تم حجه وان لم يهل».
ورواية عبد
الصمد بن بشير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «جاء رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبي
وعليه قميصه ، فوثب عليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا : شق قميصك وأخرجه من
رجليك ، فان عليك بدنة وعليك الحج من قابل وحجك فاسد. فطلع أبو عبد الله (عليهالسلام) فقام على باب المسجد فكبر واستقبل الكعبة ، فدنا الرجل
من ابي عبد الله (عليهالسلام) وهو ينتف شعره ويضرب وجهه ، فقال له أبو عبد الله (عليهالسلام) : اسكن يا عبد الله ، فلما كلمه وكان الرجل أعجميا ،
فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ما تقول؟ قال : كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة
فجئت أحج لم أسأل أحدا عن شيء فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وانزعه من قبل رجلي وان
حجي فاسد وان علي بدنة. فقال له : متى لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال : قبل
ان ألبي. قال : فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل ، اي
رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه. طف بالبيت أسبوعا وصل ركعتين عند مقام إبراهيم
(عليهالسلام) واسع
__________________
بين الصفا والمروة وقصر من شعرك ، فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج
واصنع كما يصنع الناس».
ومن ذلك ـ ما
ورد في النكاح في العدة. ومنه صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في سابق هذه
المقدمة وبمضمونها روايات عديدة .
ومن ذلك ـ ما
ورد في الحدود كموثقة عبد الله بن بكير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : «في رجل شرب الخمر على عهد ابي بكر وعمر. واعتذر
بجهله بالتحريم ، فسألا أمير المؤمنين (عليهالسلام) فأمر (عليهالسلام) بان يدار به على مجالس المهاجرين والأنصار ، وقال : من
كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه. ففعلوا ذلك فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله».
وبمضمون ذلك في الحدود روايات عديدة.
ومن ذلك ـ ما
ورد في الصلاة في السفر تماما كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم وهذا من جملة ما استثناه من قال بعدم معذورية الجاهل ، وما
ورد في من أقام عشرة أيام وصلى قصرا جاهلا كصحيحة منصور بن حازم وكذا ما ورد في من جهر في موضع الإخفات وأخفت في موضع
الجهر وهذا أيضا أحد ما استثنوه.
__________________
ومن ذلك ايضا ـ
ما رواه الصدوق (قدسسره) في كتاب التوحيد بسنده عن عبد الأعلى بن أعين : قال : «سألت أبا عبد
الله (ع) عمن لا يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال : لا». وما رواه في الفقيه والتوحيد في الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : رفع عن أمتي تسعة ، وعد منها ما لا يعلمون».
ومما يؤكد ذلك ما
روي أيضا : «انه ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء ان يعلموا»
رواه في الكافي . وقوله : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» . وقوله : «ان الله يحتج على العباد بما آتاهم
__________________
وعرفهم» . الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.
ويمكن الجمع
بين هذه الأخبار بوجوه : (أظهرها) ان يقال : ان الجاهل ـ كما يطلق على الغافل عن
الحكم بالكلية ـ يطلق ايضا على غير العالم بالحكم وان كان شاكا أو ظانا ، والمفهوم
من الأخبار ان الجاهل بالحكم الشرعي على المعنى الثاني غير معذور بل الواجب عليه
الفحص والتفتيش عن الأدلة أو السؤال ، ومع تعذر الوقوف على الحكم ففرضه التوقف عن
الحكم والفتوى والوقوف على جادة الاحتياط في العمل ، وان الحكم بالنسبة إليه من
الشبهات المشار إليها في قولهم (عليهمالسلام) : «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك» . وعلى هذا الفرد تحمل الأخبار الدالة على عدم معذورية
الجاهل ووجوب التفقه والعلم والسؤال.
ومما يدل ـ على
ان حكم الجاهل بهذا المعنى ما ذكرنا ـ صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج المتقدمة في
سابق هذه المقدمة الواردة في جزاء الصيد كما أشرنا إليه ثمة.
وحسنة بريد الكناسي في من تزوجت في العدة جاهلة ، حيث قال
__________________
الراوي فيها : «قلت : فان كانت تعلم ان عليها عدة ولا تدري كم هي؟ فقال : إذا
علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة ، فتسأل حتى تعلم» . وهما ظاهرتا الدلالة على ذلك وان كان موردهما جزئيات
الحكم الشرعي.
وأما الجاهل
بالمعنى الأول فلا ريب في معذوريته ، لان تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة
العقلية وأيدتها الأدلة النقلية ، والى ذلك يشير قوله (عليهالسلام) في صحيحة عبد الرحمن المتقدمة في سابق هذه المقدمة الواردة في التزويج في العدة في تعليل ان الجاهل
بالتحريم أعذر من الجاهل بكونها في عدة : «وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها»
بمعنى انه مع جهله بان الله حرم عليه التزويج في العدة لا يقدر على الاحتياط
بالترك ، لعدم تصور الحكم بالكلية ، بخلاف الظان أو الشاك فإنه يقدر على ذلك لو
تعذر عليه العلم وعلى هذا تحمل الأخبار الأخير الدالة على المعذورية.
واما ما يفهم
من كلام ذلك البعض المشار اليه آنفا من الحكم بصحة صلاة العوام كيف كانت وان اشتملت على
الإخلال بالواجبات ، فظني انه على إطلاقه غير تام ، فإنه متى قام العذر للجاهل
بمجرد جهله وصحت صلاته كصلاة الفقيه بجميع شروطها وواجباتها ووسعه البقاء على جهله
، لزم سقوط التكليف. فما الغرض من أمر الشارع بهذه الأحكام والفصل فيها بين الحلال
والحرام؟ والى من تتوجه هذه الأوامر؟ والى من أرسلت
__________________
الرسل وأنزلت الكتب؟ إذا وسع الجاهل البقاء على جهله وصحت جميع أفعاله
وأعماله الواقعة كذلك ، وفي هذا من الشناعة ما لا يلتزمه من له ادنى قدم في
التحصيل ، واخبار ـ «لا يسع الناس البقاء على الجهالة» . وحديث تفسير قوله سبحانه : «قُلْ فَلِلّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» وما روي في حسنة زرارة عنه (صلىاللهعليهوآله) حين رأى من يصلي ولم يحسن ركوعه ولا سجوده ، من انه
قال : «نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني». وما
استفاض عنهم (صلوات الله عليهم) : «ليس منا من استخف بصلاته». وفي جملة منها «لا
ينال شفاعتنا من استخف بصلاته» . الشامل ذلك بإطلاقه للعالم والجاهل ـ مما يرد هذا
القول ويبطله.
والقول الفصل
في ذلك ان يقال : ان الظاهر ان الحكم في ذلك يختلف باختلاف الناس في أنسهم
بالأحكام والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه ، وقوة عقولهم وإفهامهم وعدمها. ولكل
تكليف يناسب حاله ، ويرجع ذلك بالأخرة إلى الجاهل بمعنييه
__________________
المتقدمين .
وذلك فان من المعلوم ان سكان الصحاري والرساتيق ليسوا في الانس بالأحكام والشرائع
، كسكان المدن والأمصار المشتملة على العلماء والوعاظ والجمعات والجماعات والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. ولهذا نهى الشارع عن سكون تلك وندب الى سكون
هذه ، لانه بمجرد ذلك يحصل التأدب بالآداب الشرعية ، والتخلق بالأخلاق المرضية ،
والاطلاع على الأحكام النبوية بمداخلة أبناء النوع ومعاشرتهم ، بل مجرد رؤيتهم ،
كما لا يخفى على من تأمل ذلك ، وحينئذ فالعامي من سكان الصحاري ـ مثلا ـ إذا أخذ
العبادة من آبائه وتلقاها من اسلافه على اي وجه كان ، معتقدا انها هي العبادة التي
أمر بها الشارع ولم يعلم زيادة على ذلك ، فالظاهر صحتها.
(أما أولا) ـ فلأنه
جاهل بما سوى ذلك جهلا ساذجا ، وتوجه الخطاب الى مثله كما قدمنا ممتنع عقلا ونقلا.
و (أما ثانيا)
ـ فلانه قد ورد في الأخبار بالنسبة إلى جاهل الإمامة من المخالفين انهم ممن يرجى
لهم الفوز بالنجاة في الآخرة ، فإذا كان ذلك حال المخالفين في الإمامة التي هي من
أصول الدين فكيف بعوام مذهبنا في الفروع؟ وكذا القول بالنسبة إلى قوة العقل والفهم
وعدمها ، فان خطاب كاملي العقول وثاقبي الأذهان ليس كخطاب غيرهم من البله والصبيان
والنسوان ، وقد ورد عنهم (عليهمالسلام) : «انما يداق الله العباد على ما وهبهم من العقول» .
و «انه سبحانه
يحتج على العباد بما آتاهم
__________________
وعرفهم» . وان الايمان درجات فلا ينبغي لصاحب الدرجة العالية أن
يبرأ من صاحب الدرجة السافلة ولا يوبخه عليها» . وحينئذ فتكليف ضعفة العقول ليس كتكليف كامليها ، ومما
يؤكد ذلك انه قد ورد في أخبارنا ان المستضعفين من المخالفين ممن يرجى لهم الفوز
بالجنة ، وان دل ظاهر الآية الشريفة على انهم من المرجئين لأمر الله ، إلا ان ظاهر
جملة من الأخبار ان عاقبة أمرهم إلى الجنة ، بل قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده)
على ما نقله عنه السيد نعمة الله الجزائري (رحمهالله) في بعض فوائده : «أن المستضعفين ـ من الكفار ممن لم
تقم عليه الحجة من عوامهم ومن بعد عن بلاد الإسلام ـ ممن يرجى لهم النجاة» قال
السيد نعمة الله بعد نقل ذلك عنه : «وهذا القول وان لم يوافقه عليه الأكثر إلا انه
غير بعيد من تتبع موارد الاخبار» انتهى. وحينئذ فلو أوقع أحد هؤلاء العبادة التي
أخذها من آبائه واسلافه ، معتقدا ان هذا هو أقصى ما هو مكلف به. فالظاهر صحتها
بالتقريب المتقدم. واما بالنسبة الى من عدا من ذكرنا فالظاهر ان جهلهم ليس كجهل
أولئك حتى يكون موجبا للعذر لهم ومصححا لعباداتهم ، فإنه لا أقل ان يكونوا ـ بمن
يصحبونه من المصلين الآتين بالصلاة على وجهها وبجملة حدودها ، ويشاهدونه من
الملازمين على ذلك في جميع الأوقات والحالات سيما في المساجد والجماعات ـ يحصل لهم
الظن الغالب ـ ان تنزلنا عن دعوى العلم ـ بان هذه هي الصلاة المأمور بها شرعا ،
وان ما نقص عنها وخالفها ان لم يكن معلوم البطلان فلا أقل ان يكون مظنونه أو
مشكوكه ، وحينئذ فيرجع
__________________
الى الجهل بالمعنى الآخر الموجب للفحص والسؤال والعلم والتفقه ، واستحقاق
العقوبة على ترك ذلك ، وبطلان العمل مع الإخلال بما هنالك ، كما يدل عليه قوله (عليهالسلام) : «إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة فتسأل حتى
تعلم» . وربما يستأنس لذلك ايضا بقول الصادق (عليهالسلام) في آخر حديث عبد الصمد بن بشير : «واصنع كما يصنع الناس». وفي هذا المقام مباحث شريفة
وفوائد لطيفة قد وشحنا بها هذه المسألة في كتاب الدرر النجفية مع بسط في أصل
المسألة تشتاقه الطباع وتلذه الأسماع.
المقدمة السادسة
في التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية
والبحث هنا يقع
في موارد :
(أحدها) ـ تعارض
الآيتين من الكتاب العزيز ، والواجب ـ أولا ـ الفحص والتفتيش من الاخبار في نسخ
إحداهما للأخرى وعدمه ، فان علم فذاك ، وإلا فإن علم التأريخ فالمتأخر ناسخ للسابق
، وإلا فإن اشتملت إحداهما على إطلاق أو عموم بحيث يمكن التقييد أو التخصيص حكم به
ايضا ، وإلا فالواجب التوقف والاحتياط ان أمكن. وإلا فاختيار إحداهما من باب
التسليم.
و (ثانيها) ـ تعارض
الآية والرواية. والذي ذكره بعض أصحابنا انه ان كانت إحداهما مطلقة أو عامة ، وجب
تقييدها بالأخرى ، وإلا فالاحتياط ان لم يمكن الجمع بينهما بحيث يحصل الظن القوي
بالمراد ولو بحسب القرائن الخارجة. ونقل
__________________
ـ عن جملة من أصحابنا : منهم ـ السيد المرتضى والشيخ (عطر الله مرقديهما) ـ
المنع من تخصيص القرآن بخبر الواحد.
ونقل الاحتجاج
على ذلك بان القرآن قطعي وخبر الواحد ظني ، والظني لا يعارض القطعي.
ورد (أولا) ـ بأن
التخصيص إنما هو في الدلالة ، وقطعية المتن غير مجدية ، لأن الدلالة ظنية. و (ثانيا)
ـ بمنع ظنية خبر الواحد ، بل هو أيضا قطعي من جهة الدلالة.
والأظهر
الاستدلال على ذلك بالأخبار المستفيضة الدالة على ان «كل خبر لا يوافق القرآن فهو
زخرف ،. وان كل شيء مردود الى الكتاب والسنة ،. وانه إذا ورد عليكم حديث فوجدتم
له شاهدا من قول الله عزوجل أو من قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وإلا فالذي جاءكم اولى به» . الى غير ذلك مما يدل على طرح ما خالف القرآن ، إلا ان
هذه الأخبار معارضة بما هو أكثر عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة من الأخبار الدالة
على تخصيص عمومات الآيات القرآنية وتقييد مطلقاتها في غير موضع من أبواب الفقه ،
وقول كافة الأصحاب أو جمهورهم بذلك ، مع اعتضاد تلك الآيات في جملة من المواضع
المذكورة بأخبار أخر أيضا دالة على ما دلت عليه تلك الآيات من إطلاق أو عموم.
والتحقيق في
المقام ان يقال : ينبغي ان يحمل كلام السيد والشيخ (قدسسرهما) على خبر الواحد الذي يمنعان حجيته في الأحكام الشرعية
، وهو ما لم يكن من طريقنا أو لم تشتمل عليه أصولنا كما تقدمت الإشارة الى ذلك في
المقدمة الخامسة ، لتصريحهما
__________________
بصحة أخبارنا المذكورة وثبوت تواترها عن الأئمة المعصومين (عليهمالسلام).
واما الاختلاف
الواقع بين الاخبار المذكورة فيمكن دفعه بالجمع بينها بأحد وجوه :
(أحدها) ـ حمل
الأخبار الدالة على المنع من التخصيص على التخصيص بما ورد من طريق العامة ، أو كان
خارجا عن أخبار الأصول التي عليها المدار بين الشيعة الأبرار ، أو كان مخالفا لعمل
الطائفة المحقة قديما وحديثا ، ونحو ذلك.
(الثاني) ـ حمل
المخالفة في تلك الأخبار على ما إذا كان مضمون الخبر مبطلا لحكم القرآن بالكلية.
والتقييد والتخصيص بيان لا مخالفة.
(الثالث) ـ حمل
المخالفة على مخالفة محكم الكتاب ونصوصه.
(الرابع) ـ ان
المراد بطلان الخبر المخالف للقرآن إذا علم تفسير القرآن بالأثر عن أهل العصمة (صلوات
الله عليهم) إذ لا شك في بطلان المخصص إذا كان ارادة العموم من القرآن معلوما
بالنص. نعم ربما ورد في الاخبار ما يطابق تلك الآيات في الإطلاق أو العموم الا انه
ليس مما نحن فيه في شيء .
و (ثالثها) ـ تعارض
الخبرين المعلومي الورود عنهم (عليهمالسلام) وقد ذكر جملة من الأصحاب انه ان أمكن الجمع بين
الدليلين ولو بتأويل بعيد فهو أولى من طرح أحدهما. ويرد على ذلك ان هذا مما لا
يتمشى في أخبارنا. لورود الكثير منها على جهة التقية التي هي على خلاف الحكم
الشرعي واقعا ، إذ التقية كما قد عرفت
__________________
في المقدمة الأولى أصل الاختلاف في أخبارنا ، فكيف يتمحل الجمع بينها وبين
ما هو خلافها واقعا؟ نعم إنما يتمشى ذلك على قواعد العامة ، لعدم ورود حديث عندهم
على جهة التقية. والظاهر ان من صرح بذلك من أصحابنا إنما أخذه من كلامهم غفلة عن
تحقيق الحال وما يلزمه من الاشكال.
(لا يقال) : ان
الشيخ (رحمهالله تعالى) في كتابي الأخبار هو أصل هذه الطريقة ومحقق هذه
الحقيقة ، حيث انه جمع بين الأخبار لقصد رفع التنافي بينها بوجوه عديدة ، وان كانت
بعيدة بل جملة منها غير سديدة ، رعاية لهذه القاعدة وطلبا لهذه الفائدة.
(لأنا نقول) :
نعم قد فعل الشيخ ذلك لكن ليس لرعاية هذه القاعدة ـ كما يتوهم ـ بل السبب الحامل
له على ذلك هو ما أشار إليه (قدسسره) في أول كتاب التهذيب ، من أن بعضا من الشيعة قد رجع عن
مذهب الحق لما وجد الاختلاف في الأخبار ، فقصد (قدسسره) إزاحة هذه الشبهة عن ضعفة العقول ومن ليس له قدم راسخ
في المعقول والمنقول ، وارتكب الجمع ولو بالوجوه البعيدة وأكثر من الاحتمالات. كل
ذلك لدفع تلك الشبهة. وبهذا يندفع عنه ما أورده المتأخرون في جمل من مواضع الجمع
بين الأخبار بالبعد أو الفساد ، فان مثله (قدسسره) ـ ممن لا يشق غباره ولا يدفع اشتهاره ـ لا يخفى عليه
ما اهتدى إليه أولئك الأقوام وما أوردوه عليه في كل مقام ، لكنهم من قبيل ما يقال
: «أساء سمعا فأساء اجابة»
وقد ذكر علماء
الأصول من وجوه الترجيحات في هذا المقام بما لا يرجع أكثره الى محصول. والمعتمد
عندنا على ما ورد من أهل بيت الرسول ، من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات ،
إلا انها بعد لا تخلو من شوب الاشكال ، فلا بد من بسط جملة منها في هذا المجال ،
والكلام فيها بما يكشف نقاب الإجمال وينجلي به غياهب الاشكال.
فنقول : مما
ورد في ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم عن عمر بن حنظلة عن الصادق (عليهالسلام) وفيها : «فان كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا
ان يكونا الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال
: الحكم ما حكم به أعدلهما وافقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت الى ما
يحكم به الآخر. قال : قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما
على الآخر. قال : فقال : ينظر الى ما كان ـ من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به ـ المجمع
عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ،
فإن المجمع عليه لا ريب فيه. وانما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع. وأمر بين
غيه فيجتنب. وأمر مشكل يرد علمه الى الله والى رسوله. قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك
الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.
قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر ، فما وافق
حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب
والسنة ووافق العامة. قلت : جعلت فداك أرأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب
والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم ، بأي الخبرين يؤخذ؟ قال
: ما خالف العامة ففيه الرشاد. قلت : جعلت فداك فان وافقهم الخبران
__________________
جميعا؟ قال : ينظر الى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ
بالآخر. قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى
إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».
ومن ذلك ـ ما
رواه الأئمة الثلاثة (نور الله مراقدهم) بأسانيدهم عن داود ابن الحصين عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : «في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم
وقع بينها فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، واختلف العدلان بينهما ، عن قول أيهما يمضي
الحكم؟ فقال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت
الى الآخر».
ومنه ـ ما رواه
الثقة الجليل احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي (قدسسره) في كتاب الاحتجاج عن سماعة بن مهران قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) قلت : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالعمل به والآخر
ينهانا عن العمل به؟ قال : لا تعمل بواحد منهما حتى تأتي صاحبك فتسأله عنه. قال :
قلت : لا بد أن يعمل بأحدهما. قال : اعمل بما فيه خلاف العامة».
ومنه ـ ما رواه
في الكتاب المذكور عن الحسن بن الجهم عن الرضا
__________________
(عليهالسلام) قال : «قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال ما
جاءك عنا فقسه على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا. فإن كان يشبههما فهو منا ، وان لم يكن
يشبههما فليس منا. قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين فلا نعلم
أيهما الحق؟ فقال : إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت».
ومنه ـ ما رواه
الشيخ محمد بن علي بن ابي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللئالي عن العلامة مرفوعا عن زرارة بن أعين : قال : «سألت
الباقر (عليهالسلام) فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان
المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ
النادر. فقلت : يا سيدي انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال (عليهالسلام) : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت :
انهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال : انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ ما
خالفه ، فان الحق فيما خالفهم. فقلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف اصنع؟
فقال : اذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. فقلت : انهما معا موافقان
للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال : اذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»
قال في الكتاب المذكور بعد نقل هذه الرواية : وفي رواية انه (عليهالسلام) قال : «اذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله».
ومنه ـ ما رواه
في الكافي في الموثق عن سماعة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في
أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى
يلقى
__________________
من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» قال في الكافي بعد نقل هذه الرواية : وفي
رواية أخرى : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك».
ومنه ـ ما رواه
الصدوق (رحمهالله) في كتاب عيون اخبار الرضا (عليهالسلام) بسنده عن احمد بن الحسن الميثمي : انه «سئل الرضا (عليهالسلام) يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه ، وقد كانوا
يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في الشيء الواحد ، فقال (عليهالسلام) : ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب
الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما
لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن النبي (صلىاللهعليهوآله) فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام أو مأمورا
به عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أمر إلزام ، فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وامره ، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان
الخبر الآخر خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وكرهه ولم يحرمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا ،
أو بأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد الى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا
علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكف والتثبت والوقوف ـ وأنتم
طالبون باحثون ـ حتى يأتيكم البيان من عندنا».
ومنه ـ ما رواه
الشيخ السعيد قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته المعمولة في بيان
أحوال أحاديث أصحابنا وصحتها بإسناده عن الصدوق ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه في
الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «قال
__________________
الصادق (عليهالسلام) : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب
الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فان لم تجدوهما في
كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم
فخذوه».
ومنه ـ ما رواه
في الرسالة المذكورة عن ابن بابويه بسنده عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف
القوم». وروى فيها بهذا النحو أخبارا عديدة متفقة المضمون على الترجيح بالعرض على
مذهب العامة والأخذ بخلافه.
ومنه ـ ما رواه
الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار قال : «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد الى ابي الحسن (عليهالسلام) : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) في ركعتي الفجر في السفر : فروى بعضهم ان صلهما في
المحمل وروى بعضهم ان لا تصلهما إلا على الأرض. فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في
ذلك؟ فوقع (عليهالسلام) : موسع عليك بآية عملت».
ومنه ـ ما رواه
في كتاب الاحتجاج في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري الى صاحب الزمان (عليهالسلام) «يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة
، هل يجب عليه ان يكبر؟ فان بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه ان يقول
بحول الله وقوته أقوم وأقعد. الجواب :
__________________
في ذلك حديثان ، أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة الى أخرى فعليه
التكبير. واما الحديث الآخر فإنه روي انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم
جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأول يجري هذا
المجرى. وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا».
ومنه ـ ما رواه
في الكتاب المذكور عن الحرث بن المغيرة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك
حتى ترى القائم فترد اليه».
ومنه ـ ما رواه
ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «أرأيتك لو حدثتك بحديث ـ العام ـ ثم جئتني من
قابل فحدثتك بخلافه ، بأيهما كنت تأخذ؟ قال : قلت : كنت آخذ بالأخير. فقال لي :
رحمك الله».
ومنه ـ ما رواه
في الكتاب المذكور ايضا بسنده عن المعلى بن خنيس عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟
قال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) : إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم» قال في الكافي
بعد نقل هذا الخبر : وفي حديث آخر : «خذوا بالأحدث».
__________________
إذا عرفت ذلك
فتحقيق الكلام في هذه الأخبار يقع في مواضع :
(الأول) ـ لا
يخفى أن مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة قد اشتملتا على الترجيح بأعدلية الراوي وافقهيته ، وهذا
الطريق من طرق الترجيح لم يتعرض له ثقة الإسلام في ديباجة الكافي في ضمن نقله طرق
الترجيحات ، وإنما ذكر الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة والأخذ بالمجمع عليه
، ولعل الوجه فيه ما ذكره بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) من انه لما كانت أحاديث
كتابة كلها صحيحة عنده ـ كما صرح به في غير موضع من ديباجة كتابه ـ فلا وجه
للترجيح بعدالة الراوي. ويحتمل ايضا أن يقال : ان في الترجيح بأحد تلك الوجوه
الثلاثة غنية عن الترجيح بعدالة الراوي كما سيأتي تحقيقه. ويؤيد ذلك خلو ما عدا
الخبرين المذكورين ورواية داود ابن الحصين من الأخبار الواردة في هذا المضمار عن عد ذلك في جملة
المرجحات.
ويؤيده أيضا ما
رواه في الكافي عن ابن ابي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن اختلاف الحديث : يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق
به قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وإلا فالذي جاءكم به اولى به». فإنه (عليهالسلام) لم يرجح بالوثاقة ولم يقل اعمل بما تثق به دون ما لا
تثق به مع كون السؤال عن الاختلاف الناشئ عن رواية الثقة وغير الثقة.
(الثاني) ـ انه
قد اشتملت مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة على جملة الطرق الواردة في الترجيح ،
لكنهما قد اختلفتا في الترتيب بين تلك الطرق ، فاشتملت الاولى منهما على الترجيح
بالأعدلية والافقهية ثم بالمجمع عليه ثم بموافقة الكتاب
__________________
ثم بمخالفة العامة ، والثانية منهما قد اشتملت على الترجيح بالشهرة أولا ثم
بالأعدلية والأوثقية ثم بمخالفة العامة ثم بالأحوطية ، ولم يذكر فيها الترجيح
بموافقة القرآن ، كما لم يذكر في الأولى الترجيح بالأحوطية.
ويمكن الجواب (أولا)
بأن يقال : ان الترتيب غير منظور فيهما ، لأنه في الحقيقة انما وقع في كلام السائل
لا في كلامه (عليهالسلام) وغاية ما يفهم من كلامه (عليهالسلام) هو الترتيب الذكري. وهو لا يستدعي الترتيب في وقوع
الترجيح ، وحينئذ فأي طريق اتفق من هذه الطرق عمل عليه ، وبذلك يندفع ما قيل : ان
مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة ـ حيث قدم فيها الترجيح بالأعدلية والأوثقية ـ انه لا
يصار الى غير الطريق المذكور إلا مع تعذر الترجيح به ، وهكذا باقي الطرق.
(لا يقال) :
يلزم الاشكال لو تعارضت الطرق المذكورة : بأن كان أحد الخبرين مجمعا عليه مع
موافقته للعامة والآخر غير مجمع عليه مع مخالفته لهم ، أو أحدهما موافقا للكتاب مع
موافقته للعامة والآخر مخالفا للعامة وللكتاب.
(لأنا نقول) :
غاية ما يلزم من ذلك خلو الروايتين المذكورتين عن حكم ذلك ، والمدعى إنما هو عدم
دلالتهما على الترتيب في هذه الطرق لا الدلالة على عدم الترتيب واقعا أو الدلالة
عليه. على انا نقول : انه مع القول بعدم المخالفة بين الاخبار والقرآن إذا كانت
مخصصة له كما أسلفنا بيانه ، فلا نسلم وجود هذه الفروض المذكورة في أخبارنا
المعمول عليها عندنا ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار وتصفح الأخبار بعين
الاعتبار ، ومع إمكان وجود ذلك فيمكن ايضا القول بأنه متى تعارض طريقان من الطرق
المذكورة. يصار الى الترجيح بغيرهما إن أمكن ، أو بهما مع اعتضاد أحدهما بمرجح آخر
من تلك الطرق ان وجد ، وإلا صير الى التوقف والإرجاء أو التخيير.
__________________
ويمكن أن يقال
أيضا في الجواب (ثانيا) عن اختلاف الخبرين المذكورين في الترتيب بين الطرق : بأنه
لا يبعد ترجيح العمل بما تضمنته مقبولة عمر بن حنظلة ، لاعتضادها بنقل الأئمة الثلاثة (رضوان الله عليهم)
وتلقي الأصحاب لها بالقبول حتى انه اتفقت كلمتهم على التعبير عنها بهذا اللفظ الذي
كررنا ذكره ، واطباقهم على العمل بما تضمنته من الأحكام. بخلاف الرواية الأخرى ،
فإنا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللئالي ، مع ما هي عليه من الرفع والإرسال ،
وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل في نقل الاخبار والإهمال وخلط
غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور.
(الثالث) ـ انه
قد دلت مقبولة عمر بن حنظلة على الإرجاء والتوقف بعد التساوي في طرق الترجيحات
المذكورة. ومرفوعة زرارة على التخيير في العمل بأحدهما بعد ذلك ، وبعض الاخبار
قد دل على التوقف والإرجاء من غير ذكر شيء من الطرق قبل ذلك. وبعض آخر قد دل على
التخيير كذلك. ولعل الأخيرين محمولان على عدم إمكان الترجيح بتلك الطرق ، لاستفاضة
الأخبار بالترجيح سيما بالقرآن ومخالفة العامة أولا ، بل العمل بهما وان لم يكن
ثمة مخالف من الأخبار ، الا ان خبر سماعة ـ المنقول عن كتاب الاحتجاج ـ ينافي ذلك ، ولعله محمول على إمكان الوصول الى الامام
(عليهالسلام) وإمكان التأخير ، إذ الترجيح بهذه الطرق فرع تعذر
الوصول اليه (عليهالسلام) بغير مشقة وقد اختلفت كلمة أصحابنا (رضوان الله عليهم)
__________________
عليهم) في وجه الجمع بين خبري الإرجاء والتسليم على وجوه :
(فمنها) ـ حمل
خبر الإرجاء على الفتوى وحمل خبر التخيير على العمل ، بمعنى انه لا يجوز للفقيه ـ والحال
كذلك ـ الفتوى والحكم وان جاز له العمل بأيهما شاء من باب التسليم. وبه صرح جملة
من مشايخنا المتأخرين ، واستدل بعضهم على ذلك بصحيحة علي بن مهزيار ومكاتبة
الحميري المتقدمتين وظني انهما ليستا من ذلك الباب ، إذ الظاهر من الأخبار
ان التخيير في العمل من باب الرد والتسليم إنما هو مع تعذر رد الحكم لهم (عليهمالسلام) وتساوي الخبرين في طرق الترجيح ، فالحكم حينئذ فيه
التخيير في العمل خروجا من الحيرة ودفعا للحرج والضرورة ، كما ينادي به كلام ثقة الإسلام
الآتي نقله . فهو من قبيل الرخص الواردة عنهم (عليهمالسلام) في مقام الضرورة كالعمل بالتقية ونحوه ، واما مع رد
الحكم للإمام (عليهالسلام) وامره بالتخيير فالظاهر ان الحكم الشرعي في ذلك هو
التخيير ، وهو أحد الوجوه التي يجمع بها بين الأخبار إذا ظهر له مستند منها.
والأمر هنا كذلك.
و (منها) ـ حمل
الإرجاء على زمن وجوده (عليهالسلام) وإمكان الرد اليه ، وحمل التخيير على زمان الغيبة وعدم
إمكان الوصول اليه. وبه صرح الثقة الجليل احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي في كتاب
الاحتجاج وفيه ان ذلك يتم بالنسبة
__________________
الى الأخبار المشتملة على الإرجاء والتخيير الخالية عن طرق الترجيح. واما
الاخبار المشتملة عليها ـ كمقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة المجعول فيهما الإرجاء والتخيير بعد تعذر الترجيح بتلك
الطرق ـ فيشكل بان الظاهر أن الترجيح بتلك الطرق إنما يصار اليه عند تعذر الوصول
إليهم (عليهمالسلام) فكيف يحمل الإرجاء في هذه الحال على إمكان الوصول؟ إلا
ان يحمل على ذوي الأطراف البعيدة المستلزم الوصول فيها المشقة فيعمل على تلك
المرجحات ، ومع عدم إمكان الترجيح بها يقف عن الحكم والعمل حتى يصل للإمام (عليهالسلام) ، وربما يفهم ذلك من مرفوعة زرارة ، لأمره (عليهالسلام) له بذلك. فإنه دال بإطلاقه على ما هنالك.
(ومنها) ـ حمل
اخبار التخيير على العبادات المحضة كالصلاة ، وحمل أخبار الإرجاء على غيرها من
حقوق الآدميين من دين أو ميراث على جماعة مخصوصين أو فرج أو زكاة أو خمس ، فيجب
التوقف عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه. ذهب اليه المحدث
الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في كتاب الفوائد المدنية ، والظاهر ان وجهه اشتمال
مقبولة عمر بن حنظلة الدالة على الإرجاء على كون متعلق الاختلاف حقوق الناس.
وفيه ان تقييد إطلاق جملة الأخبار الواردة بذلك لا يخلو من إشكال ، فإنها ليست نصا
في التخصيص بل ولا ظاهرة فيه حتى يمكن ارتكاب التخصيص بها.
و (منها) ـ حمل
خبر الإرجاء على ما لم يضطر الى العمل بأحدهما. والتخيير على حال الاضطرار والحاجة
الى العمل بأحدهما. ذهب اليه الفاضل ابن ابي جمهور
__________________
في كتاب عوالي اللئالي ، وظاهره حمل كل من خبري الإرجاء والتخيير على العمل
خاصة أعم من أن يكون في زمن الغيبة أو عدم إمكان الوصول أولا. وهذا الإطلاق مشكل ،
لان الظاهر انه مع الحضور وإمكان الوصول لا يسوغ التخيير بل يجب الإرجاء حتى يسأل.
و (منها) ـ حمل
الإرجاء على الاستحباب ، والتخيير على الجواز. نقله المحدث السيد نعمة الله عن
شيخه المجلسي (قدسسرهما) وظني بعده.
و (منها) ـ ما
يفهم من خبر الميثمي المتقدم نقله عن كتاب عيون الاخبار من تخصيص التخيير في العمل بما كان النهي فيه نهي اعافة
لا نهي تحريم ثم كان الخبر الآخر خلافه فإنه رخصة ، والإرجاء والتوقف على غير ذلك.
والظاهر انه لا يطرد كليا ، لما عرفت من عموم خبري عمر بن حنظلة وزرارة ونحوهما من الأخبار.
و (منها) ـ حمل
الإرجاء على النهي عن الترجيح والعمل بالرأي ، وحمل التخيير على الأخذ من باب
التسليم والرد إليهم (عليهمالسلام) لا إلى الرأي والترجيح بما يوافق الهوى كما هو قول أبي
حنيفة وأضرابه. وهذا الوجه نقله بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) احتمالا ايضا.
والظاهر بعده.
و (منها) ـ حمل
خبر الإرجاء على حكم غير المتناقضين وحمل خبر التخيير على المتناقضين. نقله بعض
شراح الأصول عن بعض الأفاضل. وفيه ان موثقة سماعة المتقدمة عن الكافي موردها في المتناقضين مع انه حكم فيها
بالإرجاء ، وحكم
__________________
في الرواية المرسلة التي بعدها بالتخيير ، والمورد واحد ، وروايته المنقولة عن
الاحتجاج ايضا موردها المتناقضان مع انه حكم فيها بالإرجاء.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه يمكن ترجيح الوجه الأول بقوله (عليهالسلام) في حديث الميثمي : «فردوا علمه إلينا ولا تقولوا فيه بآرائكم». فإن ظاهره المنع عن الإفتاء
والحكم خاصة ، ولا ينافيه التخيير في الفعل تسليما لهم (عليهمالسلام) وعليه يدل ظاهر رواية الحرث بن المغيرة فإن ظاهرها انه متى كان نقلة الحديث كلهم ثقات فموسع
عليك في العمل بقول كل منهم حتى ترى القائم فترد اليه الحكم والفتوى في ذلك ، وإلا
فلا معنى للسعة المذكورة سيما لو كان الفرض إلجاء الحاجة الى العمل بأحدهما بل هو
ضيق ، ومثلها موثقة سماعة فإن ظاهر قوله : «فهو في سعة حتى يلقاه». مفرعا على
الإرجاء المشعر ذلك باختلاف متعلقيهما أن السعة إنما هي باعتبار التخيير بين الفعل
وعدمه والإرجاء باعتبار الحكم خاصة. إلا ان هذه الرواية محتملة لاحتمال آخر ايضا.
وعندي ان مرجع
كل من الوجه الأول والثاني عند التأمل والتحقيق بالنظر الدقيق إلى أمر واحد. وذلك
فان حمل الإرجاء على الفتوى والتخيير على العمل ـ
__________________
كما هو الوجه الأول ـ لا يكون إلا مع غيبة الإمام (عليهالسلام) أو عدم إمكان الوصول إليه ، إذ الظاهر انه متى أمكن
الوصول اليه واستعلام الحكم منه فإنه يتحتم الإرجاء في الفتوى والعمل تحصيلا للحكم
بطريق العلم واليقين كما هو الطريق الواضح المستبين ، اما مع عدم إمكان الترجيح
بما تقدمهما من الطرق أو مع الإمكان على التفصيل المتقدم آنفا والى ذلك يشير خبر سماعة المنقول عن الاحتجاج وحمل الإرجاء على زمن وجود الامام (عليهالسلام) وإمكان الرد اليه والتخيير على ما عدا ذلك ـ كما هو
الوجه الثاني ـ مراد به الإرجاء في الفتوى والفعل لما عرفت ، والتخيير على الوجه
المذكور مراد به التخيير في الفعل خاصة ، إذ لا مجال لاعتبار
التخيير في الحكم الشرعي والفتوى به ، لاستفاضة الآيات والأخبار بالمنع من الحكم
والفتوى بغير علم ، وان الحكم الشرعي في كل مسألة واحد يصيبه من يصيبه ويخطيه من
يخطيه لا تعدد فيه ، وهذا مما ينافي التخيير في الفتوى ، وحينئذ فيرجع الى التخيير
في الفعل
__________________
خاصة ، وبذلك يجتمع الوجهان المذكوران على أحسن التئام وانتظام وان غفلت
عنه جملة مشايخنا العظام ، ولعل هذا الوجه حينئذ هو أقرب الوجوه المذكورة .
وكيف كان فتعدد
هذه الاحتمالات مما يدخل الحكم المذكور في حيز المتشابهات التي يجب الوقوف فيها
على جادة الاحتياط ، فإنه أحد مواضعه كما قدمنا تحقيقه وأوضحنا طريقه .
(الرابع) ـ يستفاد
من الروايات الأخيرة ان من جملة الطرق المرجحة عند التعارض الأخذ بالأخير ،
ولم أقف على من عد ذلك في طرق الترجيحات فضلا عمن عمل عليه غير الصدوق (طاب ثراه)
في الفقيه في باب (الرجل يوصي
__________________
للرجلين) حيث نقل خبرين مختلفين ثم قال : «ولو صح الخبران جميعا
لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق (عليهالسلام) ، وذلك لان الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم
بزمانه وأحكامه من غيره من الناس» انتهى.
أقول : والعمل
بهذا الوجه بالنسبة إلى زمانهم (عليهمالسلام) لا اشكال فيه. وذلك لان الظاهر ان الاختلاف المذكور
ناشىء عن التقية لقصد الدفع عن الشيعة ، كما يشير اليه قوله (عليهالسلام) في الخبر الثاني من الاخبار المشار إليها : «إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم». وحينئذ فالوجه
في الأمر بالأخذ بالأخير انه ، لو كانت التقية في الأول من الخبرين فالثاني رافع
لها فيجب الأخذ به ، وان كانت التقية في الثاني وجب الأخذ به لذلك. واما بالنسبة
إلى مثل زماننا هذا فالظاهر انه لا يتجه العمل بذلك على الإطلاق ، لجواز ان يحصل
العلم بأن الثاني إنما ورد على سبيل التقية والحال ان المكلف ليس في تقية ، فإنه
يتحتم عليه العمل بالأول ولو لم يعلم كون الثاني بخصوصه تقية بل صار احتمالها
قائما بالنسبة إليهما ، فالواجب حينئذ هو التخيير أو الوقوف بناء على ظواهر
الأخبار ، أو الاحتياط كما ذكرناه .
(الخامس) ـ المستفاد
ـ من كلام ثقة الإسلام وعلم الاعلام (قدسسره) في ديباجة كتاب الكافي ـ ان مذهبه فيما اختلفت فيه
الاخبار هو القول بالتخيير. ولم أعثر على من نقل ذلك مذهبا له مع ان عبارته (طاب
ثراه) ظاهرة الدلالة طافحة المقالة ، وشراح كلامه قد زيفوا عبارته وأغفلوا مقالته.
قال (قدسسره) : فاعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ انه لا يسع أحدا تمييز
شيء
__________________
مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهمالسلام) برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله (عليهالسلام) : «اعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه». وقوله (عليهالسلام) : «دعوا ما وافق القوم ، فان الرشد في خلافهم». وقوله (عليهالسلام) : «خذوا بالمجمع عليه ، فان المجمع عليه لا ريب فيه». ونحن
لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله الى
العالم ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : «بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم». انتهى.
وقوله (قدسسره) : «ونحن لا نعرف. إلخ» الظاهر ان معناه انا لا نعرف من
كل من الضوابط الثلاث إلا الأقل.
ويمكن توجيهه
بان يقال : اما الكتاب العزيز فلاستفاضة الأخبار ـ كما قدمنا لك شطرا منها ـ بأنه لا يعلمه على التحقيق سواهم (عليهمالسلام) ، وقد علمت مما حققناه سابقا ان القدر الذي يمكن
الاستناد اليه من الكتاب العزيز في الأحكام الشرعية أقل قليل.
واما مذهب العامة
فلا يخفى ـ على الواقف على كتب السير والآثار والمتتبع للقصص والاخبار ، وبه صرح
أيضا جملة من علمائنا الأبرار بل وعلماؤهم في ذلك المضمار ـ ما عليه مذاهب العامة
في الصدر السابق من الكثرة والانتشار ، واستقرار مذهبهم على هذه الأربعة إنما وقع
في حدود سنة خمس وستين وستمائة ، كما نقله المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب
الفوائد المدنية عن بعض علماء العامة ، على ان المستفاد من الأخبار كما قدمنا
تحقيقه في المقدمة الأولى وقوع التقية وان لم يكن على وفق شيء من أقوالهم.
__________________
واما المجمع
عليه ، فان أريد في الفتوى فهو ظاهر التعسر ، لان كتب المتقدمين كلها مقصورة على
نقل الاخبار كما لا يخفى على من راجع الموجود منها الآن ، ككتاب قرب الاسناد وكتاب
علي بن جعفر ومحاسن البرقي وبصائر الدرجات ونحوها ولتفرق الأصحاب وانزوائهم في
زاوية التقية في أكثر البلدان ، وان أريد في الرواية بمعنى ان يكون مجمعا عليه في
الأصول المكتوبة عنهم ، ففيه انها قد اشتملت على الأخبار المتخالفة والأحاديث
المتضادة فهي مشتركة في الوصف المذكور ، وحينئذ فمتى لم تعلم هذه الأمور على
الحقيقة فالمعتمد عليها ربما يقع في المخالفة من حيث لا يشعر وتزل قدمه من حيث لا
يبصر ، فلا شيء أسلم من الأخذ بما وسعوا فيه من باب التسليم لهم دون الجزم والحكم
بكون ذلك هو الحكم الواقعي ، فإن فيه تحرزا عن القول على الله (سبحانه) بغير علم ،
وتخلصا من التهجم على الأحكام بغير بصيرة وفهم.
وما ذكره بعض
مشايخنا المعاصرين (نور الله تعالى مراقدهم) ـ من انه ليس الأمر كذلك ، قال : «فان الحق لا يشتبه
بالباطل ، والمطوق ليس كالعاطل ، والشمس لا تستر بالنقاب ، والشراب لا يلتبس
بالسراب ، وما ورد من التقية لا يكاد يخفى» انتهى ـ فعبارات قشرية وتسجيعات من
التحقيق عرية ، كما لا يخفى على من عض على العلم بالأخبار بضرس قاطع ، واعطى
التأمل حقه فيما أودعناه في هذه المواضع ، كيف؟ وهو (قدسسره) في جملة مصنفاته وفتاويه يدور مدار الاحتياط خوفا من
الوقوع في شبهات الاحتياط ، قائلا في بعض مصنفاته : «ان مناط أكثر الأحكام لا يخلو
من شوب وريب وتردد ، لكثرة الاختلافات في تعارض الأدلة وتدافع الأمارات ، فلا
ينبغي ترك الاحتياط للمجتهد فضلا عمن دونه» انتهى.
(السادس) ـ قد
اشتهر ـ بين أكثر أصحابنا سيما المتأخرين ـ عدا الاستحباب
__________________
والكراهة من جملة وجوه الجمع بين الأخبار ، بل الاقتصار عليهما في الجمع
دون تلك القواعد المنصوصة والضوابط المخصوصة ، كما لا يخفى على من لاحظ كتب
المتأخرين ومتأخريهم ، حتى تحذلق بعض متأخري المتأخرين ـ كما نقله بعض مشايخنا
المعاصرين ـ فقال : «إذا أمكن التوفيق بين الأخبار بحمل بعضها على المجاز كحمل
النهي على الكراهة والأمر على الاستحباب وغير ذلك من ضروب التأويلات ، فهو أولى من
حمل بعضها على التقية وان اتفق المخالفون على موافقته» ولعمري انه محض اجتهاد في
مقابلة النصوص وجرأة على رد كلام أهل الخصوص ، وقد قدمنا لك في المقدمة السابقة ما فيه مزيد تحقيق للمقام ودفع لهذه الأوهام.
(السابع) ـ الذي
ظهر لي من الأخبار ـ مما تقدم نقله وغيره ، وعليه اعتمد وبه أعمل ـ انه متى تعارض
الخبران على وجه لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر.
فالواجب ـ أولا
ـ العرض على الكتاب العزيز. وذلك لاستفاضة الأخبار بالعرض عليه وان لم يكن في مقام
اختلاف الأخبار ، وان ما خالفه فهو زخرف ولعدم جواز مخالفة أحكامهم (عليهمالسلام) للكتاب العزيز ، لانه آيتهم وحجتهم واخبارهم تابعة له
ومقتبسة منه ، وأما ما ورد مخصصا أو مقيدا له فليس من المخالفة في شيء كما قدمنا
بيانه وأوضحنا برهانه . والمراد العرض على محكماته ونصوصه بعد معرفة الناسخ
منها من المنسوخ. واما غيرها فيشترط ورود التفسير له عن أهل البيت (عليهمالسلام) ، وإلا فالتوقف عن الترجيح بهذه القاعدة.
ثم الترجيح
بالعرض على مذهب القوم والأخذ بخلافهم ، لاستفاضة
__________________
الأخبار بالأخذ بخلافهم وان لم يكن في مقام التعارض ايضا كما تدل عليه جملة من الأخبار.
(منها) ـ رواية
علي بن أسباط المروية في التهذيب وعيون الأخبار ، وفيها ما يدل على «انهم متى أفتوا بشيء فالحق في
خلافه» وفي صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع عن الرضا (عليهالسلام) : «إذا رأيت الناس يقبلون على شيء فاجتنبه». وفي
صحيحة أبي بصير المروية في رسالة الراوندي المتقدم ذكرها عن أبي عبد الله (عليهالسلام) : «ما أنتم والله على شيء مما هم فيه ولا هم على شيء
مما أنتم فيه ، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء» . وفي بعض الأخبار : «والله لم يبق في أيديهم إلا
استقبال القبلة». وحينئذ ففي مقام التعارض بطريق اولى.
ثم مع عدم
إمكان العرض على مذهبهم فالأخذ بالمجمع عليه ، ومما يدل على الأخذ به ما تقدم نقله
عن ثقة الإسلام من الخبر المرسل الذي أشار إليه بقوله : «وقوله (عليهالسلام) : خذوا بالمجمع عليه ، فان المجمع عليه لا ريب فيه» ،
الا ان في تيسر هذا الإجماع لنا في هذه الأزمان نوع اشكال كما عرفت آنفا.
وكيف كان فهذه
القواعد الثلاث لا يمكن الاختلاف فيها بعد إعطاء التأمل حقه في الأخبار في مقام
الاختلاف. وإعطاء النظر حقه من التحقيق والإنصاف ،
ومع عدم إمكان
الترجيح بالقواعد الثلاث فالأرجح الوقوف على ساحل الاحتياط ،
__________________
وان كان ما اختاره شيخنا ثقة الإسلام من التخيير لا يخلو من قوة ، الا ان
اخبار الاحتياط عموما وخصوصا أكثر عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة.
واما الترجيح
بالأوثقية والأعدلية فالظاهر انه لا ثمرة له بعد الحكم بصحة أخبارنا التي عليها
مدار ديننا وشريعتنا كما قدمنا بيانه ولعل ما ورد ـ في مقبولة عمر بن حنظلة من الترجيح بذلك ـ محمول على الحكم والفتوى كما هو
موردها ، ومثلها رواية داود بن الحصين . واما مرفوعة زرارة فلما عرفت من الكلام فيها لا تبلغ حجة ، أو يقال
باختصاص ذلك بزمانهم (عليهمالسلام) قبل وقوع التنقية في الاخبار وتخليصها من شوب الاكدار
، والله سبحانه ورسوله وأولياؤه أعلم.
(الثامن) ـ انه
قد وقع التعبير عن المجمع عليه في مقبولة عمر بن حنظلة بالمشهور ، وهو لا يخلو من نوع تدافع. ويمكن الجواب عن
ذلك اما بتجوز إطلاق المجمع عليه على المشهور ، أو بان يقال : يمكن ان يكون الراوي
لما هو خلاف المجمع عليه قد روى ما هو مجمع عليه أيضا فأحد الخبرين مجمع عليه بلا
اشكال والآخر الذي تفرد بروايته شاذ غير مجمع عليه ، وحينئذ فيصير التجوز في جانب
الشهرة ، واما بحمل الشاذ المخالف على ما وافق روايات العامة واخبارهم وان رواه
أصحابنا ، بمعنى وجوب طرح الخبر الموافق لهم إذا عارضه خبر مشهور معروف بين الأصحاب
، وذلك لا ريب فيه كما تدل عليه الاخبار الدالة على حكم الترجيح بين الاخبار.
__________________
المقدمة السابعة
في ان مدلول
الأمر والنهي حقيقة هو الوجوب والتحريم
وقد طال
التشاجر بين علماء الأصول في هذه المقالة ، وتعددت الأقوال فيها وزيف كل منهم ما
أورده الآخر من الاستدلال وقاله ، مع ان الكتاب العزيز واخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) مملوة من الدلالة على ذلك ، وهي أولى بالاتباع
والاعتماد وأظهر في الدلالة على المراد.
فمنها قوله
تعالى : «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...» وليس الطاعة إلا الانقياد لما يقوله الآمر من الأمر
والنهي كما صرح به أرباب اللغة. وترك الطاعة عصيان ، لنص أهل اللغة على ذلك ،
والعصيان حرام ، لقوله سبحانه : «وَمَنْ
يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ...» .
و (منها) ـ قوله
تعالى : «مَنْ
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» والتقريب ما تقدم.
و (منها) ـ قوله
تعالى : «فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ» .
و (منها) ـ قوله
تعالى : «وَما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...» .
__________________
ومن الاخبار
الدالة على ذلك ما استفاض من وجوب طاعة الأئمة (عليهمالسلام) وان طاعتهم كطاعة الله ورسوله ، وقد عقد له في الكافي بابا عنونه بباب (فرض طاعة الأئمة عليهمالسلام).
ومن اخباره : حسنة
الحسين بن ابي العلاء قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ قال : نعم هم الذين قال الله
تعالى (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.) . الحديث».
وصحيحة الكناني
قال : قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : «نحن قوم فرض الله طاعتنا. الحديث».
ورواية الحسين
بن المختار عن ابي جعفر (عليهالسلام) : «في قول الله تعالى ((وَآتَيْناهُمْ
مُلْكاً عَظِيماً)) قال : الطاعة للإمام» . الى غير ذلك من الاخبار المذكورة في ذلك الباب وغيره.
ومن الاخبار
الدالة على أصل المدعى صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليهالسلام) : ما تقول في الصلاة في السفر ، كيف هي وكم هي؟ فقال :
ان الله عزوجل يقول : «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ...» . فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا
: قلنا : انما قال الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ). ولم يقل : افعلوا. فكيف أوجب
__________________
ذلك كما وجب التمام في الحضر؟ فقال (عليهالسلام) : أو ليس قد قال الله عزوجل في الصفا والمروة (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.) ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض؟. الحديث» وجه الدلالة ان زرارة ومحمد
بن مسلم علقا استفادة الوجوب على صيغة افعل مجردة ، وسألا عن وجوب القصر مع عدم
الصيغة المذكورة ، وهما من أهل اللسان وخواص الأئمة (عليهمالسلام) والامام قررهما على ذلك.
و (منها) ـ صحيحة
عمر بن يزيد قال : «اشتريت إبلا وانا بالمدينة مقيم فأعجبتني إعجابا
شديدا ، فدخلت على ابي الحسن الأول (عليهالسلام) فذكرتها ، فقال : مالك وللإبل؟ أما علمت أنها كثيرة
المصائب؟ قال : فمن إعجابي بها أكريتها وبعثتها مع غلمان لي إلى الكوفة فسقطت كلها
، قال : فدخلت عليه فأخبرته. فقال : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) .
و (منها) ـ ما
ورد في رسالة الصادق (عليهالسلام) الى أصحابه المروية في كتاب روضة الكافي حيث قال فيها : «اعلموا ان ما أمر الله ان تجتنبوه فقد
حرمة ، الى ان قال في أثنائها أيضا : واعلموا انه إنما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به
ولينتهي عما نهى عنه ، فمن اتبع امره فقد أطاعه ومن لم ينته عما نهى عنه فقد عصاه
، فان مات على معصيته أكبه الله على وجهه في النار».
و (منها) ـ صحيحة
زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) : قال : «العمرة
__________________
واجبة على الخلق بمنزلة الحج ، لان الله تعالى يقول (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلّهِ). الحديث».
و (منها) ـ قول
الصادق (عليهالسلام) لهشام بن الحكم لما سأله «ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو
بن عبيد؟ فاعتذر له هشام بأني أجلك وأستحييك. فقال الصادق (عليهالسلام) : إذا أمرتكم بشيء فافعلوا». رواه في الكافي في أول
باب الاضطرار إلى الحجة ، وهو ظاهر كالصريح في وجوب امتثال أوامرهم (عليهالسلام).
وذهب جمع ـ من
المتأخرين ومتأخريهم منهم : الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني بل ربما كان أولهم
فيما أعلم ـ إلى منع دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب والتحريم في كلام الأئمة (عليهمالسلام) وان كانت كذلك في كلام الله تعالى وكلام الرسول (صلىاللهعليهوآله) مستندين إلى كثرة ورود الأوامر والنواهي عنهم (عليهمالسلام) للاستحباب والكراهة وشيوعها في ذلك ، قال في كتاب
المعالم : «فائدة ، يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهمالسلام) ان استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم
بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند
انتفاء المرجح الخارجي ، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم
(عليهمالسلام)». وبمثل هذه المقالة صرح السيد السند في مواضع من
المدارك ، ونسج على منوالهما جمع ممن تأخر عنهما .
وعندي فيه نظر
من وجوه : (أحدها) ـ ان تلك الأوامر والنواهي هي في الحقيقة أوامر الله سبحانه
ورسوله ، ولا فرق بين صدورها من الله تعالى ورسوله ولا منهم ، لكونهم (عليهمالسلام) حملة ونقلة ، لقولهم (صلوات الله عليهم) :
__________________
«إنا إذا حدثنا حدثنا عن الله ورسوله ولا نقول من أنفسنا» . وحينئذ فكما ان هذا القائل يسلم أن أوامر الله سبحانه
ورسوله ونواهيهما ـ الصادرة عنهما لا بواسطة ـ واجبة الاتباع ، فيجب عليه القول
بذلك فيما كان بواسطتهم (عليهالسلام) ، وهل يجوز أو يتوهم نقلهم (عليهمالسلام) ذلك اللفظ عن معناه الحقيقي الذي هو الوجوب أو التحريم
واستعماله في معنى مجازي من غير نصب قرينة وتنبيه على ذلك؟ وهل هو إلا من قبيل
التعمية والألغاز؟ وشفقتهم على شيعتهم ـ وحرصهم على هدايتهم بل علو شأنهم وعصمتهم
تمنع من ذلك.
و (ثانيها) ـ ان
ما استند اليه هذا القائل ـ من كثرة ورود الأوامر والنواهي في أخبارهم للاستحباب
والكراهة ـ مردود بأنه ان كان دلالة تلك الأوامر والنواهي باعتبار قرائن قد اشتملت
عليها تلك الأخبار حتى دلت بسببها على الاستحباب والكراهة فهو لا يقتضي حمل ما لا
قرينة فيه على ذلك ، وهل هو إلا قياس مع وجود الفارق؟ وإلا فهو عين المتنازع فلا
يتم الاستدلال وهذا بحمد الله سبحانه واضح المجال لمن عرف الرجال بالحق لا الحق
بالرجال.
و (ثالثها) ـ ان
ما قدمنا من الآيات والأخبار ـ الدالة على فرض طاعتهم ووجوب متابعتهم ـ عامة شاملة
لجميع الأوامر والنواهي إلا ما دلت القرائن على خروجه ، فحينئذ لو حمل الأمر
والنهي الوارد في كلامهم بدون القرينة الصارفة على الاستحباب والكراهة المؤذن
بجواز الترك في الأول والفعل في الثاني ، لم يحصل العلم بطاعتهم ولا اليقين
بمتابعتهم ، وكان المرتكب لذلك في معرض الخوف والخطر والتعرض لحر سقر ، لاحتمال
كون ما أمروا به إنما هو على وجه الوجوب والحتم وما نهوا عنه إنما هو على جهة
التحريم والزجر ، بل هو ظاهر تلك الأوامر والنواهي بالنظر الى ما قلنا إلا مع
الصارف ، بخلاف ما إذا حملا على الوجوب والتحريم فان
__________________
المكلف حينئذ متيقن البراءة والخروج من العهدة.
(ولو قيل) بان
الحمل على الاستحباب والكراهة معتضد بالبراءة الأصلية ، إذ الأصل براءة الذمة حتى
يقوم دليل قاطع على ما يوجب اشتغالها.
(قلنا) فيه (أولا)
ـ ما عرفت في مسألة البراءة الأصلية من عدم قيام الدليل عليها بل قيامه على
خلافها.
و (ثانيا) ـ انه
بعد ورود الأمر والنهي مطلقا لا مجال للتمسك بها ، إذ المراد بها ، اما أصالة
البراءة قبل تعلق التكاليف ، وحينئذ فبعد التكليف لا مجال لاعتبارها ، واما أصالة
البراءة لعدم الاطلاع على الدليل ، والحال ان الدليل في الجملة موجود. نعم يبقى
الشك في الدليل وتردده بين الوجوب والاستحباب ، والتحريم والكراهة ، هذا أمر آخر ،
فالخروج عن قضية البراءة الأصلية معلوم. وبالجملة فأصالة البراءة عبارة عن خلو
الذمة من تعلق التكليف مطلقا إيجابيا أو ندبيا ، وهو هنا ممتنع بعد وجود الدليل.
و (رابعها) ـ انه
لا أقل ان يكون الحكم ـ بالنظر الى ما ذكرنا من الآيات والروايات ـ من المتشابهات
التي استفاضت الاخبار بالوقوف فيها على ساحل الاحتياط : «حلال بين وحرام بين
وشبهات بين ذلك ، فمن تجنب الشبهات نجا من الهلكات» . ومن الظاهر البين ان الاحتياط في جانب الوجوب
والتحريم.
هذا وما اعتضد
به ـ شيخنا أبو الحسن (قدسسره) في كتاب العشرة الكاملة حيث اقتفى اثر أولئك القوم في
هذه المقالة ، من ان الصدوق (رحمهالله) في كتاب من لا يحضره الفقيه قد حمل كثيرا من الأوامر
على الندب وجما غفيرا من النواهي على الكراهة والتنزيه ـ ففيه انه ان كان ذلك كذلك
فيمكن حمله على ظهور قرائن
__________________
المجاز له ، إذ هي بالنسبة إلى مثله من أرباب الصدر الأول غير عزيزة ،
ويمكن ايضا ان يكون ذلك في مقام الجمع بين الاخبار بان يكون في الاخبار المعارضة
ما يدل على نفي الوجوب في الأول والجواز في الثاني مع قوته ورجحانه ، وهذا من جملة
القرائن الموجبة للخروج عن ذينك المعنيين الحقيقيين.
المقدمة الثامنة
اختلف
الأصوليون في ثبوت الحقائق الشرعية
وتحقيق المقام
ـ من غير اطالة بإبرام النقض ولا نقض الإبرام ـ هو ان اللفظ ان استعمل فيما وضع له
فهو حقيقة والا فهو مجاز ، والواضع ان كان هو الشارع اي الله سبحانه أو الرسول
فحقيقة شرعية ، وان كان غيره فلغوية أو عرفية خاصة أو عامة.
ولا نزاع في ان
الألفاظ المتداولة في لسان أهل الشرع المستعملة في خلاف معانيها اللغوية قد صارت
حقائق في تلك المعاني عندهم ، كاستعمال الصلاة الموضوعة لغة للدعاء في ذات الأركان
الخمسة ونحوها.
إنما النزاع في
ان هذا الاستعمال هل هو بطريق النقل عن الشارع فتكون حقائق شرعية ، أو بطريق
المجاز بمعنى ان الشارع إنما استعملها في تلك المعاني مجازا بمعونة القرينة ولكن غلب
في ألسنة أهل الشرع استعمالها كذلك حتى أفادت من غير قرينة فتكون حقائق عرفية خاصة
لا شرعية؟
فقيل بالأول بل
هو المشهور بينهم محتجين بوجوه : (أظهرها) ـ القطع بتبادر هذه المعاني من تلك
الألفاظ إلى الفهم عند إطلاقها ، وهو علامة الحقيقة.
وذهب بعض الى
الثاني ، طاعنا في الحجة المذكورة ومحتجا بما هو مذكور في مطولات الأصول مما لا
يرجع عند التحقيق إلى ثمرة ولا محصول.
وتوقف ثالث ،
قائلا ان الحق انه لم يعلم من حال الشارع غير أصل الاستعمال. واما طريقه فغير
معلوم ، لأن أدلة الطرفين في غاية الضعف ، وتبادر هذه المعاني لنا غير مفيد ، إذ
يحتمل ان يكون ذلك لأجل الاشتهار عندنا.
هذا. والأظهر
عندي هو القول الأول وعليه من بين تلك الأقوال المعول ، ولنا عليه دليل التبادر
الذي هو عندهم امارة الحقيقة ومعيارها وعليه في جميع الأحوال مدارها. وما قيل ـ في
الجواب عن ذلك ، من ان التبادر المذكور عند سماع هذه الألفاظ ، ان كان بالنظر الى
إطلاق الشارع فهو ممنوع بل هو أول المسألة ، وان كان بالنظر الى إطلاق المتشرعة
فهو غير مفيد قطعا ، لان اللازم حينئذ كونها حقائق عرفية لا شرعية ـ مردود بان من
صفا ذهنه من شوب الشبهة والعناد وكان له انس بكلام الشارع ولو في أكثر المواد ،
يعلم قطعا ان الصدر الأول ـ من الصحابة والتابعين وجملة السلف المتقدمين ـ كانوا
متى حكى النبي (صلىاللهعليهوآله) عن الله سبحانه وصف أحد بالايمان أو الكفر أو الشرك أو
حصل منه (صلىاللهعليهوآله) الأمر بصلاة أو زكاة أو حج أو طهارة أو المنع عن
النجاسة أو نحو ذلك ، يفهمون بمجرد إطلاق هذه الألفاظ المعنى الشرعي منها متى تقدم
لهم العلم بالوضع ، ومن أنكر ذلك نسأل الله سبحانه ان يصلح وجدانه ويثبت جنانه.
ومن الأخبار
الدالة على ذلك موثقة سماعة قال : «سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن؟ فقال
: نعم. قول الله عزوجل (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا.) . الحديث».
إلا ان الظاهر
ان الخلاف في هذه المسألة قليل الجدوى ، لاتفاقهم على ان
__________________
استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني الشرعية في كلام الأئمة (عليهمالسلام) حقيقة وان كانت عرفية خاصة لا شرعية ، وهو كاف في صحة
الاستدلال بها والاعتماد عليها ، وإنما يظهر الخلاف فيما وقع منها في كلام الشارع
من القرآن العزيز أو السنة النبوية ، واستقلال القرآن ـ سيما على ما فصلناه آنفا والسنة النبوية من غير جهة نقل الأئمة (عليهمالسلام) ـ مما لا يكاد يتحقق في الأحكام ، كما لا يخفى على من
سرح بريد النظر في المقام. وبهذا يظهر لك ما في إيراد شيخنا ابي الحسن (قدسسره) ـ في بعض مؤلفاته على شيخنا البهائي وصاحب المعالم ،
حيث انه قائل بثبوت الحقيقة الشرعية وهما مانعان منه ـ بالأخبار الدالة على
الطهارة والنجاسة والحل والتحريم والوجوب والاستحباب مع خلوها من القرائن ، حيث
قال بعد تقديم الكلام في ذلك : «على انا نقول : لو تم ما ذكروه من التشكيك الركيك
للزم ان كل ما ادعينا انه حقيقة شرعية فهو مجاز لا يصار اليه إلا بقرينة ، وحينئذ
ينسد باب الاحتجاج بأكثر الأخبار المشتملة على هذه الألفاظ العارية عن القرائن
المعينة للمراد ، وهم لا يلتزمونه ، بل هذان الشيخان وغيرهما قد أكثروا من
الاحتجاج بأمثال هذه الأخبار على مطالبهم غافلين عما يرد عليهم ، وتراهم أكثروا من
الاحتجاج على النجاسة والطهارة والحل والتحريم والوجوب والاستحباب بهذه الألفاظ ،
فهم يأتون في ذلك على المثل السائر : «الشعير يؤكل ويذم» انتهى. فان فيه كما عرفت
انه لا خلاف في ان استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشرعية في كلام الأئمة (عليهمالسلام) حقائق يجب الاعتماد عليها والاستناد إليها وان كانت
عرفية خاصة ، وإنما محل الخلاف ومظهره وقوعها في كلام الشارع ، اما مجردة عن
القرينة فعند من يقول بثبوت الحقائق الشرعية بحملها على ذلك
__________________
وعند من ينفيها بحملها على المعاني اللغوية. واما مع القرينة الدالة على
المعنى الشرعي فهي حقيقة شرعية على الأول أيضا ومجاز على الثاني.
هذا. وما اشتهر
ـ في كلام جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) من ان الواجب حمل الخطابات الواقعة
في الشريعة على الحقيقة الشرعية ان ثبتت ، وإلا فعلى عرفهم (عليهمالسلام) ان علم ، والا فعلى الحقيقة اللغوية ان وجدت ، وإلا
فعلى العرف العام ـ مما لم يعثر له على مستند ولم يقم عليه دليل معتمد ، وإنما
المستفاد من أخبارهم كما مر انه مع عدم العلم بما هو المراد من الخطاب الشرعي يجب
الفحص والتفتيش ومع العجز عن الظفر بالمراد يجب رعاية الاحتياط والوقوف على سواء
ذلك الصراط. على انه لا يخفى ما في بناء الأحكام على العرف العام من العسر والحرج
المنفيين بالآية والرواية فإنه يوجب استعلام ما عليه كافة الناس في أقطار الأرض.
واما البناء على العرف الخاص مع تعذر العام كما صار اليه بعضهم ، ففيه انه يوجب
الاختلاف في الأحكام الشرعية. والمستفاد من الاخبار ان كل شيء يؤدي الى الاختلاف
فيها فلا يجوز البناء عليه. والله العالم.
المقدمة التاسعة
اختلف كلام
الأصوليين من أصحابنا (رضوان الله عليهم) وغيرهم في ان صدق المشتق على ذات حقيقة ،
هل يشترط فيه بقاء مأخذ الاشتقاق فبعد قيام المبدأ بالذات وانقضائه يكون مجازا ،
أم لا يشترط فيكون حقيقة مطلقا؟ على أقوال متعددة وآراء متبددة بعد الاتفاق على
انه حين القيام حقيقة وقبله مجاز ، فالضارب ـ لمن هو
__________________
مشتغل به الآن ـ حقيقة بلا خلاف ، ولمن يريد إيقاعه ـ ولما يقع منه ـ مجاز
كذلك ، واما من ضرب وهو الآن غير ضارب فهل هو حقيقة أو مجاز؟ قولان ، إلا انه بسبب
الإشكال في تعين محل الخلاف انتشرت الأقوال واتسع المجال.
فقيل بعدم
اشتراط بقاء المأخذ مطلقا فيكون حقيقة. وعليه كثير من المعتزلة وأكثر الإمامية بل
قيل كلهم.
وقيل بالاشتراط
مطلقا فيكون مجازا. ونقل عن أكثر الأشاعرة والفخري في المحصول والبيضاوي في
المنهاج ، واليه مال من أصحابنا المحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على شرح
المدارك.
وقيل بالتفصيل
بأنه ان كان المبدأ مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود فالمشتق مجاز ، وان كان مما لا
يمكن بقاؤه كالمصادر السيالة الغير القارة نحو التكلم والاخبار فالمشتق حقيقة وان
لم يبق المبدأ.
وقيل بالتوقف
في المسألة ، لتصادم الأدلة من الطرفين وتعارض الاحتمالات من الجانبين ، ونقل عن
الآمدي والحاجبي.
وقيل بتخصيص
محل النزاع بما إذا كان المشتق محكوما به ، كقولك : زيد مشرك أو قاتل أو متكلم.
واما إذا كان محكوما عليه كقوله تعالى : «الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا ... الآية» «وَالسّارِقُ
وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ...» «فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ.» ونحوه ، فإنه حقيقة مطلقا سواء كان للحال أم لم يكن.
وهو المنقول عن شيخنا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد.
وقيل : انه إذا
كان اتصاف الذات بالمبدإ أكثريا بحيث يكون عدم الاتصاف
__________________
بالمبدإ في جنب الاتصاف مضمحلا ولم يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه
سواء كان المشتق محكوما عليه أو محكوما به وسواء طرأ الضد أم لا ، فالإطلاق حقيقة
، لأنهم يطلقون المشتقات على المعنى المذكور من دون نصب قرينة ، كالكاتب والخياط
والمعلم والمتعلم ونحوها ولو كان المحل متصفا بالضد الوجودي كالنوم ونحوه. صرح به
بعض أصحابنا المحققين من متأخري المتأخرين.
وقيل بتخصيص
محل النزاع بما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي ينافي الأول ، إذ لو طرأ من
الموجودات ما ينافيه أو يضاده فإنه يكون مجازا اتفاقا. وهو منقول عن الفخري في
المحصول ، نقله عنه في كتاب القواعد ، وأنكر شيخنا البهائي (رحمهالله) في حواشي الزبدة نسبة هذا القول الى المحصول ، قال :
فانا لم نجده فيه» وشيخنا أبو الحسن (رحمهالله) نقله في حواشي المدارك عن التبريزي في التنقيح اختصار
المحصول ، قال : «وربما كان في المحصول إشعار به ومن ثم نسبه الاستوى في التمهيد
والشهيد الثاني في تمهيده اليه». انتهى.
وقيل بتخصيص
محل النزاع بما قصد به الحدوث من المشتقات لا الدوام. ونقل ذلك عن المحقق
التفتازاني في مقام الجواب عن الاستدلال على عدم الاشتراط بصدق المؤمن على النائم
والغافل ، والمفهوم من كلامه ـ على ما نقله عنه بعض الأفاضل ـ تقييد محل النزاع
بكل من قصد الحدوث وعدم طرو الضد الوجودي ، حيث قال : «والتحقيق ان النزاع في اسم
الفاعل الذي بمعنى الحدوث لا في المؤمن والكافر والنائم واليقظان والحلو والحامض
والحر والعبد ونحو ذلك مما يعتبر في بعضه الاتصاف به مع عدم طريان المنافي وفي
بعضه الاتصاف البتة». انتهى.
والظاهر ان
السبب ـ في انتشار هذا الخلاف واتساع دائرة هذا الاختلاف ـ هو وجود بعض الموارد
مما يقطع بتوقف الصدق فيها حقيقة على وجود المبدأ وما يحذو
حذوه ، كالبارد والحار والهابط والصاعد والساكن والمتحرك والحلو والحامض
والأبيض والأسود والمملوك والموجود والنائم واليقظان ، وبعض مما يقطع فيها بالصدق
حقيقة مع عدمه ، كالمخبر والمتكلم ونحوهما من المصادر السيالة ، وبعض مما يشكل فيه
ذلك مثل المؤمن والكافر ، فإنه لو اعتبر في صدقهما حقيقة وجود المبدأ لم يصدقا على
من كان نائما أو غافلا ، للخلو عن التصديق والإنكار الذين هما مناط الايمان والكفر
مع ان الاتفاق قائم على الصدق في الحالين المذكورين ، ولو اعتبر العدم ، صدق
المؤمن على من كان كافرا الآن لو كان مؤمنا سابقا ، والكافر على من كان بالعكس ،
ونحو ذلك من الأمثلة المندرجة تحت تلك الأقسام. ومن أجل ذلك اختلفت أفهامهم
وتصادمت أوهامهم وطال نقضهم وإبرامهم ، وزيف كل ما اختاره بأدلة لا تسلم من
المناقشة والإيراد ، وأجاب كل منهم عن أدلة الآخر بما لا يكاد يفي بالمراد ، ومن
ثم توقف من توقف من أولئك الأقوام وأحجم عن الدخول والاقدام.
والحق ان
البناء لما كان على غير أساس كثر الشك فيه والالتباس ، والأدلة العقلية لا تكاد
تقف في مقام ، بل لا تزال قابلة للنقض والإبرام ، لاختلاف العقول في الاستعداد قوة
وضعفا وصفاء الأذهان والافهام ، كما لا يخفى على من خاض لجج بحور علم المعقول ورأى
ثمة تصادم الافهام والعقول.
والأظهر عندي
ان بناء الأحكام الشرعية ـ على مثل هذه القواعد الغير المنضبطة والأصول الغير
المرتبطة ـ مما لم يقم عليه دليل. بل الدليل على خلافه واضح النهج والسبيل.
(اما أولا) ـ فلدلالة
اخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم) على وجوب البناء في الأحكام الشرعية على العلم
واليقين ومع عدمه فالوقوف على جادة الاحتياط. وقد مر بك شطر منها وقد عرفت ـ من تعدد أقوالهم واختلاف آرائهم في أصل
القاعدة
__________________
لاختلاف أفرادها ـ ما يبلغ إلى ثمانية أقوال.
و (أما ثانيا)
ـ فلأن من لاحظ ـ اخبار الخلاء تحت الأشجار المثمرة والأخبار الواردة في أحكام
الحائض ونحوها ـ لا يخفى عليه مدافعتها لهذه القاعدة.
ومن أراد تحقيق
المقام حسبما يرام وظهور ما أجملناه هنا من الكلام فليرجع الى كتابنا الدرر
النجفية ، فإنه قد اشتمل على ذلك وأحاط بما هنالك.
المقدمة العاشرة
في بيان حجية
الدليل العقلي وعدمها
قد اشتهر بين
أكثر أصحابنا (رضوان الله عليهم) الاعتماد على الأدلة العقلية في الأصول والفروع
وترجيحها على الأدلة النقلية ، ولذا تراهم في الأصولين ـ أصول الدين وأصول الفقه ـ
متى تعارض الدليل العقلي والسمعي قدموا الأول واعتمدوا عليه وتأولوا الثاني بما
يرجع اليه وإلا طرحوه بالكلية ، وفي كتبهم الاستدلالية في الفروع الفقهية أول ما
يبدأون في الاستدلال بالدليل العقلي ثم ينقلون الدليل السمعي مؤيدا له ، ومن ثم
قدم أكثرهم العمل بالبراءة الأصلية والاستصحاب ونحوهما من الأدلة العقلية على
الأخبار الضعيفة باصطلاحهم بل الموثقة.
قال المحقق (رضوان
الله عليه) ـ في بعض مصنفاته في مسألة جواز ازالة الخبث بالمائع وعدمه ، حيث ان
السيد المرتضى (رضياللهعنه) اختار الطهارة من الخبث به ونسب ذلك الى مذهبنا مؤذنا
بدعوى الإجماع عليه ـ ما صورته : «اما علم الهدى فإنه ذكر في الخلاف انه إنما أضاف
ذلك الى المذهب لان من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل ، وليس في
الأدلة النقلية ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها ، ونحن نعلم
انه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة بل ربما كان غير الماء
أبلغ ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل» ثم قال المحقق (قدسسره) بعد كلام في البين : «أما نحن فقد فرقنا بين الماء
والخل فلم يرد علينا ما ذكره علم الهدى».
فانظر الى
موافقته لعلم الهدى فيما نقله عنه من أصالة العمل بدليل العقل في الفروع الشرعية
وإنما نازعه في هذا الجزئي وحصول الفرق فيه بين الفردين المذكورين. وستأتيك هذه
المسألة في مبحث الماء المضاف ان شاء الله تعالى.
وبالجملة ،
فكلامهم ـ تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى ـ متفق الدلالة على ما نقلنا.
ولم أر من رد
ذلك وطعن فيه سوى المحدث المدقق السيد نعمة الله الجزائري (طيب الله مرقده) في
مواضع من مصنفاته : منها ـ كتاب الأنوار النعمانية ، وهو كتاب جليل يشهد بسعة
دائرته وكثرة اطلاعه على الأخبار وجودة تبحره في العلوم والآثار.
حيث قال فيه ـ ونعم
ما قال ، فإنه الحق الذي لا تعتريه غياهب الاشكال ـ : «ان أكثر أصحابنا قد تبعوا
جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من
الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها ، وطرحوا ما جاءت به الأنبياء (عليهمالسلام) حيث لم يأت على وفق عقولهم ، حتى نقل ان عيسى (على
نبينا وآله وعليهالسلام) لما دعا أفلاطون الى التصديق بما جاء به أجاب بأن عيسى
رسول الى ضعفة العقول ، واما انا وامثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلى إرسال
الأنبياء. والحاصل انهم ما اعتمدوا في شيء من أمورهم الا على العقل ، فتابعهم بعض
أصحابنا وان لم يعترفوا بالمتابعة ، فقالوا : انه إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي
طرحنا النقلي أو تأولناه بما يرجع الى العقل. ومن هنا تراهم في مسائل الأصول
يذهبون إلى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها. لوجود ما تخيلوا انه
دليل عقلي ، كقولهم بنفي الإحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محله من مقدمات
لا تفيد ظنا
فضلا عن العلم ، وسنذكرها ان شاء الله تعالى في أنوار القيامة. مع وجود
الدلائل من الكتاب والسنة على ان الإحباط ـ الذي هو الموازنة بين الأعمال وإسقاط
المتقابلين وإبقاء الرجحان ـ حق لا شك فيه ولا ريب يعتريه ، ومثل قولهم : ان النبي
(صلىاللهعليهوآله) لم يحصل له الإسهاء من الله تعالى في صلاة قط ، تعويلا
على ما قالوه من انه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الأحكام ، مع وجود
الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح والحسان والموثقات والضعفاء والمجاهيل على حصول مثل هذا الإسهاء ، وعلل في تلك الروايات بأنه
رحمة للأمة. لئلا يعير الناس بعضهم بعضا بالسهو ، وسنحقق هذه المسألة في نور من
هذا الكتاب ان شاء الله تعالى ، الى غير ذلك من مسائل الأصول.
واما مسائل
الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقلية والقول بما أدت اليه الاستحسانات العقلية
، وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون ـ أولا ـ الدلائل العقلية ثم يجعلون دليل
النقل مؤيدا لها وعاضدا إياها : فيكون المدار والأصل إنما هو العقل. وهذا منظور
فيه ، لأنا نسألهم عن معنى الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا في الأصولين والفروع ،
فنقول : ان أردتم ما كان مقبولا عند عامة العقول ، فلا يثبت ولا يبقى لكم دليل
عقلي ، وذلك كما تحققت ان العقول مختلفة في مراتب الإدراك وليس لها حد تقف عنده ،
فمن ثم ترى كلا من اللاحقين يتكلم على دلائل السابقين وينقضه ويأتي بدلائل اخرى
على ما ذهب اليه ، ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء والأفاضل وان
كان المطلوب متحدا ، فإن جماعة من المحققين قد اعترفوا بأنه لم يتم دليل من
الدلائل على إثبات الواجب. وذلك ان الدلائل التي ذكروها مبنية على إبطال التسلسل
ولم يتم برهان على بطلانه ، فإذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت
الى الاستدلال عليه كافة الخلائق ، فكيف يتم على غيره
__________________
مما توجهت اليه آحاد المحققين؟ وان كان المراد به ما كان مقبولا بزعم
المستدل به واعتقاده ، فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ولا تفسيق المعتزلة
والأشاعرة ولا الطعن على من يذهب الى مذهب يخالف ما نحن عليه ، وذلك ان أهل كل
مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل ، وكانت مقبولة في
عقولهم معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل
النقل. وكلاهما لا يصلح للمعارضة لما قلتم ، لان دليل النقل يجب تأويله ودليل
العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره ، لان عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك ، مع
ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذهبوا الى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق
أكثر طوائف المسلمين. وما ذاك إلا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها من
دلائل العقل» انتهى كلامه زيد في الخلد إكرامه.
أقول : وقد
سبقه الى هذه المقالة الإمام الرازي ، حيث قال : «هذه الأشياء المسماة بالبراهين
لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها ووقف عليها وجب ان يقبلها وان لا
ينكرها أصلا ، وحيث نرى ان الذي يسميه أحد الخصمين برهانا فان الخصم الثاني يسمعه
ويعرفه ولا يفيد له ظنا ضعيفا ، علمنا ان هذه الأشياء ليست في أنفسها براهين ، بل
هي مقدمات ضعيفة انضافت العصبية والمحبة إليها فتخيل بعضهم كونها برهانا مع ان
الأمر في نفسه ليس كذلك. وايضا فالمشبه يحتج على القول بالتشبيه بحجة ويزعم ان تلك
الحجة افادته الجزم واليقين ، فاما ان يقال : ان كل واحدة من هاتين الحجتين صحيحة
يقينية فحينئذ يلزم صدق النقيضين وهو باطل ، واما ان يقال : إحداهما صحيحة والأخرى
فاسدة إلا انه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة واحدة من مقدمات تلك الحجة باطلة في
نفسها. مع ان الذي تمسك بتلك الحجة جزم بصحة تلك المقدمة ابتداء. فهذا يدل على ان
العقل يجزم بصحة الفاسد جزما ابتداء ،
فإذا كان كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات ، وإذا كان كذلك
فحينئذ تفسد جميع الدلائل. فإن قالوا : العقل إنما جزم بصحة ذلك الفاسد لشبهة
متقدمة ، فنقول : قد حصل في تلك الشبهة المتقدمة مقدمة فاسدة ، فإن كان ذلك لشبهة
اخرى لزم التسلسل ، وان كان ابتداء فقد توجه الطعن. وأيضا فإنا نرى الدلائل القوية
في بعض المسائل العقلية متعارضة ، مثل مسألة الجوهر الفرد ، فانا نقول : كل متحيز
فان يمينه غير يساره ، وكل ما كان كذلك فهو منقسم ، ينتج ان كل متحيز منقسم ، ثم
نقول : الآن لم يكن حاضرا بل بعضه ، وإذا كان غير منقسم كان أول عدمه في آن آخر
متصل بآن وجوده ، فلزم تتالي الآنات ، ويلزم منه كون الجسم مركبا من اجزاء لا
تتجزأ. فهذان الدليلان متعارضان ولا نعلم جوابا شافيا عن أحدهما ، ونعلم أن أحد
الكلامين مشتمل على مقدمة باطلة وقد جزم العقل بصحتها ابتداء ، فصار العقل مطعونا
فيه» ثم أخذ في تفصيل هذه الوجوه بكلام طويل الذيل.
(فان قلت) :
فعلى ما ذكر من عدم الاعتماد على الدليل العقلي يلزم ان لا يكون العقل معتبرا بوجه
من الوجوه ، مع انه قد استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية بالاعتماد على
العقل والعمل على ما يرجحه ، وانه حجة من حجج الله سبحانه ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) في غير موضع من الكتاب العزيز اي يعملون بمقتضى عقولهم (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) . (لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ) .
__________________
(لَآياتٍ لِأُولِي
النُّهى) . (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) . (لَذِكْرى لِأُولِي
الْأَلْبابِ) . وذم قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم فقال سبحانه (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (وَأَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) . (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) . (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) الى غير ذلك من الآيات الدالة على مدح العمل بمقتضى
العقل وذم عكسه. وفي الحديث عن ابي الحسن (عليهالسلام) حين سئل : فما الحجة على الخلق اليوم قال : «فقال (عليهالسلام) : العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على
الله فيكذبه» . وفي آخر عن الصادق (عليهالسلام) قال : «حجة الله على العباد النبي ، والحجة فيما بين
العباد وبين الله العقل» . وفي آخر عن الكاظم (عليهالسلام) : «يا هشام ان لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة
، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، واما الباطنة فالعقول» .
__________________
(قلت) : لا ريب
ان العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه وسراج منير من جهته جل شأنه ، وهو
موافق للشرع ، بل هو شرع من داخل كما ان ذلك شرع من خارج ، لكن ما لم تغيره غلبة
الأوهام الفاسدة ، وتتصرف فيه العصبية أو حب الجاه أو نحوهما من الأغراض الكاسدة ،
وهو قد يدرك الأشياء قبل ورود الشرع بها فيأتي الشرع مؤيدا له ، وقد لا يدركها
قبله ويخفى عليه الوجه فيها فيأتي الشرع كاشفا له ومبينا ، وغاية ما تدل عليه هذه
الأدلة مدح العقل الفطري الصحيح الخالي من شوائب الأوهام العاري عن كدورات العصبية
، وانه بهذا المعنى حجة إلهية ، لإدراكه بصفاء نورانيته وأصل فطرته بعض الأمور
التكليفية ، وقبوله لما يجهل منها متى ورد عليه الشرع بها ، وهو أعم من أن يكون
بإدراكه ذلك أولا أو قبوله لها ثانيا كما عرفت.
ولا ريب ان
الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها كلها توقيفية تحتاج الى السماع من حافظ الشريعة
، ولهذا قد استفاضت الأخبار ـ كما قد مر بك الإشارة إلى شطر منها في المقدمة
الثالثة ـ بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم (عليهمالسلام) وعلم صادر عنهم (صلوات الله عليهم) ووجوب التوقف
والاحتياط مع عدم تيسر طريق العلم ووجوب الرد إليهم في جملة منها ، وما ذاك إلا
لقصور العقل المذكور عن الاطلاع على اغوارها واحجامه عن التلجج في لجج بحارها ، بل
لو تم للعقل الاستقلال بذلك لبطل إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ومن ثم تواترت
الأخبار ناعية على أصحاب القياس بذلك.
ومن الاخبار
المؤكدة لما ذكرنا رواية أبي حمزة عن ابي جعفر (عليهالسلام)
__________________
في حديث طويل ، قال : «ان الله لم يكل امره الى خلقه لا الى ملك مقرب ولا
إلى نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له : قل : كذا وكذا ، فأمرهم بما
يحب ونهاهم عما يكره. الحديث» .
و (منها) ـ رواية
أبي بصير ، قال : «قلت : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنته فننظر فيها.
فقال : لا ، اما انك ان أصبت لم تؤجر وان أخطأت كذبت على الله» .
و (منها) ـ حديث
يونس عن ابي الحسن (عليهالسلام) ، قال : «من نظر برأيه هلك ومن ترك أهل بيت نبيه ضل» .
وفي حديث آخر عن
أمير المؤمنين (عليهالسلام) : «ان المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه
فأخذ به» .
وفي آخر لما
قال السائل له (عليهالسلام) : ما رأيك في كذا؟ قال (عليهالسلام) :
«وأي محل للرأي
هنا؟ انا إذا قلنا حدثنا عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن جبرائيل عن الله» .
الى غير ذلك من
الأخبار ـ المتواترة معنى ـ الدالة على كون الشريعة توقيفية لا مدخل للعقل في
استنباط شيء من أحكامها بوجه. نعم عليه القبول والانقياد والتسليم لما يراد. وهو
أحد فردي ما دلت عليه تلك الأدلة التي أوردها المعترض ، إلا انه يبقى الكلام
بالنسبة الى ما يتوقف على التوقيف.
فنقول : ان كان
الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين ،
فلا ريب في صحة العمل به ، والا فان لم يعارضه دليل عقلي
__________________
ولا نقلي فكذلك ، وان عارضه دليل عقلي آخر ، فإن تأيد أحدهما بنقلي كان
الترجيح للمؤيد بالدليل النقلي وإلا فإشكال ، وان عارضه دليل نقلي ، فإن تأيد ذلك
العقلي ايضا بنقلي كان الترجيح للعقلي إلا ان هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ،
والا فالترجيح للنقلي وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره وخلافا للأكثر. هذا بالنسبة
إلى العقلي بقول مطلق ، اما لو أريد به المعنى الأخص وهو الفطري الخالي من شوائب
الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلام وان شذ وجوده بين الأنام ففي ترجيح
النقلي عليه إشكال. والله العالم.
المقدمة الحادية عشرة
في جملة من
القواعد الشرعية والضوابط المرعية
التي تبتني
عليها جملة من الأحكام الفقهية ، مما يستفاد من الكتاب العزيز والسنة النبوية على
الصادع بها أشرف سلام وتحية ، وهي المشار إليها في كلامهم (عليهمالسلام) بالأصول على ما نقله ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن
جامع البزنطي مما رواه عن هشام بن سالم عن ابي عبد الله : (عليهالسلام) : قال : «انما علينا ان نلقي إليكم الأصول وعليكم ان
تفرعوا» . وروى عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) بلا واسطة : قال : «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»
.
ولا يخفى ما في
الخبرين المذكورين من حيث تقديم الظرف المؤذن بحصر ذلك فيهم ، من الدلالة على
بطلان الأصول الخارجة من غيرهم ، بمعنى حصر إلقاء الأصول فيهم (عليهمالسلام) فكأنه قال : تأصيل الأصول الشرعية للاحكام علينا لا
عليكم
__________________
وإنما عليكم التفريع عليها ، فكل أصل لم يوجد له مستند ولا دليل من كلامهم (عليهمالسلام) فهو بمقتضى الخبرين المذكورين مما لا يجوز الاعتماد
عليه ولا الركون اليه.
فلنورد ههنا
جملة مما جرى في الخاطر الفاتر ، ونذيل ما يحتاج الى البحث والتحقيق بما هو جدير
به وحقيق على جهة الإيجاز والاختصار من غير تطويل ولا إكثار ، وان سمحت الأقضية
والأقدار بالتوفيق ونامت عيون الدهر الغدار عن التعويق ، ابرزنا لهذه الأصول رسالة
شافية وأودعناها ابحاثا بحقها وافية.
فمن تلك الأصول
ـ طهارة كل ما لم تعلم نجاسته حتى تعلم النجاسة.
ويدل على ذلك قول
الصادق (عليهالسلام) في موثقة عمار : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر ،
فإذا علمت فقد قذر» . وقول أمير المؤمنين (عليهالسلام) فيما رواه في الفقيه : «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم». ويدل على
ذلك أخبار عديدة في جزئيات المسائل ، وأصل الحكم المذكور مما لا خلاف فيه ولا شبهة
تعتريه وانما الخلاف في مواضع :
(الأول) ـ في
عموم هذا الحكم للجهل بالحكم الشرعي وعدمه ، وتوضيح ذلك انه لا خلاف في العمل بهذا
الحكم على عمومه بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة وان كان مع ظن الملاقاة ،
بمعنى انه لو شك أو ظن الملاقاة فالواجب البناء على أصالة الطهارة حتى تعلم
النجاسة ، وكذا لا خلاف في ذلك بالنسبة إلى الشك أو الظن بنجاسة شيء له أفراد
متعددة غير محصورة ، بعضها معلوم الطهارة وبعضها معلوم النجاسة وقد اشتبه بعضها
ببعض ، كالبول الذي منه طاهر ومنه نجس والدم ونحوهما ، فالجهل هنا ليس
__________________
في الحكم الشرعي ، إذ هو معلوم في تلك الافراد في حد ذاتها ، وإنما الجهل
في موضوعه ومتعلقة وهو ذلك الفرد المشكوك في اندراجه تحت أحد الطرفين. أما بالنسبة
إلى الجهل بالحكم الشرعي ـ كالجهل بحكم نطفة الغنم هل هي نجسة أو طاهرة؟ ـ فهل
يحكم بطهارتها بالخبر المذكور أم لا؟ قولان ، وبالثاني صرح المحدث الأمين الأسترآبادي
في كتاب الفوائد المدنية ، وبالأول صرح جملة من متأخري المتأخرين.
وأنت خبير بان
القدر المتيقن فهمه من الخبر المذكور هو ما وقع الاتفاق عليه ، إذ الظاهر ـ والله سبحانه
وقائله أعلم ـ ان المراد من هذا الخبر وأمثاله إنما هو دفع الوساوس الشيطانية
والشكوك النفسانية بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة ، وبيان سعة الحنيفية السمحة
السهلة بالنسبة إلى اشتباه بعض الافراد الغير المحصورة ببعض ، فيحكم بطهارة الجميع
حتى يعلم الفرد النجس بعينه ، واما اجراء ذلك في الجهل بالحكم الشرعي فلا يخلو من
الاشكال المانع من الجرأة على الحكم به في هذا المجال.
وما ذكره بعض
فضلاء متأخري المتأخرين ـ من ان الجهل بوصول النجاسة يستلزم الجهل بالحكم الشرعي ،
قال : «فان المسلم إذا أعار ثوبه الذمي وهو يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ثم رده
عليه ، فهو جاهل بان مثل هذا الثوب الذي هو مظنة النجاسة هل هو مما يجب التنزه عنه
في الصلاة وغيرها مما يشترط فيه الطهارة أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعي مع انه (عليهالسلام) قرر في الجواب قاعدة كلية بأنه ما لم تعلم نجاسته فهو
طاهر» ـ مردود بان الجهل بالحكم الشرعي في المثال المذكور ونحوه تابع للجهل بوصول
النجاسة ، ولما دل الخبر المذكور . وغيره على البناء على أصالة الطهارة وعدم الالتفات الى
احتمال ملاقاة النجاسة أو ظنها بإعارة الثوب مثلا. علم منه قطعا جواز الصلاة فيه
تحقيقا للتبعية ، ومحل الاشكال والنزاع إنما هو الدلالة على الحكم الشرعي ابتداء
كما لا يخفى.
__________________
(الثاني) ـ ان
ظاهر الخبر المذكور انه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتصف بها الا بالنظر
الى علم المكلف ، لقوله (عليهالسلام) : «فإذا علمت فقد قذر» . بمعنى انه ليس التنجيس عبارة عما لاقته عين النجاسة
واقعا خاصة بل ما كان كذلك وعلم به المكلف ، وكذلك ثبوت النجاسة لشيء إنما هو
عبارة عن حكم الشارع بأنه نجس وعلم المكلف بذلك ، وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا (رضوان
الله عليهم) فإنهم حكموا بان النجس إنما هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا وان لم
يعلم به المكلف ، وفرعوا عليه بطلان صلاة المصلي في النجاسة جاهلا وان سقط الخطاب
عنه ظاهرا كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية.
وأنت خبير بما
فيه من العسر والحرج ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة عن العترة الأبرار.
(أما أولا) ـ فلأن
المعهود من الشارع عدم إناطة الأحكام بالواقع ونفس الأمر ، لاستلزامه التكليف بما
لا يطاق ، وحينئذ فالمكلف إذا صلى في ثوب طاهر في علمه. والطاهر شرعا إنما هو ما
لم يعلم المكلف بنجاسته لا ما علم بعدمها ، فما الموجب لبطلان صلاته بعد امتثاله
للأمر الذي هو مناط الصحة ومعيارها؟
و (اما ثانيا)
ـ فلما أورده شيخنا الشهيد الثاني عليهم في الكتاب المشار اليه حيث قال بعد نقل
ذلك عنهم : «ولا يخفى ما فيه من البلوى ، فان ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات
المشروطة بالطهارة ، لكثرة النجاسات في نفس الأمر وان لم يحكم الشارع ظاهرا
بفسادها ، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وان استحق أجر الذاكر المطيع
بحركاته وسكناته ان لم يتفضل الله تعالى بجوده». انتهى.
و (اما ثالثا)
ـ فلمخالفته ظواهر الأخبار ومنها الخبر المذكور .
__________________
و (منها) ـ رواية
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟
قال : لا يؤذنه حتى ينصرف».
ورواية عبد
الله بن بكير المروية في كتاب قرب الاسناد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا يصلي فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال
: لا يعلمه. قلت : فإن أعلمه؟ قال : يعيد».
وحينئذ فلو كان
الأمر كما يدعونه من كون وصف النجاسة انما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر ، وان
صلاة المصلي ـ والحال كذلك ـ باطلة واقعا. فكيف يحسن من الامام (عليهالسلام) المنع من الإيذان والاخبار بالنجاسة في الصلاة كما في
خبر محمد بن مسلم أو قبلها كما في خبر ابن بكير؟ وهل هو بناء على ما ذكروا إلا من
قبيل التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه.
وسيأتي مزيد تحقيق لهذه المسألة في محلها ان شاء الله تعالى.
(الثالث) ـ انه
لا خلاف في انه مع الحكم بأصالة الطهارة فلا يجوز الخروج عنها إلا بالعلم بالنجاسة
، لكن العلم المذكور هل هو عبارة عن القطع واليقين. أو عبارة عما هو أعم من اليقين
والظن مطلقا فيشملهما معا. أو اليقين والظن المستند الى سبب شرعي؟ أقوال ، أولها
منقول عن ابن البراج وثانيها عن ابي الصلاح ،
__________________
وثالثها عن العلامة في المنتهى والتذكرة.
احتج الأول بأن
الطهارة معلومة بالأصل ، وشهادة الشاهدين لا تفيد إلا الظن فلا يترك لأجله
المعلوم.
واحتج الثاني
بأن الشرعيات كلها ظنية ، فإن العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل.
ومن هذين
الاحتجاجين يعلم وجه القول الثالث.
ويرد على الأول
(أولا) ـ ان اشتراط اليقين ان كان مخصوصا بحكم النجاسة دون ما عداها من حكم
الطهارة والحلية والحرمة فهو تحكم محض ، وان كان الحكم في الجميع واحدا فيقين
الطهارة ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة. وهو أعم من العلم بالعدم.
ومثله يقين الحلية.
و (ثانيا) ـ انه
قد ورد في الأخبار ـ كما ستأتيك ان شاء الله تعالى ـ ان مما ينتقل به عن يقين الحلية شهادة الشاهدين
بالحرمة ، وان العلم المعتبر ثمة يحصل بذلك. ومن الظاهر البين ان الحكم في الجميع
من باب واحد.
و (ثالثا) ـ ان
الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في انه لو كان الماء مبيعا فادعى المشتري فيه العيب
بكونه نجسا وأقام شاهدين عدلين بذلك ، فإنه يتسلط على الرد ، وما ذاك إلا لثبوت
النجاسة والحكم بها.
ويتوجه على
الثاني ان المفهوم من الاخبار انه لا ينتقل عن يقين الطهارة ويقين الحلية إلا
بيقين مثله. وان مجرد الظن لا يوجب الخروج عن ذلك.
ومما هو صريح
في المقام ما ورد في حسنة الحلبي من انه «إذا احتلم الرجل
__________________
فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه ، وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم
ير مكانه فلينضحه بالماء». والنضح هنا للاستحباب بلا خلاف.
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «قلت فان ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم
أر شيئا ثم صليت فرأيته فيه بعد الصلاة؟ قال : تغسله ولا تعيد. قال : قلت : ولم
ذاك؟ قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين
بالشك أبدا». الى غير ذلك من الأخبار.
والتحقيق عندي
في هذا المقام ـ بما لا يحوم حوله للناظر المنصف نقض ولا إبرام ـ هو ما أوضحناه في
جملة من كتبنا ، وملخصه ان كلا من الطهارة والنجاسة والحلية والحرمة ونحوها أحكام
شرعية متلقاة من الشارع يجب الوقوف فيها على الأسباب التي عينها لها وناطها بها ،
وليست أمورا عقلية تناط بمجرد الظن العقلي ، وحينئذ فكلما وجد سبب من تلك الأسباب
وعلم به المكلف رتب عليه مسببه من الحكم بأحد تلك الأحكام وكما ان من جملة الأسباب
المتلقاة من الشارع مشاهدة ملاقاة النجاسة فيحكم بالنجاسة عندها ، كذلك من جملتها
اخبار المالك بنجاسة ثوبه وشهادة العدلين بنجاسة شيء ، وكذا يأتي أيضا في ثبوت
الطهارة والحلية والحرمة بالنسبة إلى الأسباب التي عينت لها ، وليس ثبوت النجاسة
لشيء واتصافه بها عبارة عن مجرد ملاقاة عين النجاسة له في الواقع ونفس الأمر خاصة
، حتى انه يقال بالنسبة إلى الجاهل بالملاقاة : ان هذا نجس في الواقع وطاهر بحسب
__________________
الظاهر ، بل هو نجس بالنسبة إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المذكورة
وطاهر بالنسبة إلى الغير العالم بشيء من ذلك ، فان الشارع ـ كما عرفت آنفا ـ لم يجعل الحكم بذلك منوطا بالواقع ، وغاية ما يلزم
اتصاف شيء بالطهارة والنجاسة باعتبار شخصين ، ولا ريب فيه ، فان ذلك جار في الحل
والحرمة بالنسبة الى من علم بعدم تذكية اللحم الموضوع في أسواق المسلمين ومن لم
يعلم ، وحينئذ فلا يقال : ان اخبار العدلين أو المالك لا يفيد إلا الظن ، لاحتمال
ان لا يكون كذلك واقعا ، كيف؟ وهما من جملة الأسباب التي رتب الشارع الحكم عليها
بالنجاسة.
وبالجملة فحيث
حكم الشارع بقبول شهادة العدلين واخبار المالك في أمثال ذلك فقد حكم بثبوت الحكم
بهما ، فيصير الحكم حينئذ معلوما من الشارع ، ولا معنى للنجس ونحوه ـ كما عرفت ـ إلا ذلك ، وان فرض عدم الملاقاة في الواقع فان الشارع
لم يلتفت اليه ، ألا ترى انه قد وردت الأخبار بان الأشياء كلها على يقين الطهارة
ويقين الحلية حتى يعلم النجس والحرام بعينه ، مع ان هذا اليقين ـ كما عرفت ـ ليس إلا عبارة عن عدم علم المكلف بالنجاسة والحرمة ،
وعدم العلم لا يدل على العدم كما لا يخفى.
ومنها ـ حلية
ما لم تعلم حرمته
. ويدل عليه من
الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : «كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا حتى
تعرف الحرام بعينه فتدعه».
__________________
وصحيحة ضريس قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين والروم أنأكله؟
فقال : ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فكله حتى تعلم انه حرام».
وموثقة مسعدة
بن صدقة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه
فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك
وهو حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء
كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة».
ورواية عبد
الله بن سليمان قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الجبن فقال : لقد سألتني عن طعام يعجبني ، الى ان
قال : قلت : ما تقول في الجبن؟
فقال : سأخبرك
عن الجبن وغيره : كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه
فتدعه». الى غير ذلك من الأخبار .
وظاهر هذه
الأخبار بل صريح جملة منها اختصاص الحكم المذكور بما فيه افراد بعضها معلوم الحل
وبعضها معلوم الحرمة ولم يميز الشارع بينها بعلامة ، واشتبه بعضها ببعض
__________________
مع كونها غير محصورة ، فالجميع حلال حتى يعرف الحرام بعينه على الخصوص ،
فمورد الحكم حينئذ هو موضوع الحكم الشرعي دون الحكم الشرعي نفسه ، وبهذا التخصيص
جزم المحدث الأمين الأسترآبادي.
وظاهر جمع ـ ممن
قدمنا نقل الخلاف عنهم في القاعدة المتقدمة ـ اجراء ذلك أيضا في نفس الحكم
الشرعي ، ومقتضى ذلك انه لو وجد حيوان مجهول مغاير للأنواع المعلوم حلها وحرمتها
من الحيوانات ، فإنه يحكم بحله بناء على عموم القاعدة المذكورة ، وكذا بطهارته بناء
على عموم القاعدة المتقدمة ، إلا ان شيخنا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد صرح في
مثل ذلك بالطهارة والتحريم محتجا بالأصل فيهما ، قال : «اما أصالة الطهارة فظاهر ،
واما أصالة التحريم فلأن المحرم غير منحصر ، لكثرته على وجه لا ينضبط» وفيه ما لا
يخفى.
وأنت خبير بان
مقتضى العمل باخبار التثليث ـ التي تقدمت الإشارة إليها في بحث البراءة الأصلية ـ التوقف في مثل ذلك ، إذ شمول هذه الاخبار التي
ذكرناها لمثل ذلك مما يكاد يقطع بعدمه ، فإنها متشاركة الدلالة ـ تصريحا في بعض
وتلويحا في آخر ـ على ان موردها إنما هو موضوع الحكم الشرعي والافراد المعلومة
الحكم مع اشتباهها. والله ورسوله وأولياؤه (عليهمالسلام) أعلم بحقائق الأحكام.
ومنها ـ عدم
نقض اليقين بالشك ، والمراد بالشك ما هو أعم من الظن كما سلف في القاعدة المتقدمة من دلالة حسنة الحلبي وصحيحة زرارة على ذلك.
والأخبار الدالة
على هذه القاعدة الشريفة مستفيضة ، ومنها الروايتان المشار إليهما.
__________________
و (منها) ـ صحيحة
زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قلت له الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة
والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا
نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء قلت : فان حرك الى جنبه شيء وهو لا يعلم به؟
قال : لا ، حتى يستيقن انه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين ، والا فهو على يقين
من وضوئه ، ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر».
وصحيحة أخرى له
ايضا عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت له من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد
أحرز الثنتين؟ قال يركع ركعتين ، الى ان قال : ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل
الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين
فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات».
والعمل بهذه
القاعدة الشريفة بالنسبة إلى الشك في حصول الرافع وعدمه مما لا خلاف فيه ولا شك
يعتريه.
إنما الخلاف في
شمولها للشك في فردية بعض الأشياء لذلك الرافع ، كما لو حصل الشك في فردية الخارج
من غير الموضع الطبيعي للناقض. بمعنى انه هل يكون من جملة نواقض الوضوء أم لا؟ فهل
يدخل تحت هذه القاعدة أم لا؟ ومرجعه الى جريانها في نفس أحكامه تعالى واختصاصها
بموضوعاتها خاصة.
__________________
الذي اختاره ـ المحدث
الأمين الأسترآبادي (قدسسره) ـ الثاني ، واليه يميل كلام بعض فضلاء متأخري
المتأخرين ، حيث قال (قدسسره) بعد إيراد صحيحة زرارة المتقدمة الواردة في النوم : «الشك في رفع اليقين على أقسام : (الأول)
ـ إذا ثبت ان الشيء الفلاني رافع لحكم لكن وقع الشك في وجود الرافع (الثاني) ـ ان
الشيء الفلاني رافع للحكم لكن معناه مجمل ، فوقع الشك في كون بعض الأشياء هل هو
فرد له أم لا؟ (الثالث) ـ ان معناه معلوم ليس بمجمل لكن وقع الشك في اتصاف بعض
الأشياء به وكونه فردا له لعارض ، كتوقفه على اعتبار متعذر أو غير ذلك (الرابع) ـ وقع
الشك في كون الشيء الفلاني هل هو رافع للحكم المذكور أم لا؟ والخبر المذكور إنما
يدل على النهي عن النقض بالشك ، وإنما يعقل ذلك في الصورة الاولى من تلك الصور
الأربع دون غيرها من الصور ، لأن في غيرها من الصور لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي
شك في كونه رافعا لم يكن النقض بالشك ، بل إنما حصل النقض باليقين بوجود ما يشك في
كونه رافعا ، وباليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه لا بالشك ، فان الشك في
تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنما حصل النقض حين اليقين بوجود
ما يشك في كونه رافعا للحكم بسببه ، لأن الشيء إنما يستند إلى العلة التامة أو
الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض للحكم اليقيني بالشك ، وإنما يكون
ذلك في صورة خاصة غيرها ، فلا عموم في الخبر. ومما يؤيد ذلك ان السابق على هذا
الكلام في الرواية ـ والذي جعل هذا الكلام دليلا عليه ـ من قبيل الصورة الأولى ،
فيمكن حمل المفرد المعرف باللام عليه. إذ لا عموم له بحسب الوضع بل هو موضوع للعهد
كما صرح به بعض المحققين من علماء العربية ، وانما دلالته على العموم بسبب أن
الإجمال
__________________
في مثل هذا الموضع ينافي الحكمة ، وتخصيصه بالبعض ترجيح من غير مرجح ،
وظاهر ان الفساد المذكور إنما يكون حيث ينتفي ما يصلح بسببه الحمل على العهد ،
وسبق الكلام في بعض أنواع الماهية سبب ظاهر لصحة الحمل على العهد من غير لزوم
فساد. نعم يتجه ثبوت العموم في جميع افراد النوع المعهود. وليس هذا من قبيل تخصيص
العام ببنائه على سبب خاص كما لا يخفى» انتهى كلامه زيد إكرامه.
(أقول) : ويمكن
تطرق المناقشة الى هذا الكلام ، بان يقال : انه لا يخفى ـ على المتأمل بعين
التحقيق والاعتبار فيما أوردناه من الأخبار ـ ان عدم نقض اليقين بالشك قاعدة كلية
وضابطة جلية لا اختصاص لها بمادة دون مادة ولا فرد دون فرد ، وهو الذي اتفقت عليه
كلمة الأصحاب كما لا يخفى على من تتبع كلماتهم في هذا الباب. والوجه فيه ان لأمي
اليقين والشك فيها لام التحلية ، وهي وان كانت لا تفيد العموم بحسب الوضع بناء على
ما صرح به جمع من علماء الأصول وان أشعر كلام البعض بخلافه ، لكنهم اتفقوا انها في
المقامات الخطابية للعموم ، إذ هو الأوفق بمقتضى الحكمة.
وأما ما ذكره (قدسسره) بالنسبة إلى الرواية التي أوردها . ـ من ان اللام ثمة إنما تحمل على العموم مع عدم
القرينة ، وقرينة العهدية حاصلة بالنسبة إلى الفرد المسؤول عنه.
ففيه (أولا) ـ ان
ظاهر قوله (عليهالسلام) في تلك الرواية : «ولا تنقض اليقين بالشك» إنما هو العموم
، فإنه (عليهالسلام) استدل ـ على ان الوضوء اليقيني لا ينتقض بحدث النوم ـ بقوله
: «لا ، حتى يستيقن انه قد نام ، الى قوله : وإلا فهو على يقين من وضوئه» ثم أردفه
بتلك القاعدة تأكيدا للاستدلال وإيذانا بعموم
__________________
الحكم في جميع الأحوال ، ولو كان مراده بها إنما هو عدم نقض الوضوء بالنوم
على تلك الحال لكان اعادة للأول بعينه ، وهو خارج عن قانون الاستدلال.
و (ثانيا) ـ ما
ذكرنا من دلالة غير هذه الرواية صريحا على كون ذلك قاعدة كلية كصحيحة زرارة
الأخيرة فإنها ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة واضحة المقالة على
المراد غير قابلة للتأويل والإيراد ، وحينئذ فللقائل أن يقول : ان الشك الذي لا
ينتقض به اليقين أعم من أن يكون شكا في وجود الناقض أو شكا بأحد المعاني الثلاثة
الأخيرة فإنها ترجع بالأخرة إلى الشك في وجود الناقض ، إذ متى شك في كون هذا الفرد
من افراد ذلك الكلي المتيقن نقضه ، فقد شك في وجود الكلي في ضمنه. وقوله ـ : «ان
الناقض في هذه الصور إنما هو اليقين» ـ ممنوع ، بل الشك الحاصل في ضمن اليقين
بوجود ذلك الفرد المشكوك في فرديته أو المشكوك في اتصافه بالعنوان أو في رفعه.
وقوله ـ : «ان
الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل» ـ ان أراد به حصوله واقعا فممنوع ولكن لا
يترتب عليه حكم ، وان أراد بحسب الوجود فممنوع ، إذ هو لا يحصل إلا في ضمن وجود ما
يشك في كونه فردا للناقض أو نحو ذلك من الأقسام الباقية. هذا ما يقتضيه النظر في
المقام إلا أن المسألة لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط مما ينبغي المحافظة عليه
على كل حال.
ومنها ـ ان كل
ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه ويدل على ذلك جملة من الأخبار المتفرقة في
جزئيات المسائل.
ففي صحيحة
الفضلاء «أنهم سألوا أبا جعفر (عليهالسلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون.
قال : كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» ،.
__________________
وفي رواية
سماعة قال : «سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغراء؟ فقال : لا
بأس ما لم تعلم أنه ميتة».
وفي صحيحة
إبراهيم بن ابي محمود انه قال للرضا (عليهالسلام) : «الخياط والقصار يكون يهوديا أو نصرانيا ، وأنت تعلم
انه يبول ولا يتوضأ ، ما تقول في عمله؟ قال : لا بأس».
ورواية ميسر قال : «قلت لأبي عبد الله : آمر الجارية فتغسل ثوبي من
المني فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ فقال : أعد صلاتك ، اما انك لو
كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء».
وربما توهم من
هذا الخبر الدلالة على خلاف المراد. وليس بذلك. وذلك لان ظاهره ان امره (عليهالسلام) بإعادة الصلاة إنما هو لوجود عين النجاسة لا لكون
الجارية إزالتها عن الثوب ، حتى لو فرض أنها إزالتها عن الثوب ولم يجدها فيه كان
يجب عليه غسل الثوب واعادة الصلاة.
ومن ذلك ايضا
الحديث الدال على ان الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.
وقد نقل ـ المحدث
الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية والمحدث
__________________
السيد نعمة الله (قدسسرهما) عن جملة ممن عاصراهم ـ انهم كانوا لأجل هذه الشبهة
يهبون ثيابهم للقصارين أو يبيعونها عليهم ، ثم يشترونها منهم ، مستندين الى ان
الثوب متيقن النجاسة ولا يرتفع حكم يقين النجاسة إلا بيقين الطهارة أو ما قام مقامه
من شهادة العدلين أو إخبار ذي اليد. وفيه ـ زيادة على ما تقدم ـ انه لا ريب ان
الحكم المذكور مما تعم به البلوى ، فلو كان مضيقا كما زعموا لظهر فيه اثر عنهم (عليهمالسلام) وقد ذكر غير واحد من محققي أصحابنا النافين للبراءة
الأصلية انها في مثل هذا الموضع مما يعتمد عليها في الاستدلال ، وقد تقدمت الإشارة
إليه أيضا آنفا بل الظاهر من أخبارهم (عليهمالسلام) ما يدل على التوسعة كما عرفت.
ومنها ـ الحكم
بطهارة ما اشتبه بنجس وحلية ما اشتبه بمحرم مع عدم الحصر والتمييز ، ونجاسة الجميع
أو حرمته إذا كان في محصور. وهذا هو المشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم).
وقيل بإجراء
حكم الصورة الاولى في الثانية ، واليه يشير كلام السيد السند في كتاب المدارك
بالنسبة إلى النجاسة والطهارة ، صرح بذلك في مسألة الإناءين ومسألة طهارة ما يسجد
عليه كما سيأتي كل منهما في محله ان شاء الله تعالى. ولا يخفى ان ذلك لازم له في
مسألة الحلال والحرام المشتبه أحدهما بالآخر وان لم نقف له على كلام فيه الا ان
المسألتين من باب واحد.
وكذا كلام
المحدث الكاشاني بالنسبة إلى الحل والحرمة ، حيث قال في كتاب المفاتيح بأنه إذا
اختلط الحلال بالحرام فهو له حلال حتى يعرف الحرام بعينه. ولم يفرق بين المحصور
وغيره.
ويرد على الأول
منهما انه وان كان ما صرحنا به من القاعدة المذكورة لم يرد
__________________
بها الأخبار على الوجه المدعى ، الا ان المستفاد منها ـ على وجه لا يزاحمه
الريب في خصوصيات المسائل التي تصلح للجزئية والاندراج تحت كل من كليتي المحصور
وغير المحصور ـ ان الحكم فيها كذلك ، ولا يخفى ان القواعد الكلية كما تكون بورود
الحكم كليا وباشتمال القضية على سؤر الكلية ، كذلك تحصل بتتبع الجزئيات كما في
القواعد النحوية ، بل في بعض الاخبار الواردة في هذا المقام تصريح بكلية الحكم
ايضا ، ولنشر هنا الى بعض الاخبار إجمالا ، لأن التفصيل في ذلك والأبحاث المتعلقة
بما هنالك قد وكلناها الى مواضعها الآتية إن شاء الله تعالى.
فمما يدل على
حكم المحصور وانه يحكم بنجاسة الجميع موثقة عمار الواردة في الإناءين النجس أحدهما مع اشتباهه بالآخر ،
فإنها دلت على وجوب اجتنابهما.
وحسنة صفوان في الثوبين النجس أحدهما مع اشتباهه بالآخر ، حيث أمر (عليهالسلام) بالصلاة في كل منهما على حدة.
والاخبار
الدالة على غسل الثوب النجس بعضه مع اشتباهه بالباقي .
ومما يدل على
حكم غير المحصور ـ وانه يحكم بالطهارة في الجميع ـ ما قدمنا في القاعدة الاولى من
موثقة عمار الدالة على ان كل شيء طاهر حتى يعلم أنه
__________________
قذر كما قدمنا تحقيقه وأوسعنا مضيقة ، وهي متضمنة للحكم المذكور بوجه كلي
كما أشرنا اليه.
ويرد ايضا عليه
وعلى القائل الآخر الأخبار الدالة على حكم اللحم المختلط ذكية بميتته وانه يباع
ممن يستحل الميتة كحسنتي الحلبي .
ويدل عليه خصوص
صحيحة ضريس الكناسي المتقدمة في القاعدة الثانية وكذا رواية عبد الله بن سليمان المذكورة ثمة . والاولى منهما متضمنة لحكم المحصور وغير المحصور على
وجه كلي ونمط جلي ، وهي صريحة الدلالة في الرد على هذين الفاضلين. والثانية قد
تضمنت حكم غير المحصور بوجه كلي أيضا.
ويؤيده بالنسبة إلى المحصور الذي هو محل النزاع ما روي عنه (صلىاللهعليهوآله) انه «ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال» . وما ذكره جملة من أصحابنا من ان اجتناب الحرام واجب ،
ولا يتم هنا إلا باجتناب الجميع. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومنها ـ الشك
في شيء بعد الخروج عنه ، لقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء». وقوله
__________________
(عليهالسلام) في موثقة محمد بن مسلم : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو». وقوله (عليهالسلام) في رواية أبي بصير : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض
عليه».
وفي هذه
القاعدة الشريفة أبحاث منيفة تأتي ان شاء الله تعالى في أحكام الوضوء.
ومنها ـ رفع
الحرج. لقوله سبحانه (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .
ويدل عليه من
الاخبار حسنة عبد الأعلى قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع
بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) امسح عليه».
وفي رواية أبي
بصير : «في الجنب يدخل يده في التور أو الركوة؟ قال : ان كانت يده قذرة فليهرقه
، وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا مما قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ)» . وفي صحيحة الفضيل
__________________
«في الجنب يغتسل فينضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال؟ لا بأس ، هذا مما
قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» .
ومنها ـ العذر
فيما غلب الله عليه ، لحسنة حفص بن البختري عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول في المغمى عليه : ما غلب الله عليه
فالله أولى بالعذر».
وبمضمونها في
حكم المغمى عليه أخبار عديدة وفي بعضها «كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر». وزاد
في بعض الاخبار المروية في ذلك ايضا من كتاب قرب الاسناد وبصائر الدرجات : «وهذا
من الأبواب التي يفتح الله منها الف باب». وفي رواية مرازم في المريض الذي لا يقدر
على الصلاة «كل ما غلب الله عليه فالله اولى بالعذر».
ومنها ـ الترجيح
بالمرجحات المنصوصة عند اختلاف الأخبار. وقد تقدم الكلام عليها مفصلا .
ومنها ـ الاحتياط
في مواضعه على التفصيل المتقدم .
ومنها ـ معذورية
الجاهل على الوجه المتقدم تفصيله .
__________________
ومنها ـ العمومات
القطعية المقررة عن صاحب الشريعة ، مثل قوله تعالى (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) واخبار «لا ضرر ولا ضرار» .
ومنع ـ المحدث
الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية ـ من الاستدلال بأمثال ذلك ، لظنية
الدلالة ، والنهي عن اتباع الظن. وهو مع تسليمه إنما يتم فيما لم تكن دلالته
محكمة. وأما ما كان كذلك فلا مانع من الاستدلال به. على انه قد استدل في كتابه
المذكور بأمثال ذلك في غير موضع كما لا يخفى على من راجعه.
ومنها «المؤمنون
عند شروطهم إلا ما خالف كتاب الله.» وفي بعضها «الا ما أحل حراما أو حرم حلالا». واخبار «البيعان
بالخيار ما لم يفترقا» . «وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام». «والبينة على المدعي واليمين على المنكر». إلا ما استثنى مما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله
تعالى.
ومنها ـ في
البيض المجهول ان يؤكل منه ما اختلف طرفاه دون ما استويا ، لصحيحة زرارة وغيرها .
وفي الطير ما
دف دون ما صف ، وما كان دفيفه أكثر ، ولو اتي به مذبوحا
__________________
فيؤكل ما كان له قانصة دون ما لم يكن كذلك ، لرواية ابن ابي يعفور وغيرها .
وفي السمك يؤكل
ما كان له فلس دون ما ليس كذلك كما استفاضت به الاخبار .
ومنها ـ رفع
الخطأ والنسيان وما استكره عليه وما لا يطاق وما لا يعلم وما اضطر اليه والحسد
والطيرة والوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة ، لما رواه الصدوق في الفقيه عن ابي عبد الله (عليهالسلام).
والرفع في هذا
الموضع أعم من أن يكون برفع الإثم والمؤاخذة كما في بعض الأفراد المعدودة ، أو رفع
الفعل وانتفاء التكليف به كما في البعض الآخر.
ومنها ـ العمل
بالتقية إذا ألجأت الضرورة إليها. والاخبار بذلك أكثر
__________________
وأشهر من أن يتعرض لنقلها بل ربما كان ذلك من ضروريات المذهب. وفي هذه القاعدة
تفصيل حسن سيأتي الكلام عليه ان شاء الله تعالى في أحكام الوضوء.
ومنها ـ العمل
بالبراءة الأصلية في الأحكام التي تعم بها البلوى كما تقدمت الإشارة الى ذلك .
والوجه فيه ما
ذكره بعض مشايخنا المحدثين من ان المحدث الماهر ـ إذا تتبع الأخبار الواردة حق
التتبع في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ، ولم يظفر
بذلك الحكم ـ يحصل له الجزم أو الظن المتاخم للعلم بعدم الحكم ، لان جما غفيرا من
أصحابهم (عليهمالسلام) ـ ومنهم : الأربعة آلاف رجل الذين من أصحاب الصادق (عليهالسلام) وتلامذته ـ كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد على
ثلاثمائة سنة ، وكان همتهم وهمة الأئمة (عليهمالسلام) إظهار الدين وترويج الشريعة ، وكانوا لحرصهم على ذلك
يكتبون كل ما يسمعونه خوفا من عروض النسيان له ، وكان الأئمة (عليهمالسلام) يحثونهم على ذلك ، وليس الغرض منه إلا العمل به بعدهم.
ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالبراءة الأصلية ، إذ لو كان ثمة دليل ـ والحال كذلك ـ لظهر.
وما اعترض به
بعض متأخري المتأخرين ـ من ان ذلك لا يخلو من نوع اشكال لتطرق الضياع والتلف إلى
جملة من الأصول ـ فالظاهر سقوطه ، لان الظاهر ان التلف إنما عرض لتلك الأصول أخيرا
بالاستغناء عنها بهذه الكتب المتداولة ، لكونها أحسن منها ترتيبا وأظهر تبويبا ،
وإلا فقد بقي من تلك الأصول إلى عصر السيد رضي الدين ابن طاوس (رضياللهعنه) جملة وافرة ، وقد نقل منها في مصنفاته كما نبه عليه ،
وكذا
__________________
ابن إدريس كما ذكره في مستطرفات السرائر ، وعد من هذا القبيل وجوب القصد
إلى السورة ، ووجوب قصد الخروج بالتسليم ، ونجاسة أرض الحمام ، ونجاسة الغسالة.
ومنها ـ البناء
في شك الأخيرتين من الرباعية على الأكثر ما لم يكن مبطلا.
وتدل عليه موثقة
عمار الساباطي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن شيء من السهو في الصلاة. فقال : ألا أعلمك شيئا
إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء؟ قلت : بلى. قال : إذا سهوت
فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت انك نقصت. الحديث».
وفي موثقة
إسحاق بن عمار انه قال : «قال لي أبو الحسن (عليهالسلام) : إذا شككت فابن على اليقين. قال : قلت : هذا أصل؟ قال
: نعم».
وأكثر الأصحاب
فهموا من هذا الخبر ان المراد به البناء على الأقل ، فيكون ذلك قاعدة مخالفة لتلك
القاعدة ، وقد تكلفوا للجمع بينهما بالتخيير.
والأظهر عندي ـ
كما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى ـ اما حمل اليقين في الخبر المذكور
على البناء على الأكثر على ان يكون المراد به يقين البراءة ، إذ به يحصل يقين
البراءة على الاحتمالين دون البناء على ما تيقن فعله وهو الأقل ، لوجوب الإعادة مع
ظهور التمام للزيادة ، واما حمله على التقية ، لكون ذلك مذهب جمهور الجمهور مع اعتضاد القاعدة الأولى بالأخبار المستفيضة الصحيحة
الصريحة في جزئيات الشكوك.
ومنها ـ الإبهام
لما أبهم الله والسكوت عما سكت الله. ويدل عليه ما رواه في كتاب عوالي اللئالي عن
إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) كان يقول : أبهموا ما أبهم الله» .
__________________
وما رواه الشيخ
المفيد (رحمهالله) في كتاب المجالس بسنده عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : ان الله تعالى حد لكم حدودا فلا تعتدوها ، وفرض عليكم
فرائض فلا تضيعوها ، وسن لكم سننا فاتبعوها ، وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها ،
وعفى لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تتكلفوها» .
وما رواه في
الفقيه من خطبة أمير المؤمنين (عليهالسلام) وقد مر في آخر بحث البراءة الأصلية .
ومنها ـ ثبوت
العيب بما زاد أو نقص عن أصل الخلقة.
ويدل عليه ما
رواه في الكافي عن السياري قال : «سأل ابن ابي ليلى محمد ابن مسلم فقال
له : أي شيء تروون عن ابي جعفر (عليهالسلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر ، أيكون ذلك عيبا؟
فقال له محمد : اما هذا نصا فلا أعرفه ، لكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو
عيب». فقال له ابن ابي ليلى : حسبك».
ومنها ـ ان كل
شيء يجتر فسؤره حلال ولعابه حلال. للخبر عنه (صلى الله
__________________
عليه وآله) رواه الصدوق (رحمهالله) في الفقيه مرسلا ورواه في التهذيب ايضا عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عن
آبائه عنه (صلىاللهعليهوآله).
ومنها ـ قبول
قول من لا منازع له ، كما لو ادعى مالا ولا منازع له فيه. وقبول قول المرأة لو
ادعت الحيض أو الخروج من العدة أو عدم الزوج أو موته.
وهذه القاعدة
وان لم ترد الاخبار بها بالعنوان المذكور الا ان اتفاقها فيما وقفنا عليه من
جزئيات هذه القاعدة مما يؤذن بكلية الحكم المذكور ، كما هو المفهوم ايضا من كلام
الأصحاب ، ومما يوضح ذلك ان الاخبار ـ الواردة في إثبات الدعاوي بالبينة واليمين ـ
لا عموم فيها على وجه يشمل مثل هذه المسألة ، إذ موردها إنما هو النزاع بين
الخصمين وحصول مدع ومنكر في البين ، كما لا يخفى على من أحاط بها خبرا.
ومما حضرني من
الأخبار في بعض جزئيات هذه القاعدة رواية منصور بن حازم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه
الف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا. وقال واحد منهم :
هو لي. فلمن هو؟ قال : للذي ادعاه».
وحسنة زرارة عن
ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «العدة والحيض للنساء إذا ادعت صدقت».
__________________
ورواية ميسر قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد ، فأقول
لها : ألك زوج؟ فتقول : لا. فأتزوجها؟ قال : نعم هي المصدقة على نفسها».
وفي رواية أبان
بن تغلب الواردة في مثل ذلك قال (عليهالسلام) : «ليس هذا عليك ، إنما عليك ان تصدقها في نفسها». ولا
يخفى عليك ما في عموم الجواب من الدلالة على قبول قولها فيما يتعلق بها نفسها.
واستشكل صاحب
الكفاية في قبول قولها في موت الزوج. وجمع من المعاصرين في قبول قولها بعدم الزوج
بعد معلوميته سابقا. وهو ضعيف. والاخبار ترده. ومنها : الخبر المذكور ، ومنها أيضا
: صحيحة حماد ورواية أحمد بن محمد بن ابي نصر نعم ربما ظهر من بعض الاخبار التقييد بكونها غير متهمة
، إلا ان الأظهر حمله على الاستحباب
__________________
والأحوطية جمعا بين الأخبار ، لتصريح جملة منها بقبول قولها في مقام التهمة
أيضا. والله العالم.
تتمة مهمة
قد اشتهر في
كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) قواعد أخر بنوا عليها الأحكام. مع كون
جملة منها مما يخالف ما هو الوارد عنهم (عليهمالسلام) ، وجملة أخرى مما لم يوجد له مستند في المقام.
فمنها ـ قولهم
: انه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. مع انه قد استفاضت النصوص عنهم (عليهمالسلام) في مواضع ـ منها : في تفسير قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ـ بما يدفع هذه القاعدة ، حيث قالوا (صلوات الله عليهم)
: «ان الله قد فرض عليكم السؤال ولم يفرض علينا الجواب ، بل ذلك إلينا ، ان شئنا
أجبنا وان شئنا أمسكنا» . نعم هذه القاعدة إنما تتجه على مذهب العامة ، لعدم
التقية في اخبارهم ، وقد تبعهم من أصحابنا من تبعهم فيها غفلة.
(ولو قيل) :
انه مع عدم جوابهم (عليهمالسلام) يلزم الحرج.
(قلنا) : انما
يلزم ذلك لو لم يكن ثمة مخرج آخر ، كيف؟ وقد تقرر عنهم (عليهمالسلام) قاعدة جلية في أمثال ذلك. وهو سلوك جادة الاحتياط ،
كما أسلفنا بيانه وأوضحنا برهانه .
ونقل شيخنا
المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح عن شيخه العلامة الشيخ
__________________
سليمان البحراني (قدسسرهما) انه كان يقول : «لو ورد علينا في مثل هذه المسألة ألف
حديث لما عملنا به ، لانه معارض لما قام عليه الدليل العقلي والنقلي من عدم جواز
تأخير البيان عن وقت الحاجة».
وهو ـ كما ترى
ـ اجتهاد صرف وتعصب بحت ، فان الدليل النقلي ـ المطابق للدليل العقلي الذي هو
عبارة عما دل من الاخبار على وجوب بذل العلم ، كقوله (عليهالسلام) : «ان الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى
أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم» . وما اشتهر من قوله (صلىاللهعليهوآله) : «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار». الى غير ذلك
ـ مخصوص بما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده الى عبد الله بن سليمان قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول ، وعنده رجل من أهل البصرة ـ يقال له عثمان
الأعمى ـ وهو يقول : ان الحسن البصري يزعم ان الذين يكتمون العلم تؤذي ريح بطونهم
أهل النار. فقال أبو جعفر (عليهالسلام) : فهلك اذن مؤمن آل فرعون ، ما زال العلم مكتوما منذ
بعث الله نوحا ، فليذهب الحسن يمينا وشمالا فوالله ما يوجد العلم إلا ههنا». ونحوه
روى في كتاب بصائر الدرجات ولعل الحسن البصري ـ حيث انه من جملة النصاب ورؤوس ذوي
الأذناب ـ كان يعرض بهم (عليهمالسلام) في عدم جوابهم عن بعض الأسئلة كما تدل عليه الاخبار
السابقة .
وفي هذين
الخبرين دلالة على جواز تأخير البيان مع التقية حتى بالنسبة إلى غيرهم ايضا ،
وحينئذ فتلك القاعدة وما يطابقها من الأخبار مخصصة بما ذكرناه من الأخبار.
وكأن شيخنا
العلامة المشار اليه قصر النظر على عموم الأخبار المتقدمة من حيث
__________________
دلالتها على عدم وجوب الجواب عليهم (عليهمالسلام) سواء كان لتقية أم لا ، وبذلك تحصل المنافاة للقاعدة
المذكورة .
وبما ذكرنا لك
من الخبرين المذكورين تنكشف عن تلك الأخبار غشاوة العموم وتختص بمقام التقية
كما لا يخفى.
ومنها ـ حمل
اللفظ الوارد في أخبارهم (عليهمالسلام) على الحقيقة الشرعية ان ثبتت وإلا المعنى العرفي الخاص
، ومع عدمه فالمعنى اللغوي وإلا العرفي العام وقد عرفت ما فيه في المقدمة الثامنة.
ومنها ـ قولهم
: عدم وجود المدرك للحكم الشرعي مدرك شرعي ، وبعبارة أخرى ، عدم وجود الدليل دليل
على العدم. وقد عرفت ما فيه في المقدمة الثالثة في مسألة البراءة الأصلية .
__________________
ومنها ـ قولهم
: الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من طرح أحدهما. وقد تقدم ما فيه في المقدمة
السادسة .
ومنها ـ انه
إذا تعارضت الاخبار في وجوب فعل واستحبابه أو تحريم شيء وكراهته ، يرجحون جانب
الاستحباب أو الكراهة بالبراءة الأصلية. وفيه ما تقدم في المقدمة الرابعة .
ومنها ـ ما صار
اليه جمع من متأخري المتأخرين من حمل أوامر السنة ونواهيها على الاستحباب والكراهة
ما لم تقم قرينة الوجوب أو التحريم وقد عرفت ما فيه في المقدمة السابعة.
ومنها ـ ما
صاروا إليه أيضا من انه متى ورد الحكم في خبر ضعيف باصطلاحهم المتأخر ، حملوه على
الاستحباب أو الكراهة تفاديا من طرحه. وفيه ان ضعف السند ليس من القرائن الموجبة
للحمل على المجاز.
ومنها ـ قولهم
: انه إذا تعلق الطلب بالماهية الكلية يتحقق الامتثال بفرد منها لأن الأصل عدم
تعلق الطلب بقيد زائد. وفيه ما افاده بعض مشايخنا المحدثين من ان بعض الماهيات
الكلية تحتها افراد تصلح عند العقلاء لان يتعلق غرض ببعضها دون بعض ، كحج البيت
وغسل الوجه في الوضوء ومسح مخرج الغائط بالأحجار ويستهجن عندهم الاقدام على فرد من
إفرادها من غير سؤال. وهذا نوع من الإجمال منشأه نفس المعنى لا اللفظ.
ومنها ـ انهم
جعلوا من جملة وجوه الجمع بين الأخبار بل أظهرها حمل الأمر
__________________
على الاستحباب والنهي على الكراهة. وقد عرفت ما فيه في الموضع السادس من الأبحاث المتعلقة باخبار التعارض من المقدمة
السادسة.
ومنها ـ قولهم
: انه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق. وقد عرفت ما فيه في المقدمة
التاسعة .
ومنها ـ ما ذهب
اليه جمع من ان كل عقد اشتمل على شرط فاسد فإنه يبطل به أصل العقد ، لان المقصود
بالعقد هو المجموع. وأصل العقد مجردا عن الشرط غير مقصود فيكون باطلا ، لان العقود
تابعة للقصود ، فما كان مقصودا غير صحيح وما كان صحيحا غير مقصود. وذهب جمع الى
بطلان الشرط خاصة.
والأخبار فيها
ما يدل على الثاني وفيها ما يدل على الأول ، فالواجب حينئذ هو الوقوف على الدليل ـ
كيف كان ـ ان وجد ، وإلا فالاحتياط.
ومما يدل على
الثاني صحيحتا محمد بن قيس المتضمنة إحداهما اشتراط المرأة في عقد النكاح ان بيدها الجماع والطلاق.
والأخرى اشتراط أن يجيء الزوج بالصداق إلى أجل مسمى ، وإلا
فليس له عليها سبيل. وقد حكم (عليهالسلام) فيهما بصحة العقد وأبطل الشرط.
ومرسلة جميل بن
دراج «في الرجل
يشتري الجارية ويشترط لأهلها ان لا يبيع ولا يهب ولا يورث؟ قال (عليهالسلام) : يفي بذلك إذا شرط لهم إلا الميراث».
__________________
وحسنة الحلبي
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) الواردة في بريرة وانها كانت مملوكة لقوم فباعوها على
عائشة واشترطوا ان لهم ولاءها ، فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : «الولاء لمن أعتق» .
وبذلك يظهر لك
ما في كلام السيد السند صاحب المدارك (قدسسره) في شرح المختصر في مسألة ما لو شرط في عقد النكاح ما
يخالف المشروع ، حيث اختار العمل بالقاعدة المتقدم نقلها للعلة التي تقدم ذكرها وقال ـ بعد نقل صحيحتي محمد بن قيس المشار إليهما وكلام في المقام ـ ما صورته : «لكن مرجع الروايتين إلى
رواية واحدة وهو خبر محمد بن قيس. وفي صلاحيته بمجرده لإثبات الحكم نظر ، ولو ثبت
العمل به لوجب قصر الحكم بالصحة على مورد الرواية ، والحكم في غيره بالبطلان ، لما
ذكر من الدليل» انتهى. فان فيه ـ كما عرفت ـ ان الحكم بالصحة ليس مقصورا على
صحيحتي محمد بن قيس اللتين قد تمحل بإرجاعهما الى خبر واحد. بل غيرهما من
الأخبار ايضا دال عليه كما دريت.
ومما يدل على
الأول مرسلة مروان بن مسلم عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله
__________________
(عليهالسلام) قال : «قلت : ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها؟ قال
: فقال : ولى الأمر من ليس أهله وخالف السنة ولم يجز النكاح». ولا تخلو من إجمال
في الدلالة كما سيأتي التنبيه عليه في محله ان شاء الله تعالى.
ومنها ـ ما ذهب
إليه جملة منهم من أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص. وقد مرت الإشارة
الى ما فيه في المقدمة الثالثة ومثله القول في مقدمة الواجب الى غير ذلك من القواعد التي تضمنها كتاب القواعد
لشيخنا الشهيد وكتاب تمهيد القواعد لشيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقديهما) وما
ذكرناه من القسمين انما هو أنموذج يتذكر به اللبيب ويحذو حذوه الموفق المصيب ،
ولئلا يجمد على مجرد التقليد لظاهر المشهورات وان زخرف بضم الإجماع في العبارات ،
وإلا فالقواعد من الجانبين أكثر من ان يأتي عليها قلم الإحصاء في البين.
__________________
المقدمة الثانية عشرة
في الإشارة إلى
نبذة من الكلام في أحوال المجتهدين من أصحابنا والأخباريين. وبها تختتم ما أردنا
إيراده من المقدمات وقصدنا إحرازه من المتممات ، تيمنا بهذا العدد الشريف وتبركا
بهذا العقد المنيف ، اعلم انه قد كثرت الأسئلة من جملة من الطلبة عن الفرق بين
المجتهد والاخباري وأكثر المسئولون من وجوه الفروق ، حتى أنهاها ـ شيخنا المحدث الصالح
الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني (نور الله مرقده) في كتاب منية الممارسين في
أجوبة مسائل الشيخ ياسين ـ إلى ثلاثة وأربعين.
وقد كنت في أول
الأمر ممن ينتصر لمذهب الأخباريين ، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من
مشايخنا المعاصرين ، وأودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة
على جملة من الأبحاث الشافعية والاخبار الكافية تدل على ذلك وتؤيد ما هنالك.
إلا ان الذي
ظهر لي ـ بعد إعطاء التأمل حقه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام ـ هو
إغماض النظر عن هذا الباب وإرخاء الستر دونه والحجاب ، وان كان قد فتحه أقوام
وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام.
(أما أولا) ـ فلاستلزامه
القدح في علماء الطرفين والإزراء بفضلاء الجانبين كما قد طعن به كل من علماء
الطرفين على الآخر ، بل ربما انجر الى القدح في الدين سيما من الخصوم المعاندين ،
كما شنع به عليهم الشيعة من انقسام مذهبهم الى المذاهب الأربعة ، بل شنع به كل
منهم على الآخر ايضا.
(واما ثانيا) ـ
فلأن ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جله بل كله عند التأمل لا يثمر فرقا في المقام
، فان من أظهر ما اعتمدوه فرقا في المقام هو كون الأدلة عند
المجتهدين أربعة : (الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل) الذي هو عبارة عن
البراءة الأصلية والاستصحاب. واما عند الأخباريين فالأولان خاصة. وفي هذا الفرق
نظر ظاهر ، فإن الإجماع وان ذكره المجتهدون في الكتب الأصولية وعدوه في جملة
الأدلة وربما استسلفوه في الكتب الاستدلالية ، إلا أنك تراهم في مقام التحقيق في
الكتب الاستدلالية يناقشون في ثبوته وحصوله وينازعون في تحققه ووجود مدلوله حتى
يضمحل أثره بالكلية ، كما لا يخفى على من تصفح الكتب الاستدلالية كالمعتبر
والمسالك والمدارك ونحوها ، وقد تقدم لك في المقدمة الثالثة نبذة من الإشارة الى ذلك. واما دليل العقل فالخلاف في
حجيته بين المجتهدين موجود في غير موضع ، والمحققون منهم على منعه. وقد فصل المحقق
ـ في أول كتاب المعتبر والمحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم وغيرهما في غيرهما ـ الكلام
في البراءة الأصلية والاستصحاب على وجه يدفع تمسك الخصم به في هذا الباب ، فليراجع
ذلك من أحب الوقوف عليه. وقد حققنا ذلك في كتاب الدرر النجفية ، وتقدم لك في هذا
الكتاب إشارة الى ذلك.
ومن الفروق
التي ذكروها ان الأشياء عند الأخباريين على التثليث : (حلال بين وحرام بين وشبهات
بين ذلك) واما عند المجتهدين فليس إلا الأولان خاصة. وفي هذا الوجه ايضا نظر ، فان
الشيخ في العدة وقبله شيخه المفيد قد ذهبا الى القول بالتثليث كما نقلوه عن
الأخباريين مع انهما من أساطين المجتهدين ، وكلام الصدوق (قدسسره) ـ في كتاب الاعتقادات صريحا وفي كتاب من لا يحضره
الفقيه ظاهرا ـ مما ينادي بالقول بالتثنية كما عليه المجتهدون ، قال في كتاب
الاعتقادات : «باب الاعتقاد
__________________
في الحظر والإباحة ، قال الشيخ (رضياللهعنه) : اعتقادنا في ذلك ان الأشياء كلها مطلقة حتى يرد في
شيء منها نهي» انتهى. فالأشياء عنده اما حلال أو حرام كما هو عند المجتهدين مع
انه رئيس الأخباريين.
ومنها ـ انهم
ذكروا ان الاستدلال بالكتاب والسنة خاصة مخصوص بالأخباريين ، مع ان الخلاف بين
الأخباريين واقع فيه ، فمنهم المحدث الأسترآبادي الذي هو المجدد لمذهب الأخباريين
في الزمان الأخير. فإنه قد صرح في كتاب الفوائد المدنية بعدم جواز العمل بشيء منه
إلا ما ورد تفسيره عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) واقتصر آخرون على العمل بمحكماته
، وتعدى آخرون حتى كادوا ان يشاركوا الأئمة (عليهمالسلام) في تأويل متشابهاته كما تقدمت الإشارة اليه .
و (اما ثالثا)
ـ فلأن العصر الأول كان مملوءا من المحدثين والمجتهدين ، مع انه لم يرتفع بينهم
صيت هذا الخلاف ، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف ، وان ناقش
بعضهم بعضا في جزئيات المسائل واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل.
وحينئذ فالأولى
والأليق ـ بذوي الايمان ، والأحرى والأنسب في هذا الشأن ـ هو أن يقال : ان عمل
علماء الفرقة المحقة ـ والشريعة الحقة أيدهم الله تعالى بالنصر والتمكين ورفع
درجاتهم في أعلى عليين سلفا وخلفا ـ إنما هو على مذهب أئمتهم (صلوات الله عليهم)
وطريقهم الذي أوضحوه لديهم ، فان جلالة شأنهم ـ وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم
المشهور بل المتواتر على مر الأيام والدهور ـ يمنعهم من الخروج عن تلك الجادة
القويمة والطريقة المستقيمة ، ولكن ربما حاد بعضهم ـ أخباريا كان أو مجتهدا ـ عن
الطريق غفلة أو توهما أو لقصور اطلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل ، فهو
__________________
لا يوجب تشنيعا ولا قدحا. وجميع تلك المسائل ـ التي جعلوها مناط الفرق ـ من
هذا القبيل كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل ، فانا نرى كلا من المجتهدين
والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل بل ربما خالف أحدهم نفسه ، مع انه لا يوجب
تشنيعا ولا قدحا. وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق (رحمهالله تعالى) الى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا
إخباري ، مع انه لم يقدح ذلك في علمه وفضله.
ولم يرتفع صيت
هذا الخلاف ولا وقوع هذا الاعتساف إلا من زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله
تعالى برحمته المرضية ، فإنه قد جرد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك اي
إسهاب ، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب. وهو وان أصاب
الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب ، إلا انها لا تخرج عما ذكرنا
من سائر الاختلافات ودخولها فيما ذكرنا من التوجيهات. وكان الأنسب بمثله حملهم على
محامل السداد والرشاد ان لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد ، فإنهم (رضوان الله
عليهم) لم يألوا جهدا في إقامة الدين واحياء سنة المرسلين ، ولا سيما آية الله (العلامة)
الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة ، فإنه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين
ـ من الحجج القاطعة والبراهين ، حتى آمن بسببه الجم الغفير ، ودخل في هذا الدين
الكبير والصغير والشريف والحقير ، وصنف من الكتب المشتملة على غوامض التحقيقات
ودقائق التدقيقات ، حتى ان من تأخر عنه لم يلتقط إلا من درر نثاره ولم يغترف إلا
من زاخر بحاره ـ قد صار له ـ من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة
الناجية ـ ما يستحق به الثناء الجميل ومزيد التعظيم والتبجيل ، لا الذم والنسبة
إلى تخريب الدين كما اجترأ به قلمه عليه (قدسسره) وعلى غيره من المجتهدين.
ولنشرع الآن في
المقصود متوكلين على الملك المعبود ومفيض الخير والجود ، فنقول وبه سبحانه الثقة
لإدراك كل مأمول :
كتاب الطهارة وفيه أبواب أربعة
الباب الأول في المياه
وينقسم الماء
الى مطلق ومضاف. والأول منهما الى جار وراكد. والجاري إلى ماء بئر وغيره. والراكد
الى كر وأقل منه. والأقل إلى ماء سؤر وغيره.
وحيث جرت عادة
فقهائنا (نور الله تعالى مراقدهم) بأفراد البحث لكل من هذه الأقسام لاختلافها
بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة في الأحكام ، كان الواجب بسط الكلام هنا في فصول ستة
وختام.
الفصل الأول
في الماء
المطلق الجاري ، والقول فيه ينتظم في مقالات :
(المقالة
الاولى) ـ المراد بالجاري هو النابع وان لم يتعد محله. والنبع ـ على ما في كتب اللغة
ـ عبارة عن خروج الماء من العين ، قال في الصحاح : «نبع الماء ينبع نبوعا : خرج ،
والينبوع عين الماء ، ومنه : قوله تعالى (حَتّى تَفْجُرَ لَنا
مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) والجمع ينابيع» انتهى. وقال في القاموس : «نبع الماء
ينبع ـ مثلثة ـ نبعا ونبوعا : خرج من العين ، والينبوع العين» وقال في مادة عين : «العين
: الباصرة ، الى ان قال : وينبوع الماء» انتهى. وعلى هذا فالعين انما هو اسم
للينبوع الذي يخرج منه الماء وان اشتهر إطلاقها على مجمع الماء ، وحينئذ فما
__________________
يوجد ـ في بعض البلدان كبلادنا البحرين حرسها الله من طوارق الملوين ، من
الآبار التي يخرج ماؤها بطريق الترشح من الأرض ـ لا تدخل في الجاري ، ولعلها مما
تدخل تحت الثمد بالثاء المثلثة ثم الميم ثم الدال المهملة ، وهو ـ على ما صرح به
في القاموس ـ الماء القليل لا مادة له ، إذ الظاهر ان المراد بالمادة هو الينبوع
الذي يخرج منه الماء بقوة وثوران دون ما يخرج بطريق الترشح من جميع سطح الأرض ،
ولهذا ان الوالد (عطر الله مرقده) كان يطهر ـ تلك الآبار المشار إليها حيث كانت في
قريته متى تنجست ـ بإلقاء الكر عليها دون مجرد النزح منها ، إلا ان تطهيره لها
بإلقاء الكر عليها كان بجعل الكر في ظروف متعددة. وفيه عندي إشكال سيأتي التنبيه
عليه في الكلام على تطهير الماء القليل ان شاء الله تعالى.
(المقالة
الثانية) الثلج والبرد أو كان ماء بحر أو نحوه ـ طاهر في نفسه مطهر لغيره إجماعا ،
فتوى ودليلا ، آية ورواية.
فمن الآيات
الدالة على ذلك قوله سبحانه (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) وقوله عز شأنه : (وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ).) .
وقد أورد على
الاستدلال بهذه الآيات سؤالات : (أحدها) ـ ان أقصى ما تدل عليه طهورية ماء السماء
لا مطلق الماء ، فالدليل أخص من الدعوى.
(ثانيها) ـ ان (ماء)
في الآيتين نكرة في سياق الإثبات ، وهي لا تفيد العموم كما صرحوا به في الأصول.
(ثالثها) ـ ان (طهورا)
هنا لا يجوز ان يكون على بابه من المبالغة في أمثاله لأن المبالغة في (فعول) إنما
هي بزيادة المعنى المصدري وشدته فيه ، كأكول وضروب ،
__________________
وكون الماء مطهرا لغيره أمر خارج عن أصل الطهارة التي هي المعنى المصدري ،
فكيف تراد منه؟ بل هو حينئذ بمعنى الطاهر.
والجواب عن
الأول ـ ان المستفاد من الآيات القرآنية ان الماء أصله كله من السماء ، وبذلك صرح
شيخنا الصدوق في أول كتاب من لا يحضره الفقيه ، وما ذكره المتخرصون ـ من ان مواد
المياه ليست إلا الأبخرة المحتبسة ، وان حصل لها الغزارة والنزارة بكثرة مياه
الأمطار والثلوج وقلتها ـ فكلام عار عن التحصيل ، فضلا عن مخالفته لصريح التنزيل ،
وما ورد عن معادن التأويل.
ومن الآيات
الدالة على ما قلنا قوله سبحانه : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ»
وروى الثقة
الجليل علي ابن إبراهيم القمي في تفسير هذه الآية عن الباقر (عليهالسلام) قال : «هي الأنهار والعيون والآبار».
وقوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ
يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ...» .
وقوله تعالى : «(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) الى قوله (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
الزَّرْعَ).» .
فهذه الآيات
دالة على ان أصل ماء الأرض كله من السماء.
والجواب عن
الثاني ـ انه وان كان كذلك مع عدم قرينة تفيد العموم إلا ان قرينة المقام في هذه
الآيات التي نقلناها تفيد العموم ، فان الظاهر ان هذه الآيات كلها واردة في معرض
التفضل وإظهار الامتنان وبيان الانعام ، وحينئذ فلو كان هناك
__________________
فرد آخر لذكره (عز شأنه) سيما مع ما يدل عليه قوله سبحانه : «وَإِنّا عَلى ذَهابٍ
بِهِ لَقادِرُونَ» من التهديد بأنه ان أذهب ذلك الماء النازل من السماء لم
يبق لنا غيره. وبما ذكرنا صرح جمع من الأصوليين ، حيث قالوا بأن النكرة في سياق
الإثبات إذا كانت للامتنان عمت ، وفرعوا عليه قوله سبحانه : «فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ» .
والجواب عن
الثالث ان الطهور في اللغة لمعان :
(أحدها) ـ انه
وصف بمعنى طاهر ، ومنه انقدحت الشبهة على المعترض المذكور.
و (ثانيها) ـ ما
هو مشهور بين أهل اللغة ـ على ما نقله جمع من الخاصة والعامة ـ من انه اسم لما
يتطهر به ، كالسحور والوقود والغسول ونحوها. وحمله في تلك الآيات على هذا المعنى
ممكن ، وان احتاج وصف الماء به الى نوع تجريد ، لأن أسماء الآلة كأسماء الزمان
والمكان لا يوصف بها مثل المشتقات ، وحينئذ فلا اثر لذلك الإيراد.
و (ثالثها) ـ بمعنى
الطاهر المطهر كما هو المدعى ، وبذلك صرح الفاضل الفيومي في كتاب المصباح المنير ،
حيث قال : «وطهور قيل مبالغة وانه بمعنى طاهر ، والأكثر انه لوصف زائد ، قال ابن
فارس : قال ثعلب : الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. وقال الأزهري أيضا :
الطهور في اللغة هو الطاهر المطهر ، قال : وفعول في كلام العرب لمعان : (منها) ـ فعول
لما يفعل به ، مثل الطهور لما يتطهر به ، والوضوء لما يتوضأ به ، والفطور لما يفطر
عليه والغسول لما يغتسل به ويغسل به الشيء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «هو
الطهور ماؤه» . أي هو الطاهر المطهر
__________________
قاله ابن الأثير ، قال : وما لم يكن مطهرا فليس بطهور. وقال الزمخشري : الطهور
البليغ في الطهارة. وقال بعض العلماء : ويفهم من قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً) انه طاهر في نفسه مطهر لغيره ، لان قوله : (ماء) يفهم
منه انه طاهر ، لانه ذكر في معرض الامتنان. ولا يكون ذلك إلا بما ينتفع به ، فيكون
طاهرا في نفسه. وقوله : (طهورا) يفهم منه صفة زائدة على الطهارة وهي الطهورية (فإن
قيل) : قد ورد طهور بمعنى طاهر كما في قوله : «ريقهن طهور» (فالجواب) ان وروده
كذلك غير مطرد بل هو سماعي ، وهو في البيت مبالغة في الوصف أو واقع موقع طاهر
لإقامة الوزن ، ولو كان طهور بمعنى طاهر مطلقا لقيل : ثوب طهور وخشب طهور ونحو
ذلك. وهو ممتنع» انتهى كلام صاحب المصباح.
والى ذلك ايضا
يشير كلام الشيخ في التهذيب حيث قال : «الطهور هو المطهر في لغة العرب ، ثم قال :
وليس لأحد أن يقول : ان الطهور لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا ، لأن هذا خلاف
على أهل اللغة ، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل : هذا ماء طهور. وهذا ماء مطهر.
ثم قال ما ملخصه : انه لو قيل : ان الطهور لا يكون بمعنى المطهر ، لان اسم الفاعل
منه غير متعد ، وكل فعول ورد في كلام العرب متعديا لم يكن إلا وفاعله متعد. قيل له
: انه لا خلاف بين أهل النحو ان فعولا موضوع للمبالغة وتكرر الصفة. وعدم حصول
المبالغة على ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها بوجه آخر. والمراد هنا باعتبار كونه
مطهرا» انتهى.
__________________
واعترضه جمع من
متأخري المتأخرين ـ منهم : المحققان المدققان الشيخ حسن في المعالم والسيد السند
في المدارك ـ بما حاصله : ان الطهور لم يرد في اللغة بمعنى المطهر ، بل هو اما صفة
كقولك : ماء طهور اي طاهر ، أو اسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به. والشيخ قد استدل
على كونه بمعنى المطهر بأنه لا خلاف بين أهل النحو. واللغة لا تثبت بالاستدلال.
وفيه ان الشيخ (رحمهالله) لم يستدل على كون طهور بمعنى مطهر ، وانما نقل ذلك عن
العرب وأسنده إليهم ، ثم استشعر اعتراضا قد أورد في البين وأجاب عنه بما ذكر.
وكلامه من قبيل ما يقال : انه تعليل بعد الورود ، وبيان ذلك ان أبا حنيفة قد خالف
في المسألة وقال : ان طهورا بمعنى طاهر ، وأنكر كونه بذلك المعنى ، وأورد على من
ادعى انه كذلك هذا السؤال الذي ذكره الشيخ (رحمهالله تعالى) وأجاب عنه. والسؤال المذكور وجوابه مذكوران في
كتب الشافعية كينابيع الاسفرايني وغيره ، فإنهم نقلوا عن أبي حنيفة ذلك وأجابوا
عنه بما ذكر. وبذلك ظهر ان الشيخ لم يكن غرضه الاحتجاج على ذلك وانما استند في
ثبوته الى ما نقله عن العرب ، وغرضه من ذلك الكلام الآخر انما هو دفع السؤال وبيان
حكمة الواضع وتصحيح لغرضه لا الاحتجاج على ذلك المطلب وإثباته.
والعجب من
إنكار جملة من فضلاء متأخري المتأخرين ـ كهذين الفاضلين وغيرهما ـ ورود طهور بمعنى
الطاهر المطهر لغة. وكلام صاحب المصباح ـ كما عرفت ـ على غاية من الصراحة والإيضاح
، وقد نقله عن جملة من أئمة اللغة ، بل ظاهر كلامه انه قول الأكثر ، وان المعنى
الوصفي للفظ الطهور إنما هو عبارة عن هذا المعنى. واما كونه بمعنى طاهر فظاهر آخر
كلامه ـ كما عرفت ـ انه غير مطرد بل موقوف على السماع كما في البيت الذي أورده.
وعبارة القاموس أيضا دالة على ذلك ، حيث قال : «الطهور
المصدر واسم ما يتطهر به والطاهر المطهر» انتهى. ونقل بعض مشايخنا (رضوان
الله عليهم) ان الشافعية نقلت ذلك عن أهل اللغة ، ونقل هو (قدسسره) عن الترمذي ـ وهو من أئمة اللغة ـ انه قال : «الطهور
بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر غيره» انتهى. ونقله المحقق في المعتبر عن
بعض أهل اللغة أيضا.
ومن الاخبار
الدالة على ذلك
ما رواه
المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر» . وفي هذا الحديث الشريف بحث نفيس حررناه في كتاب الدرر
النجفية من الملتقطات اليوسفية ، وقد تقدم جملة من الكلام فيه في صدر المقدمة
الحادية عشرة .
وصحيحة داود بن
فرقد عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا
لحومهم بالمقاريض ، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء
طهورا ، فانظروا كيف تكونون؟».
ورواية السكوني
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الماء يطهر ولا يطهر».
وهذا الحديث
بناء على القول بنجاسة القليل بالملاقاة لا يخلو من اشكال ، فإن
__________________
قليل الماء إذا تنجس كان طهره بالكثير من الجاري أو الراكد.
وأجيب بأن
المراد يطهر غيره ولا يطهره غيره.
ويرد عليه أيضا
بأنه على إطلاقه غير مستقيم ، لانتقاضه بالبئر ، فان تطهيرها بالنزح ، والماء
النجس يطهر باستحالته ملحا ، والماء القليل إذا كان نجسا وتمم كرا بمضاف لم يسلبه
الإطلاق ، فإنه في جميع هذه الصور قد طهر الماء غيره.
وأجيب عن ذلك (اما
عن الأول) فبانا لا نسلم ان مطهر البئر حقيقة هو النزح بل هو في الحقيقة الماء
النابع منها شيئا فشيئا بعد إخراج الماء المنزوح. ولا يخلو من ضعف. بل التحقيق
الجواب بعدم نجاسة البئر بالملاقاة ، وحينئذ فأصل الاعتراض بالبئر ساقط.
و (اما عن
الثاني) فبان الماء قد عدم بالكلية فلم يبق هناك ماء مطهر بغيره. ومثله ايضا الماء
النجس إذا شربه حيوان مأكول اللحم واستحال بولا ، فإنه يخرج عن الحقيقة الأولى الى
حقيقة أخرى.
و (اما عن
الثالث) فبعد تسليم ذلك يمكن ان يقال : المطهر هنا هو مجموع الماء البالغ كرا لا
المضاف وحده.
ويمكن الجواب
عن أصل الإشكال بأن الماء متى تنجس فطهره بممازجة الكثير له على وجه يستهلك النجس
فيه ، وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا ، لاضمحلال النجس حينئذ ، وحينئذ يصدق ان
الماء لا يطهر. وفي الحديث حينئذ دلالة على اعتبار الممازجة في المطهر دون مجرد
الاتصال كما هو أحد القولين ، ولعل هذا المعنى أقرب من الأول ، لسلامته من
التكلفات.
(المقالة
الثالثة) ـ لا خلاف ولا إشكال في أن الماء الجاري بل كل ماء ينجس باستيلاء النجاسة
على أحد أوصافه الثلاثة أعني اللون أو الطعم أو الريح.
وتدل عليه
الأخبار المستفيضة كصحيحة حريز عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ منه واشرب
، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب».
وصحيحة زرارة : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء إلا ان
تجيء ريح تغلب على ريح الماء».
ورواية عبد
الله بن سنان قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غدير أتوه وفيه جيفة. فقال : ان كان الماء قاهرا
ولا توجد فيه الريح فتوضأ».
وصحيحة أبي
خالد القماط انه سمع أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول «في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة
والجيفة. فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ان كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا
تتوضأ منه ، وان لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب منه وتوضأ».
ورواية العلاء
بن الفضيل قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحياض يبال فيها؟ قال : لا بأس إذا غلب لون الماء
لون البول».
ورواية أبي
بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال : ان
تغير الماء فلا تتوضأ منه ، وان لم تغيره أبوالها فتوضأ منه. وكذلك الدم إذا سال
في الماء وأشباهه».
__________________
واستدل جمع من
متأخري المتأخرين على الحكم المذكور بقوله (صلىاللهعليهوآله) : «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير
لونه أو طعمه أو ريحه» . بل ادعى السيد السند في المدارك انه من الأخبار
المستفيضة.
والعجب منه (قدسسره) انه ـ بعد ذلك في بحث نجاسة البئر بالملاقاة ، حيث
أنكر ورود نجاسة الماء بتغير لونه في أخبارنا ـ طعن في الخبر المذكور بأنه عامي
مرسل والحق كونه كذلك فانا لم نقف عليه في شيء من كتب أخبارنا بعد الفحص
التام ، وبذلك صرح ايضا جمع ممن تقدمنا.
وممن صرح بكونه
عاميا شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب الحبل المتين ، ذكر ذلك أيضا في مقام إنكار
ورود التغير اللوني في أخبارنا ، والظاهر انه اقتفى في هذه المقالة أثر السيد
المذكور.
والعجب منهما (قدسسرهما) في ذلك ورواية العلاء بن الفضيل المتقدمة تنادي بالدلالة عليه.
ومثلها صحيحة
شهاب بن عبد ربه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) المروية في كتاب البصائر حيث قال في آخرها : «وجئت تسأل عن الماء الراكد ، فما.
__________________
لم يكن فيه تغير أو ريح غالبة. قلت : فما التغير؟ قال : الصفرة ، فتوضأ
منه. الحديث».
ويدل على ذلك ما
ذكره في كتاب الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «كل غدير فيه من الماء أكثر من كر لا ينجسه ما يقع
فيه من النجاسات إلا ان تكون فيه الجيف فتغير لونه وطعمه ورائحته ، فإذا غيرته لم
يشرب منه ولم يتطهر منه. الحديث».
وهذا الكتاب
وان لم يشتهر بين الأصحاب النقل عنه ولا الاعتماد عليه بل ربما طعن بعضهم في ثبوته
عنه (عليهالسلام) الا ان الأظهر كما قدمنا ذكره هو الاعتماد عليه.
ولعل السر ـ في
اشتمال أكثر الاخبار على التغير الطعمي والريحي دون اللوني ـ ان تغير الطعم والريح
أسرع من تغير اللون أو لا ينفك تغير اللون من تغيرهما فلا ثمرة في التعرض له
حينئذ.
وهل يعتبر
التغير الحسي ، فلو كان الماء على صفاته الأصلية وكانت النجاسة مسلوبة الأوصاف لم
تؤثر في نجاسة الماء وان كثرت. أو يجب تقدير الأوصاف للنجاسة ، فلو كانت مما يتغير
بها الماء على تقدير وجود الأوصاف نجس والا فلا؟ قولان.
المشهور الأول
نظرا الى ان التغير حقيقة في الحسي ، لصدق السلب بدونه ، واللفظ إنما يحمل على
حقيقته ، واعتبار التقدير يتوقف على دليل ، والأصل عدمه.
ويمكن أن يقال
: ان التغير حقيقة في النفس الأمري لا فيما كان محسوسا ظاهرا ، فقد يمنع من ظهوره
مانع ، كما اعترفوا به فيما سيأتي مما إذا خالفت النجاسة الجاري في الأوصاف لكن
منع من ظهورها مانع ، فإنهم قطعوا هناك بوجوب التقدير ،
__________________
استنادا الى ان التغير حصل واقعا وان منع من ظهوره مانع ، والمناط التغير
في الواقع لا الحسي ، والفرق بين الموضعين لا يخلو من خفاء.
ويؤيد ذلك ان
الظاهر ان الشارع إنما ناط النجاسة بالتغير في هذه الأوصاف لدلالته على غلبة
النجاسة وكثرتها على الماء واقعا ، وإلا فالتغير بها من حيث هو لا مدخل له في
التنجيس ، فالمنجس حقيقة هو غلبة النجاسة وزيادتها وان كان مظهره التغير المذكور ،
وحينئذ فلو كانت هذه النجاسة المسلوبة الأوصاف بلغت في الكثرة إلى حد يقطع بتغير
الماء بها لو كانت ذات أوصاف ، فقد حصل موجب التنجيس حقيقة الذي هو غلبة النجاسة
وزيادتها على الماء.
وبالجملة فإنا
نقول : كما ان الموجب لنجاسة القليل على المشهور مجرد ملاقاة النجاسة وان قلت ،
فالمنجس للكثير كثرتها وغلبتها. واناطة ذلك بالتغير في تلك الأوصاف انما هو لكونه مظهرا
لها غالبا ، فمع حصولها بدونه تكون موجبة للتنجيس .
ويؤيد ذلك ايضا
ما صرح به المحقق الثاني من ان عدم التقدير يفضي الى جواز الاستعمال وان زادت
النجاسة أضعافا ، وهو كالمعلوم البطلان.
والجواب ـ بأنه
مع استهلاك النجاسة الماء لكثرتها يثبت التنجيس قولا واحدا ـ مما يؤيد ما حققناه
آنفا من ان الاعتبار بغلبة النجاسة وكثرتها على الماء وان تفاوت ذلك
__________________
شدة وضعفا. وكأن التزام المجيب بالتنجيس في هذه الصورة ودعواه الإجماع دفع
للشناعة اللازمة من القول بالطهارة على هذا التقدير ، وإلا فمقتضى ما قرروه يقتضي
كون الحكم كليا مع الاستهلاك وعدمه ، وظاهر عبائر جملة منهم العموم. واستدلال
المحقق المذكور بذلك مبني على ما قلنا من فهمه العموم من كلامهم. والا لم يتجه
دليله. والظاهر ان العلة في دعوى الإجماع المذكور إنما هو ما ذكرنا ، ولهذا ان
جملة ممن تعرض للجواب عن هذا الكلام ـ ومنهم : شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ إنما
ردوه بأنه مجرد استبعاد بل صرح بعض متأخري المتأخرين بالتزامه مع عدم ثبوت الإجماع
على خلافه.
ويؤيد ذلك ايضا
ما صرحوا به في المضاف المسلوب الأوصاف إذا وقع في الماء ، من وجوب
اعتباره إما بقلة الاجزاء وكثرتها أو بتقديره مخالفا في الأوصاف على اختلاف
القولين ، وإذا وجب الاعتبار في المضاف ففي النجاسة أولى.
ونقل عن
العلامة في أكثر كتبه القول بالثاني ، وتبعه ابن فهد في موجزه ، ورجحه المحقق
الثاني في شرح القواعد ، ونفى عنه البعد شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين.
واحتج عليه في
المختلف بان التغير الذي هو مناط النجاسة دائر مع الأوصاف فإذا فقدت وجب تقديرها.
ورد بأنه إعادة للمدعى.
ويمكن الجواب
بما قدمنا تحقيقه من ان المدار لما كان على التغير في نفس الأمر
__________________
لا الظاهر الحسي ، لأنه ربما منع منه مانع من فقد الأوصاف في النجاسة أو
فقد الأوصاف في الماء. وجب تقديره مع وجود المانع المذكور. وبذلك ايضا يظهر وجه
الجواب عما أورد على الدليل الذي نقله عنه ابنه فخر المحققين من استدلاله بان
الماء مقهور بالنجاسة ، لأنه كلما لم يصر مقهورا لم يتغير بها على تقدير المخالفة
، وينعكس بعكس النقيض الى قولنا : كلما تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا. انتهى.
فإنه أورد عليه
منع الكلية الأولى ، فإن المخالف بقول بعدم صيرورة الماء مقهورا مع تغيره بالنجاسة
على تقدير المخالفة. وعلى ما حققناه يمكن أن يكون مراده انه كلما لم يكن الماء
مقهورا في نفس الأمر لم يتغير على تقدير المخالفة ، لا انه كلما لم يكن مقهورا
شرعا ليتوجه عليه ان المخالف يقول بعدم صيرورة الماء مقهورا مع تغيره بالنجاسة على
تقدير المخالفة. وبذلك يظهر سقوط منع كليته الأولى.
وبالجملة
فالمسألة لما ذكرنا لا تخلو من الاشكال ، والاحتياط في التقدير ان لم يكن متعينا
كما لا يخفى على الناقد البصير ، إلا ان تتوقف عليه عبادة مشروطة بالطهارة أو
بإزالة النجاسة ، فيعود الاشكال بحذافيره.
فوائد
(الاولى) ـ لو
اشتمل الماء على صفة تمنع من ظهور التغير فيه ـ كما لو تغير بجسم طاهر يوافق لونه
لون النجاسة كتغيره بطاهر أحمر ، ثم وقع فيه دم ـ فالذي قطع به متأخر والأصحاب من
غير خلاف معروف في الباب هو وجوب تقدير خلو الماء من ذلك الوصف كما عرفت آنفا ،
وكأنهم لحظوا ـ في الفرق بين هذا الموضع وبين ما كانت النجاسة مسلوبة الأوصاف ،
حيث أوجبوا التقدير هنا دون هناك ـ ان المراد بالتغير هو التغير الحسي كما تقدم.
والتغير هنا ظاهر حسا لو خلينا وذات الماء وذات النجاسة ، بخلاف ما هناك ، لكون
النجاسة عارية عن الأوصاف. وفيه ان خلو
النجاسة عن الأوصاف لا يخرجها عن تنجيس ما تلاقيه ، والمنجس ليس هو أوصافها
وانما المنجس عينها. على ان الخلو عن الأوصاف غالبا انما يكون بعارض من خارج لا من
أصل الخلقة ، كما هو المشاهد في جميع المطعومات والمرئيات ، وحينئذ فكما يقدر خلو
الماء عن ذلك الوصف الموافق للون النجاسة لكونه عارضا ، ينبغي ان يقدر خلو النجاسة
عن هذا العارض الذي أزال وصفها.
(الثانية) ـ
هل المعتبر على
تقدير القول بالتقدير هو الوصف الأشد للنجاسة كحدة الخل وذكاء المسك وسواد الحبر ،
لمناسبة النجاسة تغليظ الحكم. أو الوسط لأنه الأغلب؟ ظاهر العلامة في النهاية
والشهيد في الذكرى الأول ، وبعض المتأخرين الثاني ، واستظهره المحقق الثاني ورجحه
في المعالم ، واحتمل بعض فضلاء متأخري المتأخرين اعتبار الأقل تغليبا لجانب
الطهارة. والظاهر ان الأوسط أوسط. واحتمل المحقق الثاني (قدسسره) ايضا اعتبار أوصاف الماء وسطا ، نظرا إلى شدة اختلافها
كالعذوبة والملوحة والرقة والغلظة والصفاء والكدرة ، قال : «ولا يبعد اعتبارها ،
لان له فيها أثرا بينا في قبول التغير وعدمه» انتهى قال في المعالم بعد نقل ذلك
عنه : «وهو محتمل حيث لا يكون الماء على الوصف القوي ، إذ لا معنى لتقديره حينئذ
بما هو دونه» انتهى. واستشكله ايضا بعضهم بما إذا لم يكن الماء خارجا عن أوصافه
الأصلية.
(الثالثة) ـ لو
لم يكن الماء على الصفات الأصلية كسائر المياه كالمياه الزاجية والكبريتية وكانت
النجاسة على صفاتها ولم تغيره باعتبار ما هو عليه من الصفات ، لكن لو فرض خلوه
منها لغيرته ، فهل يجب التقدير هنا أم لا؟ لم أقف لأحد من الأصحاب (رضوان الله
عليهم) على كلام في ذلك. ومقتضى النظر ان الكلام هنا كالكلام فيما لو تغير الماء
بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة ، ومقتضى حكمهم بوجوب التقدير ، هناك هو وجوبه
هنا أيضا.
إذ لا فرق بين
المقامين إلا باعتبار ان خروج الماء عن صفته الأصلية هناك باعتبار وقوع هذا الجسم
فيه أخيرا ، وخروجه هنا باعتبار كون الأرض كبريتية أو زاجية فاتفق تكيفه برائحتها
، أو باعتبار موافقة لون ذلك الجسم الطاهر الذي تغير به الماء للون النجاسة في
إحدى الصورتين ، ومخالفته لها على وجه يستر رائحتها في الصورة الأخرى. وكل منهما
لا يصلح وجها للفرق الموجب لتغاير الحكم ، إلا ان بعض محققي متأخري المتأخرين
استظهر ان الكلام هنا كالكلام في النجاسة المسلوبة الأوصاف دليلا وجوابا وظاهره ان
النجاسة في هذه الصورة باعتبار ما عليه الماء من الصفات لم تغيره واقعا ، بخلاف
الصورة التي تغير فيها بجسم طاهر ، فإنه تغير واقعا وان لم يظهر للحس بسبب الوصف
العارضي. ولا يخفى ما فيه ، فان الواقع المعتبر القياس اليه ، ان لوحظ مع قطع
النظر عن العارض فالتغير ثابت في الصورتين ، وإلا فلا فيهما. وقد عرفت ان الوجه
الفارق لا يوجب تغايرا يترتب عليه ما ذكره .
__________________
(الرابعة) ـ لو
تغيرت رائحة الماء بمرور رائحة النجاسة القريبة لم ينجس الماء قولا واحدا ، لأن
الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثر تنجيسا.
(الخامسة) ـ لو
حصل التغير بالمتنجس لا بالنجاسة على وجه لا يسلبه الإطلاق فالأظهر الأشهر عدم
التنجيس ، وللشيخ (رحمهالله تعالى) خلاف ضعيف يأتي الكلام عليه في بحث المضاف ان
شاء الله تعالى.
(المقالة
الرابعة) ـ المشهور ـ بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل ادعى في المعتبر عليه
الإجماع ـ ان الجاري مطلقا وان نقص عن الكر لا ينجس بمجرد الملاقاة ، وذهب العلامة
في جملة من كتبه الى اشتراط الكرية فيه كالراكد ، ويظهر من شيخنا الشهيد الثاني في
الروض الميل اليه ، بل صرح ابنه المحقق الشيخ حسن في المعالم بأنه ذهب إليه في
جملة من كتبه ، قال : «إلا أن الذي استقر عليه رأيه بعد ذلك هو المذهب المشهور» ونقل في الروض عن جملة من المتأخرين أيضا موافقة
العلامة على هذه المقالة.
احتج القائلون
بالأول بأصالة الطهارة ، فإن الأشياء كلها على الطهارة إلا ما نص الشارع على
نجاسته ، لأنها مخلوقة لمنافع العباد ، ولا يتم النفع إلا بطهارتها.
وبالأخبار
المتقدمة في سابق هذه المقالة لدلالتها على طهارة كل ماء ما لم يتغير ، خرج عنه
القليل الراكد بالدليل ، فيبقى ما عداه داخلا تحت العموم.
__________________
وصحيحة محمد بن
إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليهالسلام) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلا ان يتغير ريحه
أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأن له مادة».
وجه الدلالة
أنه علل فيه نفى الانفعال بوجود المادة ، والعلة المنصوصة يتعدى بها الحكم الى كل
موضع توجد فيه إذا شهدت الحال بان خصوص متعلقها الأول لا مدخل له فيها. والأمر
ههنا كذلك ، فإن خصوصية البئر من ذلك القبيل. وشهادة الحال بذلك ظاهرة لمن أحاط خبرا
بأحكام البئر ، وحينئذ ينحصر المقتضي لنفي الانفعال في وجود المادة ، وهي موجودة
في مطلق النابع.
وقول الصادق (عليهالسلام) فيما روي عنه بعدة طرق ، وقد تقدم الإشارة إلى بعضها : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر».
وحسنة محمد بن
ميسر قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق
ويريد ان يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان. قال : يضع يده ويتوضأ
ويغتسل ، هذا مما قال الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» .
ويتوجه على
الأول ان الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان يتوقف الحكم بهما على الدليل الشرعي ،
ولا مدخل للدليل العقلي فيهما كما لا مدخل له في غيرهما
__________________
من أحكام الشرع. وما ذكر هنا في بيانه ضعيف ، لحصول المنافع في النجس بل في
عين النجاسة أيضا كما لا يخفى .
وعلى الثاني ما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في الكلام في نجاسة
الماء القليل بالملاقاة ، من أن ظاهر هذه الاخبار بواسطة القرائن الحالية
والمقالية كون ذلك الماء أكثر من كر بل كرور ، فلا تدل على ما ذكروه ، ولا يحتاج
الى تخصيصها بما دل على نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة.
وعلى الثالث (أولا) ـ ما عرفت في المقدمة الثالثة من الكلام في حجية منصوص العلة وان الحجة منه هو ما
يرجع الى تنقيح المناط القطعي ، وكأنه لهذا قيد المستدل في بيان الاستدلال الحجية
بشهادة الحال بان خصوص متعلقها الأول لا مدخل له ، فمرجعها الى تنقيح المناط
المذكور. الا ان فيه ان شهادة الحال بذلك في هذا المقام لا تخلو من اشكال ، وبدونه
لا يتم الاستدلال.
و (ثانيا) ـ ما
ذكره شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب الحبل المتين من احتمال ان يكون قوله (عليهالسلام) : «لان له مادة» تعليلا لترتب ذهاب الريح وطيب الطعم
على النزح ، كما يقال : لازم غريمك حتى يعطيك حقك ، لانه يكره ملازمتك. وكما يقال
: الزم الحمية حتى يذهب مرضك ، فان الحمية رأس الدواء. قال : ومثل ذلك كثير. ومع
قيام الاحتمال يسقط الاستدلال.
والظاهر انه لا
يخلو من بعد ، فان ذهاب الريح وطيب الطعم بالنزح أمر بديهي محسوس لا يحتاج إلى علة
، فحمل الكلام عليه مما يخرجه عن الفائدة ، ولا يليق
__________________
حينئذ نسبته بكلام الإمام الذي هو إمام الكلام.
وعلى الرابع ما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة من ان ظاهر الخبر المذكور ـ وهو القدر المتيقن فهمه منه
ـ ان الماء كله طاهر حتى يعلم عروض النجاسة له فافراد هذه الكلية إنما هي المياه
الطاهرة شرعا والمقطوع بطهارتها ، فإنه يستصحب الحكم فيها بذلك حتى تعلم النجاسة.
والغرض منها عدم معارضة الشك بعروض النجاسة ليقين الطهارة التي هي عليه شرعا ، لا
ان أفرادها ما شك في كونه سببا للنجاسة ، كنقصان الجاري عن الكر ـ مثلا ـ هل يكون
موجبا لانفعاله بالملاقاة أم لا؟ فيحكم بطهارته بهذا الخبر. والفرق بين المقامين
ظاهر.
ونظيره ما ورد
مفسرا في موثقة مسعدة بن صدقة من قوله (عليهالسلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه
من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حر
قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها
على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة».
وحينئذ فافراد
هذه الكلية كما ذكره (عليهالسلام) هي الأشياء المحكوم بحلها شرعا والمعلوم حليتها قطعا.
فإنه يستصحب الحكم فيها بذلك حتى يظهر دليل الحرمة وان كانت مما حرمه الشارع
بالنسبة إلى العالم بذلك ، ولا تخرج عن أصل الحلية المقطوعة بمجرد الشك في حرمتها
، لا ان أفرادها ما شك في حليته كالمتولد من نجس العين وطاهرها مع عدم المماثل
مثلا ، فيقال : ان مقتضى هذا الخبر حله ومقتضى قوله (عليهالسلام) : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر» طهارته.
__________________
وبالجملة فمورد
الخبرين الأشياء المعلومة الطهارة والنجاسة ، وانه لا يدخل أحد أفراد الأول في
الثاني إلا مع العلم واليقين والأشياء المعلومة الحل والحرمة وانه لا يدخل أحد
أفراد أولهما في الثاني الا مع العلم ايضا.
وعلى الخامس ان الماء القليل في الخبر المذكور وان شمل بعمومه
الجاري والراكد ، إلا ان وصفه بالقلة ان أخذ على ظاهره ـ كما هو ظاهر الاستدلال ـ كان
الخبر من أقوى أدلة عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة. وتخصيصه ـ بالجاري خاصة
بناء على قيام الدليل على نجاسة القليل بالملاقاة ـ بعيد من سياق اللفظ ، فالأظهر
حمل القلة فيه على المعنى العرفي دون الشرعي ، أو حمله على التقية كما سيأتي بيانه
ان شاء الله تعالى احتج العلامة (رحمهالله) بعموم الأخبار الدالة على اشتراط الكرية في الماء بقولهم
(عليهمالسلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء». فان تقييد عدم
انفعال الماء ببلوغ الكرية يقتضي انفعال الماء بدونه ، وهو شامل للجاري والراكد.
وتدل على ذلك
أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة
ثم تدخل في الماء. يتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا ، إلا ان يكون الماء كثيرا قدر كر
من الماء». وهي بظاهرها شاملة لما كان جاريا أو راكدا .
__________________
وأجيب بمنع
العموم ، لفقد اللفظ الدال عليه. ومع تسليمه فيقال : عامان تعارضا من وجه فيجب
الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ، والترجيح في جانب الطهارة بالأصل والإجماع
وقوة دلالة المنطوق على المفهوم. هكذا أجاب السيد في المدارك.
ولا يخلو من
نظر (أما أولا) فلان منع العموم هنا ـ مع تصريحه ـ هو (قدسسره) وغيره من محققي الأصحاب بل وغيرهم ـ بان المعرف بلام
الجنس في كلام الشارع عند عدم قرينة العهد للعموم قضية للحكمة ـ ليس في محله ، كيف؟
ولو تم المنع المذكور لم يتم له الاستدلال بصحيحة حريز المتقدمة وأمثالها في الطرف الآخر ، لجواز ان يراد بلفظ الماء
فيها بعض افراده وهو غير الجاري ، بل قد استدل ـ هو نفسه (قدسسره) على مساواة مياه الحياض والأواني لغيرها في عدم انفعال
الكر منها ـ بالعمومات الدالة على عدم انفعال الكر بالملاقاة مطلقا ، ردا على ما
ذهب اليه المفيد في المقنعة وسلار ، فكيف يمنع العموم هنا؟
وما ذكره
المولى الأردبيلي (طاب ثراه) في المقام ـ من ان القول بالمفهوم لا يستلزم القول
بعمومه هنا ، لان الخروج من العبث واللغو يحصل بعدم الحكم في بعض المسكوت عنه ،
وذلك كاف وفيما نحن فيه يصدق انه إذا لم يكن الماء كرا ينجسه شيء من النجاسات
بالملاقاة في الجملة ، وذلك يكون في الراكد ، وكفى ذلك لصحة المفهوم ـ لو تم لبطل
الاستدلال بهذا المفهوم على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، مع انه عمدة أدلتهم
على ذلك المطلب ، وذلك فان مقتضى منطوق «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء» . عدم تنجيس شيء من النجاسات
__________________
للماء بعد بلوغه كرا ، ومفهومه تنجيس شيء له مع عدم البلوغ ، ويكفي للخروج
من العبث واللغو ـ كما ذكره (قدسسره) ـ حصول الحكم في بعض المسكوت عنه. وهو تنجيسه بالنجاسة
المغيرة للماء ، سيما مع كون (شيء) نكرة في سياق الإثبات ، وهو خلاف ما صرحوا به
في المقام من ارادة العموم من لفظ (شيء) كما سيأتيك تحقيقه ان شاء الله تعالى في
بيان نجاسة الماء القليل بالملاقاة.
وبالجملة فكما
ان لفظ (الماء) في المنطوق للعموم فكذا في المفهوم ، ومثله لفظ (شيء) فيهما ،
ودلالته على العموم بتقريب ما ذكرنا آنفا مما لا مجال لإنكاره.
و (اما ثانيا)
ـ فلأن ما ذكره ـ من تعارض العمومين بناء على دلالة صحيحة حريز وأمثالها على ان كل ماء طاهر ما لم يتغير ـ محل النظر ، لعدم
تسليم العموم من تلك الأخبار كما أشرنا اليه وسيأتيك ان شاء الله تعالى ما فيه زيادة تنبيه عليه ، وحينئذ فلا عموم في ذلك
الطرف ويبقى عموم المفهوم سالما من المعارض.
ثم انه على
تقدير تسليم العموم كما يدعونه فالأظهر تخصيصه بعموم المفهوم المؤيد بمنطوق صحيحة
علي بن جعفر المتقدمة ، وإلا فبالصحيحة المذكورة ان نوقش في تخصيص العام
بالمفهوم ، بناء على منع بعض الأصوليين ذلك مطلقا أو إلا ان تكون دلالته أقوى من
دلالة العام على الفرد الذي يخصص به. فإنه يخصص به العام حينئذ ، وإلا فلا.
__________________
على ان التحقيق
عندي ـ كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى ـ ان دلالة هذه الأخبار على نجاسة القليل بالملاقاة لا
تنحصر في مفهوم مخالفتها ، بل المتبادر منها بقرينة المقام ان مقصودهم (عليهمالسلام) بيان المعيار الفارق بين ما ينجس بملاقاة النجاسة وبين
ما لا ينجس ، فههنا في التحقيق دلالتان كما سيتضح لك في محله ان شاء الله تعالى.
و (اما ثالثا)
ـ فلان ما ذكره من تعارض العمومين من وجه ، فيه ان الظاهر ان مراده من العمومين
عموم المفهوم القائل : ان كل ماء قليل ينجس بالملاقاة وعموم المنطوق الذي نطقت به
الروايات الدالة على ان كل ماء لا ينجس ما لم يتغير ، القائل بأن كل ماء لا ينجس
بمجرد الملاقاة.
وأنت خبير بأن
النسبة بين هذين العمومين هو العموم والخصوص المطلق لا من وجه. وعموم المفهوم أخص
مطلقا. ومقتضى القاعدة المقررة تقديم العمل به وتخصيص العام به ، وحينئذ فالدليل
عليه لا له.
و (اما رابعا)
ـ فلان ترجيحه (قدسسره) جانب الطهارة بالإجماع ـ مع ان الإجماع عندهم دليل
قطعي فلا يحتاج معه الى الترجيح ـ محل نظر لا يخفى ، فكان الأولى أن يقول : ونقل
الإجماع. هذا ما اقتضاه النظر العليل وخطر بالفكر الكليل والاحتياط حيثما توجه
أوضح سبيل.
(المقالة
الخامسة) ـ اشترط شيخنا الشهيد في الدروس في الجاري دوام النبع ، وتبعه في هذا
الشرط الشيخ جمال الدين احمد بن فهد في موجزه.
قال في الدروس
: «ولا يشترط فيه الكرية على الأصح. نعم يشترط فيه
__________________
دوام النبع» فعنده الشرط فيه أحد الأمرين : اما الكرية أو دوام النبع.
واختلف كلام من
تأخر عنه في فهم معنى هذا الكلام وما المراد منه.
فقيل : ان
المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء الزمان ككثير من المياه التي تخرج زمن
الشتاء وتجف في الصيف ، وهو الذي صرح به شيخنا الشهيد الثاني في كتاب روض الجنان ،
ولذلك اعترض عليه وطالبه بالدليل. ولا ريب ان هذا المعنى هو الأربط باللفظ والأقرب
إليه ، لكونه المتبادر منه عرفا ، ولكنه مما يقطع بفساده.
(أما أولا) ـ فلانه
لا شاهد له في الاخبار ، ولا يساعد عليه الاعتبار ، فهو تخصيص لعموم الأدلة بمجرد
التشهي.
و (اما ثانيا)
ـ فلان الدوام بالمعنى المذكور ، ان أريد به ما يعم الزمان كله فلا ريب في بطلانه
، إذ لا سبيل الى العلم به ، وان خص ببعضها فهو مجرد تحكم. وبالجملة فالظاهر ان
فساده مما لا يخفى على ذلك المحقق النحرير ، فساحة شأنه أجل من ان يجري منه به قلم
التحرير.
وقيل : ان
المراد بدوام النبع استمراره حال ملاقاة النجاسة ، وهذا هو الذي ذكره المحقق الشيخ
علي بعد ان أطال في التشنيع على من فسر تلك العبارة بالمعنى الأول واستحسن هذا
المعنى جملة ممن تأخر عنه. وهو وان كان خلاف ظاهر اللفظ إلا انه في حد ذاته مستقيم
، إذ متى كان حال ملاقاة النجاسة غير مستمر النبع كان بمنزلة القليل. وأنت خبير
بان مرجعه الى اعتبار المادة ، وحينئذ فلا يزيد على اشتراط الجريان إذ الجاري ـ كما
عرفت ـ هو النابع ، فزيادة هذا القيد حينئذ ليس بمحل من الفائدة.
وبعض محققي
متأخري المتأخرين وجه كلام المحقق المذكور فقال بعد نقله واستحسانه : «وتقريبه ان
عدم الانفعال بالملاقاة في قليل الجاري معلق بوجود المادة كما علمت ، فلا بد في
الحكم بعدم الانفعال فيه من العلم بوجودها حال ملاقاة النجاسة ،
وربما يتخلف ذلك في بعض افراد النابع كالقليل الذي يخرج بطريق الترشح فان العلم بوجود المادة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل ،
لانه يترشح آنا فآنا ، فليس له فيما بين الزمانين مادة ، وهذا يقتضي الشك في
وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط واللازم من ذلك الحكم بالانفعال بها عملا
بعموم ما دل على انفعال القليل ، لسلامته حينئذ عن معارضة وجود المادة ، ولا يخفى
ان اشتراط استمرار النبع يخرج مثل هذا ولولاه لكان داخلا في عموم النابع ، لصدق
اسمه عليه. وهذا التقريب وان اقتضى تصحيح الاشتراط المذكور في الجملة إلا انه ليس
بحاسم لمادة الإشكال ، من حيث ان ما هذا شأنه في عدم العلم بوجود المادة له عند
الملاقاة ربما حصل له في بعض الأوقات قوة بحيث يظهر فيه اثر وجود المادة ، واللازم
حينئذ عدم انفعاله ، مع ان ظاهر الشرط يقتضي نجاسته. ويمكن ان يقال : ان الشرط
منزل على الغالب من عدم العلم بوجود المادة في مثله وقت الملاقاة ، ويكون حكم ذلك
الفرض النادر محالا على الاعتبار ، وهو شاهد بمساواته للمستمر» انتهى كلامه زيد
مقامه.
وفسر بعض
الفضلاء المحدثين من متأخري المتأخرين النابع على وجوه :
(أحدها) ـ ان
ينبع الماء حتى يبلغ حدا معينا ثم يقف ولا ينبع ثانيا إلا بعد إخراج بعض الماء.
و (ثانيها) ـ ان
لا ينبغ ثانيا إلا بعد حفر جديد كما هو المشاهد في بعض الأراضي.
و (ثالثها) ـ ان
ينبغ الماء ولا يقف الى حد كما في العيون الجارية ، قال : «وشمول الأخبار المستفاد
منها حكم الجاري للوجه الثاني غير واضح ، فيبقى تحت
__________________
ما يدل على اعتبار الكرية ، وكأن مراد شيخنا الشهيد (رحمهالله) ما ذكرنا ، وبذلك اندفع عنه ما أورد عليه» انتهى.
(المقالة
السادسة) ـ قد عرفت مما تقدم انه لا خلاف ولا إشكال في ان الجاري ينجس مع استيلاء
النجاسة وغلبتها على أحد أوصافه الثلاثة ، وحينئذ فإن تغير بعضه اختص بالتنجيس إلا
أن يكون الماء ممتدا وينقص ما تحت المتغير عن الكر ويستوعب التغير عمود الماء ـ وهو
خط ما بين حافتيه عرضا وعمقا ـ فينجس ما تحت المتغير ايضا ، لتحقق الانفصال.
وناقش بعض
محققي متأخري المتأخرين في الحكم بنجاسة ما تحت المتغير في الصورة المذكورة ، حيث
قال بعد نقل الحكم المذكور : «وهذا الحكم وان كان مشهورا فيما بين المتأخرين لكن
ليس له وجه ظاهر ، إذ يتخيل حينئذ انه ينقطع اتصاله بما فوق فيصير في حكم القليل.
وليس بمسلم ، إذ الانقطاع إنما يحصل بانقطاع الماء وعدم جريانه اليه بالاتصال.
وفيما نحن فيه ليس كذلك ، إذ الماء يجري الى ما تحت ، غايته في البين ماء نجس.
والحاصل ان الأصل الطهارة وعموم دلائل انفعال القليل قد عرفت حاله ، فلا بد في
نجاسة هذا الماء من دليل ، ولا دليل عليه إلا ان يتمسك بالشهرة أو عدم القول
بالفصل. وفي الكل نظر لكن الاحتياط فيه» انتهى.
وهو غريب ،
فإنه ان سلم نجاسة القليل بالملاقاة ـ كما يعطيه صدر كلامه ـ فلا ريب انه يصدق على
هذا الماء كونه كذلك. واتصاله بالجاري ـ بواسطة الماء المتغير بالنجاسة على الوجه
المذكور ـ ليس باتصال. وان منعها أو منع عموم أدلتها على وجه يشمل موضع البحث فهي
مسألة أخرى يأتي تحقيقها ان شاء الله تعالى .
__________________
ثم ان للحكم
المذكور زيادة على ما ذكرنا صورا تختلف باختلاف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
اعتبار استواء السطوح وعدمه كما سيأتي تفصيله ان شاء الله تعالى .
وجملة صور
المسألة ان يقال : إذا تغير بعض الجاري فاما ان يكون متساوي السطوح أولا ، وعلى
التقديرين اما ان يقطع التغير عمود الماء على ما قدمنا أو لا وعلى الأول اما ان يبلغ ما ينحدر عن المتغير
مقدار الكر أو لا. فهذه صور ست :
(الأولى) ـ كون
السطوح متساوية ولا يقطع التغير عمود الماء. ولا إشكال في اختصاص المتغير بالتنجيس
إذا بلغ الباقي كرا ، ومع عدمه فيبني على الخلاف المتقدم من اشتراط كرية الجاري في عدم الانفعال وعدمه.
(الثانية) ـ الصورة
بحالها ولكن استوعبت النجاسة عمود الماء وكان المنحدر عن المتغير كرا ، وحينئذ فما
فوق المتغير مما يلي المادة ان كان أكثر من كر فالحكم كما في الصورة الأولى ، وإلا
بني على الخلاف المتقدم ايضا.
وربما قيل هنا
بعدم انفعاله لو كان قليلا وان اعتبرت الكرية ، معللا بأن جهة المادة في الجاري
أعلى سطحا من المتنجس فلا ينفعل به. ورد بأنه ليس بشيء ، لأن الجريان يتحقق مع
مساواة السطوح كما يشهد به العيان.
(الثالثة) ـ الصورة
الثانية بحالها إلا ان ما ينحدر عن المتغير دون الكر ،
__________________
ولا ريب في نجاسته مع المتغير ، لقلته وانفصاله ، وحكم ما فوق المتغير كما
في سابقتها. واحتمل بعض المحدثين عدم تنجس ما تحت المتغير ، قال : «لانه هارب عن المتغير
واستلزام مجرد الاتصال التنجيس غير ثابت» انتهى.
(الرابعة) ـ ان
تختلف السطوح ولم تستوعب النجاسة عمود الماء ، وحكمها كما في الصورة الأولى.
(الخامسة) ـ الصورة
بحالها ولكن استوعبت النجاسة عمود الماء وكان ما بعد المتغير مما يبلغ الكر ،
والكلام في هذه الصورة مبني على الخلاف الآتي بيانه ان شاء الله تعالى في اشتراط استواء سطوح مقدار الكر من الواقف وعدمه ،
فعلى الاشتراط ينجس ما تحت المتغير ايضا ، وعلى تقدير عدمه يختص التنجيس بالمتغير.
واما ما فوق المتغير فان كان فوقيته محسوسة فهو طاهر قطعا وان اعتبرنا الكرية في
الجاري وكان أقل من كر ، لأنه أعلى من النجس فلا يؤثر فيه ، وان كان انزل فيبني
على الخلاف المتقدم .
(السادسة) ـ الصورة
بحالها ولكن المنحدر عن المتغير أقل من كر ، ولا ريب في نجاسته. وحكم ما فوق
المتغير كما في سابقتها. والاحتمال المتقدم جار هنا ايضا هذا كله لو كان الماء ممتدا في قناة
ونحوها. اما لو كان مجتمعا في مكانه الذي يخرج منه ـ كمياه العيون الغير الممتدة ـ
فإنه يختص التنجيس بالموضع المتغير ان كان الباقي كرا والا بني على الخلاف المتقدم
وربما أمكن أيضا فرض الصور الثلاث الأول لو اتسع
__________________
المكان الذي فيه الماء على الينابيع التي تخرج من الأرض.
ثم اعلم انه لا
وجه هنا بناء على المشهور لاعتبار استواء السطوح في عدم الانفعال بالملاقاة كما
سيأتي في الكثير من الراكد ، لكن يتجه ـ على قول العلامة باعتبار ذلك في كثير
الراكد عند ملاقاة النجاسة ، بناء على ما صرح به في التذكرة كما سيأتي ذكره ان شاء
الله تعالى ـ اعتبار ذلك هنا أيضا في مقدار الكر من الجاري ، لقوله بانفعاله
بالملاقاة. لكنه (رحمهالله) في جملة من كتبه أطلق القول عند تغير البعض من الجاري
باختصاص النجاسة بالمتغير دون ما فوقه وما تحته تساوت سطوحه أو اختلفت وهو لا يخلو
من تدافع. الا ان يقال : ان إجماله في الكلام هنا احالة على ما علم تفصيله بالتأمل
في مقتضى قواعده المقررة في تلك المسألة .
واعتذر عنه بعض
محققي متأخري المتأخرين بان عدم تعرضه هنا لذلك كأنه يرى للجاري خصوصية عن الواقف
في الجملة وان شاركه في انفعال قليله بالملاقاة ، ولعل الخصوصية كون الغالب فيه
عدم الاستواء ، فلو اعتبرت المساواة على حد ما ذكره في الواقف ، للزم الحكم بتنجيس
الأنهار العظيمة بملاقاة النجاسة أوائلها التي لا تبلغ مقدار الكر ولو بضميمة ما
فوقها ، وذلك معلوم الانتفاء.
__________________
(المقالة
السابعة) ـ قد عرفت ان الجاري مطلقا بناء على المشهور لا ينجس إلا بتغيره ،
وحينئذ فطهره ـ على ما صرح به الأصحاب من غير خلاف فيه بينهم ـ بتدافع الماء من
المادة وكثرته عليه حتى يستهلكه ويزول التغير ، هذا ان اشترطنا في تطهير الماء
الامتزاج كما هو أحد القولين ، وان اكتفي بمجرد الاتصال كما هو القول الآخر اكتفي
بمجرد زوال التغير ، لمكان المادة ، وبذلك صرح جمع من متأخري المتأخرين منهم :
السيد في المدارك.
ونقل عن بعض
الأصحاب انه بناء على القول الأخير يتوقف طهره هنا على التدافع والكثرة ، نظرا الى
ان الاتصال المعتبر في التطهير هو الحاصل بطريق العلو أو المساواة وذلك بالنسبة
إلى المادة غير متحقق ، لأنها باعتبار خروجها من الأرض لا تكون إلا أسفل منه وفي التعليل منع ظاهر.
واعلم انا لم
نقف في شيء من الاخبار على تطهير الماء النجس سوى ما ورد في البئر وفي باب
الحمام.
ويمكن
الاستدلال هنا على الطهارة بالوجه المذكور بما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان ماء الحمام
__________________
كماء النهر يطهر بعضه بعضا».
هذا على تقدير
القول المشهور. واما على ما ذهب إليه العلامة من اشتراط الكرية في عدم الانفعال ،
ففيه إشكال ، لأنه متى تغير الجاري على وجه لا يبلغ الباقي كرا فلا يطهر إلا بمطهر
من خارج ، لان ما يخرج بالنبع لا يكون إلا قليلا فينفعل بالملاقاة بعد خروجه ،
وهكذا فيما يخرج دفعة ثانية وثالثة وهكذا ، فلا يتصور حصول الطهارة به وان استهلك
المتغير ، لان الاستهلاك بماء محكوم بنجاسته كما عرفت.
وقد أطلق (قدسسره) في كتبه طهارة الجاري المتغير بتكاثر الماء وتدافعه
حتى يزول التغير ، وعلله في المنتهى والتذكرة بأن الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه
، والمتغير مستهلك فيه وأنت خبير بما فيه ، قال ـ بعض فضلاء متأخري المتأخرين
بعد إيراد ذلك على قوله ـ «ويمكن ان يجعل هذا من جملة الأدلة على بطلان تلك الدعوى»
انتهى.
(المقالة
الثامنة) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان حكم ماء الحمام كالجاري إذا كان
له مادة ، قالوا : والمراد بماء الحمام يعني ما في حياضه الصغار. ثم اختلفوا في
اشتراط الكرية في المادة وعدمه ، وحينئذ فالبحث هنا يقع في مواضع ثلاثة :
__________________
(الأول) ـ في
بيان كونه كالجاري ، والظاهر ان المراد من التشبيه عدم نجاسة ما في حياضه الصغار
بالملاقاة عند الاتصال بالمادة.
ويدل على أصل
الحكم صحيحة داود بن سرحان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ما تقول في ماء الحمام؟ قال : هو بمنزلة الماء
الجاري».
ورواية ابن ابي
يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «قلت : أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني
والمجوسي؟ فقال : ان ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا».
ورواية بكر بن
حبيب عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة».
وما رواه في
كتاب قرب الاسناد عن إسماعيل بن جابر عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : ابتدأني فقال : «ماء الحمام لا ينجسه شيء».
وما في كتاب
الفقه الرضوي قال (عليهالسلام) : «وماء الحمام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادة».
وربما أمكن
تطرق الإشكال الى هذا الاستدلال بان ذلك لا يتم إلا بعد معرفة الحيضان التي كانت
في زمنهم (عليهمالسلام) على اي كيفية كانت؟ إذ الظاهر ان الأسئلة كانت عن ماء
الحمام المعهود عندهم ، سيما ان أصل الإضافة للعهد ، لكن لا يخفى ان ضم الأخبار
المشتملة على اشتراط المادة الى الأخبار الباقية يعطي بظاهره
__________________
ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من ان المراد بماء الحمام ما في حياضه
الصغار التي لا تبلغ الكر ، والمادة عبارة عن الحوض الكبير الذي يجري منه الماء
الى الحياض الصغار ، ولهذا تضمن الخبر الأخير اشتراط مشابهة الجاري بوجود المادة له ، ورواية بكر بن
حبيب نفي البأس عنه بشرط المادة. والمراد في الخبرين اتصالها به إذ مع عدمه
يلحقه حكم القليل حينئذ.
ومما ذكرنا علم
الكلام في الموضع الثاني أيضا.
واما الموضع
الثالث فالمشهور بين الأصحاب اشتراط الكرية في المادة استنادا إلى انه مع عدم
الكرية يدخل تحت القليل فينفعل بالملاقاة.
وذهب المحقق في
المعتبر الى عدم اعتبار كثرة المادة وقلتها ، لكن لو تنجس ما في الحياض لم يطهر
بمجرد جريانها اليه .
ويدل عليه
إطلاق صحيحة داود بن سرحان فان جعله بمنزلة الجاري كالصريح في عدم اشتراط الكرية ،
وإطلاق رواية بكر بن حبيب فان المادة فيها أعم من كونها كرا أو دونه.
وأجيب عن
الاولى بعدم التعرض فيها للمادة ولا للقلة والكثرة. واما الثانية
__________________
فبضعف السند أولا ، وحمل إطلاق المادة فيها على ما هو الغالب من أكثرية
المادة كما هو الآن موجود ، أو إرادة الكثرة من لفظ المادة لاشعارها بذلك. ولئن
سلمنا العموم في كلا الخبرين فلا ريب ان عموم اشتراط الكرية أقوى دلالة فيجب تخصيص
هذا العموم به.
ويرد على ذلك
ان عدم التعرض للمادة والقلة والكثرة لا ينفي صحة الاستدلال بالخبر باعتبار عمومه
، وتنزيله منزلة الجاري في الخبر المذكور أخرجه عن حكم القليل ، فلا يلزم من الحكم
بانفعال القليل بالملاقاة الحكم بانفعاله ، فإنه كما خرج ماء الاستنجاء وماء المطر
عن قاعدة الماء القليل بنص خاص ، فكذا ماء الحمام ينبغي خروجه بمقتضى النص
المذكور. نعم يخرج منه القليل الذي لم يتصل بالمادة أصلا بناء على القول بنجاسة
القليل بالملاقاة بإجماع القائلين بذلك عليه ، ويبقى غيره داخلا في عموم الخبر.
وبالجملة فهذه
الروايات أخص موضوعا من الروايات الدالة على انفعال القليل بالملاقاة ، ومقتضى
القاعدة تخصيص تلك بهذه لا العكس.
واما ضعف السند
في الرواية الثانية فيدفعه جبر ذلك بعمل الأصحاب كما هو مقرر بينهم ، وكلا
الأمرين اصطلاحيان. والحمل على الغالب خلاف الظاهر وخلاف مدلول تلك الصحيحة
المذكورة .
والى هذا القول
مال جملة من المتأخرين ومتأخريهم .
__________________
وربما بنى ذلك
بعضهم على قاعدة الفرق في نجاسة الماء القليل بين ورود النجاسة عليه ووروده على
النجاسة ، فحكم هنا بعدم النجاسة من حيث ورود الماء على النجاسة ، وجعل ذلك هو
السر في عدم تنجس ماء الحمام بمجرد الملاقاة وفي طهارة ماء الاستنجاء ، قال : «فلا
حاجة حينئذ إلى اعتبار كرية المادة بل ولا كرية المجموع من المادة وما في الحوض
والماء النازل» ثم اعترض على نفسه بأن النجاسة ههنا واردة على ماء الحوض وأجاب بأن
المفروض ورود الماء من المادة على ماء الحوض وتسلطه على ماء الحوض وعلى ما يصيبه
من القذر ، فلم تكن النجاسة واردة على ما هو حافظ لطهارة ماء الحوض بل الأمر
بالعكس ، ثم قال : «وقد اتضح مما ذكرناه ان على مذهب من يخص تنجيس القليل بصورة
ورود النجاسة عليه يتجه القول بعدم اشتراط الكرية في مادة الحمام» انتهى.
و (فيه أولا) ـ
انه ان استند في استثناء ماء الحمام من قاعدة تنجس القليل بالملاقاة الى هذه
الأخبار فهي لا اشعار فيها بهذا التخصيص ، بل مقتضى ظاهر التشبيه بالجاري هو عدم
الانفعال مطلقا ، وكذا ظاهر نفي البأس مع وجود المادة ، وكذا ظاهر قوله في رواية
قرب الاسناد : «لا ينجسه شيء». فان ذلك كله يدل بظاهره على عدم
انفعاله بالملاقاة كيف كانت.
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكره إنما يتم لو كان الماء الجاري من المادة إلى الحوض الصغير آتيا عليه من
أعلاه. اما لو كان آتيا من أسفله كما هو معمول في كثير من الحياض فلا يتم ما ذكره.
مع ان ورود المادة على الحوض الصغير أعم من ان يكون من جهة العلو أو السفل.
و (ثالثا) ـ انه
لا يظهر حينئذ للتشبيه بالجاري هنا مزية ، إذ متى كان
__________________
حكمه حكم الماء القليل في تنجسه بورود النجاسة عليه دون وروده عليها ـ كما
هو مختاره في الماء القليل مطلقا ـ فأي ثمرة لهذا التشبيه؟ فان ما ذكره حكم عام
للماء القليل بجميع افراده وهذا أحدها ، بل الظاهر ـ والله سبحانه وأولياؤه أعلم ـ
من تلك الأخبار المتقدمة ـ الدال بعضها على انه كالجاري مطلقا ، وبعضها انه كماء
النهر يطهر بعضه بعضا ، وبعضها انه لا ينجسه شيء مطلقا وان دل دليل من الخارج على
تخصيصه بالتغير بالنجاسة ، وبعضها على نفي البأس عنه بشرط المادة ـ ان لماء الحمام
خصوصية يمتاز بها عن مطلق الماء القليل ، وليس ذلك إلا باعتبار عدم انفعاله
بالملاقاة وان قل ، بخلاف مطلق الماء القليل ، وان خص انفعال مطلق القليل بورود
النجاسة عليه دون العكس ، كما اختاره القائل المذكور وفاقا لمن سبقه في ذلك ايضا ،
فلا بد هنا من اعتبار عدم الانفعال مطلقا مع القلة ـ ورد على النجاسة أو وردت عليه
ـ تحقيقا للخصوصية المميزة المستفادة من تلك الاخبار.
وينبغي التنبيه
هنا على أمور :
(الأول) ـ هل
يشترط بناء على القول بكرية المادة بلوغ المادة وحدها كرا لتعصم ما في الحياض عن
الانفعال بالنجاسة بعد الاتصال ، أو يكفي بلوغ المجموع منها ومما في الحياض كرا مع
تواصلهما مطلقا؟
ظاهر أكثر
المتأخرين ـ حيث أطلقوا القول بكرية المادة ـ الأول ، مع انهم أطلقوا القول بان
الغديرين إذا وصل بينهما بساقية وكان مجموعهما مع الساقية كرا ، لم ينفعلا بملاقاة
النجاسة. وذلك يقتضي أن يكون حكم الحمام أغلظ ، مع انه ليس كذلك ، لما عرفت من
الأخبار المتقدمة .
__________________
وربما أجيب بأن
إطلاق القول بكرية المادة في الحمام محمول على ما إذا لم يكونا متساويين بناء على
الغالب من علو المادة ، فاما مع التساوي فيكفي بلوغ المجموع كرا ونقل في المعالم
عن بعض الأصحاب التصريح بالتفصيل المذكور ، ثم قال : «وهو الأجود» وإطلاق القول في
الغديرين محمول على المتساويين.
ورد بأن
العلامة أيضا قد صرح في الغديرين المختلفين بتقوي الأسفل بالأعلى.
وأجيب عنه يحمل
الاختلاف في الصورة المذكورة على ما إذا كان بطريق الانحدار دون التسنم من ميزاب
ونحوه. والغالب في الحمام هو الثاني ، وحينئذ فإطلاق القول في الغديرين محمول اما
على التساوي أو على الاختلاف الحاصل بالانحدار ، فإنه متى كان كذلك لم ينفعل شيء
منهما. وإطلاق القول في الحمام محمول على الاختلاف الحاصل بالتسنم من ميزاب ونحوه .
ولا يخفى ما في
هذه التقييدات من التكلف والتمحل ، وكأن محصل الفرق المذكور على هذا التقرير دخول
الماء المتساوي السطوح والمختلف على وجه الانحدار في الاخبار الدالة على عدم نجاسة
الكر بالملاقاة ، ومرجعه الى حصول الوحدة في الماء على وجه يكون داخلا تحت تلك
الاخبار. واما إذا كان متسنما من ميزاب ونحوه فإنه ليس كذلك فلا يدخل تحت تلك
الاخبار. فاعتبرت كرية المادة في الحمام لكون إتيانها
__________________
على الحياض على ذلك الوجه المقتضي لعدم اتحادها مع ما في الحياض ، ولا يخفى
ما في هذا التقييد من المخالفة لإطلاق النص وإطلاق كلام الأصحاب.
فالتحقيق هو ما
قدمنا من عدم اعتبار كرية المادة ، وان هذا الحكم خارج بالنص ، فلا يحتاج الى
ارتكاب هذه التمحلات. على انه قد صرح المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) بان المستفاد من روايات باب الكر تقوي كل جزء منه
بالباقي ، قال : «وهذا المعنى موجود في الساكن دون غيره. لعدم تقوي الأعلى بالأسفل
في غير الساكن ، بل اعتبر الشيخ المحقق ابن العالم الرباني الشهيد الثاني (رحمهماالله تعالى) في كتاب المعالم تقارب اجزاء الماء كما تشعر به
روايات هذا الباب ليحصل التقوى المذكور ، فان مع تقارب اجزاء الماء النجاسة
الواردة عليه تنتشر وتتوزع عليها». انتهى. كلامه (زيد مقامه).
وأجاب بعض
فضلاء متأخري المتأخرين بأن الغرض من اشتراط الكرية في المادة وحدها لتطهير الحوض
الصغير لا لمجرد عدم انفعالها.
ونقل ـ السيد
في المدارك عن جده في فوائد القواعد ـ الثاني ، لعموم قوله (عليهالسلام) في عدة أخبار صحيحة : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء». قال : «وهو
متجه ، وعلى هذا فلا فرق بين ماء الحمام وغيره» انتهى.
أقول : وهذا
القول من شيخنا الشهيد الثاني (رحمهالله) متجه على ما اختاره مما سيأتي ذكره من الحكم بالوحدة بمجرد الاتصال ، وان استواء سطح الماء
غير معتبر في الكر ، فلو بلغ الماء المتواصل المختلف السطوح كرا لم ينفعل شيء منه
بالملاقاة
__________________
سواء في ذلك الأعلى والأسفل. وسيأتي تحقيق القول في ذلك ان شاء الله تعالى.
هذا. وظاهر
العلامة في التحرير اعتبار زيادة المادة عن الكر ، حيث قال بعد الكلام في الجاري :
«وحكم ماء الحمام حكمه إذا كان له مادة تزيد على الكر» انتهى وهو غريب .
(الثاني) ـ لو
انفصل ماء المادة عن الحوض وتنجس ماؤه ، فهل يطهر بمجرد اتصال المادة به أم يشترط
فيه الامتزاج والغلبة؟ وجهان بل قولان مبنيان على الكلام في تطهير القليل بإلقاء
الكر عليه كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى .
واختار العلامة
ـ في التذكرة والمنتهى هنا ـ الثاني ، واحتج عليه في المنتهى بان الصادق (عليهالسلام) حكم بأنه بمنزلة الجاري ، ولو تنجس الجاري لم يطهر إلا باستيلاء الماء عليه
بحيث يزيل انفعاله. مع انه (قدسسره) في التحرير والمنتهى والنهاية في مسألة الغديرين حكم
بطهارة النجس منهما باتصاله بالبالغ كرا ، وهو مناقض لما حكم به في هذه المسألة ،
لأن المسألتين من باب واحد. كذا أورده عليه جمع من المتأخرين.
__________________
ويمكن الجواب
عنه (أولا) ـ بأن ظاهر استدلاله ـ في المنتهى بالخبر المذكور على الممازجة في ماء
الحمام ـ اختصاص الحكم المذكور بالحمام ، لما ذكره من الخبر ، فكأن حكم الحمام
عنده في المسألة المذكورة مستثنى من مواضع تطهير القليل.
و (ثانيا) ـ انك
قد عرفت ايضا تقييد إطلاق القول في الغديرين بالحمل على المتساويين
أو المختلفين بطريق الانحدار دون التسنم ، فيمكن حمل كلامه هنا في تلك الكتب
بالاكتفاء بمجرد الاتصال على ذلك ، بخلاف الحمام ، لما عرفت سابقا من كون جريان المادة في الأغلب بطريق التسنم ، فلا بد
فيه من الممازجة.
واختار جماعة ـ
منهم : شيخنا الشهيد الثاني ـ الأول ، بناء على أصله المشار إليه آنفا ونقل ايضا عن المحقق الشيخ علي (رحمهالله) واليه مال في المدارك ايضا ، واستدلوا على ذلك بما
سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى في مسألة تطهير القليل .
ولعل الأظهر
هنا الثاني ، لأن يقين النجاسة لا يحكم بارتفاعه إلا بدلالة معتبرة ، والارتفاع
بالممازجة مجمع عليه ، مع إشعار جملة من النصوص به كما سيأتي ذكره ان شاء الله
تعالى مع تحقيق في المقام يكشف عن هذه المسألة وأمثالها نقاب الإبهام.
(الثالث) ـ هل
يشترط في تطهير الحوض زيادة المادة على الكر بمقدار ما تحصل به الممازجة والغلبة بناء على اشتراط الممازجة ، أو بمقدار الماء المنحدر
__________________
للحوض المتصل به بناء على مجرد الاتصال أم لا؟ قولان.
صرح بالأول
المحقق الشيخ علي والشهيد الثاني ، وعللاه بأنها لو كانت كرا فقط لكان ورود شيء
منها على الحياض موجبا لخروجها عن الكرية ، إذ المعتبر كرية المادة بعد الملاقاة ،
فتقبل الانفعال حينئذ ، وهو صريح التحرير كما تقدم .
وبالثاني صرح
السيد السند في المدارك ، قال (قدسسره) : «الظاهر الاكتفاء في تطهير ما في الحياض بكرية
المادة ، ولا يشترط زيادتها على الكر ، وبه صرح في المنتهى في مسألة الغديرين ،
ويلوح ـ من اشتراطهم في تطهير القليل إلقاء كر عليه دفعة ـ اعتبار زيادة المادة
على الكر هنا» انتهى.
وفيه انك قد
عرفت سابقا ـ من مقتضى الجمع بين إطلاقي القول بكرية المادة والقول
بالاكتفاء في الغديرين بحصول الكرية من مجموعهما ومن الساقية ـ تقييد المادة
بالتسنم ، ومن ثم اعتبر فيها الكرية على حدة ، وتقييد الغديرين بالتساوي أو
الاختلاف على جهة الانحدار ، ومن ثم اكتفي بكرية المجموع. وبذلك يظهر لك ما في
كلامه من الاستناد الى ما صرح به في المنتهى في مسألة الغديرين.
نعم لقائل أن
يقول : ان هذه الزيادة المعتبرة ـ سواء اعتبرت في التطهير بمجرد الاتصال أو المزج
ـ لا دليل عليها. قولكم ـ : انها بعد الملاقاة بأول جزء منها ينجس الملاقي مع كون
الباقي أقل من كر ـ قلنا نجاسة أول المادة باتصالها بالحوض النجس ليس أولى من
طهارة النجس باتصالها به ، فلا بد لترجيح الأول من دليل. على ان
__________________
التحقيق كما سيأتي ان شاء الله تعالى ان شرط الطهارة في المطهر وعدم النجاسة إنما هو قبل
التطهير. واما نجاسته حال التطهير فلا دليل على المنع منها.
والمحدث الأمين
الأسترآبادي (قدسسره) ـ بناء على ما يختاره من تخصيص نجاسة القليل بالملاقاة
بورود النجاسة على الماء دون العكس ـ صرح هنا بأنه يتجه ان يقال : انه لا حاجة الى
كرية المادة بل يكفي جريان الماء الطاهر بقوة بحيث يستهلك الماء فيه ، واستند الى
ظواهر جملة من الاخبار ستأتي الإشارة إليها ان شاء الله تعالى.
هذا كله مع علو
المادة على الحوض. اما مع المساواة كما يتفق في بعض الحياض من جعل موضع الاتصال
أسفل الحوض فلا يشترط الزيادة ، بل يكفي مجرد الاتصال على أحد القولين أو جريانها
إليه بقوة الى ان يحصل الامتزاج على القول الآخر.
(الرابع) ـ لو
شك في كرية المادة فظاهر كلام جملة من الأصحاب ـ وبه صرح بعضهم ـ انه يبنى على
الأصل وهو عدم البلوغ.
واستضعفه بعض
محققي متأخري المتأخرين ، واستظهر البناء على طهارتها وعدم الحكم بنجاستها بملاقاة
النجاسة.
واحتج
بالروايات الدالة على ان «كل ماء طاهر حتى يعلم انه قذر» . وباستصحاب الطهارة الوارد فيه النص بخصوصه كما ورد في
تطهير الثياب.
وفيه نظر ، لتطرق
القدح الى ما أورده من الأدلة.
(اما الأول) ـ فلما
مضى بيانه في المقالة الرابعة .
__________________
و (اما الثاني)
ـ فلان استصحاب الطهارة الذي ورد به النص في الثوب هو ما إذا كان الثوب متيقن
الطهارة وشك في عروض النجاسة له ، كما تضمنته صحيحة زرارة المضمرة وغيرها ، فإنه لا يخرج عن يقين الطهارة إلا بيقين
النجاسة. ووجه الفرق بين هذا وبين ما نحن فيه ظاهر ، فإن صحيحة زرارة المذكورة
وظاهر غيرها ان الغرض المترتب على التمسك بيقين الطهارة في هذه المواضع هو دفع
الشك بعروض النجاسة حتى يحصل اليقين بها ، فالتمسك بيقين الطهارة إنما هو في
مقابلة الشك في عروض النجاسة ، وافراد هذه الكليات إنما هي الأمور المقطوع بعدم
العلم بملاقاة النجاسة لها. فتستصحب طهارتها الى ان يظهر خلافها. وما نحن فيه ليس
كذلك ، إذ هو مما تحقق ملاقاة النجاسة له لكن حصل الشك في بلوغه القدر العاصم من
النجاسة وعدمه ، وليس الشك هنا في ملاقاة النجاسة كما هو مساق تلك الاخبار. ومثل
ذلك لو حصل في ثوب دم محكوم بنجاسته شرعا لكن حصل الشك في زيادته على الدرهم
وعدمها. فإنه ليس للقائل أن يستند الى هذه الاخبار بان الأصل طهارة الثوب لقوله (عليهالسلام) : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر» .
وبالجملة
فالمراد بالشك الذي لا يعارض اليقين هو الشك في عروض النجاسة وملاقاة النجس لا
الشك في السبب الموجب للتنجيس.
(المقالة
التاسعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان ماء المطر في
الجملة حال تقاطره كالجاري. ونقل عن ظاهر الشيخ اشتراط
__________________
الجريان من ميزاب ، وإطلاق تشبيهه بالجاري يقتضي عدم انفعاله بملاقاة
النجاسة ، وتطهيره لما يقع عليه من ماء نجس أو أرض أو ثياب أو ظروف أو نحو ذلك.
وتحقيق القول
في ذلك يتوقف على النظر في الاخبار الواردة في المقام ، فلنورد ما عثرنا عليه منها
ثم نردفه بما يكشف عنه نقاب الإبهام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم
أفضل الصلاة والسلام).
فمن الأخبار
صحيحة هشام بن الحكم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل. لم
يضره ذلك».
ورواية محمد بن
مروان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لو ان ميزابين سالا أحدهما ميزاب بول والآخر
ميزاب ماء فاختلطا ثم أصابك ، ما كان به بأس».
وصحيحة علي بن
جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة
ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس به.
وسألته عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه. هل يصلي فيه قبل ان
يغسله؟ فقال : لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس».
وصحيحة هشام بن
سالم انه «سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب.
فقال لا بأس به ، ما اصابه من الماء أكثر منه».
__________________
ومرسلة الكاهلي
عن رجل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت أمر في الطريق فيسيل علي الميزاب في أوقات
أعلم ان الناس يتوضؤون؟ قال : ليس به بأس لا تسأل عنه. قلت : يسيل علي من ماء
المطر ارى فيه التغير وارى فيه آثار القذر فتقطر القطرات علي وينتضح علي منه؟
والبيت يتوضأ على سطحه فكيف على ثيابنا؟ قال : ما بذا بأس لا تغسله ، كل شيء يراه
ماء المطر فقد طهر».
ورواية أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الكنيف يكون خارجا فتمطر السماء فتقطر علي القطرة؟
قال : ليس به بأس».
ومرسلة محمد بن
إسماعيل عن بعض أصحابنا عن ابي الحسن موسى بن جعفر (عليهماالسلام) «في طين المطر انه لا بأس به ان يصيب الثوب ثلاثة أيام الا ان يعلم انه قد
نجسه شيء بعد المطر ، فإن أصابه بعد ثلاثة فاغسله ، وان كان الطريق نظيفا فلا
تغسله».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «وسئل (عليهالسلام) عن طين المطر يصيب الثوب فيه البول والعذرة والدم.
فقال طين المطر لا ينجس».
وروى علي بن
جعفر في كتاب المسائل والحميري في قرب الاسناد عنه عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر
__________________
فيكف فيصيب الثياب ، أيصلى فيها قبل ان تغسل؟ قال : إذا جرى من ماء المطر
فلا بأس».
وروى في كتاب
المسائل أيضا عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب
الثوب ، أيصلى فيه قبل ان يغسل؟ قال : إذا جرى به المطر فلا بأس».
وروى في كتاب
الفقه الرضوي قال (عليهالسلام) : «إذا بقي ماء المطر في الطرقات ثلاثة أيام ، نجس
واحتيج الى غسل الثوب منه. وماء المطر في الصحاري لا ينجس. وروي طين المطر في
الصحاري يجوز الصلاة فيه طول الشتاء».
هذا ما وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بالمقام.
ويدل على
اعتبار الجريان منها صحيحة هشام بن الحكم ورواية محمد ابن مروان وصحيحة علي بن جعفر وروايتاه المنقولتان من كتابه ولكن اعتبار الجريان من الميزاب انما وقع في الأولتين ،
وليس فيهما دلالة على تخصيص الحكم بذلك ، فلا تنهضان حجة للمستدل ولعل ذكر الميزاب في كلام الشيخ على جهة التمثيل كما
احتمله جمع من المحققين.
وأنت خبير بان
هذه الأخبار لا تصريح فيها بكون ماء المطر كالجاري مطلقا أو مقيدا بحالة مخصوصة
إلا من حيث أجوبة المسائل المسؤول عنها فيها. فان بعضها
__________________
لا ينطبق على تقدير جعله كالماء القليل المنفعل بالملاقاة على المشهور ،
وحينئذ فغاية ما يستفاد منها كون ماء المطر قسما ثالثا بين الجاري والراكد ، وله
أحكام قد يشارك في بعضها الجاري وفي البعض الآخر الراكد ، فاما مشاركته للجاري ففي
صورة الجريان قطعا والكثرة على الظاهر ، كما يدل عليه ما تضمن اشتراط الجريان من
الأخبار المتقدمة ، وما تضمن اعتبار الكثرة ، وهو صحيحة هشام ، لجعله (عليهالسلام) الجريان في تلك الأخبار والكثرة في الخبر المذكور علة
لحصول الطهارة وخصوص
__________________
مورد السؤال لا يصلح لتخصيص الجواب إلا إذا كان لخصوصية السؤال مدخل في
العلية وشاهد الحال في المقام دال على عدم المدخلية ، ومتى كان التعليل يدل على
التعدية الى كل ما توجد فيه العلة وشاهد الحال يدل على عدم المدخلية ، وجب التعدية
الى كل ما توجد فيه العلة.
وما قيل ـ في
الجواب عن صحيحة علي بن جعفر الدالة على اشتراط الجريان في تطهير البيت الذي يبال
على ظهره ، من انه يمكن أن يكون الاشتراط هنا لنفوذ النجاسة في السطح ، وان السؤال
لما كان يتضمن الجريان أجاب (عليهالسلام) على وفق السؤال ، فاشترط الجريان حتى يستولي على
النجاسة ، فهو لا يدل على نفي البأس إلا في هذه الحالة ، فمورد السؤال حينئذ مخصص
للجواب.
مدفوع (أولا) ـ
بأن صحيحة هشام بن سالم قد تضمنت هذا السؤال بعينه ووقع الجواب فيها بما يدل
على الطهارة مع الكثرة دون الجريان ، ومن الظاهر ان الكثرة لا تستلزم الجريان ،
إلا أن يراد الجريان ولو بالقوة دون ان يكون بالفعل بخصوصه ، فوجه الاستلزام ظاهر
، ولعله الأظهر.
و (ثانيا) ـ بما
تضمنته روايتا علي بن جعفر المنقولتان من كتابه. فإنه لا مجال فيهما لتخصيص الجواب
، فالظاهر حمل تلك الرواية أيضا عليهما. لكن أصحابنا لاقتصارهم في الاستدلال على
ما في الكتب الأربعة لم يتعرضوا لهاتين الروايتين في المقام ولا غيرهما مما خرج عن
الكتب المشار إليها ، وما عدا الصورة المذكورة فلا دلالة في شيء من تلك الأجوبة
المذكورة على كونه كالجاري. وأقرب ما يتوهم منه الدلالة على كونه كالجاري ـ وان لم
يدخل في تلك الصورة ـ مرسلة الكاهلي لقوله
__________________
(عليهالسلام) : «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر». وتقييد إطلاقها
بتلك الاخبار غير بعيد ، فتحمل عليها حمل المطلق على المقيد. واما ما دل على النهي
عن غسل الثوب والرجل من اصابة ماء المطر الذي قد صب فيه خمر ـ وانه يصلى فيه وكذلك طهارة ما يقطر من ظهر البيت النجس بالبول والكنيف
ـ فمع احتمال تقييده ايضا كما هو مصرح بالقيد في بعض تلك الأخبار لا دلالة
فيه ، لذهاب جملة من الأصحاب الى عدم انفعال القليل بوقوعه على النجاسة ، وتخصيص
نجاسته بالملاقاة بورود النجاسة عليه دون العكس. وهو الظاهر من الأخبار كما سيأتي
بيانه ان شاء الله تعالى .
وتنقيح المقام
يتوقف على ذكر فروع :
(الأول) ـ لو
وقع المطر على ماء نجس بدون التغير بعد زوال عين النجاسة منه ، فان وقع عليه بطريق
الجريان أو الكثرة فالظاهر انه لا إشكال في تطهيره له. نعم يبقى الكلام في
الاكتفاء بمجرد الاتصال أو اعتبار التداخل والامتزاج ، فعلى الأول يطهر بمجرد
الاتصال ، وعلى الثاني يتوقف على الامتزاج. وسيأتي تحقيق القول في ذلك ان شاء الله
تعالى وان وقع لا بأحد الطريقين المذكورين فالمشهور بين الأصحاب التطهير بناء
على حكمهم بكون ماء المطر كالجاري مطلقا. وقد عرفت ما فيه ، فإنه لا دليل على هذا
الإطلاق في الأخبار ، وحديث ـ «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر» ـ
__________________
قد عرفت ما فيه ، ومع عدم تقييده بما ذكرنا فقد أورد ايضا على
الاستدلال به ان ماء المطر في الصورة المفروضة لا يمكن ان يرى جميع الماء النجس ،
لامتناع التداخل ، ومع إمكانه أيضا فالظاهر ان عند التقاطر ـ كما هو مذهبهم ـ لا
يمكن ان يصل الى جميع اجزاء الماء. ويمكن الجواب بأن الرواية لما دلت على طهارة
ماء المطر المقتضي لطهارة الموضع الذي يصل اليه ، فاللازم طهارة ما عداه ، إذ لو
لم يطهر بذلك للزم عدم طهارة ذلك الموضع بالكلية ، أو عود النجاسة الى ما وصل اليه
المطر بالمجاورة ، وكلاهما خلاف ظاهر النص.
ولقد بالغ بعض
المتأخرين فحكم بتطهير القطرة الواحدة من المطر إذا وقعت على
الماء النجس ، قال في الروض بعد نقله : «وليس ببعيد ولكن العمل على خلافه» انتهى.
واعترض هذا
القول المحقق الشيخ حسن في المعالم بأنه غلط. قال : «لأن المقتضي لذلك اما كونه في
حكم الجاري أو النظر الى ظاهر الآية ، حيث دلت على كونه مطهرا بقول مطلق ، وكلاهما
فاسد (اما الأول) ـ فانا وان تنزلنا الى القول بثبوت أحكام الجاري له مطلقا ، إلا
انك قد علمت ان المقتضي لطهارة الماء بمجرد الاتصال ـ على القول به ـ هو كون الجزء
الملاقي للكثير يطهر بملاقاته له ، عملا بعموم ما دل على كون الماء مطهرا ، وبعد
الحكم بطهارته يتصل بالجزء الثاني ـ وهو متقو بالكثير الذي منه طهره ـ فيطهر الجزء
الثاني ، وهكذا. ولا يذهب عليك ان هذا التوجيه
__________________
لا يتوجه هنا ، إذ أقصى ما يقال في القطرة الواقعة أنها تطهر ما تلاقيه.
ولا ريب ان الانقطاع لا ينفك عن ملاقيها ، وهي بعده في حكم القليل كما علمت ، فليس
للجزء الذي طهر بها مقو حينئذ ليستعين به على تطهير ما يليه ، بل هو معها حين
الانقطاع ماء قليل ، فيعود بها الى الانفعال بملاقاة النجاسة. و (اما الثاني) ـ فقد
مر الكلام فيه وبينا انه ليس له عموم» انتهى.
ويرد عليه ان
اتصال هذه الاجزاء بعضها ببعض إنما يكون في زمان واحد ، لا ان الجزء الأول يتصل
بالثاني في زمان ثم الثاني بالثالث في زمان آخر وهكذا ، فان باتصال الجزء الأول من
النجس بالجاري أو الكثير صدق اتصال الاجزاء كملا بعضها ببعض ، فمتى سلم ان ماء
المطر ولو قطرة حكمه حكم الجاري مطلقا وانه يطهر الجزء الملاقي له حال وقوعه عليه
، فلا ريب في إجراء التقريب المذكور في الجاري فيه حينئذ. وصدق الانقطاع عليه في
الآن الثاني غير ضائر ، لحصول الطهارة في الآن الأول بالتقريب المذكور.
(الثاني) ـ إذا
وقع على أرض متنجسة ونحوها واستوعب موضع النجاسة وأزال العين ـ ان كانت ـ فعلى
المشهور لا ريب في حصول التطهير به ، وعلى اعتبار الجريان فالظاهر انه لا يناط هنا
بحصوله ، لان الشيخ القائل بذلك صرح ـ كما نقل عنه ـ بالاكتفاء في تطهير الأرض بالماء
القليل ، الا ان مقتضى صحيحة هشام اعتبار كثرة ماء المطر في مثل الصورة المذكورة. وقد
عرفت انه لا مدخل لخصوصية السؤال في التعليل المذكور.
وبذلك صرح
المحقق الشيخ حسن في المعالم ، قال : «ولا بد من كون الماء الواقع أكثر من النجاسة
، لجعله في الحديث علة لحصول الطهارة. وكون مورد السؤال
__________________
فيه السطح لا يقتضي اختصاص الحكم به ، لان التعليل يدل على التعدية الى كل
ما توجد فيه العلة ، إذ الحال شاهدة بعدم مدخلية الخصوصية فيها ، وقد بينا وجوب
التعدية حينئذ» انتهى.
واعترضه في
الذخيرة بان صحة الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكره مبنية على تعين إرجاع الضمير في
قوله (عليهالسلام) : «ما أصابه» إلى السطح. وهو ممنوع ، بل يمكن إرجاعه
الى الثوب ، فكأنه (عليهالسلام) قال : «القطرة الواصلة الى الثوب غالب على البول الذي
لاقاه» وايضا ما ذكره من الدليل على تعدية الحكم ـ على تقدير تمامه ـ إنما يصح إذا
رجع ضمير (منه) الى مطلق النجاسة. وليس كذلك ، بل الظاهر رجوع الضمير الى البول ،
فلا يلزم الانسحاب في كل نجاسة. انتهى.
ولا يخفى ما في
كلامه (قدسسره) من التكلف التام والبعد عن ظاهر الكلام كما لا يخفى
على ذوي الأفهام.
(أما أولا) ـ فلان
المقصود بالذات من السؤال هو ظهر البيت وتطهير المطر له ، والسؤال عما يقطر على
الثوب إنما هو فرع على الأول ، فالأنسب كون الجواب وما علل به راجعا إلى الأول.
و (اما ثانيا)
ـ فلانه على تقدير رجوع الضمير الى الثوب فالتقريب الذي ذكره ذلك المحقق حاصل به ،
بكون المعنى حينئذ ما أصاب الثوب من ماء المطر الملاقي للبول أكثر من البول ،
بمعنى ان المتقاطر على الثوب مجتمع من الماء والبول ولكن الماء أكثر ، فبسبب
الكثرة صار قاهرا للبول وغالبا عليه. ومنه يظهر ان مناط التطهير هو الكثرة الموجبة
للقهر والغلبة.
و (اما ثالثا)
ـ فلان ما ذكره ـ من ان تعدية الحكم مع رجوع ضمير (منه) الى النجاسة دون البول
ومعه لا يصح ـ ففيه ان ضمير (منه) إنما يرجع في الخبر الى البول
لكن لما كان خصوصية البول لا مدخل له في العلية حكم بالانسحاب الى اي نجاسة
كانت كما ذكره المحقق المذكور وقد قدمنا التنبيه عليه .
وربما استدل
على حصول التطهير في الفرع المذكور بمرسلة الكاهلي لقوله (عليهالسلام) : «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر». وفيه ما عرفت
آنفا وبمرسلة محمد بن إسماعيل الواردة في طين المطر ، لتصريحها بنفي البأس عن اصابته
الثوب ثلاثة أيام إلا ان يعلم انه قد نجسه شيء بعد المطر ، وهو دال على حصر البأس
فيما إذا نجسه شيء بعد المطر ، فما عداه لا بأس به ، وهو شامل لما إذا كانت الأرض
نجسة قبل المطر. فيستفاد منه تطهير المطر الأرض حينئذ. وفي الدلالة تأمل.
(الثالث) ـ الظاهر
انه لا خلاف في ان ما يبقى من ماء المطر بعد انقطاع المطر حكمه حكم القليل وان كان
جاريا. وحكمه مع اختلاف سطوح واستوائها كحكمه كما سيأتي ان شاء الله تعالى .
(الرابع) ـ هل
يتقوى الماء الطاهر القليل بماء المطر حال تقاطره ويعصمه من الانفعال بالملاقاة؟
لا ريب في ذلك على المشهور من جعل ماء المطر كالجاري مطلقا واما على اعتبار
الجريان أو الكثرة فيناط بحصول أحدهما. ورجح بعض متأخري المتأخرين التقوى مع عدم
الجريان والكثرة لا من حيث ان ماء المطر كالجاري مطلقا بل من حيث عدم العموم في
أدلة انفعال القليل بالملاقاة على وجه يشمل الفرع المذكور.
(الخامس) ـ صرح
العلامة (قدسسره) في جملة من كتبه بان ماء المطر كالجاري ،
__________________
مع انه شرط في الجاري الكرية ، فيلزمه اشتراطها هنا ايضا. واعتذر عنه بأن
مراده أنه كالجاري إذا كان كرا. وأورد عليه ان سؤال الفرق متجه ، فلم اشترط الكرية
في الجاري دونه. وأجيب بأن الفرق ظاهر ، فإن أدلة انفعال القليل بالملاقاة لا
معارض لها على وجه يصلح للمعارضة من اخبار الجاري بخلاف اخبار ماء المطر ، فإنها
صريحة في المعارضة ، وهي أخص من تلك الأخبار ، فوجب تقييدها بها ، ومن ثم اشترطت
الكرية ثمة دون ما نحن فيه.
وبعض محققي
متأخري المتأخرين صرح بان الظاهر من كلام العلامة (رحمهالله) اشتراط الكرية في ماء المطر. ولم نقف على ما يقتضي ذلك
في كلامه ، بل صريح كلامه في التذكرة يقتضي عدم الاشتراط ، حيث قال : «لو انقطع
تقاطر المطر وفيه نجاسة عينية اعتبرت الكرية ، ولا تعتبر حال التقاطر ، ولو
استحالت عينها قبل انقطاعه ثم انقطع كان طاهرا وان قصر عن كر» انتهى.
(السادس) ـ استشكل
بعض فضلاء متأخري المتأخرين في روايتي الميزابين بان ميزاب البول ان سلم عدم تغييره ميزاب الماء فلا أقل
من عدم استهلاكه بميزاب الماء ، فكيف يحكم بطهارة الماء المختلط منهما؟ ثم احتمل
حمل الاختلاط على ترشح ميزاب البول الى ميزاب الماء ، فإذا أصاب الثوب لم يكن به
بأس ، إذ الماء لم ينجس بذلك ، والترشح من البول لم يعلم اصابته. وايضا قد استهلك
في الماء الطاهر فصار طاهرا. ثم استبعده واحتمل القول بان البول يطهر باختلاط ماء
المطر وان لم يستهلك ، ثم قال : «وفيه أيضا إشكال» ثم احتمل ايضا رد الروايتين
لعدم صحة سندهما.
أقول : لا يخفى
ان ما ذكره من الاشكال وان كان في بادئ النظر ظاهر
__________________
الاحتمال إلا انه ـ بالتأمل في قرائن الأحوال التي كثيرا ما يبتني عليها
الاستدلال ـ لا تطرق له في هذا المجال ، فان الظاهر من سيلان ماء المطر من الميزاب
كون ذلك عن قوة وكثرة ، ومن سيلان البول الذي هو غالبا إنما يقع ببول شخص كون ذلك
قليلا مستهلكا في ماء المطر مع اختلاطه به ، والحمل على بول يقاوم المطر في القوة
والكثرة ـ أو يكون أقل منه على وجه لا يستهلكه المطر ـ نادر بل مجرد فرض غير واقع.
والأحكام الشرعية إنما تبنى على ما هو المتكرر المتعارف دون الفروض الشاذة
النادرة.
الفصل الثاني
في الراكد
البالغ كرا فما زاد. وتحقيق القول فيه يقتضي بسطه في مسائل :
(المسألة
الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (قدس الله تعالى أرواحهم) ان ما بلغ الكر من الراكد
لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة كما تقدم وصريح الشيخ المفيد في المقنعة ـ وهو المنقول عن سلار ـ
اختصاص الحكم المذكور بغير الحياض والأواني. والشيخ رضوان الله عليه ـ في التهذيب
بعد نقل عبارة المقنعة المتضمنة للحكم المذكور ـ طوى البحث عن التعرض له فضلا عن
الاستدلال عليه ، وحمله بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين على انه إنما
فهم من عبارة المفيد (قدسسره) ان مراده إذا نقصت عن كر كما هو الأغلب ، قال : «وهو
الظاهر ، لكن المتأخرين فهموا ـ من عبارة المقنعة وكلام سلار ـ أن الأواني والحياض
ملحقان مطلقا بالماء القليل كما حكاه العلامة في المختلف» انتهى.
أقول : لا يخفى
بعد ما استظهره (قدسسره) كما يظهر ذلك لمن لاحظ عبارة المقنعة ، حيث انه إنما
ذكر التفصيل بالكرية وعدمها في ماء الغدران والقلبان ، سيما
__________________
وقد قرن الحياض والأواني في تلك العبارة بالبئر ، مع ان مذهبه فيها النجاسة
وان بلغت كرا ، إلا انه ربما ظهر ذلك من كلام الشيخ أخيرا عند شرح قوله في المقنعة
: «والمياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة ، لم يتوضأ منها ووجب اهراقها»
فقال الشيخ (رحمهالله) : «يدل على ذلك ما قدمنا ذكره من ان الماء متى نقص عن
الكر فإنه ينجس بما يحله من النجاسات ، وإذا ثبت نجاسته فلا يجوز استعماله بلا
خلاف» فإنه يدل بظاهره على انه فهم من عبارة المقنعة في الموضعين التخصيص بما نقص
عن الكر ، ولعله فهم ذلك من خارج ، وإلا ففهم هذا المعنى من العبارة الاولى في
غاية البعد ، لما عرفت. والظاهر ان هذا الكلام هو الحامل لشيخنا المشار اليه على
الحمل الذي قدمنا نقله عنه إلا انه لم يشر اليه.
هذا. وظاهر
عبارة النهاية أيضا موافقة الشيخ المفيد في الأواني. حيث قال : «والماء الراكد على
ثلاثة أقسام : مياه الغدران والقلبان والمصانع. ومياه الأواني المحصورة ، ومياه
الآبار. فاما مياه الغدران والقلبان ، فان كان مقدارها الكر فإنه لا ينجسها شيء
إلا ما غير لونها أو طعمها أو ريحها ، وان كان مقدارها أقل من الكر فإنه ينجسها كل
ما يقع فيها من النجاسة. واما مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شيء من النجاسة
أفسدها ولم يجز استعمالها» انتهى ملخصا. ثم ذكر بعد ذلك أحكام البئر.
وأنت خبير بان
التفصيل بالكرية وعدمها ـ في القسم الأول وطي الكشح عنه في الثاني ـ ظاهر في الحكم
بالنجاسة في الثاني مطلقا ، ولم يتعرض الأصحاب لنقل ذلك عنه في أقوال المسألة.
وحكى جملة من
الأصحاب عن الشيخ المفيد وسلار في الاحتجاج على ذلك التمسك بعموم النهي عن استعمال
مياه الأواني مع ملاقاة النجاسة. وردوه بان العموم ـ على تقدير ثبوته ـ مخصوص
بصورة القلة ، جمعا بين الأخبار والعمومات وان تعارضت من الطرفين ،
إلا ان الترجيح في تخصيص هذا بذاك (أولا) ـ بقوة دلالة تلك الأخبار الدالة
على عدم انفعال مقدار الكر. و (ثانيا) ـ باحتمال البناء في هذا العموم على ما هو
الغالب من عدم بلوغ ماء الأواني كرا. ومع ذلك فالحجة المذكورة لا تشمل الحياض ،
فتبقى خالية من الدليل.
وكيف كان
فالظاهر هو القول المشهور ، إلا انه روى أبو بصير في الموثق ، قال : «سألته عن كر
من ماء ـ مررت به وانا في سفر ـ قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان. قال : لا تتوضأ
منه ولا تشرب» .
والظاهر حمله
على تغير موضع البول فينقص الباقي عن الكر فينجس. وربما حمل على الكراهة. والظاهر
بعده.
ثم ان جملة من
الأصحاب ادعوا الإجماع على ان الكثير الواقف لا ينجس بملاقاة
النجاسة ، فإن أرادوا بالواقف هو الساكن ، ففيه ما عرفت من خلاف هؤلاء الفضلاء ،
وان أريد ما هو أعم منه ومن الجاري لا عن نبع ، ففيه ـ زيادة على ما ذكر ـ ما
سيأتي ان شاء الله تعالى في الجاري لا عن نبع من ذهاب جمع من الأصحاب الى عدم تقوي الأعلى بالأسفل ،
حتى أورد عليهم لزوم نجاسة النهر العظيم بملاقاة النجاسة إذا لم يكن فوقها ما يبلغ
الكر ، ولهذا ذهب بعض المحدثين من متأخري المتأخرين الى ان هذا الفرد من الماء يوافق الجاري في بعض الأحكام
والراكد في بعض كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى .
(المسألة
الثانية) ـ هل يشترط في عدم انفعال الكر بالملاقاة مساواة سطحه الظاهر أم لا؟ قد
اضطرب كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام ، لعدم
__________________
النصوص الصريحة في ذلك عنهم (عليهمالسلام).
وبالثاني صرح
شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض وسبطه السيد السند في المدارك ، قال في الروض
بعد كلام في المقام : «وتحرير المقام ان النصوص الدالة على اعتبار الكثرة ـ مثل قوله
(عليهالسلام) : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» . وكلام أكثر الأصحاب ـ ليس فيه تقييد الكر المجتمع بكون
سطوحه مستوية ، بل هو أعم منه ومن المختلفة كيف اتفق» ثم قال بعد كلام طويناه على
غره : «والذي يظهر لي في المسألة ـ ودل عليه إطلاق النص ـ ان الماء متى كان قدر كر
متصلا ثم عرضت له النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير ، سواء كان متساوي السطوح أم
مختلفها. الى آخر ما ذكره».
وما نقله (قدسسره) عن كلام أكثر الأصحاب فهو ظاهر كلام العلامة في جملة
من كتبه ، حيث صرح ـ في مسألة الغديرين الموصل بينهما بساقية ـ بالاتحاد واعتبار
الكرية فيهما مع الساقية ، وهو أعم من المستوي والمختلف ، وكذا أطلق القول في
الواقف المتصل بالجاري وحكم باتحادهما من غير تقييد ، إلا انه في التذكرة قيده ،
حيث قال في مسألة الغديرين : «لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا ان اعتدل الماء
وإلا في حق السافل ، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة» انتهى.
والمحقق في
المعتبر صرح في مسألة الغديرين بما نقلناه عن العلامة إلا انه قال بعد ذلك بلا فصل : «لو نقص الغدير عن كر
فنجس فوصل بغدير فيه كر ، ففي طهارته
__________________
تردد ، والأشبه بقاؤه على النجاسة ، لأنه ممتاز عن الطاهر» انتهى. وهو
بظاهره مدافع لما ذكره أولا ، الا ان يحمل كلامه الأول على استواء سطحي الغديرين
والثاني على اختلافهما .
والشهيد في
الدروس قال : «لو كان الجاري لا عن مادة ولاقته النجاسة ، لم ينجس ما فوقها مطلقا
، ولا ما تحتها ان كان جميعه كرا فصاعدا إلا مع التغير» فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما
تحت موضع ملاقاة النجاسة إذا كان مجموع الماء يبلغ كرا ولم يشترط استواء السطوح ،
ثم قال بعد ذلك بقليل : «لو اتصل الواقف بالجاري اتحدا مع مساواة سطحهما أو كون
الجاري أعلى لا بالعكس» فاعتبر في صدق الاتحاد مساواة السطحين أو علو الكثير.
وقال في الذكرى
ـ بعد حكمه بأن اتصال القليل النجس بالكثير مماسة لا يطهره ـ ما صورته : «ولو كانت الملاقاة ـ يعني ملاقاة النجاسة
للقليل ـ بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير».
وفي البيان : «لو
اتصل الواقف القليل بالجاري واتحد سطحهما أو كان الجاري
__________________
أعلى اتحدا ، ولو كان الواقف أعلى فلا».
وقال ـ المحقق
الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف : «لو اتصل الواقف القليل بالجاري لم
ينجس بالملاقاة» ـ ما لفظه : «يشترط في هذا الحكم علو الجاري أو مساواة السطوح أو
فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل ، لانتفاء تقويه به بدون ذلك»
انتهى. وهو صريح في تقييده إطلاقات العلامة في الوحدة في المسألة بالمساواة أو علو
الكثير.
وقال المحقق
الشيخ حسن في المعالم بعد تقدم كلام في المسألة : «هذا ، وليس اعتبار المساواة في
الجملة بالبعيد ، لان ظاهر أكثر الأخبار ـ المتضمنة لحكم الكر اشتراطا وكمية ـ اعتبار
الاجتماع في الماء وصدق الوحدة والكثرة عليه. وفي تحقق ذلك ـ مع عدم المساواة في
كثير من الصور ـ نظر. والتمسك ـ في عدم اعتبارها بعموم ما دل على عدم انفعال مقدار
الكر بملاقاة النجاسة ـ مدخول ، لانه من باب المفرد المحلى ، وقد بينا في المباحث
الأصولية أن عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حد صيغ العموم ، وانما هو
باعتبار منافاة عدم إرادته للحكمة ، فيصان كلام الحكيم عنه. وظاهر ان منافاة
الحكمة إنما يتصور حيث ينتفي احتمال العهد ، ولا ريب ان تقدم السؤال عن بعض أنواع
الماهية عهد ظاهر. وهو في محل النزاع واقع إذ النص يتضمن السؤال عن الماء المجتمع
، وحينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه. نعم يتجه ثبوت العموم في ذلك
المعهود بأقل ما يندفع به محذور منافاة الحكمة. وربما يتوهم ان هذا من قبيل تخصيص
العام بناء على سبب خاص. وهو مرغوب عنه في الأصول. وبما حققناه يعلم انه لا عموم
في أمثال موضع النزاع على وجه يتطرق اليه التخصيص» انتهى.
واعترض عليه
بان الظاهر في أمثال هذه المواضع التي في مقام تعيين القوانين وتبيين الأحكام هو
العموم ، وقد اعترف به ايضا من حيث منافاة عدم إرادته الحكمة
وما ذكره ـ من احتمال العهد باعتبار تقدم السؤال عن بعض أنواع الماهية ـ لا
وجه له ، لأن السؤال إنما هو موجود في بعض الروايات ، وكثير من الروايات لا سؤال
فيها ، وبعض ما فيه سؤال أيضا لا ظهور له في ان السؤال عن الماء المجتمع الذي لا
اختلاف في سطوحه. سلمنا عدم الظهور في العموم. فلا شك في عدم ظهوره في عدمه ايضا ،
وعند الشك يبقى الحكم على أصل الطهارة واستصحابها.
أقول : والحكم
في المسألة لا يخلو من اشكال ، ينشأ من ان المستفاد من اخبار الكر تقارب اجزاء
الماء بعضها من بعض.
كقوله (عليهالسلام) في صحيحة إسماعيل بن جابر حين سأله عن الماء الذي لا ينجسه شيء فقال : «ذراعان عمقه
في ذراع وشبر سعته».
ونحوها من
الاخبار الدالة على التقدير بالمساحة.
وصحيحة صفوان المتضمنة السؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، حيث
سأل (عليهالسلام) فقال : «وكم قدر الماء؟ قال : قلت : الى نصف الساق
والى الركبة وأقل. قال : توضأ».
ويؤيده ايضا ان
الكر ـ الذي وقع تحديد الماء الذي لا ينفعل به ـ عبارة في الأصل عن مكيال مخصوص
يكال به الطعام ، جعلوه (عليهمالسلام) معيارا لما لا ينفعل من الماء بالملاقاة.
ويؤيده ايضا ان
مع تقارب اجزاء الماء تتوزع النجاسة عليه وتنتشر فتضعف بذلك ، وانه بتقارب اجزائه
يتقوى بعضها ببعض.
ويؤيده ايضا ان
ذلك متفق عليه ومعلوم قطعا من الاخبار ، وما عداه في محل الشك. لعدم ظهور الدليل
عليه من الاخبار ، وذهاب بعض الأصحاب إليه.
__________________
والتمسك بأصالة
الطهارة هنا ضعيف ، لما حققناه سابقا من ان أفراد الكلية القائلة : «الماء كله طاهر حتى يعلم
انه قذر». إنما هي الأشياء المقطوع بطهارتها شرعا والمعلومة كذلك بالنسبة إلى
الأشياء المقطوع بنجاستها شرعا والمعلومة كذلك ، فإنه لا يحكم بخروج بعض أفراد
الأول إلى الثاني إلا بعلم ويقين. والغرض منه ـ كما عرفت ـ هو دفع الوساوس
الشيطانية والشكوك ، وعدم معارضتها للعلم واليقين الثابت أولا وان الماء من افراده
ما هو طاهر يقينا وهو ظاهر ، ومنه ما هو نجس يقينا وهو القليل المعلوم ملاقاة
النجاسة له ، فالكلية المذكورة قد أفادت انه لا يخرج عن الحكم الأول الى الثاني
إلا بعلم ويقين. وهذا الماء المختلف السطوح ـ إذا كان قدر كر ولاقت النجاسة بعض
اجزائه ـ ليس بمقطوع على طهارته ولا على نجاسته بل هو مشكوك فيه.
وبالجملة فالشك
المنفي في مقابلة يقين الطهارة هو ما كان شكا في عروض النجاسة لا شكا في سببية
النجاسة.
والتمسك
بالاستصحاب إنما هو فيما إذا دل الدليل على الحكم مطلقا كما هو التحقيق في
المسألة. وهو في موضع البحث ممنوع ، لما عرفت. ودلالته عليه قبل عروض النجاسة لا
تقتضي انسحاب ذلك الى ما بعده إلا بدليل آخر ، لتغاير الحالين.
وينشأ من إطلاق
الاخبار بان بلوغ الماء كرا عاصم له عن الانفعال بالملاقاة. والاخبار الدالة على
التحديد بالمساحة وان أفهمت بحسب الظاهر اعتبار الاجتماع فيه إلا انه ، ان أخذ
الاجتماع فيها على الهيئة التي دلت عليها فلا قائل به إجماعا ، وان أخذ الاجتماع
الذي هو عبارة عن مجرد تساوي السطوح فلا دلالة لها عليه صريحا. مع معارضته بظهور
احتمال محض التقدير كما تضمنته أخبار التقدير بالوزن. وباقي الوجوه المذكورة وان
تضمنت نوع مناسبة لذلك إلا ان الظاهر انها لا تصلح لتأسيس حكم شرعي.
__________________
فمجال التوقف
في الحكم المذكور لما ذكرنا بين الظهور ، والاحتياط لا يخفى.
إذا عرفت ذلك
فعلى تقدير عدم اشتراط المساواة والاكتفاء بمجرد الاتصال فهل يكفي الاتصال مطلقا
وان كان بالتسنم من ميزاب ونحوه ، أو يشترط في الاختلاف التخصيص بالانحدار لا
التسنم؟
ظاهر السيد
السند في المدارك الأول ، ونقله ايضا عن جده (قدسسرهما) في فوائد القواعد وتبعه بعض فضلاء متأخري المتأخرين ، وإطلاق عبائر جملة
من لم يشترط التساوي ربما يشمله. لكن قد عرفت ـ فيما تقدم في المقالة الثامنة في حكم ماء الحمام ـ انهم جمعوا ـ بين إطلاق القول
بكرية المادة وإطلاق القول في الغديرين ـ بحمل الإطلاق الأول على ما إذا كان اتصال
الماء بطريق التسنم والثاني على ما إذا كان الغديران متساويين أو مختلفين بطريق
الانحدار. وهو كما ترى يؤذن بكون الاتصال بطريق التسنم ينافي الوحدة كما حققناه
ثمة. والجواب ـ بان اعتبار الكرية في المادة لا لأجل عدم انفعال الحوض الصغير
بالملاقاة ، بل ليكون حكم المادة حكم الماء الجاري أو لتطهير الحوض الصغير بعد
نجاسته بإجراء المادة اليه واستيلائها عليه ـ مردود بما وقع التصريح به من اشتراط
الزيادة على الكرية في تطهير الحياض كما تقدم بيانه مع
__________________
اتفاقهم أولا على اشتراط الكرية في المادة ، ومن الظاهر حينئذ ان هذا
الاشتراط الأول إنما هو لعصمة الحياض الصغار عن الانفعال بالملاقاة .
ثم انه على
تقدير جواز الاختلاف فلا إشكال في تقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر لو اختلفت
السطوح كما صرحوا به ، إذ مقتضى الوحدة ذلك.
وعلى تقدير
اشتراط التساوي فقد صرح جملة من القائلين به بأنه لو اتصل القليل بالكثير وكان
الكثير أعلى فإن الأسفل يتقوى به دون العكس ، كما سلف في كلام المحقق الشيخ علي والشهيد في الذكرى والدروس والبيان وكذلك كلام العلامة في التذكرة وظاهر كلام المحقق ايضا كما حكيناه .
وعلل المحقق
الشيخ علي عدم تقوي الأعلى بالأسفل بأنهما لو اتحدا في الحكم للزم تنجيس كل أعلى
متصل بأسفل مع القلة. وهو معلوم البطلان. وحيث لم ينجس بنجاسته لم يطهر بطهارته.
وأجاب في
المدارك بان الحكم ـ بعدم نجاسة الأعلى بوقوع النجاسة فيه مع بلوغ المجموع منه ومن
الأسفل الكر ـ انما كان لاندراجه تحت عموم الخبر ، وليس في هذا ما يستلزم نجاسة
الأعلى بنجاسة الأسفل بوجه. مع ان الإجماع منعقد على ان النجاسة
__________________
لا تسرى إلى الأعلى مطلقا. ثم ألزمهم أن ينجس كل ما كان تحت النجاسة من
الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كر وان كان نهرا عظيما. وهو معلوم البطلان.
أقول : الظاهر
ان مقصود المستدل أن تقوي الأعلى بالأسفل لا دليل عليه إلا الاندراج تحت روايات
الكر. والاندراج ليس بمسلم ، وإلا لزم تنجس الأعلى بنجاسة الأسفل وحينئذ ففيه دلالة على ان حكمه بتقوي الأسفل بالأعلى
ليس مبنيا على الاندراج المذكور. وبذلك يتضح ان الجواب المذكور غير متوجه. إلا انه
قد أورد على ما ذكروه من تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس بأنه ان كان مبنيا على الاندراج تحت العموم ، فالمستفاد
من روايات الكر تساوي اجزائه في حكمي الطهارة والنجاسة ، فاجزاؤه متقوية بعضها
ببعض وان كان مبنيا على إطلاق المادة في باب البئر ، وكذا المادة الواردة في
حياض الحمام ، وانها يحصل بها التقوى وان كانت أقل من كر ، فكذلك الأعلى ههنا ،
فإنه مادة لما سفل عنه ، فيتقوى الأسفل به دون العكس ، ففيه (أولا) ـ انه لا حاجة
حينئذ إلى اعتبار كرية المجموع. و (ثانيا) ـ انه مناف لما مر من اعتبارهم الكرية
في مادة الحياض. وان كان مبنيا على تقوي اجزاء الماء الساكن بعضها ببعض ، فيلزمه ـ
من باب مفهوم الموافقة ـ تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس ، فيتوجه عليه ان العلة في
تقوي اجزاء الساكن بعضها ببعض هو توزع النجاسة وانتشارها على اجزائه لسكونها
وتقاربها ، فتكون النجاسة مضمحلة فيه. والنجاسة
__________________
الواقعة في الصورة المفروضة لم تتوزع على المجموع كما في الساكن ، فلا يتم
كون تقوي الأسفل بالأعلى من باب الموافقة. وان كان مبنيا على وجه آخر فلا بد من
إيراده لننظر في صحته وفساده.
أقول : بل
الظاهر انه مبني على ما ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم من ان الوجه فيه ان المقتضي لعدم انفعال النابع
بالملاقاة هو وجود المادة له ، ولا ريب ان تأثير المادة إنما هو باعتبار إفادتها
الاتصال بالكثرة ، وليس الزائد منها على الكر بمعتبر في نظر الشارع ، فيرجع حاصل
المقتضي الى كونه متصلا بالكر على جهة جريانه اليه واستيلائه عليه ، وهذا المعنى
بعينه موجود فيما نحن فيه ، فيجب ان يحصل مقتضاه. ويؤيد ذلك حكم ماء الحمام ، فانا
لا نعلم من الأصحاب مخالفا في عدم انفعاله بالملاقاة مع بلوغ المادة كرا ،
والاخبار الواردة فيه شاهدة بذلك ايضا ، وليس لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل في
ذلك. انتهى.
وأنت خبير بما
فيه (اما أولا) ـ فلان ما ذكره ـ من ان المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو
وجود المادة له ـ إشارة إلى التعليل الذي تضمنته صحيحة محمد ابن إسماعيل بن بزيع ولا يخفى ما فيه كما تقدم التنبيه عليه في المقالة
الرابعة من الفصل الأول .
__________________
و (اما ثانيا)
ـ فلان قوله : «ليس لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل» إنما يتم على القول المشهور
من اشتراط الكرية في المادة. واما على القول بعدم الاشتراط كما هو الظاهر من
الاخبار على ما حققناه سابقا يكون الحكم مقصورا حينئذ على موضع النص.
و (اما ثالثا)
ـ فلأن العلامة مع اشتراطه في المنتهى والتذكرة وغيرهما كرية المادة توقف في
الكتابين المذكورين في إلحاق الحوض الصغير ذي المادة في غير الحمام به ، وبذلك
يظهر ان ما ذكره أولئك الفضلاء من الفرق لا يخلو من المناقشة.
ثم لا يخفى
عليك ايضا انه بعد تسليم عموم انفعال القليل بالملاقاة واشتراط التساوي في اجزاء
الكر فإخراج هذا الفرد من البين تحكم محض. وتعليل صاحب المعالم قد عرفت ما فيه.
اللهم إلا ان يخص منع تقوي الأعلى بالأسفل بما إذا كان الأعلى متسنما على الأسفل
بميزاب ونحوه ، فان ثبوت الاتحاد وشمول العموم في المسألة لمثل ذلك في غاية البعد.
واما الإلزام
الذي ذكره في المدارك ـ بنجاسة كل ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن
فوقه كر وان كان نهرا عظيما وهو معلوم البطلان ـ فيمكن
__________________
الجواب عنه بما ذكره في المعالم من التزام عدم انفعال ما بعد عن موضع
الملاقاة بمجردها قال : «لعدم الدليل عليه ، إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص
عن الكر بالملاقاة مختصة بالمجتمع والمتقارب ، وليس مجرد الاتصال بالنجس موجبا
للانفعال في نظر الشارع ، والا لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل ، لصدق الاتصال حينئذ ،
وهو منفي قطعا ، وإذا لم يكن الاتصال بمجرده موجبا لسريان الانفعال فلا بد في
الحكم بنجاسة البعيد من دليل. نعم جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل اليه ،
فإذا استوعب الاجزاء المتجددة ينجسها وان كثرت. ولا بعد في ذلك ، فإنها لعدم
استواء سطحها بمنزلة المنفصل ، فكما انه ينجس بملاقاة النجاسة له وان قلت وكان
مجموعه في نهاية الكثرة فكذا هذه» انتهى. وأورد عليه انه ـ بعد تسليم انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة مع
الاجتماع والتقارب ـ لا شك انه يلزم نجاسة جميع ماء النهر المذكور ، لأن النجاسة
ملاقية لبعضه وذلك البعض ملاق للبعض الآخر القريب منه وهكذا ، فينجس الجميع إذ
الظاهر ان القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لا يفرقون بين النجاسة والمتنجس. وما
ذكره من ان مجرد الاتصال بالنجس لو كان موجبا للانفعال في نظر الشارع لنجس الأعلى
بنجاسة الأسفل ، ففيه انه مخصص عن العموم بالإجماع ، فإلحاق ما عداه به مما لا
دليل عليه بل قياس لا نقول به. على ان الفارق ايضا موجود كما ذكره بعض من عدم تعقل
سريان النجاسة إلى الأعلى.
وأنت خبير بان
المفهوم من كلام المجيب المذكور اختصاص كل جزء من اجزاء الماء الجاري لا عن نبع
بحكم نفسه ، وانه في حكم المياه القليلة المنفصل بعضها عن بعض لهرب السابق عن
اللاحق ، كما ينادي به قوله : «فإنها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل» وحينئذ
فلا تقوي بين اجزائه ولا سراية ، ومجرد الاتصال لا يوجب
__________________
السراية ، وإلا لسرت النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، لحصول الاتصال. ودعوى
الإجماع على التخصيص مجازفة في أمثال هذه المقامات كما لا يخفى على من تتبع موارد
الإجماعات. وعدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى كما ذكره المورد مؤيد لما ذكرنا من
كون كل سابق بالنسبة الى لاحقه بمنزلة المنفصل عنه ، ومن هنا ذهب المحدث الأمين
الأسترآبادي (قدسسره) الى ان الماء الجاري لا عن مادة غير ملحق بالراكد
مطلقا كما ذكره جمع من الأصحاب ، بل يلحق في بعض أحكامه بالجاري وفي بعض آخر
بالراكد ، قال (قدسسره) بعد كلام في المقام ، وملخصه تقوي الأسفل بالأعلى وان
لم يكن المجموع كرا وعدم السراية أصلا ، لعدم الدلالة عليها كما سبق نقلا عن
المحقق المذكور : «وعلى هذا الاحتمال حكم الجاري لا عن نبع حكم الجاري عن نبع في
تقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا. وحكم الماء الساكن القليل في نجاسة
أول جزء منه بملاقاة النجاسة وان كان المجموع كرا فصاعدا. ومما يؤيد الاحتمال الذي
ذكرناه ما روي عن الصادق (عليهالسلام) : «ماء الحمام بمنزلة الجاري» . وما روي عنهم (عليهمالسلام) ايضا : «ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» . وجه التأييد عدم تقييد الجاري والنهر بالنابع ، وعدم
تقييد ماء الحمام بكرية مادته أو كرية المجموع. ومما يؤيده أيضا إطلاق المادة
الواردة في ماء البئر والواردة في ماء الحمام. والله اعلم» انتهى. وللمناقشة في
بعض ما ذكره (قدسسره) مجال.
هذا. وينبغي ان
يعلم ان الحكم بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر وعدم انفعال الماء بعروض النجاسة
ـ سواء عرضت للأعلى أو الأسفل ـ إنما هو فيما إذا كان عروض النجاسة بعد الاتصال.
اما قبله فالظاهر انه لا شك في النجاسة إذا كان ما لاقته أقل
__________________
من كر عند من يقول بنجاسة القليل بالملاقاة ، فالماء القليل الواقف المتصل
بالكثير أو الجاري إن عرضت له النجاسة قبل الاتصال تنجس بها ، ويطهر بالاتصال
بالكثير على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال وإلا فبالممازجة ، وبعد الاتصال لا
ينجس. وهكذا ماء المطر الجاري في الطرق بالقياس الى حال التقاطر وبعده. ومثل ذلك
عندهم ايضا ما لو صب الماء من آنية حتى اتصل بالكثير أو الجاري ، فإنه إن عرضت له
النجاسة بعد الاتصال لم تؤثر فيه ، وان عرضت له قبل الاتصال ينجس الماء والإناء
ولا يطهر بمجرد اتصاله بعد ذلك. ويأتي على مذهب من منع تقوي الأعلى بالأسفل ثبوت
النجاسة في الحالين.
وقال في كتاب
الروض : «وعلى ما يظهر من إطلاق النص والفتوى يلزم طهارة الماء النجس عند صب بعضه
في الكثير بحيث يطهر الإناء المماس للماء النجس وما فيه من الماء عند وصول أوله
إلى الكثير. وهو بعيد بل هو على طرف النقيض لتفصيل المتأخرين. والمسألة من
المشكلات ، ولم نقف فيها على ما يزيل عنها الالتباس. والله اعلم» انتهى.
والعجب منه (قدسسره) انه ـ قبل هذا الكلام بعد نقل جملة من كلمات القوم ـ قال
: «والذي يظهر لي في المسألة ودل عليه إطلاق النص ان الماء متى كان قدر كر متصلا
ثم عرضت له النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير سواء كان متساوي السطوح أم مختلفها
، وان كان أقل من كر نجس الماء بالملاقاة مع تساوي سطوحه والا الأسفل خاصة. ثم ان
اتصل بالكثير بعد الحكم بنجاسته اعتبر في الحكم بطهره مساواة سطوحه لسطوح الكثير
أو علو الكثير عليه ، فلو كان النجس أعلى لم يطهر. والفرق بين الموضعين ان المتنجس
يشترط ورود المطهر عليه ولا يكفي وروده على المطهر خلافا للمرتضى (رحمهالله) فإذا كان سطحه أعلى من سطح الكثير لم يكن
الكثير واردا عليه» انتهى. ولا يخفى ما بينهما من التدافع.
(المسألة
الثالثة) ـ إذا تغير بعض الكثير فلا يخلو اما ان يكون الباقي كرا أم لا ، وعلى كلا
التقديرين اما ان يكون ساكنا أو جاريا ، فههنا صور أربع :
(الاولى) ـ ان
يكون الباقي كرا والماء ساكنا ، ولا خلاف هنا في اختصاص النجاسة بالموضع المتغير
وطهارة الباقي.
(الثانية) ـ كون
الباقي أقل من كر مع كون الماء ساكنا ، ولا خلاف في نجاسته عند من قال بنجاسة
القليل بالملاقاة.
(الثالثة) ـ كون
الباقي كرا والماء جاريا ، فلا يخلوا اما ان تقطع النجاسة عمود الماء أم لا ، وعلى
التقديرين فاما ان يكون الأعلى كرا أم لا ، وعلى التقادير الأربعة فاما ان يكون
الأسفل عن النجاسة كرا أيضا أم لا.
وتفصيل ذلك. ان
قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى كرا والأسفل كرا ، فلا اشكال ولا خلاف في
اختصاص التنجيس بالمتغير حال الملاقاة. الا انه يأتي على ما ذكره المحقق الشيخ حسن
فيما قدمنا نقله عنه نجاسة ما سفل عن النجاسة بعد مرور ذلك الماء على
الاجزاء السافلة.
وان قطعت
النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر ، فظاهر كلامهم انه لا
خلاف في نجاسة الأسفل عند من قال بالنجاسة بمجرد الملاقاة ، لكونه أقل من كر ،
ويظهر من كلام المحدث الأمين (قدسسره) العدم ، لعدم استواء سطح الماء ، فاجزاؤه في حكم الماء
المنفصل بعضه عن بعض ، لهرب السابق عن اللاحق ، إلا بعد السيلان على الاجزاء
السافلة كما ذكروه. واما الأعلى فظاهر كلامهم الاتفاق على عدم نجاسته ، لعدم تعقل
سريان النجاسة إلى الأعلى.
__________________
ومن هذا الكلام
يعلم حكم صورتي ما لو قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى كرا والأسفل أقل من كر
وبالعكس.
وان لم تقطع
النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل يبلغ الكر ، فلا اشكال ولا خلاف في
اختصاص التنجيس بالمتغير إلا بعد سيلان ذلك الماء على الاجزاء السافلة بناء على ما
ذكره ذلك المحقق المشار اليه.
وان كان كذلك وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر لكن المجموع يبلغ
الكر ، فعلى تقدير القول بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر لا إشكال في الطهارة ،
وعلى تقدير القول بتقوي الأسفل بالأعلى دون العكس يلزم نجاسة الأسفل ، لأن الأعلى
لقلته لا يقوي ما سفل عنه فيلزم نجاسته لقلته ، وبذلك صرح في المعالم .
وان كان كذلك
ايضا وكان الأعلى قدر كر والأسفل أقل من كر ، فلا خلاف في تقوي الأسفل به وطهارة
الجميع واختصاص التنجيس بموضع التغير.
وبالعكس فالحكم
كذلك أيضا ، لأن الأعلى لا تسري إليه النجاسة إجماعا ، والأسفل قد عصم نفسه عن
الانفعال بالكرية ، فيختص التنجيس بموضع التغير.
(الرابعة) ـ كون
الباقي بعد التغير أقل من كر والماء جاريا وحكمها يعلم بالتأمل في تلك الشقوق ،
الا انه يظهر من كلام المحدث الأمين (قدسسره) كما
__________________
قدمنا نقله اختصاص التنجيس بموضع النجاسة ، لمنعه السراية وحكمه
بتقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا فيختص التنجيس بموضع التغير.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في كتاب الروض قد أورد ههنا تناقضا على من منع من تقوي
الأعلى بالأسفل بأنهم قد حكموا ـ في صورة ما إذا تغير بعض الجاري لا عن نبع
بالنجاسة ـ بعدم نجاسة الأعلى مطلقا وعدم نجاسة الأسفل إذا بلغ الباقي كرا الا ان
تستوعب النجاسة عمود الماء فيشترط كرية الأسفل ، وهذا القول يستلزم تقوي الأعلى
بالأسفل وإلا لزم نجاسة الأسفل مطلقا إلا إذا كان الأعلى كرا ولم يستوعب التغير
عمود الماء ، لان الجزء الأعلى الملاقي للنجاسة على هذا يصير نجسا والفرض انه لا يتقوى
بما تحته فينجس حينئذ وينجس ما تحته لذلك ايضا وهكذا.
ووجه الجواب عن
ذلك ما قدمنا نقله عن المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ويمكن الجواب ايضا باحتمال
قصر الحكم المذكور على الواقف المتصل بالكثير أو الجاري دون الجاري نفسه ، فكأنهم
يشترطون في التقوى وحدة الماءين في العرف أو يكون القوي أعلى ، فالماء الجاري في
العرف عندهم ماء واحد وان كان بعضه أعلى وبعضه أسفل. واما الماء الواقف المتصل
بالكثير أو الجاري فمتى كان أسفل ينتفي فيه الأمران فلا يتقوى بهما.
ويمكن الجواب
بما أشرنا إليه آنفا من تخصيص الحكم المذكور بما إذا لم تكن اجزاؤه منحدرة بل يكون
العلو بطريق التسنم كالميزاب ونحوه.
(المسألة
الرابعة) ـ طريق تطهير الماء المذكور إذا تغير بالنجاسة ان يقال : لا يخلو اما ان
يتغير جميعه أو بعضه ، وعلى الثاني فاما ان يبقى قدر الكر أم لا ، فههنا أقسام
ثلاثة :
__________________
(الأول) ـ ان
يتغير بعضه مع كون الباقي كرا ، والظاهر انه لا خلاف في طهارته بتموجه بعضه في بعض
مع زوال التغير بذلك أو قبله. هذا على القول باشتراط الامتزاج. واما على القول
بالاكتفاء بمجرد الاتصال فيكفي مجرد زوال التغير.
(الثاني
والثالث) ـ ان يكون الباقي أقل من كر أو يتغير الجميع ، وقد ذكر جملة من الأصحاب
ان تطهيره بإلقاء كر عليه دفعة ، فان زال التغير وإلا فكر آخر وهكذا حتى يزول
التغير ، وانه لا يطهر بزوال التغير من قبل نفسه ولا بتصفيق الرياح ولا بوقوع
أجسام طاهرة تزيل عنه التغير. وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع :
(الأول) ـ ان
ما ذكروه من إلقاء كر فكر حتى يزول التغير إنما يلزم لو لم يزل التغير اما من قبل
نفسه أو بعلاج أو بماء قليل وإلا أجزأ كر واحد ، وكذا إنما يلزم لو تغير الكر
الملقى على وجه لم يبق من المجموع قدر كر وإلا كان حكمه ما تقدم في القسم الأول.
(الثاني) ـ انه
لا يختص التطهير بما ذكروه ، بل يطهر بالمطر ايضا على التفصيل المتقدم ، وبالجاري
عن نبع أولا عن نبع مع كريته ، لكن مع زوال التغير بكل من هذه الأشياء أو قبله ،
واشتراط علو الجاري مطلقا أو مساواته أو نبع الماء من تحته بقوة وفوران بحيث
يستهلك الماء النجس لا بمثل الترشح. واعتبار علو الجاري هنا أو مساواته متفق عليه
حتى من القائلين بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر ، لأنهم يخصون ذلك ـ كما عرفت
مما قدمنا نقله عن شيخنا الشهيد الثاني ـ بملاقاة النجاسة بعد الاتصال ، ووجه الفرق بين المقامين
قد تقدم في كلامه. لكن ينقدح على الفرق المذكور الاشكال بتساوي السطوح ، إذ لا
يتحقق فيه ورود الطاهر حينئذ
__________________
مع اتفاقهم على القول بالطهارة كما عرفت. وأجاب في الروض بأن جماعة من
الأصحاب منهم : المصنف (رحمهالله) في التذكرة والشهيد في الذكرى شرطوا في طهر المتنجس في
هذه الحالة امتزاج الطاهر به ولم يكتفوا بمجرد المماسة ، وهذا الشرط في الحقيقة
يرجع الى علو الجاري ، إذ لا يتحقق الامتزاج بدونه ، وحينئذ يتحقق الشرط وهو ورود
الطاهر على النجس ويزول الاشكال ، وهذا الشرط حسن في موضعه. انتهى.
ولا يخفى عليك
ان التزامه اشتراط الامتزاج في الصورة المذكورة لضرورة دفع الاشكال وإلا فهو خلاف
مقتضى مذهبه كما سيأتي من الاكتفاء بمجرد الاتصال ، ويشير الى ذلك قوله أخيرا : «وهذا
الشرط حسن في موضعه».
(الثالث) ـ ما
ذكروا من اعتبار الدفعة في الكر الملقى هو أحد القولين في المسألة ، وسيأتي تحقيق
القول في ذلك في الكلام في بيان تطهير الماء القليل ان شاء الله تعالى.
(الرابع) ـ ما
ذكروا ـ من عدم طهره بمجرد زوال التغير من قبل نفسه الى آخر ما تقدم ـ هو أشهر
القولين في المسألة وأظهرهما.
وقيل بطهره
بمجرد ذلك ، وهو منقول عن الفاضل يحيى بن سعيد في الجامع ، واحتمله العلامة في
النهاية.
وصرح جمع من
الأصحاب بأن القول بطهارة المتغير بزوال التغير لازم لكل من قال بالطهارة
بالإتمام.
وتنظر فيه بعض
أفاضل متأخري المتأخرين بما حاصله : ان القول بالطهارة بالإتمام ، إما لخبر «إذا
بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» . اي يطهره ، أو لغيره
__________________
من الوجوه المذكورة في أدلتهم. فإن كان المستند غير الخبر المذكور فوجه عدم
اللزوم ظاهر ، وان كان الخبر المذكور فكذلك أيضا ، لأنه وان دل بعمومه على ان
الماء إذا بلغ كرا لم يظهر فيه خبث ، الا ان ذلك العموم مخصوص نصا وإجماعا بالخبث
الذي لا يكون مغيرا للماء ، والا لكان منجسا للماء البتة ، فإذا ثبتت النجاسة
بالتغير كان حكمها مستصحبا الى ان يعلم المزيل كما ذكره القائلون بعدم الطهارة
بالإتمام ، ولو قيل : ان القدر الثابت من المخصص هو التخصيص بالمتغير ما دام
متغيرا ، واما ما بعد زوال التغير فهو داخل في العموم. لقيل : ان هذا بعينه يرد
على من تمسك بالرواية المشهورة وهي «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء». كما لا يخفى .
حجة القول
المشهور ان النجاسة وزوالها حكمان شرعيان متوقفان على النص من الشارع ، فكما حكم
بالنجاسة بالتغير لثبوت ذلك عنه. فلا يحكم بالطهارة بالزوال الا مع ثبوت ذلك عنه
ايضا ، والا فيكون حكم النجاسة مستصحبا الى ان تحصل الطهارة بما جعله مطهرا. وليس
الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه بل مرجعه هنا الى العمل بعموم
الدليل.
أقول : وتحقيق
القول في الاستصحاب وجملة اقسامه قد تقدم في المقدمة الثالثة .
__________________
وظاهر كلام
المستدل هنا ان الاستصحاب المذكور من قبيل القسم الثالث المذكور هناك الذي هو
عبارة عن إطلاق النص ، دون القسم الرابع الذي هو محل النزاع ، وهذا الموضع أحد
المواضع التي أشرنا هناك الى الشك والتردد في اندراجها تحت القسم الثالث أو الرابع
من تلك الأقسام.
وتحقيق القول
في ذلك ان يقال : إذا تعلق حكم بذات لأجل صفة ـ كالماء المتغير بالنجاسة والماء
المسخن بالشمس والحائض أي ذات دم الحيض ـ فهل يحكم ـ بمجرد زوال التغير وزوال
السخونة وانقطاع الدم ـ بخلاف الأحكام السابقة ، أو يحكم بإجراء الأحكام السابقة
إلى ظهور نص جديد؟ إشكال ، ينشأ من ان الحكم في هذه النصوص ـ الواردة في هذه
الأفراد المعدودة ونحوها ـ محتمل لقصره على زمان وجود الوصف ، بناء على ان التعليق
على الوصف مشعر بالعلية. وان المحكوم عليه هو العنوان لا الفرد وقد انتفى ،
وبانتفائه ينتفي الحكم ـ ومحتمل للإطلاق ، بناء على ان المحكوم عليه انما هو الفرد
لا العنوان ، والعنوان إنما جعل آلة لملاحظة الفرد ، فمورد الحكم حقيقة هو الفرد.
فعلى الاحتمال الأول يكون من القسم الرابع ، فان تغير الماء هنا بالنجاسة نظير فقد
الماء في مسألة المتيمم الداخل في الصلاة ثم يجد الماء ، وكما ان وجود الماء هناك
حالة أخرى مغايرة للأولى ، فتعلق النص بالأولى لا يوجب استصحابه في الثانية لمكان
المخالفة ، فكذا هنا زوال الوصف حالة ثانية مغايرة للأولى لا يتناولها النص
المتعلق بالأولى. وعلى الاحتمال الثاني يكون من قبيل القسم الثالث وهو الذي ذكره
السيد (قدسسره) في المدارك ، واليه جنح ايضا المحدث الأمين
الأسترآبادي (قدسسره) في تعليقاته على المدارك. وبالجملة فالمسألة لا تخلو
من شوب الاشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.
(المسألة
الخامسة) ـ لو جمد الكثير ثم أصابته نجاسة بعد الجمود فالظاهر ـ كما استظهره بعض
المحققين ـ النجاسة في خصوص موضع الملاقاة كسائر الجامدات ،
لخروجه بالجمود عن اسم الماء عرفا ولغة ، ويطهر بإلقاء النجاسة وما يكتنفها
ان كان لها عين والا فالموضع الملاقي لها ، ويطهر ايضا باتصال الكثير به بعد زوال
العين.
ونقل عن العلامة
في المنتهى انه قال : «لو لاقت النجاسة ما زاد على الكر من الماء الجامد فالأقرب
عدم التنجيس ما لم تغيره» واحتج لذلك بان الجمود لم يخرجه عن حقيقته بل هو مؤكد
لثبوتها ، فان الآثار الصادرة عن الحقيقة كلما قويت كانت آكد في ثبوتها ، والبرودة
من معلولات طبيعة الماء وهي تقتضي الجمود ، وإذا لم يكن ذلك مخرجا له عن الحقيقة
كان داخلا في عموم قوله (عليهالسلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» . وفيه ما عرفت من ان الجمود يخرجه عن الاسم الذي هو
المدار في الحفظ عن انفعال القليل لغة وعرفا فيزول بزواله. ولعله (قدسسره) قاس ذلك على مثل الدبس والدهن ونحوهما ، فإنها بالجمود
لا تخرج عن الحقيقة ، إلا انه قياس مع الفارق ، فان الظاهر في الماء الجامد ان
أحدا لا يطلق عليه اسم الماء ، والموجود في الأخبار إطلاق اسم الثلج عليه.
وبالجملة فإنه لا ريب في ضعفه. واستشكل الحكم في التحرير ، ونقل عنه في النهاية
القول بالمشهور.
(المسألة
السادسة) ـ في القدر الذي لا ينفعل بالملاقاة من الراكد ، وتنقيح الكلام فيه
يستدعي بسطه في مواضع :
(الموضع الأول)
ـ اعلم انه قد ورد بتقدير ما لا ينفعل من الماء روايات بغير لفظ الكر لا يخلو ظاهر
تقديراتها من تدافع.
(فمنها) ـ رواية
عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شيء ،
والقلتان جرتان».
و (منها) ـ رواية
عبد الله بن المغيرة أيضا عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه
__________________
السلام) قال : «الكر من الماء نحو حبي هذا. وأشار الى حب من تلك
الحباب التي تكون بالمدينة».
و (منها) ـ رواية
زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له : راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو
صعوة ميتة؟ قال : إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها ، وان كان غير
متفسخ فاشرب منه وتوضأ ، واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ، وكذا الجرة وحب الماء
والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء».
هذه جملة ما
وقفت عليه من ذلك ، وهي مشتملة على التحديد بالقلتين تارة وبكونه نحو ذلك الحب
المشار إليه أخرى ، وبكونه قدر راوية أو حب أو قربة أو شبه ذلك ، فلا بد من بيان
انطباق مصاديق هذه الألفاظ على ما يصدق عليه الكر الذي بنى عليه الأصحاب وجعلوه
المعيار في هذا الباب ، ليزول التنافي من البين وتجتمع الأدلة من الطرفين. ويكون
ذلك ضابطا كليا وقانونا جليا :
فنقول : اما
الرواية الأولى فحملها الشيخ (رحمهالله) في الاستبصار ـ بعد الطعن فيها أولا بالإرسال ـ على التقية ، قال : «لانه
مذهب كثير من العامة» ثم قال : «ويحتمل ان يكون مقدار القلتين مقدار الكر ، لان
ذلك ليس بمنكر لأن القلة هي الجرة الكبيرة في اللغة» انتهى.
أقول : ويؤيد
الحمل على التقية ان المدار عندهم على القلتين كما ان المدار عندنا على الكر ، كما
ورد في الخبر المتفق على صحته عندهم : «إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا».
__________________
وحمل أيضا في
الاستبصار الرواية الثانية على ان الحب لا يمتنع ان يسع من الماء مقدار الكر ،
وعلى ذلك حمل الجرة والراوية والحب والقربة.
وجملة متأخري
الأصحاب (رضوان الله عليهم) أعرضوا عن النظر في هذه الاخبار وأطبقوا على اخبار
الكر ، والظاهر ان ذلك اما بناء على ما اعتمدوه من الاصطلاح في تقسيم الحديث ، وان
هذه الروايات ضعيفة الأسانيد ، فلا تبلغ قوة المعارضة لتلك الأخبار الصحيحة أو
الضعيفة المجبورة عندهم بعمل الطائفة ، أو انها عندهم غير منافية بناء ما ذكره
الشيخ (قدسسره).
__________________
هذا. والذي
وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك ، اما بالنسبة إلى القلتين فقال في كتاب
المصباح المنير : «والقلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة شبه الحب ، قال الأزهري :
ورأيت القلة من قلال هجر والأحساء تسع ملء مزادة ، والمزادة شطر الراوية ، وكأنها
سميت قلة لأن الرجل القوي يقلها اى يحملها. وعن ابن جريح قال : أخبرني من رأى قلال
هجر : ان القلة تسع فرقا ، قال عبد الرزاق : والفرق يسع أربعة أصواع بصاع النبي (ص)
، الى ان قال : ويجوز ان يعتبر قلال هجر البحرين ، فان ذلك أقرب عرف لهم ، ويقال :
كل قلة تسع قربتين» انتهى. وقال في كتاب مجمع البحرين «القلة بضم القاف وتشديد
اللام إناء للعرب كالجرة الكبيرة تسع قربتين أو أكثر ، ومنه قلال هجر ، وهي شبه
الحباب» وقال في القاموس : «القلة الحب العظيم أو الجرة العظيمة» انتهى. وقال
المحقق في المعتبر : «ان أبا علي ابن الجنيد قال في المختصر : الكر قلتان مبلغ
وزنه الف ومائتا رطل ، وقال ابن دريد : القلة في الحديث من قلال هجر وهي عظيمة ،
وزعموا أن الواحدة تسع خمس قرب» انتهى. ونقل العلامة في المنتهى ايضا عن ابن دريد
انه قال : «القلة من هجر عظيمة تسع خمس قرب» انتهى.
وأنت خبير بان
المستفاد من كلام هؤلاء ان القلة والجرة والحب متقاربة المقادير وان كلا منها مما
يختلف صغرا وكبرا ، وان القلة منها : ما تسع قربتين ومنها : ما تسع خمس قرب ، فلا
بعد حينئذ في حمل تلك الظروف المروية في الاخبار على ما يسع الكر.
واما الحب فقال
في المصباح : «والحب بالضم الخابية فارسي معرب» وقال في المجمع : «والحب بالضم
الجرة الضخمة» وقال في القاموس : «والحب الجرة أو الضخمة منها».
وأنت خبير بان
تفسير الحب بالخابية التي تختلف إفرادها صغرا وكبرا ، وتفسير
القلة به ـ وهي كما عرفت سابقا ـ يعطي ايضا انه مما يختلف مقاديره ، فلا
يمتنع ان يكون ذلك الحب المشار اليه من الحباب الكبار التي تسع كرا من ماء.
ويؤيد ذلك صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن حب ماء فيه الف رطل وقع فيه أوقية بول
، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال : لا يصلح». وحينئذ فلا بعد في الحمل على ذلك ،
ومثل ذلك الجرة والقربة ، فإنها مما يتفاوت أفرادها أيضا صغرا وكبرا.
واما الرواية
فهي في الأصل تقال على الدابة التي يستقى عليها الماء ثم استعملت في المزادة كما
يعطيه كلام صاحب المغرب ، أو انها حقيقة فيهما كما يفهم من غيره ، وعلى أيهما
فالمراد به في الحديث المزادة ، قال في القاموس : «ولا تكون إلا من جلدين تفأم
بثالث بينهما لتتسع» انتهى. وقال في كتاب مجمع البحرين : «المزادة الراوية ، وسميت
ذلك لأنها يزاد فيها جلد آخر من غيرها ، ولهذا أنها أكبر من القربة» انتهى. ومتى
كان كذلك فبلوغها الكر لا خفاء فيه. ومع المناقشة في ذلك فالحمل على التقية التي
هي الأصل في اختلاف الاخبار عندنا ـ كما تقدم بيانه واشتد بنيانه في المقدمة
الاولى من مقدمات الكتاب ـ وان لم يكن بمضمونها قائل من العامة كما علمته مبرهنا.
واخبار الكر معتضدة بعمل الطائفة عليها قديما وحديثا فهي مجمع عليها ، ومخالفة
للعامة قطعا فيتعين القول بها. والله سبحانه وأولياؤه اعلم.
(الموضع الثاني)
ـ للأصحاب (رضوان الله عليهم) في معرفة الكر طريقان ، وبكل منهما وردت الاخبار ،
وان كان على وجه يحتاج الى التطبيق بينها في ذلك المضمار.
__________________
(الطريق الأول)
ـ معرفة ذلك بالوزن وهو الف ومائتا رطل ، ولا خلاف بينهم في هذا المقدار.
وعليه تدل صحيحة
محمد بن ابي عمير عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكر من الماء الذي لا ينجسه شيء ألف ومائتا
رطل».
وانما اختلفوا
في المراد من الرطل في هذا الخبر ، هل هو الرطل العراقي أو المدني؟ فالمشهور حمله
على الأول ، وهو مائة وثلاثون درهما على المشهور ، وقيل انه مائة وثمانية وعشرون
درهما وأربعة أسباع درهم ، ذكره العلامة في نصاب الغلات من التحرير والمنتهى والظاهر انه غفلة. وقيل بحمله على الثاني وهو مائة
وخمسة وتسعون درهما ، وبه قال للمرتضى في المصباح والصدوق في الفقيه.
واستدل على
الأول بوجوه : (أحدها) ـ عموم قوله (عليهالسلام) : «كل ماء طاهر حتى يعلم انه قذر» . والعلم لا يتحقق مع الاحتمال.
و (ثانيها) ـ ان
الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل.
و (ثالثها) ـ ان
ذلك هو المناسب لرواية الأشبار الثلاثة .
__________________
و (رابعها) ـ ما
فيه من الجمع بين الرواية المذكورة وبين صحيحة محمد ابن مسلم عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «والكر ستمائة رطل». بحملها على أرطال مكة ، إذ
لم يذهب أحد إلى حملها على الأرطال العراقية أو المدنية ، والرطل المكي رطلان
بالعراقي.
و (خامسها) ان
الأصل طهارة الماء خرج ما نقص عن الأرطال العراقية بالإجماع ، فيبقى الباقي.
ويرد على الأول
ما تقدم في المقدمة الحادية عشرة في معنى الحديث المذكور ومرت إليه الإشارة أيضا في
المقالة الرابعة من الفصل الأول ونزيده هنا بيانا وتأكيدا فنقول : ان الجهل هنا ـ الذي
هو عبارة عن عدم العلم بالقذارة الموجب للتمسك بأصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة ـ اما
ان يكون متعلقا بإصابة النجاسة للماء ، بمعنى ان المكلف يجهل إصابة النجاسة للماء
ولا يعلمها ، واما ان يكون متعلقا بالنجاسة ، بمعنى انه يجهل كون هذا الشيء موجبا
للتنجيس ، واما يجهل الحكم بالتنجيس بان يعلم ملاقاة النجاسة لكن يشك في تأثيرها
كموضع البحث. ومقتضى الدليل العقلي ـ الدال على امتناع تكليف الغافل عن الخطاب
بلزوم تكليف ما لا يطاق ، والنقلي الدال على ذلك كنفي الحرج ـ انما يقوم على العذر
بالنسبة إلى القسم الأول دون الأخيرين. واخبار معذورية الجاهل خاصها وعامها إنما
تدل على الأول وهو الجاهل المحض ، دون العالم بالنجاسات وإفرادها وما يترتب على
الملاقاة من الحكم ، فربما علم بالملاقاة لكن
__________________
جهل الحكم بالتنجيس في بعض الموارد ، للشك في بعض الشروط كموضع البحث ، أو
للشك في بعض الأشياء بكونها موجبة للتنجيس كنطفة غير الإنسان مثلا ، بل دلت
الاخبار على ان الحكم في الفردين الأخيرين وجوب الفحص والسؤال ، ومع العجز فالوقوف
على جادة الاحتياط.
كصحيحة عبد الرحمن
بن الحجاج «في رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما
جزاء؟ فقال : لا بل عليهما ان يجزى كل واحد منهما الصيد. قلت : ان بعض أصحابنا
سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم
بالاحتياط» .
ومثلها حسنة
بريد الكناسي الواردة فيمن علمت ان عليها العدة ولم تدر كم هي؟
حيث قال (عليهالسلام) : «إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة ، فتسأل حتى
تعلم» .
وبالجملة فمورد
الخبر المذكور هو العالم بموجبات تنجيس الماء وشرائطه ، فإنه متى جهل إصابة
النجاسة حكم بالطهارة الى ان يعلم الإصابة ، وما عدا هذا الفرد ففرضه التوقف في
الحكم والاحتياط في العمل.
ومما ذكرنا
يظهر الجواب عن الوجه الثاني أيضا ، فإن الوجه في أصالة البراءة التي اعتمدوا
عليها هو ما قدمنا من الدليل العقلي والنقلي. ولزوم الحرج وتكليف الغافل في صورة
بلغنا فيها حكم شرعي ولكن اشتبه علينا المراد منه هل هو الزائد أو الناقص؟ ممنوع ،
لما عرفت من الروايتين المتقدمتين.
وأورد على
الثالث انه وان ناسب رواية الأشبار الثلاثة لكن المشهور
__________________
على تقدير المساحة ـ إنما هو العمل على رواية أبي بصير البالغ تكسير ما اشتملت عليه الى اثنين وأربعين شبرا
وسبعة أثمان شبر ، وليس تباعد المدني عنها أبعد من تباعد العراقي.
وعلى الرابع
ايضا ما ذكره الشهيد الثاني (رحمهالله) من انه يجوز ان يحمل الستمائة على الأرطال المدنية
ليوافق قول القميين برواية الأشبار الثلاثة بناء على ان الالف والمائتين العراقية توافق رواية
الأشبار بزيادة النصف كما ذكره جماعة : منهم ـ الشهيد في الذكرى. ومن ثم عدل بعض
متأخري المتأخرين عن كيفية الاستدلال بالرواية إلى نحو آخر ، فقال : «لو لم يحمل
على العراقي لم يمكن الجمع بين روايات الأرطال ، بخلاف ما لو حمل عليه ، فإنها
تجتمع على ذلك».
ويرد على
الخامس أيضا (أولا) ـ ان الأصل المذكور اما عبارة عن الدليل ، وليس إلا الخبر
المتقدم في الوجه الأول وأمثاله. وقد عرفت ما فيه. واما عبارة عن الحالة السابقة
أو الحالة الراجحة التي إذا خلي الشيء ونفسه ، وكل منهما قد اخرج عنه معلومية
ملاقاة النجاسة ، فاستصحابها في موضع النزاع فرع صحة الاستدلال بالاستصحاب في مثل
ذلك ، وقد حققنا لك في المقدمة الثالثة بطلانه وهدمنا أركانه ، فإنه بتجدد الحالة الثانية أعني
ملاقاة النجاسة هنا لا يمكن الجزم بالبقاء على الحكم الأول.
و (ثانيا) ـ ايضا
ان المستفاد ـ من قوله (عليهالسلام) : «إذا بلغ الماء
__________________
كرا لم ينجسه شيء» . وأمثاله ـ ان حصول الكرية موجب لعدم الانفعال
وانتفاءها موجب للانفعال ، فإذا حصل الشك في الكرية كان حكمها في الانفعال وعدمه
مشكوكا فيه ، وتعيين أحدهما يحتاج الى دليل (فان قيل) : الدليل هو العمومات الدالة
على طهارة الماء (قلنا) : العمومات على تقدير تسليمها مخصوصة بالخبر المذكور ،
والشك إنما حصل في كون محل النزاع فردا للمخصص أم لا ، فتعيين أحدهما يحتاج الى
دليل.
احتج الآخرون
بان الحمل على المدني يقتضي الاحتياط ، حيث ان الأقل مندرج تحته. وبأنه (عليهالسلام) كان من أهل المدينة ، فالظاهر انه (عليهالسلام) أجاب بما هو المعهود عنده.
وأجيب عن الأول
بأن الاحتياط ليس بدليل شرعي. مع انه معارض بمثله ، فان المكلف مع تمكنه من
الطهارة المائية لا يسوغ له العدول إلى الترابية ، ولا يحكم بنجاسة الماء إلا
بدليل شرعي ، فإذا لم يقم على النجاسة فيما نحن فيه دليل كان الاحتياط في استعمال
الماء لا في تركه. وعن الثاني بأن المهم في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل ،
وذلك إنما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاحه ، ولم يعلم ان السائل كان مدنيا ،
وغالب الرواة عنه (عليهالسلام) كانوا من أهل العراق ، فلعل السائل كان منهم حملا على
الغالب.
(قلت) : ويؤيد
بأن المرسل وهو ابن ابي عمير كان عراقيا ، وبجوابه (عليهالسلام) ـ لمحمد بن مسلم الذي هو من الطائف توابع مكة ـ بستمائة
رطل المتعين أو الظاهر حملها على الأرطال المكية. لما تقدم ، وبقوله (عليهالسلام) في حديث الكلبي النسابة لما سأله عن الشن الذي ينبذ فيه التمر للشرب والوضوء : «وكم
كان يسع
__________________
من الماء؟ فقال ما بين الأربعين إلى الثمانين الى ما فوق ذلك. فقلت : بأي
الأرطال؟ قال : أرطال مكيال العراق».
وأجاب المحقق
الشيخ حسن في المعالم ـ عن المعارضة الموردة على الجواب الأول ـ بأن الأخبار
الدالة على اعتبار الكرية اقتضت كونها شرطا لعدم انفعال الماء بالملاقاة ، فما لم
يدل دليل شرعي على حصول الشرط يجب الحكم بالانفعال ، ثم قال : «وبهذا يظهر ضعف
احتجاجهم بالأصل على الوجه الذي قرروه ، لان اعتبار الشرط مخرج عن حكم الأصل».
وفيه نظر ، لان
كون الكرية شرطا لعدم الانفعال لا يقتضي الحكم بالانفعال في صورة عدم العلم بالشرط
، إذ عند عدم الشرط في الواقع ينتفي المشروط لا عند عدم العلم به. على انه معارض
بأن الأخبار المذكورة كما تدل على كون الكرية شرطا لعدم الانفعال كذلك تدل على كون
القلة شرطا للانفعال ، فما لم يدل دليل على حصول الشرط يجب الحكم بعدم الانفعال.
والظاهر ان
ابتناء ما ذكره في المعالم على ما اشتهر بينهم ، وبه صرح والده (قدسسرهما) في تمهيد القواعد في مبحث تعارض الأصلين ، حيث قال : «إذا
وقع في الماء نجاسة وشك في بلوغه الكرية فهل يحكم بنجاسته أو طهارته؟ فيه وجهان (أحدهما)
ـ الحكم بنجاسته ، وهو المرجح ، لأن الأصل عدم بلوغه الكرية. و (الثاني) ـ انه
طاهر ، لأن الأصل في الماء الطهارة. ويضعف بأن ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل لأن
ملاقاتها سبب في تنجيس ما تلاقيه» ثم ذكر ما يدل على ان هذا هو القول الشائع بين
الفقهاء. انتهى. وفيه ـ بمعونة ما قررناه سابقا ـ توجه المنع الى قوله : «بأن
ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل» فإن مجرد ملاقاة النجاسة لا يوجب التنجيس كما ذكره
، بل مع القلة. وهي غير متحققة.
والتحقيق ـ في
هذا المقام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهمالسلام) ـ ان يقال : ان مقتضى الأخبار الواردة في الكر ـ القائلة
بأنه إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء ، الدالة بمنطوقها على انه مع العلم ببلوغ
الكرية لا ينجسه شيء ، وبمفهومها الذي هو حجة صريحة صحيحة على انه مع العلم بعدم
بلوغه كرا ينجس بالملاقاة ـ تعليق الحكم بنجاسة ذلك الماء على العلم بعدم بلوغه
كرا ، وتعليق الحكم بطهارته على العلم ببلوغه كرا ومقتضى هذين التعليقين ـ ومقتضى الأخبار الدالة على
وجوب التوقف في كل ما لم يعلم حكمه على التعيين ـ هو وجوب التوقف عن الحكمين
والوقوف على جادة الاحتياط في العمل. قولهم ـ : الاحتياط ليس بدليل شرعي ـ على
إطلاقه ممنوع ، لما عرفت في المقدمة الرابعة من ان الاحتياط في مثل هذه الصورة من
الأدلة الشرعية كما صرحت به الاخبار ، ومنها : الخبران المتقدمان والمعارضة التي ذكرها المجيب مندفعة بأنه قد ظهرت
الدلالة على وجوب الاحتياط ، وانه دليل شرعي على وجوب الاجتناب عن هذا الماء ،
فالاحتياط الذي ذكره المعارض غير متجه. وان أردت مزيد إيضاح للفرق بين الاحتياط
الواجب الذي هو أحد الأدلة الشرعية والمستحب الذي توهموا حمل ذلك الفرد الآخر عليه
، فارجع الى ما حققناه في المقدمة المذكورة. على ان قول القائل : الأصل عدم بلوغ
الكرية لا ينطبق على شيء من معاني الأصل التي صرحوا بها كما تقدم في المقدمة
الثالثة في بحث
__________________
البراءة الأصلية وحينئذ فمقتضى الاحتياط الواجب في هذا الماء متى لاقته
النجاسة هو التوقف في الحكم بالطهارة أو النجاسة وترك استعماله والانتقال الى
التيمم ، ومقتضى الاحتياط المستحب الوضوء بعد ذلك والقضاء. واما الوضوء به وضم
التيمم ـ ثم يتطهر بعد حصول الماء ويطهر ما لاقى الماء الأول كما ذكره البعض بدون
القضاء بعد ذلك ـ فلا يخفى ما فيه.
(الطريق الثاني)
ـ هو معرفة الكر بالمساحة ، وقد اختلف فيه الأصحاب (رضوان الله عليهم).
فالمشهور انه
ما كان كل واحد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار ونصف ، ومبلغ تكسيره اثنان وأربعون
شبرا وسبعة أثمان شبر. وقيل : ما كان كل واحد من أبعاده ثلاثة أشبار ، ومبلغ تكسيره
سبعة وعشرون شبرا ، وهو مذهب القميين ، واختاره جملة من المتأخرين منهم : العلامة
في المختلف والشهيد الثاني في الروضة والروض والمولى الأردبيلي والمحقق الشيخ علي
في حواشي المختلف ، ونفى عنه البعد في كتاب الحبل المتين وقيل : ما بلغ تكسيره نحو
مائة شبر ، ونقل عن ابن الجنيد. وقيل : ما بلغت ـ أبعاده الثلاثة ـ عشرة ونصفا ،
ونقل عن القطب الراوندي. وقيل : ما بلغ تكسيره ستة وثلاثين شبرا ، وهو ظاهر المحقق
في المعتبر ، واليه مال السيد في المدارك كما سيأتي إيضاحه ان شاء الله تعالى.
وقيل بالاكتفاء بكل ما روي ، وعزي الى السيد جمال الدين ابن طاوس (قدسسره).
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة رواية أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال : إذا كان الماء
ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه. فذلك الكر من الماء».
__________________
ورواية الحسن
بن صالح الثوري عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكر ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار
ونصف عرضها».
وصحيحة إسماعيل
بن جابر عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له : الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال :
ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته».
وصحيحته الأخرى
عنه (عليهالسلام) قال : «الكر ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار».
وقال الصدوق (طاب
ثراه) في كتاب المجالس : «روي ان الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولا في ثلاثة
أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا».
وقال في كتاب
المقنع : «روي ان الكر ذراعان وشبر في ذراعين وشبر».
وتنقيح البحث
في هذه الأخبار مع ما يتعلق بها من كلام علمائنا الأبرار يتم برسم فوائد :
__________________
(الاولى) ـ قد
اتفقت هذه الاخبار ما عدا رواية المجالس في عدم ذكر البعد الثالث وظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروض ان رواية أبي
بصير قد اشتملت على الأبعاد الثلاثة ولكن أحدها وهو العمق لم يذكر تقديره. وقد
تكلف شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين لبيان اشتمالها على مقادير الأبعاد
الثلاثة بإعادة الضمير في قوله : «مثله» الى ما دل عليه قوله (عليهالسلام) : «ثلاثة أشبار ونصفا» أي في مثل ذلك المقدار لا في
مثل الماء ، إذ لا محصل له ، وكذا الضمير في قوله (عليهالسلام) : «في عمقه» أي في عمق ذلك المقدار في الأرض. وفيه انه
يؤذن بكون قوله : «في عمقه من الأرض» كلاما منقطعا ، وبه يكون الكلام متهافتا
معزولا عن الملاحة لا يليق نسبته بتلك الساحة البالغة أعلى درجات البلاغة والفصاحة
، بل الظاهر من قوله : «في عمقه» انه اما حال من «مثله» أو نعت «لثلاثة أشبار»
الذي هو بدل من «مثله» وعلى هذا تكون الرواية مشتملة على بيان مقدار العمق مع أحد
البعدين الآخرين ، والبعد الثالث متروك.
وبالجملة فهذه
الاخبار كلها مشتركة في عدم عد الأبعاد الثلاثة ولم أجد لها رادا من هذه الجهة ، بل ظاهر الأصحاب قديما
وحديثا الاتفاق على قبولها وتقدير البعد الثالث فيها ، لدلالة سوق الكلام عليه ،
وكان ذلك شائعا كثيرا في استعمالاتهم وجاريا دائما في محاوراتهم ، ومنه : قول جرير
:
كانت حنيفة
أثلاثا فثالثهم
|
|
من العبيد
وثلث من مواليها
|
وعد بعضهم من
ذلك قوله (صلىاللهعليهوآله) : «حبب الي من دنياكم ثلاث :
__________________
الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة» . قال : «فإن الصلاة ليست من لذة الدنيا ، فهو (صلىاللهعليهوآله) لما عد من ملاذ الدنيا اثنتين عزفت نفسه المقدسة عن
ذكر الثالثة. فكأنه يقول : مالي ولملاذ الدنيا؟ قرة عيني في الصلاة ، فالواو
الثانية استينافية.
(أقول) : وهو
معنى لطيف مناسب لذلك المقام المنيف ويؤيده أيضا
__________________
جملة من الأخبار ومما يدخل في حيز هذا المقام قوله تعالى : «فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ» ففي الحديث عن الصادق (عليهالسلام) في تفسير هذه الآية «أنها ثلاث آيات : مقام إبراهيم
حيث قام على الحجر فأثر فيه قدماه ، والحجر الأسود ، ومنزل إسماعيل» .
وللمحدث الأمين
في كتاب الفوائد المدنية هنا كلام في توجيه عدم ذكر البعد الثالث في هذه الأخبار ،
قال : «ومن أغلاط جمع منهم انهم يقولون في كثير من الأحاديث الواردة في كمية الكر
: أنها خالية عن ذكر أحد الأبعاد الثلاثة. لكنه محذوف ليقاس المحذوف على المذكور ،
والحذف مع القرينة شائع ذائع. وفي هذا دلالة على إسراعهم في تفسير الأحاديث وفي
تعيين ما هو المراد منها ، والدلالة على ذلك كله ان أصح أحاديث هذا الباب هكذا : «ذراعان
عمقه في ذراع وشبر سعته» . وجه الدلالة انه يفهم اعتبار أربعة أشبار في العمق
وثلاثة في الأخيرين. فلم تبق دلالة على ان حكم المحذوف حكم المذكور مع وجود هذا
الاحتمال ، وانه يفهم من هذا الحديث الشريف ان المراد من أحد المذكورين في
الأحاديث العمق ومن الآخر السعة ، ومن المعلوم عند كل لبيب غير غافل ان معنى السعة
مجموع الطول والعرض ، فلا حاجة الى القول بالحذف ، ومن له أدنى معرفة بأساليب كلام
العرب يعرف انهم يقصدون بقولهم :
__________________
ثلاثة في ثلاثة ـ في الثوب وشبهه ـ ان كل واحد من طوله وعرضه ثلاثة ،
ويقصدون ـ في الحياض والآبار وشبههما ـ ان كل واحد من سعته وعمقه ثلاثة. وتوضيح
المقام ان الكر في الأصل مكيال أهل العراق ، وإنما جرت عادة الأئمة (عليهمالسلام) بذكر لفظ الكر في معرض بيان الفرق بين مقدار الماء الذي
ينجس بمجرد ورود النجاسة عليه ، وبين مقدار الماء الذي ليس كذلك. لان مخاطبهم (عليهمالسلام) كان من أهل العراق ، ومن المعلوم ان الكر مدور مثل
البئر ، ومن المعلوم ان المناسب بمساحة المدور ان يذكر قطره وان يذكر عمقه ، وغير
مناسب ان يذكر طوله وعرضه وعمقه» انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو كلام جيد
منطبق على تلك الروايات سالم من تلك التقديرات سيما الصحيحة التي أشار إليها ،
فإنها ظاهرة فيه بعيدة الحمل جدا على ما ينافيه ، إلا ان الأصحاب (رضوان الله
عليهم) ـ قديما وحديثا ، اخباريهم ومجتهدهم ـ كلهم على اعتبار الأبعاد الثلاثة في
تقدير الكر وحمل الروايات على ذلك ، وليس ذلك خاصا بالمجتهدين كما زعمه (قدسسره) وجعله من جملة اغلاطهم ، بل هذا الصدوق (قدسسره) في الفقيه والمقنع صرح باعتبار الأبعاد الثلاثة. فقال
في الفقيه : «والكر ثلاثة أشبار طولا في عرض ثلاثة أشبار في عمق
ثلاثة أشبار» ونحوه في المقنع والمجالس استنادا إلى صحيحة إسماعيل بن جابر الثانية الناطقة بأن الكر ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار. وما ذاك
إلا بتقدير البعد الثالث فيها ، وتبعه على ذلك القميون الذين هم أساطين الأخباريين
، ولكنه (طاب ثراه) حيث كان مولعا بتتبع عثرات المجتهدين عثر
__________________
من حيث لا يشعر فخص ذلك بالمجتهدين ، بل نسبه الى جمع منهم مؤذنا بزيادة
ضعفه وتمريضه.
ولا يخفى انه
على تقدير ما ذكره لا يبلغ تكسير الكر الى القدر الذي اعتبروه على تقدير اعتبار
البعد الثالث في كل من الروايات. ولكنه (طاب ثراه) قد بنى ذلك على ما تقدمت
الإشارة إليه آنفا من اعتبار الاجتماع في ماء الكر ، وبذلك صرح في
تعليقاته على شرح المدارك ، فقال ـ بعد ان نقل ان المشهور بين الأصحاب حمل لفظ (في)
الواقع في روايات هذا الباب على ضرب الحساب ، وانهم استفادوا منه التكسير ، وفرعوا
على ذلك انه لو كان قدر الكر من الماء منبسطا على وجه الأرض لا ينفعل بالملاقاة ـ ما
لفظه : «وفيه اشكال ، وذلك لان المتبادر من سياق الروايات اعتبار اجتماع اجزاء
الماء ، وكون عمقه قدرا يعتد به ، والاعتبار العقلي مساعد على ذلك ، لأنه حينئذ
يتقوى بعضها ببعض ، وتتوزع النجاسة الواقعة فيه على اجزائه ويؤيده ان الكر في
الأصل مكيل معروف لأهل العراق ، والعادة في هيئات المكاييل ان يكون لها عمق يعتد
به. وبعد التنزل نقول : مع قيام الاحتمال لا مجال للاستدلال على ان إجمال الخطاب
يوجب رعاية الاحتياط كما مر تحقيقه» ثم أورد صحيحة محمد ابن مسلم الدالة على السؤال عن غدير ماء مجتمع تبول فيه الدواب
وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء». وصحيحة
صفوان ابن مهران الجمال المتضمنة للسؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها
السباع وتلغ فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها. قال : «وكم
قدر الماء؟ قال : الى نصف الساق والى الركبة. فقال : توضأ منه». وصحيحة إسماعيل بن
جابر المذكورة في كلامه آنفا .
__________________
ولا يخفى ان ما
ذكره (قدسسره) وان احتمل احتمالا قريبا الا انه لا دليل عليه صريحا ،
فكما انه بهذا الاحتمال لا يتعين القول المشهور ، فكذلك ما ذكره لا يتعين ، لعدم
الدلالة الصريحة أو الظهور ، بل الظاهر ان العمل على إطلاقات الأخبار أظهر ،
والأسئلة عن المياه المجتمعة ـ مع الإغماض عن المناقشة في كيفية هذا الاجتماع ـ وان
ظهر في بعضها ما يؤيد ما ذكره لا يدل على التخصيص في الجواب كما تقرر في محله.
(الثانية) ـ قد
طعن جملة من المتأخرين ـ منهم : السيد في المدارك ـ في سند رواية أبي بصير بضعف الطريق باشتماله على احمد بن محمد بن يحيى ، فإنه
مجهول ، وعثمان بن عيسى ، فإنه واقفي ، وابي بصير ، فإنه مشترك بين الثقة والضعيف وفيه ان لفظ احمد بن محمد بن يحيى وان وقع في التهذيب
لكن الموجود في الكافي محمد بن يحيى عن احمد بن محمد ، ولا ريب انه أحمد بن محمد
بن عيسى ، لرواية محمد ابن يحيى العطار عنه ، وروايته هو عن عثمان بن عيسى مكررا.
والظاهر ان ما في التهذيب تصحيف ، ولهذا ان جملة من متأخري المتأخرين لم يطعنوا في
السند إلا بعثمان بن عيسى وابي بصير ، وكأنهم لاحظوا الرواية من الكافي. لكن
الراوي عن ابي بصير هنا هو ابن مسكان ، ولا يخفى على الممارس انه عبد الله ، وهو
قرينة ليث المرادي ، لتكرر روايته عنه في غير موضع ، والمدار في تعيين الرواة
عندهم إنما هو على القرائن التي من جملتها قرينة القبلية والبعدية ونحوهما. إلا ان
الفاضل الشيخ محمد ابن المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني ذكر في بعض
حواشيه على التهذيب أو الاستبصار ، قال : «نقل بعض مشايخنا ان رواية ابن مسكان
__________________
عن ابي بصير تعين كونه ليث المرادي. ولا يخلو من تأمل ، لما قاله الوالد (رحمهالله) من انه اطلع على رواية فيها ابن مسكان عن يحيى بن
القاسم ، وأظن اني وقفت على ذلك ايضا» انتهى.
(أقول) : لم
نقف بعد الفحص والتتبع الزائد في كتب الأخبار على ذلك إلا انهم ذكروا ايضا ان
رواية عاصم بن حميد عن ابي بصير مما يعين كونه ليث المرادي وقد وقفت في كتاب
الاستبصار في باب وقت صلاة الفجر على رواية عاصم بن حميد عن ابي بصير المكفوف ،
ومثله في التهذيب ايضا ، لكن الموجود في الفقيه والكافي في هذا السند بعينه عن ابي
بصير ليث المرادي والمتن بحاله ، لكن فيه زيادة في رواية الشيخ في آخر الحديث ليست
في رواية ذينك الشيخين.
وكيف كان ، ولو
مع تقدير صحة رواية الشيخ وعدم تطرق احتمال الغلط أو السهو فيما نقله ، فلا شك ان
الحمل على الأكثر المتكرر قرينة مرجحة كما صرحوا به في أمثال ذلك.
هذا ، وقد ذهب
الفاضل ملا محمد باقر السبزواري الخراساني صاحب الكفاية وذخيرة المعاد في شرح
الإرشاد ـ في الشرح المذكور ـ الى ان أبا بصير الذي هو يحيى بن القاسم أو ابن ابي
القاسم ثقة ، وان المطعون فيه بالوقف والضعف إنما هو يحيى بن القاسم غيره ، وأبو
بصير إنما هي كنية الأول خاصة ، وإنما نشأ الاشتباه من العلامة في الخلاصة ، وإلا
فكتب علماء الرجال المتقدمين صريحة في التعدد. واستدل على ذلك بوجوه : (منها) ـ ان
أبا بصير اسدي كما يظهر من رجال النجاشي والكشي واختيار الرجال والخلاصة ورجال
العقيقي ، والآخر أزدي كما يفهم من رجال الكشي. و (منها) ـ انه ذكر الشيخ في (قر) يحيى بن ابي القاسم يكنى أبا بصير مكفوف ، واسم ابي
القاسم إسحاق. وقال بعده بلا فصل : يحيى بن ابي القاسم
__________________
الحذاء. وهذا يشهد بالمغايرة ، وفي (ظم) يحيى بن القاسم الحذاء واقفي ، ثم قال : يحيى بن ابي
القاسم يكنى أبا بصير. وهو أيضا يعطي المغايرة. و (منها) ـ انه ذكر النجاشي والشيخ
في اختيار الرجال : ان أبا بصير مات سنة خمسين ومائة ، وهذا ينافي كونه واقفيا ،
لأن وفاة الكاظم (عليهالسلام) في سنة ثلاثة وثمانين ومائة. وكلامه (قدسسره) وان كان للمناقشة فيه مجال إلا انه لا يخلو من قرب.
وكيف كان
فالمفهوم من تتبع الأخبار الواردة ـ وخطاب الأئمة (عليهمالسلام) معه زيادة على ما قد روي في مدحه ـ جلالة شأنه.
والاخبار الواردة بذمة قد ورد مثلها بل أشنع منها في من هو أجل قدرا وأشهر ذكرا
منه ، والجواب في الموضعين واحد. على انا لا نرى الاعتماد في صحة الأخبار على هذا
الاصطلاح ، بل عملنا إنما هو على اصطلاح متقدمي علمائنا (رضوان الله عليهم) كما
قدمنا إيضاحه بأتم إيضاح وافصحنا عنه أي إفصاح.
ومن ذلك يعلم
الكلام أيضا في عثمان بن عيسى ، فإنه وان كان مما لا خلاف في كونه واقفيا الا ان
الكشي نقل فيه قولا بأنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. مضافا الى ما
نقله الشيخ في كتاب العدة مما يؤذن بالاتفاق على العمل بروايته ورواية أمثاله من
ثقات الواقفية والفطحية. وهذا مع ان جملة منهم صرحوا بان ضعفها منجبر بالشهرة ،
والأمران اصطلاحيان ، وحينئذ فالرواية معتمدة.
وقد طعن جماعة
من متأخري المتأخرين ـ منهم : المحقق الشيخ حسن في المنتقى ، والسيد في المدارك ،
وتبعهما جمع ممن تأخر عنهما ـ في صحيحة
__________________
إسماعيل بن جابر الثانية التي هي مستند القميين ، قال في كتاب المنتقى بعد ذكر
الحديث المشار اليه : «وهذا الحديث قد نص جمهور المتأخرين من الأصحاب على صحته.
وليس بصحيح ، لان الشيخ رواه في موضع آخر من التهذيب عن الشيخ المفيد (رحمهالله) عن احمد بن محمد عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن احمد
بن محمد عن محمد ابن خالد عن محمد بن سنان عن إسماعيل بن جابر ، فأبدل عبد الله
بمحمد ، والراويان قبل وبعد متحدان كما ترى ، فاحتمال روايتهما له منتف قطعا ،
لاختلافهما في الطبقة ، وقد ذكرنا في فوائد المقدمة ان الذي يقتضيه حكم الممارسة
تعين كونه محمدا ، وفي الكافي رواه عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن البرقي عن
ابن سنان ، والظاهر ان هذا صورة ما وقع في رواية البرقي له ، والتعيين من تصرف
الراوي عنه ، فأخطأ فيه المخطئ وأصاب فيه المصيب» انتهى.
وأجاب عن ذلك
شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب مشرق الشمسين ـ بعد ان ذكر الخبر المذكور ـ بما
لفظه : «واما هذا السند فقد أطبق علماؤنا من زمن العلامة (طاب ثراه) الى زماننا
هذا على صحته ولم يطعن أحد فيه. حتى انتهت النوبة الى بعض الفضلاء الذين عاصرناهم (قدس
الله أرواحهم) فحكموا بخطإ العلامة واتباعه في قولهم بصحته ، وزعموا أن ملاحظة
طبقات الرواة في التقدم والتأخر يقتضي ان ابن سنان ـ المتوسط بين البرقي وبين
إسماعيل بن جابر ـ محمد لا عبد الله ، وان تبديل شيخ الطائفة له بعبد الله في سند
هذا الحديث توهم فاحش ، لان البرقي ومحمد بن سنان في طبقة واحدة. فإنهما من أصحاب
الرضا (عليهالسلام). واما عبد الله بن سنان فليس من طبقة البرقي. لأنه من
أصحاب الصادق (عليهالسلام) فرواية البرقي عنه بغير واسطة مستنكرة. وايضا فوجود
الواسطة في هذه الرواية بين ابن سنان وبين الصادق (عليهالسلام) تدل على انه محمد لا عبد الله ، لان زمان محمد متأخر
عن زمانه (عليه
__________________
السلام) بكثير ، فهو لا يروي عنه بالمشافهة ، بل لا بد من تخلل الواسطة.
واما عبد الله ابن سنان فهو من أصحاب الصادق (عليهالسلام) والظاهر انه يأخذ عنه بالمشافهة لا بالواسطة. هذا حاصل
كلامهم. وظني ان الخطأ في هذا المقام انما هو منهم لا من العلامة واتباعه (قدس
الله أرواحهم) ولا من شيخ الطائفة (نور الله مرقده) فان البرقي وان لم يدرك زمان
الصادق (عليهالسلام) لكنه قد أدرك بعض أصحابه ونقل عنهم بلا واسطة ، ألا
ترى الى روايته عن داود بن ابي يزيد العطار حديث من قتل أسدا في الحرم وعن ثعلبة بن ميمون حديث الاستمناء باليد وعن زرعة حديث صلاة الأسير في باب صلاة الخوف وهؤلاء كلهم من أصحاب الصادق (عليهالسلام) فكيف لا تنكر روايته عنهم بلا واسطة وتنكر الواسطة عن
عبد الله بن سنان؟ وايضا فالشيخ قد عد البرقي في أصحاب الكاظم (عليهالسلام) واما تخلل الواسطة بين ابن سنان وبين الصادق (عليهالسلام) فإنما يدل على انه محمد لو لم توجد بين عبد الله وبينه
(عليهالسلام) واسطة في شيء من الأسانيد ، لكنها توجد بينهما كتوسط
عمر بن يزيد في دعاء آخر سجدة من نافلة المغرب وتوسط حفص الأعور في تكبيرات الافتتاح
__________________
وقد يتوسط شخص واحد بعينه بين كل منهما وبين الصادق (عليهالسلام) كاسحاق ابن عمار ، فإنه متوسط بين محمد وبينه (عليهالسلام) في سجدة الشكر وهو بعينه ايضا متوسط بين عبد الله وبينه (عليهالسلام) في طواف الوداع وتوسط إسماعيل بن جابر في سندي الحديثين الذين نحن
فيهما من هذا القبيل. والله الهادي إلى سواء السبيل» انتهى.
(الثالثة) ـ لا
ريب ـ بعد ما عرفت ـ في دلالة رواية أبي بصير على القول المشهور ، ودلالة صحيحة إسماعيل بن جابر على قول القميين.
واما قول ابن
الجنيد فلم نقف له على مستند.
وكذلك قول القطب
الراوندي ، الا ان بعض متأخري المتأخرين حمله على ارادة معنى الجمع والمعية من لفظ
(في) دون الضرب كما هو المشهور. ولا يخفى فيه من البعد ، لما في التحديد بذلك من
التفاوت في التقديرات كما نبه عليه جملة من مشايخنا (طيب الله تعالى مضاجعهم) ،
فان الماء الذي مجموع أبعاده الثلاثة ـ عشرة أشبار ونصف كما تكون مساحته مساوية
لمساحة الكر على القول المشهور ، كما لو كان كل من الأبعاد الثلاثة ثلاثة أشبار
ونصفا ، فقد تكون ناقصة عنها قريبة منها ، كما لو فرض طوله ثلاثة أشبار وعرضه
ثلاثة وعمقه أربعة ونصف شبر ، فان مساحته حينئذ أربعون شبرا ونصف ، وقد تكون بعيدة
عنها جدا ، كما لو فرض طوله ستة وعرضه
__________________
أربعة وعمقه نصف شبر ، فان مساحته اثنا عشر شبرا. وجعل شيخنا الشهيد الثاني
في الروض أبعد الفروض منها ما لو كان كل من عرضه وعمقه شبرا وطوله عشرة أشبار
ونصفا. قال شيخنا البهائي (رحمهالله) بعد نقل ذلك عنه : «وهو محل كلام ، لوجود ما هو أبعد
منه ، كما لو كان طوله تسعة أشبار وعرضه شبرا واحدا وعمقه نصف شبر ، فان مساحته
أربعة أشبار ونصف . وأيضا ففي كلامه (قدسسره) مناقشة أخرى ، إذ الأبعاد الثلاثة في الفرض الذي ذكره
إنما هو اثنا عشر شبرا ونصف لا عشرة ونصف ، ثم قال : هذا. وأنت خبير بان صدور مثل
هذا التحديد العظيم الاختلاف الشديد التفاوت من القطب الراوندي (رحمهالله) لا يخلو من غرابة ، كما ان صدور مثل هذا الكلام من
شيخنا الشهيد الثاني غير خال من غرابة أيضا. ثم الذي يظهر ان مراد القطب الراوندي (رحمهالله) ان الكر هو الذي لو تساوت أبعاده الثلاثة لكان مجموعها
عشرة أشبار ونصفا ، وحينئذ ينطبق كلامه على المذهب المشهور. والله أعلم بحقائق
الأمور» انتهى كلامه (زيد مقامه) ولا يخفى ان ما ذكره أخيرا ـ من الحمل لكلام
الراوندي ـ جيد لو أمكن تطبيق كلامه عليه.
واما ما نقل عن
السيد جمال الدين ابن طاوس من العمل بكل ما روي فهو يرجع في التحقيق الى مذهب
القميين ، فكأنه يحمل ما زاد على الاستحباب.
بقي الكلام في
صحيحة إسماعيل بن جابر الدالة على التحديد بذراعين في العمق في ذراع وشبر في السعة
ويظهر من المحقق في المعتبر الميل الى العمل بها ،
__________________
حيث قال : ـ بعد ان ذكر صحيحة إسماعيل التي هي مستند القميين وطعن فيها بقصور الدلالة ، ثم رواية أبي بصير وطعن فيها بعثمان بن عيسى ، ثم هذه الصحيحة ـ ما لفظه :
«فهذه حسنة ، ويحتمل ان يكون قدر ذلك كرا» انتهى. وربما اعترض عليه بوصفها بالحسن
مع انها في أعلى مراتب الصحة. والجواب عن ذلك ان اصطلاح تقسيم الاخبار الى هذه
الأقسام متأخر عنه ، فهو لم يرد بالحسن المعنى الذي تقرر بينهم وانما أراد الوصف
بما يوجب قبولها والعمل عليها. ويظهر من السيد في المدارك الميل ايضا الى ذلك ،
حيث قال ـ بعد ان ذكر روايتي أبي بصير وإسماعيل الأخرى وطعن فيهما بضعف الاسناد ـ ما صورته : «وأصح ما وقفت
عليه في هذه المسألة من الأخبار متنا وسندا ما رواه الشيخ» وساق الرواية ثم نقل عن المحقق الميل الى العمل بها ، وقال : «وهو
متجه» وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا البهائي في الحبل المتين ، حيث قال بأنه لم
يطلع على قائل بها من الأصحاب. ثم انه (قدسسره) ذكر أن الخبر المذكور غير شديد البعد عن التقدير
المشهور ، فان المراد بالذراع ذراع اليد وهو شبران تقريبا ، وان المراد بكون سعته
ذراعا وشبرا كون كل من طوله وعرضه ذلك المقدار ، فيبلغ تكسيره على هذا التقدير ستة
وثلاثين شبرا.
هذا. ويأتي ـ على
ما نقلنا آنفا عن المحدث الأمين (قدسسره) من تفسيره السعة في الخبر ـ وكذا في جملة الأخبار ـ بمجموع
الطول والعرض الذي هو عبارة عن قطر الدائرة لا كل من الطول والعرض ـ انه لا يخلو
اما ان يخص الكر الذي لا ينفعل بما
__________________
كان على تلك الهيئة ، كما يعطيه ظاهر كلامه من الرد على القول المشهور في
حمل لفظ (في) الواقع في روايات هذا الباب على ضرب الحساب ، وان المتبادر من
الروايات اعتبار اجتماع اجزاء الماء ، وكون عمقه قدرا يعتد به. وفيه تضييق زائد بل
لا يكاد يتفق كر على هذه الهيئة ، واما ان يعتبر الضرب فيه وتحصيل قدر المساحة.
وطريق معرفة ذلك ـ كما هو مذكور في علم المساحة ـ أن يضرب نصف القطر ـ المعبر عنه
في الحديث بالسعة وهو واحد ونصف ـ في نصف المحيط الذي هو تسعة تقريبا ، لما ثبت
هناك ان القطر ثلث المحيط تقريبا ، فيكون نصف المحيط على هذا أربعة ونصفا ، وعند
ضرب واحد ونصف في أربعة ونصف يحصل منه ستة وثلاثة أرباع ، وإذا ضربنا هذا في العمق
الذي هو أربعة يكون الحاصل سبعة وعشرين شبرا ، فيكون موافقا لمذهب القميين. وفيه
انه وان حصل به انطباق صحيحتي إسماعيل بن جابر كل منهما على الأخرى ، الا انه ـ مع مخالفته لما نقلناه
من ظاهر كلامه ـ بعيد غاية البعد ، وان قصر تقدير الكر ـ على شكل الأسطوانة
المستديرة التي لا يعلم تقديرها حقيقة بل تقريبا ، ومع ذلك فمعرفتها بالتقريب
المذكور يتوقف على المهارة في فن علم المساحة والحذاقة في فن علم الهندسة التي
تتعذر على أكثر الناس ـ غير معهود وقوع مثله عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم) بل
ربما يقال غير جائز الوقوع ، فيتعين حينئذ حمل الرواية على ما ذكره شيخنا البهائي
من الستة والثلاثين شبرا. وقال المحدث الأمين في تعليقاته على شرح المدارك : «قد
اعتبرنا الكر وزنا ومساحة في المدينة المنورة فوجدنا رواية ألف ومائتا رطل مع الحمل على العراقي قريبة غاية القرب من هذه الصحيحة » انتهى. والظاهر ان اعتباره بناء على ما ذكره مما يرجع
الى سبعة وعشرين شبرا.
__________________
(الموضع الثالث)
ـ في بيان ضبط الكر بالأوزان المتعارفة في زماننا من المن المتعارف في بلادنا
البحرين (حرسها الله من طوارق الشين) والمن التبريزي المتعارف في جملة من ولايات
العجم (صانها الله تعالى عن العدم).
فنقول : اعلم
ان المتعارف في بلادنا المذكورة ان المن عندهم ـ بالمثاقيل السوقية الموسومة عندهم
بمثاقيل بار ـ خمسمائة مثقال واثنا عشر مثقالا ، وربع المن عندهم أربعة آلاف ، كل
الف بالحساب المتقدم عبارة عن اثنين وثلاثين مثقالا ، والمن ستة عشر ألفا ، ونصف الالف باصطلاحهم قياس ، وهي ستة عشر مثقالا ،
وفي حدود السنة السابعة والثلاثين بعد المائة والالف قد اعتبرنا الصاع بالصنج
المذكور لأجل زكاة الفطرة بالشعير ـ كما ذكره الأصحاب ـ فوجدناه مشتملا على نقصان
فاحش ، ثم اعتبرناه بحساب المثاقيل الشرعية المتفق بين الخاصة والعامة على عدم
تغيرها في جاهلية ولا إسلام ونسبناها الى مثاقيل البحرين ، فكان مبلغ الصاع الشرعي
عبارة عن ثلاثة آلاف بالألف المتقدم في اصطلاحهم ، واثني عشر مثقالا بالمثاقيل
المذكورة عندهم.
واما المن
التبريزي فهو الآن في شيراز وما والاها عبارة عن تسع عباسيات بالفلوس السود ، وكل
عباسية عبارة عن عشرين مرضوفا ، وكل مرضوف غازيان ، وهو عبارة عن أربعة مثاقيل
صيرفية كما اعتبرناه ، فتكون العباسية ـ التي هي عبارة عن عشرين مرضوفا ـ عبارة عن
ثمانين مثقالا صيرفيا ، ويكون المن التبريزي ـ الذي هو عبارة عن تسع عباسيات ـ سبعمائة
مثقال وعشرين مثقالا.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الرطل يقال بالاشتراك ـ كما تقدمت الإشارة اليه ـ على ثلاثة أوزان :
العراقي والمدني والمكي.
__________________
فأما العراقي
فهو مائة وثلاثون درهما كما عليه الأصحاب ، ولا يلتفت الى ما ذكره العلامة مما
قدمنا نقله عنه فإنه غفلة بغير ريبة. وعلى ما ذكره الأصحاب تدل رواية
جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني عن ابي الحسن (عليهالسلام) وفيها «ان الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة بالعراقي ، ثم
قال : وأخبرني انه يكون بالوزن ألفا ومائة وسبعين وزنة». والمراد بالوزنة الدرهم.
وهي مطابقة لما ذكرناه في تقدير العراقي فان تسع هذا المقدار المذكور مائة وثلاثون
كما لا يخفى.
واما الرطل
المدني فإنه مائة وخمسة وتسعون درهما ، وعليه يدل من الأخبار رواية إبراهيم بن
محمد الهمداني عن ابي الحسن (عليهالسلام) المتضمنة أن الصاع ستة أرطال بالرطل المدني ، وان الرطل
مائة وخمسة وتسعون درهما.
واما الرطل
المكي فهو رطلان بالعراقي عند الأصحاب ، ولم أقف في الاخبار على تحديد له ، وحينئذ
فيكون الرطل العراقي ثلثي الرطل المدني ونصف الرطل المكي.
والرطل العراقي
بالمثاقيل الشرعية عبارة عن أحد وتسعين مثقالا شرعيا ، لان كل عشرة دراهم تعدل
سبعة مثاقيل شرعية كما ذكره غير واحد من أصحابنا وغيرهم وبالمثاقيل الصيرفية
ثمانية وستون مثقالا وربع مثقال ، لأن المثقال الصيرفي مثقال وثلث من الشرعي ،
والمثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي ، فكل أربعة مثاقيل شرعية ثلاثة مثاقيل
صيرفية.
والرطل المدني
بالمثاقيل الشرعية عبارة عن مائة مثقال وستة وثلاثين مثقالا ونصف
__________________
مثقال بالتقريب المتقدم ، وبالمثاقيل الصيرفية عبارة عن مائة مثقال
ومثقالين وثلاثة أثمان مثقال كما يظهر بالمقايسة.
ولما كان الصاع
ـ على ما ذكروه وورد به النص أيضا ـ تسعة أرطال بالعراقي وستة بالمدني ، فإذا نسب
الى الرطل العراقي الذي هو أحد وتسعون مثقالا شرعيا يكون مقداره بالمثاقيل الشرعية
ثمانمائة مثقال وتسعة عشر مثقالا ، وإذا نسب اليه بالمثاقيل الصيرفية يكون قدره
ستمائة مثقال وأربعة عشر مثقالا وربع مثقال ، ومن ذلك يعلم حساب نسبته الى الرطل
المدني بالمثاقيل الشرعية والصيرفية بزيادة نصف ما ذكر في العراقي على مقداره.
وحينئذ فإذا
كان المن التبريزي سبعمائة مثقال وعشرين مثقالا صيرفيا ، والرطل العراقي بالمثاقيل
الصيرفية ـ كما تقدم ـ ثمانية وستون مثقالا وربع مثقال ، فكل من تبريزي عشرة أرطال
عراقية ونصف رطل وثلاثة مثاقيل صيرفية وثلاثة أثمان مثقال.
وأنت إذا قسمت
عدد أرطال الكر الذي هو الف ومائتا رطل على عدد المن التبريزي المذكور ، ظهر لك ان
مقدار الكر بالمن التبريزي مائة من وثلاثة عشر منا وثلاثة أرباع من وأربعة وثلاثون
مثقالا صيرفيا وخمسة أجزاء من ستة عشر جزء من مثقال.
ونقل المحدث
الكاشاني (قدسسره) في كتاب الوافي ان المن التبريزي كان في عصره ستمائة
مثقال صيرفي ، فيكون الصاع بالمثقال الصيرفي يزيد عليه بأربعة عشر مثقالا وربع
مثقال ، ثم قال : «ومنه يعلم مقدار الكر بالأرطال وهو مائة من وستة وثلاثون ونصف
بالتبريزي» ولعل منشأ التفاوت بين ما ذكرنا وذكره بزيادة الصنج في هذه الأوقات.
واما الكر بوزن
البحرين فهو عبارة عن ثمانية وعشرين منا وثمن من ، لان
الكر بالأصوع العراقية ـ كما يعلم بالحساب والمقايسة ـ مائة صاع وثلاثة
وثلاثون صاعا وثلث صاع ، والصاع بوزن البحرين ـ كما عرفت ـ عبارة عن ثلاثة آلاف بالصنج المتقدم في اصطلاحهم ،
واثني عشر مثقالا بمثاقيلهم المتقدمة ، وهو ربع منهم الا عشرين مثقالا من مثاقيلهم
، ومتى كررت هذا المقدار بعدد أصوع الكر يظهر لك ما قلناه من كمية الكر بوزنهم وقد وجدت بخط الوالد (طيب الله تعالى مرقده) انه وجد
بخط بعض الفضلاء ما صورته : «وزن الصاع ـ في شهر رمضان من السنة السادسة والثلاثين
بعد الألف ـ ربع والف وأربعة مثاقيل وربع مثقال شيرازي» انتهى. ولا يخفى ما فيه من
التفاوت الزائد بالنسبة الى ما ضبطناه ، وذلك بزيادة الصنج أخيرا كما أشرنا إليه.
الفصل الثالث
في القليل
الراكد ، وتفصيل القول فيه يتم برسم مقامات :
(المقام الأول)
ـ الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) ـ نصا وفتوى ـ في نجاسة
الماء القليل بتغيره بالنجاسة في أحد الأوصاف الثلاثة. إنما الخلاف في النجاسة
بمجرد الملاقاة.
فالمشهور ـ بل
كاد يكون إجماعا بل ادعى عليه في الخلاف في غير موضع الإجماع ـ هو النجاسة.
__________________
وعزي الى الحسن
بن ابي عقيل (رحمهالله) القول بعدم النجاسة إلا بالتغير ، واختار هذا القول
جمع من متأخري المتأخرين.
ولا بد من نقل
الاخبار هنا من الطرفين ، والكلام بما يرفع التناقض من البين فنقول
اما ما يدل من
الاخبار على القول المشهور الذي هو عندنا المؤيد المنصور.
(فمنها) ـ صحيحة
محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل
فيه الجنب ، قال : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء».
و (منها) ـ صحيحة
زرارة قال : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء ـ تفسخ فيه أو لم يتفسخ
ـ إلا ان تجيء له ريح تغلب على ريح الماء».
و (منها) ـ صحيحة
إسماعيل بن جابر قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال : ذراعان عمقه في
ذراع وشبر سعته».
و (منها) ـ صحيحة
عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام)
__________________
عن قدر الماء الذي لا ينجسه شيء. فقال : كر. الحديث».
و (منها) ـ رواية
عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شيء ،
والقلتان جرتان».
و (منها) ـ رواية
أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ولا تشرب من سؤر الكلب إلا ان يكون حوضا كبيرا
يستقى منه».
و (منها) ـ صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة
ثم تدخل في الماء ، يتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا الا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من
ماء».
و (منها) ـ صحيحته
ايضا عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل رعف ـ وهو يتوضأ ـ فتقطر قطرة في
إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا».
و (منها) ـ موثقة
عمار الساباطي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ، لا
يدري أيهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيره. قال : يهريقهما جميعا ويتيمم». وهذا
الحديث رواه الشيخ في موضعين
__________________
من التهذيب ورواه ثقة الإسلام والصدوق أيضا في الموثق عن سماعة .
و (منها) ـ رواية
أبي بصير عنه (عليهالسلام) قال : «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل ان تغسلها فلا بأس
الا ان يكون أصابها قذر بول أو جنابة ، فإذا أدخلت يدك في الماء وفيها شيء من ذلك
فأهرق ذلك الماء».
و (منها) ـ صحيحة
أحمد بن محمد بن ابي نصر قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة. قال : يكفأ
الإناء».
و (منها) ـ موثقة
سماعة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا
بأس إذا لم يكن أصاب يده شيء من المني».
و (منها) ـ موثقته
ايضا قال : «سألته عن رجل يمس الطست أو الركوة ثم يدخل يده في الإناء قبل ان
يفرغ على كفيه ، الى ان قال (عليهالسلام) : وان كان أصابه جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به
إذا لم يكن أصاب يده شيء
__________________
من المني ، وان كان أصاب يده فادخل يده في الماء قبل ان يفرغ على كفيه
فليهرق الماء كله».
و (منها) ـ رواية
أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور فيدخل إصبعه
فيه. فقال : ان كانت يده قذرة فأهرقه ، وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه. الحديث».
و (منها) ـ حسنة
شهاب بن عبد ربه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل ان يغسلها؟ انه لا بأس إذا
لم يكن أصاب يده شيء».
و (منها) ـ موثقة
عمار الساباطي عنه (عليهالسلام) قال : «سئل عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب. فقال :
كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا ان ترى في منقاره دما ، فإذا رأيت في
منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب».
و (منها) ـ موثقة
عمار ايضا عنه (عليهالسلام) انه «سئل عن ماء شربت منه الدجاجة. فقال : ان كان في منقارها قذر لم يتوضأ
منه ولم يشرب ، وان لم تعلم ان في منقارها قذرا فتوضأ منه واشرب».
و (منها) ـ صحيحة
محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الكلب يشرب من الإناء. قال : اغسل
الإناء».
__________________
و (منها) ـ رواية
حريز عمن أخبره عنه (عليهالسلام) قال : «إذا ولغ الكلب في الإناء فصبه».
و (منها) ـ صحيحة
الفضل بن عبد الملك البقباق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة ، الى ان قال : فلم اترك
شيئا إلا سألته عنه ، فقال : لا بأس به ، حتى انتهيت الى الكلب. فقال : رجس نجس لا
تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء».
و (منها) ـ رواية
معاوية بن شريح قال : «سأل عذافر أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير
والحمار والفرس والبغل والسباع ، يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال : نعم اشرب منه
وتوضأ. قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس هو سبع؟ قال : لا والله انه
نجس لا والله انه نجس».
و (منها) ـ حسنة
المعلى بن خنيس قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه
الماء ، أمر عليه حافيا. فقال أليس وراءه شيء جاف؟ قلت : بلى. فقال : لا بأس ، ان
الأرض يطهر بعضها بعضا».
و (منها) ـ ما
رواه الشهيد في الذكرى وغيره في غيره عن العيص
__________________
ابن القاسم قال : «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء. قال : ان كان
من بول أو قذر فليغسل ما اصابه».
و (منها) ـ رواية
ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام
، فان فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو
شرهما ، ان الله لم يخلق خلقا شرا من الكلب وان الناصب أهون على الله من الكلب».
و (منها) ـ رواية
علي بن الحكم عن رجل عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام ، فإنه يغتسل فيه
من الزنا ، ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
و (منها) ـ رواية
حمزة بن احمد عن الكاظم (عليهالسلام) قال : «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام ،
فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
و (منها) ـ موثقة
ابن ابي يعفور المروية في كتاب العلل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إياك ان تغتسل من غسالة الحمام ، ففيها تجتمع
غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم. الحديث».
و (منها) ـ صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) انه
__________________
«سأله عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام. قال : إذا علم انه نصراني
اغتسل بغير ماء الحمام ، الا ان يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل».
و (منها) ـ صحيحته
ايضا عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال :
يغسل سبع مرات».
و (منها) ـ ما
رواه في كتاب قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن حب ماء فيه الف رطل وقع فيه أوقية من
بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال : لا يصلح».
و (منها) ـ رواية
سعيد الأعرج قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجرة تسع مائة رطل من ماء يقع فيها أوقية من دم ،
اشرب منه وأتوضأ؟ قال : لا».
و (منها) ـ رواية
حفص بن غياث عن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) قال : «لا يفسد الماء الا ما كانت له نفس سائلة».
و (منها) ـ رواية
أبي بصير قال : «دخلت أم معبد العبدية على
__________________
ابى عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده ، فقالت : جعلت فداك انه يعتريني قراقر في
بطني ، الى ان قالت : وقد وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق وقد وقفت
وعرفت كراهتك له ، فأحببت أن أسألك عن ذلك. فقال : وما يمنعك من شربه؟ قالت : قد
قلدتك ديني فألقى الله حين ألقاه فأخبره ان جعفر بن محمد أمرني ونهاني فقال : يا
أبا محمد ألا تسمع الى هذه المرأة وهذه المسائل؟ لا والله لا آذن لك في قطرة منه ،
فلا تذوقي منه قطرة ، الى أن قال : ثم قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ما يبل الميل ينجس حبا من ماء ، يقولها ثلاثا» .
و (منها) ـ رواية
عمر بن حنظلة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته
ويذهب سكره؟ فقال :
لا والله ولا
قطرة تقطر في حب إلا أهريق ذلك الحب».
و (منها) ـ صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعا
صغارا فأصاب إناءه ،
__________________
هل يصلح الوضوء منه؟ قال : ان لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس ، وان
كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه».
و (منها) ـ صحيحة
ابن ابي عمير عن بعض أصحابه قال : وما أحسبه إلا حفص بن البختري ، قال : «قيل لأبي
عبد الله (عليهالسلام) : العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال : يباع
ممن يستحل أكل الميتة». وفي رواية اخرى انه «يدفن ولا يباع». والظاهر ان العجن بالماء إنما وقع
قبل العلم بنجاسة الماء حملا لتصرف المسلم على الصحة ، فلا يحمل على كون النجاسة
بالتغير ، إذ التغير لا يشتبه حاله.
و (منها) ـ رواية
علي بن حديد عن بعض أصحابنا قال : «كنت مع ابي عبد الله (عليهالسلام) في طريق مكة فصرنا إلى بئر فاستقى غلام ابي عبد الله (عليهالسلام) دلوا فخرج فيه فأرتان ، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ارقه ، فاستقى آخر فخرجت فيه فأرة ، فقال أبو عبد
الله (عليهالسلام) : ارقه ، قال : فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شيء ،
فقال : صبه في الإناء ، فصبه في الإناء».
هذه جملة ما
وقفت عليه من الاخبار التي تصلح لان تكون مستندا للقول المشهور. وهي كما ترى على
ذلك المطلب واضحة الظهور عارية عن القصور.
وبيان
الاستدلال بها ان جملة منها قد دلت على ان ما نقص عن الكر أو الراوية أو نحوهما من
تلك المقادير ينفعل بالنجاسة ، ودلالتها بمفهوم الشرط الذي هو حجة عند
__________________
المحققين ، وعليه دلت جملة من الاخبار كما قدمنا في المقدمة الثالثة .
وجملة منها قد
تضمنت النهي عن الوضوء والشرب من الإناء بوقوع قطرة من دم فيه أو خمر أو شرب طير
على منقاره دم أو قذر. والنهي حقيقة في التحريم عند محققي الأصوليين ، وقد تقدم ما
يدل على ذلك من الآيات والاخبار في المقدمة السابعة بل وقع التصريح في بعض هذه الاخبار بالتنجيس.
وجملة منها قد
دلت على اهراق ماء الإناء بإدخال اليد القذرة من نجاسة البول أو المني أو غيرهما ،
وفي بعضها بعد الأمر بالإهراق الأمر بالتيمم. وما ذاك جميعه إلا للنجاسة.
وجملة منها قد
دلت على الأمر بغسل الأواني التي شرب منها نجس العين أو وقع فيها ميتة. ومن الظاهر
ان الأمر بالغسل إنما هو للاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة من عبادة أو أكل أو
نحوهما. والأمر للوجوب كما عليه المحققون ، وقد تقدم ما يدل على ذلك أيضا في
المقدمة السابعة وما ذاك إلا للنجاسة.
وجملة منها قد
دلت على النهي عن الغسل بما لاقاه نجس العين معللا في جملة منها بالنجاسة.
وقد أورد على
هذه الاستدلالات جملة من المناقشات ، وسيأتي الكلام فيها على وجه يوضح الحال ويقلع
مادة الإشكال بتوفيق ذي الجلال.
واما ما استدل
به على القول الثاني (فمنها) ـ صحيحة حريز عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من
الماء واشرب. وإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب».
__________________
ورواية عبد
الله بن سنان قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) ـ وانا حاضر ـ عن غدير أتوه وفيه جيفة. فقال : إذا كان
الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضأ».
ورواية سماعة
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة قد
أنتنت. قال : ان كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضأ ولا يشرب».
وحسنة محمد بن
ميسر قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد
ان يغتسل منه ، وليس معه إناء يغرف به ، ويداه قذرتان ، قال : يضع يده ويتوضأ ثم
يغتسل. هذا مما قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» .
ورواية عثمان
بن زياد قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : أكون في السفر ، فآتي الماء النقيع ويدي قذرة.
فأغمسها في الماء؟ قال : لا بأس».
ورواية أبي
بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سأل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال : ان
تغير الماء فلا تتوضأ منه. وان لم تغيره أبوالها فتوضأ منه ، وكذلك الدم إذا سال
وأشباهه».
ورواية أبي
خالد القماط انه «سمع أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة
والجيفة. فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ان كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا
تتوضأ منه ، وان لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ».
__________________
ورواية العلاء
بن الفضيل قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحياض يبال فيها. قال : لا بأس إذا غلب لون الماء
لون البول».
ورواية عبد
الله بن مسكان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه والسنور أو
شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك ، أيتوضأ أو يغتسل منه؟ قال نعم إلا ان تجد غيره
فتنزه عنه».
وروى في الفقيه
«ان النبي (صلىاللهعليهوآله) اتى الماء ، فأتاه أهل البادية فقالوا : يا رسول الله
ان حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم؟ فقال لهم : لها ما أخذت أفواهها
ولكم سائر ذلك».
ورواية أبي
بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : انا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون الى
جانب القرية ، فتكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال ان
عرض في قلبك منه شيء فقل هكذا ، يعني افرج الماء بيدك. ثم توضأ ، فإن الدين ليس
بمضيق.».
وروى العلامة
في المختلف عن ابن ابي عقيل انه قال : تواتر عن الصادق (عليهالسلام) عن آبائه (عليهمالسلام) ان «الماء طاهر لا ينجسه إلا ما غير لونه
__________________
أو طعمه أو رائحته. وانه سئل (عليهالسلام) عن الماء النقيع والغدير وأشباههما فيه الجيف والعذرة
وولوغ الكلب وتشرب منه الدواب وتبول فيه ، أيتوضأ منه؟ فقال لسائله : ان كان ما
فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضأ منه ، وان كان الماء غالبا على النجاسة
فتوضأ واغتسل».
وروى الصفار في
كتاب بصائر الدرجات في الصحيح عن شهاب بن عبد ربه قال : «أتيت أبا عبد الله
(عليهالسلام) أسأله ، فابتدأني فقال : ان شئت فسل يا شهاب وان شئت
أخبرناك بما جئت له ، فقلت : أخبرني. قال : جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه
الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قلت : نعم. قال : توضأ من الجانب الآخر إلا ان يغلب الماء
الريح فينتن».
ورواية أبي
مريم الأنصاري قال : «كنت مع ابي عبد الله (عليهالسلام) في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركي له
فخرج عليه قطعة من عذرة يابسة فأكفأ رأسه وتوضأ بالباقي».
هذه جملة ما
اطلعت عليه من الأخبار مما يصلح لان يكون مستندا لذلك القول. ووجه الاستدلال بها
ان بعضها منها قد دل على جواز الوضوء والشرب من الماء الذي لاقته النجاسة إلا مع
غلبة أوصاف النجاسة ، وبعضا منها على جواز وضع اليد القذرة في الماء والوضوء
والغسل منه ، ولفظ الماء في تلك الاخبار شامل بإطلاقه للقليل والكثير. بل في حسنة
محمد بن ميسر تصريح بالقليل بخصوصه.
وأنت خبير بأنه
لو ثبتت المنافاة بين هذه الاخبار لكان الترجيح للأخبار
__________________
المتقدمة ، لاعتضادها بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا ، فإنه لم ينقل
الخلاف في هذه المسألة قديما إلا عن ابن ابي عقيل ، فشهرة العمل ـ بمضمون الأخبار
الأولة بين قدماء الأصحاب ـ مما يلحقها بالمجمع عليه في الرواية ، الذي هو أحد
المرجحات الشرعية كما تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثالثة وبذلك صرح جملة من أصحابنا منهم : السيد المحقق صاحب
الغنية (قدسسره) وغيره ، وحينئذ فحيث كان معظم الفرقة الناجية ـ سابقا
ولاحقا ـ قائلين بالنجاسة ، فهو دليل على ان ذلك مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) فان مذهبهم إنما يعلم بنقل شيعتهم عنهم ، كما ان مذهب
أبي حنيفة وأمثاله من المذاهب إنما يعلم بنقل اتباعهم وتلامذتهم ، وحينئذ فما خالف
ذلك مما صح وروده عنهم (عليهمالسلام) يتحتم حمله على التقية وان كانت العامة في المسألة ايضا على قولين ، إلا ان
حمل الخبر على التقية لا يتوقف على اتفاق العامة على القول بمضمونه بل ولا على قول
البعض كما عرفته في المقدمة الأولى.
على ان الذي
نقوله ـ وهو التحقيق الحقيق بالاتباع في المقام وان غفلت عنه أقوام ـ ان جل
الأخبار التي استند إليها الخصم لا دلالة لها على ما يدعيه ولا صراحة لها فيما
يعيه. بل الظاهر منها ـ عند التأمل الصادق في مضامينها والنظر في قرائن أحوالها
ومفاهيمها ـ انها منطبقة مع تلك الأخبار على معنى صحيح المعيار واضح المنار ، وان
اختلفت في ذلك الدلالات في بعضها قربا وبعدا بسبب الانس بالقرائن الحالية
والمقالية
__________________
وعدمه. ومن ذلك تطرقت إليها الاحتمالات ، ولكن الناظر البصير والناقد
الخبير إذا ضم بعضها الى بعض وأمعن النظر في عباراتها وما تفيده بصريحها واشاراتها
ظهر له صحة ما ندعيه.
وتوضيح هذه
الجملة أن نقول : الذي ظهر لنا ـ بعد إمعان النظر في الأدلة المتوهم منها المخالفة
ـ أن جلها إنما ورد في السؤال عن مياه الحياض ومياه الغدران ومياه الطرق ، من حيث
عموم الحاجة إليها سيما في الاسفار ، وعموم البلوى بها وإلجاء الضرورة للانتفاع
بها ، وانها حيث كانت معرضا لتلك الأشياء المصرح بها في تلك الأخبار من رمي الجيف
فيها وشرب الكلاب والسباع منها وبول الدواب والناس فيها ونحو ذلك فمن أجل ذلك كثر
السؤال عنها ، وفي بعض تلك الاخبار قد صرح بالماء المسؤول عنه بأنه ماء غدير أو
ماء حوض أو نحوهما ، وفي بعض وان لم يصرح إلا انه يعلم من الرواية بالقرائن انه من
ذلك القبيل. كصحيحة حريز «كلما غلب الماء على ريح الجيفة.». وصحيحة محمد بن مسلم «سأل عن ماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب. إلخ». فإن ماء يكون معرضا
لهذه الأشياء لا يكون إلا في مياه الطرق لكونها مشاعة غير محروزة كما لا يخفى على
المتأمل المنصف دون المكابر المتعسف. وسوق تلك الروايات الباقية على ذلك المنوال
مؤيد لذلك.
إذا عرفت ذلك
فنقول : من الغالب ـ والوجدان يقضي به ايضا ـ ان تلك المياه لا تنفك عن بلوغ
الكرور المتعددة فضلا عن كر واحد. وربما كان لهم (عليهمالسلام) علم ببعض تلك الأماكن المسؤول عنها وانها كذلك.
فأجابوا باعتبار التغير وعدمه ، وربما أجابوا عن ذلك ببلوغ الكرية وعدمه. كما في
صحيحة محمد
__________________
ابن مسلم حين «سأل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب
ويغتسل فيه الجنب. فقال : إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء». وهذه الرواية مقيدة
بتلك الروايات الدالة على اعتبار التغير ، فكأنه قيل : «لم ينجسه شيء إلا التغير»
يدل على ذلك صحيحة زرارة قال «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء ـ تفسخ
فيه أو لم يتفسخ فيه ـ الا ان يجيء له ريح يغلب على ريح الماء».
ويؤيد ما أشرنا
إليه ما رواه صفوان الجمال في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع وتلغ
فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب ، أيتوضأ منها؟ قال : وكم قدر
الماء؟ قلت : الى نصف الساق والى الركبة وأقل. قال : توضأ» . فانظر إلى سؤاله (عليهالسلام) عن قدر عمق الماء ، ولم يسأل عن مساحته ، لعلمه بتلك
الحياض وما هي عليه من السعة ، فلما عرف (عليهالسلام) بلوغه الكثرة التي لا ينفعل معها الماء بمجرد الملاقاة
أمره بالوضوء.
ويدل على ذلك
ايضا جعلهم (عليهمالسلام) مناط النجاسة والطهارة هو التغير وعدمه في تلك
الأحاديث المسؤول فيها عن مثل وقوع الميتة والجيفة وأبوال الدواب ونحوها مما يكون
مغيرا للماء وان كثر غالبا ، دون جعله مناطا لهما في مثل قطرة من بول أو دم أو
منقار طير فيه دم أو إصبع فيها قذر أو نحو ذلك إذا لاقت تلك المياه القليلة. فإن
من الجائز بلوغ الماء في القلة في بعض الأحيان الى ان يكون متغيرا بأحد تلك
النجاسات إذا لاقته ، فينبغي ان يجعل ذلك ايضا مناطا في مثل هذه النجاسات اليسيرة
__________________
إذا لاقت هذا الماء اليسير ولو في حديث واحد ليتمشى لنا حمل الباقي عليه
وان كثر وبالجملة فلو كان التغير وعدمه مناطا كليا ومعيارا مطردا لم ينحصر وروده
في مثل تلك الأحاديث خاصة دون هذه الأحاديث ، مع كثرتها وتعددها وزيادة عموم
البلوى بما تضمنته سفرا وحضرا ، فلما رأينا ـ ان هذه الاخبار الواردة في الماء
القليل المحقق القلة ـ كماء التور وماء الركوة ونحوهما ـ كلها منطبقة الدلالة على
النجاسة ، للنهي عن استعماله والأمر بإهراقه ، وان التغير وعدمه إنما جعل مناطا في
مثل الماء الذي يكون معرضا لنجاسة الجيف وأبوال الدواب ونحوهما مما يغير الماء وان
كثر غالبا ، كمياه الغدران والحيضان ونحوهما مما لا ينفك عن كرور فضلا عن كر غالبا
ـ علمنا ان جعل التغير مناطا هناك إنما هو من حيث الكثرة المانعة من الانفعال
بمجرد الملاقاة الغير القابلة للنجاسة إلا بالتغير ، دون تلك المياه القليلة التي
تنفعل بمجرد الملاقاة. فلا يحتاج فيها الى ذلك المناط المذكور لانفعالها بما دونه.
ومما يزيدك
تأييدا وبيانا انك بالتأمل في السؤالات الواقعة ـ في تلك الأخبار التي جعل مناطها
التغير وعدمه ـ يظهر لك صحة ما قلناه ، حيث ان في بعضها «تبول فيه الدواب» بلفظ
الجمع أعم من أن يكون ذلك دفعة أو دفعات ، وفي بعضها «تردها السباع والكلاب
والبهائم» ومن المعلوم ان ذلك الورود إنما هو للشرب منها دفعة أو دفعات ، كما يشعر
به قوله (صلىاللهعليهوآله) في بعضها : «لها ما أخذت أفواهها» ومن الظاهر البين ان بول
الدابة في الماء إنما هو بعد دخولها فيه للشرب أو لغيره ، ورمي الجيف فيه التي هي
في الغالب في تلك الطرق أما جيفة حمار أو جمل أو فرس أو غنم أو كلب أو غيره من
السباع الكثيرة التردد في تلك الطرق ، ويظهر لك ان ما يكون معرضا لهذه الأشياء لا
تنقص مساحته عن كرور عديدة فضلا عن كر ،
__________________
وما قدر كر من ماء وما قدر مساحته؟ حتى يحتمل انه يقوم بشيء واحد من تلك
الأشياء المعدودة.
ويزيد ذلك أيضا
تأييدا ان الظاهر ان هذه المياه المسؤول عنها كلها من مياه الطرق الواقعة بين مكة
والمدينة ، وبينهما وبين العراقات ونحوهما من الأمكنة التي لا وجود للمياه الجارية
فيها غالبا. ومن المنقول انهم كانوا يعمدون تلك الأيام الى بعض الأمكنة فيجعلون
فيها حياضا تسقى من آبار هناك ، وامكنة يعدونها لاجتماع السيول فيها. كل ذلك لأجل
المسافرين والمترددين في تلك الطرق ، وهي بين الحرمين الى الآن موجودة. وقد أشير
إليها في الروايات بالسقايات وماء السبيل. وهذا بحمد الله كله ظاهر لمن تأمل بعين
الإنصاف في مضامين تلك الاخبار ، وسيأتيك ما فيه زيادة إيضاح للمقام في الكلام على
كلام بعض الاعلام.
نعم يبقى
الكلام في حسنة محمد بن ميسر المسؤول فيها عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في
الطريق ، حيث انها صريحة في كون ذلك الماء قليلا ، مع انه (عليهالسلام) أمره أن يضع يده فيه ويتوضأ ثم يغتسل. وكذا ما روي عنه
(صلىاللهعليهوآله) من قوله : «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما
غير لونه. الحديث» . وكذا رواية أبي مريم الأنصاري .
والجواب (اما
عن الأول) فباحتماله لوجوه نبه عليها أصحابنا (رضوان الله عليهم)
:
__________________
(الأول) ـ ان
يكون المراد بالقليل هو القليل العرفي دون الشرعي.
(أقول) : وهذا
الجواب غير بعيد عن جادة الصواب ، وذلك من حيث ان هذا الماء المشار إليه في
الرواية لما كان من مياه الطرق ـ وقد أوضحنا سابقا انها تبلغ في الكثرة إلى حد
يزيد على الكر أضعافا مضاعفة ـ كان قدر الكر وما زاد عليه يسيرا بالنسبة الى ذلك
قليلا.
(الثاني) ـ ان
يكون المراد بالقذر في اليد هو الوسخ. وفيه بعد. حيث ان المتبادر في الأخبار من
هذا اللفظ هو النجاسة.
(الثالث) ـ ما
ذكره شيخنا البهائي (قدسسره) من ان المراد بالقليل الشرعي لكن مع الجريان. وفيه ما
فيه.
(الرابع) ـ ما
احتمله شيخنا المذكور أيضا في كتاب الحبل المتين ، وهو ان يكون الضمير في (يتوضأ)
عائدا الى الرجل بتجريده عن وصف الجنابة. وفيه بعد ايضا.
(الخامس) ـ ما
يفهم من كلام شيخنا الصدوق (رحمهالله) في الفقيه من حمل ذلك على الرخصة دفعا للحرج والمشقة . حيث قال : «فان دخل رجل الحمام ولم يكن معه ما يغرف به ويداه
قذرتان. ضرب يده في الماء وقال : بسم الله. وهذا مما قال
__________________
الله عزوجل : «ما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وكذلك الجنب إذا انتهى الى الماء القليل في الطريق ولم
يكن معه إناء يغرف به ويداه قذرتان ، يفعل مثل ذلك» انتهى .
(السادس) ـ الحمل
على التقية ، لأن ذلك مذهب كثير من العامة كما ذكره الشيخ (رحمهالله) في الاستبصار ، وأيد بعضهم هذا الحمل بذكر الوضوء مع الغسل ولعل هذا
الحمل أقرب المحامل المذكورة بعد الحمل الأول.
__________________
وبالجملة فبعد
ثبوت الحكم بتلك الأخبار الصحيحة الصريحة المستفيضة ، وانطباق جملة أخبار المسألة
بعضها على بعض على ذلك ، فهذا الخبر لا ينهض بالمعارضة ولا ينوء بالمناقضة.
واما عن الحديث
الثاني فإنا لم نعثر عليه مسندا ولا مرسلا في شيء من كتب
الأخبار التي عليها المدار ، وقد صرح بذلك أيضا جملة ممن تقدم من مشايخنا (عطر الله
تعالى مراقدهم) بل صرح جملة منهم بكونه عاميا وما هذا حاله فلا يصح الاستناد اليه فضلا عن معارضة
الاخبار به. على انا نقول : انه لو ثبت صحته لكان حمله على التقية متعينا ، لما
عرفت آنفا .
هذا. وممن
اختار ـ القول بعدم انفعال القليل بمجرد الملاقاة ـ المحدث الكاشاني ، وقد بالغ في
اعلائه وتشييده ، وتكلف جمع الاخبار عليه وتأييده ، وأكثر من الطعن في أدلة القول
الآخر ، حتى اغتر به بعض من لم يعض على المسألة بضرس قاطع ممن تأخر ، ولأجل ذلك
كتبنا في المسألة المذكورة رسالة تشفي العليل وتبرد الغليل ، موسومة بقاطعة القال
والقيل في نجاسة الماء القليل ، قد نقلنا فيها جميع كلامه وما أطال به من نقضه
وإبرامه ، واردفناه بما يكشف عنه نقاب إبهامه ويقشع غياهب ظلامه.
ولنذكر هنا
جملة أدلته على سبيل الاختصار ، وأجوبته عما يرد عليه من أدلة القول المقابل له في
هذا المضمار ، ونبين ما فيه من القصور عن درجة الاعتبار.
(أحدها) ـ قوله
(صلىاللهعليهوآله) في حديث السكوني عن ابي عبد الله
__________________
(عليهالسلام) : «الماء يطهر ولا يطهر» . حيث قال بعد نقله : «إنما لا يطهر لأنه إن غلب على
النجاسة حتى استهلكت فيه طهرها ولم ينجس حتى يحتاج الى التطهير ، وان غلبت عليه
النجاسة حتى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ولم يقبل التطهير إلا بالاستهلاك
في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شيء».
و (ثانيها) ـ الأخبار
المتقدمة وعد منها حديث «خلق الله الماء طهورا.» . مدعيا استفاضته عنه (صلىاللهعليهوآله).
و (ثالثها) ـ انه
لو كان معيار نجاسة الماء وطهارته نقصانه عن الكر وبلوغه اليه. لما جاز إزالة
الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه ، مع انه جائز بالاتفاق ، وذلك لان كل جزء من
اجزاء الماء الوارد على المحل النجس ، إذا لاقاه كان متنجسا بالملاقاة خارجا عن
الطهورية في أول آنات اللقاء ، وما لم يلاقه لا يعقل ان يكون مطهرا والفرق بين
وروده على النجاسة وورودها عليه ـ مع انه مخالف للنصوص ـ لا يجدي. إذ الكلام في ذلك
الجزء الملاقي ولزوم تنجسه ، والقدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكر لا يقوى على ان
يعصمه بالاتصال عن الانفعال ، فلو كانت الملاقاة مناط التنجيس لزم تنجس القدر
الملاقي لا محالة ، فلا يحصل التطهير أصلا. واما ما تكلفه بعضهم ـ من ارتكاب القول
بالانفعال هناك من بعد الانفصال عن محل النجاسة ـ فمن أبعد التكلفات. ومن ذا الذي
يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها وطهارته حال ملاقاته لها بل
طهوريته؟ نعم يمكن لأحد ان يتكلف هناك بالفرق بين ملاقاة الماء لعين النجاسة وبين
ملاقاته للمتنجس ، وتخصيص الانفعال بالأول. والتزام وجوب تعدد الغسل في جميع
النجاسات كما ورد في بعضها. الا ان هذا محاكمة من غير
__________________
تراضي الخصمين ، فإن القائلين بانفعال القليل لا يقولون به ، والقائلون
بعدم الانفعال لا يحتاجون اليه ، وان أمكن الاستدلال عليه بما ورد في إزالة البول
من الأمر بغسله مرتين إذا غسل في إجانة كما يأتي.
و (رابعها) ـ ان
اشتراط الكر مثار الوسواس ، ولأجله شق الأمر على الناس ، يعرفه من يجربه ويتأمله ،
ومما لا شك فيه ان ذلك لو كان شرطا لكان أولى المواضع بتعذر الطهارة مكة والمدينة
المشرفتين ، إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة ، ومن أول عصر
النبي (صلىاللهعليهوآله) الى آخر عصر الصحابة لم تنقل واقعة في الطهارة ولا
سؤال عن كيفية حفظ الماء من النجاسات ، وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان
والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات بل الكفار ، كما هو معلوم لمن تتبع.
و (خامسها) ـ ان
ما يدل على المشهور إنما يدل بالمفهوم ، والمفهوم لا يعارض المنطوق ولا الظاهر النص. مع ان أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم
تنجس ما دون الكر بملاقاة شيء ما لا كل نجاسة ، فيحمل على المستولية جمعا ، فيكون
المراد لم يستول عليه شيء حتى ينجس اي لم تظهر فيه النجاسة ، فيكون تحديدا للقدر
الذي لا يتغير بها في الأغلب.
و (سادسها) ـ حمل
تلك الأخبار الدالة على النهي عن الشرب والوضوء مما لاقته النجاسة على التنزه
والاستحباب ، حيث قال في كتاب الوافي : «باب ما يستحب التنزه عنه في رفع الحدث
والشرب وما لا بأس به» ثم أورد فيه الأخبار التي قدمناها مما دل على النهي عن
الوضوء من الأواني التي وقع فيها قطرة من بول أو دم والأواني المأمور بإهراقها
لوقوع نحو ذلك فيها.
__________________
و (سابعها) ـ الاختلاف
في تقدير الكر ، قال : «والاختلاف في تقدير الكر يؤيد ما قلناه من انه تخمين
ومقايسة بين قدري الماء والنجاسة ، إذ لو كان امرا مضبوطا وحدّا محدودا لم يقع
الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة ولا وزنا ، وقد وقع الاختلاف فيهما جميعا».
و (ثامنها) ـ ما
ذكره في تأويل الروايات الدالة على اشتراط الكرية. بجملها على انها مناط ومعيار
للمقدار الذي لا يتغير من الماء بما يعتاد وروده من النجاسات حيث قال في كتاب
الوافي : «باب قدر الماء الذي لا يتغير بما يعتاد وروده من النجاسات» ثم أورد
أخبار الكر.
هذا خلاصة ما
اعتمد عليه في كتاب الوافي والمفاتيح من الاستدلال. ودفع ما يقابله من الأقوال.
وللنظر فيه مجال وأي مجال.
(اما الأول) فلأن ما ذكره في معنى الخبر لا يتحتم الحمل عليه ليكون
دليلا يجب المصير إليه ، فإنه من المحتمل قريبا ما صرحنا به في آخر المقالة الأولى
من الفصل الأول من ان معنى قوله (عليهالسلام) : «الماء لا يطهر» انه متى تنجس ولو بالملاقاة فطهره
إنما يكون بممازجة الكثير له على وجه يستهلك الماء النجس كما هو أحد القولين في
المسألة كما تقدم. وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا ، لاضمحلال الماء النجس حينئذ.
وعلى هذا ففي الخبر دلالة على اعتبار الممازجة دون مجرد الملاقاة كما هو القول
الآخر. ويمكن ايضا الحمل على المعنى الأول الذي قدمنا ذكره ثمة .
__________________
و (اما الثاني)
فقد عرفت ما فيه مما قدمناه والعجب منه (قدسسره) في دعوى استفاضة حديث «خلق الله الماء طهورا.» مع ما
عرفت من انه لم يثبت من طرقنا لا مسندا ولا مرسلا ، وكأنه اغتر بكلام صاحب المدارك
هنا ، حيث انه صرح باستفاضته أيضا في مقالة تنجس الماء بتغير أحد أوصافه الثلاثة ،
حيث قال بعد الحكم المذكور : «والأصل فيه الأخبار المستفيضة كقوله (صلىاللهعليهوآله) : خلق الله الماء طهورا. إلخ» إلا ان فيه انه وان وصفه
هنا بذلك لكنه ـ بعد ذلك في مقالة نجاسة البئر بالملاقاة ، حيث أنكر ورود نجاسة
الماء بالتغير اللوني ـ طعن في الخبر المذكور بأنه عامي مرسل ، كما قدمنا الإشارة
إليه عن جملة من الأصحاب .
و (اما الثالث)
ففيه انه لا منافاة بين تنجسه وحصول التطهير به في حال واحد ، ولا استبعاد
في ذلك إذا اقتضته الأدلة الشرعية.
وتحقيق ذلك ان
أقصى ما يستفاد من الاخبار هو عدم جواز التطهير بما تنجس قبل ارادة التطهير به لا
بما تنجس بسبب التطهير به. وبهذه المقالة صرح جمع من فحول المحققين منهم : المولى
الأردبيلي والمحقق الخوانساري وشيخنا صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل والفاضل
المتأخر الخراساني ، ومنهم : والدي (نور الله مراقدهم وأعلى في الفردوس مقاعدهم)
واستبعاد ذلك مدفوع بوجود النظير ، فإنهم صرحوا بوجود طهارة أحجار الاستنجاء وان
النجس منها لا يطهر ، مع انها حين الاستعمال تنجس بمجرد ملاقاة النجاسة ، ولا يكون
ذلك مانعا من حصول التطهير بها. وايضا خروج الماء المستعمل في الطهارة الكبرى عن
الطهورية ـ على تقدير القول به ـ إنما هو بسبب
__________________
استعماله وملاقاته لبدن الجنب وقت الغسل ، مع ان ذلك لا يمنع من حصول
التطهير بهذا المستعمل.
وبالجملة فأقصى
ما يستفاد من الدليل ـ بالنسبة إلى اشتراط الطهارة في الماء الذي تزال به النجاسة
ـ هو طهارته قبل ملاقاة النجاسة. واما طهارته حال الملاقاة فلا دليل عليه. وعدم
الدليل على ذلك دليل على العدم ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم الا بعد
البرهان كما تمسك به هذا القائل في جملة من المواضع ، وحينئذ فهو حال الملاقاة
يفيد التطهير وان تنجس بذلك ، فقوله حينئذ : «إذا لاقاه كان متنجسا بالملاقاة
خارجا عن الطهورية» في محل المنع.
ومن أقوى الشبه
في المقام ـ كما تمسك به بعض الاعلام بعد وقوعه في شبك الإلزام ـ انه لو وضع شيء
نجس في ماء قليل على هذا القول ، فبعد طهارة المحل حال الملاقاة وانتقال النجاسة
إلى الماء إما ان ينجس ذلك الشيء بالماء أم لا. لا سبيل الى الثاني لأن الماء قد
صار نجسا بملاقاة النجاسة له أولا ، فتتعدى نجاسته الى ذلك الشيء ويعود الاشكال
بحذافيره.
والى ذلك أيضا
أشار المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) ، حيث انه ممن اختار تخصيص نجاسة القليل بالملاقاة
بورود النجاسة دون العكس ، كما هو مذهب المرتضى (رضياللهعنه) ، فعنده ان تطهير النجاسة بالقليل مخصوص بورود الماء
على النجاسة دون العكس ، فإنه يصير الماء نجسا ولا يطهر به المحل ، ولهذا قال ـ بعد
نقل القول بالتطهير بالقليل في صورة ورود النجاسة على الماء مع نجاسة الغسالة ـ ما
صورته : «قلت : في هذا القول التزام تنجس الماء بالمحل وتطهير المحل به. والتزامه
مشكل. وايضا فيه التزام عدم تنجس المحل بالماء النجس. وهو بعيد غاية البعد» انتهى.
وفيه ان ما استبعده من ذلك مردود بأنه بعد قيام الدليل على نجاسة القليل
بالملاقاة ـ مطلقا أو في صورة ورود النجاسة على الماء ـ فلا مجال لهذا
الاستبعاد ، إذ الطهارة والنجاسة ونحوهما أحكام تعبدية لا مسرح فيها للاستبعادات
العقلية.
(ولو قيل) :
مقتضى القاعدة الكلية ـ القائلة بأن كل ماء قليل أو مائع لاقى نجاسة فهو نجس ـ ينافي
ما ذكرتم.
(قلنا) : لا
عام إلا وقد خص ، فان اللبن في ضرع الميتة طاهر عند جملة من الأصحاب ، وعليه تدل
صحاح الأخبار ، وكذا الانفحة من الميتة ، والصيد المجروح لو وجد في ماء قليل ، وما
لا يدركه الطرف من الدم عند الشيخ ، وماء الاستنجاء بالإجماع والاخبار ، وغسالة
النجاسة عند من قال بطهارتها. ووجود النظير يدفع الاستبعاد.
ويمكن الجواب
ايضا باختيار طهارة ماء الغسالة كما هو اختيار جمع منهم : الشهيد في الذكرى ، وهو
ظاهر الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث الأكبر ، وبه
صرح المحدث الأمين الأسترآبادي ، وسيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى ،
وحينئذ يكون الحكم بطهارته مستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة وتطهيره ، كما
استثني كذلك ماء الاستنجاء ، وما لا يدركه الطرف من الدم على قول الشيخ. ويمكن
الجواب ايضا بالفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه ، كما سيأتي تحقيقه في هذا
الفصل ان شاء الله تعالى.
و (اما الرابع)
ففيه انه ايضا قد اشترط الكر كما سيأتيك بيانه وان كان الفرق بين الاشتراطين ان الأصحاب جعلوا اشتراطه
معيار الطهارة والنجاسة ، وهو قد جعل اشتراطه معيار معرفة التغير بالنجاسات
المعتادة وعدمه مع عدم ظهورها
__________________
حسا ، ثم زاد على كلام الأصحاب باشتراطه المقايسة والنسبة في ذلك المقام ،
حيث ألجأته إليها ضرورة الإلزام ، كما سيأتي توضيحه وينكشف صريحه .
مع انه قد
استفاضت الأخبار عن الأئمة الأبرار بأصالة الطهارة ووجوب العمل على اليقين ، فما
لم يعلم ويتيقن وقوع النجاسة في الماء ـ على وجه يظهر أثرها ويقطع بغلبة أجزاء تلك
النجاسة على الماء إذا منع من ظهورها مانع ـ لا يحكم بالتغير في ذلك الماء ،
فبمجرد الاخبار بولوغ كلب من إناء ـ مع عدم العلم بقدر ماء ذلك الإناء وعدم العلم
بكثرة الولوغ وقلته ـ لا يحكم بوقوع التغير في ذلك الماء بلعاب الكلب ، وقس عليه
غيره من النجاسات. وهو قد حكم بالتغير في أمثال ذلك كما سيأتيك بيانه .
واما قوله : «ومما
لا شك فيه ان ذلك لو كان شرطا لكان اولى المواضع. إلخ» فإنه مجرد دعوى عارية عن
الدليل ، ومحض استبعاد ليس له محصل عند ذوي التحصيل ، إذ عدم كثرة المياه الجارية
والراكدة في تلك الأماكن ـ على القول بنجاسة القليل بالملاقاة ـ لا يستلزم حصول
وقائع في الطهارات ، ولا السؤال عن حفظ المياه من النجاسات. ولا أمثالها من هذه
التسجيلات ، لانه مع معلومية الحكم عندهم بنجاسة الماء القليل بالملاقاة يتحرزون
عن تطرق النجاسة إليه بكل وجه وبعد العلم بحصول النجاسة فيه يجتنبونه ، بل ربما
يهريقونه وما الذي يترتب على ذلك من الوقائع المستحقة للنقل؟ ومن الذي اشترط انه
لا بد في كل حكم شرعي من واقعة في عصره (صلىاللهعليهوآله) تدل عليه؟ حتى يشترط هنا. على انه لو نقلت هناك واقعة
تدل على النجاسة لارتكب التأويل فيها كما ارتكبه في تلك الأخبار الصريحة المتعددة
، إذ غاية ما يراد ان يعبر به عن النجاسة أو يكنى به عنها هو التصريح بإراقة الماء
الدال على عدم الانتفاع به بوجه. وقد مرت لك أخبار مستفيضة بهذا المضمون قد أخرجها
__________________
عن صريحها وارتكب فيها جادة التأويل ، فلو ورد هنا شيء عنه (صلىاللهعليهوآله) لجعله من ذلك القبيل. وما الإشكال في حفظ المياه حتى
يحتاج إلى السؤال عنه؟ وهل تعاطي الصبيان والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات
لاوانيهم يكون موجبا للنجاسة بالملاقاة من غير علم بوصول النجاسة ، واين أصالة
الطهارة؟ واين الحنيفية السمحة ودين محمد (صلىاللهعليهوآله) الذي هو أوسع ما بين السماء والأرض؟ ما هذه إلا
احتمالات باردة وتعسفات زائدة. ولقد روي انه «دخل أعرابي المسجد فما لبث ان بال في
ناحية المسجد ، فكأنهم عجلوا عليه ، فنهاهم النبي (صلىاللهعليهوآله) ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه ، ثم قال : علموا
ويسروا ولا تعسروا» . وأمثال ذلك ـ مما يدل على سعة الحنيفية السمحة السهلة
ـ كثير.
و (اما الخامس)
ففيه (أولا) ـ ان الدليل ليس مقصورا على تلك
__________________
المفهومات ، بل هو منطوق جملة من الأخبار التي قدمناها كالأخبار الدالة على النهي عن استعمال تلك المياه
القليلة بعد وقوع شيء فيها. والنهي حقيقة في التحريم كما تقدم تحقيقه والأمر بإراقتها وغسل الأواني منها ، فإنه لا يخفى ـ على
الناظر في الاخبار والمعتبر لها حق الاعتبار ـ ان الحكم بالنجاسة في جل المواضع
إنما استفيد من المنع من استعمال ذلك الملاقي لها أو الحكم بغسله أو نحو ذلك ، كما
صرح به السيد السند في المدارك في الاستدلال على نجاسة البول بعد إيراد الروايات
الدالة على الأمر بغسل الثوب منه ، حيث قال : «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل
الملاقي له ، بل سائر الأعيان النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل
الثوب أو البدن من ملاقاتها» انتهى. بل ربما ورد التصريح بالنجاسة في بعض الموارد
فتأولوه بالحمل على المعنى اللغوي وناقشوا فيه بذلك ، بخلاف ورود الأوامر بالغسل
والإراقة والنواهي عن الاستعمال ، فإنها أصرح في الدلالة على ذلك.
و (ثانيا) ـ ان
دلالة مفهوم الشرط ـ بعد ما عرفت من دلالة الأخبار عليه كما قدمناها في المقدمة
الثالثة ـ مما لا ريب في صحة الاعتماد عليها والاستناد في
الأحكام الشرعية إليها. والمناقشة إنما تتطرق إليها مع ظهور فائدة غير مجرد
التعليق على الشرط والانتفاء بانتفائه. وههنا ليس كذلك اتفاقا.
و (ثالثا) ـ ان
قوله : «فإن أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم تنجس ما دون الكر بملاقاة شيء. إلخ»
فيه انه قد أجيب عن ذلك بان لفظ (شيء) نكرة وقعت في سياق النفي فيستفاد منها
العموم. ومقتضى التقييد بالشرط ان حكم المسكوت مخالف للمذكور ، ويكفي للمخالفة
تنجسه ببعض ما لم ينجس به الكر وان لم ينجس ببعض
__________________
آخر ، ويضم الى ذلك الإجماع على عدم الفصل في النجاسات الا فيما استثني
فيعم حينئذ.
والتحقيق عندي
في الجواب ان المقصود بالإفادة بمثل هذا الكلام أمران : (أحدهما) ـ عموم المنطوق و
(الثاني) ـ عموم المفهوم. والرواة قد فهموا حكم المفهوم من ذلك كذلك ، ولذلك سكتوا
عن الاستفسار ، وإلا فمثل هؤلاء الأجلاء كزرارة ومحمد بن مسلم واضرابهما من فضلاء
الرواة ومحققيهم كيف يسكتون ويرضون بفهم بعض المقصود مع توفر حاجة الأمة الى ذلك؟
ولا سيما زرارة الذي من عادته تنقيح الأسئلة والفحص عن جملة فروع المسألة ، ويقنعون
باستفادة انه إذا نقص عن كر نجسه شيء ما.
ويرشدك الى ما
ذكرنا جوابه (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم الاولى من تلك الروايات
المتقدمة لما سأل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب
ويغتسل فيه الجنب. قال : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء». فإنه من الظاهر
البين ان السائل أراد السؤال عن حال هذا الماء بعد وقوع هذه الأشياء أو أحدها فيه
، وانه هل ينجس بمجرد ملاقاتها أم لا؟ فأجابه (عليهالسلام) بوجه عام وقاعدة كلية في كل ماء وكل نجاسة وهو التحديد
ببلوغ الكرية وعدمه ، وانه لا ينجس مع الأول وينجس مع الثاني. ولو لم يفهم السائل
عموم المفهوم من جوابه (عليهالسلام) بذلك ، وانه إذا نقص عن الكرية ينجس بملاقاة تلك
النجاسات المسؤول عن ملاقاتها ، لاستفسر منه البتة ، لأنه أحد طرفي الترديد في
جوابه (عليهالسلام) إذ حاصل جوابه انه «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء ،
وإذا لم يبلغ نجسه شيء» فلو لم يفهم السائل عموم لفظ (شيء) الذي في جانب المفهوم
على وجه يشمل النجاسات المسؤول عنها وغيرها بقرينة المقام ، ولا سيما السؤال هنا
عن وقوع تلك الأشياء المخصوصة ،
__________________
لراجع في السؤال عن تنجسه بتلك الأشياء المخصوصة ، إذ بناء على ما يقولونه
من عدم العموم لم يحصل الجواب عن السؤال ، ومع غفلة السائل كيف يرضى الامام (عليهالسلام) بعدم افادته ذلك مع انه مناط السؤال والبلوى به عام في
جميع الأحوال؟
وبالجملة
فالمتسارع الى الفهم السليم ـ والمنساق الى الذوق المستقيم من حاق اللفظ في أمثال
هذه المقامات ـ هو العموم ، وهو عند التأمل والإنصاف أمر ظاهر معلوم ، وما يتمسك
به من ان (شيئا) نكرة في سياق الإثبات فلا يعم ـ مع تسليمه ـ فقد خرجوا عنه في
مواضع لاقتضاء المقام العموم فيها ، كما صرحوا به في المعرف بلام التحلية إذا
استعمل في المقامات الخطابية. وقد تقدم تحقيقه في المقالة الاولى من الفصل الأول.
و (رابعا) ـ ان
ما ذكره ـ من الحمل على المستولية جمعا ـ فيه انه لم يبق على هذا فرق بين الكر
وغيره ، لان الكر أيضا انما ينجس بالتغير خاصة ، فأين المخالفة بين المفهوم
والمنطوق التي لا خلاف في ثبوتها؟ بل لا بد من الحمل على التنجس بمجرد الملاقاة
كما ذكرنا تحقيقا لذلك.
و (اما السادس)
ففيه (أولا) ـ ان الواجب حمل النهي عن الاستعمال في تلك الأخبار المذكورة
على حقيقته من التحريم ، كما هو المشهور بين محققي علماء الأصول ، والمؤيد بالآيات
واخبار آل الرسول ، كما قدمنا لك بيانه وشددنا أركانه .
و (ثانيا) ـ ان
من جملة تلك الأحاديث التي أوردها في ذلك الباب الأحاديث الدالة على اهراق مياه
الأواني عند ملاقاة شيء من القذر لها ، وليس ذلك عند التأمل والإنصاف الا
لنجاستها وعدم الانتفاع بها بالمرة ، إذ استحباب التنزه عنه
__________________
في الطهارة والشرب لا يستلزم الإهراق ، كيف؟ ووجوه الانتفاعات به كثيرة بل
ربما تلجئ إليه الضرورة سيما في الاسفار ونحوها ، بل ذلك داخل في الإسراف المنهي
عنه كما صرحت به بعض الروايات.
و (ثالثا) ـ ان
موثقة سماعة ـ المروية أيضا بطريق آخر موثق عن عمار الساباطي ـ قد
دلت على الأمر بالتيمم بعد الأمر بالإهراق. وكيف يسوغ التيمم مع طهارة ذلك الماء
وطهوريته؟ ولو قيل : انه يجوز ان يكون الأمر بالإهراق كناية عن عدم الاستعمال لا
ان المراد الإهراق بالفعل.
قلنا : مع
تسليمه فذلك كاف لنا في الاستدلال ، لان ما يكنى عن المنع عن استعماله بإهراقه ـ بمعنى
ان وجوده كعدمه على حال ـ فهو لا شك مقطوع بنجاسته كما أشار إليه في المعتبر ، حيث
قال : «وقد يكنى عن النجاسة بالإراقة تفخيما للمنع» و (رابعا) ـ ان الحمل على
الاستحباب والتنزيه وان تم له بالنسبة إلى الوضوء.
لما دلت عليه
بعض الأخبار من خارج بأن ماء الوضوء ينبغي ان يكون له مزية ما على مياه سائر
الاستعمالات ، فلا ينبغي ان يكون بالآجن ولا بالمشمس ولا بما لاقى سؤر المتهم
بالنجاسة ، فلا يتم له ذلك في الشرب.
(أما أولا) ـ فلعدم
قيام دليل من الخارج على ان ماء الشرب ينبغي ان يكون ذا مزية ، وانه يكره الشرب من
بعض المياه لخلوها من المزية حسبما ورد في الوضوء ، ولم يدع أحد ذلك بالكلية ، حتى
يتم له هنا حمل المنع عن الشرب على التنزيه والاستحباب.
و (اما ثانيا)
ـ فبان من جملة المواضع ـ التي صرحت الأخبار بكراهة الوضوء
__________________
من ذلك الماء الخالي من المزية ـ سؤر الحائض ، مع انها صرحت بجواز الشرب
منه ، فلو كان ما يدعيه من الخصوصية والمزية مشتركة بين ماء الوضوء وماء الشرب ،
لورد النهي عنه أيضا في مقام النهي عن الآخر.
فمن تلك
الأخبار رواية عنبسة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «اشرب من سؤر الحائض ولا تتوضأ منه».
ومثلها موثقة
الحسين بن ابي العلاء ورواية أبي هلال وغيرهما.
وحينئذ فالحق
الحقيق بالاتباع هو ان النهي عن الوضوء والشرب معا في تلك الاخبار ليس إلا لنجاسة
الماء.
و (اما السابع)
ففيه (أولا) ـ انه اي مسألة من مسائل الفقه واي حكم من أحكام الفروع لم
تختلف فيه الاخبار؟ حتى يستبعد اختلافها في هذا المكان بخصوصه ويكون ذلك موجبا لما
قاله ومؤيدا لما زعمه.
و (ثانيا) ـ ان
الواجب في كل موضع اختلفت فيه الاخبار ـ على وجه لا يمكن إرجاع بعضها الى بعض من
هذا الموضع وغيره ـ الرجوع الى الضوابط المقررة والقواعد المعتبرة. ومجرد خروجها
عنهم (عليهمالسلام) مختلفة لا يدل على ما توهمه من التخمين والمقايسة ،
وإلا لجرى في غير هذا الموضع ايضا ، وهو لا يلتزمه.
و (ثالثا) ـ انه
مع تسليم صحة ما ذكره فالإيراد لا يختص بنا ، بل يرد عليه ايضا ، حيث انه قائل في
التحقيق بمضمون تلك الاخبار منطوقا ومفهوما كما تقدمت الإشارة اليه وسيأتي تحقيقه ، لأنا نقول : ان التحديد بالكر معيار
لعدم
__________________
الانفعال بالملاقاة لهذا المقدار وانفعال ما دونه. وهو يقول : ان التحديد
المذكور معيار للقدر الذي لا يتغير بالنجاسات المعتادة.
ويؤيد ما قلناه
ما كتبه بعض تلامذته الناسجين على منواله على حاشية كتاب الوافي على آخر الباب
الثالث من أول كتاب الطهارة ، حيث قال : «لما دلت هذه الأبواب الثلاثة على ان
الماء ما لم ينفعل لم ينجس ، علم ان النجاسة دائرة مع الانفعال وعدمه. ولكن لما
كان الانفعال في بعض الأوقات خفيا ـ لتوافقهما لونا وطعما وريحا ، أو لورود
النجاسة على الماء قبل ان يتعفن ، كتفسخ الفأرة في الماء أول مرة لا يوجد لها
ريحها أو طعمها أو لونها مع انه اختلطت أجزاء النجاسة باجزاء الماء. أو لورودها
عليه قليلا قليلا ، كولوغ الكلب وغيره في الحوض مرة بعد مرة ، فإنه لا يدرك شيء
من أثرها مع ان لعاب الكلب اختلط باجزاء الماء ، فتحصل الحيرة والاشتباه ، ـ بينوا
(عليهمالسلام) انه إذا كان الأمر كذلك ، ان كان الماء أقل من كر
ينفعل اي يختلط وينجس ، وإذا كان أكثر منه لا ينفعل ولا ينجس ، كما إذا كان الحوض
في طريق ونحن نعلم ان الكلاب تشرب منه والنساء والصبيان يباشرونه بنجاستهم العينية
، فلاحظنا ان كان أقل من كر يحترز عنه وان كان أكثر منه نستعمله ، فكل ماء امره
كذلك يحتاج إلى مادة تحفظه من الانفعال ، والمادة التي تحفظه اما ستمائة رطل مكي ،
أو ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته ، اعني عرضه وطوله ، وهذه الرواية أجود ما ورد
في تقدير الكر ، لان غيرها لا يخلو من اضطراب أو طعن في سنده أو متنه» انتهى.
فانظر الى ما ذكره من اعتباره الكر في بنائه عليه ، واعتماده على تلك الرواية من
بين رواياته لصحتها عنده.
و (اما الثامن)
ففيه دلالة على ما قدمنا لك من قوله باعتبار الكر والبناء
__________________
عليه ، وحمله مفهومات تلك الأخبار ـ الدالة على النجاسة فيما نقص عن ذلك
المقدار ـ على انها قد تغيرت بالنجاسة وان لم يظهر ذلك للحس.
وقد مهد في
كلامه في أول الكتاب المذكور قاعدة لذلك ، فقال ثمة : «وعلى هذا فنسبة مقدار من
النجاسة إلى مقدار من الماء كنسبة مقدار أقل من تلك النجاسة إلى مقدار أقل من ذلك
الماء ومقدار أكثر منها الى مقدار أكثر منه ، فكلما غلب الماء على النجاسة فهو
مطهر لها بالاستحالة ، وكلما غلبت النجاسة عليه لغلبة أحد أوصافها فهو منفعل عنها
خارج عن الطهورية بها» انتهى. وحينئذ فيصير معنى قوله (عليهالسلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء». أي لم يغيره شيء
من النجاسات المعتادة ، لأن الماء عنده لا ينجس إلا بالتغير. فنجاسته في الحديث
بمعنى تغيره بها ، ومفهومه حينئذ انه إذا لم يبلغ كرا غيره شيء من تلك النجاسات
المعتادة.
وقال أيضا في
الباب الثاني ـ بعد ان أورد في صدره صحيحة صفوان المتضمنة للسؤال عن الحياض التي
بين مكة والمدينة ، وقد تقدمت ـ ما صورته : «لما كانت الحياض التي بين الحرمين
الشريفين معهودة معروفة في ذلك الزمان ، اقتصر (عليهالسلام) على السؤال عن مقدار الماء في عمقها ولم يسأل عن الطول
والعرض ، وإنما سأل عن ذلك ليعلم نسبة الماء الى تلك النجاسات المذكورة حتى يتبين
انفعاله منها وعدمه فان نسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء في التأثير
والتغيير كنسبة ضعفه الى ضعفه مثلا ، وعلى هذا القياس. (فان قيل) : تغير أوصاف
الماء أمر محسوس لا حاجة فيه الى الاستدلال عليه بنسبة قدره الى قدر النجاسة (قلنا)
: ربما يشتبه التغير مع ان الماء قد تتغير أوصافه الثلاثة بغير النجاسة فيحصل
الاشتباه. يؤيد ما قلناه ما في النهاية
__________________
الأثيرية . قال : وفي حديث الطهارة «إذا كان الماء قلتين لم يحمل
خبثا». اي لم يظهره ولم يغلب الخبث عليه من قولهم : فلان يحمل غضبه اي يظهره. وقيل
: معنى لم يحمل خبثا انه يدفعه عن نفسه ، كما يقال : فلان لا يحمل الضيم إذا كان
يأباه ويدفعه عن نفسه» انتهى كلامه (فان قيل) : القلتان يحمل الخبث إذا كثر الخبث
وغلب عليه (قلنا) : أريد به انه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتاد ورودها عليه
، وذلك لان الناس قد يستنجون في المياه التي تكون في الغدران ويغمسون الأواني
النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيرا مؤثرا أم لا ، فبين انه ان كان قلتين
لا يتغير بهذه النجاسات. وبما ذكرناه يتبين معنى الأخبار الآتية ومفهوماتها» انتهى
كلامه (زيد إكرامه) وأشار بالأخبار الآتية إلى الروايات الدالة على التحديد بالكر
، وما تدل عليه بمفهوماتها من النجاسة بمجرد الملاقاة كما ادعاه الأصحاب (رضوان
الله عليهم) منها.
وأنت خبير بما
في جميع هذا الكلام من التكلف الذي لا يخفى على ذوي الأفهام بل عدم الاستقامة
والانتظام.
(أما أولا) ـ فلان
(شيئا) الواقع في لفظ تلك الروايات نكرة في سياق النفي ، ولا خلاف في إفادتها
العموم ، وتخصيصها بالمعتاد من النجاسات كما ادعاه يحتاج الى دليل معلوم ، وليس
فليس. نعم قام الدليل على النجاسة المغيرة فيكون مخصوصا بغيرها لقوله (عليهالسلام) في صحيح زرارة : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء إلا ان
تجيء له ريح تغلب على ريح الماء».
وما ادعاه ـ من
ان نجاسة الماء هو تغيره بالنجاسة. فمعنى لم ينجسه شيء أي لم
__________________
يغيره شيء بالنجاسة ، فالنكرة لا يمكن أخذها على عمومها ، للقطع بالتغير
ببعض افراد النجاسات ، فلا بد من التخصيص بالمعتاد حينئذ ـ ففيه ان تلك الدعوى غير
مسلمة عند الخصم ، إذ هي أول المسألة. وأيضا فهي غير ظاهرة من اللفظ ، بل الظاهر
منه هو ما يدعيه الخصم ، إذ المتبادر من قول القائل : نجس هذا هذا. يعني جعله نجسا
أعم من ان يكون بمجرد الملاقاة كسائر المائعات أو بالتغير كما يدعيه هنا ، فلا
تقوم تلك الدعوى حجة على الخصم. على ان المتبادر فيما نحن فيه هو المعنى الأول بقرينة
صحيح زرارة المذكور ، وقوله فيه : «لم ينجسه شيء إلا ان تجيء له ريح. إلخ» أي لم
يجعله نجسا بمجرد الملاقاة إلا ان يتغير في ريحه ، فالتنجيس في الأخبار بمعنى
الانفعال بمجرد الملاقاة لا بمعنى التغير بالنجاسة كما تمحله.
و (اما ثانيا)
ـ فلان مقتضى ما ذكره ـ من ان الشارع إنما جعل الكر معيارا لما لم يتغير بالنجاسات
المعتادة ، كما هو منطوق ذلك اللفظ عنده ، اللازم منه بمقتضى مفهومه ان ما نقص عن
الكر يتغير بها ـ انه لو وقعت نجاسة من تلك النجاسات المعتادة في قدر كر من ماء
إلا درهما ، فإنه يحكم بتغيره بها وان لم يظهر أثرها فيه ، ولو تمم بدرهم ووقع
قدرها من تلك النجاسات بعينها في كر تام ، لم يحكم بتغيره وهو من البعد على حال لا يحتاج الى البيان ، ومن
البطلان بمقام يستغني عن اقامة البرهان.
و (اما ثالثا)
ـ فلان ما ذكره في بيان صحيحة صفوان ـ من انه (عليهالسلام)
__________________
إنما سأل عن عمق الماء ليعلم نسبة الماء الى تلك النجاسات المذكورة ـ إنما
هو من قبيل المعميات والألغاز ، كما لا يخفى على من أنصف وجانب التعسفات ، إذ
مقتضى المقايسة التي التجأ إليها ـ وعول في المقام عليها ـ هو معلومية كل من الماء
والنجاسة ليمكن نسبة كل منهما الى الآخر ، وهب ان الماء هنا بسؤاله (عليهالسلام) صار معلوما ، فمن اين حصل العلم بالنجاسة الحاصلة من
ورود تلك السباع والكلاب وأمثالها على وجه تكون مغيرة للماء مع عدم ظهوره حسا؟ فان
ذلك يتفاوت بتفاوت افراد الواردة وافراد ورودها قلة وكثرة فيهما ، وليس ذلك امرا
مضبوطا ولا حدا معلوما حتى يصح ابتناء الأحكام الشرعية عليه وجعله قاعدة ممهدة
لذلك. والعادة التي ادعاها (طاب ثراه) وعنون بها الباب قصارى معرفتها والاعتماد
عليها ـ ان سلمنا ذلك ـ في مثل مياه البيوت ونحوها مما يمكن ملاحظتها واستعلامها.
واما في مثل مياه الطرق والصحاري ومنها ما تضمنه الخبر ، فغير ممكن على انا نقول من أين يلزم في كل نجاسة لاقت الماء ان
يكون لها عين بحيث ينفصل منها اجزاء تداخل الماء؟ حتى يحصل لذلك قانون كلي وضابط
جلي وهو التحديد بالكرية في تلك الاخبار. وعلى تقدير احتمال مداخلة أجزاء النجاسة
في الماء مع عدم ظهورها حسا ، فما الدليل على الحكم بالنجاسة بهذه المقايسة
والنسبة؟ وكيف يتيسر لنا العلم بذلك؟ اللهم الا ان نعمد الى كل نوع من أنواع
النجاسة فنضعه في فرد من افراد المياه بشرط معلومية كل منهما كيلا أو وزنا أو
تخمينا ، ونعتبر تغيره وعدمه ، ثم نقيس عليه بعد ذلك ما قل أو كثر. فلينظر المنصف
الى ذلك فأي حرج أعظم منه؟ مع ادعائه سابقا لزوم الحرج في اشتراط
__________________
الكرية وانه مثار الوسواس ، وهو بخروجه عنه ـ كما ترى ـ قد وقع في شباك
الالتباس ومع هذا فأين أصالة الطهارة التي هي قاعدة كلية في الأخبار وكلام الأصحاب؟
حتى انه بما ذكره من الاحتمال يحتاج الى ما ذكره من الاختبار.
و (اما رابعا)
ـ فلان ما ذكره من قوله : «قلنا ربما يشتبه التغير. إلخ» وتأييده ذلك بما نقله عن
النهاية الأثيرية ، حاصله ان التغير قد يحصل في الماء واقعا ، لوقوع النجاسة فيه
مع عدم ظهورها في جانب كثرة الماء ، وقد لا يحصل بالكلية ، فاعتبار تلك النسبة
والمقايسة لأجل استعلام ذلك الحصول الواقعي الغير الظاهر حسا.
وفيه حينئذ (أولا)
ـ ان الحكم بأصالة الطهارة ـ كما هو أحد القواعد الكلية المتفق على ثبوتها نصا
وفتوى ـ يوجب استصحابها والبقاء عليها حتى تعلم النجاسة ، ومجرد الشك واحتمال
التغير واقعا غير كاف في الخروج عن مقتضى الأصل المذكور.
و (ثانيا) ـ ان
المعتبر من التغير ـ في تلك الأخبار الدالة على نجاسة الماء بتغير أحد أوصافه
الثلاثة بالنجاسة ـ هو التغير الحسي كما صرح به جمهور الأصحاب ، ولم ينقل الخلاف
في ذلك كما عرفته آنفا إلا عن العلامة ، حيث اعتبر التقدير فيما إذا اتفق
الماء والنجاسة في الصفات ، وانما يعتبر التقدير فيما إذا تغير الماء بجسم طاهر من
لون النجاسة ، وعلى تقدير وجوب التقدير في هذه المادة اليسيرة النادرة الاتفاق كما
لا يخفى ، فهل يوجب ذلك إخراج تلك الأخبار المستفيضة المتواترة عن ظواهرها وحملها
على هذا الفرد الشاذ القليل الوقوع ، ويكون التحديد بالكر إنما هو لأجل ما إذا
تغير الماء بجسم طاهر موافق للنجاسة المعتادة؟ ما هذا إلا تمحل بارد وخيال كأسد.
و (اما خامسا)
ـ فما استند اليه من حديث النهاية ـ وهو قوله : «إذا بلغ
__________________
الماء قلتين لم يحمل خبثا» . وكون الحمل فيه محتملا لان يكون بمعنى الظهور ، فمعنى
عدم حمله الخبث عدم إظهاره له المستلزم لوجوده فيه واقعا ، وان لم يظهر حسا ـ فهو
حديث عامي لا يقوم به حجة علينا. نعم هو موافق لمقتضى ما ذهب اليه
وعول عليه ، فلذا أطال في الجواب عما عسى يرد عليه بقوله : «فان قيل القلتان. إلخ»
واما أخبارنا فالذي فيها انه «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء» . ولا مجال في لفظ التنجيس لذلك المعنى الذي ذكره ، بل
هو عبارة عن جعل شيء شيئا آخر نجسا بسبب ملاقاته له برطوبة ، كما هو معلوم
بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة لجميع المائعات ونحوها. نعم قد تستلزم الملاقاة التغير
، كما إذا غلبت أوصاف النجاسة أوصاف الماء ، إلا ان هذا الفرد غير مراد هنا ، كما
أشعرت به صحيحة زرارة السالفة الدالة على استثنائه من النجاسة بالملاقاة. ومع الإغماض
عن ذلك فالحكم أعم. ولا دليل على التخصيص والتقييد إلا مجرد خيالات لا تعتبر ولا
تفيد.
و (اما سادسا)
ـ فما ذكره ـ من ان الناس قد يستنجون في المياه التي تكون في الغدران. إلخ ـ فهو
مجرد دعوى خالية من الدليل ، وخيال ليس فيه إلا مجرد التسجيل والتطويل ، لان
التغير الذي قام الدليل على التنجيس به هو المحسوس ، فان وجد في الماء حكم عليه
بالنجاسة ، وإلا فهو على يقين الطهارة وأصالتها ، وسعة الحنيفية وسهولتها.
__________________
تتمة مهمة
قد ارتبك بعض
متأخري المتأخرين ـ وجملة من المعاصرين والتابعين لهذا الفاضل في هذه المقالة ،
والمغترين بما ذكره وقاله ـ في الاخبار التي حملها ذلك الفاضل على الاستحباب
والتنزيه ، وهي ما أشرنا إليها في الدليل السادس من كلامه حيث ظهر لهم بعد ما ذكره من التأويل ، فلم يجدوا سبيلا
الى الاعتماد عليه والتعويل. فبين من حمل النهي في ظاهر تلك الاخبار على حقيقته من
التحريم ، لكن زعم ان ذلك لا يستلزم النجاسة. وبين من قصر القول بنجاسة الماء
القليل على النجاسات الواردة في هذه الاخبار. وبين من اعترف بدلالتها على النجاسة
، لكن رجع فيها إلى القاعدة التي مهدها الفاضل المذكور فيما قدمنا من كلامه وهي اعتبار المقايسة والنسبة ، فاثبت النجاسة مدعيا
حصول التغير الخفي على الحس.
ولا يخفى على
الفطن المتمسك بذيل الإنصاف ما في هذه التأويلات من التكلف والاعتساف.
(اما الأول)
ففيه ما ذكرنا آنفا في الرد على الوجه الخامس من كلام ذلك الفاضل. على انه
لو تم ما ذكره لأمكن التعلق به في جملة من موارد النهي ولو في غير مقام التعارض.
ولا أراه يلتزمه.
و (اما الثاني)
ففيه (أولا) ـ ان الأحكام المودعة في الاخبار لا يجب ورودها عنهم (عليهمالسلام) بقواعد كلية وان وردت كذلك في بعض الأحكام ،
__________________
كما نبهنا على شطر منها في المقدمة العاشرة بل أكثر ما ترد في ضمن الجزئيات المتفرقة ، فيحكم بكلية
الحكم ، لتوافق افراده الواردة عنهم (عليهمالسلام) في ذلك وهذا هو الأغلب في الأحكام على طريق القواعد
النحوية المبنية على تتبع آحاد كلام العرب.
و (ثانيا) ـ ان
هذه الأفراد إنما خرجت مخرج التمثيل في الأخبار ، لا انها قضايا واقعة حتى يجب قصر
الحكم عليها.
و (ثالثا) ـ ان
جملة منها قد تضمنت التعبير بالقذر ، كما في موثقتي عمار ورواية أبي بصير وفي جملة من الاخبار المتقدمة التعبير بالشيء. وهو
دليل على ان المراد جميع النجاسات كما لا يخفى.
و (اما الثالث)
ففيه (أولا) ـ ما قدمنا لك بيانه وأوضحنا برهانه ونزيده هنا ونقول : أي ناظر من ذوي العقول ـ وان لم يكن
له رؤية في معقول أو منقول ـ يذهب الى ان الطير الذي في منقاره دم أو الدجاجة التي
في رجلها العذرة أو الإصبع فيها قذر. إذا لاقى شيء منها كرا إلا درهما بل نصف كر
فإنها تغيره وان خفي على الحس ، بان ينفصل من اجزاء تلك النجاسات بمجرد الملاقاة
ما يختلط بذلك الماء ويشيع فيه على وجه يكون المستعمل له مستعملا للنجاسة؟ ما هذا
إلا سد للشمس بالراح ، وإخفاء لضوء الصباح بالمصباح.
و (ثانيا) ـ ان
اخبار نجاسة الماء القليل ليست مقصورة على هذه الاخبار التي زعم تطرق الاحتمال
إليها والتأويل ، وان كان لا اعتماد عليه ولا تعويل ، بل فيها
__________________
ـ بحمد الله ـ ما هو ساطع النور في الظهور ، مثل خبر العبدية الدال على ان ما يبل الميل من الخمر ينجس حبا من ماء ،
وخبر عمر بن حنظلة الدال على اهراق الحب لو قطرت فيه قطرة من مسكر. فهل
يعقل هنا مجال لاحتمال التغير أو إجراء لما تمحله من المقايسة والتقدير؟ وقد خرجنا
الى حد الإسهاب في هذا الباب ، لما رأينا من جملة من الأصحاب في جمودهم على هذه
المقالة اغترارا بما ذكره هذا الفاضل من الاستدلال وإطالة.
(المقام الثاني)
ـ المشهور ـ بين الأصحاب القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة ـ نجاسته بذلك وردت
عليه النجاسة أو ورد عليها.
وذهب السيد
المرتضى (رضياللهعنه) في المسائل الناصرية إلى تخصيص ذلك بورود النجاسة دون
العكس ، قال في الكتاب المذكور ـ بعد قول جده الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على
النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء ـ ما لفظه : «هذه المسألة لا أعرف فيها
لأصحابنا قولا صريحا» ثم نقل عن الشافعي الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها
عليه ، واعتبار القلتين في الثاني دون الأول ، وقال بعده : «ويقوى في نفسي عاجلا ـ الى ان يقع التأمل ـ صحة ما ذهب إليه
الشافعي. والوجه فيه انا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد على النجاسة ، لأدى ذلك
الى ان الثوب لا يطهر من النجاسة إلا بإيراد كر من الماء عليه ، وذلك يشق ، فدل
على ان الماء الوارد
__________________
على النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة كما يعتبر فيما ترد النجاسة عليه»
انتهى. ومرجعه الى ان الملاقي للثوب ماء قليل فلو نجس حال الملاقاة لم يطهر الثوب
، لان النجس لا يطهر غيره. وأجاب عن ذلك في المختلف بالمنع من الملازمة ، قال : «فانا
نحكم بتطهير الثوب والنجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحل» وضعفه السيد السند في
المدارك تبعا لجده (قدسسرهما) بان ذلك يقتضي انفكاك المعلول عن علته التامة ووجوده
بدونها ، وهو معلوم البطلان.
(أقول) : ويرد
على ما ذكره السيد المرتضى (رضياللهعنه) : (أولا) ـ ما قدمنا تحقيقه من عدم المنافاة بين حصول الطهارة بالماء القليل
ونجاسته بتلك الملاقاة ، إذ غاية ما يستفاد من الدليل المانع من التطهير بالنجس هو
ما كان نجسا قبل التطهير لا ما كان نجسا بذلك التطهير كما عرفت ثمة.
و (ثانيا) ـ ان
مقتضى ما ذكره نجاسة الماء القليل بورود النجاسة عليه ، وحينئذ فلا يجوز التطهير
به ، مع انه قد روى محمد بن مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب يصيبه البول. قال : اغسله في المركن مرتين ،
فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة» . والمركن ـ على ما نص عليه الجوهري ـ الإجانة التي يغسل
فيها الثياب. ومن الظاهر البين ان الغسل فيها لا يكاد يتحقق بدون ورود النجاسة على
الماء كما لا يخفى.
ويرد على ما
ذكره في المدارك في تضعيفه جواب العلامة ان الظاهر ان مراد العلامة (قدسسره) ان دليل نجاسة الماء القليل بالملاقاة يقتضي نجاسة
الغسالة مطلقا ، سواء كان قبل الانفصال أو بعده ، بل يقتضي عدم صحة التطهير به ،
لكن لما قام الدليل على صحة التطهير به وتوقف طهارة المحل على عدم نجاسة
__________________
الماء ـ بناء على ان النجس لا يطهر غيره ـ اقتصر فيه على موضع الضرورة ومحل
الحاجة وهو ما قبل الانفصال لا ما بعده ، فإن الطهارة والنجاسة من الأحكام
التعبدية ، فيخص الحكم بالنجاسة حينئذ بما بعد الانفصال اقتصارا على محل الضرورة.
وليس ذلك بأبعد مما حكم به شيخنا الشهيد الثاني ـ الذي هو الأصل في الإيراد
المذكور ـ من نجاسة البئر ببدن الجنب الخالي من النجاسة لمجرد التعبد ، وان كان
الدليل عندنا لا ينهض به ، ولا بأبعد مما حكموا به من طهارة الدلو والرشاء وحافة
البئر بعد تمام النزح مع تقاطر ماء النزح على حافة البئر وجوانبها وعود الدلو
أخيرا إلى الماء ، وكذلك طهارة آلات الخمر ومزاولة بعد الانقلاب خلا ، بل في
الروايات ـ الواردة في تطهير الأواني بصب الماء فيها وإدارته ثم إهراقه ـ ما يعضد
ذلك ، فان الماء ـ بصبه في الآنية بمقتضى القول بنجاسة القليل بالملاقاة ـ يجب
الحكم بنجاسته ، فتحريكه في الزمان الثاني ليستوعب جوانب الإناء لا يفيد المحل
طهارة ، فلا بد ـ للقائل بنجاسة القليل بالملاقاة ونجاسة الغسالة ـ من القول
ببقائه على الطهارة حتى ينفصل دفعا للضرورة ، وحينئذ فما أورده ـ من لزوم انفكاك
المعلول عن علته التامة ووجوده بدونها ـ يدفع بجواز ان يقال : ان الشارع لم يجعل
مجرد ملاقاة النجاسة موجبا للتنجيس مطلقا ، وإلا لما صح التطهير بالماء القليل
مطلقا ، لحصول العلة المذكورة ، إلا على القول بعدم انفعال القليل بالملاقاة. وهم
لا يقولون به. وحينئذ لا يصير مجرد الملاقاة سببا للنجاسة دفعا للحرج والضرورة ،
فيكون ذلك بمنزلة المستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة.
ثم لا يخفى ان
هذا كله مبني على تلك المقدمة القائلة : ان النجس لا يطهر غيره. وقد عرفت ما فيها .
__________________
ثم انه (قدسسره) قال في المدارك بعد الكلام المتقدم : «نعم يمكن ان
يقال انه لا منافاة بين الحكم بطهارة الثوب المغسول وما يتصل به من البلل ، ونجاسة
المنفصل خاصة إذا اقتضته الأدلة. لكن يبقى الكلام في إثبات ذلك» انتهى. والظاهر
انه اشارة الى ما ذكرنا. وقال المحدث الأمين (قدسسره) في تعليقاته على الكتاب المذكور : «ولعل وجه هذا
الاحتمال ان الماء المغسول به لا يحمل النجاسة إلا بنقله لها عن المحل المتنجس ،
والنقل إنما يتحقق بالانفصال» انتهى. ولا يخفى بعده .
هذا. وظاهر
السيد السند (قدسسره) في المدارك الميل الى ما ذهب اليه السيد المرتضى (رضياللهعنه) حيث قال ـ بعد الجواب عن أدلة ابن ابي عقيل على عدم
انفعال الماء القليل ـ ما صورته : «لكن لا يخفى انه ليس في شيء من تلك الروايات
دليل على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكل ما يرد عليه
من النجاسات ، ومن ثم ذهب السيد المرتضى (رضياللهعنه) في جواب المسائل الناصرية الى عدم نجاسة القليل بوروده
على النجاسة. وهو متجه» انتهى. واختار ذلك ايضا المحدث الأمين (طاب ثراه) في
تعليقاته على الكتاب المذكور.
وفيه (أولا) ـ انه
وان كانت جملة من الاخبار الدالة على نجاسة القليل بالملاقاة قد اشتملت على ورود
النجاسة على القليل ، كأخبار الركوة والتور ونحوهما ، إلا ان ذلك لا يقتضي قصر
النجاسة عليه دون عكسه ، فان الظاهر ان السبب في الانفعال إنما هو ملاقاة النجاسة
كيف اتفق ، وقابلية القليل من حيث القلة والمائعية للانفعال أعم من وروده على
النجاسة أو ورودها عليه. والحكم بالنجاسة في تلك الأخبار قد
__________________
وقع في جواب الأسئلة المتضمنة لورود النجاسة على الماء. وخصوص السؤال لا
يخصص كما تقرر عندهم.
و (ثانيا) ـ ان
من فروع هذا القول صحة التطهير بالقليل مع وروده على النجاسة دون العكس فلا يصح
التطهير به ، مع ان صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة ترده كما عرفت. إلا ان يرتكبوا مخالفة ذلك القائل
المذكور هنا.
و (ثالثا) ـ ان
جملة من الاخبار ـ الدالة بمفهوم الشرط على النجاسة ـ تدل بإطلاقها على الانفعال
بالملاقاة أعم من ورود النجاسة أو عكسه. ومن الظاهر ان جعلهم (عليهمالسلام) الكر معيارا ومدارا للانفعال وعدمه انه كذلك مطلقا ،
والا لوقع التقييد أو الإشارة الى ذلك في بعض تلك الاخبار.
ويمكن ان يقال
: ان الأصل في الماء الطهارة بمقتضى القاعدة المنصوصة المتفق عليها ، ولا يخرج عن
هذا الأصل إلا بدليل قاطع. والمعلوم من الاخبار تحقق الانفعال بورود النجاسة خاصة
حملا لمطلق الأخبار على مقيدها. والقول ـ بان خصوص السؤال لا يخصص ـ مدفوع بان مثل
خبر العبدية وخبر عمر بن حنظلة وخبر حفص بن غياث المتقدم ذلك كله قد دل على ذلك ابتداء من غير تقدم سؤال.
واما الفرع
المذكور فيجاب عنه بما قدمنا تحقيقه من عدم المنافاة بين التطهير بالقليل ونجاسته بذلك
التطهير. وحينئذ فيقوى القول بالفرق بين ورود النجاسة وعكسه.
ويمكن تأييده
أيضا بأخبار ماء الاستنجاء ، حيث حكم فيها بطهارته ، فإنه يمكن ان يكون ذلك انما
هو لورود الماء على النجاسة.
__________________
إلا انه بعد لا
يخلو من شوب الإشكال ، لأن تلك الأخبار المشتملة على الانفعال بورود النجاسة لا
صراحة لها بل ولا ظهور في التخصيص بصورة الورود حتى تقيد بها تلك الأخبار المطلقة
، وبدونه يشكل الحكم بالتقييد ، والمسألة لذلك محل تردد.
واما ما ذكره
السيد السند (قدسسره) ـ من انه ليس في الروايات ما يدل على انفعال القليل
بكل ما يرد عليه من النجاسات ، حتى تبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه ـ ففيه
انه وان كان جملة من تلك الاخبار قد اشتملت على نجاسات مخصوصة الا ان جملة منها قد
اشتملت على ألفاظ تؤذن بالعموم ، كلفظ القذر الوارد في موثقتي عمار ورواية أبي
بصير ، ولفظ الشيء في الأخبار الدالة على النجاسة بالمفهوم الشرطي ، وكذا في حسنة
شهاب بن عبد ربه ، المتقدم جميع ذلك في أدلة القول بالنجاسة وسيأتي مزيد تحقيق للمقام في مسألة الغسالة ان شاء الله
تعالى.
(المقام الثالث)
ـ جمهور القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لم يفرقوا في النجاسة الملاقية بين
قليلها وكثيرها.
ونقل عن الشيخ (قدسسره) في المبسوط القول بعدم نجاسة الماء بما لا يمكن التحرز
منه ، مثل رؤوس الابر من الدم وغيره ، فإنه معفو عنه ، لانه لا يمكن التحرز منه.
ونقل عنه في
الاستبصار التخصيص بالدم القليل الذي لا يدركه الطرف كرؤوس الابر.
واستدل على ذلك
بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعا
صغارا فأصاب إناءه ،
__________________
هل يصلح الوضوء منه؟ قال : ان لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس ، وان
كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه».
وأورد عليه انه
ليس في الرواية تصريح بإصابة الدم الماء ، وإنما المتحقق منها اصابة الإناء ، وهو
لا يستلزم اصابة الماء ، فيكون باقيا على أصل الطهارة.
وأجيب بأن
السائل أجل قدرا من ان يسأل عن مثل ذلك ، بل المراد انما هو السؤال عن الماء. وذكر
الإناء إنما هو على حذف مضاف.
وفيه (أولا) ـ ان
هذا الاستبعاد إنما نشأ الآن بعد المعرفة بالأحكام وشيوع مثل هذا الحكم بين الأنام
، وإلا فكتاب علي بن جعفر المذكور قد اشتمل على جملة من الأسئلة العارية الآن عن
الالتباس. بحيث يعرف أحكامها الآن جهال الناس.
و (ثانيا) ـ ان
من المحتمل قريبا ـ بل هو الظاهر من الخبر المذكور ـ انه مع تحقق اصابة الإناء حصل
الشك في اصابة الماء أو الظن بذلك ، فحسن السؤال حينئذ عن ذلك. وأجاب (عليهالسلام) بالبناء على يقين الطهارة إلا ان يعلم ذلك باستبانة
الدم في الماء.
نعم لقائل أن
يقول : انه من المقرر في كلامهم انه متى اشتمل الكلام على قيد فمورد الإثبات
والنفي هو القيد. وحينئذ يكون النفي في قوله : «ان لم يكن شيء يستبين» راجعا إلى
الاستبانة التي هي صفة الشيء. والظاهر ان بناء الاستدلال على ذلك.
وأجيب عن ذلك
بأنه انما يحسن لو كان في السؤال تصريح بإصابة الدم الماء. وفيه انه متى كان تقدير
السؤال هو ان الدم قد أصاب الإناء ولكن أظن أو أشك في إصابته الماء ، فإنه يحسن في
الجواب بناء على ذلك التقدير المذكور ان يقال : انه وان أصاب الماء حقيقة فضلا عن
ظن ذلك أو الشك فيه إلا ان مجرد اصابة الماء مع عدم ظهوره واستبانته
غير موجب للنجاسة. واما الجواب ـ بكون (يستبين) خبرا لكان وان اسمها (شيء)
ـ فظني بعده ، بل الظاهر ان (كان) هنا تامة. ومع تسليمه فهو إنما يتم على تقدير
نقل الخبر كذلك كما هو في التهذيب ، واما على ما هو المحكي عن الكافي من ان لفظ
الرواية فيه «ان لم يكن شيئا يستبين في الماء» فلا مجال لهذا الجواب. وبذلك تبقى
المسألة في قالب الاشكال.
هذا. وبعض
محققي متأخري المتأخرين صار الى العمل بالخبر المذكور. استنادا الى ان ما دل على
انفعال القليل بالملاقاة لا يدل على العموم ، إذ الروايات الدالة بمنطوقها على ذلك
مختصة بموارد مخصوصة ، والدالة بمفهومها لا عموم لمفهومها ، وإنما يتم ذلك
بالإجماع على عدم الفصل بين النجاسات ، وهو غير جار في محل الخلاف ، فلا جرم كان
ما نحن فيه داخلا في عموم أدلة الطهارة. وفيه ما عرفته في المقام الأول في الجواب
عن الوجه الخامس من كلام الفاضل المتقدم ذكره من ثبوت العموم في المفهوم
على وجه معلوم غير موهوم.
واعترض بعض
محققي متأخري المتأخرين على الشيخ (قدسسره) بان مورد الرواية دم الأنف ، فالتعميم لا يخلو من
اشكال. وفيه انه لو خصت الأحكام بخصوص الوقائع المخصوصة ومشخصاتها الخارجية ، لم
يكد يتفق وجود حكم كلي في أحكام الفقه إلا القليل. والظاهر ان خصوصية الأنف هنا
غير ملحوظة ، فيتعدى الحكم إلى سائر أفراد الدم من باب تنقيح المناط القطعي كما
تقدم بيانه في المقدمة الثالثة فلا اشكال.
نعم تعميم
الشيخ الحكم المذكور في المبسوط للدم وغيره لا يخلو من الاشكال لاختصاص مورد الخبر
المذكور بالدم ، وظهور التغاير في الأحكام بين افراد النجاسات
__________________
في العفو وعدمه وتعدد الغسل وعدمه ونحو ذلك ، فلا يمكن دخول ذلك في تنقيح
المناط القطعي. وصار البعض المتقدم ذكره إلى تقوية ما في المبسوط بناء على ما
نقلنا عنه. وفيه ما عرفته. وما ذكره الشيخ (قدسسره) من عدم إمكان التحرز ممنوع سواء أريد به ما يدل عليه
ظاهر اللفظ أو الكناية عن المشقة.
(المقام الرابع)
ـ المفهوم من كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في تعليقاته على كتاب المدارك تخصيص القول بنجاسة
القليل بالملاقاة بالماء الساكن دون الجاري لا عن نبع ، حيث قال بعد قول السيد (قدسسرهما) في الكتاب المذكور : «أطبق علماؤنا إلا ابن ابي عقيل
على ان الماء. إلخ» ـ ما صورته : «قلت : الإطباق ثابت في الماء القليل الساكن دون
الجاري لا عن نبع كما سيجيء ان شاء الله تعالى» انتهى. وأشار بقوله : «كما سيجيء»
الى ما قدمنا نقله عنه في آخر المسألة الثانية من الفصل الثاني .
وقد سبقه الى
ذلك ايضا المحقق الشيخ حسن (طاب ثراه) في المعالم كما قدمنا نقله في المسألة
المذكورة حيث قال ثمة : «إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص عن
الكر بالملاقاة مختصة بالمجتمع والمتقارب. الى آخر ما تقدم» ومبنى ما ذكروه على ان
المستفاد ـ من أخبار الكر كمية واشتراطا ـ اعتبار الاجتماع في الماء ، وصدق الوحدة
على ذلك الماء إنما هو باعتبار ذلك ، فمورد جعل الكر وعدمه مناطا للعصمة عن
الانفعال وعدمها إنما هو المجتمع الساكن دون الجاري المذكور. والمسألة محل اشكال
كما قدمنا بيانه في المسألة المشار إليها .
(المقام الخامس)
ـ صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف
__________________
يعرف بينهم ـ ان مما يطهر القليل النجس إلقاء كر عليه دفعة ، فان كان
متغيرا وزال تغيره بذلك وإلا فكر آخر حتى يزول التغير.
وقد وقع الخلاف
بينهم في اشتراط الدفعة وعدمه ، واشتراط الامتزاج وعدمه والظاهر ان منشأ ذلك عدم
ورود حكم تطهير المياه في النصوص ـ لا بطريق العموم ولا الخصوص ـ سوى ما ورد في
ماء الحمام مما لا يحسم مادة الإشكال في المقام. فحينئذ حاول جملة من الأصحاب
للحكم بالطهارة هنا وجها يدخل به تحت عموم الاخبار وهو حصول الوحدة بانضمام الماء
الطاهر الى الماء النجس ليدخل تحت عموم قوله (عليهالسلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء». وقد صرحوا أيضا
بأنه كما يطهر بإلقاء الكر يطهر بمطهرات أخر سنشير إليها ان شاء الله تعالى .
وتفصيل هذه
الجملة يقع في مواضع :
(الأول) ـ قد
اختلفت كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط الامتزاج وعدمه ، واضطربت فتاوى
جملة منهم ، فممن صرح بذلك المحقق في المعتبر في مسألة الغديرين ، حيث قال : «الغديران
الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم
ينجس ولو نقص كل واحد منهما عن الكر إذا كان مجموعها مع الساقية كرا فصاعدا» ثم
قال بعد هذا الكلام بلا فصل : «الثالث ـ لو نقص الغدير عن كر فنجس فوصل بغدير فيه
كر ففي طهارته تردد. والأشبه بقاؤه على النجاسة ، لأنه ممتاز عن الطاهر» ولا يخفى
عليك ما في ظاهر هذا الكلام من التدافع ، الا ان يحمل كلامه الأول على استواء سطحي
الغديرين والثاني على اختلافهما كما أشرنا إليه في المسألة الثانية
__________________
من الفصل الثاني. وقال العلامة في التذكرة : «لو وصل بين الغديرين بساقية
اتحدا ان اعتدل الماء والا في حق السافل ، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة ،
ولو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال وانتقاله إلى الطهارة مع
الممازجة ، لأن النجس لو غلب الطاهر نجسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على حاله»
انتهى. وقال الشهيد في الذكرى : «وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكر
مماسة لم يطهر ، للتميز المقتضي لاختصاص كل بحكمه ، ولو كان الملاقاة بعد الاتصال
ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير» انتهى.
ولا يخفى عليك
ما في عبائر هؤلاء الأفاضل من المناقشة ، فإنه متى كان الاتصال بين الغديرين
بساقية مع تساوي السطوح موجبا للاتحاد في صورة عدم النجاسة ، فلم لا يكون موجبا له
ايضا بعد تنجس أحدهما حتى انه يشترط الممازجة؟ إذ من الظاهر ان عروض النجاسة وعدمه
لا مدخل له في الاتحاد وعدمه ، فان وصف النجاسة لا يخرج الماء عن حقيقة المائية ،
والحكم بالاتحاد إنما ابتنى على ذلك ، وإلا فلو تغير الماء بلون طاهر ثم وصل بماء
خال من اللون اقتضى ذلك تعدد الماءين ، ولا أظنهم يلتزمونه وحينئذ فإن كان مجرد
الاتصال كافيا فينبغي أن يكون في الموضعين وإلا فلا ، والقائلون بالاكتفاء بمجرد
الاتصال وحصول الاتحاد به وان أوجبوا المساواة أو علو الكثير بعد عروض النجاسة كما
نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني في كتاب الروض ، إلا ان ذلك ليس من حيث عدم الاتحاد
بل من حيث انه يشترط في المطهر علوه وامتزاجه ، والا فهو قد صرح بحصول الاتحاد
بمجرد المساواة ، واحتمل ايضا فيه الاكتفاء بذلك بناء على حصول الاتحاد به في
الصورة المذكورة ، بخلاف كلامهم هنا ، لتصريحهم بامتياز النجس عن الطاهر.
احتج ثاني
المحققين وثاني الشهيدين على الاكتفاء بمجرد الاتصال بما يرجع الى وجوه ثلاثة :
(أحدها) ـ الأصل.
و (ثانيها) ـ عدم
تحقق الامتزاج. لأنه ان أريد به امتزاج مجموع الاجزاء بالمجموع لم يتحقق الحكم
بالطهارة ، لعدم العلم بذلك بل ربما علم عدمه. وان أريد به البعض لم يكن المطهر
للبعض الآخر الامتزاج بل مجرد الاتصال. وحينئذ فيلزم اما القول بعدم طهارته ، وهو
باطل قطعا ، للإجماع على انه ليس وراء الامتزاج المذكور شرط آخر لطهر الجميع ، أو
القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال ، وحينئذ فيلزم القول به مطلقا .
و (ثالثها) ـ ان
الاجزاء الملاقية للطاهر تطهر بمجرد الاتصال قطعا فتطهر الأجزاء التي تليها ،
لاتصالها بالكثير الطاهر. وكذا القول في بقية الاجزاء.
وأورد على
الأول بأن التمسك بالأصل هنا لا معنى له بالكلية. فإن يقين النجاسة ـ الموجب
لأصالة بقائها حتى يثبت المزيل ـ معارض ومخرج عن ذلك الأصل
و (على الثاني)
انا نختار (أولا) ـ امتزاج المجموع بالمجموع. لكن لا بالمعنى الذي ذكره ، بل بمعنى
اختلاطهما على وجه يستهلك الماء النجس ولا يظهر له أثر بالكلية. لكن لا يخفى ان
عدم ظهور أثر النجس بالكلية كما يحصل بالاستهلاك والاضمحلال في الماء الطاهر ،
كذلك قد يكون سببه تشابه الماءين وان لم يحصل ثمة استهلاك. وحينئذ فالقول به مطلقا
مشكل إلا بدعوى الإجماع على الطهارة بذلك. وفيه ما لا يخفى. نعم لو كان سطح الماء
أوسع من سطح القليل وألقي عليه. فإنه يحصل العلم بالاستهلاك والمداخلة. وسيأتي ما
فيه مزيد بيان لذلك ان شاء الله تعالى.
و (ثانيا) ـ نختار
امتزاج البعض وان الباقي يطهر حينئذ. قوله ـ : انه متى كان طهر الباقي بمجرد
الاتصال يلزم القول به مطلقا ـ ممنوع. ووجه الفرق ظاهر ،
__________________
فان الحكم بالطهارة والنجاسة تابع للدلالة الشرعية ، وليس للعقل فيه مدخل
بوجه ، ونحن إنما حكمنا بطهارة الأجزاء الباقية بعد الامتزاج لما ذكرتموه من
الإجماع على حصول الطهارة للمجموع بذلك ، وهذا لا يستلزم الحكم بطهارة ما لم يحصل
فيه امتزاج أصلا بمجرد الاتصال ، لعدم شمول الدليل المذكور له. ولانه ربما كان
للممازجة البعض مدخل في التطهير فلا يتم الاكتفاء بمجرد الاتصال.
و (على الثالث)
ـ انه موقوف على وجود دليل على ان الماء يطهر نفسه ، والأدلة العامة الدالة على
كونه طهورا غاية ما تدل عليه كونه مطهرا في الجملة. وضم الإجماع في
تتمة الاستدلال بها لا يتم في مقام النزاع والخاصة الواردة في جزئيات الأحكام إنما تدل على كونه
مطهرا لغيره ، بل ربما دل حديث «انه يطهر ولا يطهر» . بظاهره على عدم وقوع التطهير هنا.
والقول الفصل
في المقام ان يقال : لما كان الحكم المذكور غير منصوص فالواجب فيه رعاية الاحتياط
الذي به يحصل يقين البراءة ، لما عرفت في المقدمة الرابعة من ان الاحتياط في مثل هذا الموضع واجب. وهو لا يحصل
إلا بالقول بالامتزاج على وجه يستهلك الماء النجس في جنب الماء الطاهر.
ويؤيد ذلك ما
قدمنا من معنى حديث «الماء يطهر ولا يطهر» بحمل كونه لا يقبل التطهير على
الممازجة الموجبة لاضمحلاله واستهلاكه.
__________________
ويؤيده أيضا ما
حققه المحقق الشيخ حسن (قدسسره) في كتاب المعالم ، من انه لما دل النص والإجماع على ان
وقوع النجاسة في الكثير أو وقوعها عليه لا يمنع من استعماله ولا يؤثر فيه تنجيسا
وان كثرت ما لم تتغير بها ، لاستهلاكها فيه واضمحلالها في جنبه ، فيدل بمفهوم
الموافقة على ان الماء النجس بهذه المثابة ، فإذا وقع في الماء أو وقع الماء عليه
وصار مستهلكا فيه بحيث شاعت اجزاؤه ولم تتميز وجب الحكم بطهارته. نعم فيه ما تقدم
من ان العلم بذلك يقينا إنما يحصل فيما لو كان سطح الماء الكثير أوسع من سطح
القليل النجس ، أو كان الماء النجس ذا طعم أو لون أو رائحة وانعدمت بوضعه في الماء
الكثير.
(الموضع الثاني)
ـ انه مع اعتبار الامتزاج وعدم الاكتفاء بمجرد الاتصال. فهل يشترط الدفعة العرفية
، بمعنى وقوع جميع اجزاء الماء الكثير في زمان قصير بحيث يصدق عليه الدفعة عرفا حيث ان اعتبار الدفعة الحقيقية محال ، أم لا يشترط ، بل
يكفي وقوعه تدريجا لكن بشرط عدم الانقطاع؟
قد اختلفت
عباراتهم أيضا في ذلك ، فممن صرح بالدفعة جمع منهم : المحقق في الشرائع والعلامة
في جملة من كتبه وكذا الشهيد ، بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين. ومنهم من
أطلق كالمحقق في المعتبر ، وهو المنقول ايضا عن الشيخ في الخلاف والمبسوط. ومنهم
من صرح بالاكتفاء بوقوعه تدريجا كالشهيد في الذكرى
__________________
واعترضه المحقق الثاني بأن فيه تسامحا ، لان وصول أول جزء منه الى النجس
يقتضي نقصانه عن الكر فلا يطهر ، ولورود النص بالدفعة وتصريح الأصحاب بها. ورده
السيد السند في المدارك بأنه غير جيد ، فإنه يكتفى في الطهارة ببلوغ المطهر الكر
حال الاتصال إذا لم يتغير بعضه بالنجاسة وان نقص بعد ذلك ، مع ان مجرد الاتصال
بالماء النجس لا يقتضي النقصان كما هو واضح. وما ادعاه من ورود النص بالدفعة منظور
فيه ، فانا لم نقف عليه في كتب الحديث ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال. وتصريح
الأصحاب بالدفعة ليس حجة ، مع ان العلامة في المنتهى والتحرير اكتفى في تطهير
الغدير القليل النجس باتصاله بالغدير البالغ كرا. ومقتضى ذلك الاكتفاء في طهارة
القليل باتصال الكر به وان لم يلق كله فضلا عن كونه دفعة انتهى. وفيه ان ما ذكره ـ
من انه يكتفى في الطهارة ببلوغ الكر حال الاتصال ـ محل نظر ، لما عرفت آنفا من عدم
الدليل على ذلك ، إلا ان يكون ذلك إلزاما للمعترض ، حيث انه من القائلين بالاكتفاء
بمجرد الاتصال.
وفصل المحقق
الشيخ حسن (قدسسره) في المعالم ، فقال : «والتحقيق في ذلك انه لا يخلو ،
اما ان يعتبر في عدم انفعال مقدار الكر استواء سطحه أولا ، وعلى الثاني اما ان
يشترط في التطهير حصول الامتزاج أولا ، وعلى تقدير عدم الاشتراط اما أن يكون حصول
النجاسة عن مجرد الملاقاة أو مع التغير. فههنا صور أربع :
(الاولى) ـ ان
يعتبر في عدم انفعال الكر استواء السطح. والمتجه حينئذ اشتراط الدفعة والإلقاء ،
لأن وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة ، فتنفعل الأجزاء التي يصيبها الماء
النجس ، وينقص الطاهر عن الكر فلا يصلح لإفادة الطهارة ولا فرق في ذلك بين المتغير
وغيره ، لاشتراك الكل في التأثير في القليل ، والمفروض صيرورة الاجزاء بعدم
المساواة في معنى القليل.
(الثانية) ـ ان
يهمل اعتبار المساواة ولكن يشترط الامتزاج. والوجه عدم اعتبار الدفعة حينئذ بل ما
يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس واستهلاكه له ، حتى لو فرض حصول ذلك قبل إتمام إلقاء
الكر لم يحتج إلى الباقي. ولا يفرق هنا ايضا بين المتغير وغيره ، لكن يعتبر في
المتغير مع الممازجة زوال تغيره ، فيجب ان يلقى عليه من مقدار الكر ما يحصل به
الأمران ، ولو قدر قوة المتغير بحيث يلزم منه تغير شيء من اجزاء الكر حال وقوعها
عليه ، وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك اما بتكثير الاجزاء أو بإلقاء الجميع دفعة.
(الثالثة) ـ ان
لا يشترط الممازجة ولا يعتبر المساواة وتكون نجاسة الماء بمجرد الملاقاة. والمتجه
حينئذ الاكتفاء بمجرد الاتصال ، فإذا حصل بأقل مسماه كفى ولم يحتج إلى الزيادة
عنه.
(الرابعة) ـ الصورة
بحالها ولكن كان الماء متغيرا. والمعتبر حينئذ اندفاع التغير كما في صورة اشتراط
الامتزاج ، وحينئذ لو فرض تأثير التغير في بعض الاجزاء تتعين الدفعة أو ما جرى
مجراها كما ذكر. وحيث قد تقدم منا الميل الى اعتبار المساواة فاعتبار الدفعة متعين»
انتهى كلامه (زيد مقامه).
ويرد على ما
ذكره في الصورة الاولى انه قد صرح سابقا بان الذاهبين الى اعتبار المساواة مصرحون
بعدم انفعال القليل المتصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى ، كما قدمنا لك عبائر جملة
منهم في المسألة الثانية من الفصل الثاني وقال (قدسسره) هناك بعد البحث في ذلك : «وقد تحرر من هذا ان عدم
انفعال الواقف بالملاقاة مشروط ببلوغ مقدار الكر مع تساوي السطوح ، أو باتصاله
بمادة هي كر فصاعدا ، ولا يعتبر استواء السطوح في المادة بالنظر الى عدم انفعال ما
تحتها. إلخ» ومفهوم هذا الكلام
__________________
ان الشرط في عدم انفعال الكثير الواقف اما تساوي سطوحه أو كون الأعلى منه
كرا فصاعدا ، لعدم تقوي الأعلى بالأسفل عندهم ، وحينئذ فالوحدة والاجتماع اللذان
هما مدار العصمة عن الانفعال حاصلان على تقدير التساوي والاختلاف على الوجه
المذكور ، فلا يتجه اعتبار الدفعة بل يجزي الوقوع تدريجا ، ويرجع الى ما ذكره في
الصورة الثانية وبذلك يظهر لك ما في آخر كلامه من قوله : «وحيث قد تقدم منا الميل.
إلخ» فإنه قد تقدم منه كما حكينا عنه الميل الى اعتبار المساواة أو علو الكثير لا اعتبار
المساواة خاصة كما يوهمه كلامه هنا.
ويرد على ما
ذكره في الصورة الثانية انه مع إهمال اعتبار المساواة وان اشترط الامتزاج ،
فالاكتفاء بامتزاج البعض ممنوع. لما عرفت آنفا من عدم النص في تطهير المياه ، والأصل بقاء النجاسة.
وغاية ما يمكن التشبث به في هذا الباب الإجماع. وهو إنما يثبت بالإلقاء دفعة على
وجه يستلزم دخول جميع الاجزاء بعضها في بعض. وبالجملة فإن وجوب الدفعة كما يترتب
على اعتبار المساواة كذلك يترتب على اشتراط الامتزاج ، إذ امتزاج البعض وان أوجب
استهلاك النجس ، إلا انه لا دليل على حصول التطهير به. وأيضا فإن القائلين باعتبار
الممازجة لم يظهر منهم التصريح بالاكتفاء بممازجة البعض ، بل ربما ظهر من كلامهم
اعتبار ورود جميع الكر عليه ، وبذلك يظهر لك ما في تتمة كلامه في الصورة المذكورة.
ويرد على ما
ذكره في الصورة الثالثة ان ما ذكر فيها ـ من عدم اشتراط الممازجة وعدم اعتبار
المساواة ـ أعم من الاكتفاء بالاتصال مطلقا أو حصول الممازجة في بعض. وعدم اشتراط
الدفعة هنا إنما يتم على الأول دون الثاني ، لما عرفت آنفا .
__________________
وبالجملة فطريق الاحتياط اعتبار الدفعة على الوجه الذي ذكرنا سابقا في
الممازجة والله اعلم.
(الموضع الثالث)
ـ ينبغي أن يعلم انه على جميع التقادير من القول بالدفعة والممازجة أو الاكتفاء
بمجرد الاتصال ، لو كان الماء متغيرا بالنجاسة فالواجب أن يزال التغير أولا ، إلا
أن يحصل زواله بالإلقاء دفعة بحيث لا يتغير شيء من ماء الكر ، أو يزاد في مقدار
الماء المطهر على وجه يسلم مقدار الكر عن التغير. وعبائر جملة من الأصحاب وان دلت
بإطلاقها في صورة التغير على انه يجب إلقاء كر يزيل تغيره وان تغير بعض الكر في
ابتداء الوصول ، إلا ان الظاهر انه ليس بمراد لهم.
(الموضع الرابع)
ـ انه قد ذكر جملة من الأصحاب انه متى كان الماء القليل متغيرا فطهره بإلقاء كر
عليه ، فان زال به التغير والا فكر آخر وهكذا ، وقيده جملة من المتأخرين بأن إلقاء
الكر الآخر ـ مع عدم زوال التغير بالكر السابق ـ إنما هو على تقدير ان لا يتميز كر
طاهر غير متغير عن الماء المتغير ، والا فيكفي حينئذ في تطهير النجس المتصل به
التموج حتى يزول التغير كما تقدم في تغير بعض الكثير. ولا يخفى ما فيه على إطلاقه
من الإشكال ، لأنه متى فرض ان القليل قد تغير بعضه ، وانه بإلقاء الكر عليه دفعة
فالقدر الذي وقع على ذلك البعض المتغير قد تغير ايضا ، والواقع على غير المتغير
حينئذ أقل من كر ، فإنه يلزم ان ينجس الواقع على غير المتغير في أول آن الملاقاة
بوقوعه على النجس وان بلغ معه بعد الوقوع كرا. واعتبار الدفعة الواحدة الموجبة
لاتحاد الماءين مقيدة بعدم تغير شيء من الكر الملقى كما عرفت آنفا. نعم لو قلنا
بالاكتفاء بمجرد الاتصال أو الامتزاج في الجملة ، وكان وقوع الكر المذكور في غير
الناحية التي فيها التغير ، اتجه ان يكون ما وقع عليه الكر أو اتصل به طاهرا البتة
، وتختص النجاسة بالمتغير ، فيصير من قبيل مسألة الكثير المتغير بعضه. ولعل
الى ذلك لحظ السيد السند في المدارك ، حيث انه قيد وجوب إلقاء الكر مرة
أخرى بتغير الكر الأول أو بعضه بالنجاسة ، وخص الطهارة بالتموج والامتزاج بما إذا
بقي الكر الملقى على حاله ، ولم يكتف بحصول كر في الجملة ولو من الماء السابق
واللاحق ، كما يعطيه ظاهر الكلام الذي نقلناه .
(الموضع الخامس)
ـ انه على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال ـ كما هو أحد القولين المتقدمين ـ هل
يكفي الاتصال كيف كان أم لا بد من المساواة أو علو المطهر؟
قد عرفت مما
تقدم في الفصل الثاني وقوع الخلاف في اشتراط المساواة والاختلاف في مقدار
الكر ، وان جملة من الأصحاب ـ كشيخنا الشهيد الثاني وغيره ـ قائلون بعدم انفعاله
وان اختلفت سطوحه كيف كان ، وان جملة منهم ـ كالشهيد والشيخ علي والعلامة في أحد
قوليه ـ يقيدون ذلك بالمساواة أو علو الكثير. هذا قبل عروض النجاسة. اما لو عرضت
للقيل ثم وصل بالكثير ، فظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ الذي هو أحد القائلين
بالاتحاد مع اختلاف السطوح في الشق الأول ـ عدم القول بالاتحاد هنا. بل يشترط
المساواة أو علو الكثير ، وحينئذ فظاهرهم الاتفاق هنا على علو المطهر أو مساواته.
(الموضع السادس)
ـ لو كان الماء القليل النجس في كوز ونحوه ، توقف طهره على دخول المطهر اليه
وممازجته له على القول بالممازجة. ولو كان الإناء مملوء فالظاهر عدم طهارته ، لعدم
إمكان التداخل. إلا ان يكون للمطهر قوة وانصباب بحيث يدافع ما في الكوز. ومما يعلم
به عدم الممازجة بقاء ماء الكوز على وصفه المباين ان كان كذلك ، كعذوبته مع ملوحة
المطهر ، وحرارته مع برودة المطهر ، أو بالعكس فيهما ، ويكفي مجرد اتصال المطهر به
على القول الآخر على الوجه المذكور.
__________________
(الموضع السابع)
ـ لو فرق ماء الكر في ظروف عديدة وألقي ماء كل منها على حياله على الماء النجس مع
اتصال الانصباب الى الفراغ ، فالظاهر انه لا يفيد طهارة.
(أما أولا) ـ فلأن
المفهوم من الأخبار وكلام الأصحاب اختصاص اسم الكر بالماء المجتمع ، بل قد عرفت
آنفا من كلام المحققين الشيخ حسن في المعالم والمحدث الأمين (قدسسرهما) المناقشة في ثبوت صدق الكرية مع اختلاف السطوح ، لكون
المفهوم عندهما من الأخبار اعتبار تساوي اجزاء الماء في صدق الكر عليه ، فكيف مع
تفرقة في ظروف عديدة؟
و (اما ثانيا)
ـ فلأن الدفعة العرفية ـ التي هي عبارة عن الوقوع في أقرب زمان ـ انما تحصل مع
الاجتماع لا مع التفرق.
و (اما ثالثا)
ـ فلأن الشارع قد جعل الكر معيارا لعدم الانفعال بالملاقاة ، ولا ريب ان هذا الماء
بتفريقه قابل للانفعال ، لقلة كل ظرف منه. فلا تصدق عليه الكرية ، ومتى لم تصدق
عليه لم يحصل به التطهير.
و (اما رابعا)
ـ فلأنه بوصول أول كل ماء من مياه تلك الظروف الى الماء النجس ، يجب الحكم بنجاسته
، لكونه ماء قليلا لاقى نجاسة ، فلو اجتمعت منه كرور ـ والحال هذه ـ كان حكمها
كذلك. والعجب من جمع ممن رأيناهم ـ من فضلاء بلادنا البحرين ـ انهم يحكمون
بالتطهير بذلك بل يفعلونه. وقد حضرت ذلك غير مرة وكنت يومئذ قبل ابان الخوض في
تحقيق هذه المسائل والبحث عن هذه الدلائل. ولم أعلم ما الوجه فيه عندهم.
(الموضع الثامن)
ـ انه كما ان من الطرق لتطهير القليل ما ذكرنا من ورود الكر عليه أو اتصاله به على
التفصيل المتقدم ، كذلك :
__________________
(منها) ـ وقوعه
في الكر ايضا. وحينئذ فإن كان القليل متغيرا اشترط في طهره امتزاجه بما وقع عليه
ليرفع التغير ، فان ارتفع بذلك وإلا جرى فيه ما ذكرنا في الموضع الرابع. وان لم
يكن متغيرا بني على الخلاف في اعتبار الممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال على
الوجه المتقدم من اعتبار المساواة أو علو المطهر.
و (منها) ـ وقوع
ماء المطر عليه ، وقد تقدم الكلام فيه في الفرع الأول من فروع المقالة التاسعة من
الفصل الأول .
و (منها) ـ اتصاله
بالنابع لكن مع علو النابع أو مساواته. وفي حكمه الجاري عن مادة كثيرة. والكلام في
اشتراط الممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال على ما تقدم ويبنى الكلام أيضا في النابع على الخلاف في اشتراط
الكرية وعدمه كما تقدم .
(الموضع التاسع)
ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تطهير القليل النجس بإتمامه كرا.
فالمنقول عن
الشيخ في الخلاف وابن الجنيد ـ واليه ذهب أكثر المتأخرين ـ القول بالبقاء على
النجاسة.
ونقل عن
المرتضى في المسائل الرسية القول بالطهارة. واقتفاه في ذلك ابن إدريس ، ويحيى بن
سعيد صاحب الجامع وابن حمزة والمحقق الشيخ علي. وهم بين مصرح بعدم الفرق بين
إتمامه بطاهر أو نجس ، وبين مقيد له بالطاهر ، وبين
__________________
مطلق يتناول بظاهره الأمرين .
احتج الأولون
بأنه ماء محكوم بنجاسته شرعا ، فتوقف الحكم بارتفاعها على الدليل. وليس فليس ، لما
سيظهر بعد إبطال أدلة الخصم.
(لا يقال) : ان
هذا تمسك بالاستصحاب ، وأنتم قد نفيتم التمسك به آنفا .
(لأنا نقول) :
ان الاستصحاب في مثل هذه الصورة ليس من القسم المتنازع فيه ، بل من قبيل ما يدخل
تحت عموم الدليل أو إطلاقه ، لأن ما دل على نجاسة القليل بالملاقاة لا تقييد فيه
بوقت دون آخر ولا بحالة دون اخرى ، ولان من جملة أدلة نجاسة الماء القليل الأخبار
الدالة على النهي عن الوضوء والشرب منه متى لاقته نجاسة ، والنهي عندهم للتكرار
والدوام ، ولأن الأخبار ـ الدالة على عدم الخروج عن يقين الطهارة أو النجاسة إلا
بيقين مثله ـ شاملة لمحل النزاع.
وما ذكره بعض
فضلاء متأخري المتأخرين ـ من منع هذه الأدلة هنا من غير ان يبين وجهه بتفصيل ولا
إجمال ـ لا اعرف له وجها إلا مجرد حب المناقشة في أمثال هذا المجال.
احتج المرتضى (رضياللهعنه) ـ على ما نقل عنه ـ بوجهين :
(أحدهما) ـ ان
بلوغ قدر الكر موجب لاستهلاكه للنجاسة ، فيستوي وقوعها قبل البلوغ وبعده.
و (ثانيهما) ـ ان
الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة ولم يعلم هل كان وقوعها
قبل بلوغ الكرية أو بعده؟ وما ذاك إلا لتساوي الحالين ،
__________________
إذ لو اختص الحكم ببعدية الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه ، لانه كما
يحتمل تأخره عن البلوغ يحتمل تقدمه عليه.
واحتج ابن
إدريس بالإجماع ، وبقوله (عليهالسلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» .
وهو عام. وزعم
ان هذه الرواية مجمع عليها عند المخالف والمؤالف وبالعمومات الدالة على طهارة
الماء وجواز استعماله كقوله سبحانه : «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ...» وقوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...»
وقوله (عليهالسلام) لأبي ذر : «إذا وجدت الماء فأمسه جسدك» .
وقوله (عليهالسلام) : «اما انا فلا أزيد على ان احثو على رأسي ثلاث حثيات.
فإذا انى قد طهرت» .
__________________
وأجيب عن ذلك ،
اما عن أول دليلي المرتضى (رضياللهعنه) فبأنه محض قياس لا يعمل به ، إذ استهلاك النجاسة الذي
دل النص عليه إنما هو بعد البلوغ ، فالحلق استهلاك النجاسة الواقعة قبل البلوغ
بذلك قياس محض. على ان الفارق موجود ، وهو ان الماء بعد البلوغ له قوة في قهر
النجاسة إذا وردت عليه بخلافه قبل ، لانقهاره بالنجاسة فلا يصير قاهرا لها.
واما عن
ثانيهما فبأن الحكم بالطهارة في صورة دعوى الإجماع إنما هو بناء على أصالة الطهارة
حتى تعلم النجاسة. والنجاسة هنا غير معلومة ، لاحتمال تأخرها عن البلوغ ، إذ عدم
العلم بتقدم الوقوع وتأخره يقتضي الشك في التقدم الذي هو سبب النجاسة ، فلا جرم
تكون النجاسة مشكوكا فيها.
واما عن أدلة
ابن إدريس فبما ذكره المحقق في المعتبر ، حيث قال ـ ونعم ما قال ـ وتنازعني نفسي
إلا ان أذكره بتمامه ، فإنه جيد رشيق ، وبالإثبات ـ وان طال به زمام الكلام ـ حقيق
واي حقيق ، قال (قدسسره) بعد نقل الأدلة المذكورة : «فالجواب دفع الخبر ، فانا
لم نروه مسندا ، والذي رواه مرسلا المرتضى (رضياللهعنه) والشيخ أبو جعفر (رحمهالله) وآحاد ممن جاء بعده. والخبر المرسل لا يعمل به. وكتب
الحديث عن الأئمة (عليهمالسلام) خالية منه أصلا. واما المخالفون فلم اعرف به عاملا سوى
ما يحكى عن ابن حي ، وهو زيدي منقطع المذهب وما رأيت أعجب ممن يدعي إجماع المخالف
والمؤالف فيما لا يوجد إلا نادرا ، فاذن الرواية ساقطة. واما أصحابنا فرووا عن
الأئمة (عليهمالسلام) «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» . وهذا صريح في ان بلوغه كرا هو المانع لتأثره بالنجاسة.
ولا
__________________
يلزم من كونه لا ينجسه شيء بعد البلوغ رفع ما كان ثابتا فيه ومنجسا قبله.
والشيخ (رحمهالله) قال بقولهم (عليهمالسلام) ونحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا
اللفظ ، وانما رأينا ما ذكرناه ، وهو قول الصادق (عليهالسلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» . ولعل غلط من غلط في هذه المسألة لتوهمه ان معنى
اللفظين واحد. واما الآيات والخبر البواقي فالاستدلال بها ضعيف لا يفتقر الى جواب
، لأننا لا ننازع في استعمال الطاهر المطلق ، بل بحثنا في هذا النجس إذا بلغ كرا
يطهر ، فان ثبتت طهارته تناولته الأحاديث الآمرة بالاغتسال وغيره. وان لم تثبت
طهارته فالإجماع على المنع منه ، فلا تعلق له اذن فيما ذكره. وهل يستجيز محصل ان
يقول النبي (صلىاللهعليهوآله) : «احثوا على رأسي ثلاث حثيات مما يجتمع من غسالة
البول والدم وميلغة الكلب» واحتج ايضا لذلك بالإجماع ، وهو أضعف من الأول لأنا لم
نقف على هذا في شيء من كتب الأصحاب ، ولو وجد كان نادرا ، بل ذكره المرتضى (رحمهالله) في مسائل منفردة وبعده اثنان أو ثلاثة ممن تابعه.
ودعوى مثل هذا إجماعا غلط ، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم دخول الامام فيهم ، فكيف
بدعوى الثلاثة والأربعة» انتهى كلامه (زيد مقامه) ومن المستطرف قوله : «وهل يستجيز
محصل. إلخ».
الفصل الرابع
في حكم البئر ،
وفيه أبحاث :
(البحث الأول)
ـ قد عرف شيخنا الشهيد ـ في شرح الإرشاد ـ البئر بأنها مجمع ماء نابع من الأرض لا
يتعداها غالبا ولا يخرج عن مسماها عرفا. واعترضه المحقق
__________________
الشيخ علي بان القيد الأخير موجب لإجمال التعريف ، لان العرف الواقع في
العبارة لا يظهر اي عرف هو؟ أهو عرف زمانه أم عرف غيره؟ وعلى الثاني فيراد العام
أو الأعم منه ومن الخاص؟ مع انه يشكل ارادة عرف غيره (صلىاللهعليهوآله) وإلا لزم تغير الحكم بتغير التسمية ، فيثبت في العين
حكم البئر لو سميت باسمه. وبطلانه ظاهر والذي يقتضيه النظر ان ما يثبت إطلاق البئر
عليه في زمنه (صلىاللهعليهوآله) أو زمن أحد الأئمة المعصومين (عليهمالسلام) كالتي في العراق والحجاز فثبوت الأحكام له واضح ، وما
وقع فيه الشك فالأصل عدم تعلق أحكام البئر به ، وان كان العمل بالاحتياط اولى.
انتهى. وأجاب السيد السند في المدارك بأنه قد ثبت في الأصول ان الواجب حمل الخطاب
على الحقيقة الشرعية ان ثبتت ، وإلا فعلى عرف زمانهم (عليهمالسلام) خاصة ان علم ، وإلا فعلى الحقيقة اللغوية إن ثبتت ،
وإلا فعلى العرف العام ، إذ الأصل عدم تقدم وضع سابق عليه وعدم النقل عنه. ولما لم
يثبت في هذه المسألة شيء من الحقائق الثلاث المتقدمة ، وجب الحمل على الحقيقة
العرفية العامة في غير ما علم إطلاق ذلك اللفظ عليه في عرفهم (عليهمالسلام) ومنه يعلم عدم تعلق الأحكام بالآبار الغير النابعة كما
في بلاد الشام ، والجارية تحت الأرض كما في المشهد الغروي على ساكنه السلام ، وعدم
تغير الحكم بتغير التسمية. انتهى. وفيه ما عرفته في المقدمة الثامنة من عدم الدليل على هذا التفصيل الذي ذكره والقاعدة التي
بنوا عليها ، مع ان ما ذكره ـ من ان مع عدم ثبوت شيء من الحقائق الثلاث يجب الحمل
على العرف العام ـ مما لا دليل عليه ايضا. والتمسك بأصالة عدم تقدم وضع سابق عليه
وعدم النقل بمحل من الضعف. على انه لا يخفى ما في بناء الأحكام على العرف العام من
العسر والحرج المنفيين بالآية والرواية كما قدمنا ثمة .
__________________
أقول :
والتحقيق ان القدر المعلوم ـ من الاخبار وكلام الأصحاب ـ هو ان ما علم تسميته بئرا
في زمنهم (عليهمالسلام) فلا ريب في إجراء أحكام البئر عليه ، وما لم يعلم فإنه
لا بد فيه من النبع ، كما دل عليه بعض صحاح الاخبار من ان له مادة. يعني الينبوع
الذي يخرج منه الماء بقوة. فعلى هذا لو كان مما يخرج رشحا فإنه يكون من قبيل الماء
المحقون في بلوغ الكرية وعدمه ، وقيل انه يسمى بالثمد. كما تقدمت الإشارة إليه في
أول الباب. ولا بد فيه ايضا من التسمية بئرا ، لأن الأحكام في الاخبار إنما علقت
على صدق هذا العنوان. وبذلك يظهر صحة ما ذكره شيخنا الشهيد (قدسسره) والله العالم.
(البحث الثاني)
ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ في نجاسة البئر بالملاقاة وعدمها بعد
الاتفاق على نجاستها بالتغير ـ على أقوال :
أشهرها ـ على
ما نقله جمع من المتأخرين ـ القول بالنجاسة.
وقيل بالطهارة
واستحباب النزح ، ونقل عن الحسن بن ابي عقيل ، ونسب ايضا الى الشيخ في بعض أقواله ، وأسنده جمع ايضا الى شيخه الحسين بن
عبد الله الغضائري ، واليه ذهب العلامة في أكثر كتبه وشيخه مفيد الدين بن جهم.
وقيل بالطهارة
مع وجوب النزح ، ذهب إليه العلامة في المنتهى. ونقل ايضا عن الشيخ في التهذيب.
وفيه إشكال ، فإن كلام التهذيب هنا لا يخلو من تشويش واضطراب ، ولهذا نسب اليه
بعضهم القول بالنجاسة.
وفصل بعض ببلوغ
الكر وعدمه ، فينجس على الثاني دون الأول ونسب الى الشيخ ابي محمد الحسن بن محمد
البصروي من المتقدمين. والزم بعضهم العلامة بذلك ، حيث انه
__________________
قائل باشتراط الكرية في الجاري ، والبئر من أنواعه. وأنت خبير بما فيه وانه لو ترتب حكم البئر على الجاري لورد الإلزام على
القول المشهور ايضا كما لا يخفى.
ونقل الشهيد في
الذكرى عن الجعفي انه يعتبر فيه ذراعين في الأبعاد الثلاثة حتى لا ينجس.
وقد تلخص من
ذلك ان الأقوال في المسألة خمسة.
والظاهر من
الاخبار هو القول بالطهارة واستحباب النزح. ولنا عليه وجوه من الأدلة :
(أحدها) ـ أصالة
الطهارة عموما وخصوصا.
و (ثانيها) ـ عموم
الآيات كقوله تعالى : «وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» ونحوها. والماء كله من السماء بنص القرآن والأخبار كما
تقدم بيانه في صدر الفصل الأول فيجب الحكم بطهارته حتى يقوم دليل النجاسة.
و (ثالثها) ـ الأخبار
الصريحة الصحيحة كما سيأتيك ذكرها.
و (رابعها) ـ اختلاف
الأخبار في مقادير النزح في النجاسة الواحدة ، مع صحتها وصراحتها على وجه لا يقبل
الحمل ولا الترجيح كما سيأتيك ان شاء الله تعالى والعمل ببعض دون بعض ترجيح بلا
مرجح ، فيلزم إطراحها رأسا ، للزوم التناقض وانسداد باب الحمل والترجيح.
__________________
و (خامسها) ـ رجحان
أخبار الطهارة ـ لو ثبت التعارض ـ بموافقة القرآن كما عرفت ، ومخالفة العامة ، فإن جمهورهم ـ كما نقله العلامة في
المنتهى ـ على القول بالنجاسة ، ونقل بعض أفاضل المحدثين ان علماء الحنفية ـ الذين
هم العمدة عند سلاطين العامة قديما وحديثا كما تشهد به كتب التواريخ والسير ـ بالغوا
في الحكم بانفعال البئر بملاقاة النجاسة ، وزادوا على كثير من المقدرات الواردة في
صحاح أخبارنا
__________________
وحينئذ فيتعين حمل ما ثبت دلالته على النجاسة على التقية.
(سادسها) ـ انه
مع العمل بأخبار الطهارة يمكن حمل أخبار النجاسة على التقية أو الاستحباب. واما مع
العمل بأخبار النجاسة فلا محمل لاخبار الطهارة ، مع صحتها وصراحتها واستفاضتها كما
ستطلع عليه ، بل يلزم طرحها. والعمل بالدليلين مهما أمكن أولى من طرح أحدهما كما
قرروه في غير موضع ، بل هو من القواعد المسلمة بينهم.
إذا عرفت ذلك
فمن الأخبار الدالة على ما اخترناه صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع عن الرضا (عليهالسلام) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلا ان يتغير».
وصحيحته الأخرى
عنه (عليهالسلام) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلا أن يتغير ريحه
أو طعمه. فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه. لأن له مادة».
ولا يخفى ما
هما عليه من الصراحة بعد صحة السند ، وبيان ذلك من وجوه : (أحدها) ـ وصفه بالسعة
المفسرة بعدم إفساد شيء له إلا في مادة التغير خاصة. والإفساد وان كان كناية عن
عدم جواز استعماله ، وهو كاف في المطلوب ، إلا
__________________
ان الظاهر ان المراد به هنا النجاسة بقرائن المقام التي من جملتها
الاستثناء.
و (ثانيها) ـ التعليل
بكون البئر له مادة.
و (ثالثها) ـ الحصر
في التغير.
و (رابعها) ـ الدلالة
على الاكتفاء في طهارته مع التغير بنزح ما يزيله ، أعم من أن يزيد مقدر تلك
النجاسة على ذلك أو مما يجب له نزح الجميع. ولو لا انه طاهر لوجب استيفاء المقدر
ونزح الجميع في الموضعين.
و (منها) ـ صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة
أو يابسة أو زنبيل من سرقين ، أيصلح الوضوء منها؟ قال : لا بأس».
وما أجيب به
عنه ـ من حمل العذرة على عذرة غير الإنسان ، وان وصول الزنبيل الى الماء لا يستلزم
وصول العذرة ، وان المراد نفي البأس بعد نزح المقدر ـ لا يخفى ما فيه من التكلف
والبعد.
(اما الأول)
فلان العذرة ـ على ما صرح به بعض الأصحاب ، ونقله عن أهل اللغة ـ مخصوصة بغائط
الإنسان. ومع تسليم عدم الاختصاص فالأظهر إرادته هنا بقرينة المقابلة بذكر السرقين
بعدها.
و (اما الثاني)
فإنه بعيد ، بل يستحيل بحسب العادة وقوع الزنبيل في الماء وعدم اتصال الماء بما
فيه ، بل لا معنى للسؤال عند التأمل بالكلية ، لأن الظاهر ان مراد السائل إنما هو
السؤال عن وصول العذرة أو السرقين الى الماء ، وانه هل ينجس بذلك أم لا؟ لا وصول
الزنبيل خاصة مع عدم تعدي ما فيه الى الماء ، فإنه في قوة السؤال عن وصول زنبيل
خال كما لا يخفى.
و (اما الثالث)
فهو من قبيل الألغاز المنافي للحكمة.
__________________
و (منها) ـ صحيحة
معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول : لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما
وقع في البئر إلا ان ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر». وما
أجاب به عنه في المعتبر فضعيف غير معتبر ، فلا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج عليه.
و (منها) ـ صحيحته
الأخرى عن الصادق (عليهالسلام) «في الفأرة تقع في البئر فيتوضأ الرجل منها ويصلي وهو لا يعلم ، أيعيد
الصلاة ويغسل ثوبه؟ فقال : لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه».
والجواب ـ باحتمال
حمل عدم الإعادة وعدم غسل الثوب على عدم العلم بتقدم النجاسة ، لاحتمال وقوعها بعد
ـ منظور فيه بعطف «يتوضأ الرجل» على قوله : «تقع» بالفاء الدالة على تأخر الوضوء
عن الوقوع ، وان كان إنما حصل العلم بالوقوع أخيرا. وهو ظاهر.
و (منها) ـ صحيحة
محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) «في البئر تقع فيها الميتة؟ فقال : ان كان لها ريح نزح منها عشرون دلوا». والجواب
عنها ـ بأنه لا دلالة لها على انه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح شيء ـ لا يخفى ضعفه
فإنه لو لم يكن المراد ذلك لكان حكم المفهوم مسكوتا عنه بالكلية ، وكيف
قنع السائل بفهم حكم المنطوق خاصة ولم يفحص عن حكم المفهوم مع انه أحد شقي السؤال؟
وكيف رضى الإمام (عليهالسلام) بعدم افادته ذلك مع غفلة السائل عنه ودعاء الحاجة
إليه.
__________________
و (منها) ـ موثقة
أبان بن عثمان أو صحيحته عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل عن الفأرة تقع في البئر لا يعلم بها إلا بعد
ما يتوضأ منها ، إيعاد الوضوء؟ فقال : لا». والاحتمال المتقدم في صحيحة معاوية بن
عمار الأخيرة هنا ممكن.
و (منها) ـ موثقة
أبي أسامة وابي يوسف يعقوب بن عثيم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح
منها سبع دلاء. قلنا : فما تقول في صلاتنا ووضوئنا وما أصاب ثيابنا؟ فقال : لا بأس
به».
والاحتمال
المذكور آنفا هنا بعيد عن ظاهر اللفظ ، إذ لا تصريح في الرواية بعدم العلم
بالنجاسة حال الوضوء ، وإنما الظاهر من سياق الخبر انه لما أخبر (عليهالسلام) بنزح هذا المقدار لموت هذه الأشياء المذكورة ، سألوا
عن الوضوء والصلاة ونحوهما قبل نزح المقدر ، فأجاب (عليهالسلام) بنفي البأس.
و (منها) ـ موثقة
أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : بئر يستقى منها ويتوضأ به وغسل منه الثياب وعجن به
ثم علم انه كان فيها ميت؟ قال : لا بأس ولا يغسل الثوب ولا تعاد منه الصلاة». وجريان
الاحتمال المتقدم هنا أبعد.
و (منها) ـ رواية
محمد بن ابي القاسم عن ابي الحسن (عليهالسلام) : «في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع أو أقل
أو أكثر يتوضأ منها؟ قال : ليس يكره من قرب ولا من بعد ، يتوضأ منها ويغتسل ما لم
يتغير الماء» .
__________________
و (منها) ـ ما
رواه في الفقيه مرسلا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كانت في المدينة بئر وسط مزبلة ، فكانت الريح
تهب فتلقي فيها القذر ، وكان النبي (صلىاللهعليهوآله) يتوضأ منها». وهو ظاهر الدلالة. الى غير ذلك من
الاخبار الدالة بظاهرها على ذلك.
احتج القائلون
بالنجاسة بوجوه : (أحدها) ـ الاخبار ، ومنها ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «كتبت الى رجل اسأله ان يسأل أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء ، فيقطر فيها قطرات من
بول أو دم أو يسقط فيها شيء من عذرة كالبعرة ونحوها ، ما الذي يطهرها حتى يحل
الوضوء منها للصلاة؟ فوقع (عليهالسلام) بخطه في كتابي : ينزح منها دلاء».
وصحيحة علي بن
يقطين عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن البئر تقع فيها الحمامة والدجاجة أو
الفأرة أو الكلب أو الهرة. فقال : يجزيك ان تنزح منها دلاء ، فان ذلك يطهرها ان
شاء الله تعالى».
وصحيحة عبد
الله ابن ابي يعفور وعنبسة بن مصعب عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا أتيت البئر وأنت جنب ، ولا تجد دلوا ولا
شيئا تغرف به
__________________
فتيمم بالصعيد ، فان رب الماء رب الصعيد ، ولا تقع في البئر ولا تفسد على
القوم ماءهم». فان الإفساد كناية عن النجاسة كما اعترفوا به في أخبار الطهارة.
والتيمم لا يسوغ مع وجود الماء الطاهر.
وحسنة زرارة
ومحمد بن مسلم وابي بصير قالوا : «قلنا له : بئر يتوضأ منها يجري البول قريبا
منها ، أينجسها؟ قالوا : فقال : ان كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه
البول من تحتها وكان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك شيء وان
كان أقل من ذلك نجسها ، وان كانت البئر في أسفل الوادي ويمر الماء عليها وكان بين
البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها ، وما كان أقل من ذلك فلا يتوضأ منه».
و (ثانيها) ـ انه
لو كان طاهرا بعد ملاقاة النجاسة لما ساغ التيمم ، لكن التالي باطل فالمقدم مثله.
اما الملازمة فظاهرة واما بطلان التالي فلما مر في صحيحة ابن ابي يعفور.
ولانه لو لم يجز التيمم للزم ، اما جواز استعمال الماء قبل النزح. وهو خلاف مدلول
الأخبار المستفيضة ، أو ترك الصلاة. وهو خلاف الإجماع.
و (ثالثها) ـ استفاضة
الأخبار بالأمر بالنزح للنجاسات. وعمل الطائفة بها قديما وحديثا. والجواب عن هذه
الأدلة ، اما عن الأخبار (فأولا) ـ بالإجمال بما عرفت آنفا من ان اخبار الطهارة معتضدة بموافقة الأصل وظاهر القرآن
ومخالفة العامة. وقد عرفت في المقدمة السادسة ان الأخيرين من المرجحات المنصوصة في مقام
__________________
التعارض ، وانه مع العمل بأخبار النجاسة فلا محمل لاخبار الطهارة بخلاف
العكس ، فيتعين العمل بأخبار الطهارة والتأويل في اخبار النجاسة.
و (ثانيا) ـ بالتفصيل
، فاما الخبر الأول فالظاهر حمل الطهارة فيه على المعنى اللغوي ، والحل بمعنى
تساوي الطرفين ، فإنه قبل ازالة المقدر مكروه ، فإذا نزح أبيح استعماله بلا كراهة.
ويؤيد ذلك انه في الكافي بعد نقل هذه الرواية أردفها بما قدمنا نقله في اخبار
الطهارة بالسند المذكور ، فقال : وبهذا الاسناد قال : «ماء
البئر واسع لا يفسده شيء الا ان يتغير». فرواية الراوي بعينه لهذين الحكمين مما
يبعد اختلاف الحكمين فيهما ، وإلا لفحص وسأل عن ذلك ، سيما مع صراحة الرواية
الثانية في الطهارة. ويعضد ذلك ان الراوي بعينه قد روى ما يدل على الطهارة بوجه
أصرح ، كما تقدم من روايته الأخرى ، فيتعين التأويل في هذه الرواية جمعا بينهما.
على ان ما يتمسك به الخصم من اللفظين المذكورين إنما هو في كلام السائل. وهو ليس
حجة. ودعوى ـ الاستدلال بتقرير الامام (عليهالسلام) وإلا لزم الإغراء بالجهل ـ لا تخلو من مناقشة .
ومثل ذلك في
الخبر الثاني ، ويؤيده انه قال : «يجزيك ان تنزح منها دلاء». وهو جمع أقله الثلاثة
، مع ان من جملة تلك النجاسات الكلب والهرة. والفتوى عندهم في ذلك بأربعين دلوا.
واما الخبر
الثالث فيجاب عنه بأن الإفساد أعم من النجاسة ، فلعله هنا باعتبار تغير الماء
واختلاطه بالحمأة والطين. وما يقال ـ من ان الإفساد في أخبار الطهارة في صحيحة ابن
بزيع قد حملتموه على عدم الانتفاع بالكلية بل على النجاسة ، فكذا
__________________
ينبغي هنا ـ فجوابه ان وجه الفرق بين المقامين ظاهر ، فإن القرائن على ما
هو المراد ثمة قائمة كما عرفت ، بخلاف ما هنا. ولأن الإفساد ثمة نكرة وقع في سياق
النفي فيعم . واما الأمر بالتيمم في هذه الرواية فيمكن أن يكون هذا
من جملة الأعذار المسوغة للتيمم ، فان إعذاره لا تنحصر في عدم وجود الماء ، بل من
جملتها ما يؤدي الى مشقة استعماله أو تحصيله أو تضرر الغير باستعماله. وهذه الوجوه
كلها ممكنة الاحتمال في المقام ولعل الأخير أقرب ، لقوله : «فتفسد على القوم ماءهم»
فإن الإضافة تؤذن باختصاص البئر بالغير. ولعله إنما كان يبيح منها الاغتراف دون
النزول فيها. ومما يدل على مشروعية التيمم في مثل ذلك رواية الحسين بن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو. قال : ليس عليه ان
ينزل الركية ، ان رب الماء هو رب الأرض ، فليتيمم». حيث جوز التيمم للرجل مع انه
ليس في الخبر انه جنب أو نجس بالكلية. ومن ذلك يعلم الجواب عن الدليل الثاني.
واما الخبر
الرابع فالجواب عنه (أولا) ـ ان القائلين بالتنجيس متفقون على عدم حصول التنجيس
بمجرد التقارب بين البئر والبالوعة ولو كان كثيرا ، فلا بد من تأويل هذا الخبر
عندهم.
و (ثانيا) ـ انه
يقصر عن معارضة الأخبار المتقدمة المعتضدة بالأصل ومطابقة ظاهر القرآن ومخالفة
جمهور العامة كما عرفت ، فيتعين التأويل فيه بحمل النجاسة على مجرد
__________________
الاستقذار ، والنهي عن التوضؤ على الكراهة جمعا.
و (ثالثا) ـ ان
المفهوم من سوق الخبر المذكور فرض الحكم في محل يتكثر ورود النجاسة على البئر ويظن
نفوذها فيه ، وما هذا شأنه لا يبعد إفضاؤه مع القرب الى تغير الماء خصوصا مع طول
الزمان. ويؤيد ذلك تتمة الخبر المذكور ، حيث قال زرارة : «فقلت له : فان كان مجرى
البول بلزقها وكان لا يلبث على الأرض؟ فقال : ما لم يكن له قرار فليس به بأس وان
استقر منه قليل. فإنه لا يثقب الأرض ولا يغوله حتى يبلغ البئر ، وليس على البئر
منه بأس ، فتوضأ منه ، إنما ذلك إذا استنقع كله» وحينئذ فلعل الحكم بالتنجيس ناظر
إلى شهادة القرائن بأن تكرر جريان البول في مثله يفضي الى حصول تغير ، أو يقال ان كثرة
ورود النجاسة على المحل مع القرب يثمر ظن الوصول الى الماء. بل ربما حصل العلم
بقرينة الحال.
واما الدليل
الثالث فجوابه ان الأمر بذلك أعم من أن يكون للنجاسة أو لغيرها من الأسباب التي
ذكرها القائل بالاستحباب ، وهي زوال النفرة وطيب الماء. ويختلف ذلك باختلاف الآبار
غزارة ونزارة وسعة وضيقا ، ولعله السر في اختلاف الأخبار في المقدرات في النجاسة
الواحدة.
واما القول
بالتفصيل باشتراط الكرية وعدمه ، فاستدل له بعموم ما دل من الأخبار على اشتراط
الكرية في عدم الانفعال.
وبرواية الحسن
بن صالح الثوري عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شيء».
ويدل عليه ايضا
ما في كتاب الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) :
__________________
«وكل بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها ، فسبيلها سبيل الجاري إلا
أن يتغير لونها أو طعمها أو رائحتها». انتهى.
ويمكن ايضا
الاستدلال عليه
بموثقة أبي
بصير قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة. قال : لا
بأس به إذا كان فيها ماء كثير».
والجواب عن
الأول بتخصيص العموم بما قدمنا من الاخبار .
وعن الروايات
المذكورة بضعف السند (أولا) ـ فلا تنهض بمعارضة ما قدمناه من الأخبار ، سيما صحيحة
محمد بن إسماعيل المتقدمة في صدر أخبار الطهارة الدالة بأوضح دلالة على عدم النجاسة مطلقا سيما لمكان
المادة.
و (ثانيا) ـ بالحمل
على ان اشتراط الكرية لعله لعدم الاحتياج الى النزح بالكلية. كما يشعر به قوله في
كتاب الفقه الرضوي : «فسبيلها سبيل الجاري». واما إذا نقصت عن كر احتاجت الى النزح
وان كان استحبابا ، ولفظ النجاسة في رواية الثوري محمول على المعنى اللغوي.
واما القول
بالطهارة ووجوب النزح ، فوجهه بالنسبة إلى الجزء الأول ما قدمنا وبالنسبة الى الثاني الأوامر الدالة على النزح ، والأمر
حقيقة في الوجوب.
والجواب عن
الثاني ان القول بوجوب النزح ـ مع شدة هذا الاختلاف في الاخبار
__________________
في تقديره بالنسبة إلى النجاسة الواحدة ـ مما لا يكاد يقبله الذوق السليم ،
وحينئذ فيجب حمل الأمر على الاستحباب كما قدمنا. ويؤيد ذلك أيضا الأمر بالنزح مع
الاتفاق على عدم النجاسة في جملة من الموارد.
واما ما نقل عن
الجعفي فلم نعثر له على دليل.
(البحث الثالث)
ـ اعلم انه حيث كان القول الراجح عندنا من تلك الأقوال هو القول بالطهارة واستحباب
النزح كما أوضحناه ، أغمضنا النظر عن الاشتغال بالبحث عن بيان المقدرات لكل من
النجاسات وما وقع فيها من الاختلافات ، لعدم مزيد فائدة في البحث عن ذلك. واعتمادا
على ما ذكره أصحابنا (شكر الله سعيهم) فيما هنالك ومسارعة إلى الاشتغال بما هو أهم
وفي النفع والإفادة أتم. لكنا نقتصر هنا على نقل أنموذج من تلك الاختلافات الواقعة
في الاخبار في جملة من المقدرات مع وحدة النجاسة.
(فمنها) ـ الفأرة
، ففي صحيح زيد الشحام «ما لم تتفسخ يكفيك خمس دلاء». وفي رواية أبي بصير «سبع دلاء». ومثله في رواية عمرو بن سعيد بن هلال ورواية علي بن أبي حمزة ورواية سماعة وفي صحيح علي بن يقطين «يجزيك ان تنزح منها دلاء». وكذا في صحيح الفضلاء ورواية الفضل البقباق وفي صحيح
__________________
معاوية بن عمار «ثلاث دلاء». وفي رواية أبي خديجة «أربعون دلوا». وفي موثقة عمار الساباطي «تنزح كلها».
و (منها) ـ الكلب
، ففي صحيح الشحام المتقدم «خمس دلاء». وفي رواية أبي بصير الآنفة ايضا «سبع دلاء». وفي رواية أبي مريم «نزح الجميع». وكذا في موثقة عمار وفي صحيح علي بن يقطين المتقدم ايضا «دلاء». وكذا في صحيح الفضلاءالمتقدم وكذا في رواية الفضل البقباق وفي رواية علي ـ والظاهر انه ابن أبي حمزة ـ «عشرون أو ثلاثون أو
أربعون».
و (منها) ـ بول
الصبي ، ففي رواية علي بن أبي حمزة «دلو واحد». وفي رواية منصور بن حازم عن عدة من أصحابنا «سبع دلاء». وفي صحيح معاوية ابن عمار «كله». مع ان غاية ما ينزح لبول الرجل أربعون دلوا ، وكذا في موثق عمار
الساباطي .
و (منها) ـ السنور
، ففي صحيحة علي بن يقطين «يجزيك ان تنزح منها دلاء». وفي رواية علي ـ والظاهر كونه ابن أبي حمزة ـ «عشرون أو ثلاثون أو
أربعون» وفي
__________________
موثقة سماعة «ثلاثون أو أربعون». وفي صحيح زيد الشحام المتقدم «خمس دلاء». وفي رواية عمرو بن سعيد المتقدمة «سبع دلاء».
و (منها) ـ الخنزير
، ففي صحيح الفضلاء المتقدم «دلاء». وفي موثقة عمار المتقدمة «تنزح البئر كلها». الى غير ذلك من الاخبار الواردة في هذا المضمار.
وقد اضطربت
آراء القائلين بالنجاسة في الجمع بينها ، وتمييز عثها من سمينها والشيخ (رحمهالله تعالى) في كتابي الأخبار قد جمع بينها بوجوه بعيدة
ومحامل غير سديدة. والمتأخرون ـ بناء على الاصطلاح المحدث في تنويع الاخبار الى
الأنواع الأربعة ـ هان الخطب عند القائل منهم بالنجاسة في جملة من الموارد برد
الأخبار بضعف الاسناد. واما القائلون بالطهارة فقد حملوا الاختلاف الواقع في هذه
الأخبار على الاختلاف في افراد الآبار بالغزارة والنزارة ، واختلاف النجاسة كثرة
وقلة ومكثا وعدمه ونحو ذلك ، إلا ان فيه ان الاخبار قد وردت مطلقة ، ففي كون
الاختلاف لذلك نوع بعد.
ولعل الأقرب ان
ذلك إنما خرج مخرج التقية ، لما قدمنا لك في المقدمة الاولى من تعمدهم (عليهمالسلام) المخالفة في الفتاوى وان لم يكن بذلك قائل من
المخالفين.
واحتمل بعض
محققي المحدثين من المتأخرين كون هذا الاختلاف من باب تفويض الخصوصيات لهم (عليهمالسلام) لتضمن كثير من الاخبار ان خصوصيات كثير من الأحكام
مفوضة إليهم (عليهمالسلام) كما كانت مفوضة إليه (صلىاللهعليهوآله) ليعلم المسلم لأمرهم من غيره ، أو من باب الإفتاء تارة
بما لا بد منه في تحقيق القدر المستحب وتارة بما هو الأفضل ، وتارة بما هو متوسط
بينهما.
__________________
(البحث الرابع)
ـ لو تغير ماء البئر بالنجاسة فعلى ما اخترناه من عدم انفعالها بالملاقاة ،
فالظاهر حينئذ وجوب النزح حتى يزول التغير ، ويدل عليه قول الرضا (عليهالسلام) في صحيح ابن بزيع المتقدم «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب
الريح ويطيب طعمه ، لأن له مادة». وفي صحيح الشحام عن الصادق (عليهالسلام) : «فان تغير الماء فخذ منه حتى يذهب الريح». وفي رواية
أبي بصير عنه (عليهالسلام) «الا ان يتغير الماء ، فينزح حتى يطيب». وفي موثقة سماعة «وان أنتن حتى يوجد ريح النتن في الماء نزحت البئر حتى يذهب النتن من الماء».
وفي رواية زرارة «وان غلبت الريح نزحت حتى تطيب».
ولا ينافي ذلك
ما في صحيحة معاوية بن عمار من قوله (عليهالسلام) : «ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا ان ينتن ،
فإن أنتن غسل الثوب ، وأعاد الصلاة ، ونزحت البئر». ورواية منهال من قوله (عليهالسلام) : «وان كانت جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو ، فان
غلب عليها الريح بعد مائة دلو فانزحها كلها». ورواية ابي خديجة في الفأرة من قوله (عليهالسلام) : «وان انتفخت فيه ونتنت نزح الماء كله». لإمكان حمل
هذه الأخبار على ما لا يزول التغير إلا بنزح الجميع كما يشير اليه الخبر الثاني ،
ويحتمل في الخبر الأول الحمل على ان اسناد النزح إلى البئر مجاز ، وانما المراد ما
يذهب به التغير كما تضمنته موثقة سماعة ، ويحتمل الحمل الاستحباب ايضا جمعا.
__________________
هذا. ولم أقف
على موافق للصدوق (طاب ثراه) من الأصحاب إلا ما يظهر من كلام المحدث الكاشاني في
مفاتيحه ووافيه ، حيث قال في الأول ـ بعد الكلام في المسألة ـ ما لفظه : «ويحتمل
قويا الجواز ، لصدق الماء على ماء الورد ، لأن الإضافة ليست إلا لمجرد اللفظ كماء
السماء ، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط بغيره ، مع تأيد الخبر بعمل
الصدوق ، وضمانه صحة ما رواه في الفقيه ، وعدم المعارض الناص» انتهى. وقال في
الثاني ـ بعد نقل خبر يونس المتقدم ـ ما لفظه : «وافتى بمضمونه في الفقيه ، ونسبه في
التهذيبين الى الشذوذ ، ثم حمله على التحسين والتطيب للصلاة دون رفع الحدث. مستدلا
بما في الخبر الآتي «إنما هو الماء والصعيد» أقول : هذا الاستدلال غير صحيح ، إذ لا منافاة بين
الحديثين ، فان ماء الورد ماء استخرج من الورد» انتهى.
وحاصل هذا
الكلام يرجع الى ان الماء المضاف الذي يخرج بالإضافة عن كونه مطلقا إنما هو ما إذا
أضيف المطلق الى جسم من الأجسام على وجه يغيره ويسلبه الإطلاق. واما ما اتخذ من
الورد فهو ماء مطلق قد تصاعد حتى تكونت منه تلك الأجسام ثم استخرج منها ، فإضافته
للورد لفظية كماء السماء وماء البئر ونحوهما وان كان قد اكتسب بسبب ذلك تغيرا في
الأوصاف. فإن ذلك لا يخرجه عما كان عليه من الإطلاق
وأنت خبير بما
فيه من الوهن والقصور :
(أما أولا) ـ فلأنه
بمقتضى ذلك لا ينحصر ما ذكره في ماء الورد بخصوصه ، بل يجري في ماء العنب والرمان
ونحوهما من الثمار التي يعتصر منها من حيث تصاعده إليها بالسقي. بل مثل أوراق
الشجر ونحوها كما لا يخفى ، فالواجب بمقتضى ما ذكره جواز الوضوء بالماء المتخذ من
جميع ذلك. ولا أظنه يقوله
__________________
فلو كان الحكم فيما له مقدر منصوص أكثر الأمرين مع التغير ، لامروا به (عليهمالسلام) ولو في بعض تلك الأخبار. وأنت خبير أيضا بأن القول
الثاني عند التأمل لا يصح أن يكون قولا على حدة كما سيظهر لك.
و (ثالثها) ـ التفصيل
بكون النجاسة منصوصة المقدر فيجب نزح أكثر الأمرين من المقدر وما به يزول التغير ،
أو غير منصوصة فيجب نزح الجميع ومع التعذر فالتراوح ، ذهب اليه ابن إدريس واختاره
في المختلف وقواه في الروض.
وحجته في وجوب
أكثر الأمرين فيما له مقدر ما قد عرفت في القول الثاني. وفيه ما قدمنا ثمة. واما في
وجوب نزح الجميع أو التراوح فالظاهر انه من جهة كونه لا نص فيه ، وما لا نص فيه مع
عدم التغير حكمه كذلك. فمع التغير بطريق أولى. وفيه ان المبني عليه لا نص فيه ايضا
، مع ان عموم الأخبار المتقدمة شامل لمثل هذه الصورة المذكورة. لتضمنها النزح بما
يزول به التغير أعم من أن تكون النجاسة المغيرة منصوصة المقدر أم لا.
و (رابعها) ـ هو
الثالث بعينه بالنسبة إلى الشق الأول ، والاكتفاء بزوال التغير بالنسبة إلى الشق
الثاني. اختاره المحقق الشيخ حسن في المعالم بناء على القول بالانفعال. واستظهره
أيضا جملة ممن تأخر عنه.
وحجته بالنسبة
إلى الشق الأول ما عرفت في حجتي القول الثاني والثالث. وفيها ما ذكرنا ثمة.
وبالنسبة إلى الشق الثاني عموم الأخبار المتقدمة الدالة على الطهارة بزوال التغير. ولا معارض لها
بالنسبة الى ما لا مقدر له ، فيجب العمل بها. وهو حسن. ولا يخفى عليك ان القول الثاني
لا يخرج عن أحد هذين القولين. فعده في المسألة قولا على حدة لا يخفى ما فيه كما
أشرنا إليه آنفا.
__________________
و (خامسها) ـ نزح
ما يزيل التغير أولا ثم نزح المقدر بعده ان كان لتلك النجاسة مقدر ، وإلا فالجميع
، وان تعذر فالتراوح.
وحجة هذا القول
بالنسبة إلى الشق الأول إعطاء كل من الأسباب حقه من السببية وبالنسبة إلى الشق الثاني ما عرفت في القول الثالث.
ويرد على الحجة الأولى ما قدمنا من الاخبار الدالة على الاكتفاء بزوال التغير مطلقا.
ومع تسليم تخصيصها ـ بناء على ما زعموا من الجمع بينها وبين روايات التقدير ـ فيكفي
في ذلك الاكتفاء بأكثر الأمرين كما ذكروا ثمة ، فلا موجب حينئذ للتعدد. مع ان
الأظهر هو التداخل مع تعدد النجاسات كما هو أحد الأقوال في المسألة. وعلى الحجة
الثانية ما عرفته في القول الثالث.
و (سادسها) ـ وجوب
نزح الجميع ، فان تعذر فالتراوح. ونقل عن الصدوقين والمرتضى وسلار.
والحجة ، اما
على وجوب نزح الجميع مع عدم التعذر ما تقدم من رواية ابي خديجة وصحيحة معاوية بن عمار ورواية
منهال.
واما على
التراوح مع التعذر فموثقة عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) في حديث طويل ، قال : «وسئل عن بئر يقع فيها كلب أو
فأرة أو خنزير. قال : تنزف كلها. ثم قال : فان غلب الماء فلتنزف يوما إلى الليل ثم
يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ، فينزفون يوما الى الليل وقد طهرت».
__________________
واحتجوا أيضا
بأنه ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه اجمع.
والجميع منظور
فيه ، اما الروايات المشار إليها فيجب تأويلها بما عرفت آنفا جمعا بينها وبين ما قدمناه من الاخبار. واما الخبر
المذكور فالعمل به فرع وجوب نزح الجميع ، ومتى لم يثبت بطل ما ترتب عليه. على ان
مورد الخبر التراوح مع تعذر نزح الجميع لمجرد النجاسة لا للتغير ، وأحدهما غير
الآخر كما عرفت آنفا. واما الحجة الأخيرة فأضعف ، لانه بعد ورود النصوص بالطهارة
مع زوال التغير لا مجال لإيجاب نزح الجميع.
و (سابعها) ـ وجوب
نزحها أجمع ، فإن تعذر فيما به يزول التغير. ونقل عن الشيخ في المبسوط. ونقل عن
المحقق نسبته الى المفيد ايضا. وظاهر هذا القول انه في صورة التعذر يكتفى بمزيل
التغير ، أعم من ان يكون في نجاسة ذات مقدر أم لا ، ووجهه ـ بالنسبة إلى نزح
الجميع ـ الأخبار الدالة على ذلك ، كصحيحة معاوية بن عمار وروايتي ابي خديجة
ومنهال المتقدمات بحملها على صورة الإمكان. وبالنسبة الى ما به يزول
التغير الأخبار التي قدمناها بحملها على صورة تعذر نزح الجميع. وهذا الجمع بين
الاخبار وان كان محتملا إلا ان الظاهر هو رجحان ما قدمنا من المحامل عليه سيما
الأول ، لدلالة رواية منهال عليه ، ولانه مما تجتمع عليه الاخبار من غير ارتكاب
تخصيص إلا في اخبار نزح الجميع ، فإنها مخصوصة بما إذا لم يزل التغير بدونه.
__________________
وعلى تقدير هذا القول يلزم التخصيص في أخبار الطرفين ، ومهما أمكن العمل
بالخبر من غير تخصيص بالكلية أو تعدده فهو اولى.
و (ثامنها) ـ وجوب
نزحها أجمع ، فإن تعذر بغلبة الماء يعتبر أكثر الأمرين واختاره الشهيد في الدروس ،
واستظهر بعض المتأخرين من كلام المعتبر ايضا.
وحجة هذا القول
مركبة من الوجوه المتقدمة. وضعفها يعلم من ضعفها.
فروع :
(الأول) ـ لو
زال تغير البئر بغير النزح ، فعلى المختار من الطهارة وعدم النجاسة بمجرد الملاقاة
لا إشكال في طهارتها بذلك. لمكان المادة. وعلى القول بالنجاسة فهل يجب نزح الجميع
، نظرا إلى انه ماء محكوم بنجاسته وقد تعذر ضابطة تطهيره ، فيتوقف الحكم بطهارته
على نزح الجميع ، أو يكتفى بنزح ما يزول به التغير لو كان ، نظرا إلى انه مع بقاء
التغير يكفي نزح القدر الذي به يزول ، فلأن يكتفي به مع الزوال اولى؟ قولان ،
اختار أولهما ـ العلامة في التذكرة وابنه فخر المحققين ، وقواه في الذكرى.
وثانيهما ظاهر الشهيد في البيان ، وبه جزم في المعالم وقبله والده (قدسسرهما) وقواه جملة من متأخري المتأخرين. وأجابوا عن دليل
القول الأول بمنع تعذر الضابط مطلقا ، فإنه ممكن في كثير من صور العلم بالمقدار
الذي يزول به التغير ولو تقريبا. نعم مع فرض عدم العلم في بعض الصور يتوقف الحكم
بالطهارة على نزح الجميع ، إذ لا سبيل الى العلم بنزح المقدار الا به.
(الثاني) ـ لو
غار ماء البئر بعد النجاسة ثم عاد ، فعلى المختار من عدم الانفعال بالملاقاة لا
إشكال في الطهارة. وعلى القول الآخر فالذي صرح به جملة من الأصحاب انه كذلك ايضا ،
قالوا : لأن المقتضي للطهارة ذهاب الماء ، وهو كما يحصل بالنزح
يحصل بالغور ، ولا يعلم كون العائد هو الغائر ، فالأصل فيه الطهارة. وبان النزح
لم يتعلق بالبئر بل بمائها المحكوم بنجاسته ، ولا يعلم وجوده والحال هذه ، فلا يجب
النزح.
واعترض عليه
بان الوجهين المذكورين ضعيفان (اما الأول) فلأنا لا نسلم ان المقتضي للطهارة ذهاب
الماء ، لجواز ان يكون المقتضي النزح باعتبار انه يوجب جريان الماء فتطهر أرض
البئر وماؤها. وهذا المعنى مفقود في الغور ، فلا تطهر أرض البئر ، وكل ما ينبع من
الماء يصير نجسا. لملاقاته النجاسة بناء على القول المذكور.
و (اما الثاني)
فلأن عدم تعلق النزح بمائها لا دخل له في المقام ، إذ الكلام في ان ارض البئر كانت
نجسة ولم يعلم لنجاستها مزيل ، إذ ما علم من الشرع انه مزيل انما هو النزح ، وقياس
الغور عليه قياس مع الفارق كما ذكرنا ، فتستصحب نجاستها ، وكل ما ينبع يصير نجسا
كما عرفت.
(أقول) :
ويؤيده انه يلزم على ما ذكروه من الوجه الأول انه لو غار منه القدر الذي يجب نزحه
فإنه يحكم بطهارة الباقي ، مع ان الظاهر انهم لا يلتزمونه.
(الثالث) ـ قد
صرح جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه كما يطهر البئر بالنزح يطهر الدلو
والمباشر والرشاء. والاخبار خالية من التصريح بذلك ، الا ان المحقق في المعتبر ذكر
في حكم الدلو انه لو كان نجسا بعد انتهاء النزح لم يسكت عنه الشرع. ولان الاستحباب
في النزح يدل على عدم نجاستها ، والا لوجب نجاسة ماء البئر عند الزيادة عليه قبل
غسلها ، والمعلوم من عادة الشرع خلافه.
وتبعه في هذه
المقالة جمع ممن تأخر عنه منهم : العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى. وغيرهما
في غيرهما.
ولا يخفى ان
هذا الوجه جار أيضا في الرضا والمباشر الا انه في الأخير أضعف.
ومرجع الدليل الأول الى ما قدمنا الإشارة إليه في المقدمة العاشرة من ان التمسك بالبراءة الأصلية ـ فيما لم يعثر فيه على
نص بعد الفحص والتفتيش مما يعم به البلوى من الأحكام ـ حجة واضحة. والأصل هنا
براءة الذمة من التكليف بتطهير هذه الأشياء بعد تمام النزح. الا ان الاحتياط في
تطهير المباشر ثيابه وبدنه خروجا من احتمال المحذور ، وتطهير الباقي أيضا نور على
نور.
وأظهر من ذلك
اجراء الوجه المذكور في جوانب البئر بالنسبة الى ما يتساقط حال النزح ، فإنه يحكم
بطهارته لعين ما ذكر. وربما يظهر من بعض العبارات الحكم بالعفو عنه حال تساقطه ،
معللا ذلك بالمشقة المنفية. وهو بعيد. والتعليل ممنوع بالحكم بالطهارة بعد تمام
النزح كما قلنا. ولعل ذلك كله من مؤيدات القول بعدم انفعال البئر بالملاقاة ،
للسلامة من هذه التكلفات.
(الرابع) ـ صرح
جملة من الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) بأنه لا يعتبر الدلو في النزح لازالة
التغير ولا في نزح الجميع ، إذ الغرض في الموضعين إخراج الماء وهو يصدق بأي وجه
اتفق ، ومثله في نزح الكر. اما في نزح المقدرات فهل يتعين نزحه بالدلو ، أو تكفي
آلة تسع العدد دفعة أو دفعات؟ قولان : اختار أولهما ـ المحقق في المعتبر ،
والعلامة في المنتهى والتحرير ، والشهيد في الدروس والبيان ، والشهيد الثاني أيضا.
وثانيهما ـ العلامة في أكثر كتبه ، والشهيد في الذكرى ، والمحقق الشيخ حسن في
المعالم ، وغيرهم.
احتج القائلون
بالثاني بان الأمر بالنزح وارد على الماء والدلاء مقدار ، فيكون
__________________
القدر هو المراد ، وتقييده بالعدد لانضباطه وظهوره بخلاف غيره. وبان الغرض
من النزح إخراج الماء من حد الواقف الى كونه جاريا جريانا يزيل التأثير الحاصل من
النجاسة ويفيده التطهير ، ولذلك اختلف فيه التقدير ، لاختلاف النجاسات بقوة
التأثير وضعفه ، وتفاوت الآبار بسعة المجاري وضيقها. ولا يخفى ان هذا الغرض يحصل
بإخراج القدر المعين بأي وجه اتفق.
وأجيب عن الأول
بأنا لا نمنع كون النزح واردا على الماء وان الدلاء مقدار ، ولكن نمنع كون المراد
إخراج القدر مطلقا ، لأن الأوامر وردت بطريق خاص واتباعها لازم.
وعن الثاني
بأنه وان كان الغرض من النزح الاجراء إلا أن طرقه مختلفة ، والأدلة إنما وردت ببعض
معين منها ، وإلحاق غيره به قياس. مع ان الفارق ربما كان موجودا ، من حيث ان تكرار
النزح موجب لكثرة اضطراب الماء وتموجه. وهو مقتض لاستهلاك أجزاء النجاسة الشائعة
فيه ، فيكون سببا لطيبة ولعله الحكمة في الأمر به. ومن البين ان ذلك لا يحصل مع
الإخراج دفعة أو ما في معناها.
ومن الجواب عن
دليلي القول الثاني علم دليل القول الأول ، ومرجعه الى ما ذكره المحقق في المعتبر
من عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه. ولأن الحكمة تعلقت بالعدد ولا يعلم حصولها
مع عدمه.
قال بعض فضلاء
المحدثين من متأخري المتأخرين : «هذا هو الصحيح ، ومن يدعي العلم بحصول الغرض
فنقول له : علمك اما من باب مفهوم الموافقة أو تنقيح المناط ، وهما مفقودان هنا ،
لان لتعدد النزح مدخلا عظيما في ميل أجزاء النجاسة وآثارها عن جوانب البئر إلى
موضع النزح وخروجها بالنزح» انتهى.
وفي التعليلات
من الجانبين خدش إلا ان الوقوف في مثل ذلك على حادة الاحتياط طريق
السلامة.
(الخامس) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان الدلو التي ينزح بها ما جرت العادة باستعمالها
، إذ لم يثبت للشرع فيها حقيقة على القول بالحقائق الشرعية ولا عرف لزمانهم (عليهمالسلام) ليحمل عليه. والقاعدة في مثله عند انتفاء الأمرين
الرجوع الى العرف الموجود ان لم يخالف وضع اللغة الثابت ، وإلا كان هو المقدم. وكل
ذلك منتف فيما نحن فيه ، فيرجع الى ما يصدق عليه الاسم في العرف صغيرا كان أو
كبيرا.
وأنت خبير بما
في البناء على القاعدة المذكورة وان اشتهر البناء عليها بينهم. لما قدمنا لك في
المقدمة العاشرة وغيرها. لكن الظاهر ان الأمر هنا هين ، للقطع بان لفظ
الدلو ليس من الألفاظ التي اختلفت معانيها بحسب اختلاف الأزمنة
__________________
والأمكنة ، كالرطل والمن والمد والصاع ونحوها ، وبان أفراده مختلفة في كل
مكان وزمان.
واما ما يظهر
من كلام بعضهم ـ من الاكتفاء بما يعتاد على تلك البئر وان كان نحو آنية الفخار إذا
كان مما يستقى به في البلد غالبا ـ فضعيف جدا ، لان تعليق الحكم في الأخبار على
الدلو يقتضي الوقوف مع مسماه ، ولا ريب في عدم صدقه على الآنية.
ونقل عن بعض
الأصحاب ان المراد بالدلو ما كانت هجرية ، وهي ثلاثون رطلا وعن الجعفي أربعون
رطلا. ورد بعدم وجود المستند.
(أقول) : وهو
مروي في كتاب الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وإذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنور وما أشبه
ذلك فمات فيها ولم يتفسخ ، نزح منها سبعة أدل من دلاء هجر. والدلو أربعون رطلا». الا
ان جلّ الأصحاب (رضوان الله عليهم) لما كان اعتمادهم على الكتب الأربعة خاصة ، أو
ما قاربها في الشهرة عند آخرين ، كان هذا الكتاب وأمثاله غير معمول على ما تضمنه
من الأخبار ، الا ان المفهوم من شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب بحار
الأنوار الاعتماد عليه كما أشرنا سابقا اليه .
(السادس) ـ يجب
إخراج النجاسة قبل الشروع في النزح على القول بالانفعال بالملاقاة ، وظاهرهم
الاتفاق عليه بل صرح بذلك في المنتهى ، وظاهر إطلاق كلامهم عدم الفرق في ذلك بين
ما له مقدر وما ليس كذلك ، الا ان المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم صرح بالفرق
بينهما ، قال : «فإن الملاقاة الموجبة لنزح المقدر تبقى ما بقيت العين فلا يظهر
للنزح فائدة ، ولا يعتبر ذلك في غير المقدر لفقد العلة» انتهى. ولعل ذلك مبني على
القول بوجوب نزح الجميع لما لا نص فيه كما اختاره (قدسسره)
__________________
في الكتاب المذكور بناء على القول بالانفعال ، وإلا فعلى القولين الآخرين
من الثلاثين أو الأربعين فلا ريب في كون الحكم فيهما كالمقدر بعينه ، والعلة
الموجبة فيهما واحدة.
(البحث الخامس)
ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في طهر البئر بغير النزح من المطهرات المتقدمة
فظاهر الأكثر طهرها بذلك ، والنزح الوارد في الاخبار وان اختص بها إلا
انها تشارك غيرها في تلك المطهرات. وكلام المحقق في المعتبر يدل على انحصار
تطهيرها في النزح ، حيث قال : «وإذا جرى إليها ـ يعني البئر ـ الماء المتصل
بالجاري لم تطهر ، لان الحكم متعلق بالنزح ولم يحصل» واختاره بعض محققي متأخري
المتأخرين ، قال : «لان التطهير أمر شرعي لا بد له من دليل ولا دليل ظاهرا على ما
عدا النزح» واختلف فتوى الشهيد (رحمهالله) في هذه المسألة ، فقال في الدروس : «لو اتصلت بالجاري
طهرت ، وكذا بالكثير مع الامتزاج. اما لو تسنما عليها من أعلى فالأولى عدم التطهير
، لعدم الاتحاد في المسمى» ومثله أيضا في الذكرى. وقال في البيان : «ينجس ماء
البئر بالتغير ، ويطهر بمطهر غيره ، وبالنزح» ثم قال : والأصح نجاسته بالملاقاة
أيضا ، وطهره بما مر ونزح كذا ، ثم ذكر المقادير.
ولا يخفى ان
اشتراطه عدم علو المطهر على جهة التسنم في الكتابين يخالف ما أطلقه في الثالث من
طهارته بمطهر غيره مطلقا.
وممن اختار
القول المشهور صاحب المعالم ، حيث قال بعد نقل الأقوال في المسألة : «والتحقيق
عندي مساواته لغيره من المياه في الطهارة بما يمكن تحققه فيه من الطرق التي
ذكرناها سابقا. ووجهه ـ على ما اخترناه من اشتراط الامتزاج بالمعنى الذي حققناه ـ واضح
، فان ماء البئر ـ والحال هذه ـ يصير مستهلكا مع المطهر ، فلو كان عين النجاسة لم
يكن له حكم ، فكيف؟ وهو متنجس ، ولا ريب انه أخف.
__________________
واما على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال فلان دليلهم ـ على تقدير تماميته ـ
لا يختص بشيء دون شيء ، إذ مرجعه الى عموم مطهرية الماء. فيدخل ماء البئر تحت
ذلك العموم والأمر بالنزح لا ينافيه ، لكونه مبنيا على الغالب من عدم التمكن من
التطهير بغيره ، ولو أمكن في بعض الموارد فلا ريب ان النزح أسهل منه في الأغلب
ايضا ، فلذلك اقتصروا عليه ، ثم ان يجاب النزح ـ على القول بالانفعال أو مع حصول
التغير ـ ليس إلا لإفادة الطهارة ، فإذا صار الماء طاهرا بمقتضى ذلك العموم ـ والفرض
عدم الدليل على التخصيص ـ لا يبقى للنزح وجه. نعم لو قلنا بوجوب النزح تعبدا لم
يتم القول بسقوطه بمجرد الاتصال وان قلنا بالطهارة. واما مع الامتزاج فالظاهر
السقوط ، لان الاستهلاك يصيره بمنزلة المعدوم. ووجوب النزح إنما تعلق به في حال
البقاء على حقيقته. وبما ذكرنا ظهر ضعف تفصيل الشهيد (رحمهالله) لا سيما بعد اشتراط الامتزاج كما صرح به ، فان اعتبار
الاتحاد مع ذلك مما لا وجه له. واما ما تمسك به المحقق فدفعه ظاهر بعد ما قررناه»
انتهى.
ويرد عليه (أولا)
ـ ان الاستهلاك الذي ذكره ممنوع ، كيف؟ ويكتفى في تطهير البئر على هذا القول بمجرد
إلقاء الكر مثلا وان كان ماء البئر أضعاف أضعافه على انه يمكن منع التطهير في حال
الاستهلاك ايضا. وما ذكره ـ من طهارة النجاسة عند استهلاكها ـ لا يصلح دليلا ،
لأنه قياس ، مع وجود الفارق ، إذ النجاسة إذا استهلكت في الماء وسلب عنها اسمها لم
تبق نجاستها التابعة للاسم ، بخلاف الماء إذا لم يسلب عنه اسمه وان اختلط بغيره
بحيث لا يميزه الحس.
و (ثانيا) ـ انه
يمكن ان يكون لخصوصية النزح مدخل في التطهير لا يوجد في غيره ، ولعل اقتصار الشارع
عليه لذلك ، لعين ما ذكروه في مسألة تعدد النزح بالدلو فيما له مقدر من وجوب
الاقتصار على النزح بالدلو لذلك. ويؤيده اختصاص
البئر دون سائر المياه بأحكام خاصة وبنائها على جمع المختلفات وتفريق
المؤتلفات كما ذكروه.
وبالجملة
فالمسألة محل تردد. والاحتياط في الوقوف على التطهير بالمنصوص.
ولا يخفى ان ما
أورده على الشهيد متجه. واما ما أورده على المحقق فقد عرفت ما فيه.
ثم انه قد
اختلف كلام القائلين بطهرها بغير النزح في وجه العلة في ذلك ، فظاهر كلام المحقق
الشيخ حسن ـ كما تقدم ـ ان العلة هي الاستهلاك بسبب الامتزاج. وقد عرفت ما فيه.
وظاهر العلامة في المنتهى ـ حيث قال في تعليل ذلك : «لان المتصل بالجاري كأحد
أجزائه فخرج عن البئر» ـ ان العلة في ذلك هو الخروج عن كونه بئرا ولحوق أحكام
الجاري له. ولا يخفى ما فيه. وظاهر الشهيد في الذكرى ـ حيث قال : «وامتزاجه
بالجاري مطهر ، لأنه أقوى من جريان النزح باعتبار دخول مائها في اسمه» ـ ان العلة
فيه هي الامتزاج ، حيث انه أقوى من جريان النزح. وفيه منع ان العلة في النزح حصول
الجريان ، لعدم الدليل عليه ، ولجواز ان يكون أمر آخر لا نعلمه.
(البحث السادس)
ـ المشهور بين الأصحاب ـ بل نقل الإجماع عليه من القائلين بالتنجس ـ انه مع تعذر
نزح البئر جميعا ـ لكثرة الماء فيما يجب له ذلك ـ يجب تراوح أربعة رجال عليها يوما
الى الليل ، استنادا إلى موثقة عمار الساباطي. وقد تقدمت في البحث الرابع .
واعترض في
المعالم على الاستدلال بالخبر المذكور بوجوه :
(أحدها) ـ كون
رواته فطحية.
و (ثانيها) ـ تضمن
متنه نزح الماء كله لتلك الأشياء المذكورة فيه ، ولا قائل به من الأصحاب.
__________________
و (ثالثها) ـ ان
ظاهره يدل على وجوب النزح يومين. ولم يذهب إليه أحد.
والجواب عن
الأول ، اما على مذاقنا فمعلوم ، واما على مذاق القوم فعند من يعمل بالموثق منهم
كذلك ايضا ، واما من يجعله من قسم الضعيف فيجاب بان ضعفه مجبور بعمل الأصحاب
وشهرته بينهم في هذا الباب.
واما عن الثاني
، فيمكن بحمل نزح الجميع على الاستحباب أو على التغير كما ذكره في التهذيب وحينئذ فتكون الرواية معمولا بها عند الأصحاب.
واما عن
الثالث. فيجوز أن لا تكون (ثم) هنا للترتيب الخارجي ، فإنها كثيرا ما تكون كذلك ،
كقوله سبحانه : «كَلّا
سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلّا سَيَعْلَمُونَ» والجواب باحتمال كونها من كلام الراوي بعيد.
ثم ان الأصحاب (رضوان
الله عليهم) ذكروا لذلك أحكاما ربما يستفاد أكثرها من النص المذكور.
(منها) ـ كون
النزح نهارا ، للفظ اليوم في الرواية ، فلا يجزئ الليل ولا الملفق منهما وان زاد
عن مقدار يوم. وقوفا على ظاهر النص.
و (منها) ـ انه
لا فرق في اليوم بين القصير والطويل. عملا بالإطلاق. ولهم في تحديد اليوم المذكور
عبارات مختلفة. ففي كلام الشيخ المفيد من أول النهار الى آخره وتبعه على ذلك
جماعة. وفي عبارة الصدوقين من الغدوة إلى الليل ، وفي نهاية الشيخ من الغدوة إلى
العشية. قال في المعتبر بعد نقل هذه الأقوال : «ومعاني هذه الألفاظ متقاربة ،
فيكون النزح من طلوع الفجر الى غروب الشمس أحوط ، لأنه يأتي على الأقوال» انتهى.
وقال الشهيد في الذكرى بعد ذكر اختلاف العبارات في ذلك : «الظاهر انهم أرادوا به
يوم الصوم فليكن من طلوع الفجر الى غروب الشمس. لأنه
__________________
المفهوم من اليوم مع تحديده بالليل» واعترضه في المعالم ـ بعد أن استحسن ما
ذكره المحقق من الاحوطية ـ بان الحمل على يوم الصوم يقتضي عدم الاجتزاء باليوم
الذي يفوت من اوله جزء وان قل ، وعباراتهم لا تدل عليه بل ظاهرها ما هو أوسع من
ذلك ، ولفظ الرواية أيضا محتمل لصدق اسم اليوم وان فات منه بعض الاجزاء ان كانت
قليلة. انتهى. وهو حسن.
و (منها) ـ ان
جملة من المتأخرين أوجبوا ـ تفريعا على القول بوجوب كون النزح يوم الصوم ـ إدخال
جزء من الليل أولا وآخرا من باب مقدمة الواجب. وربما أوجب بعضهم تقديم التأهب
بتهيئة الآلات قبل الجزء المجعول مقدمة. والظاهر ان هذه التدقيقات الناشئة من
اعتباره كيوم الصوم غير واضحة.
و (منها) ـ كون
طريق تراوح الأربعة بأن ينزح كل اثنين وقتا ، بان يكون أحدهما فوق البئر يمتح
بالدلو والآخر فيها يملأها ، ثم يستريحان فيقوم الآخران كذلك كذا ذكره جملة منهم.
وتخصيص النزح بالكيفية المخصوصة لا دليل في النص عليه. بل يكفي أن يكونا معا في
أعلى البئر يمتحان الدلو. بل الظاهر انه الاولى ، لأنه هو المتعارف ، الا ان يبلغ الماء في القلة الى
ان الدلو بمجرد وضعه لا يمتلئ ماء بل يحتاج الى وضع الماء فيه. فيتم ما ذكروه ،
إلا ان كلامهم أعم من ذلك.
و (منها) ـ انه
يستثني لهم من الاشتغال بالنزح الصلاة جماعة والأكل جميعا صرح به الشهيدان وجماعة.
وعللوه باقتضاء العرف له ، واقتصر بعض على الأول. فارقا بينهما بأن الثاني يمكن
حصوله حال الراحة بخلاف الأول ، فإن الفضيلة الخاصة للجماعة لا تحصل إلا به. وربما
نفى بعضهم الاستثناء من أصله.
__________________
و (منها) ـ انه
يشترط كون الأربعة رجالا ، صرح به الأكثر ، لمفهوم لفظ القوم على ما نص عليه جملة
من أهل اللغة من الاختصاص بالرجال وقال المحقق في المعتبر : «ان عملنا بالخبر المتضمن
لتراوح القوم اجتزأنا بالنساء والصبيان» وردّ بما تقدم. وفيه ان صاحب القاموس قد
ذكر من أحد معاني القوم ما يدخل فيه النساء ، حيث قال : «القوم الجماعة : من
الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة أو تدخله النساء على التبعية» انتهى. ونقل في
كتاب مجمع البحرين عن الصنعاني انه ربما دخل النساء تبعا ، لان قوم كل نبي رجال
ونساء. وعلى هذا يزول الإشكال بالنسبة الى النساء وإنما يبقى الكلام في الصبيان.
وشرط بعضهم في الاجتزاء بالنساء عدم قصور نزحهن عن نزح الرجال. والأحوط بل الأظهر
الاقتصار على الرجال ، ويدل على ذلك ما في كتاب الفقه الرضوي. حيث قال (عليهالسلام) : «فان كان كثيرا وصعب نزحه فالواجب عليه ان يكتري
أربعة رجال يستقون منها على التراوح من الغدوة إلى الليل».
و (منها) ـ عدم
اجزاء ما دون الأربعة وان نهض بعملهم ، وقوفا على ظاهر الخبر من قوله : «يتراوحون
اثنين اثنين». واستقرب في التذكرة الاجتزاء بالاثنين القويين اللذين ينهضان بعمل
الأربعة. واما الزيادة عليها فاجازوها من باب مفهوم الموافقة الا ان يفضي التكثر
الى الإبطاء وتضييع الوقت.
__________________
(البحث السابع)
ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان البئر لا ينجس بالبالوعة وان قربت منه ، الا ان يعلم
تعدي ما فيها إلى البئر ـ بناء على القول بانفعالها بالملاقاة ـ أو بتغير ماء
البئر بها على ما اخترناه.
ويدل على ذلك ـ
مضافا الى ما دل على أصالة الطهارة عموما وخصوصا ـ رواية محمد بن ابي القاسم عن
ابي الحسن (عليهالسلام) المتقدمة في أدلة القوم بعدم نجاسة البئر بالملاقاة واما ما يوهم خلاف ذلك ـ كحسنة الفضلاء المتقدمة في
أدلة القول بنجاسة البئر بالملاقاة ـ فقد عرفت الجواب عنها ثمة. ويزيده تأكيدا ان العمل
بظاهرها ـ من الحكم بالنجاسة بمجرد ظن السريان ـ مما تدفعه الأخبار المستفيضة بعدم
نقض اليقين إلا بمثله ، وان الشك لا يعارض اليقين ، فلا بد من تأويله بما ذكرنا
آنفا.
ثم ان المشهور
بين الأصحاب انه يستحب التباعد بين البئر والبالوعة بخمسة أذرع في الأرض الصلبة أو
مع فوقية قرار البئر ، وبسبعة فيما عدا ذلك. والصور على هذا القدر ست ، وذلك لان
الأرض اما ان تكون صلبة أو رخوة. وعلى كل منهما اما ان تكون البئر أعلى قرارا أو
أنزل أو مساوية. ففي أربع صور منها ـ وهي الصلبة بأقسامها الثلاثة وعلو قرار البئر
في الرخوة ـ يستحب التباعد بخمسة أذرع ، وما عدا ذلك بسبعة أذرع.
وضم جمع من
المتأخرين إلى الفوقية الحسية الفوقية بالجهة في صورة تساوي القرارين ، بناء على
ان جهة الشمال أعلى وان مجاري العيون منها. وحينئذ يحصل من ذلك الفوقية والتحتية
والتساوي بحسب الجهة أيضا. وبذلك تصير صور المسألة أربعا وعشرين وان لم يكن لبعضها
تأثير في اختلاف الحكم في المسألة ، وتفصيلها انه باعتبار
__________________
الجهة تحصل اربع صور ، لأن البئر اما أن تكون في جهة الشمال والبالوعة في
الجنوب أو بالعكس ، أو تكون البئر في جهة المغرب والبالوعة في جهة المشرق أو
بالعكس وعلى كل من هذه الصور الأربع تجري الست المتقدمة. ومن ضرب أربع في ست تحصل
اربع وعشرون. ففي سبع عشرة منها يكون التباعد بخمسة أذرع ، وفي سبع منها بسبعة
أذرع .
وقال بعض فضلاء
متأخري المتأخرين ـ بعد ان نقل عنهم ـ أولا ان ـ في صورة التعارض بين الفوقيتين
يجعلونه بمنزلة التساوي ـ ما صورته : «وفي كلام جمع من الأصحاب هنا تأمل ظاهر ، إذ
ذكروا ان التباعد بسبع في سبع وبخمس في الباقي والاعتبار يقتضي ان يكون التباعد
بسبع في ثمان أو ست ، لان فوقية القرار اما ان تعارض فوقية الجهة وتصير بمنزلة
التساوي أولا ، فعلى الأول الأول وعلى الثاني الثاني واما اعتبار الجهة في البئر
دون البالوعة فتحكم» انتهى.
(أقول) : ما
نقله عنهم ـ من انه مع تعارض الفوقيتين يجعلونه بمنزلة التساوي ثم اعترض عليهم
بسببه ـ لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم ، بل صرح غير واحد منهم بأن الفوقية
بالجهة إنما تعتبر في الرخاوة مع تساوي القرارين ، ومقتضى ذلك
__________________
اختصاص اعتبارها بالبئر دون البالوعة. ولهذا صرح شيخنا الشهيد الثاني في
الروض ـ في صورة كون البئر في جهة الجنوب مع رخاوة الأرض وعلو قرار البئر ـ بأنه
يستحب التباعد بخمسة أذرع نظرا الى علو قرار البئر. وبمقتضى ما ذكره من تعارض
القرارين مطلقا ينبغي ان يكون بسبعة.
ونقل عن ابن
الجنيد في هذه المسألة ما يخالف المشهور. إلا ان النقل عنه مختلف ، فنقل الأكثر
عنه انه قال : «ان كانت الأرض رخوة والبئر تحت البالوعة فليكن بينهما اثنا عشر
ذراعا ، وان كانت صلبة أو كانت البئر فوق فليكن بينهما سبعة أذرع» وخطأ هذا النقل
في المعالم. ونقل عنه انه قال في المختصر ما صورته : «لا استحب الطهارة من بئر
تكون بئر النجاسة التي تستقر فيها من أعلاها في مجرى الوادي ، إلا إذا كان بينهما
في الأرض الرخوة اثنى عشر ذراعا وفي الأرض الصلبة سبعة أذرع ، فإن كانت تحتها
والنظيفة أعلاها فلا بأس ، وان كانت محاذيتها في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبعة أذرع
فلا بأس ، تسليما لما رواه ابن يحيى عن سليمان الديلمي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) » انتهى. ثم قال في المعالم : «والذي يستفاد من هذه
العبارة انه يرى التقدير بالاثني عشر بشرطين : رخاوة الأرض وتحتية البئر. ومع
انتفاء الشرط الأول بسبع ، وكذا مع استواء القرار إذا كانت المحاذاة في سمت القبلة
، يعني ان إحداهما كانت في جهة المشرق والأخرى في محاذاتها من جهة المغرب. وهذا
الاعتبار يلتفت الى اعتبار الفوقية في الجهة كما حكيناه عن البعض ، فحيث تكون
المحاذاة في غير جهة القبلة تكون إحداهما في جهة الشمال فتصير أعلى. وقوله ـ : فان
كانت تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ـ ظاهر في نفي التقدير حينئذ» انتهى.
__________________
واستدل على
المشهور برواية الحسن بن رباط عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن البالوعة تكون فوق البئر. قال : إذا
كانت فوق البئر فسبعة أذرع ، وان كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع من كل ناحية ،
وذلك كثير» .
ورواية قدامة
بن ابي يزيد الحمار عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته كم ادنى ما يكون بين البئر والبالوعة؟
فقال : ان كان سهلا فسبعة أذرع وان كان جبلا فخمسة أذرع ، ثم قال : يجري الماء إلى
القبلة إلى يمين ، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، ويجري عن يسار القبلة
إلى يمين القبلة ، ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة».
وجه الاستدلال
بهما ان في كل من الروايتين إطلاقا وتقييدا فيجب الجمع بينهما بحمل المطلق من كل
منهما على المقيد من الأخرى ، وذلك بالنسبة إلى التقدير بالسبعة ، فإنه في الرواية
الأولى مطلق بالنسبة إلى صلابة الأرض ورخاوتها ، والثانية قد اشتملت مع الصلابة
على خمسة ، فتحمل السبعة في الأولى على الرخاوة خاصة جمعا . والسبعة في الرواية الثانية أيضا مطلق بالنسبة إلى
فوقية البالوعة على البئر وعكسه ، وفي الأولى
__________________
قد خص السبعة بفوقية البالوعة والخمسة بعكسه ، وحينئذ فتحمل السبعة المطلقة
على فوقية البالوعة . ويتلخص من ذلك ان السبعة حينئذ مقيدة برخاوة الأرض مع
عدم كون قرار البئر أعلى ، وهو أعم من أن يكون مساويا أو يكون قرار البالوعة أعلى.
وأورد عليه ان
الجمع بين الخبرين المذكورين لا ينحصر في الطريق المذكور ، إذ كما يقيد الحكم
بالسبعة في الموضعين يمكن ان يقيد الحكم بالخمسة فيهما . وفيه انه لا يخفى ان الغرض من التحديد في هذه الأخبار
والشروط المذكورة فيها إنما هو منع تعدي ماء البالوعة إلى البئر ، فمع السهولة
فيما عدا صورة علو قرار البئر لما كان مظنة التعدي كان اعتبار البعد بالسبعة أليق
، ومع الصلابة وكذا مع علو قرار البئر في السهلة لما كان مظنة عدم التعدي حسن
الاقتصار على الخمسة ، فلا يحتاج الى قيد آخر ، ومن ذلك يعلم حكم المساواة في صورة
الرخاوة وانه يستحب أن يكون بسبعة. وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني من
إنكار المستند في ذلك ، حيث قال في كتاب الروض : «والرواية التي هي مستند الحكم
ليس فيها ما يدل على حكم التساوي ، لأنه جعل السبع مع فوقية البالوعة والخمس مع
فوقية البئر. والتساوي مسكوت عنه» انتهى. فإنه وان لم تدل عليه الرواية الأولى
لكنه داخل تحت الرواية الثانية ، حيث حكم فيها بأنه ان كان سهلا فسبع ، خرج عنه
بالتقييد بالرواية الأولى صورة ارتفاع البئر قرارا أو جهة على القول الآخر كما
عرفت. فيبقى الباقي.
__________________
ثم ان بعض
الأصحاب عبر في هذا المقام بأنه إذا كانت البئر فوق البالوعة جهة أو قرارا أو كانت
الأرض صلبة فخمس وإلا فسبع ، وعلى هذا يكون حكم المساواة في صورة الرخاوة ما ذكرنا
من السبع ، وبعضهم ـ كالعلامة في الإرشاد ـ قال : انه إذا كانت البئر تحت البالوعة
أو كانت الأرض سهلة فسبع وإلا فخمس. وعلى هذا فحكم المساواة في الصورة المذكورة
خمس. وهو غير جيد ، لما عرفت.
وقد تلخص من
هذا انه يستحب التباعد بخمس في صور الصلبة جميعا وصورة علو البئر قرارا أو جهة ،
وما عداه فبسبع.
واستدل ابن الجنيد
ـ كما أشرنا إليه فيما قدمنا من كلامه ، وبذلك ايضا استدل له في المختلف ـ برواية محمد
بن سليمان الديلمي عن أبيه قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البئر يكون الى جنبها الكنيف. فقال لي : ان مجرى
العيون كلها من مهب الشمال ، فإذا كانت البئر النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل
منها لم يضرها إذا كان بينهما اذرع. وان كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقل من اثني
عشر ذراعا ، وان كان تجاها بحذاء القبلة وهما مستويان في مهب الشمال فسبعة أذرع».
ولا يخفى عليك
ان الرواية المذكورة غير منطبقة على مذهب ابن الجنيد على كلا النقلين.
(اما على الأول)
فلأنهم نقلوا عنه التباعد بسبع أذرع في صورة فوقية البئر ، مع انه ليس في الرواية
المذكورة لذلك اثر.
و (اما على
الثاني) فلأنه نقل عنه التفصيل في صورة علو البالوعة بالرخاوة والصلابة ، والرواية
ـ كما ترى ـ لا تفصيل فيها لشيء من ذلك.
__________________
ونقل عنه ايضا
القول بأنه ان كانت البالوعة تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ، مع انه صرح في
الرواية في هذه الصورة باشتراط ان يكون بينهما اذرع. وتكلف في المعالم للجواب هنا
بأنه لعل الوجه في عدم تعرض ابن الجنيد لهذا الشرط ـ مع كونه مصرحا به في الرواية
ـ هو عدم الانفكاك عنه عادة حيث يحمل لفظ الأذرع على أقل الجمع ، فإنه من المستبعد
جدا ان توضع بالوعة في جنب بئر بأقل من ثلاثة أذرع. ولا يخلو من بعد ،
وقد جمع بعض
الأصحاب بين هذه الرواية وروايتي المشهور بحمل إطلاق الأذرع في صورة فوقية البئر على الخمس ،
وتقييد التقدير بالسبع في صورة المحاذاة برخاوة الأرض وتحتية البئر وحمل الزائد
على السبع في صورة فوقية الكنيف على المبالغة في القدر المستحب. واعترضه في
المعالم بان في الحمل الأول تكلفا. واما التقييد ففاسد لان فرض المحاذاة ـ كما هو
صريح لفظ الحديث ، ومقتضى المقابلة لصورتي علو كل منهما ـ كيف يجامع الحمل على
تحتية البئر؟ نعم حمل الزيادة في الاثني عشر على المبالغة ممكن. وأجيب بأن رواية
ابن رباط قرينة على الحمل بلا تكلف. وما ذكره من فساد التقييد فاسد ، لأن المحاذاة
التي في الحديث إنما هي المحاذاة بالنسبة إلى جهة الشمال ، وكذا علو كل منهما إنما
هو بالنسبة إليها ، وهو ظاهر. فحينئذ لا ينافيان تحتية البئر بالنظر الى القرار
كما هو مراد . وهو جيد.
هذا. والموجود
في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) نسبة الخلاف في هذه المسألة الى ابن الجنيد
خاصة ، مع ان ظاهر الصدوق في المقنع ذلك ايضا ، حيث نقل
__________________
مضمون الرواية المذكورة من غير اشعار بكونها رواية ، وهو يعطي افتاءه بذلك
والقول به. ثم انه (قدسسره) في الكتاب المذكور قال بعيد ذلك : «وان أردت أن تجعل
الى جنب البالوعة بئرا ، فإن كانت الأرض صلبة فاجعل بينهما خمسة أذرع ، وان كانت
رخوة فسبعة أذرع» وظاهر كلاميه يشعر بالفرق بين البالوعة والكنيف.
إلا انه في
كتاب من لا يحضره الفقيه فرض المسألة في الكنيف ، وذكر التباعد بالسبع والخمس في
صورتي الرخوة والصلبة.
هذا. وقد تقدم
في حسنة الفضلاء التقدير بالسبع في صورة علو البالوعة ، وبالثلاث أو
الأربع في عكسه ، قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين : «والاولى الوقوف على ما تضمنته
حسنة الفضلاء ، لأنها أحسن سندا وأقرب الى الاحتياط لو لا شهرة خلافه بين الأصحاب
، مع انه على المشهور يمكن الجمع بين الروايات الثلاث بحمل الحسنة على شدة
الاستحباب. وهو اولى من الطرح» انتهى.
واستند القائلون
بإلحاق العلو جهة بالعلو قرارا برواية محمد بن سليمان الديلمي المذكورة ويشكل بأنهم لم يعملوا بها فيما دلت عليه من الأحكام ،
فكيف يتم لهم الاستناد إليها في خصوصية هذا الحكم؟ فإن أجيب بأنه قد عارضها في تلك
الأحكام الروايتان المتقدمتان وهذا الحكم لم يعارضها فيه شيء. قلنا : ان تلك
الروايتين قد عارضتهما أيضا حسنة الفضلاء مع كونها أرجح سندا منهما ، فيجب عليهم القول بمضمونها.
ثم انه قد روى
الحميري في كتاب قرب الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي
__________________
عن العلاء عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن البئر يتوضأ منها القوم والى جانبها
بالوعة. قال : ان كان بينهما عشرة أذرع وكانت البئر التي يستقون منها تلي الوادي
فلا بأس». والظاهر ان المراد بكونها تلي الوادي يعني كونها في جهة الشمال ، بناء
على ان مجرى العيون منها. ولم أقف على قائل بمضمون هذا الخبر بل ولا على ناقل له
في كتب الاستدلال.
ولا يخفى ما في
ظاهر هذا الخبر مضافا الى خبر الديلمي وكذا حسنة الفضلاء من الدلالة على الفوقية بالجهة ، وبذلك ايضا يشعر خبر
قدامة المتقدم .
أقول : ولعل
اختلاف التقديرات في هذه الاخبار ـ مفصلا بالفوقية والتحتية تارة ، واخرى بالصلابة
والرخاوة بالزيادة والنقصان ، ومطلقا في بعض ـ كله قرينة الاستحباب بزيادة ونقصان
في مراتبه. والله اعلم.
الفصل الخامس
في المضاف ،
وفيه مسائل :
(الأولى) ـ المضاف
هو ما لا ينصرف اليه لفظ الماء على الإطلاق عرفا بل يحتاج في صدقه الى القيد ،
كالمصعد من الأنوار والمعتصر من الثمار والممتزج بما يسلبه الإطلاق.
ولا خلاف في
طهارته باعتبار أصله ، ويدل على ذلك ايضا قول الصادق (عليهالسلام) في موثقة عمار : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر».
__________________
ولا خلاف أيضا
في انفعاله بملاقاة النجاسة وان كثر ، نقل الإجماع على ذلك جملة من معتمدي
الأصحاب.
ويدل عليه ايضا
ما رواه السكوني عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة. فقال : يهراق
مرقها ويغسل اللحم ويؤكل» .
واعترض على
الرواية بضعف السند أولا ، وورودها في مورد خاص ثانيا ، وعدم ظهورها في النجاسة
ثالثا.
ولا يخفى ما في
هذه المناقشات من التعسف.
(أما الأولى)
فبما عرفت في المقدمة الثانية من مقدمات الكتاب.
و (اما الثانية)
فلما عرفت في المقام الخامس من المقدمة الثالثة من ان تعدية الحكم في مثل هذا المقام من قبيل تنقيح
المناط القطعي ، إذ لا يعلم هنا مدخل لخصوصية السؤال.
و (اما الثالثة)
فلأن الأمر بإهراق المرق المذكور وغسل اللحم أظهر دلالة على النجاسة من ان يحوم
حوله الإنكار.
ويدل على ذلك
أيضا رواية زكريا بن آدم المروية بطرق ثلاث قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن قطرة نبيذ أو خمر مسكر قطرت في قدر فيه لحم
__________________
كثير ومرق كثير. قال : يهراق المرق أو يطعم أهل الذمة أو الكلب ، واللحم
اغسله وكله. الحديث».
واستدل ايضا
على الحكم المذكور بصحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت ، فان كان جامدا
فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل
ذلك».
وهذا الاستدلال
بمكان من الضعف ، إذ مورد الرواية ليس مما نحن فيه ، فان المضاف في اصطلاحهم لا
يشمل مثل الدهن والزيت. وقياسه عليهما باعتبار الاشتراك في الميعان باطل عندنا (أما
أولا) ـ فلعدم بناء الأحكام على القياس. و (اما ثانيا) ـ فلعدم ثبوت كون مطلق
الميعان علة حتى يلزم من الاشتراك فيها ذلك.
واستدل أيضا
بأن المائع قابل للنجاسة ، والنجاسة موجبة لتنجيس ما لاقته ، فيظهر حكمها عند
الملاقاة ، ثم تسري النجاسة بممازجة المائع بعضه بعضا.
واعترض عليه
بان قبول المائع النجاسة ، ان كان باعتبار الرطوبة المقتضية للتأثير عند ملاقاة
النجاسة فمن البين أنها موجودة في كثير من افراد الجامد الذي من شأنه الميعان
كالسمن ، ولا ريب في عدم تأثره بنجاسة ما يتصل به من اجزائه المحكوم بنجاستها مع
تحقق الملاقاة بينهما. وقد صرح بهذا في الحديث الذي احتجوا به. وان كان باعتبار
الدليل الدال فكان الاولى الاحتجاج به على تقدير وجوده.
وكيف كان فكون
الحكم إجماعيا مما يهون الخطب ، وجملة من متأخري المتأخرين إنما عولوا في هذه
المسألة عليه. لما نقلنا عنهم من الطعن في الأدلة.
__________________
(المسألة
الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى عليه الإجماع غير ومنهم ـ عدم جواز رفع الحدث بالمضاف.
وخالف في ذلك
الصدوق في الفقيه ، فقال : «ولا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستياك بماء
الورد» وأصرح منه كلامه في الأمالي .
ونقل الشيخ في
الخلاف عن قوم من أصحاب الحديث جواز الوضوء بماء الورد.
حجة الصدوق ـ على
ما نقل ـ رواية محمد بن عيسى عن يونس عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «قلت له : الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به
للصلاة؟
قال : لا بأس
بذلك».
وأجاب الشيخ (قدسسره) في التهذيب عنه بأنه خبر شاذ شديد الشذوذ وان تكرر في الكتب
والأصول ، فإنما أصله يونس عن ابي الحسن (عليهالسلام) ولم يروه غيره ، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل
بظاهره ، وما يكون هذا حكمه لا يعمل به ، ولو سلم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء
الذي هو التحسين ، وقد بينا فيما تقدم ان ذلك يسمى وضوء ، ثم قال : «وليس لأحد أن
يقول : ان في الخبر انه سأله عن ماء الورد يتوضأ به للصلاة. لأن ذلك لا ينافي ما
قلناه ، لانه يجوز ان يستعمل للتحسين ومع هذا يقصد به الدخول في الصلاة ، من حيث
انه متى استعمل الرائحة الطيبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربه كان أفضل من ان يقصد
به التلذذ حسب دون وجه الله. ثم قال : ويحتمل ايضا أن يكون أراد بقوله : «ماء
الورد» الماء الذي وقع فيه الورد. لان ذلك يسمى ماء ورد وان لم يكن معتصرا منه ،
لان كل شيء جاور غيره فإنه
__________________
يكسبه اسم الإضافة إليه» انتهى كلامه زيد مقامه. وأشار بقوله : «وقد بينا
فيما تقدم ان ذلك يسمى وضوء» إلى موثقة عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الدقيق يتوضأ به. قال : لا بأس بأن يتوضأ به وينتفع
به». حيث قال بعد إيراد الخبر المذكور : «معناه انه يجوز التمسح به والتوضؤ الذي
هو التحسين دون الوضوء للصلاة» انتهى.
ونقل عن ظاهر
ابن ابي عقيل انه جوز الوضوء به حال الضرورة فيقدم على التيمم. وهو ـ
مع عدم الدليل عليه ـ محجوج بما سيأتي ذكره.
حجة الأكثر على
انحصار رفع الحدث في المطلق وجوه : (منها) ـ قوله سبحانه : «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا ...» حيث أوجب التيمم عند فقد الماء ، ولا خلاف في ان إطلاق
الماء لا ينصرف الى المضاف. ومنه علم سقوط الواسطة ، فإنه لو كان الوضوء جائزا
بغيره لم يجب التيمم ، وهو ظاهر.
و (منها) ـ رواية
أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يكون معه اللبن يتوضأ منه للصلاة؟
فقال : لا ، إنما هو الماء والصعيد».
ورواية عبد
الله بن المغيرة عن بعض الصادقين قال : «إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على
اللبن فلا يتوضأ باللبن ، إنما هو الماء أو التيمم.».
__________________
وجه الاستدلال
حصر طهارة الوضوء في الماء والصعيد الدال على نفي غيرهما. وما يوهم خلاف ذلك ـ من
قوله في ذيل الخبر الثاني : «فان لم يقدر على الماء وكان نبيذا. فاني سمعت حريزا
يذكر في حديث : ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قد توضأ بالنبيذ ولم يقدر على الماء». ـ فمحمول على
التقية ، وفي الاستشهاد بنقل حريز إيناس بذلك. ويحتمل ايضا حمل النبيذ على ما ينبذ
فيه تمر لكسر مرارة الماء كما كان يستعمل سابقا لكن على وجه لا يخرج به الماء عن
الإطلاق ، كما تضمنه حديث الكلبي النسابة إلا أن الظاهر بعده ويحتمل ايضا ان تكون هذه التتمة من كلام عبد الله بن
المغيرة.
و (منها) ـ ان
الحدث المانع من الدخول في الصلاة معنى مستفاد من الشرع فيجب استمراره بعد وجود
سببه الى أن يثبت له رافع شرعي. والذي ثبت رافعيته من الشرع هو الماء المطلق.
والقول بأنه يمكن المناقشة هنا بمنع حجية الاستصحاب مردود بان هذا الاستصحاب ليس
من القسم المتنازع فيه. وهو القسم الرابع من الأقسام المتقدمة في المقدمة الثالثة
، بل هو من القسم الثاني أو الثالث من الأقسام المتقدمة الذي هو عبارة عن عموم
الدليل أو إطلاقه ، كما تقدم إيضاحه .
و (منها) ـ قوله
تعالى : «وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» فإنه تعالى ذكر الماء هنا في معرض الامتنان على العباد.
فلو حصلت الطهارة بغيره لكان الامتنان بالأعم أولى. واعترض على هذا الوجه بأنه
يجوز ان يخص أحد الشيئين الممتن بهما بالذكر لكونه أبلغ وأكثر وجودا وأعم نفعا.
وقد تقرر ان التخصيص بالذكر لا ينحصر في التخصيص بالحكم.
__________________
هذا. ولم أقف
على موافق للصدوق (طاب ثراه) من الأصحاب إلا ما يظهر من كلام المحدث الكاشاني في
مفاتيحه ووافية ، حيث قال في الأول ـ بعد الكلام في المسألة ـ ما لفظه : «ويحتمل
قويا الجواز ، لصدق الماء على ماء الورد ، لأن الإضافة ليست إلا لمجرد اللفظ كماء
السماء ، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط بغيره ، مع تأيد الخبر بعمل
الصدوق ، وضمانه صحة ما رواه في الفقيه ، وعدم المعارض الناص» انتهى. وقال في
الثاني ـ بعد نقل خبر يونس المتقدم ـ ما لفظه : «وافتى بمضمونه في الفقيه ، ونسبه في
التهذيبين الى الشذوذ ، ثم حمله على التحسين والتطيب للصلاة دون رفع الحدث ،
مستدلا بما في الخبر الآتي «إنما هو الماء والصعيد» . أقول : هذا الاستدلال غير صحيح ، إذ لا منافاة بين
الحديثين ، فان ماء الورد ماء استخرج من الورد» انتهى.
وحاصل هذا
الكلام يرجع الى ان الماء المضاف الذي يخرج بالإضافة عن كونه مطلقا إنما هو ما إذا
أضيف المطلق الى جسم من الأجسام على وجه يغيره ويسلبه الإطلاق. واما ما اتخذ من
الورد فهو ماء مطلق قد تصاعد حتى تكونت منه تلك الأجسام ثم استخرج منها ، فإضافته
للورد لفظية كماء السماء وماء البئر ونحوهما وان كان قد اكتسب بسبب ذلك تغيرا في
الأوصاف ، فإن ذلك لا يخرجه عما كان عليه من الإطلاق.
وأنت خبير بما
فيه من الوهن والقصور :
(أما أولا) ـ فلأنه
بمقتضى ذلك لا ينحصر ما ذكره في ماء الورد بخصوصه ، بل يجري في ماء العنب والرمان
ونحوهما من الثمار التي يعتصر منها من حيث تصاعده إليها بالسقي ، بل مثل أوراق
الشجر ونحوها كما لا يخفى ، فالواجب بمقتضى ما ذكره جواز الوضوء بالماء المتخذ من
جميع ذلك. ولا أظنه يقوله.
__________________
و (اما ثانيا)
فلانه لا خلاف بين كافة الناس في ان إطلاق الماء لا يشمل هذه المياه ، بخلاف ماء
البئر وماء السماء ونحوهما ، وما ذاك إلا لخروج تلك المياه عن الإطلاق دون هذه.
و (اما ثالثا)
ـ فلأنه كما ان الماء المطلق بإضافته إلى مثل الزعفران يخرج عن الإطلاق لاكتسابه
اجزاء منه ، كذلك ما تكونت منه تلك الثمار قد استحال عن حقيقته الاولى وخرج عنها
إلى حقيقة أخرى ، وإلا لكان البول اولى بعدم الخروج عن إطلاق الماء ، لانه لم
يكتسب بعد شربه إلا المرور على تلك المجاري الباطنة وان اكتسب عفونة ونتنا باللبث
فيها آنا ، مع انه لا يسمى ماء بالكلية فضلا عن ان يكون مطلقا. وما ذاك إلا لخروجه
عن حقيقة الماء بالكلية بسبب تغير طبعه وانقلاب حقيقته إلى حقيقة أخرى ، مع ان
أصله الماء بل بقاء المائية فيه أظهر. وما نحن فيه كذلك ايضا.
و (اما رابعا)
ـ فلان الصدوق (رضوان الله عليه) ليس معصوما يجب الاقتداء به ، ومخالفة هذا القائل
(قدسسره) له ـ وكذا غيره من الأخباريين في جملة من المسائل ـ أكثر
من ان يحصى. على ان كلامه في الفقيه نقل لمتن الخبر ، فهو قابل للاحتمال ايضا.
وضمانه صحة ما يرويه في الكتاب المذكور لا تأييد فيه ، لانه يكفينا في المقام
تأويل الخبر بأحد الوجوه التي ذكرها شيخنا الطوسي (طيب الله مرقده) من غير ضرورة
الى رده وطرحه رأسا لينافي ضمانه المذكور.
و (اما خامسا)
ـ فلما ذكره في كتاب الفقه الرضوي ، حيث قال (عليهالسلام) : «كل ماء مضاف أو مضاف اليه فلا يجوز التطهير به ويجوز
شربه ، مثل ماء الورد وماء القرع وماء الزعفران وماء الخلوق وغيره مما يشبهها ،
وكل ذلك لا يجوز استعماله إلا الماء القراح والتراب». انتهى. وقد قدمنا لك في تتمة
المقدمة الثانية
__________________
ان الكتاب المذكور معتمد عليه عندنا وعند جملة من مشايخنا (قدس الله تعالى
أرواحهم).
(المسألة
الثالثة) ـ المشهور بين الأصحاب (طيب الله مضاجعهم) ان المضاف لا يرفع خبثا ، وذهب
السيد المرتضى ـ ونقل ايضا عن الشيخ المفيد ـ الى جواز رفع الخبث به ، ونقل عن ابن
ابي عقيل ايضا القول بذلك ، إلا انه خص جواز استعماله بالضرورة. وعبارته المنقولة
عنه شاملة بإطلاقها للاستعمال في رفع الحدث والخبث ، كما أشرنا إليه آنفا . وظاهر كلام جملة من الأصحاب تخصيص خلاف السيد هنا
بالمضاف ، والذي وقفت عليه في كلامه في المسائل الناصرية ـ وكذا نقله عنه الشيخ في
الخلاف والمحقق في المعتبر ـ هو جواز ازالة الخبث بالمائعات مطلقا .
استدل الجمهور
من أصحابنا على ما ذهبوا اليه بوجوه :
(أحدها) ـ ورود
الأوامر بالغسل بالماء ، وهي كثيرة ستأتي ان شاء الله تعالى في أحكام النجاسات ،
والمتبادر عند الإطلاق هو المطلق. ولو كان الغسل بغيره جائزا لكان تعيينه في هذه
الأخبار لا يخلو من حرج وضيق ، وهو ممتنع.
وأورد عليه ان
الأوامر المذكورة مخصوصة بنجاسات معينة. والمدعى عام. وأجاب المحقق في بعض مسائله
بأنه لا قائل منا بالفرق.
أقول : ويمكن
الجواب بالتعدية الى غير ما هو مذكور في تلك الاخبار بطريق تنقيح المناط القطعي
الذي تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثالثة ويمكن ايضا ان يدعى ان الغسل حقيقة فيما يقع بالماء
المطلق خاصة.
__________________
(ثانيها) ـ ان
ملاقاة النجاسة للمائع تقتضي نجاسته ، والنجس لا يزول به النجاسة.
واعترض عليه
بان مثله وارد في الماء المطلق القليل. فإن النجاسة تزول به مع تنجسه بالملاقاة.
وأجاب المحقق (رحمهالله) بالمنع من نجاسة المطلق عند وروده على النجاسة ، كما
هو مذهب المرتضى في بعض مصنفاته. وبان مقتضى الدليل التسوية بينهما ، لكن ترك
العمل به في المطلق للإجماع ولضرورة الحاجة الى الإزالة ، والضرورة تندفع بالمطلق
فلا يسوى به غيره ، لما في ذلك من تكثير المخالفة للدليل.
(ثالثها) ـ ان
منع الشرع من استصحاب الثوب النجس ـ مثلا ـ في الصلاة ثابت قبل غسله بالماء ،
فيثبت بعد غسله بغير الماء عملا بالاستصحاب.
وأورد عليه ان الاستصحاب المقبول هو ما يكون دليل الحكم فيه غير
مقيد بوقت ، وفي تحقق ذلك هنا نظر ، إذ العمدة في إثبات المنع المذكور بطريق
العموم هو الإجماع. ومن البيّن ان الاتفاق إنما وقع على منع استصحاب النجس قبل
الغسل مطلقا لا قبل الغسل بالماء.
وفيه نظر (أما
أولا) ـ فلان العمدة في منع الصلاة في الثوب النجس إنما هي الأخبار الدالة على
النهي عن ذلك ، ولا شك ان النهي ظاهر في العموم لجميع الأزمنة ـ كما صرحوا به في
الأصول ـ الى ان يظهر الرافع له.
و (اما ثانيا)
ـ فلانه مع تسليم اختصاص الدليل بالإجماع فلا منافاة ، فإن الإجماع متى قام على
المنع من الصلاة في الثوب النجس والنهي عن ذلك ، فالنهي أيضا عام بالتقريب المذكور
الى ان يثبت الرافع ، فان المراد بكون دليل الحكم غير مقيد بوقت يعني ان التقييد
غير مفهوم من نفس اللفظ الدال على ذلك الحكم. بل هو مطلق
__________________
أو عام إلى غاية يعلم بها ارتفاع ذلك الحكم. ووقوع الخلاف في الرافع لا
يوجب تقييدا في الحكم حتى يقال ان الحكم هنا مقيد. وبالجملة فإن الشارع نهى عن
الصلاة في الثوب النجس حتى تزال النجاسة ، سواء كان مستند هذا النهي الإجماع أو
الخبر. والنهي ـ كما ذكرنا ـ ظاهر في العموم الى وجود الرافع ، فلو وقع الخلاف في
بعض الأشياء بأنها هل تكون رافعة أم لا فللمانع ان يتمسك بالاستصحاب الذي هو عبارة
عن عموم الدليل أو إطلاقه حتى يثبت المدعي كون ذلك رافعا شرعا. وهذا بحمد الله
ظاهر لا سترة عليه.
(رابعها) ـ قوله
تعالى : «وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ...» . وجه الاستدلال انه خص التطهير بالماء فلا يقع بغيره.
أما المقدمة الأولى فلانه تعالى ذكر الآية في معرض الامتنان ، فلو حصلت الطهارة
بغيره كان الامتنان بالأعم أولى ولم يكن للتخصيص فائدة. واعترض عليه بما مر ذكره
في المسألة الثانية في الاستدلال بقوله سبحانه : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً» .
أقول : ومن
الأدلة ايضا ان يقال : ان الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان لا مدخل للعقل فيهما بوجه
كسائر أحكام الشرع ، فما علم من الشرع كونه منجسا يجب قصر الحكم بالنجاسة على
ملاقاته ، وما علم من الشرع كونه رافعا للنجاسة وموجبا للتطهير يجب قصر الحكم
بالطهارة عليه. ولعل هذا أقوى دليل في المقام.
احتج السيد ـ على
ما نقل عنه ـ بوجوه :
(الأول) ـ إجماع
الفرقة ، حكاه عنه العلامة في المختلف ، ونقل عن المحقق في بعض مصنفاته ان المفيد
والمرتضى أضافا ذلك الى مذهبنا.
أقول : وهو
ظاهر كلام السيد (رضياللهعنه) في المسائل الناصرية.
__________________
وأجاب العلامة
في المختلف عن ذلك بأنه لو قيل ان الإجماع على خلاف دعواه أمكن ان أريد به أكثر
الفقهاء ، إذ لم يوافقه على ما ذهب اليه من وصلنا خلافه.
وفيه ان خلاف
المفيد ـ كما حكيناه ـ محكي في غير موضع من كتب الأصحاب.
وقال المحقق (طاب
ثراه) ـ بعد ما قدمنا نقله عنه من ان المفيد والمرتضى أضافا القول بذلك الى مذهبنا
ـ ما صورته : «اما علم الهدى فإنه ذكر في الخلاف انه إنما أضاف ذلك الى المذهب
لانه من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الأدلة النقلية ما
يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها ، ونحن نعلم انه لا فرق بين الماء
والخل في الإزالة ، بل ربما كان غير الماء أبلغ ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل. واما
المفيد فإنه ادعى في مسائل الخلاف ان ذلك مروي عن الأئمة (عليهمالسلام) ثم قال : اما نحن فقد فرقنا بين الماء والخل ، فلم يرد
علينا ما ذكره علم الهدى. واما المفيد فنمنع دعواه ونطالبه بنقل ما ادعاه» انتهى.
وأشار بقوله : «واما نحن فقد فرقنا. إلخ» الى ما يأتي من كلامه في جواب الاحتجاج
بالآية.
أقول : وبما
عرفت في المقام الثاني من المقدمة الثالثة ، من أمر الإجماع وما فيه من النزاع ـ وكذا في المقدمة
العاشرة في الكلام على دليل العقل ـ يظهر لك ما في هذا الدليل وانه غير واضح
السبيل ، فإنه لا مجال للعقل في الأحكام الشرعية ، لبنائها على التوقيف من المبلغ
للشريعة «وَما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» .
(الثاني) ـ قوله
تعالى : «وَثِيابَكَ
فَطَهِّرْ» حيث أمر بتطهير الثوب ولم يفصل بين الماء وغيره. حكى
ذلك عنه في المختلف ، وحكى عنه ايضا انه اعترض على نفسه فيه بالمنع من تناول
الطهارة للغسل بغير الماء ، ثم أجاب بأن تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة النجاسة
عنه. وقد زالت بغير الماء مشاهدة ، لأن الثوب لا يلحقه عبادة.
__________________
وأجاب العلامة
في المختلف بان المراد بالآية ـ على ما ورد به التفسير ـ لا تلبسها على معصية ولا
على غدر ، فان الغادر الفاجر يسمى دنس الثياب. سلمنا ان المراد بالطهارة المتعارف
شرعا ، لكن لا دلالة فيه على ان الطهارة بأي شيء تحصل ، بل دلالتها على ما قلناه
من ان الطهارة إنما تحصل بالماء أولى ، لأن مع الغسل بالماء يحصل الامتثال قطعا ،
وليس كذلك لو غسلت بغيره. وقوله : النجاسة قد زالت حسا. قلنا : لا يلزم من زوالها
في الحس زوالها شرعا ، فان الثوب لو يبس بلله بالماء النجس أو البول لم يطهر وان
زالت النجاسة عنه ، مع انه (رحمهالله) أجاب ـ حين سئل عن معنى نجس العين ونجس الحكم ـ بأن
الأعيان ليست نجسة ، لأنها عبارة عن جواهر مركبة وهي متماثلة فلو نجس بعضها لنجس
سائرها وانتفى الفرق بين الخنزير وغيره ، وقد علم خلافه ، وإنما التنجيس حكم شرعي
، ولا يقال نجس العين إلا على المجاز دون الحقيقة ، وإذا كانت النجاسة حكما شرعيا
لم تزل عن المحل إلا بحكم شرعي ، فحكمه (رحمهالله) بزوالها عن المحل بزوالها حسا ممنوع. انتهى.
وأجاب المحقق (رحمهالله) عن الآية بمنع دلالتها على موضع النزاع ، لأنها دالة على وجوب
التطهير ، والبحث ليس فيه بل في كيفية الإزالة ، ثم اعترض على نفسه ـ أولا ـ بأن
الطهارة إزالة النجاسة كيف كان. وأجاب بأن هذا أول المسألة. واعترض ـ ثانيا ـ بان
الغسل بغير الماء يزيل عين النجاسة فيكون طهارة. وأجاب ـ أولا ـ بالمنع فإن
النجاسة إذا مازجت المائع شاعت فيه. والباقي في الثوب منه تعلق به حصة من النجاسة
، ولأن النجاسة ربما سرت في الثوب فسدت مسامه فتمنع غير الماء من الولوج حيث هي ،
وتبقى مرتكبة في محلها. ثم سلم زوال عين النجاسة ـ ثانيا ـ وقال : لكن لا نسلم
زوال نجاسة تخلفها ، فإن المائع بملاقاة النجاسة يصير عين نجاسة ، فالبلة المتخلفة
__________________
منه في الثوب بعض المنفصل النجس فيكون نجسا ، أو نقول : للنجاسة الرطبة أثر
في تعدي حكمها الى المحل. كما ان النجاسة عند ملاقاة المائع تتعدى نجاستها اليه ،
فعند وقوع النجاسة الرطبة تعود اجزاء الثوب الملاقية لها نجسة شرعا ، وتلك العين
المنفعلة لا تزول بالغسل. انتهى.
أقول : لا يخفى
عليك ما في هذه الأجوبة من التكلف. والصواب في الجواب هو ما استفاضت به أخبار أهل
الذكر (صلوات الله عليهم) في تفسير الآية المشار إليها من ان المراد بالتطهير فيها
إنما هو رفع الثياب وتشميرها ، ففي الكافي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «اي فشمر». وفي رواية «يقول : ارفعها ولا تجرها».
وفي أخرى عن الكاظم (عليهالسلام) «ان الله عزوجل قال لنبيه (صلىاللهعليهوآله) : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ). وكانت ثيابه طاهرة وانما أمره بالتشمير». وفي المجمع
عن الصادق (عليهالسلام) «معناه وثيابك فقصر». وعن أمير المؤمنين (عليهالسلام) «قال الله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ). أي فشمر». والقمي في تفسيره «وتطهيرها تشميرها». وحينئذ
فإذا اتفقت اخبارهم (عليهمالسلام) بتفسيرها بهذا المعنى ، واللفظ مجمل يحتاج في تعيين
المراد منه الى التوقيف منهم (عليهمالسلام) ولا يجوز القطع على مراده (سبحانه) بدون ذلك كما عرفته
في المقدمة الثالثة فلا يجوز تجاوزه الى غيره ، لان القرآن عليهم انزل ،
وهم أعرف بما أبهم منه وأجمل.
واما ما ذكره
العلامة (رحمهالله) من التفسير فلم نقف له في الأخبار على خبر ، ولعله من
كلام سائر المفسرين. إلا انه ينافي ظاهر عبارته .
(الثالث) ـ إطلاق
الأمر بالغسل من النجاسة من غير تقييد ، وقد وقع
__________________
ذلك في عدة اخبار كما سيأتي ان شاء الله تعالى في مبحث النجاسات. ونقل
عنه في المختلف انه اعترض على نفسه هنا أيضا بأن إطلاق الأمر بالغسل ينصرف الى ما
يغسل به في العادة ، ولم تقض العادة بالغسل بغير الماء. ثم أجاب بالمنع من اختصاص
الغسل بما يسمى الغاسل به غاسلا عادة ، إذ لو كان كذلك لوجب المنع من غسل الثوب
بماء الكبريت والنفط وغيرهما مما لم تجر العادة بالغسل به ، ولما جاز ذلك وان لم
يكن معتادا إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة وان المراد بالغسل ما يتناوله اسمه
حقيقة من غير اعتبار العادة.
وأجيب عنه (أولا)
ـ بأن الغسل حقيقة في استعمال الماء ، وبعض أطلق لفظ الحقيقة وبعض قيدها بالشرعية
، والمطلقون احتجوا لذلك بسبقه الى الذهن وتبادره عند الإطلاق كما يعلم مراد الآمر
بقوله : اسقني.
و (ثانيا) ـ بأن
إطلاق الأوامر الواردة في الأخبار محمول على المقيد من الأوامر المذكورة مما قدمنا
الإشارة إليه.
أقول : ما
ادعاه المرتضى (رضياللهعنه) ـ من نقض الحمل على العادة بالغسل بماء الكبريت ـ مردود
بان الحمل على العادة لا يوجب اشتراط العادة في كل فرد فرد من افراد المياه
المطلقة ، وإلا لما جاز التطهير بماء مطلق لم يوجد إلا تلك الساعة بل النظر في ذلك
الى نوع الكلي ، فما أجاب به (قدسسره) من المنع ممنوع.
(الرابع) ـ ان
الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة ، كما تشهد به رواية
__________________
حكم بن حكيم الصيرفي ، قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : أبول فلا أصيب الماء ، وقد أصاب يدي شيء من البول ،
فأمسحه بالحائط والتراب ، ثم تعرق يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال
لا بأس به». ورواية غياث ابن إبراهيم عن ابي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق».
وأجاب المحقق
في المعتبر بان خبر حكم بن حكيم مطرح ، لان البول لا يزول عن الجسد بالتراب باتفاق
منا ومن الخصم. واما خبر غياث فمتروك ، لان غياثا بتري ضعيف الرواية ولا يعمل على
ما ينفرد به ، قال : ولو صحت نزلت على جواز الاستعانة في غسله بالبصاق لا ليطهر
المحل به منفردا ، فان جواز غسله به لا يقتضي طهارة المحل ، ولم يتضمن الخبر ذلك ،
والبحث ليس إلا فيه.
(أقول) :
وسيأتي لك الكلام في رواية حكم بن حكيم وتحقيق الحال فيها بما تندفع به شبهة
المستند إليها من غير ضرورة إلى طرحها .
تذنيب
قال المحدث
الكاشاني (قدسسره) في كتاب المفاتيح : «يشترط في الإزالة إطلاق الماء على
المشهور ، خلافا للسيد والمفيد ، وجوزا بالمضاف ، بل جوز السيد تطهير الأجسام
الصقيلة بالمسح بحيث تزول العين ، لزوال العلة. ولا يخلو من قوة ، إذ غاية ما
يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات ، اما وجوب غسلها بالماء عن كل جسم
فلا ، فكل ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلا ما خرج
__________________
بدليل ، حيث اقتضى فيه اشتراط الماء كالثوب والبدن. ومن هنا يظهر طهارة
البواطن كلها بزوال العين. مضافا الى نفي الحرج ، ويدل عليه الموثق وكذا أعضاء الحيوان المتنجسة غير الآدمي كما يستفاد من
الصحاح» انتهى.
وهذا الكلام
يدل صريحا على موافقته للسيد فيما ذكره من تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح على الوجه
المذكور ، وظاهرا على موافقته له أيضا في رفع الخبث بالمضاف لكن في غير الثوب
والجسد.
وهو منظور فيه
من وجوه : (أحدها) ـ ان الطهارة والنجاسة ـ كما عرفت ـ حكمان شرعيان متوقفان على
التوقيف والرسم من صاحب الشريعة في تعيين ما يجعله نجسا أو طاهرا أو منجسا أو
مطهرا ، ولم يعلم منه ان مجرد الإزالة أحد المطهرات الشرعية مطلقا. وقوله ـ : انه
لم يعلم من الشرع وجوب غسل النجاسة بالماء عن كل جسم ، بل كل ما علم زوال النجاسة
عنه قطعا حكم بتطهيره إلا الثوب والبدن ـ مردود بان المعلوم من الشرع خلافه ، وإلا
لكان الأمر بتطهير الأواني من ولوغ الكلب والخنزير والخمر وموت الفأرة ونحو ذلك
عبثا محضا ، لإمكان زوال العين بدونه من تمسيح ونحوه ، مع انه في إناء الولوغ ورد
الأمر بغسله بالماء بعد تعفيره. ولا ريب انه مع فرض وصول لعاب من الكلب في الإناء
فإنه يزول بالتعفير ، فما الحاجة الى الماء حينئذ؟ سيما على القول بوجوب المرتين
كما هو المشهور ، مع انه ايضا مروي كما سيأتي في محله ان شاء الله تعالى وكذا
المواضع المأمور فيها بالتعدد ثلاثا أو سبعا ، فان زوال العين ـ لو كان ثمة عين ـ يحصل
بأول مرة ، فما الموجب للتعدد لو لم يكن المحل باقيا على النجاسة؟ مع بناء الشريعة
على السهولة والتخفيف في الأحكام. ما هذا إلا رمي في الظلام من هذا الامام.
__________________
(ثانيها) ـ ان
ـ ما ادعاه ـ من كلية طهارة ما علم زوال النجاسة عنه في غير الفردين المذكورين ـ دعوى
لا دليل عليها ، بل للخصم ان يقلب ذلك عليه ويقول : ان كل متنجس يجب تطهيره بالماء
إلا ما خرج بدليل ، ولا شك ان هذه الكلية أكثر افرادا وأشمل أعدادا من الكلية التي
ادعاها ، لما عرفت من الأوامر الواردة بغسل الأواني وازالة النجاسات عن الثوب
والبدن وغسل الفرش والبسط ونحو ذلك. ونحن لم نجد من افراد الكلية التي ادعاها في
النصوص سوى الفردين المذكورين ، وهما طهارة البواطن وطهارة أعضاء الحيوان بالغيبة.
وهل يصح في الأذهان السليمة والطباع المستقيمة ان يدعى ـ في الأحكام الشرعية
المبنية على التوقيف والسماع من صاحب الشرع ـ حكم كلي وقاعدة مطردة ولم يرد لها في
الخارج عنهم (عليهمالسلام) إلا فردان أو ثلاثة؟ ما هذا إلا نوع من الاجتهاد الصرف
والتخريج البحث ، بل لم يبلغ المجتهدون ـ الذين قد بسط عليهم لسان التشنيع في جملة
مصنفاته ، سيما رسالته المسماة بسفينة النجاة ـ إلى مثل هذا ، لان قصارى ما ربما
يرتكبه بعضهم إلحاق بعض الافراد الغير المنصوصة بما هو منصوص وإثبات الحكم في مادة
جزئية ، لا إثبات حكم كلي وقانون أصلي مع كونه خاليا من الدليل بمجرد وجود فرد أو
فردين ولو كان هذا الحكم كما يدعيه كليا مع مطابقته للسهولة والتخفيف الذين عليهما
بناء الشريعة المحمدية ، لتكثرت في الخارج افراده واستفاضت عنهم (عليهمالسلام) جزئياته ان لم يصرحوا بكليته.
(ثالثها) ـ انه
قد اختار في مسألة الأرض والبواري ونحوها ـ إذا جففتها الشمس بعد زوال عين النجاسة
ـ عدم الطهارة ، بل حكم بالعفو خاصة مع بقاء النجاسة وعدم طهرها إلا بالماء. مع ان
هذا مما يدخل تحت هذه القاعدة التي ادعاها هنا. إذ هو مما علم زوال النجاسة عنه
قطعا. فلم لم يحكم بطهره؟ بل حكم بالنجاسة ، مستدلا
على ذلك بالروايات الواردة هناك التي من جملتها صحيحة ابن بزيع قال : «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه ،
هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال : كيف يطهر من غير ماء». فانظر أيدك الله تعالى
الى قوله : (عليهالسلام) على جهة التعجب : «كيف يطهر من غير ماء» وما فيه من
الصراحة في ان التطهير مطلقا لا يكون إلا بالماء.
(رابعها) ـ انه
قد تفرد بان المتنجس لا ينجس ، بمعنى ان النجاسة لا تتعدى إلا من عين النجاسة دون
محلها بعد زوال العين ، مع حكمه هناك ببقاء المحل على النجاسة واحتياجه الى
التطهير. وظاهر كلامه ـ كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ـ أعم من ان يكون في البدن أو غيره. وهنا قد حكم
بالطهارة بمجرد زوال العين في غير الموضعين المشار إليهما في كلامه. ولا يخفى عليك
ما بينهما من التدافع. وسيأتي الكلام معه أيضا في هذه المسألة ان شاء الله تعالى.
(المسألة
الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه لو خالط
المطلق مضاف مخالف له في الصفات ولم يسلبه الإطلاق لم يخرجه عن الطهورية وقد نقل
الإجماع عليه غير واحد منهم. اما لو كان ذلك المضاف مسلوب الأوصاف ـ كماء الورد
العديم الرائحة ـ فعن الشيخ (رحمهالله) انه جعل الحكم منوطا بالأكثرية ، ثم قال : «فان تساويا
ينبغي القول بجواز استعماله ، لأن الأصل الإباحة. وان قلنا يستعمل ذلك ويتيمم كان
أحوط» وعن ابن البراج انه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ولا إزالة النجاسة ،
ويجوز في غير ذلك. حكى ذلك عنهما العلامة في المختلف. ونقل فيه عن ابن البراج انه
نقل مباحثة جرت بينه وبين الشيخ في ذلك ، وخلاصتها تمسك
__________________
الشيخ بالأصل الدال على الإباحة ، وتمسكه هو بالاحتياط ، ثم قال في المختلف
: «والحق عندي خلاف القولين معا وان جواز التطهير به تابع لإطلاق الاسم ، فان كانت
الممازجة أخرجته عن الإطلاق لم تجز الطهارة به ، وإلا جازت ، ولا اعتبر في ذلك
المساواة والتفاضل ولو كان ماء الورد أكثر وبقي إطلاق اسم الماء أجزأت الطهارة به
، لانه امتثل المأمور به وهو الطهارة بالماء المطلق. وطريق معرفة ذلك ان يقدر ماء
الورد باقيا على أوصافه. ثم يعتبر ممازجته حينئذ فيحمل عليه منقطع الرائحة» انتهى.
وما ذكره من التقدير لم يتعرض لوجهه هنا ، إلا انه وجهه في النهاية بأن الإخراج عن
الاسم سالب للطهورية ، وهذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف ،
فيعتبر بغيره ، كما يفعل في حكومات الجراح.
وأنت خبير بان
ما ذكره في المختلف من تبعية التطهير لإطلاق الاسم حق لا اشكال فيه ، لأن إجراء
الأحكام تابع للتسمية. واما ما ذكره من التقدير فلا دليل عليه شرعا ولا عرفا. وما
علله به في النهاية محل نظر ، فإنه إذا سلم ان هذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب
الموافقة في الأوصاف لزم حينئذ جواز الطهارة به ، لابتنائها ـ كما عرفت ـ على وجود
الاسم. إلا انه يمكن أن يقال : انه مع تقدير انتفاء الأوصاف في المضاف واتفاقه مع
المطلق ، لا يظهر سلب الإطلاق ولا يتميز عن المطلق في مادة بالكلية ولو فرض انه
خالطه من المضاف المفروض أضعافا مضاعفة ، فلو بني الكلام على ملاحظة الإطلاق وعدم
تميز المضاف عن الماء المطلق لأشكل الأمر في ذلك ، فلا بد من تقدير الأوصاف حينئذ.
ويمكن الجواب ببناء الأمر على استهلاك أحدهما في جنب الآخر ، ويدعى حينئذ ان حصول
الاسم لأحدهما تابع لاكثريته وغلبته على الآخر بحيث يستهلكه.
والى القول
باعتبار تقدير المخالفة ـ كما ذكره العلامة ـ ذهب الشهيد في الدروس
والشيخ علي في بعض فوائده. ووجهه بان الحكم لما كان دائرا مع بقاء اسم
الماء مطلقا ـ وهو إنما يعلم بالأوصاف ـ وجب تقدير بقائها قطعا ، كما يقدر الحر
عبدا في الحكومة. والتقريب بهذا التقدير أجود مما ذكره العلامة إلا ان فيه ـ كما ذكرنا ـ ان الاستعلام ممكن بدون
اعتبار تقدير الأوصاف. كما إذا علم مقدار الماءين في الجملة قبل المزج ، ولا يحتاج
الى التقدير.
ثم اعلم ان
العلامة (رحمهالله) ذكر اعتبار تقدير الوصف في كثير من كتبه ، ولم يتعرض
فيها لبيان الوصف المقدر. وقد حكى عنه المحقق الشيخ علي انه قال في بعض كتبه : «يجب
التقدير على وجه تكون المخالفة وسطا ، ولا تقدر الأوصاف التي كانت قبل ذلك»
واستوجهه الشيخ علي ايضا ، وقربه بأنه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي وغيرها على حد
سواء ، فيجب رعاية الوسط ، لأنه الأغلب والمتبادر عند الإطلاق قال : «وإنما قلنا
ان الزائد هنا لا ينظر اليه بعد الزوال لانه لو كان المضاف في غاية المخالفة في
أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك القدر الناقص ، فكذا لو زالت أصلا ورأسا»
انتهى. واعترض عليه بان النظر الى كلامه الأخير يقتضي كون المقدر هو أقل ما يتحقق
معه الوصف لا الوسط. وتحقيقه ان نقصان المخالفة ـ كما فرضه ـ لو انتهى الى حد لم
يبق معه إلا أقل ما يصدق به المسمى ، لم يؤثر ذلك النقصان ، ولا اعتبر مع الوصف
الباقي أمر آخر ، فكذا مع زوال الوصف من أصله ، واعتبار الأغلبية والتبادر هنا مما
لا وجه له كما لا يخفى ، فظهر ان المتجه على القول بتقدير الوصف هو اعتبار الأقل.
__________________
فرع
لو كان مع
المكلف ما لا يكفيه للطهارة من المطلق وأمكن إتمامه بمضاف على وجه لا يسلبه
الإطلاق. فنقل عن الشيخ انه قال : «ينبغي أن يجوز استعماله وليس واجبا ، بل يكون
فرضه التيمم ، لانه ليس معه من الماء ما يكفيه لطهارته».
واستضعفه العلامة
في المختلف باستلزامه التنافي بين الحكمين ، فان جواز الاستعمال يستلزم وجوب المزج
، لان الاستعمال إنما يجوز بالمطلق ، فان كان هذا الاسم صادقا عليه بعد المزج وجب
المزج ، لأن الطهارة بالمطلق واجبة ولا تتم إلا بالمزج ، وما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب. وان كذب الإطلاق عليه لم يجز استعماله في الطهارة ويكون خلاف الفرض ،
فظهر التنافي بين الحكمين ثم قال : «والحق عندي وجوب المزج ان بقي الإطلاق ،
والمنع من استعماله ان لم يبق» انتهى. وأجاب ابنه فخر المحققين في الشرح بأن
الطهارة واجب مشروط بوجود الماء والتمكن منه ، فلا يجب إيجاده ، لأن شرط الواجب
المشروط غير واجب ، اما مع وجوده فيتعين استعماله.
وأورد عليه
المحقق الشيخ علي في شرح القواعد انه ان أراد بإيجاد الماء ما لا يدخل تحت قدرة
المكلف فاشتراط الأمر بالطهارة حق ولا يضرنا ، وان أراد به الأعم فليس بجيد ، إذ
لا دليل يدل على ذلك ، والإيجاد المتنازع فيه معلوم كونه
__________________
مقدورا للمكلف ، والأمر بالطهارة خال من الاشتراط. فلا يجوز تقييده إلا
بدليل ثم قال : «والأصح مختار المصنف».
أقول : أنت
خبير بأنه لا خلاف في ان الطهارة المائية مشروطة بوجدان الماء كما يدل عليه قوله
سبحانه : «... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ...» وحينئذ فلا معنى لقوله : «ان الأمر بالطهارة خال من
الاشتراط».
وبعض فضلاء
متأخري المتأخرين دفع كلام فخر المحققين بان وجدان الماء صادق عرفا على
ما نحن فيه قبل المزج ، فشرط الطهارة المائية وهو وجدان الماء موجود ، قال : «وهو
ليس بأبعد من الوجدان فيما إذا أمكن حفر بئر مثلا ، والظاهر انه لا نزاع في انه
إذا أمكن حفر بئر ـ مثلا ـ لتحصيل الماء وجب ، فلم لم يحكم بالوجوب هنا ،
__________________
والتفرقة خلاف ما يحكم به الوجدان» والى هذا يشير كلام السيد السند في
المدارك ايضا وفيه ان الظاهر الفرق بين الوصول الى الماء الموجود بحفر ونحوه
وتحصيله بعد وجوده في حد ذاته وبين إيجاده ، لأنك تعلم ان هذا الماء المطلق
الموجود قبل المزج في حكم العدم ، لوجوب التيمم معه لو لم يكن المضاف موجودا
إجماعا ، فالمزج حينئذ نوع إيجاد لما تجب به الطهارة المائية. وبذلك يظهر لك رجحان
كلام الشيخ (رضوان الله عليه) وان بناء كلامه إنما هو على عدم صدق وجدان الماء في
الصورة المفروضة.
(المسألة
الخامسة) ـ اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) في طريق تطهير المضاف بعد
نجاسته على أقوال :
(أحدها) ـ ما
ذهب اليه الشيخ في المبسوط حيث قال : «لا يطهر إلا بان يختلط بما زاد على الكر من
المطلق. ثم ينظر. فان سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز استعماله بحال ، وان لم يسلبه
إطلاق اسم الماء وغير أحد أوصافه : إما لونه أو طعمه أو ريحه ، لم يجز استعماله
ايضا بحال» وربما كان الظاهر من المعتبر ايضا اختيار هذا القول ، حيث نقل هذا
الكلام ولم يتعرض لرده. والى هذا ذهب العلامة في التحرير الا انه لم يعتبر الزيادة
على الكر. وبعضهم عده لذلك قولا رابعا في المسألة ، إلا ان الظاهر ـ كما ذكره
البعض ـ ان ذكر الزيادة في كلام الشيخ إنما خرج مخرج التساهل في التعبير.
واعترض على هذا
القول بان الدليل إنما دل على نجاسة الكثير من المطلق بتغير أحد أوصافه الثلاثة
إذا كان التغير بالنجاسة لا بالمتنجس ، والتغير هنا إنما هو بالمتنجس. وبينهما فرق
واضح.
وأجيب بأن
المضاف صار بعد تنجيسه في حكم النجاسة ، فكما ينجس الملاقي له ينجس المتغير به.
وفيه انه ان
أريد بصيرورته في حكم النجاسة يعني في جميع الأحكام فهو ممنوع ، وان أريد في بعضها
فهو غير مجد في المقام.
قيل : ويمكن أن
يحتج عليه باستصحاب النجاسة حتى يثبت المزيل.
وأجيب بأن
التمسك بالاستصحاب هنا مشكل ، إذ ثبوت أصل النجاسة للمضاف إنما ثبت بالإجماع ، وهو
مفقود في هذه الصورة ، فيصير بمنزلة المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة.
وفيه نظر ، فان
بعض الأخبار التي قدمناها في المسألة الأولى ظاهر بل صريح في النجاسة ، والدليل
غير منحصر في الإجماع كما توهموه. ولا ريب ان الأخبار الدالة على المنع من استعمال
المتنجس عامة لجميع الأحوال الى ان يظهر الرافع.
والحق في
الجواب ان من شروط العمل بالاستصحاب عدم معارضة استصحاب آخر له ، ولا ريب ان
استصحاب الطهارة في الماء المطلق هنا معارض ، ولا ترجيح لأحد الاستصحابين على
الآخر فتساقطا ، ويرجع الى أصالة الطهارة العامة في جميع الأشياء وأصالة الحل. بل
التحقيق في المقام ان يقال : انه لما كانت الأخبار دالة على ان الكر لا ينفعل
بمجرد الملاقاة وانما ينفعل بتغير أوصافه بالنجاسة ، وقد اتفق الأصحاب على انه
مطهر لما مازجه واستهلك فيه من النجاسة أو المتنجس ماء كان أو غيره ، وجب القول
بطهارة ما نحن فيه ، لاندراجه تحت عموم تلك الأخبار ، واتفاق الأصحاب ، وتحقق
الرافع لاستصحاب النجاسة وخلاف من خالف في هذه المادة لا يثمر نقضا.
(أما أولا) ـ فلعدم
الدليل بل الدليل على خلافه واضح السبيل.
و (اما ثانيا)
ـ فلكون المخالف نفسه هنا أحد القائلين هناك ، فلا تقدح مخالفته هنا في الإجماع
المدعى. وبالجملة فالظاهر ان الطهارة في الصورة المذكورة مما لا يحوم حولها الشك.
__________________
(الثاني) ـ ما
ذهب إليه العلامة في المنتهى والقواعد من الاكتفاء بممازجة الكر له من غير اشتراط للزيادة
عليه ، ولا لعدم تغير أحد أوصافه بالمضاف ، بل ولا لعدم سلبه الإطلاق وان خرج
المطلق بذلك عن كونه مطهرا ، فاما الطهارة فتثبت للجميع .
وعلل بان بلوغ
الكرية سبب لعدم الانفعال إلا مع التغير بالنجاسة ، فلا يؤثر المضاف في تنجيسه
باستهلاكه إياه ، لقيام السبب المانع. وليس ثمة عين نجسة يشار إليها تقتضي
التنجيس.
وأجيب بأن بلوغ
الكرية وصف للماء المطلق ، وإنما يكون سببا لعدم الانفعال مع وجود موصوفه ، ومع
استهلاك المضاف للمطلق وقهره إياه يخرج عن الاسم ، فيزول الوصف الذي هو السبب لعدم
الانفعال ، فينفعل حينئذ ولو بالمتنجس كسائر أقسام المضاف.
قيل : ولا يخفى
ان هذا الجواب إنما يتم لو تمسك باستصحاب نجاسة المضاف ، وقد عرفت عدم تماميته ،
إذ الإجماع فيما نحن فيه مفقود. وفيه نظر قد تقدم بيانه.
(الثالث) ـ ما
ذهب إليه العلامة أيضا في النهاية والتذكرة واقتفاه جملة من المتأخرين ، وهو
الاكتفاء بممازجة الكر له من غير زيادة ، لكن بشرط بقاء الإطلاق بعد الامتزاج ،
ولا أثر لتغير أحد الأوصاف. والوجه فيه ، اما بالنسبة
__________________
الى الاكتفاء بالكر فلأن الغرض من الكثرة عدم قبول المطلق النجاسة ، وبلوغ
الكرية كاف فيه ، فلا وجه لاعتبار الزائد ، واما بالنسبة إلى اشتراط بقاء الإطلاق
فلان المضاف يتوقف طهره على شيوعه في المطلق بحيث يستهلك فيه. وهذا لا يتم بدون
بقاء المطلق على إطلاقه ، وإذا لم تحصل الطهارة للمضاف وصار المطلق بخروجه عن
الاسم قابلا للانفعال فلا جرم ينجس الجميع ، وبالنسبة الى عدم تأثير تغير أحد
الأوصاف به ان الأصل في الماء الطهارة ، والدليل انما دل على نجاسته مع التغير
بالنجاسة ولم يحصل كما عرفت.
واعلم ان
المحقق الشيخ علي (قدسسره) في شرح القواعد صرح بالنسبة إلى القول الثاني بأن موضع
النزاع ما إذا أخذ المضاف النجس وألقي في المطلق الكثير فسلبه الإطلاق ، فلو انعكس
الفرض وجب الحكم بعدم الطهارة جزما ، لان موضع المضاف النجس نجس لا محالة ، فيبقى
على نجاسته ، لان المضاف لا يطهره والمطلق لم يصل اليه ، فينجس المضاف به على
تقدير طهارته. انتهى. وبذلك صرح جمع ممن تأخر عنه.
الفصل السادس
في الأسآر.
والبحث فيها يقع في مواضع :
(الأول) ـ السؤر
لغة : البقية والفضلة كما في القاموس ، أو البقية بعد الشرب كما نقله في المعالم
عن الجوهري ، وقيل عليه ان ما نسبه الى الجوهري لم نجده في الصحاح ، ولعله أراد
أنه بهذه العبارة ليس فيه ، وإلا فقد ذكر فيه ان سؤر الفأرة وغيرها ما يبقى بعد
شربها. ونقل في كتاب مجمع البحرين عن المغرب وغيره ان السؤر هو بقية الماء التي
يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض ثم أستعير لبقية
الطعام. ونقل فيه ايضا عن الأزهري ان السؤر هو ما يبقى بعد الشراب. وقال
الفيومي في كتاب المصباح المنير : «والسؤر بالهمزة من الفأرة وغيرها كالريق من
الإنسان» وهو ـ كما ترى ـ مخالف لما تقدم. ومنه يظهر ان كلام أهل اللغة غير متفق
في المقام .
وفي اصطلاح
أصحابنا ـ على ما ذكره الشهيد (رحمهالله) وجملة ممن تأخر عنه ـ انه ماء قليل باشره جسم حيوان ،
واستظهر في المدارك تعريفه في هذا المقام بأنه ماء قليل باشره فم حيوان. ثم اعترض
على التعريف الأول ، قال : «أما أولا ـ فلأنه مخالف لما نص عليه أهل اللغة ودل
عليه العرف العام بل والخاص ، كما يظهر من تتبع الأخبار وكلام الأصحاب ، وان ذكر
بعضهم في باب السؤر غيره استطرادا. وكون الغرض هنا بيان الطهارة والنجاسة لا يقتضي
هذا التعميم ، لأن حكم ما عدا السؤر يستفاد من مباحث النجاسات. و (اما ثانيا) ـ فلان
الوجه الذي لأجله جعل السؤر قسيما للمطلق ـ مع كونه قسما منه بحسب الحقيقة ـ وقوع
الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر العين وكراهة بعض آخر. وليس في كلام القائلين بذلك
دلالة على اعتبار مطلق المباشرة ، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أن مرادهم بالسؤر
المعنى الذي ذكرناه خاصة» انتهى. وأنت خبير بما فيه من المناقشات التي ليس في
التعرض لها كثير فائدة .
__________________
والتحقيق ان
يقال : انه لما كان الغرض من التعريف ـ حيث كان ـ هو بيان حكم كلي وقاعدة تبتني
عليها الأحكام الشرعية ، فلا بد من ابتنائه على الدليل الشرعي ولا تعلق له بالخلاف
والوفاق ، وحينئذ فإن أريد بالتعريف هنا بالنظر الى ما أطلق فيه لفظ السؤر من
الأخبار ، ففيه انه لا دلالة في الأخبار على الانحصار في خصوصية الشرب بالفم ، إذ
غاية ما فيها ـ كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ـ السؤال عن سؤر ذلك الحيوان هل
يتوضأ منه ويشرب أم لا؟ بل فيها ما يدل على إطلاق السؤر على الفضلة من الجوامد ،
كاخبار الهرة التي منها قول علي (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «ان الهر سبع ولا بأس بسؤره ، واني لأستحيي من الله
ان ادع طعاما لان الهر أكل منه». وان أريد بالنظر الى ما دل عليه بعض الاخبار من
المغايرة بين السؤر وذي السؤر في الحكم أو الاتفاق ، فالمفهوم منها ايضا ما هو أعم
من المباشرة بالفم أو غيره ، كما في صحيحة عيص بن القاسم حيث قال (عليهالسلام) : «وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل
ان تدخلها الإناء». وبالجملة فالأظهر في التعريف ـ بالنظر الى ظواهر الاخبار ـ تعميم
الحكم في المباشرة بالفم وغيره ماء كان أو غيره. نعم متى أريد السؤر من الماء خاصة
اختص بالتعميم الأول.
على ان الحق ان
يقال : ان أفراد السؤر بالبحث على حدة ـ وجعله قسيما للمطلق مع كونه قسما منه ـ مما
لم يقم عليه دليل ، وان جرت الأصحاب (رضوان الله عليهم) على ذلك جيلا بعد جيل ،
فإن الذي يظهر من الأخبار ان الأمر لا يبلغ الى هذا المقدار الموجب لاستقلاله
وامتيازه عن المطلق على حياله ، وتوضيحه ان
__________________
ما حكموا فيه من الأسآر بالطهارة والنجاسة ليس لخصوصية كونه سؤرا ، وإنما
هو من حيث التبعية لذي السؤر في الطهارة والنجاسة ، وهذا حكم عام ، ومحله مبحث
النجاسات والمطهرات. وما اختلفوا فيه منها طهارة ونجاسة فإنما نشأ من اختلافهم في
حيوانه بذلك ايضا ، ومحل هذا ايضا هناك. واما خلاف من خالف ـ فحكم بنجاسة أسآر بعض
الحيوانات مع حكمه بطهارة ذلك الحيوان ـ فلا دليل عليه كما سيظهر لديك ان شاء الله
تعالى. وما حكموا فيه بالكراهة من تلك الأسآر فهو ايضا خال من الدليل ، كما سنتلوه
عليك ان شاء الله تعالى ، عدا موضع واحد وهو سؤر الحائض المتهمة ، فإن الأخبار قد
دلت على النهي عنه ، إلا ان غاية ما تدل عليه هو النهي بالنسبة إلى الوضوء خاصة
دون الشرب وغيره ، والظاهر ان الوجه فيه هو اختصاص ماء الطهارة بالمزية زيادة على
غيره من سائر المياه المستعملة كما ورد من كراهة الوضوء بالماء الآجن والمشمس
ونحوهما ، وهذا بمجرده لا يوجب افراد بعض اجزاء الماء المطلق بعنوان على حدة وجعله
قسيما له ، وإلا لكان الفردان المذكوران كذلك ولان اختصاص الكراهة بالوضوء دون
غيره يخرج ذلك عن كونه حكما كليا في السؤر كما يدعونه.
(الموضع الثاني)
ـ ان ذا السؤر اما ان يكون آدميا أو غيره ، والأول اما مسلم ومن بحكمه أو كافر ومن
بحكمه ، والثاني اما مأكول اللحم أو غيره ، وغير مأكول اللحم اما طاهر العين أولا
، فالأقسام خمسة. والسؤر عندهم اما طاهر أو نجس أو مكروه. ولا يخفى ان أكثر مباحث
هذا الفصل ـ وما يتعلق بها من التحقيق وبسط الأدلة التي بها تليق ـ قد وكلناها الى
مبحث النجاسات ، فإنها بذلك انسب كما أشرنا إليه آنفا ، ولنشر هنا إجمالا الى ما
يخص هذا المقام جريا على وتيرة من تقدمنا من علمائنا الأعلام جزاهم الله تعالى عنا
أفضل جزاء في دار الإكرام.
فنقول : حيث
كانت الأقسام التي أشرنا إليها خمسة فالبحث يقع ههنا في موارد خمسة :
(الأول) ـ سؤر
الآدمي المسلم ، والمراد به ما هو أعم من منتحل الإسلام كما أطلق عليه في كلام
أصحابنا (رضوان الله عليهم) وحينئذ فينقسم السؤر بالنسبة الى ذلك الى الأقسام
الثلاثة المتقدمة ، فالقسم الأول والثاني الطاهر والنجس.
وتحقيق القول
فيهما هنا ان نقول : ان بعض أفراد ذي السؤر هنا مما اتفق على طهارته وبعض مما اتفق
على نجاسته وبعض مما اختلف فيه.
(فالأول) ـ المؤمن
عدا من يأتي ذكره في القسم الثالث ، ولا خلاف ولا إشكال في طهارته وطهارة سؤره بل
أفضليته ، لما روي من استحباب الشرب من سؤره والوضوء من فضل وضوئه.
و (الثاني) ـ الخوارج
والنواصب والغلاة ، ولا خلاف بين أصحابنا في نجاستهم ونجاسة سؤرهم.
و (الثالث) ـ منه
ـ المجسمة والمجبرة ، وقد نقل عن الشيخ في المبسوط القول بنجاستهم ، وتبعه ـ في
المجسمة ـ العلامة في المنتهى ، والمشهور الطهارة. والكلام في السؤر تابع للقولين.
الا ان جملة من القائلين بالطهارة ذهبوا هنا إلى الكراهة ـ كما سيأتي ذكره ـ تفصيا
من خلاف الشيخ (رحمهالله).
ومنه ـ ولد
الزنا ، فالمنقول عن المرتضى القول بنجاسته ، لانه كافر ، ويعزى القول بكفره الى
ابن إدريس أيضا. وربما ظهر ذلك ايضا من كلام الصدوق (رحمهالله) في الفقيه ، حيث قال : «ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا
والمشرك وكل من خالف الإسلام» وما قيل ـ من ان عدم جواز الوضوء به
__________________
أعم من النجاسة ، فكلامه ليس بصريح في النجاسة ـ مردود بان ذكره مع المشرك
ونحوه قرينة واضحة على إرادة النجاسة ، والمشهور الطهارة. والكلام في السؤر تابع
للقولين.
ومنه ـ المخالف
، فقد نقل عن ابن إدريس القول بنجاسته عدا المستضعف ، وعن المرتضى القول بنجاسة
غير المؤمن ، وأكثر متأخري الأصحاب على الطهارة. وحكم السؤر تابع لذلك.
(القسم الثالث)
ـ المكروه ، ومنه ـ سؤر الحائض على الإطلاق عند جملة من أصحابنا ، ومقيدا بالمتهمة
عند آخرين.
احتج الأولون
بجملة من الاخبار ، كرواية عنبسة بن مصعب عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سؤر الحائض يشرب منه ولا يتوضأ». ومثلها رواية
الحسين بن ابي العلاء ورواية أبي بصير .
ويدل على
الثاني موثقة علي بن يقطين عن ابي الحسن (عليهالسلام) «في الرجل يتوضأ بفضل الحائض؟ قال : إذا كانت مأمونة فلا بأس».
وموثقة عيص بن
القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن سؤر الحائض قال : توضأ منه ، وتوضأ من سؤر الجنب
إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل ان تدخلها الإناء». هكذا رواها في التهذيب واما في الكافي
فرواها في الصحيح ، وفيها في حكاية جوابه (عليهالسلام) قال : «لا توضأ منه وتوضأ من سؤر الجنب. الحديث». وحينئذ
فيكون منتظما في سلك الأخبار المتقدمة ، وقضية حمل المطلق على المقيد ـ كما هي
القاعدة المعمول عليها بينهم ـ تقتضي رجحان القول الثاني.
__________________
إلا انه لا يخفى ان الأخبار كلها إنما اتفقت في النهي عن الوضوء خاصة ،
واما الشرب ففي بعضها تصريح بجوازه وفي بعضها قد طوي ذكره ، ولعل الوجه في ذلك ما
أشرنا إليه آنفا من اختصاص ماء الوضوء بالمزية كما في غير هذا الموضع ،
لا من حيث كونه سؤرا ، وإلا لعم.
بقي هنا شيء
وهو ان أكثر الأصحاب خصوا الكراهة بسؤر المتهمة ، وهي التي لا تتحفظ من النجاسة ،
والروايات المقيدة إنما دلت على جواز الوضوء من سؤر المأمونة ، وهي المتحفظة من
الدم ، ولا ريب ان غير المأمونة أعم من أن تكون متهمة أو مجهولة ، والظاهر انه
لذلك عدل المحقق في الشرائع عن العبارة المشهورة فعبر بغير المأمونة ، وبه صرح
السيد السند في شرحه ، حيث قال مشيرا إلى عبارة المصنف : ان ذلك اولى من إناطتها
بالتهمة كما ذكره غيره. قال : «لأن النهي إنما يقتضي انتفاء المرجوحية إذا كانت
مأمونة ، وهو أخص من كونها غير متهمة ، لتحقق الثاني في ضمن من لا يعلم حالها دون
الأول. وما ذكره بعض المحققين ـ من ان المأمونة هي غير المتهمة ، إذ لا واسطة بين
المأمونة ومن لا امانة لها ، والتي لا امانة لها هي المتهمة ـ غير جيد ، فان
المتبادر من المأمونة من ظن تحفظها من النجاسة ونقيضها من لم يظن بها ذلك ، وهو
أعم من المتهمة والمجهولة» انتهى. ويمكن ان يقال : انه وان كان نقيض المأمونة ما
ذكره من الأعم من المتهمة والمجهولة ، لكن المراد هنا هو المتهمة خاصة ، لأن تعلق
الحكم الذي هو الكراهة بانتفاء المأمونية يقتضي حصول العلم أو الظن بمتعلقه الذي
هو عدم المأمونية ، وهو لا يحصل مع الجهل بحالها ، لاحتمال كونها مأمونة واقعا.
__________________
فرع
ألحق الشهيد في
البيان بالحائض المتهمة ـ بناء على ما اختاره من التقييد بالمتهمة ـ كل متهم ،
واستحسنه جملة ممن تأخر عنه ـ منهم : الشهيد الثاني في الروضة. ورده المحقق الشيخ
علي بأنه تصرف في النص. ونقل بعض فضلاء المتأخرين عبارة الشيخ علي بما صورته بأنه
تصرف في التصرف. وقال في توجيهها : «وكأنه أراد بذلك ان قصر الكراهة في سؤر الحائض
على المتهمة ـ للجمع بين الاخبار ـ تصرف أول ، ثم تعدية الحكم الى كل متهم إنما
حصل بهذا التصرف ، فهو تصرف ثان في التصرف الأول» وفيه ان مرمى هذه العبارة يؤذن
بعدم قوله بالتقييد واختياره له ، مع انه صرح في صدر هذا الكلام بأنه الأصح عنده ،
حيث قال ـ بعد قول المصنف : والحائض المتهمة ـ ما لفظه : «اي بعدم التحفظ من
النجاسة والمبالاة بها على الأصح ، جمعا بين روايتي النهي عن الوضوء بفضلها ونفي
البأس إذا كانت مأمونة» والظاهر ان ما نقله الفاضل المذكور ناشئ عن غلط في نسخته
وتصحيف النص بالتصرف ، والمعنى على ما نقلنا ظاهر لا سترة عليه.
ومن هذا القسم
ايضا ما اختلف فيه بالطهارة والنجاسة عند من اختار الطهارة خروجا من خلاف من قال
بالنجاسة وان كان من غير الآدمي كما سيأتي ، قال في المعالم بعد ذكر جملة من
الافراد المختلف في طهارتها ونجاستها ، ونقل القول بالكراهة في بعضها عن المحقق
خروجا من خلاف من قال بالنجاسة ، واعتراضه عليه بأنه لا وجه للتخصيص بالبعض ، لان
دليله آت في الكل ـ ما صورته : «وبالجملة فكراهة المذكورات لا ينبغي التوقف فيها
حيث يقال بالطهارة ، فإن رعاية الخروج من الخلاف كافية في مثله» انتهى. وفيه نظر ،
فإن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل ومجرد ذهاب البعض وخلافه في الحكم ليس
بدليل شرعي حتى تبنى عليه الأحكام
الشرعية ، فإن أجيب بان الوجه فيه الاحتياط ، قلنا : فيه (أولا) ـ ان
الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي. و (ثانيا) ـ انه مع جعله دليلا شرعيا ـ كما هو
الأظهر عندنا كما قدمنا تحقيقه في المقدمة الرابعة ـ فهو يدور مدار الاختلاف بين
الأدلة كما هو أحد موارده لا مدار الاختلاف بين العلماء وان كان لا عن دليل ،
وحينئذ فالحكم بالكراهة ـ فيما تعارضت فيه أدلة الطهارة والنجاسة مع رجحان الأول ـ
متجه.
ويلحق بالمسلم
ـ في الطهارة والنجاسة عند الأصحاب ـ من بحكمه من الطفل المتولد منه ، ومسبيه
والمجنون ، ولقيط دار الإسلام ، ومثله لقيط دار الكفر إذا أمكن تولده من مسلم على
قول.
(المورد الثاني)
ـ سؤر الكافر ومن بحكمه. ولا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في نجاسة من عدا
اليهود والنصارى من أصناف الكفار ، سواء كان كفرا أصليا أو ارتداديا ، ونجاسة
سؤرهم حينئذ تابع لهم. واما اليهود والنصارى فمحل خلاف بين الأصحاب والأخبار ، كما
سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في محله. والحكم في سؤرهم تابع للمترجح من
الطرفين. وظاهر القائلين بالطهارة الحكم بكراهة اسآرهم على ما نص عليه في المعالم
وغيره. ولا بأس به ، لا لما ذكروه من التفصي من خلاف من ذهب الى القول بالنجاسة ،
بل من حيث ان الأخبار متعارضة فيهم طهارة ونجاسة ، فمتى ترجح القول بالطهارة منها
فلا بأس بالاحتياط بالنجاسة بحمل ما دل على النجاسة على الاستحباب.
وبحكم الكافر
طفله عند الأصحاب ، معللين ذلك بنجاسة أصله ، واستشكله في المدارك بان الدليل ان
تم فإنما يدل على نجاسة الكافر المشرك واليهود والنصارى ، والولد قبل بلوغه لا
يصدق عليه شيء من ذلك. وهو جيد في الظاهر ، ويؤيده الخبر المشهور عنه (صلىاللهعليهوآله) «ان كل مولود يولد على الفطرة ، وإنما أبواه
يهودانه أو ينصرانه» . فان من الظاهر ان التهويد والتنصير إنما يثبت له مع
البلوغ أو بعده ، لما يحصل له من طول المعاشرة والممارسة معهما والانس بهما قبل
ذلك ، فيؤثر فيه ويورثه الميل الى مذهبهما واختياره. وتحقيق المسألة كما هو حقه
يأتي ان شاء الله تعالى في باب التطهير من النجاسات.
(المورد الثالث)
ـ سؤر غير الآدمي من الحيوان المأكول اللحم. ولا خلاف في طهارته لطهارة حيوانه ،
إلا ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) حكموا بالكراهة في جملة من افراده.
فمن ذلك ـ سؤر
الحيوانات الثلاثة : الخيل والبغال والحمير الأهلية ولم نقف له على مستند ، وربما علل بان فضلات الفم التي
لا تنفك عنها تابعة للجسم. وهو مجرد دعوى خالية من الدليل.
__________________
ويمكن
الاستدلال على ذلك بمفهوم رواية سماعة قال : «سألته هل يشرب سؤر شيء من الدواب ويتوضأ منه؟
فقال : أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس».
وثبوت البأس
بالمفهوم وان كان أعم من التحريم ، إلا ان جملة من الأخبار لما دل على جواز الشرب
والوضوء من سؤرها ، حمل البأس هنا على الكراهة.
ومما دل على
الجواز خصوص صحيحة أبي العباس قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل
والبغال والوحش والسباع ، فلم اترك شيئا إلا سألته عنه ، فقال : لا بأس به. حتى
انتهيت الى الكلب ، فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء.».
ورواية معاوية
بن شريح قال : «سأل عذافر أبا عبد الله (عليهالسلام) ـ وانا عنده ـ عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير
والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال : نعم اشرب منه وتوضأ.
قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس هو سبع؟ قال : لا والله انه نجس ، لا
والله انه نجس».
وصحيحة جميل بن
دراج قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن سؤر الدواب والغنم والبقر أيتوضأ منه ويشرب؟ فقال :
لا بأس».
وعموم صحيحة
عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بأن يتوضأ مما يشرب منه ما يؤكل لحمه» ومثلها
موثقة عمار وفيها «كل ما
__________________
أكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب».
والحق تقديم
العمل بهذه الأخبار ، لاستفاضتها وصراحتها صحة أكثرها ، وضعف ما عارضها سندا
ودلالة.
ومنها ـ سؤر
الدجاج. وقد أطلق العلامة وغيره كراهة سؤرها ، وعلل بعدم انفكاك منقارها عن
النجاسة غالبا ، وحكى في المعتبر عن الشيخ (رحمهالله) انه قال : «يكره سؤر الدجاج على كل حال» ثم قال بعده :
وهو حسن ان قصد المهملة ، لأنها لا تنفك عن الاغتذاء بالنجاسة. وبه جزم في المعالم
ايضا.
وأنت خبير بأن
الأخبار الواردة هنا عموما وخصوصا متفقة في نفي البأس عن ذلك وجواز الوضوء والشرب
منه.
فمن الأول ـ صحيحة
عبد الله بن سنان وموثقة عمار المتقدمتان.
ومن الثاني ـ رواية
أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «فضل الحمامة والدجاج لا بأس به والطير».
وموثقة عمار عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سئل عن ماء شربت منه الدجاجة. قال : ان كان في
منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب ، وان لم تعلم ان ان في منقارها قذرا توضأ منه
واشرب ، وقال : كل ما يؤكل لحمه فليتوضأ منه وليشربه».
ولا يخفى ان
الخروج عن مدلول هذه الروايات عموما وخصوصا ـ وحملها على مجرد نفي الحرمة بمجرد ما
ذكروا من التعليل ـ لا يخلو من مجازفة ، سيما ان الكراهة ـ كما عرفت آنفا ـ حكم
شرعي ، فيتوقف ثبوته على الدليل.
وما ربما يقال
ـ من ان الأمر بالاحتياط في الدين الوارد في جملة من الأخبار
__________________
يشمل مثل هذا ـ ففيه (أولا) ـ ما قدمنا من ان الاحتياط عندهم ليس بدليل
شرعي. و (ثانيا) ـ ان المستفاد من الأخبار الدالة على عدم السؤال والفحص عما يشترى
من أسواق المسلمين ويؤخذ من أيديهم ـ والنهي عن ذلك وان كان احتمال التحريم أو
النجاسة فيه قائما ، والبناء في ذلك على ظاهر الحل والطهارة ، عملا بسعة الحنيفية
السمحة السهلة ـ عدم الاحتياط هنا.
(المورد الرابع)
ـ سؤر غير الآدمي من الحيوان الغير المأكول اللحم عدا الكلب والخنزير. وقد اختلف
الأصحاب في ذلك ، فذهب الفاضلان وجمهور المتأخرين إلى طهارة سؤر كل حيوان طاهر ،
ونقل ايضا عن النهاية والخلاف ، إلا انه استثنى في النهاية سؤر آكل الجيف من الطير
، ونقل عن المرتضى وابن الجنيد استثناء الجلال ، ونقل عن ظاهر الشيخ (رحمهالله) في كتابي الأخبار المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه ، لكنه
في الاستبصار استثنى من ذلك سؤر الفأرة والبازي والصقر ونحوهما من الطيور. ونقل عن
المبسوط انه ذهب الى عدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الانسي عدا
ما لا يمكن التحرز منه كالفأرة والحية والهرة ، وجواز استعمال سؤر الطاهر من
الحيوان الوحشي طيرا كان أو غيره ، حكاه عنه المحقق في المعتبر. ونقل في المختلف
عن ابن إدريس انه حكم بنجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر من غير الطير مما
يمكن التحرز عنه. والأظهر من هذه الأقوال هو القول الأول ومحل الخلاف هنا في مواضع
أربعة :
(أحدها) ـ الجلال
، وقد عرفت ان المرتضى وابن الجنيد استثنياه من السؤر المباح ، وكذا نقل عن الشيخ
في المبسوط. ومقتضى كلامهم الحكم بنجاسة السؤر مع طهارة حيوانه. وقد اعترف جمع ممن
تقدمنا انهم لم يقفوا له على دليل.
وربما استدل
عليه بان رطوبة أفواهها ينشأ من غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.
ورد بمنع
الملازمة ، وبالنقض ببصاق شارب الخمر إذا لم يتغير به ، وبما لو أكل غير العذرة
مما هو نجس.
أقول : ومن
المحتمل قريبا ان حكم الشيخ (رحمهالله) بنجاسة اللعاب هنا لحكمه بنجاسة العرق. إلا ان فيه ان
مورد الدليل العرق خاصة ، والتعدية قياس.
ويدل على
المشهور أصالة الطهارة ، وعموم صحيحة الفضل المتقدمة وكذا رواية أبي بصير السالفة وموثقة عمار ، حيث قال فيها : «وسئل عن ماء شرب منه باز أو صقر أو
عقاب. فقال : كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا ان ترى في منقاره دما ، فإن
رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب».
وحكم جمهور
الأصحاب هنا بالكراهة أيضا خروجا من خلاف أولئك الجماعة.
وفيه ما عرفت
آنفا نعم يمكن الاستدلال على ذلك برواية الوشاء عمن ذكره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «انه كان يكره سؤر كل شيء لا يؤكل لحمه».
ومفهوم موثقة
عمار المتقدمة الدالة على ان كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب فان
الظاهر ان المقام هنا قرينة على التقييد بالوصف ، لكونه مناط الحكم. إلا انه لا
يخلو ايضا من خدش.
(ثانيها) ـ آكل
الجيف ، وقد عرفت ان الشيخ في النهاية استثناه من طهارة سؤر كل حيوان طاهر وحكم
بنجاسته ، والمشهور الطهارة كما تقدم. ولم نقف للشيخ على دليل ، وبذلك اعترف جمع
من الأصحاب أيضا ، وظواهر الأخبار المتقدمة وغيرها ظاهر في العدم.
__________________
وقد صرح
الأصحاب هنا بالكراهة أيضا لعين ما تقدم. وفيه ما عرفت غير مرة.
وصار المحدث
الأمين الأسترآبادي (قدسسره) إلى الكراهة هنا تمسكا بما قدمنا ذكره في الجلال من
التمسك برواية الوشاء وموثقة عمار.
وفيه (أولا) ـ انه
لا يقوم دليلا على العموم ، لعدم جريانه فيما يؤكل لحمه.
و (ثانيا) ـ ان
الحكم معلق على عدم كونه مأكول اللحم ، ولا مدخل فيه لأكل الجيف ، وهو ظاهر.
(ثالثها) ـ ما
لا يؤكل لحمه عدا ما استثني ، وقد تقدم الإشارة إلى الخلاف فيه. ونقل عن الشيخ في
الاستبصار الاستدلال عليه بقوله (عليهالسلام) في موثقة عمار المتقدمة : «كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب» . حيث قال (قدسسره) : «هذا يدل على ان ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضؤ به
والشرب منه ، لأنه إذا شرط في استباحة سورة ان يؤكل لحمه دل على ان ما عداه بخلافه
، وهذا يجري مجرى قول النبي (صلىاللهعليهوآله) في سائمة الغنم الزكاة. في انه يدل على ان المعلوفة
ليس فيها زكاة».
أقول : ويدل
على الاستثناء الذي ذكره (طاب ثراه) موثقة عمار بن موسى الأخيرة الدالة على حكم الطير ، ورواية إسحاق بن عمار عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) «ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء
__________________
أن يشرب منه ويتوضأ منه». وغيرهما مما تضمن نفي البأس عن تلك الأشياء التي
استثناها عموما أو خصوصا.
ورد هذا القول (أولا)
ـ بابتنائه على حجية مفهوم الوصف. والأصح عدم حجيته و (ثانيا) ـ باشتمال سند
الرواية على جملة من الفطحية.
و (ثالثا) ـ بالمعارضة
بما هو أكثر عددا وأصح سندا ، وقد تقدم من ذلك شطر فيما قدمنا من الأخبار.
ومن أظهر
الأدلة التمسك بأصالة الطهارة عموما وخصوصا ، فإنها أقوى دليل في الباب وان غفل عن
الاستدلال بذلك الأصحاب.
وقد حكم جمهور
الأصحاب هنا بالكراهة أيضا تفصيا من الخلاف. ولا بأس به ، لكن لا لما ذكروا ، بل
لما عرفت من دلالة رواية الوشاء المتقدمة .
(رابعها) ـ المسوخ.
وقد حكي عن ابن الجنيد انه استثنى المسوخ من الحكم بطهارة سؤر ما لا يؤكل لحمه ،
وذكر في المعالم ان كلامه محتمل لنجاستها ، أو نجاسة لعابها وحده ، كما نقل
التصريح به عن بعض الأصحاب. ونقل المحقق في المعتبر عن الشيخ القول بنجاستها ،
ونسب هذا القول في المختلف الى سلار وابن حمزة أيضا. وكلام سلار في رسالته كالصريح
في نجاسة اللعاب ومحتمل لنجاسة العين والمشهور بين الأصحاب الطهارة على كراهية.
والحكم بالكراهة عندهم جار على نحو ما تقدم. ومما يدل على الطهارة عموم الأخبار
المتقدمة كصحيحة الفضل ونحوها.
(المورد الخامس)
ـ سؤر نجس العين من الحيوان غير المأكول اللحم وغير الآدمي ، وهو الكلب والخنزير.
ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته لنجاسة أصله.
__________________
فذلكة
المشهور بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) طهارة فم الهرة بمجرد زوال عين النجاسة سواء غابت عن
العين أم لا ، صرح بذلك الشيخ والمحقق والعلامة وغيرهم ، وألحق جملة من المتأخرين
بها كل حيوان غير الآدمي ، واستحسنه السيد السند في المدارك. وقيل بالنجاسة ،
لأصالة البقاء عليها. وقيل بالطهارة بالغيبة ، ذهب إليه العلامة في النهاية ، قال
: «لو نجس فم الهرة بسبب كأكل الفأرة وشبهه ، ثم ولغت في ماء قليل ونحن نتيقن
نجاسة فمها ، فالأقوى النجاسة ، لأنه ماء قليل لاقى نجاسة ، والاحتراز يعسر عن
مطلق الولوغ لا عن الولوغ بعد تيقن نجاسة الفم ، ولو غابت عن العين واحتمل ولوغها
في ماء كثير أو جار ، لم ينجس ، لأن الإناء معلوم الطهارة فلا يحكم بنجاسته بالشك»
انتهى.
وتمسك الأولون
بالأخبار الواردة بنفي البأس عن سؤر الهرة ، وجواز الوضوء والشرب منه ، بناء على
ان الهرة لا ينفك فمها عن النجاسة غالبا.
ومن الأخبار في
ذلك
صحيحة زرارة عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «في كتاب علي : ان الهر سبع ولا بأس بسؤره ، واني
لأستحيي من الله ان ادع طعاما لان الهر أكل منه».
ورواية أبي
الصباح عنه (عليهالسلام) قال : «كان علي (عليهالسلام) يقول : لا تدع فضل السنور أن تتوضأ منه ، انما هي سبع».
وغيرهما.
قال في كتاب
المعالم بعد الاستدلال على ذلك بنحو ما ذكرنا : «ولو فرضنا
__________________
عدم دلالة الأخبار على العموم فلا ريب ان الحكم بتوقف الطهارة في مثلها على
التطهير المعهود شرعا منفي قطعا ، والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقف على
الدليل. ولا دليل» انتهى. وحاصله يرجع الى ما أشرنا إليه غير مرة وحققناه في
المقدمة الحادية عشرة من جواز التمسك بالبراءة الأصلية فيما تعم به البلوى من الأحكام بعد الفحص
عن الدليل وعدم الوقوف عليه. وهو هنا كذلك ، فان عدم وجود دليل على التكليف بإزالة
النجاسة في مثل ذلك مع عموم البلوى بذلك دليل على عدم التكليف بذلك وحصول البراءة
منه ، وليس بعد ذلك إلا الحكم بالطهارة بمجرد زوال عين النجاسة.
واما القول
بالتوقف على الغيبة فلا دليل عليه ، كما أشار إليه بقوله : «والواسطة بين ذلك. إلخ»
.
واستدل في
المدارك على إلحاق غير الهرة من الحيوانات بها بالأصل وعدم ثبوت التعبد بغسل
النجاسة عنه.
(أقول) :
والاحتجاج بالأصل هنا لا يخلو من ضعف ، فان عروض النجاسة أوجب الخروج عن حكمه ،
فلا يسوغ التمسك به. واما الثاني فجيد كما أشرنا إليه هذا بالنسبة الى غير الآدمي.
واما الآدمي
فهل يحكم بطهارته بمجرد غيبته زمانا يمكن فيه إزالة النجاسة أو مع تلبسه بما هو
مشروط بالطهارة عنده ، أو حتى يعلم إزالة النجاسة؟ أقوال ، ظاهر
__________________
المشهور الأخير ، وبالأول صرح جملة من المتأخرين ، لكنهم بين مطلق لذلك كما
تقدم ، وبين مقيد بشرط علمه بالنجاسة وأهليته للإزالة بكونه مكلفا عالما بوجوب
الإزالة عليه ، والى الثاني مال السيد السند في المدارك على تردد فيه بعد ان نقل
القول الأول واستشكله. والعجب منه (قدسسره) في ذلك ، فان دليله على طهارة الحيوان غير الآدمي جار
هنا بعينه ، فإنه لم يثبت ايضا التعبد بالعلم بزوال النجاسة عن ثوب الغير وبدنه.
واما ما اختاره (طاب ثراه) من اشتراط التلبس بمشروط بالطهارة عنده ، فيشكل الأمر
فيه ايضا بجواز نسيانه ، ولعل ذلك هو وجه التردد الذي ذكره.
ولعل أرجح هذه
الأقوال هو الأول ، تمسكا بأصالة البراءة التي أشرنا إليها ، فإن الحكم مما تعم به
البلوى ، ولو لم يكن مجرد الغيبة كافيا في الطهارة ، لورد فيه أثر عنهم (عليهمالسلام) ولبلغنا ذلك ، ولامتنع الاقتداء بإمام الجماعة حتى
يسأله ، لأن عروض النجاسة له بالبول والغائط أمر متيقن ، وعروض النسيان له ممكن. وبطلانه
أظهر من ان يحتاج الى البيان ، ولا شكل الحال في الحكم بطهارة سائر الناس ممن لم
تعلم عدالته مع معلومية الحدث منهم كما ذكرنا ، فلا يحكم بطهارتهم وان أخبروا بذلك
، مع ان المعلوم من الشرع خلافه ، لدلالة الاخبار واتفاق الأصحاب على قبول قول
المسلم في ذلك.
ختام مستطاب يشتمل على مقامين تتمة للباب
المقام الأول
في الماء المستعمل
والمراد منه
هنا ما يكون مستعملا في إزالة حدث أو خبث أو مطلقا ، والأول اما في حدث أصغر أو
أكبر ، والثاني اما في الاستنجاء أو غيره من الأخباث ، والثالث غسالة ماء الحمام ،
فالكلام هنا يقع في مسائل خمس :
(المسألة
الاولى) ـ في مستعمل الحدث الأصغر. ولا خلاف بين أصحابنا (قدس الله أرواحهم ونور
أشباحهم) في طهارته وطهوريته ، حكاه غير واحد منهم.
ويدل ايضا على
الأول أصالة الطهارة عموما وخصوصا.
وعلى الثاني
عموم الأخبار الدالة على استعمال الماء المطلق في رفع الحدث.
وهذا ماء مطلق.
وخصوص رواية
عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل. وقال : الماء
الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز ان يتوضأ به وأشباهه.
واما الماء الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به وجهه ويده في شيء نظيف ، فلا بأس ان
يأخذه غيره ويتوضأ به».
ورواية زرارة
عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «كان النبي (صلىاللهعليهوآله) إذا توضأ أخذ ما يسقط من وضوئه فيتوضؤون به».
ونقل عن أبي
حنيفة الحكم بنجاسته نجاسة مغلظة ، حتى انه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم منع أداء
الصلاة ولعله حق في حقه. نعم نقل شيخنا الشهيد
__________________
في الدروس عن الشيخ المفيد انه استحب التنزه عنه ، وظاهر كلامه في المقنعة
ربما أشعر أيضا باستحباب التنزه عن ماء الأغسال المستحبة بل والغسل المستحب كغسل
اليد للأكل. ولم نقف له على دليل من الاخبار بل ولا من الاعتبار ، بل ربما دلت
رواية زرارة المتقدمة على خلافه. الا انه يحتمل قريبا الاختصاص به (صلىاللهعليهوآله) للتبرك والشرف.
والمفهوم من
كلام شيخنا البهائي (طاب ثراه) في كتاب الحبل المتين الاستدلال له بما رواه في
الكافي عن محمد بن علي بن جعفر عن الرضا (عليهالسلام) قال : «من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فاصابه
الجذام فلا يلومن إلا نفسه». حيث قال (قدسسره) بعد إيراد الخبر المذكور : «وإطلاق الغسل في هذا يشمل
الغسل الواجب والمندوب. وفي كلام المفيد (طاب ثراه) في المقنعة تصريح بأفضلية
اجتناب الغسل والوضوء بما استعمل في طهارة مندوبة ، ولعل مستنده هذا الحديث ،
وأكثرهم لم يتنبهوا له» انتهى. وفيه انه وان سلم ذلك ظاهرا بالنسبة الى ما نقله من
الخبر إلا ان عجز الرواية المذكورة يدل على ان مورد الخبر المشار اليه إنما هو ماء
الحمام ، حيث قال في تتمة الرواية : «فقلت : ان أهل المدينة يقولون : ان فيه شفاء
من العين. فقال : كذبوا ، يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو
شرهما
__________________
وكل من خلق الله ثم يكون فيه شفاء من العين» وهذا هو أحد العيوب المترتبة
على تقطيع الحديث وفصل بعضه عن بعض ، فإنه بذلك ربما تخفى القرائن المفيدة للحكم
كما هنا ، وسيأتي لك كثير من نظائره ان شاء الله تعالى. وحينئذ فظاهر الخبر كراهة
الاغتسال من ذلك الماء من حيث كونه ماء الحمام الذي يغتسل منه هؤلاء المعدودون ،
وهو لا يقتضي كراهة مستعمل الأغسال مطلقا. وكيف كان فهو مقصور على الغسل ولا دلالة
له على كراهة مستعمل الوضوء ، والمدعى أعم من ذلك كما عرفت.
(المسألة
الثانية) ـ في مستعمل الحدث الأكبر. والظاهر انه لا خلاف بينهم (رضوان الله عليهم)
في طهارة المستعمل في الأغسال المسنونة وطهوريته ، كما سيأتي بيانه ان شاء الله
تعالى. وقد تقدم النقل عن الشيخ المفيد (رضياللهعنه) بالكراهة.
واما مستعمل
الأغسال الواجبة فلا خلاف في طهارته ايضا ، ويدل عليه أصالة الطهارة عموما وخصوصا
، وان التنجيس حكم شرعي ، وهو موقوف على الدليل ، وليس فليس. وتدل على ذلك أخبار
مستفيضة :
(منها) ـ صحيحة
الفضيل بن يسار قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء. فقال : لا
بأس ، هذا مما قال الله : ما جعل عليكم في الدين من حرج ».
ولا خلاف أيضا
في تطهيره من الخبث كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. وانما الخلاف في التطهير
به من الحدث ثانيا ، فالمشهور بين المتأخرين هو الجواز ونقل عن الشيخين والصدوقين
المنع ، وأسنده في الخلاف الى أكثر أصحابنا ، وهو
__________________
مؤذن بشهرته في الصدر الأول ، ويظهر من المحقق في كتبه الثلاثة التوقف في
ذلك ، حيث نسب المنع في المعتبر إلى الأولوية ، وجعل وجهه التفصي من الخلاف والأخذ
بالأحوط ، وفي الشرائع علله ايضا بالاحتياط. وفي المختصر اقتصر على نقل القولين
ناسبا المنع إلى الرواية.
والذي يدل على
المنع أخبار عديدة : منها ـ رواية عبد الله بن سنان السالفة
وصحيحة محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن ماء الحمام. فقال : ادخله بإزار ، ولا
تغتسل من ماء آخر إلا ان يكون فيه جنب ، أو يكثر أهله فلا تدري فيهم جنب أم لا».
ورواية حمزة بن
احمد عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته أو سأله غيري عن الحمام. قال : ادخله
بمئزر ، وغض بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام ، فإنه يسيل
فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
وصحيحة محمد بن
مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب. قال :
إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء».
هذا ما حضرني
من الأخبار التي تصلح ان تكون مستندا لهذا القول.
واحتج المانع
أيضا بأن الماء المستعمل في غسل الجنابة مشكوك فيه ، فلا يحصل باستعماله يقين
البراءة.
والذي يدل على
الجواز ما تقدم في المسألة الاولى من عموم الأدلة الدالة على استعمال
__________________
المطلق في رفع الحدث من الآيات والروايات ، وهذا ماء مطلق.
وخصوص صحيحة
علي بن جعفر عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ،
أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة؟ إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ
صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق ، الى ان قال (عليهالسلام) : فان كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله ، فلا
عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه ، فان ذلك يجزيه».
ويدل على ذلك
أيضا الأخبار المشار إليها آنفا في الاستدلال على أصل الطهارة ، فإنها قد اشتركت
في الدلالة على نفي البأس عما ينتضح من جسد الجنب في الإناء حال غسله.
وتفصيل القول
في هذه المسألة ان يقال : ان دلالة صحيحة علي بن جعفر على الجواز لا تخلو من اشكال
، لإمكان حملها على الضرورة كما يقتضيه سياق الخبر ، وعلى ذلك حملها الشيخ (رضياللهعنه) في كتابي الأخبار. وهو جيد ، لما قلنا. وربما يفهم منه
ان مذهبه حينئذ جواز الاستعمال في الضرورة ، إلا انه لم ينقل ذلك قولا عنه في
المسألة. والتحقيق ان مجرد جمعه بين الأخبار بالوجوه القريبة أو البعيدة لا يوجب
كون ذلك مذهبا له ، كما قدمنا الإشارة إليه في مقدمات الكتاب إذ ليس غرضه ثمة إلا مجرد رفع التنافي بينها ردا على من
زعمه ، حتى أوجب خروجه عن المذهب كما أشار إليه في التهذيب واما الأخبار الدالة على نفي البأس عما ينتضح
__________________
من بدن الجنب فسيأتي ما فيها. وحينئذ فلم يبق إلا الدليل الأول ، فلقائل أن
يقول : ان عموم تلك الأدلة مخصوص بالأخبار المذكورة كما هو القاعدة المطردة. إلا
ان ذلك فرع سلامة هذه الاخبار من الطعن ، وهي غير سالمة.
أما الخبر
الأول فضعيف السند باشتماله على احمد بن هلال الذي حاله في الضعف أشهر من ان
يذكر ، واحتمال الحمل على وجود النجاسة في بدن الجنب ، بل الظاهر رجحانه كما سيأتي
بيانه.
واما الثاني ففيه (أولا) ـ انه معارض بصحيحة محمد بن مسلم أيضا
الأخرى قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الحمام يغتسل فيه الجنب وغيره ، اغتسل من مائه؟ قال
: نعم لا بأس ان يغتسل منه الجنب».
ورواية ابن ابي
يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت : أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب
والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال : ان ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه
بعضا».
إلا انه يمكن
حمل هذين الخبرين على ما له مادة أو كان كثيرا ، ويخص الأول بما ليس كذلك كما نقل
عن الشيخ الجمع به بين صحيحتي محمد بن مسلم ، وحينئذ تبقى الصحيحة الأولى سالمة من
المعارض.
و (ثانيا) ـ تضمنه
للتعويل على الشك والاحتمال في المنع في مقابلة يقين
__________________
الطهارة الثابت بالأصل ، وهو خلاف القواعد الشرعية المتفق عليها فلا بد من الخروج عن ظاهره الى الحمل على الكراهة
ومرجوحية الاستعمال. إلا انه يمكن تطرق النظر الى هذا الوجه أيضا بأن يقال : ان
هذا مخصوص بصورة الشك بوجود الجنب ، والخروج فيه ـ عن الظاهر باعتبار ما ذكر من
المعارض ـ متجه. لكن يبقى الكلام في صورة العلم بوجود الجنب ، كما هو أحد الأمرين
المذكورين في الخبر ، والخروج عن الظاهر ثمة لمعارض لا يستلزم الخروج عنه فيما لا
معارض فيه ، غاية الأمر أنه يراد من الخبر الحقيقة والمجاز باعتبارين ، ولا نكير
فيه.
وما أجاب به في
المعالم عن ذلك ـ حيث قال : «ان هذا تكلف ، والتعلق بهذا التكلف إنما يتوجه لو
كانت الرواية ظاهرة في المدعى من غير هذا الوجه. والأمر على خلاف ذلك.
(اما أولا) ـ فلان
عدم الاغتسال من ماء الحمام مع مباشرة الجنب له إنما أفاده فيها استثناؤه من النهي
عن الاغتسال بماء آخر ، وهو أعم من الأمر به ، إذ يكفي في رفع النهي الإباحة.
و (اما ثانيا)
ـ فلان الاغتسال فيها مطلق بحيث يصلح لإرادة رفع الحدث وازالة الخبث ، وستعلم ان
المانعين من رفع الحدث به قائلون بجواز استعماله في إزالة الخبث ، فلا بد من
التأويل بالنظر اليه ، فتضعف الدلالة ، ويشكل الخروج عن ظواهر العمومات بمجرد ذلك»
انتهى ـ مخدوش بوجهيه.
__________________
(اما أولهما) ـ
فلما تقرر من أن الاستثناء يقتضي ثبوت الحكم للمستثنى إثباتا ونفيا على عكس ما ثبت
للمستثنى منه ، ولذا عرف نجم الأئمة في شرح الكافية المستثنى بأنه المذكور بعد (إلا)
وأخواتها مخالفا لما قبلها نفيا وإثباتا ، وحينئذ فإذا قيل : لا تضرب أحدا إلا
زيدا. فهم منه انه مريد لضرب زيد وآمر به لا انه أعم من الأمر بضربة وعدمه ، وكذا قوله
(عليهالسلام) : «اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة». مفيد للنهي عن قتل
أهل الذمة لا انه للأعم منه ومن عدمه ، ولو تم ما ذكره لا طرد في جميع صور
الاستثناء ، فلا يثبت للمستثنى بمجرد الاستثناء حكم على الخصوص ، بل لا بد معه من
التصريح ، فلو قال : لزيد علي عشرة إلا ثلاثة. لم يفد نفي الثلاثة عنه بطريق
اليقين ، بل لا بد في نفيها جزما من أمر زائد على الاستثناء وهو ظاهر البطلان.
وبذلك يظهر لك ان قوله (عليهالسلام) في الخبر المذكور : «ولا تغتسل من ماء آخر إلا ان يكون
فيه جنب.». دال على الأمر بالاغتسال من الماء الآخر مع وجود الجنب لا لمجرد إباحة
الآخر وعدم النهى عنه.
و (اما ثانيهما)
ـ فلان الاغتسال شرعا وعرفا مخصوص بغير ازالة الخبث ، إذ إنما يطلق عليها الغسل لا
الاغتسال .
__________________
والتحقيق ان
الأظهر في الجواب هو الحمل على وجود النجاسة في بدن الجنب ، حملا على الغالب
المتكرر من تأخيرها إلى وقت الغسل. وعلى ذلك ايضا يحمل الخبر الثالث والرابع والى ذلك أشار أيضا في المعالم ، حيث قال : «ولعل
الأخبار الواردة بالنهي عن استعمال ما يغتسل به الجنب ناظرة الى ما هو الغالب من
عدم انفكاكه من بقايا آثار المني» انتهى.
بل نقول : ان
المستفاد من الأخبار الواردة في بيان كيفية غسل الجنابة حمل الجنب في الأخبار ـ حيث
يطلق ـ على من كان كذلك ، وان لم يكن كليا فلا أقل ان يكون غالبا.
ففي صحيحة محمد
بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن غسل الجنابة. قال : تبدأ بكفيك
فتغسلهما ، ثم تغسل فرجك ، ثم تصب الماء على رأسك. الحديث».
وصحيحة زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ فتغسل كفيك ، ثم تفرغ
بيمينك على شمالك فتغسل فرجك. الحديث».
وصحيحة ابن ابي
نصر قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى
أصابعك ، وتبول ان قدرت على البول ثم تدخل يدك في الإناء ، ثم اغسل ما أصابك منه.
الحديث». الى غير ذلك من الأخبار المستفيضة بذلك ، فمن أحب الوقوف عليها فليرجع
الى مظانها.
__________________
وجه الدلالة ان
اشتمال اجوبتهم (عليهمالسلام) عن بيان كيفية غسل الجنابة على إزالة المني يشعر بان
له مدخلا في الكيفية ، وما ذلك إلا بناء على ما قلنا من انه لما كان الغالب تأخير
إزالة المني إلى حين ارادة الاغتسال أدرجه في الكيفية. والأحكام في الاخبار ـ كما
ذكرنا في غير مقام ـ إنما تبنى على ما هو الغالب المتكرر ، ألا ترى ان أحد سببي
الجنابة الموجب للغسل ايضا الإيلاج خاصة ، مع ان الأخبار الواردة في بيان الكيفية
إنما خرجت بناء على السبب الآخر الذي هو الانزال ، وما ذاك الا بناء على ما ذكرنا
، وحينئذ فحيث يطلق الجنب في أخبارهم (عليهمالسلام) يحمل على من كان كذلك إلا مع قيام القرينة المخرجة.
وبهذا التحقيق في المقام يحصل المخرج من المضيق في جملة من الأحكام : منها ـ اخبار
هذا الموضع ، ومنها ـ الأخبار الواردة بنزح سبع دلاء لاغتسال الجنب في البئر ،
فإنه مع عدم النجاسة في بدنه لا يظهر للنزح ـ واجبا أو مستحبا ـ وجه حسن في ذلك
المجال. وما تكلفه جملة من أصحابنا لدفع ذلك لا يخلو من تمحل وإشكال ، الى غير ذلك
من المواضع التي يقف عليها المتتبع للاخبار.
وعلى هذا فتكون
الأخبار التي أشرنا إليها آنفا ـ مما دل على نفي البأس عما ينتضح من الجنب حال
اغتساله ـ محمولة على الاستثناء من نجاسة القليل دفعا للحرج ، كما يشير اليه الاستشهاد
بالآية في صحيحة الفضيل المتقدمة .
__________________
وأصرح منها
دلالة على الاستثناء المذكور رواية عمر بن يزيد قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : اغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة ، فيقع
في الإناء ما ينزو من الأرض؟ فقال : لا بأس به».
وينبغي التنبيه
على فوائد :
(الأولى) ـ ان
الماء المستعمل الذي يتعلق به البحث هل هو عبارة عن البقية بعد الاستعمال ـ سواء
كان بعد تمام الاستعمال أو في أثنائه ـ أو عبارة عما ينفصل عن البدن ولو تتقاطر
وترشح ، أو يخص بما كان له قدر يعتد به فلا يدخل فيه التقاطر ونحوه.
الظاهر انه لا
خلاف في خروج الأول وجواز رفع الحدث به ، ويدل عليه الأخبار المتضمنة لاغتساله (صلىاللهعليهوآله) مع عائشة من إناء واحد ، ومنها صحيحة زرارة وفيها «فضرب بيده في الماء قبلها فأنقى فرجه ، ثم ضربت
هي فأنقت فرجها. ثم أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا. الحديث». قال في الفقيه
. «ولا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد ، ولكن تغتسل بفضله ولا
يغتسل بفضلها».
واما الثاني
فالذي يظهر من المنتهى انه محل البحث ، إلا ان الظاهر من كلام الصدوق (رحمهالله) خلافه. لانه مع منعه التطهير بغسالة الجنب قال : «وان اغتسل الجنب فنزا الماء من الأرض فوقع في الإناء
أو سال من بدنه في الإناء ، فلا بأس به» انتهى. وعلى ذلك تدل الأخبار المستفيضة
التي أشرنا إليها آنفا ومما يؤيد
__________________
ذلك ان الشيخ (رضوان الله عليه) قد روى أكثر تلك الروايات ولم يتعرض لردها
ولا تأويلها بوجه ، مع كونها مخالفة لمذهبه لو كان ذلك من محل النزاع ، وفيه إيذان
بأنه ليس من محل النزاع في شيء. ومع فرض دخوله في محل البحث فهو مردود بالاخبار
المشار إليها ، لدلالتها على جواز الاستعمال مع تساقط ماء الغسل في الإناء.
واما الثالث
فالظاهر انه هو محل البحث على الخصوص.
(الثانية) ـ ينبغي
ان يعلم ان موضع البحث هو الماء الذي يغتسل به المحدث الخالي بدنه من نجاسة خبثية
، وإلا كان حكم الماء المتساقط عن الموضع النجس حكم غسالة النجاسة ، وبذلك صرح
ايضا جمع من الأصحاب. والظاهر انه بهذا خرجت الأخبار التي استند إليها الخصم كما
أشرنا إليه آنفا.
(الثالثة) ـ الظاهر
انه لا خلاف في إزالة الخبث بهذا الماء كما مرت الإشارة اليه ، وممن نقل الإجماع
على ذلك العلامة في المنتهى وابنه فخر المحققين في الشرح.
واحتج له مع
ذلك في المنتهى فقال ما لفظه : «الثالث ـ المستعمل في غسل الجنابة يجوز إزالة
النجاسة به إجماعا منا ، لإطلاقه. والمنع من رفع الحدث به عند بعض الأصحاب لا يوجب
المنع من إزالة النجاسة ، لأنهم إنما قالوه ثم لعلة لم توجد في إزالة الخبث ، فان
صحت تلك العلة ظهر الفرق وبطل الإلحاق ، وإلا حكموا بالتساوي في الماءين كما قلناه»
انتهى.
وعبارة الذكرى
هنا ظاهرة في الخلاف ، حيث قال : «جوز الشيخ والمحقق إزالة النجاسة به ، لطهارته
ولبقاء قوة إزالته الخبث وان ذهب قوة رفعه الحدث ، وقيل : لا ، لان قوته استوفيت
فالتحق بالمضاف» انتهى ، ومن ثم اعترض به بعض المتأخرين على مدعي الإجماع. وأجاب
في المعالم باحتمال ان يكون المنقول عنه في عبارة الذكرى بعض المخالفين ، كما يشعر
به تعليله الواهي المنقول ثمة. وفيه ان المعهود
من كلامه التصريح بذلك لو كان ، ثم احتمل ايضا ان يكون هذا القول مستحدثا
بعد دعوى الإجماع فلا يقدح. وفيه ما فيه. إلا ان فيه ان الخطب هين بعد الإحاطة بما
أسلفنا من ضعف أدلة المنع من رفع الحدث ، وحينئذ فلا تكون في شك من ضعف هذا القول
في هذا المكان من أي قائل كان.
(الرابعة) ـ المنقول
في كتب الأصحاب (رضوان الله عليهم) جعل محل الخلاف هو غسالة الحدث الأكبر ، حتى ان
المحقق الشيخ حسن في المعالم ـ بعد ان نقل عن المنتهى الاقتصار ـ في جواز إزالة
النجاسة بالمستعمل ـ على ما استعمل في غسل الجنابة كما قدمنا من عبارته ـ حمل ذكر
غسل الجنابة على التمثيل دون الحصر. وأنت خبير بان كلام الصدوق في الفقيه صريح في
التخصيص بغسالة الجنابة ، وكذا الأخبار المنقولة دليلا للقول المذكور كما أسلفناها
، ومثله ايضا ما نقله في المختلف عن الشيخ (رحمهالله) من الدليل ، حيث قال : احتج الشيخ (رحمهالله) بأن الإنسان مكلف بالطهارة بالمتيقن طهارته المقطوع
على استباحة الصلاة باستعماله ، والمستعمل في غسل الجنابة ليس كذلك ، لانه مشكوك
فيه ، فلا يخرج عن العهدة باستعماله ، ولا معنى لعدم الاجزاء إلا ذلك. وبما رواه
عبد الله بن سنان ثم ساق الرواية كما قدمنا . ولم يحضرني من كتب أولئك القائلين زيادة على ما ذكرت
لا حقق منه الحال ، وينبغي التنبيه لمثل ذلك. وعلى تقدير كون محل البحث على ما
نقله الأصحاب من العموم فلا يخفى ان الدليل حينئذ أخص من المدعى لما عرفت. نعم
ربما يتمسك بقوله (عليهالسلام) في رواية عبد الله بن سنان التي هي أحد أدلة ذلك القول : «وأشباهه» بعطفه على «الماء
الذي يغتسل به من الجنابة». إلا ان فيه احتمال عطفه على فاعل «يجوز» اعني قوله : «ان
يتوضأ به» بمعنى انه لا يجوز الوضوء به ولا أشباه الوضوء من سائر الاستعمالات في
رفع حدث أو خبث.
__________________
(الخامسة) ـ نفى
جملة من المتأخرين الخلاف عن المستعمل في الأغسال المندوبة ونقل ذلك ايضا عن الشيخ
في الخلاف ، وهو ظاهره في الاستبصار أيضا. والظاهر انه بناء منهم على عدم رفعه
الحدث ، كما هو المشهور من عدم التداخل بين الأغسال المستحبة والواجبة وعدم رفع
المستحب للحدث ، وإلا فإنه يأتي الكلام فيه ايضا كما لا يخفى. وسيأتي ما يوضح هذه
الجملة في بحث نية الوضوء ان شاء الله تعالى.
(السادسة) ـ إذا
وجب الغسل من حدث مشكوك فيه ـ كمن تيقن الجنابة والغسل وشك في المتأخر منهما ،
وواجد المني في ثوبه المختص به ، ونحوهما ـ فهل يكون الماء مستعملا أم لا؟ اشكال
نبه عليه في المنتهى ، قال : «لأنه ماء طاهر في الأصل لم تعلم ازالة الجنابة به ،
فلا يلحقه حكم المستعمل. ويمكن ان يقال انه مستعمل ، لانه قد اغتسل به من الجنابة
وان لم تكن معلومة ، الا ان الاغتسال معلوم فيلحقه حكمه ، لأنه ماء أزال مانعا من
الصلاة ، فانتقل اليه المنع كالمتيقن» انتهى.
واستظهر بعض الاحتمال الأول ، ووجهه غير ظاهر.
والأظهر عندي
الثاني ، لأنه متى حكم بكونه محدثا شرعا وممنوعا من الصلاة بدون الغسل ، ترتب على
غسله ما يترتب على غسل متيقن الحدث. واما كونه كذلك واقعا أم لا فلا يؤثر في
المقام ، إذ الأحكام الشرعية ـ كما عرفت في غير موضع ـ إنما ترتبت على الظاهر لا
على نفس الأمر والواقع.
(السابعة) ـ هل
يشترط في صدق الاستعمال الانفصال عن البدن أم لا؟ المفهوم من كلام العلامة (قدسسره) ـ في النهاية والمنتهى ـ الثاني ، قال في المنتهى : «لو
اغتسل من الجنابة وبقيت في العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على العضو
الى تلك اللمعة جاز ، اما على ما اخترناه نحن فظاهر ، واما على قول
__________________
الحنفية فكذلك لأنه إنما يكون مستعملا بانفصاله عن البدن ، الى ان قال
: وليس للشيخ فيه نص ، والذي ينبغي ان يقال على مذهبه عدم الجواز في الجنابة ،
فإنه لم يشترط في المستعمل الانفصال» انتهى.
وأنكر هذه
النسبة إلى الشيخ (رحمهالله) جمع ممن تأخر عنه ، لعدم تصريحه بذلك في كتبه المشهورة
، مع استلزام ذلك عدم الاجتزاء بإجراء الماء في الغسل من محل الى آخر بعد تحقق
مسماه. وهو بمحل من البعد بل البطلان ، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة
في كيفية الغسل من الجنابة .
(الثامنة) ـ لو
اجتمع كر فصاعدا من الماء المستعمل ، فهل يزول عنه حكم الاستعمال بذلك أم لا؟
قولان ، اختار أولهما الشيخ في المبسوط والعلامة في المنتهى ، وثانيهما المحقق في
المعتبر. وتردد الشيخ في الخلاف.
احتج في
المنتهى بما حاصله ان بلوغ الكر مانع من الانفعال بالنجاسة. فمنعه من الانفعال
بارتفاع الحدث أولى ، إذ لو كانت نجاسة لكانت تقديرية. وبأنه لو اغتسل في كر لما
انفعل فكذا المجتمع. ثم قال : «لا يقال : يرد ذلك في النجاسة العينية. لأنا نقول :
هناك إنما حكمنا بعدم الزوال لارتفاع قوة الطهارة بخلاف المتنازع» انتهى.
احتج المحقق في
المعتبر بان ثبوت المنع معلوم شرعا فيقف ارتفاعه على وجود الدلالة ، قال : «وما
يدعى ـ من قول الأئمة (عليهمالسلام) : «إذا بلغ الماء كرا
__________________
لم يحمل خبثا» . ـ لم نعرفه ولا نقلناه عنهم ، ونحن نطالب المدعي نقل
هذا اللفظ بالإسناد إليهم. اما قولهم (عليهمالسلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» . فإنه لا يتناول موضع النزاع ، لان هذا الماء عندنا ليس
بنجس ، ولو بلغ كرا ثم وقعت فيه نجاسة لم تنجسه. نعم لا يرتفع ما كان فيه من المنع»
انتهى.
ونقل عن الشيخ
في الخلاف ان منشأ التردد عنده ، من انه ثبت فيه المنع قبل أن يبلغ كرا فيحتاج في
جواز استعماله بعد بلوغه الى دليل ، ومن دلالة ظاهر الآيات والأخبار على طهارة
الماء ، خرج منه الناقص عن الكر بدليل فيبقى ما عداه ، وقولهم (عليهمالسلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» .
ولا يخفى على
المنصف الخبير ان ما ذهب اليه المحقق هو الحري بالتخيير ، قال في المعالم بعد نقل
كلمات القوم في هذا المجال ، ونعم ما قال : «والعجب ان الشيخ احتج في الخلاف ـ على
عدم زوال النجاسة في المجتمع من الطاهر والنجس ـ بأنه ماء محكوم بنجاسته ، فمن
ادعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع ، فعليه الدليل ، وليس هناك دليل فيبقى على
الأصل. ولو صح الحديث الذي جعله في موضع النزاع منشأ لاحتمال زوال المنع ، لكان
دليلا على زوال النجاسة هناك ، وليس بين الحكمين في الخلاف إلا أوراق يسيرة. والحق
بناء الحكم هنا على الخلاف الواقع في زوال النجاسة بالإتمام ، فمن حكم بالزوال
هناك تأتى له الحكم هنا بطريق اولى ، ومن لا فلا. واما التفرقة التي صار إليها الشيخ
والعلامة فلا وجه لها» انتهى.
(التاسعة) ـ قال
في المنتهى : «لو غسل رأسه خارجا ثم أدخل يده في القليل
__________________
ليأخذ ما يغسل به جانبه ، فالأقرب ان الماء لا يصير مستعملا ، ولو نوى غسل
يده صار مستعملا» انتهى.
وتوقف في
النهاية في صورة وضع اليد ليأخذ ما يغسل به.
قال بعض فضلاء
متأخري المتأخرين : «وكأن وجه التوقف انه لا دخل للقصد في غسل اليد ، بل
إدخاله يده في الإناء يحسب من الغسل وان لم يقصده ، فيصير به مستعملا. ولا يخفى ان
لهذا الوجه قوة سيما إذا كان عند إدخال اليد ذاهلا عن أنه يقصد الغسل والأخذ ،
وحينئذ يقوى الاشكال. وما ذكره بعضهم ـ من انه لا وجه لهذا التوقف ـ لا وجه له»
انتهى. وأشار بقوله : «وما ذكره بعضهم. إلخ» الى صاحب المعالم ، حيث قال بعد نقل
التوقف عن النهاية : «ولا وجه له».
أقول : وما
ذكره هذا الفاضل مردود من وجوه :
(أحدها) ـ ما
تقدم في الفائدة الاولى من الاتفاق على خروج مثل ذلك عن المستعمل ، كما يدل عليه
أخبار غسله (صلىاللهعليهوآله) مع عائشة.
و (ثانيها) ـ ما
سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في بحث النية من ان المدار في تميز الأفعال بعضها
عن بعض من عبادات وغيرها على القصود والنيات.
و (ثالثها) ـ انه
يأتي على قوله انه لو ارتمس في الماء وكان جنبا ذاهلا عن قصد الغسل فضلا عن ان
يكون ناويا لأخذ شيء من داخل الماء ، فإنه يحصل له الطهارة من حدث الجنابة. ولا
أظنه يلتزمه.
وبالجملة
فكلامه هنا مما لا ينبغي ان يلتفت اليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه.
(العاشرة) ـ لا
يخفى انه كما يصدق المستعمل بالنسبة الى ما يسيل ويتقاطر من الاغتسال ترتيبا ،
كذلك يصدق بالنسبة الى ما يغتسل فيه ارتماسا من الماء القليل
__________________
من غير خلاف يعرف فيه بينهم. إلا ان الخلاف هنا وقع في موضعين :
(أحدهما) ـ ان
المرتمس إذا نوى خارج الماء سواء كان بجميع بدنه أم لا ، فهل يحكم بصحة غسله وان
كان الماء يصير مستعملا بعد إتمام غسله ، أو يصير الماء بمجرد إدخال عضو فيه بعد
النية مستعملا ويكون غسله حينئذ باطلا ، بناء على المنع من استعمال المستعمل
ثانيا.
قرب في المنتهى
الأول وجعله في النهاية احتمالا ، حيث قال فيها : «لو نوى قبل تمام الانغماس اما
في أول الملاقاة أو بعد غمس بعض البدن ، احتمل ان لا يصير مستعملا ، كما لو ورد
الماء على البدن ، فإنه لا يحكم بكونه مستعملا بأول الملاقاة ، لاختصاصه بقوة
الورود ، والحاجة الى رفع الحدث ، وعسر افراد كل موضع بماء جديد. وهذا المعنى موجود
سواء كان الماء واردا أو هو» انتهى.
أقول : وربما
كان وجه الاحتمال الآخر هو الفرق بين الغسل الترتيبي والارتماسي ، بأن يقال : ان
عدم الحكم بكونه مستعملا في الترتيبي بأول الملاقاة ـ لما ذكر من الضرورة ولزوم
الحرج ـ لا يستلزم الحكم بذلك في الارتماسي ، لانتفائهما فيه ، بأن ينوي بعد تمام
الانغماس لئلا يلزم المحذور المذكور. إلا ان فيه ان ما دل على جواز الارتماس من
الأخبار مطلق لا تقييد فيه بكونه في الكثير أو كون النية بعد تمام الانغماس في
الماء. وما دل من الأخبار على منع استعمال المستعمل ثانيا ـ بعد تسليمه ـ لا شمول
له للصورة المذكورة حتى تقيد به تلك الأخبار ، فيجب العمل بإطلاق تلك الأخبار ،
والحكم باجزاء الارتماس على اي نحو كان.
و (ثانيهما) ـ إذا
نوى بعد تمام انغماسه في الماء فإنه يصح غسله إجماعا ويكون الماء مستعملا ، لكن هل
يكون مستعملا بالنسبة اليه والى غيره وان لم يخرج من الماء ، أو لا يكون مستعملا
بالنسبة إليه حتى يخرج من الماء أو ينتقل الى محل آخر وان كان مستعملا بالنسبة إلى
غيره بدون ذلك ، أو يكون
مستعملا بالنسبة إليه بدون ذلك ولا يكون مستعملا بالنسبة إلى غيره إلا بذلك؟
أقوال :
(أولها) ـ صريح
العلامة في المنتهى ، حيث قال : «لو انغمس الجنب في ماء قليل ، فان نوى بعد تمام
انغماسه واتصال الماء بجميع البدن ارتفع حدثه ، لوصول الماء الطهور الى محل الحدث
مع النية ، ويكون مستعملا ، وهل يحكم بالاستعمال في حق غيره قبل انفصاله عنه؟
الوجه ذلك» انتهى.
و (ثانيها) ـ ظاهر
الشهيد في الذكرى ، حيث قال : «يصير الماء مستعملا بانفصاله عن البدن ، فلو نوى
المرتمس في القليل بعد تمام الارتماس ارتفع حدثه وصار مستعملا بالنسبة إلى غيره
وان لم يخرج».
وأورد عليه بان
حكمه ـ بصيرورته مستعملا بالنسبة إلى غيره قبل الخروج ـ مشكل بعد قوله أولا : ان
الاستعمال يتحقق بانفصاله عن البدن ، إذ مقتضاه توقف صيرورته مستعملا حينئذ على
خروجه أو انتقاله تحت الماء الى محل آخر غير ما ارتمس فيه.
وأجيب بأنه كان
مراده اعتبار الانفصال عن البدن بالنسبة إلى نفس المغتسل وان كان ظاهر عبارته
العموم. ولا يخلو من بعد ، لعدم صحة تفريع «فلو نوى» على ما قبله .
ولعل الأظهر في
الجواب انه (قدسسره) جعل تمام الارتماس المترتب عليه ارتفاع الحدث وصيرورة
الماء مستعملا في حكم انفصال الماء عن البدن ، فيكون مراده بانفصال الماء عن البدن
المترتب عليه صيرورته مستعملا ما هو أعم من ذلك. وبهذا المعنى
__________________
صرح شيخنا الشهيد الثاني في شرح الإرشاد والظاهر ان تحقق الاستعمال وصدقه على الماء متفرع على
رفع الحدث به في صورة الارتماس وان لم يخرج ، إذ يصدق عليه انه ماء اغتسل به من
الجنابة ، فتشمله رواية ابن سنان القائلة بان ما يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز ان
يتوضأ به. ويجب بناء على العمل بها التجنب عنه. واما التوقف على الخروج أو
الانتقال فمما لا دليل عليه في حقه ولا في حق غيره. لما ذكرناه.
و (ثالثها) ـ ظاهر
العلامة في النهاية ، حيث قال : «لو انغمس الجنب في ماء قليل ونوى ، فان نوى بعد
تمام انغماسه فيه واتصال الماء بجميع البدن ارتفع حدثه وصار مستعملا للماء ، وهل
يحكم باستعماله في حق غيره قبل انفصاله؟ يحتمل ذلك ، لانه مستعمل في حقه فكذا في
حق غيره. وعدمه ، لان الماء ما دام مترددا على أعضاء المتطهر لا يحكم باستعماله.
فعلى الأول لا يجوز لغيره رفع الحدث به عند الشيخ ويجوز على الثاني» انتهى. ولا
يخفى عليك ما في تعليله العدم من الوهن بما حققناه قال في المعالم بعد نقل كلام
الذكرى وكلام النهاية : «والتحقيق ان الانفصال إنما يعتبر في صدق الاستعمال بالنظر
الى المغتسل ، فما دام الماء مترددا على العضو لا يحكم باستعماله بالنسبة اليه ،
وإلا لوجب عليه افراد كل موضع من البدن بماء جديد ، ولا ريب في بطلانه ، إذ
الأخبار ناطقة بخلافه ، والبدن كله في الارتماس كالعضو الواحد. واما بالنظر الى
غير المغتسل فيصدق الاستعمال بمجرد اصابة الماء المحل المغسول بقصد الغسل ، وحينئذ
فالمتجه هنا صيرورة الماء مستعملا بالنسبة الى غير المغتسل بمجرد النية والارتماس
، وتوقفه بالنظر اليه على الخروج أو الانتقال. وقد حكم
__________________
في المنتهى بصيرورته مستعملا بالنسبة إليهما قبل الانفصال. والوجه ما
ذكرناه» انتهى.
وفيه نظر من
وجوه :
(اما أولا) ـ فلان
هذا الفرق الذي ذكره بين المغتسل وغيره اما مستفاد من كلام المانعين أو من الأدلة
الواردة لهم ، وكلاهما ممنوع (اما الأول) فلعدم تصريح أحد منهم بذلك. و (اما
الثاني) فلأن المستفاد من رواية ابن سنان التي هي أصرح أدلتهم صدق الاستعمال على هذا الماء بعد
حصول رفع الحدث به ، انفصل أو لم ينفصل. واما ما علل به عدم الاستعمال بالنسبة إلى
المغتسل نفسه ـ من انه ما دام الماء مترددا على العضو لا يحكم. إلخ ـ ففيه ان هذا
انما يلزم بالنسبة إلى المغتسل ترتيبا أو ارتماسا إذا نوى خارج الماء مثلا كما
تقدمت الإشارة إليه آنفا ، لا فيما إذا نوى بعد تمام الارتماس كما هو المفروض.
وعدم الحكم بكونه مستعملا ثمة للحرج الذي ذكره لا يستلزم ذلك في محل البحث ، لعدم
العلة المذكورة.
و (اما ثانيا)
ـ فلانه يرد عليه انه لو لم يخرج من الماء مدة يوم مثلا لا يحكم باستعمال الماء
بالنسبة إليه فيجوز له الوضوء أو الاغتسال منه ، بل ولو خرج بعض بدنه ولم يخرج
بتمامه. والتزامه لا يخلو من بعد.
و (اما ثالثا)
ـ فلان حكمه بأن الانتقال بمنزلة الخروج ـ في صدق الاستعمال به ـ فيه ان جميع هذا
الماء اما في حكم الماء الواحد أو المياه المتعددة ، فعلى الأول فما لم ينفصل عنه
بتمامه فإنه يجري فيه الدليل الذي ذكره ، وعلى الثاني فإنه يلزم جواز ان يتطهر به
شخص آخر في موضع آخر منه وان انتقل أو خرج ايضا ، وهو لا يقول به. نعم اعتبار
الانتقال أو الخروج انما يعتبر بعد النية داخل الماء في صدق الغسل الذي هو عبارة
عن جري جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو بمعاون لو كان الماء ساكنا ،
وهو غير محل البحث.
__________________
(الحادية عشرة)
ـ هل يختص البحث في هذه المسألة والخلاف فيها بما كان قليلا فقط ، أو يشمل الكثير
ايضا؟
الظاهر من
كلمات جمع من الأصحاب ـ تصريحا تارة وتلويحا اخرى ـ هو الاختصاص بالقليل.
ونقل بعض فضلاء
متأخري المتأخرين عن شيخنا المفيد في المقنعة انه حكم بكراهة الارتماس في الماء
الكثير الراكد. والظاهر انه ليس الوجه فيه إلا صيرورته مستعملا يمتنع الطهارة به
من الحدث ثانيا بناء على مذهبه. والكراهة في كلام المتقدمين ـ كما هو في الأخبار ـ
أعم من المعنى المصطلح.
قال شيخنا
البهائي (قدسسره) في حواشي كتاب الحبل المتين ـ بعد ان نقل في الأصل
صحيحة صفوان بن مهران الجمال الدالة على السؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ،
وقد تقدمت في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة وصحيحة محمد بن
إسماعيل ابن بزيع قال : «كتبت الى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء
السماء أو يستقى فيه من بئر ، فيستنجي فيه الإنسان من البول أو يغتسل فيه الجنب ،
ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب : لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه». ـ ما صورته :
«استدلال العلامة في المختلف بالحديث السابع والثامن يعطي ان الخلاف ليس في الماء
المنفصل عن أعضاء الغسل فقط ، بل هو جار في الكر الذي يغتسل فيه ايضا فتدبر»
انتهى.
أقول : فيه ان
الظاهر ان استدلال العلامة بصحيحة صفوان إنما هو من حيث الإطلاق الشامل للأقل من
كر ، ولهذا انه نقل ثمة عن الشيخ (رحمهالله) الجواب عن الصحيحة المذكورة بالحمل على بلوغ الكر ولم
يتعرض لرده. وهو ظاهر في ان الكر ليس محل خلاف كما لا يخفى.
__________________
واما صحيحة
محمد بن إسماعيل فلا يخفى ما فيها من الإجمال. لأن الماء المسؤول عنه وان كان
السائل قد سأل عن بيان حده الذي يجوز التوضؤ معه لكن الامام (عليهالسلام) لم يبينه له ، إلا انه بالنظر الى قيام الدليل على
نجاسة الماء القليل وانه بالنسبة إلى الطهارة حينئذ في حكم العدم ، فلا بد من
الحمل على الكرية وحمل النهي عنه إلا مع الضرورة على التنزيه ، بناء على انه يشترط
في ماء الطهارة ما لا يشترط في غيره من المزية ، وحينئذ يتم ما ذكره شيخنا البهائي
(رحمهالله) بالنسبة الى هذا الخبر.
نعم يبقى
الكلام في استدلال العلامة به على الجواز ، فان للخصم الاستدلال به على المنع وحمل
الجواز هنا على الضرورة كما ينطق به لفظه ، بعين ما تقدم من حمل الشيخ صحيحة علي بن جعفر على ذلك. وقول العلامة
في المختلف ـ في بيان وجه الاستدلال بهذه الرواية : «انه لو كان هذا الماء غير
مطهر لما جاز الوضوء منه من ضرورة وغيرها» ـ مردود بحصول الرخص في الشريعة في
مواضع لا تحصى ، وليس الرخصة إلا بتجويز ما منع منه تخفيفا وتسهيلا في بعض الموارد
كما لا يخفى. إلا ان كلام الشيخ في التهذيب ظاهر الإباء لذلك ، حيث انه ـ بعد ان نقل عبارة المقنعة
الدالة على انه بالاغتسال في الكثير يخالف السنة ـ استدل عليه بالصحيحة المذكورة ،
قائلا بعد نقلها : «قوله (عليهالسلام) : ـ لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه ـ يدل على
كراهة النزول فيه ، لانه لو لم يكن مكروها لما قيد الوضوء والغسل منه بحال
الضرورة. ثم قال : واما الذي يدل على انه لا يفسد الماء إذا زاد على الكر ـ بنزول
الجنب فيه ـ ما تقدم من الأخبار وانه إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء» انتهى. وهو
ـ كما ترى ـ صريح في عدم دخول قدر الكر في محل الخلاف ، وعبارة المقنعة المنقولة
ايضا ظاهرة الانطباق على هذا الكلام ، فحينئذ فما توهم من نسبة الخلاف إليهما في
قدر
__________________
الكر ايضا ظاهر البطلان إلا ان يعلم تصريحهما بذلك في محل آخر. والله أعلم.
(الثانية عشرة)
ـ روى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع
، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة ، إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ
صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق ، فكيف يصنع به وهو يتخوف ان يكون السباع
قد شربت منه؟ فقال : إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفا من الماء بيد واحدة فلينضحه
خلفه وكفا امامه وكفا عن يمينه وكفا عن شماله. فإن خشي ان لا يكفيه غسل رأسه ثلاث
مرات ثم مسح جلده بيده ، فان ذلك يجزيه. وان كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده على
ذراعيه ورأسه ورجليه. وان كان الماء متفرقا فقدر ان يجمعه وإلا اغتسل من هذا وهذا.
فان كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه
، فان ذلك يجزيه».
أقول : وهذا
الخبر من مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار ، وقد تكلم فيه جملة من علمائنا الأبرار
رفع الله تعالى أقدارهم في دار القرار ، وحيث كان مما يتعلق بهذا المقام ويدخل في
سلك هذا النظام رأينا بسط الكلام فيه وإردافه بما يكشف عن باطنه وخافية.
فنقول : ان
الكلام فيه يقع في مواضع :
(الأول) ـ اختلف
أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ان النضح للجوانب الأربعة في الخبر المذكور هل هو
للأرض أم البدن. وعلى اي منهما فما الغرض منه وما الحكمة فيه؟
فقيل بان محل
النضح هو الأرض ، وقد اختلف في وجه الحكمة على هذا القول.
__________________
فظاهر الخبر
المشار اليه ـ وبه صرح البعض ـ ان ذلك لدفع النجاسة الوهمية الناشئة من تخوف شرب
السباع التي من جملتها الكلاب ونحوها مع قلة الماء. ولكن فيه ان تعداد النضح في
الجهات الأربع لا يظهر له وجه ترتب على ذلك ، إذ يكفي النضح في جهة واحدة. ولعل
الأقرب كون ذلك لما ذكر مع منع رجوع الغسالة إلى الماء ، كما يشير اليه قوله (عليهالسلام) في آخر الخبر : «فان كان في مكان واحد وهو قليل لا
يكفيه لغسله ، فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه». فإنه يشعر بكون النضح أولا
لمنع رجوع الغسالة ، لكن مع قلة الماء على الوجه المذكور لا عليه ان يغتسل ويرجع
الى مكانه.
ويؤيد ذلك
ويوضحه ان الذي صرح به غير هذا الخبر من الأخبار الواردة في هذا المضمار هو ان
العلة منع رجوع الغسالة.
ومنها ـ رواية
ابن مسكان قال : «حدثني صاحب لي ثقة أنه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد ان
يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟
قال :
ينضح بكف بين
يديه وكفا من خلفه وكفا عن يمينه وكفا عن شماله ، ثم يغتسل».
وما رواه في
المعتبر والمنتهى عن جامع البزنطي عن عبد الكريم عن محمد ابن
ميسر عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في
وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : ينضح بكف بين يديه وكف
خلفه وكف عن يمينه وكف عن شماله ، ويغتسل».
وبذلك ايضا صرح
شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب من لا يحضره الفقيه حيث قال : «فان اغتسل الرجل في وهدة وخشي ان يرجع ما
ينصب عنه
__________________
الى الماء الذي يغتسل منه ، أخذ كفا وصبه امامه وكفا عن يمينه وكفا عن
يساره وكفا من خلفه ، واغتسل منه».
وقال ايضا
والده (قدسسره) في رسالته اليه : «وان اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت ان
يرجع ما ينصب عنك الى المكان الذي تغتسل فيه ، أخذت له كفا وصببته عن يمينك وكفا
عن يسارك وكفا خلفك وكفا امامك ، واغتسلت».
والخبران
المنقولان مع العبارتين المذكورتين وان اشتركا في كون العلة منع رجوع الغسالة
لكنها مجملة بالنسبة إلى كون المنضوح الأرض أو البدن.
وما ذكره في
المعالم ـ من ان العبارة المحكية عن رسالة ابن بابويه ظاهرة في الأول حيث قال فيها
: أخذت له كفا. الى آخره. والضمير في قوله : «له» عائد إلى المكان الذي يغتسل فيه
، لانه المذكور قبله في العبارة ، وليس المراد به محل الماء كما وقع في عبارة ابنه
، حيث صرح بالعود الى الماء الذي يغتسل منه ، وكان تركه للتصريح بذلك اتكالا على
دلالة لفظ الرجوع عليه ، فالجار في قوله : «الى المكان» متعلق ب «ينصب» وصلة «يرجع»
غير مذكورة. لدلالة المقام عليها. انتهى ـ فظني بعده ، لاحتمال كون الضمير في «له»
عائدا الى ما يفهمه سوق الكلام من خوف رجوع ما ينصب عنه ، بمعنى انك إذا خشيت ذلك
أخذت لأجل دفع ما تخشاه كفا ، ويؤيده السلامة من تقدير صلة ل «يرجع» بل صلته هو
قوله : «الى المكان» غاية الأمر انه عبر هنا عن الماء الذي يغترف منه ـ كما وقع في
عبارة ابنه ـ بالمكان الذي يغتسل فيه. وهو سهل.
وقيل بأن
الحكمة فيه اجتماع أجزاء الأرض ، فيمتنع سرعة انحدار ما ينفصل عن البدن الى الماء.
ورده ابن إدريس وبالغ في رده بان استعداد الأرض برش الجهات المذكورة موجب لسرعة
نزول ماء الغسل. والظاهر ان لكل من القولين وجها
باعتبار اختلاف الأراضي ، فإن بعضها بالابتلال يكون قبولها لابتلاع الماء
أكثر وبعضها بالعكس.
وقيل بأن
الحكمة هي عدم عود ماء الغسل ، لكن لا من جهة كونه غسالة بل من جهة النجاسة الوهمية
التي في الأرض ، فالنضح إنما هو لإزالة النجاسة الوهمية منها. والظاهر بعده ، فإنه
لا إيناس في الخبر المذكور ولا في غيره من الأخبار التي قدمناها بذلك.
وقيل بأن
الحكمة إنما هي رفع ما يستقذر منه الطبع من الكثافات بأن يأخذ من وجه الماء أربع
أكف وينضح على الأرض.
صرح بذلك السيد
السند صاحب المدارك في حواشي الاستبصار.
وأيده بحسنة
الكاهلي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : إذا أتيت ماء وفيه قلة فانضح عن يمينك وعن
يسارك وبين يديك ، وتوضأ».
ورواية أبي
بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : انا نسافر ، فربما بلينا بالغدير من المطر يكون الى
جانب القرية فتكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال : ان
عرض في قلبك منه شيء فقل هكذا ، يعني افرج الماء بيدك ، ثم توضأ.».
وفيه (أولا) ـ انه
يكفي على هذا مطلق النضح وان كان الى جهة واحدة ، مع ان الخبر قد تضمن تفريقه في
الجهات الأربع ، ومثله الخبران الآخران. واما النضح الى الجهات الثلاث في خبر
الكاهلي فالظاهر انه عبارة عن تفريج الماء كما في خبر ابي بصير.
و (ثانيا) ـ ان
ظاهر الخبرين الذين قدمناهما ـ وكذا كلام الصدوقين ـ كون
__________________
العلة منع رجوع الغسالة. وهذا الخبر وان كان مجملا بالنسبة الى ذلك إلا ان
الظاهر ـ كما قدمنا لك ـ ان ذلك مما استشعره الامام (عليهالسلام) من سؤال السائل كما يشعر به آخر الخبر ، ولا ينافي ذلك
ظهور ما ادعاه في حسنة الكاهلي ورواية أبي بصير ، فان الظاهر ان هذا حكم آخر مرتب
على علة أخرى غير ما تضمنته هذه الأخبار.
و (ثالثا) ـ ان
ظاهر الخبر ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ إنما هو إزالة النجاسة الوهمية من الماء.
وربما احتمل بعضهم بناء على ذلك ان المنضوح هو الماء ، وأيده أيضا بحسنة الكاهلي
ورواية أبي بصير. ولا يخفى بعده وان قرب احتماله في الخبرين المذكورين.
وقيل بان محل
النضح هو البدن ، وقد اختلف أيضا في وجه الحكمة على هذا القول على أقوال :
(منها) ـ ان
الحكمة في ذلك هو ترطيب البدن قبل الغسل لئلا ينفصل عنه ماء الغسل كثيرا فلا يفي
بغسله لقلة الماء.
وفيه (أولا) ـ ان
ذلك وان احتمل بالنسبة الى الخبر المذكور لكنه لا يجري في خبر ابن مسكان والخبر
المنقول عن جامع البزنطي لظهورهما في كون العلة إنما هي خوف رجوع الغسالة.
والظاهر ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ كون مورد الأخبار الثلاثة أمرا واحدا.
و (ثانيا) ـ انه
يلزم من ذلك عدم جواب الامام (عليهالسلام) في الخبر المبحوث عنه عن استشكال السائل المتخوف من
ورود السباع.
و (منها) ـ ان
الحكمة ازالة توهم ورود الغسالة ، اما بحمل ما يرد على الماء على وروده مما نضح
على البدن قبل الغسل الذي ليس من الغسالة ، واما انه مع الاكتفاء
__________________
بالمسح بعد النضح لا يرجع الى الماء شيء. ولا يخلو ايضا من المناقشة .
و (منها) ـ ان
الحكمة في ذلك ليجري ماء الغسل على البدن بسرعة ، ويكمل الغسل قبل وصول الغسالة
الى ذلك الماء.
واعترض عليه
بان سرعة جريان ماء الغسل على البدن مقتض لسرعة تلاحق اجزاء الغسالة وتواصلها ،
وهو يعين على سرعة الوصول الى الماء.
وأجيب بأن
انحدار الماء عن أعالي البدن الى اسافله أسرع من انحداره إلى الأرض المائلة إلى
الانخفاض ، لانه طالب للمركز على أقرب الطرق ، فيكون انفصاله عن البدن أسرع من
اتصاله بالماء الذي يغترف منه ، هذا إذا لم تكن المسافة بين مكان الغسل وبين الماء
الذي يغترف منه قليلة جدا ، فلعله كان في كلام السائل ما يدل على ذلك ، كذا نقل عن
شيخنا البهائي (قدسسره).
(الثاني) ـ ان
هذا الخبر قد اشتمل على جملة من الأحكام المخالفة لما عليه علماؤنا الأعلام.
(منها) ـ امره (عليهالسلام) بغسل رأسه ثلاث مرات ومسح بقية بدنه ، فإنه يدل على
اجزاء المسح عن الغسل عند قلة الماء ، وهو غير معمول عليه عند جمهور الأصحاب عدا
ابن الجنيد ، فان المنقول عنه وجوب غسل الرأس ثلاثا والاجتزاء بالدهن في بقية
البدن. إلا ان اخبار الدهن الآتية ان شاء الله تعالى في بحث الوضوء تساعده.
__________________
و (منها) ـ قوله
(عليهالسلام) : «وان كان الوضوء. إلخ». فإنه صريح في الاجتزاء بمسح
اليدين عن غسلهما في الوضوء عند عوز الماء.
و (منها) ـ قوله
(عليهالسلام) : «فان كان في مكان واحد. إلخ». فإنه يدل على ان الجنب
إذا لم يجد من الماء إلا ما يكفيه لبعض أعضائه غسل ذلك البعض به وغسل الآخر
بغسالته ، وانه لا يجوز ذلك إلا مع قلة الماء ، كما يفيده مفهوم الشرط وهو مؤيد
لما ذهب اليه المانعون من استعمال الغسالة ثانيا. ومؤذن بما أشرنا إليه سابقا من
ان النضح المأمور به في صدر الخبر إنما هو للمنع من رجوع الغسالة. إلا ان الأكثر
يحملون ذلك على الفضل والكمال.
(الثالث) ـ انه
على تقدير جعل متعلق النضح في الخبر المذكور الأرض ـ وان وجه الحكمة فيه هو عدم
رجوع ماء الغسل الى الماء الذي يغتسل منه ، كما هو أظهر الاحتمالات المتقدمة ، مع
اعتضاده بخبري ابن مسكان ومحمد بن ميسر المتقدمين ـ يكون ظاهر الدلالة على ما ذهب اليه المانعون من
استعمال المستعمل ثانيا. وظاهر الأكثر حمل ذلك على الاستحباب. كما صرح به العلامة
في المنتهى مقربا له بحسنة الكاهلي المتقدمة ، ووجه التقريب ان الاتفاق واقع على عدم المنع من
المستعمل في الوضوء ، فالأمر بالنضح له في الحديث محمول على الاستحباب عند الكل ،
فلا يبعد ان تكون تلك الأوامر الواردة في تلك الأخبار كذلك. وأنت خبير بأنه يأتي
بناء على ما حققناه سابقا احتمال ابتناء ذلك على ما هو الغالب من بقاء النجاسة إلى
آن الغسل. إلا انه يدفعه في الخبر المبحوث عنه قوله في آخره في صورة فرض قلة الماء
: «فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه ، فإنه يجزيه».
(الرابع) ـ روى
في كتاب الفقه الرضوي قال (عليهالسلام) : «وان
__________________
اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت ان يرجع ما تصب عليك ، أخذت كفا فصبت على رأسك
وعلى جانبيك كفا كفا ، ثم تمسح بيدك وتدلك بدنك».
أقول : وهذا
الخبر قد ورد بنوع آخر في منع رجوع الغسالة. وهو ان يغتسل على الكيفية المذكورة في
الخبر. والظاهر تقييد ذلك بقلة الماء كما دل عليه الخبر المبحوث عنه ، إذ الاجتزاء
بالغسل المذكور ـ مع كثرة الماء وإتيانه على الغسل الكامل ـ لا يخلو من الإشكال
إلا على مذهب المانعين من استعمال الغسالة.
(الخامس) ـ قال
الشيخ في النهاية : «متى حصل الإنسان عند غدير أو قليب ولم يكن معه ما يغترف به
الماء لوضوئه ، فليدخل يده فيه ويأخذ منه ما يحتاج اليه وليس عليه شيء. وان أراد
الغسل للجنابة وخاف ـ ان نزل إليها ـ فساد الماء ، فليرش عن يمينه ويساره وامامه
وخلفه ، ثم ليأخذ كفا كفا من الماء فليغتسل به» انتهى.
قال في المعالم
بعد نقل ذلك عنه : «وهو لا يخلو من اشكال ، فإن ظاهره كون المحذور في الفرض
المذكور هو فساد الماء بنزول الجنب اليه واغتساله فيه ، ولا ريب ان هذا يزول
بالأخذ من الماء والاغتسال خارجه. وفرض إمكان الرش يقتضي إمكان الأخذ فلا يظهر
لحكمه بالرش حينئذ وجه» ثم نقل عن المحقق في المعتبر انه تأوله فقال : «ان عبارة
الشيخ لا تنطبق على الرش إلا أن يجعل في «نزل» ضمير ماء الغسل ، ويكون التقدير «وخشي
ـ ان نزل ماء الغسل ـ فساد الماء» وإلا فبتقدير ان يكون في «نزل» ضمير المريد لا
ينتظم المعنى ، لأنه ان امكنه الرش لا مع النزول امكنه الاغتسال من غير نزول» ثم
قال بعده : «وهذا الكلام حسن وان اقتضى كون المرجع غير مذكور صريحا ، فان محذورة
هين بالنظر الى ما يلزم على التقدير الآخر ، خصوصا بعد ملاحظة كون الغرض بيان
الحكم الذي وردت به النصوص ، فإنه لا ربط للعبارة به على ذلك التقدير. وفي بعض نسخ
النهاية «وخاف ان ينزل إليها فساد الماء» على صيغة المضارع ، فالإشكال حينئذ مرتفع
، لانه مبني على كون
العبارة عن النزول بصيغة الماضي ، وجعل «ان» مكسورة الهمزة شرطية ، وفساد
الماء مفعول «خشي» ، وفاعل «نزل» الضمير العائد إلى المريد. وعلى النسخة التي
ذكرناها يجعل «ان» مفتوحة الهمزة مصدرية ، وفساد الماء فاعل «ينزل» ، والمصدر
المأول من «ان ينزل» مفعول «خشي» ، وفاعله ضمير المريد. وحاصل المعنى انه مع خشية
نزول الماء المنفصل عن بدن المغتسل الى المياه التي يريد الاغتسال منها ـ وذلك
بعود الماء الذي اغتسل به إليها ـ فإن المنع المتعلق به يتعدى إليها بعوده فيها ،
وهو معنى نزول الفساد إليها ، فيجب الرش حينئذ حذرا من ذلك الفساد. وهذا عين كلام
باقي الجماعة ومدلول الأخبار فلعل الوهم في النسخة التي وقع فيها لفظ الماضي ، فإن
حصول الاشتباه في مثله وقت الكتابة ليس بمستبعد» انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول : ما نقله
عن بعض نسخ النهاية ـ من التعبير في تلك اللفظة بلفظ المضارع ـ هو الموجود في أصل
النسخة التي عندي وهي معتمدة ، إلا ان الياء قد حكت ، وعلى الهامش مكتوب بخط شيخنا
العلامة أبي الحسن الشيخ سليمان البحراني (قدسسره) «نزل» بيانا لذلك. ولا ريب انه على تقدير النسخة
المذكورة يضعف الاشكال كما ذكره (قدسسره). إلا انه من المحتمل بل الظاهر انه على تقدير نسخة
الماضي ان المعنى انه إذا أراد الغسل للجنابة وخاف ـ بنزوله في الماء للغسل
ارتماسا ـ فساد الماء. اما باعتبار نجاسة بدنه أو باعتبار إثارة الحمأة أو نحو ذلك
، فإنه يغتسل ترتيبا خارج الماء ، ولكن يرش الأرض لأحد الوجوه المتقدمة التي
أظهرها وأوفقها بمذهبه منع رجوع الغسالة.
ولا ريب انه
معنى صحيح لا غبار عليه ولا اشكال يتطرق إليه.
(المسألة
الثالثة) ـ في الماء المستعمل في الاستنجاء ، والبحث فيها يقع في مواضع :
(الأول) ـ اتفق
الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ على ما نقله غير واحد
منهم ـ على عدم وجوب ازالة ماء الاستنجاء عن الثوب والبدن لما هو مشروط
بالطهارة من صلاة وغيرها ، وعلى ذلك تدل الاخبار ايضا.
(فمنها) ـ صحيحة
محمد بن النعمان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له : استنجي ثم يقع ثوبي فيه وانا جنب؟ فقال
: لا بأس به».
واستظهر بعض
محدثي المتأخرين كون الاستنجاء هنا من المني بقرينة قوله : «وانا جنب» قال : «فينبغي
استثناء الاستنجاء من المني أيضا».
واحتمل آخر كون
الاستنجاء مختصا بغير المني وذكر الجنابة لتوهم سراية النجاسة المعنوية الحدثية
إلى الماء.
و (منها) ـ صحيحة
عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به ، أينجس
ذلك ثوبه؟ قال : لا».
و (منها) ـ حسنة
محمد بن النعمان الأحول قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : اخرج من الخلاء فاستنجي بالماء ، فيقع ثوبي في ذلك
الماء الذي استنجيت به؟ فقال : لا بأس به» وزاد في الفقيه «ليس عليك شيء».
و (منها) ـ ما
رواه الصدوق عطر الله مرقده في كتاب العلل عن الأحوال أيضا قال : «دخلت على أبي عبد الله (عليهالسلام) فقال لي : سل عما شئت فارتجت علي المسائل ، فقال لي :
سل ما بدا لك فقلت : جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به؟
فقال : لا بأس به. فسكت فقال : أو تدري لم صار لا بأس به؟
__________________
قلت : لا والله جعلت فداك. فقال : ان الماء أكثر من القذر».
وهذه الأخبار
وان اشتركت في نفي البأس عن ملاقاته الثوب كما في أكثرها وعدم التنجيس كما في
بعضها ، إلا ان الظاهر ـ كما عليه الأصحاب ـ انه لا مدخل لخصوصية الثوب في ذلك ،
فيتعدى الحكم الى غيره من باب تنقيح المناط القطعي الذي تقدمت الإشارة إليه غير
مرة ، وإلا للزم ايضا اختصاص الحكم بالرجل دون المرأة كما هو مورد تلك الاخبار ،
وهو خلاف ما عليه كافة علمائنا الأبرار. وربما أشعر التعليل الذي في آخر رواية العلل
بعدم نجاسة غسالة الخبث مطلقا مع عدم التغيير. وسيأتي الكلام فيه في محله ان شاء
الله تعالى. وإطلاق هذه الاخبار يقتضي عدم الفرق بين المخرجين ، لصدق الاستنجاء
بالنسبة الى كل منهما. وبذلك صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) أيضا.
(الثاني) ـ اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ بعد الاتفاق ـ كما عرفت ـ على عدم وجوب إزالته ـ في
ان ذلك لطهارته أو لكونه معفوا عنه. وربما أشعر ذلك بكون العفو عبارة عن الحكم بنجاسته مع الرخصة في
مباشرته. والذي يظهر من كلام شيخنا الشهيد في الذكرى ـ وتبعه عليه جمع ممن تأخر
عنه ـ كون العفو هنا إنما هو بمعنى سلب الطهورية ، حيث قال بعد نقل القولين : «وتظهر
الفائدة في استعماله» وحينئذ فيصير محط الخلاف في جواز رفع الحدث أو الخبث به
وعدمه ، وكذا تناوله وعدمه. إلا انهم نقلوا الإجماع ايضا على عدم جواز رفع الحدث
بما تزال به النجاسة مطلقا كما سيأتي في تالي هذه المسألة ، وحينئذ فينحصر الخلاف
في الآخرين.
والظاهر ـ كما
هو المشهور ـ الجواز تمسكا بأصالة الطهارة عموما وخصوصا ، وصدق
__________________
الماء المطلق عليه ، فيجوز شربه وازالة الخبث به.
وجملة من
متأخري المتأخرين أيدوا ذلك أيضا بأن أدلة نجاسة القليل بالملاقاة لا
عموم لها بحيث تشمل ما نحن فيه ، وإنما كان التعدي عن الموارد المخصوصة التي وردت
فيها الروايات الى بعض الصور لأجل الشهرة وعدم القول بالفصل ، وكلاهما مفقودان
فيما نحن فيه ، فيبني على الأصل ، فيثبت جواز الطهارة والتناول.
وأنت خبير بما
فيه ، بل الحق ان هذا الموضع مما خرج بالأخبار المتقدمة عن قاعدة نجاسة القليل
بالملاقاة.
واستدل جملة من
الأصحاب (رضوان الله عليهم) على الطهارة بلزوم الحرج والمشقة لو لم يكن كذلك ،
والظاهر ان مرادهم الاستدلال على خروجه عن قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة ، بمعنى
انه لو حكم بنجاسته كغيره من افراد الماء القليل للزم الحرج من ذلك والمشقة ،
لتكرره وعدم إمكان التحرز عنه ، لا ان مرادهم الاستدلال على الطهارة بالمعنى
المقابل للعفو ، وحينئذ فلا يرد ما أورده الفاضل الخوانساري في شرح الدروس على
شيخنا الشهيد الثاني في الروض ، حيث قال ـ بعد نقل الاستدلال عنه على الطهارة بان
في الحكم بالنجاسة حرجا ومشقة ، لعموم البلوى ، وكثرة تكرره ودورانه ، بخلاف باقي
النجاسات ـ ما لفظه : «وفيه ان الحرج على تقدير تسليمه إنما يرتفع بالعفو ولا
يتوقف على طهارته ، إذ لا حرج في عدم جواز استعماله في رفع الخبث والتناول ، وهو
ظاهر» انتهى.
وبالجملة فههنا
مطلبان : (أحدهما) ـ الحكم بطهارته واستثنائه من عموم نجاسة القليل بالملاقاة. و (ثانيهما)
ـ انه هل يثبت له حكم الطاهر بجميع موارده ، أم يخص بما دون التناول ورفع الخبث
والحدث؟ واستدلال شيخنا الشهيد الثاني إنما هو
__________________
على الأول دون الثاني ، ويدلك على ذلك إناطتهم الحرج والمشقة بالنجاسة ، مع
ان العفو عندهم هنا ـ كما عرفت ـ ليس المراد به النجاسة مع جواز الاستعمال ، بل
المراد به سلب الطهورية.
نعم ناقش
المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله مرقده) في الاستدلال بهذا الوجه قائلا : «لا
يخفى ان هذا الوجه غير سديد ، لان المقدار الذي اعتبره الشارع من الحرج والعسر غير
منضبط في أذهاننا فكيف يتمسك بهما؟ نعم يمكن التمسك بهما من باب مفهوم الموافقة مع
وجود نص في فرد أخف ، فتأمل» انتهى. وهو متجه.
وما ذكره من
التمسك بهما من باب مفهوم الموافقة متجه باعتبار ورود النص بالعفو عما ينزو من
غسالة الجنب في إنائه ، وما ينزو من الأرض المتنجسة بالبول ، وما يتساقط من غسالته
كما تقدم في المسألة الثانية. إلا ان في العمل بمفهوم الموافقة ما عرفت في المقدمة
الثالثة وان كان المحدث المذكور ممن يعتمد عليه في غير موضع من
تحقيقاته
(الثالث) ـ اعلم
ان ممن رجح القول بالعفو شيخنا الشهيد الأول في الذكرى ، حيث قال : «وفي المعتبر
ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وإنما هو بالعفو ، وتظهر الفائدة في استعماله.
ولعله أقرب ، لتيقن البراءة بغيره» انتهى. ويظهر ذلك من المنتهى ايضا.
واما كلام
المعتبر في هذا الباب فلا يخلو من إجمال بل اضطراب ، ولهذا اختلفت في نقل مذهبه
كلمة من تأخر عنه من الأصحاب ، قال (عطر الله مرقده) : «واما طهارة ماء الاستنجاء
فهو مذهب الشيخين. وقال علم الهدى في المصباح. لا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء
على الثوب والبدن. وكلامه صريح في العفو وليس بصريح في الطهارة. ويدل على الطهارة
ما رواه الأحول عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ثم ساق حسنته المتقدمة وأردفها برواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي المتقدمة
أيضا
__________________
ثم قال : ولأن في التفصي عنه عسرا فشرع العفو دفعا للعسر» انتهى.
وأنت خبير بان
مقتضى قوله : «ويدل على الطهارة. إلخ» بعد نقله القولين أولا هو اختيار الطهارة
التي هي أحد ذينك القولين. وقوله في الدليل الثاني : «ولأن في التفصي عنه عسرا
فشرع العفو. إلخ» ظاهر في اختيار العفو الذي هو القول الآخر ايضا وأيضا ففي حكمه على كلام المرتضى بالصراحة في القول
بالعفو ـ مع حكمه على رواية الأحول بالدلالة على الطهارة ـ نوع تدافع ، فإن
العبارة فيهما واحدة ، إذ نفي البأس ان كان صريحا في العفو ففي الموضعين ، وان كان
في الطهارة فكذلك ، وحينئذ فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر ـ كما فهمه السيد
السند في المدارك وجمع ممن تأخر عنه ـ كما ترى ، وأعجب من ذلك نقل شيخنا الشهيد في
الذكرى ـ كما تقدم في عبارته ـ القول بالعفو عن المعتبر بتلك العبارة. وتبعه على
ذلك المحقق الشيخ علي (رحمهالله) في شرح القواعد وشيخنا الشهيد الثاني في الروض فقال في
شرح
__________________
القواعد : «واعلم ان قول المصنف ـ : فإنه طاهر ـ مقتضاه انه كغيره من
المياه الطاهرة في ثبوت الطهارة له. ونقل في المنتهى على ذلك الإجماع. وقال المحقق
في المعتبر : ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وانما هو بالعفو. وتظهر الفائدة في
استعماله. قال شيخنا في الذكرى : ولعله أقرب ، لتيقن البراءة بغيره» انتهى. وقال في
الروض : «وفي المعتبر هو عفو ، وقربه في الذكرى».
والظاهر ان أصل
السهو من شيخنا الشهيد في الذكرى ، وتبعه من تبعه من غير ملاحظة لكتاب المعتبر وعبارة المعتبر ـ كما مرت بك ـ خالية عما ذكروه. وما
اعتذر به الفاضل الخوانساري في شرح الدروس ـ بعد ان ناقش في دلالة الاخبار على
الطهارة ، من ان مراد الذكرى من ان في المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة ،
انه ليس في الروايات لا في كلام الأصحاب ، وهو كذلك كما قررنا. الى آخر كلامه ـ غير
مستقيم ، إذ تفسير العبارة المذكورة بما ذكره فرع وجودها أو وجود ما يؤدي معناها ،
وليس فليس.
بقي هنا شيء
وهو ان ما ذهب إليه في الذكرى وتبعه عليه جمع من المتأخرين ـ من ان العفو مراد به
سلب الطهورية دون النجاسة مع سلب حكمها ـ مما لا يساعد عليه كلام المعتبر ، فان نقله عن
المرتضى (رضياللهعنه) القول بالعفو ـ ونفيه عنه
__________________
صراحة القول بالطهارة بمجرد نفيه البأس عما ينتضح على الثوب والبدن من ماء
الاستنجاء ـ يؤذن بأن محل النزاع في ملاقاة هذا الماء للثوب والبدن وانه هل ينجس
به وان انتفى البأس عن الصلاة فيه كما هو مذهب المرتضى ، أو يحكم بالطهارة كما هو
القول الآخر؟ ، لا ان مظهر النزاع استعماله ثانيا وان الملاقي للثوب
والبدن منه طاهر إجماعا. وهذا بحمد الله ظاهر غاية الظهور ، وحينئذ فلا استبعاد في
حمل العفو في عبارة المعتبر على المعنى المعهود. نعم يبقى الإشكال في نسبة ذلك
اليه كما عرفت.
وكيف كان
فالتحقيق في المقام ان يقال : ان أكثر الأخبار المتقدمة قد اشتركت في نفي البأس عن
ملاقاته للثوب والبدن ، ونفي البأس وان كان أعم من الطهارة إلا ان تصريح صحيحة عبد
الكريم بعدم التنجيس يقتضي حمل نفي البأس في تلك الأخبار على
الكناية عن الطهارة. وأيضا فإنه من الظاهر البين الظهور انه متى عفي عن ملاقاته
لما هو مذكور في الاخبار ، وقد عرفت انه لا خصوصية لها بذلك ، فيتعدى الحكم الى
غيرها ، وانه لا تتعدى النجاسة من تلك الأشياء الى ما تلاقيه برطوبة من ماء قليل
وغيره ، فإنه يلزم ان يكون طاهرا البتة ، إذ لا معنى للطاهر شرعا إلا ذلك.
قال المحقق
الشيخ علي (رحمهالله) في شرح القواعد ـ على اثر الكلام المتقدم
__________________
نقله ـ ما صورته «قلت : اللازم أحد الأمرين : اما عدم إطلاق العفو عنه أو
القول بطهارته ، لأنه إن جاز مباشرته من كل الوجوه لزم الثاني ، لأنه إذا باشره
بيده ثم باشر به ماء قليلا ولم يمنع من الوضوء به ، كان طاهرا لا محالة ، وإلا وجب
المنع من مباشرة نحو ماء الوضوء به إذا كان قليلا ، فلا يكون العفو مطلقا ، وهو
خلاف ما يظهر من الخبر ومن كلام الأصحاب ، فلعل ما ذكره المصنف أقوى وان كان ذلك
أحوط» انتهى. وهو جيد. وفيه دلالة على ما ذكرنا من ان معنى العفو في هذا المقام
إنما هو عبارة عن النجاسة مع سلب حكمها لا ما ذكره شيخنا الشهيد (رحمهالله).
(الرابع) ـ قد
اشترط الأصحاب في ثبوت ما تقدم من اي الحكمين لهذا الماء شروطا :
(منها) ـ عدم
تغيره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة. ولا بأس به. الا ان بعض فضلاء متأخري
المتأخرين إنما اعتمد في ذلك على كون الحكم به إجماعيا ، قال : «والظاهر ان الحكم
به إجماعي ، وإلا لأمكن المناقشة ، إذ الروايات الدالة على نجاسة المتغير عامة ،
وهذه الروايات خاصة».
و (منها) ـ عدم
ملاقاته لنجاسة أخرى خارجة معه كالدم المصاحب للخارج ونحوه ، أو خارجة عنه كالأرض
النجسة لو وقع عليها. واشتراطه واضح ، لان ظاهر الأخبار الواردة في المسألة نفي
البأس باعتبار إزالة النجاسة المخصوصة لا باعتبار غيرها. ولا يخفى ان ماء
الاستنجاء لا يزيد قوة على المياه الأخر مما لم يستنج به ، فحيث تنجس تلك بمجرد
الملاقاة فهو ينجس ايضا. وما ناقش به بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ بالنسبة إلى
النجاسة المصاحبة للخارج ، مستندا إلى إطلاق اللفظ في تلك الأخبار ـ مردود بجريان
ذلك في النجاسة الغير المصاحبة ، وهو لا يقول به. وما ادعاه ـ من ان الغالب عدم
انفكاك الغائط من شيء آخر من الدم أو الأجزاء الغير المنهضمة من الغذاء أو الدواء
ـ ممنوع بل الغالب خلافه كما لا يخفى ، إذ حصول شيء
مما ذكره إنما يكون لعلة أو مرض ، ومن كان صحيح الطبيعة فلا يحصل له شيء
من ذلك نعم في صحيحة محمد بن النعمان المتقدمة إشعار بدخول نجاسة الجنابة على أحد الاحتمالين
المتقدمين.
و (منها) ـ كون
الخارج غائطا أو بولا ، فلو كان غيرهما لم يلحقه الحكم المذكور ، لعدم صدق
الاستنجاء على ازالة غير ذينك الحدثين. وهو جيد.
و (منها) ـ عدم
انفصال اجزاء من النجاسة متميزة معه ، وإلا كان حكمها حكم النجاسة الخارجة ، فينجس
بها الماء مع مفارقة المحل. وفيه إشكال ، لإطلاق أخبار المسألة ، الا ان الاحتياط
يقتضيه.
و (منها) ـ ان
لا يتفاحش بحيث يخرج عن صدق الاستنجاء عليه. وهو كذلك.
و (منها) ـ ما
نقل عن بعض المتأخرين من سبق الماء اليد ، فلو سبقت اليد تنجست وكان كالنجاسة
الخارجة. ورد بان وصول النجاسة إليها لازم على كل حال.
والظاهر ـ كما
ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم ـ ان نجاسة اليد انما تستثنى من حيث جعلها آلة
للغسل ، فلو اتفق لغرض آخر كان في معنى النجاسة الخارجية.
و (منها) ـ ما
صرح به شيخنا الشهيد في الذكرى من عدم زيادة وزنه ، والمنقول عن العلامة في
النهاية جعل زيادة الوزن في مطلق الغسالة كالتغير. ولا ريب في ضعف الجميع.
وربما استدل
على هذا الشرط هنا بالتعليل المذكور في آخر رواية العلل المتقدمة حيث انه يعطي ان نفي البأس عنه لاكثريته واضمحلال
النجاسة فيه وحينئذ فلو زاد في وزنه لدل على وجود شيء من النجاسة فيه وعدم
اضمحلالها.
__________________
وفيه ان الأقرب
ان غرضه (عليهالسلام) إنما هو بيان اشتراط غلبة المطهر على قياس ما تقدم في
صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في المقالة التاسعة من الفصل الأول ، الواردة في السطح يبال عليه ، فتصيبه السماء ، فيكف
فيصيب الثوب ، فقال (عليهالسلام) : «لا بأس به ، ما اصابه من الماء أكثر منه».
(الخامس) ـ لا
ريب ان ما ادعوه ـ من الإجماع على عدم جواز رفع الحدث بماء الاستنجاء ـ إنما يتم
عند من يعول على هذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم والمتكررة على ألسن أقلامهم ،
وإلا فمقتضى الأخبار المذكورة ـ الدالة على استثنائه من كلية نجاسة القليل
بالملاقاة ـ هو الطهورية مطلقا من حدث كان أو من خبث ، وبذلك ايضا يشعر كلام
المولى المحقق الأردبيلي (نور الله تعالى تربته) في شرح الإرشاد ، حيث قال : «والظاهر
هو بقاء الطهارة والطهورية ، للاستصحاب ، وعدم الخروج بالاستعمال الموجب للنجاسة
بأدلة نجاسة القليل ، للخبر بل الإجماع فيبقى على حاله ، ولأن النجاسة إذا لم
تخرجه عن الطهارة للأدلة فكذا عن الطهورية بالطريق الاولى» انتهى.
(المسألة
الرابعة) ـ في الماء المستعمل في إزالة النجاسة عدا ما تقدم. ولا خلاف في نجاسته
مع التغير في أحد أوصافه الثلاثة. اما مع عدمه فقد اختلف الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في ذلك على أقوال :
(أحدها) ـ النجاسة
مطلقا وان حكمها حكم المحل قبل الغسل ، وحينئذ فيجب غسل ما لاقته العدد المعتبر في
المحل ، اختاره المحقق والعلامة ، بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين.
احتج المحقق في
المعتبر بأنه ماء قليل لاقى النجاسة فيجب ان ينجس.
وما رواه العيص
بن القاسم قال : «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت
__________________
فيه وضوء. قال : ان كان من بول أو قذر فيغسل ما اصابه». وزاد بعضهم في آخر
هذه الرواية «وان كان وضوء الصلاة فلا يضره».
واحتج العلامة
في المختلف برواية عبد الله بن سنان المتقدمة في المسألة الثانية الدالة على ان الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من
الجنابة لا يتوضأ به وأشباهه.
واحتج بعضهم
أيضا بإيجاب تعدد الغسل واهراق ماء الغسلة الأولى بالكلية من الظروف ، ووجوب العصر
فيما يجب فيه العصر ، وعدم تطهير ما لا يخرج منه الماء إلا بالكثير ، والإجماع
المدعى من العلامة في المنتهى ، حيث قال : «ومتى كان على جسد الجنب أو المغتسل من
حيض وشبهه نجاسة ، فالمستعمل ان قل عن الكر نجس إجماعا» فإنه يعطى الإجماع على
نجاسة الغسالة هنا ، ويضم الى ذلك عدم القائل بالفرق بين الاستعمال في الغسل
وغيره.
وأجيب عن هذه
الأدلة ، أما عن الأول فبمنع كلية كبراه ، لأنها عين المتنازع ، فأخذها في الدليل
مصادرة.
وفيه ان الدليل
على كلية الكبرى المذكورة الأخبار الدالة بمفهوم الشرط على نجاسة الماء القليل
بالملاقاة كما تقدم تحقيقه في تلك المسألة. وما شاع في كلام جملة من فضلاء متأخري
المتأخرين ـ من عدم العموم في هذا المفهوم ـ مدفوع بما أسلفنا تحقيقه في المسألة
المذكورة. والعجب من شيخنا الشهيد الثاني وأمثاله من القائلين بنجاسة القليل
بالملاقاة ، حيث احتجوا على ذلك بهذا المفهوم ثم يعترضون هنا بمنع الكلية
المذكورة.
واما عن الثاني
فبضعف السند ، لعدم وجود الخبر المذكور في شيء من كتب الأخبار ، وإنما نقله الشيخ
في الخلاف وجمع ممن تأخر عنه مع كونه مضمرا. ومنع
__________________
الدلالة ، إذ الجملة الخبرية لا ظهور لها في الوجوب.
ويمكن الجواب
عن الأول بأن الظاهر ان الشيخ (رحمهالله) إنما أخذ الرواية المذكورة من كتاب العيص ، فإنه نقل
في الفهرست ان له كتابا ، وطريقه في الفهرست الى الكتاب المذكور حسن على المشهور
بإبراهيم بن هاشم ، وصحيح عندنا وفاقا لجملة من متأخري مشايخنا. وقد صرح أيضا في
كتابي الأخبار بأنه إذا ترك بعض اسناد الحديث يبدأ في أول السند باسم الرجل الذي
أخذ الحديث من كتابه فلعل نقله لها في الخلاف جار على تلك القاعدة. وبالجملة
فرواية الشيخ (رضوان الله عليه) له في كتب الفروع لا تقصر عن روايته في كتب
الأخبار.
واما الإضمار
في أخبارنا فقد حقق غير واحد من أصحابنا انه غير قادح في الاعتماد على الخبر ، فان
الظاهر ان منشأ ذلك هو ان أصحاب الأصول لما كان من عادتهم أن يقول أحدهم في أول
الكلام : «سألت فلانا» ويسمي الإمام الذي روى عنه ، ثم يقول : وسألته أو نحو ذلك ،
حتى تنتهي الأخبار التي رواها. كما يشهد به ملاحظة بعض الأصول الموجودة الآن ككتاب
علي بن جعفر وكتاب قرب الاسناد وغيرهما ، وكان ما رواه عن ذلك الامام (عليهالسلام) أحكاما مختلفة ، فبعضها يتعلق بالطهارة وبعض بالصلاة
وبعض بالنكاح وهكذا ، والمشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) لما بوبوا الاخبار
ورتبوها ، اقتطعوا كل حكم من تلك الأحكام ووضعوه في بابه بصورة ما هو مذكور في
الأصل المنتزع منه ، وقع الاشتباه على الناظر فظن كون المسؤول غير الامام (عليهالسلام) وجعل هذا من جملة ما يطعن به في الاعتماد على الخبر.
واما منع دلالة
الجملة الخبرية على الوجوب ، ففيه انه لا خلاف ولا إشكال في كون الجملة الخبرية في
مثل هذا الموضع إنما أريد بها الإنشاء دون الخبر ، فيكون بمعنى الأمر. والأدلة
الدالة على كون الأمر للوجوب من الآيات والاخبار التي
قدمناها في المقدمة السابعة لا اختصاص لها بلفظ الأمر وان جعلوه في الأصول مطرح
البحث والنزاع ، وحينئذ فيقرب الاعتماد على الرواية المذكورة.
وأجاب المحدث
الأمين الأسترآبادي (قدسسره) عنها ـ حيث انه اختار في الغسالة الطهارة ـ بالحمل على
كون الاستنجاء في الطشت إنما وقع بعد التغوط أو البول فيه ، مدعيا ان ذلك مقتضى
العادة.
وهو بعيد (أما
أولا) ـ فإنه لا تصريح في الخبر بكون ذلك الوضوء ماء استنجاء ، إذ الوضوء بفتح
الواو ـ وهو اسم لما يتوضأ به اي يغسل به ـ كما يطلق في الاخبار على ماء الاستنجاء
، كذلك يطلق على ما يغسل به الوجه واليدان بل سائر الجسد من نجاسة أو بدونها.
و (اما ثانيا)
ـ فلانه لا ملازمة بين التغوط أو البول في الإناء وبين الاستنجاء فيه.
وأجاب عنها في
الذكرى بالحمل على التغير أو الاستحباب. وفيه ان الحمل على خلاف الظاهر فرع وجود
المعارض.
واما عن الثالث
فبضعف السند أولا ، وكونه أعم من المدعى ثانيا. فان المنع من الوضوء أعم من
النجاسة فلا يستلزمها ، بل ربما كان عطف الجنابة يؤذن برفع الطهورية لا الطهارة.
والثاني منهما متجه.
واما عن الرابع
والخامس فبجواز ان يكون تعبدا. وكذا عن السادس وفيه ما فيه.
واما عن كلام
المنتهى فبعد تسليم الاعتماد على هذا الإجماع المتناقل فالظاهر ان كلامه إنما هو
في الاستعمال بطريق الارتماس ، كما يشعر به قوله بعد هذا الكلام : «فإذا ارتمس فيه
ناويا للغسل. إلخ».
__________________
(الثاني) ـ القول
بالنجاسة لكن حكمه حكم المحل قبل الغسلة ، فيجب غسل ما اصابه ماء الغسلة الأولى
مرتين والثانية مرة فيما يجب فيه المرتان ، وهكذا. ونقل هذا القول عن شيخنا الشهيد
ومن تأخر عنه ، واليه مال المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) في شرح
الإرشاد. والوجه في الفرق بين الغسلتين ـ باعتبار التعدد في الأولى دون الثانية
فيما يجب غسله مرتين مثلا ـ هو ان المحل المغسول تضعف نجاسته بعد كل غسلة وان لم
يطهر ، ولهذا يكفيه من العدد بعدها ما لا يكفي قبلها ، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك
، لان نجاسته مسببة عنه ، فلا يزيد حكمه عليه. لان الفرع لا يزيد على الأصل. وهذا
هو المقيد لتلك الأدلة الدالة على النجاسة على الإطلاق. قال والدي (نور الله تعالى
مرقده) بعد نقل هذا الكلام : «أقول : هذا التفصيل بالفرق بين المنفصل من الغسلتين
وان كان لا يفهم من الأخبار ، لكنه قريب من جهة الاعتبار» انتهى. وهو كذلك إلا انه
بمجرده لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي.
(الثالث) ـ القول
بالنجاسة ان كان من الغسلة الاولى والطهارة ان كان من الثانية فيما يغسل مرتين
مثلا ، ومرجعه الى ان حكمه كالمحل بعد الغسلة. وهذا القول منقول عن الشيخ في
الخلاف ، ونقل عنه ايضا تخصيص ذلك بتطهير الثوب. واما المستعمل في تطهير الآنية
فلا ينجس عنده مطلقا سواء كان من الأولى أو من غيرها.
احتج في الخلاف
ـ على ما نقل عنه ـ على الأول بأنه ماء قليل معلوم حصول النجاسة فيه فيجب ان يحكم
بنجاسته. وبرواية العيص المتقدمة .
وعلى الثاني
بأن الماء على أصل الطهارة ، والنجاسة تحتاج الى دليل. وبالروايات المتقدمة في
مسألة الاستنجاء .
وعلى الثالث
بان الحكم بالنجاسة يحتاج الى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه. وبأنه لو حكم
بالنجاسة لما طهر الإناء أبدا ، لأنه كلما غسل فما يبقى فيه من النداوة
__________________
يكون نجسا ، فإذا طرح فيه ماء آخر نجس ايضا ، وذلك يؤدي الى ان لا يطهر
ابدا.
وأورد عليه ان
التوجيه الذي ذكره لنجاسة الغسلة الاولى في غسل الثوب ـ على تقدير تمامه ـ يقتضي
نجاسة الثانية ، لأن المحل لم يطهر بعد ، وإلا لم يحتج إليها ، وإذا كان الحكم
بنجاسته باقيا فالماء الملاقي له ـ والحال هذه ـ ينجس ايضا ، لعين ما ذكره في
الاولى. والرواية التي تمسك بها ليس فيها تقييد بالأولى ، فإن كانت صالحة للاحتجاج
فهي متناولة للصورتين. وما ذكره من التعليل لطهارة غسالة الإناء جار بعينه في
غسالة الثوب كما لا يخفى.
ونقل شيخنا
الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض عن الشيخ في الخلاف انه احتج على طهارة
الغسلة الأخيرة بأن المحل بعدها طاهر مع بقاء مائها فيه ، والماء الواحد لا تختلف
أجزاؤه في الطهارة والنجاسة ، ثم أجاب عنه باختصاص المتصل بالعفو للحرج والضرورة
بخلاف المنفصل. وانه يعارض بماء الاولى ، للقطع ببقاء شيء منه. وبالجملة فكلام
الشيخ (رحمهالله) في هذا المجال لا يخلو من الاشكال ، وتعليلاته لا تخلو
من الاختلال.
والتحقيق ان
يقال : انه لما قام الدليل على طهارة المحل بعد الغسل في ثوب كان أو إناء مع العصر
فيما ورد فيه ، وكان من المعلوم عادة تخلف شيء في المحل المغسول ، فإنه يجب الحكم
بطهارة المحل مع ما تخلف فيه ، فان ثبت الدليل على نجاسة الغسالة وجب الحكم بها ،
ولا ينافيه اتصالها سابقا بذلك الماء المتخلف ، واي بعد في ان يوجب الشارع اجتناب
ما ينفصل من الغسالة عن الثوب والبدن ولا يوجبه في المتخلف والباقي منها؟ فإن
أحكام الشرع تعبدية لا مجال للعقل فيها بوجه.
(الرابع) ـ القول
بالطهارة مطلقا وان حكمها كالمحل بعد الغسل. وهو على طرف النقيض من القول الأول ،
وقواه الشيخ في المبسوط ، وجعل الأحوط في تطهير الثياب النجاسة مطلقا ، والأحوط في
تطهير الأواني النجاسة في الغسلة الاولى. والى القول بالطهارة مطلقا يميل ظاهر
كلام الشهيد في الذكرى ، وربما كان الظاهر
من كلام ابن بابويه في الفقيه اختياره ، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث
الأكبر ورافع الحدث الأكبر طاهر إجماعا ، ونقل عن المحقق الشيخ علي في بعض فوائده
اختياره ، ويعزى الى جماعة من متقدمي الأصحاب اختياره ايضا كما نقله في المعالم. ومقتضى
مذهب السيد المرتضى (رضياللهعنه) الطهارة بشرط ورود الماء على النجاسة ، واقتفاه ابن
إدريس في ذلك ، واليه يميل كلام السيد السند في كتاب المدارك ، والمحدث الأمين
الأسترآبادي في تعليقاته عليه.
ونقل عن
المبسوط الاستدلال عليه بان ما يبقى في الثوب جزء منه ، وهو طاهر إجماعا ، فيكون
المنفصل ايضا كذلك.
وفيه زيادة على
ما سلف ـ ان ما يبقى في الثوب ان أريد به ما هو أعم من الغسلة الأولى فالإجماع على
طهارته ممنوع. وان كان من الأخيرة فلا يثبت به المدعى بتمامه.
ونقل السيد في
المدارك عن جماعة من الأصحاب ان من قال بطهارة الغسالة اعتبر فيها ورود الماء على
النجاسة ، قال : «وهو الذي صرح به المرتضى (رضياللهعنه) في المسائل الناصرية. ولا بأس به ، لأن أقصى ما يستفاد
من الروايات انفعال القليل بورود النجاسة عليه ، فيكون غيره باقيا على حكم الأصل»
انتهى.
أقول : ومن ثم
احتجوا على هذا القول ـ على ما نقله شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض ـ بأنه لو حكم بنجاسة القليل الوارد لم يكن
لوروده اثر ، ومتى لم يكن له أثر لم يشترط الورود ، فيطهر النجس وان ورد على
القليل ، ولانه لو حكم بنجاسته لم يطهر المحل بالغسل العددي. والتالي باطل
بالإجماع. والملازمة واضحة.
وأنت خبير بما
في الحجة الأولى كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في الكلام في المطهرات ، من ان
جملة من علمائنا القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة اشترطوا في التطهير بالقليل
وروده على النجاسة وان نجس بعد حصول التطهير به ، وحينئذ فالأثر المترتب على وروده
حصول التطهير به وان تنجس بعد ذلك.
واما الثانية
فقد تقدم نقل جواب العلامة عن ذلك ـ وما أورد عليه ، وما أجبنا به عن الإيراد
المشار اليه ، وما هو الحق في الجواب عن ذلك ـ في المقام الثاني من الفصل الثالث
في الماء القليل الراكد.
وتنظر والدي (نور
الله تعالى ضريحه) فيما نقله في المدارك من اشتراط القائلين بطهارة الغسالة ورود
الماء على النجاسة دون العكس ، قائلا بعد نقله ذلك عنه : «لا يخفى ما فيه ، لان من
جملة القائلين بطهارة الغسالة من قال بعدم نجاسة القليل مطلقا بالملاقاة ومن
المعلوم انه لا يظهر للشرط وجه عندهم. ومنهم من قال بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا
كالشيخ (قدسسره) وابن إدريس ومن وافقهما من المتأخرين ، فكيف يتم
اشتراط ورود الماء على النجاسة دون عكسه في صحة التطهير بالقليل وطهارة الغسالة؟ بناء
على ان الماء حينئذ لا ينجس بالملاقاة ، مع قولهم بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا
من غير فرق بين الأمرين ، ومن ثم استوجه في الذكرى عدم اعتبار الورود مع ميله إلى
طهارة الغسالة مطلقا ، لانه لو اقتضى ورود النجاسة على الماء نجاسة الغسالة وعدم
صحة التطهير به ، لاقتضى ذلك ايضا ورود الماء على النجاسة ، لأن الامتزاج بالنجاسة
حاصل على كل تقدير. وبهذا يعلم ما في الاستدلال على طهارة الغسالة ايضا ، لابتنائه
على هذا الاشتراط. وبالجملة فهذا الاشتراط ـ وكذا الاستدلال المبني عليه ـ لا يتم
على القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، ولا على القول بطهارته مطلقا. نعم يتجه
على مذهب السيد المرتضى (عطر الله مرقده) حيث حكم بعدم نجاسة القليل في مادة ورود
الماء على النجاسة دون عكسه ، فيتجه هنا اشتراط الورود في صحة التطهير وطهارة
الغسالة ، لأنه مع ورود النجاسة على الماء ينجس ، فلا يفيد المحل عنده طهارة فضلا
عن طهارة غسالته. نعم يبقى الإشكال في الحكم بطهارة الغسالة مع القول بنجاسة
القليل بالملاقاة مطلقا ، لحصول المنافاة بين الأمرين. وربما يجاب عنه حينئذ
باختيار أن الغسالة قد خرجت بالدليل عن قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، كما
خرج ماء الاستنجاء منها.
ولا استبعاد بعد قيام الدليل عليه ، مع ما في النجاسة من العسر والحرج ،
وكون النجاسة والطهارة من التعبديات المحضة ، مع ضعف أدلة النجاسة. وفيه نظر»
انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه. وهو وجيه.
(الخامس) ـ القول
بالنجاسة مطلقا وان كان بعد طهارة المحل ، بمعنى ان ماء كل غسلة كمغسولها قبل
الغسل وان ترامت الغسلات الى غير النهاية ، حكاه الشهيد (رحمهالله) في حاشية الألفية عن بعض الأصحاب ، قال في المدارك بعد
حكاية القول المذكور : «وربما نسب الى المصنف والعلامة ، وهو خطأ ، فإن المسألة في
كلامهما مفروضة فيما تزال به النجاسة ، وهو لا يصدق على الماء المنفصل بعد الحكم
بالطهارة» انتهى.
أقول : نقل
الشيخ مفلح الصيمري في شرح كتاب موجز الشيخ ابن فهد عن مصنفه انه نقل هذا القول في
كتاب المهذب والمقتصر عن المحقق والعلامة وابنه فخر المحققين ، ثم نسبه في ذلك الى
الغلط الفاحش والسهو الواضح وأطال في بيان ذلك ونقل شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض ـ بعد نقله القول المذكور ـ ان قائله احتج
بأنه ماء قليل لاقى نجاسة ، قال : «وبيانه ان طهارة المحل بالقليل على خلاف الأصل
المقرر من نجاسة القليل بالملاقاة. فيقتصر فيه على موضع الحاجة ، وهو المحل دون
الماء» ثم رده بحكم الشارع بالطهارة عند تمام الغسلات ، فلا اعتبار بما حصل بعد
ذلك ، وبلزوم الحرج المنفي. وناقش بعض أفاضل متأخري المتأخرين في كلام شيخنا
الشهيد الثاني هنا بما لا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج في المقام عليه. وكيف كان
فهذا القول بمحل سحيق عن جادة التحقيق فهو بالإعراض عنه حقيق.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انا لم نعثر في الأخبار على ما يقتضي الحكم في الغسالة إلا على رواية العيص
ورواية عبد الله بن سنان السالفتين والاولى منهما ظاهرة
__________________
في النجاسة وان أجيب عنها بما تقدم ، إلا انك قد عرفت ما فيه. واما الثانية
فهي مجملة في ذلك ، إذ غاية ما يستفاد منها المنع من الوضوء به ، وهو أعم من
النجاسة كما عرفت آنفا.
نعم ربما
يستفاد ـ من جملة من الأخبار المتفرقة في أحكام متعددة ـ الطهارة ، إلا انه ايضا
ربما يستفاد من جملة أخرى النجاسة.
فما يستفاد من
ظاهره الطهارة ـ الأخبار الدالة على نفي البأس عما ينتضح من غسالة الجنب في إنائه
حال الغسل بناء على ما قدمنا بيانه من ان الغالب في المغتسل من
الجنابة بقاء النجاسة إلى آن الغسل ، كما تشعر به الاخبار الواردة في صفة غسل
الجنابة .
ومنه ـ صحيحة
هشام بن سالم الواردة في السطح يبال عليه فتصيبه السماء فكيف فيصيب
الثوب ، قال : «لا بأس به ، ما اصابه من الماء أكثر منه».
وجه الدلالة
التعليل المستفاد منها مع ضم تنقيح المناط اليه. وقريب منها ظاهر التعليل المتقدم
في رواية العلل المتقدمة في المسألة الثالثة كما أشرنا إليه ثمة.
ومنه ـ الاخبار
الدالة على الأمر بالرش أو النضح فيما يظن فيه النجاسة من ثوب أو أرض أو نحوهما
وهي كثيرة ، ومنها ـ
صحيحة عبد الله
بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت
المجوس. فقال : رش وصل».
وجه الدلالة
انه لو تنجس الماء الوارد بالملاقاة لكان الرش سببا لزيادة المحذور.
ومنه ـ صحيحة
إبراهيم بن عبد الحميد قال : «سألت أبا الحسن (عليه
__________________
السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ الى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه
من الحشو. قال : اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر ، فان أصبت مس شيء منه فاغسله
وإلا فانضحه». والتقريب ما تقدم.
ومما يؤيد ذلك
إطلاق الاخبار الواردة بتطهير البدن من البول من غير تقييد بالأعضاء السافلة.
كصحيحة الحسين
بن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول يصيب الجسد. قال : صب عليه الماء مرتين ،
فإنما هو ماء».
ومما يؤيده
ايضا نفي البأس عما ينزو من الأرض النجسة في إناء المغتسل كما في رواية عمر بن
يزيد وعد التجنب عن ذلك من الحرج كما في رواية الفضيل فإنه يدل بمفهوم الموافقة على ان ما يترشح من الغسالة
حال الغسل لا بأس به وان اجتنابه حرج ايضا.
وأنت خبير بان
المستفاد من هذه الأدلة مع ضم رواية عبد الله بن سنان هو الطهارة مع عدم الطهورية من الحدث. واما الطهورية من
الخبث فيبقى على حكم الأصل ، إذ لا مخرج له من الأدلة.
والى هذا القول
مال المحدث الأمين (قدسسره) حيث قال بعد الكلام في المسألة : «ملاحظة الروايات
الواردة في أبواب متفرقة تفيد ظاهرا طهارة غسالة الأخباث وسلب طهوريتها بمعنى رفع
الحدث ، ولم أقف على دلالة على سلب طهوريتها بمعنى إزالة الخبث ، والأصل المستصحب
بمعنى الحالة السابقة ـ وأصالة الطهورية بمعنى القاعدة الكلية ، والبراءة الأصلية
بمعنى الحالة الراجحة ، والعمومات ـ تقتضي
__________________
إجراء حكم الطهورية بهذا المعنى الى ظهور مخرج. والله اعلم».
ومما يستفاد
منه النجاسة ما تقدم في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة من الأخبار الدالة على
اهراق ماء الركوة والتور ونحوهما متى وقع فيها إصبع أو يد فيها قذر ، فإن إطلاق
تلك الاخبار شامل لما لو كان بقصد الغسل أم لا بل ولو لم يكن بقصد الغسل ، فإنه
يجب الحكم بالطهارة متى زالت العين ولم يتغير الماء بمجرد ذلك الوضع أو لم يكن ثمة
عين ، إذ لا يشترط في إزالة الخبث وتطهير النجاسة القصد الى ذلك كما لا يخفى. نعم
هذا انما يتمشى على تقدير القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، واما من خص ذلك
بورود النجاسة على الماء دون العكس ـ كالسيد المرتضى والمحدث الأمين وغيرهما ممن
اختار هذه المقالة ، كما أسلفنا نقله في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء
القليل الراكد ـ فلا يتجه ذلك عنده ، لانه يحكم بنجاسة الماء بمجرد ملاقاته
النجاسة ، ولا يفيدها تطهيرا عنده فضلا عن ان يكون طاهرا بعد الانفصال عنها. وقد
تقدم البحث معهم في اعتبار الورود وعدمه في المقام المشار اليه وحصول الإشكال في
ذلك ، ومنه ينقدح الاشكال هنا ايضا.
ومما يدل
بظاهره ايضا على نجاسة الغسالة ما تقدم ذكره في أدلة القول بالنجاسة من إيجاب تعدد
الغسل فيما ورد فيه ذلك ، وإهراق الغسلة الاولى من الظروف ، ووجوب العصر فيما ورد
فيه ، وعدم تطهير ما لا يخرج منه الماء إلا بالكثير ، فإنه لا وجه لهذه الأشياء
على تقدير القول بطهارة الغسالة. وما أجيب به عن ذلك ـ من كون ذلك تعبدا ـ بعيد
جدا.
ومنه ـ رواية
العيص المتقدمة وما أجيب به عنها مما قدمنا نقله قد عرفت ما فيه.
وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف والاحتياط فيها لازم. والله العالم.
__________________
تنبيهات
(الأول) ـ اعلم
ان ما ذكره جملة من المتأخرين ومتأخريهم بالنسبة إلى القول بالنجاسة مطلقا وهو
القول الأول من الأقوال التي قدمنا ذكرها ـ من ان حكم الغسالة كالمحل قبل الغسل
فيعتبر التعدد فيما تلاقيه متى كان معتبرا في المحل ـ لم أجد له أثرا في كلام
القائلين بهذا القول كالمحقق والعلامة ، بل يحتمل ان يكون مرادهم انه في حكم المحل
قبل الغسلة ، إذ غاية ما يدل عليه كلامهم هو النجاسة ، واما انه يجب فيما يلاقيه
العدد المعتبر في المحل فلا ، بل ظاهر كلام شيخنا الشهيد في الذكرى ان القول
المنسوب اليه وهو القول الثاني من الأقوال المتقدمة هو بعينه القول الأول ، وان
القول بالنجاسة مطلقا عبارة عن كون حكم الغسالة حكم المحل قبل الغسلة ، فإنه نقل
أولا القول بالطهارة عن المبسوط ، ثم نقل مذهب الشيخ في الخلاف ، ثم نقل مذهب
المحقق والعلامة وهو القول بالنجاسة مطلقا ونقل أدلته وطعن فيها. ثم قال : «ولم
يبق دليل سوى الاحتياط ولا ريب فيه. فعلى هذا ماء الغسلة كمغسولها قبلها وعلى
الأول كمغسولها بعدها أو كمغسولها بعد الغسل» انتهى. ومثله كلام المحقق الشيخ علي (قدسسره) في شرح القواعد. وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) وغيره ـ من المغايرة بين القولين ـ كما ترى. والجواب ـ
بأنه لا منافاة لجواز اختيار الشيخين المشار إليهما كون الحكم في الغسالة على
تقدير النجاسة انها كالمحل قبل الغسلة ، واختيار أولئك على هذا التقدير كونها في
حكم المحل قبل الغسل ـ
فيه (أولا) ـ ان
ذلك فرع تصريح القائلين بالنجاسة مطلقا بكونها كالمحل قبل الغسل.
و (ثانيا) ـ ان
التفريع في عبارة الذكرى إنما جرى على مقتضى الأقوال المتقدمة ، فإن قوله : «فعلى
هذا» اي فعلى القول بالنجاسة ، وهو المنقول عن
المحقق والعلامة ، وقوله : «وعلى الأول. إلخ» إشارة إلى مذهبي المبسوط
والخلاف وان كان على سبيل اللف والنشر المشوش ، وعلى تقدير ما ذكر في الجواب يلزم
عدم التفريع على مذهب المحقق ولعلامة.
(الثاني) ـ الظاهر
ـ على تقدير القول بنجاسة الغسالة ـ الاكتفاء في تطهير ما لاقته بالمرة الواحدة ،
وفاقا للمحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ، ونقله أيضا في الكتاب المذكور عن بعض
مشايخه المعاصرين.
لنا ـ أصالة
البراءة من التكليف به ، إذ مورد التعدد في الأخبار نجاسات مخصوصة ، وهذا ليس منها
، فلا مقتضي للتعدد فيه سواء كان من الغسلة الأولى أو غيرها. وما ذكره الأصحاب من
الأقوال المتقدمة في ذلك لم نقف له على دليل معتمد.
(الثالث) ـ ادعى
المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى الإجماع على ان ما تزال به النجاسة مطلقا
لا يجوز رفع الحدث به. واحتجا لذلك ـ مع الإجماع ـ برواية عبد الله بن سنان
المتقدمة الدالة على ان ما يغسل به الثوب لا يجوز ان يتوضأ به.
ويرد على الأول ما سيأتي من ظاهر عبارتي الدروس والذكرى ، مضافا الى ما عرفت في
المقدمة الثالثة من المجازفة في دعوى الإجماعات في كلامهم (رضوان الله
عليهم) وقد تقدم في المسألة الثالثة من النقل عن المولى الأردبيلي ما يوهن هذه الدعوى ايضا
وعلى الثاني ان الرواية أخص من المدعى ، إلا ان يضم الى ذلك تنقيح المناط.
(الرابع) ـ قال
شيخنا الشهيد في الدروس : «وفي إزالة النجاسة نجس ان تغير بالإجماع ، وإلا فنجس في
الأولى على قول ، ومطلقا على قول ، وكرافع الأكبر على قول ، وطاهر إذا ورد على
النجاسة على قول. والاولى ان ماء الغسلة كمغسولها قبلها» انتهى.
__________________
ولا ريب ان
القول الأول هو ما ذهب اليه الشيخ في الخلاف. واما القول الثاني فالظاهر انه هو
المنقول عن المحقق والعلامة ، وهو أول الأقوال التي قدمناها. وربما ظهر من كلام
المحقق الشيخ علي في فوائد التحرير ان ذلك إشارة إلى القول الخامس الذي قدمناه.
وهو بعيد. واما القول الثالث فنقله في الذكرى عن ابن حمزة والبصروي ، حيث قال : «وابن
حمزة والبصروي سويا بين رافع الأكبر ومزيل النجاسة» انتهى. والظاهر أنهما قائلان
مع طهارته برفعه الحدث حينئذ ، ويكون هذا هو الفرق بين هذا القول وبين ما بعده بلا
فصل. ويحتمل ان يكون وجه الفرق باعتبار ورود الماء في الثاني دون هذا القول.
وشيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ مع استقصائه نقل الأقوال في هذه المسألة ـ لم
ينقل هذا القول معها ، مع ان صريح العبارة المذكورة ـ وظاهر عبارة الذكرى ـ انه
قول آخر في المسألة. ونسب هذا القول المحقق الشيخ علي (رحمهالله) في شرح القواعد إلى الأشهر بين المتقدمين ، ثم نقل
بعده قول المرتضى وابن إدريس ، مع ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال : «والعجب خلو
أكثر كلام المتقدمين عن الحكم في الغسالة مع عموم البلوى بها» انتهى.
بقي الكلام في
قوله : «والاولى ان ماء الغسلة كمغسولها قبلها» هل هو قول آخر خارج عن الأقوال
المتقدمة أم لا؟ الذي يظهر لي من كلام الذكرى ـ كما قدمنا بيانه ـ ان هذا إشارة
إلى اختيار القول المتقدم بالنجاسة لكن لا على سبيل الجزم ، ونسبته إلى الأولوية
هنا مثل نسبته الى الاحتياط في عبارة الذكرى ، وقد عرفت ان مقتضى كلام شيخنا
الشهيد الثاني عد ذلك قولا مغايرا.
(الخامس) ـ قال
السيد السند في المدارك : «اختلف القائلون بعدم نجاسة الغسالة في ان ذلك هل هو على
سبيل العفو بمعنى الطهارة دون الطهورية ، أو تكون باقية على ما كانت عليه من
الطهورية ، أو يكون حكمها حكم رافع الحدث الأكبر؟
فقال بكل قائل» وقال في المعتبر : «ان ما تزال به النجاسة لا يرفع به الحدث
إجماعا» انتهى.
وأنت خبير بان
مقتضى القول الأول من هذه الأقوال التي نقلها هو الطهارة خاصة دون الطهورية من حدث
كان أو من خبث حسبما تقدم في معنى العفو عندهم في ماء الاستنجاء ، ومقتضى القول
الثاني هو الطهورية من الخبث والحدث ، كما يشعر به التعبير ببقائه على ما كان عليه
من الطهورية ، وحينئذ فلا معنى للقول الثالث وجعله ثالثا إلا باعتبار الطهارة
والطهورية من الخبث خاصة دون الحدث لتتم مقابلته بالقولين الآخرين. وفي فهم هذا
المعنى من التشبيه نوع اشكال ، اللهم إلا ان يعلم ان مذهب القائل بهذا القول كون
رافع الحدث مطهرا من الخبث دون الحدث كما هو مذهب الشيخين. وقد عرفت ان هذا القول
منسوب الى ابن حمزة والبصروي ، الا انه لم ينقل مذهبهما في تلك المسألة. والذي
يقرب الى الفهم ـ وبه صرح ايضا المحقق الشيخ حسن في المعالم وغيره في غيره ـ ان
المراد من التشبيه هو كونه طاهرا مطهرا من الحدث والخبث كما هو المشهور ، إلا انه
لا يخلو ايضا من شيء. وبالجملة فإن فهم المراد من هذه العبارة يتوقف على معرفة
مذهب هذا القائل في مسألة غسالة الحدث الأكبر ليمكن تمشية التشبيه. ويحتمل ان يكون
مراد القائل المذكور بالتشبيه لحوق حكم الغسالة من سائر الأخباث لغسالة الحدث
الأكبر وترتبها عليها ، فان قيل بالرفع من الحدث في تلك قيل به في هذه وإلا فلا.
والظاهر بعده.
(السادس) ـ قال
في المدارك ايضا ـ بعد نقل اشتراط القائلين بطهارة الغسالة ورود الماء على النجاسة
دون العكس ـ ما صورته : «وربما ظهر من كلام الشهيد (رحمهالله) في الذكرى عدم اعتبار ذلك ، فإنه مال الى الطهارة
مطلقا واستوجه عدم اعتبار الورود في التطهير. وهو مشكل ، لنجاسة الماء بورود
النجاسة عليه عنده ، اللهم إلا ان يقول : ان الروايات إنما تضمنت المنع من استعمال
القليل بعد ورود النجاسة
عليه ، وذلك لا ينافي الحكم بطهارة المحل المغسول فيه ، لصدق الغسل مع
الورود وعدمه» انتهى.
وفيه (أولا) ـ ان
ظاهر الشهيد (رحمهالله) ايضا القول بنجاسة القليل مع ورود الماء على النجاسة ،
لتصريحه بان الامتزاج بالنجاسة حاصل على التقديرين ، والورود لا يخرجه عن كونه
ملاقيا للنجاسة ، وحينئذ فلا وجه لاختصاص الإشكال بمادة ورود النجاسة على القليل
دون عكسه.
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكره في الاعتذار عنه ـ من ان الروايات إنما تضمنت المنع من استعمال الماء بعد
ورود النجاسة عليه ، وهو لا ينافي طهارة المحل المغسول ، لصدق الغسل في حال الورود
وعدمه ـ لا يكاد يحسم مادة الإشكال ، بل ربما يزيد في الاختلال ، إذ غاية ما يعطيه
هو صحة التطهير به مع نجاسة الغسالة ، فلا يدفع الإشكال بالنسبة إلى حكمه بطهارة
الغسالة بل يؤكده. نعم لو كان المعلوم من مذهبه القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة
مع ورود الماء على النجاسة ، والقول بالتطهير دون الطهارة مع ورود النجاسة على
الماء ، لاتجه ما ذكره. الا ان الظاهر من مذهبه هو الميل إلى طهارة الغسالة مطلقا
من غير اعتبار الورود كما نقله عنه فيما تقدم من عبارته ، وحينئذ فالظاهر ان وجه
الاشكال هو ما سبق التنبيه عليه في مسألة نجاسة القليل بالملاقاة من ان القول
بنجاسة القليل بالملاقاة يقتضي عدم صحة التطهير به فضلا عن طهارة الغسالة ، فكيف
يتم مع ذلك القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة؟ والجواب عنه ما عرفته في آخر
الكلام المتقدم نقله عن الوالد (قدسسره) من خروج غسالة النجاسة من كلية نجاسة القليل بالملاقاة
بالدليل كما خرج ماء الاستنجاء. إلا ان فيه ما عرفته آنفا من الاشكال وعدم وضوح
الدليل في هذا المجال.
(السابع) ـ هل
الباقي في المحل بعد العصر فيما يجب فيه ذلك ـ أو الإراقة
في الأواني ونحوها ـ طاهر مطلقا ، أو نجس مطلقا ، أو معفو عنه ، أو طاهر ما
دام في المحل ونجس بعد الانفصال؟ أقوال :
ظاهر المشهور
الأول ، وهو الظاهر من الأدلة كما قدمنا ذكره.
ومقتضى القول
الخامس هو الثاني. وقد عرفت ما فيه.
ونقل عن ظاهر
المحقق في المعتبر الثالث. وفيه إشكال ، فإن عبارته في هذا المقام لا تخلو من
الإبهام ، وذلك فإنه ـ بعد ان اختار النجاسة في غسالة إناء الولوغ ونقل عن الشيخ
الحكم بالطهارة ، واحتجاجه بأنه لو كان المنفصل نجسا لما طهر الإناء ، لأنه كان
يلزم نجاسة البلة الباقية بعد المنفصل ثم ينجس الماء الثاني بنجاسة البلة وكذا ما
بعده ـ قال : «والجواب ان ثبوت الطهارة بعد الثانية ثابت بالإجماع فلا يقدح ما
ذكره ، ولانه معفو عنه دفعا للحرج» انتهى. ولا ريب ان حكمه بالطهارة التي ادعى
عليها الإجماع مناف للعفو الذي هو عبارة عن النجاسة وان سلب حكمها. ولا مجال لحمل
العفو هنا على المعنى الذي ذكروه في الاستنجاء ، إذ الكلام في تأثر الملاقي لهذه
البلة بالنجاسة وعدمه ، لا في رفع الحدث والخبث ونحوهما وعدمه.
والذي يظهر لي
ان مراده بالعفو هنا ليس هو المعنى المصطلح بل التنبيه على بيان ان الحكم بالطهارة
إنما هو من قبيل الرخص الواردة في الشريعة ، إذ مقتضى كلية نجاسة الماء القليل
بالملاقاة هو النجاسة ، لكنه لما كان اللازم من النجاسة هنا الحرج عفى الشارع عن
النجاسة وحكم بالطهارة دفعا للعسر والحرج ، ولا يبعد ايضا حمل عبارته المتقدمة في
الاستنجاء على ذلك ، وبه يرتفع التناقض الذي أوردناه عليها ثمة. وبالجملة فالظاهر
عندي من عبارته هنا هو الحكم بطهارة البلة الباقية وان كانت العلة هو العفو ، وإلا
لتناقض طرفا كلاميه. نعم ذكر المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) العفو في
هذا المقام احتمالا ، حيث قال : «وإذا خرج منه ما يمكن الإخراج عادة بقي المحل مع
ما فيه طاهرا أو عفوا ، للضرورة والحرج والسهلة» انتهى.
وبالقول الرابع
صرح العلامة في القواعد ، والظاهر انه مبني على ما اختاره من عدم نجاسة القليل
الذي تزال به النجاسة إلا بعد الانفصال عن المحل ، قال في الكتاب المذكور : «والمتخلف
في الثوب بعد عصره طاهر ، فان انفصل فهو نجس» انتهى. فعنده انه إذا عصر الثوب من
الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته قطعا ، والمتخلف فيه على حكم الطهارة ، فلو
بالغ أحد في عصره فانفصل منه شيء كان نجسا ، لأن أثر ملاقاته للمحل النجس عنده إنما
يظهر بعد الانفصال. ولعل هذا منشأ وهم من نقل عنه القول بالنجاسة وان حكم بطهر
المحل كما تقدم في القول الخامس ، قال المحقق الشيخ علي (قدسسره) في شرح الكتاب : «والظاهر ان هذا الحكم عنده مختص
بالغسل المقتضي لحصول الطهارة ، فلو غسل زيادة على الموظف كان ماء الغسل الزائد
طاهرا ، لعدم ملاقاته للمحل في حال نجاسته ، مع إمكان أن يقول بنجاسته ايضا ،
لانفصال شيء من الماء المتخلف في المحل معه والتنجيس فيه بعد انفصاله. وهو بعيد ،
مع ان الأصل العدم» انتهى. وكيف كان فالقول المذكور وما يبتني عليه بمحل من البعد
عن ساحة الاخبار المعصومية.
(الثامن) ـ قال
العلامة في المنتهى : «إذا غسل الثوب من البول في إجانة بأن يصب عليه الماء ، فسد
الماء وخرج من الثانية طاهرا ، اتحدت الآنية أو تعددت».
ثم احتج على
ذلك بوجهين : (أحدهما) ـ انه قد حصل الامتثال بغسله مرتين فيكون طاهرا.
و (ثانيهما) ـ صحيحة
محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب يصيبه البول. قال : اغسله في المركن مرتين ،
فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة».
وأورد عليه
بأنه يشكل حكمه بطهارة الثوب مع نجاسة الماء المجتمع تحته في الإجانة
__________________
سيما على مذهبه المتقدم من عدم نجاسة الغسالة إلا بعد الانفصال عن المحل
المغسول ، ومن المعلوم ان الماء هنا بعد انفصاله عن الثوب المغسول يلاقيه في
الإناء ، واللازم مما ذكر تنجسه به.
وقد يتكلف في
دفع الإيراد المذكور بان المراد من الانفصال خروج الغسالة عن الثوب أو الإناء
المغسول فيه ، تنزيلا للاتصال الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول
، للحديث المذكور.
قيل : ولا يخفى
ان هذا التكلف إنما يحسن ارتكابه مع قيام الدليل الواضح على نجاسة الغسالة ، وإلا
فظاهر الرواية يدل على طهارة الغسالة.
وفيه (أولا) ـ ان
هذا التكلف إنما ارتكب لدفع المنافاة بين كلامي العلامة (قدسسره) من حكمه بنجاسة الغسالة بعد الانفصال وحكمه بطهارة
الثوب في الصورة المفروضة ، فنزل الإناء في الصورة المفروضة منزلة الثوب لتندفع به
المنافاة بين كلاميه واما الكلام في نجاسة الغسالة وطهارتها فهو بحث آخر.
و (ثانيا) ـ ان
دعوى دلالة الرواية على طهارة الغسالة مع تضمنها وجوب التعدد في الغسل محل اشكال
كما عرفت ، إلا ان يدعى حمل التعدد على محض التعبد وفيه ما تقدم. على انه ربما
يقال : ان أصل الإشكال مما لا ورود له في هذا المجال وان ذكره بعض علمائنا الأبدال
، وذلك فان الثوب بعد وضعه في الإجانة وصب الماء عليه حتى يغمره ويأتي عليه ، فان
الماء يدخل في جميع اجزائه وان انفصل بأسفل الإجانة. ولكن مثل هذا لا يعد انفصالا
عرفا ، بل الانفصال في مثل هذا إنما يصدق بعد رفع الثوب من الإجانة وخروج الماء
بنفسه أو بالعصر.
(التاسع) ـ قد
عرفت ان محل الخلاف في الغسالة ـ طهارة ونجاسة ـ إنما هو مع عدم التغير ، والا فلو
تغيرت بالاستعمال تنجست إجماعا ، والمشهور ان التغير المعتبر هنا هو التغير في أحد
الأوصاف الثلاثة خاصة كما تقدم. ونقل عن العلامة في النهاية
انه استقرب اجراء زيادة الوزن مجرى التغير ، فلو غسلت النجاسة بماء فزاد
وزنه بعد الغسل كان حكمه كالمتغير. وهو ـ مع عدم الوقوف له على دليل ـ عديم الرفيق
في ذلك السبيل.
(المسألة
الخامسة) ـ في غسالة الحمام ، وقد اختلف كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكمها
، فقال الصدوق عطر الله مرقده : «ولا يجوز التطهير بغسالة الحمام ، لانه تجتمع فيه
غسالة اليهودي والمجوسي والنصراني والمبغض لآل محمد (صلىاللهعليهوآله) وهو شرهم» وقريب منه كلام أبيه في رسالته اليه وقال
الشيخ في النهاية : «غسالة الحمام لا يجوز استعمالها على حال» وجرى عليه ابن إدريس
، فقال : «غسالة الحمام لا يجوز استعمالها على حال ، وهذا إجماع ، وقد وردت به عن
الأئمة (عليهمالسلام) آثار معتمدة قد أجمع الأصحاب عليها لا أحد خالف فيها»
وقال المحقق في المعتبر : «ولا يغتسل بغسالة الحمام إلا ان يعلم خلوها من النجاسة»
ونحوه قال العلامة في القواعد.
وظاهر ما عدا
عبارتي النهاية وابن إدريس هو الطهارة ، إذ مقتضاها عدم جواز الاستعمال ، وهو أعم
من النجاسة. ويؤيده نقل الصدوق الرواية الدالة على نفي البأس عن ملاقاتها الثوب وربما حمل كلام النهاية على ما تقضي به العادة من عدم
انفكاك غسالة الحمام عن ملاقاة النجاسة ، كما اعتذر به المحقق عنه في نكت النهاية
،. إذ لم نقف له على حجة في تعميم المنع من استعمالها.
وبالطهارة صرح
العلامة في المنتهى. فقال بعد نقل بعض الأقوال المتقدمة : «والأقوى عندي انه على
أصل الطهارة» ثم استدل بمرسلة الواسطي الآتية. وبالنجاسة صرح في الإرشاد فقال : «غسالة
الحمام نجسة ما لم يعلم خلوها من النجاسة»
__________________
وفي التحرير عبر بعدم جواز الاستعمال كما هو عبارة النهاية.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة روايات.
(منها) ـ رواية
حمزة بن احمد عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : «سألته أو سأله غيري عن الحمام. قال : ادخله
بمئزر ، وغض بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام ، فإنه يسيل
فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
و (منها) ـ رواية
ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام
، فان فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء. وفيها غسالة الناصب ،
وهو شرهما».
و (منها) ـ رواية
علي بن الحكم عن رجل عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام ، فإنه يغتسل فيه
من الزنا ، ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
و (منها) ـ رواية
أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن ابي الحسن الماضي (عليهالسلام) قال : «سئل عن مجتمع الماء في الحمام من غسالة الناس
يصيب الثوب. قال : لا بأس».
و (منها) ـ ما
رواه الصدوق (قدسسره) في كتاب العلل في الموثق عن عبد الله بن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) في حديث قال : «وإياك
__________________
ان تغتسل من غسالة الحمام ، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي
والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
وأنت خبير بان
الظاهر ان مطرح النزاع في هذه المسألة إنما هو حال الشك في عروض شيء من النجاسات
، وإلا فمع العلم بملاقاة شيء منها فلا خلاف في الحكم بالنجاسة ممن قال بنجاسة
القليل بالملاقاة ، ومع العلم بالخلو عنها فالظاهر انه لا إشكال في الحكم بالطهارة
، ولا خلاف في ذلك إلا ما يظهر من عبارة الصدوق ، إلا ان الظاهر صرفها الى ما ذكره
المحقق من التفصيل ، حيث استثنى من المنع من الغسل بالغسالة صورة العلم بخلوها من
النجاسة ، وكذا ظاهر عبارتي النهاية وابن إدريس ، إلا انه لا يبعد صرفهما الى ما
ذكرنا آنفا.
وقال المحقق في
المعتبر ـ بعد نقل ما تقدم من كلام ابن إدريس وان عبر عنه ببعض المتأخرين إلا انه
هو المراد على التعيين ـ ما صورته : «وهو خلاف الرواية ، وخلاف ما ذكره ابن بابويه
، ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية ورواية مرسلة ذكرها الكليني ، قال
: بعض أصحابنا عن ابن جمهور ، وهذه مرسلة وابن جمهور ضعيف جدا ، ذكر ذلك النجاشي
في كتاب الرجال ، فأين الإجماع واين الأخبار المعتمدة؟ ونحن نطالبه بما ادعاه
وأفرط في دعواه» انتهى. وأشار بقوله : وهو خلاف الرواية. إلى رواية الواسطي ، حيث
قدمها أولا ، وبالرواية التي رواها الكليني إلى رواية ابن ابي يعفور.
ثم انه مع الشك
في ملاقاة النجاسة الذي هو محل النزاع كما ذكرنا ، فهل يحكم بالطهارة أو النجاسة
أو المنع من الاستعمال خاصة؟ الأول صريح العلامة في المنتهى كما عرفت ، واليه مال
جملة من المتأخرين ومتأخريهم ، منهم : المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، حيث قال
: «والذي يقتضيه النظر انه مع الشك في النجاسة تكون على حكمها الثابت لها قبل
الاستعمال وان كان اجتنابها أحوط» والى ذلك مال المحقق الشيخ حسن
في المعالم ، وقبله والده في الروض وغيرهم. والثاني صريح العلامة في
الإرشاد ، وربما تبعه فيه بعض من تأخر عنه ، قال في المعالم : «وربما قيل انه حجته
النهي عن استعمالها وسقوطها ظاهر» انتهى. والثالث ظاهر الصدوقين والمحقق. إلا انهم
خصوا المنع بالغسل ، والذي فهمه من تأخر عنهم من كلامهم هو الحكم بالطهارة وان
امتنع الغسل بها.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه لقائل أن يقول : ان جل الأخبار المتقدمة قد دلت على المنع من الغسل ،
والظاهر انه لا خصوصية لذكر الغسل إلا من حيث ان الحمام غالبا إنما اتخذ لذلك ،
والأحكام في الاخبار ـ كما نبهنا عليه غير مرة ـ إنما تخرج بناء على الافراد
المتكررة الغالبة ، وحينئذ فلا فرق في المنع من الاستعمال بين الغسل وغيره ومما
يوضح ذلك ان الحكم بالنجاسة في أكثر المواضع إنما استفيد من نهي الشارع عن استعمال
ما لاقته أو الأمر بغسله أو نحو ذلك ، حتى انه لو ورد شيء بلفظ النجاسة في مقام
النزاع لسارعوا إلى تأويله بالحمل على المعنى اللغوي ، ويؤيد ذلك ما ذكره السيد
السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد الاستدلال على نجاسة البول من غير المأكول بحسنة
عبد الله بن سنان المتضمنة للأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه وكلام في البين ـ ما صورته : «ولا معنى للنجس شرعا إلا
ما وجب غسل الملاقي له ، بل سائر الأعيان النجسة إنما استفيد نجاستها من أمر
الشارع بغسل الثوب أو البدن من ملاقاتها» انتهى. والأمر فيما نحن فيه كذلك.
فان قيل : ان
القاعدة الكلية الدالة على طهارة ما لا يعلم ملاقاته النجاسة ترد ما ذكرتم.
قلنا : ما
ذكرنا من الاخبار بالتقريب المذكور خاص ، وهو مقدم على العام كما تقرر بين العلماء
الأعلام.
__________________
إلا انه يبقى
الكلام في مرسلة الواسطي ، حيث دلت على نفي البأس عن ملاقاته للثوب ، ولا ريب ان
الترجيح لما عارضها بالكثرة.
نعم استدل
المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) في شرح الإرشاد على الطهارة بصحيحة محمد
بن مسلم قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الحمام يغتسل فيه الجنب وغيره ، أغتسل من مائه؟ قال
: نعم لا بأس ان يغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فيه ثم جئت فغسلت رجلي ، وما
غسلتهما إلا مما لزق بهما من التراب». ومثلها صحيحته الأخرى وموثقة زرارة قال : «رأيت أبا جعفر (عليهالسلام) يخرج من الحمام فيمضي كما هو لا يغسل رجليه حتى يصلي».
وفيه ان مورد
الروايات في هذه المسألة هو البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام ، وإلحاق المياه
المنحدرة في سطح الحمام بها مما لا دليل عليه ، سيما مع ورود هذه الروايات دالة
على الطهارة ، وحينئذ فمحل الخلاف في المسألة مختص بالبئر خاصة ، فالاستدلال بهذه
الاخبار هنا مما لا وجه له. إلا ان الأقرب الى النظر هو ما ذكره المحقق المشار
إليه ، فإن الظاهر ان وصول الماء إلى البئر المشار إليها إنما يكون بعد المرور في
سطح الحمام ، لان تلك البئر إنما أعدت للمياه التي تجري من الحياض التي يغتسل
عليها ، ومن الظاهر مرورها على سطح الحمام ، فالكلام في سطح الحمام كالكلام في
الآبار نعم لو كان لوصول الماء الى تلك الآبار طريق على حدة لا يتعلق بالسطح
فالاستدلال بتلك الأخبار في غير محله ، وعلى تقدير فرض محل النزاع ما يشمل السطح
فالاستدلال على الطهارة بتلك الاخبار ، فتحمل الأخبار الأول على الكراهة المغلظة ،
ولعل في عد
__________________
الاغتسال من الزنا وغسالة ولد الزنا اشعارا بذلك ، سيما مع أردف الثاني
بقوله : «وهو لا يطهر إلى سبعة آباء» فإنه لم يقل بنجاسة ابن الزنا على هذا الوجه
قائل من الأصحاب ، ولا دليل عليه من سنة أو كتاب.
المقام الثاني
في الماء
المشتبه ، وفيه صور :
(الأولى) ـ اشتباه
الطاهر بالنجس ، والظاهر انه لا خلاف بين ، الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان
الماء إذا كان طاهرا وهو في إناء واشتبه بماء نجس في إناء آخر فإنه يجب اجتنابهما
معا ، نقل الإجماع على ذلك جماعة من أجلاء الأصحاب منهم : الشيخ في الخلاف والمحقق
في المعتبر والعلامة في المختلف.
واحتج في
المعتبر ـ بعد نقل الاتفاق ـ بان يقين الطهارة في كل منهما معارض بيقين النجاسة ،
ولا رجحان ، فيتحقق المنع.
وأورد عليه في
المعالم بان يقين الطهارة في كل واحد بانفراده إنما يعارضه الشك في النجاسة لا
اليقين.
ونقل السيد
السند في المدارك عن العلامة انه احتج في المختلف ايضا على ذلك بان اجتناب النجس
واجب قطعا ، وهو لا يتم إلا باجتنابهما معا ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو
واجب.
واعترضه بان
اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلا مع تحققه بعينه لا مع الشك فيه. واستبعاد سقوط
حكم هذه النجاسة شرعا ـ إذا لم تحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه ـ غير
ملتفت اليه ، وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك ، واعترف به
الأصحاب في غير المحصور ايضا. والفرق بينه وبين المحصور غير واضح عند التأمل.
انتهى. وقد تقدمه في هذا الكلام شيخه المولى الأردبيلي. وقد جرى
على هذا المنوال جملة ممن تأخر عنه من علمائنا الأبدال. وما نقله (قدسسره) عن المختلف لم نجده فيه في المسألة المذكورة ولعله في
موضع آخر منه.
والتحقيق في
هذا المقام ـ على ما يستفاد من أخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) ـ انه لا يخفى ـ على من خلع عنقه من ربقة التقليد
للرجال واعطى النظر حقه فيما ورد عن الآل في هذا المجال ـ ان الشارع كما حكم
بالنجاسة والحرمة فيما تحقق كونه نجسا أو حراما ، كذلك اعطى المشتبه بكل منهما في
الافراد المحصورة حكم ما اشتبه به من النجاسة أو التحريم ايضا ، بخلاف غير
المحصورة ، فإنه حكم بطهر الجميع وحله دفعا للحرج والمشقة والتكليف بما لا يطاق.
وحيث ان
المسألة المذكورة مما لم يعطها حقها من التحقيق أحد من الأصحاب ، ولم يميز القشر
منها من اللباب ، مع تكثر أفرادها في الأحكام ، فحري بنا ان نطيل فيها الكلام بما
يقشع عنها غياهب الظلام ، ونبين ما في كلام هؤلاء الاعلام من سقوط ما اعترضوا به
في المقام.
فنقول (أولا) ـ
لا يخفى ان القواعد الكلية الواردة عنهم (عليهمالسلام) في الأحكام الشرعية ، كما تكون باشتمال القضية على سؤر
الكلية ، كذلك تحصل بتتبع الجزئيات الواردة عليهم (عليهمالسلام) كما في القواعد النحوية. وما صرح به الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في حكم المحصور وغير المحصور ـ مما اشتبه بالنجس أو الحرام ، حيث
حكموا بالنجاسة والتحريم في الأول دون الثاني ـ وان كان لم يرد في الاخبار بقاعدة
كلية إلا أن المستفاد منها ـ على وجه لا يزاحمه الريب في خصوصيات الأفراد التي
تصلح للاندراج تحت كل من قاعدتي المحصور وغير المحصور ـ هو ما ذكروه ، بل في بعض
تلك الأخبار ـ كما سيأتيك ان شاء الله تعالى ـ تصريح بكلية الحكم في بعض تلك
الموارد.
وها أنا اذكر
لك ما وقفت عليه من المواضع المتعلقة بكل من تلك القاعدتين
ومما دل على
حكم المحصور ـ وانه يلحق المشتبه فيه حكم ما اشتبه به من نجاسة أو تحريم ـ ما نحن
فيه من مسألة الإناءين ، فقد روى عمار في الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما
قذر لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره. قال : يهريقهما ويتيمم» ومثله روى سماعة في الموثق عنه (عليهالسلام) فإنهما كما ترى صريحان في الحكم المذكور.
وطعن جملة من
متأخري المتأخرين في الخبرين بضعف السند بناء على الاصطلاح المحدث بينهم. وقد عرفت
ما في هذا الاصطلاح في المقدمة الثانية من مقدمات الكتاب. وبعض منهم جبر ذلك بقول
الأصحاب للروايتين المذكورتين. وجملة منهم انما اعتمدوا في هذا الباب على الإجماع
المنقول في المسألة. والكل بمكان من الضعف.
ومن ذلك الثوب
الطاهر المشتبه بثوب آخر نجس ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب ـ (رضوان الله عليهم) ممن
منع الصلاة عاريا ـ في انه يجب الصلاة فيهما على جهة البدلية ، حتى من أولئك
الفضلاء المنازعين في هذه المسألة ، ولم يجوز أحد منهم الصلاة في واحد خاصة ، مع
ان مقتضى ما قالوه في هذه المسألة جواز ذلك.
ويدل على الحكم
المذكور من النصوص حسنة صفوان بن يحيى عن ابي الحسن (عليهالسلام) انه «كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما
بول ولم يدر أيهما هو ، وحضرت الصلاة وخاف فوتها ، وليس عنده ماء ، كيف
__________________
يصنع؟ قال : يصلي فيهما جميعا» قال شيخنا الصدوق (رضياللهعنه) في الفقيه بعد نقل الرواية : «يعني على الانفراد».
قال في المدارك
ـ بعد ان نقل القول بذلك عن الشيخ وأكثر الأصحاب وقال : انه المعتمد. ونقل عن بعض
الأصحاب انه يطرحهما ويصلي عريانا ـ ما صورته : «ومتى امتنع الصلاة عاريا ثبت وجوب
الصلاة في أحدهما أو في كل منهما ، إذ المفروض انتفاء غيرهما. والأول منتف ، إذ لا
قائل به ، فيثبت الثاني ، ويدل عليه ما رواه صفوان.» ثم ساق الرواية.
وأقول : أنت
خبير بما فيه ، فان مقتضى ما ذكره في مسألة الإناءين واختاره فيها ـ وما ذكره أيضا
في مسألة السجود مع حصول النجاسة في المواضع المتسعة ، حيث قال بعد البحث في
المسألة : «والذي يقتضيه النظر عدم الفرق بين المحصور وغيره ، وانه لا مانع من
الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة بجميع ما وقع
فيه الاشتباه» انتهى ـ انه يجزي هنا الصلاة في ثوب واحد. وتوقف القول به على وجود
القائل جار في الموضعين الآخرين. فإنه لم يخالف في تلك المسألتين أحد سواه ، ومن
حذا حذوه واقتفاه.
والجواب عنه ـ بوجود
النص المعتمد في الثوب النجس المشتبه وعدم وجوده هناك ، لضعف النص في مسألة
الإناءين ، وعدم النص في مسألة السجود ـ ضعيف :
(أولا) ـ بأنه
بالتأمل في النصوص الواردة في الأحكام المتفرقة وضم بعضها الى بعض ـ كما سنوضحه ان
شاء الله تعالى ـ يعلم ان ذلك حكم كلي.
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكره من التعليل في الموضعين يعطي كون الحكم عنده كليا في مسألة الطاهر المشتبه
بالنجس مطلقا لا بخصوص تلك المسألتين.
ومن ذلك ـ الثوب
النجس بعضه مع وقوع الاشتباه في جميع اجزاء الثوب ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب ـ حتى
من هذا الفاضل ومن تبعه ـ في انه لا يحكم بطهارة
الثوب إلا بغسلة كملا ، وبه استفاضت الأخبار.
ففي صحيحة محمد
بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) انه قال في المني يصيب الثوب : «فان عرفت مكانه فاغسله.
وان خفي عليك فاغسله كله».
ومثلها صحيحة
زرارة وحسنة محمد بن
مسلم ورواية ابن ابي
يعفور وغيرها.
قال السيد في
المدارك بعد نقل عبارة المصنف في ذلك : «هذا قول علمائنا وأكثر العامة قاله في المعتبر ، واستدل عليه بان النجاسة موجودة على
اليقين ، ولا يحصل اليقين بزوالها إلا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه ، ويشكل بان
يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة وان لم يحصل
القطع بغسل ذلك المحل بعينه» انتهى.
وفيه (أولا) ـ ان
الظاهر ان ما ذكره المحقق (قدسسره) من التعليل
__________________
ـ هنا وفي مسألة الإناءين بل في سائر المواضع ـ إنما هو على جهة التوجيه
للنص وبيان حكمه الأمر فيه ، لانه مع وجود النص فلا ضرورة تلجئ إلى التعليل
بالوجوه العقلية. على ان أحكام الشرع توقيفية لا تعلل بالعقول ، كما أطال به
المحقق الكلام في أول كتاب المعتبر وغيره في غيره ، وحينئذ فلا اشكال. نعم هذا
الاشكال موافق لما اختاره في ذينك الموضعين المتقدمين ، ولكنه وارد عليه في هذا
الموضع ، حيث ان مقتضى ما اختاره ثمة الاكتفاء بغسل جزء من الثوب كما ذكره ، ولكن
النصوص تدفعه ، وهو دليل على ما ادعيناه وصريح فيما قلناه.
و (ثانيا) ـ انه
متى كان يقين النجاسة هنا يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه ـ بمعنى انا لا
نقطع حينئذ ببقاء النجاسة ، لجواز كونها في ذلك الجزء الذي قد غسل ـ فانا نقول
ايضا مثله في مسألة الإناءين : انه بعد وقوع النجاسة في واحد منهما لا على التعيين
فقد زال يقين الطهارة الحاصل أولا عن كل من ذينك الإناءين ، وهكذا في الثوب
والمكان المحصورين ، فإنه قد تساوى احتمال الملاقاة وعدم الملاقاة في كل جزء جزء
من تلك الاجزاء المشكوك فيها ، وهذا القدر يكفي في زوال ذلك اليقين الحاصل قبل
الملاقاة والخروج عن مقتضاه.
ومن ذلك ـ اللحم
المختلط ذكية بميتة ، فقد ذهب الأصحاب إلى تحريم الجميع من غير خلاف ، وعليه دلت
الأخبار :
و (منها) ـ حسنة
الحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها
فيعزله ويعزل الميتة ، ثم ان الميتة والذكي اختلطا فكيف يصنع؟ قال : يبيعه ممن
يستحل الميتة ويأكل ثمنه». ومثلها
__________________
حسنته الأخرى أيضا. ويأتي ـ بمقتضى ما ذكره السيد ومن تبعه ـ ان كل
قطعة لاحظناها من هذا اللحم فهي حلال لا يحكم بنجاستها ولا تحريم أكلها ، لأن
الواجب إنما هو اجتناب ما تحقق تحريمه بعينه لا ما اشتبه بالحرام ، والنصوص تدفعه.
ولو قيل : انه يتمسك هنا بأصالة عدم التذكية. قلنا : يعارضه التمسك بأصالة الطهارة
وأصالة الحلية.
ومما ورد في
حكم غير المحصور جملة من الأخبار في مواضع :
(منها) ـ الأخبار
الدالة على ان كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر فان القدر المعلوم منها ـ كما مر تحقيقه في المقدمة
الحادية عشرة ـ ان كل صنف يكون فيه طاهر ونجس ـ كالدم والبول وأمثالهما مما لم
يميز الشارع بين فرديه بعلامة ـ فهو طاهر حتى يعلم انه من الفرد النجس ، وفيه ـ كما
ترى ـ دلالة على حكم غير المحصور بوجه كلي.
و (منها) ـ الأخبار
الدالة على ان كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه .
ومنها ـ صحيحة
عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه
__________________
«سأل عن الجبن. فقال : سألتني عن طعام يعجبني ، ثم اعطى الغلام درهما فقال
: يا غلام ابتع لنا جبنا ، ثم دعى بالغداء فتغدينا معه ، فاتى بالجبن فأكل وأكلنا
، فلما فرغنا من الغداء قلت : ما تقول في الجبن؟ قال : أو لم ترني أكلته؟ قلت :
بلى ولكني أحب ان أسمعه منك. فقال : سأخبرك عن الجبن وغيره ، كل ما كان فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».
وما رواه في
كتاب المحاسن عن ابي الجارود ، قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى انه يجعل فيه
الميتة. فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت
أنه ميتة فلا تأكل ، وان لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله انى لأعترض السوق فاشتري
بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان». الى
غير ذلك من الأخبار التي لا يأتي عليها قلم الإحصاء في هذا المضمار.
وأنت خبير بان
الحكم الوارد في هذه الأخبار على وجه كلي ، فكل شيء من الأشياء متى كان له افراد
بعضها معلوم الحل وبعضها معلوم الحرمة. ولم يميز الشارع أحدهما بعلامة ، وتلك
الافراد مما يتعسر أو يتعذر ضبطها ـ كما أشار إليه في رواية المحاسن بقوله : «أمن
أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين» ـ فالجميع حلال حتى يعرف
الحرام بعينه فيجتنبه. وهذا من التوسعات والرخص الواقعة في الشريعة المبنية على
السهولة ، لرفع الحرج والمشقة اللازمين بوجوب التكليف باجتناب ذلك ، بخلاف الافراد
المحصورة ، فإنه لا حرج في التكليف
__________________
باجتنابها كما لا يخفى. وهذه الاخبار كما انها تدل على حكم غير المحصور
بالنسبة إلى اشتباه الحلال بالحرام كذلك تدل عليه بالنسبة إلى اشتباه الطاهر
بالنجس ، فان التحريم الذي حصل الاشتباه به إنما نشأ من حيث النجاسة كما لا يخفى.
و (منها) ـ جوائز
الظالم ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حلها وجواز أكلها ، مع
العلم واليقين بكون أكثرها حراما ، وبه استفاضت الأخبار :
ومنها ـ صحيحة
أبي ولاد قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ، ليس له مكسب إلا
من أعمالهم ، وانا أمر به فانزل عليه فيضيفني ويحسن إلي ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة
، وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : كل وخذ منه فلك المهنا وعليه الوزر».
هذا ما خطر
بالبال مما يدخل في هذا المجال.
وبذلك يتضح لك
ما في كلام المحدث الكاشاني في المفاتيح والفاضل الخراساني في الكفاية ، حيث ذهبا
الى حل ما اختلط بالحرام وان كان محصورا ، استنادا إلى صحيحة عبد الله بن سنان
المتقدمة .
وفيه (أولا) ـ انك
قد عرفت بمعونة ما قدمناه ان مورد الرواية ـ كما هو ايضا مقتضى سياقها ـ إنما هو
الأفراد الغير المحصورة ، وان ذلك قاعدة كلية في الطهارة والنجاسة والحل والحرمة.
و (ثانيا) ـ ان
الاخبار الدالة على وجوب الاجتناب للحرام ـ عموما وخصوصا ـ متناولة لما نحن فيه ،
وهو لا يتم هنا إلا باجتناب الجميع.
و (ثالثا) ـ ان
جملة من الأخبار قد صرحت بالتحريم في خصوص المحصور ،
__________________
كروايتي الحلبي المتقدمتين في اللحم المختلط ذكية بميتة كما تقدم .
وما رواه الشيخ
في التهذيب بسنده عن ضريس الكناسي قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أناكله؟ فقال
: اما ما علم انه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، واما ما لم تعلم فكله حتى تعلم انه
حرام».
وما رواه عبد
الله بن سنان عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان ان فيه ميتة».
والجميع ـ كما
ترى ـ صريح في الحكم بالتحريم. ولا ريب ان طريق الجمع ـ بينها وبين صحيحة عبد الله
بن سنان وما في معناها ـ إنما يتم بالحمل على الفرق بين المحصور
وغير المحصور ، كما يقتضيه سياق كل من تلك الاخبار. وسيجيء تحقيق هذه المسألة ان
شاء الله تعالى وإعطاء البحث حقه مع هذين الفاضلين في محله.
وبالجملة فإنك
إذا أعطيت التأمل حقه فيما نقلنا من الاخبار خاصها وعامها وضممت بعضها الى بعض ،
فلا أراك تستريب فيما ذكرنا من صحة تلك الكليتين وظهور تلك القاعدتين ، اعني كليتي
المحصور وغير المحصور ، وان الاخبار الدالة بعمومها على طهارة كل شيء حتى تعلم
نجاسته وحلية كل شيء حتى تعلم حرمته مقيدة باخبار
__________________
المحصور طهارة ونجاسة وحلية وحرمة. ومن القواعد المتفق عليها عندهم تقديم
العمل بالخاص ، وحينئذ فتخصيص اخبار أصالة يقين الطهارة وأصالة يقين الحلية بغير
موضع الاشتباه في الأشياء المعلومة بشخصها ، فتأمله بعين البصيرة وتناوله بيد غير
قصيرة ، ليظهر لك ما في الزوايا من الخبايا.
هذا. وما أورده
في المعالم على المحقق فيندفع بما أشرنا إليه آنفا من انه قد حصل لنا اليقين
بنجاسة بعض تلك الأشياء المعلومة بشخصها ، وهذا اليقين أوجب حدوث حالة متوسطة بين
الطهارة والنجاسة ، وحينئذ فهو من باب نقض اليقين بيقين مثله.
واما ما ذكره
السيد السند ـ من ان اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه الا مع تحققه بعينه ـ فمردود بأن
الاخبار كما دلت على وجوب الاجتناب مع اليقين دلت على وجوب الاجتناب مع الاشتباه
بمحصور. وقياسه هذه المسألة ونحوها على مسألة واجدي المني في الثوب المشترك قياس
مع الفارق ، لوجود النصوص الدالة على الاجتناب في هذه المسألة ونظائرها ، وعدم
النص في تلك المسألة على ما ذكروه فيها من الأحكام.
وسيأتي ان شاء
الله ما فيه تحقيق الحال ودفع الإشكال في المسألة المذكورة.
وينبغي التنبيه
هنا على فوائد :
(الاولى) ـ لو
لاقى هذا الماء شيئا طاهرا فهل يحكم بنجاسته أم لا؟ قولان مبنيان على ان هذا الماء
هل يكون حكمه حكم النجس من كل وجه أو بالنسبة الى عدم الاستعمال في الطهارة خاصة؟
وبالأول صرح
العلامة في المنتهى ، فقال : «لو استعمل أحد الإناءين وصلى به لم تصح صلاته ، ووجب
عليه غسل ما اصابه المشتبه بماء متيقن الطهارة كالنجس» ثم نقل عن بعض العامة انه
نفى وجوب الغسل عنه ، معللا بان المحل طاهر بيقين فلا يزول بالشك في النجاسة.
وأجاب عنه بأنه لا فرق في المنع بين يقين النجاسة وشكها هنا وان فرق بينهما في
غيره.
وبالثاني صرح
جملة من المتأخرين ومتأخريهم : منهم ـ السيد السند في المدارك وجده في الروض.
واحتج عليه في
المدارك بان احتمال ملاقاة النجاسة لا يرفع يقين الطهارة ، فقال ـ في رد كلام
العلامة بأن المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس ـ ما صورته : «وضعفه ظاهر ، للقطع بان
موضع الملاقاة كان طاهرا في الأصل ، ولم يعرض له ما يقتضي ظن ملاقاته للنجاسة فضلا
عن اليقين. وقولهم بان المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس لا يريدون به من جميع الوجوه
، بل المراد صيرورته بحيث يمنع استعماله في الطهارة خاصة. ولو صرحوا بإرادة
المساواة من كل وجه كانت دعوى خالية من الدليل» انتهى وأنت خبير بأنه بمقتضى ما
نقلنا من الأخبار المتعلقة بحكم المشتبه في الأفراد المحصورة مما ورد في هذه
المسألة ونظائرها ، وان ذلك قاعدة كلية. إعطاء المشتبه بالنجس حكم النجس على
التفصيل الآتي ، والمشتبه بالحرام حكم الحرام كذلك ، ألا ترى ان ملاقاة النجاسة لبعض
الثوب مع الاشتباه بباقي اجزائه موجب لغسله كملا كما تقدم في الأخبار. ومن الظاهر
انه لا وجه لذلك إلا توقف يقين طهارته الموجب لإجراء حكم الطاهر عليه ـ من صحة
الصلاة فيه ومنع تعدي حكم النجاسة منه الى ما يلاقيه برطوبة ـ على ذلك ، وبمقتضى
ما ذهب اليه ـ من حكمه في هذه المسألة بعدم وجوب تطهير الملاقي لهذا الماء ـ انه
لا يجب تطهير ما لاقى بعض اجزاء هذا الثوب برطوبة ، مع ان ظاهر النصوص الواردة
بوجوب تطهيره كملا يدفعه ، لأن إيجاب الشارع تطهيره كملا دال على ترتب حكم النجس
عليه قبل التطهير. إلا ان هؤلاء الفضلاء لما كان نظرهم في المسألة مقصورا على
الموثقتين الواردتين فيها ـ وهما إنما تضمنتا المنع من الاستعمال في الطهارة خاصة
، مع كون الحكم فيهما جاريا على خلاف
__________________
القوانين المقررة ـ اقتصروا على موردهما على تقدير العمل بهما. وحينئذ فما
ذكره العلامة في المنتهى من ان المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس ، ان أراد به من
جميع الوجوه فهو مردود بحسنة صفوان الواردة في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما ، إذ لا
تكرر الصلاة في الثوبين النجسين ولا الطاهرين ، وان أراد من بعض الوجوه التي من
جملتها ملاقاته برطوبة فصحيح.
وبالجملة فإن
للمشتبه في هذه المسألة وأمثالها حالة متوسطة ، فمن بعض الجهات ـ كالأكل والشرب
والملاقاة برطوبة ـ حكمه حكم النجس ، ومن بعض الجهات ـ كالصلاة في الثوبين
المشتبهين باعتبار تكرارها فيهما ـ له حالة ثالثة. والى ذلك يميل كلام المحدث
الأسترآبادي (قدسسره) في كتاب الفوائد المدنية في مسألة ما لو تنجس الماء مع
الشك في بلوغه الكرية ، حيث قال ـ بعد ان اختار فيه التوقف عن الحكم بالطهارة
والنجاسة ـ ما صورته : «ثم اعلم ان هنا أقساما ثلاثة : المحكوم عليه بالطهارة
والمحكوم عليه بالنجاسة والمحكوم عليه بوجوب التوقف عن الحكمين وبوجوب الاجتناب
ومن المعلوم ان الملاقي لأحد الثلاثة حكمه حكم أحد الثلاثة» انتهى.
والعجب منهم (نور
الله تعالى مراقدهم) فيما ذهبوا اليه هنا من الحكم بطهارة ما تعدى اليه هذا الماء.
مع اتفاقهم ظاهرا في مسألة البلل المشتبه الخارج بعد البول وقبل الاستبراء على
نجاسة ذلك البلل ووجوب غسله. كما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ الكلام فيه في
المسألة المذكورة. والمسألتان من باب واحد كما لا يخفى.
(الثانية) ـ لو
اشتبه ماء إناء طاهر يقينا بأحد الإناءين ، فهل يكون الحكم فيه كالحكم فيما اشتبه
به من وجوب الاجتناب. أو يحكم بطهارتهما معا ، بناء على ان مورد النص إنما هو
اشتباه الطاهر يقينا بالنجس يقينا؟
__________________
لا ريب ان
مقتضى كلام القائلين بتخصيص حكم الاشتباه بالنجس بالطهارة خاصة دون سائر
الاستعمالات هو الثاني. واما على تقدير القول بإجراء حكم النجس على المشتبه به
مطلقا فيحتمل الحكم بوجوب الاجتناب ، لان هذا بعض الأحكام المترتبة على النجس ،
وبذلك صرح العلامة في المنتهى ايضا. واعترضه في المعالم بان ذلك خارج عن مورد النص
ومحل الوفاق ، فلا بد له من دليل. ويحتمل العدم وقوفا على مورد النص كما عرفت.
والاحتياط لا يخفى.
(الثالثة) ـ نص
كثير من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ كالشيخين والفاضلين وغيرهما ـ على عدم الفرق
في وجوب الاجتناب مع الاشتباه بين ما لو كان الماء في إناءين أو أكثر. بل نبه بعضهم
على عدم الفرق بين كون ذلك إناءين أو غديرين.
قال في المعالم
ـ بعد نقل ذلك عنهم ، والاعتراض بان الحديثين اللذين احتجوا بهما للحكم إنما وردا في الإناءين ـ ما صورته : «ولو تم الاحتجاج
بالاعتبارات التي ذكروها لكانت دليلا في الجميع ، واما النص فخاص كما علم ، فتتوقف
التسوية التي ذكروها على الدليل ، ولعله الاتفاق مضافا الى الاعتبار» انتهى. وعلى
هذا الكلام جرى جملة ممن تأخر عنه.
وفيه ما قد
عرفت من ان نظرهم لما كان مقصورا على الخبرين المذكورين ـ مع ما عرفت من طعنهم
فيهما ومناقشتهم في أصل المسألة ـ كان التعدي عن موردهما يحتاج الى دليل.
ومن سرح بريد
نظره فيما حققناه وتأمل ما شرحناه عرف ان الحكم في ذلك أمر كلي وقاعدة مطردة لا
يداخله شوب الإشكال في تعدي الحكم الى ما ذكره أولئك الفضلاء. على ان التخصيص
بالإناءين إنما وقع في كلام السائل ، وخصوص السؤال لا يخصص كما تقرر عندهم.
__________________
(الرابعة) ـ هل
الأمر بالإراقة في النص على جهة الوجوب أم لمجرد الإباحة؟ ظاهر كلام الشيخين
والصدوقين (عطر الله مراقدهم) الأول ، إلا ان كلام الصدوقين ربما أشعر باختصاص الحكم
بحال ارادة التيمم ، حيث قالا في الرسالة والفقيه : «فان كان معك إناءان فوقع في
أحدهما ما ينجس الماء ولم تعلم في أيهما وقع فأهرقهما جميعا وتيمم» واما كلام
الشيخين ـ سيما المفيد في المقنعة ـ فظاهر في عدم التقييد بذلك ، حيث ذكر انه بعد
الإهراق يتوضأ بماء سواهما.
وصريح كلام ابن
إدريس ومن تأخر عنه الثاني ، وربما يؤيد بورود الأمر بالإراقة في جملة من الأخبار
، كما تقدم في أدلة نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، مع انه لم يقل أحد بوجوب
الإراقة ثمة ، قال في المعتبر : «وقد يكنى عن النجاسة بالإراقة في كثير من الأخبار
تفخيما للمنع» وهو جيد.
ونقل في
المعتبر عن بعض الأصحاب ان علة الأمر بالإراقة ليصح التيمم ، لانه مشروط بعدم
الماء.
ورده بان وجود
الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمم ، كالمغصوب وما يمنع من استعماله مرض أو
عدو ، ومنع الشارع أقوى الموانع. وهو متجه.
وكيف كان فلا
يخفى عليك ما في الأمر بالإراقة من الدلالة على عدم الانتفاع بالماء المذكور وان
وجوده في حكم العدم ، وبه يظهر لحوقه للنجس في جملة أحكامه لا بخصوص الطهارة من
الحدث كما ذكره أولئك الفضلاء (رضوان الله عليهم) لانه متى جاز الانتفاع به في غير
الطهارة من أكل وشرب ونحوهما فاراقته مما يدخل في باب الإسراف المنهي عنه عموما
وخصوصا. والحق ان التعبير بإراقته هنا دليل ظاهر في لحوق أحكام النجس كملا كما لا
يخفى.
(الخامسة) ـ قال
السيد السند في المدارك بعد الكلام الذي نقلناه في صدر
__________________
المسألة : «ويستفاد من قواعد الأصحاب انه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في
الماء وخارجه لم ينجس الماء بذلك ولم يمنع من استعماله ، وهو مؤيد لما ذكرناه»
انتهى. أقول : وجه الفرق بين ما نحن فيه وبين ما فرضه (قدسسره) ممكن ، فان مقتضى القاعدة المستفادة من الأخبار
بالنسبة إلى الاشتباه في المحصور ان تكون افراد الاشتباه أمورا معلومة معينة
بشخصها وبالنسبة الى غير المحصور ان لا تكون كذلك ، وما ذكره من الصورة المشار
إليها انما هو من الثاني لا الأول. على ان القاعدة المذكورة إنما تتعلق بالأفراد
المندرجة تحت ماهية واحدة ، والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ان اشتبه طاهرها
بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمنته تلك
الأخبار لا وقوع الاشتباه كيف اتفق.
(السادسة) ـ الظاهر
انه لا فرق في ترتب حكم الاشتباه المذكور بين ان يكون الماءان طاهرين ثم يقع في
أحدهما قذر ولا يعلم على التعيين ، أو يكون أحدهما طاهرا والآخر نجسا ثم يشتبه
أحدهما بالآخر ، أو يكونا كذلك ثم ينقلب أحدهما ويشتبه الباقي بكونه هو الطاهر أو
النجس.
(السابعة) ـ لو
أمكن الصلاة بطهارة متيقنة من هذين الماءين بان يتطهر بأحدهما ثم يصلي ثم يغسل
أعضاءه مما لاقاه ماء الوضوء ثم يتوضأ بالآخر ، فهل تصح الصلاة أم لا؟
الذي صرح به
جمع من الأصحاب المنع ، وهو الظاهر ، قال في المعتبر في توجيهه : «لانه ماء محكوم
بالمنع منه فجرى استعماله مجرى النجس» انتهى.
وعلله بعضهم
بأنه يصدق عليه بعد الطهارة الاولى انه متيقن الحدث شاك في الطهارة ومن هذا شأنه
لا يسوغ له الدخول في الصلاة نصا وإجماعا ، ووضوؤه الثاني يجوز ان يكون بالنجس
فيكون قد صلى بنجاسة.
وعلله في
المدارك بان هذين الماءين قد صارا محكوما بنجاستهما شرعا ، واستعمال
النجس في الطهارة مما لا يمكن التقرب به ، لأنه بدعة. ثم قال : «وفيه ما
فيه».
والحق ما علله
به في المعتبر. وكيف كان فالظاهر انه لا خلاف في الحكم المذكور.
(الثامنة) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا يجوز التحري في الاجتهاد بتحصيل
الأمارات المرجحة لطهارة أحدهما. وهو كذلك ، لثبوت النهي عن استعمال هذا الماء.
والقرينة التي لا تثمر اليقين غير كافية في الخروج عن عهدة النهي الشرعي.
(الصورة
الثانية) ـ الاشتباه بالمغصوب ، وقد صرح جمع من الأصحاب بأن الحكم فيها كالاشتباه
بالنجس.
واستشكله بعض
أفاضل متأخري المتأخرين نظرا إلى صحيحة عبد الله بن سنان الدالة على ان «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى
تعرف الحرام بعينه». وما في معناها.
وفيه نظر ، فان
مورد هذه الرواية وما في معناها ـ كما عرفت آنفا ـ إنما هو الافراد الغير
المحصورة.
وحينئذ فما
ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو الظاهر ، وقوفا على القاعدة الواردة في
المحصور إذا اشتبه حلاله بحرامه كما عرفت ، فتحريم الاستعمال مما لا ينبغي ان
يستراب فيه.
لكن لو توضأ
بهما وارتكب المحرم ، فهل تحصل له طهارة صحيحة يجوز له الدخول بها في الصلاة أم لا؟
صرح بعض محققي
متأخري المتأخرين بالأول ، قال : «لأن أحدهما ماء
__________________
مباح ولا شك انه قد وقعت الطهارة به ، فيلزم ان تكون صحيحة» ثم انه اعترض
على نفسه بان استعمال كل منهما حرام منهي عنه والنهي في العبادة موجب للفساد. وأجاب
بمنع كون النهي موجبا للفساد في العبادة.
ولم أقف لغيره
على كلام في المقام الا ان الموافق لمذاق الأصحاب بمقتضى القاعدة التي منعها ـ لاتفاقهم
على العمل بها ـ هو البطلان.
أقول : ومع
الإغماض عن ذلك فيمكن أن يقال :
(أولا) ـ ان
التقرب بما نهى الشارع عنه نهى تحريم غير معقول ، ولعل ذلك هو الوجه في القاعدة
التي بنى عليها الأصحاب ، من ان النهى في العبادة موجب لفسادها.
و (ثانيا) ـ ان
هذه المسألة نظير المسألة التي مرت في الفائدة السابعة. وقد عرفت انه لا خلاف في
البطلان ثمة.
و (ثالثا) ـ ان
هذا الماء باعتبار تحريم الشارع استعماله يصير في حكم العدم ، وحينئذ ينتقل الفرض
الى التيمم لو لم يوجد غيره ، ولا ريب انه مع انتقال الفرض الى التيمم فلا يجزي
الوضوء ، كما في سائر المواضع التي ينتقل الفرض فيها الى التيمم وان كان الماء
موجودا.
(الصورة
الثالثة) ـ الاشتباه بالمضاف. وقد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجب الوضوء
بكل منهما. وهو كذلك ، فإن المسألة هنا من قبيل الصلاة في الثوبين المشتبه طاهرهما
بنجسهما.
وما يتوهم في
مثل هذه المسألة ـ من أنه لا بد من الجزم بالنية ـ فلا دليل عليه ، بل الدليل قائم
على خلافه ، لما ورد من صحة صلاة من نسي فريضة من الخمس ثنائية
__________________
وثلاثية ورباعية مرددة. ومع تسليم ما ذكروه فهو مخصوص بصورة يتيسر فيها
الجزم.
ثم انه هل تصح
الطهارة بهذين الماءين المشتبهين مع وجود ماء غير مشتبه أم لا؟ ظاهر الأصحاب
الثاني كما صرح به جملة منهم ، وعلله شيخنا الشهيد الثاني في الروض بالقدرة على
الجزم التام في النية مع استعمال الآخر فلا يصح بدونه.
ولو انقلب
أحدهما فذهب ماؤه ، فالذي صرحوا به انه يجب الوضوء بالآخر والتيمم مقدما للأول على
الثاني.
واعترضه في
المدارك بان الماء الذي يجب استعماله في الطهارة ان كان هو ما علم كونه ماء مطلقا
، فالمتجه الاجتزاء بالتيمم وعدم وجوب الوضوء به كما هو الظاهر ، وان كان هو ما لا
يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء ، فالجمع بين الطهارتين غير واضح ومع ذلك فوجوب
التيمم إنما هو لاحتمال كون المنقلب هو المطلق ، فلا يكون الوضوء بالآخر مجزيا ،
وهذا لا يتفاوت الحال فيه بين تقديم التيمم وتأخيره كما هو واضح. انتهى.
وأجيب بأنه لما
كان الحكم بالوضوء متعلقا بوجدان الماء والحكم بالتيمم معلق بعدم وجدانه. فإذا وجد
ما يشك في كونه ماء كان كل من وجوب الوضوء والتيمم مشكوكا. إذ لا ترجيح لأحدهما
على الآخر. فيجب الوضوء والتيمم معا حتى يحصل اليقين بالبراءة. وهو جيد.
ويوضحه انه لما
كان هذا الماء بالاشتباه بين ذينك الفردين تعرض له حالة ثالثة يخرج بها عنهما
كالمشتبه بالنجس على ما عرفت تحقيقه آنفا. فلا يحكم بكونه مضافا ولا مطلقا بل
محتمل لهما احتمالا متساوي الطرفين ، فيترتب عليه ما يترتب على كل منهما من الوضوء
والتيمم ، وحينئذ فلا معنى لترتب الحكم فيه على فرض كون ما يتطهر به ماء مطلقا أو
هو ما لا يعلم كونه مضافا كما ذكره المعترض. نعم ما ذكره من إيجابهم تقديم الوضوء
على التيمم لا يظهر له وجه.
(الصورة
الرابعة) ـ الاشتباه المستند الى الشك في وقوع النجاسة أو ظنه ، ولا خلاف في عدم
البناء عليه في الأول ، وأولى منه الوهم.
نعم وقع الخلاف
في الظن ، فلو ظن وقوع النجاسة في الماء فهل يعمل عليه مطلقا أو لا مطلقا أو يفصل
بين ما يستند الى سبب شرعي أم لا ، فعلى الأول يكون كالأول وعلى الثاني كالثاني؟
أقوال : وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في المقدمة الحادية عشرة وأشبعنا الكلام فيه في كتاب الدرر النجفية. نسأل الله
تعالى التوفيق لإتمامه.
نعم يبقى
الكلام هنا فيما لو تعارضت البينتان في الماء بالطهارة والنجاسة ، وله صورتان :
(الاولى) ـ ان
يقع التعارض في إناء واحد ، بان تشهد احدى البينتين بعروض النجاسة له في وقت معين
وتشهد الأخرى بعدمه في ذلك الوقت ، لادعائها ملاحظته في ذلك الوقت والقطع بعدم
حصول النجاسة. وقد اختلفت فيه أقوالهم :
فقيل بإلحاقه
بالمشتبه بالنجس ، وهو قول العلامة في التذكرة والقواعد ، وجعله فخر المحققين في
الشرح اولى ، ونقل في المعالم عن والده انه قواه في بعض فوائده ، وعلله المحقق
الشيخ علي في شرح القواعد بتكافؤ البينتين.
وقيل بالطهارة
، إلا انه اختلف التعليل لذلك ، فبين من عللها بالعمل ببينة الطهارة لاعتضادها
بالأصل ، حكاه فخر المحققين عن بعض الأصحاب. وبين من عللها بتساقط البينتين
والرجوع الى حكم الأصل وهو الطهارة ، ذكره الشهيد في البيان ، وقال انه قوي بعد ان
قرب القول الأول ، ونسبه فخر المحققين الى الشيخ.
وقيل بالعمل
ببينة النجاسة ، لأنها ناقلة عن حكم الأصل وبينة الطهارة مقررة والناقل اولى من
المقرر عند التعارض ، كما قرروه في الأصول في البحث عن تعادل
__________________
الأدلة ، ولموافقتها للاحتياط ، ولأنها في معنى الإثبات والطهارة في معنى
النفي ، ويعزى هذا القول الى ابن إدريس ، ونقل في المعالم عن بعض المتأخرين الميل
اليه ، قال : «وهو أحوط غير ان القول بالطهارة ـ للتساقط ـ أقرب» انتهى.
وما قربه (قدسسره) هو الأنسب بقواعد الأصحاب ، لتطرق القدح الى ما عداه
من الأقوال المذكورة.
(اما الأول)
فيرد عليه انه لا دليل عليه ، لان الاشتباه الملحق به دليله اما النص المتقدم كما
حققناه أو الإجماع كما استند اليه آخرون ، وكل منهما لا يتناول موضع النزاع. وشمول
القاعدة المستفادة من النصوص لذلك محل إشكال ، إذ ظاهر تلك النصوص هو استناد
الاشتباه الموجب لاشتباه الحكم الى امتزاج تلك الافراد واختلاطها على وجه لا يتميز
طاهرها من نجسها ولا حلالها من حرامها ، لا مجرد الاشتباه كيف اتفق. وتكافؤ
البينتين ـ كما ذكره المحقق الشيخ علي ـ إنما يكون موجبا لطرحهما ، لعدم إمكان
الترجيح بغير مرجح. لا موجبا للعمل بهما.
و (اما الثاني)
ففيه ان ما ذكر من المقدمات المبنى عليها دليله والتعليلات المذكورة وان ذكرها
علماء الأصول إلا انها مما لم يقم على الاعتماد عليها دليل معتمد ، فلا يخرج عن
مجرد التطويل الذي لا يهدي الى سبيل ولا يشفي العليل ولا يبرد الغليل ، فلا يمكن
الاعتماد عليها في تأسيس حكم شرعي. واما الاحتياط فليس بدليل شرعي عندهم بل غايته
ثبوت الأولوية به.
هذا. والتحقيق
في المقام ان المسألة لما كانت عارية عن نصوص أهل الذكر (عليهمالسلام) فالحكم فيها الوقوف على ساحل الاحتياط ، وهو العمل
بالنجاسة ، وان كان القول الثاني ليس بذلك البعيد باعتبار التعليل الثاني دون
الأول ، لتطرق القدح إليه بأنه لا بد في المرجح من ان يكون مما اعتبره الشارع
مرجحا ، ولم يثبت هنا كونه كذلك.
(الصورة
الثانية) ـ ان يتعارضا في إناءين ، بأن تشهد احدى البينتين ، انه هذا وتشهد الأخرى
بأنه الآخر.
وقد اختلفت
فيها كلمتهم ايضا ، فذهب جمع ـ منهم : المحقق في المعتبر والعلامة في التحرير
والشهيد في الذكرى والشيخ علي في شرح القواعد والشهيد الثاني في بعض فوائده على ما
نقله ابنه عنه في المعالم ـ إلى أنهما كالمشتبه بالنجس. ونقل عن الشيخ في الخلاف
القول بسقوط الشهادتين والرجوع الى أصل الطهارة.
وقال في
المبسوط على ما نقل عنه في المختلف : «لا يجب القبول سواء أمكن الجمع أو لم يمكن ،
والماء على أصل الطهارة أو النجاسة ، فأيهما كان معلوما عمل عليه.
وان قلنا : إذا
أمكن الجمع بينهما قبل شهادتهما وحكم بنجاسة الإناءين ، كان قويا ، لان وجوب قبول
شهادة الشاهدين معلوم في الشرع ، وليسا متنافيين» انتهى.
وقال العلامة
في المختلف : «لو شهد عدلان بان النجس أحد الإناءين وشهد عدلان بان النجس الآخر ،
فان أمكن العمل بشهادتهما وجب ، وان تنافيا اطرح الجميع وحكم بأصل الطهارة» ثم انه
مال في آخر كلامه الى كونهما بمنزلة الإناءين المشتبهين.
احتج الذاهبون
الى القول الأول بأن الاتفاق حاصل من البينتين على نجاسة أحد الإناءين ، والتعارض
إنما هو في التعيين ، فيحكم بما لا تعارض فيه ، ويتوقف في موضع التعارض.
واحتج الشيخ في
الخلاف بان الماء على أصل الطهارة ، وليس على وجوب القبول من الفريقين ولا من واحد
منهما دليل ، فوجب طرحهما وبقي الماء على حكم الأصل.
واحتج العلامة
في المختلف بأنه مع إمكان الجمع يحصل المقتضي لنجاسة الإناءين فيثبت الحكم ، ومع
امتناع الجمع تكون كل واحدة من الشهادتين منافية للأخرى ،
ويعلم قطعا كذب إحداهما ، وليس تكذيب واحدة منهما بعينها اولى من تكذيب
الأخرى. فيجب طرح الجميع والرجوع الى الأصل وهو الطهارة.
وأنت خبير بان
سياق حجة القول الأول ينادي بالاختصاص بصورة عدم إمكان الجمع ، ولعلهم في صورة
إمكان الجمع يحكمون بنجاسة الإناءين باعتبار قبول الشهادتين كما هو ظاهر ، لان فرض
قبول البينة في كل من الإناءين مع الانفراد يقتضي القبول مع الاجتماع ، للقطع بعدم
تأثير الاجتماع في اختلاف الحكم حيث لا تنافي كما هو المفروض ، ولعله لظهوره لم
يتعرضوا له. وظاهر كلام الشيخ في الخلاف عدم الفرق بين صورتي إمكان الجمع وعدمه ،
كما هو صريح صدر عبارته في المبسوط.
وأورد على
كلامه في الخلاف انه لا مقتضي للطرح إلا التعارض ، وهو منفي بالنظر الى أحد
الإناءين من غير تعيين ، وإنما وقع التعارض في التعيين ، والإطراح فيه لا يقتضي
الإطراح مطلقا فيبقى معنى الاشتباه موجودا. هذا بالنظر الى صورة عدم إمكان الجمع.
واما بالنظر الى صورة إمكانه فقد عرفت ان مقتضاه هو الحكم بالنجاسة.
واما كلام
العلامة في المختلف فما يتعلق منه بصورة إمكان الجمع متجه كما تقدم وجهه ، واما ما
يتعلق بصورة عدم الإمكان فيرد عليه ما يرد على كلام الخلاف ، لاتفاقهما في الحكم
بذلك. وكأنه (قدسسره) في المختلف تنبه لورود المناقشة بذلك فقال بعد الكلام
المتقدم : «لا يقال : يحكم بنجاسة أحد الإناءين وصحة إحدى الشهادتين ، فيكون
بمنزلة الإناءين المشتبهين. لأنا نقول : نمنع حصول العلم بنجاسة أحد الإناءين وصحة
إحدى الشهادتين ، لأن صحة الشهادة إنما تثبت مع انتفاء الكذب ، اما مع وجوده فلا»
وضعفه في المعالم بان التكذيب إنما وقع في التعيين لا مطلقا. وكأنه لما كان مجال
المناقشة مع هذا الجواب باقيا بحاله استدرك في آخر كلامه ، فقال : «على انه لو قيل
بذلك ـ يعني بمنزلة الإناءين المشتبهين ـ كان وجها ، ولهذا يردهما المشتري سواء
تعدد أو اتحد» انتهى. وحينئذ فيرجع كلامه الى ما ذكره
الشيخ في المبسوط كما تقدم من عبارته ، وهو مؤذن بالتردد.
وكيف كان
فالاحتياط في مثل هذه المسائل الغير المنصوصة مما لا ينبغي تركه.
(الصورة
الخامسة) ـ الاشتباه المستند الى اشتباه ما وقع في الماء بكونه طاهرا أو نجسا.
والذي صرح به
جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو الحكم بطهارة الماء والبناء على يقين
الطهارة حتى يثبت يقين النجاسة. إلا انك قد عرفت في المقدمة الحادية عشرة ان بعض الأصحاب قد منع جريان هذه القاعدة في مثل هذا
الموضع مدعيا ان المنع عن نقض اليقين بالشك مراد به الشك في وجود الرافع ، يعني لا
بد من ثبوت الرافعية له أولا ، فإذا شك في وجوده وعدمه فان هذا الشك لا يعارض
اليقين الثابت له أولا لا الشك في ثبوت الرافعية له. وتحقيق القول في ذلك تقدم في
المقدمة المشار إليها.
وبالجملة فكلام
من وقفنا على كلامه من الأصحاب متفق هنا في البناء على يقين الطهارة في الصورة المذكورة.
ولكن نقلوا
الخلاف هنا في صورة واحدة ، وهي ما إذا وقع صيد مجروح حلال اللحم نجس الميتة في
ماء قليل ، وكان المحل الملاقي للماء منه خاليا من النجاسة ، فمات فيه ولم يعلم
استناد موته الى الجرح أو الماء ، فهل يحكم بطهارة الماء حينئذ أو نجاسته؟ قولان :
نقل أولهما عن
العلامة في بعض كتبه ، وبه صرح المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، واختاره جملة
ممن تأخر عنه.
واختار الثاني
جمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة في أكثر كتبه وابنه
__________________
فخر المحققين في الشرح ، ونقل عن الشهيدين ايضا. وتوقف المحقق في المعتبر.
وجه القول
الأول التمسك بأصالة طهارة الماء السالمة عن معارضة يقين الرافع لها شرعا ، فان
الشك في استناد الموت الى الجرح أو الماء يقتضي الشك في عروض النجاسة فلم يعلم
حصول الرافع ، فتبقى العمومات الدالة على طهارة الماء سالمة عن المعارض ، كذا قرره
في المعالم بعد ان اختار فيه القول بالطهارة. ووجهه فخر المحققين في شرح القواعد ،
فقال ـ بعد نقل كلام والده (قدسسرهما) باحتمال العمل بالأصلين ، يعني أصالة الطهارة في الماء
وأصالة التحريم في الصيد ـ ما لفظه : «أقول : لأصل الطهارة حكمان : (الأول) ـ الحكم
بها. (الثاني) ـ حل الصيد ، ولأصالة الموت حكمان : (الأول) ـ لحوق أحكام الميت
للصيد (الثاني) ـ نجاسة الماء ، فيعمل كل منهما في نفسه لأصالته فيه ، دون الآخر
لفرعيته فيه ، ولعدم العلم بحصول سبب كل منهما ، والأصل عدمه. ولا تضاد ، لعدم
تضاد سببيهما ، لان سبب الحكم بالطهارة هو عدم العلم بموت الصيد حتف انفه ، وسبب
تحريم الصيد عدم العلم بذكاته ، وهما لا يتضادان ، لصدقهما هنا لانه التقدير.
وكلما لم تتضاد الأسباب لم تتضاد المسببات. ثم قال : والأقوى الحكم بنجاسة الماء ،
لامتناع الخلو عن الملزومين ، اعني موت الصيد بالجرح ولا بالجرح المستلزمين لحل
الصيد ، فإنه لازم للأول ، ونجاسة الماء فإنه لازم للثاني. وامتناع الخلو عن
الملزومين مستلزم لامتناع الجمع بين نقيضي اللازمين. وتحريم الصيد ثابت بالإجماع ،
ولما رواه الحلبي في الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه «سئل عن رجل رمى صيدا وهو على جبل أو حائط ، فيخرق
فيه السهم فيموت؟ قال : كل منه ، وان وقع في الماء من رميتك فمات فلا تأكل منه» . فيثبت الحكم بالنجاسة» انتهى.
وصاحب المعالم
قرر دليل النجاسة بما لفظه : احتجوا بان تحريم الصيد ثابت
__________________
بالإجماع وجملة من الأخبار : منها ـ صحيحة الحلبي ، وساق الخبر كما تقدم.
ثم قال : والحكم بتحريم اللحم يدل على عدم تحقق الذكاة ، وذلك يقتضي الحكم بموته
حتف انفه ، والنجاسة لازمة له. ثم أجاب بالمنع من دلالة حرمة اللحم على عدم تحقق
الذكاة. وإنما يدل على ذلك لو كان الحكم بالتحريم موقوفا عليه ، وهو في حيز المنع
ايضا ، لجواز استناده إلى جهالة الحال وحصول الاشتباه ، فان التحريم حينئذ هو
مقتضى الأصل ، لاشتراط الحل بأمر وجودي ، ولا ريب ان الأصل في مثله العدم ، فيعمل
بكل من أصلي طهارة الماء وحرمة اللحم. ثم قال : وما يقال ـ من ان العمل بالأصلين
إنما يصح مع إمكانه ، وهو منتف ، لانه كما يستحيل اجتماع الشيء مع نقيضه كذلك
يستحيل اجتماعه مع نقيض لازمه ـ فجوابه ان عدم الإمكان إنما يتحقق إذا جعل التحريم
مستندا الى العلم بعدم التذكية الذي هو عبارة عن موته حتف انفه ، لا إذا جعل مسببا
عن عدم العلم بالتذكية. والحكم بطهارة الماء إنما يتوقف على عدم العلم بوجود
النجاسة لا على العلم بعدمها ، إذ الشك في نجاسة الرافع لا يقتضي نجاسة الماء
قطعا. انتهى.
وعلى هذا
المنوال جرى جمع ممن تقدمه وتأخر عنه في الاستدلال ، وملخصه ان تحريم الصيد الذي
ثبت بالإجماع والنصوص في الصورة المفروضة إنما يستلزم نجاسة الماء لو كان العلة
فيه عدم تذكية الصيد وموته حتف أنفه ، اما لو كان العلة فيه عدم العلم بالتذكية
فلا ، إذ النجاسة إنما تلزم العلة الأولى دون الثانية ، فإن طهارة الماء عبارة عن
عدم العلم بملاقاة النجاسة ، وههنا كذلك. للشك في نجاسة الصيد باحتمال موته حتف
انفه واحتمال تذكيته.
أقول : والذي
يظهر لي ان كلام الجميع في هذا المجال غير خال من الإجمال بل الاختلال ، إذ لا
يخفى ان ثبوت النجاسة للماء وعدمها إنما نشأ من الصيد والحكم بطهارته أو نجاسته ،
فالواجب أولا بيان الحكم فيه بالطهارة أو النجاسة ، ولا ريب
ان مقتضى أصالة عدم التذكية عندهم كما تكون موجبة للتحريم كذلك تكون موجبة
للنجاسة ، كما صرحوا به في جملة من المواضع : منها ـ مسألة اللحم والجلد المطروحين
، حيث حكموا بالتحريم والنجاسة بناء على الأصل المشار اليه ، وحينئذ فكما يكون
العلم بعدم التذكية موجبا للتحريم والنجاسة كذلك حال الاشتباه وعدم العلم بالتذكية
موجب لهما. ولا ريب ان الصيد في الصورة المفروضة مما اشتبه فيه الحال بالتذكية
وعدمها ، والتمسك بأصالة عدم التذكية يوجب الحكم بتحريمه ونجاسته ، ومتى ثبت
نجاسته فوقوعه في الماء القليل موجب لتنجيسه عند القائل بنجاسة القليل بالملاقاة ،
فالنجاسة لا تختص بالترتب على العلم بعدم التذكية خاصة الذي هو الموت حتف الأنف ،
حتى يتم لهم ان النجاسة هنا مشكوك فيها لاحتمال التذكية ، بل كما تترتب على ذلك
تترتب على الشك أيضا في التذكية كما عرفت ، فإنه لما كان كل من حل الصيد وطهارته
مترتبا على العلم بالتذكية ، كان انتفاؤهما بانتفاء ذلك تحقيقا للسببية. وعدم
العلم بالتذكية ـ كما عرفت ـ أعم من العلم بالعدم.
وبالجملة فإن
نجاسة الماء وطهارته في الصورة المفروضة دائرة مدار طهارة الصيد ونجاسته ، وقد
عرفت ان عدم العلم بالتذكية كما يكون سببا في التحريم يكون سببا في النجاسة ،
وحينئذ فقول المستدل ـ : ان الشك في استناد الموت الى الجرح أو الماء يقتضي الشك
في عروض النجاسة ـ مسلم لو كانت النجاسة مرتبة على الموت حتف الأنف خاصة كما
ذكروه. فاما إذا قلنا بترتبها ايضا على الشك في التذكية وعدم العلم بها فلا.
وحينئذ فالظاهر هو القول بالنجاسة. وأصالة الطهارة التي استندوا إليها ممنوعة
بوجود النجاسة يقينا. وبما ذكرناه تخرج هذه الصورة المذكورة عن فرض المسألة ، إذ
موضوع المسألة وقوع شيء مشكوك في نجاسته أو طهارته في الماء القليل ، والصيد في
الصورة المفروضة محكوم بنجاسته قطعا ، لعدم العلم بالتذكية ، فإنه موجب لتحريمه
ونجاسته كما عرفت. نعم لو كان موجب النجاسة هو العلم بعدم التذكية خاصة اتجه ما
ذكروه ، إلا انه ليس كذلك.
فهرس الجزء الاول
من كتاب
الحدائق الناضرة
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
خطبة الكتاب
|
٥
|
الشرعي لا على اثباته
|
٤٢
|
المقدمة الأولى في عدم اختصاص الحمل على التقية بوجود قائل من العامة
|
٤
|
عدم جريان البراءة في الشبهة التحريمية
|
٤٤
|
المقدمة الثانية في اثبات صحة جميع الاخبار وابطال الاصطلاح في تنويع
الحديث إلى الأنواع الأربعة
|
١٤
|
احتجاج في الشبهة التحريمية ودفعه
|
٤٧
|
عدم اختصاص الصحة باخبار الكتب الأربعة وبيان حال الفقه الرضوي
|
٢٥
|
مبحث الاستصحاب
|
٥١
|
المقدمة الثالثة في مدارك الاحكام الشرعية
|
٢٦
|
احتجاج القائلين بحجية الاستصحاب ودفعه
|
٥٢
|
حجية ظواهر الكتاب وعدمها إذا لم يرد التفسير عن أهل بيت العصمة (عليهم
السلام)
|
٢٧
|
تقسيم الدلالة إلى المنطوقية والمفهومية وأقسام كل منهما
|
٥٥
|
حجية الاجماع وعدمها.
|
٣٥
|
الملازمة بالنسبة إلى مقدمة الواجب واستلزام الامر بالشئ النهي عن ضده
الخاص
|
٥٩
|
دليل العقل
|
٤٠
|
قياس الأولوية
|
٦٠
|
ما يطلق عليه لفظ الأصل.
|
٤١
|
منصوص العلة
|
٦٣
|
الأصل بمعنى النفي والعدم إنما يصح الاستدلال به على نفي الحكم
|
|
المقدمة الرابعة في وجوب الاحتياط واستحبابه
|
٦٥
|
|
|
تقسيم الاحتياط إلى الواجب والمستحب
|
٦٨
|
|
|
جملة من الاخبار المشتملة على ذكر الاحتياط
|
٧٢
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
المقدمة الخامسة في معذورية الجاهل بالحكم وعدمها
|
٧٧
|
الامر والنهي الواردة في كلام الأئمة ودفعه
|
١١٥
|
المقدمه السادسة في التعارض والترجيح بين الادلة الشرعية
|
٨٧
|
المقدمة الثامنة في ثبوت الحقيقة الشرعية
|
١١٨
|
تعارض الخبرين
|
٨٩
|
المقدمة التاسعة في ان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ أو في الأعم
منه وممن انقضى عنه
|
١٢١
|
الاخبار الواردة في تعارض الخبرين
|
٩١
|
المقدمة العاشرة في حجية الدليل العقلي وعدمها
|
١٢٥
|
الترجيح بعدلية الراوي وأفقهيته
|
٩٧
|
المقدمة الحادية عشرة في جملة من القواعد الشرعية
|
١٣٣
|
اختلاف مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة في الترتيب بين طرق الترجيح
|
٩٧
|
قاعدة الطهارة
|
١٣٤
|
اختلاف الاخبار في الوظيفة بعد تساوي الخبرين في طرق الترجيح ووجوه الجمع
بينها
|
٩٩
|
عموم قاعدة الطهارة للجهل بالحكم الشرعي وعدمه
|
١٣٤
|
ثبوت الترجيح وعدمه بتأخر الخبر في الصدور
|
١٠٥
|
اشتراط ثبوت النجاسة للأشياء بعلم المكلف واقعاً
|
١٣٦
|
مذهب الكليني (ره) في اختلاف الاخبار
|
١٠٦
|
هل يخرج عن قاعدة الطهارة بالظن بالنجاسة
|
١٣٧
|
مختار المصنف في تعارض الخبرين
|
١٠٩
|
قاعدة الحل
|
١٤٠
|
التعبير بالمشهور عن المجمع عليه في مقبولة عمر بن حنظلة
|
١١١
|
قاعدة الاستصحاب
|
١٤٢
|
المقدمة السابعة في ان مدلول الامر والنهي حقيقة هو الوجوب والتحريم
|
١١٢
|
جريان الاستصحاب وعدمه في الشك في واقعية الموجود
|
١٤٣
|
مختار صاحب المعالم وغيره في صيغة
|
|
ان كل ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه
|
١٤٦
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
القاعدة في الشبهة المحصورة وغير المحصورة في النجاسة والحرمة
|
١٤٨
|
المقدمة الثانية عشرة في نبذة من أحوال المجتهدين والاخباريين
|
١٦٧
|
القاعدة في الشك في الشئ بعد الخروج عنه
|
١٥٠
|
كتاب الطهارة
|
١٧١
|
قاعدة رفع الحرج
|
١٥١
|
تعريف الجاري
|
١٧١
|
قاعدة العذر فيما غلب الله عليه
|
١٥٢
|
الماء المطلق طاهر في نفسه مطهر لغيره
|
١٧٢
|
العمومات القطعية المقررة عن صاحب الشريعة
|
١٥٣
|
معنى الطهور لغة
|
١٧٤
|
البراءة الأصلية في الاحكام التي تعم بها البلوى
|
١٥٥
|
الاخبار الدالة على ان الماء طاهر مطهر
|
١٧٧
|
البناء في شك الأخيرتين من الرباعية على الأكثر ما لم يكن مبطلا
|
١٥٦
|
نجاسة كل ماء بتغيره بالنجاسة
|
١٧٨
|
الابهام لما أبهم الله والسكوت عما سكت الله.
|
١٥٦
|
اعتبار التغير الحسي وعدمه
|
١٨١
|
ثبوت العيب بما زاد أو نقص عن أصل الخلقة
|
١٥٧
|
اعتبار الكرية في عدم أفعال الجاري وعدمه
|
١٨٧
|
ان كل شئ يجتر فسؤره حلال ولعابه حلال
|
١٥٧
|
اعتبار دوام النبع في الجاري وعدمه
|
١٩٤
|
قبول قول من لا منازع له
|
١٥٨
|
تغير بعض الجاري بالنجاسة
|
١٩٧
|
تأخير البيان عن وقت الحاجة
|
١٦٠
|
كيفية تطهير الجاري
|
٢٠١
|
إذا تعلق الطلب بالماهية الكلية فهل يتحقق الامتثال بفرد منها
|
١٦٣
|
ماء الحمام كالجاري إذا كان له مادة
|
٢٠٢
|
الشرط الفاسد مفسد أولا
|
١٦٤
|
اشتراط كرية المادة وعدمه في ماء الحمام
|
٢٠٤
|
|
|
هل يشترط على القول بكرية المادة بلوغ المادة وحدها كراً
|
٢٠٧
|
|
|
هل يطهر ماء الحوض إذا تنجس بمجرد الاتصال بالمادة
|
٢١٠
|
|
|
هل يشترط في تطهير الحوض زيادة المادة على الكر بمقدار ما يحصل به الامتزاج
|
٢١١
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
حكم الشك في كرية المادة
|
٢١٣
|
من الراكد
|
٢٤٩
|
ماء المطر في الجملة حال تقاطره كالجاري
|
٢١٤
|
التقديرات الواردة بغير لفظ الكر
|
٢٤٩
|
لو وقع المطر على ماء نجس بدون التغير بعد زوال عين النجاسة
|
٢٢٠
|
تحديد الكر بالوزن
|
٢٥٤
|
إذا وقع المطر على ارض متنجسة ونحوها واستوعب موضع النجاسة وأزال العين
|
٢٢٢
|
تحديد الكر بالمساحة
|
٢٦١
|
اعتصام الماء القليل بماء المطر حال تقاطره
|
٢٢٤
|
عدم ذكر البعد الثالث في اخبار المساحة
|
٢٦٣
|
اشتراط الكرية وعدمه في ماء المطر على مذهب العلامة في الجاري
|
٢٢٤
|
الكلام في سند رواية أبي بصير الواردة في تحديد الكر
|
٢٦٨
|
اشكال بعض الفضلاء في روايتي الميزابين
|
٢٢٥
|
الكلام في سند صحيحة إسماعيل ابن جابر التي هي مستند القميين
|
٢٧٠
|
اعتصام الكر لا يختص بغير الأواني والحياض
|
٢٢٦
|
توجيه قول القطب الراوندي
|
٢٧٣
|
اعتبار تساوي السطوح في اعتصام الكر وعدمه
|
٢٢٨
|
الكلام في صحيحة إسماعيل بن جابر الدالة على التحديد بذراعين في العمق
وذراع وشبر في السعة
|
٢٧٤
|
تغير بعض الكثير
|
٢٤٢
|
ضبط الكر بالأوزان المتعارفة
|
٢٧٧
|
طريق تطهير الماء الكثير المتغير بالنجاسة
|
٢٤٤
|
نجاسة القليل وعدمها بالملاقاة
|
٢٨٠
|
إصابة النجاسة للكثير بعد جموده
|
٢٤٨
|
الاخبار الدالة على نجاسة القليل بالملاقاة
|
٢٨١
|
المقدار الذي لا ينفعل بالملاقاة
|
|
تقريب الاستدلال بهذه الاخبار
|
٢٨٩
|
|
|
الاخبار التي استدل بها على عدم نجاسة القليل بالملاقاة
|
٢٩٠
|
|
|
تقريب الاستدلال بهذه الاخبار ودفعه
|
٢٩٣
|
|
|
الجمع بين الطائفتين من الاخبار
|
٢٩٤
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الكلام في حسنة محمد بن ميسر من حيث التصريح فيها بالقلة
|
٢٩٨
|
اعتبار المساواة أو علو المطهر على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال
|
٣٤٢
|
أدلة المحدث الكاشاني على عدم انفعال القليل بالملاقاة
|
٣٠١
|
كيفية تطهير القليل النجس في الكوز ونحوه على القول بالامتزاج
|
٣٤٢
|
الجواب عن أدلة المحدث الكاشاني
|
٣٠٤
|
تفريق ماء الكر في ظروف والقاء ماء كل منها على الماء النجس مع الاتصال
|
٣٤٣
|
وجوه الحمل في الاخبار الناهية عن الوضوء والشرب مما لاقته النجاسة ودفعها
|
٣٢٢
|
تطهير القليل النجس بوقوعه في الكر وبماء المطر وباتصاله بالنابع
|
٣٤٣
|
التفصيل في نجاسة القليل بالملاقاة بين الوارد والمورود
|
٣٢٢
|
تطهير القليل النجس باتمامه كراً
|
٣٤٤
|
تفصيل الشيخ (قده) في نجاسة القليل بالملاقاة بين الدم القليل وغيره
|
٣٢٩
|
تعريف البئر
|
٣٤٨
|
التفصيل في نجاسة القليل بالملاقاة بين الساكن والجاري لا عن نبع
|
٣٣٢
|
نجاسة البئر بالملاقاة وعدمها
|
٣٥٠
|
تطهير القليل النجس بالقاء الكر عليه
|
٣٣٢
|
أنموذج من الاختلافات الواقعة في الاخبار في جملة من المقدرات
|
٣٦٣
|
اعتبار الامتزاج وعدمه
|
٣٣٣
|
كيفية تطهير البئر إذا تغير ماؤها
|
٣٦٦
|
اعتبار الدفعة العرفية وعدمه
|
٣٣٧
|
لو زال تغير البئر بغير النزح
|
٣٧١
|
اعتبار زوال التغير ـ ان كان ـ أولا أو بالالقاء بحيث لا يتغير شئ من ماء
الكر
|
٣٤١
|
لو غار ماء البئر بعد النجاسة ثم عاد
|
٣٧١
|
ما ذكره جملة من المتأخرين من كفاية نميز كر طاهر غير متغير عن الماء
المتغير في تطهيره
|
٣٤١
|
طهارة الدلو والرشا والمباشر بالتبعية
|
٣٧٢
|
|
|
اعتبار الدلو في النزح وعدمه
|
٣٧٢
|
|
|
حد الدلو التي ينزح بها
|
٣٧٥
|
|
|
وجوب اخراج النجاسة قبل الشروع في النزوح
|
٣٧٦
|
|
|
طهارة البئر بغير النزح وعدمها
|
٣٧٧
|
|
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
وجوب التراوح إذا تعذر نزح الجميع
|
٣٧٩
|
سؤر الكافر ومن بحكمه
|
٤٢٥
|
عدم نجاسة البئر بالبالوعة والمقدار المستحب في التباعد بينهما
|
٣٨٣
|
سؤر غير الآدمي من الحيوان المأكول اللحم
|
٤٢٦
|
حكم المضاف من حيث الطهارة والنجاسة
|
٣٩١
|
سؤر غير الآدمي من الحيوان غير مأكول اللحم
|
٤٢٩
|
ارتفاع الحدث بالمضاف وعدمه
|
٣٩٤
|
سؤر نجس العين من الحيوان غير مأكول اللحم
|
٤٣٢
|
ارتفاع الخبث بالمضاف وعدمه
|
٣٩٩
|
طهارة غير الآدمي بزوال عين النجاسة وعدمها
|
٤٣٣
|
كلام المحدث الكاشاني في المقام ودفعه
|
٤٠٦
|
طهارة الآدمي بالغيبة وعدمها
|
٤٣٤
|
اختلاط المطلق بالمضاف
|
٤٠٩
|
الماء المستعمل في الحدث الأصغر
|
٤٣٦
|
لو كان مع المكلف ما لا يكفيه للطهارة من المطلق وأمكن اتمامه بمضاف على
وجه لا يسلبه الاطلاق
|
٤١٢
|
الماء المستعمل في الحدث الأكبر
|
٤٣٨
|
طريق تطهير المضاف إذا تنجس
|
٤١٤
|
تحديد الماء المستعمل في الحدث الأكبر
|
٤٤٦
|
تعريف السؤر
|
٤١٧
|
إزالة الخبث بالمستعمل في الحدث الأكبر
|
٤٤٧
|
أقسام السؤر وذي السؤر
|
٤٢٠
|
مورد الكلام غسالة خصوص الجنابة أو مطلق الحدث الأكبر
|
٤٤٨
|
الطاهر والنجس من سؤر الآدمي المسلم
|
٤٢١
|
المستعمل في الأغسال المندوبة
|
٤٤٩
|
كراهة سؤر الحائض على الاطلاق أو بقيد التهمة
|
٤٢٢
|
المستعمل في الغسل من حدث مشكوك فيه
|
٤٤٩
|
الحاق الشهيد كل متهم بالحائض المتهمة
|
٤٢٤
|
اعتبار الانفصال عن البدن في صدق الاستعمال وعدمه
|
٤٤٩
|
كراهة السؤر فيما اختلف فيه بالطهارة والنجاسة عند من اختار الطهارة
|
٤٢٤
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الكر المجتمع من الماء المستعمل
|
٤٥٠
|
القول بنجاسته مطلقاً وان كان بعد طهارة المحل
|
٤٨٥
|
لو غسل رأسه خارجا ثم ادخل يده في القليل ليأخذ ما يغسل به جانبه
|
٤٥١
|
تحقيق المسألة
|
٤٨٥
|
مورد الخلاف في المستعمل في الغسل الارتماسي
|
٤٥٢
|
كلام حول القول بان حكمه حكم المحل قبل الغسل
|
٤٨٩
|
اختصاص البحث في هذه المسألة بالقليل وعدمه
|
٤٥٧
|
ما يعتبر في تطهير ما لاقته الغسالة على القول بالنجاسة
|
٤٩٠
|
الكلام في صحيح علي بن جعفر المتعلق بهذا المقام
|
٤٥٩
|
دعوى الاجماع على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقا
|
٤٩٠
|
عدم وجوب إزالة ماء الاستنجاء لما هو مشروط بالطهارة
|
٤٦٧
|
كلام الشهيد في الدروس في نقل الأقوال وما يرجحه
|
٤٩٠
|
ماء الاستنجاء طاهر أو معفو عنه
|
٤٦٩
|
هل الحكم في الغسالة على تقدير عدم النجاسة هو الطهارة أو العفو
|
٤٩١
|
كلام المحقق المتعلق بالمقام
|
٤٧١
|
هل يعتبر في طهارة الغسالة ورود الماء على النجاسة
|
٤٩٢
|
شروط الطهارة أو العفو في ماء الاستنجاء
|
٤٧٥
|
حكم الباقي في انحل بعد العصر أو الإراقة
|
٤٩٣
|
الكلام فيما ادعي من الاجماع على عدم جواز رفع الحدث بماء الاستنجاء
|
٤٧٧
|
إذا غسل الثوب من البول في إجانة بصب الماء عليه
|
٤٩٥
|
الماء المستعمل في إزالة النجاسة
|
٤٧٧
|
تغير الغسالة بالاستعمال
|
٤٩٦
|
القول بنجاسته مطلقا وان حكمه حكم المحل قبل الغسل
|
٤٧٧
|
غسالة الحمام
|
٤٩٧
|
القول بان حكمه حكم المحل قبل الغسلة
|
٤٨١
|
حكم غسالة الحمام مع الشك في ملاقاة النجاسة
|
٤٩٩
|
القول بان حكمه حكم المحل بعد الغسلة
|
٤٨١
|
|
|
القول بان حكمه حكم المحل بعد الغسلة
|
٤٨٢
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
اشتباه الماء الطاهر بالنجس
|
٥٠٢
|
الصلاة بطهارة متيقنة من الماءين المشتبهين
|
٥١٧
|
تحقيق في حكم الشبهة المحصورة وغير المحصورة في الطهارة النجاسة والحلية والحرمة
|
٥٠٣
|
تحصيل الامارات المرجحة لطهارة أحد الماءين المشتبهين
|
٥١٨
|
حكم ملاقي الماء المشتبه
|
٥١٢
|
اشتباه الماء المباح بالمغصوب
|
٥١٨
|
لو اشتبه ماء اناء طاهر يقينا بأحد الاناءين
|
٥١٤
|
اشتباه المطلق بالمضاف
|
٥١٩
|
عدم الفرق في وجوب الاجتناب مع الاناءين والأكثر
|
٥١٥
|
الشك في وقوع النجاسة في الماء أو ظنه
|
٥٢١
|
الامر بالإراقة في موثقتي عمار وسماعة للوجوب أو للإباحة
|
٥١٦
|
تعارض البينتين في الطهارة والنجاسة في اناء واحد
|
٥٢١
|
الشك في وقوع النجاسة في الماء أو خارجه
|
٥١٦
|
تعارض البينتين في اناءين
|
٥٢٣
|
صور لشبهة المحصورة في الطهارة والنجاسة
|
٥١٧
|
الشك في ان ما وقع في الماء طاهر أو نجس
|
٥٢٥
|
|
|
الشك في استناد موت الحيوان إلى الجرح أو الماء
|
٥٢٥
|
|