
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسّلام على أفصح من نطق بالضاد محمّد واله الامجاد الذين هم
خيرة العباد ، واللعن الدائم على اعدائهم ومنكري فضائلهم أولي اللجاج والعناد من
الان الى يوم المعاد.
اما بعد فيقول
: العبد المذنب الجاني محمّد علي المشتهر بالمدرس الافغاني ابن مراد علي : ان
العلوم على تشعب فنونها وتكثر شجونها أرفع المطالب وانفع المآرب ، وعلم البلاغة
وتوابعها من بينها أبينها تبيانا واحسنها شأنا ، اذ به يعرف أعلى معجزات خاتم
النبيين اعنى القرآن الكريم ، وبه يفهم الدقائق والأسرار المودعة في نهج البلاغة
لمولانا ومولى جميع المؤمنين : علي امير المؤمنين.
ومن الكتب التى
صنفت في هذا العلم الكتاب المسمى بالمطول الذى صنفه ملا سعد الهروى التفتازاني في
شرح تلخيص المفتاح.
ولقد دعت جلالة
هذا الكتاب دواعي اهل الفضل والكمال الى الاشتغال به والخوض في مطالبه.
وأنّي طالما
كان يجول في خاطري ان اشرح بعض الفاظه وابين بعض نكاته بمقدار يسره الله لى بمنه
وفضله ، وكان يعوقني عن ذلك امور لا يمكن لي اظهارها ، والمشتكى الى الله ...
ولنعم ما قال المصنف : انى فى زمان أرى العلم قد عطلت مشاهده ومعاهده ، وسدت
مصادره وموارده ، وخلت دياره ومراسمه
وعفت أطلاله ومعالمه ، حتى اشفت شموس الفضل على الافول ، واستوطن الافاضل
زوايا الخمول يتلهفون من اندراس اطلال العلوم والفضائل ، ويتأسفون من انعكاس احوال
الاذكياء والافاضل.
ولكن تاكد ذلك
العزم بتكرر التمماس الطالبين وتوفر رغبات المحصلين ، لا سيما بعض الطلاب الذين
يحضرون عندي عند تدريسي هذا الكتاب. فشرعت في ذلك مستعينا بالله العلي القدير ،
ومستمدا ممن انا في جواره وكان ذلك ليلة النصف من رجب المرجب من شهور سنة ١٣٨٦
قال : (قال
المصنف : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ، إفتتح كتابه) اي إبتدء قال في
المصباح المنير : «فتحت الباب فتحا خلاف أغلقته ...»»
الى ان قال : «وافتتحته
بكذا : ابتدأته به» انتهى محل الحاجة من كلامه.
(بعد التيمن)
اى التبرك ، قال في المصباح : «واليمن البركة ، يقال :
يمن الرجل على
قومه ولقومه بالبناء للمفعول ، فهو ميمون. ويمنه الله ييمنه يمنا من باب قتل : اذا
جعله مباركا : وتيمنت به مثل تبركت وزنا ومعنى.»
(بالتسمية)
مصدر باب التفعيل من سمى يسمى ، مأخوذ من السمو. قال في البهجة المرضية. سم تسمية.
والمراد به هنا : ذكر اسم الله تعالى ، سواء أكان بهذه الصورة ام بغيرها فتامل!
(بحمد الله
سبحانه) اقتداء بالذكر الحكيم وعملا بقولي النبى الكريم على مارواهما بعض علماء
الدين القويم وهما : «كل امر ذى بال لا يبدء فيه ب (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فهو ابتر». «وكل امر ذى بال لا يبدء فيه
بالحمد لله فهو أجذم»
وقد جاء في بعض
الروايات : «لا يبدء فيه بذكر الله» وعلى هذا يمكن التوفيق ، بين الحديثين
السابقين ، بان يراد بكل منهما الذكر المطلق ، لا خصوص (بسم الله الرحمن الرحيم)
ولا خصوص (الحمد لله).
وهذا من حمل
المقيد على المطلق بالغاء قيده ومحل حمل المطلق على المقيد اذا لم يكن المقيد
مقيدا بقيدين متنافيين أما اذا كان كذلك كما فيما نحن فيه ، اذ أحدهما مقيد بخصوص
اسم الله ، والاخر بخصوص حمده ، فحينئذ يحمل المقيد على المطلق ، لان القيدين
يتعارضان فيتساقطان ويرجع الى المطلق. على ما بين في الاصول. او يوفق بين الحديثين
بحمل حديث البسمله على الابتداء الحقيقى بحيث لا يسبقه شىء ، وحديث الحمد له على
الابتداء الاضافي او العرفي.
ولم ـ يعكس وان
احتمل جوازه بعضهم ـ لأن حديث البسملة اقوى بكتاب الله الوارد على هذا الترتيب كما
اشرنا اليه. على ان تقديم البسملة أولى وأحسن لانها تتضمن الحمد له ، لان فيها
ثناء عليه تعالى بصفة الرحمة.
هذا ولكن شبهة
التعارض بين الحديثين مبنية على خمسة امور ، في كل منها منع ظاهر على ما نشير اليه
:
الاول : كون
المراد من البدء في كل واحد منهما حقيقيا ، بان يقال : معنى بدء الشيء بالشيء :
تصديره به وجعله قبل ذلك الشيء. ولا شك ان البدء بهذا المعنى اذا حصل قبل امر ذي
بال باحد من البسملة او الحمد له لا يمكن ان يحصل البدء بهذا المعنى بالاخر منهما.
لكن كون المراد
من البدء فيهما ما ذكر ممنوع ، لجواز ان يكون المراد به في احدهما حقيقيا وفي
الاخر اضافيا او عرفيا حسبما اشرنا اليه آنفا كما عليه المشهور.
الثاني : ان
يكون الابتداء بما يبدء به منهما امرا غير قابل للامتداد الى حين الابتداء بالاخر
منهما ، وهذا ايضا ممنوع كالاول ، لجواز كون المبدوء به منهما اولا قابلا للامتداد
الى حين الابتداء بالاخر.
الثالث : كون
الباء فيها صلة للبدء ، وهذا ايضا ممنوع ، لجواز كونها فيهما للاستعانة او
الملابسه.
على انه يمكن
دفع التدافع وان جعلت الباء صلة للبدء بأن يحمل البدء في التسمية على مطلق التقديم
المتناول للتقديم في الذكر اللساني الجناني والعمل الاركاني والتحرير البياني ،
ويحمل البدء في الحمد خاصة على العمل الاركاني.
الرابع : ان
يكون المراد من البسملة والحمد لله خصوص الفاظهما المذكورة في الحديثين ، وهذا
ايضا ممنوع ، لجواز كون المراد منها فيهما مطلق الذكر ، بقرينة الحديث الثالث
حسبما اشرنا اليه سابقا من الغاء القيد فيهما.
الخامس : ان
يكون المراد بالبدء بتلك الامور المذكورة تقديمها في الذكر اللسانى الذى يعبر عنه
بلفظ البسملة والحمد له. وهذا أيضا ممنوع. قال الجامى : «إعلم ان الشيخ لم يصدر
رسالته هذه بحمد الله سبحانه بان يجعله جزء منها ، هضما لنفسه ، بتخيل ان كتابه
هذا من حيث انه كتابه ليس ككتب السلف حتى يصدر به على سنتها ، ولا يلزم من ذلك عدم
الابتداء
به مطلقا حتى تكون بتركه اقطع ، لجواز اتيانه بالحمد من غير ان يجعله جزء
من كتابه» انتهى.
(اداء) مفعول
له لقوله : افتتح الذى عللناه بما ذكرناه. (لحق شىء) اى بعض قليل ، لأن التنكير في
شىء للتقليل ، وسيأتى وجه ذلك في باب المسند اليه عند الاستشهاد بقوله :
«فيوما بخيل تطرد الروم عنهم
|
|
ويوما بجود
تطرد الفقر والجدبا
|
وكذا عند وقوله
: فد يجىء اى التنكير للتحقير والتقليل ايضا نحو أعطاني شيئا اي حقيرا قليلا.
(مما يجب عليه)
عقلا (من شكر نعمائه) لفظة من الاولى للتبعيض ، كما ان الثانية بيانية مبينها ما
الموصولة.
حاصل مرامه :
ان الخطيب لا يقدر الا على اداء بعض ما يجب عليه عقلا من شكر نعمائه تعالى. (التى
تاليف هذا المختصر اثر من آثارها) اي النعماء ، وانما حكم بذلك إما لما قيل : من
ان التوفيق للحمد والاقتدار عليه ايضا مما يقتضى شكرا وهلم جرا ... فلا يفي بحقه
قوة الحامد ، وإما لما قيل بالفارسية : هر نفسى كه فرو ميرود ممد حيات است وچون
برميايد مفرح ذات.
از دست وزبان
كه برايد
|
|
كز عهدء شكرش
بدر آيد ،
|
وإما للاشارة
الى كثرة نعمائه تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها). قال بعض العرفاء استغراقنا في نعمة الغير المتناهية
بحيث او عمرنا الى الابد حامدين لم يفضل حمدنا على ما وصل الينا من نعمه.
(والحمد) لغة
نقيض الذم ، كالمدح ، وهو الثناء الحسن ، وهو اعم من
الشكر اللغوى وهو الثناء على الاحسان.
قال في المصباح
: «حمدته على شجاعته واحسانه حمدا : أثنيت عليه. ومن هنا كان الحمد غير الشكر لانه
يستعمل لصفة في الشخص وفيه معنى التعجب ، ويكون فيه معنى التعظيم للممدوح وخضوع
المادح كقول المبتلى : الحمد لله ، اذ ليس هنا شيء من نعم الدنيا ، ويكون في
مقابلة احسان يصل الى الحامد. واما الشكر فلا يكون الا في مقابلة الصنيع ، فلا
يقال : شكرته على شجاعته» انتهى.
وعرفا (هو
الثناء باللسان) بالجميل (على الجميل) لقصد التبجيل (سواء تعلق بالفضائل) هي جمع
فصيلة وهى كل خصلة ذاتية. وبعبارة اخرى : هى المزايا التى لا تتعدى الى الغير
كصفاء اللؤلؤ وصباحة الخدّ ورشاقة القدّ (او بالفواضل) هى جمع فاضلة ، وهي المزايا
المتعدية كالانعام اعني اعطاء النعم وسائر ما يتعدى الى الغير.
(والشكر) قد
تقدم معناه لغة ، وقريب منه ما ذكره المصباح ، قال : «شكرت الله : اعترفت بنعمته
وفعلت ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية ، ولهذا يكون الشكر بالقول والعمل».
انتهى ، وذلك قريب من معناه العرفي اي : (فعل ينبىء عن تعظيم بسبب النعدام المنعم
سواء كان) ذلك الفعل (ذكرا باللسان او اعتقادا او محبة بالجنان) اى القلب والباطن
بان يعتقد اتصاف المشكور له بصفات الكمال والجلال (او عملا وخدمة بالاركان) اي
الجوارح والاعضاء حاصله : ان ياتى بافعال دالة على تعظيمه ، واليه يشير قولهم :
الشكر صرف العبد جميع ما انعم الله به عليه من السمع والبصر وغيرهما الى ما خلق
واعطاه
لأجله كصرفه النظر الى مطالعة مصنوعاته ، والسمع الى تلقي ما ينبىء عن مرضاته
الاجتناب عن منهياته. وليعلم ان المتبادر العرفي العام من الشكر والحمد هو الثناء
باللسان فانك اذا قلت مثلا اثنيت فلانا بكذا لم يتبادر منه عند العرف العام إلا
الثناء باللسان ، ولكن الفعل اقوى دلالة ، فان دلالة اللسان وضعية وهي قد تختلف
بخلاف دلالة الفعل لانها قطعية لا يتصور فيها التخلف. ومن هذا القبيل حمد الله
تعالى وثناؤه على ذاته ، وذلك انه تعالى حين بسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى
ووضع عليه موائد كرمه التي لا يتناهى فقد كشف بهذا الفعل عن صفات كماله واظهرها
بدلالة قطعية تفصيلية غير متناهية فان كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها ولا يمكن
في اللسان مثل هذه الدلالة ولذلك قال سيد البشر الذى هو أفصح اهل اللسان : لا احصى
ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك. (فمورد الحمد) والشكر ومتعلقهما يتعاكسان بمعنى
ان مورد الحمد اى ما ينشأ ويصدر منه (هو اللسان وحده ومتعلقه) اى ما يوجب صدور
الحمد من الحامد (يعم النعمة وغيرها ومورد الشكر يعم اللسان وغيره ومتعلقه يكون
النعمة وحدها) وهذا هو المراد من تعاكسهما لا ما يراد منه في المنطق او اللغة
ولعمري هذا ظاهر لاسترة عليه على ان تعريفهما من قسم التصورات فلا قضية في المقام
اصلا حتى يجري فيه العكس بأحد المعنيين.
(فالحمد أعم من
الشكر باعتبار المتعلق) بمنى أن كلما كان متعلقا للشكر من النعماء يكون متعلقا
للحمد أيضا ، بخلاف ما كان متعلقا للحمد من الفضائل فانه لا يكون متعلقا للشكر.
مثلا يصح أن يقال : حمدت اللؤلؤ على صفائها ، وحمدت زيدا على عطائه ، ولا يقال :
شكرت الا في الثاني فقط لانه
(يعم اللسان وغيره) من الاعتقاد والمحبة بالجنان ، أو العمل والخدمة
بالأركان ، (ومتعلقه يكون النعمة وحدها)
(واخص) منه (باعتبار
المورد) ، لأن مورده اللسان وحده ، ومورد الشكر : كل فعل ينبىء عن تعظيم المنعم
بسبب الإنعام سواء كان ذكرا باللسان او غيره ، (والشكر بالعكس). فهو أخص باعتبار
المتعلق وأعم باعتبار المورد ، وقد تبين وجهه مما تقدم.
(ومن هذا تحقق
تصادقهما فى الثناء باللسان فى مقابلة الإحسان) لأن اللسان مورد لكليهما ،
والإحسان ـ اى الانعام ـ متعلق لهما
(و) تحقق أيضا (تفارقهما
فى صدق الحمد فقط) دون الشكر (على الوصف بالعلم والشجاعة) لأنهما من الفضائل
والمزايا التي لا تتعدى إلى الغير ، ولا بد في صدق الشكر على الثناء على شىء كونه
من الفواضل اى المزايا المتعدية الى الغير (وصدق الشكر فقط) دون الحمد على الثناء
بالجنان فى مقابلة الاحسان) ، وذلك لان الجنان ليس موردا للحمد لاشتراط كونه
باللسان.
هذا وقد يعجبنى
ذكر كلام في المقام لبعض المحققين يكون شبه إعادة لما تقدم ، اذ المقصود توضيح
المرام وان يلزم منه التكرار ، لأن الاعادة قد تكون فيها إفادة ، قال : «حمد هو
لغة : نقيض الذم ، كالمدح وهو الثناء الحسن ، وهو أعم من الشكر اللغوى وهو الثناء
على الاحسان ، وعرفا : الوصف بالجميل على الجميل لقصد التبجيل ، وهو أعم من الشكر
العرفي وهو الفعل المنبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعما بحسب المتعلق ـ اعني ما
يقعان بازائه ، فانه يقع بازاء الفضائل والفواضل ، بخلافه حيث يختص وقوعه بازاء
الفواضل وأخص بحسب المورد فانه يقع باللسان وحده ، وهو بالجنان
والاراكان أيضا.
فالحمد اللغوي
أعم مطلقا من الشكر اللغوي ، والحمد العرفي أعم من وجه من الشكر العرفي. والمشهور
كما في شرح المطالع وحاشيته هو العموم والخصوص من وجه بين اللغويين بجعل الشكر
اللغوي هو الفعل المنبىء ، والعموم مطلقا بين العرفيين لكونهما عامين للموارد كلها
، حيث لا عبرة بمجرد القول بدون مطابقة الاعتقاد والعمل ، وكون الحمد بازاء النعمة
مطلقا وتخصيص الشكر بالنعمة الواصلة الى الشاكر.
والتحقيق ما
ذكرنا أما الاول فلانه هو المطابق ، لما صرح أئمة اللغة. واما الثاني فلان المعتبر
في الحمد هو عدم مخالفة الاعتقاد والعمل لما يصدر من اللسان ، فكل منهما شرط لكون
ما من اللسان حمدا ، وليس بفرد له ولا بجزء منه. وأما في الشكر فكل منهما ، على ما
ذكرنا ، فرد منه وهو الأشهر.
وقد يعرف بصرف
العبد جميع ما أعطاه الله من السمع والبصر وغيرهما ، إلى ما أعطاه لاجله ، كصرف
النظر إلى مطالعة مصنوعاته ، والسمع إلى إستماع ما ينبىء عن مرضاته. والاجتناب عن
صرف ذلك في منهياته. وحينئذ يكون كل منهما جزء منه. وكذا تخصيص الشكر بالنعمة
الواصلة إلى الشاكر» انتهى.
(و) أما (الله)
ففيه أقوال مرجعها الى قولين :
الأول : انه
جامد غير مشتق من شيىء ، بل هو (اسم) لا وصف ولا كنية ولا لقب ، علم شخصي لا جنسي
، كلي منحصر في فرد ، (للذات الواجب الوجود) لذاته المعين في الخارج ، فانه ـ أي
كون وجوب الوجود لذاته ـ المتبادر عند الاطلاق ،
لأنه الفرد الأكمل من واجب الوجود ، بخلاف الممكن الواجب الوجود لغيره. وهو
أخص صفاته تعالى اذ لا يصدق ـ بحسب نفس الأمر ـ على غيره تعالى من الممكنات ،
بخلاف سائر صفاته تعالى لأنه يصدق على غيره ولو بحسب فرض العقل.
والواضع له هو
مسماه كأسماء الملائكة وبعض المقربين ، فعلم غيره وحيا أو بنحو آخر.
وقيل : ان
الواضع له غيره تعالى ، والإستشكال عليه بأن المحقق في محله ان العلم ما وضع لشيىء
مع جميع مشخصاته فوضعه علما فرع تعقل الموضوع له بالكنه وذلك غير ممكن لغيره تعالى
في وضع ، الجلالة كيف وقد قال سيد البشر صلىاللهعليهوآله : ما عرفناك حق معرفتك ، مردود بأنه يكفي تعقله قدر
الطاقه البشرية ، إذ لا نزاع في إمكان تعقله تعالى لغيره بصفاته الحقيقية
والإضافية والثبوتية والسلبية على قدر ما يتيسر له منها بالفيض الالهي ، وإلا يلزم
بطلان علم الكلام إذ الموضوع له ـ على ما عليه بعض المحققين ـ ذات الله تعالى ،
لأنه يبحث فيه انه لا يتكثر ولا يتركب ، وانه يتميز عن المحدث بصفات يجب له وامور
يمتنع عليه. وبعبارة اخرى : يبحث فيه عن صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة
بأمر الدنيا ككيفية صدور العالم عنه بالاختيار ، وحدوث العالم ، وخلق الأعمال ،
وكيفية نظام العالم بالبحث عن النبوات وما يتبعها أو بأمر الآخرة كبحث المعاد
وسائر السمعيات ، وللزم بطلان قول العلامة بوجوب معرفة جميع ما ذكر بالدليل وحكمه
بان الجاهل بها خارج عن ربقة المسلمين ، والوجه في ذلك ظاهر.
والقول الثاني
: انه مشتق من «الأله» ـ بفتح الهمزة واللام ـ بمعني
التحير ، مصدر اله ـ بكسر اللام ـ اصله : «وله يوله». أو من «أله يأله
إلاهة» بمعنى : عبد عبادة. قال في المصباح : أله يأله من باب تعب إلاهة بمعنى عبد
عبادة ، وتأله : تعبد ، والاله : المعبود وهو ألله سبحانه وتعالى ، ثم إستعاده
المشركون لما عبدوه من دون الله تعالى ، والجمع آلهة. فالاله فعال بمعنى مفعول مثل
كتاب بمعنى مكتوب ، وبساط بمعنى مبسوط ، وأما «الله» فقيل غير مشتق من شيىء ، بل
هو علم لزمته الألف واللام ، وقال سيبويه : مشتق واصله : «إله» فدخلت عليه الألف
واللام فبقي الاله ، ثم نقلت حركة الهمزة الى اللام وسقطت فبقى اللاه ، فأسكنت
اللام الأولى وادغمت وافخم تعظيما لكنه يرقق مع كسر ما قبله. قال أبو حاتم : وبعض
العامة يقول : لا والله ، فيحذف الألف ولا بد من إثباتها في اللفظ ، وهذا كما
كتبوا «الرحمن» بغير ألف ولا بد من إثباتها في اللفظ ، وإسم الله تعالى يجل أن
ينطق به إلا على أجمل الوجوه» انتهى.
وقيل اصله : «لاها»
بالسريانية فعرب بحذف الألف الاخير وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا
انفتح ما قبله أو انظم. وقد ياتي في تعريف المسند اليه بالعلمية ما يفيدك في
المقام ، فانتظر. والكلام في العلمية وعدمها على هذا القول أيضا كما تقدم سندا
ودليلا ، فتبصر.
(المستحق لجميع
المحامد) جمع المحمدة ، قال في المصباح : المحمدة بفتح الميم نقيض المذمة ، ونص
إبن السراج وجماعة على الكسر ، وأما استحقاقه لجميع المحامد فلأن واجب الوجود حكم
عقلا على مصداقه بكونه مستجمعا لجميع الصفات الكمالية ، على ما بين في علم الكلام
عند ذكر خواص مصداق واجب الوجود. (ولذا لم يقل الحمد للخالق او الرازق او نحوهما)
من صفاته
الأخر (مما يوهم إختصاص إستحقاق الحمد بوصف دون وصف) ، لما جبل عليه الناظر
إلى ظواهر الألفاظ من الحكم بأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية ، فيحكم بالمفهوم
ـ اعني نفي الحكم عن غير محل الوصف ـ على ما بين في الاصول مفصلا.
وللاخذ
بالمفهوم سواء كان مفهوم الوصف أو غيره حكايات وقصص لعلنا نذكر بعضا منها في طي
المباحث الاتيه في مقام يناسبه إنشاء الله تعالى
(بل إنّما تعرض
للإنعام) الذى هو من صفاته بقوله تعالى الآتي على ما أنعم. (بعد الدلالة على
استحقاق الذات) بتعليق الحمد على لفظ الجلالة الذي هو اسم الذات على ما بيناه
مفصلا (تنبيها على تحقق الاستحقاقين) الفضائل ، المدلول عليه بتعليق الحمد على لفظ
الجلالة ، والفواضل المدلول عليه بتعليقه ثانيا على الإنعام.
وحاصله ان الله
تعالى مستحق للحمد من حيث الذات ومن حيث الصفات ، فيكون الحمد شكرا أيضا. على ان
حمدنا له تعالى لا يكون ـ في الحقيقة ـ إلا شكرا له تعالى ، إذ لا يفضل حمدنا على
ما وصل إلينا من نعمة ليمكن ان يقع بازاء غيرها ، فلا يكون حمدنا إلا شكرا. وقد
تقدم آنفا ما يدل على هذا فتنبه.
وانما (قدم)
المصنف (الحمد) على لفظ الجلالة (لاقتضاء المقام مزيد إهتمام به) ـ اي بالحمد ـ اذ
المقام مقام الشروع في أمر ذي بال وهو تاليف الكتاب ، وقد تقدم أن كل أمر ذي بال لم
يبدأ بحمد الله فهو أجذم ، فمقتضى المقام ـ اى الشروع في تأليف الكتاب ـ تقديم
الحمد ، فحصل
للحمد اهمية عارضية تقتضى الاعتناء بشانه (وإن كان ذكر الله أهم في نفسه)
والحاصل : ان
الاهمية موجودة في كليهما ، وهي في الحمد عارضية باقتضاء المقام. وفي لفظ الجلالة
ذاتية ، لكن الأهمية العارضية في الحمد أولى بالمراعاة من الأهمية الذاتية في لفظ
الجلالة ، لأن البلاغة في الكلام ـ كما ياتى عن قريب ـ عبارة عن مطابقته لمقتضى
الحال مع فصاحته ، والحال اي المقام اي الشروع في التاليف يقتضي تقديم الحمد لا
إسم الجلالة ، وإن كان هو أهم في نفسه. وبعبارة اخرى للحمد اهمية بالنسبة لمقام
الشروع في التاليف ، والأهمية النسبية تقدم في باب البلاغة على الأهمية الذاتية ،
لما ياتي في تعريف البلاغة في الكلام ، وقد اشرنا اليه آنفا. وبعبارة اخرى : الحاكم
بالترجح في التقديم في باب البلاغة قصد البليغ ، وهو تابع لما يناسب المقام ، وقد
يزيل الذاتيات بذلك القصد.
والى بعض ما
شرحنا اشار بقوله. «مزيد اهتمام به» فلا تغفل. ولعين ما ذكرنا قدم لفظ الجلالة على
الحمد في قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّماواتِ) ، ونحوه من الآيات ، لأن المقام فيها مقام بيان
إستحقاقه تعالى وإختصاصه بالحمد.
وليعلم ان قوله
: «الحمد لله» إنشاء لا إخبار ، والانشائية تحصيل بثلاثة امور : الأول : دخول
الأدات نحو : هل يضرب ، وليت زيدا يضرب. والثاني التغيير نحو : إضرب ، إذ أصله
تضرب. والثالث : القصد والنقل كبعت وأنكحت ، والمقام من هذا القبيل.
ولنشر الى
امرين مهمّين ،
أما الأمر
الاول فهو ما ذكره الشارح في بحث تقديم المسند إليه على المسند وهذا لفظه «فان قلت
: كيف يطلق التقديم على المسند إليه وقد صرح صاحب الكشاف بأنه إنما يقال مقدم
ومؤخر للمزال لا للقار في مكانه؟ قلت : التقديم ضربان : تقديم على نية التأخير
كتقديم الخبر على المبتدأ ، والمفعول على الفعل ، ونحو ذلك مما يبقى له مع التقديم
إسمه ورسمه الذي كان قبل التقديم ، وتقديم لا على نية التأخير ، كتقديم المبتدأ
على الخبر ، والفعل على الفاعل ، وذلك بأن تعمد إلى إسم فنقدمه تارة على الفعل
فتجعله مبتدأ نحو زيد قام ، وتؤخره تارة فتجعله فاعل نحو : قام زيد ،
وتقدم المسند
اليه من الضرب الثاني ، ومراد صاحب الكشاف ثمة هو الضرب الاول ، وكلامه أيضا مشحون
باطلاق التقديم على الضرب الثاني.» انتهى
فقد ظهر من هذا
ان تقديم الحمد من الضرب الثاني ، وإن احتمل بعظهم كونه من الضرب الأول بان يكون
التقدير : احمد الله حمدا» فتأمّل :
واما الامر
بالثاني فهو ما ذكره ايضا في البحث المذكور وهذا لفظه : «ذكر الشيخ في دلائل
الاعجاز إنا لم نجدهم إعتمدوا في التقديم شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية
والاهتمام ، لكن ينبغي ان يفسر وجه العناية بشيىء ويعرف فيه معنى ، وقد ظن كثير من
الناس انه يكفي أن يقال : قدم للعناية ، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية
وبم كان أهم هذا كلامه لأجل هذا أشار الى تفصيل وجه كونه اهم» انتهى.
إذا عرفت ذلك
فنقول : قد ظهر لك مما بيناه آنفا ان العناية بالحمد وصيرورته أهم إنما أتى من كون
المقام مفتتح التاليف والشروع فيه نظير تقديم الفعل في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) على ما ياتى فى باب متعلقات الفعل بأن الاهم فيه
القراءة لأنها أول سورة نزلت ، فكان الأمر بالقرائة أهم فلذا قدم ، فتبصر! ،
واما لفظة (على)
فقد يفسرها بعضهم في امثال المقام بلفظة «بعلاوة» ولكن التحقيق فى تفسيرها ما ذكره
إبن هشام في حرف العين فى معانى (على) وهذا لفظه :
«التاسع أن
تكون للإستدراك والإضراب ، كقوله : فلان لا يدخل الجنة لسوء صنيعه على انه لا يأس
من رحمة الله ، وقوله :
فو الله لا
أنسى قتيلا رزيته
|
|
بجانب قوسي
ما بقيت على الارض
|
على أنها
تعفى الكلوم وإنما
|
|
توكل بالأدني
وإن جل ما يمضى
|
اى على ان
العادة نسيان المصائب البعيدة العهد ، وقوله :
بكل تداوينا
فلم يشف ما بنا
|
|
على ان قرب
الدار خير من البعد
|
(ثم قال)
على أن قرب
الدار ليس بنافع
|
|
إذا كان من
تهواه ليس بذى ود
|
أبطل ب «على»
الاولى عموم قوله : «لم يشف ما بنا» ، فقال : بلى ان فيه شفاء مّا ، ثم أبطل
بالثانية قوله : «على ان قرب الدار خير من البعد» وتعلق على هذه بما قبلها عند من
قال به كتعلق حاشا بما قبلها عند من قال به ، لأنها أوصلت معناه إلى ما بعدها على
وجه الإضراب والإخراج. أو هي خبر لمبتدء
محذوف أي والتحقيق على كذا وهذا الوجه إختاره إبن الحاجب ، قال : ودل على
ذلك إن الجملة الاولى وقعت على غير التحقيق ، ثم جبىء بما هو التحقيق فيها» انتهى.
فما تقدم من
الكلام في تقديم الحمد كله وقع من غير تحقيق ، والتحقيق : على (ان صاحب الكشاف) اى
الزمخشرى (قد صرح بأن فيه) ـ اى في تقديم الحمد في المقام ـ (دلالة على إختصاص
الحمد به) ـ اى بالله تعالى ـ (وانه) ـ اى الله تعالى ـ (به) ـ اى بالحمد ـ (حقيق)
ـ ويلزم من هذا التصريح إختصاص جميع أفراد الحمد بالله ، وانحصارها فيه تعالى وإن
قلنا بكون اللام في الحمد للجنس ، إذا إختصاص الجنس بشيىء يستلزم إختصاص جميع
الأفراد به ، فيصير مؤدى القول بكون الللام للجنس حينئذ عين مؤدى القول بكونها
للإستغراق ، وكلا القولين منافيان في الظاهر لما عليه المعتزلة ـ ومنهم صاحب
الكشاف ـ من قاعدة خلق أفعال العباد من المعاصى وعيرها وأنها مخلوقة لهم لا لله
تعالى ، خلافا للعدلية والاشاعرة.
واني يعجبني
ذكر أمرين مهمين وقع في ثانيهما مشاجرة عظيمه بين علماء الاسلام وإن كان ذكرهما
غير مناسب للمقام ، ومن الله التوفيق وبه الاتكال والاعتصام :
الأول : قال في
شرح المقاصد : «ألاحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية
وعملية ، ومنها ما يتعلق بالإعتقاد وتسمى أصلية وإعتقادية وكانت الأوائل من
العلماء ببركة صحبة النبي (ص) وقرب العهد بزمانه وسماع الاخبار ومشاهدة الاثار مع
قلة الوقايع والإختلافات ، وسهولة
المراجعة الى الثقات ، مستغنين عن تدوين الأحكام وترتيبها أبوابا وفصولا ،
وتكثير المسائل فروعا واصولا ، إلى أن ظهر إختلاف الآراء والميل إلى البدع
والأهواء وكثرة الفتاوى والواقعات ، ومست الحاجة فيها إلى زيادة نظر وإلتفات ،
فأخذ أرباب النظر والاستدلال في إستنباط الأحكام ، وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد
الاسلام ، وأقبلوا على تمهيد اصولها وقوانينها وتلخيص حججها وبراهينها وتدوين
المسائل بادلتها وايراد الشبه باجوبتها ، وسموا العلم بها فقها ، وخصوا
الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر ، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه ،
والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها ، وبعلم الكلام لأن
مباحثه كانت مصدرة بقولهم : «الكلام في كذا وكذا» ، ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت
في مسألة كلام الله تعالى انه قديم أو حادث ، ولانه يورث قدرة على الكلام في تحقيق
الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات ، ولأنه كثر فيه الكلام مع المخالفين والرد عليهم
ما لم يكثر في غيره ، ولأنه بقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال
للأقوى من الكلامين : هذا هو الكلام. واعتبروا في ادلتها اليقين لانه لا عبرة بالظن
في الاعتقاديات ، بل في العمليات.
وقال في شرح
العقائد النسفية : والمعتزلة اول فرقة أسسوا قواعد الخلاف لما ورد به ظاهر السنة
وجرى عليه جماعة من الصحابة في باب العقائد ، وذلك لأن رئيسهم واصل ابن عطا إعتزل
عن مجلس الحسن البصري يقرر ان مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، ويثبت المنزلة
بين المنزلتين. فقال الحسن : قد إعتزل عنا ، فسموا المعتزلة ، وهم سموا أنفسهم
أصحاب للعدل والتوحيد لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله تعالى ونفي
الصفات القديمة عنه تعالى.
ثم انهم توغلوا
في علم الكلام ، وتشبثوا بأذيال الفلاسفة في كثير من الاصول ، وشاع مذهبهم فيما
بين الناس وقال بعض المحققين : ولا يزال الأمر كذلك إلى أن خالف الشيخ ابو الحسن
الأشعري مع استاده أبي علي الجبائي في مسألة ذكرها شارح العقائد ، فترك الأشعري
مذهبه واشتغل هو ومن تابعه بابطال رأي المعتزلة وإثبات ماوردت به السنة وجرى عليه
الجماعة. وهذا صريح في ان مخالفة المعتزلة مع أهل السنة المسمين بالأشاعرة إنما هي
في ظواهر السنة» انتهى باختصار.
وقال في شرح
المواقف : «انه دخل على حسن البصري رجل فقال : يا امام الدين ظهر في زماننا جماعة
يكفرون صاحب الكبيرة والخوارج ، وجماعة اخرى يرجئون صاحب الكبائر ويقولون : لا يضر
مع الايمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، فكيف تحكم لنا ان نعتقد في ذلك؟
فتفكر الحسن ،
وقبل أن يجيب قال واصل بن عطا : وأنا لا أقول ان صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر
مطلق ، ثم قام إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد ، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب
الحسن ما أجاب به من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، ويثبت له المنزلة بين
المنزلتين قائلا : ان المؤمن إسم مدح ، والفاسق لا يستحق المدح ، فلا يكون مؤمنا ،
وليس بكافر أيضا لاقراره بالشهادتين ، ولوجود سائر أعمال الخير فيه ، فاذا مات بلا
توبة خلد في النار ، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير
، لكن يخفف عليه فيكون دركته في النار فوق دركات الكفار. فقال الحسن : قد إعتزل
عنا من هو داخل فينا ، فلذلك سمي هو واصحابه معتزلة.
الامر الثاني :
إعلم أن الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة ليس منحصرا فيما تقدم في وجه التسمية. بل
المسائل الخلافية بينهم كثيرة ، منها مسألة خلط الأفعال فقالت المعتزلة : إنا
فاعلون بمعنى أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل
الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار ، والأشاعرة أنكروا ذلك فقالوا إن أفعال العباد
الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى أوجدها ، وليس لقدرتهم تاثير فيها ، بل الله
سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا.
ونحن نذكر نبذا
مما للطرفين من الأدلة ، من دون ما في كل واحد منهما من ترجيح وإنتقاد ، لأن الغرض
في المقام تنوير الأذهان والاطلاع على ما لهم من الأدلة لفهم ما أشير إليه في كلام
السعد والا فإن المسئلة ذات شجون :
قال في دلائل
الصدق شرح نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلى : «(قال المصنف) المطلب العاشر في
أنا فاعلون. إتفقت الامامية والمعتزلة على انا فاعلون ، وادعوا الضرورة في ذلك ،
فان كل عاقل لا يشك في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وان هذا الحكم
مركوز في عقل كل عاقل ، بل في قلوب الأطفال والمجانين فان الطفل لو ضربه غيره
بآجرة تؤلمه فانه يذم الرامي دون الآجرة ، ولو لا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا
دون الآجرة لما استحسن ذم الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم ، قال أبو
الهذيل : (حمار بشر أعقل من بشر ، لأن حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته
لم يطاوع على العبور ، وإن اتيت به إلى جدول صغير جازه ، لأنه فرّق بين ما يقدر
عليه وما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ،
فحماره أعقل منه).
وخالفت
الاشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنه لا مؤثر إلا الله تعالى فلزمهم من ذلك محالات.
وقال الفضل بن
روزبهان :
مذهب الأشاعرة
: إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله أوجدها ، وليس لقدرتهم تاثير فيها
بل الله سبحانه أجرى عادته بان يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فاذا لم يكن هناك
مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى
إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد. والمراد بكسبه إياه : مقارنته لقدرته ، من غير أن
هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلا له. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن
الأشعري ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد
، فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع ، وهذا حقيقة مذهبهم.
ولا يذهب على
المتعلم انهم مانفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتى يكون الخلاف في أنه فاعل أولا
، كما صدّر الفصل بقوله : «إنا فاعلون» واعترض الاعتراضات عليه ، فنحن أيضا نقول :
إنا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذى إتصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه الله فينا
وأوجده مقارنا لقدرتنا؟ وهذا شيىء لا يستبعده العقل ، فان الأسود هو الموصوف
بالسواد والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز ان يكون العبد فاعلا ويكون الفعل
مخلوقا لله تعالى؟
ودليل الأشاعرة
: إن فعل العبد ممكن في نفسه وكل ممكن مقدور لله تعالى ، لشمول قدرته كما ثبت في
محله ، ولا شيىء مما هو مقدور لله بواقع
بقدرة العبد ، لامتناع إجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد ، لما هو ثابت
في محله.
وهذا دليل لو
تأمله المتأمل يعلم ان المدعى حق صريح ، ولا شك أن الممكن إذا صادفته القدرة
القديمة المستقله توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة والمعتزلة اضطرتهم الشبهة الى
اختيار مذهب ردي وهو اثبات تعدد الخالقين غير الله تعالى في الوجود وهذا خطأ عظيم
واستجراء كبير لو تاملوا قباحته لارتدعوا منه كل الارتداع كما سنبين لك انشاء الله
في اثناء هذه المباحث.
ثم ان مذهب
المعتزلة ومن تابعهم من الامامية ان افعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد
وحدها على سبيل الاستقلال بلا ايجاب بل باختيار ولهم في اختيار هذا المذهب طرق
منها ما اختاره ابو الحسين من مشايخهم وذكره هذا الرجل (يعنى العلامة الحلي) وهو
ادعاء الضرورة في ايجاد العبد فعله ويزعم ان العلم بذلك ضروري لا حاجة به الى
الاستدلال وبيان ذلك ان كل فاعل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش
وان الاول مستند الى دواعيه واختياره وانه لو لا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر
عنه شيىء بخلاف حركة المرتعش اذ لا مدخل فيه لارادته ودواعيه وجعل ابو الحسين ومن
تابعه من الامامية انكار هذا سفسطة مصادمة للضرورة كما اشتملت عليه اكثر دلائل هذا
الرجل (يعني العلامة) في هذا المبحث.
والجواب : ان
الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية ضروري لكنه عائد الى وجود القدرة
منضمة الى الاختيار في الاولى وعدمها في الثانية لا الى تاثيرها في الاختيارية
وعدم تاثيرها في غيرها والحاصل انا نرى الفعل الاختياري مع القدرة والفعل
الاضطراري بلا قدرة والفرق بينهما يعلم بالضرورة ولكن وجود القدرة مع الفعل
الاختياري لا يستلزم تاثيرها فيه وهذا محل النزاع فتلك التفرقة التي تحكم بها
الضرورة لا تجدي للمخالف ثم ان دعوى الضرورة في اثبات هذا المدعى باطل صريح لان
علماء السلف كانوا بين منكرين لايجاد العبد فعله ومعترفين مثبتين له بالدليل
فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه لا التفرقة
بالحسن بين الفعلين فانه لا مدخل له في اثبات المدعى لانه مسلم بين الطرفين فكيف
يسمع نسبة كل العقلاء الى انكار الضرورة فيه وايضا ان كل سليم العقل اذا اعتبر حال
نفسه علم ان ارادته للشيء لا تتوقف على ارادته لتلك الارادة وانه مع الارادة
الجازمة منه الجامعة يحصل المراد وبدونها لا يحصل ويلزم منها ان لا ارادة منه ولا
حصول الفعل عقيبها وهذا ظاهر للمنصف المتامل فكيف يدعى الضرورة في خلافه فعلم ان
كل ما ادعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه ، انتهى كلام الفضل.
ثم قال الحسن المظفر الشارح واقول قوله نحن : ايضا نقول انّا فاعلون مغالطة ظاهرة
لان فعل الشيىء عبارة عن ايجاده والتاثير في وجوده وهم لا يقولون به وانما يقولون
انا محل لفعل الله سبحانه والمحل ليس بفاعل فان من بنى في محل بناء لا يقال ان
المحل بان وفاعل نعم ، يقال مات وحيي ونحوهما وهو قليل وقوله وهذا شيىء لا يستبعده
العقل مكابرة واضحة لان المشاهد لنا صدور الافعال منا لا مجرد كوننا محلا كما تشهد
به اعمال الاشاعرة انفسهم فانهم يجتهدون في تحصيل غاياتهم كل الاجتهاد ولا يكلونها
الى ارادة الله تعالى وتراهم ينسبون الخلاف بينهم وبين العدلية الى الطرفين
ويجعلون الادلة والردود من اثار الخصمين ويتاثرون كل التاثير من خصومهم وينالونهم
بما يدل على ان
الاثر في المخاصمة لهم فكيف يجتمع هذا مع زعمهم انا محل صرف واما قياس ما
نحن فيه على الاسود فليس في محله اذ ليس السواد متعلقا لقدرة العبد حتى يحسن
الاستشهاد به وقياس فعل العبد عليه.
واما ما ذكره
من دليل الاشاعرة فان كان المراد المقدمة القائلة : كل ممكن مقدور لله تعالى هو أن
كل ممكن مصدر قدرته تعالى حتى افعال العباد فهو مصادرة ولا يلزم من امكانها المبين
في المقدمة الاولى الا احتياجها الى المؤثر وجواز تأثير قدرة الله تعالى فيها لا
تاثيرها فعلا بها وبهذا بطلت المقدمة الثالثة لانه يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين فان
التأثير عندنا لقدرة العبد في فعله وانما قدرة الله صالحة للتاثير فيه وان تتغلب
على قدرة العبد ولسخافة هذا الدليل لم يشر اليه نصير الدين في التجريد ولا تعرض له
القوشجي الشارح الجديد.
واما ما ذكره
من ان المعتزلة اضطرتهم الشبهة الى اختيار مذهب ردي وهو اثبات تعدد الخالقين غير
الله تعالى فهو منجر الى الانتقاد على الله سبحانه حيث يقول في كتابه العزيز (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وقد مر ان الردى هو اثبات تعدد الخالقين المستقلين
بقدرتهم وتمام شئون افعالهم اما اثبات فاعل غير الله تعالى اصل وجوده وقدرته من
الله تعالى وتمكنه وفعله من مظاهر قدرة الله سبحانه وتوابع مخلوقيته له فمن احسن
الامور واتمها اعترافا بقدرة الله واشدها تنزيها ، له أترى ان عبيد السلطان اذا
فعلوا شيئا بمدد السلطان يقال انهم سلاطين مثله ويكون ذلك عيبا في سلطانه مع ان
مددهم منه ليس كمدد العباد من الله تعالى فان السلطان لم يخلق عبيده وقدرتهم ولا
شيئا من صفاتهم فكيف يكون القول بانا فاعلون لافعالنا رديا منافيا لعظمة الله
تعالى واعلم ان الخلق لغة : الفعل والاختراع قال تعالى (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) نعم المنصرف منه عند الاطلاق فعل الله تعالى فتخيل
الخصم انه قد امكنت الفرصة وهو من جهالاته ولو كان مجرد صحة اطلاق الخالقين على
العباد عيبا في مذهبنا لكان عيبا في قوله تعالى (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وكان اطلاق القادرين العالمين المريدين عليهم اولى
بالعيب في مذهبهم لان القدرة والعلم والارادة صفات ذاتية لله تعالى زائدة على ذاته
بزعمهم كزيادتها على ذوات العباد فكيف يشركون فيها معه البشر ويثبتون القادرين
المريدين العالمين غير الله.
نعم ، لا ريب
عند كل عاقل بردائة القول بقدماء شركاء لله في القدم محتاج اليهم فى حياته وبقائه
وافعاله وعلمه حتى بذاته كما هو مذهب الاشاعرة وما بالهم لا يستنكرون من اثبات
الملك لانفسهم كما يثبتونه لله تعالى فيقولون مالك ونحن مالكون.
واما ما ذكره
من الجواب عن دعوى الضرورة فمما تكرر ذكره فى كتبهم وهو ظاهر الفساد لان الضرورة
كما تحكم بوجود القدرة والاختيار في الحركات الاختيارية تحكم تباثير القدرة فيها
وانا فاعلون لها ولذا يذم الطفل الرامي لعلمه الضرورى بانه مؤثر كما بينه المصنف
على انه لو لم يكن للقدرة تاثير لم يعلم وجودها اذ لا دليل عليها غيره ومجرد الفرق
بين الحركات الاختيارية والاضطرارية لا يقضي بوجودها لاحتمال الفرق بخصوص الأختيار
وعدمه.
فان قلت :
الاختيار هو الارادة وهي عبارة عن الصفة المرجحة لاحد المقدورين فيكون وجود
الاختيار مستلزما لوجود القدرة ، قلت : المراد انها مرجحة في مورد حصول القدرة لا
مطلقا حتى يلزم وجودها على انه يمكن ان تكون مرجحة لاحد مقدوري الله تعالى بان
يكون قد اجرى عادته على ان تكون ارادة العبد مخصصة لاحد مقدورية تعالى بان يخلق
الفعل عند
خلقها ، هذا مضافا الى ان اثبات القدرة بلا تاثير ليس الا كاتبات الباصرة
للاعمى بلا ابصار ، واثبات السامعة للاصم بلا اسماع ، وكما ان القول بهذا مخالف للضرورة
، فالقول بوجود القدرة بلا تاثير كذلك ، وهل خلق القدرة وكذا الاختيار بلا تاثير
الا من العبث تعالى الله عنه.
نعم قد يرد على
العدلية ان تاثير قدرة العبد في الافعال الاختيارية وان كان ضروريا الا انه اعم من
ان يكون بنحو الاشتراك بينها وبين قدرة الله تعالى كما عن ابي اسحق الاسفراني او
بنحو الاستقلال والايجاب كما عن الفلاسفة او بنحو الاستقلال والاختيار كما هو مذهب
العدلية ، فمن اين يتعين الاخير وفيه بعد كون المطلوب في المقام هو ابطال مذهب
الاشاعرة وما ذكر كاف في ابطاله ان مذهب الفلاسفة مثله في مخالفة الضرورة لان وجود
الاختيار وتاثيره من اوضح الضروريات على ان الايجاب ينافي فرض وجود القدرة لاعتبار
تسلطها على الطرفين في القول الاحق ويمكن ان يحمل كلامهم على الايجاب بالاختيار
فيكون صحيحا واما مذهب ابي اسحق فظاهر البطلان ايضا لان الله سبحانه منزه عن
الاشتراك في فعل الفواحش كنزاهته عن فعلها بالاستقلال ولانه يقبح باقوى الشريكين
ان يعذب الشريك الضعيف على الفعل المشترك كما بينه امامنا وسيدنا الكاظم «ع» وهو
صبي للامام ابي حنيفة (رض) واما ما زعمه من ابطال دعوى الضرورة بقوله (لان علماء
السلف كانوا منكرين) الخ ففيه ان علماء السلف من العدلية انما ذكروا الادلة على
المدعي الضروري للتنبية عليه لا لحاجته اليه ولذا ما ذا لو يصرحون بضروريته مضافا
الى ان عادة الاشاعرة لما كانت على انكار الضروريات احتاج منازعهم الى صورة الدليل
مجاراة لهم.
واما قوله (وايضا
كل سليم العقل) الخ فتوضيحه ان سليم العقل يعلم ان إرادته لا تتوقف على ارادة اخرى
فلا بد ان تكون ارادته من الله تعالى اذ لو كانت منه لتوقفت على ارادة اخرى لتوقف
الفعل الاختياري على ارادته فيلزم التسلسل في الارادات وهو باطل فاذا كانت ارادته
من الله تعالى وغير اختيارية للعبد لم يكن الفعل من اثار العبد وقدرته بل من اثار
الله تعالى لوجوب حصول الفعل عقيب الارادة المتعلقة به الجازمة الجامعة للشرائط
المخلوقة لله تعالى فلم تكن ارادة العبد ولا حصول الفعل عقيبها من اثار العبد بل
من الله تعالى.
وفيه ان عدم
احتياج الارادة إلى ارادة اخرى لا يدل على عدم كونها من افعال العبد المستندة الى
قدرته فان تاثير قدرته في الفعل لا يتوقف ذاتا على الارادة ولذا كان الغافل يفعل
بقدرته وهو لا إرادة له وكذا النائم وانما سمي الفعل المقدور اختياريا لاحتياجه
غالبا الى الارادة والاختيار فتوهم من ذلك اشتراط سبق الارادة في كل فعل مقدور وهو
خطأ وبالجملة فعل العبد المقدور نوعان والعلم خارجي كالقيام والقعود ونحوهما وذهني
وهو افعال القوى الباطنة كالارادة والعلم والرضا والكراهه ونحوها والاول مسبوق
بالارادة الا نادرا كفعل الغافل والنائم والثاني بالعكس والجمع مقدور ومفعول للعبد
ولذا كلف الانسان عقلا وشرعا بالمعرفة ووجب عليه الرضا بالقضاء وورد العفو عن
النية وقال تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ) وقال سبحانه (بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) وقال تعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) وقال رسول الله (ص) انما لكل امرىء ما نوى ، وقال نية
المرء خير من عمله ويشهد لكون الارادة من الافعال المستندة الى قدرة العبد ان
الانسان قد يتطلب معرفة صلاح الفعل ليحدث له ارادة به وقد
يتعرف فساده بعد وجودها فيزيلها بمعرفة فساده وان كانت جازمة فانها قد تكون
فعلية والمراد إستقباليا فالقدرة في المقامين على الارادة حاصلة من القدرة على
اسبابها كسائر افعال القلب فكل فعل باطني مقدور للانسان حدوثا وبقاء وزوالا فثبت
ان الارادة ومقدماتها اعني تصور المراد والتصديق بمصالحه والرضا به من الجهة
الداعية اليه مقدورة للعبد ومن افعاله المستندة اليه. نعم ربما يكون بعض مقدمات
الارادة من الله تعالى وبذلك تحصل الاعانة من الله تعالى لعبده كما تحصل بتهيئة
غيرها من مقدمات الفعل وعليه يحمل قول امامنا الصادق عليهالسلام (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين امرين) فانه لا يبعد ان يكون المراد بالامر
بين الامرين دخل الله سبحانه في افعال العباد بايجاد بعض مقدماتهما كما هو واقع في
اكثر المقدمات الخارجية التي منها تهبئة المقتضيات ورفع الموانع فحينئذ لا يكون
العبد مجبورا على الفعل ولا مفوضا اليه بمقدماته وبذلك يصح نسبة الافعال الى الله
تعالى فان فاعل المقدمات لا سيما الكثيرة القريبة الى الفعل قد يسمى فاعلا له
وعليه يحمل ما ظاهره اسناد افعال العباد الى الله تعالى كبعض ايات الكتاب العزيز
والله واولياؤه اعلم.
ثم اخذ المصنف
في بيان المحالات التي تلزم الاشاعرة فقال منها مكابرة الضرورة فان العاقل يفرق
بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة والبطش باليد اختيارا وبين الحركة
الاضطرارية كالوقوع من شاهق وحركة المرتعش وحركة النبض ويفرق بين حركات الحيوان
الاختيارية وحركات الجماد ومن شك في ذلك فهو سوفسطائي اذ لا شيىء اظهر عند العقل
من ذلك ولا اجلى منه الى اخر ما ذكره من المحالات اللازمة عليهم ومن اراد الاطلاع
عليها فليراجع وانت بعد ما صرت على بصيرة مما ذكرنا من مذهب الكشاف
والمعتزلة في خلق الافعال ومن انه لا فرق بين القول بكون اللام في الحمد للجنس وبين
القول بكونها فيه للاستغراق في ان كل واحد من القولين مناف بظاهره لمذهب الاعتزال
اذ المستفاد من كل واحد منهما اختصاص جميع افراد الحمد بالله تعالى المستلزم لكون
جميع الافعال الحسنة الصادرة من العباد المستحقة للحمد مخلوقة لله وصادرة منه اذ
لا يحمد على الفعل بل لا يستحقه الا فاعله وغاية ما يتصور هنا من الفرق ان منافاة
القول بالجنس عرضية وبالواسطة اذ منافاة اختصاص الجنس اللازم من القول بان في
تقديم الحمد دلالة على الاختصاص بواسطة استلزامه لاختصاص الافراد ومنافاة القول
بالاستغراق ذاتية لكن هذا القدر من الفرق لا يصحح اختيار الاول دون الثاني مع كون
كل واحد منها منافيا للمذهب بحسب الظاهر (وبهذا) اى بتصريح صاحب الكشاف بان في
تقديم الحمد ايضا دلالة على الاختصاص (يظهر ان ما ذهب اليه) صاحب الكشاف (من ان
اللام في الحمد لتعريف الجنس دون الاستغراق) ليس من باب اثبات اللغة وتفسير معاني
الالفاظ بالراي مراعيا فيه المذهب (كما توهمه كثير من الناس) الناظرين الى كلامه
المصرح فيه بان اللام في الحمد للجنس دون الاستغراق وذلك لان نفيه لكون اللام
للاستغراق ليس (مبنيا على) المذهب وعلى (ان افعال العباد عندهم) اى المعتزلة (ليست
مخلوقة لله فلا يكون) على هذا المذهب المعتزلة (جميع المحامد راجعة اليه) حتى
يستشكل عليه بانه لا دخل للمذهب في اثبات اللغة وتفسير الالفاظ بل القول بالجنسية
مبنى على ما ذكره النحويون في باب مسوغات الابتداء بالنكرة من ان من المسوغات تخصص
المبتدء بنسبته الى المتكلم قال الجامى ومثل قولك
سلام عليك لتخصصه بنسبته الى المتكلم اذ اصله سلمت سلاما عليك فحذف الفعل
وعدل الى الرفع لقصد الدوام والاستمرار فكانه قال : سلامي اي سلام من قبلي عليك
انتهى فكذلك تقول في المقام ان القول بكون اللام في الحمد للجنس دون الاستغراق
مبني (على ان الحمد من المصادر السادة مسد الافعال واصله) حمدت الله با (النصب)
فحذف الفعل وعدل الى الرفع (والعدول الى الرفع للدلالة على الدوام والثبات) وحينئذ
نقول ان (الفعل) ماضيا كان او غيره (انما يدل على الحقيقة) اى الماهية (دون
الاستغراق) كما بين في الاصول فانا نقطع بان المرة والتكرار من صفات الفعل اعنى
المصدر كالقليل والكثير لانك تقول اضرب ضربا قليلا او كثيرا او مكررا او غير مكرر
فتقيده بالصفات المختلفة ومن المعلوم ان الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له
على خصوصية شيىء منها.
(ان قلت) هذا
يدل على عدم دلالة المادة اي المصدر على شيىء من الصفات فلم لا يدل عليها الهيئة
العارضة عليها.
قلنا مدلول كل
واحدة من الهيئات معلوم بمقتضى حكم التبادر وهو غير ما ادعى من الصفات فاذا كان
الفعل غير دال على الاستغراق ونحوه من الصفات (فكذا ا ما) اى المصدر الذى (ينوب
منابه) اي الفعل لعدم جواز زيادة النائب عن المنوب عنه في الدلالة وان جاز قصوره
عنه فان قلت سياتي في اوائل باب متعلقات الفعل نقلا عن السكاكي ما حاصله ان الفعل
قد يفيد الاستغراق فلم لا يجوز ان يكون الفعل الذي ناب عنه المصدر من ذلك القبيل.
قلت : قد ذكر
في ذلك المبحث ان ذلك في الفعل المنزل منزلة اللازم بان لا يعتبر تعلقه بمفعول
مذكور ولا مقدر والمقام ليس من ذلك القبيل اذ
المفعول المتعلق به الفعل المحذوف اعني الله مذكور فلا يمكن فيه التنزيل
المذكور (وفيه) اي فيما وجه به كلام صاحب الكشاف من انه مبنى على ما ذكره النحويون
حسبما بيناه (نظر) لانه اي ما ذكره النحويون لا ينطبق على ما نحن فيه (لان النائب
مناب الفعل) في تلك القاعدة النحوية انما هو المصدر النكرة لانه كاف في مقام
النيابة كما يظهر من ذكرهم اياها في (مثل سلام عليك) كما نقلناه عن الجامي (وحينئذ
لا مانع من ان يدخل فيه) اي في المصدر النكرة اعني حمدا (اللام ويقصد به) اي
باللام الاستغراق فانكار صاحب الكشاف الاستغراق مبنيا على تلك القاعدة لا وجه له (فالاولى)
في مقام اثبات ان نفي الاستغراق ليس مبنيا على المذهب ان يقال (ان كونه للجنس مبني
على انه) اي الجنس هو (المتبادر الى الفهم) وهو اي الجنس المعنى (الشايع) اي
الغالب (في) مقام (الاستعمال لا سيما في المصادر) لانها تستعمل للتاكيد غالبا قال
في التصريح والمفعول المطلق هو اسم يؤكد عامله فيفيد ما افاده العامل من الحدث من
غير زيادة على ذلك انتهى وقد تقدم ان الفعل العامل في المصدر انما يدل على الحقيقة
دون الاستغراق لما حكي عن السكاكي من ان المشتقات باسرها ماخوذة من المصادر
الخالية عن اللام والتنوين وهي لا تدل الا على الحقيقة فكذلك ما اشتق منها ولا
سيما (عند خفاء قرائن الاستغراق) لانه لا وجه حينئذ للحمل على الاستغراق لانه خروج
عن مقتضى وضع اللفظ اعني المعنى الحقيقي له من دون مخرج فتدبر (او) يقال ان كونه
للجنس مبني (على ان اللام لا يفيد سوى التعريف والاسم) اى مدخوله اعني الحمد مجردا
عن اللام (لا يدل الا على مسماه) اي الحقيقة والماهية كما بيناه آنفا (فاذن لا
يكون ثمة استغراق) (و)
لفظة على (في على ما انعم ليس متعلقا بالحمد على ان لله خبره لئلا يلزم
الاخبار عن المصدر قبل تمام عمله بل هو اما متعلق بمحذوف خبر بعد خبر اي كائن على
إنعامه فيكون مشيرا الى الاستحقاقين الذاتي والصفاتي ويمكن ان يكون هو خبرا ولله
صلة للحمد ويمكن ان يكون مستانفا اي احمده على ما انعم وعلى بمعنى اللام علة
لانشاء الحمد ويحتمل كونه صلة للحمد مثل اللام في لله والخبر محذوف اي واجب واما
لفظة ما فيه فهي مصدرية) اي موصول حرفي وهو كل حرف أول مع صلته بالمصدر ولم يحتج
الى عامل فالجملة على تقدير مفرد اي على انعامه ولا يرد على هذا الحد همزة التسوية
نحو (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) لان المؤول بالمصدر الفعل وحده لا مع همزة التسوية
بدليل ان الانذار لا استفهام فيه وفيها الاستفهام (لا موصولة) اسمية وهي كل اسم
افتقر الى الوصل بجملة خبرية او ظرف او جار ومجرور تامين او وصف صريح والى عائد
ومعنى التام فيهما ما يفهم بمجرد ذكره بدون ما يتعلق هو به نحو جاء الذي عندك وجاء
الذي في الدار والمتعلق فيهما كائن او استقر محذوفا وجوبا وبذلك اشبها الجملة
بخلاف الناقصين نحو جاء الذي مكانا والذي بك إذ لا يتم معناهما الا بذكر متعلق خاص
جائز الذكر نحو جاء الذي سكن مكانا وجاء الذي مر بك فتامل. وانما حكم بكونها
مصدرية لا موصولة لامرين أشار اليهما بقوله (لفساده) اي كونها موصولة (لفظا ومعنى
امّا) الاول اي الفساد (لفظا فلاحتياج الموصول) الاسمي (الى التقدير) اي تقدير
ضمير عائد كما تقدم آنفا وذلك غير ممكن في المقام لانه لو قدر في المقام لكان
مجرورا والعائد المجرور لا يقدر ولا يحذف اطرادا الّا اذا جرّ بما الموصول جرّ كما
قال في الالفية :
كذا الذى جر
بما الموصول جر
|
|
كمر بالذى
مرت فهو بر
|
فما يترائى من
العبارة تسليم امكان التقدير في المقام كما يظهر من قوله (أى أنعم به) فى غير محله
أو اختيار لغير ما عليه صاحب الالفيه لان الموصول هنا مجرور بعلى والعائد لو قدر
مجرورا بالباء لا يحصل الاتحاد بين الجارين لفظا ولا معنى ولا متعلا فقا لتقدير
فيه متعذر (مع تعذره) أي تقدير العائد (فى المعطوف عليه أعنى علم) أيضا لكن لا لما
ذكر بل لان من شرط الجملة المعطوفة على الصله أن تكون مشتملة على عائد كنفس الصلة
الا اذا كان كعطف بالفاء لما قال فى الالفية :
واخصص بقاء
عطف ما ليس صلة
|
|
على الذى
استقر انه الصلة
|
وفى المقام
ليست الجملة المعطوفة أعنى علم مشتملة على عائد لفظا ولا يمكن تقديره أيضا بأن يقال
التقدير وعلمه بناء على جعل الضمير العائد مفعولا ثانيا ، (لكون) علم مستوفيا
لمفعوليه لان لفظة ما الموصولة في قوله (مالم ، نعلم مفعوله) الثانى والمفعول
الاول منه محذوف أى علمنا ، فان قلت : فليجعل الضمير المقدر الغائب مفعولا أولا
دون ضمير المتكلم حتى يصح التقدير قلت لا يمكن ذلك اذا المفعول الاول فى علم يجب
أن يكون عالما والثانى معلوما وفى المقام لا وجه لكون الضمير الغائب على فرض صحة
تقديره مفعولا أولا والوجه فى ذلك ظاهر (ومن) صحح التقدير بأن (زعم ان التقدير
وعلمه) بناء (على) أن يكون الضمير الغائب المقدر مفعولا ثانيا و (ان ما لم نعلم
بدل من الضمير) الغائب (المحذوف) الراجع الى ما لم نعلم على ما صرح به الچلبى
بقوله الثانى أن يكون ما لم نعلم تفسيرا للضمير المبهم المحذوف قال في المفصل على
ما حكى عنه في حاشية المختصر طبع تركيا فى قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) ان الفاعل قد اضمر على شريطة التفسير والذين ظلموا بدل
منه موضح له كما فى قام وقعد زيد على تقدير أن تعمل الثانى فان زيد مفسر للضمير فى
قام انتهى فلا تغتر اذا بما قاله بعض من ان ذلك لا يجوز في المقام لوجود المرجع
فيما قبله يعنى ما لم نعلم لانه من قصور الباع وقلة الاطلاع والانسان لا يكتب ولا
يقول الا بقدر المستطاع واما ما جعله موجبا للمنع فيظهر فساده من المراجعة في
الكشاف فى تفسير قوله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ) وسيأتى فى بحث وضع للضم موضع المظهر ما يوضح ذلك ولم
يبال بعود الضمير الى المتأخر قال فى المغنى فى بحث عود الضمير الى المتأخر.
السادس
ان يكون مبدلا منه الظاهر (او) بناء على ان يكون ما لم نعلم (خبر مبتدأ
محذوف او نصب بتقدير اعني) على طريقة قطع التابع عن التبعية (فقد تعسف) في جميع
هذه الوجوه وخرج عن الطريق المستقيم اما الوجه الاول فقيل لاستلزامه الابدال من
المحذوف وحذف المبدل منه غير جائز عند الجمهور في غير الاستثناء وعند ابن الحاجب
مطلقا وانى لم اجد فيما عندي من كلام القوم ما يستشم منه منع الجمهور ذلك بل يستشم
من كلام ابن هشام خلاف ذلك قال في الباب الخامس قيل في ولا تقولوا لما تصف السنتكم
الكذب وفي (كَما أَرْسَلْنا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) ان الكذب بدل من مفعول تصف المحذوف اي لما تصفه وكذلك
في رسولا بناء على ان ما في كما موصول اسمي ويرده ان فيه اطلاق ما على الواحد من
اولي العلم والظاهر ان ما كافة واظهر منه انها مصدرية لابقاء الكاف على عمل الجر
انتهى محل الحاجة من كلامه فانت ترى انه لم يناقش في اصل الدعوى اعني حذف المبدل
منه بل ناقش القيل في المثال فلو كان لهم في اصل الدعوى بحث وكلام لكان اولى
بالذكر في المقام بل يظهر من كلام الرضى الذي هو المرجع فى امثال هذه المسئلة انه
لا خلاف ولا كلام في المقام قال في بحث عطف البيان ونحو قولهم اعجبني من زيد علمه
ومن عمر وجوده الثاني فيهما كانه عطف بيان والمعطوف عليه محذوف والاصل اعجبني شىء
من اوصاف زيد علمه وخصلة من خصال عمرو جوده وكذا كسرت من زيد يده اي كسرت عضوا منه
يده حذف المعطوف عليه واقيم المعطوف مقامه كما يحذف المستثنى منه ويقام المستثنى
مقامه في نحو ما جاءني الّا زيد انتهى. وانت اذا تاملت فى كلامه هذا مع قولهم :
وصالحا
لبدلية يرى
|
|
في غير نحو
يا غلام يعمرا
|
تجد حقيقة ما
قلناه وكذلك يظهر من كلام ابن هشام في باب شرائط الحذف حيث لم يذكر ان من شرائط
الحذف ان لا يكون المحذوف مبدلا منه فراجع
اما الوجه
الثاني : فقيل لاستلزامه الحذف بلا دليل يعتد به وهو غير مستحسن لفوات ما هو
المقصود من الابدال اعنى التقرير والتوطئة والتمهيد ولان الرفع والنصب بعد القطع
عن التابعية للمدح وان كانا لطيفين في انفسهما لكنه لا لطف في بيان ما علم بما لم
نعلم وفي كلا التعليلين نظر اما الاول فلان المبدل منه على فرض تقديره فضلة لا
يحتاج حذفها الى دليل. قال ابن هشام في طي شرائط الحذف واما اذا كان المحذوف فضلة
فلا يشترط لحذفه وجدان لدليل ولكن يشترط ان لا يكون في حذفه ضرر معنوي كما في قولك
مضربت الا زيدا او صناعي كما في قولك زيدا ضربته وقولك ضربني وضربته زيد ثم بين في
السابع والثامن من شروط الحذف وجه الضرر في الامثلة المذكورة اللهم الا ان يقال ان
المراد من الفضلة ما لم يكن في الاصل احد ركني الكلام قال في شرح التصريح في شرح
قول ابن مالك
ولا تجز هنا
بلا دليل
|
|
سقوط مفعولين
او مفعول
|
ويمتنع
بالاجماع حذف احدهما اقتصارا اي لغير دليل لان المفعولين هنا اصلهما المبتدأ
والخبر فكما لا يجوز ان يؤتى بمبتدأ دون خبر ولا بخبر دون مبتدأ قبل دخول الناسخ
فكذلك بعده واما حذف احدهما اختصارا اى لدليل فمنعه ابو اسحق ابن ملكون من
المغاربة وطائفة وحجتهم ان المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين من جهة العامل فيه
ومن جهة كونه احد
جزئي الجملة فلما تكرر طلبه امتنع حذفه كذا قالوا وما قالوه منتقض بخبر كان
فانه مطلوب من جهتين ولا خلاف في جواز حذفه اذا دل عليه دليل واجازه الجمهور كقوله
تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) تقديره ولا يحسبن الذين يبخلون ما يبخلون به هو خيرا
لهم فحذف المفعول الاول للدلالة عليه وكقوله وهو عنتر العبسي
ولقد نزلت
فلا تظني غيره
|
|
مني بمنزلة
المحب المكرم
|
تقديره فلا
تظني غيره مني واقعا فحذف المفعول الثاني والتاء في نزلت مكسورة والحاء والراء من
المحب المكرم مفتوحان
واما الثاني
فلان وجه قطع التابع عن التابعية لا ينحصر في كونه للمدح حتى يقال لا لطف لبيان ما
علم بما لم نعلم مدحا فالاولى في تعليل الاعتساف ان يقال ان في هذه الوجوه تبعيد
للمسافة فتامل (واما) الفساد (معنى فلان الحمد على الانعام الذي هو من اوصاف
المنعم امكن) اي اسهل (من الحمد على نفس النعمة) لكثرتها وعدم القدرة على تعدادها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها) قيل يريد بالامكنية ان الحمد صفة المنعمية اشد تمكنا في
القلب من الحمد على نفس النعمة لان الحمد عليها على سبيل التجوز بناء على انها اثر
تلك الصفة (ولم يتعرض للمنعم به) اي النعمة لامور الاول (لقصور العبارة عن الاحاطة
به) ان اراد ذكرها تفصيلا بان يقول الحمد لله على السمع والبصر الى اخر النعم وفي
بعض النسخ ايها ما لقصور العبارة اي لاجل ان يتوهم السامع قصور العبارة عن الاحاطة
بالمنعم به اي لاجل ان يوقع في ذهن السامع قصور العبارة عن الاحاطة بالمنعم به ان
اراد ذكر الكل اجمالا
بان يقول الحمد لله على جميع النعم او بعضها المعين تفصيلا بان يقول الحمد
لله على العلم مثلا او بعضها غير المعين بان يقول الحمد لله على بعض النعم والثاني
: لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح ان اراد ذكر البعض الممكن ذكره وهذا هو المراد بقوله
: (ولئلا يتوهم اختصاصه بشيىء دون شيىء) بناء اعلى ان تعليق الحكم بشيىء مشعر
بالعلية وان لم يكن المعلق به وصفا والحاكم بهذا الاشعار هو الذوق السليم والى هذا
ينظر قوله فيما سبق بل انما تعرض للانعام بعد الدلالة على استحقاق الذات تنبيها
على تحقق الاستحقاقين فلا يرد ما قيل من انه لم يعهد من قواعدهم ان تعليق الحكم
باسم غير صفة مشعر على كون مدلوله منشأ للحكم على ما بين في الاصول في باب مفهوم
اللقب فتامل جيدا (و) الثالث (ليذهب نفس السامع كل مذهب ممكن) فلا يتوقف نفس
السامع عند نعمة دون نعمة فكلما يتصور نعمة من النعم ينتقل منها الى غيرها مما هو
عالم به وهذا بخلاف ما اذا ذكر المنعم به اي النعمة فانه يتعين فربما يتوهم
الانحصار فيه وهذا نظير ما ياتي في باب الايجاز والاطناب في حذف جواب الشرط فراجع (ثم
انه صرح ببعض النعم) وهو قوله بعيد ذلك وعلم من البيان (ايماء) اي للاشارة (الى
اصول ما يحتاج اليه في بقاء النوع) البشري (بيانه) اي بيان ان قوله وعلم من البيان
اشارة الى اصول ما يحتاج اليه نوع البشر (ان) نوع (البشر مدني بالطبع) قال في
المقرب المدينة المصر الجامع وقيل الحصن يبني في اصطمة الارض جمعها مدائن ومدن بضم
الدال ومدن بسكونها وضم الميم فيهما قيل المدينة وزنها فعيلة لانها من مدن بمعنى
اقام وقيل مفعلة بفتح الميم لانها من دان وجمعها مدن ومدائن ومن جعلها فعيلة همّز
ومن جعلها مفعلة لم يهمز كما لا يهمز معايش والنسبة الى مدينة
يثرب مدني بياء واحدة مشددة والى غيرها مديني بنون بين يائين ثانيهما مشددة
وقيل : اذا نسبت الانسان الى المدينة قلت مدني ، واذا نسبت اليها الطائر وغيره من
الحيوان.
قلت : مدينى
كلاهما بالضبط المتقدم.
وقال : أيضا
تمدن الرجل ، تخلق باخلاق اهل المدن ، وانتقل من الخشونة والهمجية والجهل الى حالة
الظرف والانس والمعرفة ، وقيل : مولدة ، انتهى بادنى تصرف للتوضيح.
فقوله : (أي
محتاج في تعيشه الى التمدن وهو اجتماعه مع بني نوعه) يناسب المعنى الاخير وان كان
ارجاعه الى المعنى الاول بتكلف ممكنا.
فإن قلت : ما
فائدة هذا الاجتماع؟ قلنا : فائدته انهم (يتعاونون ويتشاركون في) كل ما يحتاجون
اليه في (تحصيل) كل ما يتوقف عليه تعيشهم من (الغذاء واللباس والمسكن وغيرها) من
آلات الصنايع ووسائل السفر ونحوها.
(وهذا) : أي ما
ذكر ، أي التعاون والتشارك في تحصيل ما ذكر (موقوف على ان يعرّف) ويفهّم (كل أحد
صاحبه) الذي في وسعة اعانته والمشاركة معه في تحصيل (ما في ضميره) مما هو محتاج
اليه. والتعريف والتفهيم لا يمكن إلّا بآلة وسبب.
فإن قلت :
يعرفه ويفهمه بالاشارة ، قلنا : (الاشارة) غير كافية إلّا لتعريف المشاهدات
الموجودة او ما هو بمنزلتها ، بداهة إستلزام الاشارة الحضور ، (و) إذا كان كذلك
فهي (لا تفي ب إفهام
المعدومات والمعقولات الصرفة) ، وقد يحتاج الانسان إلى ان يعرّفها صاحبه
لأمر دنيوي ، يتوقف تعيشه عليه ككونه معلما ونحوه ، او لامر اخروي بناء على تعميم
ما يتعاون فيه ، بالنسبة الى ما يحتاج اليه في امر المعاد ، كما احتمله بعض
المحققين.
فعلى ذلك لا بد
له من الاستدلال بامور عقلية غير قابلة للاشارة الحسيّه.
(و) إن قلت :
فليكتب كل احد ما في ضميره لصاحبه ، لانها وافية بكل ما يريد افهامه كما هو واضح ،
قلنا :
أولا : إن ذلك
يتوقف على ان يخلق الله للانسان علما ضروريا ، بحيث يعلم دلالة كل خط على معناه ،
من غير ان يتوقف العلم بها الى الالفاظ ، وذلك غير واقع وان كان ممكنا.
(و) ثانيا : (في
الكتابة) ما ينافي الحكمة ، وذلك لانها باقية بعد انقضاء حاجة الاعلام ، فقد يلزم
ان يطلع على المراد من لا يراد اطلاعه عليه.
وثالثا : فيها (مشقة)
، لاحتياجها الى ادوات قد يعسر في بعض الاوقات حضورها ، (فأنعم الله عليهم بتعليم
البيان).
قال الله تعالى
: (الرَّحْمنُ خَلَقَ
الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) ، (وهو) أي البيان (المنطق) بفتح الميم ، مصدره نطق.
قال في المصباح
: نطق نطقا ، من باب ضرب ، ومنطقا والنطق بالضم اسم منه ، وانطقه إنطاقا جعله ينطق
، ويقال : نطق لسانه ،
كما يقال : نطق الرجل ، ونطق الكتاب بين وأوضح ، وانتطق فلان تكلم ، انتهى.
(الفصيح) سياتي
معناه.
قال في المصباح
: العرب إسم مؤنث ، ولهذا يوصف بالمؤنث ، فيقال : العرب العارية والعرب العرباء ،
وهم خلاف العجم ، ورجل عربي ثابت النسب في العرب ، وإن كان غير فصيح. واعرب بالالف
اذا كان فصيحا وان لم يكن من العرب ، واعرب الشيىء واعربت عنه وعربته بالتثقيل
وعربت عنه كلها بمعنى التبيين والايضاح.
وهذا المعنى هو
المراد بقوله : (المعرب عما في الضمير ثم) سياتي في اوائل الباب السابع ، انها في
امثال المقام ليست للتراخي الزماني.
(إن هذا الاجتماع)
مع بني نوعه (إنما ينتظم) ويدوم ويستفاد منه ، (اذا كان بينهم (معاملة) يتراضى به
الطرفان.
قال في المصباح
: عاملته في كلام أهل الامصار ، يراد به التصرف من البيع ونحوه ، انتهى.
(و) التراضي
يتوقف على ان يكون في المجتمع (عدل) ، وهو يطلق في اللغة ويراد به المصدر المقابل
للجور ، وهو انصاف الغير بفعل ما يجب له وترك ما لا يجب ، والجور في مقابله.
قال في المصباح
: العدل القصد في الامور ، وهو خلاف الجور ولا بد فيما يسمى عدلا من ان يكون مما (يتفق
الجميع عليه) ، غير
صادر من المتآمرين ذوي الآراء الفاسدة والعقائد الكاسدة ، المنقادين
للشهوات المتمسكين بالمغالطات ، الساعين لتحصيل ما سوّلت لهم انفسهم غير ميالين
بما تتجه افعالهم وافوالهم ، من افشاء الظلم والعدوان وخراب الديار والبلدان ،
وابادة من فيها من السكان ، كما تراه ونراه بالعيان ، (لأن كل احد يشتهي حصول ما
يحتاج اليه) فيسعى لتحصيله وإن يلزم منه ما ذكر
(و) مع ذلك (يغضب
على من يزاحمه) في ذلك التحصيل وسلب الاموال ، فيتلف النفوس غير مبال ، غافلا او
متغافلا عن قبح ما يصدر منه من الافعال ، بل يرى ويدعي ان ذلك حسن ، ومن شيم ذوي
العقول من الرجال
(فيقع) حينئذ (الجور)
، ويتصف من لا رحم له من الاقوياء بصفات الحيوانات الضارة ، والكلاب العقر والذئاب
المفترسة ، يمزق الضعفاء من بني نوعه تمزيقا ، لا يقدر الضعفاء على حركة ولا
مدافعة ، كما سمعناه من لسان التاريخ ، ورأيناه بام أعيننا ، فلا يبقى في البلدان
او القرى إلا دمنة لم تكلم ، ولا يوجد فيها الا قوم حيارى ، فيفر المرء من اخيه
ومن صاحبته وبنيه.
(ويختلّ) بذلك (امر
الاجتماع و) لكن لا يذهب عليك ان (المعاملة والعدل) المتفق عليه الجميع ايضا ، غير
واف بما هو المقصود من الاجتماع من التعاون والتشارك ، فيما يحتاج اليه للتعيش ،
لانه أي المعاملة والعدل (لا يتناول) الجزئيات الغير المحصورة).
تذكير الضمير
في يتناول وافراده ، باعتبار كون المرجع مصدرا مقيدا بالعدل ، ويحتمل ان يكون
باعتبار ان المرجع كل واحد
نظير قوله :
إن للخير
وللشرّ مدى
|
|
وكلا ذلك وجه
وقبل
|
فما توهم بعضهم
من ان ابتداء الكلام قوله والمعاملة فقد اخطاء يظهر وجه خطائه من مراجعة شرح
القوشجى عند قول الخواجه في بحث القضاء والقدر لان النوع محتاج الى التعاضد فان
التفتاذانى اخذ هذا الكلام من هناك.
ولهم في دخول
اللام على لفظة «غير» كلام.
قال في المصباح
: غير يكون وصفا للنكرة ، تقول : جاءني رجل غيرك ، وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) إنما وصف بها المعرفة ، لانها اشبهت المعرفة باضافتها
الى المعرفة فعوملت معاملتها ، ووصف بها المعرفة ، ومن هنا اجترأ بعضهم ، فادخل
عليها الالف واللام ، لانها لما شابهت المعرفة باضافتها الى المعرفة ، جاز ان
يدخلها ما يعاقب الاضافة وهو الالف واللام ،
ولك أن تمنع
الاستدلال ، وتقول : الاضافة هنا ليست للتعريف بل للتخصيص ، والالف واللام لا تفيد
تخصيصا فلا تعاقب اضافة التخصص ، مثل سوى وحسب ، فانه يضاف للتخصص ، ولا تدخله
الالف واللام ، انتهى.
وقال بعض المحققين
: ان النحاة قد منعوا غير باللام ، مع كونه مضافا ، وان كان نكرة ، ولم يوجد ذلك
ايضا في كلام العرب العرباء ، ولكن يوجد في كلام بعض العلماء ، كأنهم جعلوه بمعنى
المغاير ، انتهى.
والدليل على
عدم تناول المعاملة والعدل للجزئيات ، ما نراه من التحير واختلاف الاراء ، من
الذين يرون انفسهم اعقل العقلاء في المجتمع ، في الامور الجزئية التافهة ، ككون
الانسان منسوبا الى
وطن ومملكة او دولة من الدول ، بحيث يساوي في الحقوق غيره من الساكنين
والمستوطنين في تلك المملكة او الدولة ، فنرى بعضهم يحكم بكفاية إقامة أشهر قليلة
في ذلك ، ومنهم من يحكم بعدم كفاية ذلك ، بل يرى لزوم اقامة سنوات عديدة ، ومنهم
من يقول : باشتراط التولد فيها ، ومنهم من لا يكتفي بذلك جميعا ، بل يشترط امورا
أخر ، لا اعتبار لها عند العقل السليم والفهم المستقيم ، ولاجل اختلاف بسير ،
ينسون عواطف الانسانية ، بحيث يوذي كل رعايا الاخر بلا جرم وتقصير
فإذا كانوا
كذلك في الامور الجزئية التافهة ، فلا اعتماد عليهم في الامور الكلية ، ولا
بالمعاملة والعدل الذي يقررها هذا المجتمع ، (بل لا بد لها) أي المعاملة والعدل.
وتوجيه افراد
الضمير قد تقدم آنفا (من قوانين كلية).
قال في المصباح
: القانون الأصل ، والجمع قوانين ، انتهى وبمعناه الظابطة والقاعدة.
قال محشى
التهذيب : هو لفظ يوناني او سرياني.
، موضوع في
الاصل لمسطر الكتابة ، وفي الاصطلاح قضية كلية تعرف منها احكام جزئيات موضوعها ،
انتهى.
وسياتي عن قريب
تعريف القاعدة ايضا بذلك ، وإنما (هي) اي القوانين ههنا (علم الشرايع) ، كل بحسب
ما يقتضيه مصلحة المجتمع في زمانه وأوانه ، (ولا بد لها) أي القوانين (من واضع)
يضعها (ويقررها على) حسب (ما ينبغى) ، وتقتضيه الحكمة والعقل السليم ، مراعيا فيها
مصلحة المجتمع بجميع طبقاته
وأفراده ، بحيث لا تشذ عنها امورهم الجزئية فضلا عن الكلية ، حال كونها أي
القوانين (مصونة عن الخطأ ، وهو) أي الواضع كذلك (الشارع).
واختلف في
المراد من الشارع ، هل هو الله تعالى؟ أو النبي (ص) ، كل في زمانه وأوانه؟ أو
كلاهما؟ والمختار عند المحققين هو الاول.
وذلك لان مقتضى
وضع اللفظ بحسب اللغة ان لا يطلق على النبي ، لأن معناه جاعل الشرع وواضعه كما هو
المتبادر منه عند الاذهان المستقيمة.
قال في المصباح
: الشرعة بالكسر الدين ، والشرع والشريعة مثله مأخوذ من الشريعة ، وهي مورد الناس
للاستقاء ، سميت بذلك لوضوحها وضهورها ، وجمعها شرايع ، وشرع الله لنا كذا بشرعه ،
أضهره واوضحه ، انتهى.
فيختص بالله
تعالى ، ويدل عليه ايضا قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الاية ، وقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ، فيكون صدقه على النبي على خلاف مقتضى وضعه اللغوي.
وأما القول
الثالث : فلم اعثر على دليل عليه.
نعم ، يمكن ان
يكون نظر القائلين بذلك الى ما ادعي في حق نبينا صلىاللهعليهوآله من تفويض الاحكام اليه (ص) ، ولكن فيه كلام له محل اخر.
واختار بعضهم
بل الاكثر القول الثاني : محتجين بان الشارع صار حقيقة عرفية في النبي ، والمراد
منه حينئذ مبين الشرع ، وقد يستند في مجيئه بذلك المعنى الى كلام اللغويين حيث
قالوا : بكون شرّع بمعنى سنّ وأوضح وبيّن واظهر.
ويظهر من
الفاضل المقداد اختيار هذا ، حيث يقول في بحث النبوة من شرح باب الحادي عشر : إعلم
ان النبوة مع حسنها خلافا للبراهمة ، واجبة في الحكمة خلافا للاشاعرة ، والدليل
على ذلك : هو أنه لما كان المقصود من ايجاد الخلق هو المصلحة العائدة اليهم ، كان
اسعافهم بما فيه مصالحهم وردعهم عما فيه مفاسدهم واجبا في الحكمة ، وذلك أما في
احوال معادهم او احوال معاشهم.
اما في احوال
معاشهم ، فهو انه لما كانت الضرورة داعية في حفظ النوع الانسان الى الاجتماع ،
الذي يحصل معه مقاومة كل واحد لصاحبه فيما يحتاج اليه ، استلزم ذلك الاجتماع
تجاذبا وتنازعا يحصلان من محبة كل واحد لنفسه ، وارادة المنفعة لها دون غيرها ،
بحيث يفضي ذلك الى فساد النوع واضمحلاله ، فاقتضت الحكمة وجود عدل يفرض شرعا يجري
بين النوع ، بحيث ينقاد كل واحد إلى امره ، وينتهى عند زجره ، ثم لو فوّض ذلك
الشرع اليهم لحصل ما كان اولا ، إذ لكل واحد راي يقتضيه عقله ، وميل بوجبه طبعه ،
فلا بد حينئذ من شارع متميز بآيات ودلالات تدل على صدقه ، كي يشرع ذلك الشرع مبلغا
له عن ربه. يعد فيه المطيع ويتوعد العاصي ، فيكون ذلك ادعى الى انقيادهم لامره
ونهيه.
واما في احوال
معادهم ، فهو انه لما كانت السعادة الاخروية لا تحصل الا بكمال النفس ، بالمعارف
الحقة والاعمال الصالحة ، وكان التعلق بالامور الدنيوية وانغمار العقل في الملابس
البدنية ، مانعا من ادراك ذلك على الوجه الاتم ، والنهج الاصوب ، أو يحصل ادراكه
لكن مع مخالجة الشك ومعارضة الوهم ، فلا بد حينئذ من وجود شخص لم يحصل له ذلك
التعلق المانع ، بحيث يقرر لهم الدلائل ويوضحها لهم ، ويزيل الشبهات ويدفعها ،
ويعضد ما اهتدت اليه عقولهم ويبين لهم ما لم يهتدوا اليه ، ويذكرهم خالقهم
ومعبودهم ، ويقرر لهم العبادات والاعمال الصالحة ما هي؟ وكيف هي؟ على وجه يوجب لهم
الزلفى عند ربهم ، ويكررها عليهم ليستحفظوا التذكير بالتكرير ، كي لا يستولي عليهم
السهو والنسيان ، اللذان هما كالطبيعة الثانية للانسان ، وذلك الشخص المفتقر اليه
في احوال المعاش والمعاد هو النبي ، فالنبي واجب في الحكمة وهو المطلوب.
وإلى هذا القول
ينتظر قوله : (ثم الشارع لا بد) له من (ان يمتاز باستحقاق الطاعة).
ويجب في النبي
العصمة ليحصل الوثوق بافعاله واقواله ، فيحصل الغرض ، من البعثة ، وهو متابعة
المبعوث اليهم له في اوامره ونواهيه ،
(وهو) أي
الامتياز المذكور (انما يتقرر بآيات تدل على ان شريعته من عند ربه وهي المعجزات).
قال بعض
الفضلاء : وانّما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه
لان الله تعالى ، بخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق ، كما اذا قام رجل في
مجلس ملك بحضور جماعة ، وادعى انه رسول هذا الملك اليهم ، فطالبوه بالحجة.
فقال : هى ان
يخالف هذا الملك عادته ، ويقوم على سريره ثلاث مرات ويقعده ففعل ، فانه يكون
تصديقا له ، ومفيدا للعلم الضروري لصدقه ، من غير ارتياب.
وقال ايضا :
وطريق معرفة صدقه ، أي صدق النبي في دعوى النبوة ظهور المعجزة على يده ، وهو ثبوت
ما ليس بمعتاد ، او نفي ما هو معتاد ، مع خرق العادة ، ومطابقة الدعوى.
قيّد بذلك
إحترازا عن الكرامات ، فإنها لا تكون مطابقة للدعوى ضرورة عدم الدعوى ، لكنه يحرج
الارهاص والمعجزة الكاذبة ، لكن ينبغي ان يذكر ههنا قيد آخر ، وهو عدم المعارضة
ليتميز عن السحر والشعبذة.
والمشهور في
تعريف المعجزة ، انه امر خارق للعادة. مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة ، لكنه ينتقض
بما إذا دل على خلاف دعواه ، كمن ادعى النبوة ، وقال معجزتي ان انطق هذا الحجر
فنطق ، لكنه قال : انه كاذب.
فالاولى في
تعريفهما ان يزاد على المشهور ، قولنا : ومطابقة الدعوى.
واختلفوا في
ظهور المعجزة على سبيل الإرهاص ، وهو احداث امر خارق للعادة ، دالّ على بعثة النبي
قبل بعثته ، إنه هل يجوز
ام لا؟ فاختار بعضهم الجواز ، واحتج عليه بظهور معجزات نبينا قبل نبوته ،
مثل : انكسار إيوان كسرى ، وانطفاء نار فارس ، وتظليل الغمام وتسليم الاحجار.
(وأعلى معجزات
نبينا القرآن الفارق بين الحق والباطل).
وإعلم انه لا
بد لنا من تطويل الكلام ، في إعجاز كلام الملك العلّام ، وفي بعض الشبهات التي ارتكبها
بعض الملاحدة اللئام ، فانه مناسب لمقتضى المقام ، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام
فنقول :
اما انه معجز ،
فلانه (ص) تحدى به ودعى الى الاتيان بسورة من مثله مصاقع البلغاء ، والفصحاء من
العرب العرباء ، مع كثرتهم كثرة رمال الدهناء ، وحصى البطحاء وشهرتهم بغاية
العصبية والحمية الجاهلية ، وتهالكهم على المباهات والمبادات ، فعجزوا حتى آثروا
المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف ، وبذلوا المهج وارواح دون المدافعه
بالأبدان والاشباح ، فلو قدرو على المعارضة لعارضوا ولو ، عارضوا لنقل الينا لتوفر
الدواعي وعدم الصارف ، والعلم بجميع ذلك قطعي كسائر العاديات ، لا يقدح فيه احتمال
انهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها ، او عارضوا ولم ينقل الينا لمانع كعدم
المبالاة وقلة الالتفات ، والاشتغال بالمهمات.
والحاصل ان
اعجازه متيقن وان اختلف في وجهه.
فقال الجمهور :
على أن إعجاز القرآن لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من
البلاغه ، على ما يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم ، وعلماء الفرق بمهارتهم ، في فن
البيان واحاطتهم باساليب
الكلام ، والمراد بالفصاحة ما هو اعم منها ومن البلاغة ، واطلاقها على هذا
المنى شايع.
وقال بعض
المعتزله : إعجازه لاسلوبه الغريب ، ونظمه العجيب ، المخالف لما عليه كلام في
الجطب والرسائل والاشعار.
وقال القاضي
الباقلاني : وإمام الحرمين ، ان وجه الاعجاز هو اجتماع الفصاحة مع الاسلوب المخالف
لاساليب كلام العرب من غير استقلال لاحدهما ، إذ ربما يدعي أن بعض الخطب والاشعار
، من كلام اعاظم ألبلغاء لا ينحط عن خزالة القرآن انحطاطا بينا قاطعا للاوهام ،
وربما يقدر نظم ركيك يضاهي نظم القرآن على ما ورد من ترهات مسيلمة الكذاب : الفيل
ما ادراك ما الفيل وما ادراك ما الفيل له ذنب وثبل ، وخرطوم طويل»
ويذهب النّظّام
وكثير من المعتزله والمرتضى من الشيعة ، ان اعجازه بالصرفة ، وهي : ان الله تعالى
صرف همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليها ، وذلك اما بسلب قدرتهم ، او بسلب
دواعيهم ، او لشيىء اخر نذكره ، واحتجوا ابوجهين :
الاول : انا
نقطع بان فصحاء العرب ، كانوا قادرين على التكلم بمثل مفردات السور ، ومركباتها
القيرة ، مثل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا الى الاخر ، فيكونون قادرين على الاتيان بمثل
السورة :
والثاني : ان
الصحابة عند جمع القرآن ، كانوا يتوقفون في بعض السور والايات الى شهادة الثقات ،
(١) قال في
الاتقان : اخرج ابن ابي داود من طريق الحسن ، ان
عمر سئل عن اية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان قتل يوم اليمامة ، فقال
، انا لله ، وامر بجمع القرآن ، فكان اول من جمعه في المصحف.
واخرج ايضا من
طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : قدم عمر فقال من كان تلقى رسول الله صلىاللهعليهوآله وكان عنده مشيئا من القرآن فليات به ، وكانوا يكتبون
ذلك في المصاحف والالواح والسب ، وكان لا يقبل من احد شيئا حتى يشهد شهيدان.
واخرج بن ابي
داود ايضا من طريق هشام بن عروة عن ابيه ان ابا بكر قال : لعمر ولزيد أقعدا على
باب المسجد فمن جائكما بشاهدين على حيى من كتاب الله فاكتباه.
وبمضمونها
عندهم روايات كثيرة مثل ما اخرجه ابن اشنه في كتاب المصاحف عن الليث بن سعد قال :
اول من جمع القرآن ابو بكر وكتيبه زيد ، وكان الناس يأتون ثابت فكان لا يكتب اية
الا بشهادة عدلين ، وان اخر سورة برائة لم يوجد الا مع ابي خذيمة بن ثابت ، فقال :
اكتبوها فان رسول الله صلىاللهعليهوآله جعل شهادة رجلين فكتب ، وان عمر أتى باية الرجم فلم
يكتبها لانه كان واحدا) وابن مسعود قد بقي مترددا في الفاتحة والمعوذتين.
(٢) في الاتقان
للسيوطي وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنى عشره سورة لانه لم يكتب المعوذيين.
واخرج ابو
عبيدة عن ابن سيرين قال : كتب أبي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوزين.
ولو كان نظم
القرآن معجز الفصاحة لكان كافيا في الشهادة.
والجواب عن
الاول : ان حكم الجملة قد يخالف حكم الاجزاء ، وهذه بعينه شبهة من نفي قطعية
الاجتماع والخبر المتواتر ، ولو صح ما ذكرناه لكان كل من آحاد العرب قادرا على
الاتيان بمثل قصائد فصحائهم كامرء القيس وأقرانه ، واللازم قطعي البطلان.
وعن الثاني :
بعد صحة الرواية ، وكون الجمع بعد النبي لا في زمانه.
(١) قال الحاكم
في المستدرك : جمع القرآن ثلث مرات ، احديها بحضرة رسول الله صلىاللهعليهوآله.
ثم اخرج بسند
على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال : كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله نؤلف القرآن ، ثم قال : الثانية بحضرة بي بكر الخبر
وكون كل سورة مستقلة بالاعجاز ، إن ذلك كان للاحتياط والاحتراز عن ادنى تغير لا
يخل بالاعجاز ، كل سورة ليس مما يظهر لكل احد بحيث لا يبقى له تردد اصلا
واستدل على
بطلان الصرفة بوجوده :
الاول ان فصحاء
العرب انما كانوا يتعجبون من حسن نظمه ويلاغته وسلاسته في جزالته ويرقصون رؤسهم
عند سماع قوله تعالى (يا أَرْضُ ابْلَعِي
ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) الاية لذلك لا لعدم تاتي المعارضة مع سهولتها في نفسها
الثاني : انه
لو قصد الاعجاز بالصرفة ، لكان الانسب ترك الاعتناء ببلاغة وعلو طبقته ، لانه كلما
كان انزل في البلاغة ، وادخل في
الركاكة ، كان عدم تيسر المعارضه ابلع في خرق العادة
الثالث : قوله
تعالى (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فان ذكر الاجتماع ، والاستظهار بالغير في مقام التحدي ،
إنما يحسن فيما لا يكون مقدور اللبعض ، ويتوهم كونه مقدورا للكل نفي ذلك.
ومن هنا نشأت
شبهة ذكرها بعضهم وهو انه : ربما يطعن في إعجاز القرآن ، بانه مما اختلف في وجه ،
وكل ما هو كذلك ، فهو غير معلوم العدم.
(اما الصغرى).
فلان الكثر المتكلمين كما تقد ، على ان جهة اعجازه الفصاحة واليه ذهب العلامة في
محكي نهج المستر شدين ، وذهب بعضهم الى ان اعجازة من حيث الاسلوب ، ومنهم من قال
انه من جهتهما معا ، وذهب بعضهم الى انه بهما وباشتماله على العلوم الشريفة ،
ومذهب بعض انه من جهة خلوه عن التناقض ، وقيل انه : من جهة اشتماله على الاخبار
الغيبية ، وذهب السيد المرتضى وشيخه المفيد كما في البحار وفاقا لجماعة من اهل
السنة منهم النظام الى انه من جهة الصرفة بمعنى ان الله صرف الناس عن معارضته ،
وهذا يحتمل وجوها ثلاثة : سلبهم القدرة ، وسلبهم الداعية والهمة مع وجود القدرة ،
وسلبهم العلوم التي كانو يتمسكون بها في المعارضة ، الى غير ذلك من الاقوال.
(واما الكبرى)
فلأن قضية تقابل الاقوال : أن صاحب كل قول منها لا يرضى بالقول الآخر ، فكل يرد
صاحبه فيصير كل الوجوه مردودة ، والمفروض قيام الاعجاز بشىء من هذه ، الوجوه ،
فبعد بطلانها يبطل اصل الاعجاز ، إذ لا بدّ في تحققه من صحة احدها ، مع ان الدعوة
النبوية عامة بالنسبة الى كافة الناس ، فلا بد ان يكون معجزته ايضا عامة ، فلا بد
وان تكون بحيث يفهمها كل الناس ، والاختلاف المذكور ينبىء عن اختفاء كل من الوجوه
الظاهرة من المختلفين عن الاخرين ، حيث ان كلا منهم ينكر ما فهمه الاخر ، فليس فيه
جهة واضحة من جهات الاعجاز ، مع لابدّيتها عقلا فلا إعجاز له ، وربما يؤيد ذلك بان
كلا من الوجوه المذكورة قابل في نفسهه للانكار ، فلا يمكن إلزام الخصم به ولا يحصل
القطع بالاعجاز.
والجواب : ان
هذا الاختلاف إنما نشأ من معلومية اصل الأعجاز ، وكونه مسلما مفروغا عنه ومجمعا
عليه ، وذلك إنما نشأ من معلومية ان النبي صلىاللهعليهوآله تحدى بالقرآن الكريم ، وأفحم من تصدى لمعارضته من العرب
العرباء ، وأعجز من تحدي من الخطباء الفصحاء البلغاء ، مع انهم اهم العصبية
والجاهلية الجهلاء ، وارباب الكبر والخيلاء ، فأقروا بالعجز والضعف والقصور ، وليس
ذلك من خوفهم وتقيتهم لعدم مقتض لذلك بعد ظهور قوتهم وكثرة قبيلتهم ، والنبي صلىاللهعليهوآله ادعى النبوة واظهر الامر ، وهو وحيد فريد ، على فترة من
الرسائل ، وطول هجعة من الامم ، وتلظ من الحرب واندراس لحمله العلوم
، وانطماس لصحاح الآثار والوسوم ، والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور ، على
حين اصفرار من ورقها ، اياس من ثرها ، واغورار من مائها ، وقد ركبو المشاق ،
ونصبوا الحروب بحيث لا تزال قائمة على الساق ، فلوا امكنهم المعارضة لم يقدموا على
هذه الشدة ، مع انهم اولو العقول وارباب الالباب باعتقادهم ، فتوجيه الاعجاز انما
هو في مقام تصنع النكتة لا في مقام الاثبات.
ومنه يظهر
الجواب عما يقال : ان الاجماع لو سلم قيامه فانما هو من الاجماعات التقييدية التي
لا حجية فيها ، نظرا إلى ان المجمعين مختلفون في المستند ، ولا ينفع الاجماع بعد
ظهور اختلافه ، وبطلان ما استند اليه بعضهم في نظر البقاقين.
ألا ترى انه لو
اتفق جماعة على النظر الى امرئة ، لكن كان مستند نظر احدهم انها امه ، ومستند
الثاني انها اخته ، والثالث انها زوجته ، والرابع انها عمته الى غير ذلك ، لم يكن
للاجنبي ان يتمسك في جواز نظره اليها بالاجماع.
لانا نقول : ما
نحن فية ليس من قبيل المثال المذكور ، فان القدر المشترك الكلي ، وهو نفس كونه
معجزا ثابت هنا ، وانما الاختلاف في الخصوصيات ، ولا يضر ذلك بالاصل الثابت.
فالمثال
المناسب له أن يفرض ، ما اذا اتفق جماعة على اكرام شخص لوجوه مختلفة ، مثل ان
احدهم يكرمه لعلمه والآخر لتقواه ، والآخر لكرمه ، والآخر لشجاعتة» الى غير ذلك ،
ويلاحظ ظهور كل الاوصاف المذكورة للكل ، ظهور البعض للبعض ، فحينئذ
لا مانع من كون اصل الاعجاز مجمعا عليه ، كما لا مانع في المثال من كون
الاكرام كذلك.
نعم ، اذا كان
المقصود إثبات جامعية للوجوه عند الجمع ، لم يثبت بذلك ، وليس كذلك ، بل المقصود
إثبات القدر المشترك الكلي» والاتفاق عليه حاصل بتوجيه كل واحد من المتفقين بوجه
من الوجوه.
والحاصل : أن
المقصود في المقام اثبات الاعجاز ، وهو حكم خاص في موضوع خاص ، وان اختلفت الجهات
والعلل ، فان اختلافها لا يوجب اختلاف الموضوع ، فإنها جهات تعليلية ، بحيث يتكثر
الموضوع بها ، لظهور أن الخارق للعادة معجزة ، سواء كان : من قبيل الفصاحة ، ام
الصرفة ام الاسلوب ، ام غيرها ،
لا يقال : بعد
عدم ثبوت وجه متفق عليه بين الوجوه ، يضعف اصل القدر المشترك ، اذ لمورد ان يورد
بان هذا لاجماع انما هو لمجرد التقليد ، والتعبد ، والا فلم لا يكون له وجه ظاهر؟
لانا نقول :
الأفهام مختلفة ، وتميّز وجه الاعجاز في غاية الاشكال كما ياتي بيان عن قريب ، عند
الجميع بين ما في الكتاب وما في المفتاح ، فكل يظهر له ما يصل اليه فهمه ، وما
أعظم شان ما له في مقام الاعجاز وجوه عديدة ، يجتمع بها الاراء المختلفة ، فإن هذا
من اظهر الادلة ، واقوى الشواهد على الاعجاز.
ومما قد يسبق
الى بعض الاوهام الفاسدة والافهام الكاسدة ، ان ان آيات القرآن مختلفة في الفصاحة
، كما يأتي عند شرح قول
المصنف وما يقرب منه.
فانّ الفرق بين
(يا أَرْضُ ابْلَعِي
ماءَكِ) و (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) من قبيل الأمثال في الشهرة ، فان كان الباري تعالى
قادرا على جعل كل الايات في غاية مرتبة الفصاحة ولم يجعل ، يلزم البخل بل نقض
الغرض ، بعد فرض كون الفصاحة من جهات الاعجاز فيه ، وإلا يلزم العجز عليه تعالى
وهذه الشبهة أوهن من نسج العنكبوت لو كانوا يعلمون.
توضيح ذلك :
إنا نختار انه تعالى قادر عليه ، كما انه قادر على كل شيىء ، لكن ترك ذلك لا
يستلزم البخل ولا نقض الغرض ، اذ المقصود من تنزيل القرآن تذكرة الناس ، وتعليمهم
الاحكام ، وإرشادهم عن الضلال ، وتنبيههم عن الغفلة وهدايتهم الى طريق الصواب.
ولا دخل
للفصاحة في شيىء منها ، إلّا للأوحديّ من الناس ، الذي يجعلها مستند الاعجاز
الكاشف عن ارتسامه بقلم القدرة ، وصدوره عن لسان الغيب ، ويكفي بالنسبة اليه كونه
في مرتبة الفصاحة ، بحيث يعجز الفصحاء عن الاتيان بمثل آية منه ، وإن لم يكن جميع آياته
في غاية مرتبة الفصاحة ، مضافا الى ما سيأتي من بعض العلماء ، من أنه لو جاء
القرآن كله على الوجه الأفصح لكان على غير النمط المعتاد في كلام العرب ، من الجمع
بين الافصح والفصيح ، فلا يتم الحجة في الاعجاز ، اذ للناس ان يقولوا للنبي صلىاللهعليهوآله :
أتيت بما لا
قدرة لنا على جنسه ، كما لا يصح من البصير ان يقول للأعمى قد غلبتك بنظري فتأمل.
وهذا المقال
أنما هو في مقام المماشاة ، والّا قلنا ان نختار ما سياتي من الغزالي والقاضي
الباقلاني ، من أنّ الآيات كلها في أعلا درجات مقامات الفصاحة والبلاغة ، وان
اختلفت جهات إظهار الفصاحة والبلاغة فيها ، بحسب اختلاف المقامات.
فانه لا شك ان
البلاغة تقتضي ان يتكلم في كل مقام ، بما يقتضيه الحال ، من الاسلوب واللفظ
وغيرهما ، فقد يكون مقتضى الحال تادية المراد بطريق الكناية ، وقد يكون مقتضاه
تاديته بطريق الاستعارة ، الى غير ذلك من صنوف الكلام ، وضروب بيان المرام.
فالفصاحة
الحاصلة في الكلام المشتمل على التصريح ، مثل قوله تعالى : (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) ، والحاصلة في الكلام المشتمل على التعريض مثل قوله
تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) و (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ) بحسب مقامهما.
فان الاول : في
مقام تنزيه مريم عما نسبه اليها اليهود من الزنا الملازم لكون عيسى ولد الزناء ،
فالمقام بأهميتها يقتضي التصريح بما ينفي ذلك ، وذلك لا يحصل الا بما ذكر في الاية
من كونها محصنة لفرجها ، لا بغيره من الصفات الحسنة في النساء.
بخلاف الثاني :
فإنها في مقام جعل حكم متفرّع على الجماع او عدمه ، فلا يحتاج ذلك الى التصريح به
كما هو معلوم عند من له ذوق سليم وعقل مستقيم ، وإن كان الثاني أبلغ وألطف فتأمل.
وكذا الكلام
بالنسبة الى الحقيقة والمجاز وغيرهما ، فلا يكون القرآن مشتملا على الفصيح والافصح
، والبليغ والابلغ ، بل الكل
في أعلى مرتبة الفصاحة والبلاغة.
نعم ، لا ننكر
اختلاف الآيات ، في الاشتمال على المحسنات واللطائف والنكات ، الظاهرة عندنا وعند
فصحاء العرب ، المعترفين بالعجز.
ولذا اختار كل
من الاربعة : أعني ابن أبي العوجاء ، وابا شاكر الديصاني ، وعبد الملك البصري ،
وابن المقفع ، المتعاهدين على نقص القرآن باتيان مثله ، أرباعا في العام القابل ،
في مقام الاقرار بالعجز عن الاتيان بما وعد ، آية من القرآن ، تحير في فصاحتها كما
في الخبر المروي في الاحتجاج ، فإن الذوق والمشرب يختلف في الناس كسائر الغرائز ،
بل اشتهر في الألسنة ان افصح الايات قوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي
ماءَكِ) الاية.
وهذا ليس الا
لاسلوبه العجيب ، المطبوع عند الافهام المستقيمة ، والاذهان القويمة ، وإشتماله
على ما لا يشتمل عليه غيره من الآيات ، من المحسنات البديعية.
فقد نقل الفاضل
السيوطي في كتاب الاتقان ، عن ابن أبي الاصبع انه قال : لم أر في الكلام الالهي
مثل قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي
ماءَكِ) فإن فيها عشرين ضربا من البديع ، وهي سبع عشرة لفظة.
(الاول) :
المناسبة التامة (والموازنة الحسنة) في (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي).
قال الموصلي :
في المثال السائر ، الموازنة ان تكون الفاظ الفواصل من الكلام المنثور متساوية في
الوزن ، وان يكون صدر البيت
الشعري وعجزه متساوي الألفاظ وزنا ، وللكلام بذلك طلاوه ورونق ، وسببه
الاعتدال ، لانه مطلوب في جميع الاشياء ، وإذا كانت مقاطع الكلام معتدلة ، وقعت من
النفس موقع الاستحسان ، وهذا لامراءة فيه لوضوحه ، وهذا النوع من الكلام هو أخو
السجع في المعادلة دون المماثلة ، لان في السجع اعتدالا وزيادة على الاعتدال ، وهي
تماثل أجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد ، واما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود
في السجع ، ولا تماثل في فواصلها ، فيقال : اذا كل سجع موازنة ، وليس كل موازنة
سجعا.
وعلى هذا
فالسجع اخص من الموازنة فما جاء منها قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، فالمستقيم والمستبين على وزن واحد ، وكذلك قوله تعالى
: (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) كلا سيكفرون بعبادتهم ، ويكونون عليهم ضدا ، ألم ترانا
ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم ازّا ، فلا تعجل عليهم انما نعدّ لهم عدا.
وكذلك قوله
تعالى : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ
فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً).
وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ
بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ، يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ
لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ، اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ
يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ، (مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ، أَمْ
لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ
وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ ، تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ
بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).
وهذه الآيات
جميعها على وزن واحد فان شديد وقريب وبعيد وعزيز ونصيب واليم وكبير ، كل ذلك على
وزن فعيل ، وان اختلفت حروف المقاطع التي هي فواصلها ، وامثال هذا في القرآن كثير
، بل معظم آياته جارية على هذا النهج ، حتى انه لا تخلو منه سورة من السور ، ولقد
تصفحته فوجدته لا يكاد يخرج منه شيىء عن السجع والموازنة. وأما ما جاء من هذا
النوع شعرا فقول ربيعة بن ذؤابة :
إن يقتلوك
فقد ثللت عروشهم
|
|
بعتيبة بن
الحرث بن شهاب
|
بأشدهم باسا
على أصحابه
|
|
وأعزهم فقدا
على الاصحاب
|
فالبيت الثاني
: هو المختص بالموازنة فإن باسا وفقدا على وزن واحد انتهى.
الثاني :
الاستعارة فيهما لان البلع حقيقة في بلع الطعام وامثاله بالبلعوم ، أي مجرى الطعام
في الحلق ، والقلع معناه الحقيقي نزع الشيىء من مكانه ، وقد استعيرا في الآية لغير
معناهما لمناسبة بينه
وبين ما استعملا فيه في الآية ، وهذا هو المراد بالاستعارة فيهما.
ونحن نبينها
ههنا بقدر الحاجة وان كان ياتي الكلام فيها في الفن الثاني ، مفصلا مع ذكر
اقسامها.
قال الفاضل
المتقدم : الاستعارة كثير الاشكال ، غامض الخفاء ، إلى ان قال : ان المجاز ينقسم
قسمين توسع في الكلام وتشبيه ، والتشبيه ضربان : تشبيه تام وتشبيه محذوف ،
فالتشبيه التام ان يذكر المشبه والمشبه به ، والتشبيه المحذوف ان يذكر المشبه دون
المشبه به ويسمى استعارة.
وهذا الاسم وضع
للفرق بينه وبين التشبيه التام ، وإلا فكلاهما يجوز ان يطلق عليه اسم التشبيه
ويجوز ان يطلق عليه الاستعارة لاشتراكهما في المعنى.
واما التوسع
فانه يذكر للتصرف في اللغة لا لفائدة اخرى.
وان شئت قلت :
ان المجاز ينقسم الى توسع في الكلام وتشبيه ، واستعارة ، ولا يخرج عن احد هذه
الاقسام الثلاثة. فأيها وجد كان مجازا.
إلى ان قال :
فاني اتبع ذلك بضرب الامثلة للاستعارة ، التي يستفيد بها المتعلم مالا يستفيده
بذكر الحد والحقيقة ، فمما جاء من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى في اول سورة
ابراهيم عليهالسلام : (الر كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)
فالظلمات
والنور استعارة للكفر والايمان ، أو للضلال والهدى ، والمستعار له مطوي الذكر ،
كأنه قال : لتخرج الناس من الكفر
الذي هو كالظلمة ، الى الايمان الذي هو كالنور.
وكذلك قوله في
تلك السورة أيضا : (وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ ، وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ، وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
مِنْهُ الْجِبالُ).
والقراءة برفع (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) ، ليست من باب الاستعارة ، ولكنها في نصب تزول ، واللام
لام كي ، والجبال ههنا استعارة طوي فيها ذكر المستعار له ، وهو أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله وما جاء به من الايات والمعجزات.
أي انهم مكروا
مكرهم لكي تزول منه هذه الايات والمعجزات ، التي هي في ثباتها واستقرارها كالجبال.
وعلى هذا ورد
قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، أَنَّهُمْ فِي كُلِّ
وادٍ يَهِيمُونَ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ).
فاستعار
الاودية للفنون والاغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها وإنما خص الأودية
بالاستعارة ، ولم يستعر الطرق والمسالك او ما جرى مجراها ، لان معاني الشعر تستخرج
بالفكر والروية ، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض ، فكان استعارة الاودية لها
اشبه وأليق.
والاستعارة في
القرآن قليلة ، لكن التشبيه المضمر الاداة كثير ، وكذلك هي في فصيح الكلام من
الرسائل والخطب والاشعار ، لأن طي المستعار له لا يتيسر في كل كلام ، وأما التشبيه
المضمر الاداة فكثير سهل ، لمكان اظهار المشبه والمشبه به معا.
ومما ورد من
الاستعارة في الأخبار النبوية قول النبي صلىاللهعليهوآله : «لا تستضيئوا بنار المشركين» فاستعار النار للرأي
والمشورة ، أي لا تهتدوا برأي
المشركين ولا تاخذوا بمشورتهم.
وروي عنه صلىاللهعليهوآله : أنه دخل يوما مصلاه فرأى اناسا كانهم يكثرون فقال :
اما انكم لو اكثرتم من ذكرها ذم اللذات لشغلكم عما أرى وها ذم اللذات (بالذال
المعجمة اراد به الموت وهو مطوي الذكر) انتهى.
الثالث :
الطباق بين السماء والارض (وهذا ايضا ياتي في الفن الثالث لكن نوضحه هبنا بقدر
الحاجة.
والطباق : يسمى
المطابقه ، والتطبيق ، والتضاد ، والتكافوء.
وهو في اللغة :
مصدر طابق الفرس في جريه طباقا ومطابقة ، اذا وضع رجليه مكان يديه.
وفي الاصطلاح :
هو الجمع بين متضادين ، أي معنيين متقابلين في الجملة أعم من ان يكون تقابلهما
تقابل التضاد ، أو تقابل الايجاب والسلب ، أو تقابل العدم والمكة ، او تقابل
التضايف ، او ما يشبه شيئا من ذلك حسبما تعرفه في الامثلة الآتية.
قالوا : ولا
مناسبة بين الطباق لغة ومعناه اصطلاحا ، لان الجمع بين الضدين ليس موافقة ،
والموافقة ماخوذة في معناه اللغوي.
وانما سمي هذا
النوع مطابقة ، لان في ذكر المعنيين المتضادين معا توفيقا وايقاع توافق بين ما هو
في غاية التخالف ، كذكر الاحياء مع الاماته ، والابكاء مع الضحك ونحو ذلك.
وكيف كان فهو
على أقسام : لأن الطباق إما بين المعنيين الحقيقيين.
او المجازيين ،
وأما لفظي او معنوي ، واما طباق ايجاب أو طباق سلب ، واما طباق جلي او طباق خفي.
الاول : الطباق
بين الحقيقيين ، سواء كانا اسمين كقوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ).
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «ثم جمع سبحانه من حزن الارض وسهلها وسبخها وعذبها».
ومن النظم قول
ابي الحسن التهامي :
طبعت على كدر
وانت تريدها
|
|
صفوا من الاقذار
والاكدار
|
ومكلف الايام
ضد طباعها
|
|
متطلب في
الماء جذوة نار
|
أو فعلين كقوله
سبحانه وتعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ ،
وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ).
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام «إلى الله اشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا».
ومن النظم قول
ابي صخر الهذلي :
أما والذي
أبكى واضحك والذي
|
|
أمات وأحيى
والذي أمره الامر
|
أو حرفين كقوله
تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام مخاطبا الاشعث : «ما يدريك ما علي مما لي».
ومن النظم قول
الشاعر :
على أنني راض
بان احمل الهوى
|
|
واخلص منه لا
علي ولا ليا
|
وقد اجتمع طباق
الكلم الثلاث في قول امير المؤمنين عليهالسلام : «لكان قليلا فيما ارجو لكم من ثوابه وأخاف عليكم من
عقابه».
الثاني :
الطباق بين المجازين ، مثل قوله سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً
فَأَحْيَيْناهُ) أي ضالا فهديناه ، فان الموت والاحياء معناهما
المجازيان متقابلان ، كتقابل معنييهما الحقيقيين.
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «فالبصير منها شاخص ، والاعمى اليها شاخص ، والبصير
منها متزود ، والاعمى لها متزود» فإن المراد بالاعمى الجاهل ، وبالبصير العارف
العاقل ، وتقابل معنييهما المجازيين كالحقيقيين واضح.
ومثاله من
النظم قول التهامي :
لقد أحيى
المكارم بعد موت
|
|
وشاد بناءها
بعد انهدام
|
فإن الاحياء
والموت ، والشيد والانهدام ، متقابلة معانيها الحقيقية والمجازية ، إذ المراد انه
اعطى بعد ان منع الناس كلهم.
الثالث :
الطباق المعنوي ، وهو مقابلة الشيء بضده في المعنى لا في اللفظ كقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ). معناه ربنا يعلم إنا لصادقون.
وقوله تعالى
ايضا : (جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً)
قال ابو على
الفارسى : لما كان البناء رفعا للمبني ، قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء ، ونظير
قول أمير المؤمنين عليهالسلام : «من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع» فإن المهاد
لما كان عبارة عما يتهيأ للصبي أعني المهد ، ولا يكون الا تحته ، حسن مقابلة السقف
به الذي لا يكون الا في الفوق.
نعم ، ان فسر
المهاد بالفراش كما هو احد معانيه لغة فهو من الطباق اللفظي.
ومثاله في
النظم قول هدية بن الحشرم :
فإن تقتلوني
في الحديد فانني
|
|
قتلت اخاكم
مطلقا لم يقيد
|
أي أن تقتلوني
مقيدا ، وهو ضد المطلق ، فطابق بينهما في المعنى.
الرابع : طباق
السلب ، وهو الجمع بين فعلي مصدر واحد احدهما مثبت والاخر منفي ، او احدهما أمر
والاخر نهي.
فالاول : ،
كقوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون» ، وقال
أيضا : «تكادون ولا تكيدون».
ومن النظم قول
بعضهم :
خلقوا او ما
خلقوا لمكرمة
|
|
فكانهم خلقوا
وما خلقوا
|
رزقوا وما
رزقوا سماح يد
|
|
فكانهم رزقوا
وما رزقوا
|
والثاني : نحو
قوله تعالى (فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ).
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «فكونوا من ابناء الآخرة ولا تكونوا من ابناء الدنيا».
الخامس :
الطباق الخفي ، وهو الجمع بين معنيين احدهما بما يقابل الاخر نوع تعلق مثل السببية
واللزوم ، نحو قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، فان الرحمة وان لم تكن مقابلة للشدة لكنها مسببة عن
اللين الذي هو ضد الشدة. وقوله ايضا : (جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) فان ابتغاء الفضل وان لم يكن مقابلا للسكون ، لكنه
يستلزم الحركة المضادة
للسكون.
ونظيرهما قول
امير المؤمنين عليهالسلام : «فالهدي خائل والعمى شامل» فان العمى ليس مقابل الهدى
، لكنه سبب للضلال المقابل له.
وقوله عليهالسلام : «فانه والله الجد لا اللعب ، والحق لا الكذب» فانه لا
تقابل بين الحق والكذب الا أن الحق لما كان ملازما للصدق المقابل للكذب ، والكذب
ملازما للباطل المقابل للحق ، حسن المقابلة بينهما. ومثاله من النظم قول ابي الطيب
:
لمن تطلب
الدنيا اذا لم ترد بها
|
|
سرور محب او
إساءة مجرم
|
فان السرور
يتسبب عن الاحسان المقابل للاساءة فالحق بالطباق ، وأما المطابقة بين المحب
والمجرم فمن فساد الطباق. لان ضد المحب هو المبغض لا المجرم.
وقول الطغرائى
:
وشان صدقك
عند الناس كذبهم
|
|
وهل يطابق
معوج بمعتدل
|
لان المعوج
إنما يطابقه المستقيم ، والمعتدل يقابله المائل ، لكن الاعتدال لازم للمستقيم
المطابق للمعوج وأملح الطباق واخفاه قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) اذ حقيقة للقصاص الموت الموجب للحياة.
والرابع :
المجاز في قوله (يا سَماءُ أَقْلِعِي) فان الحقيقة يا مطر السماء وهذا من باب المجاز في الحذف
، ان قدر لفظة مطر ، ومومن قبيل سبك المجاز عن مجاز ان لم يقدر ، بان نودي السماء
مجازا ، ثم استعملت في المطر مجازا ، فتامل».
ولا باس بذكر
اقسام المجاز ، والكلام في سبك المجاز عن المجاز
وإن كان ياتي الكلام في الاول في علم البيان مفصلا فنقول : إن العلائق
المسوغة للتجوز لا تختص في عد ، ولا تنتهي الى حد ، على ما عليه جمع من المحققين ،
لانه ما بعد كان المداد في المجاز ، على المناسبة والاستحسان عرفا وذوقا ، فوجوه
التناسب غير مضبوطة ، ووجهات الحسن غير محصورة كما هو ظاهر.
ولعل ذلك هو
السر في عدم مبالغة الاكثرين في حصر أنواع العلاقات وضبطها ، إلا ان جمعا منهم
كصاحب المثل السائر حام حول الضبط ، وذكر عدة منها ، وادعى حصرها فيها بالاستقراء.
وتراهم مع
دعواهم هذه انهم في تعيين أصل النوع مختلفون ، وفي العدد المعدود أيضا غير متفقين
، حيث قلله بعضهم وكثره آخرون ، وغاية ما قيل : انها خمسة وعشرون.
قال شارح
المفتاح في المحكي عن كلامه : إعلم ان العلماء قد حصروا العلاقة المعتبرة في
المجاز ، بناء على الاستقراء ، في خمسة وعشرين نوعا.
الاول : إطلاق
اسم السبب على المسبب ، كقوله عليهالسلام : «بلوا ارحامكم ولو بالسلام» أي صلوا ، فان العرب لما
رأت بعض الاشياء يتصل بالبل ، استعاروا البل بمعنى الوصل.
الثاني :
بالعكس ، كقوله : بالعطية من ، فان من اعطى فقد من.
الثالث : إطلاق
اسم الجزء على الكل ، كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) ، أي ذاته.
الرابع : عكسه
، كقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ
فِي آذانِهِمْ).
الخامس : إطلاق
اسم الملزوم على اللازم ، كقوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) سميت الدلالة كلاما لأنها من لوازمه.
السادس : عكسه
، قال الشاعر :
قوم اذا
حازبوا شدوا آزارهم
|
|
دون النساء
ولو طالت بآملها
|
أريد بشد
الازار الاعتزال عن النساء ، لان شد الازار من لوازم الاعتزال.
السابع : إطلاق
أحد المتشابهين على الاخر ، كاطلاق الانسان على الصورة المنقوشة ، لتشابههما في
الشكل.
الثامن : إطلاق
المطلق على المقيد ، كقول الشاعر :
ويا ليت كل
اثنين بينهما هوى
|
|
من الناس قبل
اليوم يلتقيان
|
بمعنى يوم
القيامة.
التاسع : عكسه
كقول شريح : «اصبحت ونصف الخلق علي غضبان» يريد ان الناس محكوم به ، ومحكوم عليه ،
فالمحكوم عليه غضبان ، لا أن نصف الناس على السوية كذلك.
العاشر : إطلاق
اسم الخاص على العام ، كقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً)
الحادي عشر :
عكسه ، كقوله تعالى حكاية عن رسول الله صلىاللهعليهوآله : (وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ) ، فلم يرد الكل ، لان الانبياء كانوا مسلمين قبله.
الثاني عشر :
حذف المضاف سواء أقيم المضاف اليه مقامه ، كقوله
تعالى : (سْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، أي اهلها ، وياسماء من هذا القبيل ، بناء على اول
الوجهين ، ويحتمل ان تكون الاية مثله في ثاني الوجهين ، بأن يكون استعمال القرية
في الاهل مجازا ، ثم اوقع السؤال عليها مجازا ، ويحتمل ان يكون السؤال مجازا
والقرية حقيقة.
قال التفتازاني
: في آخر باب الاستعارة ، قال الشيخ عبد القاهر : أن الحكم بالحذف ههنا ، أي في
اسأل القرية ، لامر يرجع الى غرض المتكلم ، حتى لو وقع في غير هذا المقام ، لم
يقطع بالحذف ، لجواز أن يكون كلام رجل ، مر بقرية قد خربت وباد اهلها ، فأراد ان
يقول لصاحبه واعظا ومذكرا ، أو لنفسه متعظا ومعتبرا.
اسأل القرية عن
اهلها ، وقل لها ما صنعوا ، كما يقال : سل الارض من شق انهارك ، وغرس اشجارك ،
وجنى اثمارك ، انتهى.
هذا كله على
قول من لا يقول باشتراك لفظ القرية لفظا ، بين الاهل والجدران ، فتأمل جيدا. أولا
كقول أبي داود :
أكل امرء
تحسبين امرءا
|
|
ونورا توقد
بالليل نارا
|
وسميت هذا
مجازا بالنقصان ، ونحو قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ). مجازا بالزيادة.
الثالث عشر :
عكسه ، كقول الشاعر :
انا ابن جلا
وطلاع الثنايا
|
|
متى أضع
العمامة تعرفوني
|
أي انا ابن رجل
جلا.
الرابع عشر :
تسمية الشيىء باسم ما له تعلق المجاورة ، كتسميتهم قضاء الحاجة الذي هو في المكان
المطمئن من الارض بالغائط ، فتأمل.
الخامس عشر :
تسمية الشيء باسم ما يؤول اليه ، قال الله تعالى ، حكاية عن صاحب يوسف عليهالسلام : (إِنِّي أَرانِي
أَعْصِرُ خَمْراً).
السادس عشر :
تسمية الشىء باسم ما كان. كقولنا للانسان : بعد فراغه من الضرب انه ضارب ، بناء
على كون المشتق فيما انقضى عنه المبدأ مجازا ، على ما بين في الاصول.
السابع عشر :
اطلاق اسم المحل على الحال ، قال عليهالسلام : «لا يفضض الله فاك» ، أي اسنانك ، إذ الفم محل
الاسنان ، وقول ابن الحاجب : وللمجاورة يشمل هذا وما بعده والرابع عشر أيضا.
الثامن عشر :
عكسه ، قال الله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي في الجنة لانها محل الرحمة.
التاسع عشر : إطلاق
اسم آلة الشىء عليه ، كقوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليهالسلام : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي ذكرا حسنا ، اطلق اللسان وأراد به الذكر ، واللسان
آلته.
العشرون :
والأولى ان يقال تمام العشرين ، او متمم العشرين كما في بعض حواشي المغني لان
العشرين قد يراد به مجموع الاحاد الى العقد ، لا العدد الواحد المكمل له ، وهو
اطلاق اسم الشيىء على بدله ، يقال : فلان أكل الدم ، أي الدية ، فتأمل.
الحادي
والعشرون : النكرة تذكر للعموم ، كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) ، أي كل نفس ، ومنه : دع أمره ونفسه.
الثاني
والعشرون : إطلاق أسم احد الضدين على الاخر كقوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ، لأن المراد بالثانية ما يحسن عقلا ، وفيها وجه اخر
دقيق ، حاصله ان الانتقام من المسيىء سيئة ، مثل ما فعله المسيىء ، وذلك لان ترك
الانتقام من شيم الكرام.
الثالث
والعشرون : اطلاق المعرف باللام وإرادة واحده ، كقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً»
، أي بابا من أبوابها ،
نقلا عن ائمة التفسير.
الرابع
والعشرون : الحذف ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي كراهة ان تضلوا ، كما عن بعض النحوييين ، والفرق بين
هذا القسم والثاني عشر دقيق إلى النهاية.
الخامس
والعشرون : الزيادة ، كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) وهذه الأنواع معلومة بالاستقراء ، ويمكن ان يوجد نوعا
اخر غير ذلك ، ولا يخفى عليك تداخل بعضها كما اشرنا آنفا ، مع امكان المناقشة في
كثير من أمثلتها. إلا ان المناقشة في المثال ليست من دأب المحصلين
الى هنا كان
الكلام في انواع العلاقات ، أما الكلام في سبك المجاز عن المجاز فنقول : اختلفوا
في سبك المجاز عن المجاز ، وهو ان يستعمل لفظ في معنى مجازي ، لعلاقة بينه وبين
المعنى الحقيقي ، ثم يستعمل في معنى آخر لعلاقة بينه وبين المجاز الاول.
ولم اظفر بعد
بمن افرد هذه المسألة استقلالا بالبحث ، ولم اجد عنوانها مستقلا في كلام من تقدم ،
وانما يوجد الاشارة اليها في كلامهم ، ويذكرونها إستطرادا اذا مست حاجتهم اليها.
من دون ان يكشفوا عن وجهها النقاب. ويرفعوا عنها الحجاب.
والحق فيها :
هو الجواز. وفاقا لجمع من الاصحاب. منهم العلامة الحلي في النهاية والعميدي في
المنية على ما حكي. والفاضل القمي في القوانين في تعريف الفقه. وذهب قوم الى المنع
، منهم صاحب الفصول وصاحب المصابيح.
قال الاول :
اعلم ان العلاقة المعروفة. انما تعتبر اذا كانت بين المعنى المجازي وبين المعنى
الموضوع له. فلا تعتبر اذا كانت بينه وبين معنى مجازي آخر. الا اذا كانت بحيث توجب
العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، فتعتبر من هذه الحيثية ، ولذا تراهم يمنعون
سبك المجاز من المجاز ، والدليل عليه عدم مساعدة الطبع ، أو الرخصة على الاعتداد
بمثل تلك العلاقة ، لبعدها عن الاعتبار.
وأما صاحب
المصابيح ، فانه كتب الى الفاضل القمي على ما حكي ، أنكم جوزتم سبك المجاز من
المجاز ، مع ان المجاز لا يتجوز منه اجماعا ، تحصيلا ونقلا من العلامة في بحث السخ
من النهاية ، وقد صرح بذلك جماعة.
فكتب اليه
الفاضل القمي : لا يحضرني النهاية ولا غيره من كلمات من نسبتم هذا الكلام اليه ،
والذي يحضرني في الجواب عما ذكرت ، أني لا أجد مانعا منه ، وناهيك في ذلك ما يوجد
في كلام الملك العلام ، الذي هو في منتهى البلاغة. مثل قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ).
إذ الظاهر ان
كلمة الرب مجاز عن رحمته وثوابه. ورحمته وثوابه مجاز عن آثار رحمته ، من الجنة
والحور والقصور والثمار والانهار.
ولو لم نقل
بذلك ، فلا بد من ارتكاب المجاز في كلمة الناظرة أيضا ، وكذلك قوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).
فان الظاهر ان
كلمة الرب مجاز عن حكمه ومشيته. والحكم والمشية تصيران مستقرا للانسان بسبب
مقتضياتهما.
وأما ما تمسك
به من قول العلماء ، فلا يحضرني كلامهم لأفهم مرامهم ، ولو فرض صحة النقل فلا حجة
فيه ، ولعلهم ارادوا شيئا آخر ، فهل يمكنهم انكار ان يقول أحد : رأيت اسدا يرمي ،
مع انه رأى رأسه فقط حين الرمي.
وأورد عليه
صاحب المصابيح بقوله : ولا يخفى عليك ان ما ذكره من تجويز المجاز عن المجاز ،
مستشهدا بالآيات وعدم المنع من ارباب اللغة في الكتب والمحاورات ، مردود من جهات.
أما أولا :
فلان حمل تلك الآيات على سبك المجاز عن المجاز ، تكلف لا حاجة اليه اصلا ، بل
المجاز الظاهر منها غيره كما هو ظاهر.
وأما ثانيا :
فلان ما ذكره من عدم كون ، قول العلماء حجة لو فرض صحة النقل ، مردود بأن الكلام
في المقام في الامر اللغوي ، والمدار فيه على التوقيف من صاحب اللغة ، فاذا صرح
اهل اللغه بشيىء يكون قولهم حجة بلا اشكال ، لحصول الظن منه ، والمدار فيه على
الظن والظهور ، لا سيما اذا كان مشهورا كما فيما نحن فيه.
وأما ثالثا :
فلان المجاز الذي ذكره في قولهم رأيت اسدا يرمي ، حيث رأى رأسه فقط ، فانما هو من
باب المجاز في الاسناد ، لا المجاز
في الكلمة ، وكلامنا في الثاني لا الاول ، انتهى المحصل من كلامه المحكي
وأنت خبير بما فيه.
أما اولا :
فلان دعواه الاجماع المحصل في المقام اولى مع ادعائه الشهرة في آخر كلامه كما ترى.
وأما ثانيا :
فلان نسبة دعوى الاجماع الى العلامة في النهاية سهو فاحش.
بل الموجود في
النهاية هو أن العلامة. بعد ما ذكر الخلاف في أن لفظ النسخ. هل هو حقيقة في خصوص
الازالة؟ كما في قولهم : «نسخت الشمس الظل» ، أي ازالته ، أو حقيقة في النقل
والتحويل؟ كما في قولهم : «نسخت الكتاب» أي نقلت ما فيه الى كتاب آخر ، ومنه تناسخ
القرون وتناسخ المواريث. يراد تحويلها ونقلها من وارث الى آخر. واختار الاول تبعا
لابي الحسين البصري.
قال في جملة
ادلته الثاني : اطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم : نسخت الكتاب مجاز ، لان ما
في الكتاب لم ينقل حقيقة وإذا كان اسم النسخ مجازا في النقل ، كان حقيقة في
الازالة لعدم استعماله فيما سواهما. قال : وهو حجة أبي الحسين.
ثم تنظر فيه ،
وقال بعده ، واعترض أيضا : بأن اطلاق اسم النسخ في الكتاب ، ان كان حقيقة بطل
كلامكم. وان كان مجازا امتنع ان يكون التحول مستعارا من الازالة. لانه غير مزال
ولا يشبه الازالة.
فلا بد من
استعارته من آخر. وليس الا النقل فكان مستعارا منه.
ووجه استعارته
منه. ان تحصيل مثل ما للمنسوخ في المنقول اليه يجري مجرى نقله وتحويله. فكان منه
بسبب من اسباب التجوز. واذا كان
مستعارا من النقل كان اسم النقل حقيقة في النقل. لان المجاز لا ينجوز من
غيره باجماع اهل اللغة.
هذا كلامه ،
ومفاده كما ترى : أن دعوى الاجماع من قائل مجهول ، ومجرد ذكر العلامة له وسكوته ،
لا يدل على رضاه به ، وثبوت حقيقته عنده. كيف؟ وقد قال في باب الحقيقة والمجاز :
أن الحقيقة ماخوذة من الحق وهو الثابت. ثم نقل الى العقد المطابق ، لانه أولى
بالوجود من العقد الغير المطابق ، ثم نقل الى القول المطابق ، ثم نقل الى استعمال
اللفظ في موضوعه الاصلي. فان استعماله فيه تحقيق لهذا الوضع ، فهو مجاز في المرتبة
الثالثة من الوضع. هذا بحسب اللغة ، وإن كان حقيقة بحسب العرف ، انتهى.
وهو ظاهر بل نص
، في ان استعمال لفظ الحقيقة عنده في المعنى المصطلح ، من باب سبك المجاز ، ومثله
العميدي في المنية ، ومع ذلك فكيف ينسب دعوى الاجماع اليه ، وعلى فرض التنزل
والتسليم لصحة النقل ، نمنع حجية الاجماع لعدم دليل على اعتباره بالخصوص في باب
اللغات ، وإنما حجيته منوطة على تمامية دليل الانسداد ، الذي عنونه علماء الاصول ،
المفيد لحجية مطلق الظنون ، التي من جملة افرادها ذلك ، لحصول الظن منه بقول
اللغوي ، لكنه يتم حجة على من يقول بحجية الظنون المطلقة ، بشرط ان لا يقوم الظن
على خلافه.
وأما مع قيامه
على خلافه ، كما اتفق للفاضل القمي ، حيث ظن بالجواز عن الآيات السابقة ، وإن كانت
دلالتها على مدعاه غير خالية عن المناقشة ، فلا ينهض الاجماع المنقول دليلا عليه ،
لأنه امر اجتهادي
لا دليل تعبدي.
وبالجملة
فالاجماع المدعى مع كونه فاسدا في أصله ، حيث لم يثبت نقله في كلام عالم يعتد به ،
لا ينهض دليلا على مثل الفاضل القمي ، مع الظن بخلافه ، فضلا عن غيره ممن لا يرى
الاجماع المنقول حجة اصلا ، فافهم جيدا.
واما ثانيا :
فلأن قوله بان المجاز في قولهم : رأيت اسدا يرمي من باب المجاز العقلي لا اللغوي ،
مما فساده غني عن البيان ، لأن الاسد استعارة للرجل الشجاع ، واريد به راسه بعلاقة
الجزء والكل ، فيكون من باب سبك المجاز عن المجاز واسناد الرؤية اليه ، ليس الى
غير ملابسه حتى يكون مجازا في الاسناد ، على ما يأتي تحقيقه في احوال الاسناد
الخبري.
نعم ، في اسناد
الرمي إلى ضمير الاسد المراد به الرأس تجوز عقلى ، إلا انه مشكل غير صحيح ، لان
الرمي لا يتصور من الرأس ، فلو بدل الراس باليد كان سليما من العيب والاشكال ،
فتامل فإنه دقيق.
واما ثالثا :
فلانه قد صرح جماعة من اللغويين بتجويز هذا المجاز ، منهم الفيروزابادي في البصائر
على ما حكي عنه في الاوقيانوس ، والزمخشري في اساس البلاغة في مادة الطح ، حيث روي
عنهما ما محصّله ، ان النطح هو تقابل الكبش ذي القرن مع مثله للمضاربة ، يقال : نطحه
الكبش اذا اصابه بقرنه ، والنطيح يقال للكبش المستقبل مثله للمضاربة ، والتناطح ،
ثم اطلق مجازا على الصيد المظاهر ، على
الصياد المواجه له بعلاقة المشابهة ، فكانه يستقبل الصياد لينطحه بقرنه ،
وهو مشوم عند الصيادين ثم استعمل في الرجل المشوم ، بعنوان الاستعارة فيكون مجازا
بمرتبتين.
ومنهم شارح
القاموس في مادة الرسالة ، فانه بعد ما ذكر ان الرسالة هو السفارة ، قال : ويطلق
بالتوسع على المكتوب المحمول للسفير ، ثم يطلق مجازا على الكتاب الصغير فهو مجاز
بمرتبتين.
ومنهم شارح
القاموس أيضا في لفظ الركوع ، حيث ذكر : انه موضوع لمطلق الانحناء ، ثم استعمل
مجازا في عرف الشرع في الركن المخصوص.
وربما يطلق
بعلاقة الجزئية والكلية على نفس الصلوة ، الى غير ذلك مما يشتمل عليه كلمات القوم.
واكثرها احتواء
لذلك ، اسرار البلاغة للزمخشري ، فراجع اليها تعرف صدق ما قلناه ، فإن ذكر علماء
اللغة له ، وارسالهم له ارسال المسلمات ، وحكاية احدهم عن الاخر من دون قدح
واعتراض ، بان المجاز لا يتّجوز ، يدل على صحة التجوز وثبوت ذلك عندهم ، وان كان
يمكن المناقشة في بعض الامثلة ، بارجاع المجاز فيه الى نفس الحقيقة دون المجاز
الاول ، وابداء العلاقة والمناسبة بينها وبين المجاز الثاني ، من دون حاجة الى
توسيط المجاز الاول.
وأوضح من الكل
، كلام الخريت الماهر البارع ابو المظفر المطرزي ، في شرح مقامات الحريري في شرح
لفظ المقامة ما نص
عبارته :
المقامة هي
المفعلة من المقام ، يقال : مقام ومقامة ، كمكان ومكانة ، ومنزل ومنزلة ، وهما في
الأصل اسمان لموضع القيام ، إلا انهم اتسعوا فيها فاستعملوها استعمال المكان
والمجلس ، قال الله تعالى : (خَيْرٌ مَقاماً
وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).
وقال ابن علس :
وكالمسك ترب
مقاماتهم
|
|
وترب قبورهم
اطيب
|
ثم كثر حتى
سموا الجالسين في المقامة مقامة كما سموهم مجلسا. قال زهير : وفيهم مقامات حسان وجوههم.
وقال مهلهل :
نبئت ان
النار بعدك اوقدت
|
|
واستب بعدك
يا كليب المجلس
|
إلى ان قال :
قيل لما يقام فيها من خطبة اوعظة او ما اشبهها مقامة ، كما يقال له المجلس ، يقال
مقامات الخطباء ومجالس القصاص ، وهذا من باب ايقاعهم الشيىء على ما يتصل به ،
ويتكثر ملابسته اياه ، أو يكون منه تسبب ، ومن ذلك تسميتهم السحاب سماء ، قال الله
تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ثم كثر حتى قيل للمطر سماء ، قال الشاعر :
اذا سقط
السماء بارض قوم
|
|
رعيناه وإن
كانوا غضابا
|
وقالوا : ما
زلنا نطأ السماء حتى اتيناكم ومنه الحياء ، في قول الراعى :
فقلت لربّ
الناب خذها ثنية
|
|
وناب عليها
مثل نابك في الحيا
|
وذلك ان الحياء
اسم للمطر ، لأنه يحيي البلاد والعباد ، ثم سموا
النبات حياء لانه يكون بالمطر ثم اتسعوا فسموا الشحم والسمن حياء لانهما
يكونان من النبات وهو الذي أراده الراعى في قوله : وهذا باب واسع المجال طويل
الأذيال.
ومثله ابو
البقاء على ما حكي قال عند بيان معنى الحقيقة والمجاز ما عبارته : ولفظة الحقيقة
مجاز في معناها فانها فعيله ماخوذة من الحق والحق بحسب اللغة الثابت لانه نقيض
الباطل المعدوم والفعيل المشتق من الحق ، إن كان بمعنى الفاعل كان معناه الثابت ،
وان كان بمعنى المفعول كان معناه المثبت ، نقل من الامر الذي له ثبات الى العقد
المطابق للواقع ، لانه أولى بالوجود من العقد الغير المطابق ، ثم نقل من العقد الى
القول المطابق لهذه العلة بعينها ، ثم نقل الى المعنى المصطلح ، وهو اللفظ
المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب.
والتاء الداخلة
على الفعيل المشتق من الحق ، لنقل اللفظ من الوصفية الى الاسمية الصرفة.
قال : وكذا
المجاز مجاز في معناه ، فانه مفعل من الجواز بمعنى العبور ، وهو حقيقة في الاجسام
، واللفظ عرض يمتنع عليه الانتقال من محل الى آخر ، وبناء مفعل مشترك بين المصدر
والمكان ، لكونه حقيقة فيهما ، ثم نقل عن المصدر او المكان الى الفاعل الذي هو
الجائز ، ثم من الفاعل الى المعنى المصطلح ، وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له
، يناسب المعنى المصطلح بحسب التخاطب ، انتهى فافهم واغتنم.
والخامس من
العشرين. ضربا من البديع ، الاشارة في (غِيضَ الْماءُ) ،
بانه عبر عن معان كثيرة ، لان الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء ، وتبلع
الارض ما يخرج منها من عيون الماء ، فينقص الحاصل على وجه الارض من الماء.
والاشارة :
الاتيان بكلام قليل ذي معان جمة ، وهي ايجاز القصر بعينه ، لكن ابن ابي الاصبع فرق
بينهما ، بان دلالة الايجاز مطابقة ، ودلالة الاشارة اما تضمن او التزام.
والظاهر ان
مراده دلالة الاشارة ، التي ذكرها الاصوليون في باب المنطوق والمفهوم ، مثل دلالة
الايتين على اقل الحمل.
قال في
القوانين : المنطوق اما صريح او غير صريح.
فالاول : هو
المعنى المطابقي أو التضمني ، ولي في كون التضمن صريحا اشكال ، بل هو من الدلالة
العقلية التبعية ، كما مرت الاشارة اليه في مقدمة الواجب ، فالأولى جعله من باب
الغير الصريح.
واما الغير
الصريح فهو المدلول الالتزامي وهو على ثلاثة اقسام :
المدلول عليه
بدلالة الاقتضاء ، والمدلول عليه بدلالة التنبيه والايماء ، والمدلول عليه بدلالة
الاشارة لانه : إما ان تكون الدلالة مقصودة للمتكلم ، اولا.
فاما الاول فهو
على قسمين :
الاول : ما
يتوقف صدق الكلام عليه ، كقوله صلىاللهعليهوآله : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان» فان المراد رفع
المؤاخذة عنها والا لكذب ، او صحته عقلا كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فلو لم يقدر الاهل لما صح الكلام عقلا ، او شرعا كقول
القائل : «اعتق عبدك
عني على الف» ، اي مملكا على الف ، اذ لا يصح العتق شرعا الا في ملك ، وهذا
يسمى مدلولا بدلالة الاقتضاء.
واعلم ان الذي
يظهر من تمثيلهم بالامثلة المذكورة ، ان دلالة الاقتضاء مختصة بالمجاز في الاعراب
، او ما يكون قرينته العقل ولم يكن لفظيا ، فعلى هذا فدلالة قولنا : رأيت اسدا
يرمى على الشجاع ، ونحو ذلك يكون من باب المنطوق الصريح ، او لا بد من ذكر قسم اخر
ليشتمل سائر المجازات.
والثاني : ما
لا يتوقف صدق الكلام ولا صحته عليه ، ولكنه كان مقترنا بشيء ، لو لم يكن ذلك الشيء
علة له ، لبعد الاقتران ، فيفهم منه التعليل ، فالمدلول هو علية ذلك الشيء لحكم
الشارع ، مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «كفّر» ، بعد قول الاعرابي : «هلكت وأهلكت واقعت أهلي
في نهار رمضان» فيعلم من ذلك ان الواقاع علة لوجوب الكفارة عليه ، وهذا بسمى
مدلولا بدلالة التنبيه والايماء ، وهذا في مقابل منصوص العلة. فيصير الكلام في قوة
ان يقال : اذا واقعت فكفر.
واما التعدية
الى غير الاعرابي وغير الأهل ، فانما يحصل بتنقيح المناط ، وحذف الاضافات مثل
الاعرابية ، وكون المحل أهلا وغير ذلك ، وربما يفرط في القول فيحذف الوقاعية
ويعتبر محض إفساد الصيام.
واما الثاني :
فهو ما يلزم من الكلام بدون قصد المتكلم ، على ظاهر المتعارف في المحاورات مثل دله
قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ، مع قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) على كون اقل الحمل ستة اشهر ، فانه غير مقصود في
الآيتين ،
والمقصود في الاولى بيان تعب الام في الحمل والفصال ، وفي الثانية بيان
اكثر مدة الفصال إنتهى.
السادس :
الارداف في استوت قال في الاتقان : هو أن يريد المتكلم معنى ، ولا يعبر عنه باللفظ
الموضوع له ، بل بلفظ يرادفه لنكتة ، كما في قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) حيث أن المراد معنى الجلوس ، فعدل عن اللفظ الخاص الى
مرادفه ، لما في الاستواء من الاشعار بجلوس متمكن لا ميل فيه ، وكذا في قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) كما صرح به بعضهم ، فان المراد منه هلك من قضى الله
هلاكه ، ونجى من قضى الله نجاته ، فعدل عن ذلك الى هذا اللفظ ، لما فيه من الايجاز
والتنبيه ، على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بامر آمر مطاع ، وقضاء من لا يرد
قضاه.
وفرق بعضهم بين
الكناية والارداف ، بان الاول انتقال من لازم الى ملزوم ، والثاني من مذكور الى
متروك.
السابع :
التمثيل في (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وهو قسم من التذييل ، قال التفتازاني : التذييل ضربان ،
ضرب لم يخرج مخرج المثل ولم يستقل باعادة المراد. بل توقف على ما قبله ، نحو ذلك (جَزَيْناهُمْ وَهَلْ نُجازِي إِلَّا
الْكَفُورَ) على وجه وهو أن يكون المعنى وهل نجازي ذلك الجزاء
المخصوص؟ فيكون متعلقا بما قبله ، واحتز به عن الوجه الاخر ، وهو أن يقال : الجزاء
عام لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الاثابة ، فلما
استعمل في معنى المعاقبة في قوله : (جَزَيْناهُمْ بِما
كَفَرُوا) بمعنى عاقبناهم بكفرهم ،
قيل : (وَهَلْ نُجازِي
إِلَّا الْكَفُورَ؟) بمعنى وهل نعاقب؟ فعلى هذا يكون من الضرب الثاني ،
لاستقلاله بافادة المراد.
وضرب اخرج مخرج
المثل ، بان تكون الجملة الثانية حكما كليا ، منفصلا عما قبلها ، جاريا مجرى
الامثال ، في الاستقلال وفشو الاستعمال ، نحو قوله تعالى : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) وقوله : «وَقُضِيَ الْأَمْرُ»
من هذا القبيل فتامل
جيدا.
وقد اجتمع
الضربان في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ،
فقوله : أفان
مت فهم الخالدون ، تذييل من الضرب الاول.
وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) من الضرب الثاني ، فكل منهما تذييل على ما قبله.
وهو أيضا اما
أن يكون لتأكيد منطوق كهذه الاية ، فان زهوق الباطل منطوق في قوله : (وَزَهَقَ الْباطِلُ) وأما لتأكيد مفهوم كقول النابغة الذبياني :
ولست بمستبق
اخا لا تلمه
|
|
على شعث أي
الرجال المهذب
|
فصدر البيت دلّ
بمفهومه ، على نفي الكامل من الرجال ، وعجزه تاكيد لذلك وتقرير ، لأن الاستفهام
فيه للانكار ، أي لا مهذب في الرجال ، انتهى باختصار.
والثامن :
التعليل (أي ذكر علة الاستواء) ، فان غيض الماء علة الاستواء ، (فالاية يحتمل ان
يكون من قبيل برهان اللم ، ويحتمل قويا أن تكون من قبيل برهان الان ، فتأمل).
قال الغزالى.
في ميعار العلم : اعلم ان الحد الاوسط ، إن كان علة للحد الأكبر ، سماء الفقهاء
قياس العلة ، وسماء المنطقيون برهان اللم ، أي ذكر ما يجاب به عن لم؟ وإن لم يكن
علة سماه الفقهاء قياس الدلالة ، والمنطقيون سموه برهان الان ، أي هو دليل على ان
الحد الأكبر موجود للاصغر من غير بيان علته.
ومثال قياس
العلة من المحسوسات ، قولك : هذه الخشبة محترقة لانها اصابتها النار ، وهذا
الانسان شبعان لانه أكل الان.
وقياس الدلالة
عكسه ، وهو ان يستدل بالنتيجة على المنتج ، فنقول هذا شبعان فاذا هو قريب العهد
بالاكل ، وهذه المرأة ذات لبن فهي قريبة العهد بالولادة.
ومثاله من
الفقه قولك : هذه عين نجسة فاذا لا تصح الصلوات معها.
وقياس الدلالة
عكسه ، وهو أن نقول : هذه عين لا تصح الصلوة معها ، فاذن هي نجسة ، انتهى.
والتاسع : صحة
التقسيم ، فانه استوعب فيه اقسام الماء حالة نقصه ، إذ ليس الا احتباس ماء السماء
، والماء التابع من الارض ، وغيض الماء الذي علي ظهرها ، ويأتي المراد من التقسيم
في المحسنات البديعية المعنوية.
ونقول هنا :
التقسيم في اللغة التجزية والتفريق ، وفي الاصطلاح يطلق على معان ثلاثة :
أحدها : ان
يذكر متعدد ، وبعبارة اخرى ان يذكر قسمة ذات جزئين او اكثر ، ثم أضيف ما لكل واحد
من الاقسام اليه على التعيين ،
وبهذا القيد يتميز عن اللف والنشر اذ لا تعيين فيه.
قال التفتازاني
: قد أهمل السكاكي هذا القيد ، فيكون التقسيم عنده اعم من اللف والنشر ، مثاله في
النثر قوله عليهالسلام : «وكل نفس معها سائق وشهيد سائق يسوقها الى محشرها
وشاهد يشهد عليها بعملها».
ومن النظم قول
المتلمس :
ولا يقيم على
ضيم يراد به
|
|
إلا الاذلان
عير الحي والوتد
|
هذا على
الخسف مربوط برمته
|
|
وذا يشج فلا
يرثي له احد
|
ذكر العير
والوتد ، ثم أضاف الى الاول الربط مع الخسف ، والى الثاني الشج.
وثانيها : أن
تذكر احوال الشيء ، مضافا الى كل من تلك الاحوال ما يليق به كقول علي عليهالسلام : «المرأ المسلم ينتظر من الله احدى الحسنيين ، اما
داعي الله فما عند الله خير له. واما رزق الله فاذا هو اهل ومال ومعه دينه وحسبه».
وقوله عليهالسلام : «أو لستم ترون اهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال
شتى ، فميت يبكي ، وآخر يعزي ، وصريع مبتلى ، وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود ،
وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه».
ومن النظم قوله
:
سأطلب حقي
بالقنا ومشايخ
|
|
كانهم من طول
ما التثموا مرد
|
ثقال اذا
لاقوا خفاف اذا دعوا
|
|
كثير اذ
اشدوا قليل اذا عدوا
|
وثالثها :
استيفاء اقسام الشيء ، وبعبارة اخرى ان يتقصى تفصيل
ما ابتدأ به ، ويستوفي جميع الاقسام التي يقتضيها ذلك المعنى ، فمثاله نثرا
من الكتاب العزيز قوله سبحانه : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً
وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً)
وقوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الاية.
ومن كلام امير
المؤمنين عليهالسلام قوله : «شغل من الجنة والنار امامه ساع سريع نجا وطالب
بطيء رجا ومقصر في النار هوى».
والاية من ثالث
الاقسام ، ولاحتمال كونها من ثانيها وجه قوي ، باعتبار اضافة الغيض الى الماء ،
فتدبر جيدا.
ولا بد هنا من
ذكر دقيقة بل دقائق ، ذكرها الموصلي في المثل السائر وهذا لفظه ، واعلم انه اذا
كان مطلع الكلام في معنى من المعانى ، ثم يجىء بعده ذكر شيئين ، أحدهما افضل من
الاخر ، وكان المعنى المفصول مناسبا لمطلع الكلام ، فانت بالخيار في تقديم ايهما
شئت. لانك ان قدمت الافضل فهو في موضعه من التقديم ، وان قدمت المفضول فلان مطلع
الكلام يناسبه ، وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضا وارد في موضعه ، فمن ذلك قوله تعالى
: (وَإِنَّا إِذا
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
فانه انما قدم
الاناث على الذكور ، مع تقدمهم عليهن ، لانه ذكر البلاء في آخر الاية الاولى ،
وكفران الانسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده.
ثم عقب ذلك
بذكر ملكه ومشيئته ، وذكر قسمة الاولاد فقدم الاناث ، لأن سياق الكلام انه فاعل ما
يشاء لا ما يشاؤه الانسان ، فكان ذكر الاناث اللاتي هن من جملة ما لا يشاؤه
الانسان غالبا ، لا سيما العرب الجاهلية ، لانهم (إِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ
سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ). (وَإِذَا
الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).
ولا يختاره أهم
، والاهم واجب التقديم ، وليلى الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ذكر البلاء ، ولما
اخر ذكر
الذكور وهم
احقاء بالتقديم تدارك ذلك بتعريفه اياهم ، لان التعريف تنويه بالذكر ، كأنه قال :
ويهب لمن يشاء الفرسان الاعلام المذكورين ، الذين لا يخفون عليكم.
ثم اعطى بعد
ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، وعرف ان تقديم الاناث لم يكن لتقدمهن
ولكن لمقتض آخر ، فقال : ذكرانا واناثا وهذه دقائق. لطيفة ، قل من يتنبه لها او
يعثر على رموزها
والعاشر :
الاحتراس في الدعاء ، لئلا يتوهم ان الغرق لعمومه ، شمل من لا يستحق الهلاك ، فان
علمه تعالى يمنع من أن يدعوا على غير مستحق.
قال في الباب
الثامن : واما بالتكميل ويسمى الاحتراس أيضا ، لان الاحتراس هو التوقي ، والاحتراز
عن الشيء وفيه ، توق عن ايهام
خلاف المقصود ، وهو أن يوتي في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه ، أي يؤتي
بشىء يدفع ذلك الايهام ، وذكر له مثالين لان ما يدفع الايهام ، قد يكون في وسط
الكلام ، وقد يكون في آخره.
فالاول ، كقوله
:
فسقى ديارك
غير مفسدها
|
|
صوب الربيع
وديمة تهمى
|
أي تسيل لأن
نزول المطر ، قد يكون سببا لخراب الديار وفسادها ، فدفع ذلك بتوسط قوله غير
مفسدها.
والثاني ، نحو
قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي
اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).
فإنه لو اقتصر
على وصفهم بالذلة على المؤمنين ، لتوهم ان ذلك لضعفهم ، فاتى على سبيل التكميل ،
بقوله : اعزة على الكافرين ، دفعا لهذا التوهم ، واشعارا بان ذلك تواضع منهم
للمؤمنين ، ولهذا عدي الذل بعلى ، لتضمنه معنى العطف ، كأنه قيل : عاطفين عليهم
على وجه التذلل والتواضع.
ويجوز ان يكون
التعدية بصلى ، للدلالة على انهم مع شرفهم ، وعلو طبقتهم ، وفضلهم على المؤمنين ،
خافضون لهم اجنحتهم ، انتهى بأدنى اختصار.
والحادي عشر :
حسن النسق ، وهو يطلق على معنيين.
أحدهما : ما
يسمى بتنسيق الصفات ، وهو ان يذكر للشيء صفات متتالية كقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ
الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) الاية.
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام في وصف الدنيا : «غرارة ضرارة ، حائلة زائلة ، نافذة
بائدة ، أكالة غوالة» وقوله عليهالسلام في الاستسقاء : «اللهم سقيا منك محيية ، مروية تامة ،
عامة طيبة ، مباركة هنية ، مريعة مريئة ، زاكيا نبتها ، ثامرا فرعها. ناضرا ورقها».
ومثاله في
النظم قوله :
دان بعيد محب
مبغض بهج
|
|
أعز حلو ممر
لين شرس
|
وثانيهما : ان
يؤتي بكلمات متتاليات ، معطوفات متلاحمات ، تلاحما سليما مستحسنا ، بحيث اذا افردت
كل جملة منه قامت بنفسها ، واستقل معناها بلفظها ، مثل قوله تعالى ، الذي نحن بصدد
تعداد محسناتها.
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال
التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ،
الى آخر هذه الفقرة».
ومن النظم قول
أبي الطيب :
سرى النوم
عني في سراي الى الذي
|
|
صنائعه تسري
الى كل نائم
|
الى مطلق
الاسرى ومخترم العدى
|
|
ومشكي ذوي
الشكوى ورغم المراغم
|
قال بعض
المحققين : في مقام بيان حسن النسق في قوله : يا أرض ابلعي الى اخره ، أن جملها
معطوفة بعضها على بعض ، بواو النسق على الترتيب الذي يقتضيه البلاغة ، من الابتداء
بالاهم الذي هو انحيار
الماء عن الارض ، المتوقف عليه غاية مطلوب اهل السفينة من سجنها ، ثم
انقطاع ماء السماء المتوقف عليه تمام ذلك ، ثم الاخبار بذهاب الماء بعد انقطاع
المادتين ، ثم بقضاء الامر الذي هو هلاك من قدر هلاكه ، ونجاة من قدر نجاته ، ثم
بالاستواء الذي يفيد ذهاب الخوف ، ثم بالختم على الدعاء على الظالمين ، لافادة ان
الغرق وان عم الارض ، فلم يشمل الا من استحق العذاب بظلمة ، انتهى.
والثاني عشر :
ائتلاف اللفظ مع المعنى ، وهو ان يكون الفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد ، في
الفخامة والجزالة والغرابة وعدمها وغير ذلك ، كما في قوله تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ
حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) ، حيث اتى فيه باغرب ادوات القسم ، واغرب الافعال
الناقصة ، واغرب الفاظ الهلاك.
والثالث عشر :
الايجاز ، فانه تعالى قص القصة مستوعبة باخصر عبارة ، قال بعض المحققين : انه
عبارة عن بيان المعنى ، باقل ما يمكن ، وسبب حسنه انه يدل على التمكن التام في
الفصاحة. وهو على ضربين :
احدهما : ايجاز
القصر ، وهو تقليل اللفظ وتكثير المعنى ، كقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) من ثلاث كلمات اشتملت على شرائط الرسالة ، وقوله تعالى
: (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) جمع فيه مكارم الاخلاق. قال الصادق عليهالسلام «إنّ الله امر نبيه صلىاللهعليهوآله في هذه الاية بمكارم الاخلاق ، وليس في القرآن آية اجمع
لمكارم الاخلاق منها.
وقوله سبحانه (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ
وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ). فقد قال امير المؤمنين عليهالسلام جعل الزهد كله بين كلمتين من القرآن ، قال سبحانه : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) الخ ، ومن لم ياس على الماضي ولم يفرح بالاتي فقد اخذ
الزهد بطرفيه.
الثاني : ايجاز
الحذف ، وله فوائد منها : مجرد الاختصار ، والاحتراز عن العبث ، لظهور المحذوف.
كقوله عليهالسلام «مسكين ابن ادم مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل» حذف المسند اليه
لظهوره.
ومنها التنبيه
: على ان الزمان متقاصر عن الاتيان بالمحذوف ، وان الاشتغال بذكره يفضي الى تفويت
الأهم ، وهذه هي فائدة باب التحذير والاغراء ، وهو كثير في كلام امير المؤمنين عليهالسلام فمن التحذير قوله عليهالسلام «فاياكم والتلون في دين الله».
ومن الاغراء
قوله عليهالسلام : «العمل العمل ، ثم النهاية النهاية او الاستقامة
الاستقامة ، ثم الصبر الصبر ، والورع الورع».
قال في منهاج
البلغاء : انما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه ، او يقصد تعداد اشياء ، فيكون في
تعدادها طول وسامة ، فيحذف ويكتفى بدلالة الحال ، ويترك النفس تجول في الاشياء
المكتفى بالحال عن ذكرها ، انتهى باختصار. وفي الحذف فوائد واغراض اخرى تأتي في
بابه انشاء الله تعالى.
الرابع عشر :
التسهيم ، (والمراد به ما يشبه براعة الاستهلال ، والبراعة مصدر برع الرجل اذا فاق
اقرانه واترابه ، والاستهلال مصدر
استهل الصبي اذا صاح عند الولادة ، ثم استعير لاول كل شيء.
فبراعة
الاستهلال بحسب المعنى اللغوي التفوق الاول.
وفي الاصطلاح ،
كون الديباجة مناسبة للمقصود ، كما ياتي عند قول المصنف ، وعلم من البيان ما لم
نعلم ، وانما قلنا ان التسهيم يشبه البراعة ، لأن اول الاية التي نحن فيها يدل على
آخرها.
الخامس عشر :
التهذيب ، فإن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن ، كل لفظة منها سهلة مخارج الحروف ،
عليها رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة وعقادة التركيب.
والسادس عشر :
حسن البيان ، من جهة ان السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ، ولا يشكل عليه شيء
منه.
السابع عشر :
التمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها غير قلقة.
الثامن عشر :
الانسجام وهو أن يكون الكلام لخلوه من التعقيد منحدرا كانحدار الماء المنسجم بحيث
يقرب الكلام المنثور الى المنظوم الموزون.
التاسع عشر :
الاعتراض وهو كما يأتي في باب الايجاز والاطناب ان يؤتى في اثناء كلام أو بين
كلامين متصلين معنى بجملة او اكثر لا محل لها من الاعراب لكنة سوى رفع الايهام كما
في الاية الشريفة.
فان قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي) إلى قوله : (وَقِيلَ بُعْداً) فيه اعتراض بثلاث جمل ونكتته افادة هذا الامر بين
القولين بل قيل : فيه
اعتراض في اعتراض ، فان قضي الامر معترض بين غيض واستوت ، لان الاستواء
يحصل عقيب الغيض.
تمام العشرين :
الجناس الناقص اللاحق في (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي).
والجناس الناقص
، هو ان يتفق اللفظان في الحروف والترتيب والهيئة ، ويختلفان في اعداد الحروف ،
بان يكون حرف احدهما اكثر عددا من الاخر ، بحيث لو حذف الزائد ارتفع الاختلاف ،
وتلك الزيادة إما في الاول أو في الوسط أو الاخر.
وعلى الاول
فاما ان تكون في اول اللفظ الاول كقوله عليهالسلام : «كيف اصبحت بيوتهم قبورا وديارهم بورا».
ومن النظم قول
الرشيد الوطواط :
يا خلي البال
قد بلبلت بالبلبال بال
|
|
بالنوى
زلزلتني والعقل في الزلزال زال
|
يا رشيق القد
قد قوست قدي فاستقم
|
|
في الهوى
فافرغ وقلبي شاغل الاشغال غال
|
يا اسيل الخد
خد الدمع خدي في النوى
|
|
عبرتي ودق وعينى
منك يا ذالخال خال
|
أوفي اول اللفظ
الثاني ، مثل قوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ).
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «وايم الله لتحتلبنها دما ولتتبعنها ندما».
ومن النظم قول
جابر الاندلسي :
صار قلبي وصد
عني صدودا
|
|
وانثنى يسحب
الذوائب سودا
|
فرايت الصباح
في الليل يبدو
|
|
وشهدت الرشا
يصيد الاسودا
|
وعلى الثاني :
فالزيادة ايضا إما في وسط اللفظ الاول ، كقوله عليهالسلام «الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود ، ولا يكديه الاعطاء والجود»
وقوله عليهالسلام في حكمه : «ان كلام الحكماء اذا كان صوابا كان دواء ،
واذا كان خطأ كان داء».
واما في وسط
اللفظ الثاني ، كقوله عليهالسلام. «فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس اذ أحبط عمله
الطويل ، وجهده الجهيد».
وعلى الثالث :
فيخص باسم المذيل ، لكون الزيادة الموجودة في الاخر بمنزلة الذيل له ، ومثاله من
النثر قولهم : «فلان سالم من احزانه ، سالم من زمانه ، حام لعرضه ، حامل لفرضه».
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «ومداد رحاها تبدو في مدارج خفية» ومن النظم قوله :
فيا يومها كم
من مناف منافق
|
|
ويا ليلها كم
من مواف موافق
|
وقد تكون
الزيادة في آخر المذيل بحرفين ، ويخصه بعضهم باسم المرفل كقوله :
فيا لك من
عزم وحزم طواهما
|
|
جديد الردى
بين الصفا والصفايح
|
ومنها : ان
يتفق اللفظان في اعداد الحروف وترتيبها وهيئتها ، ويختلفان في انواعها بان يكون
احد حروف احدهما مغايرا لاحد حروف الاخر ، ثم الحرفان المختلفان ان كانا متقاربين
في المخرج او كلاهما من مخرج واحد ، سمي الجناس المضارع وإلا فيسمى
باللاحق.
اما المضارع
فعلى ثلاثة اقسام ، لان الحرفين المختلفين اما في اول المتجانسين ، كقوله عليهالسلام : «في قرار خبرة ، ودار عبرة».
فان الخاء
والعين كليهما من حروف الحلق ، والاولى من وسط الحلق ، والثانية من ادناه الى الفم
، وقوله عليهالسلام : «وحرصا في علم ، وعلما في حلم». فإن العين والحاء
مخرجهما وسط الحلق.
واما في وسطهما
كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) وقوله عليهالسلام : «عباد مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا» ، فان
الدال والسين كليهما من طرف اللسان ، الا ان الاولى بينه وبين فويق الثنايا ،
والثانية بينه وبين اطراف الثنايا.
وقوله عليهالسلام : «اللهم سقيا منك محيية مروية ، تامة عامة ، طيبة
مباركة ، هنيئة مريئة مريعة».
فإن الهمزة
والعين في الاخيرين ، كليهما من حروف الحلق.
ومن النظم قوله
:
وما خلقت
عيون العين اما
|
|
نظرن سوى
بلايا للبرايا
|
قال قطرب :
اللام والراء من مخرج واحد.
واما في آخرهما
كقوله عليهالسلام : «ولا يغلبنكم فيها الامل ، ولا يطولن عليكم الامد» ، فان
اللام والدال متقاربا المخرج.
وقوله عليهالسلام : «الخير منه مأمول والشر منه مأمون».
ومن النظم قوله
عليهالسلام :
ساكسوك من
مكنون نظمي وشايعا
|
|
تناط بجيد
الدهر منها وشايح
|
واما الجناس
اللاحق ، فهو ايضا على ثلاثة اقسام مثل السابق :
احدها : ان
تكون الحرفان المختلفان في اول اللفظين ، (نحو (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي)) وكقوله عليهالسلام : «فعاودوا الكر واستحيوا من الفرّ فانه عار في الاعقاب
ونار يوم الحساب».
ومن النظم قول
الشيخ صفي الدين الحلي :
ليت والدمع
هام هامل سرب
|
|
والجسم من
اضم لحم على وضم
|
والثاني : ان
تكونا في وسطهما كقوله عليهالسلام : «فظل سادرا وبات ساهرا» وقوله عليهالسلام : «وهو دين الله الذي اظهره وجنده الذي اعده وامده».
ومن النظم قول
البديع الهمداني :
يا غلام
الكاس فاليا
|
|
س من الناس
مريح
|
وقول الصفي
الحلي :
بيض دعاهن
الغبي كواعبا
|
|
ولو استبان
الرشد قال كواكبا
|
والثالث : ان
تكونا في آخرهما كقوله عليهالسلام في حكمه : «وليس للعاقل ان يكون شاخصا ، الا في ثلاث :
مرمّة لمعاش ، او خطوة في معاد ، او لذة في غير محرم».
ومن النظم قوله
:
يكفي الانام
بسيبه وبسيفه
|
|
عند المكارم
والمكاره دائما
|
هذا ومن الناس
من يسمي هذا النوع من الجناس ، أعني ما اختلف بالحرف ، جناس التصريف ، سواء كان من
المخرج او غيره ، (ك (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي).
ثم اللفظان
المتجانسان ـ بأي انواع التجنيس كان ـ ان يكونا في اواخر الاسجاع او الفواصل ،
منضما احدهما الى الاخر ، مثل قولهم : «من قرع بابا ولج ولج ، ومن طلب شيئا وجدّ
وجد».
ونحو ذلك مما
تقدم ذكره في تضاعيف امثلة الانواع السابقة ، يسمى هذا النوع من الجناس ، (مرددا)
أو (مزدوجا ومكررا) ومن احسن امثلته في النظم قول البستي :
ابا العباس
لا تحسب باني
|
|
لشيبى من حلى
الاشعار عار
|
فلى طبع
كسلسال معين
|
|
زلال من درى
الاحجار جار
|
اذا ما اكبت
الادوار زندا
|
|
فلى زند على
الادوار وار
|
ومنها الجناس
المقلوب : ويسمى (جناس القلب) وهو ان يتفق اللفظان في الحروف ، وانواعها ،
وهيئاتها ويختلفان في الترتيب.
وهو ضربان :
أحدهما : (قلب
الكل) وهو ان يكون الحرف الآخر من اللفظة الاولى اولا من الثانية ، والذي قبله
ثانيا ، وهكذا كقوله :
مودته تدوم
لكل هول
|
|
وهل كل مودته
تدوم
|
وفي التنزيل (كُلٌّ فِي فَلَكٍ ـ ورَبَّكَ
فَكَبِّرْ) والحرف المشدد هنا في حكم المخفف ، لان المعتبر هنا الكناية.
ولم اجد له
مثالا في كلام امير المؤمنين عليهالسلام. نعم ، لا يبعد ان يجعل منه قوله عليهالسلام : «حتى يعرف الحق من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان ،
من لهج به» ، فان الجهل واللهج مقلوبان ، الا
ان في جهله ضمير لو كان مانعا.
ومن النظم قوله
:
حسامك فيه
للاحباب فتح
|
|
ورمحك منه
للاعداء حتف
|
وثانيها : (قلب
البعض) وهو كثير في كلام امير المؤمنين مثل قوله عليهالسلام ـ في كتاب كتبه الى سلمان الفارسي ـ : «اما بعد فانما
مثل الدنيا مثل الحية ، لين مسها قاتل سمها»
وقوله عليهالسلام ـ في حكمه ـ : «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل» ومن
النظم قول ابي تمام.
بيض الصفائح
لاسود الصحائف في
|
|
متونهن جلاء
الشك والريب
|
وقول ابي حيوس
:
تلفي بها
الروّاد روضا زاهرا
|
|
وتصادف
الورّاد حوضا مفعما
|
هذا وبعضهم عرف
الجناس المقلوب ، بانه ما تساوت حروف ركنيه عددا ، وتخالف ترتيبا ، فيعم المتساوي
هيئة كما قدمناه في الامثلة.
والمتخالف فيها
ايضا كقوله : «ولا يحمل هذا العلم الا اهل البصيرة والصبر».
وقوله عليهالسلام : «يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل».
وعلى التعميم
فيكون قوله عليهالسلام : «العلم مقرون» الخ مثالا لكلا القسمين.
ومن امثلته على
التعميم في النظم قوله :
حكاني بهار
الروض لما الفته
|
|
وكل مشوق
للبهار مصاحب
|
فقلت له ما
بال لونك شاحبا
|
|
فقال لاني
حين اقلب راهب
|
وقوله :
رقت شمائل
قانلي فلذاك روحي لا تقر
|
|
رد الحبيب
جوابه فكأنه في اللحظ در
|
ومنها : (الجناس
المصحف) ويقال له : (جناس الخط) ايضا ، وهو ان تأتي بكلمتين متشابهتين خطا لا لفظا
، كقوله تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
وقول امير
المؤمنين عليهالسلام : «فانها كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها
نفوس آخرين».
وقوله عليهالسلام :
«وكان قد عبد
الله سنة آلاف سنة».
وقوله ايضا : «فاجعلوا
عليه حدكم وله جدكم».
وقوله ـ فيما
كتب الى معاوية ـ :
«غرك عزك فصار
قصار ذلك ذلّك ، فاخش فاحش فعلك ، فعلك تهدى بهذا».
ومن النظم قول
ابي الطيب :
جرى الخلف
الا فيك انك واحد
|
|
وانك ليث
والملوك ذئاب
|
وانك ان
قويست صحف قارىء
|
|
ذئابا فلم
يخطىء وقال ذباب
|
هذا وعرف بعضهم
جناس الخط : بانه توافق اللفظين في الكتابة ، وبعضهم : بانه ما تماثل ركناه في
الحروف وتخالفا في النقط ، وعلى ذلك فيكون اعم لشمولها المتجانسين بالخط واللفظ
معا ايضا.
كقوله (ع) : «صحة
الجسد من قلة الحسد».
ونظير ذلك قوله
ع : «يونق منظرها ، ويوبق مخبرها» انتهى.
قال بعض
المحققين : ربما يورد من جنح الى مشرب النصارى من المنتحلين للاسلام ، بان ما عليه
اهل الاسلام من فصحاء العرب ، عجزوا عن معارضة القرآن ، واقروا بفصاحته وبلاغته ،
ممنوع : فلعلهم قد عارضوا بما لم يصل الينا ، وذهب من البين بعد ظهور شوكة الاسلام
، وهذا الايراد انما نشأ من قلة الفهم وغلبة ظلمة الوهم :
وجوابه : اما
بالنسبة الى الاحتمال الاول : فهو انه لو كان كذلك لما اخفي : سيما مع توفر
الدواعي ، واجتماع الهمم على نقل الامور العجيبة ، والشؤون الغريبة ، سيما في مثل
هذا الشان ، والامر الذي كان منتهى امالهم ، ومؤخر آجالهم.
حيث انه لو
تحقق. لم يحتاجوا الى ما ارتكبوه من المحاربة والخصام بالسيوف والسهام ، فكيف لم
يظهر هذا الامر مع توفر الدواعي بهذه المرتبة ، وهل يكون هذا الامر اقل من ضبط
القصائد والخطب الفصيحة؟
والقصص
والامثال المليحة؟ ولقد لفق مسيلمة الكذاب جملة من المزخرفات والترهات ، قد بقيت
حكايتها الى الان.
واما بالنسبة
الى الاحتمال الثاني : فهو انه لو سلم ذهابه من بين المسلمين ، فلا شبهة في توفر
الدواعي على ابقائه من الكفار من اهل الكتاب وغيرهم ، مع انهم اضعاف اهل الاسلام
بفرقه المتكثرة ، سيما اليهود الذين هم اشد الناس عداوة للذين آمنوا ، ولم يدع احد
من الكفار ذلك ، حتى من تصدى من علماء النصارى لرد الاسلام ، مع اهتمامهم في اظهار
كل ما ينطفي به نور الاسلام باعتقادهم.
فنحن معاشر المسلمين
، اذا كنا لا نضايق من ان نضبط امورا فيها كسر سورة نبي مثل موسى (ع) بحسب الانظار
القاصرة ، مع انا معترفون بنبوته ، مثل نقل اخراج السامري لبني اسرائيل عجلا جسدا
له خوار الذي هو خرق للعادة في الظاهر. فكيف يضايقون فيه مع انهم منكرون لنبوة
نبينا (ص)؟ ومن البيان المذكور ينحل شبهات كثيرة تورد على اهل الأسلام : مثل
التشكيك في امر شق القمر وانكاره لعدم ضبط مؤرخي الكفار له.
وقال ايضا :
ربما طعن بعض السفهاء الذين كانوا يخوضون في آيات الله تعالى في الكتاب الكريم
بوجوه.
احدها : انه
خال عن الفصاحة والبلاغة ، اذ لا نظم ولا ترتيب له ولانه مشتمل على التكرارات
الكثيرة. ومحتو على الكلمات التي لا فائدة فيها الا التقفية.
وثانيها : انه
مشتمل على كثير من المطالب البديهية. والقصص الواضحة التي لا فائدة في ايرادها
لاشتهارها.
وثالثها : انه
مشتمل على امور لا معنى ولا محصل لها ـ مثل قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ). وقوله تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) الآية.
رابعها : انه
مشتمل على الاختلافات المؤدية الى التناقض. منها : انه تعالى قال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا
أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وقال : (وَلا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثاً) فقد كتموا.
ومنها : انه
تعالى قال : (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)
ومنها : انه
تعالى قال : (أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) حتى بلغ الى قوله (طائِعِينَ). ثم قال في آية اخرى : (أَمِ السَّماءُ
بَناها). ثم قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها). ومنها انه تعالى قال : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ) ثم قال : (خاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ).
منها انه عزوجل قال : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) وقال تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فان الوجل خلاف الطمأنينة.
ومنها : انه
تعالى قال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) وهو يدل على حصر المانع من الايمان في هذين الامرين.
ثم قال في آية
اخرى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً
رَسُولاً). وهو يدل على حصر آخر في غيرهما.
ومنها : انه
قال : (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)
*
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) وقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ
مَساجِدَ اللهِ) الى غير ذلك من الآيات. فان المراد من الاستفهام هنا
النفي لانه انكاري. والمعنى لا احد اظلم.
فيكون خبرا ،
واذا كان خبرا واخذت الآيات على ظواهرها ، ادى الى التناقض الصريح. لنفي كل واحدة
كون غير من ذكر فيها أظلم.
ومنها : قوله
تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ) مع قوله : (وَهذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ) فانهما بظاهرهما يتناقضان ، اذ الاول دال على نفي القسم
، والثاني على اثباته.
ومنها : قوله :
«تعالى اللهُ
خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» * مع قوله : «وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً» «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ» وامثالهما ، اذ مفادها نفي حلقه تعالى لتلك الأشياء ،
فمفادها السالبة الجزئية ، فتتناقض مع الاولى ، لأن السالبة الجزئية تناقض الموجبة
الكلية.
ومنها : قوله
تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الخ ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الخ ، فان الأول دل على عدم نفاد كلمات الله ، والثاني
دل على نفادها بعد نفاد البحر.
ومنها : قوله
تعالى :
«فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ»
، * مع قوله تعالى
: «تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ» فان الثعبان الكبير من الحيات ، والجان الصغير منها ،
والحكم على شيء واحد أنه كبير وصغير مستلزم للتناقض.
ومنها : قوله
تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ
مَسْؤُلُونَ) ، وقوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) مع قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ).
ومنها : قوله
تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ) مع قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ).
ومنها : قوله
تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) مع قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا وَلَوْ حَرَصْتُمْ) حيث ان الأول يفيد امكان العدل والثاني ينفيه.
ومنها : قوله
تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) مع قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها
فَفَسَقُوا فِيها).
وخامسها : انه
مشتمل على الاختلافات الغير المؤدية الى التناقض
فانه تعالى كثيرا ما قص القصة الواحدة فيه بعبارات يكون مفاد بعضها غير
مفاد البعض الآخر ، كقوله تعالى في آدم (ع) مرة من (تُرابٍ) واخرى من (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وثالثة من (صَلْصالٍ
كَالْفَخَّارِ) وفي كيفية سجود الملائكة لآدم (ع) ومخالفة ابليس ، :
«فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ»
، «إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ»
، «إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ»
الى غير ذلك من العبارات ،
وكذا في حكاية موسى (ع) مع فرعون. الى غير ذلك من وجوه الطعن التي نكتفي عنها بذكر
ما نقلناه ، حيث انه عمدتها واقواها.
اقول : ولا حول
ولا قوة الا بالله العلي العظيم : لنا عن هذه الوجوه جواب اجمالي ، وجواب تفصيلي :
اما الاول :
فهو ان القرآن المجيد ، والفرقان الحميد ، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، لا تنقضي عجائبه ،
ولا تنفد غرائبه ولا تخلقه كثرة الرد ، وولوج السمع ، ولا يذله الطعن والقدح ، ولا
يعزّه النعت والمدح ، لا تدرك حقائقه ، ولا تفهم دقائقه ، بحر متلاطم تياره متراكم
زخاره ، لا يعرف قدره الا من يفهم أسراره ، ولا يقدر على وصفه الا من اشرق في قلبه
لمعة من انواره ، فبعد تحقق ذلك عند العالم الخبير ، والناقد البصير ، فكل من طعن
فيه يكشف عن عدم استقامة ذوقه وفهمه ، وقلة كماله وعلمه ، او عن شيء آخر هو اعلم
به ، وذلك لأن اسباب عدم الوصول الى الحق كما قال بعض اهل التحقيق أحد امور اربعة
: الاول : نقصان الاستعداد ، الثاني حيلولة اعتقاد وراثي بينه وبينه ، الثالث :
عدم معرفة الدليل المناسب
للمطلوب ، الرابع : عدم تمامية ما عنده من الدليل بزعمه.
فالأنسب
والأليق ، والأولى الأوفق ، ان لا يعتنى بمقاله ، ولا يلتفت الى حاله.
واما الثاني :
فنقول فيه : اما الجواب عن الأول فبالنسبة الى الدعوى الاولى مما هو ظاهر لا يحتاج
الى البيان ، سيما ملاحظة ما قدمناه ، اذ لا ينكر فصاحة القرآن وبلاغته الا من لا
يعرف معناهما ، كيف وهو كلام شريف لو وجد آية منه في كتاب كبير عربي فصيح حسن
الاسلوب ، كانت كالشمس بين النجوم ، ولذا لم يقدم المنكرون له على معارضته ، بل
عدلوا الى العناد والمحاربة تارة ، والى الاستهزاء اخرى.
فمرة قالوا :
سحر ، واخرى قالوا : شعر ، وثالثة قالوا : أساطير الأولين ، كل ذلك من التحير
والانقطاع.
ولعمري انهم لم
يتمكنوا من الاتيان بآية من مثله ، كيف ومنزله هو الله تعالى الذي احاط بكل شيء
علما! فاذا اراد ترتيب اللفظ علم باحاطته اي لفظة تصلح ان تلي الاولى ، وتبين
المعنى بعد المعنى ، فمثل هذا الكلام لا يصدر الا عن مثل العالم المحيط بحقائق
الأشياء ، لفظا ومعنى ، وقشرأ ولبا ولذا لا يشابه كلام البشر في اسلوبه ، وما احسن
ما قيل ـ كما في المثل السائر ـ : من ان مراتب تأليف الكلام خمس :
الاولى : ضم
الحروف المبسوطة بعضها الى بعض ، لتحصيل الكلمات الثلاث : الاسم ، والفعل ،
والحرف.
والثانية :
تأليف هذه الكلمات بعضها الى بعض ، لتحصيل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله
الناس جميعا في مخاطباتهم ومحاوراتهم ، ويقال
له : (المنثور) من الكلام.
والثالثة : ضم
بعض ذلك الى بعض ، ضما له مباد ، ومقاطع ، ومداخل ومخارج ، ويقال له : (المنظوم).
والرابعة : ان
يعتبر مع ذلك في أواخر الكلام تسجيع ، ويقال له : (المسجع).
والخامسة : ان
يجعل مع ذلك وزن ، ويقال له : (الشعر).
والمنظوم : اما
محاورة ، ويقال له : (الخطابة) واما مكاتبة ، ويقال له : (الرسالة).
فأنواع الكلام
لا تخرج عن هذه الأقسام ، ولكل من ذلك نظم مخصوص ، والقرآن جامع لمحاسن الجميع ،
وليس على نظم شيء منها ويرشد الى ذلك : انه لا يصح ان يقال له : (رسالة ، او خطابة
، او شعر ، او سجع) فليس تأليفه على هيئة يتعاطاها البشر ، بحيث يمكن ان يغير
بالزيادة والنقصان كالكتب الاخر ، بل ربما ترى البليغ ينشىء قصيدة او خطبة ، ثم
ينظر فيها فيغير فيها ، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة وادير لسان العرب على لفظة
احسن منها لم يوجد.
وكذا ما قيل :
من ان اجناس الكلام مختلفة متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح
القريب السهل ، ومنها الجائز لمطلق الرسل وهذه اقسام الكلام الفاضل المحمود ،
واعلاها الأول ، وبلاغات القرآن حازت من كل منها حصة ، واخذت من كل نوع شعبة ،
وبالجملة فهذا الأمر أوضح من ان يطال فيه الكلام.
واما الاستدلال
على عدم الفصاحة بعدم النظم والترتيب.
ففيه اولا : ان
النظم والترتيب لا دخل له بالفصاحة اصلا.
وثانيا : ان
المطلوب ربما لا يكون مرتبا ومنظما ، وحينئذ فمقتضى الفصاحة والبلاغة عدم الترتيب
والنظم ، كما هو حال القرآن ، فانه نزل نجوما بحسب المصالح الموجودة في الأوقات
المختلفة ،
وثالثا : ان
التحقيق : ان هذا النظم والترتيب الذي عليه القرآن في زماننا هذا ، وقع من أصحاب
النبي صلىاللهعليهوآله ، وليس نزوله على هذا الترتيب كما ذهب اليه بعض العلماء
من الخاصة : كشيخنا (الطبرسي) صاحب (مجمع البيان) وجمهور العامة ، وقد صنفوا في
بيان مناسبات الآيات والسور بعضها مع بعض كتبا ووسائل ، وبينوا فيها وجوه المناسبة
، حتى فيما ظاهره الاستقلال والمغايرة : مثل انهم ذكروا ، ان عادة القرآن جرت على
انه اذا ذكر احكاما ، ذكر بعدها وعدا ووعيدا ، ليكون باعثا على العمل بما سبق ، ثم
ذكر آيات توحيد وتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي ، يصدق ذلك من التأمل في سورة (البقرة
، والنساء ، والمائدة) وربما يكون الارتباط والمناسبة بقرائن معنوية ، واسباب
باطنية.
كالتنظير في
قوله تعالى : «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِ»
عقيب قوله
: «أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» فانه تعالى امر رسوله ان يمضي» لأمره في الغنائم على
كره من أصحابه ، كما مضى لأمره في خروجه من بينه لطلب العير او للقتال وهم له
كارهون ، والمقصود ان كراهتهم لما فعله من قسمة الغنائم ككراهتهم للخروج ، وقد
تبين في الخروج الخير من الظفر والنصر والغنيمة وعز الاسلام ، فكذا ما فعله من
القسمة ، فليطيعوا ما امروا به ، ويتركوا هوى أنفسهم.
وكالتضاد ـ في
قوله تعالى في سورة البقرة ـ : «الَّذِينَ كَفَرُوا
سَواءٌ
عَلَيْهِمْ
..» الآية بعد الاية السابقة عليها ، المبينة لأوصاف المؤمنين ،
الى غير ذلك من وجوه المناسبة ، ولقد تصدوا لبيان المناسبات في تمام القرآن ، بحيث
يظهر منه كمال مهارتهم في العربية بشعبها واصنافها ، فان كان المورد يورد علينا
معاشر الامامية ، فالحق عند محققينا : ان هذا الترتيب انما صدر من الامة ، وان كان
يورد على أهل السنة ، فعليهم الجواب ، وقد اجابوا بما يسكت الخصم ، ومن اراد
الاطلاع فعليه بمراجعة الكتب المدونة لذلك ـ
واما بالنسبة
الى الدعوى الثانية : فالانصاف : ان التكرار بهذا النحو من اعلى مراتب الاعجاز ،
حيث انه ادخل في الزام الخصم الالد.
بيان ذلك : انه
اذا عبر فصيح من الفصحاء عن معنى من المعاني المقصودة بعبارة فصيحة ، واداه بكلام
بليغ ، وتحدى به الفصحاء فعجزوا عن الاتيان بمثلها ، ثم عبر عنه بعبارة ثانية
كالاولى في الفصاحة والبلاغة فعجز الخصم في المرة الثانية ـ ايضا ـ وهكذا الى ان
يحصل عبارات كثيرة دالة على معنى واحد ، كان ذلك ادل على فصاحته من ان يعبر المعاني
المتعددة بالعبارات الفصيحة ، ألا ترى انه لو عارض شاعر شاعرا آخر بشعر مليح ،
وعجز ذلك الشاعر عن التعبير بالمعنى الذي دل عليه الشعر بشعر مثله في مرتبة
الفصاحة ، ثم نظم الشاعر الاول ذلك المعنى بعينه بشعر آخر ، وعجز الثاني مرة ثانية
، فلا بد له من الاقرار بالعجز ، والاعتراف بالقصور ، سيما اذا زعم الشاعر العاجز
انحصار الكلام الفصيح في تلك الواقعة المخصوصة في الشعر الذي انشأه الأول ، وتخيل
في نفسه انه لو زاول الشعر اتم المزاولة لأدى هو ذلك الكلام الفصيح ، وفي هذه
الحال يأتي الشاعر الأول بشعر آخر كالاول
في الفصاحة ، وهكذا ... فلا ريب في ان التكرار مع مراعاة الفصاحة من مؤكدات
الاعجاز لا منافياته ، سيما اذا اشتملت العبارة الثانية على فوائد زائدة على فائدة
العبارة الاولى ، واشتمل كل منهما على فائدة لا يشتمل عليها الآخر : كما هو الحال
في القرآن المجيد على ما سنشير اليه.
فان قيل : هذا
الذي ذكرت لا يتم في بعض الآيات المكررة باللفظ والمعنى بعينها : مثل قوله تعالى :
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» في سورة الرحمن ، وقوله تعالى : «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ» في سورة المرسلات.
قلت : ما يكون
من ذلك القبيل ففيه اسرار اخر : مثل التأكيد والتقرير المناسبين في مقام رفع
الافكار الشديدة ، وهذا بعينه طريق المحاورات العرفية ، حيث يؤكدون الشيء الواحد
بتكرار لفظه او مرادفه وحينئذ يسميه النحاة (التأكيد اللفظي) ألا ترى انه لو انعمت
على عبد من عبيدك بنعم جسام تقتضي ان يطيعك بأعلى مرتبة الا طاعة ، فيؤاخذك بضد
مقصودك ، فلا يزال يعصيك وينكر نعمتك ، فاردت اثبات انعامك عليه ، فطريق المحاورة
في مقام الالزام. ان تعد النعم واحدة واحدة ، وترده فيما صنعه ، مثل ان تقول : ألم
اربك وليدا فهذا نعمة ام لا؟ ألم اطعمك بلذائذ الطعام ، فهذا نعمة ام لا؟ ألم
البسك الأثواب الفاخرة ، فهذا نعمة ام لا؟ وهكذا الى ان يسكت ويقر باستحقاقك الا
طاعة ، ولو عاقبت عبدا من عبيدك عصاك بألف معصية ، بعقوبة يلومك بها كل الناس لعدم
اطلاعهم على حقيقة الأمر ، فتقول ـ فى مقام اظهار العذر واثبات الاستحقاق ـ : ان
هذا العبد سرق
الف دينار من مالي ، فهل يستحق هذه العقوبة ام لا؟ هذا العبد قتل اعز
اولادي ، فهل يستحق هذه العقوبة ام لا؟ هذا العبد احرق بيتي ، فهل يستحق العقوبة
ام لا؟ الى غير ذلك.
والحاصل : ان
هذا ليس خارجا عن طريقة العرف ، واجنبيا عن حقيقة الفصاحة والبلاغة ، فربما يؤثر
هذا النوع من الكلام تأثيرا لا يفيده الف كلام على غير اسلوبه.
واما ما وقع
بعد آيات العذاب : (نحو شواظ من نار) ونحوه فهذا ايضا نعمة ، اذ التخويف والتهديد
ونحوهما توجب الردع عن العصيان ، وهو من افضل النعم ، كما هو واضح لمن كان من اهل
الايقان.
وان شئت ان
ينكشف عليك صدق الدعوى ، فتأمل في قسم التكرار او الترجيع من اقسام الشعر ، وهو ما
يكرر فيه المصراع الواحد.
او البيت
الواحد بعد عدة أبيات ، نحو قوله :
فيا قبر معن
انت اول حفرة
|
|
من الارض خطت
للسماحة مضجعا
|
ويا قبر معن
كيف واريت جوده
|
|
وقد كان منه
البر والبحر مترعا
|
ونحو قوله :
تالله يا
ظبيات القاع قلن لنا
|
|
ليلاي منكن
ام ليلى من البشر
|
ونحو قول ابي
الطيب :
ولم ار مثل
جيراني ومثلي
|
|
لمثلي عند
مثلهم مقام
|
ونحو قول مروان
الأصغر :
سقى الله
نجدا والسّلام على نجد
|
|
ويا حبذا نجد
على النأي والبعد
|
نظرت الى نجد
وبغداد دونها
|
|
لعلي اري
نجدا وهيهات من نجد
|
ونحو قول ابي
نؤاس :
اقمنا بها
يوما ويوما وثالثا
|
|
ويوما له يوم
الترحل ثالث
|
إلى غير ذلك من
الأشعار والخطب.
وللتكرار فوائد
مهمة ، سنذكرها عند قوله : (قيل : ومن كثرة التكرار فانك تجده مؤثرا بما لا يؤثر
به غيره).
واما بالنسبة
الى الدعوى الثالثة : فنقول : فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا. فاي لفظ جيء
لمجرد القافية؟ نعم لا ننكر وقوع القافية فيه ، وهي من البدايع والمحسنات. لكنها
لم تلاحظ بمجردها وما ذكره بعض القاصرين من المفسرين في بعض الكلمات ، وتبعه بعض
اهل الظاهر من النحويين ، من انه لمجرد رعاية القافية ، مثل كلمة (قلى) في قوله
تعالى ، (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَما قَلى) ومثل كلمة (يسر) في قوله تعالى ، (اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) حيث وقع مجزوما ، فهو ناش من عدم التأمل والدقة والنظر.
فانظر كلام
الأخفش حيث سئل عن وجه الجزم ، وقد ذكرنا كلامه في الجزء الثالث من كتابنا (المكررات)
في فصل المنادى المضاف الى ياء المتكلم ، فراجع لتطلع على ان ذلك ليس لمجرد رعاية
القافية.
واما الحذف ،
من (قلى) فقال في (المثل السائر) ، اما الايجاز بالحذف ، فانه عجيب الأمر ، شبيه
بالسحر ، وذاك انك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الافادة ازيد
للافادة ، وتجدك انطق ما تكون اذا لم تنطق ، واتم ما تكون مبينا اذا لم تبين وهذه
جملة تنكرها حتى تخبر ، وتدفعها حتى تنظر.
والأصل في
المحذوفات جميعها على اختلاف ضروبها ، ان يكون
في الكلام ما يدل على المحذوف : كالكاف في (وَدَّعَكَ) حيث يدل على المحذوف من (قَلى) فان لم يكن هناك دليل على المحذوف ، فانه لغو من الحديث
لا يجوز بوجه ولا سبب ، ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة ، انه متى اظهر صار الكلام
الى شيء غث ، لا يناسب ما كان عليه اولا من الطلاوة والحسن ، وقد يظهر المحذوف
بالاعراب كقولنا : اهلا وسهلا ، فان نصب الأهل والسهل ، يدل على ناصب محذوف ، وليس
لهذا من الحسن ما للذي لا يظهر بالاعراب ، وانما يظهر الى تمام المعنى ، كقولنا :
فلان يحل ويعقد ، وكقوله تعالى : (وَما قَلى) اي انه يحل الامور ويعقدها ، (وما قلاك) والذي يظهر
بالاعراب يقع في المفردات من المحذوفات كثيرا ، والذي لا يظهر بالاعراب يقع في
الجمل من المحذوفات كثيرا. انتهى.
واما الجواب عن
الثانية : فهو ان اشتماله على المطالب البديهية عند كل الناس ممنوع ، وعلى المطالب
البديهية عند بعض الناس مسلم ، ولا ضير فيه ، لان الغرض عموم نفعه ، ولذا جعل
مشتملا على جميع أصناف المطالب ، كما يدل عليه قوله تعالى : (لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي
كِتابٍ مُبِينٍ) مضافا الى ما ذكرنا من ان القرآن من معجزات النبي صلىاللهعليهوآله ، ولا يفهم اعجازه الا بفهم معانيه ، والناس مختلفون في
الاستعداد وادراك المعاني ، فلا بد من ان يلاحظ حال جميع الناس ، لئلا يكون للناس
على الله حجة ، وليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيّ عن بينة ، مع ان ظهور
الفصاحة من كلام علم معناه من الخارج ، أقرب الى الوقوع من ظهوره من كلام علم
معناه به نفسه.
واما القصص
المشهورة الواضحة : فقد فسر ايرادها في الوحي الالهي
بامور :
احدها : ما
عرفت من ان القرآن من المعجزات ، ولا يظهر اعجازها لبعض الموار الا بالنسبة الى
المطالب السهلة المشهورة ، سيما بالنسبة الى اهل الكتاب المطلعين على تلك المطالب
، سيما بعد ملاحظتهم ان هذا النبي امي لم يقرأ عند عالم ، ولا نظر في كتاب ، فلا
يكون علمه الا مستندا الى الوحي.
وثانيهما : بان
الغرض من نزول القرآن هداية الضالين ، وارشاد الهالكين ، ومن طرق الهداية ذكر
العبر والقصص الواقعة في الامم الماضية كما اشير اليه في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبابِ) وقوله تعالى : (مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ) وذكرها في كتب السلف لا ينفع ، لأنها مشوهة بتشويه
معانيها ، فصارت من الكلام الساقط الذى تشمئز منه النفوس الزكية.
قال سيدنا
الاستاذ ـ مد ظله ـ في (نفحات الاعجاز) الذي كتبه قبل خمس واربعين سنة من تاريخ
اشتغالنا بكتابة هذه السطور ، وهو سنة ستة وثمانين بعد الألف وثلاثمائة : ألا ترى
ان كاتب التوراة الرائجة لم تكن عنده حقيقة القصة في أكل آدم (ع) وحواء (ع) من
الشجرة التي نهاهما الله عنها ، واراد ان يصورها كشاعر خيالي ، فانه مهما تأنق في
تزويق عباراتها وتنميق محاوراتها ، جاء بها شنعاء شوهاء ، تشوهت ألفاظها بتشويه
معانيها.
فكانت من
الكلام الساقط الذي تشمئز منه النفوس ، انظر في الفصل الثالث من التكوين.
نعم ، لو ذكرت
في مثل (كليلة ودمنة) مثالا خياليا لملك خدوع
جائر ، ورعية مغفلين ، وناصح فاهم غيور ، لكان لها مقام في الخياليات وهذا
كاتب (انجيل لوقا) لما كتب من مخيلته توبة المجدلية على يد المسيح ، تحذلق في
تحسينها جهد خياله ، ولكنه جاء بها شوهاء سمجت الفاظها بسماجة معانيها. حيث اجترأ
بها على مقام المسيح ودنس بها قدس التوبة والتائب ، انظر في سابع (لوقا) عدد (٣٧)
الى (٤٩)
وهذا كاتب (انجيل
يوحنا) لما اراد ان يصور محبة المسيح لتلميذه (يوحنا بن زبدي) ذكر لذلك حالة يجل
عن شناعتها سائر المؤمنين فضلا عن رسول الله وتلميذه ، فتلوثت ألفاظها بقبح
معانيها ، انظر في ثالث عشر (يوحنا) عدد (٢٢) الى (٢٦).
ولو ذكرت هاتان
القصتان لاناس مجهولين ، في رومان يمثل غرام فلسطين ، لكان لها حظ في خياليات
الغرام ، ورقة الغزل ، وقد تركنا من نحو ذلك في العهدين امثالا كثيرة.
وقال ـ سلمه
الله ايضا ـ : والموانع من كون العهدين كتب وحي والهام ، امور كثيرة :
منها : ما
وجدناه فيها من اسناد القبايح والشرور الى الله تبارك وتعالى والى الأنبياء عليهمالسلام ، الممتنع ذلك في حقهم بحكم العقل القطعي.
فمنها : ما في
ثالث التكوين ، من خوف الله تعالى من آدم (ع) : ان يأكل من شجرة الحياة ، لأنه صار
مثل الله في معرفة الخير والشر ، عدد (٢٢).
ومنها : مصارعة
يعقوب مع الله تبارك وتعالى ، حتى انه لم يقدر على يعقوب ، فطلب منه ان يطلقه فلم
يطلقه حتى باركه ، انظر في الثاني والثلاثين من التكوين : عدد (٢٤) الى (٣١).
ومنها : ما في
العشرين من (اشعيا) من ان الله أمر نبيه (اشعيا) ان يمشي عريانا وحافيا بين الناس
ثلاث سنين ، عدد (١) الى (٥).
ومنها : ما في
الرابع من (حزقيال) من ان الله أمر نبيه (حزقيال) ان يأكل كعكا من خبز الشعير الذي
يخبزه امام عيون بني اسرائيل على الخرء الذي يخرج عن الانسان ، عدد (١٢) الى (١٥).
ومنها : ما في
اول (هوشع) من ان الله أمر نبيه (هوشع) أن يأخذ لنفسه امرأة زنا ، واولاد زنا.
ومنها : ما في
الثامن عشر من (التكوين) عدد (٨) ، والتاسع عشر عدد (٣) ، من أكل الله عزوجل من طعام (ابراهيم) و (لوط).
ومنها : ما في
تاسع (التكوين) عدد (٢١) ، فشرب (نوح) من الخمر ، فسكر وتعرى داخل خبائه.
ومنها : ما في
سابع (لوقا) عدد (٣٣). لأنه جاء (يوحنا المعمد) ان لا ياكل خبزا ، ولا يشرب خمرا ،
فتقولون به شيطان ، (٣٤) جاء ابن انسان يأكل ويشرب ، فتقولون هو ذا انسان ، اكول
وشريب خمر ، ونحوه في حاد يعشر (متى) عدد (١٩).
ومن جملة الموانع
: ما وجدناه فيها من التناقضات في النقل والحكايات :
فمنها : ما ورد
في السابع والعشرين من (متى) عدد (٤٤) في السارقين المصلوبين مع عيسى عليهالسلام ، من انهما كانا يعيرانه ، وهو مناقض لما ورد في الثالث
والعشرين من (لوقا) عدد (٣٩) الى (٤٤) ، من ان احدهما عيره وجدف عليه ، فلامه
الآخر وبرّأ المسيح ومجده.
ومنها : ما ورد
في ثالث (يوحنا) عدد (١٣) ، وليس احد صعد
الى السماء الا الذي نزل من السماء ، ابن الانسان الذي هو في السماء وهذا
يناقض صعود (ايليا) اليها ، كما في ثاني (الملوك) الثاني عدد (١١) ، وفي هذا
المقدار لطالب الحق كفاية ، فان الاكثار يخرج عن حد البحث الى سوء القالة. انتهى
كلامه سلمه الله.
والخرافات في
هذه الكتب بحيث انها اثرت في بعض الغفلة من اهل التفسير والحديث من المسلمين
الاوائل ، ففسروا القصص القرآنية كما ذكر امام المفسرين (الطبرسي) في مقدمة تفسيره
طبقا لهذه الخرافات ، وذلك لعدم مراجعته في تفسيره ـ الى من نزل في أبياتهم القرآن
، غافلين من ان اهل البيت ادرى بما في البيت.
وايضا ، ان كتب
السلف ، لا ينفع بالنسبة الى العرب والعجم ، لاختلاف لسانهم مع ما نزل عليه تلك
الكتب من اللغات ، فلا بد ان تذكر في القرآن ليعرفه العرب ويتعلمه العجم بسهولة ،
لكون نبيه ومن ارسل اليهم من العرب غالبا ، مع ان تلك الكتب محرفة (لما اشرنا اليه
انفا) لا تنفع بعد عدم الوثوق بها. مضافا الى انه لو كفى ذكر تلك القصص في تلك
الكتب عن ذكرها في القرآن ، لكفى ذكر كثير منها في الكتب السابقة على تلك الكتب عن
ذكرها فيها.
وثالثها : ان
عمدة الغرض ، الفوائد المعنوية التي تترتب على تلك القصص التي لا يعلم اكثرها الا
علام الغيوب : مثل تثبت فؤاد النبي صلىاللهعليهوآله كما قال الله تعالى : «وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ الآية» وليس الغرض منها مجرد الحكاية حتى يتوهم ورود
الايراد.
واما الجواب عن
الثالث : فهو ان مفاد الآيتين واحد ، وتوضيحه :
انه لا شك ان
الجبال سارية في تخوم الأرض ، نابتة من اعماقها ،
بحيث اتصلت اصولها بعضها مع بعض ـ كما يرى في حفر الآثار ـ لا سيما في هذه
الآونة الأخيرة ، التي يحفر آبار الارتوازية العميقة ، ومعادن النفط ، حيث يوصل في
قعر الأرض الى الاحجار الصلبة ، بل ربما احاط ببعض قطع الأرض جبال شاهقة ، احاطة
الظرف بالمظروف والغرض من ذلك ان لا يتزلزل الارض ، ولا تضطرب بالابخرة المتحركة
من اعماق الارض ، والمياه المبخرة من العيون والانهار والبحار ، ولذا يكون تأثير
الزلازل في بعض بقاع الأرض الخالي عن الجبال اكثر واظهر ، كما يشهد به التجربة.
قال الميبدي ـ في
شرح الهداية ـ : اما الزلزلة وانفجار العيون فاعلم : ان البخار اذا احتبس في الأرض
يميل الى جهة ويتبرد بها ، اي : بالأرض ، فينقلب مياها مختلطة ، باجزاء بخارية ـ اذا
قلّ ـ واذا كثر البخار بحيث لا تسعه الأرض اوجب انشقاق الارض ، وانفجر منه العيون.
قال ابو
البركات ـ في المعتبر ـ ان السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها ، هو : ما
يسيل من الثلوج ومياه الامطار ، لانا نجدها تزيد بزيادتها ، وتنقص بنقصانها ، وان
استحالة الاهوية والابخرة المنحصرة في الارض ، لا مدخل لها في ذلك ، واحتج : بان
باطن الارض في الصيف اشد بردا منه في الشتاء ، فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب ان
يكون العيون والقنوات ومياه الآبار ، في الصيف ازيد ، وفي الشتاء انقص ، مع ان
الامر بخلاف ذلك ـ على ما دلت عليه التجربة ـ.
والحق : ان
السبب الذي ذكره صاحب (المعتبر) معتبر لا محالة الا انه غير مانع من اعتبار الذي
ذكره المصنف : من انه اذا كثر البخار بحيث لا يسعه الارض : اوجب انشقاق الارض
وانفجر منه العيون واحتجاجه في المنع ، انما يدل على انه لا يجوز ان يكون ذلك هو
السبب التام ، لا على انه لا يجوز ان يكون ذلك سببا في الجملة ، واذا غلظ البخار
بحيث لا ينفذ في مجاري الارض ، او كانت الارض كثيفة عديمة المسام ، اجتمع طالبا
للخروج ولم يمكنه النفوذ ، فزلزلت الارض وكذا الريح والدخان ، وربما قويت المادة
على شق الارض ، فيحدث صوت هائل ، وقد يخرج نار لشدة الحركة المقتضية لاشتعال النار
والدخان الممتزجين على طبيعة الدهن.
قال الآملي ـ في
تعليقته على منظومة السبزواري ـ : اعلم : ان لحدوث الزلزلة ايضا اسباب ، جعلها الله
سبحانه سببا لحدوثها.
الاول : وهو
الأغلب ، (لحبس الأبخرة) وبيانه : انه اذا غلظ البخار بحيث لا ينفذ في مجاري الأرض
لغلظته. او تكون الأرض مستصحفة اي : مستحكمة الجرم ، عدمية المساعت ، التي يعبر
عنها (بالصلبة) كأراضي الجبال : اجتمع طالبا للخروج ، ولم يمكنه النفوذ في مجاري
الأرض ، فزلزلت الأرض.
الثاني : ان
تكون (لحبس الدخان).
الثالث : ان
تكون لحبس (الرياح) فيكون احتباسهما كاحتباس البخار ، فتطلبان الخروج ، فتحدث من
حركتهما الخروجية من مجاري الارض (الزلزلة) اما لغلظتهما ، او لتكاثف الأرض
كالجبال ، او لهما معا.
الرابع : ان
يكون من جهة تساقط (وهدات) باطن الأرض ، و (الوهدة) هي : المكان المنخفض ، والمراد
بها في المقام : (الحفر الوسيعة) التي توجد في باطن الارض مستورة غير مكشوفة من
جهة أصلا ، وتكون العوالي المتساقطة كثيرة ، فينموج بسقوطها الهواء المحتقن في تلك
الوهدات المستورة ، وتحصل الزلزلة بصدمته ، وهذا نادر.
الخامس : ان
تكون من جهة سقوط قلل الجبال على الأرض لبعض الاسباب ، وهذا قليل جدا.
قال صدر
المتألهين : وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض ، فيخرج عنها نار لشدة الحركة
الموجبة لاشتعال البخار والدخان ، لا سيما اذا امتزجا امتزاجا مقربا الى الدهنية ،
وربما قويت المادة على شق الارض فيحدث اصوات هائلة.
ومن هذا القبيل
ما اصابت بلدة قوم من الفجرة ، وجعل عاليها سافلها ، وقد يوجد في بعض النواحي قوة (كبريتية)
ينبعث منها دخان ، وفي الهواء رطوبة بخارية ، فيحصل من اختلاط دخان الكبريت
بالأجزاء الرطبة الهوائية مزاج دهني ، وربما اشتعل بأشعة الكواكب وبغيرها فيرى
بالليل شعل مضيئة.
وجميع
المذكورات ، وان كانت آراء الفلاسفة ، لكن لا ينافي القول بالفاعل المختار ـ كما
ظن بعضهم ـ.
وقال الآملي ـ ايضا
ـ : قالوا : البخار اذا احتبس في داخل الأرض لما فيها من الثقب والفرج ، فللطافته
ينفذ في مجاري الأرض ، فيبرد بالأرض ، فينقلب بسبب البرد الحاصل له من ملاقات
الأرض الباردة مياها مختلطة باجزاء بخارية ـ اذا كان قليلا ـ واذا كثر بوصول مدد
متدافع اليه ، بحيث لا تسعه الأرض ، اوجب انشقاق الأرض ، وانفجار
العيون ، لكثرتها وقوة الابخرة التي معها ، والعيون المنفجرة ؛ اما عيون
جارية على الولاء ، وذلك : اما لتدافع تاليها سابقها ، او لانجذابه اليه لضرورة
عدم الخلاء ، بأن يكون البخار الذي انقلب ماء وفاض الى وجه الأرض ، فينجذب الى
مكانه ما يقوم مقامه ، لئلا يكون (خلاء) فينقلب هو ايضا (ماء) ويفيض وهكذا يستتبع
كل جزء منه جزء آخر.
واما عيون
راكدة : وهي حادثة من ابخرة لم تبلغ من كثرة موادها وقوتها ، ان يحصل منها معاونة
شديدة ، او يدافع اللاحق السابق.
واما مياه
القني والآبار. فهي متولدة من ابخرة ناقصة القوة عن ان يشق الأرض ، فاذا ازيل ثقل
الأرض عن وجهها صادفت منفذا تندفع اليه بأدنى حركة ، فان لم يجعل هناك مسيل فهو (البئر)
وان جعل فهو (القناة) ونسبة القناة الى البئر كنسبة العيون السيالة الى الراكدة
انتهى.
هذا ، مع انه
لو لم يخلق الجبال الشاهقة : لتسلط المياه المجتمعة من الامطار والعيون على
المواضع المخددة وخربها ، واهلك أهلها ، على انه فد ثبت عندنا ، من اخبار أئمتنا (عليهمالسلام)
: ان لكل آية من آيات القرآن ، تنزيلا وتأويلا ، وظهرا وبطنا ، وحدا ومطلعا وان
الفرقان الكريم : مشحون بالكنايات ، والاستعارات ، واللطائف وقد جعل بعض المفسرين
المراد من الرواسي في هذه الآية : الأنبياء والأولياء (عليهمالسلام) الذين بهم
يتحرك المتحركات ، وبهم يسكن السواكن ، ولذا ورد : انه لو خلت الأرض ساعة عن
الامام (ع) لخسفت ، او لهاجت باهلها ، بل ربما يؤول الآية بتأويل آخر مذكور
في كتب التفسير ، لا نطيل بذكره.
واما الآية
الثانية ـ من الآيتين اللتين ذكرهما ولم يفهم معناهما ـ : فمعناها اللطيف اظهر من
ان يحتاج الى البيان ، فان الباري تعالى اراد ان يبين مقدار سير (ذي القرنين)
وقطعه معمورة الأرض التي كانت معمورة في زمانه بتمامها من البراري ووصوله الى
البحر المحيط (بتلك المعمورة) فبينها بهذه العبارة اللطيفة ، وهذه العبارة مطابقة
للمحاورات العرفية ، ألا ترى انه يقال في العرف : انا وصلنا في البحر الى موضع لم
نر في ايام متعددة قطعة من الأرض ، والشمس تطلع من الماء وتغرب فيه ، واظن قويا :
ان المستشكل اغتر بكلام بعض القصاصين والغفلة من المفسرين ، الذين يفسرون القرآن
بآرائهم الفاسدة ، من غير مراجعة الى من لا بد في فهم القرآن من مراجعته ، ومن غير
مراجعة الى حكم العقل والمتفاهمات العرفية من ظواهر الالفاظ في المحاورات العادية
، غافلين عن القرائن ، غير مبالين فيما يقولون ، كأنهم لم يسمعوا قوله صلىاللهعليهوآله : «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»
فالمراد : ان (اسكندر) وصل الى موضع من البحر ، وجد الشمس فيه تغرب في الماء ،
والمراد من (الحمئة) السوداء الظلمانية ،
قال في المصباح
: الحمئة : طين اسود. وحمئت البئر حمأ ـ من باب تعب ـ : صار فيها الحمئة وفيه
اشارة الى عظمة البحر ، وانه البحر المحيط ، فان الماء كلما كان اكثر كان في
السواد والظلمة اشد ، وعلى قراءة ال (حامِيَةً) ـ كما هي قراءة ابن مسعود ـ يكون المراد الاشارة الى
ملوحته وسخونته.
وبالجملة : أليس
المراد غروب الشمس في العين حقيقة ، حتى يقال :
ان الشمس في الفلك الرابع ، وهي اكبر من كرة الأرض بمراتب ، فكيف تغرب في
العين؟! وهل يتكلم بمثل هذا الكلام ادنى جاهل؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والعجب : ان
المورد من اهل الكتاب ، او من أنس بمشربهم ، ولم ير في كتاب (كمار) الذي هو من
الكتب المعتبرة لبني اسرائيل في قصة ذي القرنين ، عبارات أعجب مما حكم بكونه خاليا
عن المحصل ، عاريا عن المعنى.
فقد ذكر فيه ما
معناه : ان (اسكندر) بعد ان سار على وجه الأرض ، وصل الى باب الجنة ، وصاح ودق
الباب ، وأراد الدخول في الجنة ، فقيل له : لا يتيسر هذا في زمان الحياة ، فطلب
منهم شيئا فأعطوه حلقة عين انسان.
وهم يؤولون
أمثال هذه الكلمات ، ويحملون آيات القرآن على الاهمال ومن لم يجعل الله له نورا
فما له من نور.
واما الجواب
الرابع : فهو انه لا تناقض في الآيات التي توهم فيها التناقض اصلا.
واما الآيتان
الأوليان : فلان المشركين لما رأوا يوم القيامة : ان الله تعالى يغفر لأهل الاسلام
، ولا يغفر للمشركين ، انكروا الشرك رجاء ان يغفر لهم ، فقالوا
: «وَاللهِ
رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ».
فحينئذ «نَخْتِمُ الله عَلى أَفْواهِهِمْ»
ويتكلم أيديهم
وارجلهم وتشهد عليهم بما كانوا عليه.
فعند ذلك : «يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ
وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً»
فهم يكتمون
بألسنتهم ، فتنطق أيديهم وجوارحهم.
واما الثانيتان
: فلان نفي المسألة فيما قبل النفخة الثانية واثباتهما فيما بعدها
فانه «فَإِذا
نُفِخَ فِي الصُّورِ* فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
مَنْ شاءَ اللهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) * (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) * (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ».
واما الثالثتان
: فلان الله تعالى بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة ثم خلق السماوات فسوّيهن فى
يومين ، ثم دحى الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين ، فتلك اربعة
أيام.
كذا اجاب ابن
عباس عن هذه الآيات حين سأله رجل عنها : على ما حكاه عنه الفاضل السيوطي في تفسير
الاتقان.
ويمكن الجواب
عن الثانيتين : بحمل الاولى على عدم التساؤل فى الانساب.
والثانية : على
التساؤل في غيرها.
او يوفق بينهما
كما قيل باختلاف الموقفين ، كما وفق بذلك بين قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌّ).
وقوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) فتأمل.
وقد اجيب عن
الثالثتين بوجوه اخر :
منها : ان (ثم)
بمعنى (الواو).
ومنها : ان
المراد ترتيب الخبر لا المخبر به ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
وكما في قوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) * (ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) * (ثُمَّ سَوَّاهُ
وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ).
قال ابن هشام :
قد يكون (ثم) لترتيب الاخبار ، لا لترتيب الحكم وانه يقال : بلغني ما صنعت اليوم
ثم ما صنعت امس أعجب ، اي : ثم اخبرك ان الذي صنعته امس اعجب.
ومنها : ان
المراد تفاوت ما بين الخلقتين لا التراخي في الزمان ، قال ابن هشام ـ في آية خلقة
آدم (ع) ـ : ان خلق حواء من آدم (ع) لما لم تجر عادة بمثله ، جيء ب (ثم) ايذانا
بترتبه وتراخيه في الاعجاب ، وظهور القدرة لا لترتيب الزمان وتراخيه.
ومنها : ان خلق
: بمعنى قدر.
واما الرابعتان
: فلما قيل : من ان المراد من البصر ، البصر الباطني ، اي : العلم والمعرفة ،
المعبر عنه (بالبصيرة) ويؤيده قوله تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ) فتدبر.
اما الخامستان
: فلان الطمأنينة انما تكون بانشراح الصدر بنور التوحيد ، والوجل يكون عند خوف
الزيغ والذهاب عن الهدى.
وقد جمع بينهما
في قوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلى ذِكْرِ اللهِ).
كذا قيل ،
والاولى ان يقال ؛ ان الخشية من الله من ثمرات معرفته ، وعلاماتها ، فكل من هو
اعرف فهو اخوف.
فالمراد من
الطمأنينة : هو (السكون والثبات) الحاصل من المعرفة وفي مقابله (التزلزل والتردد).
والمراد من
الوجل : هو الخوف من هيبة القهار وعظمة الجبار ، فلا منافاة.
واما السادستان
: فلان المراد : انه ما منعهم عن الايمان الا تقدير احد الأمرين : من عذاب الدنيا
او الآخرة لهم ، بمقتضى نيتهم الفاسدة وهو الداعي على استغرابهم ان يكون البشر
رسولا ، فيؤول الآيتان الى بيان امر واحد.
واما السابعتان
: فلوجوه :
منها : تخصيص
كل موضع بمعنى صلته ، اي : لا احد من المفترين اظلم ممن افترى على الله كذبا ، ولا
احد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، فيرتفع التناقض.
واليه يرجع ما
قيل ـ في هذه الآيات وامثالها ـ : من ان التحصيص (اي : الحصر) انما هو بالنسبة الى
السبق ـ بمعنى : انه لما لم يسبق احد الى مثله ، حكم عليهم بانهم اظلم ممن جاء
بعدهم سالكا طريقتهم وذلك : ان المراد السبق الى المنع والافتراء ونحوهما.
والى هذه
القاعدة يشير ما جاء في الاخبار ـ كما في الرسائل ـ وادعى بعضهم تواترها : من ان
من سنّ سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من
عمل بها.
فاذا فرضنا :
ان شخصين سنا سنة حسنة او سيئة ، فعمل بما سناه جماعة بعدهما ، فان مقتضى هذه
الروايات : ان ثواب الأول وعقاب
الثاني ، أكثر وازيد من العاملين بما سنا.
ولعله الى ذلك
يشير قوله تعالى : (السَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).
ومنها : ما
ذكره (ابو حيان) من ان نفي التفضيل ، لا يستلزم نفي المساوات ، فيمكن ان يكون كل
منهم مساويا للآخر في الاظلمية فيصير المعنى : لا احد أظلم ممن افترى ، ومن منع ،
ومن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها الى غير ذلك.
وهذا مبني على
ما يأتي عند قوله : «ولم ابالغ في اختصار لفظه من ان الشيخ عبد القاهر ، ذكر في ـ دلائل
الاعجاز ـ : ان من حكم النفي او ما هو في معناه ؛ كالاستفهام الانكاري في هذه
الآيات ، اذا دخل على كلام فيه تقييد على وجه ما : كالأفضلية والزيادة في هذه
الآيات ، ان يتوجه ذلك النفي الى ذلك التقييد ، وان يقع له خصوصا».
واما الثامنتان
: فلان كلمة (لا) في الاولى مزيدة للتأكيد ، كما صرح به المفسرون. في زيادة كلمة (لا)
في امثال المقام كلام ، راجع كلام ابن هشام.
واما التاسعتان
: فلان المراد من الخلق في غير الآية الاولى ـ : هو الجعل والاختراع الصوري ، وليس
المراد الخلق الحقيقي ، بعد ان قام الدليل العقلى على عدم الشريك لله في الخلق وغيره.
واما العاشرتان
: فلان المراد في الآية الثانية ، القضية التعليقية ، بمعنى : انه لو امكن نفاد
الكلمات ، لنفد البحر قبل نفاده.
او يقال : ليس
المقصود الا بيان سرعة نفاد البحر ، للاشارة الى عدم تناهي الكلمات ، كما يقال ـ لمن
اريد تعجيله في المجيء ـ : جئني قبل ان اقوم من مقامي. وليس المراد القيام وعدم
القيام اصلا.
ولعله يكون من
هذا القبيل قوله تعالى : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) يعني آتيك به في اسرع ما يكون.
اما التاليتان
لهما : فلان المراد ان خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركتها وخفتها ،
كاهتزاز الجان وحركته وخفته.
واما التاليتان
لهما : فلوجوه :
منها : كون
الاختلاف في السؤال وعدمه ـ كما اشرنا اليه سابقا ـ انما هو باختلاف الأماكن
والمواقف.
ومنها : ان
المثبت سؤال التكبيت والتوبيخ.
والمنفي سؤال
المعذرة وبيان الحجة.
واما التاليتان
لهما : فلما قيل : من ان المراد من الاولى (مقام التوحيد) بدليل قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ).
ومن الثانية : (الاعمال)
وقيل : ان الثانية ناسخة للاولى.
والأولى : ان
يقال : ان المراد في الاولى : بيان ما يستحقه الله تعالى من التقوى ، وفي الثانية
: بيان ما يتمكن منه العبد.
والغرض :
الاشارة الى ان العبد ينبغي ان يصرف همته واستطاعته ، في طلب المرتبة العليا ،
والغابة القصوى ، ليحصل له ما يقرب منها ، فان الترقي على قدر الهمة.
واما التاليتان
لهما : فلما قيل : من ان المراد في الاولى (توفية الحقوق).
وفي الثانية : (الميل
القلبي) الذي ليس في قدرة الانسان.
ويمكن ان يقال
: ان اثبات الامكان في الاولى انما هو بزعم الناس ، ونفيه في الثانية بحسب الحقيقة
فلا منافاة.
واما الأخيرتان
: فلما قيل : من ان المراد في الاولى (الأمر التشريعي).
وفي الثانية : (التكويني)
فليتأمل.
فان هذا الجواب
بشقه الأخير من أصعب المسائل ، بحيث عجز عن اتمام البحث فيه اللوذعي الألمعي ،
المحقق (الهروي) في كفايته ، فقال : «قلم اينجا رسيد سر بشكست».
قد انتهى
الكلام في المقام الى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام ، ومن الله الرشد والهداية
، وبه الاعتصام.
واما الجواب عن
الخامس : فبأن الاختلاف انما يضر اذا فات معه المعنى المقصود واما اذا لم يفت ؛
بان افاده مع زيادة ، فهو مقتضى البلاغة.
والآيات
القرآنية المختلفة المعاني في نظر القاصرين ، انما هي من هذا القبيل ، مثلا : ((التُّرابِ) وال (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وال (صَلْصالٍ)) في أحوال مختلفة ، فمرجع كلها الى التراب ، لكن عبر
بها للاشارة الى التدرج والدرجات.
وكذا الحال في
سائر ما هو من هذا القبيل ، ففي كيفية سجود الملائكة لآدم (ع) وتخلف ابليس لعنه
الله عنه ، يكون المقصود الحقيقي بيان مخالفة ابليس ، وهو مستفاد من كل الآيات
الدالة على هذه الكيفية.
الا ان في كل
منها فائدة زائدة على ذلك ، فمن واحدة منها يستفاد منشأ المخالفة ، وهو (التكبر)
ومن اخرى منشأ التكبر ، وهو (الطبيعة الحادة النارية) التي جبل عليها الجن ، مضافا
الى رفع توهم انه تخلف
وهو من الملائكة.
وهكذا ،
بالنسبة الى سائر الآيات الواردة كل واحدة منها بمضامين مختلفة.
خلاصة الكلام ـ
في المقام ـ : ان فهم كلام الملك العلام لا يتيسر الا بمعونة منه. ومتابعة اوليائه
الذين هم شركاء القرآن في هداية الأنام ، كما ورد في خبر الثقلين.
واما الذين في
قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة لا سيما مع القول : بان القرآن كله
كسورة واحدة ، كما ادعى ذلك ابن هشام في (حرف اللام) فقال : ولهذا يذكر الشيء في
سورة وجوابه في اخرى ، نحو : (وَقالُوا يا أَيُّهَا
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ).
جوابه : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِمَجْنُونٍ) : فالمناسب لحال الملاحدة والمشككين في اعجاز القرآن ،
سيما المولدين والدخلاء في اللغة العربية ما قيل ـ بالفارسية ـ :
اى مكس عرصئه
سيمرغ نه جولانكه تواست
|
|
عرض خود
ميبرى وزحمت ما ميدارى
|
الى هنا كان
الكلام في اصل اعجاز القرآن ، وما يتصل بذلك وفي المقام شبهة (دور) نذكرها مع
جوابها ، عند قوله : «وهذه وسيلة لتصديق النبي ـ ص ـ».
اما كونه أعلى
المعجزات : فلانه مفتاح يفتح به باب الشريعة ، المشتملة على السعادة في النشأتين ،
ولأنه باق على كل زمان ، دائر
فيما بين الكتب على كل لسان بكل مكان ، ولانه يدعو الى الكمال : اذ به
ينفتح باب جميع العلوم او غالبها ، فيحصل بذلك للعالم بها كمالات نفسية.
بيان ذلك : ان
الأحكام الشرعية كلها متلقاة من الله تعالى ، وحيا بالقرآن ، (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).
ولذلك : قيل ـ في
حد الحكم الشرعى ، كما في القوانين ـ : خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين ، وباقي
الأدلة عند التحقيق ، راجعة اليها فيجب على عامة البشر فهم القرآن والتدبر فيه.
وذلك مفتقر الى
غالب العلوم او كلها.
اذ مفرداته :
تحتاج الى علم (متن اللغة ، والصرف).
ومركباتها :
تحتاج الى علم (النحو).
وفيما يحتاج
اليه فيه في مطابقة الكلام لمقتضى الحال : يحتاج الى علم (المعاني).
وفي الحقيقة
والمجاز منه ، ونحوهما : الى علم (البيان).
وفي المحسنات
البديعية : الى علم (البديع).
وفي خاصه وعامه
، والمطلق والمقيد منه ، ونحوها : الى علم (الاصول).
وفي شأن النزول
واسبابه. واستيضاح معانيه : الى علم (التفسير).
وفي القراءة
واختلافها ، الى علم (التجويد والقراآت).
وفي الاستدلال
به ، وترتيب الأدلة : الى علم (المنطق).
وفي الأحكام
المستفادة منها ، وبيانها : الى على (الفقه).
وفي الروايات
المتعلقة به : الى علم (الدراية ، والحديث ، وتاريخ الرواة وانسابهم ، والمعدل
منهم والمجروح).
وفي اثبات
منزله ، وما يتعلق بذلك ؛ الى علم (الكلام).
وقد تحتاج هذه
العلوم على سبيل الاستلزام او الاستمداد الى علوم اخرى ؛ كاحتياج الفقه في باب
المواريث والاقرار ، الى علم (الحساب ، بل الجبر والمقابلة).
وفي باب الغصب
والضمان ، وقيم المتلفات ، الى علم (التجارة).
وفي باب الوصية
والصوم والطهارة ونحوها الى علم (الطب).
وفي باب الديات
والقصاص الى علم (التشريح).
وفي باب الصلاة
وتعيين القبلة ، الى علم (الهيئة).
وفي باب الخمس
والزكاة ، الى علم (معرفة المعادن).
وكاحتياج علم
الكلام الى علمي (الطبيعي ، والرياضي).
وهلم جرا ، وفي
تعيين مقدار ما يحتاج اليه من هذه العلوم ، كلام ذكروه في محله ، فثبت ؛ ان القرآن
معجزة خالدة باقية مدى الأعصار والبشرية والاجيال.
قال سيدنا
الاستاذ دام ظله في (البيان) في مقام كون القرآن معجزة خالدة ، ما هذا نصه :
ان طريق
التصديق بالنبوه والايمان بها ، ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه ،
ولما كانت نبوات الأنبياء السابقين مختصة بازمانهم واجيالهم كان مقتضى الحكمة ، ان
تكون معاجزهم مقصورة الأمد ، ومحدودة ، لأنها شواهد على نبوات محدودة ، فكان البعض
من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات ، فتقوم عليه الحجة ، والبعض الآخر تنقل
اليه أخبارها من الشاهدين على وجه التواتر ، فتقوم عليه الحجة ايضا.
اما الشريعة
الخالدة ، فيجب ان تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة ـ ايضا ـ : لأن (المعجزة)
اذا كانت محدودة قصيرة الأمد ، لم يشاهدها البعيد ، وقد تنقطع أخبارها المتواترة ،
فلا يمكن لهذا البعيد ان يحصل له العلم بصدق تلك النبوة ، فاذا كلفه الله بالايمان
بها كان من التكليف بالممتنع. والتكليف بالممتنع مستحيل على الله تعالى ، فلا بد
للنبوة الدائمة المستمرة من معجزة دائمة مستمرة.
وهكذا انزل
الله القرآن معجزة خالدة ، ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة ، وليكون حجة على
الخلف ، كما كان حجة على السلف.
وقد نتج لنا
عما قدمناه امران :
الاول : تفوق
القرآن على جميع المعجزات التي ثبتت للأنبياء السابقين ، وعلى المعجزات الاخرى
التي ثبتت لنبينا محمّد (ص) : لكون القرآن باقيا خالدا.
الثاني : ان
الشرايع السابقة منتهية منقطعة ، والدليل على انتهائها هو انتهاء امد حجتها
وبرهانها ، لانقطاع زمان المعجزة التي شهدت بصدقها.
ثم ان القرآن
يختص بخاصة اخرى ، وبها يتفوق على جميع المعجزات التى جاء بها الأنبياء السابقون ،
وهذه الخاصة : هي تكفله بهداية البشر وسوقهم الى غاية كمالهم ، فان القرآن هو
المرشد الذي ارشد العرب الجفاة ، الذين كانوا على شفا حفرة من النار ، المعتنقين
أقبح العادات والعاكفين على الأصنام ، والمشتغلين عن تحصيل المعارف وتهذيب النفوس
بالحروب الداخلية ، والمفاخرات الجاهلية ، فتكونت منهم في مدّة يسيرة
امة ذات خطر : في معارفها ، وذات عظمة : في تاريخها ، وذلت سمو في عاداتها.
ومن نظر في
تاريخ الاسلام وسير تراجم اصحاب النبي (ص) المستشهدين بين يديه ، ظهرت له عظمة
القرآن : في بليغ هوايته ، وكبير اثره ، فانه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية الى
أعلى مراتب العلم والكمال وجعلهم يتفانون في سبيل الدين واحياء الشريعة ، ولا
يعباون بما تركوا من مال وولدوا زواج.
وان كلمة المقداد
لرسول (ص) ـ كما في تاريخ الطبري ، في غزوة بدر ـ حين شاور المسلمين في الخروج الى
بدر ، شاهد عدل على ما قلنا ، حيث قال : يا رسول الله امض الى ما امرك الله ، فنحن
معك ، ولا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى بن عمران : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا
إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب انت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ، فو الذى
بعثك بالحق ، لو سرت بنا الى برك الغماد ـ يعنى : مدينة الحبشة ـ لجالدنا معك من
دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول
الله (ص) خيرا ، ودعا له بخير.
هذا واحد من
رجال المسلمين ، يعرب عن عقيدته وعزمه وتفانيه في احياء الحق واماتة الشرك ، وكان
الكثير منهم على هذه العقيدة متدرعين بالاخلاص.
ثم ذكر ـ سلمه
الله ـ في المقام حكاية وهذا نصه :
قد جرت محادثة
بيني وبين حبر من أحبار اليهود ، تتصل بهذا الموضوع ، قلت له :
هل التدين
بشريعة موسى (ع) يختص باليهود ، او يعم من سواهم من الامم؟
فان اختصت
شريعته باليهود : لزم ان تثبت لسائر الامم نبيا آخر فمن ذلك النبي؟
وان كانت شريعة
موسى (ع) عامة لجميع البشر ، فمن الواجب ان تقيموا شاهدا على صدق نبوته وعمومها ،
وليس لكم سبيل الى ذلك فان معجزاته ليست مشاهدة للاجيال الآخرين ، ليحصل لهم العلم
بها وتواتر الخبر بهذه المعجزات ، يتوقف على ان يصل عدد المخبرين في كل جيل الى حد
يمنع العقل من تواطؤهم على الكذب وهذا شيء لا يسعكم اثباته.
واى فرق بين
اخباركم انتم عن معاجز موسى (ع) واخبار النصاري عن معاجز عيسى (ع) واخبار كل امة
اخرى بمعاجز انبيائها الآخرين؟
فاذا لزم على
الناس تصديقكم بما تخبرون به ، فلم لا يجب على الناس تصديق المخبرين الآخرين في
نقلهم عن انبيائهم؟!
واذا كان الأمر
على هذه الصورة فلم لا تصدقون الأنبياء الاخرين؟
فقال : ان
معاجز موسى ثابتة عند كل اليهود والنصارى والمسلمين وكلهم يعترفون بصدقها ، واما
معاجز غيره ؛ فلم يعترف بها الجميع فهى لذلك تجتاج الى الاثبات.
فقلت له : ان
معجزات موسى (ع) لم تثبت عند المسلمين ولا عند النصارى الا باخبار نبيهم بذلك ، لا
بالتواتر. فاذن لزم تصديق المخبر عن تلك المعاجز وهو يدعى (النبوة) فلزم الايمان
به والاعتقاد بنبوته ، والا لم تثبت ايضا هذا شأن الشرائع السابقة.
اما شريعة
الاسلام : فان حجتها باقية تتحدى الامم الى يوم القيامة واذا ثبتت هذه الشريعة
المقدسة ، وجب علينا تصديق جميع الأنبياء السابقين لشهادة القرآن الكريم ، ونبي
الاسلام العظيم.
واذن فالقرآن
هو المعجزة الخالدة الوحيدة الباقية ، التي تشهد لجميع الكتب المنزلة بالصدق ،
ولجميع الأنبياء بالتنزيه ، انتهى كلامه زاد الله في مقامه.
ونظير هذه
الحكاية : ما يحكى في الرسائل في بحث الاستصحاب ، عن بعض الفضلاء السادة ، وهو على
ما في بعض الحواشي السيد حسين القزويني ، وقال بعض الأساتيد : انه السيد محسن
القزويني ، وربما يقال : ان المراد هو السيد العلامة الطباطبائي الملقب (ببحر
العلوم) واستبعد هذا القول بعض المحشين غاية البعد ، مستندا الى ما ينقل له من
التبحر في الفنون والعلوم ، والى ما ينقل منه من مآثر وآيات ، وان هذا الاستبعاد
مع تسليم ما ذكر في غير محله ، كما هو ظاهر عند من له ذوق وتحقيق ، ناظرا فيما قيل
او يقال ، في تحقيق الحال في هذا المجال ، وفي الرواية الآتية الواردة في المقام ،
مع ما فيها وتطبيقه على المدعى من النقض والابرام ، مع كونه كلام الامام (ع) عند
الاعلام ، فتأمل.
وكيف كان ،
فاظن ان الأصل في جميع هذه الحكايات ـ على ما في بعض الحواشي ـ : ما روي في (الاحتجاج
للشيخ الطبرسي) من كيفية مناظرة الامام (ع) مع (الجاثليق) وملخص مضمونه :
ان الامام (ع)
قال له :
ايها الجاثليق أأنت
قائل بنبوة عيسى (ع)؟
قال : نعم ، لو
لم اكن قائلا به لكنت كافرا.
قال (ع) : أيكون
قولك مع الدليل ، او بلا دليل؟
قال : مع
الدليل.
قال (ع) : فما
دليلك؟
قال : آياته
ومعجزاته.
قال : أرأيت
معجزاته؟
قال : لا ، بل
وصلت اليّ بالأخبار المتواترة.
قال (ع) : وصلت
اليك من المسلمين؟
قال : لا.
قال (ع) : فمن
اليهود؟
قال : لا ، بل
من النصارى.
قال (ع) : فاذا
ثبت معجزة عيسى ، باخبار النصارى ـ وهم امته ـ فلم لم يثبت معجزة محمد (ص) باخبار
المسلمين؟ وما الموجب للفرق؟! فسكت الجاثليق .. الخبر.
قال بعض ارباب
الشروح ـ بعد نقل هذا المضمون ـ :
ولا يخفى ان
الملائم في هذا المقام ، ان يقال : لو أراد الجاثليق الا يراد بعد ذلك ، ان معجزته
مجمع عليها بين المسلمين والنصارى ، ومعجزة محمد (ص) مختلف فيها ، ولا يترك المجمع
عليه بالمختلف فيه.
فجوابه : ان
هذا يستلزم استظهار اليهود عليهم ، بل امم الانبياء وليس الملائم للمقام التمسك
بالاستصحاب. انتهى.
(فقوله وعلم مع
ما يتعلق به من عطف الخاص على العام لان نعمة تعليم البيان فرد من افراد الانعام
رعاية لبراعة الاستهلال) وهو كما قال ـ في منهاج البراعة ـ :
ان يكون اول
الكلام دالا على ما يناسب حال المتكلم ، متضمنا لما سيق الكلام لأجله ، من غير
تصريح ، بل بألطف اشارة يدركها الذوق السليم ، والطبع المستقيم.
قال ابن المقفع
: ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك ، كما ان خير ابيات الشعر الذي اذا سمعت صدره
عرفت قافيته.
قال الجاحظ
كأنه يقول : فرق بين خطبة النكاح ، وخطبة العيد وخطبة الصلح ، حتى يكون لكل فنّ من
ذلك صدر يدل على عجزه ، فانه لا خير في كلام لا يدل على معناك ، ويشير الى مغزاك ،
والى العمود الذي اليه قصدت ، والغرض الذي اليه نزعت.
قالوا : والعلم
الأسنى في ذلك (سورة الفاتحة) التي هي مطلع القرآن ، فانها مشتملة على نظير ما
اشتملت عليه الفاتحة من البراعة ، لكونها اول ما انزل من القرآن ، فان فيها الأمر
بالقراءة والبدء فيها (باسم الله).
وفيها ما يتعلق
بتوحيد الرب ، واثبات ذاته ، وصفاته : من صفة ذات ، وصفة فعل.
وفيها ما يتعلق
بالأحكام ، وما يتعلق بالاخبار : من قوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ
ما لَمْ يَعْلَمْ).
ولهذا قيل :
انها جديرة ان تسمى عنوان القرآن ، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارات وجيزة في
اوله.
فقد ظهر مما
ذكرنا : ان براعة الاستهلال في مطلع الكلام ، هو : كونه دالا على ما بني الكلام
عليه ، من مدح ، او هجاء ، او تهنئة او عتاب ، او توبيخ ، او تقريع ، او بشارة ،
او نعي ، او غير ذلك.
فلو جمع المطلع
بين حسن الابتداء ، وبراعه الاستهلال ، كان هو الغاية التي لا يدركها الامصلى هذه
الجلبة ، والحالب من أشطر البلاغة اوفر حلبة ، وهو كثير في كلام امير المؤمنين (ع)
، وارشدك الى موضع واحد ، وهو قوله (ع) :
الحمد لله وان
اتى الدهر بالخطب الفادح ، والحدث الجليل.
فان هذا المطلع
، ينبئك عن عظم ما يتلوه من النبأ.
وفي كلامه (ع)
انواع من (البديع) يكاد ان يكون سحرا ، حسبما يدلك عليها وفيه شهادة عظيمة على عظم
شأن قائله (ع).
ومنه في النظم
، قول ابي تمام :
الشعر اصدق
انباء من الكتب
|
|
في حده الحد
بين الجد والطلب
|
بيض الصفائح
لاسود الصحايف في
|
|
متونهن جلاء
الشك والريب
|
والعلم في
شهب الارماح لامعة
|
|
بين الخميسين
لا في السبعة الشهب
|
اين الرواية
ام اين النجوم وما
|
|
صاغوه من
زخرف فيها ومن كذب
|
تخرصا
واحاديثا ملفقة
|
|
ليست بنيع
اذا عدت ولا غرب
|
وهذه الأبيات
لها قصة ، وذاك : انه لما حضر المعتصم مدينة عمودية ، زعم اهل النجامة : انها لا
تفتح في ذلك الوقت ، وأفاضوا في هذا ، حتى شاع وصار احدوثة بين الناس ،
فلما فتحت :
بنى (أبو تمام) مطلع قصيدته على هذا المعنى ، وجعل (السيف) اصدق من (الكتب) التى
خبرت بامتناع البلد واعتصامها.
ومن هذا القبيل
ما في كتاب ـ الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني ـ ما رواه من شعر (سديف) في تحريض
الخليفة (السفاح) على بنى
امية ، فقال :
قدم سديف من (مكة)
الى (الحيرة) والسفاح بها ، ووافق قدومه جلوس السفاح للناس ، وكان بنو امية يجلسون
عنده على (الكراسي) تكرمة لهم.
فلما دخل عليه (سديف)
حسر لثامه وانشده ابياتا من الشعر.
فالتفت رجل من
اولاد (سليمان بن عبد الملك) وقال ـ لآخر الى جانبه ـ : قتلنا والله العبد.
فلما انهى
الأبيات ، أمر بهم (السفاح) فاخرجوا من بين يديه ، وقتلوا عن آخرهم.
وكتب الى عماله
بالبلاد ، يأمرهم بقتل من وجدوه منهم ، ومن الأبيات :
اصبح الدين
ثابتا في الأساس
|
|
بالبهاليل من
بني العباس
|
انت مهدى
هاشم وهداها
|
|
كم اناس رجوك
بعد أياس
|
لا تقيلن (عبد
شمس) عثارا
|
|
واقطعن كل
رقلة وغراس
|
انزلوها بحيث
أنزلها الله
|
|
بدار الهوان
والانعاس
|
خوفهم اظهر
التودد فيهم
|
|
وبهم منكم
كهز المواسي
|
أقصهم أيها
الخليفة واحسم
|
|
عنك بالسيف
شافة الأرجاس
|
واذكرن مصرع (الحسين)
و (زيد)
|
|
وقتيلا بجانب
الهرماس
|
ولقد سائني
وساء سوائي
|
|
قربهم من
منابر وكراسي
|
قال الموصلي ـ صاحب
المثل السائر ـ : هذه الأبيات من فاخر الشعر ونادره : افتتاحا. وتحريضا ، وتأليبا
، ولو وصفتها من الأوصاف
بما شاء الله. وشاء الاسهاب والاطناب ، لما بلغت مقدار ما لها من الحسن.
فتحصل مما
ذكرنا : ان معنى (براعة الاستهلال) الاصطلاحي ، مناسب لمعناه اللغوي.
اذ (البراعة)
في اللغة ، مصدر (برع الرجل) : اذا فاق أقرانه و (الاستهلال) : اول صياح المولود ،
ثم استعمل في اول شيء ، ومنه (الهلل) : اول المطر ، ومستهل الشهر : اوله ، وكذلك
مستهل الشعر.
وحينئذ ، فحاصل
معنى التركيب الاضافي اللغوي : تفوق الابتداء ، اي : كون الابتداء فائقا حسنا.
ومعلوم : ان
معناه الاصطلاحي قريب من ذلك ـ كما فيما نحن فيه ـ اذ لا شك ان الابتداء في الكتاب
، قد اشتمل على لفظة (البيان) وهو كما تقدم : المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
والكتاب في علم
(المعاني ، والبيان ، والبديع) وقد يسمى الجميع ـ كما يأتي في آخر المقدمة ـ (علم
البيان) ففى لفظة (البيان) اشارة : الى ان المقصود في هذا الكتاب ، البحث عن (علم
البيان) بمعناه الأعم ، الشامل لجميع العلوم الثلاثة.
هذا ولكن اورد
عليه : بان البراعة تحصل من مجرد ذكر الخاص اعني تعليم (البيان) سواء كان معطوفا ،
او لا. كان من قبيل عطف الخاص على العام ، او لا ، فلا يصح جعل (البراعة) علة
للعطف المذكور.
فكان الاولى ان
يقال : و (علم) تخصيص بعد التعميم ، وذكر الخاص رعاية لبراعة الاستهلال.
اجيب عن ذلك :
بان عطف الخاص على العام ، مستلزم : لذكر الخاص ، فالتعليل بالعطف المذكور ،
بالنظر الى ذلك الاستلزام.
ورد هذا الجواب
: بانه انما يتم بالنسبة للعلة الاولى ، المعطوف عليها ، ولا يتم بالنسبة للعلة
الثانية ، المعطوفة.
وذلك لأن
التنبيه على فضيلة نعمة (تعليم البيان) انما يحصل بملاحظة العطف ، لا بمجرد ذكر
الخاص.
واجيب : بأن
ملاحظة العطف ، انما هي سبب للتنبيه على زيادة الفضيلة ، لا للتنبيه على أصل
الفضيلة ، اذ التنبيه على أصلها ، يحصل بمجرد ذكر ذلك الخاص.
سلمنا : ان
التنبيه على فضيلة نعمة (تعليم البيان) انما يحصل بملاحظة العطف ، فنقول : لا يبعد
ان يقال : معنى قوله : «عطف الخاص على العام» ذكره بعد العام بطريق العطف ، فهنا
شيئان ؛
الأول : ذكر
الخاص.
والثاني : ذكره
بعد العام.
فقوله : «رعاية»
علة للامر الأول.
وقوله : «وتنبيها
على جلالة نعمة البيان ، كما اشير اليه في قوله تعالى : خَلَقَ الْإِنْسانَ
عَلَّمَهُ الْبَيانَ» علة للامر الثاني.
ووجه كون ذكر
الخاص بعد العام تنبيها على ما ذكر : ما يأتي فى باب (الايجاز والاطناب) من ان ذكر
الخاص بعد العام للتنبيه على فضله ، اي : مزية (الخاص) حتى كأنه ليس من جنس العام
، تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي ، يعني ؛ لما امتاز الخاص عن سائر
افراد العام بما له من الأوصاف الشريفة ، جعل كأنه شىء آخر مغاير لسائر افراد
العام ، بحيث لا يشمله العام ولا يعرف حكمه منه ، بل يجب التنصيص عليه والتصريح به
نحو قوله تعالى : «حافِظُوا
عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى»
ونحو قوله : «قل مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ»
ونحوهما.
ووجه الاشارة :
في انه جل جلاله ، افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة تعليم البيان ، فلو كان بعد نعمة
الايجاد نعمة أعلى من ذلك التعليم لكانت اجدر بالذكر.
وقد قيل في وجه
التناسب بين الآي المذكورة في صدر هذه السورة المشتمل بعضها على خلق الانسان من
علق ، اعني ؛ كونه (علقة) وهي بمكان من الخساسة ، وآخر حاله ، وهي صيرورته (عالما
ذو بيان فصيح) وذلك كمال الرفعة والجلالة.
فكأنه تعالى
قال ؛ كان الانسان في اول حاله في تلك المنزلة الدنية الخسيسة ، ثم صار يفضل
نعمتنا الى هذه الدرجة الرفيعة الشريفة النفسية
هذا كله مبني
على ما فهمه القوم من ظاهر كلام الشارح. ولكن التحقيق ـ حسب ما يؤدي اليه النظر
الدقيق ـ خلاف ما فهموه ، اذ مراده من ذكر التعليلين ؛ (اللف والنشر المشوش) ناظرا
الى (علم) وما يتعلق به معنى ، اعني ؛ ما يأتي بعده من قوله : (ـ ومن ـ في من
البيان : بيان لقوله ما لم نعلم).
وبعبارة أوضح ؛
المعلل بالتعليلين ؛ مجموع كلام الماتن.
فالتعليل الاول
؛ راجع الى البيان المتعلق (بعلم) تعليقا معنويا والتعليل الثاني ؛ راجع الى نفس (علم)
فتأمل فانه دقيق ، وبالتأمل حقيق.
وانما (قدم)
لفظة البيان (عليه) اي ؛ على (مبينه) اعنى ما في (ما لم نعلم) رعاية للسجع وهو
مأخوذ من سجع الحمامة ،
وهديرها وترديدها صوتها تشبيها به ، لتكون على نمط واحد ، وهو كما يأتي في
علم (البديع ـ في المحسنات اللفظية ـ) قد يطلق على نفس الكلمة الأخيرة من الفقرة ،
باعتبار كونها موافقة للكلمة الأخيرة من الفقرة الاخرى ، وقد يطلق على توافق آخر
الكلمتين من النثر على حرف واحد ، وهو في النثر كالقافية في الشعر ، وهو لفظ في
آخر الأبيات اما الكلمة برأسها ، او الحروف الأخيرة منها ، او الحرف الذي يليه حرف
الآخر منها.
و (السجع) مبني
على سكون حرف الآخر ، لأن الغرض من السجع توافق الفواصل ، ولا يتم ذلك في كل مقام
الا بالوقف والبناء على السكون كقولهم : ما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت.
فانه لو اعتبر
الحركة لفات السجع ، لفتح التاء بلا تنوين في الاول وسكونها مع التنوين في الثاني
، وهذا غير جائز في القافية ، ولا واف بالغرض منها ، اعنى : توافق الفاصلة.
واذا رأيتهم
يخرجون الكلم عن أوضاعها اللغوية لحفظ القافية ، مع ان فيه ارتكابا لما يخالف
اللغة ، نحو : اخذ ما قدم وما حدث ـ بكسر الدال ـ والأصل الفتح ، فما ظنك بهم في
ذلك؟
ولا يقال : (في
القرآن الاسجاع) تأدبا لأن السجع ـ كما تقدم ـ : هدير الحمامة ، بل يقال : فيه
الفواصل.
فعلى هذا : لا
بد من ان يقال : ان (السجع) هو مجموع الكلمة الأخيرة من الفقرة ، لا الحرف الأخير
ـ على ما هو المشهور بينهم ـ فتأمل. اذ لا يقال : (الفاصلة) الا لها.
قال في ـ المثل
السائر ـ (المسجع) حده : ان يقال : تواطؤ
(الفواصل) في الكلام المنثور ، على حرف واحد.
وقد ذمه بعض
أصحابنا من أرباب هذه الصناعة ، ولا أرى لذلك وجها سوى عجزهم ان يأتوا به ، والا
فلو كان مذموما لما ورد في (القرآن الكريم) فانه قد اتى منه بالكثير ، حتى انه
ليؤتى بالسورة جميعا مسجوعة : كسورة (الرحمن) وسورة (القمر) وغيرهما.
وبالجملة : فلم
تخل منه سورة من السور ، فمن ذلك :
قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ لَعَنَ
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً* خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً».
وكقوله تعالى ـ
في سورة طه ـ : «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ
الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى * الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى * وَإِنْ
تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى * اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى».
وكذلك قوله
تعالى ـ في سورة ق ـ : «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ* أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ».
وكقوله تعالى
: «وَالْعادِياتِ
ضَبْحاً* فَالْمُورِياتِ قَدْحاً* فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً».
وأمثال ذلك
كثيرة ، وقد ورد على هذا الاسلوب من كلام النبي (ص) شيء كثير ـ ايضا ـ.
فمن ذلك : ما
رواه ابن مسعود ، قال : قال رسول الله (ص) :
استحيوا من الله حق الحياء.
قلنا : انا
لنستحي من الله يا رسول الله.
قال (ص) : ليس
ذلك ، ولكن الاستحياء من الله : ان تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وتذكر
الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا.
ومن ذلك : ما
رواه عبد الله بن سلام ، فقال : لما قدم رسول الله (ص) فجئت في الناس لأنظر اليه ،
فلما تبينت وجهه علمت انه ليس بوجه كذاب ، فكان اول شىء تكلم به ، ان قال : ايها
الناس ، أفشوا السّلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا
الجنة بسلام.
وقال ـ ايضا ـ فان
قيل : فاذا كان (السجع) أعلى درجات الكلام كما ذهبت اليه ، فكان ينبغي ان يأتي
القرآن كله مسجوعا ، وليس الأمر كذلك ، بل منه المسجوع ، ومنه غير المسجوع.
قلت ـ في
الجواب ـ : ان اكثر القرآن مسجوع ، حتى ان السورة لتأتي جميعها مسجوعة ، وما منع
أن يأتي القرآن كله مسجوعا ، الا انه سلك مسلك الايجاز والاختصار ، والسجع لا
يؤاتي في كل موضع من الكلام على حد الايجاز والاختصار ، فترك استعماله في جميع
القرآن لهذا السبب.
وهاهنا وجه آخر
، هو اقوى من الأول ، ولذلك ثبت ان المسجوع من الكلام أفضل من غير المسجوع ، لأن
ورد غير المسجوع معجزا ابلغ في باب الاعجاز من ورود المسجوع. أجل ذلك تضمن القرآن
القسمين جميعا انتهى.
وسيأتي للسجع
احكام اخر ، في محله في علم البديع ـ انشاء
الله تعالى ـ.
(والصلاة) قيل
: هي بمعني الدعاء ، اي : طلب (الرحمة) واذا اسند الى الله تعالى ، تجرد عن معنى
الطلب ، ويراد به (الرحمة) مجازا ـ من باب استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء ـ.
وقيل : هي
بمعنى اظهار الشرف ، ولو مجازا ـ من باب استعمال اللفظ الموضوع للملزوم في اللازم
ـ كقوله : وبات على النار الندى والمحلق كما في (المغنى) في بحث ـ على ـ وفي (المعالم)
ويظهر من اتيانهم ب (لو) الوصلية ، ان في المقام قول بكون (الصلاة) مشتركة ، بين
الدعاء والرحمة ، وغيرهما.
قال في المصباح
: قيل : الصلاة في اللغة مشتركة ، بين الدعاء ، والتعظيم ، والبركة ، والرحمة.
انتهى.
قال ابن هشام ـ
في الباب الخامس ـ : الصواب عندي : ان (الصلاة) لغة ، بمعنى واحد : وهو (العطف) ثم
العطف بالنسبة الى الله تعالى : (الرحمة) والى الملائكة : (الاستغفار) والى
الآدميين : (دعاء بعضهم لبعض).
واما قول
الجماعة فبعيد من جهات :
احداها :
اقتضاؤه الاشتراك ، والاصل عدمه ، لما فيه من الالباس حتى ان قوما نفوه ـ لادلة
ذكروها في محله ـ ثم المثبتون له يقولون : متى عارضه غيره مما يخالف الاصل :
كالمجاز ، قدم عليه ـ لما قالوه في باب تعارض الاحوال ـ.
الثانية : انا
لا نعرف في العربية فعلا واحدا يختلف معناه باختلاف
المسند اليه ، اذا كان الاسناد حقيقيا.
الثالثة : ان (الرحمة)
فعلها متعد ، و (الصلاة) فعلها قاصر ، ولا يحسن تفسير القاصر بالمتعدي (فتأمل).
الرابعة : انه
لو قيل : مكان (صلى عليه) ، (دعا عليه) انعكس المعنى ، وحق المترادفين : صحة حلول
كل منهما محل الآخر. انتهى.
ونظير قوله ،
قول بعضهم ـ حيث قال ـ : (الصلاة) كلها وان توهم خلاف معانيها ، راجعة الى أصل
واحد ، فلا تظنها (لفظة اشتراك) ولا (استعارة) وانما معناها (العطف) ويكون محسوسا
ومعقولا.
وليعلم ان
حملها بالنسبة اليه تعالى على (الرحمة) لا يتأتى على وجه الحقيقة ، اذ (الرحمة)
حقيقة في (القلب) .. انتهى.
فمن حملها
بالنسبة اليه تعالى على (الرحمة) انما اراد معناها الذي يليق به عز شأنه ، وهو :
افاضة الخير والاحسان.
وقد ذكر بعض
الاصوليين ـ في الرد على من استدل منهم : على جواز استعمال المشترك في أكثر من
معنى ، بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) .. الآية» على استعمال المشترك في اكثر من معنى : ان
سياق الآية لايجاب اقتداء المؤمنين بالله تعالى والملائكة في الصلاة على النبي (ص)
، فلا بد من اتحاد معنى الصلاة في الجميع : لأنه لو قيل : ان الله يرحم النبي ،
والملائكة يستغفرون له ، يا ايها الذين آمنوا ادعوا له.
لكان هذا الكلام
في غاية الركاكة.
فعلم : انه لا
بد من اتحاد معنى الصلاة ، حقيقيا كان المعنى ، أم مجازيا.
اما الحقيقي :
فهو الدعاء من غير ان يجرد عن الطلب ، فالمراد ـ والله اعلم ـ : ان الله يدعو ذاته
بايصال الخير الى النبي (ص) ، ثم من لوازم هذا الدعاء (الرحمة).
فالذي قال : ان
(الصلاة) من الله (الرحمة) فقد أراد هذا ، لا ان الصلاة وضعت للرحمة ، كما ذكر في
قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ).
ان المحبة من
الله تعالى : ايصال الثواب ، ومن العبد الطاعة.
كما اشير هذا
في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي ...) وليس المراد : ان المحبة مشتركة من حيث الوضع ، بل
المراد : انه اريد بالمحبة لازمها ، و (اللازم) من الله تعالى : ذاك ، ومن العبد :
هذا.
واما المجازي ؛
فكارادة الخير ونحوه ، مما يليق بهذا المقام.
ثم ان اختلف
ذلك المعنى باختلاف الموصوف ، فلا بأس به ، ولا يكون هذا من باب الاشتراك ، بحسب
الوضع.
ولما بينوا
اختلاف المعنى باعتبار اختلاف المسند اليه ، يفهم منه : ان معناه واحد. لكنه يختلف
بحسب الموصوف. لا ان معناه مختلف وضعا.
وفي الكشاف ـ عند
قوله تعالى ـ : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).
ان الصلاة :
الحنو والعطف ، فوضعت موضع الرأفة ، وجمع بينها وبين الرحمة ، كقوله تعالى : (رَأْفَةً وَرَحْمَةً ورَؤُفٌ
رَحِيمٌ).
وكان الاولى ان
يضيف (السّلام) الى ذلك. امتثالا لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وحذرا من كراهة
افراد احدهما عن الآخر ، ولو خطأ على رأي.
واما كلمة (على)
: فهي للاستعلاء المعنوي ، والاضافة في (سيدنا محمد) : ليس للتخصيص : لأنه (ص) (سيد
الكونين) فالاضافة فيه لتعظيم شأن (المضاف اليه) وافتخاره ، او (المضاف) على ما
يأتي ـ في باب تعريف المسند والمسند اليه ـ : من ان الاضافة قد تتضمن تعظيما لشأن (المضاف
اليه او المضاف) وغيرهما.
ثم (السيد) من
ساد قومه يسودهم سيادة ، فهو سيد ، ووزنه (فيعل) وأصله (سيود) قلبت الواو ياء
وادغمت في الياء.
ويطلق على الذي
يفوق قومه ، ويرتفع قدره ، وعلى الحليم الذي لا يستفزه غضبه ، وعلى الكريم ، وعلى
المالك ، والجميع صادق عليه ص و (محمد) علم منقول من اسم مفعول (حمد) بالتشديد ،
سمى (ص) بذلك لكثرة خصاله المحمودة ، لأنه علي خلق عظيم ، قال حسان :
وشق له من
اسمه ليجله
|
|
فذو العرش
محمود وهذا محمد
|
ولفظة (خير) قيل
ـ في امثال المقام ـ : انه منصوب بعامل محذوف وجوبا ، بناء على انه نعت مقطوع ،
واصله أخير ـ على قول ـ واضافته معنوية.
قال في (التصريح)
: اضافة أفعل التفضيل محضه عند الأكثرين خلافا لابن السراج ، والفارسي ، وابي
البقاء ، والكوفيين. وجماعة من المتأخرين ؛ كالجزولي ، وابن أبي الربيع ، وابن
عصفور ، ونسبه الى سيبوية ، وقال : انه الصحيح.
بدليل قولهم :
مررت برجل أفضل القوم ، ولو كانت اضافة محضة ، لزم وصف النكرة بالمعرفة ، وان
المخالف خرج
ذلك على البدل ، فيكون من بدل المعرفة من النكرة .. إنتهى.
وقال بعضهم :
انه في ـ أمثال المقام ـ منصوب على الحالية ، نظرا الى كون اضافته (لفظية) كما
قاله الجماعة.
والمراد من (من
نطق بالصواب) : الأنبياء والمرسلين ، وأوصياءهم المرضيين ، عليهم صلوات الله رب
العالمين.
وهذا (دعاء
للشارع) الأمين (ص) ، الذي هو (المقنن للقوانين) بأمر الملك الحق المبين ذي القوة
والعرش المكين.
(وافضل من اوتي
الحكمة) اشارة الى القوانين ، لان (الحكمة) هي : علم الشرايع ـ على ما فسر في
الكشاف ـ سواء كان متعلقه اصول الدين والشريعة ، ام فروعه.
وبعبارة أوضح :
سواء كان علمية او عملية.
والاول : من
حيث انه يبحث فيه من احوال (المبدأ والمعاد) على نهج قانون الاسلام ، يسمى : (حكمة
نظرية) : لأنه يحتاج الى دقة النظر ، وحيرة الفكر ، كما هو معلوم عند اولي الألباب
والبصر.
وقد يسمى (علما
إلهيا) من باب تسمية الشيء باسم اشرف اجزائه.
والثاني : من
حيث انه يؤدي الى اصلاح المعاش والمعاد ، يسمى : (حكمة عملية).
واما علم
بمصالح شخص بانفراده ، ليتحلى بالفضائل ، ويتخلى عن الرذائل ، ويسمى : (تهذيب
الأخلاق) ، ويدخل في هذا القسم : الواجبات الدينية ، بل المالية ، على احتمال قوي.
واما علم
بمصالح جماعة متشاركة في المنزل ، كالوالد والمولود والمالك والمملوك ، ويسمى : (تدبير
المنزل) ، وهذا القسم شامل لأكثر
أبواب الفقه.
واما علم
بمصالح جماعة متشاركة في المدينة ، ويسمى : (السياسة المدنية) وقد يجعل هذا القسم
قسمين : نظرا الى ان (المدنية) قد تتعلق بالملك والسلطنة ، فيسمى : (علم السياسة)
وقد تتعلق بغير ذلك ، فتسمى : (علم النواميس) ، وهذا لا يصح عندنا.
وكيف كان ،
فالشريعة المقدسة تخرج النفوس الناقصة البشرية الى كمالها الممكن ، في جانبي العلم
والعمل ، لأنها يؤديهم الى اصلاح المعاش والمعاد ، وليست كالقوانين المنجعلة التي
تؤدي الى افسادهما ، كما نرى ونشاهد.
(ولفظ اوتي
تنبيه على انه) اي : الحكمة وعلم الشرايع.
(من عند ربه لا
من عند نفسه) لأنه : «ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحى».
(وترك الفاعل)
وناب عنه المفعول الأول ، لأن ذكر الفاعل عبث هنا بحسب الظاهر ، اذ القرينة دالة
عليه.
(لأن هذا الفعل)
اي : ايتاء الحكمة (لا يصلح) لأحد (الا لله) كما اشير الى هذا الحصر في قوله. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً ..) الآية.
(وفصل الخطاب)
عطف على الحكمة ، (اشارة الى المعجزة) اي : القرآن ، او مطلق المعجزة ، او البيان
الوافي لتبليغ الاحكام. كما اشير اليه في قوله تعالى ـ حكاية عن موسى (ع) ـ : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ
لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) وذلك لأن النبي مبعوث للانباء وبيان احكامه ، وهذا هو
الأقوى.
كما هو الظاهر
من قوله : (لأن الفصل التمييز ، ويقال للكلام البين : ـ فصل ـ بمعنى مفصول ، ففصل
الخطاب : البين من الكلام الملخص ، الذي يتبينه من يخاطب به ، ولا يلتبس عليه).
لا ان يتبينه
ويفهمه كل احد ، ولو لم يكن ممن يخاطب به ، وذلك لما بين في الاصول : من ان ما وضع
لخطاب المشافهة ، لا يعم بصيغته الغائبين عن مجلس الخطاب ، ولا من تأخر عن زمن
الخطاب ، او كان حاضرا ، ولكن لم يتوجه اليه الخطاب ، فان مقصود المتكلم الافادة ،
وتفهيم المخاطب وافهامه ، فلا يجب عليه الا القاء الكلام على وجه لا يقع المخاطب
معه في خلاف المراد ، بحيث لو فرض وقوعه فيه كان اما لغفلة من المخاطب في الالتفات
الى ما اكتنف به الكلام من القرائن ، واما لغفلة من المتكلم في القاء الكلام على
وجه يفى بالمراد.
وكلا هذين
الاحتمالين مدفوع : بانعقاد الاجماع من العلماء ، بل العقلاء كافة. على عدم
الاعتناء باحتمال الغفلة ، في جميع امور العقلاء فى اقوالهم وافعالهم.
واما اذا لم
يكن الشخص مقصودا بالتفهيم والافهام ، فوقوعه في خلاف المقصود ، لا ينحصر سببه في
الغفلة ، بل يمكن ان يكون السبب في ذلك خفاء القرائن الموجودة للمخاطب ، او عدم
فهمه اياها ، لعدم مساعدة فهمه لذلك لنقص فيه ، دون المخاطب.
كما اشير الى
ذلك في بعض الروايات ، حيث قال الامام (ع) لأحد علماء زمانه ، وسأله فقال (ع) : انت
فقيه اهل العراق؟
قال : نعم.
قال (ع) : فبأي
شيء تفتيهم؟
قال : بكتاب
الله وسنة نبيه (ص).
قال (ع) : تعرف
كتاب الله حق معرفته؟ وتعرف الناسخ من المنسوخ؟
قال : نعم.
قال (ع) : لقد
ادعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك الا عند أهل الكتاب ، الذين انزل عليهم.
ويلك! ولا هو
الا عند الخاص من ذرية نبينا محمد (ص) ، وما ورثك الله من كتابه حرفا.
وكذا ما في
رواية اخرى ، حيث قال الامام (ع) ـ لرجل آخر ـ :
انت فقيه أهل
البصرة؟.
فقال الرجل :
هكذا يزعمون.
فقال (ع) :
بلغني انك تفسر القرآن؟
قال : نعم.
الى ان قال (ع)
: ان كنت فسرت القرآن من تلقاء نفسك ، فقد هلكت وأهلكت.
وان كنت فسرته
من الرجال ، فقد هلكت وأهلكت.
ويحك! انما
يعرف القرآن من خوطب به.
وبهذا القدر
كفاية لمن كان له بصيرة ودراية ، والا فبهذا المضمون روايات كثيرة ، ربما تبلغ حد
التواتر ، ما تعرضت لنقلها ، لئلا يلزم من ذكرها ، الخروج عما هو المقصود في
المقام ، من فهم العبارة.
فاذا لا تغتر
بما يقوله بعض الملاحدة الكفرة والمشككين الفجرة من ان في القرآن تعقيدا ، حيث لا
يفهه ولا يدرك ما اريد منه.
وقد يجاب عن
ذلك : بانه لا يجب ان يكون كل كلام اوتيه النبي مبينا ، فلا ترد المتشابهات
ونظائرها ، فتأمل.
(او بمعنى فاصل)
فيكون من قبيل كون المصدر بمعنى اسم الفاعل ، ومن اضافة الصفة الى موصوفه.
(اي الفاصل من
الخطاب) اي : الخطاب الفاصل ، (الذي يفصل بين الحق والباطل) في العقائد ، (والصواب
والخطأ) في الاعمال والاقوال.
قال في (المصباح)
: فصلته عن غيره فصلا ، من باب ـ ضرب ـ نحيته ، او قطعته ، فانفصل ، ومنه فصل
الخصومات ، وهو الحكم بقطعها ، وذلك فصل الخطاب.
ويأتي عن قريب
معنى آخر له.
(ثم دعا لمن
علون الشارع في تنفيذ الاحكام وتبليغها الى العباد بقوله : وعلى آله).
قد ذكرنا في
المكررات : ـ انه لا خلاف لأحد في معناه المراد في أمثال المقام.
فقيل : هو
اقاربه المؤمنون من بني هاشم ، والمطلب ، وبنى عبد مناف ، والقائل بذلك نظر الى
تحريم الصدقة عليهم.
وقيل : عترته
المعصومون ، والقائل بذلك ، نظر الى مناسبة المقام واقترانهم به (ص) فان المناسب
في امثال المقام ـ وهو التعظيم والدعاء ـ ان يقال : معناه الذين اذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا.
(واصله اهل)
كما يأتي عن قريب ، في بحث مخالفة القياس.
(بدليل) تصغيره
على (اهيل).
لأن التصغير
يرد الأشياء الى اصولها ، فابدلت الهاء همزة ، ثم ابدلت ـ ألفا ـ.
(خص استعماله)
اى : (آل) في كلامهم : بان لا يضاف الا الى (الاشراف ، ومن له خطر ديني ، كما في
المقام او دنيوي ، كآل فرعون ، وامثاله ، فلا يضاف الى من لا خطر له ، كالجذار
والحداد والكناس ، ولو كانوا مسلمين ، او من الاغنياء المتمولين فتأمل).
وعن الكسائي :
سمعت اعرابيا فصيحا يقول : اهل واهيل وآل واويل.
فليس أهل اصله
، ولا اهيل تصغيره.
قال ـ في شرح
النظام ـ في باب (الابدال) : و (الألف) تبدل من الهاء ، في (آل) على رأي ، فان
اصله عند البصريين (اهل) انتهى.
هذا بعض الكلام
في المقام ، وسيأتي بالتمام ـ انشاء الله تعالى ـ عند الكلام في مخالفة القياس.
(الاطهار : جمع
طاهر) على ما في القاموس ، قال : الطهر ـ بالضم ـ : نقيض النجاسة ، كالطهارة ،
وطهر ـ كنصر ، وكرم ـ ، فهو طاهر وطهور والجمع : أطهار. انتهى.
ويظهر من (المصباح)
: انه جمع طهر ـ بالضم ـ : كقفل واقفال لا الطاهر.
وهذا أوفق
بالقواعد ، اذ لم يثبت جمع فاعل على أفعال عند بعض وقد يقال : ان مراد التفتازاني
: انه جمع طاهر ـ بحسب المعنى ـ
لكن ، لا يساعد عليه قوله : (كصاحب وأصحاب) فتأمل.
وللصاحب جمعان
آخران : هما (صحب) ـ بفتح الأول وسكون الثاني ـ : كسفر ، كما يأتي ـ انشاء الله ـ في
اوائل الباب الثاني و (صحابة).
قال في (المصباح)
، صحبته أصحبه صحبة ، فانا صاحب ، والجمع صحب ، وأصحاب ، وصحابة ، ومن قال : (صاحب
، وصحبة) فهو مثل (فاره) و (فرهة) انتهى.
والظاهر من هذا
التشبيه : ان صحبة ـ ايضا ـ جمع له ، لأن فرهة ـ بفتح الأول والثاني ـ جمع : فاره.
هذا ، ولكن
الظاهر : ان الصحابة في الاصل مصدر ، يقال : صحبه صحبة وصحابة ، اطلق على أصحاب
خير الأنام (ص) ، ولكنها أخص من الأصحاب ، لأنها لغلبة استعمالها في أصحاب الرسول (ص)
، صارت كالعلم لهم.
ولهذا نسب
الصحابي اليها بخلاف الأصحاب ، فيصدق بأي أصحاب كانوا.
ثم المختار عند
أهل الحديث : ان (الصحابي) كل مسلم رأى الرسول (ص). وقيل : وطالت صحبته ، وقيل :
وروى عنه.
والظاهر : ان
مراد المصنف هنا ، كل مسلم مميز ، صحب النبي (ص) ولو ساعة.
وكان أصحابه (ص)
ـ عند وفاته (ص) ـ : مائة الف واربعة عشر الف كلهم اهل رواية عنه (ص).
وفي قول المصنف
(الاطهار) : التلميح لقوله تعالى : «إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»
كما ان في قوله
: (وصحابته الأخيار) التلميح لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) بناء على ان الخطاب خطاب مشافهة لا يشمل المعدومين في
زمن الخطاب ، كما ذكرنا سابقا ، ولقوله (ص) : خيركم قرني.
وقد تبين بما
قلناه : من التلميح للآيتين والحديث ، وجه تخصيص (الآل) بالوصف بالأطهار ، وتخصيص (الأصحاب)
بالوصف بالاخيار.
وهو (جمع خير
بالتشديد) صفة مشبهة ، لا بالتخفيف ، لما في القاموس : من ان المخففة في الجمال
والميم والمشدد في الدين والصلاح.
وقريب من ذلك :
ما في (المصباح) قال : وامرأة خيرة ـ بالتشديد والتخفيف ـ اي : فاضلة في الجمال
والخلق ، ورجل خير ـ بالتشديد ـ اي : ذو خير ، وقوم اخيار ، قيل : انما قيد (بالتشديد)
احترازا عن (خير) المخفف من اخير ، فانه لا يثنى ولا يجمع في مثل المقام ، كما ثبت
في النحو هذا الكلام ، فتأمل جيدا.
(اما بعد) هذا
اللفظ ـ ايضا ـ يسمى عندهم (فصل الخطاب) قال الشارح ـ في علم البديع ، فى أواخر
بحث حسن التخلص ـ : قيل : هو اي : قولهم ـ بعد حمد الله ـ : اما بعد ، فصل الخطاب
قال ابن الأثير : والذي اجمع عليه المحققون من علماء البيان ، ان (فصل الخطاب) هو
: (اما بعد) لأن المتكلم يفتتح كلامه في كل أمر ذي شأن ، بذكر الله تعالى وبتحميده
، فاذا أراد ان يخرج منه الى الغرض المسوق اليه ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله :
اما بعد ، انتهى.
قيل : اول من
قالها سحبان وائل ، كما قال :
لقد علم الحى
اليمانون انني
|
|
اذا قيل اما
بعد اني خطيبها
|
هذا هو المشهور
، ولكن قال في (المزهر) :
اول من قالها ،
كعب بن لوي ، وهو اول من سمى يوم الجمعة (الجمعة) وكان يقال لها (العروبة) وقال في
موضع آخر :
اول من قالها
قيس بن ساعدة الأيادي.
(اصله : مهما
يكن من شيء بعد الحمد والثناء) وكان هنا تامة ، بمعنى يوجد ، فاعله الضمير المستقر
فيه ، ويمكن ان يكون فاعله من شيء ، على جعل من زائدة على قول من يجعل الشرط بحكم
غير الموجب وعلى الاول : من شىء ، حال لفاعل كان ، والمراد من الأصل هنا : (ما) حق
الكلام ان يكون عليه ، لا ان (اما) كان في الأصل (مهما) فتأخر الميم الأولى عن
الهاء ، وادغمت الميم في الميم ، ثم ابدلت الهاء همزة ، وقدم لكونها في الجملة
لصدر الكلام ، اي : اذا كانت استفهاما ولأن الهاء من اقصى الحلق ، فلا يناسبها
الوسط ، وان كانوا يذكرون هذا النقل والاعلال فيها.
وكذلك ليس
اصلها ما ننقله بعيد هذا ، وذلك : لأن الحرف ليس قابلا للتصرف والاعلال ، كما بين
في الصرف ، ولا قابلا بان ينقلب من الاسم ، كما بينا في المكررات.
وليس المراد ـ ايضا
ـ : ان الكلام كان بهذا النحو من التطول ثم اختصر ، بل المراد : ان هذه اللفظة
تؤدي معنى ذلك الطول ، كما يدل على ذلك قوله :
(فوقعت كلمة
اما موقع اسم هو المبتدأ) وهو كلمة (مهما)
واختلف في اسميتها ، وكذلك في ابتدائيتها ، بعد القول باسميتها.
قال ابن هشام :
(مهما) اسم لعود الضمير اليها ، في قوله تعالى : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ
مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها).
وقال الزمخشري
وغيره : عاد عليه ضمير (به) وضمير (بها) حملا على اللفظ وعلى المعنى ، انتهى.
والاولى : ان
يعود ضمير (بها) على الآية ، وزعم السهيلى انها تأتي حرفا بدليل قوله :
ومهما تكن
عند امرء من خليقة
|
|
وان خالها
تخفى على الناس تعلم
|
قال : فهي حرف
بمنزلة (ان) بدليل : انها لا محل لها ، وتبعها ابن يسعون ، واستدل بقوله :
قد اوبيت كل
ماء فهى ضاربة
|
|
مهما تصب
افقا من بارق تشم
|
قال : اذ لا
تكون مبتدءا ، لعدم رابط من الخبر ، وهو فعل الشرط ولا مفعولا ، لاستيفاء فعل
الشرط مفعوله ، ولا سبيل الى غيرهما ، فتعين انها لا موضع لها.
والجواب : انها
في الأول : اما خبر (تكن) ، و (خليقة) اسمها و (من) زائدة ، لأن الشرط غير موجب
عند ابي علي.
واما مبتدأ ،
واسم (تكن) ضمير راجع اليها ، والظرف خبر ، و (انت) ضميرها ، لأنها الخليقة في
المعنى.
ومثله : ما
جاءت حاجتك ، فيمن نصب حاجتك ، ومن خليقة تفسير للضمير ، كقوله :
لما نسجتها من جنوب وشمأل
وفي الثاني :
مفعول تصب ، وافقا ظرف ، ومن بارق تفسير لهما ،
او متعلق بتصب ، فمعناها التبعيض.
والمعنى : اي
شيء تصب في افق من البوارق تشم.
وقال بعضهم : (مهما)
ظرف زمان ، والمعنى : اي : وقت تصب بارقا من افق ، فقلب الكلام (او في افق بارقا)
فزاد (من) واستعمل افقا ظرفا ، انتهى.
وسيأتي ان (مهما)
لا تستعمل ظرفا ، وهي بسيطة لا مركبة من (مه) و (ما) الشرطية ، ولا من (ما)
الشرطية و (ما) الزائدة ، ثم ابدلت الهاء من الألف الاولى رفعا للتكرار ، خلافا
لزاعمي ذلك ، ووقعت ـ ايضا ـ موقع (فعل) اي : تكن الذي (هو) فعل (الشرط) فوقعت
موقع شيئين.
(وتضمنت
معناهما) ليس المراد من التضمين معناه المعروف اي : دخول معنى شيء في شيء على ما
بيناه في المكررات ، في باب حروف الجر ، بل المراد منه المعنى الأخير الذي ذكرناه
هناك.
والى هذا اشار
ابن هشام ، حيث قال ـ نقلا عن الزمخشري ـ : فائدة ، (اما) في الكلام : ان تعطيه
فضل توكيد ، تقول : زيد ذاهب ، فاذا قصدت توكيد ذلك ، وانه لا محالة ذاهب ، وانه
بصدد الذهاب ، وانه منه على عزيمة ، قلت لا اما زيد فذاهب.
ولذلك قال
سيبويه ـ في تفسيره ـ مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، فهذا التفسير مدل بفائدتين :
بيان كونه تأكيدا ، وانه في معنى الشرط ، (فلتضمنها معنى الشرط) الذي في مهما ، (لزمتها
الفاء اللازمة للشرط غالبا) وهو فيما كان الجزاء مما امتنع جعله شرطا ، كما قال في
الألفية :
واقرن
بفاحتما جوابا لو جعل
|
|
شرطا لأن او
غيرها لم ينجعل
|
(ولتضمنها معنى الابتداء) الذي في (مهما)
على ما قدمناه.
(لزمها لصوق
الاسم اللازم للمبتدأ) بها ، اي : اسم كان هذا او غيره.
وذلك : لما ذكر
في (النحو) من ان الابتدائية من مختصات الاسم كما قال في الألفية :
بالجر
والتنوين والندا وأل
|
|
ومسند للاسم
تمييز حصل
|
حاصله : ان يقع
بعدها اسم متصل بها ، للفصل بينها وبين الفاء كراهة اتصال أداتي الشرط والجزء ،
كما ذكرناه في المكررات ، في بحث (اما) ، ولتحقق ما هو المتعارف عندهم ، من ان حيز
ما وجب حذفه ، ينبغي ان يشتغل بشيء آخر ، قائم مقام المحذوف ، وذلك احد امور ستة ،
ذكرها ابن هشام :
الأول :
المبتدأ نحو : (أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ) و (أَمَّا الْغُلامُ) و (أَمَّا الْجِدارُ) الآيات :
الثاني : الخبر
، نحو : اما في الدار فزيد ، وزعم الصفار : ان الفصل به قليل.
الثالث : جملة
شرطية ، نحو. (فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ.)
الرابع : اسم
منصوب لفظا او محلا بالجواب ، فحو : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ)
الخامس : اسم
كذلك معمول لمحذوف ، يفسره ما بعد الفاء ، نحو : اما زيدا فاضربه.
السادس : ظرف
معمول (لاما) لما فيها من معنى الفعل الذي نابت عنه ، او للفعل المحذوف ، نحو :
اما اليوم فاني ذاهب ، واما في الدار
فان زيدا جالس.
ولا يكون
العامل (ما) بعد (ان) لان خبر ان لا يتقدم عليها ، فكذلك معموله.
ولا يذهب عليك
، انه قد ظهر مما ذكر : ان قوله : «لصوق الاسم ليس على ما ينبغي» وكذلك ما يأتي في
الباب الرابع ـ في نفس هذه المسألة ـ من قوله : «ولذا يقدم على الفاء» من اجزاء
الجزاء المفعول ، والظرف ، وغير ذلك من المعمولات ، اذ الفاصل في بغض الصور ليس
باسم ، وفي بعضها الآخر ليس من اجزاء الجزاء ، فتدبر جيدا.
وانما حكم
بلزوم اتيان (الفاء) والفصل بما ذكر ، (قضاء) اي : اداء (لحق ما كان) من الشرطية ،
والاسمية ، اللتين كانتا في (مهما).
(وابقاء له) اي
: ما كان (بقدر الامكان ، وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في احوال متعلقات الفعل) انشاء
الله تعالى.
(فلما كان)
اعلم : ان (لما) عندهم على ثلاثة أوجه :
احدها :
الجازمة المختص بالدخول على المضارع ، فتنفيه وتقلبه ماضيا ـ كلم ، وتفارقها بامور
خمسة :
احدها : انها
لا تقترن بأداة الشرط ، بخلاف (لم) لا يقال : «ان لما يقم» كما يقال : «ان لم يقم»
وفي التنزيل : «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا»
و «إِنْ لَمْ تَفْعَلْ».
الثاني : ان
منفيها مستمر الى زمان التكلم ، بخلاف (لم) فان منفيها يحتمل الاستمرار وعدمه.
الثالث : ان
منفيها قريب من زمان الحال دائما او غالبا ، بخلاف
منفي (لم) تقول : «لم يكن زيد في العام الماضي في المدرسة»
ولا يقال : «لما
يكن .. الخ».
الرابع : ان
منفيها يتوقع وقوعه ، نحو : (لَمَّا يَذُوقُوا
عَذابِ) بخلاف منفي (لم) نحو : (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ..) الآية فتأمل.
الخامس : ان
منفيها جائز الحذف لقرينة ، بخلاف منفي (لم).
يقال : «وصلت
الى الكوفة ولما» اي «لما ادخلها».
ولا يقال : «وصلتها
ولم».
كل ذلك : لما
اشتهر عندهم : من ان زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، او لقولهم : ان (لما)
لنفي (قد فعل) و (لم) لنفى (فعل).
بيان ذلك : ان
العلة في الأول :
ان (فعل) يقع
شرطا ، و (قد فعل) لا يقع شرطا ، فكذلك نفيهما اعني : (لم يفعل) و (لما يفعل).
وفي «الثاني
والثالث» : ان (قد فعل) اخبار عن الماضي المتصل القريب من الحال ، فنفيه كذلك.
و (فعل) ليس
كذلك ، فنفيه ـ ايضا ـ ليس كذلك.
وفي الرابع :
ان (قد فعل) يفيد التوقع ، كقولنا : قد قامت الصلاة ، بخلاف (فعل) فنفيهما كذلك.
والخامس : ان (قد)
يجوز حذف مدخولها ، فكذلك مدخول (لما).
الثاني من اوجه
(لما) : ان تكون حرف استثناء ، فتدخل على الجملة الاسمية ، نحو : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها
حافِظٌ) ونحو : (وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) على قول.
والثالث من
اوجهها : ان تكون اسما ، تقتضى جملتين.
تضاف الى
اولاهما ـ كما في المقام ـ فان الجملة الاولى هنا : كان مع متعلقاتها.
والثانية : ما
يأتى من قوله : «الفت مختصرا».
وهي حينئذ (ظرف
بمعنى اذا) وقيل : والأحسن ان يقال : بمعنى (اذ) بدليل اختصاصها بالاضافة الى
الجملة الماضوية.
وكيف كان تسمى
حينئذ (حرف وجود لوجود) وقد يقال : (حرف وجوب لوجوب).
وذلك : لأنها
تدل على ان الجملة الثانية ، وجدت عند وجود الاولى وهذا هو المراد بقوله : (تستعمل
استعمال الشرط) اي تقتضي جملتين كأداة الشرط ، لا انها اداة شرط ، لأن الأداة انما
هو القسم الأول منها ، الجازم للمضارع.
واستشكل على
اسميتها وما ضويتها ، بنحو : «لما اكرمتني امس اكرمتك اليوم».
لأنها : اذا
كانت اسما ظرفا لزمان الماضى ، فالعامل فيها الجواب ، والواقع في اليوم ، لا يكون
في امس.
وهذا نظير ما
استشكل في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ
فَقَدْ عَلِمْتَهُ) لأن الشرط لا يكون الا مستقبلا.
والجواب في
المقامين : ان التقدير : (ثبت) اي : ثبت اني اكرمتك اليوم ، وثبت اني قلته.
وليعلم : (لما)
هذه لا يكون الجملة الاولى فيها الا فعلا ماضيا ، لفظا ومعنى.
واما الجملة
الثانية فيها : التي تسمى جوابها.
فقد تكون فعلا
ماضيا كذلك ، نحو : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ).
وقد تكون جملة
اسمية مقرونة (باذا) الفجائية ، نحو : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ).
او مقترنة (بالفاء)
نحو : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ..) وقد تكون فعلا (مضارعا) لفظا (ماضيا) معنى نحو : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ
الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا ..) اي : جادلنا.
وقال بعضهم :
كالشارح ، لا (يليه) الا (فعل ماض لفظا) ومعنى كالآية الاولى ، (او) فعل ماض (معنى)
فقط ، كالآية الأخيرة.
واجيب على هذا
: عن الآية الثالثة :
بان الجواب
فيها محذوف ، اي : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد.
ومنه يعلم
الجواب عن الثانية.
واما الرابعة :
فيما اشرنا اليه.
وقد يجاب عنها
: بان الجواب فيها جائته البشرى ، بناء على زيادة (الواو) ، او محذوف ، اي : اقبل
يجادلنا.
(قال سيبويه) :
كلمة (لما ، لوقوع أمر) اي : شيء ، اي : الجواب ، وهو الجملة الثانية : (لوقوع
غيره) اي : الجملة الاولى.
(وانما يكون
مثل لو) الشرطية ، فانها ـ ايضا ـ لتعليق وقوع أمر ، اى : الجزاء على وقوع غيره ،
اي : الشرط ، كما يأتي في الباب الثالث ـ انشاء الله تعالى ـ.
(فتوهم منه) اي
: من هذا الكلام ، وتشبيه (لما) (بلو) الشرطية
(بعضهم : انه) اي : (لما) ـ ايضا ـ (حرف شرط ك ـ لو ـ) ولا فرق بينهما ، (الا
ان ـ لو ـ لانتفاء الثاني) اي : الجزاء (لانتفاء الأول) اي : شرطه ، وكلمة (ـ لما
ـ لثبوت الثاني) اي : الجواب (لثبوت الأول) اي : الجملة الاولى.
واستدل هذا
المتوهم على حرفيتها ، بقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ ..) الآية.
لأنها : لو
كانت اسما ، لاحتاجت الى عامل ، ولا يمكن ان يكون العامل (قضينا) لانها : عند
القائلين باسميتها ، ظرف مضاف الى قضينا والمضاف اليه ، لا يعمل في المضاف.
ولا يجوز ان
يكون العامل فيه (دل) : لأن (ما) النافية لها الصدارة ، وما له الصدارة لا يعمل ما
بعده فيما قبله.
وليس في الآية
ما يعمل فيها ، غيرهما ، واذا انتفى العامل ، انتفت «الاسمية» وثبتت «الحرفية» اذ
لا قائل بثالث فيها ـ في المقام ـ لعدم امكان القول بفعليتها.
هذا ، ولكن هذا
الوجه خطأ (والوجه) الصحيح (ما تقدم) ، اعنى : كونها (اسما) تستعمل استعمال (اذا) و
(اذ) لأنها : ظرف للزمان الماضي ، بدليل ما اشرنا اليه انفا.
وقيل : انها
بمعنى (حين) فلا يلزمها الاضافة فتامل.
والجواب عن
الآية بوجهين :
الاول : اختيار
كون العامل فيها (قضينا) لأنها ـ عند القائلين باسميتها ـ : غير مضافة ، كما قيل
بذلك : في (اذا).
قال ابن هشام :
في ناصب (اذا) مذهبان :
احدهما : انه
شرطها ، وهو قول المحققين ، فيكون بمنزلة (متى) و (حيثما) و (ايان).
وقول أبى
البقاء : انه مردود : بأن المضاف اليه ، لا يعمل في المضاف غير وارد ، لأن (اذا) ـ
عند هؤلاء ـ غير مضافة ـ كما يقوله الجميع ـ اذا جزمت ، كقوله :
استغن ما
اغناك ربك بالغنى
|
|
واذا تصبك
خصاصة فتجمل
|
انتهى. قيل :
هذا الجواب مخالف لكلامهم ، اذ كل من قال بظرفيتها ، قال : انها تضاف لجملة فعلية
ما ضوية ـ وجوبا ـ.
والوجه الثاني
: ان العامل فيها : جوابها. وهو : (دل) : لأن الظروف ، يتوسع فيها ما لا يتوسع في
غيرها ، فلا مانع من ان يعمل ما بعد (ما) النافية فيها ، كما عمل ما بعد (لا) في (يوم)
من قوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) فتأمل.
(علم البلاغة)
علم يوجب الاقتدار على اداء المطالب ، وبيان المقاصد ، كما يقتضيه المقام ، بحيث
يتضح المرام ، على مقدار استعداد المخاطب في الاستفادة عن الكلام.
واليه اشير في
قوله تعالى ـ حكاية ـ : (رَبِّ اشْرَحْ لِي
صَدْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) حيث طلب موسى (ع) من الله تعالى : القدرة على بيان ما
أمره الله تعالى بتبليغه ، نازلا عن المقام النبوية الرفيعة ، الى مرتبة يقتدر على
التكلم على مقدار افهام المرسل اليهم ، والدليل على ذلك : قوله : (يَفْقَهُوا قَوْلِي) فتبصر.
و (هو) يحصل من
الاقتدار على فنين : الاول : ـ علم المعاني ـ والثاني : ـ علم البيان ـ.
(و) قد يحتاج
المتكلم الى (علم توابعها) ، اي : البلاغة.
و (هو) اي :
علم التوابع ، (البديع).
وسيجيء تعريف
كل في محله ـ انشاء الله تعالى ـ.
وسيجيء في آخر
المقدمة : انه قد يسمى الجميع (علم البيان) ، كما انه قد يسمى ـ البيان والبديع ـ (علم
البيان) وقد يسمى الجميع (علم البديع) ولكل وجه ، نذكره هناك ـ انشاء الله ـ.
(من أجل العلوم
قدرا) ـ بفتح الدال وسكونها ـ اي : منزلة ورتبة وحرمة.
قال في المصباح
: قدر الشيء ـ ساكن الدال والفتح ـ لغة ، مبلغه يقال. هذا قدر هذا وقدره ، اي :
مماثله ، ويقال : ماله عندي قدر ولا قدر ، اي حرمة. انتهى.
وهو تمييز عن
النسبة في (اجل) فيجب نصبه ، لانه محول عن الفاعل ، كما قال في الألفية :
والفاعل
المعنى انصبن بافعلا
|
|
مفضلا كأنت
اعلى منزلا
|
وعلامة هذا
القسم من التمييز ، ان يصح جعله فاعلا لفعل مكان أفعل التفضيل ، من لفظه ومعناه ،
كما في ما نحن فيه ، فانه يصح ان يقال : «علم البلاغة وتوابعها جل قدره» وقس عليه
قوله : (وادقها سرا) قال في المصباح : السر ما يكتم ، وهو خلاف الاعلان والجمع
أسرار.
والحاصل : ان
الأجل هو قدر علم البلاغة وتوابعها ، والادق سرها ومن دخول (من) التبعيضية ، يعلم
: انه ليس أجل العلوم جميعا ، بل من الطائفة التي تكون اجل العلوم.
فلا يستشكل :
بانه بأي وجه صار أجل جميع العلوم؟ مع ان في العلوم ما هو اجل منها : كعلم اصول
الدين ، والفقه.
و (لا حاجة) في
التفصي عن هذا الاشكال (الى تخصيص العلوم بالعربية) ، التي يبحث عن احوال اللفظ
العربي ، وهي يرتقى الى اثني عشر ، واصولها : «اللغة ، والصرف ، والنحو ، والمعانى»
وقد ذكرنا جميعها في اوائل الجزء الاول من المكررات.
حتى يصير
المعنى : ـ ان علم البلاغة وتوابعها ـ اجل العلوم العربية فقط لا غيرها ، وانما
قلنا : انه لا حاجة الى هذا التخصيص.
(لأنه لم يجعله)
اي : علم البلاغة وتوابعها (اجل جميع العلوم بل جعل طائفة من العلوم اجل مما سواها
، وجعله من هذه الطائفة.)
هذا كله بناء
على الاتيان بلفظة ـ من ـ كما في الكتاب ، واما اذا لم يؤت بها ، كما في عبارة
المفتاح ، فقد يوجه : بأنه اذا كانت وجوه الاعجاز لا تدرك الا بهذا العلم ـ كما
يأتي بعيد هذا ـ صدق انه أجل العلوم جميعا لتأديته الى تصديق النبي الموجب للفوز
بالسعادات الدنيوية والاخروية ، حسبما يأتي عن قريب ، فتأمل جيدا.
(مع ان هذا) اي
كونه من هذه الطائفة. (ادعاء منه) بلا ذكر سبب ودليل ، سوى ما يذكره بعيد هذا من
قوله : «اذ به يعرف الخ» وفي كونه كافيا لاثبات هذا الادعاء. نوع خفاء بل منع ،
فتامل.
(و) لكن (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) واعداء لما ليس عندهم ، لأنهم بالنسبة اليه جاهلون ،
وعن شرف مطلق العلم غافلون.
(اذ به ، اى :
بعلم البلاغه وتوابعها) فقط (لا بغيره من العلوم).
هذا الحصر ،
مستفاد من تقديم لفظ (اذ) لأنه متعلق بقوله :
(يعرف دقائق
العربية واسرارها ، فيكون من ادق العلوم سرا).
(وبه يكشف عن
وجوه الاعجاز في نظم القرآن) بناء على كون اعجازه لفصاحته ، فان فيه أقوال اخر ،
ياتي ذكرها ـ انشاء الله تعالى ـ (استارها).
واعترض : بأنه
لا وجه لهذا الحصر ، لأن معرفة ان القرآن معجز كما تستفاد من هذا العلم تستفاد من
علم الكلام ـ ايضا ـ.
واجيب : بان
المراد ، معرفة ان القرآن معجز على سبيل التحقيق والاثبات بالدليل ، ولا شك ان هذا
انما يحصل بعلم البلاغة وتوابعها لان ذكر اعجاز القرآن في علم الكلام ، انما هو
على سبيل التقليد والتسليم.
هذا اذا كان
المراد : معرفة نفس الاعجاز ، واما اذا كان المراد : معرفة ان اعجازه لكمال بلاغته
، ـ كما هو الظاهر من عبارة الكتاب ـ فالجواب أظهر : لأن هذه المعرفة ، انما تحصل
بعلم البلاغة وتوابعها ، اذ به يعرف على سبيل التفصيل والتعيين : ان القرآن مشتمل
على الخواص والمقتضيات الخارجة عن قدرة البشر ، كما بينا قسما منها ، في قوله
تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي)
فيلزم من ذلك :
ان يكون في غاية درجات الكمال ، بحيث لا يمكن للبشر معارضته ، فيكون معجزا.
وذكر ان القرآن
معجز لكمال بلاغته ـ في علم الكلام ـ انما هو على سبيل الاجمال ، اذ لا يعلم منه
ما وجه بلاغته ، فضلا عن وجه كمالها.
على ان ذكره ـ في
علم الكلام ـ انما هو على سبيل التبع : لأن علم الكلام يعرف به الآلهيات والنبوات
، وما يتصل بهما ، وذكر اعجاز القرآن لاثبات نبوته (ص) بخلاف علم البلاغة وتوابعها
، فان معرفة اعجاز القرآن به اصالة لا تبعا.
وبعبارة اخرى ،
معرفة اعجاز القرآن بعلم الكلام دليل (اني) وهو ما يكون واسطة في تصديق ثبوت
المحمول للموضوع ، ومعرفته بهذ العلم (لمي) وهو ما يكون مع ذلك مفيدا لسبب ثبوت
المحمول للموضوع اذ بهذا العلم يعلم : ان سبب اعجازه كونه في اعلى مراتب البلاغة ،
ولا شك ان الدليل الثاني أفيد ، كما بين في محله.
(فيكون من اجل
العلوم قدرا لأن المراد ـ بكشف الاستار ـ : معرفة انه معجز) لكمال بلاغته.
(لكونه في أعلى
مراتب البلاغة ، لاشتماله على الدقائق والأسرار والخواص ، الخارجة عن طوق البشر)
وقد تقدم شطر
منها فيما تقدم ، ولا يمكن الاحاطة بجميعها ، الا لمن في ابياتهم نزل القرآن ، او
من ايده الله من سائر افراد الانسان وللتدبر في اسرار القرآن حكايات :
منها : ما يحكى
عن الأخفش وتلميذه ، ونقلناه في المكررات ، ـ في فصل المنادى المضاف الى الياء ـ.
ومنها : حكاية
ابن الزبعري مع الرسول (ص) لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقد نقلها ـ في القوانين ـ.
(وهذه) المعرفة
(وسيلة الى تصديق النبي (ص) ، في جميع ما جاء به) من القوانين الكلية ، الموضوعة
من قبله ، المقررة على حسب
ما ينبغي.
(فيفاز
بالسعادات الدنيوية والاخروية) وقد تقدم كيفية : كون هذه المعرفة وسيلة الى
التصديق ، ولكن لما استشكل. في المقام ـ : بانه مستلزم (للدور) ، لا بد لنا من نقل
كلام بعض الأجلة الاعلام حتي يعلم منه كيفية ورود (الدور) وما اجيب عنه ، تنويرا
للاذهان من الادلة.
قال المظفر ـ في
دلائل الصدق ، في بحث كون الكذب نقصا ومحاليته على الله تعالى : ـ
ان محالية
النقص عليه تعالى في صفته ، انما اثبتوها بالاجماع لا بالعقل ، ولذا قال القوشجي ـ
في تقرير الدليل ـ :
ان الكذب نقص ،
والنقص على الله تعالى محال اجماعا.
ولما قال صاحب
المواقف ـ في تقريره النقص على الله تعالى محال ـ قيد شارحها الحكم بالمحالية ،
بقوله : «اجماعا».
ومن المعلوم :
ان حجية الاجماع ، انما تستند ـ عندهم ـ الى قول النبي : «لا تجتمع امتي على خطأ»
كما بين في بحث الاجماع ـ في الاصول ـ الموقوف اعتباره على ثبوت صدقه ، وثبوته
يعلم من تصديق الله تعالى اياه ، الموقوف اعتباره على ثبوت صدق كلام الله تعالى ،
فيتوقف ثبوت صدق كلامه تعالى ، على ثبوته وهو (دور).
وقد يجاب عنه :
بما اجابوا به عن نفس الاشكال ، حيث اورد به على دليلهم الآخر ـ لصدق كلام الله
تعالى ـ وهو خبر النبي (ص) به ، بل اجماع الأنبياء على صدق كلامه تعالى.
فقالوا ـ في
الجواب ـ : ان ثبوت صدق النبي (ص) غير موقوف على
تصديق الله له بكلامه ، حتى يلزم (الدور) ، بل على تصديق الله له بالمعجزة
، وهو تصديق فعلي لا قولي.
وفيه : ان
المعجزة انما تدل على انه مرسل من الله تعالى ، وان ما جاء به من عنده ، لا على ان
كلام النبي صدق مطابق للواقع مطلقا ، وان كان من نفسه.
على ان افادة
المعجزة لليقين برسالته ، محل منع ـ على مذهبهم ـ كما ستعرفه.
وبالجملة :
العلم بصدق النبي (ص) ، موقوف على تصديق الله تعالى اياه.
فان ادعوا :
تصديقه له بكلامه تعالى ، جاء (الدور).
وان ادعوا :
تصديقه بالمعجزة.
فان كان
اقتضاؤها ، لصدق النبي في خبره بصدق كلام الله تعالى ناشئا من اخبار الله بصدق
نفسه ، رجع (الدور) الى حاله.
والا فلا تدل
المعجزة على صدق النبي (ص) ، في خبره من نفسه.
على ان المعجزة
، ليست باعظم من التصديق القولى ، وقد فرض الشك في صدقه. انتهى.
وقال في (نتائج
الفكر في شرح الباب الحادي عشر) ـ في بحث انه تعالى متكلم ـ قال :
السابعة : انه
تعالى متكلم بالاجماع ، لان هذه المسألة سمعية صرفة ولذلك جعل مستندها الاجماع.
والمراد
بالكلام : الحروف والاصوات ، المسموعة المنتظمة ، بالمعنى المتداول بين الناس.
ومعنى انه
متكلم ، لا يراد به : انه صدر من ذاته الحروف والاصوات كما يصدرها الناطقون من
الناس ، بل معناه : انه يوجد الكلام في جسم من الأجسام ، وتكون الألفاظ الصادرة
قائمة بذلك الجسم ، قيام صدور.
وتفسير
الأشاعرة ـ بالمعنى الذي يوافيك آتيا ـ غير معقول ، لاستلزامه محذورات كثيرة ، كما
سيأتي.
اقول : من جملة
صفاته تعالى ، كونه (متكلما) وقد اجمع المسلمون على ذلك ، واختلفوا ـ بعد ذلك ـ في
مقامات أربع :
الاول : في
الطريق الى ثبوت هذه الصفة ، هل هو العقل ، او السمع؟
فقالت الأشاعرة
: هو (العقل).
وقالت المعتزلة
: هو (السمع).
وهو قوله تعالى
: (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً).
وكون الدليل
على هذا المطلب سمعيا فقط ، هو الحق ، لعدم الدليل العقلي عليه ، وما ذكروه دليلا
عقليا ، فليس بتام.
وقد اجمع
الانبياء ـ على ذلك ـ ، اي : على كونه (متكلما).
ولا يستلزم ذلك
(الدور) : بان نبوة الأنبياء موقوفة على ثبوت الصانع ، الذي من جملة مطالبه كونه «متكلما».
فلو أستدل على
التكلم له : بقول الانبياء ، لدار ،وجهة عدم الاستلزام : ان ثبوت نبوتهم غير موقوف
عليه ، اي : على ثبوت التكلم لله سبحانه.
فان الجهة التي
تقتضي بعثة الأنبياء على الله هو كونه لطيفا بعباده يريديهم السعادة والاهتداء الى
سبل الخير ، ومن هذه الجهة. وجب على الله لطفا ارسال الرسل
وهذا لا ارتباط له بكونه : متكلما او غير متكلم ، بعد كونه عالما حكيما.
وان يشكل
باشكال آخر ، وهو : ان الطريق المهم لاثبات نبوة الأنبياء ، ومعرفة هوياتهم ، هو
القرآن الكريم ، فكيف يستدل بأقوالهم على اثبات التكلم لله ، من قوله تعالى ـ في
القرآن ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) ونظيره وهو (دور)؟!
ويدفع هذا
الاشكال : بان ما ذكر غير لازم ، لامكان الاستدلال على النبوة بغير القرآن من
المعجزات ، فلا يكون القرآن وحده هو المدرك لاثبات نبوة النبي ، او يستدل بالقرآن
على نبوة النبي ، لكن لا من حيث انه كلام ، حتى يرد الاشكال المزبور ، بل من حيث
انه معجز.
ولا شك في
تغاير المعجزين ، كونه معجزا من جهة كلامية ، ومعجزا من جهة ما احتوى عليه : من
دقائق المعاني ، ورصانة المباني ، وعظمة المحتويات ، وجلالة المضامين ، وما اشبه
ذلك. انتهى كلامه سلمه الله تعالى.
ولكن ، لا يذهب
عليك ان مال آخر كلامه ، الى انكار كون اعجاز القرآن لفصاحته وبلاغته ، وهو خلاف
ما عليه المحققون ، فتدبر جيدا ولا تقلد.
(فيكون) علم
البلاغة وتوابعها : (من أجل العلوم ، لكون معلومه) وهو : كون القرآن ـ معجزا ـ (من
اجل المعلومات).
(وغايته) وهو :
تصديق النبي (ص) ، او الفوز بالسعادات ، (من أشرف الغايات ، وجلالة العلم بجلالة
المعلوم وغايته).
وبذلك : وجهنا
عبارة السكاكي ، الدال على كون هذا العلم ، اجل
من جميع العلوم ، فلا تغفل.
ان قلت : معلوم
العلم ، المعلومات الاصطلاحية ، اي : القواعد الكلية ، التي يعرف منها ، احكام
جزئيات موضوعات تلك القواعد.
ككل فاعل مرفوع
، ـ في النحو ـ ، وككل حكم القيته المنكر يجب توكيده ، ـ في هذا العلم ـ.
بل قيل : ان
العلم ، نفس هذه القواعد ، وحينئذ يلزم من تعليل أجلية العلم بأجلية معلومه ،
تعليل الشيء بنفسه.
قلنا : ليس
المراد بالمعلوم ، المعلومات الاصطلاحية ، بل المراد من المعلوم هنا ، ما يعلم
بالعلم.
كاعجاز القرآن
، اذ لا شك : ان اعجازه ، يعلم بهذا العلم ، لا بغيره من العلوم ، اذ به يعرف
الخواص والأسرار المودعة فيه.
اذ غاية ما
يعرف بالنحو ـ مثلا ـ : تنزيل مفردات الألفاظ ومركباتها على وجوه يصح الكلام معها
، من حيث انها الفاظ ومركبات موضوعة والغرض منه : تأدية اصل المعنى الموضوع له تلك
الالفاظ ، وقد يكون للمتكلم اغراض ومقاصد ، وراء تأدية اصل المعنى ، لا تعلق لها
بالوضع والالفاظ ، ولا تعرف تلك الا بهذا العلم.
والدليل على ان
المراد بالمعلوم ، ما ذكرنا لا المعلومات الاصطلاحية : افراد المعلوم.
ولا يرد على
هذا : انه اين كانت هذا العلم في زمن نزول القرآن والمخاطبين به ، الذين عرفوا
الخواص والأسرار المودعة فيه ، على نحو عرفوا اعجازه واقروا به. او قالوا : «ما
هذا كلام البشر* ان هو الا سحر مستمر» لأنهم كما يأتي عن قريب ، عرفوا ذلك بحسب
السليقة المستقيمة ، والذوق السليم ، الذي كان مركوزا في طبايعهم القويمة
في مضمار الفصاحة والبيان ، بحيث صار التقدم في ذلك المضمار من اعلى الكمالات
وارقاها ـ عندهم ـ في ذلك العصر.
وهذا احد
الوجوه التي ذكروا لاختصاص النبي (ص) بجعل ـ احدى معجزاته (ص) الكلام ، اعنى :
القرآن.
قال سيدنا
الاستاد ـ في البيان ، في مقام ان خير المعجزات ما شابه الكمال الراقى في عصر
النبى ـ : ما هذا نصه :
المعجز كما
عرفت : هو ما يخرق نواميس الطبيعة ، ويعجز عنه سائر افراد البشر ، اذا اتى به
المدعى شاهدا على سفارة إلهية.
ومما لا يرتاب
فيه : ان معرفة ذلك : تختص بعلماء الصنعة ، التى يشابهها ذلك المعجز ، فان علماء
اي صنعة اعرف بخصوصياتها ، واكثر احاطة بمزاياها ، فهم يميزون بين ما يعجز البشر
عن الاتيان بمثله ، وبين ما يمكنهم.
ولذلك :
فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز ، اما الجاهل : فباب الشك عنده مفتوح على مصراعيه ،
ما دام جاهلا بمبادي الصنعة ، وما دام يحتمل ان المدعى قد اعتمد على مبادي معلومة
، عند الخاصة من اهل تلك الصنعة ، فيكون متباطئا عن الاذعان.
ولذلك : اقتضت
الحكمة الالهية ، ان يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه ، والتي
يكثر العلماء بها من أهل عصره فانه اسرع للتصديق ، واقوم للحجة.
فكان من الحكمة
ان يخص موسى عليهالسلام : بالعصا واليد البيضاء ـ لما شاع السحر في زمانه ،
وكثر الساحرون ، ولذا كانت
السحرة أسرع الناس الى تصديق ذلك البرهان ، والاذعان به ، حين رأوا العصا
تنقلب ثعبانا ، وتلقف ما يأفكون ، ثم ترجع الى حالتها الأولى.
رأى علماء
السحر ذلك ، فعلموا انه خارج عن حدود السحر ، وآمنوا بأنه معجزة إلهية. واعلنوا
ايمانهم في مجلس فرعون ، ولم يعبأوا بسخط فرعون ، ولا بوعيده.
وشاع الطب
اليوناني في عصر المسيح (ع) ، وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب ، وكان للطب
رواج باهر ـ في سوريا وفلسطين ـ لأنهما كانتا مستعمرتين لليونان.
وحين بعث الله
نبيه المسيح (ع) ـ في هذين القطرين ـ : شاءت الحكمة ، ان تجعل برهانه شيئا يشبه
الطب ، فكان من معجزاته ان يحيي الموتى ، وان يبرئ الأكمه والأبرص ، ليعلم اهل
زمانه ، ان ذلك شىء خارج عن قدرة البشر ، وغير مرتبط بمبادي الطب ، وانه ناشئ عما
وراء الطبيعة.
واما العرب :
فقد برعت في البلاغة ، وامتازت بالفصاحة ، وبلغت الذروة في فنون الأدب ، حتى عقدت
النوادي ، واقامت الاسواق للمبارات في الشعر والخطابة ، فكان المرء يقدّر على ما
يحسنه من الكلام.
وبلغ من
تقديرهم للشعر : ان عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم ، وكتبوها بماء الذهب ـ
في الفياطي ـ ، وعلقت على الكعبة.
فكان يقال :
هذه مذهبة فلان ، اذا كانت اجود شعره.
واهتمت بشأن
الأدب رجال العرب ونساؤهم. وكان (النابغة الذبياني) هو الحكم في شعر الشعراء.
يأتى سوق عكاظ
في الموسم ، فتضرب له قبة حمراء من الادم ، فتأتيه الشعراء تعرض عليه اشعارها ،
ليحكم فيها.
ولذلك اقتضت
الحكمة : ان يخص نبي الاسلام (ص) ، بمعجزة البيان وبلاغة القرآن ، فعلم كل عربي :
ان هذا من كلام الله ، وانه خارج ببلاغته عن طوق البشر ، واعترف بذلك كل عربى غير
معاند.
وقد كانت للنبي
(ص) معجزات اخرى غير القرآن : كشق القمر ، وتكلم الثعبان ، وتسبيح الحصى.
ولكن القرآن
أعظم هذه المعجزات شأنا ، واقومها بالحجة ، لأن العربى الجاهل بعلوم الطبيعة
واسرار التكوين. قد يشكك في هذه المعجزات وينسبها الى اسباب علمية يجهلها ، واقرب
هذه الاسباب الى ذهنه هو ـ السحر ـ فهو ينسبها اليه.
ولكنه لا يشكك
في بلاغة القرآن واعجازه ، لانه يحيط بفنون البلاغة ويدرك اسرارها.
على ان تلك
المعجزات الاخرى موقتة ، لا يمكن لها البقاء ، فسرعان ما تعود خبرا من الأخبار ،
ينقله السابق للاحق ، وينفتح فيه باب التشكيك.
اما القرآن فهو
باق الى الأبد ، واعجازه مستمر مع الأجيال ، انتهى.
وقد قال الفيض
ـ صاحب الوافي ، نقلا عن الكافي ـ : ان ابن السكيت قال ـ لأبى الحسن (ع) ـ : لماذا
بعث الله موسى بن عمران (ع) بالعصا ، ويده البيضاء ، وآلة السحر؟ وبعث عيسى (ع)
بآلة الطب؟
وبعث محمدا (ص)
، بالكلام والخطب؟
فقال ابو الحسن
عليهالسلام : ان الله لما بعث موسى (ع) ، كان الغالب على أهل عصره
السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله وما ابطل به سحرهم ، واثبت
به الحجة عليهم.
وان الله بعث
عيسى (ع) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج الناس الى الطب ، فأتاهم من عند
الله بما لم يكن عندهم مثله. وبما احيى لهم الموتى ، وابرأ الاكمه والأبرص ـ باذن
الله ـ ، واثبت الحجة عليهم.
وان الله بعث
محمدا (ص) ، في وقت كان الغالب على اهل عصره الخطب والكلام ـ واظنه قال : والشعر ـ
، فأتاهم من عند الله : من مواعظه وحكمه ، وما ابطل به قولهم ، واثبت به الحجة
عليهم ، الخبر.
واني يعجبني ان
انقل كلاما لبعضهم ، هو بمنزلة الفذلكة او التكلمة لما تقدم ، والتمهيد والمعد لما
يأتي ، مما هو مرتبط باعجاز القرآن وان يلزم منه تكرار واعادة في الظاهر ، لبعض ما
سبق في هذا الشأن الا ان التكرار والاعادة في اعجاز القرآن ، الذي هو الغاية
القصوى من هذا العلم ، اعنى : (البيان) كالمسك ما كررته يتضوع.
قال : اعلم :
ان المعجزة أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي ، سالم عن المعارضة ، وهي : اما حسية
، واما عقلية.
واكثر معجزات
بني اسرائيل ، كانت (حسية) لبلادتهم ، وقلة بصيرتهم.
واكثر معجزات
هذه الامة : (عقلية) لفرط ذكائهم ، وكمال افهامهم
ولان هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر الى يوم القيامة خصت
بالمعجزة العقلية الباقية ، ليراها ذوو البصائر ، كما قال النبي (ص) :
ما من الأنبياء
نبى الا اعطى ما مثله امن عليه البشر ، وانما كان الذي اوتيته وحيا اوحاه الله الي
، فارجو ان اكون اكثرهم تابعا.
اخرجه
البنجاري.
قيل : ان معناه
: ان معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض اعصارهم فلم يشاهدها الا من حضرها ، ومعجزة
القرآن مستمرة الى يوم القيامة وخرقه العادة في اسلوبه وبلاغته ، واخباره
بالمغيبات ، فلا يمر عصر من الاعصار ، الا ويظهر فيه شيء مما اخبر به انه سيكون ،
يدل على صحة دعواه.
وقيل : المعنى
: ان المعجزات الواضحة الماضية ، كانت ـ حسية ـ تشاهد بالأبصار : كناقة صالح ،
وعصى موسى.
ومعجزة القرآن
: تشاهد بالبصيرة ، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض
بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا.
قال ـ في فتح
البارى ـ : ويمكن نظم القولين في كلام واحد ، فان محصلهما : لا ينافي بعضه بعضا ،
ولا خلاف بين العقلاء : ان كتاب الله تعالى معجز ، لم يقدر احد على معارضته بعد
تحديهم بذلك.
قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فلو لا ان سماعه حجة عليه ، لم يقف امره على سماعه ،
ولا يكون حجة الا وهو معجزة.
وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ
عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ».
فاخبر ان
الكتاب آية من آياته ، كاف في الدلالة ، قائم مقام معجزات غيره ، وآيات من سواه من
الأنبياء ، عليهمالسلام.
ولما جاء به
النبي (ص) اليهم ، وكانوا افصح الفصحاء ومصاقع الخطباء وتحداهم على ان يأتوا بمثله
، وامهلهم طول السنين ، فلم يقدروا كما قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).
ثم تحداهم بعشر
سور منه ـ في قوله تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ).
ثم تحداهم
بسورة ـ فى قوله ـ : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية.
ثم كرر في قوله
: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) الآية.
فلما عجزوا عن
معارضته ، والاتيان بسورة تشبهه ، على كثرة الخطباء فيهم ، والبلغاء ، نادى عليهم
باظهار العجز ، واعجاز القرآن.
فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
فهذا وهم
الفصحاء اللد ، وقد كانوا أحرص شيء على اطفاء نوره واخفاء امره ، فلو كان في
مقدرتهم معارضته لعدلوا اليها ، قطعا للحجة ولم ينقل عن احد منهم ، انه حدث نفسه
بشيء من ذلك ، ولا رامه ، بل عدلوا : الى العناد تارة ، والى الاستهزاء اخرى.
فتارة قالوا
: «سِحْرٌ»
وتارة قالوا. «شعر»
وتارة : «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».
كل ذلك من
التحير والانقطاع ، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم ، وسبى ذراريهم وحرمهم ،
واستباحة اموالهم ، وقد كانوا آنف شيء واشده حمية.
فلو علموا ان
الاتيان بمثله في قدرتهم ، لبادروا اليه ، لأنه كان أهون عليهم ، كيف؟! وقد اخرج
الحاكم ، عن ابن عباس.
قال : جاء
الوليد بن المغيرة الى النبي (ص) ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا
جهل ، فأتاه فقال : يا عم ، قومك يريدون ان يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، لئلا تأتي
محمدا لتعرض لما قاله.
قال : قد علمت
قريش : أنى من أكثرها مالا.
قال : فقل فيه
قولا ، يبلغ قولك انك كاره له.
قال : وما ذا
اقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منى ، ولا برجره ولا بقصيده ، ولا بأشعار
الجن!
والله ما يشبه
الذي نقول شيئا من هذا!
ووالله ، ان
لقوله الذي يقول ، حلاوة ، وان عليه لطلاوة ، وانه لمثمر اعلاه ، معذق اسفله ،
وانه ليعلو ولا يعلى عليه ، وانه ليحطم ما تحته.
قال : لا يرضى
عنك قومك ، حتى تقول فيه.
قال : فدعنى
حتى افكر.
فلما فكر ، قال
: (هذا إِلَّا سِحْرٌ
يُؤْثَرُ) باثره عن غيره.
قال الجاحظ :
بعث الله محمدا (ص) ، واكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ،
وأشد ما كانت عدة ، فدعا اقصاها وادناها الى توحيد الله : وتصديق رسالته.
فدعاهم بالحجة
، فلما قطع العذر ، وازال الشبهة ، وصار الذي يمنعهم من الاقرار : ـ الهوى والحمية
ـ دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له ، وقتل
من عليتهم ، واعلامهم ، واعمامهم ، وبني اعمامهم.
وهو في ذلك
يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء الى ان يعارضوه ان كان كاذبا ، بسورة
واحدة ، او بآيات يسيرة.
فكلما ازداد
تحديا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما
كان خفيا.
فحين لم يجدوا
حيلة ولا حجة ، قالوا له : انت تعرف من اخبار الامم ما لا نعرف ، فلذلك يمكنك مالا
يمكننا.
قال : فهاتوها
مفتريات.
فلم يأت ذلك
خطيب ، ولا طمع فيه شاعر ، لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ، ولو ظهر ، لوجد من
يستجيده ، ويحامي عليه ، ويكابر فيه ، ويزعم : انه قد عارض ، وقابل ، وناقض.
فدل ذلك : على
عجز القوم مع كثرة كلامهم ، واستحالة لفتهم وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ،
وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه ، وخطباء امته.
لان سورة واحدة
، وآيات يسيرة ، كانت انقض لقوله ، وافسد
لأمره ، وابلغ في تكذيبه ، واسرع في تفريق اتباعه ، من بذل النفوس والخروج
من الأوطان ، وانفاق الأموال.
وهذا من جليل
التدبير ، الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ، ولهم
القصيد العجيب ، والرجز الفاخر ، والخطب الطوال البليغة ، والقصار الموجزة.
ولهم الاسجاع
والمزدوج ، واللفظ المنثور ، ثم يتحدى به اقصاهم ، بعد ان اظهر عجز ادناهم.
فمحال ـ اكرمك
الله ـ ان تجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر ، والخطأ المكشوف البين ،
مع التقريع بالنقص ، والتوبيخ على العجز.
وهم اشد الخلق
انفة ، واكثرهم مفاخرة ، والكلام سيد عملهم ، وقد احتاجوا اليه ، والحاجة تبعث على
الحيلة في الأمر الغامض ، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة.
وكما انه محال
ان يطبقوه ثلاثا وعشرين سنة ، على الغلط في الأمر الجليل لمنفعة ، فكذلك محال : ان
يتركوه وهم يعرفونه ، ويجدون السبيل اليه وهم يبذلون اكثر منه. انتهى.
ثم قال : ولما
ثبت كون القرآن معجزة نبينا (ص) ، وجب الاهتمام بمعرفة وجه الاعجاز ، وقد خاض
الناس في ذلك كثيرا ، فبين محسن ومسىء.
فزعم قوم : ان
التحدي وقع بالكلام القديم ، الذي هو صفة الذات وان العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق
، وبه وقع معجزها.
وهو مردود :
لان ما لا يمكن الوقوف عليه ، لا يتصور التحدي به.
والصواب ما
قاله الجمهور : انه وقع بالدال على القديم ، وهو الألفاظ.
ثم زعم النظام
: ان اعجازه بالصرفة ، اي : ان الله صرف العرب عن معارضته ، وسلب عقولهم ، وكان
مقدورا لهم ، لكن عاقهم أمر خارجي ، فصار كسائر المعجزات.
وهذا قول فاسد
، بدليل : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ..) الآية ، فانه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا
القدرة ، لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى
مما يحنفل بذكره.
هذا مع ان
الاجماع منعقد على اضافة الاعجاز الى القرآن ، فكيف يكون معجزا ، وليس فيه صفة
اعجاز؟ بل المعجز هو الله تعالى ، حيث سلبهم القدرة على الاتيان بمثله.
وايضا ـ :
فيلزم من القول بالصرفة ، زوال الاعجاز بزوال زمان التحدي ، وخلو القرآن من
الاعجاز.
وفي ذلك : خرق
لاجماع الامة : ان معجزة الرسول العظمى باقية ، ولا معجزة له باقية سوى القرآن.
قال القاضي ابو
بكر : ومما يبطل القول بالصرفه : انه لو كانت المعارضة ممكنة ، وانما منع منها
الصرفة ، لم يكن الكلام معجزا ، وانما يكون بالمنع معجزا ، فلا يتضمن الكلام فضيلة
على غيره في نفسه.
قال : وليس هذا
بأعجب من قول فريق منهم : ان الكل قادرون على الاتيان بمثله ، وانما تأخروا عنه ،
لعدم العلم بوجه ترتيبه لو تعلموه لوصلوا اليه به.
ولا بأعجب من
قول آخرين : ان العجز وقع منهم ، واما من بعدهم ، ففي قدرته الاتيان بمثله.
وكل هذا لا
يعتد به.
وقال قوم : وجه
اعجازه : ما فيه من الاخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب.
وقال آخرون :
ما تضمنه من الاخبار عن قصص الاولين ، وسائر المتقدمين ، حكاية من شاهدها وحضرها.
وقال آخرون :
ما تضمنه من الاخبار عن الضمائر ، من غير ان يظهر ذلك منهم ، كقوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلا وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ).
وقال ايضا :
وجه اعجازه : ما فيه من النظم ، والتأليف ، والترصيف وانه خارج عن جميع وجوه النظم
المعتاد ـ في كلام العرب ـ ، ومباين لأساليب خطاباتهم.
قال : ولهذا لم
يمكنهم معارضته.
قال : ولا سبيل
الى معرفة اعجاز القرآن ، من اصناف البديع التي اودعوها في الشعر ، لأنه ليس مما
يخرق العادة ، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب ، والتصنع به : كقول الشعر ، ووصف
الخطب وصناعة الرسالة ، والحذق في البلاغة ، وله طريق تسلك ، واما شأو نظم القرآن
فليس له مثال يحتذى ، ولا امام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا.
قال : ونحن
نعتقد : ان الاعجاز في بعض القرآن أظهر ، وفي بعضه ادق واغمض.
قال الامام فخر
الدين : وجه الاعجاز : الفصاحة ، وغرابة الاسلوب والسلامة من جميع العيوب.
وقال الزملكاني
: وجه الاعجاز : راجع الى التأليف الخاص به ، لا مطلق التأليف : بان اعتدلت
مفرداته ـ تركيبا ، وزنة ـ وعلت مركباته ـ معنى ـ بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا
ـ في اللفظ والمعنى ـ.
وقال ابن عطية
: الصحيح ، والذي عليه الجمهور والحذاق ، في وجه اعجازه : انه بنظمه ، وصحة معانيه
، وتوالى فصاحة الفاظه.
وذلك : ان الله
احاط بكل شيء علما ، واحاط بالكلام كله ، فاذا اراد ترتيب اللفظة من القرآن ، علم
باحاطته : اي لفظة تصلح ان تلي الاولى ، وتبين المعنى بعد المعنى.
ثم كذلك من اول
القرآن الى آخره ، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول ، ومعلوم ضرورة : ان احدا
من البشر لا يحيط بذلك ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة.
وبهذا : يبطل
قول من قال : ان العرب كان في قدرتها ، الاتيان بمثله ، فصرفوا عن ذلك.
والصحيح : انه
لم يكن في قدرة أحد قط ، ولهذا : ترى البليغ ينقح القصيدة او الخطبة ، حولا ، ثم
ينظر فيها فيغير فيها ، وهلم جرا وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم ادير لسان
العرب على لفظة أحسن منها ، لم يوجد.
ونحن يتبين لنا
البراعة في اكثره ، ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يؤمئذ : في
سلامة الذوق ، وجودة القريحة.
وقامت الحجة ـ على
العالم ـ بالعرب : اذ كانوا ارباب الفصاحة ومظنة المعارضة.
كما قامت الحجة
ـ في معجزة موسى (ع) ـ : بالسحرة ، وفي معجزة عيسى (ع) ـ بالأطباء.
فان الله انما
جعل معجزات الأنبياء : بالوجه الشهير ، ابدع ما يكون في زمن النبي الذي اراد
اظهاره ، فكان السحر قد انتهى في مدة موسى الى غايته ، وكذلك الطب في زمن عيسى ،
والفصاحة في زمن محمد (ص).
وقال حازم ـ في
منهاج البلغاء ـ : وجه الاعجاز في القرآن : من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه ،
من جميع انحائها في جميعه ، استمرارا لا يوجد له فترة ، ولا يقدر عليه أحد من
البشر.
وكلام العرب ،
من تكلم بلغتهم : لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع انحائها ، في العالي منه ،
الا في الشيء اليسير المعدود ، ثم تعرض الفترات الانسانية ، فينقطع طيب الكلام
ورونقه ، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه ، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه.
وقال المراكشي
ـ في شرح المصباح ـ : الجهة المعجزة في القرآن : تعرف بالتفكير في علم البيان ،
وهو كما اختاره جماعة في تعريفه : «ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى ، وعن
تعقيده ، ويعرف به وجوه تحسين الكلام ، بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال» لأن جهة
اعجازه ، ليست (مفردات الفاظه) والا لكانت قبل نزوله معجزة.
ولا مجرد
تأليفها ، والا لكان كل تأليف معجزا.
ولا اعرابها.
والا لكان كل كلام معرب معجزا.
ولا مجرد
اسلوبه ، والا لكان الابتداء باسلوب الشعر معجزا ـ والاسلوب الطريق ـ
ولكان هذيان
مسيلمة معجزا.
ولأن الاعجاز ،
يوجد دونه ـ اي : الاسلوب ـ في نحو قوله تعالى : (فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)
ولا بالصرف عن
معارضتهم ، لان تعجبهم كان من فصاحته ، ولأن مسيلمة ، وابن المقفع ، والمعري ،
وغيرهم ، قد تعاطوها ، فلم يأتوا الا بما تمجه الاسماع ، وتنفر الطباع ، ويضحك منه
فى احوال تركيبه.
وبها ، اي :
بتلك الأحوال ، اعجز البلغاء ، واخرس الفصحاء.
فعلى اعجازه
دليل اجمالي ، وهو : ان العرب عجزت عنه وهو بلسانها ، فغيرها احرى.
ودليل تفصيلي :
مقدمته التفكير في خواص تركيبه ، ونتيجته العلم بانه تنزيل من المحيط بكل شيء
علما.
وقال الاصفهاني
ـ في تفسيره ـ : اعلم : ان اعجاز القرآن ، ذكر من وجهين :
احدهما : اعجاز
متعلق بنفسه.
والثاني : بصرف
الناس عن معارضته.
فالاول : اما
ان يتعلق بفصاحته وبلاغته ، او بمعناه : اما الاعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته ،
فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى ، فان ألفاظه ألفاظهم ، قال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا* بِلِسانٍ
عَرَبِيٍّ) ، ولا بمعانيه : فان كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة
قال
تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ).
وما هو في
القرآن من المعارف الالهية ، وبيان المبدأ والمعاد والاخبار بالغيب ، فاعجازه ليس
براجع الى القرآن من حيث هو قرآن ، بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم ،
ويكون الاخبار بالغيب اخبارا بالغيب ، سواء كان بهذا النظم او بغيره ، مؤدى
بالعربية او بلغة أخرى ، بعبارة او اشارة.
فاذن النظم
المخصوص : صورة القرآن ، واللفظ والمعني : عنصره ، وباختلاف الصور : يختلف حكم
الشىء واسمه ، لا بعنصره : كالخاتم ، والقرط ، والسوار.
فانه باختلاف
صورها ، اختلفت اسماؤها ، لا بعنصرها الذي هو : الذهب ، والفضة ، والحديد.
فان الخاتم
المتخذ من الفضة ، ومن الذهب ، والحديد ، يسمى : «خاتما» وان كان العنصر مختلفا.
وان اتخذ خاتم
، وقرط ، وسوار ـ من ذهب ـ اختلفت اسماؤها باختلاف صورها ، وان كان العنصر واحدا.
قال : فظهر من
هذا ان الاعجاز المختص بالقرآن ، يتعلق بالنظم المخصوص ، وبيان كون النظم معجزا ،
يتوقف على بيان نظم الكلام ثم بيان ان هذا النظم مخالف لنظم ما عداه.
فنقول : مراتب
تأليف الكلام خمس :
الاولى : ضم
الحروف المبسوطة بعضها الى بعض ، لتحصل الكلمات الثلاث : الاسم ، والفعل ، والحرف.
والثانية :
تأليف هذه الكلمات بعضها الى بعض ، لتحصل الجمل
المفيدة ، وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا ، في مخاطباتهم ، وقضاء
حوائجهم ، ويقال له : المنثور من الكلام.
والثالثة : ضم
بعض ذلك الى بعض ، ضما له مباد ومقاطع ، ومداخل ومخارج ، ويقال له : المنظوم.
والرابعة : ان
يعتبر في اواخر الكلام مع ذلك تسجيع ، ويقال له : المسجع.
والخامسة : ان
يجعل مع ذلك وزن ، ويقال له : الشعر.
والمنظوم : اما
محاورة ، ويقال له : الخطابة.
واما مكاتبة :
ويقال له : الرسالة.
فانواع الكلام
لا تخرج عن هذه الاقسام ، ولكل من هذه الاقسام نظم مخصوص.
والقرآن جامع
لمحاسن الجميع ، وليس نظمه نظم شىء منها.
يدل على ذلك :
انه لا يصح ان يقال له : رسالة ، او خطابة ، او شعر ، او سجع ، كما يصح ان يقال :
هو كلام.
والبليغ اذا
قرع سمعه ، فصل بينه وبين ما عداه من النظم ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا
يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) تنبيها على ان تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر ،
فيمكن ان يغير بالزيادة والنقصان ، كحالة الكتب الاخر.
قال : واما
الاعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته ، فظاهر ايضا إذا اعتبر.
وذلك : انه ما
من صناعة محمودة كانت او مذمومة ، الا وبينها وبين قوم مناسبات حفية ، واتفاقات
جميلة ، بدليل : ان الواحد يؤثر
حرفة من الحرف. فينشرح صدره بملابستها ، وتطيعه قواه في مباشرتها ، فيقبلها
بانشراح صدر ، ويزاولها باتساع قلبه.
فلما دعا الله
أهل البلاغة والخطابة ، الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة لسانهم ، الى
معارضة القرآن ، وعجزهم عن الاتيان بمثله ، ولم يتصدوا لمعارضته ، لم يخف على اولى
الالباب : ان صارفا إليها صرفهم عن ذلك.
واي اعجاز أعظم
، من ان يكون كافة البلغاء ، عجزت في الظاهر عن معارضته ، مصروفة في الباطن عنها.
وقال السكاكي ـ
في المفتاح ـ : اعلم : ان اعجاز القرآن يدرك ، ولا يمكن وصفه : كاستقامة الوزن ،
تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة ، وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت.
ولا يدرك
تحصيله لغير ذي الفطرة السليمة : الا باتقان علمي (المعاني والبيان) والتمرين
فيهما.
وقال ابو حيان
التوحيدي : سئل بندار الفارسي عن موضع الاعجاز من القرآن؟
فقال : هذه
مسألة فيها حيف على المعنى ، وذلك انه شبيه بقولك : ما موضع الانسان من الانسان؟
فليس للانسان موضع من الانسان ، بل متى اشرت الى جملته فقد حققته ، ودللت على
ذاته. كذلك القرآن لشرفه ، لا يشار الى شىء منه الا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ،
ومعجزة لمحاوله ، وهدى لقائله.
وليس في طاقة
البشر الاحاطة باغراض الله في كلامه ، واسراره في كتابه ، فلذلك حادت العقول ،
وتاهت البصائر عنده.
وقال الخطابي :
ذهب الأكثرون من علماء النظر. الى ان وجه الاعجاز فيه : من جهة البلاغة ، لكن ،
صعب عليهم تفصيلها ، وصغوا فيه الى حكم الذوق.
قال : والتحقيق
: ان اجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في درجات البيان متفاوتة فمنها : البليغ
الرصين الجزل ، ومنها : الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز المطلق الرسل.
وهذه اقسام
الكلام الفاضل المحمود.
فالاول :
اعلاها ، والثاني : اوسطها ، والثالث ادناها واقربها.
فحازت بلاغات
القرآن من كل قسم من هذه الاقسام حصة ، واخذت من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بانتظام
هذه الأوصاف ، نمط من الكلام ، يجمع صفتى : الفخامة ، والعذوبة.
وهما على
الانفراد في نعوقهما كالمتضادين : لأن العذوبة ، نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة
يعالجان نوعا من الزعورة ، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن
الآخر ، فضيلة خص بها القرآن ، ليكون آية بينة لنبيه (ص).
وانما تعذر على
البشر ، الاتيان بمثله ، لامور :
منها : ان
علمهم لا يحيط بجميع اسماء اللغة العربية واوضاعها التي هي ظروف المعانى ، ولا
تدرك افهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم
باستيفاء جميع وجوه المنظوم ، التى بها يكون أئتلافها وارتباط بعضها ببعض. فيتواصلوا
باختيار الافضل من الاحسن من وجوهها ، الى ان يأتوا بكلام مثله. وانما يقوم الكلام
بهذه الاشياء الثلاثة :
لفظ حاصل ،
ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم.
واذا تأملت
القرآن : وجدت هذه الامور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئا من
الالفاظ ، أفصح ، ولا أجزل ، ولا أعذب ، من ألفاظه ، ولا ترى نظما احسن تأليفا ،
واشد تلاوة ، وتشاكلا ، من نظمه.
واما معانيه :
فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في ابوابه ، والترقي الى اعلى درجاته.
وقد توجد هذه
الفضائل الثلاث ـ على التفرق ـ في انواع الكلام ، فاما ان توجد مجموعة في نوع واحد
منه ، فلم توجد إلا في كلام العليم القدير.
فخرج من هذا :
ان القرآن انما صار معجزا ، لأنه جاء بافصح الألفاظ في احسن نظوم التأليف ، مضمنا
اصح المعاني : من توحيد الله تعالى ، وتنزيهه في صفاته ، ودعائه الى طاعته ، وبيان
لطريق عبادته : من تحليل وتحريم ، وحظر واباحة ، ومن وعظ وتقويم وامر بمعروف ونهى
عن منكر ، وارشاد الى محاسن الأخلاق ، وزجر عن مساويها ، واضعا كل شىء منها موضعه
الذي لا يرى شيء اولى منه ، ولا يتوهم في صورة العفل أمر أليق به منه ، مودعا
اخبار القرون الماضية ، وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم ، منبئا عن
الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان ، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج
له ، والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا اليه ، وانباء عن وجوب
ما امر به ونهى عنه.
ومعلوم : ان
الاتيان بمثل هذه الامور ، والجمع بين اشتاتها ، حتى تنتظم وتنسق ، أمر يعجز عنه
قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع
الخلق دونه ، وعجزوا عن معارضته بمثله ، او مناقضته في شكله ثم صار
المعاندون له : يقولون مرة : انه شعر ، لما رأوه منظوما ، ومرة : سحر ، لما رأوه
معجوزا عنه ، غير مقدور عليه.
وقد كانوا يجدون
له وقعا في القلوب ، وقرعا في النفوس ، يرهبهم ، ويحيرهم ، فلم يتمالكوا ان
يعترفوا به نوعا من الاعتراف ، ولذلك قالوا : ان له لحلاوة ، وان عليه لطلاوة.
وكانوا مرة
بجهلهم يقولون : (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) مع علمهم ان صاحبهم امي ، وليس بحضرته من يملي او يكتب
، في نحو ذلك من الامور التي اوجبها : العناد ، والجهل والعجز.
ثم قال. وقد
قلت في اعجاز القرآن وجها ، ذهب عنه الناس : وهو صنيعه في القلوب ، وتأثيره في
النفوس ، فانك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا ، اذا قرع السمع ، خلص
له الى القلب من اللذة والحلاوة ، في حال ذوي الروعة والمهابة ، في حال آخر ، ما
يخلص منه اليه.
قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وقال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).
وقال ابن سراقة
فاختلف اهل العلم في وجه اعجاز القرآن ، فذكروا في ذلك وجوها كثيرة ، كلها حكمة
وصواب ، وما بلغوا في وجوه اعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره.
فقال قوم : هو
الايجاز مع البلاغة.
وقال آخرون :
هو البيان والفصاحة.
وقال آخرون :
هو الوصف والنظم.
وقال آخرون :
هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب : من النظم ، والنثر ، والخطب ، والشعر ، مع كون
حروفه في كلامهم ، ومعانيه في خطابهم ، والفاظه من جنس كلماتهم ، وهو بذاته قبيل
غير قبيل كلامهم ، وجنس آخر متميز عن اجناس خطابهم.
حتى ان من
اقتصر على معانيه ، وغير حروفه ، اذهب رونقه.
ومن اقتصر على
حروفه وغير معانيه ، ابطل فائدته فكان في ذلك ابلغ دلالة على اعجازه.
وقال آخرون :
هو كون قارئه لا يكل ، وسامعه لا يمل ، وان تكررت عليه تلاوته.
وقال آخرون :
هو ما فيه من الاخبار عن الامور الماضية.
وقال آخرون :
هو ما فيه من علم الغيب ، والحكم على الامور بالقطع.
وقال آخرون :
هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها ، ويشق حصرها.
وقال الزركشي ـ
في البرهان ـ : اهل التحقيق : على ان الاعجاز وقع بجميع ما سبق من الافوال ، لا
بكل واحد على انفراده ، فانه جمع ذلك كله.
فلا معنى
لنسبته الى واحد منها بمفرده ، مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق.
فمنها : الروعة
التي في قلوب السامعين واسماعهم ، سواء المقر
والجاحد.
ومنها : انه لم
يزل ولا يزال غضا طريا ، في اسماع السامعين وعلى السنة القارئين.
ومنها : جمعه
بين صفتي الجزالة والعذوبة ، وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبا في كلام البشر.
ومنها : جعله
آخر الكتب غنيا عن غيره. وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد تحتاج الى بيان يرجع فيه
اليه ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ)
وقال الرماني :
وجوه اعجاز القرآن : تظهر من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعي ، وشدة الحاجة ،
والتحدى للكافة ، والصرفة. والبلاغة والاخبار عن الامور المستقبلة ، ونقض العادة ،
وقياسه بكل معجزة.
قال : ونقض
العادة : هو ان العادة كانت جارية ، بضروب من انواع الكلام معروفة ، منها : الشعر
، ومنها : السجع ، ومنها : الخطب ومنها : الرسائل ، ومنها : المنثور ، الذي يدور
بين الناس في الحديث.
فأتى القرآن
بطريقة مفردة ، خارجة عن العادة ، لها منزلة من الحسن تفوق به كل طريقة ، ويفوق
الموزون الذي احسن الكلام.
قال : واما
قياسه بكل معجزة : فانه يظهر اعجازه من هذه الجهة اذ كان سبيل فلق البحر ، وقلب
العصا حية ، وما جرى هذا المجرى ـ فى ذلك ـ سبيلا واحدا في الاعجاز ، اذ خرج عن
العادة ، فصد الخلق عن المعارضة.
وقال القاضي
عياض ـ في الشفاء ـ : اعلم : ان القرآن منطو على وجوه من الاعجاز كثيرة ، وتحصيلها
من جهة ضبط أنواعها في أربعة
وجوه :
اولها : حسن
تأليفه ، والتئام كلمه ، وفصاحته ، ووجوه ايجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب ،
الذين هم فرسان الكلام ، وارباب هذا الشأن.
والثاني : صورة
نظمه العجيب ، والاسلوب الغريب ، المخالف لأساليب كلام العرب.
ومنها : نظمها
ونثرها الذي جاء عليه ، ووقفت عليه مقاطع آياته وانتهت اليه فواصل كلماته ، ولم
يوجد قبله ولا بعده نظير له.
قال : وكل واحد
من هذين النوعين : الايجاز والبلاغة ، بذاتها ، والاسلوب الغريب بذاته ، نوع اعجاز
على التحقيق ، لم تقدر العرب على الاتيان بواحد منهما ، اذ كل واحد خارج عن قدرتها
، مباين لفصاحتها ، وكلامها ، خلافا لمن زعم : ان الاعجاز ، في مجموع البلاغة
والاسلوب.
الوجه الثالث :
ما انطوى عليه من الاخبار بالمغيبات ، وما لم يكن فوجد كما ورد.
والرابع : ما
أنبأ به من اخبار القرون السالفة ، والامم البائدة ، والشرايع الداثرة ، مما كان
لا يعلم منه القصة الواحدة ، الا الفذ من احبار اهل الكتاب ، الذي قطع عمره في
تعلم ذلك ، فيورده (ص) على وجهه ، ويأتي به على نصه ، وهو امى لا يقرأ ولا يكتب.
قال : فهذه
الوجوه الاربعة ، من اعجازه بينة لا نزاع فيها.
ومن الوجوه في
اعجازه ـ غير ذلك ـ : اى : وردت بتعجيز قوم في قضايا ، واعلامهم انهم لا يفعلونها
، فما فعلوا ، ولا قدروا على ذلك ، كقوله : (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) فما
تمناه احد منهم.
وهذا الوجه ،
داخل في الوجه الثالث ..
ومنها : الروعة
التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم ، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته ، وقد اسلم
جماعة عند سماع آيات منه.
كما وقع لجبير
بن مطعم ، انه سمع النبى (ص) يقرأ في المغرب بالطور ، قال ـ : فلما بلغ هذه الآية
: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ـ الى قوله ـ الْمُصَيْطِرُونَ) ـ كاد قلبي ان يطير.
قال : وذلك اول
ما وقر الاسلام في قلبى.
وقد مات جماعة
عند سماع آيات منه ، افردوا بالتصنيف.
ثم قال : ومن
وجوه اعجازه : كونه آية باقية ، لا يعدم ما بقيب الدنيا ، مع ما تكفل الله بحفظه.
ومنها : ان
قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه ، بل الاكباب على تلاوته : يزيده حلاوة ، وترديده
يوجب له محبة.
وغيره من
الكلام : يعادى اذا اعيد ، ويمل مع الترديد ، ولهذا : وصف (ص) القرآن : بانه لا
يخلق على كثرة الرد.
ومنها : جمعه
لعلوم ومعارف ، لم يجمعها كتاب من الكتب ، ولا احاط بعلمها احد في كلمات قليلة ،
واحرف معدودة.
قال : وهذا
الوجه داخل في بلاغته ، فلا يجب ان يعد فنا مفردا في اعجازه.
قال : والاوجه
: ان التي قبله تعد في خواصه وفضائله ، لا اعجازه وحقيقة الاعجاز : الوجوه الأربعة
الاول ، فليعتمد عليها.
(تنبيهات)
الاول : اختلف
في قدر المعجز من القرآن ، فذهب بعض المعتزلة الى انه متعلق بجميع القرآن ،
والآيتان السابقتان ترده.
وقال القاضي :
يتعلق الاعجاز : بسورة ، طويلة كانت او قصيرة ، تشبثا بظاهر قوله تعالى : (بِسُورَةٍ).
وقال في موضع
آخر : يتعلق بسورة ، او قدرها من الكلام ، بحيث يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة.
قال : فاذا
كانت آية بقدر حروف سورة ، وان كانت كسورة (الكوثر) فذلك معجز.
قال : ولم يقم
دليل على عجزهم عن المعارضة ، في اقل من هذا القدر.
وقال قوم : لا
يحصل الاعجاز بآية ، بل يشترط الآيات الكثيرة.
وقال آخرون :
يتعلق بقليل القرآن وكثيره لقوله : (فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).
قال القاضي :
ولا دلالة في الآية ، لأن الحديث التامّ ، لا تتحصل حكايته في اقل من كلمات سورة
قصيرة.
الثاني : اختلف
في انه هل يعلم اعجاز القرآن ضرورة.
قال القاضي :
فذهب أبو الحسن الاشعري ، الى ان ظهور ذلك على النبي (ص) يعلم ضرورة ، وكونه معجزا
: يعلم بالاستدلال.
قال : والذي
نقوله : ان الاعجمي لا يمكنه ان يعلم اعجازه ، الا استدلالا ، وكذلك من ليس ببليغ
، فاما البليغ الذي قد احاط بمذاهب العرب ، وغرائب الصنعة ، فانه يعلم من نفسه
ضرورة عجزه
وعجز غيره ، عن الاتيان بمثله.
الثالث : اختلف
في تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة ، بعد اتفاقهم على انه في اعلى مراتب البلاغة ،
بحيث لا يوجد في التراكيب ما هو اشد تناسبا ، ولا اعتدالا ، في افادة ذلك المعنى ،
منه.
فاختار القاضي
: المنع ، وان كل كلمة فيه موصوفة بالذروة العليا ، وان كان بعض الناس احسن احساسا
له من بعض.
واختار ابو نصر
القشيري وغيره : التفاوت ، فقال : لا ندعى : ان كل ما في القرآن على ارفع الدرجات
في الفصاحة وكذا قال غيره : في القرآن الافصح والفصيح.
والى هذا نحا
الشيخ عز الدين بن عبد السّلام. ثم اورد سؤالا وهو : انه لم لم يأت القرآن جميعه
بالافصح؟
واجاب عنه
الصدر موهوب الجزري ـ بما حاصله ـ : انه لو جاء القرآن على ذلك ، لكان على غير
النمط المعتاد في كلام العرب : من الجمع بين الأفصح والفصيح ، فلا تتم الحجة في
الاعجاز ، فجاء على نمط كلامهم المعتاد ، ليتم ظهور العجز عن معارضته ، ولا يقولوا
مثلا : اتيت بما لا قدرة لنا على جنسه.
كما لا يصح من
البصير ، ان يقول للاعمى : قد غلبتك بنظري ، لانه يقول له : انما تتم لك الغلبة ،
لو كنت قادرا على النظر ، وكان نظرك اقوى من نظري ، واما اذا فقد اصل النظر فكيف
تصح مني المعارضة؟
التنبيه الرابع
: قيل : الحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون
مع ان الموزون ـ من الكلام ـ رتبته فوق رتبة غيره : ان القرآن منبع الحق ،
ومجمع الصدق ، وقصارى امر الشاعر : التخييل بتصور الباطل في صورة الحق ، والافراط
في الاطراء ، والمبالغة في الذم ، والايذاء ، دون اظهار الحق ، واثبات الصدق.
ولهذا : نزه
الله نبيه عنه ، ولاجل شهرة الشعر بالكذب ، سمى ـ اصحاب البرهان ـ القياسات
المؤدية في اكثر الامر الى البطلان والكذب : (شعرية).
وقال بعض
الحكماء : لم ير متدين صادق اللهجة ، مفلق في شعره.
واما ما وجد في
القرآن ، مما صورته صورة الموزون :
فالجواب عنه :
ان ذلك لا يسمى شعرا ، لأن شرط الشعر القصد ولو كان شعرا ، لكان كل من اتفق له في
كلامه شيء موزون شاعرا فكان كل الناس شعراء : لأنه قل ان يخلو كلام احد عن ذلك ،
وقد ورد ذلك على الفصحاء ، فلو اعتقدوه شعرا ، لبادروا الى معارضته والطعن عليه ،
لأنهم كانوا احرص شيء على ذلك.
وانما يقع ذلك
: لبلوغ الكلام ، الغاية القصوى في الانسجام.
وقيل : البيت
الواحد ، وما كان على وزنه ، لا يسمى : «شعرا» واقل الشعر : «بيتان ، فصاعدا».
وقيل : الرجز :
لا يسمى : «شعرا» اصلا.
وقيل : اقل ما
يكون من الرجز شعرا ، اربعة أبيات ، وليس ذلك في القرآن بحال.
قال بعضهم :
التحدى انما وقع للانس دون الجن ، لأنهم ليسوا من اهل اللسان العربى ، الذي جاء
القرآن على أساليبه : وانما ذكروا
في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) تعظيما لاعجازه لان للهيئة الاجتماعية من (القوة) ما
ليس للافراد.
فاذا فرض
اجتماع الثقلين فيه ، وظاهر بعضهم بعضا ، وعجزوا عن المعارضة ، كان الفريق الواحد
اعجز.
وقال بعض آخر :
بل وقع للجن ـ أيضا ـ والملائكة منويون في الآية ، لانهم لا يقدرون ـ ايضا ـ على
الاتيان بمثل القرآن.
وقال بعض آخر :
انما اقتصر في الآية على ذكر الثقلين ، لأنه (ص) كان مبعوثا اليهما ، دون
الملائكة.
وان سأل سائل :
هل كان غير القرآن من كلامه تعالى معجزا ، كالتوراة والانجيل ، ونحوهما؟
قلنا : ليس شيء
من ذلك بمعجز ـ في النظم والتأليف ـ وان كان معجزا كالقرآن ، فيما يتضمن من
الأخبار بالغيوب.
وذلك : لأن
الله تعالى ، لم يصفه بما وصف به القرآن.
ولأنه : لم يقع
التحدي به ، كما وقع بالقرآن.
ولأن ذلك اللسان
، لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ، ما يقع به التفاضل الذي ينتهي الى حد الاعجاز.
قال ابن جني ـ في
قوله تعالى ـ : (قالُوا يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) ـ : ان العدول عن قوله : «واما ان نلقى» لفرضين :
احدهما : لفظى
، وهو المزاوجة لرؤوس الآي.
والآخر : معنوي
، وهو انه تعالى ، اراد ان يخبر عن قوة (نفس السحرة) واستطالتهم على موسى ، فجاء
عنهم بلفظ اتم ، واوفى
منه ، في اسنادهم الفعل اليه.
ثم اورد سؤالا
، وهو : انا لا نعلم : ان السحرة لم يكونوا اهل لسان ، يذهب بهم هذا المذهب ، من
صنعة الكلام.
واجاب : بان
جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير اهل اللسان العربي ، من القرون الخالية ،
انّما هو معرّب عن معانيهم ، فليس بحقيقة ألفاظهم.
ولهذا : لا يشك
في ان قوله تعالى : (قالُوا إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ان هذه الفصاحة ، لم تجر على لغة العجم.
قال بعض
المحققين : اعلم : ان المعنى الواحد قد يخبر عنه بالفاظ ، بعضها احسن من بعض ،
وكذلك كل واحد من جزئي الجملة ، قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر ، فلا بد
من استحضار معاني الجمل ، او استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ ، ثم استعمال
انسبها ، وافصحها ، واستحضار هذا متعذر على البشر في اكثر الأحوال بل دائما.
وذلك : عتيد ،
حاصل في علم الله تعالى ، فلذلك كان القرآن احسن الحديث ، وافصحه ، وان كان مشتملا
على الفصيح والأفصح ، والمليح والاملح ، ولذلك أمثلة :
منها : قوله
تعالى : (وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) :
لو قال ـ مكانه ـ : «وثمر الجنتين قريب» لم يقم مقامه ، من
جهة الجناس بين الجنى والجنتين ، ومن جهة ان الثمر لا يشعر بمصيره الى حال يجنى
فيها ، ومن جهة مواخاة الفواصل.
ومنها : «لا رَيْبَ فِيهِ» احسن من : «لا شك فيه» لثقل الادغام ، ولهذا اكثر ذكر ـ الريب
ـ.
ومنها : «وَلا تَهِنُوا» احسن من : «ولا تضعفوا» لخفته.
و : «وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي» احسن من : «ضعف» لأن الفتحة ، اخف من الضمة.
ومنها : «آمَنَ» اخف من : «صدق» ولذا كان ذكره اكثر من ذكر التصديق.
و : «آثَرَكَ اللهُ» اخف من : «فضلك».
و : «آتَى» اخف من : «اعطى».
و : «أَنْذِرْ» اخف من : «خوف».
و : «خَيْرٌ لَكُمْ» اخف من : «افضل لكم».
والمصدر ـ في
نحو ـ : (هذا خَلْقُ اللهِ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) اخف من : «مخلوق».
و : (نَكَحَ) اخف من «تزوج» لان ـ فعل ـ اخف من ـ تفعل ـ ولهذا : كان
ذكر النكاح في القرآن اكثر.
ولاجل التخفيف
والاختصار ، استعمل لفظ : (الرحمة ، والغضب ، والرضا ، والحب ، والمقت) في اوصاف
الله تعالى ، مع انه لا يوصف بها حقيقة ، لانه لو عبر عن ذلك بالفاظ الحقيقة ،
لطال الكلام.
كأن يقال : «يعامله
معاملة المحب ، والماقت».
فالمجاز في مثل
هذا افضل من الحقيقة ، لخفته واختصاره ، وابتنائه على التشبيه البليغ.
فان قوله تعالى
: (فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) احسن من : «فلما
عاملونا معاملة الغضب» ، او «فلما اتوا الينا بما يأتيه المغضب».
قال بعضهم :
فان قال قائل : فلعل السور القصار يمكن فيها المعارضة قيل : لا يجوز فيها ذلك ، من
قبل ان التحدي قد وقع بها ، فظهر العجز عنها ، في قوله تعالى : «فَأْتُوا بِسُورَةٍ»
فلم يخص بذلك
الطوال دون القصار!
فان قال : فانه
يمكن في القصار ، ان تغير الفواصل ، فيجعل بدل كل كلمة ما يقوم مقامها ، فهل يكون
ذلك معارضة؟
قيل له : لا ،
من قبل ان المفحم يمكنه ان ينشىء بيتا واحدا ، ولا يفضل بطبعه بين مكسور وموزون ،
فلو ان (مفحما) رام ان يجعل بدل ـ قوله في قصيدة رؤبة ـ :
وقائم
الاعناق خاوي المخترق
|
|
مشتبه
الاعلام لماع الخفق
|
فجعل بدل ـ المخترق
، الممزق ـ وبدل ـ الخفق ، الشفق ـ وبدل ـ انخرق ، انطلق ـ لامكنه ذلك ، ولم يثبت
له به قول الشعر ولا معارضة رويه في هذه القصيدة ، عند احد له ادنى معرفة.
فكذلك : سبيل
من غير الفواصل.
فان قيل : لو
كان معجزا ، لم يختلف القوم في وجه اعجازه قلنا : قد يثبت الشيء دليلا ، وان
اختلفوا في وجه دلالة البرهان كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم : من
الحركة ، والسكون ، والاجتماع والافتراق ، والدور والتسلسل ـ كما في شرح الباب
الحادي عشر ـ للفاضل المقداد.
ثم ها هنا
دقيقة ، لا بد من ذكرها ، وهي : انه ان قال قائل : اذا كان النبي (ص) قد قال : «انا
افصح من
نطق بالضاد ، بيد اني من قريش ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ومراده (ص) :
ممن نطق ـ بالضاد ـ : العرب ، لأن النطق الصحيح ، بل الكلمة التي هي فيها ، يختص
بهم ، وهو صادق في قوله ، فهلا قلتم : ان القرآن من نظمه؟ لقدرته في الفصاحة ، على
مقدار لا يبلغه غيره!
قلنا : قد
علمنا انه (ص) لم يتحداهم الى مثل قوله ، وفصاحته : والقدر الذي بينه وبين كلام
غيره من العرب ، كقدر ما بين شعر الشاعرين ، وخطبة الخطيبين ـ في الفصاحة ـ.
وذلك مما لم
يثبت به الاعجاز ، يظهر ذلك انه اذا وازنا ، بين خطبه وكلامه المنثور ، وبين نظم
القرآن ، تبين من البون بينهما ، مثل ما بين كلام الله عزوجل وكلام الناس.
فلا معنى
لادعاء : ان كلام النبي (ص) معجز ، وان كان دون القرآن في الاعجاز.
ومن ذلك : يظهر
القول ـ في كلام علي (ع) ، واولاده المعصومين سلام الله عليهم اجمعين.
نعم ، كلامهم
في الطرف الأعلى من كلام البشر ، ولكن لا يبلغ الى حد الاعجاز ، الذي هو من مختصات
كلام خالق البشر.
لان قدرة
العباد متناهية ، وان كانوا عبادا مكرمين.
ثم اعلم : ان
المناسبة بين اجزاء الكلام ، امر مطلوب في كل لغة كما هو واضح ، لمن كان له
بمحسنات الكلام ادنى المام ، لا سيما في اللغة العربية ، التي نزل بها كلام الملك
العلام.
فلذلك : يرتكب
في كل لغة ، امور مخالفة لاصول تلك اللغة
كما ارتكب ذلك في بعض اواخر آيات القرآن ، وان افاد ذلك. زائدا على المناسبة
ـ : فائدة ، بل فوائد جمة ، يحتاج فهمها ، الى مزيد ذوق ودقة.
وبعضهم يسمى
هذه المناسبة : (سجعا) ومنعه آخرون ، كما منعوا من تسميتها (قافية).
اما القافية :
فلانها من اوصاف الشعر ، وقد سلب الله تعالى عن كلامه اسم الشعر.
واما السجع :
فاما لان السجع اصله : صوت الحمام ونحوه ، فلا يناسب كلام الملك العلام ، واما لان
السجع : كان من فعال الكهنة فافهم كانوا يستعملونه غالبا ، عند اخبارهم عن
المغيبات.
فيجب تنزيه
القرآن : عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام.
وكيف كان ،
فنذكر نبذا مما ارتكب فيه هذه المناسبة ، ليكون من باب المثال.
منها : تقديم
المعمول على العامل ، في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
ونحوه : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ).
منها : تقديم
معمول على آخر اصله التقديم ، نحو : (لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى). اذا قلنا : ان ـ الكبرى ـ مفعول ثان ، ـ ومن آياتنا ـ من
متعلقاته.
ونحوه : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ).
ومنه : تقديم
خبر كان على اسمها ، نحو : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ).
ومنها : تقديم
ما هو متأخر في الزمان ، نحو : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولى).
ولو لا مراعاة
الفواصل ومناسبتها ، لقدمت الاولى كقوله : (لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ).
ومنها : تقديم
الفاضل على الأفضل ، نحو : (بِرَبِّ هارُونَ
وَمُوسى) ومنها : تقديم الضمير على مرجعه ، نحو : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى).
ومنها : تقديم الصفة
ـ اذا كانت جملة ـ على الصفة ـ المفردة ـ نحو : و (نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً).
ومنها : حذف
ياء المنقوص المعرف ، نحو : (الْكَبِيرُ
الْمُتَعالِ) و (يَوْمَ التَّنادِ).
ومنها : حذف
ياء الفعل غير المجزوم ، نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ).
ولهذا : حكاية
ذكرناها في المكررات.
ومنها : حذف
ياء الاضافة ، نحو : «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ»
«فَكَيْفَ
كانَ عِقابِ».
ومنها : زيادة
حرف الاطلاق والمد ، نحو : (الظُّنُونَا) و (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا).
ومنه : ابقاؤه
مع الجازم ، نحو : «لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى»
«سَنُقْرِئُكَ
فَلا تَنْسى» على رأى من يجعل (لا) ناهية.
ومنها : صرف ما
لا ينصرف ، نحو : (قَوارِيرَا
قَوارِيرَا).
ومنه (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) و «وَدًّا وسُواعاً»
الآية ، فتأمل.
ومنها : اختيار
التأنيث او التذكير ـ فيما يجوز فيه الأمران ـ
بلا رجحان آخر ، نحو : (أَعْجازُ نَخْلٍ
خاوِيَةٍ) و (أَعْجازُ نَخْلٍ
مُنْقَعِرٍ) ونحو : (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) و (كُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ).
ومنه :
الاقتصار على احد وجهين من الحركة والسكون ـ الجائزين كليهما بالسوية ـ نحو :
«فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» و «هَيِّئْ
لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً»
بالحركة ، لأن الفواصل
: بحركة الوسط.
وقد جاء
بالسكون ، في : (قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ) و (وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ).
ونظير ذلك :
قراءة : (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) بفتح الهاء وسكونها ولم يقرأ : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) الا بالفتح ، مراعاة للفاصلة.
ومنها : اختيار
الألفاظ الغريبة ، نحو : (ضِيزى) و (دُسُرٍ) وسيأتى الكلام فيهما مستوفى ، عن قريب ـ انشاء الله
تعالى ـ.
ومنها : حذف
المفعول ، نحو : «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى».
ومنه : حذف
متعلق (افعل التفضيل) نحو : (يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفى) و «خَيْرٌ وَأَبْقى».
ومنها :
استعمال المفرد في مقام التثنية ، نحو : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى).
ومنه : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) على وجه يأتي في باب الالتفات.
او المفرد في
مقام الجمع ، نحو : (وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ولم يقل ائمة كما في قوله :
«وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً»
ونحو : (جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) اي : انهارا
ومنه : «وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ» «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ»
على رأي ، يأتي في
باب الفصل والوصل.
والتثنية في
مقام الافراد ، نحو : «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ» ـ الى قوله ـ «فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ». ونحو : «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ» :
قال بعضهم :
اراد ـ جنّة ـ كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى) فثنى لأجل الفاصلة ، والفواصل في كل لغة ـ سيما العربية
ـ تحتمل من الزيادة والنقصان ، ما لا يحتمله سائر الكلام.
وانكر ذلك
بعضهم ـ في خصوص هذه الآية ـ لأنه تعالى ، وعد بجنتين ، فتجعل جنة واحدة لاجل
الفاصلة ـ معاذ الله ـ.
كيف وهو يصفها
بصفات الاثنين؟!!
فقال : (ذَواتا أَفْنانٍ) ثم قال : (فِيهِما).
وكاستعمال
الجمع مقام المفرد ، نحو : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خِلالٌ) اي : ولا خلة ، كما في الآية الاخرى ، فجمع مراعاة
للفاصلة ، فتأمل.
منها : اجراء
غير العاقل مجرى العاقل ، نحو : «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ»
«وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».
ومنها : وقوع
وزن ـ مفعول ـ موقع وزن ـ فاعل ـ نحو : «حِجاباً مَسْتُوراً»
«كانَ
وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» اي : ساترا ، وآتيا.
ومنها : عكس
ذلك ، نحو : «عِيشَةٍ راضِيَةٍ» و «ماءٍ
دافِقٍ» وفيه كلام يأتى.
ومنها : العدول
عن صيغة الماضي الى صيغة الاستقبال ، نحو : (فَفَرِيقاً
كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) اي : قتلتم.
ومنه : عكس ذلك
، نحو : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ).
ومن هذا القبيل
: العدول من الماضي الى الأمر ، نحو : «أَمَرَ
رَبِّي
بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ».
وليعلم : انه
لا يمتنع في امثال هذه المواضع ، ان يوجه الخروج عن الاصل ـ زائدا على مراعاة
المناسبة ـ بامور اخرى ، كما يأتي في بعضها ما اريد فيه من النكتة ، فان القرآن لا
تنقضي عجائبه
لا يقال : اذا
كان مراعاة المناسبة حسنة محمودة ، فلم لم تراع في الآيات كلها؟
وما الوجه في
ورودها في بعضها ، وعدم ورودها في بعضها الآخر؟.
لأنا نقول :
كما اشرنا اليه سابقا ، ان القرآن نزل بلغة العرب ، وعلى عرفهم وعاداتهم ، وكان
الفصيح منهم ، لا يراعي في جميع فواصل كلامه (المناسبة) لما فيه من امارات التكلف.
بل يكون ذلك
مستكرها عند الاذهان المستقيمة ، والافكار القويمة والاذواق السليمة ، لاسيما مع
طول الكلام.
فلذا : قال بعض
اهل الذوق : وانما لم يج القرآن على اسلوب واحد : لأنه لا يحسن في الكلام ـ جميعا
ـ ان يكون مستمرا على نمط واحد ، لما فيه من التكلف ، ولما في الطبع منه ملل.
وان الافتنان
في ضروب الكلام : احسن من الاستمرار على ضرب وسيأتي لهذا زيادة بيان ، في بحث
الالتفات ـ انشاء الله تعالى ـ.
ومن المحسنات
التي روعيت في القرآن كثيرا : الاقتدار ، وهو : ان يبرز المتكلم المعنى الواحد في
صور كثيرة ، اظهارا لقدرته على نظم الكلام ، وتركيبه على صياغة قوالب المعاني
والاغراض.
فلذلك جاء جميع
قصص القرآن بصور مختلفة ، فانك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها ، في صور
مختلفة ، وقوالب من الالفاظ
متعددة. من حيث الحقيقة والمجاز ونحوهما ، بحيث لا تشتبه في موضعين منه.
وذكر بعضهم :
ان تكرار القصص فيه فوائد :
منها : ان في
كل مرة زيادة شيء لم يذكر في التي قبله ، وابدال كلمة باخرى لنكتة ، وهذه عادة
البلغاء.
ومنها : ان
الرجل كان يسمع القصة من القرآن ، ثم يعود الى اهله ، ثم يهاجر بعده آخرون ، يحكون
ما نزل بعد صدور من تقدمهم فلو لا تكرار القصص ، لوقعت قصة موسى (ع) لقوم ، وقصة
عيسى الى آخرين ، وكذا سائر القصص.
فأراد الله :
اشتراك الجميع فيها ، فيكون فيه : افادة لقوم ، وزياد تأكيد لآخرين.
ومنها : ان في
ابراز كلام الواحد ، في فنون كثيرة ، واساليب مختلفة ، ما لا يخفى من الفصاحة ،
وتنشيط السامع ، كما يأتي في الالتفات.
ومنها : ان
الدواعي لا تتوفر على نقلها ، كتوفرها على نقل الأحكام ، فلهذا كررت القصص ، دون
الأحكام.
ومنها : انه
تعالى انزل هذا القرآن ، وعجز القوم عن الاتيان بمثله ثم اوضح الامر في عجزهم :
بأن كرر ذكر القصة في مواضع اعلاما بأنهم عاجزون عن الاتيان بمثله ، بأي نظم جاءوا
، وبأي عبارة عبروا.
ومنها : انه
لما تحداهم قال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) فلو ذكرت القصة في موضع واحد ، واكتفى بها ، لقال
العربي ؛ «ائتونا انتم سورة من مثله» فانزلها تعالى في تعداد السور ، دفعا لحجتهم
من
كل وجه.
ومنها : ان
القصة الواحدة لما كررت ، كان في الفاظها في كل موضع : زيادة ونقصان ، وتقديم
وتأخير ، فأتت على اسلوب غير اسلوب الاخرى ، فافاد ذلك : ظهور الأمر العجيب ، في
اخراج المعنى الواحد في صور متباينة. في النظم ، وجذب النفوس الى سماعها ، لما
جبلت عليه من حب التنقل في الاشياء المتجددة ، واستلذاذها بها.
فلذلك : تكررت
قصة موسى (ع) في مئة وعشرين موضعا. وقصة نوح (ع) في خمس وعشرين آية ، وهكذا قصص
انبياء اخر.
فان قيل : ما
الحكمة في عدم تكرير قصة يوسف (ع) ، دون غيرها من القصص.
قلنا : قد
قالوا فيها وجوها :
منها : ان فيها
تشبيب النسوة ، وحال امرأة ونسوة افتنت بأبدع الناس جمالا ، فناسب عدم تكرارها ،
لما فيه من الاغضاء والستر.
ولذلك : ورد
النهى عن تعليم النساء : (سورة يوسف).
ومنها : انها
تتضمن حصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ، فان مآلها الى الوبال : كقصة
ابليس ، وقوم نوح ، وبعض الأقوام الاخر.
فلما اختصت قصة
يوسف بهذه الخصوصية ، اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها بهذه الخصوصية عن سائر
القصص ، فلا حاجة الى تكرارها.
وقال بعض
المحققين : انما كرر الله قصص الأنبياء دون هذه القصة : اشارة الى عجز العرب ،
كأنه قيل لهم : ان كان هذه القصص من عند غير الله ، فافعلوا في قصة يوسف ، ما فعل
في سائر القصص من
التكرار.
وقال بعض اخر :
ان سورة يوسف ، نزلت بسبب طلب الصحابة ان يقص عليهم ، كما اشير اليه في بعض
الروايات ، فنزلت مبسوطة تامة ، ليحصل لهم مقصود القصص : من استيعاب القصة ،
وترويح النفس بها ، والاحاطة بطرفيها.
وهاهنا جواب
آخر : قيل هو اقوى من جميع ما تقدم من الأجوبة ، وذلك : ان قصص الأنبياء انما كررت
، لأن المقصود بها افادة اهلاك من كذبوا رسلهم ، والحاجة داعية الى ذلك ، لتكرير
تكذيب الكفار للرسول (ص) ، فكلما كذبوا ، نزلت قصة منذرة بحلول العذاب ، كما حل
على مكذبي انبياء السلف.
واليه اشير ـ في
قوله تعالى ـ : «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ» وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك.
وبهذا ـ ايضا ـ
يحصل الجواب : عن حكمة عدم تكرير قصة اصحاب الكهف ، وقصة ذي القرنين ، وقصة موسى
مع الخضر ، وقصة الذبيح.
فهذا الجواب
اشمل ، فلذلك كان اقوى.
قيل : قد تكررت
قصة ولادة يحيى ، وولادة عيسى ، مع انها ليست من ذلك القبيل : لان الاولى : انزلت
خطابا لأهل مكة ، والثانية : انزلت خطابا لليهود ونصارى نجران ـ حين قدموا ـ ولهذا
اتصل بها ذكر المحاجة والمباهلة.
(فان قيل : كيف
التوفيق بين ما ذكر هنا) من الحكم بامكان كشف اعجاز القرآن ، وانحصار سبب الكشف ـ في
علم البلاغة وتوابعها ـ
(وبين ما ذكر ـ
في المفتاح ـ من) الحكم بعدم امكان الكشف ،
وانحصار سبب الكشف في الذوق ، دون ـ علم البلاغة وتوابعها ـ : لانه قال : (ان
مدرك الاعجاز : هو الذوق ليس الا ، ونفس وجه الاعجاز ، لا يمكن كشف القناع عنها).
فبين الحكمين
تناقض من وجهين :
احدهما : الحكم
بامكان الكشف ـ في كلام المصنف ـ ، والحكم بعدم الامكان ـ في كلام المفتاح ـ.
وثانيهما :
الحكم بحصر سبب الكشف في هذا العلم ، ـ في كلام المصنف ـ والحكم بحصره في الذوق ،
ـ في كلام المفتاح ـ ولا يذهب عليك : ان بين ظاهر حكمي المفتاح ـ ايضا ـ تناقض
ظاهر.
حيث حكم اولا :
بانحصار سبب الكشف في الذوق.
ومعلوم : ان
لازمه امكان الكشف.
ثم حكم وصرح :
بعدم امكان الكشف.
(قلنا) في رفع
التناقض الأول ، بحيث يدفع الثاني ـ ايضا ـ ضمنا :
ان (معنى كلامه)
اي : المفتاح ، حيث حكم بعدم الامكان ، ليس عدم امكان الكشف للمتدبر في القرآن ،
بل معناه : عدم امكان توصيف ما انكشفه المتدبر لغيره.
وبعبارة اخرى :
معنا كلامه : (انه) اي : وجه الاعجاز. (يدرك) بالتدبر في القرآن ، اذا لم يكن على
القلوب اقفالها.
(و) لكن (لا
يمكن) لمن انكشف عنده (وصفه) اي : توصيفه لغيره (كالملاحة) اي : البهجة ، وحسن
المنظر ، فانها ـ ايضا ـ مما
يدركه اهل النظر والذوق ، ولا يمكن لهم توصيفها.
قال ـ في
المصباح ـ : ملح الشيء ـ بالضم ـ ملاحة : بهج ، وحسن منظره ، فهو : مليح ، والانثى
: مليحة ، انتهى.
ولهم في
الملاحة حكاية ، تنسب الى (مجنون) وسلطان عصره ، في شأن ليلى.
قال السيوطي :
المعاني ، والبيان ، والبديع :
يعرف بالاول :
خواص تراكيب الكلام ، من جهة افادتها المعنى.
وبالثاني :
خواصها ، من حيث اختلافها ، بحسب وضوح الدلالة وخفائها.
وبالثالث :
وجوه تحسين الكلام.
وهذه العلوم
الثلاثة : هي «علوم البلاغة» وهي من اعظم اركان المفسر ، لأنه لا بد له من مرعاة
ما يقتضيه الاعجاز ، وانما يدرك بهذه العلوم.
ثم ذكر كلام
الآتي للسكاكي ـ بادنى تغيير ـ الى ان قال :
قال ابن الحديد
: اعلم : ان معرفة الفصيح والأفصح ، والرشيق والأرشق ـ من الكلام ـ : امر لا يدرك
الا بالذوق ، ولا يمكن اقامة الدلالة عليه ، وهو بمنزلة جاريتين :
احداهما :
بيضاء مشربة بحمرة ، دقيقة الشفتين : نقية الثغر ، كحلاء العين ، اسيلة الخد ،
دقيقة الأنف ، معتدلة القامة.
والاخرى :
دونها في هذه الصفات والمحاسن ، لكنها احلى في العيون والقلوب منها.
ولا يدرى سبب
ذلك ، ولكنه يعرف بالذوق والمشاهدة ، ولا يمكن
تعليله وهكذا الكلام.
نعم ، يبقى
الفرق بين الوصفين : ان حسن الوجوه وملاحتها ، وتفضيل بعضها على بعض ، يدركه كل من
له عين صحيحة.
واما الكلام : فلا
يدرك الا بالذوق ، وليس كل من اشتغل (بالنحو واللغة ، والفقه) يكون من اهل الذوق ،
وممن يصلح لانتقاد الكلام.
وانما اهل
الذوق : هم الذين اشتغلوا بعلم البيان ، وراضوا انفسهم بالرسائل ، والخطب ،
والكتابة ، والشعر ، وصارت لهم بذلك دراية ، وملكة تامة.
فالى اولئك
ينبغى : ان يرجع في معرفة الكلام ، وفضل بعضه على بعض.
(وقد صرح) صاحب
المفتاح (بهذا) اي : بان مراده من عدم الامكان : عدم امكان التوصيف ، لا عدم امكان
الادراك ، حيث قال :
اعلم : ان شأن
الاعجاز عجيب ، يدرك ولا يمكن وصفه ، ومدرك الاعجاز عندي : هو (الذوق) ليس الا.
وطريق اكتساب
الذوق : طول خدمة هذين العلمين.
(وما ذكر هاهنا)
اي : في كلام المصنف ، (لا يدل على انه يمكن) لمن انكشف عنده اعجاز القرآن ،
بالتدبر فيه : (وصفه) لغيره ، بحيث يدركه غيره بتوصيفه.
وذلك : لكونه ،
اي : اعجاز القرآن ، في غاية اللطافة ، ونهاية الدقة.
(بل يدل) ما
ذكر هاهنا :
(على انه) اي :
الاعجاز ، (انما يدرك بهذا العلم) ، اذا لم
يكن لمن يريد ادراكه ذوق فطري ، اي : القوة التي يدرك بها دقائق الكلام
والخواص ، واسراره اللطيفة الغامضة ، المودعة فيه.
(و) من كان
شأنه ذلك ، اي : ليس له هذه القوة (لو) اراد ادراك اعجاز القرآن بالتدبر فيه ،
فعليه (بالذوق المكتسب منه) اي : من هذا العلم ، اي : (علم البلاغة) وتوابعها.
(لا بغيره) اي
: لا يدرك بغيره من العلوم.
وذلك : لأن تلك
العلوم ، لا يحصل منها ذوق فهم محاسن الكلام بل اذواق اخر ، كل بحسبه ، ولا حاجة
لنا في بيانه.
الى هنا : كان
الكلام في رفع التناقض الأول ، وقد علم دفع الثانى ـ ايضا ـ ضمنا ، بل اندفع
الثالث ، الذي كان في نفس كلام ـ المفتاح ـ حسب ما اشرنا اليه.
ولا يذهب عليك
: ان احتمال التناقض الأول ، انما نشأ من حمل الكشف في كلام المصنف ، على الكشف
للغير ، بمعنى ؛ توصيف المتدبر الاعجاز ، والتعبير عنه بما يدرك به غيره ، كما هو
كذلك في كلام ـ المفتاح ـ.
واما : اذا حمل
على الانكشاف للمتدبر ، فلا تناقض ، بل ولا احتماله.
كما ان احتمال
التناقض الثاني : انما نشأ من جعل هذا العلم سببا قريبا للانكشاف ، كما هو
المتبادر من الباء السببية ، في قوله : «وبه يكشف».
واما اذا قلنا
: ان هذا العلم من الاسباب البعيدة ، وسبب للسبب والسبب القريب هو الذوق ، وان كان
كسبيا ، فايضا لا تناقض ، بل
ولا احتماله.
كما انه على
هذا : لا تناقض ولا احتماله ، في نفس كلام ـ المفتاح ـ فتدبر جيدا.
(وليس الحصر)
في الذوق المكتسب من هذا العلم ، المستفاد من كلام المصنف ، بعد توجيهه لدفع
التناقض ، (حقيقيا).
بحيث : يحكم
بأن غير العالم بهذا العلم ، لا يمكنه درك الاعجاز.
(حتى يرد
الاعتراض) ، ان كان الحصر حقيقيا بالمعنى المذكور.
(بان العرب
يعرف ذلك) ، اي : يدرك الاعجاز (بحسب السليقة) والذوق الفطري ، كما اشرنا اليه
سابقا. بل الحصر اضافي ، بالنسبة الى الذوق المكتسب من سائر العلوم ، كما سبق آنفا
، فلا اعتراض.
(وقد اشير الى
هذا) ، اي : الى ان بالذوق المكتسب من هذا العلم ، لا بغيره من العلوم ، ينكشف
وجوه الاعجاز حسبما بيناه ، (فى مواضع من المفتاح ، كقوله ـ في علم الاستدلال اى
تعريف الشيىء بالحد او الرسم اى باجزائه ولوازمه ـ. وجه الاعجاز امر من جنس
الفصاحة والبلاغة).
وفي بعض النسخ
: (امر خارج من جنس الفصاحة) بزيادة لفظ ـ خارج ـ وهو من التصرفات غير المرضية ،
اذ كون الاعجاز من جنس الفصاحة ، امر مفروغ عنه ، كما بيناه سابقا ، فلا وجه للقول
: بانه امر خارج من جنسها ، فتأمل.
(لا طريق)
مفضيا (اليه ، الا طول خدمة هذين العلمين) اي : علم البلاغة ، وعلم توابعها ،
ليحصل منهما الذوق المذكور.
(و) كقوله ـ (في
موضع آخر) من المفتاح ـ : (لا علم بعد علم الاصول ، أكشف للقناع عن وجه الاعجاز ،
من هذين العلمين)
قيل : المراد
بعلم الاصول : النحو ، والصرف ، ومتن اللغة ، بقرينة ما يأتي في اوائل المقدمة ،
من قوله : «ثم لما كانت المخالفة في المفرد راجعة الى اللغة» الخ وفي اواخرها ، من
قوله : «ما يتبين في علم متن اللغة» الخ.
قال فى المثل
السائر : اما علم النحو ، فانه في علم البيان ـ من المنظوم والمنثور ـ ، بمنزلة ـ ابجد
ـ في تعليم الخط.
وهو اول ما
ينبغي اتقان معرفته ، لكل احد ينطق باللسان العربي ليأمن من معرة اللحن.
ومع هذا : فانه
وان احتيج اليه في بعض الكلام دون بعض ، ـ لضرورة الافهام ـ فان الواضع لم يخص منه
شيئا ـ بالوضع ـ ، بل جعل الوضع عاما ، والا ، فاذا نظرنا الى ضرورته واقسامه
المدونة ، وجدنا اكثرها غير محتاج اليه في افهام المعاني.
ا لا ترى : انك
لو امرت رجلا بالقيام ، فقلت له : قوم ، باثبات الواو ، ولم تجزم ، لما اختل من
فهم ذلك شيء.
وكذلك الشرط ،
لو قلت : ان تقوم اقوم ، ولم تجزم ، لكان المعنى مفهوما.
والفضلات :
كلها تجري هذا المجرى ، كالحال ، والتمييز ، والاستثناء فاذا قلت : جاء زيد راكب ،
وما في السماء قدر راحة سحاب ، وقام القوم الازيد ، فلزمت السكون في ذلك كله ، ولم
تبين اعرابا ، لما توقف الفهم على نصب : الراكب ، والسحاب ، ولا على نصب : زيد.
وهكذا يقال :
في المجرورات ، وفي المفعول فيه ، والمفعول له ، والمفعول معه.
وفي المبتدأ
والخبر ، وغير ذلك من اقسام اخر ، لا حاجة الى ذكرها لكن قد خرج عن هذه الأمثلة :
ما لا يفهم الا بقيود تقيده.
وانما يقع ذلك
: في الذي تدلّ صيغته الواحدة ، على معاني مختلفة ولنضرب لذلك مثالا يوضحه ، فنقول
:
اعلم : ان من
اقسام الفاعل والمفعول ، ما لا يفهم الا بعلامة : كتقديم المفعول على الفاعل ،
فانه اذا لم يكن ثم علامة تبين احدهما من الآخر ، اشكل الأمر.
كقولك : ضرب
زيد عمرو ، ويكون زيد هو المضروب ، فانه اذا لم تنصب زيدا ، وترفع عمرا. لا يفهم
ما اردت.
وعلى هذا : ورد
قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وكذلك لو قال قائل : ما احسن زيد ، ولم يبين الاعراب في
ذلك لما علمنا غرضه منه ، اذ يحتمل : ان يريد به التعجب من حسنه ؛ او يريد به
الاستفهام عن اي شيء منه احسن ، ويحتمل ان يريد به الاخبار بنفى الاحسان عنه.
ولو بين
الاعراب في ذلك ، فقال : ما أحسن زيدا ، وما أحسن زيد ، علمنا غرضه ، وفهمنا مغزى
كلامه ، لانفراد كل قسم من هذه الاقسام الثلاثة ، بما يعرف به من الاعراب.
فوجب حينئذ
بذلك : معرفة النحو ، اذ كان ظابطا لمعاني الكلام حافظا لها من الاختلاف.
واول من تكلم
في النحو ؛ (ابو الاسود الدؤلي) وسبب ذلك : انه دخل على ابنة له بالبصرة ، فقالت
له : يا ابت ما اشد الحرّ ـ منعجبة ـ ، ورفعت (اشد).
فظنها مستفهمة
، فقال.
شهرنا حر.
فقالت : يا ابت
، انّما اخبرتك ولم اسألك.
فأتى على بن
أبي طالب (ع) فقال : يا أمير المؤمنين ، ذهبت لغة العرب ، ويوشك ان تطاول عليها
الزمان ان تضمحل.
فقال (ع) له :
وما ذاك؟.
فاخبره خبر
ابنته.
فقال (ع) : هلم
صحيفة : ثم أملى عليه : ان الكلام لا يخرج عن اسم ، وفعل ، وحرف ـ جاء لمعنى ـ.
ثم رسم له
رسوما ، فنقلها النحويون في كتبهم.
وقيل : ان ابا
الاسود دخل على زياد ابن ابيه ، بالبصرة. فقال : انى ارى العرب قد خالطت العجم ،
وتغيرت السنتها ، افتأذن لي ان اصنع ما يقيمون به كلامهم؟
فقال : لا.
فقام من عنده ،
ودخل عليه رجل ، فقال : ايها الأمير ، مات ابانا ، وخلف بنون.
فقال زياد :
مات ابانا ، وخلف بنون ، مه! ردوا عليّ ابا الاسود.
فردوه ، فقال :
اصنع ما كنت نهيتك عنه.
فوضع شيئا ، ثم
جاء بعده ميمون الأقرن ، فزاد عليه ، ثم جاء بعده عنبسة بن معدان المهري. فزاد
عليه ، ثم جاء بعده عبد الله بن ابي اسحاق الحضرمي ، وابو عمر بن العلاء ، فزادا
عليه ، ثم جاء بعدهما
الخليل بن احمد الازدي ، وتتابع الناس ، واختلف البصريون والكوفيون في بعض
ذلك.
فهذا : ما
بلغني من امر النحو في اول وضعه ، وكذلك العلوم كلها ، يوضع منها في مبادىء امرها
شيء يسير ، ثم يزاد بالتديج الى ان يستكمل آخرا.
فان قيل : اما
علم النحو ، فمسلم اليك : انه تجب معرفته ، لكن التصريف لا حاجة اليه ، لان
التصريف : انما هو معرفة اصل الكلمة وزيادتها ، وحذفها ، وابدالها ، وهذا لا يضر
جهله. ولا تنفع معرفته ولنضرب لذلك مثالا ـ كيف اتفق ـ فنقول : اذا قال القائل :
رأيت سرداحا ، لا يلزمه ان يعرف : ان الألف في هذه الكلمة ، زائدة هى أم اصلية ،
لأن العرب لم تنطق بها ، الا كذلك ، ولو قالت : سردحا ـ بغير الف ـ لما جاز لأحد ،
ان يزيد الألف فيها من عنده ، فيقول : سرداحا.
فعلم بهذا :
انه انما ينطق بالألفاظ ، كما سمعت عن العرب ، من غير زيادة فيها ولا نقص ، وليس
يلزم بعد ذلك : ان يعلم اصلها ولا زيادتها ، لأن ذلك امر خارج ، تقتضيه صناعة
تأليف الكلام.
فالجواب عن ذلك
: انا نقول :
اعلم : انا لم
نجعل معرفة التصريف كمعرفة النحو ، لان الكاتب او الشاعر ، اذا كان عارفا بالمعافي
، مختارا لها ، قادرا على الالفاظ مجيدا فيها ، ولم يكن عارفا ـ بعلم النحو ـ فانه
يفسد ما يصوغه من الكلام ، ويختل عليه ما يقصده من المعاني ، كما اريناك في ذلك
المثال المتقدم.
واما التصريف :
فانه اذا لم يكن عارفا به ، لم تفسد عليه معاني كلامه ، وانما تفسد عليه الاوضاع ،
وان كانت المعاني صحيحة وسيأتي بيان ذلك : في تحرير الجواب ، فنقول :
اما قولك : ان
التصريف لا حاجة اليه ، واستدلالك : بما ذكرته من المثال المضروب ، فان ذلك لا
يستمر لك الكلام فيه :
ألا ترى : انك
مثلت كلامك في لفظة ـ سرداح ـ وقلت : انه لا يحتاج الى معرفة ان (الالف) زائدة هي
ام اصلية. لأنها انما نقلت عن العرب ، على ما هي عليه ، من غير زيادة ولا نقص.
وهذا : لا يطرد
، الا فيما هذا سبيله : من نقل الألفاظ على هيئتها ، من غير تصرف فيها بحال.
فاما اذا اريد
تصغيرها ، او جمعها. والنسبة اليها ، فانه اذا لم يعرف الاصل في حروف الكلمة ،
وزيادتها ، وحذفها ، وابدالها ، يضل حينئذ عن السبيل ، وينشأ من ذلك مجال للعائب ،
والطاعن.
ألا ترى : انه
اذا قيل ـ للنحوي. وكان جاهلا بعلم التصريف ـ : كيف تصغير لفظة (اضطرب) فانه يقول
: (ضطيرب) ولا يلام على جهله بذلك ، لأن الذي تقتضيه صناعة النحو ، قد اتى به.
وذلك : ان
النحاة يقولون : اذا كانت الكلمة على خمسة احرف وفيها حرف زائد ، حذفته ، نحو
قولهم ـ في منطلق ـ : (مطيلق) وفي جحمرش : (جحيمر) فلفظة (منطلق) على خمسة احرف ،
وفيها حرفان زائدان ، هما : (الميم ، والنون) الا ان الميم ، زيدت فيها لمعنى
فلذلك لم تحذف ، وحذفت النون.
واما لفظة (جحيمرش)
فخماسية لا زيادة فيها ، وحذف منها حرف
ـ ايضا ـ ولم يعلم النحوي : ان علماء النحو انما قالوا ذلك مهملا ، اتكالا
منهم على تحقيقه من علم الصرف ، لأنه لا يلزمهم ان يقولوا في كتب النحو ، اكثر مما
قالوا ، وليس عليهم ، ان يذكروا في باب من ابواب النحو شيئا من التصريف ، لأن كلا
من النحو والتصريف ، علم منفرد برأسه ، غير ان أحدهما مرتبط بالآخر ، ومحتاج اليه.
وانما قلت : ان
النحوي اذا سئل عن تصغير لفظة (اضطراب) يقول : (ضطيرب) لأنه لا يخلو : اما ان يحذف
من لفظة اضطراب (الألف) او (الضاد) او (الطاء) او (الراء) او (الباء).
وهذه الحروف
المذكورة غير (الالف) ليست من حروف الزيادة ، فلا تحذف ، بل الأولى : ان يحذف
الحرف الزائد ، ويترك الحرف الذي ليس بزائد.
فلذلك ، قلنا :
ان النحوي يصغر لفظة (اضطراب) على (ضطيرب) فيحذف الالف ، التي هي حرف زائد ، دون
غيرها ، مما ليس من حروف الزيادة.
واما ان يعلم :
ان (الطاء) في (اضطراب) مبدلة من تاء ، وانه اذا اريد تصغيرها ، تعاد الى الأصل
الذي كانت عليه ، وهو : (التاء) فيقال : (ضتيرب) بالتاء المنقوطة ، فان هذا لا
يعلمه الا التصريفى ، وتكليف النحوي ، الجاهل بعلم التصريف : معرفة ذلك ، كتكليفه
علم ما لا يعلمه.
فثبت بما
ذكرناه : انه يحتاج الى علم التصريف ـ الى ان قال ـ : واما انه يحتاج الى معرفة
اللغة ، مما تداول استعماله ، فسيرد بيانه عند ذكر اللفظة المفردة ، والكلام على
جيدها ورديئها ، في المقالة
المختصة بالصناعة اللفظية ، انتهى.
ولعلنا نورد
بعض ما بينه هناك ، في طي المباحث الآتية ، في المقام المناسب لذلك ، ـ انشاء الله
تعالى ـ.
وقيل : المراد
من علم الاصول : (علم الكلام) بناء على انه لا بد منه ، في تأويل المتشابهات ،
وردها الى المحكمات ، وهو العمدة الكبرى في معرفة معاني القرآن ، فالبعدية على هذا
: رتبية شرفية ، كما انها على القول الأول : زمانية. فتأمل.
وكيف كان ، فقد
استشكل عليه. بان المفهوم من هذا الكلام ، بحكم دليل الخطاب ، وفحوى المحاورات :
ان علم الاصول ، اكشف من العلمين ، وان غيرهما كاشف ، وهما اكشف ، وكلاهما ينافي
ظاهر كلام السكاكى والمصنف المصرحين : بان الكشف انما يحصل بالعلمين وغرض الشارح ـ
ايضا ـ وهو : انه اشار السكاكي ، الى انه بهذا العلم يكشف لا بغيره.
واجيب بوجوه :
منها : ان هذا
في قوله : «وقد اشير الى هذا» اشارة الى كون العلم كاشفا ، بلا قصد الى الحصر ،
وهو كما ترى.
ومنها : ان (اكشف)
قد جرد عن معنى التفضيل ، وجعل بعد علم الاصول : متعلقا بما في (اكشف) من معنى
الفعل ، والمعنى : ان هذين العلمين ، انما يكشفان بعد علم الاصول.
ومنها : ان
المراد حصر كمال الكشف ، لا الكشف نفسه ، وهذا ـ ايضا ـ كما ترى.
واعلم : انه
يستعمل لفظة (نعم) في تراكيب المصنفين : فيما إذا
قصد الانتقال عن الكلام السابق ، الى ماله نوع تعلق به ، فكأنه جواب عن
سؤال مقدر.
وهو : انه هل
يمكن لواحد منا ، بيان وجه الاعجاز وادراكه بحقيقته ، بمهارته في العلمين.
فاجاب بانه : (لا
يمكن بيان وجه الاعجاز ، وادراكه بحقيقته ، لامتناع الاحاطة بهذا العلم ، لغير
علام الغيوب ، فلا يدخل كنه بلاغة القرآن ، الا تحت علمه الشامل ، كما ذكر ـ في
المفتاح ـ) وكما سياتي عند قول المصنف : «ولها طرفان : أعلى ، وهو : حد الاعجاز»
في جواب نظير هذا السؤال.
(وتشبيه)
المصنف ، (وجوه الاعجاز) اي : وجوه اعجاز القرآن ـ (في النفس) ـ أي : في نفسه ، اي
: في ذهنه (بالأشياء) الثمينة العالية القدر ، العزيزة المنال ، (المحتجبة) ،
لعزتها ، وعلو قدرها (تحت الاستار) ، يسمى في الاصطلاح ، (استعارة بالكناية).
وهي عند المصنف
ـ كما يأتي في فن البيان ، في الفصل الذي عقده لتحقيق : معنى الأستعارة بالكناية ،
والاستعار التخييلية ـ :
ان يضمر
التشبيه في النفس ، اي : في نفس المتكلم ، فلا يصرح بشيء من أركانه ، سوى المشبه.
وبعبارة اخرى :
ان يشبه شيء : كوجوه الاعجاز ـ فيما نحن فيه ـ بشيء في النفس : كالأشياء المحتجبة
تحت الاستار ويسكت عن اركان التشبيه ، وهى : المشبه ، والمشبه به ، ووجه الشبه ،
واداته ، سوى المشبه ـ كما في المقام ـ فانه لم يذكر في المقام ، سوى المشبه اعني
: وجوه الاعجاز.
(واثبات
الاستار) التي هي من لوازم المشبه به ، اعني : الاشياء المحتجبة ، (لها).
اي : لوجوه
الاعجاز ، حتى يدل على ذلك : التشبيه المضمر في النفس ، يسمى في الاصطلاح :
(استعارة
تخييلية) ، كما قال في ذلك الفصل :
ويدل عليه ، اي
: على ذلك التشبيه المضمر في النفس ، بان يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به ، من
غير ان يكون هناك : امر متحقق حسا او عقلا ، يجري عليه اسم ذلك الأمر ، فيسمى
التشبيه المضمر في النفس : (استعارة بالكناية) او مكنيا عنها.
اما الكناية :
فلانه لم يصرح به ، بل انما دل عليه بذكر خواصه ولوازمه.
واما الاستعارة
: فمجرد تسمية ، خالية عن المناسبة ، ويسمى ـ اثبات ذلك الامر المختص بالمشبه به
للمشبه ـ : (استعارة تخييلية) لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر الذي يخص المشبه به
، وبه يكون كماله ، او قوامه في وجه الشبه ، ليخيل انه من جنس المشبه به.
ثم ذلك الأمر
المختص بالمشبه به ، المثبت للمشبه ، على ضربين :
احدهما : ما لا
يكمل وجه الشبه في المشبه به بدونه.
والثاني : ما
به يكون قوام وجه الشبه في المشبه به.
فاشار الى
الأول بقوله : كما في قول ابى ذويب الهذلى :
واذا المنية
انشبت اظفارها
|
|
الفيت كل
تميمة لا تنفع
|
والتميمة :
الحررة ، التي تجعل معاذة ، يعني : اذا علق الموت مخلبه في شيء ليذهب به ، بطلت
عنده الجيل.
روى : انه هلك
لابى ذويب ـ في عام ـ خمس بنين ، وكانوا فيمن هاجروا الى مصر ، فرثاهم بقصيدة ،
منها هذا البيت ، ومنها قوله :
اودى بنى
واعقبونى حسرة
|
|
عند الرقاد
وعبرة لا تقلع
|
حكى : ان الحسن
بن علي (ع) دخل على معاوية يعوده ، فلما رآه معاوية ، قام وتجلد ، وانشد :
بتجلدي
للشامتين اريهم
|
|
انى لريب
الدهر لا اتضعضع
|
فاجابه الحسن (ع)
ـ على الفور ـ وقال : واذا المنية انشبت اظفارها ... البيت.
شبه ابو ذويب ـ
في نفسه ـ : المنية بالسبع ، في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة ، من غير تفرقة :
بين نفاع وضرار ، ولا رقة لمرحوم ، ولا بقيا على ذي فضيلة.
فاثبت لها ، اي
: للمنية الأظفار ، التي لا يكمل ذلك الاغتيال فيه اي : في السبع بدونها ، تحقيقا
للمبالغة في التشبيه.
فتشبيه المنية
: بالسبع ـ في النفس ـ استعارة بالكناية ، واثبات الأظفار للمنية : استعارة
تخييلية.
واشار الى
الثانى بقوله : وكما في قول الآخر :
ولئن نطقت
بشكر برك مفصحا
|
|
فلسان حالي
بالشكاية انطق
|
شبه ـ في النفس
ـ الحال : بافسان متكلم ، في الدلالة على المقصود وهذا هو الاستعارة بالكناية ،
فاثبت لها ، اي : للحال ، اللسان الذي به قوامها ، اي. قوام الدلالة فيه ، اي : في
الانسان المتكلم. وهذا استعارة تخييلية ، انتهى.
ولا يذهب عليك
: ان الاستار بالنسبة الى الاشياء المحتجبة ، من
قبيل القسم الأول. كما هو واضح.
(وذكر الوجوه :
ابهام) ، وال ايهام ـ كما ذكر المصنف ، في الفن الثالث ، في تعداد المحسنات
اللفظية ـ ؛ ان يطلق لفظ له معنيان اما بالاشتراك ، او التواطي او الحقيقة والمجاز
ـ كما في الاتقان ـ قريب وبعيد ، ويراد البعيد ، اعتمادا على قرينة خفية ـ كما في
المقام ـ فان للوجه معنيين ؛ قريب ليس بمراد ، وهو : العضو المخصوص وبعيد ، وهو ؛
الطريق.
والمراد في
المقام ذلك ، والقرينة عليه : العقل السالم ، والذهن الوقاد والذوق ، الذى لا يوجد
الا في اولى الطبع السليم ، والفهم المستقيم.
ولذلك : جعل
الاصوليون الكلام المشتمل على الايهام ، من قسم المتشابه وسموه : (المؤول).
قال في البديع
ـ في بيان التوجيه ـ : قال السكاكي : ومنه متشابهات القرآن ـ باعتبار ـ وهو :
احتمالها للوجهين المختلفين.
وتفارقه ـ باعتبار
آخر ـ وهو : انه يجب في التوجيه استواء الاحتمالين ، وفي المتشابهات : احد المعنيين
قريب ، والآخر بعيد.
ولهذا : قال
الساكي : واكثر متشابهات القرآن ، من قبيل التورية والايهام.
قال في الاتقان
: قال الزمخشري : ومن امثلتها : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) فان الاستواء على المعنيين : الاستقرار بالمكان ، وهو
المعنى القريب ، والملك ، وهو المعنى البعيد المقصود ، والاول محال على الله
تعالى.
وقال في الموضع
المذكور : التورية ، ويسمى : الايهام ، ضربان :
مجردة ، وهي التورية التي لا تجامع شيئا مما يلائم المعنى القريب ، نحو :
«الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى».
فانه اراد ـ بالاستواء
ـ : معناه البعيد ، وهو : استولى ، ولم يقرن به شيء مما يلائم المعنى القريب ،
الذي هو : الاستقرار.
ومرشحة ، وهي :
التي تجامع شيئا مما يلائم المعنى القريب ، المورى به عن المعنى البعيد المراد.
اما بلفظ قبله
، نحو : (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) فانه اراد ـ بايد ـ معناها البعيد ، اعني : القدرة ،
وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب اعنى : الجارحة المخصوصة ، وهو قوله : (بَنَيْناها).
او بلفظ بعده ،
كقول ابى الفضيل عياض ـ يصف ربيعا باردا ـ :
او الغزالة
من طول المدى خرفت
|
|
فما تفرق بين
الجدي والحمل
|
يعنى : كأن
الشمس ، من كبرها وطول مدتها ، صارت (خرفة) قليلة العقل ، فنزلت في برج الجدي ، في
اوان الحلول ببرج الحمل.
اراد بالغزالة
: معناها البعيد ، اعني : الشمس ، وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب ، الذي ليس
بمراد ، اعني : الرشاء ، اي : ولد الظبي ، حيث ذكر الخرافة ، وكذا ذكر الجدي
والحمل.
وقد يكون كل من
التوريتين ، ترشيحا للاخرى ، كبيت السقط :
اذا صدق الجد
افترى العم للفتى
|
|
مكارم للفتى
وان كذب الخال
|
أراد بالجد
الحظ ، وبالعم : الجماعة من الناس ، وبالخال : المخيلة.
ومعنى البيت :
انه اذا صدق جد الأنسان ، اي : صح حظه وبخته ، كذب الناس له ، واشاعوا عنه مكارم
لا تنام ، اي : لا تسكن ولا يضعف اشتهارها ، وان كذب الخال ، اي : وان عدمت
العلامات
الدالة على الخير والكرم في ذلك الشخص.
فان قلت : قد
ذكر صاحب الكشاف ـ في قوله تعالى ـ : «الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى» : انه تمثيل.
لأنه لما كان
الاستواء على العرش ، وهو : سرير الملك ، مما يرادف الملك ، جعلوه كناية عن الملك.
ولما امتنع هنا
المعنى الحقيقي ، صار مجازا ، كقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ).
اي : هو بخيل ،
(بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) أي : هو جواد ، من غير تصور يد ، ولا غل ، ولا بسط.
والتفسير
بالنعمة ، والتمحل للتثنية ، من ضيق العطن ، والمسافرة من (علم البيان) مسيرة
أعوام.
وكذا : قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) تمثيل وتصوير لعظمته ، وتوقيف على كنه جلاله ، من غير
ذهاب بالأيدي ، الى جهة حقيقة او مجاز ، بل يذهب الى اخذ الزبدة ، والخلاصة من
الكلام ، من غير ان يتمحل لمفرداته حقيقة او مجاز.
وقد شدد النكير
: على من يفسر (اليد) بالنعمة ، و (الايدي) بالقدرة ، و (الاستواء) بالاستيلاء ، و
(اليمين) بالقدرة.
وذكر الشيخ في
ـ دلائل الاعجاز ـ انهم وان كانوا يقولون : المراد (باليمين) القدرة ، فذلك تفسير
ـ منهم ـ على الجملة ، وقصدهم الى نفي الجارحة بسرعة ، خوفا على السامع من خطرات ،
تقع الجهال واهل التشبيه ، والافكل ذلك من طريق التمثيل.
قلت : جرى
المصنف في جعل الآيتين : مثالين للتورية ، على ما
اشتهر بين اهل الظاهر ، من اهل التفسير .. انتهى.
وقد ظهر من
تقسيم التورية : ان الايهام ، اي : التورية فيما نحن فيه ، من قبيل القسم الاول ،
ولاحتمال كونه من قبيل القسم الثاني ـ بقرينة الاستار ـ وجه وجيه ، تعرفه من
البيان الآتي في الترشيح عن قريب.
(و) يقال : ان (تشبيه)
المصنف (الاعجاز) الذي في القرآن ، (بالصور الحسنة) ، التي لا يدرك حسنها ، الا
اهل الذوق والنظر. واذا ادركه ، لا يمكن له توصيفه لغيره.
(استعارة
بالكناية) وقد تقدم بيانها ، ووجه تسميتها ، (واثبات) المصنف للاعجاز (الوجوه)
التي بها قوام المشبه به ، اي. الصور الحسنة (استعارة تخييلية) ، قد تقدم بيانها
ايضا.
(وذكر الاستار)
التي تلائم المشبه به ، اعني : الصور الحسنة ، وتناسبه (ترشيح) :
وهو ـ ايضا ـ من
اقسام الاستعارة ، وحاصله ومميزه : ان يذكر شيء يلائم المشبه به ، ان كان في
الكلام تشبيه ، او المستعار منه ، ان كان فيه استعارة ، او المعنى الحقيقي ، ان
كان فيه مجاز مرسل.
والفرق بينه
وبين التخييلية ، بقوة الاختصاص والتعلق بالمشبه به ونظيريه ، فما يكون اقوى
اختصاصا وتعلقا به اثباته : تخييلية ، وما يكون دونه فذكره ترشيح.
قال في بحث
الاستعارة : «والاستعارة باعتبار آخر ، غير اعتبار الطرفين والجامع واللفظ ، ثلاثة
اقسام : لأنها اما ان لم تقترن بشيء يلائم المستعار له او المستعار منه ،
او قرنت بما يلائم المستعار له او المستعار منه.
الاول : مطلقة
، وهي : ما لم تقرن بصفة ، ولا تفريع ، اي : تفريع كلام بما يلائم المستعار له او
المستعار منه ، نحو : عندي اسد ، والمراد بالصفة : المعنوية ، لا النعت النحوى ،
على ما مر في بحث القصر :
(من ان بين
الصفة المعنوية ، التي هي معنى قائم بالغير ، والنعت النحوي الذي هو تابع يدل على
ذات ومعنى ، فيها غير الشمول عموم من وجه لتصادقهما على العلم ـ في قولنا ـ :
اعجبنى هذا العلم ، وصدق الصفة المعنوية بدون النعت على العلم ـ في قولنا ـ :
العلم حسن ، وصدقه بدونها على الرجل ـ في قولك ـ : مررت بهذا الرجل.
والثاني :
مجردة ، وهي : ما قرن بما يلائم المستعار له ، كقوله اي : قول كثير :
غمر الرداء
اذا تبسم ضاحكا
|
|
غلقت بضحكته
رقاب المال
|
اي كثير العطاء
، استعار الرداء للعطاء ، لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه.
ثم وصفه بالغمر
الذي يلائم العطاء ، دون الرداء ، تجريدا للاستعارة والقرينة : سياق الكلام ، اعني
: قوله : اذا تبسم ضاحكا اي : شارعا في الضحك آخذا فيه ، يقال : غلق الرهن في يد
المرتهن ، اذا لم يقدر على انفكاكه ، يعني : اذا تبسم غلقت رقاب امواله في ايدي
السائلين.
والثالث :
مرشحة ، وهي ما قرن بما يلائم المستعار منه ، نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)
فانه استعار
الاشتراء للاستبدال والاختيار ، ثم فرع عليها ما يلائم الاشتراء من الربح والتجارة»
انتهى.
والمقام من هذا
القسم ، لان الاستار تلائم الصور الحسنة ، والوجوه المليحة ، فتأمل.
(وقد جرينا في
هذا) اي : في تعيين ان التشبيه وما يتعلق به ، من اي اقسام الاستعارة ونحوها ، على
نحو ينطبق (على اصطلاح المصنف) فقط.
لا على وجه
ينطبق على رأي الجميع ، ونحن بينا بمقدار الحاجة : تفصيل المقام ، خوفا من فوت
الفرصة ، لانها تمر مر السحاب ، وحذرا من ان لا يساعدنا التوفيق : لشرح كل في محله
، فاذا ساعدنا التوفيق لذلك ، نفصله بحول الله وقوته كمال التفصيل ، مع ما في كل
واحد منها من القال والقيل ـ انشاء الله تعالى ـ.
(والقرآن) فيه
وجوه ، بل اقوال اشتقاقا ومعنى :
احدها : انه
مصدر كالغفران والشكران ، من قرأ بمعنى : جمع فوزنه (فعلان) ، وهو : (بمعنى مفعول)
، كما قالوا : ان اللفظ بمعنى : ملفوظ ، والخلق ، بمعنى : مخلوق.
ثم (جعل) بحسب
الاشتراك اللفظى ، ـ كما في المعالم ـ تارة (اسما) اي : اسم جنس (للكلام المنزل
على النبي ص) ، وعليه : يطلق القرآن على المجموع ، وعلى السورة ، وعلى الآية ، بل
وعلى حرف واحد منه ، ان كان المراد من الكلام : معناه اللغوي.
وتارة اخرى :
جعل : علما للمجموع الشخصي المعين ، الذي اوله الفاتحة ، وآخره المعوذتين ، فيصدق
على السورة ـ مثلا ـ انها قرآن وبعض القرآن ، بالاعتبارين.
قال ـ في
المجمع ـ : هو اسم لكتاب الله خاصة ، لا يسمى به
غيره ، وانما سمى : قرآنا لأنه يجمع السور ويضمها ، وقيل : لأنه جمع القصص
، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والآيات ، والسور بعضها الى بعض.
وهو : مصدر ،
كالغفران والكفران ، يقال : فلان يقرأ قرآنا حسنا ، اي : قرآئته حسنة.
وفي الحديث :
القرآن جملة الكتاب ، والفرقان : المحكم الواجب العمل به.
ثانيها : انه
مشتق من القرى ، بمعنى الضيافة ، لأن القرآن مائدة الله للمؤمنين.
وللمصباح هاهنا
كلام مشتبه المراد ، لأنه ذكر القرآن في مادة :
(قرى) الناقص
اليائي ، ولكن ظاهر كلامه : انه مشتق من قرأ مهموز اللام ، بمعنى : التلاوة ، وهذا
نصه : قرأت ام الكتاب في كل قومة ، وبام الكتاب ، يتعدى بنفسه وبالباء ، قراءة ،
وقرآنا.
ثم استعمل
القرآن اسما ، مثل الشكران والكفران ، واذا اطلق انصرف شرعا : الى المعنى القائم
بالنفس ، ولغة : الى الحروف المقطعة لأنها هي التي تقرأ نحو : كتبت القرآن ومسسته.
وثالثها : انها
مشتق من المقارنة ، لما قورن فيه اللفظ الفصيح بالمعنى الصحيح.
ورابعها : ما
فى الاتقان ، نقلا عن قطرب ، انه انما سمى قرآنا : لأن القارىء يظهره ، ويبينه من
فيه ، اخذا من قول العرب : ما قرأت الناقة سلاقط ، اي : ما رمت بولد ، اي : ما
اسقطت ولدا ، اي :
ما حملت قط.
والقرآن يلفظه
القارىء من فيه ، ويلقيه ، فسمى : قرآنا.
وقال الفراء :
هو مشتق من القرائن ، لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا ، ويشابه بعضها بعضا ، وهي :
قرائن.
وعلى القولين :
هو بلا همز ـ ايضا ـ ونونه اصلية.
وقال الزجاج :
هذا القول سهو ، والصحيح : ان ترك الهمزة من باب التخفيف ، ونقل حركة الهمزة الى
الساكن قبلها.
وقال جماعة :
هو اسم علم غير مشتق ، خاص بكلام الله ، فهو غير مهموز.
ولا يذهب عليك
: ان كون القرآن منصرفا ، يدفع الاعتماد على بعض هذه الوجوه والأقوال ، فلا تغفل.
(ونظمه : تأليف
كلماته ، مترتبة المعاني) اللغوية لها ، (متناسقة الدلالات) الاصطلاحية لتلك
الكلمات ، (على حسب ما يقتضيه العقل) : بان يكون كل كلمة ، في مرتبتها التى
يقتضيها معنى تلك الكلمة مثلا : اذا كان معناها لازما ، او مسببا عن معنى كلمة
اخرى. اخرت الدالة على اللازم ، او المسبب عن الاخرى.
واذا اريد
الحصر في احد المعمولات ، قدم على عامله ، وعلى غيره من المعمولات ، وهكذا.
واذا كان مقتضى
الحال والمقام : الدلالة المطابقية ، اتى بها ، وكذلك التضمنية والالتزامية ،
وهكذا.
والحاصل : ان
لكل كلمة مع صاحبتها مقام ، لا بد ان تذكر في ذلك المقام ، وسيأتي لذلك زيادة
توضيح عن قريب ، عند قوله :
«فمقام كل من الاطلاق والتنكير .. الخ».
فظهر من هذا
البيان : ان المراد من المعاني : المدلولات اللغوية ومن الدلالات : اقسام الدلالة
الاصطلاحية ، فلا تكرار كما توهمه بعض القاصرين.
(لا تواليها)
اي : الكلمات ، (في النطق) والتلفظ ، (وضم بعضها الى بعض ، كيفما اتفق) اي : من
غير رعاية المناسبة بين معاني الكلمات ودلالاتها ، (على حسب ما اوضحناه).
وهذا (بخلاف
نظم الحروف) الهجائية ، التي يتركب منها الكلمة.
(فانه) اي :
نظم الحروف ، عبارة عن (تواليها) ، اي : الحروف (في النطق) والتلفظ ، (من غير
اعتبار معنى) لها (يقتضيه العقل).
لأنها ليس لها
معنى ، لأنها لم توضع للمعنى ، بل وضعت لغرض التركيب ، فلا يراعى في النطق بها الا
التركيب ، وضم بعضها الى بعض ، كيفما اتفق.
(حتى لو قيل ـ مكان
ضرب ـ : ربض ، لما ادى الى فساد) من حيث تركيب الحروف.
(و) ليعلم :
انه (ليس الاعجاز بمجرد الألفاظ) ، كما يوهمه ظاهر قوله : «ونظمه : تأليف كلماته
.. الخ» بل الاعجاز : باعتبار تأليف الألفاظ والكلمات ، على النحو المخصوص
المتقدم.
(والا لما كان
للطائف العلمين : مدخل فيه) اي : في الاعجاز.
(لأنها) اي :
لطائف المعلمين ، (لا تتعلق بنفس الألفاظ) ، مجردا عن اعتبار ترتب المعانى ،
وتناسق الدلالات.
(فلهذا) اي :
لأن النظم عبارة : عن التأليف المخصوص المتقدم
(اختار) المصنف : (النظم على اللفظ).
لأن النظم
عبارة : عن التأليف المخصوص المتقدم.
وسيأتي لهذا
زيادة ـ تحقيق عند قول المصنف : «وكثيرا ما يسمى فصاحة ايضا».
(ولأن فيه) اى
: في اختيار النظم : (استعارة لطيفة ، واشارة : الى ان كلماته) اى : القرآن (كالدرر)
، حيث شبه : ترتيب كلمات القرآن ، بترتيب الدرر في السلك ، لأن النظم في اللغة :
ادخال الدرر ونحوها في السلك.
قال ـ في
المصباح ـ : نظمت الخرز نظما ، من باب ـ ضرب ـ : جعلته في سلك ، وهو النظام ، ـ بالكسر
ـ انتهى.
او شبه : نفس
الكلمات بالدرر ، فيكون اثبات النظم استعارة تخييلية.
(وكان القسم
الثالث) ، عطف على : «كان علم البلاغة وتوابعها الخ» (من مفتاح العلوم ، الذي صنفه
الفاضل العلامة ، سراج الملة والدين ابو يعقوب ، يوسف السكاكي ـ تغمده الله
بغفرانه ـ).
قال ياقوت ـ في
معجمه ـ : (ابو يعقوب) يوسف بن ابي بكر ابن محمد السكاكى ، من اهل خوارزم ، علامة
امام في العربية ، والمعاني ، والبيان ، والأدب ، والعروض ، والشعر ، متكلم ، فقيه
، متفنن في علوم شتّى.
وهو : احد
افاضل العصر ، الذين سارت بذكرهم الركبان.
ولد سنة (٥٥٤).
وصنف (مفتاح
العلوم) في اثني عشر علما ، احسن فيه كل الاحسان وله غير ذلك.
وهو ـ اليوم ـ حي.
ببلدة (خوارزم).
وقال غيره :
كان من جملة علماء دولة السلطان (محمد خوارزمشاه) ومن المعاصرين (للمحقق الطوسي).
قيل : انه كان
في بدء امره حدادا ، فعمل بيده محبرة صغيرة من حديد ، وجعل لها قفلا عجيبا ، ولم
يزد وزن تلك المحبرة وقفلها على قيراط واحد ، فأهداها الى ملك زمانه ، ولما رآها
الملك وندماء مجلسه ، لم يزيدوا على الترحيب به شيئا.
فاتفق انه في
حين وقوفه ـ في ذلك المجلس ـ دخل رجل قام له الملك بالاحترام.
فسأل عنه
السكاكي؟ فقيل : انه من جملة العلماء.
فمن هذه الساعة
، دخلته فكرة التحصيل ، وكان قد بلغ عمره ثلاثين سنة.
توفى سنة (٦٢٦).
ويحكى عن
السيوطي : ان السكاكي نسبة جده ، لأنه كان سكاكا للذهب او الفضة.
قال ابن خلدون
: السكة : هي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس ، بطابع حديد
تنقش فيه صور او كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدنانير او الدراهم ، فتخرج رسوم تلك
النقوش عليها مستقيمة ، بعد ان يعير عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة
بعد اخرى ، وبعد تقدير اشخاص الدنانير والدراهم ، بوزن معين يصطلح عليه ، فيكون
لتعامل بها عددا ، وان لم تقدر اشخاصها يكون التعامل وزنا.
ولفظ (السكة)
كان اسما للطابع ، وهي الحديدة المتخذ لذلك ، ثم نقل الى اثرها ، وهي النقوش
الماثلة على الدنانير والدراهم ، ثم نقل الى القيام على ذلك ، والنظر في استيفاء
حاجاته وشروطه ، وهي : الوظيفة ، فصار علما عليها في العرف الاول.
وقال المؤرخ
جودت باشا ـ في تاريخه ـ : ان بمقتضى التحقيقات التى وقفنا عليها في هذا الباب ،
تبين : ان اليونانيين ، هم الذين احدثوا السكة ، قبل الفين وستمائة سنة وكسور.
وكان قبل ذلك :
يتبادلون الاموال بالسبائك المصنوعة من الذهب والفضة وما شابهها ، وكانوا ينقشون
عليها : تارة رسم صنم ، وطورا رسم الابنية ، والجبال ، والنبات ، والاشجار ، وطورا
كان الحكام المستقلون ، يرسمون صورهم. انتهى.
اما المصنف :
فهو على ما حكى ـ من الشذرات ـ : قاضي القضاة جلال الدين ، محمد بن عبد الرحمن بن
عمر بن احمد بن محمد ابن عبد الكريم بن الحسن بن علي بن ابراهيم بن على بن احمد بن
دلف ابن ابي دلف العجلي ، القزويني ، ثم الدمشقي ، الشافعي.
مولده :
بالموصل ، سنة (٦٦٦).
وتفقه على ابيه
، واخذ الأصلين عن الاربلى ، وسكن الروم مع ابيه ، واشتغل في انواع العلوم ، الى
ان قال : والف (تلخيص المفتاح) في المعاني والبيان ، وشرحه بشرح سماه (الايضاح).
انتهى.
قال الذهبي :
توفى بدمشق ، في جمادى الاولى ، سنة (٧٣٩) ، ودفن بمقابر الصوفية. انتهى.
وقزوين بلدة
مشهورة من بلاد ايران.
واما الشارح :
فهو على ما صرح نفسه ـ في المختصر ـ : مسعود ابن عمر المدعو : (بسعد التفتازاني).
قال بعض
الفضلاء : والانصاف : ان هذا الرجل محقق في عامة الفنون التي تناولها ، مشارك في
علوم كثيرة ، مكثر في التأليف ، فهو يحسن علوم العربية ويجيد التكلم فيها ، ويتكلم
في اصول الاعتقاد واصول الفقه ، والفقه نفسه ، والتفسير ، بصورة تخفظ له مكانة
سامية في حلبة الفضل والفضلاء.
اخذ عن القطب
الرازى ، والعضد الايجي ، وتقدم في الفنون ، واشتهر ذكره ، وطار صيته ، وانتفع
الناس بتصانيفه ، وكانت في لسانه لكنة ، وانتهت اليه معرفة العلم بالمشرق.
قال ـ في
الشذرات ، ناقلا عن غيره ـ : وفرغ من شرح الزنجاني حين بلغ ست عشرة سنة. ومن شرح
تلخيص المفتاح ، في سنة (٧٤٨) بهرات.
قال صاحب
الروضات : وجعله هدية الى حضرة سلطانها المعظم ـ في ذلك الزمان ـ : معز الدين ،
ابي الحسين المعروف : بمحمد كرت وكان عمره حين الشروع عشرين سنة ، وتاريخ الشروع
سنة (٧٤٣) والتولد حسب ما يراه صاحب الروضات : (٧٣٣) والوفاة : (٧٩٣).
ثم ذكر في
الروضات : له ستة عشر مصنفا توفى بسمرقند ، ونقل نعشه الى سرخس ، ودفن بها.
وفي سبب وفاته
: حكاية شبيهة بالقصة الزنبورية ، تذكر في كتب التراجم.
اما تفتازان ،
فقال ـ في مراصد الاطلاع ـ : قرية كبيرة ، من نواحى ـ نسا ـ وراء الجبل ، وقال : (نسا)
بفتح اوله والقصر ، هو : اسم بلد.
كان سبب تسميته
بهذا الاسم : ان المسلمين لما وردوا خراسان ، قصدوها ، فلما اتوها ، لم يروا بها
رجلا ، فقالوا : هؤلاء نساء ، والنساء لا يقاتلون ، فننسي أمرها الى ان تعود
رجالها ، وتركوها ومضوا.
وهي بخراسان ،
بينها وبين سرخس يومان ، وبينها وبين ابيورد يوم ، وبينها وبين نسابور ست او سبع
مراحل.
وقال : ايضا ،
خراسان : بلاد واسعة ، اول حدودها ـ مما يلي العراق ـ اذا زورد ، قصبة جوين وبيهق
، وآخر حدودها ـ مما يلي الهند ـ طخارستان ، (المسمى اليوم بتركستان في افغانستان)
وغزنه وسجستان ، وليس ذلك منها.
ومن امهات
بلادها ، نيسابور ، وهرات ، ومرو : وهي كانت قصبة ، وبلخ ، وطالقان ، ونساء ،
وابيورد ، وسرخس ، وما تخلل ذلك : من المدن التي دون جيحون.
ومن الناس من
يدخل اعمال خوارزم فيها.
وقيل : خراسان
اربعة ارباع :
فالربع الاول :
ابرشهر ، وهي : نيسابور ، وفوهستان ، والطبسين وهرات ، وبوشنج ، وباذغيس ، وطوس ،
وهى : طابران.
والربع الثاني
: مرو الشاه جهان ، وسرخس ، ونساء ، وابيورد ، ومرو الروز ، والطالقان ، وخوارزم ،
وآمل ، وهما على جيحون.
والربع الثالث
: وهو غربي النهر ، وبينه وبين النهر ثمانية فراسخ الفارياب ، وجوزجان ، وطخارستان
العليا ، وخست ، واندرابه ، والباميان ، وبغلان ، ووالج ، ورستاق بيل ، وبذخشان ،
وهو : مدخل الناس الى تبت.
والربع الرابع
: ما وراء النهر : بخارى ، والشاش ، والطرازبند ، والصفد ، وهوكس ، ونسف ، ورويان
، واشروسنه ، وسنام ، وفرغانه وسمرقند.
قال : والصحيح
الأول ، وهذا قول البلاذري ، وانما قاله : لأن جميع ذلك كان اولا مضموما الى والى
خراسان.
وقال : غزنه ـ بفتح
اوله ، وسكون ثانيه ، ثم نون ـ هكذا بقولونه ، والصحيح عند العلماء : غزنين ،
ويعربونها ، فيقولون : جزنه ، ويقال لمجموع بلادها : زابلستان ، وغزنة قصبتها ،
وهى :
مدينة عظيمة ،
وولاية واسعة ، في طرف خراسان ، وهى الحد بين خراسان والهند.
وقال : غرشستان
، (ويقال لها اليوم : اجرستان) ـ بالفتح ، ثم السكون ، وشين معجمة ، وسين مهملة ،
وتاء مثناة من فوق ، وآخره نون ـ : ولاية برأسها ، هرات في غربيها ، والغور في
شرقيها ، ومرو الروز عن شماليها ، وغزنة عن جنوبها ، ويقال لها : غرجستان ، ناحية
واسعة ، كثيرة القرى ، وبها نهر ، وهو : نهر مرو الروز.
وعلى هذه
الولاية : درب ابواب عديدة ، لا يمكن دخولها الا باذن ، ولها مدينتان ، تسمى :
احديهما (بسنين) او (نشين) والاخرى (سورمين).
وهما متقاربان
في الكبر ، بينهما مرحلة.
وقال ايضا :
غور ـ بضم اوله ، وسكون ثانيه ، وآخره راء ـ جبال وولاية ، بين هرات وغزنة ، وهى
بلاد باردة ، موحشة ، واسعة وهي ـ مع ذلك ـ لا تنطوي على مدينة مشهورة ، واكبر ما
فيها قلعة ، يقال لها : فيروز كوه ، فيها تسكن ملوكهم.
وقال : سنك سرخ
(ويقال لها اليوم : سنك ماشه) : قلعة حصينة بالغور ، بين هرات وغزنين ، وجميع ما
ذكر من غرشستان الى سنك ماشه ، تسمى اليوم : هزاره جات ، في افغانستان ، وتسمى حصة
منها : ده زنكى ، او ديزنكى ، وحصة اخرى : جاغوري ، ومركزها ومقر حاكمها : سنك
ماشه.
وهي : من اعمال
غزنين ، بينها وبين غزنين ست مراحل ، وبين موطني وبين سنك ماشه : مرحلة واحدة ،
وهو قرية تسمى : خاربيد ، من قرى الميتو.
(اعظم ما صنف ،
خبر كان) فى قوله : كان القسم الثالث (فيه اي : في علم البلاغة وتوابعها ، من
الكتب المشهورة) في علم البلاغة وتوابعها ، لفظة ـ من ـ مع مجرورها (بيان لما) في
قوله : ما صنف (نفعا) ، محول عن الفاعل ، على حذو ما تقدم في قدرا وسرا.
وهو (تميز من)
النسبة (فى اعظم) لا من المشهورة.
اعلم : ان ما
يتأدى اليه الفعل ويترتب عليه ، يسمى : غاية ، ان كان باعثا للفاعل على صدور ذلك
الفعل ، وقد يسمى : غرضا ، من حيث انه يطلب بالفعل ، والا يسمى : فائدة.
ثم ان كان مما
يتشوقه الكل طبعا ، يسمى : نفعا ومنفعة (لكونه)
اي : القسم الثالث (احسنها ترتيبا ، اي : لكون القسم الثالث احسن الكتب
المشهورة من جهة الترتيب ، وهو وضع كل شيء في مرتبته) التي يقتضي الذوق السليم
وضعه فيها.
(فلكل مسألة)
وكذلك كل باب وفصل (ـ مثلا ـ مراتب) يمكن وضعها في كل واحدة من تلك المراتب ، لكن
يعلم بحكم الذوق : ان (بعضها) اي : المراتب (اليق بها) ، اي : بكل واحدة من تلك
المسائل.
(فوضعها) اي :
المسألة (فيه) اي : في ذلك البعض الأليق ، (احسن) من وضع تلك المسألة في بعض آخر
من مراتبها ، غير الأليق بها ، وكذلك الأبواب والفصول.
والحاصل : ان كل
مسألة وكذلك كل باب وفصل ، يجوز ان تكون لها مراتب تناسب ان توضع فيها ، وبعض تلك
المراتب أحسن وأليق بها ، فعلى هذا جاز ان يكون تأليف بعض المصنفين والمؤلفين أحسن
ترتيبا من تأليف الآخرين.
(وان شئت ان
تعرف صدق هذا المقال ، فعليك بكتب الشيخ عبد القاهر) ، مع كمال تبحره في هذا الفن
وبلاغته ، (تراها) اي : كتبه (كأنها عقد) ثمين ، (قد انفصم) اي : انقطع (فتناثرت
لآليه).
وذلك : لأنه لم
يراع في كتبه ما يجب في فن التأليف : من مراعات حسن الترتيب ، وتناسب التركيب في
المسائل والابواب والفصول.
ونحن نذكر اكثر
عباراته في الكتاب ، كلا في محله المناسب ان ساعدنا التوفيق لاتمامه ـ ان شاء الله
تعالى ـ لأنه ولي التوفيق.
(ولكونه) اي
القسم الثالث (اتمها) ، اي : الكتب المشهورة ـ في علم البلاغة وتوابعها ـ (تحريرا
وهو :) اي : التحرير ـ في اللغة ـ : الاعتاق ، وتخليص العبد من الرق ، وفي الاصطلاح
: (تهذيب الكلام) ، عن الحشو والزوائد والتعقيد.
وقيل : عليه ان
هذا يفيد ان غيره من الكتب موصوف بتمام التحرير وان القسم الثالث موصوف بزيادة
التمام.
فيرد عليه : ان
تمام التحرير ينافي وقوع الحشو والزوائد والتعقيد فيه.
وايضا : التمام
لا يقبل الزيادة ، لانه نهاية الشيء ، وحينئذ فلا يصح التفضيل ، على ان التفضيل
انما يصاغ مما يقبل الفضل والزيادة.
واجيب عن
الأمرين : بأن المراد بالتمام : الثابت لتلك الكتب القرب اليه مجازا ، والقريب الى
التمام ، يقبل الزيادة ، فلا ينافي وقوع الامور الثلاثة ، ولا صوغ اسم التفضيل.
وليعلم : ان
اتميته في التهذيب بالنسبة الى الكتب المشهورة ، لا ينافي اشتماله على الامور
الثلاثة في نفسه ، كما سيذكر.
(ولكونه) اى :
القسم الثالث ، (اكثرها) اي : الكتب المشهورة (للاصول) اي : القوانين (والقواعد) ،
وقد تقدم تفسيرها.
و (هو) اي :
الجار والمجرور ، اي : للاصول (متعلق بمحذوف ، يفسره قوله : جمعا) فالتقدير :
اكثرها جمعا للاصول جمعا.
واورد على هذا
التقدير : بانه يلزم عليه عمل المصدر محذوفا ، مع انه لا يعمل محذوفا كما لا يعمل
فى متقدم ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا.
واجيب : بانه
من باب حذف العامل ، لا من باب عمل المحذوف
وقولهم : مالا يعمل لا يفسر عاملا ، مختص بباب الاشتغال ، وما نحن فيه ليس
منه ؛ فتأمل جيدا.
(لان معمول
المصدر لا يتقدم عليه ، لأنه عند العمل مأول بان) المصدرية ، او ـ ما ـ المصدرية (مع
الفعل) ، كما قال في الألفية.
بفعله المصدر
الحق في العمل
|
|
مضافا او
مجردا او مع ال
|
ان كان فعل
مع ان او ما يحل
|
|
محله ولاسم
مصدر عمل
|
وقد ذكرنا وجه
هذا الاشتراط والتأويل في (المكررات) في باب اعمال المصدر ، مستوفى فراجع.
(وهو) اي : ان
، بل مطلق حروف المصدرية : (موصول) حرفي ، كما ذكرنا ـ ايضا ـ فيها ، في باب
الموصولات.
(ومعمول الصلة
لا يتقدم على الموصول) وذلك لكونها مبينة له وكذا ما اول بهما ، (لكونه) ، اي :
تقدم الصلة على الموصول ، (كتقدم جزء من الشيء المترتب الأجزاء عليه) ، اي : على
الشيء.
وليعلم : ان
المراد بالتقدم هاهنا ، التقدم المكاني لا الطبعي ، كيف والتقدم الطبعى واجب للجزء
، كما قرر في محله.
ولا يذهب عليك
: ان هذا في تقدم ـ الصلة ـ كلا او جزءا على الموصول ، اما تقدم بعض اجزاء الصلة
على بعضها الآخر ، فذلك جائز ، نحو : اعجبني ان اعطيت درهما زيدا ، الا اذا ادى
الى الفصل : بين الفعل والموصول الحرفي ، فلا يجوز نحو : اعجبني ان زيدا ضربت ،
وذلك لضعف عمل المصدر ، لأن عمله كان بسبب شباهته باسم الفاعل واسم المفعول ،
المشابهين للفعل ، والشباهة بالواسطة ضعيفة ، كما بيناه فى ـ المكررات ـ في نفس
المسألة.
ولفظة (هذا) في
امثال المقام ، كلفظة ـ نعم ـ فيما تقدم عند قوله : «نعم ، لا يمكن بيان وجه
الاعجاز».
(والأظهر : انه)
اي : تقديم معمول الصلة ، (جائز اذا كان المعمول ظرفا) اي : اسم زمان او مكان ، (او
شبهه) ، وهو : الجار والمجرور ، ووجه الشبه فيه : انه محتاج الى الفعل او معناه ،
كاحتياج الظرف اليه ، ولأن الظرف في الحقيقة جار ومجرور ، لكونه متضمنا معني ـ فى
ـ كما في الألفية :
الظرف وقت او
زمان ضمنا
|
|
في باطراد
كهنا امكث ازمنا
|
ولذا سماه
بعضهم ظرفا اصطلاحا ، ولأن كثيرا من المجرورات ظروف زمانية او مكانية ، فاطلق
الظرف على مجموع المجرورات ، اطلاقا لاسم الأغلب على المجموع او على المجرور ،
اطلاقا لاسم الاخص على الأعم.
(قال الله
تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ) قال ـ في ملحقات مجمع البحرين ـ : المتبادر تعلق ـ مع ـ
ببلغ ، وليس كذلك.
قال الزمخشري :
اي : فلما بلغ ان يسعى مع ابيه فى اشغاله وحوائجه.
قال : ولا يتعلق
ـ مع ـ ببلغ ، لاقتضائه انهما بلغا معا حد السعي ، لا بالسعي لأنه صلة المصدر لا
يتقدم عليه ، وانما هى متعلقة بمحذوف ، على ان يكون بيانا ، كأنه قيل لما بلغ الجد
الذي يقدر فيه على السعي ، فقيل : مع من؟ قيل : مع اعطف الناس عليه ، وهو ابوه ،
اي : انه لم تستحكم قوته ، بحيث يسعى مع مشفق. انتهى.
ثم قال المجمع
: وفي منع تعلقه بالمصدر ، منع ، انتهى.
قال الرضي :
وانا لا ارى منعا من تقديم معمول المصدر عليه ،
اذا كان ظرفا او شبهه ، نحو قولك : «اللهم ارزقني من عدوك البراءة واليك
الفرار» قال الله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ) ورحمة) وقال : (فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ).
ثم قال : ما
نقله الشارح : بأدنى تغيير ، وهو قوله : (ومثل هذا كثير في الكلام والتقدير) ،
الذي ادعاه الزمخشري ، تكلف غير محتاج اليه.
(و) ان قلنا :
بان المصدر مؤول بحرف مصدري مع الفعل ، لأنه : (ليس كل ما اول بشيء ، حكمه حكم ذلك
الشيء) ، فلا منع من تأويل المصدر بحرف مصدري من جهة المعنى ، مع انه لا تلزمه
احكامه.
واما عدم تقدم
مفعوله الصريح ، فذلك لضعف عمله ، لما اشرنا اليه آنفا. (مع ان الظرف) وشبهه ، (مما
يكفيه رائحة من الفعل ، ولهذا اتسع في الظروف) وشبهها ، (ما لم يتسع في غيرها).
قال ابن هشام ـ
في القاعدة الثامنة ، من الباب الثامن ـ : انهم يتسعون في الظرف والمجرور ما لا
يتسعون في غيرهما ، فلذلك فصلوا بهما الفعل الناقص من معموله ، نحو : كان في الدار
او عندك زيد جالسا وفعل التعجب من المتعجب منه ، نحو : ما أحسن في الهيجاء لقاء
زيد وما اثبت عند الحرب زيدا ، وبين الحرف الناسخ ومنسوخه ، نحو قوله :
فلا تلحنى
فيها فان بحبها
|
|
اخاك مصاب
القلب جم بلابله
|
وبين الاستفهام
والقول الجاري مجرى الظن ، كقوله :
ابعد بعد
تقول الدار جامعة
|
|
شملي بهم ام
دوام البعد
|
وفي بعض النسخ
المصراع الثاني هكذا : شملي بهم ام تقول البعد
محتوما.
وبين المضاف
وحرف الجر ومجرورهما ، وبين اذن ولن ومنصوبهما نحو : هذا غلام والله زيد واشتريته
بوالله درهم ، وقوله :
اذن والله
ترميهم بحرب
|
|
تشيب الطفل
من قبل المشيب
|
وقوله :
لن ما رأيت
ابا يزيد مقاتلا
|
|
ادع القتال
واشهد الهيجاءا
|
وقدموهما خبرين
على الاسم في باب ان ، نحو : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً) ، ومعمولين للخبر في باب ما ، نحو : ما في الدار زيد
جالسا ، وقوله :
باهبة حزم
لذو ان كنت آمنا
|
|
فما كل حين
من توالى مواليا
|
وفي بعض النسخ
، المصراع الثاني مقدم مع تغيير هكذا : من تواتى مؤاتيا.
فان كان
المعمول غيرهما بطل عملهما ، كقوله :
قالوا تعرفها
المنازل من منى
|
|
وما كل من
وافى منى انا عارف
|
ومعمولين اصلة
ال ، نحو : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) انتهى محل الحاجة من كلامه.
ونقل في
الحاشية ـ عن ابن الحاجب ـ : الفرق بين ـ ال ـ وغيرها من الموصولات ، بان ـ ال ـ لما
كانت صورتها صورة الحرف المنزل جزءا من الكلمة ، صارت كغيرها من الأجزاء ، التي لا
يمنع التقديم وهذا مفقود في غيرها من الموصولات.
(ولكن) في لفظة
ـ لكن ـ في امثال المقام ، لا سيما اذا دخلت على الجملة الفعلية ، كلام.
قال ابن هشام :
لكن ـ ساكنة النون ـ : ضربان ، مخففة من
الثقيلة : وهي حرف الابتداء ، لا تعمل ـ خلافا للاخفش ويونس ـ لدخولها بعد
التخفيف على الجملتين ، وخفيفة ـ بأصل الوضع ـ : فان وليها كلام ، فهي : حرف
ابتداء لمجرد افادة الاستدراك ، وليست عاطفة ، ويجوز ان تستعمل بالواو ، نحو : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) وبدونها ، نحو ـ قول زهير ـ :
ان اين ورقاء
لا تخشى بوادره
|
|
لكن وقايعه
في الحرب تنتظر
|
وزعم ابن ابي
الربيع : انها حين اقترانها بالواو ، عاطفة جملة على جملة ؛ وانه ظاهر قول سيبويه
، وان وليها مفرد ، فهي : عاطفة بشرطين :
احدهما : ان
يتقدمها نفي او نهي ، نحو : ما قام زيد لكن عمرو ، ولا يقم زيد لكن عمرو.
فان قلت : قام
زيد ثم جئت بلكن ، جعلتها حرف ابتداء ، فجئت بالجملة فقلت : لكن عمرو لم يقم ، واجاز
الكوفيون : لكن عمرو ـ على العطف ـ وليس بمسموع.
الشرط الثاني :
ان لا تقترن بالواو ، قاله الفارسي واكثر النحويين وقال قوم : لا تستعمل مع المفرد
الا بالواو ، واختلف ـ في نحو ما قام زيد ولكن عمرو ـ على اربعة اقوال :
احدها ليونس :
ان ـ لكن ـ غير عاطفة ، والواو : عاطفة مفردا على مفرد.
الثاني لابن
مالك : ان ـ لكن ـ غير عاطفة ، والواو : عاطفة جملة حذف بعضها ، على جملة صرح
بجميعها.
قال : فالتقدير
في ـ ما قام زيد ولكن عمرو ـ : ولكن قام عمرو.
وفي ـ ولكن
رسول الله ـ : ولكن كان رسول الله.
وعلة ذلك : ان
الواو لا تعطف مفردا على مفرد مخالف له في الايجاب والسلب ، بخلاف الجملتين
المتعاطفتين ، فيجوز تخالفهما فيه نحو ، قام زيد ولم يقم عمرو.
الثالث لابن
عصفور : ان ـ لكن ـ عاطفة ، والواو زائدة لازمة.
الرابع لابن
كيسان : ان ـ لكن ـ عاطفة ، والواو زائدة غير لازمة.
وسمع : ما مررت
برجل صالح لكن طالح ، بالخفض ، فقيل : على العطف ، وقيل : بجار مقدر ، اي : لكن
مررت بطالح ، وجاز ابقاء عمل الجار بعد حذفه : لقوة الدلالة عليه بتقدم ذكره.
وقال ابن مالك
: وما يوجد في كتب النحويين : من ما قام سعد لكن سعيد ، داخلة على المفرد بدون
الواو ، فمن كلامهم لا من كلام العرب ، انتهى.
وسيجيء بعض
الكلام في هذه اللفظة ، في باب احوال المسند اليه ، في بحث العطف ، وفي باب القصر
ايضا ، انشاء الله تعالى.
(كان القسم
الثالث) من مفتاح العلوم : (غير مصون ، اى : محفوظ من الحشو ، وهو) ـ كما يجيء في
باب الايجاز والاطناب ـ (الزائد المستغنى عنه) ، مع تعينه.
(وعن التطويل
وهو) ـ كما يجيء ايضا في الباب المذكور ـ : (الزائد على اصل المراد بلا فائدة) ،
مع عدم تعينه.
(وسيجيء الفرق
بينهما في باب) الايجاز و (الاطناب) بما اشرنا اليه ، (وعن التعقيد) اللفظي ،
والمعنوي.
(وهو) ـ على ما
يؤخذ مما سيأتي عن قريب ـ : (كون الكلام مغلقا) بحيث (يتوعر على الذهن تحصيل معناه)
، لخلل في نظمه او في الانتقال منه الى المعنى المقصود.
وقد تقدم
الايراد : بأن وقوع هذه الثلاثة فيه ، ينافي دعوى اتميته تحريرا والجواب عنه.
(قابلا خبر بعد
خبر) لكان في قوله : لكن كان (اي : كان قابلا للاختصار) ، اي : حذف بعض الألفاظ
منه ، (لما فيه من التطويل ، مفتقرا) اي : محتاجا ، وهو ـ ايضا ـ : خبر آخر لكان (اي
: كان محتاجا الى الايضاح) والتفسير ، (لما فيه من التعقيد) بقسميه المذكورين ، وكان
ـ ايضا ـ محتاجا (الى التجريد) بالمعنى اللغوي.
قال ـ في
المصباح ـ : جردت الشيء جردا من باب ـ قتل ـ ازلت ما عليه ، وجردته من ثيابه ـ بالتثقيل
ـ : نزعتها عنه ، وتجرد هو منها ، انتهى.
لا بالمعنى
الاصطلاحي ، الذي هو من المحسنات المعنوية البديعية.
قال في تعداد
المحسنات المعنوية : ومنه ، اي : من المعنوي ، ـ التجريد ـ وهو : ان ينتزع من امر
ذي صفة ، أمر آخر مثله فيها اي : مماثل لذلك الأمر ذي الصفة ، في تلك الصفة ،
مبالغة في كمالها فيه ، اي : لأجل المبالغة ، لكمال تلك الصفة في ذلك الأمر ذي
الصفة حتى كأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة ، الى حيث يصح : ان ينتزع منه موصوف آخر
بتلك الصفة ، وهو ـ اي : التجريد ، اقسام :
منها : ان تكون
ـ بمن ـ التجريدية ، نحو قولهم : لي من فلان
صدق حميم.
في الصحاح :
حميمك : قريبك الذي تهتم لأمره ، اي : بلغ فلان من الصداقة حدا ، صح معه ، اي : مع
ذلك الحد ، ان يستخلص منه ، اي : من ـ فلان ـ صديق آخر مثله فيها ، اي : في
الصداقة الى آخر ما ذكر هناك من الأقسام فراجع.
وقوله : (الفت
مختصرا جواب ـ لما ـ اي : كان ما تقدم) : من كون القسم الثالث ، غير مصون من
الامور الثلاثة الموجبة لنقصه ، قابلا للامور الثلاثة الموجبة لاصلاحه.
(سببا لتأليف
مختصر) هو متن هذا الكتاب ، المسمى ـ كما يأتي عن قريب ـ : (بتلخيص المفتاح) قيل :
انما اختار : ألفت ، على اختصرت ، مع ان مؤلفه : اختصاره ، اشعارا بأن ليس مطمح
نظره اختصار كتاب السكاكي ، بل تأليف مختصر مستقل في نفسه ، لكن مع مراعاة ان : (يتضمن
ما فيه ، اي : في القسم الثالث من القواعد ، جمع قاعدة ، وهى) ـ كما ذكرنا سابقا ـ
: (حكم كلي ينطبق على جزئياته ، ليستفاد احكامها منه ،) اي : من الحكم الكلى ، (كقولنا)
ـ في هذا الفن ـ : (كل حكم القيته الى المنكر يجب توكيده ، فانه ينطبق على ان زيدا
قائم. وان عمرا راكب ، وغير ذلك : مما يلقى الى المنكر).
وطريق استفادة
احكام الجزئيات من القواعد : تركيب قياس من الشكل الأول ، (بان) يجعل كل واحد من
الجزئيات ـ المطلوب استفادة حكمه من القواعد ـ صغرى القياس ، وكل واحدة من القواعد
ـ التي يستفاد منها حكم ذلك الجزئي ـ : كبرى القياس ، فينتج القياس
ما هو المطلوب ، اعني استفادة حكم ذلك الجزئي.
مثلا ، (يقال :
هذا كلام مع المنكر) ، هذا : صغرى القياس (وكل كلام مع المنكر يجب ان يؤكد) ، هذا
: كبرى القياس (فيعلم) اي : فينتج هذا القياس ، (انه) اي : هذا الكلام الجزئي يجب
ان (يؤكد).
وقس عليه ، قولنا
ـ في فن النحو ـ : هذا فاعل ، وكل فاعل مرفوع ، فينتج ان هذا مرفوع.
وكذلك قولنا ـ في
الفقه ـ : هذا مسكر ، وكل مسكر حرام فينتج : ان هذا حرام.
وكذلك قولنا ـ في
الاصول ـ : هذا أمر ، وكل أمر يدل على الوجوب ، فينتج : ان هذا يدل ـ على القول
بالكبرى ـ على الوجوب وهكذا.
(ويشتمل)
المختصر : (على ما يحتاج اليه ، لا على ما يستغنى عنه) كالقسم الثالث ، (ليكون
حشوا) مثل ما في القسم الثالث (من الامثلة) بيان ـ لما ـ في ما يحتاج اليه ، (وهي
: الجزئيات التي تذكر لايضاح القواعد ، وايصالها الى فهم المستفيد) ، وان لم تكن
من التنزيل ، او من كلام العرب الموثوق بعربيتهم ، وقد نذكرهم بعيد هذا.
(والشواهد :
وهي الجزئيات ، التي يستشهد بها في اثبات القواعد لكونها من التنزيل) ، اي :
القرآن.
لكن بشرط ان لا
يكون من شواذ القراءة ، ومنسوخ التلاوة ،
بل يكون منقولا بالتواتر عن النبي (ص).
قال سيدنا
الاستاذ ـ في البيان ـ لقد اختلفت الآراء حول القراءات السبع ، المشهورة بين الناس
، فذهب جمع من علماء اهل السنة : الى تواترها عن النبي (ص) ، وربما ينسب هذا القول
الى المشهور بينهم.
ونقل عن السبكي
: القول بتواتر القراءات العشر.
وافرط بعضهم ،
فزعم : ان من قال : ان القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر ، فقوله كفر ، ونسب
هذا الرأي الى مفتي البلاد الأندلسية (ابى سعيد) فرج بن لب.
والمعروف عند
الشيعة : انها غير متواترة ، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارىء ، وبين ما
هو منقول بخبر الواحد.
واختار هذا
القول : جماعة من المحققين من علماء أهل السنة ، وغير بعيد ان يكون هذا هو المشهور
بينهم ، وستعرف ذلك.
وهذا القول هو
الصحيح ، ولتحقيق هذه النتيجة ، لا بد لنا من ذكر امرين :
الاول : اطبق
المسلمون بجميع نحلهم ومذاهبهم ، على ان ثبوت القرآن ينحصر طريقه بالتواتر ،
واستدل كثير من علماء السنة والشيعة على ذلك : بان القرآن تتوفر الدواعى لنقله ،
لأنه الأساس للدين الاسلامى ، والمعجز الالهي لدعوة نبي المسلمين (ص).
وكل شيء تتوفر
الدواعي لنقله ، لا بد وان يكون متواترا.
وعلى ذلك : فما
كان نقله بطريق الآحاد ، لا يكون من القرآن قطعا.
نعم ، ذكر
السيوطي : ان القاضي ابا بكر قال ـ في الانتصار ـ :
ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين : الى اثبات القرآن حكما لا علما بخبر
الواحد دون الاستفاضة ، وكره ذلك اهل الحق ، وامتنعوا منه.
وهذا القول
الذي نقله القاضي واضح الفساد ، لنفس الدليل المتقدم وهو : ان توفر الدواعي للنقل
، دليل قطعي على كذب الخبر ـ اذا اختص نقله بواحد او اثنين ـ فاذا اخبرنا شخص او
شخصان بدخول ملك عظيم الى بلد ، وكان دخول ذلك الملك الى ذلك البلد مما يمتنع في
العادة ان يخفى على الناس ، فانا لا نشك في كذب هذا الخبر ، اذا لم ينقله غير ذلك
الشخص او الشخصين.
ومع العلم
بكذبه ، كيف يكون موجبا لاثبات الاحكام التي تترتب على دخول الملك ذلك البلد؟
وعلى ذلك :
فاذا نقل القرآن بخبر الواحد ، كان ذلك دليلا قطعيا : على عدم كون هذا المنقول
كلاما إلهيا ، واذا علم بكذبه ، فكيف يمكن التعبد بالحكم الذي يشتمل عليه؟
وعلى كل ، فلم
يختلف المسلمون : في ان ـ القرآن ـ ينحصر طريق ثبوته ، والحكم بانه كلام إلهي :
بالخبر المتواتر.
الثاني :
القراء الذين ادعى تواتر قراءاتهم : سبعة ، وهم عبد الله ابن عامر ، عبد الله بن
كثير ، عاصم ، ابو عمرو بن العلاء ، حمزة بن نافع الكسائي.
ثم اخذ ـ سلمه
الله ـ في تعداد القراء وترجمتهم ، الى ان قال : ان في انكار جملة من اعلام
المحققين على جملة من القراءات ، دلالة واضحة : على عدم تواترها ، اذ لو كانت
متواترة ، لما صح هذا الانكار.
فهذا ابن جرير
الطبري ، انكر قراءة ابن عامر ، وطعن في كثير
من المواضع ، في بعض القراءات المذكورة في السبع.
وطعن بعضهم :
على قراءة حمزة ، وبعضهم على قراءة ابي عمرو وبعضهم : على قراءة ابن كثير.
وان كثيرا من
العلماء : انكروا تواتر ما لا يظهر وجهه في اللغة العربية ، وحكموا بوقوع الخطأ
فيه من بعض القراء ، وقد تقدم ـ في ترجمة حمزة ـ انكار قرائته من امام الحنابلة
احمد ، ومن يزيد بن هرون ، ومن ابن مهدي ، ومن أبي بكر بن عياش ، ومن ابن دريد.
قال الزركشي ـ بعد
ما اختار : ان القراءات توقيفية ، خلافا لجماعة ، منهم : الزمخشري ، حيث ظنوا انها
اختيارية ، تدور مع اختيار الفصحاء ، واجتهاد البلغاء ـ : ورد على حمزة قراءة : (وَالْأَرْحامَ) بالخفض.
ومثل ما حكى :
عن أبي زيد ، والأصمعي ، ويعقوب الحضرمي انهم خطأوا حمزة في قرائته : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) بكسر الياء المشددة.
وكذلك : انكروا
على ابى عمرو ، ادغامه الراء في اللام في (يَغْفِرْ لَكُمْ) وقال الزجاج : انه غلط فاحش .. انتهى محل الحاجة من
كلامه.
قال الموصلي في
ـ المثل السائر ـ : من العجب ان يقال : انه لا يحتاج الى معرفة التصريف ، ألم تعلم
: ان نافع بن ابي نعيم ـ وهو من اكبر القراء السبعة قدرا ، وأفخمهم شأنا قال في ـ (مَعايِشَ) ـ : «معائش» بالهمز ، ولم يعلم الأصل في ذلك ، فاوخذ
عليه وعيب من اجله.
ومن جملة من
عابه : ابو عثمان المازني ، فقال ـ في كتابه في التصريف ـ : ان نافعا لم يدر ما
العربية.
وكثيرا ما يقع
اولوا العلم في مثل هذه المواضع ، فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ، ولا اطلاع
لهم عليها؟ واذا علم حقيقة الأمر في ذلك ، لم يغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا.
وهذه لفظة (مَعايِشَ) لا يجوز همزها باجماع من علماء العربية لأن الياء فيها
ليست مبدلة من همزة ، وانما الياء التي تبدل من الهمزة ـ في هذه المواضع ـ تكون
بعد الف الجمع المانع من الصرف ويكون بعدها حرف واحد ، ولا تكون عينا ، نحو : ـ سفائن
ـ.
وفي هذا الموضع
غلط نافع ، لأنه لا شك اعتقد : ان معيشة بوزن فعيلة وجمع فعليه هو على فعائل ، ولم
ينظر الى ان الأصل في معيشة ، «معيشة» على وزن ـ مفعلة ـ وذلك : لأن اصل هذه
الكلمة ، من ـ عاش ـ التي اصلها ـ عيش ـ على وزن ـ فعل ـ ويلزم مضارع ـ فعل ـ لتصح
الياء ، نحو : ـ يعيش ـ.
ثم تنقل حركة
العين الى الفاء ، فتصير يعيش.
ثم يبنى من
يعيش مفعول ، فيقال : معيوش به ، كما يقال : ميسور به.
ثم يخفف ذلك
بحذف ـ الواو ـ فيقال : معيش به ، كما يقال مصير به.
ثم تؤنث هذه اللفظة
، فتصير ـ معيشة ـ انتهى.
فان كان هكذا
حال القراء وقرائتهم الشاذة ، فكيف يعتمد على ما ينقل عنهم : من القراءات الشاذة
في اثبات الأحكام او القواعد.
قال ـ في
الاتقان ـ : اختلف في العمل بالقراءة الشاذة ، فنقل امام الحرمين ـ في البرهان ـ عن
ظاهر مذهب الشافعي : انه لا يجوز وتبعه ابو نصر القشيري ، وجزم به ابن الحاجب ،
لأنه نقله على انه قرآن ، ولم يثبت .. انتهى.
هذا في شواذ
القراءة ، اما شواذ الاستعمال فهي ـ على ما قاله الشارح في شرح الزنجاني ـ : على
ثلاثة اقسام :
قسم مخالف
للقياس دون الاستعمال.
وقسم مخالف للاستعمال
دون القياس ، وكلاهما مقبولان.
وقسم مخالف
للقياس والاستعمال.
وهو مردود ،
فكون الكلمة من القسم الثاني ، لا ينافي وقوعه في القرآن ، كقوله تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ) بفتح الباء ، والقياس كسرها في المضارع ، لأن ـ فعل ـ بفتح
العين لا يأتي مضارعه على ـ يفعل ـ بالفتح ، الا اذا كانت عين ماضيه او لامه حرف
حلق ، كسأل ونفخ.
فمجيء المضارع
ـ بالفتح ـ على خلاف القياس ، لكنه ثبت عن الواضع لا يقال : ان ـ ابى يأبى ـ لامه
حرف الحلق ، اذ الألف من حروف الحلق ، فلهذا فتح عينه.
لأنا نقول : لا
نسلم انها من حروف الحلق ، ولئن سلمنا انها من حروف الحلق ، لكن لا يجوز ان يكون
الفتح لأجلها ، للزوم ـ الدور ـ لأن وجود ـ الألف ـ موقوف على الفتح ، لأنها في
الأصل ـ ياء ـ قلبت ـ الفا ـ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فلو كان الفتح لأجلها : للزم
ـ الدور ـ لتوقف الفتح عليها ، وتوقفها عليه ، فهو مفتوح العين في الأصل.
واما ـ قلى
يقلى ـ بالفتح ، فلغة بني عامر ، والفصيح : الكسر في المضارع واما ـ بقى يبقى فلغة
طي ، والأصل كسر العين في الماضي ، فقلبوها فتحة ، واللام الفا ، تخفيفا ، وهذا
قياس مطرد عندهم.
واما ـ ركن
يركن ـ فمن تداخل اللغتين ، اعني : انه جاء من باب ـ نصر ينصر ـ و ـ علم يعلم ـ فأخذ
الماضي من الأول ، والمضارع من الثاني. انتهى.
وللكلام تتمة ،
يأتي عند قوله : «فنحو : ال وماء .. الخ».
فتحصل مما
ذكرنا : ان كل ما ثبت انه من القرآن ، يحتج به في اثبات القواعد ، وان لم يثبت
وروده في استعمال الفصحاء.
قال الشارح ـ في
باب الالتفات ـ : قد كثر في الواحد من المتكلم لفظ الجمع ، تعظيما له ، لعدهم
المعظم كالجماعة ، ولم يجيء ذلك للغائب والمخاطب ، فى الكلام القديم ، اي : كلام
الفصحاء المتقدمين في الجاهلية ، وانما هو استعمال المولدين.
فعلق عليه
المحشي : بأن المولدين ، اي : المتحدثين ، ـ يقال : كلام مولد ، اي : محدث ـ ، وفي
القاموس : المولدة : المتحدثة ـ من الشعراء لحدوثهم ـ تمسكوا في ذلك ، اي : في
استعمال الجمع للغائب والمخاطب ، بما وقع في القرآن المجيد من قوله تعالى : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً) وقوله تعالى : (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) اي : الله ورسوله ، والجمع للتعظيم.
وقال القاضي ـ في
تفسير قوله تعالى ـ : (وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) خطاب بلفظ ـ الجمع ـ للتعظيم ، الى غير ذلك.
وعدم مجيئه في
كلام بلغاء الجاهلية : لا يدل على عدم فصاحته ، فان القرآن ، مما يستشهد به لا
عليه.
فما قيل : ان
كلام الشارح يقتضي : ان يكون القرآن واردا على استعمال المولدين ، ليس بشيء ، بل
استعمال المولدين وارد على اسلوب القرآن .. انتهى.
وفي ورود
استعمال الجمع في المفرد ـ في امثال المقام ـ : توجيهات لا حاجة لنا الى ذكرها ،
لكونها خارجة عما نحن بصدده.
الى هنا : كان
الكلام في اثبات القواعد بالقرآن ، والاستشهاد به.
واما الاستشهاد
بالروايات : فيظهر صحة الاستشهاد بها وعدمها ، مما ذكره بعض المحققين ، في تعليقته
على شرح اصول الكافي ، للمولى محمد صالح ، في باب رواية الكتب والحديث ، وهذا نصه
: اقوى الأدلة على جواز النقل بالمعنى : ما ذكره العلامة في النهاية ـ وهو خامس
أدلته ـ : من انا نعلم قطعا ، ان الصحابة لم يكتبوا ما نقلوه ، ولا كرروا عليه ،
بل كلما سمعوا اهملوا الى وقت الحاجة اليه ، بعد مدة متباعدة ، وذلك يوجب القطع :
بأنهم لم ينقلوا نفس اللفظ بل المعنى. انتهى.
وهذا معنى قول
داوود بن فرقد : فلا يجيء ـ اي : فلا يمكن ـ لي ضبط الألفاظ بخصوصها.
ونظير ذلك : ما
نرى من نقل العلماء أقوال غيرهم ، لا بألفاظهم ونقل الناس ما سمعوه من الوعاظ
والناطقين ، ورسالة بعضهم الى بعض شفاها.
فيحتج من
الروايات : بما يمكن ضبطه ونقله ، وهو اصل المعنى المعقود له الجملة ، لا الدقائق
التى يستنبط بفكر العلماء ، ومن خصوصيات
الألفاظ.
الى ان قال :
وحينئذ ، فنقول : امثال هذه ليست بحجة ، اذ كما نعلم يقينا : انهم رووا الأحاديث
بالمعنى ، نعلم ـ ايضا ـ : ان الناس لا يقدرون على حفظ هذه الدقائق ، بل لا
يتفطنون لها ، حتى يحفظوها.
فما هو شايع
بين بعض فقهائنا المتأخرين ، خصوصا بين من تأخر عن الشيخ المحقق الأنصاري ، من
استنباط الأحكام من هذه الدقائق المستنبطة من ألفاظ الروايات بتدقيقاتهم ، غير
مبتن على أساس متين ، خصوصا ما يدعونه من الظن الاطميناني بصدور هذه الروايات ،
وانها حجة ، لا تعبدا بآية النبأ وامثالها ، بل لحصول الاطمينان ، وان الاطمينان
علم عرفا.
والحق : انهم
ان ادعوا حصول الاطمينان بصدور هذه الألفاظ المروية بخصوصياتها ، كما يحتجون بها
في الفقه ، فنحن نعلم يقينا عدم صدورها كذلك ، ولا حفظ خصوصياتها في ابدالها ـ ايضا
ـ ، وليس صدورها وهما فضلا عن الظن ، وفضلا عن الاطمينان .. انتهى.
واظهر من ذلك ـ
فيما نحن بصدده ـ : ما ذكره الدماميني ـ في حاشية المغنى ـ ، في الباب الخامس ، في
آخر الخاتمة ، عند قول ابن هشام : «اما لو لا قومك حديثو عهد بالاسلام» : فلعله
يروى بالمعنى.
فقال في
الحاشية : اقول : يعني فلا يكون فيه الدليل ، لأنه يحتمل ان لا يكون لفظه (ص) ،
وهذا مما يؤدى : الى عدم الاستدلال بالأحاديث النبوية على الأحكام النحوية ، على
القول بجواز نقل الحديث بالمعنى لتطرق الاحتمال المذكور : الى كل لفظ يستدل به
منها.
وقد اتخذ الشيخ
ابو حيان هذا المعنى ، في الرد على الامام جمال
الدين بن مالك ، حيث يستدل : على بعض احكام النحو بألفاظ الحديث.
وكنت في عام
ثلاثة وسبعين وسبعمائة ، كتبت في ذلك سؤالا نصه : ما جوابكم ـ رضى الله عنكم ـ في
الاستدلال بالأحاديث النبوية ، على اثبات القواعد النحوية ، هل هو صحيح ، ام لا؟
فقد منع ذلك بعضهم مستدلا : بان الحديث يجوز نقله بالمعنى ، فلا يجزم بان هذا لفظه
(ص) ، حتى يصح الاستدلال به.
وقد اشار الشيخ
اثير الدين (ابو حيان) : الى هذا المعنى في بعض كتبه ، وخالف في ذلك بعضهم محتجا :
بان تطرق الاحتمال الذى يوجب سقوط الاستدلال بالحديث ، ثابت في اشعار العرب
وكلامهم ، فيجب ان لا يستدل بها أيضا ، وهو خلاف الاجماع.
وزعم هذا
القائل : ان الاستدلال بالحديث ، انما يسقط اذا اثبت المنكر : ان الحديث المستدل
به ليس لفظه (ص) وان لفظه كذا ، وان الناقل غيره الى كذا ، فأي الرأيين اصح ،
بينوا الحجة على ذلك مثابين مأجورين؟
فكتب مولانا (شيخ
الاسلام) سراج الدين البلقيني ، ومن خطه نقلت ما مثاله : اللهم ارشد للصواب ،
اثبات قواعد النحوية ، يحتاج الى استقراء تام من كلام العرب ، ومجرد وجود لفظة في
حديث ، لا يثبت بها قاعدة نحوية ، وكذلك مجرد لفظ في كلام العرب.
والذي يقع
للشيخ ابن مالك ، من ذلك : يتعاقبون فيكم ، وفي : من يقم ليلة القدر ايمانا
واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه ، وغير ذلك.
فالشيخ ابن
مالك ، يجد الشواهد من كلام العرب لذلك الذي في الحديث ، فيأتي به للاعتضاد ، لا
لاثبات ـ قاعدة نحوية ـ بمجرد ذلك.
وشيخنا ابو
حيان ، يتوقف في ذلك ، من جهة ما دخله من تغيير الرواة.
واما ما نقل عن
العرب : من منظوم ومنثور ، مع الاستقراء. فذلك هو الذي يثبت به قواعد ابواب النحو.
والذي ذهب اليه
الشيخ ابن مالك من الاعتقاد ، حسن راجح ـ والحالة هذه ـ والله سبحانه اعلم
بالصواب.
وكتب شيخنا
قاضي القضاة ، ولي الدين ابن خلدون المالكي ، ومن خطه نقلت ـ ايضا ـ ما مثاله :
الحمد لله ،
هذه الشبهة : لم يزل يعترض في هذا الاصل ، الذي عليه كافة العلماء في كل عصر ، من
الاستدلال على القواعد النحوية بمتون الأحاديث وصيغها المروية ، من كلام العرب
واشعارهم ، مع تجويز نقل ذلك بالمعنى ـ على رأى من جوزه ـ فيتطرق الى تلك الصيغ
احتمال التبديل والتغيير ، ويسقط الاستدلال بها.
وما ذكره
المانع من سقوط الاستدلال : انما هو حيث يقوم احتمال التغيير ، ولم يتبين ثبوته من
انتفائه ، هل يسقط الاستدلال؟
واما حيث يتعين
التغيير بدليله ، فلا يكاد احد ان يخالف في سقوط الاستدلال حينئذ.
ولنا في الجواب
ـ عن هذه الشبهة ـ مسالك :
الاول : ادعاء
القطع ، بان صيغ هذه الأحاديث ، وكلمات العرب التي يستدلون بها ، لم تبدل ، ولم
ينقل شيء منها بالمعنى : بدليل
اطباقهم في كل عصر على الاستدلال بذلك ، ولو لا انهم قاطعون : بأن صيغها لم
تبدل لما كان ذلك ، لأن العادة : يحيل ان يتواطؤوا على الاستدلال بما ليس بصحيح ،
فيكون اطباقهم على الاستدلال بها : دليلا قطعيا على احالة التبديل فيها ، وانهم
حصل لهم علم يقين : بأنها منقولة بصيغها ، لأن صحة الاستدلال بها ، لازم خاص لعدم
التبديل فيها ، فيتعاكس الدليل من الجانبين ، اعني : بالملزوم على اللازم ، وباللازم
على الملزوم.
ونظير هذا :
استدلالهم ، على اشتراط اليقين في مقدمات البرهان ، بان النتيجة قطعية.
وقولهم في
المتواتر : هو ما حصل العلم عنده ، فيجعلون حصول العلم ، دليلا على حصول صفة
التواتر.
فكذا اتفاقهم
على الاستدلال بها ، دليل على انها لم يغير صيغها.
ويشكف عن هذا
وينبه ـ على سره : ما وقع لبعض المحققين ـ في الرد على ما ذهب اليه الامام (فخر
الدين بن الخطيب) ـ : من ان الدلائل اللفظية لا يفيد اليقين ، لتوقفه على نقل
اللغة في اوضاعها واعرابها وعلى نفى احتمال غير المراد ، للاشتراك ، او النقل ، او
المجاز ، او التخصيص ، او التقديم ، او التأخير.
وعلى نفي
احتمال النسخ والمعارض العقلي ، ولا قطع بذلك في شيء من الدلائل اللفظية.
فقال بعض
المحققين ـ في جواب ذلك ـ : ان القطع بالمدلولات ، موجود في كثير من الألفاظ ، مع
قيام هذه الاحتمالات.
ألا ترى قول
القائل المشافه : «اسقني الماء» او «ناولني الكتاب» فان المخاطب يفهم مراده على
القطع ، ويبادر الى سقيه الماء ، او مناولة الكتاب ، مع ان هذه الاحتمالات قائمة ،
وما ذاك الا لوجود قرائن حالية اقترنت بالخطاب ، وعينت المراد منه على القطع ، مع
توهم هذه الاحتمالات ، والغت الاحتمالات وانتفت.
وقال : وكذا
يجد في الأدلة الشرعية ، ما استفيد مدلوله على القطع مع هذه الاحتمالات ، وذلك :
لأنه كما نقل لفظه الآخر عن الأول جاز ان ينقل معه تلك القرائن الحالية ، التي فهم
بها المخاطب الأول مراده على القطع ، فنوقل اليقين بالمراد مع الغاء امر هذه الاحتمالات
لانها وان كانت متوهمة ، فمن حيث مجرد اللفظ والقرائن الحالية المذكور تدفعها
وتنفيها.
قال : وهذا
شبهة الامام ، فلنا نحن ان نقول هنا مثل ذلك ، وان هذه الأحاديث النبوية والكلمات
اللغوية ، قامت عند المستدلين بها قرائن حالية ،. دالة بالقطع على عدم تغيير ألفاظها
وصيغها ، وتنوقلت بينهم تلك القرائن ، واخذها الآخر عن الأول ، فبنوا صحة
الاستدلال بها ، على ذلك اليقين المتناقل.
المسلك الثاني
: التنزيل من ادعاء القطع الى دعوى غلبة الظن ، الذي هو مناط الأحكام الشرعية كلها
، وكذا ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ ، وقوانين الاعراب ، فليس اليقين
مطلوبا في شيء من ذلك.
وهذا الذي عليه
كافة العلماء ، في ان اكثر مدارك الأحكام ظنية واذا غلب على الظن ، ان صيغ هذه
الأحاديث والكلمات المنقولة لم
تبدل ، كان ذلك كافيا في صحة الاستدلال بها.
وانما قلنا :
يغلب على الظن انها لم تبدل ، لأن الأصل عدم التبديل ، والاصل هو الذي يرجح ويغلب
على ظن وقوعه ، سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل هذه الصيغ شايع ، بين
المحدثين والناقلين ، وهو الاولى ـ عندهم ـ.
ومن يقول منهم
بالجواز : فانما هو يمعنى التجويز العقلى ، الذي لا ينافي وقوع نقيضه ، فلذلك
تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون فيه مع قولهم بجواز النقل بالمعنى.
فيغلب على الظن
من هذا كله : انها لم تبدل ، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحا ، فيلغى ، ولا يقدح
في صحة الاستدلال بها.
المسلك الثالث
: ان هذه الأحاديث والكلمات المروية ، انما الخلاف في جواز النقل بالمعنى فيها ،
فيما لم يدون ولا كتب ، واما ما دون وجعل في بطون الكتب ، فلا يجوز تبديل ألفاظها
، من غير خلاف بينهم في ذلك.
قال ابن صلاح ـ
بعد ان ذكر خلافهم في نقل الحديث بالمعنى ـ : ان هذا الخلاف لا تراه جاريا ، ولا
اجراه الناس ـ فيما نعلم ـ فيما تضمنه بطون الكتب ، فليس لأحد ان يغير لفظ شيء من
كتاب المصنف ويثبت بدله فيه لفظا آخر بمعناه ، فان الرواية بالمعنى رخص فيها من
رخص ، لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج وذلك مفقود فيما
اشتملت عليه بطون الاوراق والكتب .. انتهى كلام ابن صلاح.
وتدوين
الأحاديث والأخبار ، بل وكثير من المرويات ، وقع في
الصدر الاول ، قبل فساد اللغة العربية ، وحين كان كلام اولئك المبدلين ـ على
تقدير تبديلهم ـ يسوغ الاحتجاج به ، وغايته يومئذ تبديل لفظ يصح الاحتجاج به ـ ايضا
ـ.
فلا فرق بين
الجميع في صحة الاستدلال ، ثم دون ذلك المبدل ، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى ـ كما
قال ابن الصلاح ـ فبقى حجة في بابه صحيحة ، ولا يضر توهم ذلك الاحتمال السابق ، في
شيء من استدلالهم المتأخر ، والله اعلم.
هذا كلامه
برمته ، ولا يخفى ما في المسلك الأول من التكلف والتعسف ، فتأمل ولا تقلد.
ومن ذلك : يعلم
صحة الاستدلال وعدمها ، اذا كان الشاهد مرويا (من كلام العرب ، الموثوق بعربيتهم)
من الجاهليين ، والمخضرمين.
قال الشارح ـ في
آخر الخاتمة من فن البديع ـ : المخضرمين ـ بالخاء والضاد المعجمتين ـ : وهم الذين
ادركوا الجاهلية والاسلام مثل لبيد.
قال في ـ الأساس
ـ : ناقة مضرمة : جذع نصف اذنها ، ومنه المخضرم الذي ادرك الجاهلية والاسلام ،
كأنما قطع نصفه ، حيث كان في الجاهلية وسيأتي في بحث وقوع مفرد غير عربي في القرآن
: ان المخضرم من الاسماء الاسلامية ، التي لم تكن العرب تعرفها بمعانيها الجديدة.
قال المحشى ـ في
الموضع المذكور ـ : الشعراء على أربع طبقات الجاهليون : كامرء القيس ، وزهير ،
وطرفة.
والمخضرمون :
الذين ادركوا الجاهلية والاسلام ، كحسان ووليد.
والمتقدمون من
أهل الاسلام : كفرزدق ، وجرير ، وذي الرمة.
وهؤلاء كلهم
يستشهد بكلامهم.
والمحدثون من
اهل الاسلام : الذين نشأوا بعد الصدر الأول من المسلمين ، كالبحتري ، وابي الطيب ،
لا استشهاد بكلامهم ، الا ان يجعل ما يقول بمنزلة ما يرويه.
ولا وجه لهذا
الجعل ، وان صدر عن صاحب ـ الكشاف ـ في اثناء تفسير قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ
وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) لأن مبنى الرواية على الوثوق والضبط ، ومبنى القول على
الدراية والاحاطة والاتقان في الأول ، لا يستلزم الاتقان في الثانى ، والقول بان
ما يقوله بمنزلة نقل الحديث بالمعنى : ليس بسديد ، بل هو بعمل الراوي اشبه ، وهو
لا يوجب السماع. انتهى.
ويظهر وجه عدم
صحة الاستشهاد بكلام المحدثين ، اي : المولدين مما نقلناه سابقا ، في سبب تدوين
النحو ، فلا نعيده.
(فهي) ، اي :
الشواهد ، (اخص من الأمثلة) ، باعتبار الصلاحية لأن كل ما يصلح ان يستشهد بها
لاثبات القواعد ، يصلح ان يذكر لا يضاحها من غير عكس ، والسر في ذلك : ما صرح به :
من ان الشاهد لا بد فيه من ان يكون من كلام العرب ، الموثوق بعربيتهم ، بخلاف
المثال.
ثم لا يذهب
عليك : ان المراد بالقواعد في المقام ، القواعد التي تختص بلغة العرب والفاظهم ،
واما القواعد التي لا اختصاص لها بلغتهم والفاظهم ، كاكثر مباحث علم البلاغة ، فلا
يشترط في صحة الاستشهاد لاثبات تلك المباحث ، كون ما يستشهد به من كلام العرب
الموثوق بعربيتهم.
بل يجوز
الاستشهاد لها بكلام غيرهم ، كما ترى في اكثر مباحث
الكتاب ، فلا تغفل.
(ولم آل) عطف
على الفت ، ويجوز ان يكون حالا من فاعله وهو متكلم وحده من الفعل المضارع ، مجزوم
بحذف آخره ، وهو : ألو ، لأنه مشتق (من الالو) ـ بفتح الهمزة وسكون اللام ـ كالنصر
او ـ بضم الهمزة واللام ـ كالعنق.
واصل آل ـ بهمزتين
ـ كما قلنا ، الاولى : للمتكلم ، والثانية : فاء الفعل قلبت الفا ، بقاعدة : انه
اذا اجتمع همزتان في اول الكلمة والثانية منهما ساكنة ، فانها تقلب ـ مدة ـ من جنس
حركة ما قبلها.
(و) معنى الالو
: (التقصير) ، من قصر عن الشيء وتوانى عنه لا من القصر ، بمعنى ضد الطول ، او
الانتهاء ، او العجز عن الشيء او ابيضاض الثوب ، او الحبس ، او الامساك ، كل ذلك
مذكور ـ في المصباح ـ.
وقد يستعمل
الالو ، بمعنى المنع ، حقيقة او مجازا ، كما يصرح به الشارح.
(جهدا بالضم)
اي : بضم الجيم ، (والفتح) ، اي : بفتحها ، كلاهما بمعنى (الاجتهاد) ، كما عن بعض
أهل اللغة.
(وعن الفراء ،
الجهد ـ بالضم ـ : الطاقة ، و ـ بالفتح ـ : المشقة).
وقد يذكر لها
معاني اخر ، يمكن ارجاعها الى حد هذين المعنيين.
قال ـ في
المصباح ـ : الجهد ـ بالضم في الحجاز ، و ـ بالفتح في غيرهم ـ : الوسع والطاقة.
وقيل : المضموم
: الطاقة ، والمفتوح : المشقة.
والجهد ـ بالفتح
ـ لا غير : النهاية والغاية ، وهو مصدر من ـ جهد ـ في الأمر جهدا ، من باب نفع ـ :
اذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب وجهده الأمر والمرض جهدا ، ـ ايضا ـ : اذا بلغ منه
المشقة.
ومنه : جهد
البلاء ، ويقال : جهدت فلانا جهدا ، اذا بلغت مشقته وجهدت الدابة واجهدتها : حملت
عليها في السير فوق طاقتها ، وجهدت اللبن جهدا : مزجته بالماء ، ومخضته ، حتى
استخرجت زبده ، فصار حلوا لذيذا ، قال الشاعر :
(من ناصع اللون حلو الطعم مجهود)
وصف ابله
بغزارة لبنها ، والمعنى : انه مشتهى لا يمل من شربه لحلاوته ، وطيبه.
وقوله (ص) :
اذا جلس بين شعبها وجهدها ، مأخوذ من هذا ، شبه لذة الجماع ، بلذة شرب اللبن الحلو
، كما شبهه بذوق العسل ـ بقوله ـ : حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك.
وجاهد في سبيل
الله جهادا ، واجتهد في الأمر : بذل وسعه وطاقته في طلبه ، ليبلغ مجهوده ، ويصل
الى نهايته. انتهى.
والى هذا
الأخير ، ينظر قولهم ـ في تعريف الاجتهاد الاصطلاحي ـ ويمكن ان يكون ناظرا الى المعنى
الثالث ، والى الرابع ينظر قول علي بن الحسين ـ في يوم عاشوراء ـ : العطش قد قتلني
، وثقل الحديد اجهدني فهل الى شربة ماء من سبيل ، الا لعنة الله على القوم
الظالمين.
(وقد استعمل
الالو) حقيقة او مجازا ، او على سبيل التضمين ، بمعنى المنع ، كما (في قولهم : لا
آلوك جهدا) ، فلذلك جاء : (معدى الى مفعولين).
والمقام من هذا
القبيل ، حذف المفعول الأول ، لأنه غير مقصود ـ كما اختاره الشارح ـ او لان المراد
العموم ، لأن الحذف ـ كما يأتي ـ يفيد العموم ، او لان الخطاب لغير معين ، اي :
لكل من يتأتى منه الانتفاع بهذا المختصر ، ـ كما يأتي في باب تعريف المسند اليه ـ
(والمعنى) على
ما ذكرنا : (لا امنعك جهدا ، وحذف هنا المفعول الأول : لأنه غير مقصود) ، او لما
اشرنا اليه.
(اي : لم امنع
اجتهادا) ، اي : بذلت كل جهدي ، (في تحقيقه ، اي : المختصر) ، او القسم الثالث ، (يعني
: في تحقيق ما ذكر فيه من الابحاث ، وتهذيبه ، اي : تنقيحه ، ورتبته ، اي : المختصر
ترتيبا اقرب تناولا ، اي : اخذا ، وهو) اي : التناول (في الأصل) ، اي : في اللغة ،
(مد اليد الى الشيء ليؤخذ).
قال ـ في
المصباح ـ : نولته المال تنويلا : اعطيته ، والاسم النوال ونلت له بالعطية انول له
نولا ـ من باب قال ـ ونلته العطية ـ ايضا ـ كذلك ، وناولته الشيء فتناوله ، انتهى.
(من ترتيبه ،
اي : ترتيب السكاكي ، او القسم الثالث) ، وهو من قبيل : (اضافة المصدر الى الفاعل)
، ان كان المراد الأول ، وهو اكثر في الاستعمال ، لكون الفاعل متصلا بعامله ، كما
بيناه ـ في المكررات ، في باب اعمال المصدر ـ ولذا قدمه.
(او) من قبيل
اضافة المصدر الى (المفعول) ، ان كان المراد الثاني ، وهو اقل استعمالا ـ ان ذكر
الفاعل ـ ، وكثير ـ ان لم يذكر ـ ، وقد ذكرنا وجهه في الموضع المذكور ، فراجع.
(ولم ابالغ في
اختصار لفظه ، اي : المختصر).
وقوله : (تقريبا
مفعول له ، لما تضمنه معنى لم ابالغ) ، وهو : تركت المبالغة ، كأنه قال : تركت
المبالغة في الاختصار تقريبا (لتعاطيه ، اي : تناوله ، وطلبا لتسهيل فهمه على
طالبيه).
حاصل الكلام ،
وملخص المرام ، ـ في المقام ـ : انه لا بد من ان يؤول الجملة الفعلية السالبة ،
اعني : لم ابالغ ، بجملة فعلية موجبة ، اعني : تركت المبالغة.
(و) ذلك : لأنه
(لو لم يؤول الفعل المنفى) ، يعني : لم ابالغ (با) لفعل ا (لمثبت) ، اعني : تركت
المبالغة ، (على ما ذكر ، لكان المعني : ان المبالغة في الاختصار) كان ، لكنه (لم
يكن للتقريب والتسهيل ، بل لأمر آخر) ، كسهولة الحفظ ، ونحوها من الامور التي
تقتضي الاختصار ، وهذا المعنى غير مراد قطعا ، اذ المراد نفي المبالغة فى الاختصار
مطلقا.
(وهذا مبنى على
ما ذكره الشيخ ـ في دلائل الاعجاز ـ) وقد ينقله الشارح ـ في باب العطف ـ بعبارة
اخرى ، لا فرق. فيما هو المقصود بينها وبين ما ذكر هنا.
(وهو ان من حكم
النفي اذا دخل على كلام فيه تقييد على وجه ما) ، اي : سواء كان التقييد ، بأحد
المفاعيل ام احد المتعلقات الأخر ، (ان يتوجه) النفي ، (الى ذلك التقييد ، وان يقع
له خصوصا) ـ كما في قوله تعالى ـ : (لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) حيث توجه النفى اي : النهي الى القرب حال السكر ، لا
الى قرب الصلاة مطلقا.
(مثلا : اذا
قيل : لم يأتك القوم اجمعون ، كان نفيا للاجتماع)
لا نفيا لأصل اتيان القوم ومجيئهم ، ولو بعضهم.
(وهذا) الذي
ادعاه الشيخ ، (مما لا سبيل الى الشك فيه) عند من له ذوق ولطف قريحة ، فى فهم
دقائق الكلام.
(ولعمري لقد
افرط المصنف).
قال في ـ المثل
السائر ـ ما ملخصه : الاقتصاد والتفريط والأفراط توجد في كل شيء من علم وصناعة
وخلق.
فاما الاقتصاد
، فهو : من القصد الذي هو : الوقوف على الوسط الذي لا يميل الى احد الطرفين.
واما التفريط ،
فهو : التقصير والتضييع.
واما الافراط ،
فهو : الاسراف وتجاوز الحد.
فالتفريط
والافراط هما الطرفان ، والاقتصاد : هو الوسط المعتدل. انتهى.
فعلى هذا :
معنى العبارة : ان المصنف ، لقد اسرف وتجاوز الحد (في وصف القسم الثالث) ، وذمه ،
والازراء به : (بان فيه حشوا وتطويلا ، وتعقيدا ، تصريحا ـ اولا ـ) بقوله : «ولكن
كان غير مصون. الخ (وتلويحا ـ ثانيا ـ) بقوله : قابلا للاختصار .. الخ (وتعريضا ـ ثالثا
ـ حيث وصف) المصنف ، (مؤلفه) ، اي : المختصر : (بأنه مختصر منقح ، سهل المأخذ ، اي
: لا تطويل فيه ، ولا حشو ولا تعقيد ، كما في القسم الثالث).
وليعلم : ان
التلويح والتعريض ، وكذا الرمز والايماء والاشارة ، كلها من اقسام الكناية ، على
وجه مخرج دقيق ، والفرق بينها بالاعتبار.
قال ـ في بحث
الكناية ـ قال السكاكي : الكناية تتفاوت الي تعريض وتلويح ، ورمز وايماء واشارة.
وذكر ـ في شرح
المفتاح ـ انه انما قال : «تتفاوت» ولم يقل : «تنقسم» لأن التعريض وامثاله مما ذكر
، ليس من اقسام الكناية فقط ، بل هو اعم.
وفيه نظر ،
والمناسب للعرضية : التعريض ، اي : «الكناية» ادا كانت عرضية ، مسوقة لأجل موصوف
غير مذكور ، كان المناسب : ان يطلق عليها اسم التعريض ، يقال : عرضت لفلان وبفلان
، اذا قلت قولا وانت تعنيه ، فكانك اشرت به الى جانب ، وتريد جانبا آخر.
ومنه :
المعاريض في الكلام ، وهى : التورية بالشيء عن الشيء.
وقال ـ صاحب
الكشاف ـ الكناية : ان تذكر الشيء ، يغير لفظه الموضوع له ، والتعريض : ان تذكر
شيئا ، تدل به على شيء آخر لم تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج اليه : جئتك لاسلم
عليك فكأنه أمال الكلام الى عرض يدل على المقصود.
ويسمى التلويح
: لأنه يلوح منه ما يريده.
وقال ابن
الأثير ـ في المثل السائر ـ : الكناية : ما دل على معنى يجوز حمله على جانبي ـ الحقيقة
والمجاز ـ بوصف جامع بينهما ، وتكون في المفرد والمركب.
والتعريض : هو
اللفظ الدال على معنى ، لا من جهة الوضع الحقيقي او المجازي ، بل من جهة التلويح
والاشارة ، فيختص باللفظ المركب كقول من يتوقع صلة : والله اني محتاج.
فانه تعريض
بالطلب ، مع انه لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ، وانما فهم منه المعنى من عرض اللفظ
، اي : من جانبه.
ولغيرها ، اى :
والمناسب لغير العرضية ـ ان كثرت الوسائط بين
اللازم والملزوم ، كما في كثير الرماد ، وجبان الكلب ، ومهزول الفصيل
التلويح ، لأن التلويح هو : ان تشير الى غيرك من بعد.
والمناسب
لغيرها ـ ان قلت الوسائط مع خفاء في اللزوم ، كعريض القفا ، وعريض الوسادة ـ :
الرمز ، لأن الرمز : ان تشير الى قريب منك على سبيل الخفية ، لأنه الاشارة بالشفة
والحاجب.
والمناسب
لغيرها ـ ان قلت الوسائط بلاخفاء ـ كما في قوله :
او ما رأيت
المجد ألقى رحله
|
|
في آل طلحة
ثم لا يتحول
|
الايماء
والاشارة .. انتهى محل الحاجة من كلامه.
(واضفت الى ذلك
: المذكور من القواعد) ، التي في القسم الثالث (وغيرها) من الأمثلة والشواهد ،
ونحوها : (فوائد عثرت ، اي : اطلعت في بعض كتب القوم عليها ، اي : على تلك الفوائد).
قد تقدم معنى
الفائدة اصطلاحا ، وهي في اللغة : الزيادة والطريف من الاشياء ، والمراد ـ فى
امثال المقام ـ : هو المعنى الثاني ، كما يرمز اليه الشارح ـ بعيد هذا ـ بقوله : «ولقد
اعجب .. الخ».
قال ـ في
المصباح ـ : الفائدة : الزيادة تحصل للانسان ، وهي اسم فاعل من قولك : فادت له
فائدة فيدا ، من باب ـ باع ـ وأفدته مالا : اعطيته ، وأفدت منه مالا : اخذت.
وقال ابو زيد :
الفائدة : ما استفدت من طريقة مال : من ذهب ، او فضة ، او مملوك ، او ماشية.
وقالوا :
استفاد مالا استفادة ، وكرهوا ان يقال : أفاد الرجل مالا افادة ، اذا استفاده ـ ،
وبعض العرب يقوله ، قال الشاعر :
ناقته ترمل
في النفال
|
|
مهلك مال
ومفيد مال
|
والجمع ـ الفوائد
ـ وفائدة العلم والأدب من هذا ، انتهى فتأمل جيدا.
(وزوائد لم
اظفر ، اي : لم أفز في كلام أحد من القوم) اي : علماء هذا الفن ، (بالتصريح بها ،
اي : بالزوائد ، ولا بالاشارة اليها بأن يكون كلامهم على وجه : يمكن تحصيلها منه
بالتبعية وان لم يقصدوها ، يعنى : لم يتعرضوا لها ، لا نفيا ولا اثباتا).
اعترض عليه :
بأن هذه الزوائد ، ان كانت غير موجودة في كلام أحد علماء هذا الفن ، لا بطريق التصريح
، ولا بطريق الاشارة والتلويح كانت باطلة ، اذ لا مستند لها ـ حينئذ ـ على انها
اذا كانت خارجة عن كلامهم ، فلا معنى لادخالها فيه ، مع كونها اجنبية مما قالوه ،
فكيف تدخل في فنهم ، وتضاف الى ما قالوه ، ويجري عليه حكمه.
واجيب عن ذلك :
بأن المراد انها لا توجد بالنظر الى القواعد ، وهذا لا ينافي انها تؤخذ بالتأمل في
القواعد بعد الممارسة ، والمأخوذ من القواعد لا يضاف الا لمستنبطه ، وحينئذ يصح
ادراجها في الفن.
(كبعض
اعتراضاته ـ على المفتاح ـ وغيره) ، فان هذه الاعتراضات وان نشأت من الممارسة في
القواعد ، والتأمل فيها ، لكنها لا تنسب الى احد ، بل تنسب الى من استنبطها
واستخرجها ، بالتأمل الصادق والممارسة الصحيحة.
والا : يلزم ان
ينسب كل ما استنبطه المتأخرون الى المتقدمين ، وهو كما ترى.
(ولقد اعجب) اي
: اتى بشىء عجيب حسن ، (في جعل ملتقطات كتب الأئمة : فوائد ، ومخترعات خاطره :
زوائد).
وجه الاستحسان
: ما فيه من خفض الجناح ، حيث نسب الزيادة الى خصائصه ، وشأن الزوائد ان تحذف ،
وتطرح ، ولا تقبل ، وهذا تواضع والتواضع من الصفات الحسنة ، سيما من الأكابر.
قيل : ويحتمل
ان يكون المراد : ان مخترعات خواطره زوائد في الفضل ، على الفوائد التي التقطها من
كتب الأئمة ، وذلك غير بعيد من امثاله.
(وسميته :
تلخيص المفتاح) ، ليطابق اسمه معناه ، لأنه تلخيص لمعظم ما في المفتاح ، فيكون من
الأعلام المنقولة ، الملموحة الى اصلها.
واعترض عليه :
بأنه جعل مؤلفه فيما سبق : مختصرا ، والاختصار والتلخيص متنافيان ، لأن الاختصار :
تقليل اللفظ وتكثير المعنى ، والتلخيص معناه : الشرح ، فهو عكس الاختصار ، لأنه
يحتاج الى بسط وتكثير في اللفظ.
واجيب عن ذلك :
بأنه لم يرد فيما سبق اختصاره من المفتاح ، بل أراد انه مختصر في نفسه ، وهاهنا
اراد انه تلخيص للمفتاح ، فتأمل.
(وانا اسأل
الله ، لا يعرف لتقديم المسند اليه هاهنا جهة حسن اذ) المحتمل من جهات حسن تقديم
المسند اليه ـ في امثال المقام ـ اي : فيما قدم المسند اليه على المسند الفعلي ،
الذي لم يل حرف النفى التخصيص او التقوى ، كما يأتي ذلك في باب المسند اليه مفصلا
، ولا يعرف لشيء منهما مناسبة في المقام.
اما الأول :
فلانه (لا مقتضى للتخصيص) ، وقصر السؤال على
نفسه ، بل ولا حسن في ذلك ، لأن الحسن في مقام الدعاء ، والسؤال عن الله :
الشركة مع سائر الناس ، ليكون اقرب للاجابة ، كما وجه بذلك اشراك الغير في (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).
وكذلك الثاني :
اذ (لا) مقتضى (للتقوى) ـ ايضا ـ اذ لا انكار ولا تردد ، في السؤال عن الله تعالى
، حتى يحتاج الى تقوى الحكم بتكرر الاسناد ، بسبب تقديم المسند اليه.
قيل : يمكن ان
يكون التقديم ، للتخصيص والحصر ، او التقوى اما الاول : بدعوى ان (المصنف) من
تواضعه ، رأى ان كتابه لا يلتفت اليه غيره ، فضلا عن ان يسأل النفع به ، فلا يسأل
النفع به الا هو ، فكأنه استحقر كتابه تواضعا ، وقال : انا اسأل النفع به دون غيري
، والقصر على هذا حقيقي ، ويجوز ان يكون القصر اضافيا بالنسبة الى حساده ومعارضيه
من علماء السوء في عصره وزمانه ، بل في كل عصر وزمان ، فقال : وانا اسأل الله لا
غيري ، اي :
المعارضين
والحساد.
قيل : وكلا
الحصرين ليس بشيء ، اما الاول : فلان استحقاره مؤلفه ، بحيث يدعى عدم صلاحيته لان
يلتفت اليه ، غير مناسب لما اسلفه من مدح مختصره ، وترجيحه على المفتاح ، فان ذلك
المدح والترجيح ، ينافي ويناقض : انه يرى ان غيره لا يعتد به ، فتأمل.
اما الثاني :
فبأن التخصيص المذكور ، انما يكون للرد على من يعتقد الشركة ، كما يأتي في باب
القصر مفصلا ، وليس هنا من يعتقد شركة معارضيه وحساده له في ذلك السؤال ، حتى
يحتاج الى التخصيص ردا على من يعتقد الشركة.
اما الثاني :
اي : امكان ان يكون التقديم للتقوى ، فبأن تقوى الحكم ، وتأكيده بتكرر الاسناد ،
ليس بلازم ان يكون للرد على منكر ، بل قد يكون لمجرد الاعتناء بالحكم ، ولظهور
الرغبة فيه ، او لاستبعاد الحكم.
فالتقديم
للاعتناء بالسؤال والاهتمام به ، او لظهور الرغبة فيه ، فتوجه الى الله ، يتضرع في
الاجابة مجتهدا بأقصى وسعه ، مشيرا الى انه لا يعتمد على ما بالغ به في وصف مؤلفه
، بل يسأل الله النفع به.
او لاستبعاده
السؤال ، ولذا علله بما يأتي من قوله : «انه ولي ذلك النفع به» فتأمل جيدا.
واما اذا
تماشينا مع الشارح ، فنلتزم بقوله : (فكأنه قصد الى جعل ـ الواو ـ للحال ، فاتى
بالجملة الاسمية) ، اي : قدم المسند اليه ، حتى يصير الجملة الفعلية التي فعلها
مضارع ، جملة اسمية ، والا لا يمكن جعل ـ الواو ـ حالية ، كما قال ابن مالك في
الفيته :
وذات بدء
بمضارع ثبت
|
|
حوت ضميرا
ومن الواو خلت
|
(وما يقال : انه) اي : الاتيان
بالجملة الاسمية ، (لقصد) دلالة الجملة على (الاستمرار) والثبوت ، لما تقرر وثبت
عندهم : من دلالة الجملة الاسمية على الاستمرار والدوام والثبوت ، فنقول : (فيه
نظر لحصوله) اي : الاستمرار والثبوت ، (من المضارع) اي : اسأل (كما سيجيء) في
احوال المسند (في قوله :) فدخولها اي : ـ لو ـ على المضارع ـ في نحو قوله تعالى ـ :
(لَوْ يُطِيعُكُمْ) في كثير من الامر لعنتم» اي : لوقعتم في الجهد والهلاك
، لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا ، لانه كان في ارادتهم استمرار عمل
النبي ص
على ما يستصوبون ، وانه كلما عن لهم رأى في امر كان معمولا به ، بدليل قوله
تعالى : (فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرِ) كما فى قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) بعد قوله : (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ) حيث لم يقل : الله مستهزء بهم ، بلفظ اسم الفاعل ، قصدا
الى حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت.
والاستهزاء :
هو السخرية والاستخفاف ، ومعناه انزال الهوان والحقارة بهم ، وهكذا كانت نكايات
الله في المنافقين ، وبلاياء النازلة بهم ، تتجدد وقتا فوقتا ، وتحدث حالا فحالا.
فنسبة الدلالة
: على الاستمرار والثبوت ، الى اسمية الجملة ، لا وجه لها.
وايضا : دلالة
الجملة الاسمية : على الاستمرار والثبوت ، ليست مطلقة ، بل مشروطة : بأن لا يكون
الخبر فيها فعلا ولا ظرفا.
قال ـ في الباب
الثالث ـ : ان لفظ المفتاح ، صريح في ان كون المسند جملة فعلية ، في نحو : زيد
انطلق ، انما هو لافادة التجدد دون الثبوت ، وان نحو : زيد علم ، يفيد التجدد ،
وان نحو : زيد في الدار يحتمل الثبوت والتجدد ، بحسب تقدير : حاصل ، او حصل.
فالقول بأن كل
جملة اسمية تفيد الثبوت ، وهم : بل انما يكون ذلك : اذا لم يكن الخبر جملة فعلية ،
والقول : بافادة التجدد والثبوت معا باعتبار الاسنادين ، مما لا يخفى بطلانه.
وقال ـ ايضا ـ ،
في الباب المذكور : واما كونه ، اي : كون المسند فعلا ، فلتقييد المسند بأحد
الازمنة الثلاثة ، اعني الماضي ، وهو الزمان الذي قبل زمان تكلمك ـ ، والمستقبل ،
ـ وهو الزمان الذي يترقب وجوده بعد هذا الزمان ـ ، والحال ، ـ وهو اجزاء من أواخر
الماضي
واوائل المستقبل ، متعاقبة من غير مهملة وتراخ.
كما يقال : زيد
يصلي ، والحال ان بعض صلواته ماض ، وبعضها باق ، فجعلوا الصلاة الواقعة في الآنات
الكثيرة المتعاقبة ، واقعة في الحال ، على اخصر وجه ، بخلاف الاسم ، نحو : زيد
قائم امس او الآن أو غدا ، فانه يحتاج الى انضمام قرينة.
واما الفعل :
فأحد الأزمنة جزء مفهومه ، فهو بصيغته يدل عليه مع افادة التجدد ، الذي هو من
لوازم الزمان ، الذي هو جزء من مفهوم الفعل ، وتجدد الجزء وحدوثه ، يقتضى تجدد
الكل وحدوثه.
وظاهر : ان
الزمان غير قار الذات ، لا يجتمع اجزاء بعضها مع بعض .. انتهى.
(ومن فضله :
حال من ـ ان ينفع به ـ اي : بهذا المختصر) اي : حال من المصدر المؤول ، الواقع
مفعولا ، اي : اسأل الله النفع به ـ حال كون ذلك النفع ، من فضله ـ فهو من قبيل
تقديم الحال على ذي الحال ، والعامل فيهما : اسأل ، فليس من فضله معمولا ـ لأن
ينفع ـ حتى يرد الاشكال المتقدم ـ في قوله ـ : «اكثرها للاصول جمعا».
(كما نفع بأصله
، وهو المفتاح ، او القسم الثالث منه ، انه ، اي : الله ، ولي ذلك النفع) ، كما
انه المتولي لكل شيء ، لا شريك له في شيء من الامور.
(وهو حسبي ، اي
: محسبى وكافي ، لا اسأل غيره فعلى هذا) على ارادة هذا الحصر ، (كان الأنسب ان
يقول : والله اسأل بتقديم المفعول) ، حتى يؤكد ما اريد من الحصر المذكور ، لا ـ انا
اسأل ـ
لأنه لا يفيد الحصر المذكور.
قال بعض اهل
التحقيق : ان ـ حسب ـ في الأصل اسم مصدر : بمعنى الكفاية ، ولذا يخبر به عن الواحد
وعن المتعدد ، فيقال : زيد وعمرو حسبك.
ثم استعمل اسم
فاعل : بمعنى محسب وكاف ، وله حينئذ استعمالان : فتارة تستعمل استعمال الصفات ،
فتكون نعتا لنكرة ، كمررت برجل حسبك من رجل.
وتارة تستعمل
استعمال الاسماء الجامدة ، غير تابعة لموصوف نحو حسبهم جهنم ، فان حسبك الله ،
بحسبك درهم.
وهذا : يرد على
من زعم : انها اسم فعل ، فان العوامل اللفظية لا تدخل على اسماء الأفعال باتفاق.
واما قول صاحب
الصحاح : حسبك درهم ، اي : كفاك ، فهو بيان للمعنى بالمآل ، لأن مآل المعنيين واحد
، لا بيان لأنه اسم فعل .. انتهى.
وما ذكره :
خلاصة ما في التصريح ، فراجع.
(ونعم الوكيل :
عطف اما على جملة «هو حسبي» والمخصوص) بالمدح : (محذوف) ، وهو الله ، (كما) حذف
المخصوص (في قوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ)) وهو : ايوب (ع).
(فيكون من عطف
الجملة الفعلية الانشائية ، على) الجملة (الأسمية الاخبارية).
هذه المسألة من
المسائل العويصة ، التي زلت فيها الأقدام ، وكلت دون الوصول اليها الأفهام ، لما
فيها من الغموض والابهام ، بحيث صارت معركة للآراء بين الأعلام ، فأنكر هذا العطف
جمع مع مجيئه كثيرا
في كلام الملك العلام ، متشبثا بتأويلات بعيدة ، في كل ما جاء منه في
القرآن او العرب ، الذين لهم اليد الطولى في فنون الكلام ، واثبته جمع اخر بلا
تكلف تأويل في المقام ، وسيجيء في ـ باب الفصل والوصل ـ ما قيل فيه كاملا وبالتمام
، فلنكتف هاهنا بما قاله ابن هشام ، وهذا نصه : عطف الخبر على الانشاء وبالعكس ،
منعه البيانيون ، وابن مالك ـ في شرح باب المفعول معه ، من كتاب التسهيل ـ ، وابن
عصفور ـ في شرح الايضاح ـ ، ونقله عن الأكثرين.
وأجازه الصفار
وجماعة ، مستدلين بقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) في سورة البقرة ، وبقوله تعالى : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) في سورة الصف.
قال ابو حيان :
وأجاز سيبويه : جائني زيد ومن عمرو العاقلان ، على ان يكون ـ العاقلان ـ خبرا
لمحذوف ، ويؤيده قوله :
وان شفائي
عبرة مهراقة
|
|
وهل عند رسم
دارس من معول
|
وقوله :
تناغى غزالا
عند باب ابن عامر
|
|
وكحل مآقيك
الحسان بأثمد
|
واستدل الصفار
بهذا البيت وبقوله :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
فان تقديره عند
سيبويه : هذه خولان.
واقول : اما
آية البقرة : فقال الزمخشري : ليس المعتمد بالعطف الأمر ، حتى يطلب له مشاكل ، بل
المراد : عطف جملة «ثواب المؤمنين» على جملة «عذاب الكافرين» كقولك : زيد يعاقب
بالقيد
وبشر فلانا بالاطلاق ، وجوز : عطفه على ـ اتقوا ـ.
واتم من كلامه
في الجواب الأول ، ان يقال : المعتمد بالعطف : جملة ـ الثواب ـ كما ذكر ، ويزاد
عليه ، فيقال : والكلام منظور فيه الى المعنى الحاصل منه ، وكأنه قيل : والذين
آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات فبشرهم بذلك.
واما الجواب
الثانى : ففيه نظر ، لأنه لا يصح ان يكون جوابا للشرط ، اذ ليس الأمر بالتبشير ،
مشروطا بعجز الكافرين عن الاتيان بمثل القرآن.
ويجاب : بأنه
قد علم : أنهم غير المؤمنين ، فكأنه قيل : فان لم يفعلوا فبشرهم بالجنات ، ومعنى
هذا : فبشر هؤلاء المعاندين بأنهم لا حظ لهم في الجنة.
وقال ـ في آية
الصف ـ : ان العطف على تؤمنون ، لأنه بمعنى آمنوا ، ولا يقدح في ذلك : ان المخاطب
بتؤمنون ـ المؤمنون ـ وبشر ـ النبي (ص) انتهى محل الحاجة من كلامه.
وقال المحشي ـ معلقا
على قوله : منعه البيانيون ـ : هذا هو المشهور بين الجمهور.
وقال السيد في
حاشية المطول : ان منع البيانيين. انما هو في الجملة التي لا محل لها ، وان ذلك
جائز في الجمل التي لها محل من الاعراب فص عليه العلامة ، يعني : صاحب الكشاف ، في
سورة نوح (ع) ومثل بقولك ، قال : زيد نودي للصلاة وصل في المسجد.
وكفاك حجة
قاطعة على جوازه : قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فان هذه ـ الواو ـ من الحكاية ، لا من المحكى ،
اي : قالوا : حسبنا ، وقالوا : نعم الوكيل.
وليس هذا
الجواز ، مختصا بالجمل المحكية بعد القول ، اذ لا يشك من به مسكة ، حسن قولك : زيد
أبوه صالح وما أفسقه ، وعمرو أبوه بخيل وما اجوده.
وقال ـ ايضا ،
في باب الفصل والوصل ـ : ويدل على جوازه : انهم قالوا : ان الجملة الاولى ، اما ان
يكون لها محل من الاعراب اولا.
وعلى الأول :
ان قصد تشريك الثانية للاولى ، في حكم ذلك الاعراب عطفت عليها ، كالمفرد ، وذكروا
: ان شرط كون هذا العطف بالواو مقبولا : ان يكون بين الجملتين جهة جامعة ، على
قياس العطف بين المفردين ، فقد جعلوا الجمل التي لها محل من الاعراب في حكم
المفردات واكتفوا بالجهة الجامعة ، ولم يعتنوا في هذا القسم الى الاختلاف ، خبرا
وانشاء ، بناء على ظهور فائدة العطف ـ بالواو ـ اعني : التشريك المذكور وانما
اعتبروا ذلك الاختلاف ونحوه : في القسم الثاني ، وهو : ان لا يكون للجملة الأولى
محل من الاعراب ، فلو كانت تلك الأحوال اعني : ما يوجب كمال الانقطاع ، ونظائره
جارية في القسمين ، لكان ذلك التقسيم ، وتخصيص اعتبار تلك الأحوال بالقسم الثاني
ضايعا.
فان قلت :
اختلاف الجملتين : خبرا وانشاء ، لفظا ومعنى ، او معنى فقط ، ان اوجب كمال
الانقطاع بينهما ، أوجبه مطلقا ، سواء كان للاولى محل من الاعراب اولا.
قلت : الجمل
التى لها محل من الاعراب ، واقعة موقع المفردات وليست النسبه بين أجزائها مقصودة
بالذات ، فلا التفات الى اختلاف تلك النسبة بالخبرية والانشائية ، خصوصا في الجمل
المحكية بعد القول
بل الجمل ـ حينئذ ـ في حكم المفردات التي وقعت هي موقعها.
بخلاف ما لا
محل لها ، فان نسبتها مقصودة بذاتها ، فتعتبرأ حوالها العارضة له. انتهى.
وانت ترى ما في
هذا الكلام ـ خصوصا في صدره ـ : من الاختلال وعدم النظام ، حيث صرح ، اولا : بأن
منع البيانيين ، انما هو في الجملة التي لا محل لها من الاعراب ، ثم صرح بأنه لا
يشك من به مسكة ، في حسن قولك : زيد ابوه صالح ، الى آخر ما ذكره ، والتهافت بين
التصريحين واضح.
الا ان يقال :
ان ما أفسقه ، وما أجوده ، عطف على الخبر ، لا على مجموع الجملة ، فتأمل جيدا.
ولعله لبعض ما
ذكرنا : أجمل الشارح واهمل ، وقال : فيكون من عطف الجملة الفعلية الانشائية على
الاسمية الاخبارية ، من دون تصريح بالرد او القبول ، وان توهم بعض المحشين : ان
مراده من هذا الكلام : ان العطف ـ في أمثال المقام ـ مردود ليس بمقبول ، لكن ليس
فى كلام هذا البعض ، لما ادعاه وجه معقول.
(وإما) ـ بكسر
الهمزة ـ : (نِعْمَ الْوَكِيلُ) عطف (على) الخبر في جملة : هو (حسبي) ، فيدخل المبتدأ
عليه ، لأن المعطوف على الخبر خبر ، (اي : وهو نعم الوكيل ، وحينئذ فالمخصوص)
بالمدح ، (هو : الضمير المتقدم) في جملة «هو حسبي».
(كما صرح به
صاحب ـ المفتاح ـ وغيره ، في قولنا : زيد نعم الرجل) ، ان ـ زيد ـ في المثال هو
المخصوص بالمدح ، خلافا لظاهر كلام ابن مالك في الألفية ، حيث قال :
وان يقدم
مشعر به كفى
|
|
كالعلم نعم
المقتضى والمقتفى
|
فان ظاهر هذا
الكلام يدل : على ان المتقدم مشعر بالمخصوص ، اغنى عن ذكره آخر ، وليس هو المخصوص
نفسه ، فتأمل.
(ثم عطف الجملة)
يعني : «نعم الوكيل» : (على المفرد) يعني : «حسبي» فقط.
(وان صح
باعتبار : تضمن المفرد معنى الفعل. لأن حسبي ـ كما تقدم ـ مآل معانيه ، الى «محسبي
، وكافي» ومآل معناهما : الى حسب ، وكفى ، فيصح عطف الجملة على مثل هذا المفرد ،
المتضمن معنى الفعل. (كما) صرح به : (في) الألفية بقوله :
واعطف على
اسم شبه فعل فعلا
|
|
وعكسا استعمل
تجده سهلا
|
نحو : (قوله
تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ) على رأي) اي : على رأي من لا يجعل ـ الواو ـ حالية
بتقدير ـ قد ـ بل عاطفة ، ولكن لا يجعل العطف على جملة ـ فالق الاصباح ـ بتقدير
مبتدأ ، اي : هو فالق الاصباح.
(لكنه) ، اي :
هذا العطف ـ ايضا ـ (في الحقيقة ، من عطف الانشاء على الاخبار) ، لأن «حسبي» ليس
بانشاء ، فهو : اخبار ، اذ لا واسطة بينهما ، والكلام في الرد والقبول عنده ، نظير
ما تقدم والله أعلم.
الى هنا : كان
الكلام في شرح الخطبة ، (وهذا اوان) : كزمان ـ وزنا ومعنى ـ وقد يكسر همرتها ،
جمعه : آونة ـ كازمنة ـ بقلب الهمزة الثانية ألفا.
واعلم : ان
القدماء : كانوا يذكرون ـ قبل (الشروع في المقصود)
امورا ، يسمونها بالرؤوس الثمانية.
منها : القسمة
، اي : قسمة العلم ، او الكتاب ، الى أبوابهما.
وقد ذكر المصنف
والشارح : كلتا القسمتين :
اما الثاني :
فبقوله ـ فيما ياتي ـ : «وينحصر المقصود في ثمانية ابواب».
واما الاول
فبقوله : (فنقول : رتب) المصنف (ـ المختصر ـ على مقدمة وثلاثة فنون).
واعترض : بأن
ذلك لا يتم ، لأن الخطبة ـ ايضا ـ من جملة المختصر ، فكان على الشارح ان يزيدها.
واجيب : بأن
المراد من التقسيم : ذكر ما هو المقصود في الجملة سواء كان مقصودا بالاصالة :
كالفنون الثلاثة ، وما يتصل بها من الشواهد والأمثلة ، ونحوها ، او مقصودا بالتبع
، كالمقدمة ، فانها ليست مقصودة بالذات ، بل بالتبع ـ كما يصرح به بعيد هذا ـ ،
والخطبة ليست
بشيء منهما ، وانما رتبه على الامور الأربعة : (لأن المذكور فيه) ، اي : في ـ المختصر
ـ (اما ان يكون : من قبيل المقاصد في هذا الفن) ، اي : فن البلاغة ، (أولا) يكون :
من قبيل المقاصد في هذا الفن.
(الثاني) : اي
: ما لا يكون من قبيل المقاصد : (المقدمة) ، التي تأتي عن قريب.
(والأول) : اي
: ما يكون من قبيل المقاصد ، ينقسم الى ثلاثة فنون ، وذلك : لانه ، اي : الأول (ان
كان الغرض منه الاحتراز عن الخطأ ، في تأدية المعنى المراد) للبلغاء ، وهو : ما
زاد على تأدية
اصل المعنى ـ كما يصرح به : في باب تعريف المسند اليه باسم الاشارة ـ.
وهو كما يأتي ـ
في تعريف بلاغة الكلام ـ ان يؤدي الكلام الذي يؤدى به أصل المعنى ، مع خصوصية
يعتبرها البلغاء في الكلام ، لمطابقته لمقتضى الحال ، مثلا : لو كان المخاطب منكرا
للحكم ، فأورد المتكلم الكلام معه غير مؤكد ، فقد أخطأ في تأدية المراد للبلغاء ،
لأنهم : يوردون الكلام مع المخاطب المنكر مؤكدا.
وما يحترز به
عن هذا الخطأ (فهو : الفن الأول) ، اي : علم المعاني ، (والا) يكن الغرض منه :
الاحتراز عن الخطأ المذكور.
(فان كان الغرض
منه : الاحتراز عن التعقيد المعنوي) لا اللفظي لأنه ـ كما يأتي في آخر المقدمة ـ داخل
في الفن الأول ، اذ به يحترز منه.
(فهو) ، اي :
ما كان الغرض منه الاحتراز عن التعقيد المعنوي (الفن الثاني) ، اي : علم البيان.
(والا) يكن
الغرض منه : الاحتراز عن التعقيد المعنوي ، (فهو : ما يعرف به وجوه التحسين) ، اي.
المحسنات اللفظية والمعنوية ، (وهو : الفن الثالث) ، اي : البديع.
قيل : هذا دليل
عقلي : على ما ادعاه من حصر المذكور ـ في المختصر ـ في الامور الأربعة ، لان
الترديد بين النفي والاثبات عقلى (و) لكن (عليه) ، اي : على كون ما يعرف به وجوه
التحسين : هو الفن الثالث ، (منع ظاهر).
تقرير المنع :
انه لم لا يجوز : ان يكون ما يعرف به وجوه التحسين شيئا آخر غير الفن الثالث؟
لكن هذا المنع (يدفع
بالاستقراء) ، وتتبع ما في ـ المختصر ـ فانا تتبعنا المذكور فيه ، فلم نجد بعد
الفنين الاولين ، الا الفن الثالث أعني : البديع.
ويمكن : ان
يكون المنع ودفعه ، ناظران الى مجموع الكلام ، لا الى الأخير فقط ، والتوجيه على
ذلك سهل.
(وقيل :) ان ـ المختصر
ـ مشتمل على خمسة امور ، بدعوى : ان المصنف (رتبه) ، اي : ـ المختصر ـ (على مقدمة
، وثلاثة فنون وخاتمة ، لان الثاني) ، اي : ما لا يكون من قبيل المقاصد في هذا
الفن ، (ان توقف عليه المقصود : فمقدمة ، والا) يكن كذلك ، (فخاتمة).
والحق : ان
الخاتمة انما هي من الفن الثالث ، كما تبين هناك ـ ان شاء الله تعالى ـ قال هناك ـ
بعد نقل كلام طويل عن المصنف ـ : وعلم بذلك : ان الخاتمة انما هي خاتمة الفن
الثالث ، وليست خاتمة الكتاب ، خارجة عن الفنون الثلاثة كالمقدمة ، على ما توهمه
بعضهم
(ولما انجر
كلامه فى آخر المقدمة ، الى انحصار المقصود) من الكتاب (في الفنون الثلاثة) ، حيث
يقول ـ هناك ـ : «وما يحترز به عن الاول : علم المعاني ، وما يحترز به عن التعقيد
المعنوي : علم البيان ، وما يعرف به وجوه التحسين : علم البديع».
ثم يقول الشارح
ـ هناك ـ : «ولما كان هذا ـ المختصر ـ في علم البلاغة وتوابعها ، انحصر مقصوده في
الفنون الثلاثة ، انتهى.
وقد علم بما
نقلناه : ان ذكر الفنون بلفظ الفن ـ هناك ـ : ضمني لا بالصراحة ، نعم ، ذكرها في
كلامه بالصراحة ، فتأمل.
وكيف كان : (صار
كل منها معهودا) ، حكما او صريحا ، (فعرفه) ، اي : كلا منها (بتعريف العهد).
اي : ادخل على
كل واحد من الفنون ـ لام العهد ـ الذكرى ، وقال : الفن الأول ، الفن الثاني ، الفن
الثالث ، كما في قوله تعالى : (أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ).
(بخلاف) لفظ (المقدمة
، فانه) اي : الشأن : (لم يقع منه) اي : المصنف : (ذكر لها) ، اي : للمقدمة ،
صريحا ، (ولا) ضمنا ، (واشارة اليها ، فلم يكن لتعريفها) ـ باللام العهدية ـ (معنى)
لأن اللام العهدية ـ كما قال ابن هشام ـ لا بد فيها : من ان يكون مصحوبها معهودا
ذكريا ، كالآية المتقدمة ، او معهودا ذهنيا ، نحو قوله تعالى : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) او معهودا حضوريا ، نحو : قال هذا الرجل ، ولفظ ـ المقدمة
ـ ليس بشيء من هذه الثلاثة.
(فنكرها) ، لأن
الأصل في الاسماء التنكير ، كما صرحوا بذلك ـ في باب غير المنصرف ـ ، ولا مقتضى
للعدول عنه الى التعريف.
(وقال : مقدمة)
، ولما لم يصح استعمال المفرد ، في كلامهم ، بل في كل لغة ، الا في مورد واحد ،
يأتي كلام لنا فيه ، ولم يتم الكلام الا بجزئين ، لفظا او تقديرا ، لا بد من ان
يقدر هاهنا شيء فالمقدر اما مبتدأ كما اختاره الشارح ، (اي : هذه مقدمة).
او خبر ، اي :
مقدمة اذكرها ، او ـ فعل ـ بناء على كونها منصوبة ، اي : اذكر لك مقدمة ، او ـ فعل
مجهول ـ بناء على رفعه كالصورتين الأوليتين ، اي : تذكر مقدمة.
والأحسن من هذه
التقديرات : ما فيه تقليل الحذف.
لا يقال : انه
يلزم في بعض هذه التقادير : الابتداء بالنكرة من دون مسوغ ، لأنا نقول : المسوغ
فيها موجود ، وهو تنوين التنكير الدال على التعظيم مرة ، والتحقير مرة اخرى ، كما
يأتي ذلك ـ في بحث تنكير المسند اليه والمسند.
ففي المقام :
يمكن ان يكون للتعظيم ، نظرا الى كثرة فوائد المقدمة ، ووفور عوائدها المهمة ،
ويمكن ان يكون للتحقير ، نظرا الى قلة ألفاظها ، ووجازة كلماتها.
او نقول : ان
المسوغ غير محتاج اليه ، بناء على ما يأتي ـ اواخر باب المسند اليه ـ نقلا عن ابن
الدهان : من ان جواز تنكير المبتدأ مبني على حصول الفائدة ، فاذا حصلت الفائد ،
فاخبر عن اي نكرة شئت.
قيل : لا ضرورة
الى شيء من هذه التقديرات ، لأن الغرض من ذكر المقدمة : مجرد اخطار بالبال عند
الشروع ، فلا محل لها من الاعراب لانها ليست جزء كلام ، فلا تقدير اصلا.
ثم ان المقدمة
ـ بكسر الدال ـ على المشهور ، اسم فاعل من ـ باب التفعيل ـ على ما نقل عن الفائق ،
من ان كسرها خلف ، لكن المراد منه : معنى ـ باب التفعل ـ فمعناها : انها متقدمة
على غيرها : من مقاصد الكتاب ، فلا يرد ما قيل : من ان المشهور بين علماء التصريف
: ان ـ باب التفعيل ـ يجعل اللازم متعديا ، فكيف صارت المقدمة لازما ، مع انها من
هذا الباب؟
وذلك لأن كلام
علماء التصريف ، مبنى على الغالب ، والمقدمة من قسم غير الغالب.
قيل : يجوز كسر
ـ الدال ـ ، مع كونها باقية على معنى الباب من التعدية ، بناء على انها لما فيها
من سبب التقدم ، كأنها تقدم نفسها او لافادتها الشروع بالبصيرة ، تقدم من يعرفها
على من لا يعرفها.
(في بيان) امور
ثلاثة ، الأول : (معنى الفصاحة والبلاغة ، و) الثاني : (انحصار) ما يسمى (علم
البلاغة) ، او ماله زيادة اختصاص بها ، (في علمي المعاني والبيان) فقط ، دون
البديع.
(و) الثالث (ما
يتصل بذلك ، مما ينساق اليه الكلام) ، كبيان النسبة بين الفصاحة والبلاغة ، وبيان
ما يرجع كل واحد منهما اليه ، ونحو ذلك مما ستعرفه.
(ومحصولها) اي
: المقدمة ، وما يبين فيها : (ان تعرف ـ على التحقيق والتفصيل ـ غاية العلوم
الثلاثة) ، اي : علمى المعاني والبيان. والبديع.
(و) ان تعرف : (وجه
الاحتياج اليها) ، حتى يعلم : ان النظر في هذه العلوم ليس عبثا ، بل لها منافع
ومصالح ، يحتاج الناس اليها ، فيميلون اليها ، لتحصيل تلك المنافع والغايات.
(والمقدمة :
مأخوذة) اي : منقولة ، او مستعارة ، (من مقدمة الجيش) ، الموضوعة (للجماعة
المتقدمة منها) ، اي : من الجيش.
(من قدم ـ بمعنى
: تقدم ،) وقد سبق بيان ذلك.
قيل : ليس
المراد : انها منقولة او مستعارة من مقدمة الجيش ، لأنه لا معنى لنقل اللفظ المفرد
او استعارته ، عن اللفظ المضاف ، اذ لا بد من اتحاد اللفظ فيهما : في المنقول عنه
واليه ، وفي المستعار منه والمستعار له.
بل المراد : ان
لفظ ـ المقدمة ـ مأخوذة من مقدمة الجيش ، مع
قطع النظر عن الاضافة ، وحينئذ ، فمعناها : المتقدمة.
وانما لم يقل
من أول الأمر : والمقدمة مأخوذة من ـ قدم ـ بمعنى : تقدم ، لأن التحقيق : ان
استعمال المشتق منه لا يكفي في نقل المشتق واستعارته ، ما لم يرد الاستعمال
بالمشتق نفسه.
وليعلم : ان
المقدمة في ـ علم المنطق ـ : قد يطلق ويراد بها : ما كان ـ صغرى او كبرى ـ في احد
الاشكال الاربعة ، وقد يطلق ويراد بها : ما يتوقف عليه صحة الدليل ، كايجاب الصغرى
، وكلية الكبرى في الشكل الأول.
واما في امثال
المقام : فلها اطلاقان : مقدمة العلم ، ومقدمة الكتاب.
والفرق بينهما
: ان الأول اخص ، والثاني أعم.
بيان ذلك : انه
(يقال : مقدمة العلم ، لما يتوقف عليه) الشروع عن بصيرة في (مسائله ، كمعرفة حده ،
و) معرفة (غايته ، و) معرفة (موضوعه).
ووجه توقف
الشروع على هذه الامور : اما على الأول ، فلما قيل : من ان الشارع في العلم ، لو
لم يتصور اولا ذلك العلم ، لكان طالبا للمجهول المطلق ، وهو محال ، لامتناع توجه
النفس نحو المجهول المطلق.
وفيه نظر : لأن
قوله : الشروع في العلم ، يتوقف على تصوره ، ان اراد به التصور ـ بوجه ما ـ فمسلم
، لكن لا يلزم منه : انه لا بد من تصوره برسمه ، فلا يتم التقريب ، اذ المقصود :
بيان سبب ايراد حد العلم قبل الشروع فيه.
وان اراد به
التصور برسمه : فلا نسلم : انه لو لم يكن العلم متصورا برسمه ، يلزم طلب المجهول
المطلق ، وانما يلزم ذلك : لو لم
يكن العلم متصورا بوجه من الوجوه ، وهو ممنوع ، فالأولى ان يقال : لا بد من
تصور العلم برسمه ، ليكون الشارع فيه على بصيرة في طلبه ، فان الطالب اذا تصور
العلم برسمه ، اطلع على جميع مسائله اجمالا ، حتى ان كل مسألة ترد عليه ، علم انها
من ذلك العلم ، كما ان من أراد سلوك طريق لم يشاهده ، لكن عرف اماراته ، فهو على
بصيرة في سلوكه.
والى ما ذكرنا
: يرجع ما يأتي في أول الفن الأول ، من قوله : «وقبل الشروع في مقاصد العلم» اشار
الى تعريفه وضبط أبوابه اجمالا ليكون للطالب زيادة بصيرة.
ولان كل علم
فهي : مسائل كثيرة ، تضبطها جهة وحدة باعتبارها تعد علما واحدا يفرد بالتدوين ،
ومن حاول : تحصيل كثرة يضبطها جهة وحدة ، فعليه : ان يعرفها بتلك الجهة ، لئلا
يفوته ما يعنيه ، ولا يضيع وقته فيما لا يعنيه.
اما وجه التوقف
على الثاني ، اي : الغاية : فلانه لو لم يعلم غاية العلم والغرض عنه ، لكان طلبه
عبثا.
توضيح ذلك : ان
الشروع في العلم ، فعل اختياري ، فلا بد ان يعلم اولا : ان لذلك العلم فائدة ما ،
والا لامتنع الشروع فيه من ذي عقل وحكمة ، ولا بد ان يكون تلك الفائدة معتدا بها ،
بالنظر الى المشقة التي تتحمل في تحصيل ذلك العلم ، والا لكان شروعه في ذلك العلم
وطلبه مما يعد عبثا عرفا ، وبذلك يضعف ارادته وجده قطعا ، ولا بد ان تكون تلك
الفائدة من الفوائد التي تترتب على ذلك العلم حتما ، والا لربما زال اعتقاده بعد
الشروع فيه ، لعدم المناسبة ، فيصير سعيه
في تحصيله عبثا في نظره.
اما اذا علم
الفائدة المعتد بها : المترتبة على العلم : فانه يكمل رغبته فيه ، ويبالغ في
تحصيله كما هو حقه ، ويزداد ذلك الاعتقاد ، فيجد في التحصيل بعد الشروع ، بواسطة
مناسبة مسائله لتلك الفائدة.
اذا عرفت ذلك ،
فاعلم : انا قد ذكرنا ـ كما صرح به المصنف ـ : ان من فوائد هذا العلم ، معرفة
اسرار العربية ودقائقها ، مع كون هذه اللغة ، مما تكلم به المتصدع بأمر الله :
النبي الأعظم (ص) ، المبعوث على خير الامم.
وكشف الاستار
عن وجوه اعجاز القرآن ، الذي يجب فهمه على أهل دين الله ، لأنه لاصل الدين قوام ،
ولصدق النبي (ص) برهان ، لكونه اعلى معجزاته ، ومنبعا للعلوم والآداب ، التي يظهر
بها انسانية الانسان فعليك بالجد في تحصيل العلوم العربية ، لا سيما النحو ،
والبيان ، اذ بهما تعرف قواعد الاعراب ، والصواب من الخطأ في الكلام والبيان ،
فيحصل لك معرفة ما في القرآن : من حسن النظم ، ولطافة الاسرار المودعة فيه. ودقائق
البلاغة ، التي اعجزت العرب العرباء ، الذين هم الأصل في فن الخطابة والبيان.
واما وجه
التوقف على الثالث ، اي : الموضوع : فلان تمايز العلوم بحسب تمايز الموضوعات ،
وتمايز الموضوعات بحسب الحيثيات ، مثلا : علم ـ الفقه ـ امتاز عن علم ـ اصول الفقه
ـ : بأن موضوع الأول : افعال المكلفين ، وموضوع الثاني : أدلة الأحكام.
فبالموضوع ،
امتاز كل عن الآخر ، فصارا علمين متميزين ، منفردا كل منهما عن الآخر.
هذا اذا كان
الموضوعان في العلمين ، متميزين ، واذا لم يتميزا : كالنحو ، والصرف ، فان الموضوع
فيهما واحد ، وهو : الكلمة ، لكن الامتياز بين الموضوعين بالحيثية ، لان ـ الكلمة
ـ يبحث عنها في ـ النحو : من حيث الاعراب والبناء ، وفي ـ الصرف ـ : من حيث الصحة
والاعتلال.
اذا عرفت هذا
المقال ، فنقول : لو لم يعرف الشارع في العلم والطالب له. ان موضوعه ما ذا ، واي :
شيء هو ، لم يتميز العلم المطلوب عنده عن غيره ، ولم يكن له بصيرة في طلبه.
وليعلم : ان
هاهنا اشكال ، استصعبه بعضهم ، وهو : ان معرفة موضوع العلم : ماذا ، وأي شيء هو ،
ليست بواجبة ، لأن التميز الموجب للبصيرة ، يحصل بمعرفة حد العلم وتصوره.
واجيب عن ذلك :
بأن المراد والمقصود من معرفة الموضوع : التميز الكامل ، الموجب لزيادة البصيرة ،
فتأمل.
وهاهنا اشكال
آخر اشكل من الأول ، وهو : جعل معرفة الموضوع من مقدمات الشروع ، والمشهور : انها
من المبادىء التصورية ، والذي من مقدمات الشروع : التصديق بموضوعية الموضوع.
قال محشي ـ التهذيب
ـ : ان من عد الموضوع من أجزاء العلوم اما ان يريد به نفس الموضوع ، او تعريفه ،
او التصديق : بوجوده ، او بموضوعيته.
والأول : مندرج
في موضوعات المسائل ، التي هى أجزاء المسائل فلا يكون جزءا على حدة.
والثاني : من
المبادىء التصورية.
والثالث : من
المبادىء التصديقية ، فلا يكون جزءا على حدة ـ ايضا ـ
والرابع : من
مقدمات الشروع.
(و) اما (مقدمة
الكتاب) : فانما يقال : (لطائفة من كلامه) ، اي : ألفاظه وعباراته ، اي : الكتاب ،
(قدمت) تلك الطائفة : (أمام المقصود) من الكتاب ، (لارتباط له) ، اي : المقصود (بها)
، اي : الطائفة ، (وانتفاع بها فيه ، سواء توقف) المقصود (عليها ، أم لا) ، فقد
ظهر : ان مقدمة الكتاب ، أعم من مقدمة العلم.
ولا يذهب عليك
: ان القول : بأن المقدمة طائفة من الكلام ، انما هو فيما اذا قلنا : ان الكتاب
عبارة عن الألفاظ والعبارات.
وان كان عبارة
عن المعاني ، فالمراد من المقدمة : طائفة من المعاني.
ويحتمل فيها
وجوه اخر ، لكن القوم ـ على ما ذكره محشى التهذيب ـ لم يزيدوا على هذين الوجهين ـ في
باب المقدمة ـ شيئا.
والتفصيل : ان
الكتاب عبارة : عن أحد معان سبعة : الألفاظ ، او المعاني ، او النقوش ، او المركب
من الاثنين ، او الثلاثة.
فكذلك المقدمة
، عبارة : عن طائفة من أحد هذه المعانى السبعة موافقا لما اريد من الكتاب ، من هذه
المعاني السبعة ، فتأمل جيدا.
واعلم : ان
المتحصل مما ذكر ، ان المتوقف على مقدمة العلم ، انما هو الشروع في مسائل ـ العلم
ـ على وجه البصيرة الكاملة.
اما مطلق
الشروع ، فلا توقف فيه اصلا.
ومن هنا : صح
لبعضهم ، دعوى : ان النسبة بين المقدمتين ـ بالعموم من وجه ـ :
تجتمعان : فيما
يتوقف عليه الشروع ، اذا قدم امام المقصود ـ كما فيما نحن فيه ـ.
وتنفرد مقدمة
الكتاب : فيما لا يتوقف عليه الشروع ، اذا ذكر امام المقصود.
وتنفرد مقدمة
العلم : فيما يتوقف عليه الشروع ، اذا ذكر في الاثناء.
ومآل هذا القول
: الى عدم اعتبار التقدم ، في مفهوم مقدمة العلم كما ان مآل القول : بأن النسبة
العموم المطلق الى اعتباره.
وكيفما كان :
فالفرق بينهما مسلم عند الطرفين ، فلا بد فيهما من القول باحدى النسبتين.
(ولعدم فرق
البعض) ، زاعمين التساوي : (بين مقدمة العلم ، ومقدمة الكتاب) ، فيلزم على هذا :
توقف الشروع على مقدمة الكتاب لأنها عين مقدمة العلم ، التي يتوقف عليها العلم ،
فلا يصح تأخير شيء مما يذكر في مقدمة الكتاب.
(اشكل عليهم) ،
اي : على زاعمي عدم الفرق ، (امران : احتاجوا في التفصي عنهما الى تكلف) سنذكره.
(احدهما) ، أي
: الأمران : (بيان توقف مسائل العلوم الثلاثة : على ما ذكر في هذه المقدمة ، من
معرفة غاية العلوم الثلاثة ، ووجه الاحتياج اليها.
وجه الاشكال :
ظهور عدم توقف مسائل العلوم الثلاثة ـ على ما ذكر بداهة ـ : انه يمكن لطالب هذه
العلوم ، الشروع في مسائلها ، وان لم يعرف غايتها ، ووجه الاحتياج اليها.
(و) الدليل على
عدم التوقف : انه (قد ذكره) ، اي : ما ذكر في هذه المقدمة : (صاحب ـ المفتاح ـ في
آخر المعاني والبيان).
فبهذا : يستكشف
انه لا توقف لمسائل هذه العلوم ، على ما ذكر
في هذه المقدمة.
وهذا : هو الحق
، لأن ما ذكر فيها انما هو من الرؤوس الثمانية التي كان القدماء قد يذكرونها في
صدر كتبهم ، وقد لا يذكرون شيئا منها ، كما هو الدأب والديدن عند اكثر المتأخرين ،
وقد يذكرون بعضا منها كالمصنف في هذا الكتاب.
(والثاني) من
الأمرين ، الذين أشكل على البعض : (ما وقع في بعض الكتب : من ان ـ المقدمة ـ في
بيان : حد العلم ، والغرض منه وموضوعه ، زعما منهم) أي البعض : (ان هذا) ، اي : ما
دخل عليه لفظة ـ في ـ الظرفية ، (عين المقدمة) ، فيلزم منه اتحاد الظرف والمظروف.
واما التكلف :
الذي احتاج البعض اليه في التفصي عن الاشكال الحاصل بالأمر الأول ، فهو : ان
الشروع في مسائل العلوم الثلاثة ـ على وجه زيادة البصيرة وكماله ـ يتوقف على ما
ذكر في هذه المقدمة لا مطلق الشروع ، وقد أشرنا الى هذا التفصى والدفع آنفا.
ووجه التكلف ـ في
هذا التفصي ـ : ان الشروع على وجه البصيرة لا يحصل بمجرد ما ذكر في هذه المقدمة ،
بل قد يحتاج الى أزيد من ذلك ، وقد يحصل بأنقص من ذلك ، فادعاء : ان الشروع على
وجه البصيرة ، يتوقف على ما ذكر في هذه المقدمة تكلف ، بل تعسف ، نشأ من عدم
الفرق.
واما التكلف في
التفصي عن الثاني ، اي : اتحاد الظرف والمظروف : فيجعل ـ في ـ زائدة ، نظير قوله
تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا
فِيها).
قال السيوطي :
اي : اركبوها ، كذا قال ابن هشام.
فمعنى : ما وقع
في بعض الكتب : «ان المقدمة بيان : حد العلم
والغرض منه ، وموضوعه» وقريب من ذلك ما قيل : «من ان ـ فى ـ تجريدية»
والمعنى : ان هذه المقدمة يجرد منها هذه الثلاثة.
وهاهنا وجه آخر
: وهو تقدير المضاف ، اي : وضع المقدمة في بيان هذه الامور الثلاثة ، فلا اتحاد.
واما الرؤوس
الثمانية : التي كان القدماء يذكرونها في صدر كتبهم ، على انها من المقدمات ، او
من المبادىء ـ بالمعنى الأعم ـ اي : ما يبدء به ، قبل الشروع في مسائل العلم ،
سواء كان داخلا في العلم ، فيكون من المبادىء المصطلحة ، التي هي : حدود الموضوعات
واجزاؤها واعراضها ، والتصديقات التي يتألف منها قياسات العلم.
أو خارجا عنه ،
يتوقف عليه الشروع على وجه الخبرة ، ويسمى : «مقدمات» كمعرفة الحد ، والغاية ،
وبيان الموضوع.
فأولها ـ على
ما ذكر في التهذيب ـ : الغرض من العلم ، لئلا يكون النظر فيه عبثا ولعبا ، فان
العابث واللاعب ، ليس الا الذي يفعل لا لغرض وحكمة ، بل مجانا ، وذلك قبيح باجماع
كافة العقلاء ، فوجب تقديم فائدة العلم والغرض منه ، دفعا للعبث ، فان الطالب ان
لم يعتقد فيه فائدة اصلا ، لم يتصور منه الشروع فيه بالضرورة ، وان اعتقد فيه
فائدة غير ما هو فائدته ، امكنه الشروع فيه ، الا انه لا يترتب عليه ما اعتقده ،
بل ما هو فائدته ، وربما لم تكن موافقا لغرضه ، فيعد سعيه في تحصيله عبثا ، وايضا
ازديادا للرغبة فيه ، حيث كانت مهمة له ، فيوفيه حقه من الجد والاجتهاد.
قال محشي ـ التهذيب
ـ : اعلم : ان ما يترتب على فعل ، ان كان باعثا للفاعل على صدور ذلك الفعل منه ،
يسمى : غرضا وعلة غائية ،
وان لا يكن باعثا للفاعل ، يسمى ، فائدة ومنفعة وغاية.
وثانيها :
المنفعة ، وهى ما يتشوقه الكل طبعا ، لينشط للطلب ، ويتحمل المشقة ـ كما ذكرنا ـ.
وليعلم : ان المراد
من الأول ، ما كان سببا حاملا على تدوين المدون الأول للعلم ، كما يقال : ان الغرض
من تدوين ـ علم البلاغة ـ : كشف وجوه اعجاز القرآن ـ كما بيناه فيما تقدم ـ.
والمراد من
الثاني : ما يشتمل عليه العلم : من منفعة ، ومصلحة ، حتى يميل اليها الطباع ، ان
كانت للعلم منفعة ومصلحة ، سوى الغرض الباعث للواضع الأول ، كما يقال : ان المنفعة
من علم البلاغة : قوة البيان في التكلم والخطابة ، بحيث يسهل على العالم بعلم
البلاغة : افهام مقصوده واظهار مطلوبه ، ولذلك قيل : «ان من البيان لسحرا».
ثالثها : وجه
التسمية ـ كما يقال ـ : انما سمي هذا العلم : «علم البلاغة» اذ بهذا العلم ، يبلغ
المتكلم مرامة ومقصوده ، لأنه به يقدر على المنطق الفصيح ، المعرب عما في الضمير.
رابعها :
المدون ، ليكن قلب المتعلم على ما هو الشأن في مبادىء الحال : من معرفة حال
الأقوال بمراتب الرجال.
واما المحققون
: فيعرفون الرجال بالحق ، لا الحق بالرجال ، ولنعم ما قال ، ولى ذي الجلال ، عليه
سلام الله المتعال : «لا تنظر الى من قال ، وانظر الى ما قال».
والباعث على
تدوين علم البلاغة : انه كثرت المناظرة والتشاجر ، أوائل دولة ـ بني العباس ـ بين
الادباء وعلماء الاسلام من المتكلمين
في فنون البلاغة ، كالخطابي ، والرماني ، وابن سراقة ، وأمثالهم.
قيل : اول من
دون في هذا العلم : ابو عبيدة بن مثنى ، المتوفي (٢١١) ، وكان من تلاميذ الخليل بن
احمد ، وسمى كتابه ـ بمجاز القرآن ـ.
واول من هذب
هذا العلم ودون فيه : عبد القاهر الجرجاني ، تلميذ صاحب بن عباد ، فألف فيه كتابيه
: ـ اسرار البلاغة ، ودلائل الاعجاز ـ.
ثم السكاكي :
فانه هذب قواعد هذا العلم غاية التهذيب ، في كتابه ـ مفتاح العلوم ـ فحرره ولخصه
الخطيب القزويني ، وصنف متن هذا الكتاب ، وسماه ـ كما تقدم ـ : «تلخيص المفتاح».
ثم جاء التفتازاني
، فشرح التلخيص ، وسماه : «المطول» فوصل النوبة الينا ، فشرحنا المطول ـ بما تراه
ـ وسميناه : ـ بالمدرس الأفضل في شرح ما يرمز ويشار اليه في المطول ـ اسأل الله
التوفيق ، وان ينتفع به الطلاب والمشتغلين النفع الأتم الأكمل ، بحق محمد وآله
المنتجبين لهداية الناس في الأول.
خامسها : انه
من اي علم هو؟ ليطلب فيه ما يليق به ، اي : من اي جنس من اجناس العلوم.
كما يقال : ان
علم البلاغة : من جنس العلوم اللغوية بالمعنى الأعم ، التي ترتقي الى اثني عشر
علما.
قال في ـ المثل
السائر ـ : البيانى والنحوي ، يشتركان في ان النحوي ، ينظر في دلالة الألفاظ على
المعاني ـ من جهة الوضع اللغوي ـ وتلك دلالة عامة ، وصاحب علم البيان ، ينظر في
فضيلة تلك الدلالة ، وهي دلالة خاصة ، والمراد بها : ان تكون الألفاظ على هيئة
مخصوصة
من الحسن ، وذلك امر وراء النحو والاعراب.
ألا ترى : ان
النحوي ، يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور ، ويعلم مواقع اعرابه ، ومع ذلك ،
فانه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة.
ومن هنا : غلط
مفسروا الآيات والأشعار ، في اقتصارهم على شرح المعنى وما فيها من الكلمات اللغوية
، وتبيين مواضع الاعراب منها ، دون شرح ما تضمنته من أسرار الفصاحة والبلاغة.
سادسها : انه
فى اي مرتبة هو؟ ليقدم على ما يجب ، ويؤخر عما يجب.
كما يقال : ان
مرتبة علم البلاغة ، مؤخرة عن علم متن اللغة ، والصرف ، والنحو ، على ما سيشير
اليه المصنف ـ في أواخر المقدمة ـ بل يجب تأخر هذا العلم عن اشياء اخر ايضا.
قال في ـ المثل
السائر ـ : اعلم : ان صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور ، تفتقر الى آلات
كثيرة ، وقد قيل : ينبغي للكاتب ان يتعلق بكل علم ، حتى قيل : كل ذي علم يسوغ له :
ان ينسب نفسه اليه ، فيقول : فلان النحوي ، وفلان الفقيه ، وفلان المتكلم ، ولا
يسوغ له : ان ينسب نفسه الى الكتابة ، فيقول : فلان الكاتب وذلك : لما يفتقر اليه
من الخوض في كل فن.
وملاك هذا كله
: الطبع ، فانه اذا لم يكن ثم طبع ، فانه لا تغني تلك الآلات شيئا.
ومثال ذلك :
مثال النار الكامنة في الزناد ، والحديدة التي يقدح بها ، ألا ترى : انه اذا لم
يكن في الزناد نار ، لا تفيد تلك الحديدة شيئا ، وكثيرا ما رأينا وسمعنا : من
غرائب الطباع في تعلم العلوم ،
حتى ان بعض الناس ، يكون له نفاذ : في تعلم علم مشكل المسلك صعب المأخذ ،
فاذا كلف : تعلم ما هو دونه من سهل العلوم ، نكص على عقبيه ، ولم يكن فيه نفاذ.
وأغرب من ذلك :
أن صاحب الطبع في المنظوم ، يجيد في المديح دون الهجاء ، او في الهجاء دون المديح
، او يجيد في المراثي دون التهانى ، او في التهاني دون المراثى.
وكذلك صاحب
الطبع في المنثور.
هذا ابن
الحريري ـ صاحب المقامات ـ قد كان على ما ظهر منه من تنميق ـ المقامات ـ واحدا في
فنه ، فلما حضر ببغداد ، ووقف على مقاماته ، قيل هذا يستصلح لكتابة الانشاء في
ديوان الخلافة ، ويحسن اثره فيه. فاحضر وكلف : كتابة كتاب ، فافحم ولم يجر لسانه
في طويلة ولا قصيرة ، فقال بعضهم فيه :
شيخ لنا من
ربيعة الفرس
|
|
ينتف عشنونه
من الهوس
|
انطقه الله
بالمشان وقد
|
|
الجمه في
بغداد بالخرس
|
وهذا مما يعجب
منه ، وسئلت عن ذلك فقلت : لا عحب. لأن المقامات مدارها جميعها ، على حكاية تخرج
على مخلص ، واما المكاتبات : فانها بحر لا ساحل له ، لأن المعاني تتجدد فيها بتجدد
حوادث الأيام ، وهي متجددة على عدد الانفاس.
اي : انه اذا
خطب الكاتب المفلق ، عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور ،
وسعى مذكور ، ومكث على ذلك برهة يسيرة ، لا تبلغ عشر سنين ، فانه يدون عنه من
المكاتبات : ما يزيد على عشرة أجزاء ، كل جزء منها : اكبر من مقامات الحريري حجما.
لأنه اذا كتب
في كل يوم كتابا واحدا ، اجتمع من كتبه اكثر من هذه العدة المشار اليها ، واذا
نخلت وغربلت واختير الأجود منها اذ لا تكون كلها جيدة ، فيخلص منها النصف ، وهو
خمسة أجزاء.
والله يعلم :
ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب ، وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة.
على ان الحريري
، قد كتب في أثناء مقاماته رفاعا في مواضع عدة فجاء بها منحطة عن كلامه في حكايات
المقامات ، لا بل جاء بالغث البارد ، الذي لا نسبة له الى باقي كلامه فيها.
وله ـ ايضا ـ كتابة
أشياء خارجة عن المقامات ، واذا وقف عليها : اقسم ان قائل هذه ، ليس قائل هذه ،
لما بينهما من التفاوت البعيد.
وبلغني عن
الشيخ ابى محمد ابن الخشاب النحوي ، انه كان يقول : «ابن الحريري رجل مقامات» اي :
انه لم يحسن من الكلام المنثور سواها ، وان اتى بغيرها : لا يقول شيئا.
فانظر أيها
المتأمل : الى هذا التفاوت ، في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور.
ومن أجل ذلك ،
قيل : شيئان لا نهاية لهما ، البيان ، والجمال.
وعلى هذا :
فاذا ركب الله تعالى في الانسان ، طبعا قابلا لهذا الفن.
فيفتقر ـ حينئذ
ـ الى ثمانية انواع من الآلات :
النوع الأول :
معرفة ـ علم العربية ـ : من النحو والصرف.
النوع الثاني :
معرفة ما يحتاج اليه من ـ اللغة ـ : وهو المتداول المألوف استعماله ، في فصيح
الكلام ، غير الوحشي الغريب ، ولا المستكره المعيب.
النوع الثالث :
معرفة ـ امثال العرب ، وأيامهم ـ ومعرفة ـ الوقائع ـ التي جاءت في حوادث خاصة
بأقوام ، فان ذلك جرى مجرى الأمثال ـ ايضا ـ.
النوع الرابع :
ـ الاطلاع على تأليفات من تقدمه ـ من ارباب هذه الصناعة ، المنظومة والمنثورة ،
والتحفظ للكثير منه.
النوع الخامس :
معرفة ـ الأحكام السلطانية ـ : الامامة ، والامارة ، والقضاء ، والحسبة ، وغير
ذلك.
النوع السادس :
ـ حفظ القرآن الكريم ـ والتدرب باستعماله ، وادراجه في مطاوي كلامه.
النوع السابع :
حفظ ما يحتاج اليه من ـ الأخبار ـ الواردة عن النبي (ص) ، والسلوك بها : مسلك
القرآن الكريم في الاستعمال.
النوع الثامن :
وهو مختص بالناظم دون الناثر ، وذلك : علم ـ العروض والقوافي ـ الذي يقام به ميزان
الشعر .. انتهى.
فظهر من ذلك :
ان ـ علم البلاغة ـ لتأليف النثر الفصيح ، والنظم الصحيح ، بمنزلة ـ اصول الفقه ـ للاحكام
وادلتها ، فكما لا يمكن فهم الأدلة ، واستنباط الأحكام منها ، بدون ـ اصول الفقه ـ
المركبة من امور كثيرة ، كذلك لا يمكن البيان الصريح ، والنثر الفصيح ، والنظم
الصحيح ، الا بتهيئة الآلات ، التي يحتاج اليها ـ علم البلاغة ـ.
فاذا : لا تغتر
بمن لا يتعب نفسه ، في تحصيل الفضل والكمال ، ويرخى عنانه في ميدان العصبية
والجدال ، ولا يدري ما يقول او يقال ، وان زعموه من اولى الفضل والكمال ، الهمج
الرعاع والجهال ، وهذا لا يختص باهل هذا الزمان ، فانه جار في جميع الأعصار
والأدوار.
قال ابن قتيبة
: اني رأيت اكثر أهل زماننا هذا : عن سبيل الأدب ناكبين ، ومن اسمه متطيرين ،
ولأهله كارهين.
واما الناشىء
منهم : فراغب عن التعليم ، والشادي تارك للازدياد ، والمتأدب في عنفوان الشباب :
ناس او متناس ، ليدخل في جملة المجدودين ويخرج عن جملة المحدودين.
فقد خوى نجم
الخير ، وكسدت سوق البر ، وبارت بضائع أهله وصار العلم عارا على صاحبه ، والفضل
نقصا ، والجاه الذي هو زكاة الشرف : يباع بيع الخلق ، واضت المروات في زخارف النجد
، وتشييد البنيان ، ولذات النفوس ، وجهل قدر المعروف ، وماتت الخواطر ، وسقطت همم
النفوس ، وزهد فى لسان الصدق ، وعقد الملكوت.
فأبعد غاية
كاتبنا في كتابته : ان يكون حسن الخط ، قويم الحروف.
وأعلى منازل
أديبنا : ان يقول من الشعر أبياتا .. انتهى محل الحاجة من كلامه ـ باختصار ـ.
السابع من
الرؤوس : القسمة ، اى : قسمة العلم ، او الكتاب ، الى أبوابه قد تقدم الأول في
كلام الشارح ، ويأتي الثانية عن قريب.
الثامن :
الانحاء التعليمية ، وفيها كلام يحتاج الى بسط مقال ، ليس هنا محله.
(واعلم : ان
للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة ، أقوالا شتى) ، اي : متفرقة ، هو جمع ـ : شتيت ـ
كمرضى : جمع مريض ، وتترى : جمع تنير.
(لا فائدة في
ايرادها) ، اي : الأقوال ، (الا الاطناب).
هذا الاستثناء
: منقطع ، من قبيل جاء القوم الا الحمار ، لأن
الاطناب ليس فائدة ، فمحصل كلامه : انه لا فائدة في ايراد الأقوال اصلا ،
لأنه تطويل بلا طائل.
(فالأولى : ان
نقتصر على تقرير ما ذكره في الكتاب ، فنقول :
الفصاحة) مصدر
ـ فصح ـ من باب ـ شرف ـ.
(وهي في الأصل)
، اي : اللغة : (تنبىء) بكل واحد من معانيها المذكورة ـ في كتب اللغة ـ : (عن
الابانة والظهور) ، فانه (يقال) ـ كما في المصباح ـ : (فصح الأعجمي) ، من باب ـ قرب
ـ (وأفصح ، اذا انطلق لسانه ، وخلصت لغته من اللكنة ، وجادت ، فلم يلحن. و) يقال ـ
ايضا ـ : (أفصح ، اى : صرح).
وذكر لها في
كتب ـ اللغة ـ ايضا ، معان اخر ، كلها يدل : على ـ الابانة والظهور ـ دلالة
التزامية بينة ، ولما لم يظهر للشارح مما ذكر لها من المعاني : ان ايها حقيقة ،
وايها مجاز ، بل لم يظهر له ولم يتحقق اصل المعنى المطابقي ، أهو واحد ، ام متعدد؟
ذكر في تفسيرها : معنى يجمع معانيها الحقيقية والمجازية ، وهو ، الابانة والظهور.
فلهذا قال : «تنبى»
دون ان يقول : هي الابانة والظهور.
والسر في ذلك :
ان الفصاحة تطلق عندهم : على معاني مختلفة متحدة المآل.
قال بعض
المحققين : تطلق الفصاحة : على نزع الرغوة ، وذهاب اللباء من اللبن ، يقال : سقاهم
لبنا فصيحا اخذت رغوته ونزعت منه او ذهب لبؤه وخلص منه.
قال في ـ الاساس
ـ : ان هذين المعنيين حقيقيان ، ثم قال : ومن
المفصح ، اي : الذي لا ظلمة فيه ، وهذا يوم مفصح وفصح ، لا غيم ولا قر ،
وجاء فصح النصارى ، اي : عيدهم ، وهذا مفصحهم ، اي : مكان بروزهم ، وافصحوا :
عيدوا ، وأفصح العجمي ، تكلم بالعربية وفصح : انطلق لسانه ، وخلصت لغته عن اللكنة
، وأفصح الصبي في منطقه : فهم ما يقول في أول ما يتكلم ، وافصح ان كنت صادقا ، اي
: بين .. انتهى.
فقد جعل ما سوى
ذهاب ـ الرغوة واللباء ـ معاني مجازية ، ولا شك : ان مآل كلها الى الابانة والظهور
ـ بالاستلزام ـ ، لا أنها بمعنى الابانة والظهور ، فلذلك عبر «بتنبىء» اي : تدل ،
ولم يقل : معناها الظهور ، لأنه لم يوجد لها معنى ، هو الظهور ، بل شيء ينبىء عنه
ويدل عليه.
ومن هذا علم :
ان مراد الشارح بالأصل : ـ اللغة ـ سواء كان المعنى حقيقيا ، او مجازيا ، لا
الحقيقي فقط.
وعلى هذا :
فالمراد بكون ـ اللغة ـ اصلا ، باعتبار المعنى الاصطلاحي ، لا باعتبار انه حقيقة.
وعلم : ان
المراد بالانباء : الدلالة الالتزامية ، لا المطابقية ، لأن لفظ ـ الفصاحة ـ لم
يوضع للظهور ، حتى تكون دلالته عليه مطابقية ولا التضمنية : لان لفظ ـ فصاحة ـ لم
يوجد في كتب اللغة : انه موضوع للظهور وغيره ، حتى تكون دلالته عليه تضمنية.
ثم ان ـ الفصاحة
ـ نقلت عرفا ، الى وصف الكلمة والكلام والمتكلم ، ولا يخلو ذلك الوصف : من ملابسة
وضوح ، وظهور ، وانما لم يقتصر ـ الشارح ـ على المعنى الاصطلاحي الآتي في المتن :
للاشارة
الى ان بين المعنى اللغوي والاصطلاحي مناسبة ، والمناسبة تحصل ولو بحسب
المآل .. انتهى.
قال في ـ أدب
الكاتب ـ الأعجمي : الذي لا يفصح ، وان كان نازلا في البادية والعجمي : المنسوب
الى العجم ، وان كان فصيحا.
والأعرابي : هو
البدوي ، وان كان بالحضر.
والعربي :
المنسوب الى العرب ، وان لم يكن بدويا .. انتهى.
قال في ـ المثل
السائر ـ اعلم : ان باب الفصاحة والبلاغة ، باب متعذر على الوالج ، ومسلك متوعر
على الناهج ، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه ، يكثرون القول فيه ، والبحث
عنه ، ولم اجد من ذلك ما يعول عليه الا القليل.
وغاية ما يقال
ـ في هذا الباب ـ : ان الفصاحة : هي الظهور والبيان ـ في اصل الوضع اللغوي ـ يقال
: افصح الصبح : اذا ظهر ، ثم انهم يقفون عند ذلك ، ولا يكشفون عن السر فيه.
وبهذا القول ،
لا تتبين حقيقة الفصاحة ، لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات :
احدها : انه
اذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا ، لم يكن فصيحا ، ثم اذا ظهر وتبين ، صار فصيحا.
الوجه الآخر :
انه اذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين ، فقد صار ذلك بالنسب والاضافات الى
الاشخاص ، فان اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ، ولا يكون ظاهرا لعمرو ، فهو اذا فصيح
عند هذا ، وغير فصيح عند هذا.
وليس كذلك ، بل
«الفصيح» هو فصيح عند الجميع ، لا خلاف
فيه بحال من الأحوال ، لأنه اذا تحقق «حد الفصاحة» وعرف ما هي لم يبق في
اللفظ الذي يختص به خلاف : الوجه الآخر : انه اذا جىء بلفظ قبيح ، ينبو عنه السمع
، وهو مع ذلك ظاهر بين ، ينبغي ان يكون فصيحا.
وليس كذلك ،
لأن «الفصاحة» وصف «حسن» للفظ لا وصف «قبح».
فهذه
الاعتراضات الثلاثة ، واردة على قول القائل : ان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين من
غير تفصيل.
ولما وقفت على
اقوال الناس ـ في هذا الباب ـ ملكتني الحيرة فيها ولم يثبت عندي منها ما اعول عليه
، ولكثرة ملابستي هذا الفن ، ومعاركتي اياه ، انكشف لي السر فيه ، وساوضحه في
كتابي هذا. واحقق القول فيه ، فاقول :
ان الكلام
الفصيح : هو الظاهر البين ، واعني ـ بالظاهر البين ـ : ان تكون ألفاظه مفهومة ، لا
يحتاج في فهمنا الى استخراج من كتاب لغة ، وانما كانت بهذه الصفة ، لأنها تكون
مألوفة الاستعمال بين ارباب النظم والنثر ، دائرة في كلامهم.
وانما كانت
مألوفة الاستعمال ، دائرة في الكلام ، دون غيرها من الألفاظ : لمكان حسنها.
وذلك : ان
ارباب النظم والنثر ، غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها ، وسبروا وقسموا ، فاختاروا
الحسن من الألفاظ ، فاستعملوه ، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه.
فحسن الاستعمال
: سبب استعمالها ، دون غيرها ، واستعمالها دون
غيرها : سبب
ظهورها وبيانها ، فالفصيح اذا ـ من الألفاظ ـ : هو الحسن فان قيل : من اي وجه علم
ـ ارباب النظم والنثر ـ : الحسن من الألفاظ حتى استعملوه ، وعلموا القبيح منها ،
حتى نفوه ولم يستعملوه؟
قلت ـ في
الجواب ـ : ان هذا من الامور المحسوسة ، التي شاهدوها من نفسها ، لأن الالفاظ
داخلة في حيز الاصوات ، فالذي يستلذه السمع منها ، ويميل اليه : هو الحسن ، والذي
يكرهه وينفر عنه السمع منها : هو القبيح.
ألا ترى : ان
السمع يستلذ صوت البلبل من الطير ، وهو صوت الشحرور ويميل اليهما ، ويكره صوت
الغراب ، وينفر عنه ، وكذلك يكره نهيق الحمار ، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس؟
والالفاظ جارية
هذا المجرى ، فانه لا خلاف في ان لفظة : «المزنة والديمة» حسنة يستلذها السمع ،
وان لفظة : «البعاق» قبيحة يكرهها السمع.
وهذه اللفظات
الثلاثة : من صفة المطر ، وهى تدل على معنى واحد.
ومع هذا : فانك
ترى لفظتي : «المزنة والديمة» وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال.
وترى لفظة «البعاق»
وما جرى مجراه ، متروكا لا يستعمل.
وان استعمل ،
فانما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة ، او من ذوقه غير ذوق سليم ، لا جرم : انه ذم
وقدح فيه ، ولم يلتفت اليه ، وان كان عربيا محضا من الجاهلية الاقدمين ، فان حقيقة
الشيء اذا علمت وجب الوقوف عندها ، ولم يعرج على ما خرج عنها.
واذن : ثبت ان
الفصيح ـ من الالفاظ ـ : هو الظاهر البين ، وانما كان ظاهرا بينا ، لانه مألوف
الاستعمال ، وانما كان مألوف الاستعمال
لمكان حسنه ، وحسنه مدرك بالسمع ، والذي يدرك بالسمع : انما هو «اللفظ»
لأنه : صوت يأتلف من مخارج الحروف ، فما استلذه السمع منه : فهو «الحسن» وما كرهه
: فهو «القبيح».
والحسن : هو
الموصوف «بالفصاحة» والقبيح : غير موصوف بفصاحة لأنه ضدها ، لمكان قبحه.
وقد مثلت ذلك ـ
في المثال المتقدم ـ : بلفظة : «المزنة ، والديمة» ولفظة : «البعاق».
ولو كانت
الفصاحة لأمر يرجع الى المعنى : لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء ، ليس
منها حسن ، ومنها قبيح ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا : انها تخص اللفظ دون المعنى.
وليس لقائل
هاهنا ان يقول : لا لفظ الا بمعنى ، فكيف فصلت انت بين اللفظ والمعنى؟
فاني : لم افصل
بينهما ، وانما خصصت اللفظ بصفة هي له ، والمعنى يجيء فيه ضمنا وتبعا.
الوجه الثاني :
ان وزن ـ فعيل ـ هو اسم فاعل ، من فعل ـ بفتح الفاء ، وضم العين ـ نحو : كرم فهو كريم
، وشرف فهو شريف ، ولطف فهو لطيف ، وهذا مطرد في بابه.
وعلى هذا : فان
اللفظ الفصيح هو : اسم فاعل من ـ فصح ـ فهو فصيح ، واللفظ : هو الفاعل للابانة عن
المعنى ، فكانت الفصاحة مختصة به.
فان قيل : انك
قلت : ان الفصيح من الألفاظ : هو الظاهر البين ، اي : المفهوم ، ونرى من آيات «القرآن»
ما لا يفهم ما تضمنه من المعنى
الا باستنباط وتفسير ، وتلك الآيات فصيحة لا محالة ، وهذا بخلاف ما ذكرته؟
قلت : لأن
الآيات التي تستنبط ، وتحتاج الى تفسير ، ليس شيء منها الا ومفردات ألفاظه ، كلها
ظاهرة واضحة ، وانما التفسير يقع في غموض المعنى ـ من جهة التركيب ـ لا من ـ جهة
ألفاظه المفردة ـ لان معنى المفرد يتداخل بالتركيب ، ويصير له هيئة تخصه.
وهذا ليس قدحا
في فصاحة تلك الألفاظ ، لأنها اذا اعتبرت : لفظة لفظة ، وجدت كلها فصيحة ، اي :
ظاهرة واضحة.
واعجب ما في
ذلك : ان تكون الألفاظ المفردة ، التي تركبت منها المركبة : واضحة كلها ، واذا نظر
اليها مع التركيب ، احتاجت الى استنباط وتفسير.
وهذا : لا يختص
به القرآن وحده ، بل في الأخبار ، والأشعار ، والخطب ، والمكاتبات ، كثير ، بحيث
لا يحصى.
هذا حديث
اجمالى ، يجب عليك المحافظة عليه ، ليفيدك في المباحث الآتية.
(يوصف بها) ،
اي : بالفصاحة : (المفرد) ، المقابل للجملة والكلام ، ولو كان مركبا تقييديا او ـ علما
ـ كان في الأصل جملة ، حتى ما كان من قبيل ـ امدحه ـ الذي فيه تنافر ، لأنه بعد
العلمية ، يزول عنه التنافر ، لتنزيل اجزاء الجملة ، بل مطلق المركبات : بمنزلة
حروف المباني ، فتخرج عن الدلالة على ما كان لها من المعاني.
مثلا : لفظة ـ زيد
ـ في «زيد قائم» بعد صيرورة المجموع علما تنزل بمنزلة ـ الزاي ـ من ـ زيد ـ من حيث
عدم الدلالة على شيء.
نعم ، مجموع
الجملة : يدل على المسمى بها ، ولعمري هذا ظاهر لا يحتاج الى البيان ، بعد معرفة
المراد من المفرد المقابل للجملة والكلام بقرينة مقابلته له ، فتأمل.
(يقال : كلمة
فصيحة) ، للمفرد الذي يجتمع فيه ما يأتى في بيان فصاحة المفرد ، (و) يوصف بها ـ ايضا
ـ الكلام كذلك ، اي : منثورا كان او منظوما.
غاية الأمر :
انه (يقال : كلام فصيح في النثر ، وقضيدة فصيحة في النظم) ، اذا كان الأبيات سبعة
، او عشرة ، فما فوق.
والا ، فيقال :
قطعة فصيحة.
وقال الباقلاني
: سمعت اسماعيل بن عباد يقول : سمعت ابا بكر بن مقسم يقول : سمعت ثعلبا يقول :
سمعت الفراء يقول العرب تسمى البيت الواحد يتيما ، وكذلك يقال : الدرة اليتيمة
لانفرادها ، فاذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة والى العشر تسمى قطعة ، واذا بلغ
العشرين استحق ان يسمى قصيدا ، وذلك مأخوذ من المخ القصيد : وهو المتراكم بعضه على
بعض هذا ، ولكن ، لا بد ـ هنا ـ من نقل كلام ذكره الجامي ، في شرح كلام ابن الحاجب
، ليتضح به المرام بالتمام ، ويظهر منه المراد من الكلام في المقام قال : الكلام ـ
في اللغة ـ : ما يتكلم به الانسان ، قليلا كان او كثيرا.
وفي اصطلاح
النحاة : ما تضمن ، اي : لفظ تضمن ـ كلمتين ـ حقيقة او حكما ، اي : يكون كل واحدة
منهما في ضمنه ، فالمتضمن : اسم فاعل هو المجموع ، و ـ المتضمن ـ : اسم مفعول كل
واحدة من الكلمتين ، فلا يلزم اتحاد المتضمن والمتضمن.
بالاسناد ، اي
: تضمنا حاصلا ، بسبب اسناد احدى الكلمتين الى الاخرى.
والاسناد :
نسبة احدى الكلمتين ، حقيقة او حكما الى الاخرى ، بحيث تفيد المخاطب فائد تامة.
فقوله : ـ ما ـ
لفظ يتناول : المهملات ، والمفردات ، والمركبات : الكلامية ، وغير الكلامية.
وبقيد ـ تضمن
الكلمتين ـ : خرجت المهملات والمفردات.
وبقيد الاسناد
: خرجت المركبات الغير الكلامية ، مثل : غلام زيد ، ورجل فاضل ، وبقيت المركبات
الكلامية ، سواء كانت خبرية نحو : ضرب زيد ، وضربت هند ، وزيد قائم ، او انشائية ،
نحو : اضرب ، ولا تضرب.
فان كل واحد
منهما : تضمن كلمتين ، احداهما ملفوظة ، والاخرى منوية ، وبينهما ـ اسناد ـ يفيد
المخاطب فائدة تامة.
وحيث كانت
الكلمتان : أعم من ان تكونا كلمتين حقيقة او حكما ، دخل في التعريف مثل : زيد ابوه
قائم ، او قام ابوه ، او قائم ابوه.
فان الاخبار
فيها ـ مع انها مركبات ـ في حكم الكلمة المفردة ، اعني : قائم الأب.
ودخل فيه ـ ايضا
ـ مثل : جسق مهمل ، وديز مقلوب زيد ، مع ان المسند اليه فيهما : مهمل ليس بكلمة ،
فانه في حكم هذا اللفظ.
اعلم : ان كلام
المصنف ، ظاهر في ان نحو : «ضربت زيدا قائما» بمجموعه كلام ، بخلاف كلام صاحب ـ المفصل
ـ حيث قال : الكلام : هو المركب من كلمتين ، اسندت احداهما الى الاخرى فانه صريح :
في ان الكلام هو ـ ضربت ـ فقط ، والمتعلقات خارجة عنه.
ثم اعلم : ان
صاحب ـ المفصل ـ وصاحب ـ اللباب ـ ذهبا : الى ترادف الكلام والجملة ، وكلام ـ المصنف
ـ ايضا ينظر الى ذلك ، فانه قد اكتفى في تعريف الكلام : بذكر الاسناد مطلقا ، ولم
يقيده بكونه : مقصودا لذاته.
ومن جعله اخص
من الجملة ، قيده به ، فحينئذ يصدق الجملة : على الجملة الخبرية الواقعة اخبارا ،
او اوصافا ، بخلاف الكلام.
وفي بعض
الحواشي : ان المراد ـ بالاسناد ـ هو الاسناد المقصود لذاته.
و ـ حينئذ ـ يكون
الكلام عند المصنف ـ ايضا ـ اخص.
وقال بعض أرباب
الحواشي على ـ التوضيح ـ ما محصله : ان دخول الجملة فى اقسام العلم ، وتسميتها
جملة ـ على سبيل المجاز ـ دون الحقيقة اذ المركب : ما دل جزء لفظه على جزء معناه ،
ولا شيء من الأعلام كذلك ، فهي كلها مفردة ، ثم تتصف بذلك : باعتبار اصلها
المنقولة هي عنه ـ مجازا ـ.
وتنظر فيه
بعضهم : بان ما ذكر من تعريف المركب ، انما هو باصطلاح المنطقي لا النحوي ، كما
يعلم ذلك من بحث الكلمة.
قال ـ في
التوضيح ـ : المركب الذي صار علما ، ثلاثة انواع : وذلك : انه اما مركب اسنادي ،
كبرق نحره ، وشاب قرناها ، وهذا النوع : مبنى.
وحكمه :
الحكاية على ما كان عليه قبل التسمية به ، ان قدر فيه الضمير ، والا ، فهو غير
منصرف ، لأنه مفرد ، ومانعه من الصرف «العلمية ، ووزن الفعل».
واما مركب مزجي
: وهو كل كلمتين ، نزلت ثانيتهما منزلة
ـ تاء التأنيث ـ من الكلمة : في وجوب فتح ما قبلها ، كبعلبك ، وحضرموت.
واما مركب
اضافي : وهو الغالب في الأعلام المركبة .. انتهى باختصار فتأمل جيدا.
واعترض عليه :
بأن ثم أشياء كثيرة ، سمى بها فصارت اعلاما وهي مركبة ، وقد عريت من اسناد واضافة
ومزج ، كما اذا سميت بما تركب من حرفين ، نحو : «انما» او حرف واسم ، نحو : «منه» و
«من زيد».
واجاب بعضهم عن
ذلك : بأن المراد : ذكر ـ العلم ـ الذي استعملته العرب ، ووقع في كلامها ، ولا شك
ان الواقع في كلامهم ، انما انقسم الى الأقسام التي ذكرها.
وقد يقال : عدم
استعمال العرب له ، لا يقتضي عدم ذكره ، واهمال حكمه.
وقد ذكر ابن
مالك وغيره : العلم المنقول من الجملة الاسمية ، ولم تستعمله العرب ، وقد ذكر في ـ
باب مالا ينصرف ـ من التسهيل فقال : في باب التسمية بلفظ كائن ما كان ، لما سمى به
من لفظ يتضمن اسنادا ، او عملا ، او اتباعا ، او تركيب حرفين ، او حرف واسم ، او
حرف وفعل ، ما كان له قبل التسمية.
ويبقى الكلام
في المركب العددي ، والظاهر : انه من المزجي ، وان كان تعريف المزجى ، لا يتناوله
بحسب الظاهر.
والتحقيق : ان
جميع ما ذكر ، مشبه بتركيب الاسنادي ، وملحق به ، اذ القوم حصروا المركب في
الثلاثة .. انتهى باختصار.
فاذا عرفت ما
ذكرنا ، فاعلم : انه اعترض على المصنف : بأنه قد بقى هنا شيء ليس بكلمة ولا كلام ،
وهو المركبات الناقصة. اي : غير المفيدة فائدة تامة ، فسكوت المصنف عن تلك
المركبات الناقصة يقتضي ان لا تكون فصيحة ، مع انها توصف بالفصاحة قطعا ، فيقال : مركب
فصيح ، وحينئذ ففي كلام المصنف قصور.
واجيب عن هذا
الاعتراض : بأن تلك المركبات ، داخلة في كلام المصنف ، اذ المراد ـ بالكلام ـ في
كلامه المركب مطلقا ، على طريق المجاز المرسل ، من باب اطلاق الخاص وارادة العام ،
فيشمل كلامه المركب التام والناقص.
فانه قد يكون
بيت من القصيدة ، غير مشتمل على اسناد يصح السكوت عليه ، كقوله :
اذا ما
الغانيات برزن يوما
|
|
وزجحن
الحواجب والعيونا
|
ونظيره : كل
شرط بدون الجزاء ، كان قام ـ مثلا ـ كما في اوائل السيوطي ، في بحث الكلام ، مع
انه يتصف بالفصاحة ، فيقال : مركب فصيح. و ـ حينئذ ـ فلا قصور في كلامه.
ورد هذا الجواب
ـ كما في المختصر ـ حيث قال : وفيه نظر ، لأنه انما يصح ذلك لو اطلقوا على مثل هذا
المركب : انه كلام فصيح ولم يقل ذلك عنهم.
واتصافه
بالفصاحة : يجوز ان يكون باعتبار فصاحة المفردات.
على ان الحق :
انه داخل في المفرد ، لأنه يقال : على ما يقابل المركب ، وعلى ما يقابل المثنى
والمجموع ، وعلى ما يقابل الكلام ، ومقابلته بالكلام قرينة دالة : على انه اريد به
المعنى الأخير ، اعني :
ما ليس بكلام .. انتهى.
حاصل النظر ـ بتوضيح
منا ـ : انه لا يتم الجواب عن الاعتراض ، الا لو كان العرب ، اطلقوا على المركب
المذكور : كلاما فصيحا ، مع انهم لم يقولوا فيه ذلك.
ووصفهم له
بالفصاحة ـ في قولهم ـ مركب فصيح ، يجوز ان يكون من حيث مفرداته ، لا من حيث ذاته.
سلمنا : انه
يوصف بالفصاحة من حيث ذاته ، وان الاعتراض بالقصور وارد على المصنف ، فالأولى :
ادخال المركب في المفرد ، لا في الكلام ، بأن يراد ـ بالمفرد ـ ما قابل ـ الكلام
ـ.
وذلك : لأنه لم
يعهد اطلاق الكلام على ما قابل المفرد ، بل المعهود : اطلاقه على المركب التام ،
كما هو المعنى العرفي عند النحاة.
او : على اللفظ
مطلقا ، الشامل للمفرد ، وهو معنى الكلام اللغوي.
واما اطلاقه
على ما قابل المفرد ، اعني : المركب مطلقا ، الشامل والناقص ، فهذا ـ مجاز مرسل ـ كما
علمت علاقته ، بخلاف اطلاق ـ المفرد ـ على ما ليس بكلام ، فانه حقيقة عرفية.
والمنقول عنهم
: انما هو وصف المركب الناقص : بالفصاحة ، دون وصفه : بانه كلام.
حيث قالوا :
مركب فصيح.
ووصفه بالفصاحة
، لا يستلزم تسميته ـ كلاما ـ حتى يدخل في مسماه ، لأن الوصف بالفصاحة : اعم من
التسمية بالكلام ، والاعم لا يستلزم الأخص ، فيجوز ان يكون وصفه بالفصاحة : لكون
كلماته فصيحة ، لا لكونه كلاما.
فبطل هذا
التأويل ، وهو ادخال المركب الناقص في الكلام ، فهو داخل في المفرد ، من غير
تأويل.
فدخول المركب
الناقص في المفرد : اولى ، لأنه لا يلزم عليه تجوز بخلاف دخوله في الكلام ، بأن
يراد منه المركب مطلقا ، فانه مستلزم للتجوز ، كما تقدم وجهه : من انه من باب
اطلاق الخاص وارادة العام ، وهو قسم من اقسام المجاز المرسل.
فان قلت : نعم
، لكن المشترك ، لا يفهم منه معنى معين بدون قرينة ، فما القرينة ـ هنا ـ على ان
المراد بالمفرد ـ هنا ـ ما قابل الكلام ، مع ان الظاهر من مقابلة الكلام بالمفرد ،
ان المراد بالكلام ما ليس بمفرد؟
قلنا : القرينة
، ما ذكر آنفا : من ان اطلاق الكلام على ما ليس بمفرد ، مجاز مخالف لاصطلاح النحاة
واللغويين.
بخلاف اطلاق ـ المفرد
ـ على ما ليس بكلام ، فانه حقيقة واصطلاح والمتبادر من الألفاظ ، حملها على
معانيها ـ بحسب الاصطلاح ـ.
وليعلم : انا
اشرنا سابقا ، الى ان المفرد الموصوف بالفصاحة ، يتناول الأعلام المنقولة : عن
المركبات ، وان كانت مشتملة على تنافر الكلمات وضعف التأليف ، والتعقيد ، نحو : «امدحه
، وازان نوره الشجر» و «تسكب عيناي الدموع لتجمد».
اذا جعلت
اعلاما ، لأن المفرد : ما لا يدل جزء لفظه على جزء معناه ، وهذه كذلك.
لا يقال : ان
ضعف التأليف لا يتأتى في العلم ، لأنه يكون بمخالفة الاعراب ، والعلم بمجرده لا
اعراب له ، وان كان في الأصل جملة ، لما ثبت في النحو : من انه مبنى يحكى.
لأنا نقول :
الاعراب ثابت له ، باعتبار المنقول عنه ، فيلزم ان تكون الأعلام المذكورة «فصيحة»
لخلوها عما يخل بفصاحة المفرد مع اشتمالها على ما يخل بفصاحة الكلام .. فتأمل.
ثم ليعلم : ان
احسن الأقوال وادقها ، ما اختاره بعض المحققين ، استنبطه مما تقدم ، وهو : ان
المفرد والكلام ـ في كلام المصنف ـ محمولان على معناهما الحقيقي المتبادر منهما ،
وهو : ان المراد بالمفرد ، ما ليس بمركب ، وبالكلام : المركب التام.
والمركب الناقص
، خارج عنهما ، لعدم اتصافه بالفصاحة والبلاغة ـ بالنظر لذاته ـ واتصافه بالفصاحة
ـ في قولهم ـ : مركب فصيح ، انما هو باعتبار اتصاف مفرداته بها .. انتهى.
(و) يوصف بها ـ
ايضا ـ : (المتكلم) ، اذا كانت له ملكة الفصاحة الآتي بيانها ، (يقال : كاتب فصيح).
ليس المراد من
الكاتب ، مطلق من ينقش الحروف على الأوراق والالواح ، ونحوهما ، الذي يمثل به ـ في
المنطق ـ بقولهم : كل كاتب متحرك الأصابع.
بل المراد منه
ـ هنا ـ : اخص من ذلك ، وهو : الذي له ملكة الاقتدار على تأليف كلام فصيح ، ونثر
بليغ.
قيل : والنظم ،
وهو : سهو ، بدليل : مقابلته ـ بقوله ـ : (وشاعر فصيح).
والحاصل : ان
المتكلم اذا حصل له الملكة الآتية ، يقال له : فصيح ، تكلم بسجع ، او نظم ، او
غيرهما
او لم يتكلم ، كتب ولم يكتب اصلا ، الا انه لم يعرف حصول الملكة له الا
بالتكلم.
كما قال امام
الفصاحة والبلاغة (ع) : «المرء مخبو تحت لسانه» ومنه اخذ الشاعر الفارسي ، حيث قال
:
زبان در دهان
اى خردمند چيست
|
|
كليد در كنج
صاحب هنر
|
چو در بسته
باشد چه داند كسى
|
|
كه گوهر فروش
است يا بيله ور
|
وقال الآخر في
ترجمة كلامه (ع) :
مرد پنهان
بود بزير زبان
|
|
تا نگويد سخن
ندانندش
|
نيك گويد
لبيب دانندش
|
|
زشت گويد
سفيه خوانندش
|
ولا تصاف
الكاتب بالفصاحة : شرائط واركان ، على ما ذكره الموصلي في ـ المثل السائر ـ حيث
قال : اعلم : ان للكتابة شرائط واركانا : اما شرائطها : فكثيرة ، يجمعها علم «البلاغة»
وتوابعها ، على ما يظهر من كلامه ، وليس يلزم الكاتب : ان يأتي بجميع ما في علم
البلاغة وتوابعها ، في كتاب واحد ، بل يأتي بكل نوع من أنواع ما ذكر في العلمين ،
في موضعه الذي يليق به.
واما الاركان :
التي لا بد من ايداعها في كل كتاب بلاغي ذي شان ، فخمسه :
الأول : ان
يكون مطلع الكتاب عليه جدة ورشاقة ، فان الكاتب : من اجاد المطلع والمقطع.
او يكون :
مبنيا علي مقصد الكتاب ، ولهذا باب يسمى : باب المبادىء والافتتاحات ، وقد ذكر هذا
الركن في؟؟؟ بالخاتمة ، في آخر علم البديع ، وهذا خلاصته ـ بتصرف منا توضيحا ـ :
ينبغي للمتكلم ، شاعرا كان او كاتبا ، ان يتأفق في ثلاثة مواضع من كلامه ،
حتى تكون اعذب لفظا :
بأن يكون : في
غاية البعد من التنافر والثقل ، واحسن سبكا.
بأن يكون : في
غاية البعد من التعقيد ، والتقديم ، والتأخير الملبس.
وان يكون :
الألفاظ متقاربة في الجزالة والمتانة ، والرقة والسلاسة ، ويكون : المعاني مناسبة
لألفاظها ، من غير ان يكسى اللفظ الشريف المعنى السخيف ، او على العكس ـ ايضا ـ بل
يصاغان صياغة تناسب وتلائم ، واصح معنى : بأن يسلم من التناقض ، والامتناع ،
ومخالفة العرف ، والابتذال.
ومما يجب
المحافظة عليه : ان يستعمل الألفاظ الدقيقة ، في ذكر الأشواق ، ووصف ايام البعاد ،
واستجلاب المودات ، وملاينات الاستعطاف وامثال ذلك.
احدها : اي : ـ
المواضع الثلاثة ـ الابتداء ، لأنه اول ما يقرع السمع فان كان عذبا ، حسن السبك ،
صحيح المعنى ، أقبل السامع على الكلام فوعى جميعه.
والا ، اعرض
عنه ، ورفضه ، وان كان الباقي في غاية الحسن.
فالابتداء
الحسن في تذكار الأحبة والمنازل ، كقول امرء القيس :
قفا نبك من ذكرى
حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى
بين الذحول فحومل
|
وقدح بعضهم في
هذا البيت : بما فيه من عدم التناسب بين شطريه ، لأنه وقف واستوقف ، وبكى واستبكى
، وذكر الحبيب والمنزل في الشطر الاول : عذب اللفظ ، سهل السبك ، ثم لم يتفق له
ذلك في الشطر الثاني بل اتى فيه بمعان قليلة ، في الفاظ غريبة ، فباين الأول.
ومن حسن
الابتداء في الغزل ـ اي : مغازلة النساء ، ومخادعتهن ومراودتهن ، وقيل : الغرل ،
مدح الأعضاء الظاهرة ، والمديح : مدح الامور الباطنة ـ : قوله :
اريقك ام ماء
الغمامة ام خمر
|
|
بفي برود وهو
في كبدي جمر
|
ومن هذا : اخذ
بعض شعرائنا المتأخرين في قوله : «امفلج ثغرك ام جوهر ..» الخ.
وينبغي ان
يجتنب ـ في ابتداء المديح ـ : ما يتطير به ، اي : يتشاءم ، كقول ابن المقاتل
الضرير ـ في مطلع قصيدة انشدها للداعي العلوي ـ :
موعد احبابك بالفرقة غد
فقال له الداعي
: موعد احبابك يا اعمى! ذلك المثل السوء.
وروى ـ ايضا ـ :
انه دخل على الداعي في يوم المهرجان ، وانشده
لا تقل بشرى
ولكن بشريان
|
|
عزة الداعي
ويوم المهرجان
|
فتطير به
الداعي ، وقال : بهذا تبتدىء يا أعمى يوم المهرجان؟!
وقيل : بطحه ،
اي : القاه على وجهه ، وضربه خمسين عصا ، وقال : اصلاح ادبه ابلغ من ثوابه.
وروى ـ ايضا ـ :
انه لما بنى المعتصم بالله ، باب نصره بميدان بغداد ، وجلس فيه ، انشده اسحاق
الموصلي :
يا دار غيرك
البلى ومحاك
|
|
يا ليت شعري
ما الذي ابلاك
|
فتطير المعتصم
بالله ، وامر بهدمة.
وروى ـ ايضا ـ :
انه دخل ابو نؤاس ، على الفضل بن يحيى البرمكي ، وانشده :
اربع البلى
ان الخشوع لبادى
|
|
عليك وانى لم
احبك ودادي
|
فانزعج الفضل
تطيرا بذلك ، وعاد يكرر يمحو الله ويثبت ، فلما انتهى الى قوله :
سلام على
الدنيا اذا فقدتهم
|
|
بنى يرمك من
حاضرين وباد
|
استحكم تطيره ،
فقام ودخل دار الحرم ، فلم يبق احد في المجلس الا واستقبح ذلك من اختيار ابي نؤاس.
وللتطير
بابتداء الكلام ، وكذا التفاؤل به ، حكاية كثيرة ، لم نذكرها مخافة التطويل.
ومما ينبغي ان
يجتنب ـ في ابتداء المديح وغيره ـ : اساءة الأدب فانه اذا احسن المتكلم في كلامه ،
واساء في أدبه ، عطف الاساءة على الاحسان ، واستحق الهوان.
روى : ان ابا
النجم العجلى ، دخل على هشام بن عبد الملك ـ وكان احول ـ فانشد ارجوزته التي يقول
فيها : «الحمد لله الوهوب ..» حتى بلغ قوله :
والشمس صارت كعين الأحول
فغضب هشام ،
وامر بضربه وسجنه.
ومن ذلك قول
بعضهم ـ وقد مدح زبيدة وهي تسمع ـ :
ا زبيدة ابنة
جعفر طوبى لزائرك المثابي
|
|
تعطي من رجلك
ما يعطي الاكف من الرغاب
|
فهم الخدم
والحشم بضربه ، فقالت : دعوه ، فانه لم يرد الاخيرا ولكنه اخطأ الصواب ، لأنه سمع
قولهم في الشعر : «شمالك عندي خير من يمين غيرك ، وظهرك احسن من وجه سواك» فظن ان
الذي ذهب اليه من هذا القبيل ، اعطوه ما أمل ، ونبهوه على ما اهمل.
فعجب الناس من
حلمها ، وفصاحتها ، وفهمها.
ولا ساءة الأدب
والاحتراز عنه في الكلام ـ ايضا ـ حكايات كثيرة تركنا ذكرها لما تقدم.
واحسن الابتداء
: ما ناسب المقصود بأن يكون في ابتداء الكلام اشارة الى ما سيق الكلام لأجله ،
ليكون الابتداء مشعرا بالمقصود ، والانتهاء ناظرا الى الابتداء ، ويسمى هذا : «براعة
الاستهلال» كقول ابي الفرج الساوى ـ في مرثية فخر الدولة ـ :
هى الدنيا
تقول بملأ فيها
|
|
حذار حذار من
بطشى وقتلى
|
ومنه ما يشار
في ابتداء الكتب : الى الفن المصنف فيه ، كقول الشيخ البهائي ـ في اول الصمدية ـ :
احسن كلمة يبتدء بها الكلام ، وخير خبر يختتم به المرام ، حمدك اللهم على جزيل
الانعام ، والصلاة والسّلام على سيدنا محمد وآله البررة الكرام ، سيما ابن عمه علي
الذي نصبه علما للاسلام ، ورفعه لكسر الأصنام ، جازم اعناق النواصب اللئام ، وواضع
علم النحو لحفظ الكلام.
فأشار الى جميع
ابواب النحو ، ومدونه ، وغايته ، مع اشارة اجمالية الى فضائل ، المدون بأوجز عبارة
واخصر كلام ، مطابقا لمقتضى المقام.
وهذا ظاهر :
لمن كان من اهل الذوق وذوي الأفهام.
وثانيها : اي :
ثانى المواضع الثلاثة ، التي ينبغي للمتكلم ان يتأنق فيها التخلص ، أي : الخروج
مما ابتدأ به الكلام : من وصف جمال او غيره ، كالأدب ، والافتخار ، والشكاية ،
وغير ذلك : الى المقصود
مع رعاية الملائمة بينهما ، اي : بين ما ابتدأ به الكلام ، وبين المقصود.
وانما كان
التخلص من المواضع الثلاثة ، التي ينبغي للمتكلم ان يتأنق فيها ، لأن السامع ،
يكون مترقبا للانتقال ـ من الافتتاح الى المقصود ـ كيف يكون؟
فاذا كان حسنا
، متلائم الطرفين ، حرك من نشاط السامع ، واعان على اصغاء ما بعده ، والا ، فبالعكس.
ثم «التخلص»
قليل في كلام المتقدمين ، واكثر انتقالاتهم : من قبيل «الاقتضاب» ويأتى معناه عن
قريب.
واما المتأخرون
: فقد لهجوا به ، لما فيه من الحسن ، والدلالة على براعة المتكلم ، وتفوقه على
اقرانه.
وقد ينتقل الى
مالا يلائمه ، ويسمى الانتقال ـ حينئذ ـ : «الاقتضاب» اي : الاقتطاع ، والارتجال ،
وهو : اي : الاقتضاب ، مذهب العرب الجاهلية ، والمخضرمين ، وهم الذين ادركوا
الجاهلية والاسلام.
وقد يتبعهم
المتأخرون ، ويجرون على مذهبهم ، وان كان الأكثر فيهم «التخلص» لما تقدم.
ومنه ، اي : من
«الاقتضاب» ما يقرب من «التخلص» : في ان يشوبه شيء من الملائمة ، كقولهم ـ بعد حمد
الله ، ونعت الرسول (ص) وآله ـ اما بعد ، فاعلم : انه كذا وكذا.
فهو اقتضاب ،
من جهة : انه قد انتقل من حمد الله ، والثناء على الرسول وآله (ع) ، الى كلام آخر
، من غير رعاية ملائمة بينهما.
لكنه يشبه «التخلص»
من جهة : انه لم يؤت بالكلام الآخر فجأة ، من غير قصد الى ارتباط وتعلق بما قبله ،
بل اتى بلفظ «اما
بعد» قصدا : الى ربط لهذا الكلام ، بما سبق عليه.
قيل : كما
اشرنا اليه فيما تقدم ، انه أي : قولهم : «اما بعد» فصل الخطاب.
قال ابن الاثير
: والذي اجمع عليه المحققون من علماء ـ البيان ـ ان فصل الخطاب : هو قوله «اما بعد».
لأن المتكلم ،
يفتتح كلامه في كل امر ذي شأن ، بذكر الله تعالى ، وتحميده.
فاذا اراد ان
يخرج منه الى الغرض المسوق له الكلام : فصل بينه وبين ذكر الله. بقوله : «اما بعد».
ومن «الاقتضاب»
الذي يقرب من التخلص ، ما يكون بلفظ «هذا» وأكثر مواقع استعمال هذا النوع من
الاقتضاب : كلام المؤلفين والمصنفين ، عند الانتقال من مسألة الى مسألة اخرى ،
كقول السيوطي ـ عند بيان اقسام المبنى ـ : «وقد علم مما مثلت به» الى ان يقول «هذا
واعلم : ان الاعراب ، كما قال في التسهيل» الخ.
ومنه قوله
تعالى ـ بعد ذكر اهل الجنة ـ : (هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) فهو اقتضاب ، لكن فيه نوع ارتباط ، لأن الواو بعده
للحال.
ولفظ (هذا) اما خبر مبتدء محذوف ، اي : الأمر هذا ، او مبتدء ،
محذوف الخبر ، اي : هذا كما ذكر.
فالقول : بان ـ
الهاء ـ في هذا : اسم فعل ، بمعنى خذ ، و ـ ذا ـ مفعوله ، كما ادعاه محشى ـ السيوطي
ـ في الموضع المذكور : وهم ، منشأه عدم الاطلاع ، وقصور الباع.
وقد يكون الخبر
مذكورا ، مثل قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَ
لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ ) : قال ابن الأثير : لفظ (هذا) في هذا المقام : من الفصل ، الذي هو احسن من الوصل ،
وهي علاقة وكيدة ، بين الخروج من كلام الى كلام آخر.
ثم قال : وذلك
من «فصل الخطاب» الذي هو أحسن موقعا : من التخلص ، ومن الاقتضاب ، الذي يقرب من
التخلص.
قول الكاتب
والمؤلف ـ عند ارادة الانتقال ، من حديث الى حديث آخر ـ : هذا باب كذا وكذا ، فان
فيه نوع ارتباط ، حيث لم يبتدىء الحديث الآخر فجأة.
ومن هذا القبيل
: لفظ ـ ايضا ـ في كلام المتأخرين : من الكتاب والمؤلفين.
وثالثها : اي :
ثالث المواضع ، التي ينبغي : ان يتأنق فيها الانتهاء فيجب على البليغ ، ان يختم
كلامه ، شعرا كان ، او خطبة ، او رسالة ، بأحسن خاتمة ، لأنه آخر ما يعيه السمع ،
ويرقسم في النفس.
فان كان مختارا
حسنا ، تلقاه السمع واستلذه ، حتى جبر ما وقع فيما سبق من التقصير ، كالطعام
اللذيذ ، الذي يتناول بعد الأطعمة التفهة.
وان كان بخلاف
ذلك على العكس ، حتى ربما انساه المحاسن الموردة فيما سبق.
واحسنه ، اي :
أحسن الانتهاء ، ما اذن بانتهاء الكلام ، حتى لم يبق للنفس تشوق الى ما ورائه.
وقد قلت عناية
المتقدمين بهذا النوع ، اي : بما يؤذن بانتهاء الكلام.
واما المتأخرون
: فهم يجتهدون في رعايته ، ويسمونه حسن المقطع وبراعة المقطع.
وجميع فواتح
سور القرآن وخواتمها ، واردة على احسن الوجوه من البلاغة واكملها.
فانك اذا نظرت
الى فواتحها ، وجدتها متضمنة لاشارات ، يقصر عن وصف كنهها العبارات.
واذا نظرت الى
خواتمها ، وجدتها في غاية الحسن ، ونهاية الكمال لكونها : بين أدعية ، ووصايا ،
ومواعظ وتحميد ، ووعد ، ووعيد ، الى غير ذلك من الخواتم ، التي لا يبقى للنفس
بعدها تطلع ولا تشوق الى شيء آخر.
وكيف لا؟!
وكلام الله عزوجل ، في الطرف الأعلى من البلاغة والغاية القصوى من
الفصاحة ، وقد أعجز مصاقع البلغاء ، وأخرس شقاشق الفصحاء.
ولكن ادراك ذلك
، وفهم وجوه المناسبة ، يحتاج الى مزيد تأمل وكمال ذوق ، فطري او مكتسب ، من طول
خدمة ـ علم البلاغة ـ وتوابعها.
ولنذكر ـ لتوضيح
المرام ـ : موارد من كلام الله المجيد ، التي روعى فيها : حسن الابتداء او
الانتهاء.
قال في ـ الاتقان
ـ : من علم تفسير الفاتحة ، كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة ، وهي ـ على ما
قيل ـ : مائة واربعة كتب ، وقد وجه ذلك : بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن ،
وقامت بها الأديان ، أربعة : علم الاصول : ومداره على معرفة الله تعالى ، وصفاته ،
واليه الاشارة : (برَبِّ الْعالَمِينَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
ومعرفة النبوات
: واليه الاشارة : (بالَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).
ومعرفة المعاد
: واليه الاشارة : (بمالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ).
وعلم العبادات
: واليه الاشارة : (بإِيَّاكَ نَعْبُدُ).
وعلم السلوك ،
وهو حمل النفس على الآداب الشرعية ، والانقياد لرب البرية ، واليه الاشارة : (بإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).
وعلم القصص :
وهو الاطلاع على أخبار الامم السالفة ، والقرون الماضية ، ليعلم المطلع على ذلك :
سعادة من اطاع الله ، وشقاوة من عصاه ، واليه الاشارة ـ بقوله ـ : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
فنبه في
الفاتحة : على جميع مقاصد القرآن ، وفيه جميع مقاصد الكتب المنزلة.
وهذا : هو
الغاية في «براعة الاستهلال» مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة ، والمقاطع
المستحسنة ، وأنواع البلاغة.
وكذلك : اول
سورة «اقرأ» فافها : مشتملة على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة ، من «براعة
الاستهلال».
لكونها : اول
ما انزل ، فان فيها الأمر بالقراءة ، والبداءة فيها : باسم الله تعالى.
وفيه الاشارة :
الى علم الأحكام.
وفيها : ما
يتعلق بتوحيد الرب ، واثبات ذاته ، وصفاته : من صفة ذات وصفة فعل.
وفي هذه
الاشارة : الى اصول الدين.
وفيها : ما
يتعلق بالأخبار ، من قوله : «علم الانسان ما لم يعلم».
ولهذا قيل :
انها جديرة ان تسمى : عنوان القرآن ، لأن «عنوان
الكتاب» يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.
واما خواتم
السور : فيه مثل الفواتح في الحسن ، لأنها آخر ما يقرع الاسماع ، فلهذا : جاءت
متضمنة للمعاني البديعة ، مع ايذان السامع ، بانتهاء الكلام ، حتى لا يبقى معه
للنفوس تشوف : الى ما يذكر بعد ، كتفصيل جملة المطلوب ، في خاتمه الفاتحة ، اذ
المطلوب الاعلى : الايمان المحفوظ من المعاصى ، المسببة لغضب الله والضلال.
ففصل جملة ذلك
بقوله : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ) والمراد : المؤمنون ولذلك اطلق الانعام ، ليتناول كل
انعام ، لأن من انعم الله عليه بنعمة الايمان ، فقد انعم الله عليه بكل نعمة ،
لأنها مستتبعة لجميع النعم.
لم وصفهم بقوله
: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يعنى : أنهم جمعوا بين النعم المطلقة ، وهي : نعمة
الايمان ، وبين السلامة من غضب الله ، والضلال ، المسببين عن معاصيه ، وتعدى
حدوده.
وكالدعاء ،
الذي اشتملت عليه الآيتان ، من آخر سورة البقرة وكالوصايا ، التي ختمت بها سورة آل
عمران (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا) الآية.
والفرائض ،
التي ختمت بها سورة النساء ، وحسن الختم بها : لما فيها من أحكام الموت ، الذي هو
آخر امر كل حي ، ولانها آخر ما نزل من الأحكام.
وكالتبجيل
والتعظيم ، الذي ختمت به المائدة.
وكالوعد
والوعيد ، الذي ختمت به الأنعام.
وكالتحريض على
العبادة ، بوصف حال الملائكة ، الذي ختمت به الأعراف.
وكالحض على
الجهاد ، وصلة الأرحام ، الذي ختم به الأنفال.
وكوصف الرسول (ص)
ومدحه ، والتهليل ، الذي ختمت به براءة.
وتسليته (ص) ،
الذي ختم به يونس.
ومثلها : خاتمة
هود.
ووصف القرآن
ومدحه ، الذي ختم به يوسف.
والوعيد والرد
على من كذب الرسول (ص) ، الذي ختم به الرعد.
ومن أوضح ما
آذن بالختام ، خاتمة ابراهيم : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) الآية.
ومثلها : خاتمة
الأحقاف ، وكذا خاتمة الحجر ، بقوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وهو مفسر بالموت ، فانها في غاية البراعة.
وانظر الى سورة
الزلزلة ، كيف بدئت باهوال القيامة ، وختمت بقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
وانظر الى براعة
آخر آية نزلت ، وهى قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وما فيها من الاشعار : بالآخرية ، المستلزمة للوفاة.
وكذا آخر سورة
نزلت ، وهي سورة النصر ، فيها الاشعار بالوفاة.
كما روى ان عمر
، سأل عن قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) فقالوا : فتح المدائن والقصور.
قال : ما تقول
يابن عباس؟.
قال : اجل ضرب
لرسول الله (ص) ، نعيت له نفسه.
واعلم : ان علم
المناسبة بين اجزاء الكلام ، لا سيما «القرآن» الذي فى أعلى درجات البلاغة ، علم
شريف ، قل اعتناء المفسرين به ، لدقته ، وقصورهم عن دركه.
فان قلت : ان
القرآن نزل في نيف وعشرين سنة ، في أحكام
مختلفة ، ووقايع متشتتة ، وما كان كذلك : لا يتأتى ربط بعضه ببعض.
قلنا : هذا وهم
، لأنا نسلم : انه نزلت على حسب الأحكام والوقايع على حسب الحكمة ، لكنه على وفق
ما في اللوح المحفوظ ، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف ، كما انزل جملة الى بيت
الوحي ، لا سيما على القول : بأنه لم يبلغ اليه يد التحريف وتغيير الآيات مكانا ،
فتأمل.
وقد قلنا مرارا
: انه معجز بين اسلوبه ونظمه الباهر ، فكما ان القرآن معجز بحسب فصاحة ألفاظه ،
فهو ـ ايضا ـ كذلك بحسب ترتيبه ونظمه. وشرف معانيه.
فاذا رأيت
المفسرين وغيرهم ، معرضين عن بيان المناسبات بين الفواتح والخواتم ، او بين الآيات
، فليس الأمر في هذا الباب الا كما قيل :
والنجم
تستصغر الأبصار صورته
|
|
والذنب للطرف
لا للنجم في الصغر
|
والحاصل : ان
المناسبة والمقاربة ، بين الجمل اولها وآخرها : أمر مهم ، مطلوب عند الفصحاء ،
ومرغوب عند البلغاء.
ومرجعها في
الآيات ونحوها الى معنى رابط بينها ، عام وخاص ، عقلي أو حسي أو خيالي كما يجيء
تفصيل ذلك ـ في باب الفصل والوصل ـ انشاء الله تعالى ـ ان ساعدنا التوفيق.
او غير ذلك ،
من انواع المناسبات ، كالسببية والمسببية ، والعلية والمعلولية ، والتضاد ،
وشبهها.
وفائدتها : جعل
أجزاء الكلام ، بعضها آخذا بأعناق بعض. فيقوى بذلك الارتباط ، ويصير التأليف حاله
: حال البناء المحكم ، المتلائم الاجزاء.
ولذلك ، حصر
بعضهم البلاغة على معرفة الفصل والوصل ، كما سيصرح بذلك عن قريب.
فليس معنى
الكتابة : ما يفهمه العامة ، وأشار اليه في أدب الكاتب بقوله : وغاية كاتبنا : ان
يكون حسن الخط ، قويم الحروف واعلى منازل اديبنا : ان يقول من الشعر ابياتا ، في
وصف كاس ، او مدح قينة ، او مقبول عند العامة ، غير مستحق ذلك المدح ، فيقبله العامة
، اذ احسن الشعر عندهم اكذبه ، وذلك المسكين غافل : عن ان الشعراء يتبعهم الغاوون
، واما العقلاء فقد قالوا :
الشعر صعب
وطويل سلمه
|
|
اذا ارتقى به
الذي لا يعلمه
|
زلت به الى
الحضيض قدمه
|
|
يريد ان
يعربه فيعجمه
|
الركن الثاني
من الأركان التي لا بد من ايداعها في كل كتاب بلاغي ذي شان : ان يكون الدعاء
المودع في صدر الكتاب ، مشتقا من المعنى الذي بنى عليه الكتاب ، وهذا يشبه حسن
الابتداء.
الركن الثالث :
ان يكون خروج الكاتب من معنى الى معنى : برابطة ، ليكون رقاب المعانى آخذة بعضها
ببعض ، ولا تكون مقتضبة وقد تقدم الكلام فيه آنفا مستوفى.
الركن الرابع :
ان تكون ألفاظ الكتاب : غير مخلوقة بكثرة الاستعمال ، وليس المراد بذلك : ان تكون
الألفاظ غريبة ، فان ذلك عيب فاحش ، ومخل بالفصاحة ، كما يأتي عن قريب.
بل المراد : ان
تكون الألفاظ مسبوكة سبكا غريبا ، بحيث يظن السامع : انها غير ما في أيدي الناس ،
وهي : مما في ايدي الناس ، وهناك : معترك الفصاحة ، التي تظهر فيه الخواطر براعتها
، والأقلام شجاعتها ، كما قيل :
باللفظ يقرب
فهمه في بعده
|
|
عنا ويبعد
نيله في قربه
|
وهذا الموضع ،
بعيد المنال ، كثير الاشكال ، يحتاج الى لطف ذوق ، وقريحة صافية ، وفطانة قويمة ،
هو شبيه : بالشيء الذي يقال : انه لا داخل العالم ، ولا خارج العالم.
فلفظه : هو
الذي يستعمل ، وليس بالذي يستعمل ، يعني : ان مفردات ألفاظه ، هي المستعملة
المألوفة ، ولكن سبكه وتركيبه : هو الغريب العجيب.
وليعلم : ان
ليس المراد مما ذكر ، اهمال جانب المعنى ، بحيث يؤتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن
والملاحة ، ولا يكون تحته من المعنى ما يماثله ويساويه.
فانه اذا كان
كذلك : كان كصورة حسنة ، بديعة في حسنها وملاحتها ، الا ان صاحبها شرس أبله ،
وبليد أتفه.
بل المراد : ما
يأتي من قريب ، عند قوله : «فالبلاغة راجعة الى اللفظ باعتبار افادته المعنى
بالتركيب ، وحاصله : ان تكون الألفاظ جسما لمعنى شريف ، ومدلول لطيف» وسيأتي
توضيحه : في الموضع المذكور ـ ان شاء الله تعالى ـ.
الركن الخامس :
ان لا يخلو الكتاب من معنى من معاني القرآن الكريم ، والاخبار المنقولة عن
المعصومين ، عليهم صلوات المصلين ، الذين هم معدن الفصاحة ، ومركز البلاغة.
واذا استكملت
معرفة هذه الأركان الخمسة في شخص ، فذلك جدير بان يسمى : كاتبا ، او شاعرا ، والا
، فلا.
(والبلاغة ،
وهي تنبىء عن الوصول والانتهاء) ، والتعبير ـ بتنبىء ـ قد تقدم وجهه في الفصاحة ،
فلا نعيده.
ويكفيك ما في ـ
المصباح ـ قال : بلغ الصبي بلوغا ، من باب ـ قعد ـ احتلم وادرك ، والأصل بلغ
الحلم.
وقال ابن
القطاع : بلغ بلاغا ، فهو بالغ ، والجارية بالغ ـ ايضا ـ بغير ـ هاء ـ.
قال ابن
الأنباري : قالوا جارية بالغ ، فاستغنوا بذكر الموصوف وبتأنيثه ، عن تأنيث صفته ـ كما
يقال ـ : امرأة حائض.
قال الأزهري :
وكان الشافعي يقول : جارية بالغ ، وسمعت العرب تقوله ، وقال : امرأة عاشق.
ومن هذا
التعليل والتمثيل ، يفهم : انه لو لم الموصوف ، وجب التأنيث دفعا للبس ، نحو :
مررت ببالغة ، وربما انث مع ذكر الموصوف لأنه الأصل.
قال ابن
القوطية : بلغ بلاغا ، فهو بالغ ، والجارية بالغة ، بلغ الكتاب بلاغا وبلوغا : وصل
، وبلغ الثمار : ادركت ونضجت وقولهم : لزمه ذلك ، بالغا ما بلغ : منصوب على الحال
، اي : مترقيا الى اعلى نهاياته ، من قولهم : بلغت المنزل ، اذا وصلته.
وقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) اي : فاذا شارفن انقضاء العدة وفي موضع : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ) اي : انقضى أجلهن
وبالغت في كذا
: بذلت الجهد في تتبعه ، والبلغة : ما يبتلغ به من العيش ولا يفضل.
يقال : تبلغ به
، اذا اكتفى به وتجزى ، وفي هذا : بلاغ ، وبلغة ، اي : كفاية.
وابلغه السّلام
، وبلغه ، ـ بالألف والتشديد ـ : اوصله.
وبلغ ـ بالضم ـ
بلاغة ، فهو بليغ : اذا كان فصيحا ، طلق اللسان .. انتهى.
هذا كله :
بالنسبة الى معناها اللغوي ، واما الاصطلاحي ، فسيأتي.
قيل : لم يقل
في الأصل : «اي : اللغة» اكتفاء : بما ذكر في الفصاحة.
وقيل : لم يقل
ذلك ، لاتحاد معناها : لغة واصطلاحا ، وليس بشيء ، اما اولا : فلانه خلاف الواقع ،
اذ المغايرة بين معناها اللغوي والاصطلاحي ، واضحة ، سواء اريد بها بلاغة الكلام ،
او بلاغة المتكلم اذ اوضح عبارة يتوهم منها الاتحاد : كلام القاموس ، حيث قال :
بلغ الرجل بلاغة : اذا كان يبلغ بعبارته كنه مراده ، مع ايجاز بلا اخلال او اطالة
بلا املال.
لكن التوهم لا
وجه له ، لظهور كون ما ذكره اعم من المعنى الاصطلاحي ، فتأمل جيدا.
واما ثانيا :
فلانه يلزم ـ حينئذ ـ يكون قوله : «تنبىء عن الوصول والانتهاء» مستدركا ، لأن
الظاهر : انه لا بداء المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي كما هو المرسوم ـ عندهم
ـ في امثال المقام.
وكيف كان : (يوصف
بها) ، اي : بالبلاغة : (الأخيران ، اي : الكلام والمتكلم ، فقط ، دون المفرد)
المقابل للكلام ، بقرينة المقابلة ، وقد تقدم بيانه مفصلا ، (يقال : كلام بليغ ،
ورجل بليغ).
قيل : الوصف
فيه مجاز بحال المتعلق ، كزيد منيع مقامه ، لكنه وهم ، يظهر وجهه : مما نقلناه عن
ـ القاموس ـ وعن ـ المصباح ـ في آخر كلامه.
والعجب من
المتوهم ، كيف غفل : عما يأتي من تعريف البلاغة في المتكلم : بانها ملكة يقتدر بها
: على تأليف كلام بليغ؟!
ومن المعلوم
الضروري ـ عند اهل الاصطلاح ـ : ان من قام به ملكة ، او مبدأ من المبادىء وان لم
يكن ملكة ، يجب ان يشتق له من ذلك المبدأ : وصف يوصف به الحقيقة ، كالخياط ،
والجمال ، ونحوهما واظهر من ذلك : ما يأتي من ـ المفتاح ـ : من ان البلاغة ، اي : بلاغة
المتكلم ، هي : بلوغ المتكلم ، في تأدية المعاني حدا : له اختصاص بتوفية خواص
التركيب حقها ، وايراد انواع التشبيه ، والمجاز ، والكناية على وجهها.
وقد صرح الشارح
في ـ المختصر ـ : بأن اطلاق لفظ البليغ على الكلام والمتكلم : اما لكونه من باب
المشترك اللفظي ، واما من باب المتواطىء.
وايا ما كان :
فهو حقيقة في المتكلم ، والصفة بحاله ، غاية الأمر : انه نفس الموضوع له : على
الأول ، وفرده : على الثاني.
ولعمري ، هذا
واضح لاخفاء فيه ، فلا وجه لترك جميع ذلك ، لما صدر عن ابي هلال العسكري ـ على ما
حكاه المتوهم ـ وهذا نصه : قال ابو هلال العسكري : البلاغة ـ من قولهم ـ : بلغت
الغاية ، اذا انتهيت اليها وبلغتها غيري ، فسميت البلاغة : لأنها تنهى المعنى ،
الى قلب السامع فيفهمه.
والبلاغة من
صفة الكلام ، لا من صفة المتكلم ، وتسميتنا المتكلم : بأنه بليغ ، توسع ، وحقيقته
: ان كلامه بليغ ، كما تقول : فلان رجل محكم ، وتعني : ان افعاله محكمة.
فاما الفصاحة ،
فقد قال قوم : انها من قولهم : افصح فلان عما في نفسه ، اذا اظهره ، والشاهد على
انها هى الاظهار : قول العرب : افصح الصبح ، اذا اضاء ، وافصح اللبن : اذا انجلت
عنه رغوته فظهر.
وقال بعض
علمائنا : الفصاحة تمام آلة البيان ، والدليل على ذلك : ان الألثغ ، والتمقام ، لا
يسميان فصيحين ، لنقصان آلتهما ، عن اقامة الحروف.
وقيل : زياد
الأعجم ، لنقصان آلة نطقه عن اقامة الحروف ، وكان يعبر عن الحمار ـ بالهمار ـ فهو
أعجم ، وشعره فصيح ، لتمام بيانه ، وقال ـ ايضا ـ : البلاغة : كل ما تبلغ به
المعنى قلب السامع ، فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك ، مع صورة مقبولة ، ومعرض حسن.
وانما جعلنا
حسن المعرض وقبول الصورة ، شرطا في البلاغة ، لأن الكلام اذا كانت عبارته رثة ،
ومعرضه خلقا ، لم يسم بليغا ، وان كان مفهوم المعنى ، مكشوف المغزى.
ثم قال المتوهم
المذكور : اقول : ما ذكره أبو هلال من معنى الفصاحة والبلاغة لغة ، ومن كونها وصفا
للمتكلم باعتبار المتعلق ، ومن كون نقصان الآلة مخلا بفصاحة ذات المتكلم ، فحق ،
لامرية فيه ولا مماراة.
واما كون
البلاغة ، كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع ، فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك ، مع
صورة مقبولة ، ومعرض حسن.
ففيه نظر ، فان
وصف الادباء للمعنى : بالبلاغة ، واللفظ : بالفصاحة في نوع استعمالاتهم ، يشعر بأن
البلاغة : اصابة المعاني الشريفة وافهامها بوضوح ، وان فصاحة اللفظ : فخامته
وجزالته.
والحق : هو هذا
، لا غيره ، فكم رأينا في الكتاب والمؤلفين من
يصيب المعاني الشريفة ، ويوصلها للقارىء بسرعة ، ولكن ليس في عباراته ،
فخامة وجزالة ، وكم من كاتب يريك بألفاظه التي يربط بعضها ببعض ، ويسردها تباعا ، صولة
بشدتها ، وفخامتها ، ولكنها رعد من غير مطر.
وقد لا تجد في
كتاب هذا شأنه من ناحية لفظه ، الا معاني يسيرة جدا ، لا قيمة لها في مثل هذا
السفر العريض الطويل.
وما اورده ابو
هلال ، ناقضا على من يريد التفكيك بين البلاغة والفصاحة ، بقوله : وأراد رجل ان
يسأل بعض الأعراب عن اهله ، فقال : كيف اهلك؟ ـ بالكسر ـ.
كيف اهلك؟ ـ بالكسر
ـ.
فقال له
الأعرابي : صلبا.
اذ لم يشك انه
انما يسأله : عن السبب الذي يهلك به.
وقال الوليد بن
عبد الملك ـ لأعرابي شكا اليه ختنا له ـ فقال : من ختنك؟ ففتح النون.
فقال : معذر في
الحي.
اذ لم يشك في
انه : انما يسأله عن خاتنه ، فبارد جدا.
لأن الرجل نفسه
، يعترف ان السائل والوليد جميعا ، لم يفهما مخاطبهما ما أرادا.
ومن شرط
البلاغة قبل كل شيء : ايصال المعنى وافهامه ، فأين هذا من توقف البلاغة على
الفصاحة؟
وكثير من الناس
، يعتبر الفصاحة والبلاغة : في قعقعة الألفاظ وسرعة جرى المتكلم بها ، من غير توقف
، وطول المقام بها في حال ان هذا اللون ، مما لا ربط له بالبلاغة ، عند نقدة الأدب
والكلام. انتهى.
وانما نقلنا
كلام المتوهم ، حتى تعرف : ان في بيان وجهة نظره مواقع للنظر.
اما اولا : فان
نسبة توصيف المعنى بالبلاغة الى الادباء لا واقع له ، والشاهد على ذلك : ما يأتى
من قول ـ الشيخ ـ عند قول ـ المصنف ـ : «وكثيرا ما يسمى فصاحة ـ ايضا ـ كما يسمى
بلاغة» ـ اعني من قول الشيخ في آخر هذا الموضع ـ : «ومما اوقعهم في الشبهة : انه
لم يسمع عاقل يقول : معنى فصيح» فتأمل جيدا.
وثانيا : ان
قول المتوهم : «البلاغة اصابة المعاني الشريفة ، وافهامها بوضوح» اقرار واعتراف ،
بأن البلاغة من صفات المتكلم حقيقة.
لأن الاصابة ،
فعل المتكلم ، وقد قلنا آنفا : ان من قام به المبدأ ، هو الموضوف حقيقة ، وهذا
واضح لا مرية فيه.
وهكذا قوله : «فكم
رأينا» الى آخره.
وثالثا : ان
قوله : «وكثير من الناس ، يعتبر الفصاحة والبلاغة في قعقعة الألفاظ» الى آخره.
ان كان المراد
بالناس : الهمج الرعاع ، فهو حق ، لكن ليس الكلام في البلاغة عندهم.
وان كان المراد
: أهل الاصطلاح ، الذين كلامنا في البلاغة عندهم ، فكلام المتوهم نفسه : قعقعة ،
لا واقع له ، عند من هو عارف ومطلع على البلاغة عند أهل الاصطلاح ، والعرب
العرباء.
(و) انما قال :
دون المفرد ، لأنه (لم يسمع : كلمة بليغة) ولو كان مركبا تقييديا ، اذ المراد
بالكلمة هاهنا : المفرد المقابل للكلام ، بقرينة المقابلة ، كما نبهناك آنفا.
لا المقابل
للمركب ، فلا وجه بل لا واقع لما قيل عليه : من ان الدليل لا يطابق الدعوى ، اذ لا
يلزم من عدم وصف الكلمة ، عدم وصف المركب التقييدي.
قال في ـ المختصر
ـ ما حاصله : ان العلة في عدم وصف الكلمة بالبلاغة : هو السماع ، لا ما قيل : من
ان العلة في ذلك : ان معنى البلاغة ـ كما يأتي ـ : هو المطابقة لمقتضى الحال.
والمطابقة
المذكورة لا تتحقق في المفرد ، لأنها انما تحصل برعاية الاعتبارات ، والمزايا
والكيفيات الزائدة على اصل المراد ـ كما يأتي ـ وظاهر : ان الألفاظ المفردة ،
والكلم المجردة ، من غير افادتها المعنى عند التركيب الاسنادي التام ، لا يمكن
فيها تلك المراعاة ، حتى يتصف بتلك المطابقة.
ضرورة ان هذا
انما يتحقق : عند تحقق المعاني والأغراض ، التي يصاغ لها الكلام.
ثم قال ما
حاصله : ان هذا وهم ، لأن القول بكون البلاغة : تلك المطابقة ، والمراعاة : انما
هو في بلاغة الكلام ، او المتكلم ، لا الكلمة ، فيجوز ان يكون هناك بلاغة اخرى ،
يصح وجودها في الكلمة من دون المطابقة والمراعاة ، كما يصح ذلك في الفصاحة.
ويؤيد ذلك : ما
نقلناه عن ـ المصباح ـ في آخر كلامه ، وكذلك الجوهري حيث قال : البلاغة : الفصاحة
، والظاهر : انه يقصد بذلك : ان البلاغة تكون في الكلمة ، كما في الكلام والمتكلم
، وذلك لا يوجب ترادف الفصاحة والبلاغة ، بل يوجب : ان كل ما يوصف بالفصاحة ، يصح
ان يوصف بالبلاغة
والمانع من ذلك : عدم السماع ، ان صح دعوى عدم السماع مع ما ذكره ائمة
اللغة ـ امثال الجوهري ، والمصباح ـ ، اذ الظاهر منهم : السماع ، اذ لا مدرك لهم
الا ذلك.
فعليه : النسبة
بينهما ، التساوي ، بمعنى : ان كل ما يسمى فصيحا يسمى : بليغا ، وبالعكس ، سواء
كان المسمى كلمة ، ام كلاما ، ام متكلما.
واما على ما
ادعاه ـ الشارح ـ : فالنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، كما سيصرح بذلك ـ المصنف ـ بقوله
: «فعلم ان كل بليغ فصيح ، ولا عكس».
(وقوله : فقط)
يعد في ـ امثال المقام ـ (من اسماء الأفعال) فيكون ـ حينئذ ـ (بمعنى انته) ، او
يكفى ، ويظهر وجه الترديد عن قريب ، ولا يخفى : ما في العبارة من الحزازة ، اذ
الظاهر منها : ان مجموع الكلمتين ، اعني : الفاء ومدخولها ، اسم فعل ، بمعنى :
انته.
وليس كذلك :
لأن اسم الفعل ، انما هو المدخول وحده لا مجموع الداخل والمدخول.
وبما ذكرنا
يصحح قوله : (وكثيرا ما يصدر ـ بالفاء ـ) الجزائية.
(وكأنه) ، اي :
مدخول ـ الفاء ـ (جزاء شرط محذوف) ، فوجب دخول ـ الفاء ـ عليه ، لأنه لا يصح جعله
شرطا ، وكل ما كان كذلك : يجب اقترانه ـ بالفاء ـ كما قال ابن مالك :
واقرن بفا
حتما جوابا لو جعل
|
|
شرطا لأن او
غيرها لم ينجعل
|
هذا ، ولكن
تطبيق هذه القاعدة هاهنا : دونه خرط القتاد ، اذ المدخول ـ في المقام ـ مفرد ، والمدخول
في تلك ـ القاعدة ـ امور ستة : كلها جملة.
الأول : الماضي
غير المتصرف ، نحو : (إِنْ تَرَنِ أَنَا
أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ
جَنَّتِكَ).
الثاني :
الماضي لفظا ومعنى ، نحو : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ).
الثالث : الفعل
المقرون بحرف التنفيس ، نحو : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) ونحو : (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ).
الرابع : الفعل
المنفي : بلن ، او ما ، او ان ، نحو : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ونحو : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) ونحو : «ان تقم» «فان اقوم» فتأمل.
الخامس :
الجملة الاسمية ، نحو : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ
بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
السادس : الفعل
المطلوب به فعل او ترك ، نحو : (إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) ونحو : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ).
وقد يحذف ـ الفاء
ـ نادرا وفي الضرورة.
وكيف كان :
فقياس ما نحن فيه بالمذكورات ، قياس مع الفارق.
اللهم ، الا ان
يقال : بان ما نحن فيه ، يؤول بالقسم الأخير ، لكنه تأويل على تأويل ، يشبه سبك
المجاز عن مجاز .. فتأمل.
وانما قلنا :
ان ـ قط ـ في امثال المقام ، يعد من أسماء الأفعال لأنها ـ على ما قال ابن هشام ـ :
تستعمل على ثلاثة أوجه :
احدها : ان
تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى ، وهذه ـ بفتح القاف ، وتشديد الطاء ، مضمومة ـ في
أفصح اللغات ، وتختص بالنفي يقال : ما فعلت قط.
والعامة تقول :
لا افعله قط ، وهو : لحن ، لما قلنا : من انه لاستغراق ما مضى ، لا الحال او
الاستقبال.
واشتقاقه من ـ قططته
ـ اي : قطعته ، فمعنى : «ما فعلته قط» ما فعلته فيما انقطع من عمري ، لان الماضي :
منقطع عن الحال والاستقبال.
قال الرضي :
وقط ، لا يستعمل الا بمعنى : ابدا ، لأنه مشتق من ـ القط ـ وهو : القطع ، كما يقول
: لا أفعله البتة الا ان ـ قط ـ مبنى ، لما سنذكره ، بخلاف ـ البتة ـ.
وربما استعمل «قط»
هذه ، بدون النفي ، لفظا ومعنى ، نحو : كنت اراه قط ، اي : دائما ، وقد استعمل
بدونه ، لفظا لا معنى ، نحو : هل رأيت الذئب قط لان الاستفهام دال على النفي : اي
عدم العلم ، وانما بنى : لتضمنه ـ لام الاستغراق ـ لزوما لاستغراقه جميع الماضي ،
وبنى على ـ الضم ـ حملا على اخته «عوض».
وهذه اشهر
لغاته ، اعني : مفتوح ـ القاف ، مضموم الطاء المشددة ـ.
وقال ابن هشام
: بنيت لتضمنها معنى «مذ ، والى» لأن المعنى : مذ ان خلقت الى الآن ، وعلى حركة
لئلا يلتقى ساكنان ، وكانت الضمة تشبيها بالغايات ، وقد تكسر على أصل التقاء
الساكنين.
وقد يتبع فائه
طائه في الضم ، وقد تخفف طائه مع ضمها او اسكانها.
الوجه الثاني :
ان تكون بمعنى : «حسب» وهذه مفتوحة ـ القاف ساكنة الطاء ـ يقال : قطى ، وقطك ، وقط
زيد ، درهم.
مثل : حسبى ،
وحسبك ، وحسب زيد ، درهم ، بالاضافة في الجميع الا انها مبنية ، لأنها موضوعة على
حرفين ، و «حسب» معربة ، فتأمل.
الوجه الثالث :
ان تكون اسم فعل ، بمعنى : يكفى ، فيقال : قطني ـ بنون الوقاية ـ كما يقال :
يكفيني.
ويجوز نون
الوقاية على الوجه الثاني ، حفظا للبناء علي السكون كما يجوز : في لدن ، ومن ، وعن
، لذلك.
(واعلم : انه
لما كانت الفصاحة) في الكلمة والكلام ، (تقال لكون اللفظ) مركبا كان ام لا ، (جاريا
على القوانين) ، اي : القواعد الكلية (المستنبطة) ، اي : المستخرجة.
قال في ـ المصباح
ـ : استنبطت الحكم ، استخرجته بالاجتهاد ، وانبطه انباطا ، مثله ، واصله من استنبط
الحافر الماء ، وانبطه انباطا ، اذا استخرجه بعمله.
(من استقراء
كلامهم) ، اي : من تتبع كلام بلغائهم.
قال في ـ المصباح
ـ : استقرأت الأشياء ، تتبعت افرادها ، لمعرفة احوالها وخواصها.
وقريب من ذلك :
بل عينه ، ما قاله التفتازاني ـ في التهذيب ـ وهذا نصه : الاستقراء ، تصفح
الجزئيات لاثبات حكم كلي ، وزاد بعضهم لفظ الأكثر ، ويظهر وجهه ـ بعيد هذا ـ.
قال في الشمسية
: الاستقراء : هو الحكم على كلى بوجوده في اكثر جزئياته ، وانما قال في اكثر
جزئياته : لأن الحكم لو كان موجودا في جميع جزئياته ، لم يكن استقراءا ، بل قياسا
مقسما.
وانما سمي :
استقراءا ، لان مقدماته لا تحصل ، الا بتتبع الجزئيات والاستقراء ، معناه : التتبع
، كما نقلناه عن ـ المصباح ـ كقولنا كل حيوان يحرك فكه الاسفل عند المضغ ، لان
الانسان ، والبهائم ، والسباع ، كذلك.
وهو لا يفيد
اليقين ، لجواز وجود جزئي آخر لم يستقرأ ويكون
حكمه مخالفا لما استقرىء ، كالتمساح على ما ادعى : انه مخالف لسائر الحيوانات
، والعهدة على المدعى.
قال بعض
المعاصرين : وليعلم : ان المراد بالجزئي في هذا الباب ، هو الجزئي الاضافي ، ثم
حكم : ببطلان قول جماعة من المحققين ، بل المشهور ، لأنهم لم يزيدوا في التعريف :
لفظ «الأكثر».
وفي كلا ذلك
منع ، لأنه : غفل في الأول ، من ان الجزئى ـ في الباب ـ لا بد فيه من المصادفة ،
وهي : مستلزمة لكونه جزئيا حقيقيا كما حقق في محله ، ويأتي الاشارة اليه.
واما في الثاني
: فانهم اعتمدوا ـ في عدم ذكر لفظ «الأكثر» وهو مراد في المقام ـ : على القرينة
العقلية ، لقولهم : بان الاستقراء تام ، ان تصفح الجزئيات باسرها ، وهو يرجع الى
القياس المقسم ، اي : البرهان ، وقد اشار اليه المعاصر ، ناسبا الى الشيخ.
واما ناقص يكفى
فيه تتبع أكثر الجزئيات.
قال محشي ـ التهذيب
ـ : انهم قالوا : ان الاستقراء اما تام ، يتصفح فيه حال الجزئيات بأسرها ، وهو :
يرجع الى القياس المقسم ، اي : البرهان.
كقولنا : كل
حيوان : اما ناطق ، او غير ناطق ، وكل ناطق من الحيوان حساس ، وكل غير ناطق من
الحيوان حساس ، ينتج : كل حيوان حساس.
وهذا القسم :
يفيد اليقين ، فيصير برهانا.
واما ناقص :
يكفى فيه تتبع أكثر الجزئيات ، كقولنا : كل حيوان يحرك فكه الاسفل عند المضغ ، لأن
الانسان كذلك ، والفرس
كذلك ، والبقر كذلك ، الى غير ذلك : مما صادفناه من افراد الحيوان.
وهذا القسم لا
يفيد الا الظن ، اذ من الجائز : ان يكون من الحيوانات التي لم نصادفها ، ما يحرك
فكه الأعلى عند المضغ ، كما تسمعه في التمساح.
ولا يخفى : ان
الحكم بأن الثاني لا يفيد الا الظن ، انما يصح : اذا كانت المطلوب «الحكم الكلى»
واما اذا اكتفى بالجزئي ، فلا شك : ان تتبع البعض يفيد اليقين به.
كما يقال : بعض
الحيوان فرس ، وبعضه انسان ، وكل فرس يحرك فكه الأسفل عند المضغ ، وكل انسان ـ ايضا
ـ كذلك ، ينتج ـ قطعا ـ : ان بعض الحيوانات كذلك ، فيكون برهانا.
تتميم وتكملة ،
اعلم : ان الحجة على ثلاثة أقسام ، لأن الاستدلال : اما من حال الكلي على حال
الجزئيات ، كالاستدلال من قولنا : كل متغير حادث ، على حال العالم ، الذي هو جزئي
من جزئيات كلي المتغير ، وهذا يسمى ـ عندهم ـ : بالقياس.
واما من حال
الجزئيات على حال كليها ، وهو الاستقراء المتقدم بيانه تفصيلا.
واما من حال
احد الجزئيين ، المندرجين تحت كلي واحد ، على حال الجزئي الآخر ، كما يقال :
النبيذ حرام ، لأن الخمر حرام ، وكلاهما داخلان تحت كلي المسكر.
وهذا يسمى ـ عندهم
ـ : بالتمثيل ، وعند الاصوليين. بالقياس.
وفيه شروط
وتفاصيل ، مذكورة في المنطق والاصول.
وليعلم : ان
الاستقراء في أكثر العلوم ، لا سيما علم العربية ، من قسم الناقص ، كما يأتي
الاشارة اليه : عند بيان مخالفة القياس في الكلمة.
والقوانين
الكلية ، التى تستنبط بالاستقراء : اما ان يعرف بها حال لمفردات القياسية ، وذلك :
كما يعرف : ان كل اسم فاعل ـ من الثلاثي المجرد المتعدى ـ على وزن فاعل ، ومن ـ باب
الافعال ـ على مفعل ، وكذا حال اسم المفعول ، والأمر ، والنهى ، والآلة ، والمصغر
والجمع ، ونحو ذلك.
وهذه يحتاج في
معرفتها : الى علم التصريف ، وقد يذكرون بعضها في علم النحو.
واما ان يعرف
به المركبات القياسية ، وذلك : كما يبين ان كل مضاف اليه مؤخر عن المضاف ، وكل فعل
مقدم على الفاعل ، والأصل سبق فاعل معنى ، ونحو ذلك من كيفية تركيب أجزاء الكلام.
وهذه يحتاج في
معرفة بعضها : الى التصريف ، كالمنسوب ، والفعل المضارع.
وفي معرفة
بعضها : الى النحو.
وانما تتداخل
العلمين ، بلحاظ : ان بعض الألفاظ «مفرد» في بادىء النظر ، «مركب» عند الدقة ،
كالفعل الماضي ، فانه مفرد بلا خلاف ـ عند المشهور ـ مع ان الحدث ، مدلول حروفه
المترتبة ، والاخبار عن حصول ذلك الحدث في الزمن الماضي ، مدلول وزنه الطارىء على
حروفه.
والوزن عند
المحققين ـ ومنهم نجم الائمة ـ جزء للفظ ، اذ هو عبارة عن عدد الحروف ، مع مجموع
الحركات والسكنات الموضوعة وضعا معينا ، والحركات مما يتلفظ به ، فهو اذا مركب من
جزئين كل منهما دال على جزء معناه.
وكذا : وزن اسد
، جمع : اسد ، وكذا : المصغر ، ونحو رجال ومساجد ، ونحو ضارب ومضروب.
والوجه في جميع
ذلك : ما قدمناه ، فتأمل.
وقوله : (كثير
الاستعمال) ، خبر ثان لكون ، والخبرين قريب من «حلو حامض» فتأمل.
(على ألسنة
العرب الموثوق بعربيتهم) ، اي الجاهليين ، وهم : الذين لم يدركوا الاسلام ، كامرء
القيس ، وزهير ، وطرفة ، والمخضرمين ـ بالخاء والضاد ـ المعجمتين ، وهم : الذين
ادركوا الجاهلية والاسلام كحسان ، والوليد.
والمتقدمين ـ عند
الأكثر ـ وهم : الدين لم يدركوا الجاهلية الى أواخر بني امية ، كفرزدق ، وجرير ،
وذي الرمة.
وقيل : الى
اواسط دولة بني العباس ، كأبي تمام ، واشباهه.
واما الذين
نشأوا بعد هؤلاء ، كالبحتري ، وابي الطيب ، فلا اعتداد بهم ـ عند المحققين ـ الا
ان يرووا عمن قبلهم : من الطبقات الثلاث المتقدمة لفظا ، والا ففيه كلام قد تقدم.
واما متأخري
المتأخرين من العرب : فألفاظهم المحرفة ، خارجة عن الألفاظ الموضوعة العربية ، فهي
: ليست بعربية ، فضلا من ان يكون مما يستقرأ لاستنباط القوانين.
قال الرضي :
المقصود من قولهم : «وضع اللفظ» جعله اولا لمعنى من المعانى ، مع قصد ان يصير
منواطئا عليه بين قوم. فلا يقال ـ اذا استعملت اللفظ بعد وضعه في المعنى الأول ـ :
انك واضعه ، اذ ليس جعلا اولا.
بل لو جعلت
اللفظ الموضوع لمعنى في الأصل ، لمعنى آخر مع قصد التواطوء ، قيل : انك واضعه ،
كما اذا سميت بزيد رجلا ولا يقال ـ لكل لفظ صدر من شخص لمعنى ـ : انه موضوع له ،
من دون اقتران قصد التواطؤ.
ومحرفات العوام
على هذا : ليست الفاظا موضوعة ، لعدم قصد المحرف الأول : الى التواطؤ ، على ما
فسرنا الوضع.
(وقد علموا :
بالاستقراء) ، وتتبع محاورات البلغاء ، (ان الألفاظ الكثيرة الدور ان فيما بينهم)
، اي : الكثيرة الاستعمال ، الجارية على القوانين ، (هى التي تكون) حاوية لامور
ثلاثة.
الاول : ان
تكون (جارية على اللسان) ، بأن تكون بحيث لا توجب الثقل عليه ، وذلك يحصل : بان
تكون (سالمة من تنافر الحروف والكلمات) ، وسيأتي بيانه عن قريب.
(و) الثاني :
ان تكون سالمة (من الغرابة) ، وسيأتي بيانه ـ ايضا ـ.
(و) الثالث :
ان تكون سالمة من (التعقيد اللفظي والمعنوي) وسيأتي بيان كل واحد منهما ـ ايضا ـ.
(جزم المصنف) :
جواب ـ لما ـ (بأن اللفظ الفصيح ، ما يكون سالما عن مخالفة القوانين) ، المستنبطة
، فيكون ـ حينئذ ـ جاريا على القوانين ، كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق
بعربيتهم.
(و) ـ حينئذ ـ يكون
سالما عن (التنافر) ، فيكون جاريا على اللسان ، وهو الأمر الأول : من الامور
الثلاثة ، وهو : راجع الى مادة اللفظ ، كما ان الجريان على القوانين المستنبطة :
راجع الى هيئته .. فتأمل.
(و) كذلك :
كونه سالما عن (التعقيد) اللفظي والمعنوي ، اللذين هما الأمر الثالث. وهما :
راجعان الى الدلالة ـ قطعا ـ وذلك واضح.
(و) اعلم : ان
المصنف (قد تسامح) في المتن ، الآتي (في تفسير الفصاحة : بالخلوص مما ذكر) ، وانما
حكم : بان فى تفسيرها ـ بالخلوص ـ تسامح ، (لكونه) ، اي : الخلوص مما ذكر : (لازما
لها).
اذ الفصاحة ،
اعني : كون اللفظ حاويا على الامور الثلاثة المذكورة : مستلزمة للخلوص مما ذكر في
التفسير الآتي.
واللازم من حيث
هو لازم ، في مرتبة واحدة من العلم والجهل مع الملزوم ، كالبصر بالنسبة الى العمى
، فيتساويان في المعرفة والجهالة.
وذلك غير جائز
في ـ باب التعريف ـ اذ المعرف ، يشترط فيه : ان يكون اجلى معرفة في نظر العقل من
المعرف ، لأنه معلوم موصل الى قصور مجهول هو المعرف ، فلا يجوز التعريف : بالمساوى
، معرفة وجهالة قال في الشمسية : وجوه اختلال التعريف : اما معنوية ، او لفظية.
اما المعنوية :
فمنها تعريف الشىء بما يساويه في ـ المعرفة والجهالة ـ اي : يكون العلم بأحدهما ،
مع العلم بالآخر ، والجهل بأحدهما ، مع الجهل بالآخر.
كتعريف الحركة
: بما ليس بسكون ، فانهما في المرتبة الواحدة من العلم والجهل ، فان من علم احدهما
: علم الآخر ، ومن جهل احدهما : جهل الآخر ، والمعرف : يجب ان يكون اقدم معرفة ،
لأن معرفة المعرف ، علة لمعرفة المعرف ، والعلة : متقدمة على المعلول.
ومنها : تعريف
الشيء بما يتوقف معرفته عليه ، اما بمرتبة واحدة
ويسمى دورا مصرحا ، لظهور الدور فيه ، واما بمراتب ، ويسمى : دورا مضمرا ،
لاستتار الدور فيه.
وفساد الدور
فيه اكثر ، اذ في المصرح : يلزم تقدم الشيء على نفسه بمرتبتين ، وفي المضمر :
بمراتب ، فكان أفحش.
واما اللفظية :
فانما يتصور ، اذا حاول الانسان التعريف لغيره ، وذلك : بأن يستعمل في التعريف :
ألفاظ غير ظاهرة الدلالة ، بالنسبة الى ذلك الغير ، فيفوت غرض التعريف.
كاستعمال
الألفاظ العربية الوحشية ، مثل ان يقال ـ : النار اسطقس فوق الاسطقسات ، والاسطقس
اصل المركب ، والمراد بالاسطقسات : العناصر الأربعة ، لأنها اصول المركبات ، اي :
الجمادات ، والنباتات والحيوانات ، ولذلك يقال لها : الامهات ، ولهذه الثلاثة :
المواليد.
وكاستعمال
الألفاظ المجازية ، فان الغالب : مبادرة المعاني الحقيقية الى الفهم.
وكاستعمال
الألفاظ المشتركة ، فان الاشتراك : مخل لفهم المعنى المقصود نعم ، لو كان للسامع
علم بالألفاظ الوحشية ، او كانت هناك قرينة دالة على المراد ، جاز استعمالها ،
وانما نقلناها بطولها ، مع تصرف يسير منا ، لكثرة الفائدة والتوضيح.
ثم اعلم : ان
استعمال الألفاظ المجازية أردأ ، لما قلنا : من ان الغالب مبادرة المعاني الحقيقية
الى الفهم ، لخفاء القرينة غالبا ، وهي غير مرادة.
وفي الاشتراك :
يتردد الذهن بين المقصود وغيره ، فيحتمل ان يحمل اللفظ على غير المقصود ، فيكون
أردأ من استعمال الألفاظ الغريبة ،
اذ لا يفهم هناك شيء أصلا ، فالخلل فيه : هو الاحتياج الى الاستفسار فيطول
المسافة بلا طائل.
وفائدة هذا ما
يقتضيه دقة النظر ، والصحيح من الفكر.
قيل : انما حكم
بالتسامح ، لأمرين : الأول : ان الفصاحة : هي كون الكلمة جارية على القوانين ،
المستنبطة : من استقراء كلام العرب ، متناسبة الحروف ، كثيرة الاستعمال : على
ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم.
ويلزم من الكون
المذكور : الخلوص عما ذكر ، فليس ـ الخلوص ـ نفس ـ الكون المذكور ـ ولا صادقا
عليه.
وحينئذ : فلا
يصح حمله على الفصاحة ، بحيث يقال : الفصاحة : الخلوص ، لأن ادنى درجات التعريف ،
ان يكون صادقا على المعرف.
وان صح ان يقال
: الفصيح الخالص ، لان صدق المشتق على المشتق لا يستلزم صدق المأخذ على المأخذ :
كالناطق. والكاتب ، والنطق ، والكتابة.
الأمر الثاني :
ان الفصاحة وجودية ، لأن معناها : الكون المذكور والخلوص عدمي ، لان معناه : عدم
الامور المذكورة.
والعدمي غير
الوجودي ، فلا يصح حمله عليه.
وانما قال : «لا
يخلو عن تسامح» ولم يقل : «باطل» لامكان الجواب عن كل من الأمرين.
اما الجواب عن
الاول ، فحاصله : ان الادباء ، يجوزون الاخبار عن الشيء بمباينه ، اذا كان بينهما
تلازم ، قصدا للمبالغة ، وادعاء انه هو.
لا يقال : ان
التعريف بالمبائن ، ممنوع ، ودعوى الادعاء ، وقصد
المبالغة ، لا تنفع.
لانا نقول :
هذا عند علماء المنطق ، واما الادباء : فيكتفون بمجرد كون المعرف ، يستلزم تصوره
تصور المعرف ، ويعتبرون قصد المبالغة والادعاء.
واما الجواب عن
الثاني : فيؤول الخلوص بالكون : خالصا ، وهو امر وجودي.
او يقال :
قولهم : «لا يخبر بالعدمي عن الوجودي» اذا اريد بالوجودي : الامر الموجود ، او
وجود أمر.
وبالعدمي ؛
الامر المعدوم ، او عدم ذلك الامر ، كالعلم ، والجهل ، والموت ، والحياة.
فمسلم انه لا
يصلح حمل احدهما على الآخر ، لكن الفصاحة والخلوص ليسا كذلك ، بل كل منهما ثابت ،
والخلوص ليس عدم الفصاحة ، بل عدم ضدها ، الذي هو : التنافر ، والغرابة ، ومخالفة
القياس.
واما ، ان اريد
بالوجودي : ما لا يدخل العدم في مفهومه ، وبالعدمي : ما يدخل العدم في مفهومه.
فلا شك : في
صحة حمل العدمى على الوجودي ـ بهذا المعنى ـ بدليل : حمل القضايا المعدولة ،
المحمول على الأمر الوجودي ، نحو : زيد هو لا كاتب ، والبياض هو لا سواد.
فالمحمول :
عدمي ، اي : دخل العدم في مفهومه ، اي : زيد شيء ثبت له عدم الكتابة ، والبياض شيء
ثبت له عدم السواد.
ومن المعلوم :
ان قوله : «الفصاحة خلوصه» الخ من باب القضية المعدولة ، لأنه في قوة قولنا :
الفصاحة عدم الامور المذكورة ، اي :
الفصاحة : شيء ثبت له ، عدم الامور المذكورة ، فتأمل جيدا.
وانما ارتكب
التسامح : (تسهيلا للامر) ، على من أراد فهم معنى ـ الفصاحة ـ من الطلاب ، سيما
المبتدئين منهم.
(ثم) اعلم : ان
الأصل في تقسيم كل شيء ـ اي : ما ينبغى فيه ـ : ان يكون تقسيمه بعد تعريفه.
اذ التقسيم ،
والحكم على الأقسام : تصديق ، وكل تصديق وحكم لا بد فيه : من ان يكون مسبوقا :
بتصور الموضوع ، والمحكوم عليه.
لكنه قد يخالف
ذلك الأصل ، وذلك : اذا كانت الأقسام مختلفة الماهية ، بحيث يكون اطلاق اللفظ
الواحد على الاقسام ، من باب اطلاق «المشترك اللفظى» : على معانيه المتباينة ،
المختلفة الماهية ، كقسمي «المستثنى» : المتصل ، والمنفصل.
فان اطلاق لفظ
ـ المستثنى ـ عليهما ، من هذا القبيل ، اذ : لفظ المستثنى «مشترك لفظي» بين المتصل
، والمنفصل.
بل قال بعضهم :
بان لفظ «المستثنى» مجاز ـ في المنقطع ـ ، وبعض آخر : ان «اداة» الاستثناء فيه ،
مجاز ، لا لفظ المستثنى.
قال الرضي : ـ في
باب المستثنى ، في شرح كلام ابن الحاجب ـ :
المستثنى :
متصل ومنقطع ، فالمتصل : هو المخرج عن متعدد ، لفظا او تقديرا ، «بالا ، واخواتها»
والمنقطع : هو المذكور بعدها غير مخرج.
اقول : اعلم :
انه قسم المستثنى قسمين ، وحد كل واحد منهما : بحد مفرد من حيث المعنى.
قال ـ المصنف ـ
: «وذلك : لأن ماهيتهما مختلفان ، ولا يمكن
جمع شيئين مختلفى الماهية في حد ، وذلك : لأن الحد مبين للماهية بذكر جميع
اجزائها ، مطابقة او تضمنا ، والمختلفان في الماهية لا يتساويان في جميع اجزائها ،
حتى يجتمعان في حد.
والدليل : على
اختلاف حقيقتهما ، ان احدهما مخرج ، والآخر غير مخرج ..» انتهى محل الحاجة من
كلامه.
اذا عرفت ذلك ،
فاعلم : ان صنيع «الخطيب» كصنيع «ابن الحاجب» حيث : قدم تقسيم الفصاحة والبلاغة ،
باعتبار ما تقعان وصفا له ، بقوله ـ فيما سبق ـ : «الفصاحة : يوصف بها المفرد
والكلام» الخ
ثم عرف كل واحد
من الأقسام ـ في المتن الآتي ـ : بما يليق به ، اذ هما ـ ايضا ـ من قبيل : ـ المشترك
اللفظى ـ بالنسبة الى ما تقعان وصفا له.
فلا يتأتى : ان
يؤتى للفصاحة بتعريف واحد ، بحيث يشتمل اقسامها الثلاثة ، ويخرج غيرها.
وكذلك البلاغة
: لا يمكن ان يؤتى لها بتعريف واحد ، يعم قسميها.
وهذا هو المراد
بقوله : (لما كانت المخالفة في المفرد ، راجعة الى اللغة ، و) المخالفة (في الكلام)
، راجعة (الى النحو).
وقد تقدم بعض
البيان : في كيفية رجوعها فيهما ، اليهما ـ عند قوله ـ : «لا علم بعد علم الاصول
..» الخ.
وسيأتي تفصيل
ذلك ، عن قريب ـ انشاء الله تعالى ـ.
(وكانت الغرابة
مختصة : بالمفرد) ، يظهر وجه الاختصاص عند تعريفها فيما يأتى.
(و) كان (التعقيد)
، مختصا : (بالكلام) ، يظهر ـ ايضا ـ
وجهه : عند تعريفه.
ولذلك : اختلفت
الفصاحة اللفظية ، في الكلمة والكلام. (حتى صار فصاحة المفرد والكلام) اصطلاحا : (كأنهما
حقيقتان مختلفتان) وان اشتركتا في المعنى الالتزامي. اي : الانباء عن الظهور
والابانة ولعله اليه يرمز بالتعبير : «بكأن» الدال على التشبيه ، والحقيقة ، فتأمل
(وكذا : كانت
البلاغة) اللفظية (ـ عندهم ـ يقال لمعان).
اي : كيفيات ،
ومزايا ، وخواص ، يراعيها المتكلم في كلامه.
وقد يأتى عند
قول ـ المصنف ـ : «وكثيرا ما يسمى : فصاحة ـ ايضا نقل ذلك عن الشيخ» (محصولها) ،
اي : المعاني ، (كون الكلام) وصيرورته بها : (على وفق مقتضى الحال) والمقام.
وسيجيء بيان
الحال والمقام. عند قوله : «فان مقامات الكلام متفاوتة».
(و) كذلك (كان
كل) واحد (من الفصاحة والبلاغة ، يقع صفة للمتكلم بمعنى آخر) اي : وقوع «الفصاحة»
صفة ـ للمتكلم.
باعتبار معنى ،
ووقوع «البلاغة» صفة ـ له ـ باعتبار معنى آخر.
ويأتي كل واحد
من المعنيين : عند تعريف الفصاحة في المتكلم ، والبلاغة فيه.
(بادر اولا) ،
جواب «ثم لما» اي : كان ما تقدم من الاختلافات سببا لمبادرة ـ المصنف ـ (الى
تقسيمهما) ، اي : تقسيم كل واحد من الفصاحة والبلاغة ، (باعتبار ما تقعان وصفا له
، ثم عرف كلا منها) اي : الاقسام ، منفردا ، (على وجه يخصه ، ويليق به ، لتعذر جمع
الحقايق المختلفة ، في تعريف واحد) ، على ما نقلناه من الرضي ـ في شرح قول ابن
الحاجب ـ.
(ولا يوجد :
قدر مشترك بينها) ، اي : بين الأقسام ، حتى يكون ذلك القدر المشترك : (كالحيوان ،
المشترك بين الانسان ، والفرس ، وغيرهما) ، من اقسام الحيوان.
(لان) اطلاق «الحيوان»
على اقسامه ، اي : الانسان ، والفرس ، وغيرهما ، من قبيل : اطلاق «المشترك المعنوي»
على أقسامه. بخلاف ما نحن فيه.
بداهة ان (اطلاق
الفصاحة ، على الاقسام الثلاثة) ، اي : ـ الفصاحة : في المفرد ، والكلام ،
والمتكلم ـ بعد ما اتضح من الاختلافات : (من قبيل : اطلاق «اللفظ المشترك» على
معانيه المختلفة) الماهية ، (نظرا الى الظاهر).
وان كان جميع
تلك الأقسام ، متحدا من حيث : الانباء عن الظهور والابانة.
(وكذا البلاغة)
: اطلاقها على قسميه ، اعني : ـ البلاغة : في الكلام ، والمتكلم ـ من قبيل اطلاق «اللفظ
المشترك» على معانيه المختلفة الماهية ، وهو ظاهر.
(ولا يخفى تعذر
تعريف مطلق ـ العين ـ الشامل : للشمس ، والذهب وغير ذلك).
فان قلت : قد
يوجد قدر مشترك عام ، يشمل كل واحد من الفصاحة والبلاغة ، باقسامهما المختلفة ،
كشيء وموجود ، ومستحسن ونحوها ، فليجمع بها في تعريف واحد.
قلنا : نعم ،
ولكن لا يحصل من ذلك : ما هو المقصود من التعريف من معرفة كل قسم : بالكنه ، او
بوجه : يمتاز عن جميع ما عداه ،
فتأمل جيدا.
وهاهنا : حكاية
لطيفة ، ـ والعهدة على الحاكي ـ وهي : ان المصنف ، استشكل على التعريف التي عرفوا
بها الفصاحة والبلاغة بأنى لم اجد في كلام الناس : ما يصلح لتعريفهما به ، فاعترض
عليه خطيب اليمن ـ في حال حياته ـ : بأنه لا مدخل للرأي ، اي : رأيك ورأي غيرك ،
في تفسير الألفاظ ، بل المناط في تفسيرها : هو الواقع وصحة التعريف ، سواء كان
صالحا برأيك ورأي غيرك ، ام لم يكن.
فاجاب ـ المصنف
ـ عن هذا الاعتراض : بأني لم اقل : ان تعريفات الناس غير صالح ، على رأيي او رأى
غيري ، بل اقول : ان تعريفاتهم غير صالح واقعا ، حيث : لم يصنعوا فيها : ما يجب
فيها من التقسيم اولا ، ثم تعريف كل قسم بما يخصه ويليق به ، حسب ما صنع ـ ابن
الحاجب ـ في المستثنى.
ونحن في المقام
، وصنيعي في المقام ، ليس منشأه الرأي ، أي : رأيي ورأى غيري ، بل هذا مأخوذ من
اطلاقاتهم ، واعتباراتهم ، التي اعتبروها هم انفسهم ، في كل قسم على حده.
فصنيعنا :
مطابق للواقع ، وصالح من دون مدخلية رأي فيه ، وصنيع الناس : غير مطابق للواقع ،
ولا صالح.
والى هذه
الحكاية : يرمز ويشير بقوله : (فصح) اشكال ـ المصنف ـ وهو : (ان تفسير الفصاحة
والبلاغة على هذا الوجه) الصحيح ، الذي صنعه ـ المصنف ـ مطابقا للواقع ، (مما لم
يجده) المصنف : (في كلام) احد من (الناس). لأنهم لم يصنعوا كصنيعه ، حتى يصلح.
(لكنه) ، اي :
ـ المصنف ـ لم يصنع صنيعه بمجرد رأيه ،
فصح جوابه ـ ايضا ـ : بأنه لم يقل : ان التعريفات غير صالح على رأيى او رأى
غيري.
والدليل على
ذلك : أنه (اخذه) ، اي : صنيعه (من اطلاقاتهم واعتباراتهم) ، التي اعتبروها هم
انفسهم ، في كل قسم على حدة.
(وحينئذ لا
يتوجه الاعتراض) ، الذي اورده خطيب اليمن ، (على قوله : لم اجد في كلام) احد من (الناس
، ما يصلح لتعريفهما به بأنه) بيان لاعتراض الخطيب ، وهو : انه (لا مدخل للرأي في
تفسير الألفاظ).
(و) بعد ما
بينا من شرح الحكاية ، اشكالا ، واعتراضا ، وجوابا.
وبعد ظهور : ان
ليس لاشكال ـ المصنف ـ نظر الى ناس معهودين معينين ، بل الاشكال متوجه : الى كل من
تصدى لتعريف الفصاحة والبلاغة.
وبعد ظهور : ان
الاشكال وارد ، بحيث لا مدفع له. «لا يحتاج الى ان يجاب عنه» ، اى : عن اعتراض
الخطيب ، تأييدا للمصنف : «بان المراد بالناس» ـ في كلام المصنف ـ : «المعهودون
المعينون».
بل ، لا يصح
هذا الجواب والتأييد ، لأنه تفسير للكلام : بما لا يرضى صاحبه ، اذ المراد بالناس
ـ في كلام المصنف ـ : ليس ناسا معهودين معينين ، بل المراد ـ كما قلنا ـ : كل من
تصدى للتعريف في المقام ، فتأمل واجتهد ، واسأل التوفيق من الله في فهم المرام ،
فانه الموفق وبه الهداية والاعتصام.
(ثم) اعلم : ان
التقدم على خمسة اقسام ، وكذلك التأخر ويعلم اقسامه : من بيان اقسام التقدم
بالمقابلة.
القسم الأول ـ من
التقدم ـ : التقدم بالزمان ، وهو : ان يكون السابق قبل المسبوق ، قبلية لا يجامع
القبل منهما البعد ، كتقدم موسى (ع) على عيسى (ع) ونحوه ، وذلك واضح.
الثاني :
التقدم بالشرف ، كتقدم رسول الله (ص) على سائر الأنام وهذا اظهر واوضح ، فتأمل.
الثالث :
التقدم بالرتبة ، وقد يسمى : بالتقدم بالمكان والوضع ، ولا مشاحة في الاصطلاح ،
وان كان فيه ما فيه ، وهو ، ما كان اقرب من مبدأ محدود مشخص ، كترتب الصفوف ـ في
المسجد ـ بالنسبة الى الامام او ـ المحراب ـ.
او عقليا :
كترتب الأجناس والأنواع الاضافية.
وهذا قد ينعكس
، بخلاف سابقيه ولا حقيه الآتيين ، اذ قد يبتدأ من ـ المحراب ـ فيكون الصنف الاول
متقدما ، وقد يبتدأ من ـ الباب ـ فيصير الصف الآخر متقدما.
وكذا : اذا
ابتدأ من الجوهر ، كان الجسم متقدما على الحيوان ، وان جعل الانسان مبدأ فبالعكس.
الرابع :
التقدم بالطبع ، وهو : ان يكون المتقدم ، بحيث لا يمكن ان يوجد المتأخر ، الا وهو
موجود معه او قبله ، وقد يمكن ان يوجه المتقدم ، وليس المتأخر بموجود.
وذلك : كتقدم
الواحد على الاثنين ، والاثنين على الثلاث وهكذا.
وكتقدم الأجزاء
على الكل ، وكتقدم المعدات.
قيل : ينبغي ان
يزاد في تعريفه ، قيد كونه : «غير مؤثر في المتأخر» والا ، يلزم كون التعريف : غير
مانع لدخول ـ التقدم
بالعلية ـ فيه ، حسبما يأتي بيانه.
واعترض عليه :
بأنه ان اراد بالمؤثرية ، الفاعلية المستجمعة لشرائط التأثير ، فلا حاجة الى القيد
المذكور : لخروجه ـ بقولنا ـ : «وقد يمكن ان يوجد المتقدم ، وليس المتأخر بموجود».
وان اراد
المؤثر في الجملة : فالتقييد ، اي : الزيادة المذكورة ، مضر ، لان تقدم الفاعلية غير
المستجمعة ، بل جميع المعدات ، اي : العلل الناقصة البعيدة ، تقدم بالطبع ، فاذا
زيد هذا القيد ، لم يكن التعريف جامعا.
الخامس :
التقدم بالعلية ، وهو : ان يكون المتقدم فاعلا في المتأخر اي : مؤثرا ، مستقلا ،
تاما ، مستجمعا لشرائط التأثير وعدم الموانع بحيث : لا يمكن ان يوجد المتقدم وليس
المتأخر بموجود ، كما انه لا يمكن : ان يوجد المتأخر الا والمتقدم موجود معه.
فاتضح الفرق
بين التقدم بالطبع ، والتقدم بالعلية ، اذ المتقدم في الأول : يمكن ان يوجد وليس
المتأخر بموجود ، وفي الثاني : لا يمكن والا يلزم : تخلف الأثر عن الفاعل المؤثر ،
وهو محال كعكسه.
وقال بعضهم :
التقدم بالعلية : كون المتقدم فاعلا ، اي : مؤثرا في المتأخر مطلقا ، سواء كان
مستقلا تاما في التأثير ، ام لا.
وعليه : يدخل
فيه بعض اقسام التقدم بالطبع ، فتأمل.
واما مثال
التقدم بالعلية : فكتقدم حركة اليد على حركه القلم وان كانتا معا فى الزمان ، فان
العقل يحكم : بانه تحركت اليد فتحرك القلم لا بالعكس.
وكذلك : حركة
اليد والمفتاح.
واعلم : ان
التقدم بالطبع ، والتقدم بالعلية ، مشتركان في معنى واحد ، يسمى : «التقدم بالذات»
وهو : تقدم لمحتاج اليه على المحتاج.
وربما يقال ـ للمعنى
المشترك ـ : تقدم بالطبع ، ويختص المتقدم بالعلية باسم : «التقدم بالذات».
ثم اعلم : ان
حصر التقدم في الأقسام الخمسة ، استقرائي ، وقد يقال ـ للضبط اختصارا ـ : المتقدم
، ان احتاج اليه المتأخر ، فان كان كافيا في وجوده : فالمتقدم بالعلية ، والا :
فبالطبع.
وان لم يكن
محتاجا اليه ، فان لم يمكن اجتماعهما في الوجود : فالمتقدم بالزمان ، وان امكن ،
فان اعتبر بينهما ترتب : فالمتقدم بالرتبة ، والا : فبالشرف.
واما المتأخر :
فهو ما يقابل المتقدم ، فيتعدد اقسامه ، بحسب اقسام المتقدم.
اذا اتقنت ما
ذكرنا : فاستمع لما يتلى عليك : قال ـ شارح الكافية ـ : قدم المصنف : تعريف «الكلمة»
على تعريف «الكلام» لكون افرادها جزء من افراد الكلام ، ومفهومها جزء من مفهومه.
وقال ـ شارح
الصمدية ـ : قدم المصنف : تعريف «الكلمة» على «الكلام» لأنها جزؤه ، والجزء مقدم
على الكل ـ طبعا ـ فقدمها ـ وضعا ـ ليوافق : الوضع الطبع.
والى نحو ذلك
يشير ـ التفتازاني ـ بقوله : (ثم لما كانت معرفة البلاغة) اي : ادراكها وتصورها
مفهوما ، سواء كانت بلاغة المتكلم ، او الكلام : (موقوفة : على معرفة الفصاحة) ،
اي : على تصورها في الجملة.
وانما قلنا : «فى
الجملة» لأن بلاغة الكلام ـ كما يأتي تعريفها عن قريب ـ : لا تتوقف على فصاحة
المتكلم ، بل على فصاحة الكلام والمفرد.
وكذلك : بلاغة
المتكلم ، لا تتوقف على فصاحة المتكلم مفهوما ، بل على فصاحة الكلام والمفرد ، اذ
لم تؤخذ الملكة ، التي هى : ـ الفصاحة ـ في المتكلم ـ على ما يأتي بيانه عن قريب ـ
لا في بلاغة المتكلم ، بل ولا في بلاغة الكلام
نعم ، تتوقف
على تلك الملكة : بلاغة المتكلم ، بحسب الوجود ، اذ لا يقتدر : على تأليف كلام
بليغ ، الا من يقدر بتلك الملكة : على تأليف كلام فصيح.
والحاصل : ان
معرفة البلاغة مفهوما ، متوقفة على معرفة الفصاحة مفهوما.
(لكونها) ، اي
: الفصاحة : (مأخوذة في تعريف البلاغة)
ولما كانت كذلك
: (وجب تقديمها) ، اي : معرفة الفصاحة ، على : معرفة البلاغة.
(ولهذا) الوجه
، الذي ذكر : في وجوب تقديم معرفة الفصاحة.
(بعينه : وجب
تقديم) معرفة : (فصاحة المفرد ، على) معرفة : (فصاحة الكلام).
وليعلم : ان
توقف فصاحة الكلام ، على فصاحة المفرد ، بلا واسطة ، بخلاف فصاحة المتكلم ، فان
توقفها عليها ، بواسطة أخذ ـ فصاحة الكلام ـ المتوقف عليها ، في فصاحته ، والمتوقف
على المتوقف على الشيء متوقف على ذلك الشيء ، فليتدبر.
و ـ الفاء ـ في
قوله : (فالفصاحة) ، تسمى : فصيحة ـ بالصاد المهملة ـ ، وقد تسمى : فضيحة ـ بالضاد
المعجمة ـ.
وانما سميت
بذلك : لأنها افصحت ، او افضحت ، اي : بينت واظهرت ، شرطا مقدرا ، اي : اذا اردت
بيان كل واحد من أقسام الفصاحة والبلاغة ، وتعريفها : فالفصاحة (الكائنة في المفرد)
، وانما اظهر : متعلق الظرف ، مع كونه : واجب الحذف ـ كما بين في النحو ـ : تنبيها
على ان الظرف مستقر ، صفة للفصاحة.
وانما جعله
معرفة ، لئلا يتوهم : كون الظرف المتعلق به ، حالا ، قال في ـ الصمدية ـ : الجار
والمجرور ، والظرف ، اذا وقع احدهما بعد المعرفة المحضة : «فحال» او النكرة المحضة
: «فصفة» او غير محضة فمحتمل لهما.
ولا بد من
تعلقهما بالفعل ، او بما فيه رائحته.
ويجب حذف
المتعلق ، اذا كان احدهما : صفة ، او صلة ، او خبرا او حالا ، انتهى.
وانما لم يجعل
الظرف حالا ، مع كون المقام جائز الوجهين ، لأن الحال قيد للعامل ، لفظيا كان او
معنويا ، ولا معنى للتقييد هنا ، لأن التقييد : انما هو لشيء يختلف حاله ، كالمجيء
ـ في قولنا ـ : جاء زيد راكبا ، والفصاحة بوصف كونها في المفرد : لا يختلف حالها
حتى يقيد بحال دون حال ، فتأمل.
وانما قلنا :
ان المقام جائز الوجهين ، لأن التعريف في الفصاحة غير محضة ، لكون ـ اللام ـ فيها
: جنسية ، ومدخولها : في حكم النكرة ـ كما يأتي في احوال المسند اليه ، في بحث
تعريف المسند اليه ـ حيث يقول :
وهذا ، اي :
المعرف ـ بلام ـ الجنس ، والحقيقة في المعنى كالنكرة وان كان في اللفظ يجري عليه
احكام المعارف : من وقوعه مبتدأ ، وذا حال ، ووصفا للمعرفة ، وموصوفا بها ، ونحو
ذلك ، كعلم الجنس وهذه الأحكام اللفظية : هي التي اضطرتهم الى الحكم : بكونه معرفة
وكون اسامة علما .. انتهى بأدنى تغيير.
(خلوصه) اي :
المفرد ، والمراد من الخلوص : لازمه ، اي : عدم الاتصاف بالعيوب الثلاثة ، وسلامته
منها.
لا الخلوص
الحقيقي ، لأن المفرد الفصيح ، لم يكن متصفا بها ، حتى يقال : انه يجب خلوصه (من
تنافر الحروف ، والغرابة ، ومخالفة القياس اللغوي).
وانما لم يقل :
«الصرفي» بدل «اللغوي» مع كون المراد ذلك ، تنبيها : على ان منشأ هذا القياس
الصرفي ، استقراء اللغة.
فقول الصرفي :
كلما تحركت ـ الياء ـ او ـ الواو ـ وانفتح ما قبلها : قلبت ـ الفا ـ ناش من
استقراء اللغة.
وقس عليه :
سائر قياساتهم ، (اي : المستنبطة من استقراء اللغة).
وهذا التفسير ،
لبيان : ان ليس المراد من القياس القياس المنطقي الذي هو : الحاق شيء بشيء آخر ،
بجامع بينهما ، كالحاق النبيذ بالخمر في التحريم ، بجامع الاسكار.
وانما انحصر
الفصاحة في المفرد ، في الخلوص من هذه الثلاثة ، لأن العيب المخل بفصاحة اللفظ ،
اما في مادته ، وهو «التنافر» واما في دلالته ، وهو «الغرابة» او في صورته ، وهو
خلاف القياس ، فيجب في فصاحة المفرد ، بل الكلام ـ ايضا ـ : ان لا يكون فيه واحد
من هذه
العيوب الثلاثة.
(حتى لو وجد في
الكلمة) ، او الكلام ، (شيء من هذه) العيوب (الثلاثة ، لا تكون) الكلمة. وكذلك
الكلام : (فصيحة).
وليعلم : ان
العيوب الثلاثة ، المخلة في فصاحة الكلام ، صورة ومادة ودلالة ، تأتي عند بيان
الفصاحة فيه ، فانتظر.
و ـ الفاء ـ في
قوله : (فالتنافر وصف في الكلمة) ، كالفاء ـ في قوله ـ : فالفصاحة ، وقد تقدم
بيانها.
(يوجب) ذلك
الوصف : (ثقلها على اللسان) ، قيل : الثقل ـ بكسر الثاء وتحريك القاف ـ مصدر ، و ـ
بتسكينه ـ اسم مصدر.
ولكن ، قال في
ـ المصباح ـ : ثقل الشيء ـ بالضم ـ ثقلا ، وزان ـ عنب ـ ويسكن للتخفيف.
وقال بعض آخر :
الثقل ـ بكسر الثاء ، وفتح القاف ـ بوزن ـ صغر ـ مصدر : ثقل الشيء ـ بالضم ـ خلاف
الخفة.
واما ـ بكسر
الثاء ، وسكون القاف ـ بوزن ـ علم ـ فهو الشيء الثقيل وكيف كان ، المصدر انسب في
المقام : من جهة اللفظ ، للتشاكل بين المتعاطفين ، لان قوله : (وعسر النطق بها) ـ ايضا
ـ مصدر.
والثاني ، اي :
بمعنى الشيء الثقيل ، انسب : من جهة المعنى ، لأن مطلق التنافر ، لا يخل بالفصاحة
، كما يأتى بيانه في تنافر الكلمات ـ عند قوله ـ : امدحه ، بل التنافر المخل
بالفصاحة : ما كان شديدا بحيث : يصير على اللسان كالحمل الثقيل.
واذا كان كذلك
، فلا شك : ان مراعاة التناسب المعنوي اولى.
وعلى هذا فمعنى
كلامه ، يوجب كون الكلمة كالحمل الثقيل
على اللسان ، فعطف العسر عليه ، من قبيل : عطف المسبب على السبب نظرا الى
ان كون الكلمة ثقيلا ، سبب لعسر النطق بها.
فمنه ، اي : من
التنافر ، او من الوصف ـ والمآل واحد ـ : (ما يوجب التناهي فيه) ، اي : في الثقل ،
(نحو : الهعخع) ، بكسر الهاء ، وسكون العين المهملة ـ و (ـ بالخاء المعجمة ـ)
المكسورة او المفتوحة (في قول اعرابي سئل عن ناقته ، قال : تركتها قرعى الهعخع.
قال في ـ مواهب
الفتاح ـ : روى عن الخليل ، انه قال : سمعنا كلمة شنعاء ، وهي : «الهعخع» ما ذكرنا
تأليفها.
نقله الخفاجي ،
والهاء والعين ، لا يكاد واحد منهما يأتلف مع الآخر من غير فصل.
وشذ من ذلك :
هع يهع اذا قاء ، والظاهر : انه الخعخع ، وهو النبت قال الصغاني في ـ العباب ـ :
قال ابن دريد : «الخعخع» مثال : ـ هدهد ـ : ضرب من النبت.
وقال ابن شميل
ـ : «الخعخع» : شجرة.
وقال ـ ابو
الدقيش ـ : هي كلمة معاياة ، لا اصل لها.
وقال ـ ابن
سيدة ـ : «الخعخع» : ضرب من النبت ، حكاه ابو زيد ، وليس بثبت.
وقال عبد
اللطيف البغدادي ، في ـ قوانين البلاغة ـ : وشذ قولهم : «الخعخع» وقيل : انما هو «الخعخع».
وقال الصغاني ،
في كتابه المسمى : لصحاح على ـ ما نقل عنه ـ : انه «العهعح» بضم العينين المهملتين
، حكاه عن الليث ، قال : قال : سألنا الثقاة ، فانكروا : ان يكون هذا الاسم في
كلام العرب.
وقال الفذ منهم
: هي شجرة ، يتداوى بها وبورقها.
وقال ابن
الأعرابي : انما هو : «الخعخع» بخائين معجمتين مضمومتين ، وعينين مهملتين.
قال ـ الليث ـ :
هذا موافق لقياس العربية والتأليف.
وفي نهاية الايجاز
، للامام فخر الدين ـ ايضا ـ : ترعى العهعخ.
فتخلص في هذه
الكلمة ـ حينئذ ـ اربعة اقوال :
احدها : انه «الخعخع»
والثاني : «الهعخع» وهو فيهما : ـ بضم الهاء ، والخاء ـ والثالث : انه لا اصل لها
، والرابع : انه «العهعخ» وهذا فيه الغرابة ـ ايضا ـ.
(ومنه) ، اي :
من التنافر ، او من الوصف الموجب للثقل ، (ما).
اي : تنافر ،
او وصف (دون ذلك) ، الذي يوجب التناهي في الثقل.
وانما لم يذكر
ـ المصنف ـ : الموجب للتناهي ، لأنه اذا ذكر الأدنى وثبت لزوم الاحتراز عنه يثبت
لزوم الاحتراز عن الموجب للتناهي بطريق اولى وهذا واضح.
(نحو : مستشزر
ات ، في قول امرء القيس) ، من قصيدته التي هي احدى المعلقات السبع ، اولها :
قفا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى
بين الذحول فحومل
|
(غدائره ، اي : ذوائبه) ، هو جمع
ذؤابة ـ بهمزة بعدها الف ـ ابدلت الهمزة ـ واوا ـ في الجمع ، والألف بعد الف الجمع
: همزة.
قال في ـ المصباح
ـ : الذؤابة ـ بالضم مهموزا ـ : الضفيرة من الشعر ، اذا كانت مرسلة ، فان كانت
ملوية ، فهي : عقيصة ، والذؤابة ـ ايضا ـ طرف العمامة والذؤابة : طرف السوط والجمع
الذؤابات ، على لفظها والذوائب ـ ايضا ـ.
وفي ـ الاساس ـ
: الذؤابة : الشعر ، المنسدل من الرأس الى الظهر.
قال بعضهم : اي
: الذي شأنه الانسدال ، فلا ينافي : انه قد يكون فوق وسط الرأس ، كما في البيت.
(والضمير) فى ـ
غدائره ـ : (عائد الى الفرع في البيت السابق) وهو قوله :
وفرع يزبن
المتن اسود فاحم
|
|
اثبت كقنو
النخلة المتعثكل
|
(مستشزرات) ، اي : (مرتفعات ، ان
روى ـ بالكسر ـ) حتى يكون (على : اسم فاعل ، او مرفوعات ، ان روى ـ بالفتح ـ) حتى
يكون (على : لفظ اسم المفعول).
وانما جوز
الاحتمالين : لان فعله يستعمل على وجهين ، فيقال : (استشزره ، اي : رفعه) ، ويقال
ـ ايضا ـ : (استشزر ، اي : ارتفع) ، فهو (يعدى) : كالمثال الأول ، فيجىء منه اسم
الفاعل فقط وانما سمى ذلك الشعر : غديرة ، لأنه غودر ، اي : ترك حتى طال.
(الى العلى) ،
اي الى الفوق ، والعلى : جمع العليا ـ بضم العين ـ مقابل : السفلى ، تأنيث الأعلى
، مقابل الأسفل.
والشطر الثاني
، قوله : (تضل العقاص في مثنى ومرسل).
قال في ـ المصباح
ـ : الأصل في الضلال : الغيبة ، ومنه قيل ـ للحيوان الضائع ـ : ضالة ، ـ بالهاء ـ للذكر
والانثى ، والجمع : الضوال ، مثل : دابة ، ودواب.
ويقال ـ لغير
الحيوان ـ : ضائع ، ولقطة ، وضل البعير : غاب ، وخفى موضعه .. انتهى محل الحاجة من
كلامه.
والى هذا
المعنى ، يشير بقوله : (تضل ، اي : تغيب ، و) هو :
فعل مضارع ، فاعله : (العقاص) ، وهو : (جمع عقيصة ، وهي الخصلة) اي :
اللفيفة ، (المجموعة من الشعر).
قال في ـ المصباح
ـ : العقيصة للمرأة : الشعر الذي يلوى ويدخل اطرافه في اصوله ، والجمع : عقائص ،
وعقاص .. انتهى.
وحكي عن ـ مجمل
اللغة ـ : ان العقاص ، هو : الخيط ، الذي يربط به : اطراف الذوائب ويظهر من بعض
المحققين : ان العقيصة ، هي : الخصلة المجموعة من الشعر ، التي تجمعها المرأة ،
وتلويها وتريطها بخيوط ، وتجعلها في وسط رأسها كالرمانة ، ليصير مجعدا ، وهي
المسماة : بالغديرة ، والعقيصة ، والذؤابة.
وكان عادة نساء
العرب ـ يعد ان تعقص جانبا من الشعر ـ : ان ترسل (و) تسدل فوقه ، الشعر (المثنى) ،
اي : (المفتول) كالحبل (والمرسل) ، (و) هو : (خلاف المثنى) ، اي : غير المفتول.
واشار ـ الشارح
ـ : الى حاصل مضمون البيت ، بقوله : (يعنى ان ذوائبه) ، اي : ذوائب الفرع ، (مشدودة
على الرأس بخيوط ، وان شعره).
هذا الضمير
المذكور ، اما راجع لمحبوبته «عنيزة» باعتبار تأويلها بالشخص ، او الممدوح ،
ونحوهما.
واما راجع
للفرع ، بناء على ما قيل : من ان الفرع اسم للشعر مطلقا ، سواء كان للرجال او
النساء ، والغدائر : الشعر مطلقا ، لكن بقيد كونه للنساء.
(ينقسم) الشعر
: (الى عقاص ، ومثنى ، ومرسل).
(و) انما جمع
العقاص ، دون الأخيرين : للاشارة الى ان (الأول) اي : العقاص مع كثرتها : (يغيب في)
كل واحد من (الأخيرين) اي : المثنى وحده ، (و) المرسل وحده.
وذلك : لان (الغرض
بيان كثرة شعره). فاذا كان كل واحد من الأخيرين ، بحيث : يغيب فيه العفاص مع
كثرتها ، دل ذلك على الغرض ، اعني : كثرة الشعر ، دلالة بينة واضحة.
ولهذه القصيدة
: حكاية لطيفة ، مذكورة في الشواهد ، فراجع حتى تعرفها.
واعلم : ان
المحكم في التنافر ، هو : الذوق ليس الا ، لكن لا يدرى : ان منشأه ما ذا؟ فكل ما
يعده الذوق ثقيلا على اللسان ، عسيرا في النطق ، كان متنافرا ، والا فلا ، والذوق
قد تقدم معناه في بحث رفع التناقض المتوهم : بين كلامي ـ المصنف ـ و ـ المفتاح ـ.
(و) اعلم : انه
(زعم بعضهم) ، انه يمكن ان يعرف المنشأ ويدرى ، ويتوقف معرفة مقالتهم المزعومة :
على معرفة مخارج الحروف ومعرفة مالها من الاقسام ، من حيث الهمس والجهر ، ونحوهما.
ونحن قد بيناها
في «الجزء الرابع» من تعليقتنا على «البهجة المرضية» في ـ باب الامالة ـ بيانا
مستوفى ، فمن اراد الاطلاع : فعليه بمراجعتها ، ونذكر هاهنا : شطرا منها ، بمقدار
يتضح به المقالة المزعومة.
فاعلم : ان
الحروف باعتبار اوصافها ، تنقسم الى تقاسيم : منها : تقسيهما ، اي : جميع الحروف ،
الى «المهموسة» و «المجهورة».
فالمجهورة :
تسعة عشر حرفا ، وهي : «ظل قوربض اذ غزاجند مطيع» وانما سميت هذه الحروف مجهورة :
لأنه لا بد في بيانها واخراجها
من جهرما ، ولا يتهيأ النطق بها الا كذلك.
والجهر : رفع
الصوت ، وانما تكون مجهورة : لأن اللافظ يشبع : الاعتماد في مخرجه ، فمن اشباع
الاعتماد : يحصل ارتفاع الصوت ، ويعرف ذلك : من التلفظ ـ بالقاف ـ مكررا بالحركة.
نحو : ققق ـ بالحركات
الثلاث ـ من دون الاشباع ، او قاقاقا او قوقوقو ، او قي قي قي ، بالاشباع.
والمهموسة ،
عشرة احرف ، وهى : حروف «ستشخثك حصفه» ـ بالهاء ـ ، ومعنى الكلام : ستشحذ عليك هذه
المرأة ، التي اسمها حصفة ، والشخث والشحذ : الالحاح في المسألة ، ولذلك يقال
للمتكدى : شخاث وشحاذ.
وانما سميت هذه
الحروف «مهموسة» : لأنه يتهيأ لك ان تنطق بها ، وتسمع منك خفيا ، والهمس : الاخفاء
، ويعرف ذلك : من التلفظ ـ بالكاف ـ مكررا بالحركة ، نحو : «ككك» ـ بالحركات
الثلاث ـ من دون اشباع ، او مع الاشباع ، نحو : «كاكاكا» و «كوكوكو» و «كي كي كي».
واذا عرفت
التفاوت بين ـ القاف ـ و ـ الكاف ـ مع كونهما متقاربي المخرج ، فمعرفته بين
المتباعدين : أظهر ، وأسهل.
وقيل :
المجهورة : يخرج اصواتها من الصدر ، والمهموسة : يخرج اصواتها ، من مخارجها في
الفم ، وذلك مما يرخى الصوت ، فيخرج الصوت من الفم ضعيفا.
ومنها :
تقسيمها : الى «الشديدة» و «الرخوة» و «ما بينهما».
ويعنى ـ بالشديدة
ـ : ما ادا اسكنته ونطقت به ، لم يجر الصوت
بل ينحصر في المخرج ، يسمع في آن ثم ينقطع.
وحروفها : «اجدك
قطبت» اي : عرفتك عبوسا.
ويعنى ـ بالرخوة
ـ : ما يجرى الصوت عند النطق بها ، ولا ينحبس في المخرج وحروفها : ما عدا الحروف
المذكورة ، وما عدا حروف : «لم يروعنا».
وهذه الحروف ،
اي : «لم يروعنا» تسمى : ـ المعتدلة ـ بين الرخوة والشديدة ، لأن هذه الحروف
الثمانية ، ينحصر الصوت عند التلفظ بها ـ حال الوقف ـ في مواضعها. لكن يعرض لها
اعراض يوجب خروج الصوت من غير مواضعها.
وبوجه أوضح ،
انما سميت «متوسطة» : لأن النفس لا ينحبس معها : انحباس الشديدة ، ولم يجر معها :
جريانه مع الرخوة.
فالحروف
بالنسبة : الى المهموسة والمجهورة : تنقسم الى قسمين ، وبالنسبة الى الشدة
والرخاوة : الى ثلاثة اقسام : شديدة ، ورخوة ، ومتوسطة بينهما.
اذا عرفت ذلك :
فاعلم : انه توهم بعضهم : (ان منشأ الثقل فى «مستشزر ات» هو توسط ـ الشين المعجمة
ـ التي هى من المهموسة).
اي : من «ستشخثك
حصفه» (الرخوة) ، اي : ما عدا «اجدك قطبت» وما عدا «لم يروعنا» (بين ـ التاء ـ التى
هي من المهموسة الشديدة) التي هي حروف «اجدك قطبت» (و ـ الزاء المعجمة ـ التي هى
من المجهورة) ، اي : من حروف «ظل قوربض اذ غزا جند مطيع».
(ولو قال :
مستشرف) ، وهو بمعنى : مستشزر ، (لزال ذلك الثقل) قيل : والأول ، ان يقول :
مستشرفات ، لأن البيت ، لا يتزن الا به.
وفيه نظر ،
يظهر وجهه : مما ننقله في التنبيه الآتي.
(فائدة) قال ـ المرزوقي
ـ : اكثر ما يستعمل الزعم ، فيما كان باطلا ، وفيه ارتياب.
قال ـ الخطائي
ـ : ولهذا ، قيل : «زعم» مطية الكذب ، وزعم غير مزعم : قال غير مقول صالح ، وادعى
ما لا يمكن.
وقال ابو
البقاء : الزعم ـ بضم الزاي ـ : اعتقاد الباطل ، بلا تقول و ـ بفتحها ـ : اعتقاد
الباطل بتقول.
وقيل : ـ بالفتح
ـ : قول مع الظن ، ـ وبالضم ـ : ظن بلا قول ومن عادة العرب ، ان من قال كلاما وكان
عندهم كاذبا ، قالوا : زعم فلان.
قال ـ شريح ـ :
لكل شيء كنية ، وكنية الكذب : «زعم» وقد جاء في ـ القرآن ـ في كل موضع ، ذما
للقائلين.
(تنبيه) ، اعلم
: ان المظنون قويا ، ان الزاعم المذكور : هو ـ الموصلي ـ لانه قال ـ في بحث القبيح
من الألفاظ ، الذي يعاب استعماله ـ : ومما يدخل في هذا الباب : ان يجتنب الألفاظ ،
المؤلفة من حروف : يثقل النطق بها ، سواء كانت طويلة ، او قصيرة.
ومثال ذلك :
قول امرء القيس ـ في قصيدته اللامية ، التي هي من جملة القصائد السبع الطوال ـ :
غدائره
مستشزرات الى العلى
|
|
تضل العقاص
في مثنى ومرسل
|
فلفظة «مستشزرات»
مما يقبح استعمالها ، لأنها تثقل على اللسان ويشق النطق بها ، وان لم تكن طويلة ،
لانا لو قلنا : مستنكرات ، او مستنفرات. على وزن مستشزرات ، لما كان في هاتين
اللفظتين : من
ثقل ولا كراهة.
ولربما اعترض
بعض الجهال ـ في هذا الموضع ـ وقال : كراهة هذه اللفظة ، انما هو : لطولها.
وليس الأمر كذلك
: فانا لو حذفنا منها : الألف والتاء ، وقلنا : مستشزر ، لكان ذلك ثقيلا ـ ايضا ـ ،
وسببه : ان ـ الشين ـ قبلها ـ تاء ـ وبعدها ـ زاي ـ فثقل النطق بها ، والا ، فلو
جعلنا عوضا من الزاي : ـ راء ـ ومن الراء ـ فاء ـ فقلنا : مستشرف ، لزال ذلك
الثقل.
ثم قال : ولقد
رآني بعض الناس ، وانا اعيب على «امرء القيس» هذه اللفظة ـ المشار اليها ـ فأكبر
ذلك ، لوقوفه مع شهرة التقليد ، في ان امرء القيس أشعر الشعراء ، فعجبت من ارتباطه
بمثل هذه الشبهة الضعيفة ، وقلت له : لا يمنع احسان امرء القيس ، من استقباح ماله
من القبح.
ومثال هذا :
كمثال غزال المسك ، فانه يخرج منه : المسك ، والبعر.
ولا يمنع : طيب
ما يخرج من مسكه ، من خبث ما يخرج من بعره ولا تكون لذاذة ذلك الطيب : حامية للخبث
من الاستكراه. فسكت الرجل عند ذلك .. انتهى.
ووجه بعضهم
الثقل ـ فيما نحن فيه ـ : بان «الشين» اتصفت بالهمس والرخاوة ، و «التاء» قبلها ،
اتصفت بالهمس والشدة ، فقد اشتركا في الهمس ، واختلفا في الشدة والرخاوة ، والضرر
جاء من اختلافهما وكذلك : شاركت «الشين الزاي» في الرخاوة ، واختلفا في الهمس
والجهر ، والضرر جاء من اختلافهما.
فالحاصل : ان «الشين»
اتصفت بصفتين ، ضاربت باحداهما ما قبلها وضاربت بالاخرى ما بعدها ، فالاولى للشارح
: ترك وصف ـ التاء ـ بالهمس ، والاقتصار بالشدة ، لان الضرر بها ، كما اقتصر في ـ الزاء
ـ على الوصف الذي به الضرر ، وهو : الجهر ، وترك الرخاوة.
(و) كيف كان ،
وايا كان الزاعم ، (هو) اي : زعم البعض : (سهو ، لأن ـ الراء ـ المهملة) ، ـ كالزاء
ـ المعجمة ، (ـ ايضا ـ من المجهورة).
غاية الأمر :
ان ـ الزاء المعجمة ـ رخوة ، و ـ الراء المهملة ـ متوسطة بين الرخوة والشديدة ،
لأنها من حروف «لم يروعنا».
وهذا المقدار
من الفرق : غير مؤثر فيما نحن فيه ، (فيجب ان يكون : مستشرف) على زعمه ، (ـ ايضا ـ
متنافرا ، وليس كذلك).
فكيف يحكم هذا
الزاعم : بانه لو قال : «مستشرف» بدل «مستشزر» لزال ذلك الثقل ، مع كون الموجب
للثقل فيهما : شيئا واحدا وهو : توسط ـ الشين المعجمة ـ التي هي : من المهموسة
الرخوة بين حرف من الحروف المهموسة الشديدة ، وحرف من الحروف المجهورة؟
(بل منشأ الثقل)
في «مستشزر» (هو :) وصف موجب للثقل يدرك بالذوق السليم ، والفهم المستقيم ، حصل
ذاك الوصف : من (اجتماع هذه الحروف المخصوصة) ، على الترتيب المخصوص.
والحاكم بذلك :
هو الذوق المذكور ليس الا ، فليس لأوصاف الحروف : دخل في الوصف الموجب للتنافر.
هذا ولكن قال
بعضهم : ان ـ الراء المهملة ـ وان كانت مجهورة الا انه مجاورة ـ الفاء ـ في مستشرف
، و ـ الفاء ـ من حروف الذلاقة
ازالت الثقل الحاصل من توسط ـ الشين ـ بين ما ذكر فتأمل.
ثم اعلم : انه
زعم قوم آخرون ، منهم «الخليل» على ما حكى عنه ـ الباقلاني ـ في «اعجاز القرآن» في
الفصل الذي يذكر : وجوها من البلاغة.
ان الضابط
المعول عليه في التنافر : بعد مخارج الحروف وقربها ، فاذا بعدت فالنطق بها كالطفرة
، واذا قربت كان النطق بها كالمشى في القيد.
وزعم آخرون ،
منهم ـ الخفاجي ـ على ما حكى عنه ـ الموصلي ـ : ان الضابط بعد المخارج فقط ، بناء
على ما يظهر من آخر المقالة الآتية.
قال ـ في
المقالة الاولى ، في الصناعة اللفظية ـ : قد ذكر ابن سنان الخفاجي ، ما يتعلق
باللفظة الواحدة من الأوصاف ، وقسمها الى عدة اقسام كتباعد مخارج الحروف ، وان
تكون الكلمة جارية على العرف العربي ، غير شاذة ، وان تكون مصغرة في موضع : يعبر
به عن شيء لطيف او خفي ، او ما جرى مجراه ، وان لا تكون مبتذلة بين العامة ، وغير
ذلك من الأوصاف ، وفي الذي ذكره مالا حاجة اليه.
اما تباعد
المخارج : فان معظم اللغة العربية دائر عليه ، لأن الواضع قسمها في وضعه : ثلاثة
اقسام : ثلاثيا ، ورباعيا ، وخماسيا.
والثلاثي من
الألفاظ : هو الأكثر ، ولا يوجد فيه : ما يكره استعماله الا الشاذ النادر.
واما الرباعى :
فانه وسط بين الثلاثي والخماسي ، في الكثرة عدد او استعمالا.
واما الخماسي :
فانه الأقل ، ولا يوجد فيه ما يستعمل الا الشاذ النادر وعلى هذا التقدير : فان
اكثر اللغة مستعمل على غير مكروه ،
ولا تقتضى حكمة هذه اللغة الشريفة ، التي هي سيدة اللغات ، الا ذلك.
ولذا : اسقط
الواضع حروفا كثيرة ، في تأليف بعضها مع بعض استثقالا واستكراها ، فلم يؤلف بين
حروف الحلق ـ كالحاء ، والخاء والعين ـ وكذلك : لم يؤلف بين ـ الجيم ، والقاف ـ ولا
بين ـ اللام ، والراء ـ ولا بين ـ الزاء ـ و ـ السين ـ.
وكل هذا دليل :
على عنايته بتأليف المتباعد المخارج ، دون المتقارب.
ومن العجب :
انه كان يخل بمثل هذا الأصل الكلي في تحسين اللغة ، وقد اعتنى بامور اخرى جزئية ،
كمماثلته بين حركات الفعل في الوجود ، وبين حركات المصدر في النطق ، كالغليان ،
والضربان ، والنقدان ، والنزوان ، وغير ذلك : مما جرى مجراه ، فان حروفه جميعها
متحركات ، وليس فيها حرف ساكن ، وهي مماثلة لحركات الفعل (اللغوي) في الوجود.
ومن نظر في
حكمة وضع هذه اللغة : الى هذه الدقائق ، التي هي كالأطراف والحواشى ، فكيف كان يخل
بالأصل ، المعول عليه في تأليف الحروف بعضها الى بعض.
على انه لو
اراد الناظم او الناثر : ان يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ ، وهل هي
متباعدة او متقاربة ، لطال الخطب في ذلك وعسر ، ولما كان الشاعر ينظم قصيدا ، ولا
الكاتب ينشىء كتابا ، الا في مدة طويلة ، تمضي عليها ايام وليالى ذوات عدد كثير.
ونحن نرى الأمر
: بخلاف ذلك ، فان حاسة السمع ، هي الحاكمة في هذا المقام : بحسن ما يحسن من
الألفاظ ، وقبح ما يقبح.
وسأضرب لك في هذا
ـ مثالا ـ فاقول : اذا سئلت عن لفظة من
الألفاظ ، وقيل لك ما تقول في هذه اللفظة؟ احسنة هي ، ام قبيحة؟
فاني لا اراك ـ
عند ذلك ـ الا تفتي : بحسنها ، او قبحها ، على الفور.
ولو كنت لا
نفتي بذلك ، حتى تقول للسائل : اصبر الى ان اعتبر مخارج حروفها ، ثم افتيك بعد ذلك
: بما فيها من حسن ، او قبح : لصح ـ لابن سنان ـ ما ذهب اليه : من جعل مخارج
الحروف المتباعدة ، شرطا في اختيار الألفاظ ، وانما شذ عنه الأصل في ذلك ، وهو :
ان الحسن من الألفاظ ، يكون متباعد المخارج.
فحسن الألفاظ
اذن : ليس معلوما من تباعد المخرج ، وانما علم قبل العلم بتباعدها ، وكل هذا راجع
الى حاسة السمع.
فاذا استحسنت
لفظا ، او استقبحته ، وجدت ما تستحسنه متباعد المخارج وما تستقبحه متقارب المخارج
، واستحسانها واستقباحها : انما هو قبل اعتبار المخارج ، لا بعده.
على ان هذه :
قاعدة ، قد شذ عنها شواذ كثيرة ، لأنه قد يحيء في المتقارب المخارج ، ما هو حسن
رائق.
الا ترى : ان ـ
للجيم ، و ـ الشين ـ و ـ الياء ـ مخارج متقاربة وهي من وسط اللسان ، بينه وبين
الحنك ، وتسمى ـ ثلاثتها ـ : «الشجرة» واذا تركب منها شيء من الألفاظ ، جاء حسنا
رائقا.
فان قيل : «جيش»
كانت لفظة محمودة ، او قدمت ـ الشين ـ على ـ الجيم ـ فقيل : «شجى» كانت ـ ايضا ـ لفظة
محمودة.
ومما هو اقرب
مخرجا من ذلك : ـ الباء ، والميم ، والفاء ـ وثلاثتها من الشفة ، وتسمى : «شفهية»
فاذا نظم منها شيء من الألفاظ ، كان جميلا حسنا.
كقولنا : «فم»
فهذه اللفظة ، من حرفين ، هما «الفاء ، والميم».
وكقولنا : ذقته
«بفمي» وهذه اللفظة ، مؤلفة من الثلاثة بجملتها حسن لا عيب فيه.
وقد ورد من
المتباعد المخارج. شيء قبيح ـ ايضا ـ ، ولو كان التباعد سببا للحسن ، لما كان سببا
للقبح ، اذ هما ضدان لا يجتمعان.
فمن ذلك : انه
يقال : «ملع» اذا عدا (او سرع) ، فالميم : من الشفة ، والعين : من حروف الحلق ،
واللام : من وسط اللسان ، وكل ذلك متباعد.
ومع هذا : فان
هذه اللفظة ، مكروهة الاستعمال ، ينبو عنها الذوق السليم ، ولا يستعملها من عنده
معرفة : بفن الفصاحة.
وهاهنا نكتة
غريبة ، وهو : انا اذا عكسنا حروف هذه اللفظة ، صارت : «علم» وعند ذلك ، تكون حسنة
، لا مزيد على حسنها.
وما ندري : كيف
صار القبح حسنا ، لانه لم يتغير من مخارجها شيء؟! وذلك : ان ـ اللام ـ لم تزل وسطا
، و ـ الميم ، والعين ـ يكتنفانها من جانبيها ، ولو كان مخارج الحروف معتبرا في
الحسن والقبح ، لما تغيرت هذه اللفظة ، في : «ملع» و «علم».
فان قيل : ان
اخراج الحروف من الحلق الى الشفة ، ايسر من ادخالها من الشفة الى الحلق ، فان ذلك
انحدار ، وهذا صعود ، والانحدار ، اسهل.
والجواب عن ذلك
: اني اقول : لو استمر لك هذا ، لصح ما ذهبت اليه ، لكنا نرى من الألفاظ : ما اذا
عكسنا حروفه من الشفة الى الحلق او من وسط اللسان ، او من آخره الى الحلق ، لا
يتغير.
كقولنا : «غلب»
فان ـ العين ـ من حروف الحلق ، و ـ اللام ـ من وسط اللسان ، و ـ الباء ـ من الشفة.
واذا عكسنا ذلك
: صار. «بلغ» وكلاهما حسن مليح.
وكذلك تقول : «حلم»
من الحلم ، وهو : الاناة ، واذا عكسنا هذه الكلمة ، صارت : «ملح» على وزن «فعل» ـ بفتح
الفاء وضم العين ـ وكلاهما حسن مليح.
وكذلك تقول : «عقر
، ورقع ، وعرف ، وفرع ، وحلف ، وفلح ، وقلم ، وملق ، وكلم ، وملك».
ولو شئت :
لأوردت من ذلك شيئا كثيرا ، تضيق عنه هذه الأوراق ولو كان ما ذكرته مطردا ، لكنا
اذا عكسنا هذه الألفاظ ، صار حسنها قبحا ، وليس كذلك. انتهى.
والى اجمال هذه
المباحث : يشير بعضهم ـ حيث يقول ـ : قالوا : ان التنافر يكون : اما لتباعد الحروف
جدا ، او لتقاربها ، فانها كالطفرة والمشي في القيد.
ونقله ـ الخفاجي
ـ : عن «الخليل بن احمد» ورأى : انه لا تنافر في القرب وان افرط.
ويشهد له ان
لنا ألفاظا متقاربة حسنة ، كلفظ «الشجر» و «الجيش» و «الفم» ومتباعدة قبيحة ، مثل «ملع»
اذا اسرع.
ويرد على من
جعل ـ القرب والبعد ـ موجبين للتنافر : ان نحو : «الفم» حسن مع تقارب حروفه ، وقد
يوجد ـ البعد ـ ولا تنافر ، مثل : «علم» ومثل : «البعد» فان ـ الميم ـ وكذا ـ الباء
ـ من الشفتين و ـ العين ـ من الحلق ، وهو حسن.
و ـ او ـ غير
متنافر ، مع ان ـ الواو ـ بعيدة من الهمزة ، وكذلك «الم» متباعدة ، وكذلك «امر»
ولا تنافر.
والى هذا
الاجمال والتفصيل : اشار ـ التفتازاني ـ بقوله : (قال ابن الأثير : ليس التنافر
بسبب بعد المخارج ، وان الانتقال من احدهما).
اي : احد
الحرفين البعيدي المخرج (الى الآخر) منهما ، (كالطفرة ولا بسبب قربها) ، اي :
المخارج.
(وان الانتقال
من احدهما) ، اي : احد الحرفين القريبي المخرج (الى الآخر) منهما ، (كالمشي في
القيد).
اما وجه الثاني
، اي : عدم كون التنافر بسبب قرب المخارج ، فهو : (لما نجد غير متنافر من القريب
المخرج ، كالجيش ، والشجى) فانهما غير متنافر.
فيعلم بذلك :
ان ليس التنافر ، بسبب قرب المخارج.
(و) اقوى دليل
على ذلك : وجوده (في التنزيل) ، وهو قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ) والقول : بانه متنافر ، ولا مانع من اشتمال ـ القرآن ـ على
كلمة غير فصيحة ، سيأتي جوابه عن قريب.
واما قوله : (ومن
البعيدة) ، فهو وجه ثان للثاني ، عطف على : «من القريب المخرج» والضمير المضاف
اليه : راجع الى المخرج ، والضمير المضاف اليه ـ في (ما هو بخلافه) ـ : راجع الى :
«غير متنافر» لا الى المتنافر ، بدليل قوله : (كملع).
حاصل الكلام :
انا نجد من بعيد المخرج ، ما هو بخلاف غير المتنافر يعني : نجد من بعيد المخرج ما
هو متنافر ، «كملع» فليس التنافر : بسبب قرب المخرج ، لأنه قد يوجد ـ التنافر ـ بدون
قرب المخرج.
واما وجه الأول
، اي : عدم كون ـ التنافر ـ بسبب بعد المخارج فاشار اليه بقوله : (بخلاف «علم») اذ
فيه : بعد المخرج ، ولا تنافر فيه.
فيعلم من ذلك :
ان بعد المخرج ، ليس سببا للتنافر ، والا لكان «علم» ـ ايضا ـ متنافرا ، كملع ،
وليس فليس.
(و) ان قلت :
فيهما فرق ، وهو : ان فى ـ علم ـ اخراج من الحلق الى الشفة ، وفي ـ ملع ـ ادخال من
الشفة الى الحلق والاخراج ايسر من الادخال ، ولا يخفى لطف هذا.
قلت : نعم ،
الأمر كما ذكرت من اللطيفة ، لكن (ليس ذلك) اي : كون ـ علم ـ غير متنافر ، و ـ ملع
ـ متنافرا ، (بسبب : ان الاخراج من الحلق الى الشفة ، أيسر من : ادخاله من الشفة
الى الحلق لما نجد من حسن) كلمات ، في بعضها اخراج من الحلق الى الشفة وفي بعضها
الآخر ادخال من الشفة الى الحلق.
وفيه الاخراج ،
(وبلغ) ، وفيه الادخال.
(و) كذلك : (حلم
، وملح ، بل هذا) ، اي : تنافر الكلمة (امر ذوقي ، فكل ما عده الذوق الصحيح ـ ثقيلا
، متعسر النطق ـ فهو : «متنافر» سواء كان) ذلك الكلمة ، مركبة (من قرب المخارج ،
او بعدها).
فالاولى ، ان
يقال : قريب المخارج ، او بعيدها ، (او غير ذلك) بان يكون بعض حروفها ، من قريب
المخارج ، وبعضها الآخر ، من بعيدها.
ويحتمل ان يكون
مراده : ان كل ما عده الذوق الصحيح ـ ثقيلا
متعسر النطق ـ فهو : «متنافر» سواء كان التنافر ، ناشئا من قرب مخارج
الحروف ، او بعدها ، او غير ذلك ، بان يكون ناشئا من شيء آخر ، غير قرب المخارج
وبعدها.
وليعلم : ان
ليس المراد على هذا الاحتمال ، انا نعرف : ان المنشأ قد يكون القرب ، وقد يكون
البعد ، وقد يكون غيرهما ، بل المراد : انا نعرف بالذوق الصحيح : كون الكلمة
متنافرة ، من دون ان نعرف ان المنشأ في الواقع ما ذا.
(ولهذا اكتفى ـ
المصنف ـ بالتمثيل ، ولم يتعرض لتحقيقه وبيان سببه ، لتعذر ضبطه).
ويحتمل ان يكون
المراد : تسليم الدعوى موجبة جزئية ، بمعنى : ان القرب او البعد ، ينشأ منهما
التنافر المخل بالفصاحة ، لكن المدرك لذلك : هو الذوق الصحيح لا غير.
وهذا هو :
الاقوى ، لا الكلية ، التي تأتي عن قريب.
قال بعض
المحققين : ان المدعى في كون قرب المخارج او بعدها منشأ للتنافر المخل بالفصاحة ،
انما هو الغلبة كما هو شأن العلامات ، لا اللزوم.
ويشبه استواء
تقارب الحروف وتباعدها ـ في تحصيل التنافر ـ : استواء المثلين اللذين هما في غاية
الوفاق ، والضدين ، الذين هما في غاية الخلاف ، في كون كل من الضدين والمثلين : لا
يجتمع مع الآخر فلا يجتمع المثلان : لشدة تقاربهما ، وكما يقال : العداوة في
الأقارب ولا الضدان لشدة تباعدهما.
وحيث دار الحال
، بين الحروف المتباعدة والمتقاربة ، فالمتباعدة
اخف ، حتى جعل جماعة تباعد مخارج الحروف : من صفات الحسن.
ونقله ـ ابن
الأثير ـ في «كنز البلاغة» عن علماء البيان.
وقال ـ الخفاجي
ـ : انه شرط للفصاحة ، ورد عليه في ـ المثل السائر ـ : بانا نعلم الفصاحة قبل
العلم بالمخارج.
وهو ضعيف :
لأنه لم يجعل العلة العلم بتباعد المخارج ، بل نفس التباعد ، وذلك مدرك لكل سامع.
ثم قالوا : ان
كلام العرب ثلاثة اقسام ، اغلبه ما تركب من الحروف المتباعدة ، ويليه : تضعيف
الحرف نفسه ، واقله : المركب من الحروف المتجاورة ، فهو بين مهمل وقليل جدا.
وانما كان اقل
من المتماثلين ، وان كان فيهما ما في المتقاربين وزيادة لان المتماثلين يخففان
بالادغام.
قال ابن جنى في
آخر ـ سر الصناعة ـ : التأليف ثلاثة اضرب ، احدها : تأليف الحروف المتباعدة ، وهو
الأحسن.
الثاني : تضعيف
الحرف نفسه ، وهو يلي الأول في الحسن ، وتليهما الحروف المتقاربة ، فاما رفض او قل
استعماله.
وحيث كان
مدخلية الحرف بهذه المثابة من الغموض : (فالأولى : ان يحال الى سلامة الذوق) ،
المدرك للطائف الألفاظ ، وان لا يحكم : بأن منشأ التنافر ، ماذا.
وهذا : اقرب
الى الصواب ، ويؤيده : ما تقدم في اوائل الكتاب ، من ان مدرك الاعجاز : هو الذوق.
فالضابط المعول
عليه في ـ تنافر الحروف ، وعدمه ـ الذوق ، المدرك للطائف الألفاظ ، ووجوه تحسينه ،
سواء كان ذلك الذوق : بحسب
السليقة ، او : بطول خدمة هذا العلم وتوابعه ، فكل ما عده الذوق ثقيلا
متعسر النطق به ، كان ثقيلا والا ، فلا.
خلافا : لمن
جعل الضابط ـ في المقام ـ : قرب المخارج او بعدها لأن شيئا منهما لا يطرد ، كما بيناه
في نحو : جيش ، وشجى ، وعلم ، وملع.
ويؤيد ذلك : ما
قاله «الموصلي» في ـ المثل السائر ـ وهذا نصه : هل أخذ «علم البيان» من ضروب
الفصاحة والبلاغة ، بالاستقراء من اشعار العرب ، ام بالنظر وقضية العقل.
والجواب عن ذلك
، انا نقول : لم يؤخذ «علم البيان» بالاستقراء فان العرب الذين الفوا الشعر والخطب
، لا يخلو امرهم من حالين : اما انهم ابتدعوا ما اتوا به ، من ضروب الفصاحة
والبلاغة ، بالنظر وقضية العقل ، او اخذوه : بالاستقراء ممن كان قبلهم.
فان كانوا :
ابتدعوه عند وقوفهم على اسرار اللغة ، ومعرفة جيدها من رديئها ، وحسنها من قبيحها
، فكذلك هو الذي اذهب اليه.
وان كانوا :
اخذوه بالاستقراء ممن كان قبلهم ، فهذا يتسلسل الى اول من ابتدعه ولم يستقرئه ،
فان كل لغة من اللغات ، لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة ، المختصين بالألفاظ
والمعاني ، الا ان للغة العربية ، مزية على غيرها ، لما فيها من التوسعات ، التي
لا توجد في لغة اخرى سواها.
ثم قال : هل
علم البيان من الفصاحة والبلاغة : جار مجرى علم النحو ، ام لا؟
والجواب عن ذلك
: انا نقول : الفرق بينهما ظاهر ، وذاك : ان اقسام ـ النحو ـ اخذت من واضعها
بالتقليد ، حتى لو عكس القضية
فيها لجاز له ذلك ، ولما كان العقل يأباه وينكره ، فانه لو جعل الفاعل
منصوبا ، والمفعول مرفوعا ، قلد في ذلك ، كما قلد في رفع الفاعل ونصب المفعول.
واما «علم
البيان» من الفصاحة والبلاغة ، فليس كذلك ، لأنه استنبط بالنظر وقضية العقل ، من
غير واضع اللغة ، ولم يفتقر فيه الى التوقيف منه ، بل اخذت الفاظ ومعان على هيئة
مخصوصة ، وحكم لها العقل : بمزية من الحسن ، لا يشاركها فيها غيرها.
فان كل عارف
باسرار الكلام ، من اى لغة كانت من اللغات ، يعلم : ان اخراج المعاني في الفاظ
حسنة رائقة ، يلذها السمع ، ولا ينبو عنها الطبع ، خير من اخراجها في الفاظ قبيحة
مستكرهة ، ينبو عنها السمع.
ولو اراد واضع
اللغة : خلاف ذلك ، لما قلدناه.
فان قيل : لو
اخذت اقسام النحو بالتقليد من واضعها لما اقيمت الأدلة عليها وعلم بقضية النظر :
ان الفاعل يكون مرفوعا ، والمفعول منصوبا.
فالجواب عن ذلك
: انا نقول : هذه الادلة واهية ، لا تثبت على محك الجدل ، فان هؤلاء الذين تصدوا
لاقامتها ، سمعوا عن واضع اللغة : رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، من غير دليل ابداه
، لهم فاستخرجوا لذلك ادلة وعللا ، والا فمن أين علم هؤلاء : ان الحكمة التى دعت
الواضع الى رفع الفاعل ونصب المفعول ، هى التى ذكروها؟
(وقد سبق الى
بعض الأوهام) السخيفة ، صاحبه ـ الزوزنى ـ : (ان اجتماع الحروف المتقاربة المخرج ،
سبب للثقل) ، اي : للتنافر (المخل بفصاحة الكلمة).
فاستلزم توهمه
: القول باشتمال القرآن : على كلمة غير فصيحة
وهي قوله تعالى : (أَعْهَدْ) فى سورة يس ، فالتزم بذلك (و) قال : (انه) لا ينافي
القول : بكون القرآن فصيحا ، اذ (لا يخرج الكلام المشتمل على كلمة غير فصيحه ، عن
الفصاحة).
ومنشأ توهمه
السخيف : انه قاس المقام بالكلام العربى ، المشتمل على كلمة غير عربية ، وقال : (كما
لا يخرج الكلام) العربي ، (المشتمل على كلمة غير عربية ، عن كونه) ، اي : كون ذلك
الكلام العربي (عربيا ، فلا يخرج سورة) يس ، اي : الآية التي (فيها : (أَلَمْ أَعْهَدْ) عن الفصاحة).
اذ حاصل ما
يلزم ـ حينئذ ـ : انه يوصف الكل ، اعني : الكلام بوصف ، اعني : الفصاحة ، لا يوجد
في الجزء ، اعني : الكلمة ، لا محذور فيه على هذا الوهم ، قياسا على عربية الكلام
، دون بعض كلماته قال في ـ المختصر ، حاكيا لهذا القول ـ : قيل : ان قرب المخارج
سبب للثقل المخل بالفصاحة ، وان في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ) ثقلا قريبا من المتناهى ، فيخل بفصاحة الكلمة.
لكن الكلام
الطويل ، المشتمل على كلمة غير فصيحة ، لا يخرج عن الفصاحة ، كما لا يخرج الكلام
الطويل المشتمل على كلمة غير عربية : عن ان يكون عربيا ، انتهى.
(وايده بعضهم :
بان انتفاء وصف الجزء ، كفصاحة الكلمة ـ مثلا ـ لا يوجب انتفاء وصف الكل) ، كفصاحة
الكلام ـ في المقام ـ.
(و) لكن ، (هذا
التوهم) السخيف : (غلط فاحش).
اما اولا :
فلان لازم هذا التوهم : الخروج عن اصطلاح القوم في فصاحة الكلام ، (لان فصاحة
الكلمات ، مأخوذة في تعريف فصاحة
الكلام ، فكيف) يمكن للملتزم بالاصطلاح ان يقول : انه (لا يخرج الكلام
المشتمل على كلمة غير فصيحة : عن الفصاحة ، و) الحال : ان (فصاحة الكلمات) عند اهل
الاصطلاح : (جزء من مفهوم فصاحة الكلام ، لا وصف لجزئها) فقط؟
(و) اما ثانيا.
فلأن من شرط القياس ، اي : تشبيه شيء بشيء وجود علة الحكم في الأصل ، اعني :
المقيس عليه.
قال في ـ التهذيب
ـ : «التمثيل» بيان مشاركة جزئي آخر ، في علة الحكم ، ليثبت الحكم في الجزء الأول
، (اعني : الفرع ، اي : المقيس).
وبعبارة اخرى :
تشبيه جزئي بجزئي ، في معنى مشترك بينهما ، ليثبت في المشبه ، (اي : المقيس) :
الحكم الثابت في المشبه به ، المعلل بذلك المعنى.
كما يقال : النبيذ
حرام ، لأن الخمر حرام ، وعلة حرمته : الاسكار ، انتهى.
اذا عرفت ذلك ،
تعلم : ان (القياس) ، اي : قياس وقوع كلمة غير فصيحة في الكلام الفصيح ، (على وقوع
مفرد غير عربي في الكلام العربي : فاسد ، لأنه) اي : وقوع مفرد غير عربى في الكلام
العربي (ممنوع) ، لانكار الامام الشافعي وجماعة ذلك ، فلا بد للشارح من الالتزام
بالمنع ، لكونه شافعيا ظاهرا.
قال في ـ الاتقان
ـ : اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن فالاكثرون ومنهم : الامام الشافعى ،
وابن جرير ، وابو عبيدة ، والقاضي ابو بكر ، وابن فارس : على عدم وقوعه فيه ، لقوله
تعالى : (قُرْآناً
عَرَبِيًّا) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌّ) وقد شدد ـ الشافعي ـ النكير على القائل بذلك وقال ـ ابو
عبيدة ـ : انما انزل القرآن (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) ، فمن زعم : ان فيه غير العربية : فقد اعظم القول ، ومن
زعم : ان كذابا بالنبطية : فقد اكبر القول.
وقال ـ ابن اوس
ـ : لو كان فيه من لغة غير العرب شيء ، لتوهم متوهم : ان العرب انما عجزت عن
الاتيان بمثله ، لأنه اتى بلغات لا يعرفونها.
وقال ـ ابن
جرير ـ : ما ورد عن ابن عباس وغيره ، من تفسير الفاظ من القرآن : انها بالفارسية ،
او الحبشية ، او النبطية ، او نحو ذلك ، انما اتفق فيها توارد اللغات ، فتكلمت بها
العرب ، والفرس ، والحبشة ، بلفظ واحد.
وقال غيره : بل
كان للعرب العاربة ، التي نزل القرآن بلغتهم ، بعد مخالطة لسائر الألسنة في
اسفارهم ، فعلقت من لغاتهم الفاظ ، غيرت بعضها بالنقص من حروفها ، واستعملتها في
اشعارها ومحاوراتها ، حتى جرت مجرى العربي الفصيح ، ووقع بها البيان ، وعلى هذا
الحد نزل القرآن.
وقال آخرون :
كل هذه الألفاظ عربية صرفة ، ولكن لغة العرب متسعة جدا ، ولا يبعد ان تخفى على
الأكابر الجلة ، وقد خفى على ابن عباس معنى : فاطر ، وفاتح.
قال ـ الشافعي
، في الرسالة ـ : لا يحيط باللغة الا نبي.
قال ـ ابو
المعالي ابن عبد الملك ـ : انما وجدت هذه الألفاظ في
لغة العرب ، لأنها اوسع اللغات ، واكثرها الفاظا ، ويجوز ان يكونوا سبقوا
الى هذه الألفاظ. انتهى.
فتحصل من اقوال
هؤلاء : ان علة الحكم ، الذي هو صحة وصف الشيء بما ليس وصفا لجزئه ، لم توجد في
المقيس عليه ، اعني : الكلام العربي ، لان العلة ، ثبوت كلمة غير عربية في الكلام
العربي ، ثم توصيفه بالعربية ، ولم تثبت تلك العلة.
فقياس الكلام
المشتمل على كلمة غير فصيحة ، على الكلام المشتمل على كلمة غير عربية ، فاسد ،
والمستند : هو هذه الاقوال.
هذا ، ولكن لما
كان هذه الأقوال بمكان من الضعف ، لما صرح به ـ الچلبي ـ من صحة النقل عن فحول
الصحابة ، كابن عباس.
وعن التابعين ،
واعاظم اللغويين والنحويين ، في ـ باب غير المنصرف ـ : بوقوع غير العربي في القرآن
، بادر الى التسليم وقال :
(ولو سلم) :
وقوع مفرد غير عربي في الكلام العربي ـ وهو الحق لما سبق ولما يأتي ـ.
قال في ـ الاتقان
ـ : ذهب آخرون : الى وقوع مفرد غير عربي في الكلام العربي ، واجابوا عن قوله تعالى
: (قُرْآناً عَرَبِيًّا) : بان الكلمات اليسيرة بغير العربية ، لا تخرجه عن كونه
عربيا ، والقصيدة الفارسية ، لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية.
وعن قوله تعالى
: (ءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌّ) : بان المعنى من السياق : أكلام اعجمي ، ومخاطب عربي.
واستدلوا :
باتفاق النحاة : على ان منع صرف نحو «ابراهيم» للعلمية والعجمة.
ورد هذا
الاستدلال : بان «الأعلام» ليست محل خلاف ، فالكلام في غيرها.
واجيب : بأنه
اذا اتفق على وقوع الأعلام ، فلا مانع من وقوع الأجناس وأقوى ما رأيته للوقوع ـ وهو
اختياري ـ : ما اخرجه ـ ابن جرير ـ بسند صحيح ، عن ابي ميسرة التابعي الجليل ، قال
: في القرآن من كل لسان.
وروى مثله : عن
سعيد بن جبير ، ووهب بن منبه.
فهذا ، اشارة :
الى ان حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن : انه حوى علوم الأولين والآخرين ، ونبأ
كل شيء ، فلا بد ان تقع فيه الاشارة : الى انواع اللغات والألسن ، ليتم احاطته بكل
شيء.
فاختير له من
كل لغة اعذبها ، واخفها ، واكثرها استعمالا المعرب.
ثم رأيت ـ ابن
النقيب ـ صرح بذلك ، فقال : من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى ، المنزلة :
انها نزلت بلغة القوم الذين انزلت عليهم ، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم ، والقرآن
احتوى على جميع لغات العرب ، وانزل فيه بلغات غيرهم : من الروم ، والفرس ، والحبشة
شيء كثير ، انتهى.
و ـ ايضا ـ فالنبي
(ص) مرسل الى كل امة ، وقد قال تعالى. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) فلا بد وان يكون في الكتاب المبعوث به : من لسان كل قوم
، وان كان اصله بلغة قومه هو.
وقد رأيت ـ الخويني
ـ : ذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة اخرى ، فقال : ان قيل : ان (إِسْتَبْرَقٍ) ليس بعربي ، وغير العربي من الألفاظ
دون العربي في الفصاحة والبلاغة.
فنقول : لو
اجتمع فصحاء العالم ، وارادوا : ان يتركوا هذه اللفظة ، ويأتوا بلفظ يقوم مقامها
في الفصاحة ، لعجزوا عن ذلك.
وذلك : لأن
الله تعالى اذا حث عباده على الطاعة ، فان لم يرغبهم بالوعد الجميل ، ويخوفهم
بالعذاب الوبيل ، لا يكون حثه على وجه الحكمة ، فالوعد والوعيد نظرا الى الفصاحة :
واجب.
ثم ان الوعد
بما يرغب فيه العقلاء ، وذلك منحصر في امور : الاماكن الطيبة ، ثم المآكل الشهية ،
ثم المشارب الهنيئة ، ثم الملابس الرفيعة ، ثم المناكح اللذيذة ، ثم ما بعده مما
يختلف فيه الطباع.
فاذا ذكر
الأماكن الطيبة ، والوعد به لازم ـ عند الفصيح ـ ولو تركه لقال من امر بالعبادة.
ووعد عليها بالأكل والشرب : ان «الأكل والشرب» لا التذبه : اذا كنت في حبس او موضع
كريه ، فلذا : ذكر الله الجنة ، ومساكن طيبة فيها.
وكان ينبغي ان
يذكر من الملابس : ما هو ارفعها ، وارفع الملابس في الدنيا : الحرير ، واما الذهب
فليس مما ينسج منه ثوب.
ثم ان الثوب من
غير الحرير ، لا يعتبر فيه الوزن والثقل ، وربما يكون الصفيق الخفيف : ارفع من
الثقيل الوزين ، واما الحرير فكلما كان ثوبه اثقل ، كان ارفع ، فحينئذ وجب على
الفصيح : ان يذكر الاثقل الأثخن ، ولا يتركه في الوعد ، لئلا يقصر في الحث والدعاء.
ثم ان هذا
الواجب الذكر : اما ان يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح ، او لا يذكر بمثل هذا ، ولا
شك : ان الذكر باللفظ الواحد الصريح ، اولى ، لأنه اوجز ، واظهر في الافادة ، وذلك
: (إِسْتَبْرَقٍ).
فان اراد
الفصيح ان يترك هذا اللفظ ، ويأتى بلفظ آخر ، لم يمكنه لأن ما يقوم مقامه : اما
لفظ واحد ، او ألفاظ متعددة ، ولا يجد العربي لفظا واحدا يدل عليه ، لأن الثياب ـ من
الحرير ـ عرفها العرب من الفرس ، ولم يكن لهم بها عهد ، ولا وضع في اللغة العربية
للديباج الثخين اسم.
وانما عربوا ما
سمعوا من العجم ، واستغنوا به عن الوضع ، لقلة وجوده عندهم ، وندرة تلفظهم به.
واما ان يذكر
بلفظين فاكثر : فانه يكون قد اخل بالبلاغة ، لأن ذكر لفظين بمعنى يمكن ذكره بلفظ
واحد ، تطويل.
فعلم بهذا : ان
لفظ ـ استبرق ـ يجب على كل فصيح : ان يتكلم به في موضعه ، ولا يجد ما يقوم مقامه ،
واي فصاحة ابلغ : من ان لا يوجد غيره مثله؟
وقال ابو عبيد
القاسم بن سلام ـ بعد ان حكى القول بالوقوع عن الفقهاء ، والمنع : عن اهل العربية
ـ :
والصواب عندى :
مذهب فيه تصديق القولين جميعا. وذلك : ان هذه الأحرف اصولها اعجمية ـ كما قال
الفقهاء ـ ، لكنها وقعت للعرب ، فعربتها بألسنتها ، وحولتها عن ألفاظ العجم الى
الفاظها ، فصارت عربية.
ثم نزل القرآن
ـ وقد اختلطت هذه الحروف : بكلام العرب ـ فمن قال انها عربية ، فهو صادق ، ومن قال
: عجمية ، فصادق.
ومال الى هذا
القول : الجواليقى ، وابن الجوزى ، وآخرون. انتهى.
(تنبيه) ، قال
في ـ المزهر ـ : «المعرب» هو ما استعملته العرب : من الالفاظ ، الموضوعة لمعان في
غير لغتها.
قال الجوهرى ـ في
الصحاح ـ : تعريب الاسم الأعجمي. ان تتفوه به العرب على منهاجها ، تقول : عربته
العرب ، وأعربته ـ ايضا ـ.
قال ـ ابن سلام
ـ : اما لغات العجم في القرآن ، فان الناس اختلفوا فيها ، فروى : عن ابن عباس ،
ومجاهد ، وابن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وغيرهم من اهل العلم.
وقال ـ الامام
الرازى واتباعه ـ : ما وقع في القرآن : من نحو «المشكاة» و «القسطاس» و «ال (إِسْتَبْرَقٍ)» و «ال (سِجِّيلٍ) لا نسلم انها غير عربية ، بل غايته : ان وضع العرب فيها
وافق لغة اخرى كالصابون ، والتنور ، فان اللغات فيها متفقة ، والفرق بين هذا النوع
وبين المعرب : ان المعرب له اسم في لغة العرب غير اللفظ الأعجمى ، الذى استعملوه
بخلاف هذا.
قال ـ الجواليقى
ـ : المعرب عجمى باعتبار الأصل ، عربى باعتبار الحال ، ويطلق على المعرب : «دخيل».
وقال ابو حيان
في ـ الارتشاف ـ : الاسماء الأعجمية ، على ثلاثة اقسام :
قسم غيرته
العرب والحقته بكلامها ، فحكم ابنيته ـ في اعتبار الاصلي والزائد والوزن ـ : حكم
ابنية الأسماء العربية الوضع ، نحو : درهم وبهرج.
وقسم غيرته ولم
تلحقه بأبنية كلامها ، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في القسم الذي قبله ، نحو : آجر.
وقسم تركوه غير
مغير ، فما لم يلحقوه بأبنية كلامهم : لم يعد منها وما الحقوه بها : عد منها.
مثال الأول : «خراسان»
لا يثبت به «فعالان».
ومثال الثاني :
«خرم» الحق «بسلم» و «كركم» الحق «بقمقم».
(تبصرة) ، قال
ائمة اللغة : تعرف عجمية الاسم بوجوه : احداها : النقل ، بان ينقل ذلك : احد أئمة
اللغة.
الثاني : خروجه
عن اوزان الاسماء العربية ، نحو : «ابريسم» فان مثل هذا الوزن ، مفقود في ابنية
الاسماء في اللسان العربي.
الثالث : ان
يكون اوله : ـ نون ثم راء ـ نحو : «نرجس» فان ذلك لا يكون في كلمة عربية.
الرابع : ان
يكون آخره ـ زاي ـ بعد ـ دال ـ نحو : «مهندز» فان ذلك لا يكون في كلمة عربية.
الخامس : ان
يجتمع فيه ـ الصاد. والجيم ـ نحو «الصولجان» و «الجص».
السادس : ان
يجتمع فيه : ـ الجيم ، والقاف ـ نحو : «المنجنيق».
السابع : ان
يكون خماسيا ، او رباعيا ، عاريا عن حروف «الزلاقة» وهى حروف «مر بنفل» وقد بينا
وجه التسمية بها ، في ـ المكررات ، فى باب الامالة ـ فانه متى كان عربيا ، فلا بد
ان يكون فيه شيء منها ، نحو : «سفرجل ، وقذعمل ، وقرطعب ، وجحمرش».
وقال ـ الفارابى.
في ديوان الأدب ـ : «القاف والجيم» لا يجتمعان في كلمة واحدة في كلام العرب ، و «الجيم
والتاء» لا تجتمع في كلمة من غير حرف زولقى.
ولهذا : ليس «الجبت»
من محض العربية.
و «الجيم
والصاد» لا يأتلفان في كلام العرب.
ولهذا : ليس «الجص»
ولا «الاجاص» ولا «الصولجان» بعربى و «الجيم والطاء» لا يجتمعان في كلمة واحدة.
ولهذا : كان «الطاجن»
و «الطيجن» مولدين ، لأن ذلك
لا يكون في كلامهم الاصلى ، (وفي الجبت نظر).
وفي ـ الصحاح ـ
: المهندز ، الذي يقدر مجاري القنى والأبنية ، معرب ، وصيروا زاءه سينا ، فقالوا :
«مهندس» لأنه ليس في كلام العرب : زاي قبلها دال.
وقال ـ ايضا ـ :
الجيم والقاف ، لا يجتمعان : في كلمة واحدة من كلام العرب ، الا ان تكون معربة ،
او حكاية صوت.
نحو : الجردقة
، وهو : الرغيف ، والجرموق : الذي يلبس فوق الخف ، والجرامقة : قوم بالموصل ،
اصلهم من العجم.
والجوسق :
القصر ، وجلق : موضع بالشام ، والجوالق : وعاء ، والجلاهق : البندق.
والمنجنيق :
التي يرمى بها الحجارة ، ومعناها : ما أجودني ، يعني : (من چه نيك).
وجلنبلق :
حكاية صوت الباب الضخم ، في حالة فتحه واصفاقه : وانشد المازني :
فتفتحه طورا
وطورا تجيفه
|
|
فتسمع في
الحالين منه جلنبلق
|
قال ـ ابن دريد
، في الجمهرة ـ : العرب تجعل ـ الظاء ، طاء ـ الا تراهم : سموا الناظر ، ناطورا.
وفي ـ مختصر
العين ـ : الناظر ، والناطور ، حافظ الزرع ، وليست بعربية.
قال ـ الثعالبي
، في فقه اللغة ـ : فصل : في سياقة اسماء تفرد بها الفرس دون العرب ، فاضطرت العرب
الى تعريبها ، او تركها كما هي.
من ذلك : الكوز
، الجرة ، الابريق ، الطشت ، الخوان ، الطبق
القصعة ، السندس ، الياقوت ، المسك ، العنبر ، الكافور.
ومن الرومية :
الفردوس ، وهو : البستان ، القسطاس : وهو الميزان ، القنطار : اثنتا عشرة ألف
اوقية. انتهى باختصار.
قال ـ في
المزهر ـ : قال ـ الأصمعي ـ : العراق اصلها بالفارسية ويران شهر ، اي : البلد
الخراب ، فعربوها ، فقالوا : العراق ، والخورنق واصله : خرانكه ، اي : موضع الشرب.
والسرير ،
واصله : سه دلى ، اي : ثلاث قباب بعضها في بعض.
والخندق ،
واصله : كنده ، اي : محفور.
والجوسق ،
واصله : كوشك.
والعسكر ،
واصله ، لشكر.
والاستبرق ،
غليظ الحرير ، واصله : استروه.
وقال في ـ الصحاح
ـ : الدولاب ، والميزاب ، والدهليز ، وهو : ما بين الباب والدار ، والطراز ، والقز
من الابريسم ، والبوس ، بمعنى : التقبيل ، والجاموس ، والطيلسان ، والمغنطيس ،
والكرباس ، والمارستان ، والصك .. انتهى ، كل ذلك باختصار.
والغرض من ذكر
هذه الأقوال من هؤلاء ، وهم ائمة اللغة واساتيد الفن والصناعة ، ان لا نغتر بما
قاله الجماعة : من عدم وقوع مفرد غير عربى في القرآن.
اذ كثير من هذه
الألفاظ التى قال هؤلاء الأئمة : بأنها غير عربية ، موجود في القرآن.
قال في ـ المزهر
ـ : هذا سرد الألفاظ الواردة في القرآن من ذلك ، مرتبة على حروف المعجم : (أَبارِيقَ) ، حكى الثعالبى ـ في فقه اللغة ـ : انها فارسية ، وقال
الجواليقى : ـ الابريق ـ فارسى معرب ومعناه : طريق الماء ، اوصب الماء على
هينة.
(اب) ، قال
بعضهم : هو الحشيش ـ بلغة اهل الغرب ـ حكاه شيدلة (ابْلَعِي) ، اخرج ابن ابى حاتم ، عن وهب بن منبه ، في قوله تعالى
: (ابْلَعِي ماءَكِ) قال : بالحبشة ، ازدرديه.
واخرج ابو
الشيخ : من طريق جعفر بن محمد ، عن ابيه ، قال : اشربي ـ بلغة الهند ـ.
(أَخْلَدَ) ، قال الواسطى فى ـ الارشاد ـ : اخلد الى الأرض ، ركن ـ
بالعبرية ـ.
(الْأَرائِكِ) حكى ـ ابن الجوزي ـ في «فنون الأفنان» : انها السرير ـ بالحبشية
ـ.
(آزَرَ) ، عد في ـ المعرب ـ على قول من قال : انه ليس بعلم لأبي
ابراهيم ، ولا للصنم ، وقال ابن ابي حاتم : ذكر عن معمر ابن سليمان ، قال : سمعت
أبي يقرأ : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) يعني : بالرفع ، قال : بلغني انها اعوج ، وانها اشد
كلمة قالها ابراهيم لأبيه ، وقال بعضهم : هي بلغتهم : يا مخطىء.
(اسباط) ، حكى
ـ ابو الليث ، في تفسيره ـ : انها بلغتهم ، كالقبائل بلغة العرب.
(إِسْتَبْرَقٍ) ، اخرج ـ ابن ابي حاتم ـ عن الضحاك : انه الديباج
الغليظ ، بلغة العجم.
(اسفار) ، قال
ـ الواسطي ، في الارشاد ـ : هي الكتب ـ بالسريانية ـ واخرج ـ ابن ابي حاتم ـ عن
الضحاك ، قال : هي الكتب ـ بالنبطية ـ (إِصْرِي) ، قال ـ ابو القاسم ، في لغات القرآن ـ : معناه :
عهدي ـ بالنبطية ـ.
(أَكْوابٍ) ، حكى ـ ابن الجوزي ـ : انها الأكواز ـ بالنبطية ـ واخرج
ـ ابن جرير ـ عن الضحاك : انها ـ بالنبطية ـ ، وانها : جرار ليست لها عرى.
(ال) قال ـ ابن
جنى ـ : ذكروا : انه اسم الله تعالى ـ بالنبطية ـ (أَلِيمٌ) ، حكى ـ ابن الجوزى ـ : انه الموجع بالزنجية ، وقال
شيدلة : ـ بالعبرانية ـ.
(إِناهُ) : نضجه ـ بلسان اهل المغرب ـ ، ذكره شيدلة ، وقال ابو
القاسم : بلغة البربر ، وقال في قوله تعالى : (حَمِيمٍ آنٍ) هو الذي انتهى حره بها.
وفي قوله تعالى
: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) اي : حارة بها.
(أَوَّاهٌ) ، اخرج ابو الشيخ ابن حيان ، من طريق عكرمة ، عن ابن
عباس ، قال : الأواه : الموفن ـ بلسان الحبشة ـ واخرج ـ ابن ابى حاتم ـ مثله عن
مجاهد ، وعكرمة ، واخرج عن عمرو بن شرحبيل قال : الرحيم ـ بلسان الحبشة ـ وقال
الواسطي : الأواه : الدعاء ـ بالعبرية ـ.
(أَوَّابٌ) ، اخرج ابن أبي حاتم ، عن عمرو بن شرحبيل ، قال : الأواب
: المسبح بلسان الحبشة ، واخرج ـ ابن جرير ـ عنه ، في قوله تعالى : (أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحى ، ـ بلسان الحبشة ـ.
(الْأُولى) و (الْآخِرَةُ) ، قال ـ شيدلة ـ : الجاهلية الاولى ، اي : الآخرة في
الملة ، الآخرة ، اي : الاولى ـ بالقبطية ـ والقبط يسمون الآخرة : الاولى ،
والاولي : الآخرة ، وحكاه الزركشي ـ في البرهان ـ
(بَطائِنُها) ، قال شيدلة : في قوله تعالى : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) اي : ظواهرها ، ـ بالقبطية ـ وحكاه الزركشى.
(بَعِيرٍ) ، اخرج الفريايى ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : (كَيْلَ بَعِيرٍ) اي : كيل حمار ، وعن مقاتل : ان البعير ، كل ما يحمل
عليه ـ بالعبرانية ـ.
(بَيْعٌ) ، قال الجواليقي ـ في كتاب المغرب ـ : البيعة ،
والكنيسة جعلهما بعض العلماء : فارسيين معربين.
(التَّنُّورُ) ذكر الجواليقي ، والثعالبى : انه فارسى معرب.
(تَتْبِيراً) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله تعالى
: (وَلِيُتَبِّرُوا ما
عَلَوْا تَتْبِيراً) قال : تبره ـ بالنبطية ـ.
(تَحْتِ) ، قال ابو القاسم ـ في لغات القرآن ـ في قوله تعالى : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) أي : بطنها ـ بالنبطية ـ ونقل الكرماني ـ في العجائب ـ :
مثله عن مورخ.
(بِالْجِبْتِ) ، اخرج ابن ابى حاتم ، عن ابن عباس ، قال : الجبت : اسم
الشيطان ، ـ بالحبشية ـ واخرج عبد بن حميد ، عن عكرمة ، قال : الجبت ـ بلسان
الحبشة ـ : الشيطان ، واخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجبت : الساحر ،
بلسان الحبشة.
(جَهَنَّمُ) ، قيل : عجمية ، وقيل : فارسية ، وقيل : عبرانية ،
اصلها : كهنام.
(حَرَّمَ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن عكرمة : وحرم : وجب ـ بالحبشية
ـ.
(حَصَبُ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى :
(حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال : حطب جهنم ـ بالزنجية ـ.
(حِطَّةٌ) ، قيل : معناه : قولوا صوابا ، بلغتهم.
(الْحَوارِيُّونَ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن الضحاك ، قال : الحواريون
الغسالون ـ بالنبطية ـ واصله : هواري.
(حوبا) ، عن
ابن عباس ، انه قال : حوبا : اثما ـ بلغة الحبشة ـ (دارست) ، معناه : قارأت ـ بلغة
اليهود ـ.
(دُرِّيٌّ) معناه : المضيء ، بالحبشية ، حكاه شيدلة ، وابو القاسم.
(بِدِينارٍ) ، ذكر الجواليقى وغيره : انه فارسي.
(راعِنا) ، اخرج ابو نعيم ـ في دلائل النبوة ـ عن ابن عباس ، قال
: راعنا : سب ـ بلسان اليهود ـ.
(الرَّبَّانِيُّونَ) ، قال الجواليقي : قال ابو عبيدة : العرب لا تعرف
الربانيين ، وانما عرفها : الفقهاء ، واهل العلم ، قال : واحسب الكلمة ليست بعربية
، وانما هي عبرانية ، او سريانية ، وجزم ابو القاسم : بأنها سريانية.
(رِبِّيُّونَ) ، ذكر ابو حاتم ، احمد بن حمدان اللغوي في كتاب ـ الزينة
ـ : انها سريانية.
(الرَّحْمنِ) ، ذهب المبرد ، والثعلب : الى انه عبراني ، واصله ـ بالخاء
ـ.
(الرَّسِّ) ، في العجائب للكرماني : انه عجمي ، ومعناه : البئر.
(الرَّقِيمِ) ، قيل : انه اللوح ـ بالرومية ـ حكاه شيدلة ، وقال ابو
القاسم : هو الكتاب بها ، وقال الواسطي : هو الدواة بها.
(رَمْزاً) ، عده ابن الجوزي ـ في فنون الافنان ـ : من المعرب
وقال الواسطي : هو تحريك الشفتين ـ بالعبرية ـ.
(رَهْواً) ، قال ابو القاسم ـ في قوله تعالى ـ : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) اي : سهلا ، دمثا ـ بلغة النبط ـ. وقال الواسطي : اي :
ساكنا ـ بالسريانية ـ.
(الرُّومُ) ، قال الجواليقي : هو اعجمي. اسم لهذا الجيل من الناس (زنجبيل)
، ذكر الجواليقي ، والثعالبي : انه فارسي.
(السِّجِلِّ) ، اخرج ابن مردويه ، من طريق ابي الجوزاء ، عن ابن عباس
، قال : السجل ـ بلغة الحبشة ـ : الرجل ، وفي المحتسب ـ لابن جنى ـ : السجل :
الكتاب ، قال قوم : هو فارسي معرب.
(سِجِّيلٍ) ، اخرج الفريابي ، عن مجاهد ، قال : سجيل ـ بالفارسية ـ
اولها : حجارة ، وآخرها : طين ، (سِجِّينٍ) ذكر ابو حاتم ـ في كتاب الزينة ـ : انه غير عربي.
(سرادق) ، قال
الجواليقي : فارسي معرب ، واصله : سرادر ، وهو الدهليز ، وقال غيره : الصواب : انه
ـ بالفارسية ـ سراپرده ، اي : ستر الدار.
(سرى) ، اخرج
ابن ابي حاتم ، عن مجاهد ـ في قوله تعالى ـ : (سَرِيًّا) قال : نهرا بالسريانية ، وعن سعيد بن جبير ـ بالنبطية ـ
وحكى سيدلة : انه ـ باليونانية ـ.
(سَفَرَةٍ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، من طريق ابن جريح ، عن ابن عباس
، في قوله تعالى : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال : ـ بالنبطية ـ : القراء (سَقَرَ) ، ذكر الجواليقي : انها عجمية.
(سُجَّداً) ، قال الواسطي ـ في قوله تعالى ـ : (وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً) اي : مقنعي الرؤوس ـ بالسريانية ـ.
(سَكَراً) ، اخرج ابن مردويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال
: السكر ـ بلسان الحبشة ـ : الخل.
(سلسبيل) ، حكى
الجواليقي : انه اعجمي.
(سَنا) ، عده الحافظ ابن حجر ـ في نظمه ـ : ولم اقف عليه لغيره
،
(سُنْدُسٍ) ، قال الجواليقي : هو رقيق الديباج ـ بالفارسية ـ وقال
الليث : لم يختلف اهل اللغة والمفسرون : في انه معرب ، وقال شيدلة : هو ـ بالهندية
ـ.
(سَيِّدَها) ، قال الواسطي ـ في قوله تعالى ـ : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) اي : زوجها ـ بلسان القبط ـ قال ابو عمرو : لا اعرفها
في لغة العرب.
(سِينِينَ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، وابن جرير ، عن عكرمة ، قال :
سينين : الحسن ـ بلسان الحبشة ـ.
(سَيْناءَ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن الضحاك ، قال : سيناء
بالنبطية : الحسن.
(شطرا) ، اخرج
ابن ابي حاتم ، عن رفيع ـ في قوله تعالى ـ : (شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) قال : تلقاء ـ بلسان الحبش ـ.
(شَهْرُ) ، قال الجواليقي : ذكر بعض اهل اللغة ، انه ـ بالسريانية
ـ.
(الصِّراطَ) ، حكى النقاش ، وابن الجوزي : انه الطريق ـ بلغة الروم
ـ ثم رأيته في كتاب. الزينة ـ لأبي حاتم.
(صرهن) ، اخرج
ابن جرير ، عن ابن عباس ـ في قوله تعالى ـ : (فَصُرْهُنَّ) قال : هي ـ نبطية ـ : فشققهن ، واخرج مثله عن الضحاك
واخرج ابن المندر ، عن وهب بن المنبه ، قال : ما من اللغة شيء الا منها في
القرآن شيء ، قيل : وما فيه من الرومية؟ قال : (فَصُرْهُنَّ) يقول : قطعهن.
(صَلَواتٌ) ، قال الجواليقي : هي ـ بالعبرانية ـ : كنائس اليهود
واصلها : صلوتا ، واخرج ابن ابي حاتم نحوه ، من الضحاك.
(طه) ، اخرج الحاكم ـ في المستدرك ـ من طريق عكرمة ، عن ابن
عباس ، في قوله تعالى : (طه) قال : هو كقولك : يا محمد ـ بلسان الحبش ـ واخرج ابن ابي
حاتم ، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : طه ـ بالنبطية ـ واخرج عن سعيد
بن جبير ، قال : طه يا رجل ـ بالنبطية ـ واخرج عن عكرمة ، قال : طه : يا رجل ـ بلسان
الحبشة ـ.
(بِالطَّاغُوتِ) ، هو الكاهن ـ بالحبشية ـ.
(طَفِقا) ، قال بعضهم : معناه : قصدا ـ بالرومية ـ حكاه شيدلة.
(طُوبى) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : طوبى : اسم
الجنة ـ بالحبشية ـ ، واخرج ابو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال : ـ بالهندية ـ.
(طُورِ) اخرج الفريابي ، عن مجاهد ، قال : الطور : الجبل ـ بالسريانية
ـ واخرج ابن ابي حاتم ، عن الضحاك : انه ـ بالنبطية ـ.
(طُوىً) ، في ـ العجائب ـ للكرماني ، قيل : هو معرب ، معناه
ليلا ، وقيل : هو رجل ـ بالعبرانية ـ.
(عَبَّدْتَ) ، قال ابو القاسم ـ في قوله تعالى ـ : (عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) معناه : قتلت ـ بلغة النبط ـ.
(عَدْنٍ) ، اخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، انه سأل كعبا
عن قوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) قال : جنات الكروم ، والاعناب ـ بالسريانية ـ ومن تفسير
جويبر : انه ـ بالرومية ـ.
(الْعَرِمِ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن مجاهد ، قال : العرم ـ الحبشية
ـ : هي المسناة ، التي يجمع فيها الماء ، ثم ينبثق.
(غَسَّاقٌ) ، قال الجواليقي ، والواسطي : هو البارد المنتن ـ بلسان
الترك ـ ، واخرج ابن جرير ، عن عبد الله بن بريدة ، قال : الغساق :
المنتن ، وهو ـ
بالطخارية ـ.
(غِيضَ) ، قال ابو القاسم : غيض : نقص ـ بلغة الحبشة ـ.
(الْفِرْدَوْسِ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن مجاهد ، قال : الفردوس بستان
ـ بالرومية ـ ، واخرج عن السدي ، قال : الكرم ـ بالنبطية ـ واصله : فرداسا.
(فوم) ، قال
الواسطي : هو الحنطة ـ بالعبرية ـ.
(قَراطِيسَ) ، الجواليقي ، يقال ان القرطاس ، اصله غير عربي.
(الْقِسْطَ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن مجاهد ، قال : القسط : العدل
ـ بالرومية ـ.
(بِالْقِسْطاسِ) ، اخرج الفرياني ، عن مجاهد ، قال : القسطاس : العدل ـ بالرومية
ـ.
واخرج ابن ابي
حاتم ، عن سعيد بن جبير ، قال : القسطاس ـ بلغة الروم ـ : الميزان.
(قَسْوَرَةٍ) ، اخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، قال : الأسد يقال له ـ
بالحبشية ـ : قسورة.
(قِطَّنا) ، قال ابو القاسم : معناه : كتابنا ـ بالنبطية ـ.
(قفل) ، حكى
الجواليقي ـ عن بعضهم ـ : انه فارسي معرب.
(الْقُمَّلَ) ، قال الواسطي : هو الدبا ـ بلسان العبرية ، والسريانية
قال ابو عمرو : لا اعرفه في لغة احد من العرب ، انه فارسي معرب.
(بِقِنْطارٍ) ، ذكر الثعالبي ـ في فقه اللغة ـ : انه ـ بالرومية ـ : اثنتا
عشر الف اوقية ، وقال الخليل : زعموا انه ـ بالسريانية ـ : ملؤ جلد ثور ، ذهبا او
فضة ، وقال بعضهم : انه ـ بلغة بربر ـ : الف مثقال ، وقال ابن قتيبة : قيل : انه
ثمانية آلاف مثقال ـ بلسان اهل افريقية ـ : (الْقَيُّومُ) ، قال الواسطي : هو الذي لا ينام ـ بالسريانية ـ.
(كافور) ، ذكر
الجواليقي وغيره : انه فارسى معرب.
(كَفِّرْ) ، قال ابن الجوزي : (كَفِّرْ عَنَّا) معناه : امح عنا ـ بالنبطية ـ واخرج ابن ابى حاتم ، عن
ابي عمران الجوني ، في قوله تعالى : (كَفَّرَ عَنْهُمْ) قال ـ بالعبرانية ـ محا عنهم.
(كِفْلَيْنِ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن ابي موسى الأشعري ، قال :
كفلين : ضعفين ـ بالحبشية ـ.
(كَنْزٌ) ، ذكر الجواليقي : انه فارسي معرب.
(كُوِّرَتْ) ، اخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير ، قال : كورت : غورت
، وهي ـ بالفارسية ـ.
(لِينَةٍ) ، في الارشاد ـ للواسطي ـ : هي النخلة ، قال الكلبي لا
اعلمها الا بلسان ـ يهود يثرب ـ.
(مُتَّكَأً) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن سلمة بن تمام الشقري ، قال :
متكأ ـ بلسان الحبش ـ يسمون الترنج : متكأ.
(الْمَجُوسَ) ، ذكر الجواليقي : انه اعجمي.
(الْمَرْجانُ) ، حكى الجواليقى ـ عن بعض اهل اللغة ـ : انه أعجمى.
(مسك) ، ذكر
الثعالبي : انه فارسى.
(كَمِشْكاةٍ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن مجاهد ، قال : المشكاة : الكوة
ـ بلغة الحبشة ـ.
(مَقالِيدُ) ، اخرج الفريابى ، عن مجاهد ، قال : مقاليد : مفاتيح ـ بالفارسية
ـ قال ابن دريد ، والجواليقى : الاقليد ، والمقليد : المفتاح ـ فارسى ـ معرب.
(مَرْقُومٌ) ، قال الواسطي ـ في قوله تعالى ـ : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) اي : مكتوب ـ بلسان العبرية ـ.
(مُزْجاةٍ) ، قال الواسطى : مزجاة : قليلة ـ بلسان العجم ـ وقيل :
ـ بلسان القبط ـ.
(مَلَكُوتَ) ، اخرج ابن ابى حاتم ، عن عكرمة ، في قوله تعالى : (مَلَكُوتَ السَّماواتِ) قال هو الملك ، ولكنه بكلام ـ النبطية ـ ملكوتا واخرجه
ابو الشيخ ، عن ابن عباس ، وقال الواسطى ـ في الارشاد ـ : هو الملك ، بلسان ـ النبط
ـ.
(مَناصٍ) ، قال ابو القاسم : معناه : فرار ـ بالنبطية ـ.
(منسأة) ، اخرج
ابن جرير ، عن السدي ، قال : المنسأة : العصا ، بلسان ـ الحبشة ـ.
(مُنْفَطِرٌ) ، اخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ممتلئة به ، بلسان ـ الحبشة ـ.
(كَالْمُهْلِ) ، قيل : هو عكر الزيت ، بلسان ـ اهل المغرب ـ
حكاه شيدلة ، وقال ابو القاسم : بلغة ـ البربر ـ.
(ناشِئَةَ) ، اخرج الحاكم ـ في مستدركه ـ عن ابن مسعود ، قال : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) : قيام الليل ـ بالحبشية ـ واخرج البيهقى ، عن ابن عباس
، مثله.
(ن) حكى الكرمانى ـ في العجائب ـ عن الضحاك : انه فارسى
اصله : انون ، ومعناه : اصنع ما شئت.
(هُدْنا) ، قيل : معناه : تبنا ـ بالعبرانية ـ حكاه شيدلة ،
وغيره
(هُودُ) ، قال الجواليقى : الهود : اليهود ـ اعجمى ـ.
(هُونٍ) ، اخرج ابن ابى حاتم ، عن ميمون بن مهران ـ في قوله
تعالى ـ : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْناً) قال : حكماء ـ بالسريانية ـ واخرج عن الضحاك ، مثله ،
واخرج عن ابى عمران الجونى : انه ـ بالعبرانية ـ.
(هَيْتَ لَكَ) ، اخرج ابن ابى حاتم ، عن ابن عباس ، قال : هيت لك :
هلم لك ـ بالقبطية ـ وقال الحسن : هى ـ بالسريانية ـ كذلك ، اخرجه ابن جرير وقال
عكرمة : هي ـ بالحورانية ـ كذلك اخرجه ابو الشيخ ، وقال ابو زيد الأنصاري : هي ـ بالعبرانية
ـ واصله : هيتلج ، اي : تعاله.
(وَراءَ) ، قيل : معناه : امام ـ بالنبطية ـ حكاه شيدلة ، وابو
القاسم ، وذكر الجواليقي : انه غير عربية.
(وَرْدَةً) ، ذكر الجواليقي : انها غير عربية.
(وِزْرَ) ، قال ابو القاسم : هو الحبل والملجأ ـ بالنبطية ـ.
(الْياقُوتُ) ، ذكر الجواليقي ، والثعالبي ، وآخرون : انه ـ فارسي ـ.
(يَحُورَ) ، اخرج ابن ابي حاتم ، عن داوود بن هند ـ في قوله تعالى
ـ : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ
لَنْ يَحُورَ) قال ـ بلغة الحبشة ـ : يرجع واخرج مثله عن عكرمة.
(يس) اخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ـ في قوله تعالى ـ : (يس) يا انسان ـ بالحبشية ـ واخرج ابن ابي حاتم ، عن سعيد
ابن جبير ، قال : يس ، يا رجل ـ بلغة الحبشة ـ.
(يَصُدُّونَ) ، قال ابن الجوزي : معناه : يضجون ـ بالحبشية ـ.
(يُصْهَرُ) ، قيل : معناه : ينضج ، بلسان ـ اهل المغرب ـ حكاه
شيدلة.
(أَلِيمٌ) ، قال ابن قتيبة : اليم : البحر ـ بالسريانية ـ وقال
ابن الجوزي ـ : بالعبرانية ـ وقال شيدلة : ـ بالقبطية ـ.
(الْيَهُودُ) ، قال الجواليقي : اعجمي معرب ، منسوبون الى يهود ابن
يعقوب ، فعرب باهمال الدال .. انتهى.
ثم قال : فهذا
ما وقفت عليه ، من الألفاظ المعربة في القرآن ، بعد الفحص الشديد سنين ، انتهى.
(تنبيه) ، قد
يتوهم ، بل يستدل : على وقوع مفرد غير عربي في «القرآن» بطريق آخر ، وهو : القول
بثبوت الحقيقة الشرعية ، لأنه مستلزم لذلك.
قال ـ في
المعالم ما حاصله : ان الألفاظ التي استعملها الشارع ، في خلاف معانيها اللغوية ،
وقد جاء في القرآن كثير منها ، كاستعمال «الصلوة» : في الأفعال المخصوصة ، بعد
وضعها في اللغة : للدعاء ، وكاستعمال «الزكاة» : في القدر المخرج من المال ، بعد
وضعها في
اللغة : للنمو ، وكاستعمال «الحج» في اداء المناسك ، اي : الأفعال المخصوصة
، بعد وضعه في اللغة : لمطلق القصد ، انما هي حقائق شرعية بحيث : تدل تلك الألفاظ
: على تلك المعاني الجديدة ، بغير قرينة.
فهي غير عربية
، اذ لم تكن تعرف العرب : تلك المعاني الجديدة حتى تستعملها في تلك المعاني ، فلا
تكون تلك الألفاظ عربية ، اذ كون لفظ من لغة ، فرع استعمال أهل تلك اللغة : ذلك
اللفظ في المعنى.
وهذا الاستعمال
: فرع معرفة المعنى ، والمفروض : ان العرب لم تكن تعرف المعاني الشرعية الجديدة ،
فليست ألفاظها بعربية.
قال ابن فارس ـ
في فقه اللغة ـ : باب الاسماء الاسلامية.
ثم قال : كانت
العرب في جاهليتها : على ارث من ارث آبائهم : في لغاتهم ، وادابهم ، ونسائكهم ،
وقرابينهم ، فلما جاء الله تعالى بالاسلام حالت احوال ، ونسخت ديانات ، وابطلت
امور ، ونقلت من اللغة الفاظ عن مواضع الى مواضع أخر ، بزيادات زيدت ، وشرايع شرعت
، وشرائط شرطت ، فعفى الآخر الأول.
فكان مما جاء
في الإسلام : ذكر المؤمن ، والمسلم ، والكافر ، والمنافق.
وان العرب ،
انما عرفت المؤمن : من الأمان ، والايمان ، هو التصديق.
ثم زادت
الشريعة شرائط ، واوصافا ، بها سمى المؤمن بالاطلاق : مؤمنا ، وكذلك الاسلام
والمسلم ، انما عرفت منه اسلام الشيء.
ثم جاء في
الشرع من اوصافه ما جاء.
وكذلك كانت لا
تعرف من الكفر ، الا الغطاء والستر فاما المنافق. فاسم جاء به الاسلام ، لقوم
ابطنوا غير ما اظهروه ،
وكان الأصل : من نافقاء : اليربوع.
ولم يعرفوا في
الفسق ، الا قولهم : فسقت الرطبة ، اذا خرجت من قشرها ، وجاء الشرع : بان الفسق ،
الافحاش في الخروج عن طاعة الله تعالى.
ومما جاء في
الشرع : «الصلوة» واصله ـ في لغتهم ـ : الدعاء ، وقد كانوا يعرفون الركوع والسجود
، وان لم يكن على هذه الهيئة.
قال ابو عمرو :
اسجد الرجل : طأطأ رأسه ، وانحنى ، وانشد : (فقلن له اسجد لليلى فاسجدا) يعني :
البعير اذا طأطأ رأسه لتركبه.
وكذلك : «الصيام»
اصله ـ عندهم ـ : الامساك ، ثم زادت الشريعة النية ، وحظرت الأكل والمباشرة ،
وغيرهما من شرايع الصوم.
وكذلك : «الحج»
لم يكن فيه ـ عندهم ـ غير القصد ، ثم زادت الشريعة ما زادته : من شرائط الحج ،
وشعائره.
وكذلك «الزكاة»
لم تكن العرب تعرفها : الا من ناحية النماء ، وزاد الشرع فيما ما زاده ، وعلى هذا
سائر أبواب الفقه.
فالوجه في هذا
: اذا سئل الانسان عنه ، ان يقول : فيه اسمان : لغوي ، وشرعي ، ويذكر ما كانت
العرب تعرفه ، ثم ما جاء الاسلام به.
وكذلك : سائر
العلوم ، كالنحو ، والشعر ، كل ذلك له اسمان : لغوى ، وصناعي ، انتهى كلام ابن
فارس.
وقال ـ ايضا ـ في
باب آخر : قد كانت حدثت في صدر الاسلام اسماء ، وذلك قولهم ـ لمن ادرك الاسلام من
اهل الجاهلية ـ : مخضرم ، فاخبرنا ـ ابو الحسين ـ احمد بن محمّد ، مولى بني هاشم ،
حدثنا
محمد بن عباس الحشكي ، عن اسماعيل ابن ابي عبد الله ، قال : «المخضرمون من
الشعراء» من قال الشعر في الجاهلية ، ثم ادرك الاسلام فمنهم : حسان بن ثابت ،
ولبيد بن ربيعة ، ونابغة بني جعدة وابو زبيد ، وعمرو بن شأس ، والزبرقان بن بدر ،
وعمرو بن معد يكرب ، وكعب بن زهير ، ومعن بن أوس.
وتأويل المخضرم
: من خضرمت الشيء ، اي : قطعته ، وخضرم فلان عطيته ، اي : قطعها ، فسمى : هؤلاء
مخضرمين ، كأنهم قطعواعن الكفر الى الاسلام.
ويمكن ان يكون
ذلك : لأن رتبتهم في الشعر نقصت ، لأن حال الشعر تطامنت في الاسلام ، لما انزل
الله تعالى من الكتاب العربي العزيز وهذا عندنا : هو الوجه ، لأنه لو كان من القطع
لكان كل من قطع الى الاسلام من الجاهلية ، مخضرما ، والأمر بخلاف هذا.
ومن الاسماء
التي كانت فزالت بزوال معانيها ، قولهم : المرباع والنشيطة ، والفضول.
ولم يذكر :
الصفي ، لأن رسول الله (ص) : قد اصطفى في بعض غزواته ، وخص بذلك ، وزال اسم الصفي
لما توفي (ص).
ومما ترك ـ ايضا
ـ : الأتاوة ، والمكس ، والحلوان ، وكذلك قولهم : انعم صباحا ، وانعم ظلاما ،
وقولهم ـ للملك ـ : ابيت اللعن.
وترك ـ ايضا ـ :
قول المملوك لمالكه : ربى ، وقد كانوا يخاطبون ملوكهم : بالأرباب ، قال الشاعر :
واسلمن فيها
رب كندة وابنه
|
|
ورب معد بن
خبت وعرعر
|
وترك ـ ايضا ـ :
تسمية من لم يحج صرورة ، لقوله (ص) لا صرورة
في الاسلام ، وقيل معناه : الذي يدع النكاح تبتلا ، او الذي يحدث حدثا ،
ويلجأ الى الحرم.
ومما كانت
العرب تستعمله ثم ترك ، قولهم : حجرا محجورا ، وكان هذا عندهم لمعنيين : احدهما :
عند الحرمان ، اذا سئل الانسان ، قال : حجرا محجورا ، فيعلم السامع : انه يريد ان
يحرمه ، ومنه قوله :
حنت الى
النخلة القصوى فقلت لها
|
|
حجر حرام الا
تلك الدهارير
|
والوجه الآخر :
الاستعاذة ، كان الانسان اذا سافر فرأى من يخافه قال : حجرا محجورا ، اي : حرام
عليك التعرض لي ، وعلى هذا فسر قوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً).
يقول المجرمون
ذلك ، كما كانوا يقولونه في الدنيا .. انتهى.
هذا خلاصة ما
استدل به القائلون بوقوع «الحقيقة الشرعية» المستلزم لكونها غير عربية ، وقد وقع
كثير منها في القرآن.
ورد هذا
الاستدلال ـ في المعالم ـ : بانه يلزم ـ كما ذكرنا ـ ان لا يكون القرآن عربيا ، لاشتماله
عليها ، وما بعضه خاصة عربي ، لا يكون عربيا كله.
وقد قال الله
تعالى سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا).
واجيب عن ذلك :
بالمنع من كون «الحقيقة الشرعية» مستلزمة لكون تلك الألفاظ غير عربية.
كيف؟ وقد جعلها
الشارع : حقائق شرعية ، في تلك المعاني الجديدة حال كون المعاني الجديدة : مجازات
للمعاني اللغوية.
فلم تخرج تلك
الألفاظ ، بعد استعمالها في المعاني الجديدة ، عن كونها عربية ، فان المجازات
الحادثة عربية ، وان لم يصرح العرب بآحادها بل ، وان لم تعرفها ، لدلالة الاستقراء
على تجويزهم نوعها ، وذلك : لا ينافي صيرورتها «حقائق شرعية» في تلك المعاني
المجازية الجديدة ، التي لا تعرفها العرب.
ومع التنزل
والتسليم : بانها غير عربية ، المستلزم : لوقوع مفرد غير عربي في القرآن ، نمنع :
كون القرآن كله عربيا.
(فالمعنى) في
الآية : (انه) ، اي : القرآن (عربي النظم والاسلوب) ، لا عربي الكلمات والمفردات.
(ولو سلم) :
كون المعنى في الآية ، انه عربي الكلمات والمفردات (فبا) لتزام كون توصيف القرآن
بالعربية ، من ـ باب المجاز ـ وكون الصفة بحال المتعلق ، اي : بان توصيفه بذلك با (عتبار
الأعم الأغلب).
اذ لا شك : في
ان اغلب كلماته ومفرداته عربية ، فالآية من قبيل «زيد منيع داره ، وكريم جاره».
اذ لم يدع احد
، بل (ولم يشترط في الكلام العربي : ان يكون كل كلمة منه عربية).
ومع التنزل
وتسليم : ان التوصيف في الآية ـ على سبيل الحقيقة ـ نجيب عنها : بان الضمير في (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) للسورة التي هذه الآية فيها ، لا للقرآن كله.
وقد يطلق «القرآن»
على «السورة» وعلى «الآية» بل على «الكلمة» و «حرف واحد» اذا تلفظ ، او كتب بقصد
القرآنية.
ولذلك نقول في
الفقه : يحرم للجب من كتابة القرآن ، ولو حرفا واحدا ، ويكره عليه قرائته.
فان قيل : يصدق
على كل سورة ، بل على كل آية ، وحرف منه ، انها بعض القرآن. وبعض الشيء لا يصدق
عليه : انه نفس ذلك الشيء.
فكيف اطلق
القرآن على الضمير ، مع كونه للسورة ، وهي بعض من القرآن؟
قلنا : هذا ،
اي : عدم الصدق ، انما يكون : فيما لم يشارك البعض الكل في مفهوم الاسم ، كالعشرة
، فانها اسم لمجموع الآحاد المخصوصة ، فلا يصدق على الأقل منها ، بل ولا على
الأكثر ـ ايضا ـ.
بخلاف ما كان
اسم جنس افرادي ، كالماء ، فانه : اسم لجنس الجسم البسيط البارد الرطب بالطبع ،
فيصدق لفظ ـ الماء ـ : على مجموع مياه العالم ، وعلى الأقل منه ، وعلى الأكثر منه
، ان وجد.
نعم ، يقال :
هذا البحر ماء ، ويراد ـ بالماء ـ : مفهومه الكلي.
ويقال ـ ايضا ـ
لذلك البحر : انه بعض الماء ، باعتبار مجموع مياه العالم.
والقرآن من هذا
القبيل ، لأنه ـ ايضا ـ اسم لجنس الكلام المنزل من الله العزيز الحكيم ، على سبيل
الاعجاز ، فيصدق على السورة : انها قرآن ، وبعض القرآن بالاعتبارين.
على انا نقول :
ان القرآن «مشترك لفظي» لأنه قد وضع مرتين : مرة : على نحو ما ذكر ، ومرة : بطريق
العلمية ، لمجموع ما بين الدفتين.
واطلاق القرآن
: على الضمير المراد به ـ السورة ـ باعتبار الوضع غير العلمي.
فاتضح من جميع
ما حققنا : ان الحق ، وقوع المفرد غير العربى ، في الكلام العربي ، بل فى القرآن.
اذ لم يشترط
فيه : كون كل كلمة منه عربية.
كما اشترط في
فصاحة الكلام : ان يكون كل كلمة منه فصيحة فاين هذا) ، اي : الكلام الفصيح ، مع
كونه بشرط شيء ، (من ذاك) ، اي : الكلام العربى ، مع كونه لا بشرط؟
فقياس هذا بذاك
فاسد ، لأنها مع الفارق ، لظهور الفرق بين ما كان بشرط شيء ، وما كان لا بشرط. لأن
الأول ينتفى بانتفاء الشرط ، دون الثاني ، ولذلك قيل : انه يجتمع مع ألف شرط.
(وعلى تقدير
تسليم) : ان قرب المخارج ، سبب للثقل المخل بفصاحة الكلمة ، فيكون (لَمْ أَعْهَدْ) كلمة غير فصيحة ، ان اعتبرناه بلا فاعل ، وكلاما غير
فصيح ، ان اعتبرناه معه.
وسلمنا : (انه)
اي : (لَمْ أَعْهَدْ) (لا تخرج السورة). التي هو فيها ، (عن الفصاحة) ، قياسا : على عدم اخراج
الكلمة غير العربية : الكلام العربي عن العربية.
لأن انتفاء وصف
الجزء ، لا يوجب انتفاء وصف الكل.
(لكنه يلزم :
كونها) ، اي : السورة التى هو فيها. (مشتملة على) كلمة غير فصيحة ، او على (كلام
غير فصيح. والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح ، بل على كلمة غير فصيحة ، مما
يقود) القائل بذلك ، اي : يجره : (الى نسبة الجهل
او العجز ، الى الله ، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا).
وبعبارة اخرى :
ان كان القائل باشتمال ـ القرآن ـ على لفظ غير فصيح ، ممن يعتقد : عدم علم الله
تعالى بانه غير فصيح ، او عدم علمه : بان الفصيح اولى من غير الفصيح ، فلذلك اورد
غير الفصيح ، فهذا الاعتقاد يلزم منه نسبة الجهل الى الله تعالى.
وان كان ممن
يعتقد : انه تعالى عالم بذلك ، لكنه اورد غير فصيح : لعدم قدرته على ابداله
بالفصيح ، فهذا الاعتقاد يستلزم : نسبة العجز اليه تعالى.
لا يقال : انه
تعالى اورد غير الفصيح ، مع علمه بذلك ، وقدرته على ابداله ، لكونه اوضح دلالة على
المقصود من الفصيح ، او لحكمة اخرى لا تدركها عقولنا ، فعلى هذا : لا مانع من
اشتمال ـ القرآن ـ على غير فصيح.
فانه يقال :
المقصود من القرآن كما مر مرارا ـ : الاعجاز ، بكمال بلاغته ، وسمو فصاحته ، ليكون
وسيلة الى تصديق رسول الله (ص) فوجود كلام غير فصيح بل كلمة غير فصيحة فيه ، موجب
لعدم بلاغته ، وفصاحته ، بذلك المقدار فيكون نقضا للغرض الأقصى من انزاله.
وذلك سفه ،
وخروج عن الحكمة ، اذ الحكيم يضع الأشياء في محلها ، على طبق الغرض والحكمة.
وقد تقدم عند
بيان الفرق : بين قوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي
ماءَكِ) و (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) ما يفيدك هنا ، فراجع.
(والغرابة) في
اللغة ، كون الشيء بعيدا عن الفهم.
قال في ـ المصباح
ـ : كلام غريب ، بعيد عن الفهم ، انتهى.
ويقرب منه ،
معناه الاصطلاحى ، وهو : (كون الكلمة وحشية) اي : (غير ظاهرة المعنى) ، اي : معناه
الموضوع له ، لا معناه المراد عند التركيب ، فلا يرد المتشابه والمجمل ، اللذان في
القرآن.
قال في ـ المثل
السائر ـ : فان قيل : انك قلت : ان الفصيح من الألفاظ ، هو الظاهر البين ، المفهوم
، ونرى من آيات القرآن : ما لا يفهم ما تضمنته من المعنى ، الا باستنباط وتفسير ،
وتلك الآيات فصيحة لا محالة ، وهذا بخلاف ما ذكرته.
قلت : لأن
الآيات ، التي تستنبط وتحتاج الى تفسير ، ليس شيء منها الا ومفردات ألفاظه ، كلها
ظاهرة واضحة ، وانما التفسير يقع في غموض المعنى ، من جهة التركيب ، لا من جهة
ألفاظه المفردة ، لأن معنى المفرد ، يتداخل بالتركيب ، ويصير له هيئة تخصه.
وهذا : ليس
قدحا في فصاحة تلك الألفاظ ، لأنها اذا اعتبرت لفظة لفظة ، وجدت كلها فصيحة ، اي ،
ظاهرة واضحة.
واعجب ما في
ذلك : ان تكون الألفاظ المفردة ، التي تركبت منها المركبة واضحة كلها ، واذا نظر
اليها مع التركيب : احتاجت الى استنباط وتفسير.
وهذا لا يختص
به القرآن وحده ، بل في الأخبار النبوية ، والأشعار والخطب ، والمكاتبات ، كثير من
ذلك ، انتهى.
وقوله : (ولا
مأنوسة الاستعمال) ، عطف سبب على مسبب ، وانما اعاد النفي المستفاد من «غير» كقوله
تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) تنبيها على ان النفى ، يتعلق بكل واحد لا بالمجموع ،
فالمراد من الوحشية : ما يوجد فيه الأمران معا ، لا واحد منهما ، والمراد
من عدم مأنوسية الاستعمال : عدم مألوفيته عند الأعراب ، الذين يستشهد
بكلامهم.
وقد تقدم المراد
منهم ، لأنهم اصل الفصاحة والبلاغة ، فالعبرة بعدم ظهور المعنى ، وعدم مأنوسية
الاستعمال : هؤلاء الذين غربلوا اللغة ، مفرداتها ، ومركباتها ، فاختاروا الحسن
منها ، ونفوا القبيح منها ، فلم يستعملوه.
لا المولدين ،
والا لخرج كثير من مركبات اللغة ، بل جلها ، من الفصاحة ، فانها بل مفرداتها : غير
ظاهرة المعنى ـ عند علمائهم ـ فضلا عن عوامهم.
(فمنه) اى : من
أقسام الغرابة ، (ما) اى : كلمة (يحتاج في معرفته) ، اي : في معرفة معناه : (الى
ان ينقر).
قال في المصباح
ـ : نقرت الخشبة نقرا : حفرتها ، ومنه قيل : نقرت عن الأمر ، اذا بحثت عنه انتهى.
فقوله : (ويبحث
عنه في كتب اللغة المبسوطة) عطف بيان وتفسير ، ـ لينقر ـ وانما يحتاج هذا القسم
الى البحث عنه في الكتب المبسوطة ، لعدم تداوله في لغة العرب الخلص ، فلا يكتبها
من اللغويين ، الا من أراد الاستقصاء.
(كتكأكأتم ،
وافر نقعوا) اي : كنفس الفعلين فقط لظهور معنى الفاعل ، ولأن البحث في الكلمة دون
الكلام ، (في قول عيسى بن عمر النحوي ، حين سقط من الحمار ، واجتمع الناس عليه)
فقال لهم : (ما لكم تكأكأتم علي كتكأككم على ذي جنة؟ افرنقعوا عنى ، كذا ذكره
الجوهرى) ـ في كتابه (الصحاح) في اللغة ـ.
(وذكر جار الله)
الزمخشري ، ـ في كتابه (الفائق) ـ هذه الحكاية بطريق آخر ، وهو : (انه قال الجاحظ
: مر ابو علقمة ببعض طرق البصرة ، فهاجت به مرة) ، هو مرض يحدث في المرارة ، يوجب
شبه الاغماء ، والمرارة : كيس في الداخل ، فيه ماء.
قال في ـ المصباح
ـ : المرارة من الأمعاء معروفة.
(فوثب عليه قوم)
، ظانين : انه اصابه جنة ، (يعصرون ابهامه ويؤذنون في اذنه) ، لما عليه من
الاعتقاد : بأن عصر الابهام ، والأذان في الاذن ، يوجب الخلاص من الجنة ، اي :
الجنون ، كما في قوله تعالى : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) او الجن ، كما في قوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)
والأولى :
المعنى الثاني ، بقرينة ما قالوه ـ بعد افلاته من ايديهم.
والمعنى الثالث
، الذي احتمله المحشى ، ونسبه الى الصحاح المصححة اي : من لذعته الحية ، باطل ،
لما ذكرنا ، فتأمل.
(فافلت من
ايديهم) ، اي : تخلص.
قال في ـ المصباح
ـ : افلت ـ الطائر وغيره ـ افلاتا : تخلص.
(وقال : ما لكم
تكأكأتم عليّ ، كما تكأكئون على ذي جنة؟
افرنقعوا عني!
فقال بعضهم : دعوه : فان شيطانه يتكلم) ب اللغة (الهندية) ظنا منهم ، ان كلامه
منها ، لأنهم لم يسمعوا مثل هذه الألفاظ في لغتهم ولم يتكلم بها احد منهم غيره في
محاوراتهم.
وحكى ابن
الجوزي ـ في كتاب الحمقى ـ هذه الحكاية ، عن ابى عبيدة ، وقال ما لكم تكأكئون؟
فقال الناس : تكلم بالعبرانية.
قيل : افرنقعوا
، مأخوذ من الفرقة ، وقيل : من الفرقعة ، فوزنه على الأول : «افعنلعوا» وعلى
الثانى : «افعنللوا».
(ومنه ما) لا
يحتاج في معرفته الى ذلك ، لكن (يحتاج) في تصحيح معناه! (الى ان يخرج) اي : يستخلص
(له) ، من بين الوجوه المحتملة (وجه بعيد) ، من حيث : الاشتقاق ، الملازم للبعد :
من حيث المعنى.
(نحو مسرج في
قول العجاج : «ومقلة وحاجبا مزججا».
اي : مدققا
مطولا.
«وفاحما ـ اي :
شعرا أسود كالفحم ـ ومرسنا») ـ بفتح الميم والسين ـ وكسر السين ـ ايضا ـ لغة ، اما
كسر الميم : فهو وهم.
(اي : انفا) ،
يأتي في ـ باب التشبيه ـ انشاء الله تعالى : ان اطلاق «المرسن» على الأنف ، مجاز ،
من اطلاق المقيد على المطلق ، لأن ـ المرسن ـ : اسم «لمحل الرسن» اي : الحبل من
انف البعير ، فاطلق من قيده ، واريد به الأنف مطلقا ، اي انف كان من بعير او غيره.
(مسرجا اي :
كالسيف السريجي : في الدقة والاستواء).
هذا التفسير :
منسوب الى ابن دريد ، (والسريج). مصغر سرج الدابة ، قال في ـ المصباح ـ : سرج
الدابة معروف ، وتصغيره : سريج وبه سمى الرجل. انتهى.
وهو (اسم قين)
، اي : حداد (ينسب اليه السيوف) ، التى يقال لها : «سيوف سريجية».
(او كالسراج ،
في البريق واللمعان).
نسب هذا
التفسير : الى ابن سيدة ، والامام المرزوقي.
منشأ الاختلاف
: انه لم يعلم ما اراد الشاعر ، من قوله مسرجا ، فاختلف
في تفسيره ، فذهب الأول الى الاول ، والثاني الى الثاني.
(وهذا) المعنى
الثاني : (قريب من) معنى ثالث ، وهو : (قولهم : سرج وجهه ـ بالكسر ـ) في ـ الراء ـ
(اي : حسن) وبهج.
وقولهم : (سرج
الله وجهه) ـ بالتشديد في الراء ـ (اي : بهجه وحسنه ، وانما لم يجعل) مسرجا (منه)
، اي : من هذا المعنى الثالث : (لاحتمال انهم) اي : قدماء اهل المعاني ، (لم
يعثروا) اي : لم يطلعوا (على هذا الاستعمال) ، الذي هو بالمعنى الثالث.
وان كان وروده
ثابتا في بعض كتب اللغة.
فحكمهم
بالغرابة ، وعدم جعلهم ـ مسرجا ـ من هذا الاستعمال : انما هو لعدم العثور والاطلاع
، على هذا الاستعمال ، لا لعدم الوجود.
ومن هذا قيل :
عدم الوجدان ، لا يدل : على عدم الوجود ، فيكون ـ مسرجا ـ غريبا ـ عند من لم يجد
هذا الاستعمال وان لم يكن ـ غريبا ـ عند الواجد.
فان الغرابة ـ كما
يأتي عن قريب ـ : بحسب قوم دون قوم.
(و) لاحتمال (ان
يكون هذا) الاستعمال ـ بالمعنى الثالث ـ : (مولدا ، مستحدثا من السراج) ، وذلك لا
ينافي : وجوده في بعض كتب اللغة ، الذي مداره على الاستقصاء.
فكيف يمكن جعل
ـ مسرجا ـ وهو من كلام من يستشهد بكلامه من الاستعمال المولد.
قال السيوطي في
ـ المزهر ـ : المولد ، هو ما احدثه المولدون ، الذين لا يحتج بألفاظهم.
والفرق بينه
وبين المصنوع : ان المصنوع يورده صاحبه : على انه
عربي فصيح ، (وذلك نحو : مسرجا).
وهذا ، (اي :
المولد) بخلافه ، (اي : ليس بعربي فصيح) وفي ـ مختصر العين للزبيدي ـ : المولد من
الكلام : المحدث.
وفي ـ ديوان
الأدب للفارابي ـ يقال : هذه عربية ، وهذه مولدة.
ومن امثلته قال
ـ في الجمهرة ـ : «الحسبان» الذي ترمى به هذه السهام الصغار ، مولد ، وقال : كان
الأصمعي يقول : «النحرير» ليس من كلام العرب ، وهي كلمة مولدة.
وقال : «الخم»
القوصرة ، يجعل فيها التبن ، لتبيض فيها الدجاجة وهو مولدة.
وقال «ايام
العجوز» ليس من كلام العرب في الجاهلية ، انما ولد في الاسلام.
قال في ـ الصحاح
ـ : وهي خمسة أيام ، اول يوم منها ، يسمى.
«صنا» وثاني
يوم ، يسمى : «صنبر» وثالث يوم ، يسمى «وبرا» والرابع : «مطفى الجمر» والخامس : «مكفىء
الظعن».
قال ـ ابو يحيى
بن كناسة ـ : هي نوء الصرفة ، وقال ـ ابو الغيث ـ : هى سبعة أيام ، وانشد لابن
احمر :
كع الشقاء
بسبعة غبر
|
|
ايام شهلتنا
من الشهر
|
فاذا انقضت
ايامها ومضت
|
|
(صن) و (صنبر) مع (الوبر)
|
و (بامر)
واخيه (مؤتمر)
|
|
و (معلل) و (بمطعىء
الجمر)
|
ذهب الشتاء
مولياء عجلا
|
|
واتتك واقدة
من الحر
|
وقال ـ ابن
دريد ـ : تسميتهم الانثى من القرود : «منة» مولدة.
وقال التبريزي
، في تهذيب الاصلاح ـ : «القاقزة» : مولدة ،
وانما هى «القاقوزة ، والقازوزة» وهى : اناء من آنية الشراب.
وقال ـ الجوهري
، في الصحاح ـ : «القحبة» كلمة مولدة.
وقال : «الطنز»
السخرية ، طنز يطنز ، فهو طناز ، واظنه : مولدا ، او معربا.
وقال : و «البرجاس»
غرض في الهواء يرمى فيه ، واظنه : مولدا ، وجزم بذلك صاحب ـ القاموس ـ.
وقال في ـ الصحاح
ـ : «الجعس» الرجيع ، وهو مولد.
وقال : زعم ـ ابن
دريد ـ : ان الأصمعي ، كان يدفع قول العامة : «هذا مجانس» ويقول : انه مولد.
وكذا : في ـ ذيل
الفصيح ، للموفق البغدادي ـ قال الأصمعى : قول الناس : «المجانسة» و «التجنيس»
مولد ، وليس من كلام العرب.
ورده ـ صاحب
القاموس ـ : بأن الأصمعي ، واضع كتاب ـ الأجناس ـ في اللغة ، وهو اول من جاء بهذا
اللقب.
قال الأصمعي : «المهبوت»
طائر يرسل على غير هداية ، واحسبها : مولدة وقال : «اخ» كلمة تقال عند التأوه ،
واحسبها : محدثة.
وفي ـ ذيل
الفصيح ، للموفق البغدادي ـ يقال ـ عند التألم ـ : «اح» بحاء مهملة ، واما : «اخ» (بخاء
معجمة) ، فكلام العجم.
وقال ـ ابن
دريد ـ. «الكابوس» الذي يقع على النائم ، اعسبه : مولدا.
وقال ـ الجوهري
، في الصحاح ـ : «الطرش» اهون الصمم ، يقال : هو مولد.
و «الماش» حب ،
وهو : معرب ، او مولد ، و «العفص» الذي
يتخذ منه ، الحبر ، مولد ، وليس من كلام اهل البادية.
قال : «والعجة»
هذا الطعام الذي يتخذ من البيض ، اظنه مولدا وجزم به ـ صاحب القاموس ـ.
وقال ـ عبد
اللطيف البغدادي ، في ذيل الفصيح ـ : «الفطرة ، لفظ مولد ، وكلام العرب : صدقة
الفطر ، مع ان القياس لا يدفعه ، كالفرقة ، والنغبة ، لمقدار ما يؤخذ من الشيء.
وقال : أجمع
اهل اللغة : على ان «التشويش» لا اصل له في العربية وانه مولد ، وخطأ والليث فيه.
وقال : وقولهم
: «ستى» بمعنى : سيدتي ، مولد ، ولا يقال : ست ، الا في العدد.
وقال : «فلان
قرابتي» لم يسمع ، انما سمع : «قريبى» او «ذو قرابتي».
وجزم : بان «اطروش»
مولد.
وفي ـ شرح
الفصيح ، للمرزوقي ـ : قال الأصمعي : ان قولهم : «كلبة صارف» بمعنى : مشتهية
المنكاح ، ليس من كلام العرب ، وانما ولده اهل الأمصار.
قال : وليس كما
قال ، فقد حكى هذه اللفظة ابو زيد ، وابن الاعرابي ، والناس.
وفي ـ الروضة ،
للامام النووي ، في باب الطلاق : ان القحبة : لفظة مولدة ، ومعناها البغي.
وفي ـ القاموس
ـ : «القحبة» الفاجرة ، وهي : السعال ، لأنها تسعل وتنحنح ، اي ، ترمز به ، وهي :
مولدة.
وفي ـ تحرير
التنبيه ، للنووي ـ : «التفرج» لفظة مولدة ، لعلها من انفراج الفم ، وهو :
انكشافه.
وفي ـ القاموس
ـ : «كندجة الباب» في الجدران والطيقان ، مولدة.
وفي ـ فقه
اللغة ، للثعالبي ـ : يقال ـ للرجل الذي اذا اكل لا يبقى من الطعام ولا يذر ـ :
قحطي ، وهو من كلام الحاضرة دون البادية.
قال الأزهري :
اظنه ينسب الى القحط ، لكثرة اكله ، كأنه نجا من القحط.
وفيه : «الغضارة»
مولدة ، لأنها من خزف ، وقصاع العرب من خشب.
وقال ـ الزجاجي
، في اماليه ـ : قال الأصمعي : يقال : هو الفالوذ ، والسرطراط ، والمزعزع ،
واللواص ، واللمص ، واما الفالوذج : فهو أعجمي ، والفالوذق ، مولد.
وقال ابو عبيد
ـ في الغريب المصنف ـ : الجبرية ، خلاف القدرية وكذا في ـ الصحاح ـ وهو كلام مولد.
وقال ـ المبرد
، في الكامل ـ : جمع الحاجة : حاج ، وتقديره فعلة ، كما تقول : هامة ، وهام ،
وساعة ، وساع ، فلما قولهم في جمع حاجة : حوائج ، فليس من كلام العرب ، على كثرته
على السنة المولدين ، ولا قياس له.
وفي الصحاح ـ :
كان الأصمعي ، ينكر جمع حاجة : على حوائج ، ويقول : مولد ، وفي شرح ـ المقامات ،
لسلامة الأنباري ـ : فيل : الطفيلي ، لغة محدثة ، لا توجد في العقيق من كلام العرب
، كان رجل بالكوفة يقال له : طفيل ، يأتي الولائم من غير ان يدعى
اليها ، فنسب اليه.
وفيه : قولهم
للغبي والحريف : زبون ، كلمة مولدة ، ليست من كلام اهل البادية.
وفي ـ شرح
المقامات ، للمطرزي ـ : «الزبون» : الغبي ، الذي يزبن ، ويغبن ، وفي امثال
المولدين : «الزبون يفرح بلا شيء» وقال المطرزي ـ ايضا ـ في الشرح المذكور.
المخرقة : افتعال الكذب ، وهي كلمة مولدة ، وكذا في ـ الصحاح ـ.
وقال المطرزي ـ
ايضا ـ قول الاطباء : بحران. مولد.
وفي ـ شرح
الفصيح ، للبطليموسي ـ : قد اشتقوا من بغداد فعلا ، فقالوا : تبغدد فلان ، قال ابن
سيدة : هو مولد ، وفيه ـ ايضا ـ : القلنسوة ، تقول لها العامة : الشاشية ، وتقول
لصانعها : الشواشي ، وذلك من توليد العامة.
وقال الموفق
البغدادي ـ في ذيل الفصيح ـ : قول العامة : «هم» فعلت ، مكان ـ ايضا ـ و «بس» مكان
حسب مولد ، ليس من كلام العرب ، وقال : السرم ـ بالسين ـ : كلمة مولدة.
وقال محمّد بن
المعلى الازدي ـ في كتاب المشاكهة في اللغة ـ : العامة تقول لحديث يستطال : «بس»
والبس : الخلط ، وعن ابي مالك ، البس : القطع ، ولو قالوا لمحدثه : بسا ، كان جيدا
بالغا ، بمعنى المصدر ، اى : بس كلامك بسا ، اي : اقطعه قطعا ، وانشد :
يحدثنا عبيد
ما لقينا
|
|
فبسك يا عبيد
من الكلام
|
وفي كتاب ـ العين
ـ : بس ، بمعنى : حسب قال الزبيدي ـ في استدراكه ـ : بس ، بمعنى : حسب ، غير
عربية.
وفي ـ الصحاح ـ
: الفسر : نظر الطبيب في الماء ، وكذلك : التفسرة ، قال : واظنه مولدة ، قال :
والطرمزة : ليس من كلام اهل البادية ، والمطرمز : الكذاب ، الذي له كلام ، وليس له
فعل.
وقال : الأطباء
يسمون التغير الذي يحدث للعليل دفعة في الأمراض الحادة : بحرانا يقولون هذا يوم
بحران ، بالاضافة ، ويوم باحوري ، على غير قياس ، فكأنه منسوب الى باحور ،
وباحوراء ، وهو شدة الحر في تموز ، وجميع ذلك مولد.
وقال ـ ابن
دريد ـ : خمنت الشيء : قلت فيه بالحدس ، احسبه مولدا.
وفي كتاب ـ المقصور
والممدود ، للاندلسى ـ : الكيمياء ، لفظة مولدة يراد بها : الحذق.
وفي ـ القاموس
ـ : الكس ، للحر ، ليس هو من كلامهم ، انما هو مولد ، وقال سلامة الأنباري ـ في
شرح المقامات ـ : الكس والسرم ، لغتان مولدتان ، وليستا بعربيتين. وانما يقال :
دبر ، وفرج.
قلت : في لفظة
الكس ، ثلاثة مذاهب لأهل العربية : احدها : هذا ، والثاني : انه عربي ، ورجحه ابو
حيان ـ في تذكرته ـ ، ونقله عنه في المهمات : الأسنوي ، وكذا الصغاني ـ في كتاب
خلق الانسان ـ ونقله عنه الزركشي : في مهمات المهمات ، والثالث : انه فارسي معرب ،
وهو رأي الجمهور ، منهم : المطرزي ، في ـ شرح المقامات ـ.
وفي ـ الصحاح ـ
: كنه الشىء : نهايته ، ولا يشتق منه فعل ، وقولهم : لا يكتنهه الوصف ، بمعنى : لا
يبلغ كنهه : كلام مولد.
وفي : امالى
ثعلب ـ : سئل عن التغيير ، فقال : هو كل شيء مولد ،
وهذا : ضابط حسن ، بقتضى : ان كل لفظ كان عربي الأصل ، ثم غيرته العامة :
بهمز ، او تركه ، او تسكين ، او تحريك او نحو ذلك : مولد ، وهدا : يجتمع منه شيء
كثير ، وقد مشى على ذلك الفارابي في ـ ديوان الأدب ـ فانه قال في الشمع والشمعة ـ بالسكون
ـ : انه مولد ، وان العربي ـ بالفتح ـ ومما جاء ـ بالتشديد ـ والعامة تخففه ،
العارية ، ومما جاء ـ ساكنا ـ والعامة تحركه : حلقة الباب ، والدبر ، ومما جاء ـ متحركا
ـ والعامة تسكنه : تحفة ، وتخمة ، ولقطة ، ونخبة ، وزهرة للنجم ، وهم في الأمر شرع
سواء ، والتمر ، والكذب ، والحلف ، والطيره ، وبحسب ذلك ، اي : بقدره.
قال ـ ابن
السكيت ـ : ومما تضعه العامة في غير موضعه ، قولهم : خرجنا نتنزه ، اذا خرجوا الى
البساتين ، وانما التنزه : التباعد عن المياه والأرياف ، ومنه قيل : فلان يتنزه عن
الأقذار ، وقال ـ البغدادي ، في ذيل الفصيح ـ. اللحن يتولد في النواحى والامم ، بحسب
العادات والسيرة ، ومن ذلك ، قول المتكلمين : المحسوسات ، والصواب : المحسات ، ،
من أحسست الشيء : ادركته ، وكذا قولهم : ذاتي ، والصفات الذاتية : مخالفة للاوضاع
العربية ، لان النسبة الى ذات : «ذووي» وفي فلان ذكاء ولا يجوز ذكاوة ، انتهى
باختصار.
قال ـ نجم الائمة
ـ ، محرفات العوام ، ليست الفاظا موضوعة : لعدم قصد المحرف الأول الى التواطؤ ،
انتهى.
فتحصل من جميع
ما ذكرنا هاهنا ، وفي طى المباحث السابقة : ان الألفاظ المستعملة في محاورات العرب
، ليست كلها عربية الأصل ، بل بعض منها عجمي وبعض منها معرب وبعض منها محرف ،
وبعضها الآخر مولد
مستحدث ، ويمكن ان يكون : «سرج وجهه» و «سرّج الله وجهه» من هذا القسم
الاخير ، فكيف يمكن جعل «مسرجا» الذي هو عربي الأصل منهما.
هذا : ولو سلم
عربيتهما ، فالتحقيق : (على انه لا يبعد ان يقال : ان سرج وجهه) ، وكذا : سرج الله
وجهه. (ـ ايضا ـ من باب الغرابة) ، فجعل مسرجا منهما : لا يخرجه من الغرابة.
فان قلت : كيف
لا يبعد القول بكونهما غريبين ، وقد ذكرهما ـ صاحب مجمل اللغة ـ في كتابه ،
فبذكرهما في كتابه ، يستكشف انهما ليسا بغريبين.
قلنا : (اما
صاحب ـ مجمل اللغة ـ فقد قال : سرج الله وجهه ، اي : حسنه وبهجه ، ثم انشد هذا
المصراع) ، اي : «وفاحما ومرسنا مسرجا» ولم يحكم في سرج الله وجهه ، وكذا في مسرجا
: بكونهما غريبين ، ولا بكونهما غير غريبين ، فكيف يستكشف من ذكرهما : انهما ليسا
بغريبين ، مع انا نرى ان اكثر اللغويين : يذكرون الفاظا هي بمكان من الغرابة ، من
دون ان يصرحوا بكونها غريبة ، فبمجرد ذكر صاحب ـ مجمل اللغة ـ اياهما : لا يستكشف
انهما من اى الأقسام المذكورة.
(لا يقال :) ان
التعريف المذكور للغرابة ، وهو قوله : كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ، ولا
مأنوسة الاستعمال ، تعريف بالأخص ، كقولنا في تعريف الحيوان : بانه ضاحك ، او
تعريفه ، اي : الحيوان ، بانه ناطق ، والتعريف بالأخص : غير جائز الا عند القدماء
من المنطقيين ، لانه تعريف بالاخفى ، وفي الثاني : مستلزم للدور ،
كما بين في محله.
بيان ذلك ، اى
: بيان كون التعريف المذكور ، تعريفا بالأخص : ان (الغرابة ، كما يفهم من كتبهم)
البيانية ، بل اللغوية : (كون الكلمة غير مشهورة الاستعمال) ، سواء كانت وحشية ،
ام لا ، كما سيصرح به ، (وهي) ، اى : الغرابة ، (في مقابلة المعتادة) ، وهي ، اى :
المعتادة : كون الكلمة مشهورة الاستعمال ، ومأنوسة الاستعمال ، اي : ظاهرة المعنى
بالنسبة للعرب العرباء ، لا كما قلنا : بالنسبة للمولدين ، والا خرج كثير من
مركبات اللغة ، والقرآن عن الفصاحة ، لجهلهم ، اي : المولدين ، بها (وهي) اي :
الغرابة ، وكذا المعتادة ، (بحسب قوم دون قوم) ، فرب كلمة غريبة عند قوم معتادة
عند آخرين.
هذا ، ولكن يظهر
من ـ المثل السائر ـ بطلان هذا ، حيث قال : اعلم : ان هذا ، اي : باب الفصاحة
والبلاغة ، باب متعذر على الوالج ، ومسلك متوعر على الناهج ، ولم يزل العلماء من
قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه ، والبحث عنه ، ولم اجد من ذلك ما يعول عليه
الا القليل ، وغاية ما يقال في هذا الباب : ان الفصاحة هى الظهور والبيان في اصل
الوضع اللغوي ، يقال : افصح الصبح : اذا ظهر ، ثم انهم يقفون عند ذلك ، ولا يكشفون
عن السرفيه ، وبهذا القول : لا تتبين حقيقة الفصاحة ، لأنه يعترض وجوه ثلاثة من
الاعتراضات :
احدها : انه
اذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا ، لم يكن فصيحا ، ثم اذا ظهر وتبين ، صار فصيحا.
والوجه الثاني
: انه اذا كان اللفظ الفصيح ، هو الظاهر البين ،
فقد صار ذلك : بالنسب والاضافات الى الأشخاص ، فان اللفظ قد يكون ظاهرا
لزيد ، ولا يكون ظاهرا لعمرو ، فهو اذا فصيح عند هذا ، وغير فصيح عند هذا ، وليس
كذلك : بل الفصيح هو فصيح عند الجميع ، لا خلاف فيه بحال من الأحوال ، لأنه اذا
تحقق حد الفصاحة ، وعرف ما هي ، لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.
والوجه الثالث
: انه اذا جيىء بلفظ قبيح ، ينبو عنه السمع ، وهو مع ذلك ظاهر ، ينبغي ان يكون
فصيحا ، وليس كذلك ، لأن الفصاحة وصف حسن للفظ ، لا وصف قبح ، فهذه الاعتراضات
الثلاثة واردة على قول القائل : ان اللفظ الفصيح : هو الظاهر البين ، من غير تفصيل
، انتهى.
والغرض من نقل
هذا الكلام : هو الوجه الثاني ، المنافي لقوله ، وهي بحسب قوم دون قوم.
وقال ـ ايضا ـ في
موضع آخر : حسن الألفاظ وقبحها ، ليس اضافيا الى زيد دون عمرو ، لأنه وصف لا يتغير
، ا لا ترى. ان لفظة المزنة ـ مثلا ـ حسنة عند الناس كافة ، من العرب وغيرهم ، لا
يختلف احد في حسنها ، وكذلك : لفظه البعاق ، فانها قبيحة عند الناس كافة فاذا
استعملها العرب ، لا يكون استعمالهم اياها مخرجا لها عن القبح ولا يلتفت اذن الى
استعمالهم اياها بل يعاب مستعملها ، ويغلظ له النكير حيث استعملها ، انتهى.
وكيف كان ،
فالنسبة بين الغرابة والمعتادة : التنافي والتباين ، (والوحشية هي) الكلمة (المشتملة
على تركيب يتنفر الطبع منه ، وهى) اي : الوحشية ، (في مقابلة العذبة) ، والنسبة
بين الوحشية والعذبة ـ ايضا ـ : التنافي والتباين ، لان المراد بالعذبة : الكلمة
التي لا تشتمل على تركيب
يتنفر الطبع منه ، (فالغريب) ـ كما اشرنا اليه ـ : اعم من الوحشية لأنه اي
: الغريب ، (يجوز ان يكون عذبة) ، ويجوز ان يكون وحشية ، كالحيوان ، يجوز ان يكون
ناطقا ، ويجوز ان يكون ناهقا (فلا يحسن تفسيره) ، اي : الغريب (بالوحشية) ، لأنه
تفسير بالأخص ، كتفسير الحيوان بالناهق.
(بل الوحشية
قيد زائد) آخر ، يجب اشتراط الخلو منها ، (لفصاحة المفرد) ، زائدا على اشتراط
الخلو من الغرابة ، هذا ان اريد من الوحشية : ما ذكر من الكلمة المشتملة على تركيب
يتنفر الطبع منه ، (وان اريد بالوحشية) معنى آخر ، (غير ما ذكرنا) حتى لا يرد
اعتراض التعريف بالأخص ، (فلا نسلم : ان الغرابة بذلك المعنى) المفسر بالوحشية ،
التي يراد منها غير ما ذكرنا : (مخل بالفصاحة) ، لأن الغرابة التي تخل بالفصاحة ،
انما هو ما كان بمعنى أعم من الوحشية ، بالمعنى المتقدم الذي ذكرناه ، لا ما كان
بمعنى مساو للوحشية ، التي يراد بها معنى غير ما ذكرنا.
الى هنا : كان
الكلام في بيان لا يقال ، وحاصله : الاعتراض بان الوحشية اخص من الغرابة ، لجواز
ان يوجد لفظ فيه غرابة ، لا يشتمل على تركيب يتنفر الطبع منه فتعريف الغرابة
بالوحشية ، تعريف بالأخص ، وهو غير جائز عند محققي المتأخرين ، لأنه تعريف بالأخفى
، وان جورة القدماء من المنطقيين.
لكن الاعتراض
غير وارد : (لأنا نقول) في رد الاعتراض : انا نختار الشق الثاني من معنى الوحشية ،
اي : نويد بها : منعى يساوي الغرابة ، غير ما ذكره المعترض ، ونبطل ادعاء : عدم
كون
الغرابة بالمعنى المساوي للوحشية ، بمعنى غير ما ذكره مخلا بالفصاحة ، و (هذا)
: اي المعنى المراد بالوحشية ، غير ما ذكره المعترض المساوي للغرابة ، (ـ ايضا ـ اصطلاح
مذكور في كتبهم. حيث قالوا : الوحشي) يائه للتأكيد ، كالياء في دواري ، في قوله :
اطربا وانت
قنسري
|
|
والدهر
بالانسان دوارى
|
او للنسبة ،
لأنه (منسوب الى الوحش ، الذي يسكن القفار) ، او لا هذا ولا ذاك ، بل زيدت على غير
قياس ، قال في ـ المصباح ـ : الوحش : ما لا يستأنس من دواب البر ، وجمعه : وحوش ،
وكل شيء يستوحش عن الناس ، فهو وحش ، ووحشي. كان للتوكيد ، كما في قوله (والدهر
بالانسان دوارى).
اي : كثير
الدوران بالانسان ، الى حالات مختلفة.
وقال الفارابي
: الوحش جمع : وحشي ، منه الوحشة بين الناس وهي : الانقطاع ، وبعد القلوب عن
المودات.
ويقال : اذا
اقبل الليل ، استأنس كل وحشى ، واستوحش كل انسى ، وأوحش المكان ، وتوحش : خلا من
الانس ، وحمار وحشي بالوصف وبالاضافة ، والوحشي من كل دابة : الجانب الايمن.
قال الشاعر :
فمالت على شق
وحشيها
|
|
وقد ريع جانبها
الأيسر
|
قال الأزهري :
قال ائمة العربية : الوحشي من جميع الحيوان غير الانسان ، الجانب الايمن ، وهو
الذي لا يركب منه الراكب ، ولا يحلب منه الحالب ، والانسي : الجانب الآخر ، وهو
الايسر ، وروى
ـ ابو عبيدة ـ عن الأصمعي : ان الوحشى : هو الذي يأتي منه الراكب ، ويحلب
منه الحالب ، لان الدابة تستوحش عنده ، فتفر منه الى الجانب الايمن ، قال الازهري
: وهو غير صحيح عندي.
قال ابن
الانبارى : ويقال : ما من شيء يفزع ، الامال الى جانبه الايمن ، لان الدابة ، انما
تؤتى للركوب والحلب ، من الجانب الايسر فتخاف عنده ، فتفر من موضع المخافة ـ وهو
الجانب الايسر ـ الى موضع الأمن ـ وهو الجانب الأيمن ـ فلهذا قيل : الوحشي ،
الجانب الأيمن ، ووحشي اليد والقدم : ما لم يقبل على صاحبه ، والانسي ما اقيل ،
ووحشى القوس : ظهرها وانسيها : ما اقبل عليك منها. انتهى.
وقال ـ ايضا ،
في المصباح ـ : القفر : المفازة ، لا ماء بها ولا نبات ، وارض قفر ، ومفازة قعرة ،
ويجمعونها : على قفار ، فيقولون : ارض قفار ، على توهم جمع المواضع لسعتها ، ودار
قفر وقفار ، كذلك ، والمعنى : خالية من أهلها ، فان جعلتها اسما ، الحقت ـ الهاء ـ
فقلت : قفرة ، وقال الجوهري. مفازة قفر ، وقفرة ـ بالهاء ـ واقفر الرجل اقفارا :
صار الى القفر ، والقفر ـ ايضا ـ : الخلاء ، واقفرت الدار : خلت انتهى.
(ثم استعيرت)
لفظة الوحشي ، (للألفاظ التى لم يؤنس استعمالها) مطلقا ، سواء كان مشتملا على
تركيب يتنفر منه الطبع ام لا ، لا الى خصوص المشتملة على ذلك ، حتى يرد اعتراض
التعريف بالأخص ، وبعبارة اخرى : الوحشى ـ كما سيصرح ـ نقل في الاصطلاح ، الى ما
لم يكن ظاهرة المعنى ، ولا مأنوسة الاستعمال ، فهو اذن مساو للغرابة ، لا اخص ، (و)
المعترض لما لم يطلع على هذا ، ظنا منه :
ان الوحشي منحصر فيما اشتمل على تركيب يتنفر منه الطبع ، وقع من الاشتباه
والتوهم.
نعم (الوحشي
قسمان) : احدهما : (غريب حسن) ، (و) ثانيهما : (غريب قبيح) ، وهو الذي ظن المعترض
انحصار الوحشى فيه ، (فالغريب الحسن ، هو الذي لا يعاب استعماله على العرب ، لأنه
لم يكن وحشيا عندهم) ، لا يذهب عليك ما فيه من شائبة التناقض ، ولكن يمكن رفعه بما
سننقله عن ـ المثل السائر ـ : من كون هذا القسم بالنسب والاضافات ، فتأمل ، (وذلك
مثل : شرنبث) ، بمعنى : الغليظ اليدين والرجلين ، ولذلك يوصف به الأسد ، ويقال : اسد
شرنبث ، (واشمخر) على وزن «اقشعر» بمعنى : ارتفع ، (واقمطر) ، بمعنى : اشتد ، يقال
: اقمطر يومنا ، اشتد ، قال ابو عبيد : المقمطر : المجتمع ، واقمطرت العقرب : اذا
عطفت ذنبها وجمعت نفسها ، (وهي) ، اي : الأمثلة المذكورة واشباهها ، (في النظم
احسن منها في النثر).
قال في ـ المثل
السائر ـ : وليس من شرط الوحش ، ان يكون مستقبحا بل ان يكون نافرا لا يألف الانس ،
فتارة يكون حسنا وتارة يكون قبيحا ، وعلى هذا : فان احد قسمي الوحشي ـ وهو الغريب
الحسن ـ يختلف باختلاف السب والاضافات ، الى ان قال : فمن ذلك قول الفرزدق :
لو لا الحياء
زدت رأسك شجة
|
|
اذا سبرت ظلت
جوانبها تغلى
|
شر نبثة
شمطاء من يرتعي بها
|
|
يشبه ولو بين
الحماسي والطفل
|
فقوله : شرنبثة
، من الألفاظ الغريبة ، التي يسوغ استعمالها في الشعر ، وهي هاهنا غير مستكرهة ،
الا انها لو وردت في كلام منثور
من كتاب ، او خطبة ، لعيبت على مستعملها ، وكذلك وردت لفظة مشمخر ، فان بشرا
قد استعملها في ابياته التي يصف فيها لقائه الأسد فقال :
واطلقت
المهند عن يميني
|
|
فقد له من
الاضلاع عشرا
|
فخر مضرجا
بدم كأنى
|
|
هدمت به بناء
مشمخرا
|
فان لفظة «مشمخر»
لا يحسن استعمالها في الخطب والمكاتبات ، ولا بأس بها ها هنا في الشعر وقد وردت في
خطب الشيخ الخطيب ابن نباته ، كقوله في خطبة يذكر فيها اهوال يوم القيامة ، فقال :
اقمطر وبالها ، واشمخر نكالها ، فما طابت ولا ساغت ، ومن هذا الاسلوب : لفظة «الكهنور»
فى وصف السحاب ، كقول أبي الطيب :
يا ليت باكية
شجاني دمعها
|
|
نظرت اليك
كما نظرت فتعذرا
|
وترى الفضيلة
لا ترد فضيلة
|
|
الشمس تشرق
والسحاب كهنورا
|
فلفظة الكهنور
، لا تعاب نظما ، وتعاب نثرا ، وكذلك : يجرى الأمر في لفظة «العرمس» وهي اسم
الناقة الشديدة ، فان هذه اللفظة ، يسوغ استعمالها في الشعر ، ولا يعاب مستعملها ،
كقول أبي الطيب ـ ايضا ـ :
ومهمه جبته
على قدمي
|
|
تعجز عنه
العرامس الذلل
|
فانه جمع هذه
اللفظة ، ولا بأس بها ، ولو استعملت في الكلام المنثور لما طابت ولا ساغت ، وقد
جاءت موحدة في شعر أبي تمام ، كقوله :
هي العرمس
الوجناء وابن ملمة
|
|
وحاش على ما
يحدث الدهر خافض
|
وكذلك ورد قوله
ـ ايضا ـ : «يا موضع الشدنية الوحناء» فان الشدنية ، لا تعاب شعرا ، وتعاب لو وردت
في كتاب او خطبة ، وهكذا
يجري الحكم في أمثال هذه الألفاظ المشار اليها ، وعلى هذا : فاعلم : ان كل
ما يسوغ استعماله في الكلام المنثور من الألفاظ ، يسوغ استعماله في الكلام المنظوم
، وليس كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنظوم ، يسوغ استعماله في الكلام المنثور.
انتهى.
(ومنه) ، اي :
ومن هذا القسم الغريب الحسن : (غريب القرآن والحديث) اما غريب القرآن ، فقال في ـ الاتقان
ـ في باب غريب القرآن ما خلاصته : ان هذه الصحابة ، وهم العرب العرباء ، واصحاب
اللغة الفصحى ، ومن نزل القرآن عليهم وبلغتهم ، توقفوا في ألفاظ لم يعرفوا معناها
، فلم يقولوا فيها شيئا ، فقد سئل ابو بكر الصديق عن قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : واي سماء تظلني ، او اي ارض تقلني ان انا قلت في
كتاب الله مالا أعلم ، وهكذا : عمر بن الخطاب ، قرأ على المنبر و (فاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب ، ثم رجع الى
نفسه فقال : ان هذا لهو الكلف يا عمر.
وسئل سعيد بن
جبير ، عن قوله تعالى : (وَحَناناً مِنْ
لَدُنَّا) فقال سألت عنها ابن عباس ، فلم يجب فيها شيئا.
وعن ابن عباس ،
قال : لا والله ما ادري ما (حَناناً).
و ـ ايضا ـ عن
ابن عباس ، قال : كنت لا أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ) حتى أتاني اعرابيان يختصمان في بئر ، فقال احدهما : انا
فطرتها يقول : انا ابتدئتها.
وعن قتادة ،
قال قال ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) حتى سمعت قول بنت ذي يزن : تعال أفاتحك تقول : اخاصمك ،
و ـ ايضا ـ قال : ما ادري ما «الغسلين» ولكني
اظنه : الزقوم ، انتهى.
ان قلت : اذا
كان هذه الألفاظ غريبة ، ولا ريب ان الغرابة تخل والفصاحة في الجملة ، وحينئذ يلزم
ان يشتمل القرآن على غير الفصيح في الجملة.
قلت : لا نسلم
ذلك : لما تقدّم من ان الغرابة في هذا القسم ، باعتبار النسب والاضافات ، فلا يلزم
من غرابة هذه الألفاظ بالنسبة الى هؤلاء ، غرابتها بالنسبة الى غيرهم ، لأن القرآن
مشتمل على أنواع من لغات العرب ، فلا يلزم من جهل البعض بها جهل الكل بها ، فهذه
الالفاظ فصيحة خالية من الغرابة ، بالنسبة للعرب الخلص في الجملة اذ العرب بلسانهم
في الجملة نزل القرآن العظيم.
واما غريب
الحديث : فقال في ـ المثل السائر ـ : من جملة ذلك حديث طهفة بن ابي زهير النهدي ،
وذاك : انه لما قدمت وفود العرب على النبي (ص) ، قام طهفة بن ابي زهير فقال :
اتيناك يا رسول الله من غوري تهامة ، على اكوار الميس ، ترتمى بنا العيس ، نستجلب
العبير ونستخلب الخبير ، ونستعضد البرير ، ونستخيل الرهام ، ونستجيل الجهام في ارض
غائلة الغطاء ، غليظة الوطاء ، قد نشف المدهن ، ويئس الجعثن وسقط الاملوج ، ومات
العسلوج ، وهلك الهدى ، وفاد الودى ، برئنا اليك يا رسول الله من الوثن والفتن ،
وما يحدث الزمن ، لنا دعوة السّلام وشريعة الاسلام ، ما طغى البحر وقام تعار ،
ولنا نعم همل اعقال ، ما نبض ببلال ، ووقير كثير الرسل ، قليل الرسل ، اصابتنا
سنية حمراء مؤزلة ليس لها علل ولا نهل.
فقال رسول الله
: اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ، ومذقها وفرقها
وابعث راعيها في الدثر ، بيانع الثمر ، وافجر له الثمد ، وبارك له في المال
والولد ، من اقام الصلاة كان مسلما ، ومن آتى الزكاة كان محسنا ومن شهد ان لا اله
الا الله كان مخلصا ، لكم يا بنى نهد ودائع الشرك ووضائع الملك ، لا تلقط في
الزكاة ، ولا تلجد في الحياة ، ولا تتثاقل عن الصلاة. وكتب معه كتابا الى بنى نهد
، من محمّد رسول الله ، الى بني نهد ، السّلام على من آمن بالله ورسوله ، لكم يا
بني نهد في الوظيفة الفريضة ، ولكم الفارض والفريش ، وذو العنان الركوب ، والفلو
الضبيس لا يمنع سرحكم ، ولا يعضد طلحكم ، ولا يحبس دركم ، ولا يؤكل اكلكم ما لم
تضمروا الاماق ، وتأكلوا الرباق ، من اقر بهذا الكتاب ، فله من رسول الله الوفاء
بالعهد والذمة ، ومن ابى فعليه الربوة.
وفصاحة رسول
الله (ص) لا تقتضي استعمال هذه الألفاظ ، ولا تكاد توجد في كلامه الا جوابا لمن
يخاطبه بمثلها ، كهذا الحديث وما جرى مجراه ، على انه قد كان في زمنه متداولا بين
العرب ، ولكنه (ص) لم يستعمله الا يسيرا ، لأنه اعلم بالفصيح والأفصح ، وهذا
الكلام هو الذي نعده نحن في زماننا وحشيا ، لعدم الاستعمال ، انتهى.
(و) اما القسم
الثاني من الوحشي ، اعني : (الغريب القبيح) ، فهو : (ما يعاب استعماله مطلقا) في ،
النظم وغيره ، لأنه غريب عند الجميع ، (ويسمى) هذا القسم الثاني من الغريب :
الوحشي الغليظ ، (وهو : ان يكون مع كونه غريب الاستعمال ، ثقيلا على السمع ، كريها
على الذوق ، ويسمى : المتوعر ـ ايضا ـ) حاصله : ان يكون في اللفظ عيبين ، احدهما :
انه غريب الاستعمال ، والآخر : انه ثقيل على السمع ، كريه على الذوق ، قال في ـ المثل
السائر ـ : واذا كان
اللفظ بهذه الصفة ، فلا مزيد على فظاظته وغلاظته ، وهو الذي يسمى الوحشي
الغليظ ، ويسمى : المتوعر ـ ايضا ـ وليس ورائه في القبح درجة اخرى ، ولا يستعمله
الا أجهل الناس ، ممن لم يخطر بباله من معرفة هذا الفن اصلا ، انتهى.
وليكن هذا على
ذكر منك ، يفيدك عند النظر في المتن الآتى (وذلك) ، اي : القسم الثاني ، (مثل :
جحيش ، للفريد) برأيه المستبد بأمره ، الذي لا يشاور الناس في رأيه.
قال في ـ المثل
السائر ـ : فمنه ما ورد لتأبط شرا ، في ـ كتاب الحماسة ـ :
يظل بموماة
ويمسي بغيرها
|
|
جحيشا
ويعرودى ظهور المسالك
|
فان لفظة «جحيش»
من الالفاظ المنكرة القبيحة ، ويالله! اليس انها بمعنى فريد ، وفريد لفظة حسنة
رائقة ، ولو وضعت في هذا البيت موضع «جحيش» لما اختل شيء من وزنه ، فتأبط شرا ملوم
من وجهين في هذا الموضع ، احدهما : انه استعمل القبيح ، والآخر : انه كانت له
مندوحة عن استعماله ، فلم يعدل عنها. (واطلخم الأمر) ، اي : اظلم واشتبه (وجفخت) ،
اي : فخرت وتكبرت ، (وامثال ذلك) ، من الالفاظ الغريبة بالمعنى الثاني.
قال في ـ المثل
السائر ـ : ومما هو اقبح منها ، ما ورد لأبي تمام قوله :
قد قلت لما
اطلخم الأمر وانبعثت
|
|
عسواء تالية
غبسا دهاويسا
|
فلفظة «اطلخم» من
الألفاظ المنكرة ، التي جمعت الوصفين القبيحين في انها غريبة ، وانها غليظة في
السمع ، كريهة على الذوق ، وكذلك لفظة «دهاريس» ايضا ، وعلى هذا ورد قوله من ابيات
يصف فرسا من حجلتها :
نعم متاع
الدنيا حباك به
|
|
اروع لا جيدر
ولا جبس
|
فان لفظة «جيدر»
غليظة واغلظ منها قول ابي الطيب المتنبي :
جفخت وهم لا
يجفخون بها بهم
|
|
شيم على
الحسب الأعز دلائل
|
فان لفظة «جفخ»
مرة الطعم ، واذا مرت على السمع اقشعر منها ، وابو الطيب في استعمالها كاستعمال
تأبط شرا ، لفظة : جحيش ، فان تأبط شرا كانت له مندوحة عن استعمال تلك اللفظة ،
كما اشرنا اليه فيما تقدم ، وكذلك ابو الطيب في استعمال هذه اللفظة ، التي هي «جفخت»
فان معناها فخرت. والجفخ : الفخر ، يقال : جفخ فلان ادا فخر ، ولو استعمل عوضا عن
جفخت : فخرت ، لاستقام وزن البيت ، وحظي في استعماله بالأحسن ، انتهى.
فتحصل مما
ذكرنا : ان المراد من الوحشية في تفسير الغرابة ، غير ما زعم المعترض : من كونها
الكلمة المشتملة على تركيب يتنفر منه الطبع ، بل المراد منها : معنى مساو للغرابة
، فلا غبار على التعريف اصلا ، (و) المعترض انما وقع فيما وقع ، لانه لم يدر ان (قولنا
: غير ظاهرة المعنى ، ولا مأنوسة الاستعمال) ، الذي هو بعينه ، معنى الغرابة
الغليظة المخلة بالفصاحة ، (تفسير للوحشية) ، التي هي معرف للغرابة ، فاين التعريف
بالأخص ، الذي توهمه المعترض ، واذا ثبت ان النسبة بين الغرابة المخلة بالفصاحة ،
والوحشية المذكورة ، في تعريفها التساوي ، (فمنع كونه) ، اي : غير ما ذكره المعترض
، (مخلّا بالفصاحة المتداولة بينهم ، ظاهرة الفساد) ، فالاولى : الرجوع الى الحق
وترك اللجاج ، ومجانبة العناد.
(وان اردت) ـ ايها
المعترض ـ (بالفصاحة) في قولك : فلا نسلم
ان الغرابة بذلك المعنى مخل بالفصاحة : (معنى آخر) غير الفصاحة بالمعنى
المتداول بينهم ، (وزعمت ، ان شيئا من) الامور المخلة بالفصاحة المتداولة اتفاقا ،
اعني بالامور : التنافر والغرابة ، والمخالفة (لا يخل بها) ، اي : بالفصاحة المراد
بها معنى آخر ، (فلا مشاحة) لنا معك ، لأنك احدثت اصطلاحا جديدا في معنى الفصاحة ،
غير المتداول بين أهل هذا الاصطلاح ، لأن المسلم ـ عندهم ـ : انه لا مشاحة في
الاصطلاح ، ولفظة «المشاحة» من ـ باب المفاعلة ـ مأخوذة من شح يشح ، قال في ـ المصباح
ـ : الشح : البخل ، وشح يشح من ـ باب قتل ـ وفي لغة من بابي ـ ضرب ، وتعب ـ فهو
شحيح ، وقوم اشحاء واشحة ، وتشاح القوم ـ بالتضعيف ـ : اذا شح بعضهم على بعض ،
انتهى.
(والمخالفة) ،
اي : مخالفة القياس. التي يشترط في فصاحة المفرد : خلوصه منها ، (ان تكون الكلمة ،
على خلاف القانون المستنبط من تتبع لغة العرب ، اعني : مفردات ألفاظهم) الحقيقة ،
اي : ما كان مفردا حقيقة ، والمراد بالمفرد هاهنا المقابل للمركب ، (او ما هو في
حكمها) ، اي : في حكم المفردات الحقيقية ، (كوجوب الاعلال) ، اي : كقانون وجوب
الاعلال ، (في نحو : قام) وباع ونظائرهما ، وليعلم : ان قام ، ومد ، مثالان للمفرد
الحقيقى واما مثال ما في حكمه ، فيأتي بعيدهما.
قال في ـ شرح
النظام ـ : الواو ، والياء ، تقلبان ـ الفا ـ اذا تحركتا مفتوحا ما قبلهما ، او في
حكمه ، في اسم ، او فعل ثلاثي ، او فعل محمول عليه ، او اسم محمول عليهما ، اي :
على المحمول على الاسم الثلاثي ، وعلى الفعل الثلاثي ، نحو : باب ، وناب ، فانهما
اسمان ثلاثيان ، فان اصلهما : بوب ، ونيب ، وقام ، وباع ، وهما فعلان
ثلاثيان ، اصلهما : قوم ، وبيع ، واقام ، واباع ، اذ أصلهما اقوم ، وابيع ، فما
قبل الواو والياء فيهما ، ليس مفتوحا. الا انه في حكم الفتح ، لكونه كذلك في
الثلاثي ، فهما محمولان على ثلاثيهما والاقامة والاستقامة ، ومقام ـ بضم الميم ـ فان
كلا منهما : محمول على المحمول على الفعل الثلاثي ، لكونه محمولا على اقام ، وهو
محمول على قام ، ومقام ـ بالفتح ـ فانه محمول على قام ، تحركت الواو والياء في
الجميع ، وما قبلهما : اما مفتوح او في حكم الفتح ، من حيث تفرعه على مفتوح ،
قلبتا : الفا ، ازالة للاستثقال ، انتهى.
هذا هو القانون
في الواو والياء ، فيجب في فصاحة المفرد ، اذا كانت فيه ـ واو ، او ياء ، واجتمع
فيهما شرائط الاعلال. ان لا يخالف هذا القانون ، لأن مخالفة هذا القانون : توجب
كون المفرد غير فصيح ، الا ان يكونا في حكم المستثنى من هذا القانون ، كما يأتي عن
قريب.
(و) كوجوب (الادغام
، في نحو : مد) ونظائره ، قال في ـ شرح النظام ـ : الادغام لغة ادخال الشيء في
الشيء ، وفي الاصطلاح هو ان يأتي بحرفين : ساكن فمتحرك ، من مخرج واحد ، من غير
فصل ، فقولنا : من مخرج واحد ، ليخرج نحو : فلس ، فان اللام ساكن ، وبعده سين
متحرك ، ولا يمكن الادغام ، لتغاير مخرجيهما ، وقولنا : من غير فصل ، مع قولنا :
فمتحرك ـ بفاء التعقيب ـ الدال على انتفاء المهلة ، ليخرج نحو : رييا ، اذا حفف ،
فانه ساكن فمتحرك من مخرج واحد ، ولكنه فصل بينهما : بنقل اللسان من محل
الى محل مثله ، فانك في الادغام : يجب ان تنطق بالحرفين دفعة ، بحيث : يصير
الحرف الساكن كالمستهلك ، لا على حقيقة التداخل ، بل على ان يصيرا حرفا مغايرا
لهما بهيئة ، وهو الحرف المشدد ، وزمانه اطول من زمان الحرف الواحد ، واقصر من
زمان الحرفين ، ولذلك يفرق بين قول القائل «قد» بالادغام ، و «قدد» بفكه ، ويقال :
ادغمت الحرف ادغاما ـ بالتخفيف ـ وهو من عبارات الكوفيين وادغمته ـ بالتشديد ـ من
الافتعال ، وهو من عبارات البصريين ، ويكون في المثلين ، والمتقاربين المجعولين
مثلين ، والمثلان الادغام واجب عند سكون الأول منهما ، سواء كانا في كلمة كالشد ،
والمدكر ، او في كلمتين ، نحو : اضرب بكرا ، الى ان قال ـ ايضا ـ : والادغام في
المثلين ـ ايضا ـ واجب عند تحركهما في كلمة ، ولا الحاق ولا لبس نحو رد يرد ،
واصلهما : ردد ويردد ، بخلاف نحو ضرب بكر ، لكونهما في كلمتين ، فكأنهما في حكم
الاتصال ، وبخلاف نحو ، قردد ، اذ الادغام ينافي الغرض من الالحاق ، وهو رعاية
الوزن ، وبخلاف نحو : ضرر ، فانه لو ادغم لم يدر انه فعل بضمتين ، او فعل بسكون
العين اما اذا لم يكن هذه الموانع : وجب الادغام للتخفيف.
ثم قال : ومتى
اريد ادغام احد المثلين ـ واولهما متحرك ـ : تنقل حركته الى ما قبله ، ان كان قبله
ساكن غير لين ، نحو : يرد والاصل : يردد ، نقلت ضمة الدال الاولى الى الراء ،
فادغمت ، وان كان قبله ساكن هو لين : سلبت حركته ، وادغم ، فان النقاء الساكنين
مغتفر في مثله ، نحو : مادّ ، وتمود الثوب ، وخويصة ، وان كان قبله متحرك : سلبت
الحركة ـ ايضا ـ وادغم ، نحو : مدّ ، وردّ ،
والأصل : مدد ، وردد ، وسكون الوقف في جميع ما ذكرنا : كالحركة فلا يمنع
الادغام ، كما لو وقف على مد ، وسر.
ثم قال : ونعني
بالمتقاربين : ما تقاربا في المخرج ، او في صفة تقوم مقامه ، كالجهر ، والهمس ،
وغيرهما ، انتهى باختصار.
هذا هو القانون
في الادغام ، وغيرهما ، انتهى باختصار.
هذا هو القانون
في الادغام ، وحكمه حكم القانون السابق.
(وغير ذلك مما
يشتمل عليه «علم التصريف») من القوانين الآخر ، المبينة فيه.
واما ما هو في
حكم المفرد : فهو نحو «مسلميّ» فان اصله : مسلموي بسقوط نون الجمع بالاضافة ،
فاجتمع الواو والياء في حالة الرفع ، والسابق منهما ساكن ، فانقلبت ـ الواو ، ياء
ـ وادغمت الياء في الياء ، وكسر ما قبل الياء ، فلم يبق علامة الرفع ، التي هي ـ الواو
ـ في اللفظ ، فلذلك قالوا : ان اعرابه في هذه الحالة تقديري ، وان كان فيه بحث ،
لأن الياء الاولى فيه : عوض من الواو ، وكلما كان عوضه مذكورا : يكون اعرابه لفظا
لا تقديرا ، واما في حالتي النصب والجر : فاعرابه لفظي اتفاقا ، ووجهه ظاهر ،
وانما جعلوه في حكم المفرد ، لا مفردا حقيقة ، لانه مركب من كلمتين ، ومعرب
باعرابين وكلما كان كذلك لا يكون مفردا حقيقة ، فتأمل ، فتحصل مما ذكرنا ان الكلمة
المخالفة لأحد القوانين المستنبطة من تتبع لغة العرب ، غير فصيحة.
(واما نحو :
ابى يأبى ، وعود ، واستحود ، وقطط شعره ، وآل وماء ، وما اشبه ذلك) ، مما ظاهره
انه مخالف للقانون ، مع كونه واردا في القرآن الكريم ، وكلام الفصحاء ، (ف من
الشواذ الثابتة في
اللغة) بحكم الواضع ، كما سيصرح به ، ونحن نذكره تفصيلا ، فنقول : اما ابى
يأبى ـ بفتح العين في المضارع ـ : فالقياس كسرها لعدم كون لامه ولا عينه حرف حلق ،
الا انها كذلك ثبت من الواضع وان لم يكن عينه ولا لامه من حروف الحلق ، قال في ـ شرح
التصريف ـ وقد يجىء مضارع فعل مفتوح العين ، على وزن ـ يفعل ـ بفتح العين اذا كان
عين فعله او لامه ، اي : لام فعله حرفا من حروف الحلق وانما اشترط هذا ليقاوم ثقل
حروف الحلق : فتحة العين ؛ فان حروف الحلق اثقل الحروف ، ولا يشكل ما ذكرناه بمثل
: دخل يدخل ، ونحت ينحت ، وجاء يجيء ، وما اشبه ذلك : مما عينه او لامه ، حرف من
حروف الحلق ، ولم يجىء على ـ يفعل ـ بفتح العين.
لانا نقول :
انه لا يجيء على ـ يفعل ـ بالفتح ، الا اذا وجد هذا الشرط ، فمتى انتفى الشرط : لا
يكون على يفعل بالفتح ، لا انه اذا وجد هذا الشرط : يجب ان يكون على يفعل بالفتح ،
اذ لا يلزم من وجود الشرط ، وجود المشروط وهي ، اي : حروف الحلق : ستة ، الهمزة ،
والهاء ، والعين ، والحاء المهملتان ، والغين والخاء ، والمعجمتان ، نحو : سأل
يسأل ، وزهق يزهق ، ومنع يمنع ، وفتح يفتح ، ولدغ يلدغ ، وسلخ يسلخ قدم الهمزة ،
لأن مخرجها من اقصى الحلق ، ثم الهاء ، لأن مخرجها اعلى من مخرج الهمزة ، والبواقي
على هذا الترتيب.
ثم استشعر
اعتراضا : بان «ابى يأبى» جاء على «فعل يفعل» بالفتح ، مع انتفاء الشرط.
فاجاب عنه ،
بقوله : «وابى يأبى : شاذ» اي : مخالف للقياس
فلا يعتد به ، فلا يرد نقضا.
فان قيل : كيف
يكون شاذا ، وهو وارد في افصح الكلام ، قال الله تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ).
قلت : كونه
شاذا ، لا ينافي وقوعه في الكلام الفصيح ، فانهم قالوا الشاذ على ثلاثة اقسام :
قسم مخالف للقياس دون الاستعمال ، وقسم مخالف للاستعمال دون القياس ، وكلاهما
مقبولان ، وقسم مخالف للقياس والاستعمال ، وهو : مردود.
لا يقال : ان
أبى يأبى ، لامه حرف الحلق ، اذ الألف من حروف الحلق ، فلهذا : فتح عينه.
لأنا نقول : لا
نسلم : انها من حروف الحلق ، ولئن سلمنا انها من حروف الحلق : لكن ، لا يجوز ان
يكون الفتح لأجلها ، للزوم الدور ، لان وجود ـ الألف ـ موقوف على الفتح ، لأنه في
الأصل ـ ياء ـ قلبت ـ الغا ـ لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، فلو كان الفتح بسببها :
لزم الدور ، لتوقف الفتح عليها ، وتوقفها عليه ، فهو مفتوح العين في الأصل ، فلهذا
: لم يذكر المصنف الألف من حروف الحلق اذ هي لا تكون هاهنا الا منقلبة من ـ الواو
، والياء ـ وغرضه : بيان حروف بفتح ـ العين ـ لأجلها ، واما «قلى يقلى» بالفتح :
فلغة بني عامر ، والفصيح : الكسر في المضارع ، واما «بقى يبقى» فلغة طي ، والأصل :
كسر العين في الماضي ، فقلبوها فتحة ، واللام الفا ، تخفيفا ، وهذا قياس مطرد
عندهم ، واما «ركن يركن» فمن تداخل اللغتين ، اعني : انه جاء من باب «نصر ينصر ،
وعلم يعلم» فأخذ الماضي من الأول ، والمضارع من الثاني ، انتهى.
قال في ـ المراح
ـ : واما «ركن يركن» و «ابى يأبى» فمن اللغات المتداخلة ، والشواذ ، واما «بقى
يبقى» و «فنى يفنى» و «قلى يقلى» فلغات طي ، قد فروا من الكسرة الى الفتحة ،
انتهى.
ووجهوا فرارهم
: ان الأصل فيما فروا فيه ، كسر العين في الماضي فقلبوا الكسرة : فتحة ، لأن من
القياس ـ عندهم ـ ان يقلبوا الكسرة التي قبل الياء : فتحة ، ثم يقلبوا الياء :
الفا ، للتخفيف.
واما «عور يعور»
بالواو فالقياس فيهما : عار يعار ، كزال يزال لما تقدم في «قام» الا انه كذلك ثبت
من الواضع.
قال في ـ شرح
النظام ـ : وصح باب «اعوار» و «اسواد» للبس ، لان اسواد لو اعل : تحركت السين ،
وحذفت الف الوصل ، واجتمع الفان ، وبعد حذف احديهما ، يصير : ساد ، فلا يدرى : هل
هو افعال ، او فاعل ، وحيث لم يعل باب اعوار ، واسواد ، لم يعل باب عور ، وسود ،
وان كانت العلة موجودة فيه صريحا ، لأنه بمعناه ، والأصل في الألوان والعيوب ، هو
: باب افعال ، فحمل ما ليس بأصل على الأصل ، وما تصرف مما صح صحيح ـ ايضا ـ كاعورته
، اي : جعلته اعور ، واستعورته ، ومعور ، ومستعور ، لأن الكل متصرفات اعوار ، وهو
غير معل ، انتهى.
قال في ـ المصباح
ـ : عورت العين عورا ، من باب «تعب» نقصت او غارت ، فالرجل اعور ، والانثى عوراء ،
ويتعدى بالحركة ، والتثقيل فيقال : عرتها ، من باب ـ قال ـ ومنه قيل : كلمة عوراء
، لقبحها وقيل للسوءة : عورة ، لقبح النظر اليها ، وكل شيء يستره الانسان انفة
وحياء ، فهو «عورة» والنساء : عورة ، والعورة في الثغر والحرب
خلل يخاف منه ، والجمع : عورات ـ بالسكون ـ للتخفيف ، والقياس ـ الفتح ـ لأنه
اسم ، وهو لغة هذيل ، والعوار ، وزان كلام : العيب والضم لغة ، وبالثوب عوار : من
خرق ، وشق ، وغير ذلك ، وبالعين عوار ، وعوار ـ ايضا ـ وبعضهم يقول : لا يكون
الفتح الا في الأمتعة فالسلعة ذات عوار ، وفي عين الرجل عوار ـ بالضم ـ وتعاوروا
الشيء واعتوروه : تداولوه ، والعارية من ذلك ، والأصل فعلية بفتح العين.
قال ـ الازهري
ـ : نسبة الى العارة ، وهي : اسم من الاعارة ، يقال : اعرته الشيء اعارة ، وعارة
مثل : اطعته اطاعة ، وطاعة ، واجبته اجابة ، وجابة ، وقال الليث : سميت عارية ،
لأنها عار على طالبها.
وقال ـ الجوهرى
ـ مثله ، وبعضهم يقول : مأخوذة من عار الفرس اذا ذهب من صاحبه ، لخروجها من يد
صاحبها ، وهما غلط ، لأن العارية من ـ الواو ـ لان العرب تقول : هم يتعاورون
العواري ، ويتعورونها ـ بالواو ـ اذا اعار بعضهم بعضا ، والله اعلم ، وعار الفرس
من ـ الياء ـ فالصحيح : ما قال الأزهري ، وقد تخفف العارية في الشعر ، والجمع : العواري
ـ بالتخفيف ، وبالتشديد ـ على الأصل ، واستعرت منه الشىء فاعارنيه ، انتهى.
والغرض من نقل
هذا الكلام بطوله : التنبيه على انه قد تنقلب ـ الواو ـ طبقا للقانون.
قال في ـ شرح
النظام ـ : ومن قال في الثلاثي : «عار» بالاعلال مثل : قام ، قال في سائر تصاريفه
: اعار ، واستعار ، وعائر ، مثل : اقام ، واستقام ، وقائم انتهى.
واما (اسْتَحْوَذَ) فقد علم حكمه ، مما ذكرنا في عور يعور ، قال
ـ الرضي ـ : لم يعل ، نحو : استعور ، واعور ، وان كانا في الظاهر : كاستقوم
، واقوم ، لأن اصلهما : ليس معللا ، حتى يحملا في الاعلال عليه انتهى ، قال في ـ المصباح
ـ : استحوذ عليه الشيطان : غلبه ، واستعماله الى ما يريد منه ، واما قطط شعره ،
فالقياس فيه : هو القياس في «مد ، وشد» وانما لم يدغم مع وجوبه : لأنه هكذا ثبت من
الواضع.
قال في ـ شرح
النظام ـ : جاء قطط شعره : اشتدت جعودته ، وضبب البلد : اذا كثر ضبابه ، وذلك
لبيان الأصل.
قال في ـ مجمع
البحرين ـ : الضباب : جمع الضب ، مثل : سهم وسهام ، وجاء جمعه على أضبب ، كفلس ،
وأفلس ، والضب : دابة برية يقال له ـ بالفارسية ـ : سوسمار ، انتهى.
وقال في ـ المصباح
ـ : شعر قط ، وقطط ـ ايضا ـ : شديد الجعودة وفي ـ التهذيب ـ القطط : شعر الزنجي ،
ورجال قطاط مثل : جبل وجبال ، وقطّ الشعر يقطّ ، من باب ـ قتل ـ وفي لغة : قطط ـ من
باب تعب ـ انتهى.
واما «آل»
فالقياس فيه ـ بناء على ان أصله أهل ـ : ان لا تقلب ـ الهاء ـ همزة ، الا انه ثبت
عن الواضع.
قال الرضي :
قيل : آل ، أصله : اهل ، ثم اءل ، بقلب الهمزة ـ الفا ـ وذلك : لأنه لم يثبت قلب ـ
الهاء ، الفا ـ وثبت قلبها : همزة ، فالحمل على ما ثبت مثله اولى.
وقال الكسائي :
أصله : اول ، لأنهم يؤلون الى اصل ، وحكى ـ ابو عبيدة ـ في هل فعلت آل فعلت ، وقيل
: ان أصل الا في التحضيض هلا ، انتهى.
قال في ـ شرح النظام ـ : والألف تبدل من اختيها ـ الواو ، والياء ـ ومن ـ الهمزة
ـ فمن اختيها : لازم في نحو : قال ، وباع وآل ـ على رأي ـ وذلك : ان اصله ـ عند
الكسائي ـ : اول ، بدليل تصغيره عند بعضهم : على اويل ، كانهم يؤلون الى اصل قلب
الواو ، الفا.
ثم قال : ومن
الهاء في آل ـ على رأي ـ فان اصله ـ عند البصريين ـ : اهل ، قال في ـ المصباح ـ :
الآل : اهل الشخص ، وهم ذوو قرابته وقد اطلق على اهل بيته ، وعلى الاتباع ، واصله
ـ عند بعض ـ : اول ، تحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت الفا ، مثل : قال.
قال ـ البطليوسي
، في كتاب الاقتضاب ـ : ذهب الكسائي : الى منع اضافة آل المضمر ، فلا يقال : بل
أهله ، وهو اول من قال ذلك وتبعه النحاس والزبيدي ، وليس بصحيح ، اذ لا قياس يعضده
، ولا سماع يؤيده قال بعضهم : اصل الآل : اهل ، لكن دخله الابدال ، واستدل عليه
بعود الهاء في التصغير ، فيقال : اهيل ، انتهى.
ولبعض المحققين
كلام فيه فوائد جمة قد تقدم جل منها هاهنا وفي اوائل الكتاب ، لكن لا بأس بنقله
بتمامه ، لأن الاعادة ـ كما قال الهروي ـ في كفايته ـ ليست بلا فائدة ، ولا افادة
لمن هو أهل للاستفادة قال : آل اصله : اهل ، من قولهم : فلان اهل لكذا ، اي :
مستحق له ، ولا شك : ان الرجل مستحق لآله ، وآله مستحقون له ، فابدلت ـ الهاء ،
همزة ـ فتوالت همزتان ، ابدلت الثانية ـ الفا ـ.
فان قلت :
ابدال الهاء همزة ، مشكل ، اذ فائدة التصريف النقل لما هو اخف ، والنقل هنا لما هو
اثقل ، اذ الهمزة اثقل من الهاء.
واجيب : بأن
هذا الثقيل ، لم يقصد لذاته ، وانما هو وسيلة
للتوصل للخفيف المطلق ، وهو الألف ، ولم تقلب الهاء الفا من اول الأمر ، لأنه
غير معهود في محل آخر يقاس هذا عليه ، بخلاف قلبها همزة ، فانه قد عهد كما فى :
اراق ، اصله : هراق ، والدليل على ذلك : تصغيره على اهيل ، والتصغير يرد الاشياء
الى اصولها.
واعترض : بأن
في الاستدلال ـ بالتصغير ـ دورا ، وذلك : لأن المصغر فرع المكبر ، و ـ حينئذ ـ فاهيل
، متوقف على آل ، فاذا استدل ـ باهيل ـ على ان اصله : اهل ، كان آل متوقفا : على
اهيل ، وهذا دور ، لتوقف كل واحد على الآخر.
واجيب : بان
الجهة منفكة ، لأن توقف المكبر على المصغر ، من حيث العلم باصالة الحروف ، وتوقف
المصغر على المكبر ، من حيث الوجود واعترض ـ ايضا ـ : بأن اهيلا : يمكن ان يكون
تصغيرا «لأهل» لا لآل ، و ـ حينئذ ـ فلا يصح الاستدلال.
واجاب بعضهم :
بأن آل هذا مكبر ، ولا بد له من مصغر ، ولم يسمع الا اهيل ، دون اويل ، حتى يكون
اصله : اول ، ولا ائيل حتى يكون اصله : اءل ، ولا اييل ، حتى يكون اصله : ايل ،
فدل على ان اهيلا تصغير له ، وهذا لا يمنع من كونه تصغيرا لأهل ـ ايضا ـ لكن ما
ذكره ذلك البعض : من انه لم يسمع اويل ، فيه نظر ، لما نقل عن ـ الكسائى ـ : سمعت
اعرابيا فصيحا يقول : اهل ، واهيل وآل ، واويل.
فالاولى في
الجواب ، ان يقال : ان اهيل ، وان كان يحتمل انه تصغير لأهل ، لكن اهل اللغة ثقاة
، وقد قام الدليل عندهم : على انه تصغير لآل ـ ايضا ـ.
فان قلت : ان
الآل مختص باولي الخطر والشرف ، والتصغير على اهيل ينافي ذلك ، لدلالة التصغير على
التحقير.
قلت : معنى
قولهم : ان الآل خص استعماله فيمن له خطر وشرف انه لا يدخل الا على من له شرف ،
والتصغير : انما اعتبر في المضاف الذي هو الآل ، وليس معتبرا في المضاف اليه ، فلا
تنافي لاعتبار كل منهما في غير ما اعتبر فيه الآخر.
سلمنا : ان كلا
من التصغير والشرف ، معتبر في المضاف ، لكون الشرف سرى من المضاف اليه الى المضاف ،
على ما يذكره البيانيون ـ في بحث تعريف المسند اليه بالاضافة ـ فلا نسلم التنافى :
لأن التحقير باعتبار ، لا ينافي الشرف باعتبار آخر ، فاختصاصه باولى الشرف ولو من
بعض الوجوه ، والتحقير من بعض الوجوه.
واما الجواب :
بان تصغيره يجوز ان يكون للتعظيم ، فلا يمنع من اختصاصه بالاشراف ، فقد يناقش فيه
: بان تصغير التعظيم فرع عن تصغير التحقير ـ كما صرحوا به ـ.
والآل قد وقع
فيه تخصيصان ، وان كان عاما باعتبار اصله ، بناء على ان اصله : اهل.
الأول : انه لا
يضاف لغير العقلاء ، فلا يقال : آل الاسلام ، ولا آل مصر ، ولا آل البيت ،
وامثالها ، ويقال : اهل الاسلام ، واهل مصر واهل البيت ، الثاني : انه لا يضاف
للعاقل الا اذا كان له خطر وشرف كما اشير آنفا ، فلا يقال : آل الجزار ، ويقال :
اهله ، قيل : والسبب في ذلك : انهم لما ارتكبوا في الآل التغيير اللفظي ، بتغيير ـ
الهاء ـ ارتكبوا التخصيص الأول ، قصدا للملائمة بين اللفظ والمعنى
ولما كانت الهاء حرفا ثقيلا ، بكونه من اقصى الحلق ، تطرق الى الكلمة بسبب
قلبها الى ـ الألف ـ الذي هو حرف خفيف : نقص قوي ، فارتكبوا التخصيص الثانى ، جبرا
لهذا النقص ، والخطر والشرف : أعم من ان يكون في امر الدين والدنيا جميعا ، كآل
النبى (ص) ، او الدنيا فقط ، كآل فرعون.
قيل هاهنا
بتخصيص ثالث قد اشير اليه ـ ايضا ـ : وهو عدم اضافة آل الى الضمير ، وانه من لحن
العامة ، واستدل على ذلك بأن آل ـ كما ذكرنا ـ انما يضاف لذي شرف ، والظاهر اشرف
من الضمير لأنه أصل بالنسبة اليه.
ورد : بأن
الضمير يعطي حكم مرجعه في الشرف ، كما يعطى حكم مرجعه في التعريف والتنكير ، كما
ذكروه في : «ربه رجلا» ويدل عليه ـ ايضا ـ قول عبد المطلب عليهالسلام :
وانصر على آل
الصلي
|
|
ب وعابديه
اليوم آلك
|
انتهى.
واما «ماء» فهو
ـ ايضا ـ مخالف للقياس ، لما تقدم في آل : من ان الهاء لا تقلب همزة في القانون
التصريفي ، فان اصله : موه ، ولكن ثبتت عن الواضع القلب المذكور.
قال الرضي :
قلب الهاء همزة لازم ، واصله : موه ، قلب الواو الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ،
ثم شبه الهاء بحرف اللين لخفائها ، فكأنها واو ، او ياء. واقعة طرفا بعد الألف
الزائدة ، فقلبت الفا ثم همزة.
وقال في شرح
النظام : وماء شاذ لازم ، واصله : موه ـ بالتحريك ـ
بدليل : امواه ، قلبت الواو الفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وابدلت
الهاء همزة ، وقد تبدل في جمعه ـ ايضا ـ قال الشاعر :
وبلدة قالصة
اموائها
|
|
تستن في رأد
الضحى اقيائها
|
والأكثر امواه.
وقال في ـ المصباح
ـ : الماء اصله : موه ، فقلبت الواو الفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع
حرفان خفيان ، فقلبت الهاء همزة ولم تقلب الألف ، لانها اعلت مرة ، والعرب لا تجمع
على الحرف اعلالين ، ولهذا يرد الى اصله في الجمع والتصغير ، فيقال : مياه ، ومويه
، وقالوا : امواه ـ ايضا ـ مثل : باب ، وابواب ، وربما قالوا امواء ـ بالهمزة ـ على
لفظ الواحد ، انتهى.
فتحصل مما
ذكرنا : ان هذه الشواذ المذكورة ، وان كانت على خلاف القانون المستنبط من تتبع لغة
العرب ، لكنها موافقة لما ثبت عن الواضع ، (فليست من المخالفة) للقياس ، المخلة
بفصاحة الكلمة ، (بشىء) ، لأن المخالفة للقياس ، انما تخل بالفصاحة : اذا كانت
الكلمة مخالفة للاستعمال ، اي : وضع الواضع ـ ايضا ـ وهذه الشواذ ليست كذلك ، (لأنها
كذلك) ، اي : مخالفة للقياس التصريفي ، (ثبتت من الواضع ، بل المخالف ة) المخلة
بفصاحة الكلمة : اي : (ما لا يكون على وفق ما ثبت من المواضع) (ما لا يكون على وفق
الاستعمال ـ ايضا ـ.
ويعجبني ان
انقل هاهنا كلاما للسيوطي ، فيها فوائد ، بعضها تقرير لما سبق ، وبعضها تعقيب له ،
وبعضها زيادة له ، قال في ـ المزهر ـ : قال الجار بردى في ـ شرح الشافية ـ : فان
قلت : ما يقصد بالفصيح وباي شيء يعلم انه غير فصيح ، وغيره فصيح؟
قلت : ان يكون
اللفظ على السنة الفصحاء الموثوق بعربيتهم ادور واستعمالهم لها اكثر.
قال الشيخ بهاء
الدين : ينبغى ان يحمل الغرابة على الغرابة ، بالنسبة الى العرب العرباء ، لا
بالنسبة الى استعمال الناس ، والا لكان جميع ما في كتب الغريب غير فصيح ، والقطع
بخلافه.
قال : والذي
يقتضيه كلام المفتاح وغيره : ان الغرابة قلة الاستعمال والمراد : قلة استعمالها
لذلك المعنى لا لغيره.
وقال ـ ايضا ـ :
قد يرد على قوله ومخالفة القياس : ما خالف القياس وكثر استعماله ، فورد في القرآن
، فانه فصيح مثل : (اسْتَحْوَذَ).
وقال الخطيبي
في ـ شرح التلخيص ـ : اما اذا كانت مخالفة القياس لدليل ، فلا يخرج عن كونه فصيحا.
كما في سرر ، فان قياس «سرير» ان يجمع على ـ افعلة ، وفعلان ـ مثل ارغفة ، ورغفان.
وقال الشيخ
بهاء الدين : ان عنى الدليل : ورود السماع ، فذلك شرط لجواز الاستعمال اللغوي ، لا
الفصاحة ، وان عنى دليلا يصيره فصيحا ، وان كان مخالفا للقياس : فلا دليل في سرر
على الفصاحة ، الا وروده في القرآن ، فينبغي ـ حينئذ ـ ان يقال : ان مخالفة القياس
انما تخل بالفصاحة : حيث لم يقع في القرآن الكريم.
قال : ولقائل
ان يقول ـ حينئذ ـ : لا نسلم : ان مخالفة القياس تخل بالفصاحة ويسند هذا المنع
بكثرة ما ورد منه في القرآن ، بل مخالفة القياس مع قلة الاستعمال مجموعهما هو
المخل.
قلت : والتحقيق
: ان المخل هو قلة الاستعمال وحدها ، فرجعت الغرابة ومخالفة القياس : الى اعتبار
قلة الاستعمال والتنافر كذلك ،
وهذا كله تقرير : لكون مدار الفصاحة على كثرة الاستعمال ، وعدمها على قلته
، قال الشيخ بهاء الدين : مقتضى ذلك ـ ايضا ـ ان كل ضرورة ارتكبها شاعر ، فقد
اخرجت الكلمة عن الفصاحة.
وقد قال حازم
القرطاجني في ـ منهاج البلغاء ـ : الضرائر الشائعة منها : المستقبح وغيره ، وهو ما
لا تستوحش منه النفس ، كصرف ما لا ينصرف ، وقد تستوحش منه في البعض : كالأسماء
المعدولة ، واشد ما تستوحشه تنوين افعل منه ، ومما لا يستقبح : قصر الجمع الممدود
ومد الجمع المقصور ، واقبح الضرائر الزيادة المؤدية لما ليس اصلا في كلامهم ،
كقوله : ادنو فانظور ، اي : انظر ، والزيادة المؤدية لما يقل في الكلام ، كقوله :
فاطأت شيمالى ، أي : شمالى ، وكذلك النقص المجحف ، كقوله ، اي : لبيد : (درس المنا
بمتالع فابان) اراد : المنازل ، وكذلك العدول عن صيغة لاخرى ، كقول الحطيئة :
فيها الزجاج
وفيها كل سابغة
|
|
جدلاء محكمة
من نسج سلام
|
اراد سليمان عليهالسلام.
واطلق الخفاجى
في ـ سر الفصاحة ـ : ان صرف غير المنصرف وعكسه ـ في الضرورة ـ مخل بالفصاحة.
وقال الشيخ
بهاء الدين : عد بعضهم من شروط الفصاحة : ان لا تكون الكلمة مبتذلة ، اما لتغيير
العامة لها : الى غير اصل الوضع ، كالصرم للقطع ، جعلته العامة للمحل المخصوص ،
واما لسخافتها في اصل الوضع كاللقالق ، ولهذا عدل في التنزيل الى قوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى
الطِّينِ) لسخافة لفظ الطوب وما رادفه ، كما قال الطيبي :
ولاستثقال جمع الأرض لم تجمع في القرآن. وجمعت السماء ، وحيث اريد جمعها
قال : (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ) ولاستثقال اللب لم يقع في القرآن ووقع فيه جمعه ، وهو :
الألباب ، لخفته.
وقد قسم حازم
في ـ المنهاج ـ : الابتذال والغرابة ، فقال : الكلمة على أقسام ، الأول : ما
استعملته العرب دون المحدثين ، وكان استعمال العرب له كثيرا في الأشعار وغيرها ،
فهذا حسن فصيح.
الثاني : ما
استعملته العرب قليلا ، ولم يحسن تأليفه ولا صيغته ، فهذا لا يحسن ايراده.
الثالث : ما
استعملته العرب ، وخاصة المحدثين دون عامتهم ، فهذا حسن جدا ، لأنه خلص من حوشية
العرب ، وابتذال العامة.
الرابع : ما
كثر في كلام العرب ، وخاصة المحدثين ، وعامتهم ، ولم يكثر في السنة العامة ، فلا
بأس به.
الخامس : ما
كان كذلك ، ولكنه كثر في السنة العامة. وكان لذلك المعنى اسم استغنت به الخاصة عن
هذا ، فهذا يقبح استعماله لابتذاله.
السادس : ان
يكون ذلك الاسم كثيرا عند الخاصة والعامة وليس له اسم آخر ، وليست العامة احوج الى
ذكره من الخاصة ، ولم يكن من الأشياء التي هي انسب بأهل المهن ، فهذا لا يقبح ،
ولا يعد مبتذلا مثل : لفظ الرأس ، والعين.
السابع : ان
يكون كما ذكرناه ، الا ان حاجة العامة له أكثر فهو كثير الدوران بينهم ، كالصنايع
، فهذا مبتذل.
الثامن : ان
تكون كلمة كثيرة الاستعمال عند العرب والمحدثين لمعنى ، وقد استعملها العرب نادرا
لمعنى آخر ، فيجب ان يجتنب
هذا ـ ايضا ـ.
التاسع : ان
تكون العرب والعامة استعملوها دون الخاصة ، وكان استعمال العامة لها من غير تغيير
، فاستعمالها على ما نطقت به العرب ليس مبتذلا ، وعلى التغيير قبيح مبتذل.
ثم اعلم : ان
الابتذال في الألفاظ وما تدل عليه ، ليس وصفا ذاتيا ، ولا عرضا لازما ، بل لا حقا
من اللواحق المتعلقة بالاستعمال في زمان دون زمان ، وصقع دون صقع ، انتهى.
اذا عرفت ذلك
فلنعد الى ما كنا فيه ، فنقول : قد تحصل مما ذكرنا ان المخالفة للقياس المخلة
بالفصاحة ، ما لم تكن لعلة ، كدفع اللبس ولا ثبتت من الواضع ، (نحو : الأجلل ، بفك
الادغام ـ في قوله ـ) اي : الفضل بن قدامة بن عبد الله ، المكني «بأبي النجم» :
انت مليك
الناس ربا فاقبل
|
|
الحمد لله
العلي الأجلل
|
الواهب الفضل
الوهوب المجزل
|
|
اعطى فلم
يبخل ولم يبخل
|
(والقياس) المستنبط التصريفي ،
يقتضي ان يقال : (الأجل) ـ بالادغام ـ لما تقدم من ان اجتماع المئلين ، يوجب
الادغام ، ولا موجب للعدول عنه ، هذا ، ولكن اعترض ذلك : بان الحكم بعدم فصاحة
الأجلل ، يوجب الحكم بأنه ليس بكلمة ، اذ هو غير ثابت عن الواضع فهو غير موضوع ،
فليس بكلمة ، لأن الموضوع الأجل ـ بالادغام ـ.
واجيب عن ذلك :
بأن تصريحهم بان اصل الاجل : الأجلل ، يقتضي الحكم : بكون الأجلل موضوعا ، اذ لا
يمكن القول بوجود الفرع من دون وجود الأصل ، غاية الأمر ، ان يقال : انه انتسخ
استعماله ، فيكون وضعا غير مستقر ، وياله من نظائر ، وقد بينا
بعضها في ـ المكررات ، في باب التصريف ـ وقلنا هناك : الفرعية غير متوقفة
على استعمال الأصل ، فراجع ، وقد اشار الى ذلك الشارح ـ ايضا ـ.
قال في ـ شرح
التصريف ـ وأماتوا : ماضي يدع ، ويذر ، يعنى لم يسمع من العرب : ودع ، ولا وذر ،
وسمع : يدع ، ويذر ، فعلم انهم اماتوهما ، اي تركوا استعمالهما.
قال في ـ الصحاح
ـ قولهم : دعه ، اي : اتركه ، واصله : ودع يدع ، وقد اميت ماضيه ، لا يقال : ودعه
، وانما يقال : تركه ، ولا وادع ، ولكن يقال : تارك ، وربما جاء في الضرورة في
الشعر ، ودع ، فهو مودوع ، قال الشاعر :
ليت شعري عن
خليلى ما
|
|
الذي غاله في
الحب حتى ودعه
|
وقال ـ ايضا ـ :
اذا ما
استحمت ارضه من سمائة
|
|
جزى وهو
مودوع ووادع مصدق
|
وذره ، اي :
دعه ، وهو يذره ، اي : يدعه ، اصله : وذريذر اميت ماضيه ، لا يقال : وذر ، ولا
واذر ، ولكن يقال : ترك ، وهو تارك ، انتهى كلامه.
وفي جعل «مودوع»
من ضرورة الشعر : بحث ، لأنه جاء في غير الضرورة ، ولما كان هنا مظنة سؤال ، وهو :
انه اذا لم يكن ماضيهما ، ولا فاعلهما ، ولا مصدرهما ، مستعملة ، فما الدليل على
ان ـ فائهما ـ واو؟ فأجاب بقوله : بقوله : وحذف ـ الفاء ـ دليل : على انه اي :
الفاء ـ ، واو ، اذ لو كان ياء ، لم يحذف ، انتهى.
ويؤيد ما نحن
بصدده : ما نسب الى ـ السكاكي ـ : من ان المشتقات مأخوذة من المصادر الخالية عن
اللام والتنوين ، وسائر اللواحق ، لأن
تلك المصادر لم تستعمل ، بل لا يجوز ان تستعمل ، لأن الاسم لا بد فيه من ان
يتم باحد من اللواحق ، ثم يستعمل.
الى هنا كان
الكلام فيما يجب في فصاحة المفرد ، خلوصه منه عند المشهور.
(قيل) : يجب في
(فصاحة المفرد ، خلوصه مما ذكر ، ومن الكراهة في السمع) ـ ايضا ـ والكراهة : (بأن
يتبرأ السمع) ويمج (من سماعه ، كما يتبرأ السمع من سماع الأصوات المنكرة) ويمج
منها ، (فان اللفظ من قبيل الأصوات ، والأصوات منها : ما تستلذ النفس سماعه ،
ومنها : ما تستكرهه.
قال في ـ المثل
السائر ـ : ان الألفاظ داخلة في حيز الاصوات لأنها مركبة من مخارج الحروف ، فما
استلذه السمع منها فهو الحسن وما كرهه ونبا عنه ، فهو القبيح.
واذا ثبت ذلك :
فلا حاجة الى ما ذكر من تلك الخصائص والهيآت التى اوردها علماء البيان في كتبهم ،
لأنه اذا كان اللفظ لذيذا في السمع ، كان حسنا ، واذا كان حسنا ، دخلت تلك الخصائص
والهيآت في ضمن حسنه.
وقد رأيت جماعة
من الجهال ، اذا قيل لأحدهم : ان هذه اللفظة حسنة ، وهذه قبيحة ، انكر ذلك وقال :
كل الألفاظ حسن ، والواضع لم يضع الا حسنا ، ومن يبلغ جهله الى ان لا يفرق بين
لفظة الغصن ، ولفظة العسلوج ، وبين لفظة المدامة ، ولفظة الاسفنط ، وبين لفظة
السيف ولفظة الخنشليل ، وبين لفظة الأسد ، ولفظة الغدوكس ، فلا ينبغي ان يخاطب
بخطاب ، ولا يجاوب بجواب ، بل يترك وشأنه ، كما قيل :
اتركوا الجاهل بجهله ، ولو القى الجعر في رحله.
وما مثاله في
هذا المقام : الا كمن يسوى بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد ، شوهاء الخلق ، ذات
عين محمرة ، وشفة غليظة ، كأنها كلوة ، وشعر قطط ، كأنه زبيبة ، وبين صورة رومية ،
بيضاء ، مشربة بحمرة ، ذات خد اسيل. وطرف كحيل ، ومبسم كأنما نظم من اقاح وطرة
كأنها ليل على صباح ، فاذا كان بانسان من سقم النظر ، ان يسوى بين هذه الصورة وهذه
، فلا يبعد ان يكون به من سقم الفكر ان يسوى بين هذه الألفاظ وهذه ، ولا فرق بين
النظر والسمع في هذا المقام ، فان هذا حاسة ، وهذا حاسة ، وقياس حاسة على حاسة مناسب
فان عاند معاند في هذا ، وقال : اغراض الناس مختلفة فيما يختارونه من هذه الأشياء
، وقد يعشق الانسان صورة الزنجية التى ذممتها ، ويفضلها على صورة الرومية التي
وصفتها.
قلت في الجواب
: نحن لا نحكم على الشاذ النادر ، الخارج عن الاعتدال ، بل نحكم على الكثير الغالب.
وكذلك : اذا
رأينا شخصا يحب أكل الفحم مثلا ، او اكل الجص والتراب ، ويختار ذلك على ملاذ
الأطعمة ، فهل نستجيد هذه الشهوة او نحكم عليه بأنه مريض قد فسدت معدته ، وهو
محتاج الى علاج ومداواة ، ومن له ادنى بصيرة : يعلم ان للالفاظ في الادن نغمة
لذيذة كنغمة اوتار ، وصوتا منكرا كصوت حمار ، وان لها في الغم ايضا حلاوة كحلاوة
العسل ، ومرارة كمرارة الحنظل ، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم ، ولا يسبق
وهمك ايها المتأمل الى قول القائل الذي غلب عليه غلظ الطبع ، وفجاجة الذهن : بان
العرب اكانت تستعمل
من الألفاظ كذا وكذا ، فهذا دليل : على انه حسن ، بل ينبغي ان تعلم : ان
الذي نستحسنه نحن في زماننا هذا ، هو الذي كان عند العرب مستحسنا ، والذي نستقبحه
هو الذي كان عندهم مستقبحا ، والاستعمال ليس بدليل على الحسن ، فانا نحن نستعمل
الآن من الكلام ما ليس بحسن ، وانما نستعمله لضرورة ، فليس استعمال الحسن بممكن في
كل الأحوال ، وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه ، ومن لم يعرف صناعة النظم
والنثر ، وما يجده صاحبها من الكلفة في صوغ الألفاظ واختيارها : فانه معذور في ان
يقول ما قال :
لا يعرف
الشوق الا من يكابده
|
|
ولا الصبابة
الا من يعانيها
|
ومع هذا : فان
قول القائل : بان العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا ، وهذا دليل على انه حسن
، قول فاسد ، لا يصدر الا عن جاهل ، فان استحسان الألفاظ واستقباحها ، لا يؤخذ
بالتقليد من العرب ، لأنه شيء ليس فيه للتقليد مجال ، وانما هو شيء له خصائص وهيآت
وعلامات ، اذا وجدت علم حسنه من قبحه ، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الفصاحة
والبلاغة ، واما الذي نقلد العرب فيه من الألفاظ : فانما هو الاستشهاد بأشعارها
على ما ينقل من لغتها ، والأخذ باقوالها في الأوضاع النحوية : في رفع الفاعل ،
ونصب المفعول ، وجر المضاف اليه ، وجزم الشرط ، واشباه ذلك ، وما عداه فلا ، وحسن
الألفاظ وقبحها : ليس اضافيا الى زيد دون عمرو ، او الى عمرو دون زيد ، لأنه وصف
ذووى لا يتغير بالاضافة ، الا ترى : ان لفظة : المزنة ـ مثلا ـ حسنة عند الناس
كافة ، من العرب وغيرهم ، وهلم جرا ، لا يختلف احد في حسنها ، وكذلك لفظة : البعاق
، فانها قبيحة عند
الناس كافة ، من العرب وغيرهم ، فاذا استعملتها العرب ، لا يكون استعمالهم
اياها مخرجا لها من القبيح ، بل يعاب مستعملها ، ويغلظ له التنكير حيث استعملها.
وقال في موضع
آخر : اعلم : ان الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر ، فالألفاظ الجزلة ،
تتخيل في السمع كاشخاص عليها مهابة ووقار ، والألفاظ الرقيقة ، تتخيل كاشخاص ذي
دماثة ولين اخلاق ، ولطافة مزاج.
ولهذا ترى :
الفاظ ـ ابي تمام ـ كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم ، وتأهبوا للطراد
، وترى ألفاظ البحترى كأنها نساء حسان ، عليهن غلائل مصبغات ، وقد تحلين باصناف
الحلى.
ومثال الكراهة
في السمع : (نحو الجرشى ـ في قول ابي الطيب ـ) احمد بن الحسين بن الحسن بن عبد
الصمد الجعفي الكندي الكوفي المتنبى قيل : انما قيل له «المتنبي» لأنه ادعى النبوة
في بادية سماوة ، وتبعه خلق كثير من بنى كلب وغيرهم ، فخرج اليهم «لؤلؤ» امير حمير
، نائب كافور الاخشيدى ، فاسره وتفرق اصحابه ، وحبسه طويلا ثم استتابه واطلقه ،
وله تاريخ مملوء بالحوادث الغريبة ، فمن اراد الاطلاع عليه ، فعليه مراجعة الكتب
المعدة لذلك ، قيل : قتل هو وابنه وغلامه ، بالقرب من النعمانية.
(فى مدح سيف
الدولة «ابي الحسن» علي) بن عبد الله بن حمدان (مبارك الاسم اغر اللقب كريم الجرشى
، اي : النفس) ، اي : الشخص والذات ، (شريف النسب ، فالاسم مبارك ، لموافقة اسمه
اسم امير المؤمنين علي) بن أبي طالب (ع) ، قيل : لأشعاره بالعلو ، وقيل : لا بعد
ان تجعل البركة لموافقة اسمه اسم الله تعالى ، فتأمل.
(واللقب مشهور
بين الناس) ، اذ كل احد يعرف : ان سيف الدولة هو الممدوح لا غيره ، (والاغر من
الخيل : الابيض الجبهة) ، قال في ـ المصباح ـ : الغرة في الجبهة ، بياض فوق الدرهم
، وفرس اغرّ ، ومهرة غراء ، مثل : احمر وحمراء ، ورجل اغر : صبيح ، او سيد في قومه
، انتهى.
(ثم استعير)
لفظة الاغر ، (لكل واضح معروف) ، ممتاز بين صنفه ، ولا يخفى وجه المناسبة.
قال ـ الثعالبي
، في اليتيمة ـ : كان بنو حمدان ملوكا ، اوجههم للصباحة والسنتهم للفصاحة ،
وايديهم للسماحة ، واعقلهم للرجاحة ، وسيف الدولة مشهورا بسيادتهم ، وواسطة
قلادتهم ، وحضرته مقصد الوفود ، ومطلع الجود ، وقبلة الآمال ، ومحط الرحال ، وموسم
الادباء وحلبة الشعراء ، ويقال : انه لم يجتمع بباب احد من الملوك بعد الخلفاء :
ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ، انتهى.
قيل : انه شريف
النسب ، لكونه من بني العباس عم النبي (ص) (وفيه) ، اي : في اشتراط الخلوص من
الكراهة في السمع ، (نظر) ، لان هذا الاشتراط : يشبه تحصيل الحاصل ، (لانها) ، اي
: الكراهة في السمع ، (داخلة تحت الغرابة المفسرة بالوحشية) المفسرة بما يتنفر عنه
الطبع ، وذلك (لظهور : ان الجرشى ، اما من قبيل تكأكأتم وافرنقعوا ، او الجحيش
واطلخم) ، المحتاج كل واحد في معرفته الى ان ينقر ، ويبحث عنه في كتب اللغة
المبسوطة مع كونه ثقيلا على السمع ، كريها على الذوق ، حسب ما بين فيما تقدم
(وقد ذكر هنا)
في بيان وجه النظر : (وجوه اخر) ، غير
خالية عن مناقشة واشكال.
(الاول : انها)
، اى : الكراهة فى السمع ، اذا وجدت فى الكلمة ، (ان ادت الى الثقل) على اللسان ،
عسر النطق بها ، سواء كان متناهيا في ذلك ، بأن تكون من قبيل همخع ، أو غير متناه
فى ذلك ، بأن تكون من قبيل مستشزرات ، (فقد دخلت) الكراهة بهذا الوصف (تحت التنافر)
، الذى تقدم بيانه ، وتقدم اشتراط الخلوص منه فى فصاحة الكلمة ، فاشتراط ذلك :
يغنى عن اشتراط الخلوص من الكراهة فى السمع.
(والا) ، أى :
وان لا تؤدى الى الثقل على اللسان ، وعسر النطق بها ، (فلا تخل) الكراهة بهذا
الوصف ، أعنى : غير المؤدية الى الثقل المذكور (بالفصاحة).
(الثانى : ان
ما ذكره هذا القائل في بيان هذا الشرط ، ان اللفظ من قبيل الاصوات ، فاسد ، لان
اللفظ ليس بصوت ، بل كيفية له كما عرف فى محله) قال فى ـ التصريح ـ : والمراد
باللفظ هنا ، الملفوظ به ، وهو الصوت من الفم وقال المحشى ـ معلقا عليه ـ : ان قيل
: الصوت فعل الصائت ، لانه مصدر صات بصوت ، وهو ليس بلفظ ، بل اللفظ هو الكيفية
الحاصلة من المصدر.
واجيب : بأن
الصوت يستعمل بمعنيين ، بمعنى : المصدر المذكور وبمعنى الاسم الذى هو الكيفية
الحاصلة من المصدر قال القوشجى فى شرح قول الخواجه فى بحث المسموعات ويعرض له
كيفية مميزة يسمى باعتبارها حرفا والحرف تلك الكيفية العارضة عند الشيخ وذلك الصوت
المعروض عند بعض ومجموع العارض والمعروض عند آخرين وعبارة المتن يحتملها انتهى ؛
وهو المراد هنا.
(وضعف هذين
الوجهين ظاهر) ، قال المحشى : اما الاول ، فلأن عدم التأدي الى الثقل : لا يوجب
عدم الاخلال بالفصاحة ، لجواز ان يكون لأمر آخر ، بأن يكون الفصحاء كما احترزوا عن
الألفاظ
الثقيلة على اللسان ، احترزوا عن الألفاظ الكريهة على السمع ، وهذا معنى
مناسب للاخلال ، كما صرح بذلك في تفسير الوحشي الغليظ ، فراجع.
واما الثاني :
فلأنه قد اورد النظر في المتن ، فينبغي ان يكون بيان وجه النظر ، جاريا على ما
ذكره القيل في المتن ، ولم يذكر فيه ان اللفظ من الأصوات ، فكيف ينسب اليه : انه
ذكر في بيان هذا الشرط : ان اللفظ من قبيل الأصوات؟ ولو سلم انه ذكره ولو في محل
آخر ، فالقول بان اللفظ صوت يعتمد على مخرج من مخارج الحروف : مشهور بين الادباء ،
كما صرح به في اول كتاب ـ شرح الأمثلة ـ وهم لا يلتفتون الى التدقيق الفلسفي : من
ان اللفظ ليس بصوت بل هو كيفية عارضة عليه ، انتهى بزيادة منا للتوضيح ، لكنه
ينافي ما نقلناه عن محشى التصريح.
والحاصل : ان
الوجه الأول ، مخالف لما صرح به في تفسير الوحشى الغليظ ، والوجه الثاني ، مبنى
على التدقيق الفلسفي ، والادبا ، لا يلتفتون اليه ، فتأمل.
و (الثالث : ان
الكراهة في السمع) ، ليست من اوصاف اللفظ ولا راجعة اليها ، بل هي (راجعة الى
النغم) ، وجرس الصوت ، وكيفيته (فكم من لفظ فصيح : يستكره في السمع ، اذا ادّي
بنغم غير متناسبة ، وصوت منكر ، وكم من لفظ غير فصيح : يستلذ اذا أدّى) وتلفظ (بنغم
مناسبة ، وصوت طيب) ، والحاصل : ان الكراهة في السمع ، ليست الا من قبيح الصوت ،
لا من ذات اللفظ ، فلو اشترط في فصاحة الكلمة : الخلوص عنها ، لخرج كثير من
الكلمات المتفق
على فصاحتها ، ككلمات القرآن الكريم عن الفصاحة ، اذا نطق بها وقرأها قار
كريه الصوت ، والشاهد على ذلك : هو الذوق والوجدان.
ولهذا الوجه
حكاية ، ذكرها السعدي في كتابه ـ الگلستان ـ وان رده الشارح بقوله : (وليس) هذا
الوجه ـ ايضا ـ (بشيء) مفيد ، للرد على القيل ، وذلك : (للقطع باستكراه ـ الجرشي ـ
دون) مرادفه ، اعني : (النفس ، سواء ادّى) وتلفظ (بصوت حسن او غيره) من الأصوات
المنكرة ، (وكذا جفخت ، وملع) ، فانهما مستكرهان كذلك ، (دون فخرت ، وعلم) ،
فانهما غير مستكرهين كذلك والحاصل : ان الكراهة في السمع ، ليست كما توهم في الوجه
الثالث ، ناشئة من قبح الصوت ، بل هي ناشئة من ذات اللفظ ، والا لزم ان يكون
الجرشي غير مكروه ، الا اذا تلفظ به قار قبيح الصوت وليس كذلك ، للقطع بكراهته دون
مرادفه ، وان نطق به حسن الصوت ، لأن تنفر الطبع من المسموعات ، وكراهتها على
السمع لا سيما الألفاظ : لا يكون الا بكون ذاتها مما يتنفر منه ، الطبع ، بحيث
يكون ثقيلا على السمع ، كريها على الذوق ، حسبما بين في تفسير الوحشي الغليظ ،
فتدبر جيدا.
و (الرابع : ان
مثل ذلك) ، اى : مثل ـ الجرشي ـ مما فيه الكراهة في السمع ، (واقع في التنزيل ،
كلفظ (ضِيزى)) ـ بكسرة ، فسكون ، ففتحة ـ فى قوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)
قال في ـ مجمع
البحرين ـ قسمة ضيزى ، اي : ناقصة ، ويقال : جائرة ، من قولهم : ضازه حقه ، اي :
نقصه ، وضاز في الحكم ، اي : جار فيه ، وانما كسروا ـ الضاد ـ لتسلم ـ الياء ـ لأنه
ليس
في الكلام فعلى صفة ، وانما هو من بناء الاسماء ، كالشعرى ، قال ـ الجوهري
ـ : وحكى ابو حاتم ، عن ابي زيد ، انه سمع بعض العرب قهمز ضيزى ، انتهى.
قال في ـ شرح
النظام ـ ولا تقلب ـ ياء فعلى : ـ واوا ـ في الصفة لكن تكسر ما قبلها ، فتسلم ـ الياء
ـ نحو : مشية حيكى ، اذا كان فيها حيكان ، اي : تبختر ، وقسمة ضيزى ، اذا كان فيها
ضيز ، اي : جور ، وهذان وصفان مطلقا ، اذ لا يلزمهما الاستعمال ـ بالألف واللام ـ حينما
يوصف بهما ، واصلهما : حيكى ، وضيزى ـ بالضم ـ ابدلت الضمة كسرة ، فسلمت ـ الياء ـ
وانما حكموا : بان اصلهما الضم ، لأن فعلى ـ بالكسر ـ عزيز في الصفات ، انتهى.
(ودسر) ـ بضم
الأول والثاني ـ في قوله تعالى : (ذاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ) جمع دسار ، ككتب ، وكتاب ، وهي : خيوط يشد بها ألواح
السفينة ، وقيل : هي المسامير ، واحدها دسار ، واصل الدسر : الدفع بالشدة ، وانّما
سميت المسامير دسرا لأنه يدفع بها منافذ السفينة (ونحو ذلك) من الألفاظ الغريبة
المنفورة ، (وفيه) ، اى : في الوجه الرابع (ـ ايضا ـ بحث ، لأنه) وان سلمنا كون (ضِيزى) و (دُسُرٍ) مما فيه الكراهة في السمع ، وسلمنا : ان الكراهة في السمع سبب للاخلال
بالفصاحة ، لكنه (قد يعرض لأسباب الاخلال بالفصاحة ما يمنع السببية ، فيصير اللفظ)
المكروه غير الفصيح : (فصيحا ، فان مفردات الألفاظ تتفاوت باختلاف المقامات ـ كما
سيجىء في الخاتمة ـ) قبل اسطر من آخر الكتاب ، من قوله : «فان لكل مقام مقالا ، لا
يحسن فيه غيره ، ولا يقوم مقامه» انتهى.
(ولفظ (ضِيزى) و (دُسُرٍ) ، كذلك) ، قال ـ ابن حاجب في أماليه ـ : ان الشىء قد
يكون غير فصيح ، فيلحقه امر فيجعله فصيحا ، كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فان الفصيح : بدء يبدأ ، بل لا يكاد يسمع ابدا ، قال
الله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) لكن فصح (يُبْدِئُ) هاهنا لما حسنه من التناسب مع قوله (يُعِيدُهُ).
قال في ـ الاتقان
ـ اعلم : ان المناسبة امر مطلوب في اللغة العربية يرتكب لها امور من مخالفة الاصول
، الى ان قال : السابع عشر : ايثار اغرب اللفظتين ، نحو (قِسْمَةٌ ضِيزى) ولم يقل «جائزة» (لَيُنْبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ) ولم يقل : جهنم ، او النار ، وقال في المدثر : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) وفي سأل (إِنَّها لَظى) وفي القارعة (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) لمراعاة فواصل كل سورة.
قال في ـ المثل
السائر ـ : حضر عندي في بعض الأيام رجل متفلسف ، فجرى ذكر القرآن الكريم ، فأخذت
في وصفه ، وذكر ما اشتملت عليه الفاظه ومعانيه من الفصاحة والبلاغة.
فقال ذلك الرجل
: واي فصاحة هناك؟ وهو يقول : (تِلْكَ إِذاً
قِسْمَةٌ ضِيزى) فهل في لفظة ـ ضيزى ـ من الحسن ما يوصف فقلت له : اعلم
: ان لاستعمال الألفاظ اسرارا ، لم تقف عليها انت ولا ائمتك ، مثل ابن سيناء ،
والفارابي ، ولا من اضلهم ، مثل ارسطاليس وافلاطون ، وهذه اللفظة التي انكرتها في
القرآن ، وهي لفظة ـ (ضِيزى) ـ فانها في موضعها ، لا يسد غيرها مسدها.
ألا ترى : ان
السورة كلها التي هي سورة النجم ، مسجوعة على حرف الياء ، فقال تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ
صاحِبُكُمْ وَما
غَوى) وكذلك الى آخر السورة ، فلما ذكر الأصنام وقسمة الأولاد
وما كان يزعمه الكفار ، قال تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) فجاءت اللفظة على الحرف المسجوع ، الذي جاءت جميعها
عليه ، وغيرها لا يسد مسدّها في مكانها.
واذا نزلنا معك
ـ ايها المعاند ـ على ما تريد ، قلنا : ان غير هذه اللفظة احسن منها ، ولكنها في
هذا الموضع لا ترد ملائمة لاخواتها ولا مناسبة ، لأنها تكون خارجة عن حرف السورة ،
وسابين ذلك فأقول : اذا جئنا بلفظة في معنى هذه اللفظة ، قلنا : «قسمة جائرة ، او
ظالمة» ولا شك : ان جائرة ، او ظالمة ، احسن من ضيزى ، الا انا اذا نظمنا الكلام
فقلنا : «ا لكم الذكر وله الانثى* تلك اذا قسمة ظالمة» لم يكن النظم كالنظم الأول
، وصار الكلام كالشىء المعوز الذي يحتاج الى تمام ، وهذا لا يخفى على من له ذوق
ومعرفة بنظم الكلام ، انتهى وسيجىء ـ ايضا ـ نقل كلام منه في آخر ـ بحث التكرار ـ يوضح
المقام. (والفصاحة في الكلام ، خلوصه) اي : الكلام من النقص في الصورة والمادة
والدلالة ، اي : (من ضعف التأليف) اي التركيب (و) من (تنافر الكلمات) ، اي :
منافرة كل واحدة للاخرى ، لا تنافر أجزاء كلمة واحدة ، فان ذلك من فصاحة الكلمة ـ كما
تقدم ـ (و) من (التعقيد) ، ويأتي بيان كل واحد مفصلا.
لا يقال : في
قوله : (مع فصاحتها حال من الضمير في خلوصه) نظر ، بل منع ، اذ يلزم على ذلك ان
يكون العامل في لفظة مع لفظة : الخلوص ، بناء على ما صرح به ـ ابن مالك ـ من قوله
:
ولا تجز حالا
من المضاف له
|
|
الا اذا
اقتضى المضاف عمله
|
فيكون الظرف
اعني : «مع» لغوا ، وذلك لا يصح ، لما صرح به السيوطى ـ عند قوله ـ :
وموضع الحال
يجىء جملة
|
|
كجاء زيد وهو
ناو رحله
|
من انه يجب في
الظرف ، الذي يقع حالا : ان يكون مستقرا ، كما في الخبر والصفة.
فانه يقال : ان
الحال في الحقيقة هو المتعلق ، لا مع نفسها كالخبر والصفة ، كما صرح بذلك السيوطي
ـ عند قول الناظم ـ :
واخبروا بظرف
او بحرف جر
|
|
ناوين معنى
كائن او استقر
|
من ان المتعلق
هو الخبر في الحقيقة ، فكذلك الحال في المقام ، فيصح الاتحاد والاستقرار ، فيصير
المعنى : ان الفصاحة في الكلام : انتفاء ضعف تأليفه ، وتنافر كلماته وتعقيده ، حال
كون ذلك الانتفاء مجتمعا ومقترنا لفصاحة كلماته.
والى هذا
المعنى اشار بقوله : (اي خلوصه مما ذكر ، مع فصاحة الكلمات) ، حاصله : انه لا بد
في فصاحة الكلام ، من ان يجتمع ذلك الانتفاء وفصاحة الكلمات ، في الكلام ، حتى
يصير الكلام فصيحا ، (واحترز) المصنف (به) ، اي : بقوله : «مع فصاحتها» (عن نحو :
زيد أجلل ، وشعره مستشزر ، وانفه مسرج) ، فان هذه الثلاثة ، وان كانت واجدة :
لانتفاء ضعف التأليف ، وتنافر الكلمات والتعقيد ، الا ان انتفاء تلك الامور فيها ،
لم يجتمع مع فصاحة الكلمات لان في الأول من هذه الثلاثة ، كلمة غير فصيحة ، وهى :
اجلل ، لانها مخالفة للقياس الصرفي ، وفي الثاني منها : كلمة غير فصيحة ، وهي :
مستشزر ، لأن حروفها متنافرة ، وكذلك الثالث منها : فيها
كلمة غير فصيحة ، وهي : مسرج ، لكونها غريبة ، (ولا يجوز ان يكون) لفظة مع
فصاحتها : (حالا من الكلمات ، في) قول المصنف اعنى : (تنافر الكلمات ، لأنه) اي :
كون مع فصاحتها حالا من الكلمات ، (يستلزم : ان يكون) قيدا للتنافر فقط ، لا لخلوص
الكلام من ضعف التأليف ، وتالييه جميعا.
و ـ حينئذ ـ يصير
مآل معنى المتن : ان اشتراط الخلوص من تنافر الكلمات في فصاحة الكلام ، انما هو
فيما كان كلمات الكلام فصيحة لا فيما لم تكن كلماته فصيحة ، فحينئذ يلزم : ان يكون
(الكلام المشتمل على الكلمات الغير الفصيحة) ، كالأمثلة الثلاثة المتقدمة ، (متنافرة
كانت) حروف تلك الكلمات غير الفصيحة ، كالمثال الثاني منها (ام لا) تكون حروف تلك
الكلمات غير الفصيحة متنافرة ، كالأول والثالث منها ، يلزم : ان كلها (فصيحا ،
لأنه) اي : الكلام المشتمل على الكلمات غير الفصيحة بقسميه ، (صادق عليه : انه
خالص من تنافر الكلمات ، حال كونها) اي : الكلمات (فصيحة).
وبعبارة اخرى :
ليست الكلمات في الكلام المذكور فصيحة ، فلا يشترط فيه خلوص الكلمات من التنافر ،
فالكلام المذكور فصيح ، سواء كانت حروف كلماته متنافرة كالمثال الثاني ، ام لا ،
كالمثال الأول والثالث ، وهذا المعنى غير مقصود قطعا ، اذ مآل هذا المعنى الى انه
لا يشترط في فصاحة الكلام ، خلوصه من تنافر الكلمات ، الا اذا كان الكلمات فصيحة ،
بل المقصود : اشتراط انتفاء تنافر الكلمات ، مع اشتراط فصاحة الكلمات ، حتى تخرج
الامثلة الثلاثة ونحوها عن الكلام الفصيح ، (فافهم) : فانه دقيق ، وبالتأمل حقيق.
واعلم : انه
انما عرف ضعف التأليف وتالييه دون الخلوص منها ، وان كان الكلام فيه ، لأن الخلوص
مما ذكر ، بمعنى العدم المضاف الى ضعف التأليف وتالييه ، والعدم المضاف ، لا يعرف
الا بعد معرفة المضاف اليه ، كما قال الحكيم المتأله السبزوارى.
لا ميز في
الأعدام من حيث العدم
|
|
وهو لها اذا
بوهم ترتسم
|
واوضحه في شرحه
بقوله : لا ميز في الأعدام من حيث العدم ، وهو اي : الميز لها ، اي : للاعدام ،
اذا بوهم ، اي : في وهم ترتسم تلك الأعدام ، وارتسامها في الوهم : باعتبار الاضافة
الى الملكات فيتصور ملكات متمايزة ، ووجودات متخالفة ، وتضيف اليها : مفهوم العدم
، فيحصل عنده اعدام متمايزة في الأحكام ، واما مع قطع النظر عن ذلك : فلا يتميز
عدم عن عدم ، انتهى.
وقال بعض
الفضلاء في توضيح مرامه : وانما صار ارتسامها في الوهم باعتبار الاضافة الى
الملكات ، لأن القوة الواهمة من القوى الجزئية ، ومدركاتها امور جزئية ، وجزئية
مدركاتها بالاضافة الى الملكات ، فالعداوة من حيث هي عداوة ، كلى لا تدركها
الواهمة ، وانما الواهمة تدرك عداوة هذا الذئب ، فتصير العداوة باضافتها الى هذا
الذئب ، ـ الذي هو امر وجودي ـ جزئيا مدركة للوهم ، وكذلك العدم المطلق ، لا يدركه
الوهم ، واذا اضيف الى وجود ، كعدم وجود زيد اي : رفع وجوده الى مهية ، كعدم زيد ،
بمعنى : وصف مهيته بالعدم يصير جزئيا مدركا بالوهم ، انتهى.
(والضعف) ، اي
: ضعف التأليف : (ان يكون تأليف أجزاء الكلام) ، اي : تركيب أجزائه سواء اوجب ذلك
تعقيدا ام لا ،
وسيجيء وجه هذا التعميم ـ عند بيان التعقيد ـ عند قوله : «فذكر ضعف التأليف
لا يكون مغنيا عن ذكر التعقيد» فانتظر.
(على خلاف
القانون النحوى) ، المستنبط من تتبع محاورات البلغاء ، (المشتهر فيما بين معظم) ،
اي : اكثر (اصحابه) ، اي : النحو ، (حتى يمتنع) ذلك التأليف ، المشتمل على الخلاف
المذكور ـ (عند الجمهور) من النحويين ـ (كالاضمار قبل الذكر لفظا ومعنى) ، في غير
المواضع الستة الجائزة ـ عندهم ـ : الأول : الضمير المرفوع ـ بنعم ، وبئس ،
ونحوهما ـ نحو : نعم رجلا زيد ، وبئس رجلا عمرو ، بناء على ان المخصوص مبتدء
والخبر محذوف ، او خبر لمبتدء محذوف ، فالضمير المستتر فيهما : راجع الى رجلا ،
وهو متأخر لفظا ورتبة ، وانما اجيز ذلك لأن هذا الضمير لا يفسر الا بالتميز ، كما
في «المغنى» وعن الفراء والكسائي.
ان المخصوص هو
الفاعل ، ولا ضمير فيهما ، ويرده : نعم رجلا كان زيد ، ولا يدخل الناسخ على الفاعل
، وانه قد يحذف نحو : (بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ، وقد قالوا : لا يحذف الفاعل اصلا ، واما على القول : بأن
المخصوص مبتدء مؤخر ، والجملة قبله خبر مقدم ، فالاضمار فيه ليس الا قبل الذكر
لفظا ، لعود الضمير حينئذ الى المخصوص ؛ وهو مقدم رتبة.
الثاني : ان
يكون الضمير مرفوعا بأول المتنازعين ، بأن يعمل ثانيهما في المتنازع فيه ، نحو :
اكرمنى واعطانى اخوك ، فيعود الضمير المستتر في الاول ، المتنازع فيه ، وهو متأخر
لفظا ورتبة ، لانه جزء الجملة الثانية ، قال السيوطي : ولم يبال بالاضمار قبل
الذكر
للحاحة اليه.
والثالث : ان
يكون الضمير مخبرا عنه ، فيفسره خبره ، نحو : (إِنْ هِيَ إِلَّا
حَياتُنَا الدُّنْيا) قال الزمخشرى : هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به ، الا بما
يتلوه ، واصله : ان الحياة الا حياتنا الدنيا ، ثم وضع ـ هى ـ موضع الحياة ، لان
الخبر يدل عليها ويبينها.
الرابع : ضمير
الشأن والقصة ، نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) اذا جعلت لفظة الجلالة مبتدء ثانيا ، فهو يرجع الى الجملة
بعده ، وهي متأخرة لفظا ورتبة ، اذ لا يجوز للجملة المفسرة ، ان تتقدم هي ولا شىء
من اجزائها على مفسرها ، ومنه : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ
أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والكوفيون يسمون هذا الضمير : «ضمير المجهول».
والخامس : ان
يجر الضمير ـ برب ـ وحكمه : وحكم ضمير : نعم وبئس ، في وجوب كون مفسره تميزا ،
وكونه مفردا ، وكونه مذكرا ، فيقال : ربه امرأة ، لا ربها ، واجاز الكوفيون
مطابقته للتمييز في التأنيث والتثنية والجمع ، وليس بمسموع.
السادس : ان
يكون مبدلا منه الظاهر المفسر له ، كضربته زيدا قال بعضهم : انه جائز بالاجماع ،
فتأمل.
هذا : هو
المشهور ـ عندهم ـ واما في غير هذه المواضع : فيجب ان يكون الضمير راجعا : اما
لمتقدم مذكور لفظا ، نحو : زيد قام وهند قامت ، او لما دل عليه الفعل ، نحو : ولا
يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، اي : لا يشرب الشارب ، ومن هذا القسم قوله تعالى
: (اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) او لما دل عليه حال المشاهدة ، نحو قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) اي : بلغت ، ونظيره قوله تعالى :
(لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ
واحِدٍ مِنْهُمَا) اي : لأبوى الميت.
وان لم يكن
الضمير راجعا الى متقدم بأحد هذه الاقسام الثلاثة فان اتصل الضمير بالمفعول
المتقدم ، وعاد الى الفاعل المتأخر ، فذلك جائز بالاجماع ، نحو : ضرب بنته زيد ،
ولم يبال حينئذ بعود الضمير على المتأخر ، لانه متقدم رتبة ، وان اتصل الضمير
بالفاعل المتقدم ، وعاد الى المفعول المتأخر ، (نحو : ضرب غلامه زيدا) ، فذلك شاذ
عند الجميع ، وممتنع عند الجمهور ، (فانه غير فصيح) ، لاستلزامه الاضمار قبل الذكر
لفظا ومعنى ، اى : رتبة ، وذلك واضح ، وقد اشار الى القسمين ابن مالك بقوله :
وشاع نحو خاف
ربه عمر
|
|
وشذ نحو زان
نوره الشجر
|
واعلم : انه (وان
كان مثل هذه الصورة) الاخيرة ، (اعنى : ما اتصل بالفاعل) المتقدم ، (ضمير المفعول
به) المتأخر : (مما اجازه الاخفش ، وتبعه ابن جنى ، لشدة اقتضاء الفعل) المتعدى (للمفعول
به. كا) قتضاء مطلق (الفعل ل لفاعل) ، ونسب السيوطى الى ابن مالك : انه اتبع ابن
جنى فقال : لان استلزام الفعل للمفعول به يقوم مقام نقديمه.
قال في شرح
التصريح واختلف فى معنى جزاء الكلاب فقيل هو الضرب والرمى بالحجارة وقال الاعلم
ليس بشيىء وانما هو دعاء عليه بالابنة والكلاب تتعاوى عند طلب السفاد وهذا من الطف
الهجو انتهى.
(واستشهد) ابن
جنى بقوله :
(جزى ربه عنى عدى بن حاتم
|
|
جزاء الكلاب
العاويات وقد فعل)
|
(و) مثله (قوله :
لما عصى
اصحابه مصعبا
|
|
ادى اليه
الكيل صاعا بصاع
|
فانه عاد
الضمير في البيتين الى المفعول المتأخر ، وهو : عدى في الأول ، ومصعبا في الثاني ،
(ورد : بأن الضمير) في البيتين (للمصدر
المدلول عليه بالفعل ، اي : رب الجزاء ، واصحاب العصيان) ، فهما (كقوله
تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) اي : العدل) ، وقوله لا يشرب الخمر ، اي : الشارب ، كما
اشرنا اليه ، وقيل : هما ضرورة ـ كما في السيوطي ـ (واما قوله):
(جزى بنوه ابا الغيلان عن كبر
|
|
وحسن فعل كما
يجزى سنمار)
|
(وقوله :
الا ليت شعرى
هل يلومن قومه
|
|
زهيرا على ما
جز من كل جانب)
|
مما لا يعقل
عود الضمير على المصدر ، المدلول عليه بالفعل ، لأن الجزاء في البيت الأول ،
والملامة في البيت الثاني ، لا يعقل ان لهما بنون وقوم ، (فشاذ لا يقاس عليه) ، واما
(التنافر) فهو : (ان يكون الكلمات ثقيلة على اللسان) ، بسبب اجتماع بعضها مع بعض
سواء كان كل واحدة منها فصيحة غير متنافرة الحروف ، ام لا ، ويظهر وجه هذا التعميم
، عند البحث عن امدحه ، فتأمل.
(فمنه ما هو
متناه في الثقل ، كقوله) ، اي : احد شعراء الجن (وليس قرب قبر حرب ـ اسم رجل ـ)
قيل : هو حرب بن امية (قبر) نقل عن عجائب المخلوقات ، ان من الجن نوعا يقال له : الهاتف
، صاح واحد منهم على حرب بن امية فمات ، فقال ذلك الجن هذا البيت ، و (صدره) ، اي
: البيت : («وقبر حرب بمكان قفر» اي : حال من الماء والكلأ).
قال ـ الباقلاني
، في اعجاز القرآن ـ في رد من قال : لا سبيل لنا الى العلم بعجز الجن عن مثل
القرآن : ان القوم الى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان ، ولهم اشعار محفوظة مروية في
دواوينهم ، ثم نقل
ابياتا من لسانهم الى ان قال : واذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطبتهم
، ويحكون عنهم ، وذلك القدر المحكى لا يزيد امره على فصاحة العرب ، صح ما وصف
عندهم من عجزهم عنه ، كعجز الانس ويبين ذلك من القرآن ، ان الله تعالى حكى عن الجن
ما تفاوضوا فيه من القرآن ، فقال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ـ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) الى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه ، فاذا ثبت انه وصف
كلامهم ، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم ، صح ان يوصف الشىء المألوف : بأنه ينحط
عن درجة القرآن في الفصاحة ، انتهى.
وفي تفسير
النيشابوري : ان من الناس من انكر وجود الجن لوجوه :
الاول : لو كان
موجودا. فان كان جسما كثيفا ، لوجب ان يراه كل من كان سليم الحس ، لكنا لا نراه
وان كان جسما لطيفا ، لوجب ان يتمزق ويتفرق عند هبوب الريح العاصفة ، ولزم ـ ايضا
ـ ان لا يقدر على الأعمال الشاقة ، التي ينسبها اليه المثبتون.
والجواب : انه
لم لا يجوز ان يكون جوهرا مجردا ، وبتقدير ، ان يكون جسما كثيفا ، فلم لا يجوز ان
يصرف الله عنه ابصار الانسان لحكمة في ذلك ـ كما قال عز من قائل : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) وعلى تقدير : كونه جسما لطيفا ، فلم لا يجوز ان يكون
تركيبه محكما كالأفلاك؟
الوجه الثاني ،
قالوا : الظاهر الغالب : انهم لو كانوا في العالم لخالطوا الناس ، وشوهد منهم
العداوة والصداقة ، وليس كذلك ، واهل التغريم اذا قابوا من صنعتهم ، يكذبون أنفسهم
فيما ينسبون الجن اليهم
ومجال المنع في هذا الوجه لا يخفى. لثبوت الاختلاط والعداوة منهم بالنسبة
الى كثيرين ، قال عز من قائل : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ).
الوجه الثالث ،
قالوا : ان اخبار الأنبياء عنهم لا يفيد اثباتهم ، اذ على تقدير ثبوتهم يجوز ان
يقال : ان كل ما اتى به الأنبياء ، فانما حصل باعانة الجن ، فمن الجائز ان حنين
الجذع ـ مثلا ـ كان بسبب نفوذ الجن ، وكل فرع ادى الى ابطال الأصل : فهو باطل ،
والجواب :
ان الدليل
الدال على صحة نبوتهم ، يدل على صحة اخبارهم ، ومنها وجود الجن ، والشياطين ،
انتهى.
واعلم : ان هذا
القسم من التنافر ، يسمى : «بالمعاظلة» قال في ـ المثل السائر ـ : القسم الثاني من
المعاظلة اللفظية ، تختص بتكرير الحروف ، وليس ذلك مما يتعلق بتكرير الألفاظ ، ولا
بتكرير المعاني وانما هو تكرير حرف واحد او حرفين ، في كل لفظة من ألفاظ الكلام
المنثور او المنظوم ، فيثقل ـ حينئذ ـ النطق به ، فمن ذلك قول بعضهم :
وقبر حرب
بمكان قفر
|
|
وليس قرب قبر
حرب قبر
|
فهذه القافات
والراءات ، كأنها في تتابعها سلسلة ، ولا خفاء بما في ذلك من الثقل ، وكذا ورد قول
الحريري في مقاماته :
وازور من كان
له زائرا
|
|
وعاف عافي
العرف عرفانه
|
فقوله : «وعاف
عافي العرف عرفانه» من التكرير المشار اليه وكذلك ورد قوله ـ ايضا ، في رسالتيه
اللتين صاغهما على حرفي السين والشين ـ فانه اتى في احداهما بالسين في كل لفظة من
الفاظها ،
واتى في الاخرى بالشين في كل لفظة من الفاظها ، فجائتا كأنهما رقى العقارب
، او خذروفة الغرائم ، وما اعلم كيف خفى ما فيهما من القبح على مثل الحريري ، مع
معرفته بالجيد والردي من الكلام؟؟.
ويحكى عن بعض
الوعاظ : انه قال ـ في جملة كلام اورده ـ : «جنى جنات وجنات الحبيب ، فصاح رجل من
الحاضرين في المجلس ، وماد وتغاشى ، فقال له رجل كان بجانبه : ما الذي سمعت حتى
حدث بك هذا؟ فقال : سمعت جيما في جيم فى جيم ، وهذا من اقبح عيوب الألفاظ.
ومما جاء منه
قول ابي الطيب المتنبي ـ في قصيدته التى مطلعها ـ :
(ا تريها لكثرة العشاق)
كيف ترثى
التي ترى كل جفن
|
|
رائها غير
جفنها غير راقي
|
وهذا وامثاله ،
انما يعرض لقائله في نوبة الصرع ، التي تنوب في بعض الأيام.
ومن هذا القسم
، قول الشاعر المعروف ـ بكشاجم ـ ، في قصيدته التي مطلعها :
(داو خماري بكأس خمر)
والزهر
والقطر في رباها
|
|
ما بين نظم
وبين نثر
|
حدائق كف كل
ريح
|
|
حل بها خيط
كل قطر
|
وهذا البيت
يحتاج الناطق به : الى «بركار» يضعه في شدقه حتى يديره له ، وعلى هذا الاسلوب ورد
قول بعضهم ـ وهو البيت المشهور الذي يتذاكره الناس ـ :
مللت مطال
مولود مفدى
|
|
مليح مانع
منى مرادي
|
وهذه الميمات
كانها عقد متصلة بعضها ببعض ، انتهى.
(ومنه) ، اي :
من التنافر ، (ما دون ذلك مثل قوله : اى قول ابى تمام :
كريم متى
امدحه امدحه والورى
|
|
معي واذا ما
لمته لمته وحدي
|
(والورى) بمعنى الخلائق ، (مبتدأ
خبره معى ، والواو للحال) اي : اذا مدحته مدحته حال كون الورى معي في مدحه ، اي :
حال كونهم يساعدونني جميعا في مدحه ، لعموم احسانه فيهم ، ولكونه مجمعا للصفات
الحسنة ، والاخلاق المستحسنة ، (اي : لا يشاركنى احد في ملامته) ، اي : لم يساعدني
احد في ملامته ، (لأنه انما يستحق المدح دون الملامة) ، فلذلك لا يساعدني ولا
يوافقنى احد في لومه ، حاصله : ان لا مقتضى للوم فيه لعدم كونه متصفا بالصفات
الذميمة والاخلاق الرديئة (وفي استعمال ـ اذا ـ) التي تستعمل في التحقيق والمتيقن
الوقوع ، كما يأتي بيانه في بحث الفرق بين ـ ان ، واذا ولو ـ (والفعل الماضي) كذلك
(هاهنا) ، اي : فى قول ابى تمام (اعتبار لطيف) ، ورمز دقيق ، لا يطلع عليه الا ذو
الذوق السليم والفهم المستقيم ، العارف باسرار لغة القرآن ، اما بحسب السليقة او
او طول خدمة علمي المعاني والبيان ، لأن اللغة ولا سيما اسرارها لا مدخل فيها
للعقل والبرهان ، (وهو ايهام ثبوت) هذه (الدعوى) اي : دعوى كون الخلائق مساعدين له
في مدحه ، دون لومه.
وبعبارة أخرى :
(كأنه تحقق منه) ، اي : من ابي تمام (اللوم) اي : لوم الممدوح (فلم يشاركه احد) من
الخلائق ، فليس هذا الكلام مجرد ادعاء فارغ ، بل تحقق منه اللوم في الخارج ولم
يشاركه احد ، (لكن) الشاعر ، فات منه مراعاة ما يجب مراعاته في الكلام
البليغ ، وهذا نشأ من (مقابلة المدح باللوم دون الذم) ، المقابل للمدح ، او
الهجاء ، القريب من الذم ، قال في ـ المصباح ـ : مدحته مدحا من باب نفع اثنيت عليه
بما فيه من الصفات الجميلة ، خلقية كانت او اختيارية ، ولهذا كان المدح اعم من الحمد
، قال ـ الخطيب التبريزي ـ : المدح من قولهم : انمدحت الأرض ، اذا اتسعت ، فكان
معنى مدحته : وسعت شكره ، ومدهته مدها : مثله ، وعن ـ الخليل ـ : بالحاء ، للغائب
، وبالهاء ، للحاضر ، وقال ـ السرقسطى ـ ويقال : ان ـ المده ـ في صفة الحال
والهيئة لا غير ، انتهى.
وقال ـ ايضا ـ :
ذممته اذمه ذما ، خلاف مدحته ، فهو ذميم ومذموم ، اي : غير محمود ، والذمام ـ بالكسر
ـ : ما يذم به الرجل على اضاعته من العهد ، والمذمة ـ بفتح الميم ، وتفتح الذال
وتكسر ـ : مثله ، انتهى.
وقال ـ ايضا ـ :
هجاه يهجوه هجوا ، وقع فيه بالشعر ، وسبه وعابه ، والاسم : الهجاء ، مثل : كتاب ،
انتهى.
والحاصل : انه
كان المناسب بل الواجب على الشاعر : ان يذكر مع المدح ما يقابله ، لما يجيء في باب
ـ الفصل والوصل ـ من ان من شرط كون العطف بالواو مقبولا : ان يكون بين الجملتين
جهة جامعة ، ولو بالتقابل ، وقد فات الشاعر مراعاة ذلك ، وهذا (مما عابه الصاحب)
بن عباد ، استاذ الشيخ عبد القاهر ، وتلميذ الوزير ابن العميد ، وقد يأتى عن قريب
حكاية التعييب ، والشيخ عبد القاهر هو المؤسس لهذا الفن ، قال الفاضل المحشى : وقد
اجيب عن تعييبه بأنه اذا جاز استعمال ـ اذا ـ في موقع ـ ان ـ للغرض المذكور ،
فلم لا يجوز استعمال اللوم في مقام الهجو ، اشارة الى ان الممدوح لا يتصور
فيه الهجو والذم ، ولا يستحقه قطعا ، حتى اذا تركت مدحه ، فغاية ما يتصور في شأنه
اللوم ، واذا لمته لا يشاركني احد في لومه ، ففيه من المبالغة ورعاية الأدب ما لا
يخفى ، انتهى.
وفيه نظر ،
يظهر وجهه بمراجعة كتب اللغة ، في مادة ـ لوم ـ (قال المصنف) في ـ الايضاح ، في
بيان التنافر في البيت ـ : (فان في امدحه ثقلا لما بين ـ الحاء ، والهاء ـ من
القرب) في المخرج ، وهو موجب للتنافر ، الموجب للثقل ، الموجب لعسر النطق ، الموجب
لخروج الكلمة عن الفصاحة ، فيخرج الكلام به عنها ، لما تقدم من اشتراط فصاحة
الكلمات في فصاحته.
فان قلت : قد
تقدم في فصاحة المفرد ـ نقلا عن ابن الأثير ـ : ان ليس التنافر بسبب بعد المخارج ،
ولا بسبب قربها ، فكيف يحكم هاهنا : ان الثقل الموجب للتنافر ، ناش عن قرب المخرج؟
قلت : كان
الكلام فيما سبق في حصول التنافر ، من نفس قرب المخرج ، بخلافه هاهنا ، فان المراد
حصوله في صورة قرب المخرج فتأمل جيدا ، (و) لكن مع ذلك : لا بد في تصحيح كلامه من
ان يقال : (لعله اراد ان فيه) ، اي : في امدحه ، (شيئا) قليلا (من الثقل) ، بحيث
لا يكون علة تامة للاخلال بالفصاحة ، (فاذا انضم اليه) ، اي : الى هذا الثقل
القليل ، (امدحه الثاني ، تضاعف ذلك الثقل) ، فيصير علة تامة ، (وحصل التنافر
المخل بالفصاحة) (و) الدليل على ذلك : ان المصنف مؤمن ، فايمانه قرينة عقلية ،
بناء على ما سيأتي في بحث الاسناد المجازي ، عند قول ابي النجم ،
على انه (لم يرد : ان مجرد ـ امدحه ـ) متنافر ، بحيث يكون تنافره علة تامة
لكونه (غير فصيح ، فان مثله) مما اجتمع فيه بين الحاء ، والهاء ـ (واقع في التنزيل
، نحو : (فَسَبِّحْهُ) والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح) ، بل على
كلمة غير فصيحة من دون معارض : (مما لا يجترى عليه المؤمن ، صرح بذلك ابن العميد)
، الذي صحبه ـ صاحب بن عباد ـ (وهو) ، اي : ابن العميد (اول) من عاب هذا البيت على
ـ ابي تمام ـ حيث يحكى : انه ذكر الصاحب ، انه انشد هذا البيت بحضرة استاذه ابن
العميد ، فقال له الاستاذ : هل تعرف فيه شيئا من الهجنة ، قال : نعم ، مقابلة
المدح باللوم ، وانما يقابل بالذم والهجاء ، قال الاستاذ : غير هذا اريد ، فقال :
لا ادري غير ذلك ، ف قال الاستاذ ، هذا التكرير في امدحه امدحه ، مع الجمع بين
الحاء والهاء ، وهما من حروف الحلق ، خارج عن حد الاعتدال : نافر) ـ بسبب التكرير
ـ (كل التنافر) ، فاثنى عليه الصاحب.
واعلم : ان
المستفاد من تكرير الاثنين ، صيرورتهما اربعة ، فيلزم من قول ـ ابن العميد ـ : ان
يكون «امدحه» اربعة ، وليس كذلك كما ترى ، فلذلك قال الشارح : (ولو قال : فان في
تكرير امدحه) وحده (ثقلا ، لكان اولى) ، لأن تكرير الواحد هو الاثنين ، كما في
البيت ، ثم انه قد علم مما تقدم : ان الفرق بين المثالين ، اعني : «ليس قرب» الخ ،
و «كريم متى امدحه» ان الأول منهما متناه في الثقل ، بخلاف الثاني ، فانه دون ذلك.
فان قلت : انما
ينافي هذا الفرق ، قول ابن العميد في المثال
الثاني ، ان التكرير والجمع بين ـ الحاء ، والهاء ـ نافر كل التنافر اذ
ظاهره : انه ـ ايضا ـ متناه في الثقل.
قلنا : ان
التنافر الكامل مقول بالتشكيك ، فلا ينافي ان هناك ما هو اكمل من هذا ، فتأمل جيدا
، (وبين المثالين فرق آخر ، وهو) ، اي : الفرق الآخر : (ان منشأ الثقل في) المثال
الأول : (نفس اجتماع الكلمات) ، اذ ليس لحروفها ، اعني : القاف والياء والراء ،
وغيرها ، تأثيرا في الثقل ، كما يشهد به الذوق السليم ، (و) هذا بخلاف الثقل (في
الثاني) ، لأن المؤثر في الثقل فيه : اجتماع (حروف منها) ، اي : الكلمات ، وفي هذا
الضمير شبه استخدام ، لأن المراد منه كلمتان ، اعني : امدحه مكررا ، والمراد من
الحروف فيهما : الحاء ، والهاء ، مكررتين ، ولكن في عدّه ـ الهاء ـ حرفا ما ترى من
خلاف الاصطلاح ، لانه اسم ، الا ان يحمل كلامه على التغليب ، فتأمل.
ان قلت : ان
الكلام انما هو في تنافر الكلمات ، وهذا على الفرق الثاني من تنافر الحروف.
قلت : قد اجيب
عن ذلك : بأنه ليس كذلك ، اذ التنافر عليه بين الكلمات ، لأن الهاء كما تقدم آنفا
: كلمة برأسها ، وانما اطلق عليها الحرف تغليبا ، ولكن هذا الجواب لا يسمن ولا
يغنى ، اذ التنافر حينئذ يقع بين الحرف والكلمة ، فيخرج التنافر عما هو المعهود ـ عندهم
ـ اذ المعهود عندهم التنافر في الكلمة ، وهو بين الحروف فقط والتنافر في الكلام ،
وهو بين الكلمات فقط ، والتنافر في كلام المجيب ليس بشيء منهما ، فتأمل جيدا :
(وزعم بعضهم : ان من التنافر ، جمع كلمة مع اخرى غير متناسبة لها ، كجمع
سطل) ، وهو : طشت صغير ، له عروة ، قد يسمى : دلوا ، (مع قنديل ، و) كجمع (مسجد ،
بالنسبة الى الحمامي) الذي يشمل النار ويقال له بالفارسية : «كلخن تاب» (مثلا ،
وهو) اي : هذا الزعم ، (وهم) بفتح ـ الهاء ـ اي : غلط ، (لأنه) اي : جمع الكلمات
غير المتناسبة بعضها مع بعض ، (لا يوجب الثقل على اللسان) ، كما هو واضح ، (فهو)
اي : الجمع المذكور ، (انما يخل بالبلاغة) : ان لم يكن مقتضى المقام (دون الفصاحة)
ويأتى لهذا البحث زيادة توضيح ـ في باب الفصل والوصل ـ عند قول المصنف : «ولصاحب
علم المعاني فضل احتياج الى معرفة الجامع ، لا سيما الخيالي ، فان جمعه على مجرى
الألف والعادة» حيث يقول ـ الشارح ـ : «ان السكاكى معترف بامتناع خفى ضيق ، وخاتمي
ضيق ، ونحو : الشمس ، والف بادنجانه ، ومرارة الأرنب محدثة» انتهى ، ونحن ان
ساعدنا التوفيق : نبين هناك المقصود مستوفى ـ انشاء الله تعالى ـ لأنه الموفق
والمعين.
(والتعقيد ، اي
: كون الكلام معقدا) ، وانما فسر بذلك : بناء (على ان) هذا (المصدر من المبنى
للمفعول) ، وليصح حمل قوله : (ان لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد منه عليه
، لأن عدم ظهور الدلالة على المعنى المراد : من صفات الكلام ، والتعقيد : من
المبنى : المعقد ـ بكسر القاف ـ من صفات المتكلم ، فلا يصح الحمل المذكور.
فان قلت :
سلمنا ذلك ، لكن في الحمل مانع آخر ، وهو : ان
التعقيد وجودي ، و ـ ان لا يكون ـ عدمي ، فيلزم على ذلك حمل العدمى على
الوجودي ، وذلك مساوق لحمل العدم على الوجود ، وذلك باطل بالضرورة.
قلنا : ان
النفي في ـ باب كان ـ يتوجه الى الخبر ، فمعنى : ان لا يكون الكلام ظاهر الدلالة ،
كون الكلام غير ظاهر الدلالة.
فمآل ـ ان لا
يكون ـ الخ : الى القضية المعدولة المحمول ، وقد تقرر في محله : ان القضية المعدلة
المحمول ، في حكم الموجبة ، فلا اشكال.
وانما قيد
الدلالة بالمعنى المراد ، اي : مراد المتكلم ، احترازا عن الغرابة ، لأنها كون
اللفظ غير ظاهر الدلالة على المعنى الموضوع له فتبصر ، وانما عرف المصنف «التعقيد»
دون سائر أسباب الخلل ، لأنه على قسمين ، كما يظهر من قوله : (لخلل واقع في النظم)
، وهذا هو القسم الأول ، ويسمى : «بالتعقيد اللفظي» والقسم الثاني : ما يأتي من
الخلل في الانتقال ، ويسمى : «بالتعقيد المعنوى» فالخلل الواقع في النظم ، اي : في
نظم الألفاظ ، (بان لا يكون ترتيب الألفاظ) وذكرها ، (على وفق ترتيب المعاني)
المقصودة من تلك الألفاظ ، (بسبب تقديم) لفظ يكون ترتيب معناه التأخير ، كتقديم
المستثنى على المستثنى منه ، (أو تأخير) لفظ يكون ترتيب معناه التقديم ، كتأخير
المبتدأ عن الخبر ، فلا يخفى عليك : ان تقديم لفظ عن مكانه الأصلي ، الذي يقتضيه
ترتيب معناه ، يستلزم تأخير لفظ عن مكانه الأصلي كذلك ، (او حذف) لفظ من دون قرينة
دالة عليه ، يعرفها المخاطب ، فان وجدت تلك القرينة ، كما يقال في جواب ـ كيف زيد؟
ـ دنف ، بحذف المبتدأ فلا يوجب هذا الحذف تعقيدا ، لأن
المحذوف لقرينة كالمذكور.
(او اضمار) اي
: الاتيان بضمير لا يظهر مرجعه بسهولة كما في قول ابن مالك :
كذا اذا عاد
عليه مضمر
|
|
ممّا به عنه
مبينا يخبر
|
(او غير ذلك) ، كالفصل بين الشيئين
المتلازمين بأجنبى عن كليهما كالفصل بين المبتدأ والخبر ، وبين الصفة والموصوف ،
ونحوهما ـ كما يأتي بيانه في البيت الآتي ـ فان جميع ذلك (مما يوجب صعوبة فهم
المراد) ، واختلال اللفظ على المخاطب ، فلا يدري كيف يصل الى معناه ، (وان كان) كل
واحد منها منفردا (ثابتا في الكلام) اي : في كلام الفصحاء والبلغاء ، بأن يكون (جاريا
على القوانين) المستنبطة من كلامهم ، اذ المناط في الخلل في النظم : انما هو عدم
ظهور الدلالة ، لا عدم كونها جاريا على القوانين ، ولا يرد على ذلك : المتشابه
والمجمل ونحوهما ، مما هو موجود في التنزيل ، وفي كلام الرسول (ص) وخلفائه
المرضيين (ع) ، والفصحاء والبلغاء ، لأن عدم ظهور دلالتها على المعنى المراد : ليس
لخلل في نظم ألفاظها ، او لخلل في الانتقال منها الى المعنى المقصود ، بل لأن
المتكلم اراد اخفاء المعنى المراد منها ، لحكم ومصالح اقتضاها الحكمة ، كالاخفاء
من غير من قصد افهامه.
وهذا هو المراد
بقول بعض المحققين ـ في رد من قال : ان متشابهات القرآن فيها تعقيد ، لانها غير
مبينة المراد ـ : انها ظاهرة الدلالة على المعنى المراد للمخاطب بها ، وهو الرسول (ص)
، وهو يتبينها ولا يلتبس عليه ، وكذلك خلفاءه المرضيين واوصياءه المهديين ،
الراسخين
في العلم ، عليهم صلوات الله اجمعين.
وبنظير ذلك :
يجاب عن اللغز ، والمعمى ، والاحجية ، لأنها واضحة عند الفطن العالم بالاصطلاح ،
قال في ـ المثل السائر ـ : ان اللغز والمعمى والاحجية ، يتنوع انواعا ، فمنه
المصحف ، ومنه المعكوس ومنه ما ينقل الى لغة من اللغات غير العربية ، كقول القائل
: اسمي اذا صحفته بالفارسية آخر ، وهذا اسمه اسم تركي ، وهو دنكر بالدال المهملة. والنون
ـ وآخر بالفارسية : ديكر ـ بالدال المهملة ، والياء المعجمة بثنتين من تحت ـ واذا
صحفت هذه الكلمة ، صارت دنكر ـ بالنون ـ فانقلبت الياء : نونا بالتصحيف ، وهذا غير
مفهوم الا لبعض الناس دون بعض ، وانما وضع واستعمل : لأنه مما يشحذ القريحة ، ويحد
الخاطر ، لانه يشتمل على معان دقيقة ، يحتاج في استخراجها الى توقد الذهن ،
والسلوك في معاريج خفية من الفكر ، وقد استعمله العرب في اشعارهم قليلا ، ثم جاء
المحدثون فاكثروا منه ، وربما اتى منه بما يكون حسنا ، وعليه مسحة من البلاغة ،
وذلك عندى بين بين ، فلا اعده من الأحاجي ، ولا اعده من فصيح الكلام ، فمما جاء
منه قول بعضهم :
قد سقيت
ابالهم بالنار
|
|
والنار قد
تشفى من الاوار
|
ومعنى ذلك : ان
هؤلاء القوم الذين هم اصحاب الابل ، ذوو وجاهة وتقدم ، ولهم وسم معلوم ، فلما وردت
ابلهم الماء : عرفت الوسم ، فافرج لها الناس حتى شربت وقد اتفق له انه اتى في هذا
البيت بالشيء وضده ، وجعل احدهما سببا للآخر ، فصار غريبا عجيبا وذاك : انه قال :
سقيت بالنار ، وقال : ان النار تشفى من الأوار
وهو : العطش ، وهذا من محاسن ما يأتى في هذا الباب ، الى ان قال ومن
الألغاز ما يرد على حكم المسائل الفقهية كالذي اورده الحريري في مقاماته ، وكنت
سئلت عن مسألة منه ، وهي :
ولى خالة
وانا خالها
|
|
ولي عمة وانا
عمها
|
فاما التى
انا عم لها
|
|
فان ابي امه
امها
|
ابوها اخي
واخوها ابي
|
|
ولي خالة
هكذا حكما
|
فاين الفقيه
الذي عنده
|
|
فنون الدراية
او علمها
|
يبين لنا
نسبا خالصا
|
|
ويكشف للنفس
ما همها
|
فلسنا مجوسا
ولا مشركين
|
|
شريعة احمد
نأتمها
|
وهذه المسألة
كتبت اليّ فتأملتها تأمل غير ملجج في الفكر ، ولم البث ان انكشف لي ما تحتها من
اللغز ، وهو : ان الخالة التي الرجل خالها ، تصور على هذه الصورة ، وذاك : ان رجلا
تزوج امرأتين ، اسم احداهما عائشة ، واسم الاخرى فاطمة ، فأولد عائشة بنتا ، واولد
فاطمة ابنا ، ثم زوج بنته من أبى امرأته ـ فاطمة ـ فجاءت ببنت ، فتلك البنت هي
خالة ابنه ، وهو : خالها ، لأنه اخو امها ، واما العمة التي هو عمها ، فصورتها :
ان رجلا له ولد ، ولولده اخ من امه ، فزوج اخاه من امه وابيه ، فجاءت ببنت ، فتلك
هي عمقه ، لأنها اخت ابيه ، وهو عمها ، لانه اخو ابيها ، واما قوله ولى خالة هكذا
حكمها ، فهو : ان تكون امها اخته ، واختها امه ، كما قال : ابوها اخي ، واخوها ابي
، وصورتها : ان رجلا له ولد ، ولولده اخت من امه ، فزوجها من ابى امه ، فجاءت ببنت
، فاختها امه ، وامها اخته ، الى ان قال : وقد ورد من الألغاز شىء في كلام العرب
المنثور ، غير انه قليل بالنسبة الى ما ورد في اشعارها ، وقد تأملت القرآن
الكريم ، فلم اجد فيه شيئا منها ، ولا ينبغي ان يتضمن منها شيئا ، لأنه لا يستنبط
بالحدس والحزر ، كما تستنبط الألغاز ، انتهى.
وانا اقول : لا
يستبعد ان يكون في القرآن الكريم من الألغاز والمعمى ، والاحاجى ، ويستنبطونها :
ذوو الحدس الثاقب ، الذين هم المخاطبون بمتشابهاته ، لا من يقرؤه ولا يفهم منه الا
ما هو ظاهر آياته ولا يتدبر في بيناته ، ابتغاء الفتنة من تأويلاته ، وقد رأيت في
بعض المجاميع : ان رجلا قال لمولانا ومولى الكونين ، الذي جعله الرسول احد الثقلين
: هل في القرآن شىء من الألغاز؟ فقال (ع) نعم ، وهو قوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها) لأنه لغز باسم هود النبي (ع) ، اذ ناصية لفظة الدابة : الدال ، فاذا اخذ
لفظة : هو ، في اول الدابة ، اي : جعل معها كلمة واحدة ، يصير : هود.
وقد يلغز بهيئة
كلمة وتشديدها ، كما ينقل : ان احد الأمراء كان في قلب الملك منه شىء ، فكتب الملك
اليه كتابا لاحضاره ، وكان كاتب الكتاب صديقا حميما له عنده ، فلما وصل المكتوب
الى ذلك الأمير ، وصمم على ان يحضر عند الملك ، قال ابن الأمير : وكان ذا رأى صائب
، وحدس ثاقب ، لا تحضر يا ابتاه عنده ، لأنه يريد ان يقتلك قال الأمير : من اين
تقول هذا؟ وكيف ذلك؟ فقال ابنه : اما ترى ان الكاتب كتب نون ـ انشاء الله ـ بالتشديد
، مع كسر همزتها ، وضبطها ضبطا صحيحا لا يصدر مثله عن سهو ، فالغرض من ذلك :
الاشارة الى قوله تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ).
ومن ذلك : ما
روى ان أبا طالب (ع) ، لما حضره الوفاة آمن
بالله ورسوله باصبعه! وقد بين المراد من الرواية ، وكيفية دلالة اصبعه على
ذلك في كتاب ـ مرآة العقول ـ شرح اصول الكافي ، في باب ايمان أبي طالب (ع) ،
فراجع.
وقد يكون
الألغاز بالفعل ، كما قال الشاعر الفارسي ، عن لسان المجنون :
اكر با
ديكرانش بود ميلى
|
|
چرا ظرف مرا
بشكست ليلى
|
فالحاصل : ان
كلام المعقد شىء ، والكلام الذي لا يفهمه غير المخاطب ومن قصد افهامه شىء آخر ،
ولنعم ما قيل بالفارسي ـ مشيرا الى ما نحن فيه ـ :
ميان عاشق
ومعشوق رمزيست
|
|
چه داند انكه
اشتر ميچراند
|
واعلم : انه قد
علم مما قررنا لك ، ان النسبة بين الضعف والتعقيد كالنسبة بين الحيوان والأبيض :
عموم وخصوص من وجه ، اذ يمكن ان يكون في الكلام ضعف ولا تعقيد فيه ، لكونه مع
الضعف واضح الدلالة كما انه يمكن ان يكون فيه تعقيد ولا ضعف فيه ، (فان سبب
التعقيد يجوز ان يكون اجتماع امور كل منها شايع الاستعمال في كلام العرب) الموثوق
بعربيتهم ، (ويجوز ان يكون التعقيد : حاصلا ببعض منها) منفردا غير مجتمع مع بعض
آخر ، (لكنه مع اعتبار الجمع) بينها (يكون اشد) تعقيدا واقوى.
وبين نقيضيهما
اللذان هما الخلوص منها ، الذي مرجعه الى اللاضعف واللاتعقيد : تباين جزئي ،
الحاصل هنا : في ضمن العموم والخصوص من وجه ، الذي هو احد فردي التباين الجزئي ،
كما قرر في محله والى هذه النسبة اشار بقوله : (فذكر ضعف التأليف لا يكون مغنيا عن
ذكر التعقيد اللفظي ، كما توهم بعضهم) وهو : الخلخالي ، اعما ان النسبة
بينهما التساوي ، على ما يظهر من كلامه.
وهذا نصه : ان
ذكر أحد الأمرين من الضعف والتعقيد اللفظي ، يغنى عن الآخر ، اما اغناء الضعف :
فلما سبق ، واما اغناء التعقيد فلأنه لازم للضعف ، لأن التأليف اذا لم يوافق
القانون : اوجب صعوبة في الفهم لا محالة ، والخلوص عن اللازم يوجب الخلوص عن
الملزوم ، وقال بعض المحققين : ان المراد ببعضهم غير الخلخالي ، حيث توهم ـ على ما
يظهر ـ مما نقله بعض المحققين عنه : ان النسبة بينهما عموم مطلق ، والعام ضعف
التأليف ، واللازم منه اغناء ضعف التأليف عن التعقيد فلو كان مراد الشارح من ـ بعضهم
ـ الخلخالي ، ففي كلامه خلل : لاقتصاره في الاشارة الى كلامه ، وجوابه الى بعض ما
توهمه الخلخالي لانه كما نقلنا كلامه : توهم ان ذكر كل واحد من الضعف والتعقيد مغن
عن الآخر! لا الضعف فقط دون عكسه ، فلا تغفل.
(كقول الفرزدق
ـ في مدح خال هشام بن عبد الملك) بن مروان (وهو) ، اي : الخال الذي هو الممدوح : (ابراهيم
بن هشام بن اسماعيل المخزومي) ، نسبة لبني مخزوم ، قبيلة من قبائل العرب ـ :
(وما مثله في الناس الا مملكا
|
|
ابو امه حي
ابوه يقاربه)
|
اصل البيت ،
وما مثله في الناس حي يقاربه ، الا مملكا ، ابو امه ابوه ، (اي : ليس مثله) ، اي :
ابراهيم (في الناس حتى يقاربه اي : احد يشبهه) ، اي : ابراهيم ، (في الفضائل ، الا
مملكا ، اي ، رجل اعطى) الفقراء والمحتاجين (المال والملك) ، والمراد من الرجل :
ابن اخت ابراهيم الممدوح ، (اعنى : هشاما) بن عبد الملك
الذي (ابو امه ، اي : ام ذلك الملك ، ابوه ، اي : ابو ابراهيم الممدوح ،
والجملة) ، اي : «جملة ابو امه» (صفة مملكا ، اي : لا يماثله) ، اي : ابراهيم ، (احد
الا ابن اخته ، الذي هو هشام) ان عبد الملك ، (ففيه) ، (فصل بين المبتدأ والخبر ،
اعنى : ابو امه ، بالأجنبي) عنهما ، (الذي هو حي ، و) فيه ـ ايضا ـ فصل (بين
الموصوف والصفة ، اعني : حي يقاربه ، بالأجنبي) عن الصفة ، اي : جملة : يقاربه ،
والموصوف ، اي : حى ، والمراد بالأجنبي (الذي هو) حي في الاول ، و (ابوه) ، هاهنا
ما لا تعلق له بالشيئين اللذين وقع بينهما ، لا لفظا ولا معنى ، بأن يكون من اجزاء
جملة اخرى غير ما وقع بينهما.
(و) فيه ـ ايضا
ـ (تقديم المستثنى ، اعنى : مملكا ، على المستثنى منه ، اعنى : حي ، ولهذا) ، اي :
لأجل التقديم (نصبه) ، اي : المستثنى ، (والا) ، اي : وان لم يقدم ، (فالمختار) :
رفع المستثنى على (البدل) ، كما قال ابن مالك :
ما استثنت
الا مع تمام ينتصب
|
|
وبعد نفى او
كنفي انتخب
|
اتباع ما
اتصل ونصب ما انقطع
|
|
وعن تميم فيه
ابدال وقع
|
وقال السيوطى ـ
في شرحه ـ : ما استثنت ـ الا ـ مع تمام وايجاب ، ينتصب بها عند المصنف ، وبما
قبلها عند السيرافي ، وبمقدر عند الزجاج ، نحو : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) وان وقع بعد نفي ، او ما هو كنفى ، وهو : النهي
والاستفهام ، انتخب بفتح ـ التاء ـ اتباع ما اتصل للمستثنى منه في اعرابه ، على
انه بدل منه ، بدل بعض من كل ، نحو : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَداءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ) (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا
امْرَأَتَكَ)(وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)
ويجوز النصب ،
قال ـ المصنف ـ : وهو عربي جيد قال ـ ابن النحاس ـ : كل ما جاز فيه الاتباع ، جاز
فيه النصب ، على الاستثناء ، ولا عكس ، انتهى.
والبيت من هذا
القبيل ، فلذلك قال ـ الشارح ـ : والا فالمختار البدل ، اي : وان لا يقدم المستثنى
، اعني : مملكا ، على المستثنى منه ، اعنى : حى ، فالمختار البدل ، واعلم : ان
الآية الثالثة في كلام السيوطي ، ليست على الوجه الذي نقلنا عنه ، ولعله سهو من
قلم الناسخ ، واصل الآية : ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون.
(فهذا التقديم)
، اي : تقديم المستثنى منه ، (شايع الاستعمال) فليس فيه ضعف ، (لكنه اوجب زيادة في
التعقيد) ، لما اشرنا اليه آنفا ، وصرح به الشارح : من ان سبب التعقيد ، يمكن ان
يكون امرا شايع الاستعمال.
واعلم انه الى
هنا كان البحث مبنيا على كون ـ ما ـ عاملة على اللغة الحجازية ومثله اسمها ، وفي
الناس خبرها : (وقيل : مثله مبتدأ) غير منسوخ الابتدائية ، وكذلك (حي خبره) ، اي :
خبر مثله (و ـ ما ـ غير عاملة ، على اللغة التميمية) ، لأن ما في لغتهم لا تعمل
مطلقا ، اي : سواء تقدم الخبر على الاسم ، ام لا ، كما اشار اليه الشاعر بقوله :
ومهفهف
كالبدر قلت له انتسب
|
|
فاجاب ما قتل
المحب حرام
|
برفع حرام ،
فعلم من رفعه حراما : انه تميمى.
(وقيل : بالعكس)
، اي : «مثله» خبر مقدم ، و «حي»
مبتدأ مقدم ، و «ما» حجازية ، وان كان الشاعر ـ اعني : فرزدق ـ تميميا ،
كما صرح به بعض اهل الأنساب ، وهذا نصه : الفرزدق ، هو في الأصل جمع فرزدقة ، وهي
القطعة من العجين ، لقب به همام ابن غالب بن صعصعة التميمي ، صاحب جرير ، لتقطع
وجهة بالجدري قطعا كقطع العجين ، وكان ابوه غالب : من أجلة قومه ، ومن سراتهم
وكنيته ابو الأخطل ، لولد كان له اسمه الأخطل ، وهو شاعر ـ ايضا ـ وهو غير الأخطل
التغلبي النصراني ، الشاعر المشهور ، وجده صعصعة صحابي ، وام الفرزدق : ليلى بنت
حابس ، اخت الأقرع بن حابس روى الفرزدق عن علي بن ابي طالب (ع) ، وعن ابى هريرة ،
وعن الحسين (ع) ، وعن ابن عمر ، وعن ابي سعد الخدري ، انتهى.
اقول :
والفرزدق هذا ، هو الذي قال القصيدة المعروفة في مدح على بن الحسين (ع) ، لما
انكره الخليفة الاموي هشام بن عبد الملك المذكور آنفا ، وقد مدحه في مكة ، حين جاء
الخليفة ـ وكان الناس مجتمعون على علي بن الحسين (ع) ـ فسأل الخليفة المذكور عنه ،
فقال الخليفة : لا اعرفه ، لئلا يرغب الناس اليه ، فأنشد الفرزدق ـ حينئذ ـ القصيدة
، اولها :
هذا الذي
تعرف البطحاء وطأته
|
|
والبيت يعرفه
والحل والحرم
|
هذا علي رسول
الله والده
|
|
امست بنور
هداه تهتدي الامم
|
هذا ابن خير
عباد الله كلهم
|
|
هذا التقي
النقي الطاهر العلم
|
اذا رأته
قريش قال قائلهم
|
|
الى مكارم
هذا ينتهى الكرم
|
الى آخر
القصيدة ، وهى ، معروفة عند اهلها.
(وبطلان العمل)
، اي : عمل «ما» حينئذ ، اي : حين قلنا
بان الشاعر ـ مع كونه تميميا ـ استعملها على اللغة الحجازية ، (لتقديم
الخبر) ، اي : مثله ، على الاسم ، اي : حى : اذ يشترط في عمل ـ ما ـ الحجازية :
بقاء الترتيب ، كما صرح به ابن مالك في قوله :
اعمال ليس
اعملت ما دون ان
|
|
مع بقا النفى
وترتيب زكن
|
(و) لكن ، (كلا الوجهين) ، اي :
كون «مثله» مبتدأ ، و «حى» خبره ، والعكس : (يوجب قلقا) ، اي : اضطرابا ، اي : اختلافا
(في المعنى ، يظهر) ايجاب الوجهين القلق : (بالتأمل في) مرادف الوجه الأول ، وهو :
(قولنا : ليس مماثله في الناس حيا يقاربه).
وجه الاضطراب
في هذا الوجه : انه يفيد نفى كون مماثل ابراهيم قريبا من ابراهيم ، هذا ان قلنا :
ان القيد الأخير في الكلام ، هو «يقاربه» وان جعلنا القيد الأخير «حيا» فحينئذ
يفيد نفي كون مماثل ابراهيم حيا ، والحال ان كلا المعنيين خلاف المقصود ، اذ
المقصود نفي ان يماثله ويقاربه احد ، وهذا الى الوجه باحتماليه : مفاده وجود
المماثل ، غاية الأمر في المعنى الأول غير قريب ، وفي المعنى الثاني غير حي ،
اللهم الّا ان يقال : ان السالبة ها هنا بانتفاء الموضوع فيصير المعنى طبق المقصود
، ولكن هذا يفيد في صحة المعنى ، لا في رفع القلق ، فتأمل جيدا.
(او) التأمل في
مرادف الوجه الثاني ، وهو قولنا : (ليس حي يقاربه ، مماثلا له في الناس) ، وجه
الاضطراب في هذا الوجه : انه يفيد نفى المماثلة عن الحي المقارب لابراهيم ، فيفيد
وجود المقارب له وهذا ـ ايضا ـ خلاف المقصود ، اذ المقصود ما بيناه آنفا ، (فالصحيح
ان «مثله» اسم ـ ما ـ وفي الناس : خبره ، وحي يقاربه) ، موصوف وصفة ، (بدل
من مثله ، ففيه) اي : في البيت ـ حينئذ : (فصل بين البدل ،) اعنى : حى ، (والمبدل
منه) ، اعني : مثله.
واعلم : انه قد
ذكرنا سابقا ، ان التعقيد قد يسمى في الاصطلاح بالمعاظلة ، قال في ـ المثل السائر
ـ : المعاظلة المعنوية ، كتقديم الصفة ، او ما يتعلق بها على موصوفها ، وتقديم
الصلة على الموصول وغير ذلك مما يرد بيانه ، فمن هذا القسم ، قول بعضهم :
فقد والشك
بين لى عناء
|
|
بوشك فراقهم
صرد يصيح
|
فانه قدم قوله
: بوشك فراقهم ، وهو معمول يصيح ، ويصيح صفة لصرد ، على صرد ، وذلك قبيح ، ألا ترى
انه لا يجوز ان يقال : هذا من موضع كذا رجل ورد اليوم؟ وانما يجوز وقوع المعمول
بحيث يجوز وقوع العامل ، فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها ، فكذلك لا يجوز
تقديم ما اتصل بها على موصوفها ، الى ان قال وممّا يجرى هذا المجرى قول الفرزدق :
الى ملك ما
امه من محارب
|
|
ابوه ولا
كانت كليب تصاهره
|
وهو يريد الى
ملك ابوه ما امه من محارب ، وهذا اقبح من الأول ، واكثر اختلالا ، وكذلك قوله ـ ايضا
ـ :
وليست خراسان
التي كان خالد
|
|
بها اسد اذ
كان سيفا اميرها
|
وحديث هذا
البيت ظريف ، وذاك : انه فيما ذكر يمدح خالد ابن عبد الله القسرى ، ويهجو اسدا ،
وكان اسد وليها بعد خالد.
وكأنه قال :
وليست : خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا ، اذ كان اسد اميرها ، وعلى هذا
التقدير : ففي كان الثانية ، ضمير الشان ،
والحديث والجملة بعدها : خبر عنها ، وقد قدم بعض ما اذ مضافة اليه ، وهو
اسد عليها ، وفي تقديم المضاف اليه ، او شىء منه على المضاف ، من القبح ما لا خفاء
به ، ـ وايضا ـ فان اسدا احد جزئي الجملة المفسرة للضمير والضمير لا يكون تفسيره
الا من بعده ، (كما بيناه عند عد المواضع الستة ، التي يجوز فيها عود الضمير على
المتأخر ، لفظا ورتبة) ، ولو تقدم تفسيره قبله : لما احتاج الى تفسير ، ولما سماه
الكوفيون : الضمير المجهول ، وعلى هذا النحو ، ورد ـ ايضا ـ قول الفرزدق :
وما مثله في
الناس الا مملكا
|
|
ابو امه حى
ابوه يقاربه
|
ومعنى هذا
البيت : وما مثله في الناس حي يقاربه ، الا مملكا ، ابو امه ابوه ، وعلى هذا
المثال المصوغ في الشعر ، قد جاء مشوها كما تراه ، وقد استعمل الفرزدق من التعاظل
كثيرا كأنه كان يقصد ذلك ويتعمده ، لأن مثله لا يجيء الا متكلفا مقصودا ، والا
فاذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال : لم يعرض له شيء
من هذا التعقيد ، الا ان المقصود من الكلام معدوم في هذا الضرب المشار اليه ، اذا
المقصود من الكلام انما هو الايضاح والابانة ، وافهام المعنى ، فاذا ذهب هذا الوصف
المقصود من الكلام : ذهب المراد به ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات ،
كالفارسية والرومية وغيرهما ، واعلم ان هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة ، لان
الفصاحة : هي الظهور والبيان ، وهذا عار عن هذا الوصف ، انتهى.
(واما) لخلل
واقع (في الانتقال ، اي : لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على) المعنى (المراد) منه ،
(لخلل) حاصل (في) الكلام
يوجب ذلك الخلل خللا وبطأ وتعقيدا : في (انتقال الذهن) ، اي : ذهن من قصد
افهامه (من المعنى الأول المفهوم) من الكلام ابتداء (بحسب اللغة ، الى) المعنى (الثاني)
الذي هو (المقصود) للمتكلم (وذلك الخلل) الواقع في الكلام الموجب للخلل في
الانتقال المذكور (يكون) في بعض افراد الكناية : (لا يراد) المتكلم عند تأدية
مقصوده بالكلام الكنائي ، (اللوازم البعيدة) عن الملزومات ، التي هي المقصودة له ،
او الملزومات البعيدة عن اللوازم التي هي المقصودة له ، وانما رددنا بين الايرادين
: لما سيجيء في اوائل الفن الثاني ، وفي اول بحث الكناية ، من الاختلاف بين المصنف
والسكاكى : في ان الانتقال في ـ الكناية ـ هل هو من اللازم الى الملزوم؟ او بالعكس؟
والتفسير
المذكور هنا غير مطابق لما ينسبه الشارح الى المصنف هنالك ، فراجع وتدبر.
وعلى اي من
القولين ، تكون ما اورده المتكلم (المفتقرة) في انتقال الذهن منها الى المقصود (الى
الوسائط الكثيرة) بينها وبين المقصود (مع خفاء القرائن الدالة : على) ان المراد
بالكلام ليس معناه الاول اي : اللغوي ، بل المراد منه المعنى الثاني ، الذي هو
الملزوم او اللازم حسب ما نبهناك آنفا.
وليعلم : ان
مسألة ـ الكناية ـ من غوامض مسائل علم البيان ، كم زلت فيها للافضل اقدام ،
وانحرفت في بيان قرب الكناية وبعدها اقلام ، لا سيما بعض المحشين الأعلام ،
فالجدير بالمقام ، لتوضيح المرام ان نذكر بعض الكلام ، فيما لها من الأقسام.
قال في بحث
الكناية : فان لم يكن الانتقال من الكناية الى المطلوب
بواسطة : فقريبة ، والقريبة قسمان : واضحة ، يحصل الانتقال منها بسهولة ،
كقولهم ـ كناية عن طول القامة ـ : طويل نجاده ، وطويل النجاد ، او خفية ، يتوقف
الانتقال منها على تأمل واعمال روية ، كقولهم ـ كناية عن الابلة ـ عريض القفاء ،
فان عرض القفاء ، وعظم الرأس بالافراط ، مما يستدل به على بلاهة الرجل ، وهو ملزوم
لها بحسب الاعتقاد ، لكن في الانتقال منه الى البلاهة نوع خفاء لا يطلع عليه كل
احد ، وليس ينتقل منه الى امر آخر ، ومن ذلك الى المقصود ، بل انما ينتقل منه الى
المقصود لكن في بادىء النظر ، وبهذا تمتاز عن البعيدة ، وان كان الانتقال من
الكناية الى المطلوب بواسطة : فبعيدة كقولهم ، كثير الرماد ، كناية عن المضياف ،
فانه ينتقل من كثرة الرماد الى كثرة احراق الحطب تحت القدر ، ومنها ، اي : من كثرة
الاحراق ، الى كثرة الطبائخ ، ومنها الى كثرة الأكلة : جمع آكل ، ومنها الى كثرة
الضيفان ـ بكسر الضاد ـ جمع ضيف ، ومنها الى المقصود وهو المضياف وبحسب قلة
الوسائط وكثرتها : تختلف الدلالة على المقصود وضوحا وخفاء ، انتهى باختصار. وانت
اذا تأملت فيما نقلناه باختصار ، تعرف ما في كلام بعض المحشين من الاختلال ، حيث
حكم بعدم تأثير كثرة الوسائط في التعقيد ، وجعل التأثير كله في خفاء القرائن ،
اللهم الا ان يقال : ان التعقيد غير الخفاء والبعد ، فتأمل.
وكذلك حكمه في
نحو طويل النجاد ، بوجود الواسطة ، (كقول) الشاعر (الآخر) غير الفرزدق ، (وهو عباس
الأحنف) من ندماء هارون الرشيد ، ولم يقل كقوله ، لئلا يتوهم عود الضمير الى
الفرزدق : (سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب اى : تصب) ، ولفظة تسكب
(بالرفع) ، لأنه معطوف على جملة ـ سأطلب ـ وهي جملة مستأنفة نحوية ، مجردة
عن العوامل اللفظية ، فكذلك ما عطف عليها ، (وهو) اى : الرفع ، (الرواية الصحيحة
المبني عليها كلام الشيخ) عبد القاهر ـ (في دلائل الاعجاز) ـ حيث صرح بان تسكب
ابتداء كلام ، وهذا نصه. بدأ فدل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد
فاحسن واصاب ، لأن من شان البكاء ابدا ان يكون امارة للحزن وان يجعل دلالة عليه
وكناية عنه ، كقولهم : ابكاني واضحكني ، على معنى : سائنى وسرني ، انتهى محل
الحاجة من كلامه.
(فائدة) اعلم :
ان السلف من العلماء اعتنوا بعلم اللغة وحفظها والتحرى في اخذها مصححا من الثقاة
في ذلك العلم ، وكذلك في حفظ الأشعار ، وذلك : لأن علم اللغة من الدين ومن فروض
الكفايات على من اعتنق شريعة سيد المرسلين (ص) ، اذ به تعرف ما في القرآن والأخبار
من الأحكام ، وعليه يتوقف الخروج من حضيض التقليد الى اوج الاجتهاد ، ومن طريف ما
يحكى في هذا الباب حكايتان حكاهما في ـ المزهر ـ الاولى : قال الامام ابو محمد
القاسم بن علي البصرى الحريرى ، صاحب ـ المقامات ـ اخبرنا ابو على التسترى ، غن
القاضى ابى القاسم عبد العزيز بن محمد ، عن ابى احمد الحسن بن سعيد العسكرى اللغوى
، عن ابيه ، عن ابراهيم بن صاعد ، عن محمد بن فاصح الأهوازى ، حدثنى النضر بن شميل
، قال : كنت ادخل على المأمون في سمره ، فدخلت ذات ليلة وعلي قميص مرقوع ، فقال :
يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على امير المؤمنين في هذه الخلقان ، قلت : يا امير
المؤمنين انا شيخ ضعيف ، وحرّ مر وشديد ، فاتبرد بهذه الخلقان
قال : لا ، ولكنك قشف ، ثم اجرينا ذكر الحديث فاجرى هو ذكر النساء ، فقال :
حدثنا هشيم ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : قال رسول (ص) : اذا تزوج
الرجل المرأة لدينها وجمالها : كان فيها سداد من عوز ، فاورده بفتح السين ، فقلت :
صدق يا امير المؤمنين هشيم ، حدثنا عوف بن ابي جميلة ، عن الحسن ، عن علي بن أبي
طالب (ع) ، قال : قال رسول الله (ص) : اذا تزوج المرأة لدينها وجمالها كان فيها
سداد (ـ بكسر السين ـ) من عوز ، قال : وكان المأمون متكا فاستوى جالسا ، فقال :
كيف قلت سداد (ـ بكسر السين ـ) قلت : لأن السداد (ـ بفتح السين ـ) هنا لحن ، قال :
وتلحنني ، قلب : انما لحن هشيم ، وكان لحانا ، فتبع امير المؤمنين لفظه ، قال :
فما الفرق بينهما ، قلت : السداد ـ بالفتح ـ : القصد في الدين والسبيل ، والسداد ـ
بالكسر ـ : البلغة ، وكل ما سددت به شيئا فهو سداد ، قال : او تعرف العرب ذلك؟ قلت
: نعم ، هذا العرجي يقول :
اضاعوني واى
فتى اضاعوا
|
|
ليوم كريهة
وسداد ثغر
|
قال المأمون :
قبح الله من لا ادب له ، واطرق مليا ثم قال : ما ما لك يا نضر؟ قلت : اريضة لي
بمرو ، اصابها واتمززها. قال : ا فلا نفيدك معها مالا؟ قلت : اني الى ذلك لمحتاج ،
قال : فأخذ القرطاس وانا لا ادري ما يكتب ، ثم قال : كيف تقول اذا امرت ان تترب
الكتاب؟ قلت : اتربه ، قال : فهو ما ذا؟ قلت : مترب ، قال : فمن الطين؟ قلت : طنه
، قال : فهو ما ذا قلت مطين ، فقال : هذه احسن من الاولى ، ثم قال : يا غلام اتربه
وطنه. ثم صلى بنا العشاء وقال لخادمه : تبلغ معه الى الفضل بن سهل ، قال : فلما
قرأ
الكتاب قال : يا نضر ان امير المؤمنين قد امر لك بخمسين الف درهم فما كان
السبب فيه ، فأخبرته ولم اكذبه ، فقال : الحنت امير المؤمنين فقلت : كلا ، وانما
لحن هشيم ، وكان لحانة ، فتبع امير المؤمنين لفظه ، وقد تبع ألفاظ الفقهاء ، ورواة
الآثار ، ثم امر لي الفضل بثلاثين الف درهم ، فأخذت ثمانين الف درهم بحرف استفيد
مني ، انتهى.
الحكاية
الثانية : قال القالي في اماليه : حدثنا ابو بكر بن الأنباري حدثني ابي ، عن احمد
بن عبيد ، عن الزيادي ، عن المطلب بن المطلب بن ابي وداعة ، عن جده ، قال : رأيت
رسول الله (ص) وابا بكر على باب بنى شيبة ، فمرّ رجل وهو يقول :
يا ايها
الرجل المحول رحله
|
|
الا نزلت بآل
عبد الدار
|
هبلتك امك لو
نزلت برحلهم
|
|
منعوك من عدم
ومن اقتار
|
قال : فالتفت
رسول الله (ص) الى أبي بكر فقال : ا هكذا قال الشاعر؟ قال : لا ، والذي بعثك بالحق
، لكنه قال :
يا ايها
الرجل المحول رحله
|
|
الا نزلت بآل
عبد مناف
|
هبلتك امك لو
نزلت برحلهم
|
|
منعوك من عدم
ومن اقراف
|
الخالطين
فقيرهم بغنيهم
|
|
حتى يعود
فقيرهم كالكاف
|
ويكللون
جفانهم بسديفهم
|
|
حتى تغيب
الشمس في الرجاف
|
والغرض من نقل
الحكايتين : اثبات ان بعض رواة العلم يغلطون في الشعر ، ولا غرو في ذلك ، لأن منهم
من يغلط في نقل كلام الله المنزل ، واقوال النبي المرسل ، واوصيائه المعصومين من
الزيغ والزلل لأغراض فاسدة معلومة عند اولى الفضل والبصيرة الكمل ، اعاذنا الله
مما يرتكبه اهل البدع والأهواء الجهل ، بالنبي وآله الذين هم خير
الأواخر والاول.
(والنصب) ، اي
: نصب تسكب (توهم) وغلط ، وذلك : لأنه حينئذ اما معطوف على قوله : «بعد الدار»
وذلك فاسد ، معنى ، فلأن سكب الدموع حينئذ يدخل تحت الطلب ، فيلزم ـ حينئذ ـ طلب
الحاصل ، لأن البكاء والحزن حاصل للعاشق الصادق ، كما دل عليه قوله تعالى : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) وطلب الحاصل محال كتحصيل الحاصل ، اللهم الا ان يقال :
ان المراد استمرار السكب لا نفسه فتأمل واما لفظا : فسيأتى عند بيان معنى البيت ،
انه صحيح لا مانع فيه ، وكذلك الاحتمال الثاني ، اعني : العطف على ـ لتقربوا ـ واما
عطف على قوله : «لتقربوا» وذلك فاسد معنى ، للزوم نتيجة التناقض بين التعليلين ،
اعني : المعطوف عليه والمعطوف ، لأن المفهوم من الأول : ان الغاية من طلبه بعد
الدار القرب والوصال ، المقتضى للفرح والسرور والمفهوم من الثانى : ان الغاية من
الطلب المذكور سكب الدموع ، الذي هو عبارة اخرى عن الكآبة والحزن ، والتناقض بين
المفهومين واضح كالنار على المنار.
هذا ، ولكن لا
يذهب عليك : ان الشارح يحمل كلام المشهور على كلا الاحتمالين ، عند بيان معنى
البيت ، وذلك بعيد عنهم ، فلا بد من ان يقال : رب مشهور لا اصل له.
(عيناي الدموع
لتجمدا) ، فالشاعر (جعل سكب الدموع ـ وهو البكاء ـ كناية عما يلزمه فراق الأحبة من
الكآبة) ، اي : سوء الحال والانكسار ، (و) شدة (الحزن) ، قال في ـ المصباح ـ : كأب
يكأب من باب ـ تعب ـ كآبة ـ بمد الهمزة ـ وكأبا ، وكأبة ، مثل :
سبب وتمرة : حزن أشد الحزن ، فهو كئب ، وكئيب.
(واصاب) الشاعر
في هذه الكناية ، لأنه لا تعقيد ولا خلل فيها (لأنه) اي : سكب الدموع ، (كثيرا ما)
سيأتي اعراب هذه الكلمة عند قول المصنف : «فالبلاغة راجعة الى اللفظ» فراجع ،
حاصله : ان في اكثر الأحيان (يجعل) سكب الدموع (دليلا) وكناية (عليه) اي : على ما
يلزمه فراق الأحبة من الكآبة والحزن ، (يقال : أبكاني) فلان ، (واضحكني) ، والمراد
منهما معناهما الكنائي ، (اي : سائنى وسرني ، قال) الشاعر (الحماسي) :
انزلني الدهر
على حكمه
|
|
من شامخ عال
الى خفض
|
(أبكاني الدهر ويا ربما
|
|
أضحكنى الدهر
بما يرضى
|
(ولكنه اخطأ في الكناية عما يوجبه
دوام التلاقي) ، اي : دوام تلاقي الأحبة ، (والوصال) ، اي : وصالهم ، (من الفرح
والسرور بجمود العين ، فان الانتقال من جمود العين الى بخلها بالدموع ، حال ارادة)
الانسان (البكاء ، وهي حالة الحزن) ، اي : حالة حزن الانسان (على مفارقة الأحبة ،
لا الى ما قصده الشاعر من السرور الحاصل بملاقاة الأصدقاء ، ومواصلة الأحبة ،
ولهذا لا يصح) عند ارادة دعاء الخير لأحد (ان يقال) ـ مخاطبا اياه ـ : (لا زالت
عينك جامدة ، كما) يصح ان (يقال : لا ابكى الله عينك) ، وذلك : لأن المفهوم من
الأول ، دعاء الشر ، والمفهوم من الثاني ، دعاء الخير ، والحاكم بذلك العرف واللغة
، (و) الدليل على ذلك : انه (يقال) في العرف واللغة : (سنة جماد) ، للسنة التي (لا
مطر فيها) ، وكذلك يقال : (ناقة جماد) ، للناقة التي (لا لبن لها) ، وانما
يوصفونهما بذلك
تنزيلا وتأويلا ، (كأنهما تبخلان بالمطر واللبن) ، قال في ـ المصباح ـ : جمدت
عينه : قل دمعها ، كناية عن قسوة القلب ، وجمد كفه كناية عن البخل ، انتهى.
(فائدة) قال
بعض المحققين : «الحماسي» منسوب الى الحماسة وهي في اللغة : الشجاعة ، والمراد بها
هاهنا : الكتاب المشهور المنسوب الى الامام ابى تمام حبيب بن اوس الطائي ، جمع فيه
اشعار البلغاء الذين يستشهد بكلامهم ، فاذا قيل : حماسى ، يراد به انه مذكور في
ذلك الكتاب ، فاذا اطلق الحماسى : فالمراد به احد الشعراء المذكورين في ذلك الكتاب
، انتهى. واستشهد الشارح : على كون جمود العين كناية عن بخلها حين ارادة البكاء
بما (قال الحماسي):
الا ان عينا
لم تجد يوم واسط
|
|
عليك بجارى
دمعها لجمود
|
فانه يمتنع ان
يراد ـ بالجمود ـ الا البخل بالدموع حال شدة الحزن ، مع كون الدمع موجودا في العين
، فحاصل معنى البيت : ان العين التي لم تجر دمعها عليك لبخيل ، لا ان العين
الموصوفة لمسرورة والشاهد على ذلك الذوق السليم ، المدرك : ان الشاعر أراد ان يقول
: ان فقدك أثر على كل احد ، فجرى دمع عيونهم عليك ، ومن لم يجر دمع عينه عليك
فعينه بخيلة ، ولم يرد الشاعر : ان تلك العين مسرورة ، لأن هذا المعنى لا يناسب
المقام ، اللهم الا ان يقال : ان المراد من تلك العين ، عين العدو ، فيصير معنى
البيت نظير البيت المنسوب الى سيد الشهداء ، مخاطبا اخاه العباس فى يوم الطف :
اليوم نامت
أعين بك لم تنم
|
|
وتسهدت اخرى
فعز منامها
|
هذا ، ولكن
لقائل ان يقول : لو لم يجز استعمال جمود العين
في السرور ، للزم كونه غير عربي ، لا عربيا غير فصيح ، لأنهم قالوا : لا
فرق بين المجاز والكناية ، الا ان المجاز ملزوم قرينة معاندة لمعناه الحقيقى ،
بخلاف الكناية ، فانها لا تنافي ارادة المعنى الحقيقي فلا يجوز في «رأيت أسدا في
الحمام» ان يراد بالأسد الحيوان المفترس مع الرجل الشجاع ، ولكن يجوز في «طويل
النجاد» ان يراد مع طول القامة حقيقة طول النجاد ـ ايضا ـ نعم ، اثبت ـ السكاكي ـ فرقا
آخر ، وهو : ان الانتقال فيه من الملزوم ، اي : الحيوان المفترس في المثال الأول ،
الى اللازم ، اعنى : الرجل الشجاع ، وفيها : من اللازم ، اعني : طول النجاد في
المثال الثاني ، الى الملزوم ، اعني : طول القامة.
وقد قالوا ـ ايضا
ـ : انه لا بد في المجاز من علاقة واضحة توجب الانتقال ، كما قالوا بذلك في
الكناية هاهنا ، ولذلك اعتبروا في الاستعارة : ان يكون وجه الشبه من اشهر خواص
المشبه به ، بحيث اذا قام قرينة على عدم ارادة المعنى الحقيقي ، اعني : المشبه به
، انتقل الى معناه المجازي : اعني : الرجل الشجاع ، وكذلك سائر أقسام المجاز لا بد
فيها من كون العلاقة موجبة للانتقال الى المعنى المجازي ، بعد قيام القرينة على
عدم ارادة المعنى الحقيقي.
وقد قالوا ـ ايضا
ـ : ان المجاز مثل الحقيقة : في انه لا يجوز التعدي عما حصل الرخصة من العرب فى
نوعه ، فان الحقيقة كما انها موضوعة بوضع شخصي ، كذلك المجاز ، فانها ـ ايضا ـ موضوع
بوضع نوعي ، فلا بد من ملاحظة وضعه ، حتى يجوز الاستعمال ، والوضع مطلقا شخصيا كان
او نوعيا ، ليس معناه التنصيص من العرب ، بل
يستكشف من استعمال الفصحاء والبلغاء في محاوراتهم ، بحيث كان شايعا عندهم ،
فكل لفظ يراد به معنى ولكن لم ينقل استعماله في ذلك المعنى عنهم : فهو ليس بعربى.
ولذلك استشكل بعض الاصوليين : في كون الحقايق الشرعية عربية ، مستدلا : بأنه لم
ينقل من العرب استعمالها في المعاني الشرعية ، لأنها لم تكن معهودة عندهم ، فكذلك
لفظة الجمود فيما نحن فيه ، اذا لم يكن استعماله في السرور معهودا عندهم ، بحيث
ينتقل منه اليه ، لم يكن عربيا ، فلا وجه للقول بأنه عربي غير فصيح ، لكونه غير
ظاهر الدلالة ، اذ الدلالة على السرور فيه متوقفة على شيوع الاستعمال ، وهو قد
انكر اصل الاستعمال فضلا عن شيوعه ، فتدبر واغتنم.
(ان قلت) : فما
الفرق بين الجمود المراد منه السرور ، وبين الغريب ، من نحو : شر نبث ، واشمخر ،
واقمطر ، ونحوها.
قلت : الفرق
بينهما صحة الاستعمال وعدمها ، فان الجمود على ما ادعاه لا يصح استعماله في السرور
، بخلاف الغريب ، فانه يصح استعماله في معناه ، غاية الأمر انه غير ظاهر المعنى ،
ولا مأنوس الاستعمال ، ومنه غريب القرآن ، (فان قيل) ـ في تصحيح الانتقال من جمود
العين الى ما قصده الشاعر من السرور الحاصل بملاقاة الأصدقاء ومواصلة الاحبة ـ :
انه (استعمل الجمود) المقيد ببخل العين حال ارادة البكاء ، (في مطلق خلو العين من
الدمع) ، مجردا عن القيد المذكور ، فيكون (مجازا) صحيحا ، (من باب استعمال المقيد
في المطلق) المجرد عن القيد. فانه من اقسام المجازات الصحيحة ، التي قد تكون
استعارة ، وقد تكون مجازا مرسلا : كما يصرح الشارح في
بحث التشبيه بقوله : فاذا اطلق نحو المشفر (الذي وضع للشفة الغليظ للابل
وقيد به) ، على شفة الانسان ، فان اريد تشبيهها ، اي : شفة الانسان بمشفر الابل في
الغلظ ، فهو استعارة ، لأن المجاز اذا كانت علاقته المشابهة يسمى : استعارة ، وان
اريد انه ، اي : اطلاق المشفر المقيد بالقيد المذكور ، على شفة الانسان المجرد عن
ذلك القيد باعتبار ان هذا الاطلاق : من باب اطلاق المقيد على المطلق ، كاطلاق ـ المرسن
ـ الذي وضع للأنف ، الذي هو محل الرسن ، اي : الحبل وهو انف الابل ، على الأنف
المطلق المجرد عن قيد : كونه محل الرسن ، وعن قيد كونه للابل ، من غير قصد الى
تشبيه هذا الأنف المطلق بذلك المرسن المقيد ، فهذا الاطلاق مجاز مرسل ، اذ المجاز
اذا كانت علاقته غير المشابهة ، يسمى : مجازا مرسلا ، انتهى بزيادة وتغيير ما ،
للتوضيح.
فالحاصل : انه
سلمنا ان الجمود مفهومه المطابقي مقيد بقيد ما ، كالمشفر ، والمرسن ، بحيث ينتقل
منه الى بخل العين بالدموع حال ارادة البكاء ، لكنه في البيت تجرد عن القيد ،
فاستعمل في مطلق خلو العين من الدمع مجازا ، من استعمال المقيد في المطلق ، (ثم
كنى به ،) اي : بالجمود المطلق المجرد عن القيد (عن المسرة) ، التي قصده الشاعر ، (لكونه)
اي : الجمود المطلق ، (لازما لها) اي : للمسرة (عادة) ، لأن الانسان الفرح الجزل
لا يبكى حينئذ الا نادرا فلازم الفرح والسرور ان تكون العين جامدة ، فلا خلل ولا
تعقيد في الانتقال من جمود العين الى ما قصده الشاعر.
(قلنا : هذا)
التوجيه المذكور ، اعني : تجريد الجمود عن
القيد المأخوذ في مفهومه ، وجعله بعد التجريد من باب استعمال المقيد في
المطلق ، لا يسمن ولا يغنى عن جوع ، لأنه (انما يكفى لصحة الكلام) ، وخروجه عن
كونه غلطا ، (و) لكن لا يرفع الخلل عنه و (لا يخرجه عن التعقيد المعنوي. لظهور :
ان الذهن لا ينتقل الى هذا) التوجيه المذكور (بسهولة) ، لأنه يحتاج الى اعمال فكر
وروية ودراية تامة ، وذلك لا يوجد الا عند بعض ، (والكلام الخالي) عن الخلل و (عن
التعقيد المعنوي : ما يكون الانتقال فيه من معناه الأول المفهوم بحسب اللغة ، (الى
الثاني) المقصود من الكلام : (ظاهرا) بينا ، بحيث يفهمه السامع بسهولة ، من دون ان
يحتاج الى اعمال فكر وروية ودراية ، ولذلك : اخرج بعضهم اللغز والمعمى عن الكلام
الفصيح ، لاحتياج السامع فيهما الى اعمال ما ذكر ، وكذلك الايهام الذي اشرنا اليه
في أول الكتاب ، في وجوه الاعجاز ، اذا لم تكن له قرينة واضحة ، والحاصل : ان
الكلام الخالي عن الخلل والتعقيد : ما كان الانتقال منه الى المقصود منه سهلا.
(حتى تخيل الى
السامع) ـ التاء والخاء ـ مضمومتان ، والى بمعنى عند ، او بمعنى اللام ، وقوله : (انه
فهمه من حاق اللفظ) نائب الفاعل لتخيل ، اي : تخيل عند السامع ، اى : يوجد عنده
خيال انه فهمه من نفس اللفظ ، ووسطه ، اى : يقع في ذهنه وخياله انه فهم المقصود ،
اى : المعنى الثاني من نفس اللفظ ووسطه ، غافلا عن ان المعنى الثاني لم يفهمه من
نفس اللفظ ، بل فهمه من الملازمة بين معنى اللفظ وبين المعنى الثاني ، وذلك الخيال
انما يحصل لسهولة الانتقال من معنى اللفظ الى المقصود.
قال في ـ اساس
البلاغة ـ : خيل اليه انه دابة ، فاذا هو انسان وتخيل اليه.
وقال في ـ لسان
العرب ـ : وخيل اليه انه كذا علي ما لم يسم فاعله : من التخييل ، والوهم.
وقال في ـ تاج
العروس ـ : واخال الشيء اشتبه ، يقال : هذا امر لا يخيل.
قال الشاعر :
والصدق ابلج
لا يخيل سبيله
|
|
والصدق يعرفه
ذوو الألباب
|
وفلان يمضى على
المخيل كمعظم ، اى : على ما خيلت ، اى : شبهت ، يعنى : على غرر من غير يقين ، ومنه
قولهم : وقع في مخيلى كذا ، وفي مخيلاتي ، وخيل اليه انه كذا على ما لم يسم فاعله
، من التخييل والوهم ، ومنه قوله تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) والتخييل : تصوير خيال الشيء في النفس ، انتهى.
قال في ـ اسرار
البلاغة ـ : واما التعقيد ، فانما كان مذموما لأجل : ان اللفظ لم يرتب الترتيب
الذى بمثله تحصل الدلالة على الغرض ، حتى احتاج السامع ان يطلب المعنى بالحيلة ،
ويسعى اليه من غير الطريق ، كقوله :
وكذا اسم
اغطية العيون جفونها
|
|
من انها عمل
السيوف عوامل
|
وانما ذم هذا
الجنس : لأنه احوجك الى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله ، وكدّك بسوء
الدلالة ، واودع المعنى لك في قالب غير مستو ولا مملس ، بل حشن مضرس ، حتى اذا رمت
اخراجه منك عسر عليك ، واذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحسن.
هذا ، وانما
يزيد الطلب فرحا بالمعنى وانسا به ، وسرورا بالوقوف عليه ، اذا كان لذلك اهلا ،
فاما اذا كنت معه كالغائص في البحر : يحتمل المشقة العظيمة ، ويخاطر بالروح ، ثم
يخرج الخرز ، فالأمر بالضد مما بدأت به ، ولذلك كان احق اصناف التعقيد بالذم : ما
يتعبك ثم لا يجدى عليك ، ويورقك ثم لا يروق لك ، وما سبيله الا سبيل البخيل الذي
يدعوه لؤم في نفسه ، وفساد في حسه : الى ان لا يرضى بضعته في بخله ، وحرمان فضله ،
حتى يأبى التواضع ولين القول ، فيتيه ويشمخ بأنفه ، ويسوم المتعرض له بابا ثانيا
من الاحتمال ، تناهيا في سخفه ، او كالذي لا يؤيسك من خيره في أول الأمر فتستريح
الى اليأس ، ولكنه يطمعك ويسحب على المواعيد الكاذبة ، حتى اذا طال العناء وكثر
الجهد ، تكشف عن غير طائل ، وحصلت منه على ندم ، لتعبك في غير حاصل ، انتهى.
فتحصل من جميع
ما ذكر ما في المقام : انه لا بد في الكلام الفصيح من امرين : الأول : ان يكون له
معنى ثان هو المقصود والغرض للمتكلم ، لا معناه بحسب اللغة.
والثاني : ان
يكون الانتقال من معناه الأول بحسب اللغة الى المعنى الثاني المقصود ظاهرا ، بحيث
يخيل الى السامع انه فهمه من حاق اللفظ ، وقال ـ ايضا ـ : ومن الصفات التي تجدهم
يجرونها على اللفظ ، ثم لا تعترضك شبهة ولا يكون منك توقف في انها ليست له ، ولكن
لمعناه ، قولهم : لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ، ولفظه
معناه ، ولا يكون لفظه اسبق الى سمعك
من معناه الى قلبك. قولهم : يدخل في الاذن بلا اذن ، فهذا مما لا يشك
العاقل في انه يرجع الى دلالة المعنى على المعنى ، انتهى.
(واما الكلام
الذي ليس له معنى ثان) بان انحصر دلالته في معناه الأول بحسب اللغة ، (فهو) كلام
عامي مرذول ، يحكم عليه بأنه (بمنزلة الساقط عن درجة الاعتبار عند البلغاء ، كما
ستعرفه في بحث بلاغة الكلام) ، واذ قد عرفت هذه الجملة : تعرف ان الكلام المعتبر
عند البلغاء ، هو الكلام الذي يكون له دلالتان : دلالة اللفظ على المعنى بحسب اللغة
، ودلالة ذلك المعنى على معنى ثان هو المقصود من الكلام ، ومن ذلك تعرف معنى قولنا
: الكناية ابلغ من التصريح فانك اذا كنيت عن كثرة القرى بكثرة الرماد تحت القدر ،
او عن طول القامة بطول النجاد ، او عن المضيافية بحبن الكلب او هزل الفصيل ، كنت
قد اثبت المعنى الثاني ، الذى هو المقصود ، اعني : كثرة القرى ، وطول القامة ،
والمضيافية ، باثبات شاهدها ودليلها ، وما هو بينة وبرهان عليها ، فكان دعواها
دعوى ببينة وبرهان ، فتوجب لمن يسمع الكلام خير تصديق واذعان ، بشرط ان يراعي
المتكلم ما يوجب سهولة الانتقال في مقام البيان ، والا فهو كتجمد في البيت ساقط عن
درجة الاعتبار ، وان رام القيل ان يثبت له دلالتين ، اذ اثباتهما بدون سهولة
الانتقال غير مجد ، كما اوضحناه لك بخير تقرير وبيان ، (ومعنى البيت : ان عادة
الزمان والاخوان ، الاتيان بنقيض المطلوب ، والجرى على عكس المقصود) ، كما اشار
الى ذلك بقوله :
ما كل ما
يتمنى المرء يدركه
|
|
تجري الرياح
بما لا تشتهي السفن
|
(واني الى الآن) كنت غافلا عن ذلك
، فلذلك (كنت اطلب)
ما هو مطلوبي الواقعي ، اعني : (القرب والسرور) ، الذي يحصل عند ملاقاة
الأحبة ، (فلم يحصل لي الا) نقيض ذلك ، اعني : (الحزن والفراق ، فبعد هذا اطلب
البعد والفراق) ليزعم الزمان والاخوان : ان مطلوبي ذلك ، البعدية اشارة الى السين
في ـ سأطلب ـ فتبصر ، (ليحصل) لي (القرب والوصال) ، بناء على ما هو العادة للزمان
والاخوان : من الاتيان بنقيض المطلوب ، (واطلب) ـ ايضا ـ (الحزن والكآبة ليحصل
الفرح والسرور) ، بناء على ما ذكر ، والى هذا المعنى يشير الشاعر بقوله :
ولكم تمنيت
الفراق مغالطا
|
|
واحتلت في
استثمار عرس ودادي
|
وطمعت منها
في الوصال لأنها
|
|
تبنى الامور
على خلاف مرادي
|
(هذا) ، اي : دخول الحزن والكآبة
المعبر عنهما بسكب الدموع تحت الطلب ، (ان نصبت تسكب بتقدير ـ ان ـ) المصدرية بناء
على ما توهم (ليكون) مؤولا بالمصدر ، فيكون (عطفا على بعد الدار) ، من باب عطف
المفرد على المفرد ، ليكون نظير قولها :
للبس عبائة
وتقر عينى
|
|
احب الي من
لبس الشفوف
|
وذلك جائز لفظا
كما قال ابن مالك :
وان على اسم
خالص فعل عطف
|
|
تنصبه ان
ثابتا او منحذف
|
لكنه فاسد معنى
، وقد تقدم وجهه.
(و) اما (ان
رفعته كما هو الصواب) المبنى عليه كلام الشيخ ، وقد نقلنا بعضه آنفا ، (فالمعنى) ـ
حينئذ ـ ان الشاعر بدأ يقول : (ابكى واتحزن الآن ، ليحصل في المستقبل السرور
والفرح ، والقرب والوصال ، وحينئذ ،) اي : حين رفعت تسكب ، (لا يدخل سكب
الدموع تحت الطلب) ، لأنه حينئذ جملة مستقلة ، معطوفة على جملة ـ سأطلب ـ لا
معطوفة على بعد الدار ، اللازم منه : كونها مؤولة بالمفرد داخلة تحت الطلب ، كبعد
الدار ، (لكنه) اي : الشاعر ، (اكب اليه) ، اي : اقبل عليه ، اي : على سكب الدموع
واستمر في ذلك (ولازمه ملازمة الأمر المطلوب) الاستمرار فيه ، والملازمة مستفاد من
كون الفعل مضارعا ، لأنه يفيد الاستمرار كما تقدم بيانه في اول الكتاب عند قوله : «وانا
اسأل الله» (ليظن الدهر) والاخوان (انه) ، اى : سكب الدموع المكنى به عن الحزن (مطلوبه)
اي : الشاعر ، (فيأتى) الدهر والاخوان (بضده) ، جريا على عادتهم من الاتيان بنقيض
المطلوب ، (وهذا هو المعنى المشهور فيما بين القوم ، ولا يخفى ما فيه) ، اي : في
هذا المعنى المشهور (من التكلف) ، اي : تحمل المشقة من دون جدوى ، (والتعسف) ، اي
: التخبط ، اي : فعل شىء من دون روية وتأمل.
اما الأول ، اى
: التكلف لأن الأحبة والزمان انما يأتون بنقيض المطلوب في الواقع ، لا في الظاهر ،
والذى يطلبه الشاعر على المعنى المشهور مطلوب ظاهرى ، فلا يجدى هذا المعنى في
تصحيح معنى البيت واجيب بأن ذلك من تصرفات الشعراء وتخيلاتهم.
واما الثاني ،
اي : التعسف ، لأن طلب الشاعر للبعد والفراق اما في حال العراق ، او في حال الوصال
، فالأول تحصيل للحاصل والثاني نقض للغرض ، لأنه قطع للوصال الموجود لتحصيل وصال
معدوم ولا يخفى : انه من اشنع أنواع نقض الغرض ، واجيب باختيار الشق الأول ، وهو :
انه طلب في حال الفراق دوام الفراق ، لأجل دوام
الوصال ، وباختيار الشق الثانى ، وهو : انه طلب الفراق حال الوصال لكونه
وصالا آئلا الى الزوال ، فيطلب الفراق حال ذلك الوصال ، ليحصل غيره ، اعنى :
الوصال الدائم ، (ومنشأه) اي : منشأ ذلك التكلف والتعسف : (عدم التعمق في المعاني)
، التي يقصدونها البلغاء والفصحاء في محاوراتهم واشعارهم ، (وقلة التصفح) والتتبع (لكلام
المهرة) الحاذقين في استنباط معاني الكلام (من السلف) ، اي : الشيخ عبد القاهر
وامثاله ، (و) المعنى (الصحيح) الذي بينه الشيخ عبد القاهر ونحن نفقل كلامه مفصلا
ـ بعيد هذا ـ خلاصته : (انه) اي : الشاعر لم يرد بقوله : «سأطلب بعد الدار» انه
يطلبه في المستقبل ، بل (أراد بطلب) بعد الدار ، اي : (الفراق) ، الرضا بذلك ، (وطيب
النفس به ، وتوطينها) اي : تذليلها ، اي النفس ، قال ـ في المصباح ـ : وطن نفسه
على الأمر توطينا مهدها لفعله وذللها (عليه) ، اي : على بعد الدار والفراق الموجود
الآن ، (حتى) يبلغ ذلك الطيب والتوطين الى حد (كأنه) ، اي الفراق (امر) اي : شىء (مطلوب)
للشاعر ، (والمعنى) اي : معنى البيت ـ حينئذ ـ : (انى اليوم اطيب) على وزن ابيع ،
اي : انبسط انا وانشرح (نفسا) ، اي : تنبسط وتنشرح نفسي ، وانما جعلنا النفس فعلا
، لكون هذا القسم من التمييز فاعلا في المعنى ، كما يصرح به ابن مالك في قوله في ـ
باب التمييز ـ :
واجرر بمن ان
شئت غير ذي العدد
|
|
والفاعل
المعنى كطب نفسا تفد
|
(وأوطنها) ، اي : امهدها واذللها ،
اي : النفس (على مقاساة الأحزان) التي تسببت عن البعد عن الأحبة والاصدقاء ، قال
في ـ اقرب
الموارد ـ : قاساه مقاساة : كابده وعالج شدته ، (والأشواق) التي تلزم من
بعد الأحبة والأصدقاء ، لأن البعد منهم مستلزم للاشتياق اليهم قال في ـ المصباح ـ :
الشوق الى الشيء نزاع النفس اليه ، وهو مصدر شاقنى الشىء شوقا من ـ باب قال ـ والمفعول
مشوق على النقص ، ويتعدى بالتضعيف ، فيقال : شوقته ، واشتقت اليه ، فانا مشتاق
وشيق (واتجرع غصصها) اي : ابتلع الغصص قال في ـ المصباح ـ : جرعت الماء جرعا من ـ باب
نفع ـ وجرعت اجرع من باب ـ تعب ـ لغة وهو الابتلاع ، والجرعة من الماء : كاللقمة
من الطعام ، وهو ما يجرع مرة واحدة ، والجمع جرع ، مثل غرفة وغرف ، واجترعته مثل
جرعته ، وتجرع الغصص : مستعار من ذلك ، انتهى.
والغصص جمع غصة
ـ بالضم ـ قال في ـ المصباح ـ : غصصت بالطعام غصصا من باب ـ تعب ـ فانا غاص وغصان
، ومن باب ـ قتل ـ لغة والغصة ـ بالضم ـ ما غص به الانسان من طعام او غيظ على
التشبيه ، والجمع غصص ، مثل غرفة وغرف ، ويتعدى ـ بالهمزة ـ فقال : اغصصته به ،
انتهى.
اذا عرفت فاعلم
: ان في الكلام استعارة بالكناية وتخييل ـ على ما تقدم في اول الكتاب ـ لأنه شبه
الأحزان والأشواق بمشروب مر واثبات التجرع لها تخييل ، (واتحمل لأجلها) اي ،
الأحزان والاشواق او لأجل النفس ، اي : لأجل راحتها في المستقبل ، والعلة على
الأول حصولي ، وعلى الثاني تحصيلى ، (حزنا) حاصلا الآن (يفيض) بسببه الدمع من عينى
، (لا تسبب بذلك الى وصل يدوم ومسرة لا تزول فان الصبر مفتاح الفرج) ، كما قال
الشاعر الفارسي.
صبر وظفر هر
دو دوستان قديمند
|
|
بر أثر صبر
نوبت ظفر آيد
|
(ومع كل عسر يسر) كما قال ـ ايضا ـ
:
بكذرد اين
روزكار تلخ تر از زهر
|
|
بار دگر
روزگار چون شكر آيد
|
(ولكل بداية نهاية ، هذا هو)
المعنى الصحيح (المفهوم من) كلام الشيخ ـ في (دلائل الاعجاز) ـ وهذا نصه تفصيلا ،
وان كنا ذكرنا شطره فيما تقدم.
قال : ان من
شرط البلاغة ان يكون المعنى الأول الذي تجعله دليلا على المعنى الثاني ووسيطا بينك
وبينه : متمكنا في دلالته ، مستقلا بوساطته ، يسفر بينك وبينه احسن سفارة ، ويشير
لك اليه أبين اشارة حتى يخيل اليك انك فهمته من حاق اللفظ ، وذلك لقلة الكلفة عليك
وسرعة وصوله اليك ، فكان من الكناية ، وان اردت ان تعرف ماله بالضد من هذا فكان
منقوص القوة في تأدية ما اريد منه ، لأنه يعترضه ما يمنعه ان يقضي حق السفارة فيما
بينك وبين معناك ، ويوضح تمام الايضاح عن مغزاك ، فانظر الى قول العباس بن الأحنف
:
سأطلب بعد
الدار عنكم لتقربوا
|
|
وتسكب عيناي
الدموع لتجمدا
|
بدأ : فدل بسكب
الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد فأحسن واصاب ، لأن من شأن البكاء ابدا
ان يكون امارة للحزن ، وان يجعل دلالة عليه وكناية عنه ، كقولهم : ابكاني وأضحكني
على معنى سائني وسرني ، وكما قال :
أبكاني الدهر
ويا ربّما
|
|
اضحكني الدهر
بما يرضى
|
ثم ساق هذا
القياس الى نقيضه ، فالتمس ان يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله
لتجمد ، وظن ان ـ الجمود ـ يبلغ له
في افادة المسرة والسلامة من الحزن : ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على
الكآبة والوقوع في الحزن ، ونظر الى ان الجمود خلو العين من البكاء ، وانتفاء
الدموع عنها ، وانه اذا قال : لتجمد ، فكأنه قال : احزن اليوم لئلا احزن غدا ،
وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا ابدا (هاتان الفقرتان مستند المعنى الصحيح الذي
اختاره الشارح ، خلافا للمعنى المشهور عند القوم ، فتنبه) وغلط فيما ظن ، وذاك ان
الجمود هو ان لا تبكي العين ، مع ان الحال حال بكاء ، ومع ان العين يراد منها ان
تبكي ، ويشتكى من ان لا تبكي ، ولذلك لا نرى احدا يذكر عينه بالجمود الا وهو
يشكوها ويذمها ، وينسبها الى البخل ، ويعد امتناعها من البكاء تركا لمعونة صاحبها
على ما به من الهم ، الا ترى الى قوله :
الا ان عينا
لم تجد يوم واسط
|
|
عليك بجارى
دمعها لجمود
|
فاتى بالجمود تأكيدا
لنفي الجود ، ومحال ان يجعلها لا تجود بالبكاء وليس هناك التماس بكاء ، لأن الجود
والبخل يقتضيان مطلوبا يبذل او يمنع ، ولو كان الجمود يصلح لأن يراد به السلامة من
البكاء ، ويصح ان يدل به على ان الحال حال مسرة وحبور ، لجاز ان يدعى به للرجل
فيقال : لا زالت عينك جامدة ، كما يقال : لا ابكى الله عينك ، وذاك مما لا شك في
بطلانه ، وعلى ذلك قول أهل اللغة : عين جمود لا ماء فيها ، وسنة جماد لا مطر فيها
، وناقة جماد لا لبن فيها ، وكما لا تجعل السنة والناقة جمادا الا على معنى ان
السنة بخيلة بالقطر والناقة لا تسخو بالدر ، كذلك حكم العين لا تجعل جمودا الا
وهناك ما يقتضى ارادة البكاء منها ، وما يجعلها اذا بكت محسنة موصوفة بأن قد
جادت وسخت ، واذا لم تبك مسيئة موصوفة بان ضنت وبخلت.
فان قيل : انه
أراد ان يقول : انى اليوم اتجرع غصص الفراق ، واحمل نفسي على مره ، واحتمل ما يؤديني
اليه من حزن يفيض الدموع من عيني ، ويسكبها لكي اتسبب بذلك الى وصل يدوم ، ومسرة
تتصل حتى لا اعرف بعد ذلك الحزن اصلا ، ولا تعرف عيني البكاء ، وتصير في ان لا ترى
باكية ابدا ، كالجمود التي لا يكون لها دمع ، فان ذلك لا يستقيم ويستتب ، لانه
يوقعه في التناقض ، ويجعله كأنه قال : احتمل البكاء لهذا الفراق عاجلا لأصير في
الآجل بدوام الوصل واتصال السرور في صورة من يريد عينه ان تبكى ثم لا تبكي ، لانها
خلقت جامدة لا ماء فيها ، وذلك من التهافت والاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيه.
وجملة الامر ،
انا لا نعلم احدا جعل جمود العين دليل سرور ، وامارة غبطة ، وكناية عن ان الحال
حال فرح.
فهذا مثال فيما
هو بالضد مما شرطوا من ان لا يكون لفظه أسبق الى سمعك من معناه الى قلبك ، لانك
ترى اللفظ يصل الى سمعك وتحتاج الى ان تخب وتوضع في طلب المعنى.
ويجرى لك هذا
الشرح والتفسير في النظم ، كما جرى في اللفظ لأنه اذا كان النظم سويا ، والتأليف
مستقيما ، كان وصول المعنى الى قلبك تلو وصول اللفظ الى سمعك ، واذا كان على خلاف
ما ينبغي : وصل اللفظ الى السمع ، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه ، واذا افرط
الامر في ذلك : صار الى ـ التعقيد ـ الذي قالوا : انه يستهلك المعنى ، انتهى.
(وعلى هذا)
المعنى الذي فهم من كلام الشيخ : (فالسين في سأطلب لمجرد التأكيد) ، ولا استقبال
فيه ، لأن المعنى على ما بينه الشيخ : اني احزن اليوم ، فالحزن حاصل الآن ، فلا
وجه لأن تكون السين للاستقبال ، فتكون لمجرد التأكيد (على ما ذكره) الزمخشري (ـ صاحب
الكشاف ـ في قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) وغير ذلك) من الآيات التي فيها ـ السين ـ وليست
للاستقبال.
(تنبيه) اعلم :
ان الزمخشري لم يذكر ذلك في (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) بل ذكره في قوله تعالى : (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما
يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) ولم يذكر صريحا فيه انها للتأكيد ، وليست للاستقبال بل
ظاهره يؤكد انها للاستقبال ، والله عالم بحقيقة الحال ، وهذا نص كلامه في هذه
الآية : فان قلت : كيف قيل سنكتب بسين التسويف وهو كما قاله كتب من غير تأخير ،
قال الله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)
قلت : فيه
وجهان ، احدهما : سنظهر له ونعلمه انا كتبنا قوله على طريقة قوله :
اذا ما
انتسبنا لم تلدنى لئيمة
|
|
ولم تجدى من
ان تقرى بها بدا
|
اي : تبين ،
وعلم بالانتساب انى لست بابن لئيمة.
والثاني : ان
المتوعد يقول للجاني : سوف انتقم ، يعنى : انه لا يخل بالانتصار وان تطاول به
الزمان واستأخر ، فجرد هاهنا لمعنى الوعيد ، انتهى.
نعم نسب ابن
هشام الى بعضهم التصريح بذلك ، وهذا نصه : السين المفردة حرف تختص بالمضارع ،
وتخلصه للاستقبال ، وتنزل منه منزلة
الجزء ، ولهذا لم يعمل فيه مع اختصاصه به ، وليس منقطعا من ـ سوف ـ خلافا
للكوفيين ، ولا مدة الاستقبال معه أضيق منها مع سوف : (نظرا الى ما اشتهر بينهم :
من ان زيادة المبنى ، تدل على زيادة المعنى) ، خلافا للبصريين ، ومعنى قول
المعربين فيها حرف تنفيس ، حرف توسيع ، وذلك انها نقلت المضارع من الزمن الضيق ـ وهو
الحال ـ الى الزمن الواسع ـ وهو الاستقبال ـ (لأنه مشترك بين زماني الحال
والاستقبال ، فبنحو السين وان المصدرية ونحوهما يختص بأحد الزمانين) ، وأوضح من
عبارتهم قول الزمخشري وغيره : حرف استقبال.
وزعم بعضهم
انها قد تأتى للاستمرار لا للاستقبال ، ذكر ذلك في قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) الآية واستدل عليه بقوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) مدعيا ان ذلك انما نزل بعد قولهم : (ما وَلَّاهُمْ) قال فجاعت السين اعلاما بالاستمرار لا بالاستقبال ،
انتهى (كلام المنسوب الى بعضهم) ، وهذا الذي قاله (بعضهم) لا يعرفه النحويون ، وما
استند من انها نزلت بعد قولهم غير موافق عليه ، (اي : ليس اجماعيا) ، قال الزمخشري
: فان قلت : اي فائدة في الاخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت : فائدته ان المفاجأة
للمكروه اشد ، والعلم به قبل وقوعه ابعد من الاضطراب اذا وقع ، انتهى (كلام
الزمخشري).
ثم ولو سلم
فالاستمرار انما استفيد من المضارع ، (على ما ذكرناه عند قول المصنف : «وانا اسأل
الله» وغير ذلك) كما تقول : فلان يقرى الضيف ، ويصنع الجميل ، تريد ان ذلك دأبه (اي
: شأنه
وعادته ، فيستمر منه ذلك اذ العادة لا تترك غالبا) ، والسين (في سيقول)
مفيدة للاستقبال اذ الاستمرار انما يكون للمستقبل ، (هذا منقوض بما يأتي في قوله
تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) لأن المراد به الماضي وفيه الاستمرار ، فتأمل). وزعم
الزمخشرى انها اذا دخلت على فعل محبوب او مكروه : افادت انه واقع لا محالة ، ولم
أر من فهم وجه ذلك ، ووجهه : انها تفيد الوعد بحصول الفعل ، فدخولها على ما يفيد
الوعد (اي : الخير) او الوعيد (اي : الشر) مقتض لتوكيده وتثبيت معناه ، وقد اومأ
الى ذلك في سورة البقرة فقال : في (فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللهُ) معنى السين ، ان ذلك كائن لا محالة ، وان تأخر الى حين
، وصرح به في سورة براءة فقال : في (أُولئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة ، وهي تؤكد الوعد ،
كما تؤكد الوعيد اذا قلت : سأنتقم منك ، انتهى كلام ابن هشام مع زيادة توضيحا ،
فانت ترى ان المستفاد من كلام القوم الا بعضهم : ان السين لا يخرج عن الاستقبال ،
وان جاء في بعض الموارد للتأكيد ، فيما نسبه الشارح الى الزمخشرى غير خال ، عن
الضعف والاختلال ، على ما هو ظاهر المقال ، والله اعلم بحقيقة الحال.
ثم اعلم : انه
قال بعض المحققين : ان معنى البيت : ان الشاعر قصد الاعتذار لأحبته في النشمر
للسفر ، ويؤيد هذا المعنى ما قاله المبرد في الكامل : من ان هذا البيت لسان الحال
لرجل فقير مالا او علما يبعد عن اهله واحبته ، ويسافر لتحصيل العلم والكمال ، او
الثروة والمال ، ليحصل بذلك ما يوجب قربهم والوصال ، وتسكب عيناه الدموع في بعده
عنهم لتجمد عند القرب الوصال. نظير قوله :
تقول سليمى
لو اقمت بأرضنا
|
|
ولم قدر انى
للمقام اطوف
|
وهذا قريب مما
ذكره الشيخ في ـ دلائل الاعجاز ـ وقد نقلناه آنفا فتأمل في المقام ، حتى تعرف
المرام ، والله الموفق والمعين وبه الاعتصام ، في كل ما يرام.
(تنبيه) وليعلم
: ان الاجمال شىء ، والتعقيد شىء آخر ، لان التعقيد كما ذكرنا : موجب لعدم دلالة
الكلام على ما هو المقصود منه ، وبعبارة اخرى : التعقيد يوجب قصور الكلام عن
الدلالة ، فيخل بالتفهم المقصود من الوضع ، وهذا بخلاف الاجمال ، لانه لا قصور في
دلالته ، وانما القصور في تعيين المراد من بين مدلولاته ، فلا مانع من وقوعه في
القرآن فضلا عن امكانه ، قال الهروى ـ في كفايته ـ : الحق وقوع الاشتراك للنقل
والتبادر ، وعدم صحة السلب بالنسبة الى معنيين او اكثر للفظ واحد ، ان أحاله بعض
لاخلاله بالتقهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن ، لمنع الاخلال اولا ، لامكان
الاتكال على القرائن الواضحة (الدالة على تعيين المراد ، وتسمى حينئذ قرينة معينة)
، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا ، لتعلق الغرض بالاجمال احيانا ، كما ان استعمال
المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم لأجل لزوم التطويل بلا طائل ، مع الاتكال
على القرائن ، والأجمال في المقال ، لو لا الاتكال عليها ، وكلاهما غير لائق
بكلامه تعالى جل شأنه ، كما لا يخفى : وذلك لعدم لزوم التطويل فيما كان الاتكال
على حال او مقال اتي به لغرض آخر ، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى مع
كونه مما يتعلق به الغرض ، والا لما وقع المشتبه في كلامه ، وقد اخبر في كتابه
الكريم بوقوعه فيه ، قال الله
تعالى : (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ،) انتهى.
(قيل : فصاحة
الكلام : خلوصه مما ذكر ومن كثرة التكرار) ـ بفتح التاء ـ قال في ـ شرح النظام ـ :
التفعال ـ بالكسر ـ فشاذ نحو : التبيان والتلقاء ، ولم يجىء غيرهما ، وقال في
حاشيته ـ نقلا عن الرضى ـ وقال الكوفيون : ان التفعال الذي يفيد التكثير قلبت ـ يلؤه
، الفا ـ فأصل التكرار التكرير ، انتهى.
(وهو) اى :
التكرار (ذكر الشىء مرة بعد مرة اخرى) ، فالتكرار : هو المرة الثانية ، لا مجموع
المرتين ، (وكثرته) اي : كثرة التكرار ، (ان يكون ذلك) الذكر بعد مرة اخرى (فوق
الواحد) ، بأن يذكر الشىء ثالثا ورابعا وهكذا ، فالكثرة هو : الثالث ، والرابع ،
وهكذا ، سواء كان ذلك الشيء المكرر : اسما ، او فعلا ، او حرفا ، او جملة ، وسواء
كان الاسم : ظاهرا ، او ضميرا وانما شرط هذا القائل «الكثرة» احترازا عن التأكيد
اللفظي ، لأنه تكرار الشيء مرة واحدة بلفظه او بمرادفه ، (ومن تتابع الاضافات) عطف
على الكثرة لا على التكرار ، فيكون المراد من التتابع : ما فوق الواحد ، يدل على
ذلك : البيت المستشهد به ، وتصريحه عن قريب بأن المراد ما فوق الواحد ، فيكون
المراد من الاضافات ـ ايضا ـ ما فوق الواحد.
(فكثرة التكرار
كقوله) اي : قول أبي الطيب : (وتسعدنى في غمرة بعد غمرة) سبوح لها منها عليها
شواهد.
الاسعاد : الاعانة
والتخليص ، قال في ـ المصباح ـ : ساعده مساعدة بمعنى عاونه ، و (الغمر) يستعمل في
معان ، منها : (ما يغمرك من
الماء ، و) منها : ما هو (المراد) هنا ، اعني : (الشدة) ، قال في ـ المصباح
ـ : الغمر «الحقد» وزنا ومعنى ، وغمر صدره علينا غمرا من باب ـ تعب ـ والغمر ـ ايضا
ـ : العطش ، ورجل غمر : لم يجرب الامور ، وقوم أغمار : مثل قفل وأقفال ، والمرأة
غمرة ـ بالهاء ـ يقال : غمر ـ بالضم ـ غمارة ـ بالفتح ـ وبنو عقيل تقول : غمر من
باب ـ تعب ـ واصله : الصبى الذي لا عقل له ، قال ابو زيد : ويقتاس منه لكل ما لا
خير فيه ، ولا عناء عنده في عقل ، ولا رأى ، ولا عمل ، (وغمره البحر غمرا من باب ـ
قتل ـ علاه) ، والغمرة الزحمة ، وزنا ومعنى ، ودخلت في غمار الناس ـ بضم الغين ،
وفتحها ـ اي : في زحمتهم ـ ايضا ـ والغامر : الخراب من الأرض ، وقيل : ما لم يزرع
، وهو يحتمل الزراعة ، وقيل له : غامر (لأن الماء يغمره) ، فهو فاعل بمعنى مفعول ،
وما لم يبلغه الماء فهو : قفر ، وغمرته اغمره : مثل سترته استره ، وزنا ومعنى
والغمرة : الانهماك في الباطل ، والجمع الغمرات ، مثل : سجدة ، وسجدات ، (والغمرة
الشدة) ، ومنه غمرات الموت ، لشدائده ، انتهى فما يظهر من بعض ارباب الحواشي : ان
استعمال الغمرة في الشدة ، من باب ذكر الملزوم وارادة اللازم الدال على انه مجاز ،
وما يغمرك من الماء : حقيقته ليس كما ينبغي ، وان كان ظاهر كلام السعد ـ ايضا ـ ذلك
فتأمل.
(سبوح) على وزن
(فعول ، بمعنى : فاعل ،) او صيغة مبالغة مأخوذ (من السبح ، وهو :) العوم والجرى في
الماء ، قال في ـ المصباح ـ : سبح الرجل في الماء سبحا ، من باب ـ نفع ـ والاسم
السباحة ـ بالكسر
فهو سابح ، انتهى.
وانما احتملنا
كونه صيغة مبالغة : لأن المراد هنا (شدة عدو الفرس) مجازا ، من باب الاستعارة ،
تشبيها لجريها وشدة عدوها : بالسبح في الماء ، والفعول بمعنى فاعل يستوى فيه
المذكر والمؤنث ، كما قال ابن مالك :
ولا تلى
فارقة فعولا
|
|
اصلا ولا
المفعال والمفعيلا
|
(واراد) الشاعر (بها) ، اي : بكلمة
سبوح : (فرسا حسن الجري) ، الاولى ان يقال : حسنة الجرى ـ بتاء التأنيث ـ لأن الفرس
مؤنث ، بدليل : تسعدنى ، اللهم الا ان تؤول الفرس بالمركوب او الخيل ، او يتثبث
بقول ابن مالك :
والحذف قد
يأتى بلا فصل ومع
|
|
ضمير ذي
المجاز في شعر وقع
|
(لا تتعب راكبها) لقوة جريها ، (كأنها
تجرى في الماء) ، فتسهل على راكبها الانقاذ من العدو في الحروب ، والاستخلاص عما
يترتب على أخذه العدو ، (لها) متعلق باسنقر محذوفا وجوبا ، وهو : مع فاعله الآتي (صفة
سبوح) ، قال ـ في الصمدية ـ : الجار والمجرور والظرف ، اذا وقع احدهما بعد المعرفة
المحضة فحال او النكرة المحضة فصفة ، او غير المحضة فمحتمل لهما ، ولا بد من تعلقهما
بالفعل او بما فيه رائحته ، ويجب حذف المتعلق ، اذا كان احدهما صفة او صلة او خبرا
او حالا ، واذا كان كذلك او اعتمد على نفي او استفهام : جاز ان يرفع الفاعل ،
انتهى.
هذا ، ولكن في
وقوع المشتق موصوفا لهم كلام ، فتأمل (منها : حال من شواهد ، وعليها : متعلق بها)
، اي : بشواهد ، بناء على
تضمينها معنى الدلالة ، اذ الشهادة المتعدية ـ بعلى ـ بدون التضمين ، لا
يستعمل الا في الضرر ، وذلك غير مناسب للمقام ، (وشواهد فاعل الظرف ، اعنى : لها ،
لاعتماده على الموصوف) اذ الشرط في عمله الاعتماد على اشياء احدها الموصوف وهو هنا
سبوح ، (والضمائر) الأربعة ، (كلها لسبوح ، يعني) الشاعر ، اي : يقصد من هذا
الكلام (ان لها) ، اي : لهذا الفرس السبوح (من نفسها علامات شاهدة) اي : داله (على
نجابتها) ، والعلامات الدالة على نحاية الفرس ، امور مذكورة في العلم المدون
لمعرفة النجيب والميمون منها عن غيرهما وهذا العلم موجود عند أهله من العرب والعجم
، منها ما اشار اليه الشاعر العجمي بقوله :
دو پاى پسينه
يكى دست چب
|
|
بود اسب
شاهان عالى نسب
|
دو باى بسينه
يكى دست راست
|
|
بكردش مكرر
كاو نشان بلا است
|
واما (تتابع
الاضافات) : فهو (مثل قوله ، اي : ابن بابك ،
حمامة جرعى
حومة الجندل اسجعى
|
|
فانت بمرءى
من سعاد ومسمع
|
ففيه اضافة
حمامة الى جرعى ، وهي : ارض ذات رمل ، مستوية لا تنبت شيئا ، وجرعى) بالقصر (تأنيث
الأجرع ، قصرها للضرورة الشعرية ، وذلك جائز اجماعا ، كما قال ابن مالك :
وقصر ذي المد
اضطرارا مجمع
|
|
عليه والعكس
بخلف يقع
|
والا فهي في
الأصل جرعاء ـ بالمد ـ كحمراء وصنعاء.
(واضافة جرعى
الى حومة ، وهي) اي : حومة ، (معظم الشىء) اي : اكثره ، قال في ـ المصباح ـ : عظم
الشيء ـ وزان قفل ـ ومعظمه اكثره ، (واضافة حومة الى الجندل ، وهي : ارض ذات حجارة
والسجع : هدير الحمامة ونحوه) من اصوات الطيور الشبيهة بها والناقة على
احتمال قوي ، ويحتمل ان يرجع الضمير في «نحوه» الى الحمامة ، بناء على كون التاء
فيها كالتاء في طلحة ، قال في ـ المصباح ـ : الحمام ـ عند العرب ـ : كل ذي طوق من
الفواخت والقمارى ، وساق حر ، والقطا ، والدواجن ، والوراشين ، واشباه ذلك ،
الواحدة : حمامة ويقع على الذكر والانثى ، فيقال : حمامة ذكر ، وحمامة انثى ، وقال
الزجاج : اذا اردت تصحيح المذكر ، قلت : رأيت حماما على حمامة ، اي : ذكرا على
انثى ، والعامة تخص الحمام بالدواجن ، وكان الكسائي يقول : الحمام هو البرى ،
واليمام هو الذي يألف البيوت وقال الأصمعي : اليمام حمام الوحش ، وهو ضرب من طير
الصحراء ، انتهى.
(وتمامه) ، اي
: تمام البيت كما ذكرنا ، (فأنت بمرءى من سعاد ومسمع ، اي :) فأنت ايتها الحمامة (بحيث
تراك سعاد وتسمع صوتك ، يقال : فلان بمرءى منى ومسمع ، اى : بحيث اراه واسمع صوته
، كذا في ـ الصحاح ـ) فحاصل معنى البيت : امر الحمامة بالاسجاع ، لأنها في موضع
النشاط والطرب برؤية المحبوبة ، اي : سعاد وسماع صوتها ، لأن رؤية المحبوبة تفوق
رؤية الازمار ، وسماع صوتها يفوق على سماع صوت الأوتار ، فليس المراد امر الحمامة
بالسجع : لكونها في موضع تراها المحبوبة وتسمع صوتها ـ كما توهمه بعضهم ـ.
قال المصنف في
ـ الايضاح ـ : (وفيه) اي : في اشتراط خلوص الكلام الفصيح عن كثرة التكرار ، وتتابع
الاضافات ، (نظر) اي : اشكال ثم بين وجه النظر بما هو عبارة اخرى عما ذكره الشارح
بقوله : (لأن كلا من كثرة التكرار وتتابع الاضات ، ان ثقل اللفظ بسببه
على اللسان : فقد حصل الاحتراز عنه بالتنافر) لما تقدم سابقا : من انه
يشترط في فصاحة الكلام خلوصه من التنافر ، (والا) يثقل اللفظ بسببهما على اللسان ،
(فلا تخل) كثرة التكرار ولا تتابع الاضافات (بالفصاحة) في الكلام ، فلا وجه
لاشتراط خلوص الكلام الفصيح منهما ، (كيف) في امثال المقام من صيغ التعجب نظير
قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) على ما ذكره السيوطي في اول باب التعجب ، اى : اتعجب من
هذا القائل كيف يجترء على القول بأنهما يخلان بالفصاحة مطلقا ، (وقد) وقع كلا
الأمرين في كلام من هو أفصح من نطق بالضاد ، (قال صلىاللهعليهوآله : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن
يعقوب بن ابراهيم).
(فائدة) قال في
الاتقان : ان يوسف القي في الجب وهو ابن ثنتي عشرة سنة ، ولقى أباه بعد الثمانين ،
وتوفى وله مائة وعشرون ، الى ان قال : وفي يوسف ست لغات ، بتثليث السين مع الواو
والهمزة ، والصواب انه اعجمي لا اشتقاق له ، انتهى.
(قال الشيخ عبد
القاهر) في ـ دلائل الاعجاز ـ : (قال الصاحب اياك والاضافات المتداخلة) اي :
الاضافة بعد الاضافة ـ على ما يظهر من دلائل الاعجاز ـ (فانها) اي : الاضافات
المتداخلة (لا تحسن ذكرها) لفظة : «ذكرها» ليست في نسخة ـ دلائل الاعجاز ـ الموجودة
عندي ، وهو الأصح ، (وذكر) الصاحب (انها) اي : الاضافات المتداخلة (تستعمل في
الهجاء) ، اي : السب والعيب ، قال في ـ المصباح ـ : هجاء يهجوه هجوا : وقع فيه
بالشعر ، وسبه وعابه
والاسم «الهجاء» مثل : كتاب ، انتهى. (كقوله) في ـ دلائل الاعجاز ـ : كقول
القائل :
يا علي بن
حمزة بن عمارة
|
|
انت والله
ثلجة في خيارة
|
والمراد منه :
اثبات البرودة ، التى هي عيب في الرجال ، ولذلك عكس الظرفية ليكون ابرد ، (ثم) قال
المصنف في ـ الايضاح ـ : (قال) الشيخ : (لا شك) ، في دلائل الاعجاز : لا شبهة (في
ثقل ذلك في الأكثر ، ولكنه اذا سلم من الاستكراه : ملح ولطف ،) في دلائل الاعجاز :
لطف وملح ، (كقوله) ، وفي دلائل الاعجاز : ومما حسن فيه قول ابن المعتز ـ ايضا ـ :
فظلت تدير
الكأس ايدي جآذر
|
|
عتاق دنانير
الوجوه ملاح
|
وفي دلائل
الاعجاز ، والايضاح : «وظلت تدير الراح».
(ومنه) ، اي :
مما سلم من الاستكراه ، (الاطراد المذكور في علم البديع) ، وهو كما يأتى في ذلك
العلم : ان تأتي بأسماء الممدوح او غيره ، واسماء آبائه على ترتيب الولادة ، من
غير تكلف في السبك ، ويسمى : الاطراد ، لأن الأسماء في تحدرها كالماء الجارى في
اطراده وسهولة انسجامه ، والمراد من التكلف في السبك : ان يقع الفصل بين الأسماء
بلعظ غير دال على نسب ، كقولك رأيت زيد الفاضل ابن عمرو العادل ابن بكر ،
والانسجام : السيلان ، (كقوله) :
ان يقتلوك
فقد ثلت عروشهم
|
|
بعتيبة بن
الحارث بن شهاب
|
يقال : ثل الله
عروشهم ، اي : هدم ملكهم ، ويقال للقوم اذا ذهب عزهم وتضعضعت حالهم : قد تل عروشهم
، ومعنى البيت : ان تبجحوا بقتلك وصاروا فرحين به ، فقد أثرت في عزهم ، وهدمت
أساس مجدهم ، بقتل رئيسهم عتيبة بن الحارث ، ومن الاطراد قوله ص : الكريم
ابن الكريم الخ.
(وما اورده
المصنف فى ـ الايضاح ـ من كلام الشيخ) وهو قوله «فيه نظر ـ الى ملاح» (مشعر)
بثلاثة امور :
الأول : (بأنه)
اي : المصنف (جعل تتابع الاضافات اعم من ان تكون مترتبة) ، وهو : ان (لا يقع بين
الاضافتين شيء غير مضاف ، كالبيت) المذكور في المتن ، اعني : حمامة جرعى الخ ، (او
غير مترتبة كما في الحديث) ، اى : الكريم ابن الكريم الخ والوجه في هذا الاشعار :
ان المصنف اورد كلام الشيخ لاثبات مدعاه من النظر والاشكال : في كلام من اشترط
الخلوص من الأمرين ، بدعوى : ان الشيخ جعل «يا علي بن حمزة الخ» من تتابع الاضافات
، مع ان الاضافات فيه غير مترتبة ، للفصل بين الاضافتين : بالصفة ، اعني : الابن
فمن ذلك يعلم ان المصنف اراد الأعم.
(و) الثاني : (انه)
اي : المصنف ، جعل كثرة التكرار : اعم من ان تكون بالنسبة الى أمر واحد ، كالبيت
الأول في المتن ، اعني : لها منها عليها شواهد ، او امور متعددة ، ووجه هذا
الاشعار : انه (اورد الحديث) اى الكريم ابن الكريم الخ ، (مثالا لكثرة التكرار
وتتابع الاضافات جميعا) ، مع كون كثرة التكرار فيه بالنسبة الى امور متعددة.
(و) الثالث : (انه)
اي : المصنف ، (اراد بتتابع الاضافات ما فوق الواحد) ، اي : ولو كان اثنين ،
والوجه في هذا الاشعار : انه جعل يا على بن حمزة الخ ، وظلت تدير الكأس ، من تتابع
الاضافات
مستشهدا بهما لكونهما في كلام الشيخ على ابطال قول من اشترط الخلوص من
الأمرين ، مع كون الاضافة فيهما اثنتين.
(لا يقال ان من
اشترط ذلك) اي : الخلوص من الأمرين (اراد ب تتابع الاضافات) : الاضافات (المترتبة
، و) اراد (كثرة التكرار بالنسبة الى امر واحد ـ كما في البيتين) المذكورين في
المتن ـ لأن كثرة التكرار في الأول منهما ، اعني : لها منها الخ بالنسبة الى امر
واحد ، وهو : الفرس ، وتتابع الاضافات في الثاني منهما مترتبة لا فصل بينها ، (والحديث
سالم عن هذا) الذي في البيتين ، اذ التكرار فيه كما بينا بالنسبة الى امور متعددة
، كما ان الاضافات فيه غير مترتبة فالاستشهاد بالحديث لرد من اشترط الأمرين في غير
محله.
واعلم : انه
يتضح المقام كمال الوضوح بما ننقله بعيد هذا عن ـ المثل السائر ، والاتقان ـ فتأمله
جيدا من دون توان وكسل ، لأن فيه مع ذلك كشف بعض ما في القرآن الكريم من الاعجاز
من حيث الفصاحة والبيان ، ورد لما وقع لبعض الغفلة او الملحدين غير المطلعين برمور
علمى الفصاحة والبيان : من الشبهات الواهية ، التي لا اساس لها ولا بنيان.
(لانا نقول :
هما ،) اي : الاضافات المترتبة وكثرة التكرار بالنسبة الى امر واحد (ـ ايضا ـ ان
اوجبا ثقلا وبشاعة : فذاك) الجواب الذي ذكر في وجه النظر ، هو الجواب عن هذا ـ ايضا
ـ (والا) يوجبا ثقلا وبشاعة : (فلا جهة لاخلالهما بالفصاحة) في الكلام ، (كيف)
يجترىء احد على القول بذلك (وقد وقعا) كلاهما (فى التنزيل)؟! الاضافات المترتبة (كقوله
تعالى : (مِثْلَ دَأْبِ
قَوْمِ
نُوحٍ) وقوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) وكثرة التكرار بالنسبة الى امر واحد ، مثل (قوله : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها)) هذا آخر ما اردنا ايراده في هذا الجزء في حل ما يرمز
ويشار اليه.
فلنلحق به
كلاما ـ للمثل السائر ، والاتقان ـ وان تقدم شطر منه في طي المباحث المتقدمة
بالمناسبة ، فلا بأس في لزوم التكرار ، لأن الكلام في التكرار لكونه كالفذلكة لما
تقدم ، وذا فوائد جمة لمن كان من اهل البصيرة الصائبة والايقان ، قال ـ الاتقان ،
بعد ما ذكر التأكيد الصناعي ـ : التكرار ابلغ من التأكيد ، وهو من محاسن الفصاحة ،
خلافا لبعض من غلط ، وله فوائد : منها : التقرير ، وقد قيل : الكلام اذا تكرر تقرر
، وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والانذار ، بقوله : (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) ومنها : التأكيد ، ومنها : زيادة التنبيه على ما ينفي
التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ومنه : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ* يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ
الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) فانه كرر فيه النداء لذلك.
ومنها : اذا
طال الكلام وحشى تناسي الأول ، اعيد ثانيا تطرية له ، وتجديدا لعهده ، ومنه : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) (وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ
ـ الى قوله ـ فَلَمَّا
جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)
(لا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِما
لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ
كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ).
ومنها :
التعظيم والتهويل ، نحو : (الْحَاقَّةُ مَا
الْحَاقَّةُ) ، (الْقارِعَةُ مَا
الْقارِعَةُ وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) فان قلت هذا النوع احد اقسام النوع الذي قبله ، (يعني : التأكيد الصناعي) ،
فان منها التأكيد بتكرار اللفظ ، فلا يحسن عده نوعا مستقلا.
قلت : هو
بجامعه ويفارقه ، ويزيد عليه وينقص عنه ، فصار اصلا برأسه ، فانه قد يكون التأكيد
تكرارا كما قدم في امثلته ، وقد لا يكون تكرارا كما تقدم ـ ايضا ـ وقد يكون
التكرير غير تأكيد صناعة ، وان كان مفيدا للتأكيد معنى ، ومنه ما وقع فيه الفصل
بين المكررين ، فان التأكيد لا يفصل بينه وبين مأكده ، نحو : (اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ) (إِنَّ اللهَ
اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) فان هذه الآيات من باب التكرير لا التأكيد اللفظي الصناعي ، ومنه الآيات
المتقدمة في التكرير للطول.
ومنه : ما كان
لتعدد المتعلق ، بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ، وهذا القسم
يسمى : بالترديد ، كقوله : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ
فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) وقع فيها الترديد اربع مرات ، وجعل منه قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فانها وان تكررت نيفا وثلاثين مرة ، فكل واحدة تتعلق
بما قبلها ، ولذلك زادت على ثلاثة ، ولو كان الجميع عائدا الى شىء واحد لما زاد
على ثلاثة ، لأن التأكيد لا يزيد عليها ، قاله ابن عبد السّلام ، وان كان بعضها
ليس بنعمة ، فذكر
النقمة للتحذير : نعمة.
وقد سئل : اي
نعمة في قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) فاجيب بأجوبة أحسنها النقل من دار الهموم الى دار
السرور ، واراحة المؤمن والبار من من الفاجر ، وكذا قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في سورة المرسلات ، لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة واتبع
كل قصة بهذا القول ، فكأنه قال عقب كل قصة : «ويل يومئذ للمكذب بهذه القصة ، وكذا
قوله في سورة الشعراء : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) كورت ثماني مرات ، كل مرة عقب كل قصة ، فالاشارة في كل
واحدة بذلك الى قصة النبي المذكور قبلها وما اشتملت عليه من الآيات والعبر ، وقوله
: (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الى قومه خاصة ، ولما كان مفهومه : ان الأقل من قومه
آمنوا أتى بوصفى : العزيز الرحيم ، للاشارة الى ان العزة : على من لم بؤمن منهم ،
والرحمة : لمن آمن ، وكذا قوله في سورة القمر : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
وقال الزمخشري
: كرر ليجددوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظا وتضبيها ، وان كلا من تلك الأنباء
يستحق لاعتبار يختص به ، وان يتنبهوا كي لا يغلبهم السرور والغفلة.
قال في ـ عروس
الأفراح ـ : فان قلت : اذا كان المراد بكل ما قبله ، فليس ذلك باطناب ، بل هي
الفاظ كل اريد به غير ما اريد بالآخر. قلت : اذا قلنا العبرة بعموم اللفظ ، فكل
واحد اريد به ما اريد بالآخر ، ولكن كرر ليكون نصا فيما يليه وظاهرا في غيره.
فان قلت : يلزم
التأكيد ، قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه
ان التأكيد لا يزاد به على ثلاثة ، لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع اما
ذكر الشىء في مقامات متعددة اكثر من ثلاثة ، فلا يمتنع ، انتهى ويقرب من ذلك ما
ذكره ابن جرير في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ) ـ الى قوله ـ (وَكانَ اللهُ
غَنِيًّا حَمِيداً* وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى
بِاللهِ وَكِيلاً) قال : فان قيل : ما وجه تكرار قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) في آيتين ، احديهما في اثر الاخرى؟
قلنا : لاختلاف
معنى الخبرين عما في السموات والأرض ، وذلك : لأن الخبر عنه في احدى الآيتين ذكر
حاجته الى بارئه ، وغنى بارئه غنه ، وفي الاخرى حفظ بارئه اياه ، وعلمه به ،
وبتدبيره ، قال : فان قيل : افلا قيل : (وَكانَ اللهُ
غَنِيًّا حَمِيداً) (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) قيل : ليس في الآية الاولى ما يصلح ان يختم بوصفه معه
بالحفظ والتدبير ، انتهى.
وقال الله
تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) قال الراغب : الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم ، المذكور
في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) والكتاب الثاني التوراة ، والثالث لجنس كتب الله كلها ،
اي : ما هو من شىء من كتب الله وكلامه.
ومن امثلة ما
يظن تكرارا وليس منه : (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) الى آخرها ، فان (لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ) اي :
في المستقبل ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) اي : في الحال ما اعبد في المستقبل (وَلا أَنا عابِدٌ) اي : في الحال ما عبدتم في الماضي ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ)
اي : في المستقبل ، (ما أَعْبُدُ) اي : في الحال ، فالحاصل : ان القصد نفي عبادته لآلهتهم
في الأزمنة الثلاثة ، وكذا : (فَاذْكُرُوا اللهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ثم قال : (فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) ثم قال : (وَاذْكُرُوا اللهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) فان المراد بكل واحد من هذه الاذكار غير المراد بالآخر
، فالأول الذكر في مزدلفة عند الوقوف بقزح وقوله : (وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ) اشارة الى تكرره ثانيا وثالثا ، ويحتمل ان يراد به :
طواف الافاضة ، بدليل تعقيبه بقوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ) والذكر الثالث : اشارة الى رمى جمرة العقبة ، والذكر
الأخير لرمى ايام التشريق.
ومنه تكرير حرف
الاضراب ، في قوله : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) وقوله : (بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).
ومنه قوله : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ) ثم قال : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فكرر الثاني ليعم كل مطلقة ، فان الآية الاولى في
المطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة ، وقيل : لان الاولى لا تشعر بالوجوب ، ولهذا لما
نزلت قال بعض الصحابة ، ان شئت احسنت ، وان شئت فلا ، فنزلت الثانية ، اخرجه ابن
جرير ، ومن ذلك :
تكرير الامثال
، كقوله : (وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) وكذلك ضرب مثل المنافقين اول البقرة : بالمستوقد نارا ،
ثم ضربه بأصحاب الصيب.
قال الزمخشرى :
والثاني ابلغ من الأول ، لأنه ادل على فرط الحيرة
وشدة الأمر وفظاعته ، قال : ولذلك اخروهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون الى
الأغلظ ، ومن ذلك ، تكرير القصص ، كقصة آدم ، وموسى ، ونوح ، وغيرهم من الأنبياء عليهمالسلام ، قال بعضهم : ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من
كتابه ، وقال ابن العربي في القواصم : ذكر الله قصة نوح في خمس وعشرين آية ، وقصة
موسى في تسعين آية.
وقد ألف البدر
بن جماعة كتابا ، سماه : «المقتنص في فوائد تكرار القصص» وذكر في تكرار القصص
فوائد :
منها : ان في
كل موضع زيادة شىء لم يذكر في الذي قبله ، او ابدال كلمة باخرى لنكتة ، وهذه عادة
البلغاء.
ومنها : ان
الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود الى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكون ما
نزل بعد صدور من تقدمهم ، فلو لا تكرار القصص لوقعت قصة موسى الى قوم ، وقصة عيسى
الى آخرين وكذا سائر القصص ، فاراد الله اشتراك الجميع فيه : فيكون افادة لقوم
وزيادة تأكيد لآخرين.
ومنها : ان في
ابراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة.
ومنها : ان
الدواعي لا تتوفر على نقلها ، كتوفرها على نقل الأحكام فلهذا كررت القصص دون
الأحكام.
ومنها : انه
تعالى انزل هذا القرآن ، وعجز القوم عن الاتيان بمثله ، ثم اوضح الأمر في عجزهم :
بأن كرر ذكر القصة في مواضع اعلاما بأنهم عاجزون عن الاتيان بمثله ، بأي نظم جاءوا
، وبأي عبارة
عبروا.
ومنها : انه
لما تحداهم قال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) فلو ذكرت القصة في موضع واحد واكتفى بها ، لقال العربي
: ائتونا انتم من مثله فانزلها سبحانه وتعالى في تعداد السور ، فعالجتهم من كل
وجه.
ومنها : ان
القصة الواحدة لما كررت : كان في ألفاظها في كل موضع زيادة ونقصان ، وتقديم وتأخير
، وأتت على اسلوب غير اسلوب الاخرى ، افاد ذلك ظهور الأمر العجيب في اخراج المعنى
الواحد في صور متباينة ، في النظم وجذب النفوس الى سماعها ، لما جبلت عليه من حب
التنقل في الأشياء المتجددة واستلذاذها بها ، واظهار خاصة القرآن ، حيث لم يحصل مع
تكرير ذلك فيه هجنة في اللفظ ، ولا ملل عند سماعه ، فباين ذلك كلام المخلوقين.
وقد سئل : ما
الحكمة في عدم تكرير قصة يوسف ، وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد دون غيرها من
القصص؟
واجيب بوجوه ،
احدها : ان فيها تشبيب النسوة وحال امرأة ونسوة (افتتنوا) بأبدع الناس جمالا ،
فناسب عدم تكرارها ، لما فيه من الاغضاء والستر ، وقد صحح الحاكم في مستدركه :
حديث النهى عن تعليم النساء سورة يوسف (ع).
ثانيها : انها
اختصت بحصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ، فان مآلها الى الوبال :
كقصة ابليس ، وقوم نوح وهود وصالح ، وغيرهم فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعى على
نقلها ، لخروجها عن سمت القصص.
ثالثها : قال
الاستاذ ابو اسحق الاسفرايني : انما كرر الله قصص
الأنبياء وساق قصة يوسف مساقا واحدا : اشارة الى عجز العرب ، كأن النبي (ص)
قال لهم : ان كان من تلقاء نفسى ، فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص.
قلت : وقد ظهر
لي جواب رابع ، وهو : ان سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة ان يقص عليهم كما رواه
الحاكم في مستدركه فنزلت مبسوطة تامة ، ليحصل لهم مقصود القصص : من استيعاب القصة
وترويح النفس بها ، والاحاطة بطرفيها.
وجواب خامس ،
وهو اقوى ما يجاب به : ان قصص الأنبياء انما كررت ، لأن المقصود بها افادة اهلاك
من كذبوا رسلهم ، والحاجة داعية الى ذلك : لتكرير تكذيب الكفار للرسول (ص) ، فكلما
كذبوا ، نزلت قصة منذرة بحلول العذاب كما حل على المكذبين ، ولهذا قال تعالى في
آيات : (فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) * (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك ، وبهذا ـ ايضا ـ يحصل الجواب عن عدم تكرير قصة
أصحاب الكهف ، وقصة ذى القرنين ، وقصة موسى مع الخضر ، وقصة الذبيح.
فان قلت : قد
تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى مرتين ، وليست من قبيل ما ذكرت.
قلت : الاولى
في سورة «كهيعص» وهى مكية ، انزلت خطابا لأهل مكة ، والثانية في سورة «آل عمران»
وهي مدنية انزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ، ولهذا اتصل بها ذكر
المحاجة والمباهلة ، انتهى.
واما ـ المثل
السائر ـ فقال : اعلم : ان التكرير من مقاتل علم
البيان ، وهو دقيق المأخذ.
وحده : هو
دلالة اللفظ على المعنى مرددا ، وربما اشتبه على اكثر الناس بالاطناب مرة
وبالتطويل اخرى ، وهو ينقسم قسمين : احدهما يوجد في اللفظ والمعنى ، والآخر يوجد
في المعنى دون اللفظ ، فاما الذي يوجد في اللفظ والمعنى : فكقولك لمن تستدعيه : «اسرع
اسرع»
ولم ار مثل
جيراني ومثلي
|
|
لمثلى عند
مثلهم مقام
|
واما الذي يوجد
في المعنى دون اللفظ : فكقولك «اطعني ولا تعصني» فان الأمر بالطاعة نهى عن
المعصية.
وكل من هذين
القسمين ينقسم : الى مفيد ، وغير مفيد ، ولا اعني بالمفيد هاهنا ما يعنيه النحاة ،
فانه ـ عندهم ـ عبارة : عن اللفظ المركب.
اما من الاسم
مع الاسم ، بشرط ان يكون للاول بالثاني علاقة معنى يسع مكلفا جهله ، واما من الاسم
مع الفعل التام المتصرف ، على هذا الشرط ـ ايضا ـ واما من (حرف النداء مع الاسم)
فهذا هو المفيد عند النحاة ، وانا لم اقصد ذلك هاهنا ، بل مقصودي من المفيد : ان
يأتي لمعنى ، وغير المفيد : ان يأتي لغير معنى.
واعلم : ان
المفيد من التكرير يأتى في الكلام تأكيدا له ، وتشييدا من أمره ، وانما يفعل ذلك
للدلالة على العناية بالشىء الذي كررت فيه كلامك ، اما مبالغة في مدحه ، او في ذمه
، او غير ذلك. ولا يأتى الا في احد طرفي الشىء المقصود بالذكر والوسط عار منه ،
لأن احد الطرفين هو المقصود بالمبالغة ، اما بمدح او ذم او غيرهما ، والوسط ليس من
شرط المبالغة ، وغير المفيد لا يأتي في الكلام الاغيا وخطلا ، من
غير حاجة اليه.
فاما الأول :
وهو الذي يوجد في اللفظ والمعنى ، فانه ينقسم الى ضربين : مفيد ، وغير مفيد.
فالاول : :
المفيد ، وهو فرعان : الأول : اذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد
، والمقصود به غرضان مختلفان ، كقوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) هذا تكرير في اللفظ والمعنى ، وهو قوله : (يُحِقَّ الْحَقَ) ، و (لِيُحِقَّ الْحَقَّ) انما جىء به هاهنا لاختلاف المراد ، وذاك : ان الأول تمييز بين الارادتين ،
والثاني بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها ، وانه ما نصرهم وخذل
اولئك الا لهذا الغرض ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ
أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ* قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*
قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) وقوله : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) والمراد به عرضان مختلفان ، وذلك : ان الأول اخبار بأنه مأمور من جهة الله
: بالعبادة له والاخلاص في دينه ، والثاني اخبار بأنه يخص الله وحده ، دون غيره
بعبادته مخلصا له دينه ، ولدلالته على ذلك :
قدم المعبود
على فعل العبادة في الثاني ، واخره في الاول ، لأن الكلام اولا واقع في الفعل نفسه
وايجاده ، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه فاعبدوا واما شئتم من
دونه ، وعليه ورد قوله تعالى.
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ
لَمْ
يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وظاهر الأول والثاني انهما سواء في المعنى ، وليس كذلك : لأن الثاني فيه
تخصيص غير موجود في الأول ، الا ترى انا اذا قلنا : زيد الافضل ، وقلنا : الأفضل زيد
، كان في الثاني تخصيص له بالفضل وهذا التخصيص لا يوجد في القول الأول ، الذي هو
زيد الأفضل ، ويجوز ان تبدل صفة الفضل فيه بغيرها او بضدها ، فيقال : زيد الأجمل
او زيد الأنقص ، واذا قلنا : الافضل زيد ، وجب تخصيصه بالفضل ، (ولم يمكن تغييره
عنه) وكذلك يجرى الحكم في هذه الآية فان الله تعالى قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ثم قال :
(لَمْ يَذْهَبُوا
حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) فوصفهم بالامتناع عن الذهاب الا باذنه وهذه صفة يجوز ان
تبدل بغيرها من الصفات ، كما قال تعالى في موضع آخر : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) فجاء بصفة غير تلك الصفة ، ولما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ
أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وجب تخصيصهم بذلك الوصف دون غيره ، وهذا موضع حسن في تكرير المعانى.
ومما يعد من
هذا الباب ، قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ*
وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
وقد ظن قوم ان
هذه الآية تكرير لافائدة فيه ، وليس الامر كذلك فان معنى قوله : (لا أَعْبُدُ) يعني في المستقبل من عبادة آلهتكم ، ولا انتم فاعلون
فيه ما اطلبه منكم من عبادة آلهى ، ولا انا عابد ما عبدتم ، اي : وما كنت عابدا قط
فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعنى : انه لم يعهد
منى عبادة صنم في الجاهلية في وقت ما ، فكيف يرجى مني ذلك في الاسلام ، ولا
انتم عابدون في الماصى في وقت ما ، ما انا على عبادته الآن.
ومما يجري هذا
المجرى قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فكرر الرحمن الرحيم مرتين ، والفائدة في ذلك : ان الأول
متعلق بأمر الدنيا ، والثاني يتعلق بأمر الآخرة ، فما يتعلق بأمر الدنيا يرجع الى
خلق العالمين في كونه خلق كلا منهم على أكمل صفة ، واعطاه جميع ما يحتاج اليه حتى
البقة والذباب ، وقد يرجع الى غير الخلق : كادرار الأرزاق وغيرها ، واما ما يتعلق
بأمر الآخرة ، فهو اشارة الى الرحمة الثانية في يوم القيامة الذى هو يوم الدين.
وبالجملة ،
فاعلم : انه ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره فان رأيت شيئا منه تكرر من حيث
الظاهر ، فانعم نظرك فيه فانظر الى سوابقه ولواحقه ، لتنكشف لك الفائدة فيه.
ومما ورد في
القرآن الكريم مكررا ، قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُوا
اللهَ وَأَطِيعُونِ) ليؤكده عندهم ويقرره في نفوسهم ، مع تعليق كل واحد منها
بعلة ، فجعل علة الأول كونه أمينا فيما بينهم. وجعل علة الثاني حسم طمعه عنهم ،
وخلوه من الاغراض فيما يدعوهم اليه.
ومن هذا النحو
، قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ*
وَفِرْعَوْنُ
ذُو الْأَوْتادِ* وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ
الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) وانما كرر تكذيبهم هاهنا : لأنه لم يأت به على اسلوب واحد ، بل تنوع فيه
بضروب من الصنعة فذكره اولا في الجملة الخبرية على وجه الابهام ، ثم جاء بالجملة
الاستثنائية فأوضحه بأن كل واحد من الاحزاب كذب جميع الرسل ، لأنهم اذا كذبوا
واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم ، وفي تكرير التكذيب وايضاحه بعد ابهامه ، والتنوع في
تكريره بالجملة الخبرية اولا ، وبالاستثنائية ثانيا ، وما في الاستثناء من الوضع
على وجه التوكيد والتخصيص المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق اشد العذاب وابلغه ،
وهذا باب من تكرير اللفظ والمعنى حسن غامض ، وبه يعرف مواقع التكرير ، والفرق بينه
وبين غيره ، فافهمه ـ انشاء الله تعالى ـ.
الفرع الثاني
من الضرب الاول : اذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد ، والمراد
به غرض واحد ، كقوله تعالى :
(فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) والتكرير دلالة التعجب من تقديره واصابته الغرض ، وهذا
كما يقال : «قتله الله ما اشجعه ، او ما اشعره» وعليه ورد قول الشاعر : «الا يا
اسلمي ثم اسلمي ثم اسلمي» وهذا مبالغة في الدعاء لها بالسلامة ، وكل هذا يجاء به
لتقرير المعنى المراد واثباته ، وعليه ورد الحديث النبوي ، وذاك : ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «ان بنى هشام بن المغيرة استأذنونى ان ينكحوا
ابنتهم عليا (ع) ، فلا آذن ، ثم لا آذن ، ثم لا آذن ، الا ان يطاق علي ابنتي وينكح
ابنتهم» فقوله (ص) : لا آذن ، ثم لا آذن ، ثم آذن» من التكرير الذي اشد موقعا من
الايجاز ، لانصباب العناية الى
تأكيد القول في منع علي (ع) من التزويج بابنة ابي جهل بن هشام ، وهذا مثل
قوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) ومن اجل ذلك تقول : «لا إله الا الله وحده لا شريك له»
لأن قولنا : لا إله الا الله ، مثل قولنا : وحده لا شريك له ، وهما في المعنى سواء
وانما كررنا القول فيه : لتقرير المعنى واثباته ، وذاك : لأن من الناس من يخالف
فيه ، كالنصارى والثنوية ، والتكرير في مثل هذا المقام ابلغ من الايجاز ، واحسن
واسد موقعا.
ومما جاء في
مثل هذا ، قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ
بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) فقوله : (مِنْ قَبْلِهِ) بعد قوله : (مِنْ قَبْلِ) فيه دلالة على ان عهدهم بالمطر قد بعد وتطاول ، فاستحكم
بأسهم ، وتمادى ابلائهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
وعلى ذلك ورد
قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) فقوله : لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يقوم مقام
قوله : (وَلا يَدِينُونَ
دِينَ الْحَقِّ) لان من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا يدين دين
الحق ، وانما كرر هاهنا للخطب على المأمور بقتالهم ، والتسجيل عليهم بالذم ورجمهم
بالعظائم ، ليكون ذلك ادعى لوجوب قتالهم وحربهم ، وقد قلنا : ان التكرير انما يأتي
لما اهم من الامر الذي بصرف العناية اليه يثبت ويتقرر.
وكذلك ورد قوله
تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ*
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فتكرير لفظة اولئك من هذا الباب الذي اشرنا اليه ،
لمكان شدة النكير ، واغلاظ العقاب بسبب انكارهم البعث.
وعلى هذا ورد
قوله تعالى : (أُوْلئِكَ الَّذِينَ
لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) فانه انما تكررت لفظة «هم» للايذان بتحقيق الخسار ،
والأصل فيها «وهم في الآخرة الاخسرون» لكن لما اريد تأكيد ذلك : جيء بتكرير هذه
اللفظة المشار اليها.
وكذلك قوله
تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما
أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) وامثال ذلك في القرآن كثير.
وكذلك ورد قوله
تعالى في سورة القصص : (فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ* فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) فقوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ) بتكرير ـ ان ـ مرتين ، دليل على ان موسى (ع) لم تكن
مسارعته الى قتل الثاني كما كانت مسارعته الى قتل لاول ، بل كان عنده ابطأ في بسط
يده اليه ، فعبر القرآن عن ذلك في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ).
وجرت بيني وبين
رجل من النحويين مفاوضة في هذه الآية ، فقال ان ـ ان ـ الاول زائدة ، ولو حذفت
فقيل : فلما أراد ان يبطش ، لكان المعنى سواء ، ا لا ترى الى قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ
أَلْقاهُ
عَلى وَجْهِهِ) وقد اتفق النحاة على انّ ـ ان ـ الواردة بعد ـ لما ـ وقبل الفعل زائدة.
فقلت له :
النحاة لافتيالهم في مواقع الفصاحة والبلاغة ، ولا عندهم معرفة بأسرارهما ، من حيث
انهم نحاة ، ولا شك انهم وجدوا : «ان» ترد بعد «لما» وقبل الفعل في القرآن الكريم.
وفي كلام فصحاء العرب ، فظنوا ان المعنى بوجودها كالمعنى اذا اسقطت ، فقالوا هذا
زائدة ، وليس الأمر كذلك ، بل اذا وردت «لما» وورد الفعل بعدها باسقاط «ان» دل ذلك
على الفور ، واذا لم تسقط لم يدلنا ذلك على ان الفعل كان على الفور ، وانما كان
فيه تراخ وابطاء.
وبيان ذلك من
وجهين : احدهما : اني اقول فائدة وضع الالفاظ ان تكون ادلة على المعانى ، فاذا
اوردت لفظة من الالفاظ في كلام مشهود له بالفصاحة والبلاغة ، فالأولى ان تحمل تلك
اللفظة على معنى فان لم يوجد لها معنى بعد التعقيب والتنقير والبحث الطويل ، قيل :
هذه زائدة ، دخولها في الكلام كخروجها منه ، ولما نظرت انا في هذه الآية وجدت :
لفظة «ان» الواردة بعد «لما» وقبل الفعل ، دالة على معنى واذا كانت دالة على معنى
، فكيف يسوغ ان يقال انها زائدة؟؟
فان قيل : انها
اذا كانت دالة على معنى ، فيجوز ان تكون دالة على غير ما اشرت انت اليه.
قلت في الجواب
: اذا ثبت انها على دالة معنى ، فالذي اشرت اليه معنى مناسب واقع في موقعه ، واذا
كان مناسبا واقعا في موقعه فقد حصل المراد منه ، ودل الدليل ـ حينئذ ـ انها ليست
بزائدة.
الوجه الآخر :
ان هذه اللفظة لو كانت زائدة ، لكان ذلك قدحا
في كلام الله تعالى ، وذاك : انه يكون قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجة
اليها ، والمعنى يتم بدونها ، وحينئذ لا يكون كلامه معجزا ، اذ من شرط الاعجاز :
عدم التطويل الذي لا حاجة اليه ، وان التطويل عيب في الكلام ، فكيف يكون ما هو عيب
في الكلام من باب الاعجاز؟؟ هذا محال!!
واما قوله
تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) فانه اذا نظر في قصة يوسف (ع) مع اخوته منذ ألقوه في
الجب والى ان جاء البشير الى ابيه (ع) ، وجد انه كان ثم ابطاء بعيد ، وقد اختلف
المفسرون في طول تلك المدة ، ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وامد متطاول ، لما جيء «بان»
بعد «لما» وقبل الفعل ، بل كانت تكون الآية (فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) وهذه دقائق ورموز لا تؤخذ من النحاة لأنها ليست من
شأنهم ، (هذا الذي نسبه الى نفسه ، ونفى عن النحاة ماخوذ منهم وقد بيناه في ـ المكررات
، في باب حروف الجر ـ غاية الأمر انا جعلنا الزائدة للتأكيد) واعلم : ان من هذا
النوع قسما يكون المعنى فيه مضافا الى نفسه مع اختلاف اللفظ ، وذلك يأتي في
الألفاظ المترادفة ، وقد ورد في القرآن الكريم ، واستعمل في فصيح الكلام ، فمنه
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا
فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) والرجز : هو العذاب ، وعليه ورد قول ابي تمام :
نهوض بثقل
العبء مضطلع به
|
|
وان عظمت فيه
الخطوب وجلت
|
والثقل : هو
العبء ، والعبء : هو الثقل ، وكذلك ورد قول البحترى :
ويوم تثنت
للوداع وسلمت
|
|
بعينين
موصولا بلحظهما السحر
|
توهمتها ألوى
باجفانها الكرى
|
|
كرى النوم او
مالت باعطافها الخمر
|
فان الكرى : هو
النوم ، وربما اشكل هذا الموضع على كثير من متعاطى هذه الصناعة ، وظنوه مما لا
فائدة فيه ، وليس كذلك ، بل الفائدة فيه : هي التأكيد للمعنى المقصود ، والمبالغة
فيه ، اما الآية فالمراد بقوله تعالى : (عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) اي : عذاب مضاعف من عذاب ، واما بيت ابي تمام : فانه
تضمن المبالغة في وصف الممدوح بحمله للأثقال ، واما بيت البحترى : فانه اراد ان
يشبه طرفها لفتوره بالنائم ، فكرر المعنى فيه على طريق المضاف والمضاف اليه ،
تأكيدا له وزيادة في بيانه ، وهذا الموضع لم ينبه عليه احد سواي ، ولربما ادخل في
التكرير من هذا النوع ما ليس منه ، وهو موضع لم ينبه عليه ـ ايضا ـ احد سواى ،
فمنه قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فلما تكرر (إِنَّ رَبَّكَ) مرتين علم ان ذلك ادل على المغفرة ، وكذلك قوله تعالى :
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثل هذا قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) وهذه الآيات يظن انها من باب التكرير وليست كذلك ، وقد
انعمت نظرى فيها فرأيتها خارجة عن حكم التكرير ، وذلك : انه اذا اطال الفصل من
الكلام وكان اوله يفتقر الى تمام لا يفهم الا به ، فالاولى في باب الفصاحة ان يعاد
لفظ الأول مرة ثانية ليكون مقارنا لتمام الفصل ،
كي لا يجيء الكلام منشورا ، لا سيما في ان واخواتها ، فاذا وردت ان وكان
بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام فاعادة ان احسن في حكم البلاغة والفصاحة ،
كالذي تقدم من هذه الآيات ، وعليه ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة :
اسجنا وقيدا
واشتياقا وغربة
|
|
وناى حبيب ان
ذا لعظيم
|
وان امرءا
دامت مواثيق عهده
|
|
على مثل هذا
انه لكريم
|
فانه لما طال
الكلام بين اسم ان وخيرها : اعيدت ان مرة ثانية لأن تقدير الكلام : وان امرءا دامت
مواثيق عهده على مثل هذا لكريم لكن بين الاسم والخبر مدى طويل ، فاذا لم تعد ان
مرة ثانية لم يأت على الكلام بهجة ولا رونق ، وهذا لا يتنبه لاستعماله الا الفصحاء
اما طبعا واما علما.
وكذلك يجرى الأمر
اذا كان خبر ان عاملا في معمول يطول ذكره فان اعادة الخبر ثانية هو الأحسن ، وعلى
هذا جاء قوله تعالى في سورة يوسف (ع) : (إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فلمّا قال : (إِنِّي رَأَيْتُ) ثم طال الفصل ، كان الأحسن ان يعيد لفظ الرؤية فيقول : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وكذلك جاءت الآية المذكورة هاهنا قبل هذه ، وهي قوله
تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) فانه لما طال الفصل : اعاد قوله ، (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ
الْعَذابِ) ، فاعلم ذلك وضع يدك عليه ، وكذلك الآية التي قبلها ،
وهي قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) وكذلك الآية الاخرى وهى قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) ومن باب التكرير في اللفظ
والمعنى الدال على معنى واحد ، قوله عزوجل : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ
الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) فانه انما كرر نداء قومه هاهنا لزيادة التنبيه لهم ،
والايقاظ عن سنة الغفلة ، ولأنهم قومه وعشيرته ، وهم فيما يوبقهم من الضلال ، وهو
يعلم وجه خلاصهم ونصيحتهم عليه واجبة فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم ، ويستدعي بذلك ان
لا يتهموه ، فان سرورهم سروره ، وغمهم غمه ، وان ينزلوا على نصيحته لهم ، وهذا من
التكرير الذي هو ابلغ من الايجاز ، واشد موقعا من الاختصار ، فاعرفه ـ ان شاء الله
تعالى ـ.
وعلى نحو منه
جاء قوله تعالى في سورة القمر : (فَذُوقُوا عَذابِي
وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فانه قد تكرر ذلك في السورة كثيرا ، وفائدته : ان يجدروا عند استماع كل نبأ
من انباء الأولين اذ كارا وايقاظا ، وان يستأنفوا تنبها واستيقاظا اذا سمعوا الحث
على ذلك البعث اليه ، وان تقرع لهم العصا مرات لئلا يغلبهم السهو ، وتستولى عليهم
الغفلة.
وهكذا حكم
التكرير في قوله تعالى في سورة الرحمن : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وذلك عند كل نعمة عددها على عباده ، وامثال هذا في
القرآن الكريم كثير ، ومما ورد من هذا النوع شعرا قول بعض شعراء الحماسة :
الى معدن
العز المأثل والندى
|
|
هناك هناك
الفضل والخلق الجزل
|
فقوله : هناك
هناك ، من التكرير الذي هو أبلغ من الايجاز ، لأنه في معرض مدح ، فهو يقرر في نفس
السامع ما عند الممدوح من
هذه الأوصاف المذكورة ، مشيرا اليها ، كأنه قال : ادلكم على معدن كذا وكذا
ومقره ومفاده ، وكذلك ورد قول المساور بن هند :
جزى الله عنى
غالبا من عشيرة
|
|
اذا حدثان
الدهر ثابت نوائبه
|
فكم دافعوا
من كربة قد تلاحمت
|
|
عليّ وموج قد
علتني غواربه
|
فصدر البيت
الثاني وعجزه : يدلان على معنى واحد ، لأن تلاحم الكرب عليه كتعالى الموج من فوقه
، وانما سوغ ذلك لأنه في مقام مدح واطراء ، ألا ترى انه يصف احسان هؤلاء القوم عند
حدثان دهره في التكرير ، وفي قبالته لو كان القائل هاجيا ، فان الهجاء في هذا
كالمدح ، والتكرار انما يحسن في كلا الطرفين لا في الوسط.
واعلم : انه
اذا وردت ان المكسوة المخففة بعد ما كانت بمعناها سواء ، ألا ترى الى قوله تعالى :
(إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ) فان وما : بمعنى واحد ، واذا اوردت من بعد ـ ما ـ كانت
من باب التكرير كقولنا : ما ان يكون كذا وكذا ، اي : ما يكون كذا وكذا ، واذا وردت
في الكلام ، فانما ترد في مثل ما اشرنا اليه من التكرير فان استعملت في غير ما
يكون منها لفائدة ينتجها تكريرها ، كان استعمالها لغوا لا فائدة فيه.
وقد زعم قوم من
مدعى هذه الصناعة : ان أبا الطيب المتنبى أتى في هذا البيت بتكرير لا حاجة به اليه
، وهو قوله :
العارض الهتن
ابن العارض الهتن
|
|
ابن العارض
الهتن ابن العارض الهتن
|
وليس في هذا
البيت من تكرير ، فانه كقولك الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا اي : انه
عريق النسب في هذا الوصف.
وقد ورد في
الحديث النبوي مثل ذلك ، كقوله (ص) في وصف
يوسف الصديق (ع) : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن
يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، ولقد فاوضنى في هذا البيت المشار اليه بعض علماء الأدب
، وأخذ يطعن فيه من جهة تكراره ، فوقفته على مواضع الصواب منه ، وعرفته انه كالخبر
النبوى من جهة المعنى سواء بسواء ، لكن لفظه ليس بمرضى على هذا الوجه الذي قد
استعمل فيه ، فان الألفاظ اذا كانت حسانا في حال انفرادها ، فان استعمالها في حال
التركيب يزيدها حسنا على حسنها ، او يذهب ذلك الحسن عنها ، وقد تقدم ذلك في
المقالة الاولى من الصناعة اللفظيّة ، ولو تهيأ لأبي الطيب المتنبى ان يبدل لفظة «العارض»
بلفظة السحاب او ما يجرى مجراها : «لكان أحسن ، وكذلك لفظة «الهتن» فانها ليست
بمرضية في هذا الموضع على هذا الوجه ، ولفظة العارض وان كانت قد وردت في القرآن ،
وهي لفظة حسنة ، فالفرق بين ورودها في القرآن الكريم ، وورودها في هذا البيت
الشعري ظاهر ، وقد تقدم الكلام على مثلها من آية. وبيت لأبي الطيب ـ ايضا ـ وهو في
المقالة اللفظية عند الكلام على الألفاظ المفردة ، فليؤخذ من هناك. (قال هناك اعلم
: ان صاحب هذه الصناعة يحتاج في تأليف الكلام الى ثلاثة اشياء ، الأول منها :
اختيار الألفاظ المفردة ، وحكم ذلك حكم اللألي المبددة ، فانها تتخير وتنتقي قبل
النظم.
الثاني : نظم
كل كلمة مع اختها في المشاكلة لها ، لئلا يجىء الكلام قلقا نافرا عن مواضعه ، وحكم
ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كل لؤلؤة منه باختها المشاكلة لها.
الثالث : الغرض
المقصود من ذلك الكلام على اختلاف انواعه ، وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه
العقد المنظوم ، فتارة يجعل اكليلا على الرأس ، وتارة يجعل قلادة في العنق ، وتارة
يجعل شنفا في الاذن ، ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه ، فهذه ثلاثة
أشياء لا بد للخطيب والشاعر من العناية بها ، وهي الأصل المعتمد عليه في تأليف
الكلام : من النظم ، والنثر ، فالأول والثانى من هذه الثلاثة المذكورة ، هما المراد
بالفصاحة ، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة ، وهذا الموضع يصل في سلوك طريقه
العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم والنثر ، فكيف الجهال الذين لم تنفحهم رائحته
ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار ، حتى ينظر الى
اسرار ما يستعمله من الألفاظ ، فيضعها في مواضعها ، ومن عجيب ذلك انك ترى لفظتين
تدلان على معنى واحد ، وكلاهما حسن في الاستعمال ، وهما على وزن واحد» وعدة واحدة
، الا انه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه ، بل يفرق بينهما في
مواضع السبك ، وهذا لا يدركه الا من دق فهمه وجل نظره.
فمن ذلك قوله
تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) وقوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) فاستعمل الجوف في الاولى والبطن في الثانية ، ولم
يستعمل الجوف موضع البطن ، ولا البطن موضع الجوف ، واللفظتان سواء في الدلالة ،
وهما : ثلاثيتان في عدد واحد ، ووزنهما واحد ـ ايضا ـ فانظر الى سبك الألفاظ كيف
تفعل.
ومما يجرى هذا
المجرى ، قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى) وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ) فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة ، وان كانا مختلفين في
الوزن ولم يستعمل في القرآن احداهما في موضع الآخر ، وعلى هذا ورد قول الأعرج من
ابيات الحماسة :
نحن بنو
الموت اذا الموت نزل
|
|
لا عار
بالموت اذا حم الأجل
|
|
الموت احلى عندنا من
العسل
وقال ابو الطيب
المتنبي :
اذا لي مشت
حفت على كل سابح
|
|
رجال كأن
الموت في فمها شهد
|
فهاتان لفظتان
هما : العسل والشهد ، وكلاهما حسن مستعمل لا يشك في حسنه واستعماله ، وقد وردت
لفظة العسل في القرآن دون لفظة الشهد لأنها احسن منها ، ومع هذا فان لفظة الشهد
وردت في بيت ابي الطيب فجاءت احسن من لفظة العسل في بيت الأعرج.
وكثيرا ما نجد
امثال ذلك في اقوال الشعراء المفلقين ، وغيرهم من بلغاء الكتاب ، ومصقعى الخطباء ،
وتحته دقائق ورموز اذا علمت وقيس عليها اشباهها ونظائرها : كان صاحب الكلام في
النظم والنثر ، قد انتهى الى الغاية القصوى : في اختيار الالفاظ ووضعها في مواضعها
اللائقة بها.
واعلم : ان
تفاوت التفاضل يقع في تركيب الالفاظ اكثر مما يقع في مفرداتها ، لان التركيب أعسر
واشق ، ألا ترى الفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملتها العرب ومن يعدهم
، ومع ذلك : فانه يفوق جميع كلامهم ، ويعلو عليه ، وليس ذلك الا لفضيلة التركيب ،
وهل تشك ـ ايها المتأمل لكتابنا هذا ـ اذا فكرت في قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا
سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ
عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) انك لم تجد ما وجدته لهذه الالفاظ من المزية الظاهرة
الا لامر يرجع الى تركيبها ، وانه لم يعرض لها هذا الحسن الا من حيث لاقت الاولى
بالثانية ، والثالثة بالرابعة ، وكذلك الى آخرها ، فان ارتبت في ذلك فتأمل : هل
ترى لفظة منها لو اخذت من مكانها وافردت من بين اخواتها ، كانت لابسة من الحسن ما
لبسته في موضعها من الآية؟
ومما يشهد لذلك
ويؤيده : انك ترى اللفظة تروقك في كلام ، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها ، فهذا
ينكره من لم يذق طعم الفصاحة ولا عرف اسرار الالفاظ في تركيبها وانفرادها ، وسأضرب
لك مثالا يشهد بصحة ما ذكرته ، وهو : انه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن
وبيت من الشعر ، فجاءت في القرآن جزلة متينة ، وفي الشعر ركيكة ضعيفة. فأثر
التركيب فيها هذين الوصفين الضدين ، اما الآية فهي قوله تعالى : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي
مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) واما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي :
تلذ له
المروءة وهي تؤذي
|
|
ومن يعشق يلذ
له الغرام
|
وهذا البيت من
ابيات المعاني الشريفة ، الا ان لفظة «تؤذى» قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن ،
فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها ، وحسن موقعها في تركيب الآية ، فانصف ـ أيها
المتأمل ـ لما ذكرناه واعرضه على طبعك السليم ، حتى تعلم صحته ، وهذا موضع غامض
يحتاج الى فكر وامعان نظر ، وما تعرض للتنبيه عليه احد قبلي ، وهذه اللفظة التي هي
«تؤذى» اذا جاءت في كلام : فينبغي
ان تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها ، متعلقة به ، كقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) وقد جاءت في قول المتنبى منقطعة ، ألا ترى انه قال : «تلذ
له المروءة وهي تؤذي» ثم قال : «ومن يعشق يلذ له الغرام» فجاء بكلام مستأنف ، وقد
جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي ، واضيف اليها كاف الخطاب ، فازال ما بها
من الضعف والركة ، وذاك انه اشتكى النبي (ص) فجاءه جبرئيل (ع) ورقاه ، فقال : بسم
الله ارقيك من كل داء يؤذيك ، فانظر الى السر في استعمال اللفظة الواحدة ، فانه
لما زيد على هذه اللفظة حرف واحد اصلحها وحسنها ، ومن هنا تزاد ـ الهاء ـ في بعض
المواضع ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ* إِنِّي
ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) ثم قال : (ما أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) فان الأصل في هذه الألفاظ : كتابى ، وحسابي ومالي ،
وسلطاني ، فلما اضيفت ـ الهاء ـ اليها وتسمى : هاء السكت اضافت اليها حسنا زائدا
على حسنها ، وكستها لطافة ولباقة ، وكذلك ورد في القرآن الكريم : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) فلفظة لي ـ ايضا ـ مثل لفظة يؤذي ، وقد جاءت في الآية
مندرجة متعلقة بما بعدها ، واذا جاءت منقطعة ، لا تجيء لائقة كقول أبي الطيب ـ ايضا
ـ :
تمسى الأماني
صرعى دون مبلغه
|
|
فما يقول
لشىء ليت ذلك لي
|
وربما وقع بعض
الجهال في هذا الموضع ، فادخل فيه ما ليس منه كقول ابي الطيب :
ما اجدر
الأيام والليالي
|
|
بان تقول
ماله ومالى
|
فان لفظة لي ها
هنا قد وردت بعد ما ، وقبلها ماله ، ثم قال : «ومالي» فجاء الكلام على نسق واحد ،
ولو جاءت لفظة ـ لي ـ هاهنا كما جاءت في البيت الأول لكانت منقطعة عن النظر
والشبيه ، فكان يعلوها الضعف والركة.
وبين ورودها
هاهنا وورودها في البيت الاول فرق ، يحكم فيه الذوق السليم ، وها هنا من هذا النوع
لفظة اخرى ، قد وردت في آية من القرآن الكريم ، وفي بيت من شعر الفرزدق ، فجاءت في
القرآن حسنة ، وفي البيت غير حسنة ، وتلك اللفظة هي لفظة «القمل» اما الآية فقوله
تعالى : (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ
مُفَصَّلاتٍ) واما البيت ، فقول الفرزدق :
من عزه
احتجرت كليب عنده
|
|
زريا كأنهم
لديه القمل
|
وانما حسنت هذه
اللفظة في الآية دون هذا البيت من الشعر ، لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام
، ولم ينقطع الكلام عندها وجاءت في الشعر قافية ، اي : آخرا انقطع الكلام عندها ،
واذا نظرنا الى حكمة اسرار الفصاحة في القرآن الكريم ، غصنا منه في بحر عميق لا
قرار له.
فمن ذلك هذه
الآية المشار اليها ، فانها قد تضمنت خمسة ألفاظ هي : الطوفان ، والجراد ، والقمل
، والضفادع ، والدم ، واحسن هذه الألفاظ الخمسة هي : الطوفان والجراد والدم ، فلما
وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها : قدم منها لفظة الطوفان والجراد ، واخرت لفظة
الدم آخرا ، وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط ، ليطرق السمع اولا الحسن من
الألفاظ الخمسة ، وينتهي اليه آخرا ، ثم ان لفظة الدم
احسن من لفظتي الطوفان والجراد ، واخف في الاستعمال ، ومن اجل ذلك جيء بها
آخرا ، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ : ليس من القدرة
البشرية ، انتهى ما ذكره هناك فلنرجع الى ما كنا فيه من البحث في التكرار ، ومن
نقل كلام ـ المثل السائر ـ قال : وكثيرا ما يقع الجهال في مثل هذه المواضع ، وهم
الذين قيل فيهم :
وكذا كل اخي
حذلقة
|
|
ما مشى في
يابس الازلق
|
فترى احدهم قد
جمع نفسه وظن ـ على جهله ـ : انه عالم ، فيسرع في وصف كلام بالايجاز ، وكلام
بالتطويل ، او بالتكرير ، واذا طولب بأن يبدي سببا لما ذكره : لا يوجد عنده من
القول شيء ، الا تحكما محضا صادرا عن جهل محض.
الضرب الثاني
من التكرير في اللفظ والمعنى : وهو غير المفيد فمن ذلك قول مروان الأصعر :
سقى الله
فجدا والسّلام على نجد
|
|
ويا حبذا نجد
على النأى والبعد
|
نظرت الى نجد
وبغداد دونها
|
|
لعلي ارى
نجدا وهيهات من نجد
|
وهذا من العيء
الضعيف ، فانه كرر ذكر نجد في البيت الأول ثلاثا ، وفي البيت الثانى ثلاثا ،
ومراده في الأول : الثناء على نجد وفي الثاني انه تلغت اليها ناظرا من بغداد ،
وذلك مرمى بعيد ، وهذا المعنى لا يحتاج الى مثل هذا التكرير.
اما البيت
الأول : فيحمل على الجائز من التكرير ، لأنه مقام تشوق وتحرق وموجدة بفراق نجد ،
ولما كان كذلك اجيز فيه التكرير على انه قد كان يمكنه ان يصوغ هذا المعنى الوارد
في البيتين معا ،
من غير ان يأتى بهذا التكرير المتتابع ست مرات ، وعلى هذا الاسلوب ورد قول
ابى نؤاس :
اقمنا بها
يوما ويوما وثالثا
|
|
ويوما له يوم
الترحل خامس
|
ومراده من ذلك
: أنهم اقاموا بها أربعة أيام ، ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على
العي الفاحش ، في ضمن تلك الابيات العجيبة الحسن ، التي تقدم ذكرها في باب الايجاز
، وهي :
ودار ندامى
عطلوها وادلجوا
|
|
بها اثرا
منهم جديد ودارس
|
ومن هذا الباب
ـ ايضا ـ ما وردناه في صدر هذا النوع ، وهو قول أبي الطيب :
ولم أر مثل
جيراني ومثلى
|
|
لمثلى عند
مثلهم مقام
|
فهذا هو
التكرير الفاحش ، الذي يؤثر في الكلام نقصا ، ألا ترى انه يقول : لم أر مثل جيراني
في سوء الجوار ، ولا مثلى في مصابرتهم ومقامى عندهم ، انه قد كرر هذا المعنى في
البيت مرتين ، وعلى نحو من ذلك جاء قوله ـ ايضا ـ :
وقلقت بالهم
الذي قلقل الحشى
|
|
قلاقل عيس
كلهن قلاقل
|
واما القسم
الثاني من التكرير
|
|
وهو الذي
يوجد في المعنى دون
|
اللفظ ، فذلك
ضربان : مفيد ، وغير مفيد ، الضرب الأول : المفيد ، وهو فرعان :
الاول : اذا
كان التكرير في المعنى يدل على معنيين مختلفين ، وهو موضع من التكرير مشكل ، لأنه
يسبق الى الوهم : انه تكرير يدل على معنى واحد ، فمما جاء منه : حديث حاطب بن أبى
بلتعة في غزوة الفتح ، وذاك ان النبى (ص) أمر على بن أبي طالب (ع) ،
والزبير والمقداد رضى الله عنهما ، فقال : اذهبوا الى روضة خاخ ، فان بها
ظعينة معها كتاب فاءتونى به ، قال علي (ع) : فخرجنا تتعادى بنا خيلنا ، حتى أتينا
الروضة ، واذا فيها الظعينة ، فأخذنا الكتاب من عقاصها ، وأتينا به رسول الله (ص)
واذا هو من حاطب بن أبى بلتعة ، الى ناس مشركين بمكة ، يخبرهم ببعض شأن رسول الله (ص)
فقال له : ما هذا يا حاطب؟ فقال : يا رسول الله لا تعجل علي ، اني كنت امرءا ملصقا
في قريش ، ولم اكن من انفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون بها
أموالهم وأهليهم بمكة ، فأحببت اذ فاتني ذلك من النسب : ان اتخذ عندهم يدا يحمون
بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الاسلام
فقال رسول الله (ص) : انه قد صدقكم ، فقوله : ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن
ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الاسلام ، من التكرير الحسن ، وبعض الجهال يظنه تكريرا
لا فائدة فيه ، فان الكفر والارتداد عن الدين سواء ، وكذلك الرضا بالكفر بعد
الاسلام ، وليس كذلك والذي يدل عليه اللفظ : هو اني لم أفعل ذلك وانا كافر ، اي : باق
على الكفر ، ولا مرتدا ، اي : اني كفرت بعد اسلامي ، ولا رضا بالكفر بعد الاسلام ،
ولا ايثارا لجانب الكفار على جانب المسلمين ، وهذا حسن في مكانه ، واقع في موقعه ،
وقد يحمل التكرير فيه على غير هذا الفرع الذي نحن بصدد ذكره هاهنا ، وهو الذي يكون
التكرير فيه يدل على معنى واحد ، وسيأتي بيانه في الفرع الثاني الذي يلي هذا الفرع
الأول ، والذي يجوزه : ان هذا المقام هو مقام اعتذار وتنصل عمّا رمى به من تلك القارعة
العظيمة ، التي هي نفاق وكفر
فكرر المعنى في اعتذاره قصدا للتأكيد ، والتقرير لما ينفى عنه ما رمى به.
ومما ينتظم
بهذا المسلك : انه اذا كان التكرير في المعنى يدل على معنيين ، احدهما خاص والآخر
عام ، كقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ) فان الأمر بالمعروف داخل تحت الدعاء الى الخير ، لأن
الامر بالمعروف خاص والخير عام ، فكل أمر بالمعروف خير ، وليس كل خير أمرا
بالمعروف ، وذاك : ان الخير أنواع كثيرة من جملتها الأمر بالمعروف ففائدة التكرير
هاهنا انه ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضله ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) وكقوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وكقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها) فان الجبال داخلة في جملة الأرض ، لكن لفظ الأرض عام
والجبال خاص ، وفائدته هاهنا تعظيم شأن الأمانة المشار اليها وتفخيم أمرها ، وقد
ورد هذا في القرآن الكريم كثيرا ، ومما ورد منه شعرا قوله من ابيات الحماسة :
وان الذي
بيني وبين بني ابى
|
|
وبين بني عمي
لمختلف جدا
|
اذا اكلوا
لحمى وفرت لحومهم
|
|
وان هدموا
مجدى بنيت لهم مجدا
|
وان ضيعوا
غيبي حفظت غيوبهم
|
|
وان هم هو
واغيي هويت لهم رشدا
|
فهذا من الخاص
والعام ، فان كل لحم يؤكل للانسان فهو تضييع لغيبه ، وليس كل تضييع لغيبه اكلا
للحمه ، ألا ترى ان اكل اللحم هو كناية عن الاغتياب؟ واما تضييع الغيب : فمنه
الاغتياب ، ومنه التخلي عن النصرة والاعانة ، ومنه اهمال السعي في كل ما يعود
بالنفع كائنا من كان ، وعلى هذا : فان هذين البيتين من الخاص والعام
المشار اليه في الآية المقدم ذكرها ، وهو موضع يرد في الكلام البليغ ويظن
انه لا فائدة فيه.
الفرع الثاني :
اذا كان التكرير في المعنى يدل على معنى واحد لا غير ، وقد سبق مثال ذلك في اول
هذا الباب ، كقولك : اطعني ولا تعصنى ، فان الأمر بالطاعة نهي عن المعصية ،
والفائدة في ذلك تثبيت الطاعة في نفس المخاطب ، والكلام في هذا الموضع كالكلام في
الموضع الذى قبله : من تكرير اللفظ والمعنى ، اذا كان الغرض به شيئا واحدا ، ولا
نجد شيئا من ذلك يأتي في الكلام الا لتأكيد الغرض المقصود من الكلام ، كقوله تعالى
: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) فانه انما كرر العفو والصفح والمغفرة والجميع بمعنى
واحد للزيادة في تحسين عفو الوالد عن ولده ، والزوج عن زوجته ، وهذا وأمثاله ينظر
في الغرض المقصود به ، وهو موضع يكون التكرير فيه أوجز من لمحة الايجاز ، وأولى
بالاستعمال ، وقد ورد في القرآن الكريم كثيرا كقوله تعالى في سورة يوسف (ع) : (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فان البث والحزن بمعنى واحد ، وانما كرره هاهنا لشدة
الخطب النازل به ، وتكاثر سهامه النافذة في قلبه ، وهذا المعنى كالذي قبله ، وكذلك
ورد قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) بعد ثلاثة وسبعة ، فانه تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة
مرتين ، لأن عشرة هى ثلاثة وسبعة ، ثم قال : كاملة ، وذلك توكيد ثالث ، الى ان قال
: وعلى هذا ورد قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ
يَسِيرٍ) فقوله : (غَيْرُ يَسِيرٍ) بعد قوله : (عَسِيرٌ) من هذا النوع المشار اليه ، والا فقد علم ان العسير لا
يكون يسيرا ، وانما ذكر هاهنا على هذا الوجه : لتعظيم شأن ذلك اليوم في عسره وشدته
على الكافرين وكذلك ورد قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فان البغضاء والعداوة بمعنى واحد ، وانما حسن ايرادهما
معا في معرض واحد ، لتأكيد البراءة بين ابراهيم (ع) والذين آمنوا به وبين الكفار
من قومهم حيث لم يؤمنوا بالله وحده ، وللمبالغة في اظهار القطيعة والمصادمة ،
وورود مثل ذلك في مثل هذا الموضع كالايجاز فى موضعه ، ولن ترى شيئا يرد في القرآن
الكريم من هذا القبيل الا وهو لأمر اقتضاه ، وان خفى عليك موضع السر فيه : فاسأل
عنه اهله العارفين به. انتهى محل الحاجة من كلامه ، وانما اطنبنا الكلام في المقام
رفعا لما قد يتوهمه بعض الملاحدة او العوام كالأنعام ، من ان في القرآن الكريم
تكرارا وتطويلا لا حاجة اليه ، والتطويل والتكرار كذلك عيب فاحش عند البلغاء
والفصحاء ، حتى قيل : ان بعض جهالهم يعدل القرآن ببعض الأشعار ، ويوازن بينه وبين
غيره من الكلام ، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه ، وهذا ليس ببديع من ملحدة هذا
العصر ، الذين بجهلهم ودناءة فطرتهم يعترفون بامامة امثال : على محمد الباب يقولون
: انه انزل عليه من الله الكتاب ، فالواجب على اهل صنعة العربية الذين هم الأساس
لاظهار اسرار اللغة ودقائقها : ان يبسطوا
القول في كشف الحجاب ، عن اسرار اودعت في كلام الله الملك العلام ودقائق
ضمنت طي آياته ، حتى يظهر للجهلة والملاحدة كيفية اعجازه في زبره وبيناته ، ولا
يقيسوا الجهلة وملاحدة هذا العصر بملاحدة عصر نزوله ، لأنهم وان طعنوا فيه في اول
امره تابوا واستتابوا بعد ما بان لهم رشده ، وظهر لهم اعجازه بغريزة طبعهم ،
مؤيدين بهداية ربهم ، واما ملاحدة هذا العصر : فليس لهم هذه الغريزة ، مع كون
الجهل فيهم أغلب ، والرشد عنهم ابعد ، لكون من يهديهم الى سواء السبيل اقل ، لأن
الجهل في اكثر من وظيفته الارشاد ممدود الرواق وحب الجاه والدنيا مستول عليهم من
الصدر الى الساق ، فصار العلم لا سيما علم العربية الى عفاء ودروس ، وعلى خفاء
وطموس ، واهله في جفوة الزمن البهيم ، يقاسون من عبوسه لقاء الاسد الشكيم ، فصار
الناس بين رجلين : ذاهب عن الحق ذاهل عن الرشد ، وآخر مصدود عن نصرته ، فأدى ذلك
الى خوض الملحدين في آيات الله فاتخذوها هزوا فقارنوها بالغناء وآلاتها ، بل
جعلوها من ادواتها ، فتتلى بين النعيق والتصفيق ، ظنا منهم ان هذا هو المراد بقوله
تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) كلا ثم كلا ، فأين قوله تعالى : (إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ أَنْصِتُوا).
فلنختم الكلام
في هذا الجزء هاهنا ، والحمد لله اولا وآخرا ، وكان الفراغ من تنميق هذا الجزء :
عصر يوم الخميس العشرين من شهر ربيع المولود ، من السنة السابعة والثمانين
وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة ، على هاجرها وآله آلاف الصلاة والتحية ، بجوار
مولانا ومولى الكونين ، ابي الحسنين ، قائد الغر المحجلين ، عليه صلوات الله
الملك الحق المبين ، وصلّى الله على خير خلقه محمد وآله أجمعين ، وانا افقر
العباد واحوجهم الى عفو ربه الكريم ، محمد على مراد الجاغوري الأصل الغروي المدفن
ـ انشاء الله تعالى ـ آمين يا رب العالمين : بحق محمد وآله خير الخلائق اجمعين.
وسنلحق الفهرست والغلطنامه بالجزء الثاني انشاء الله تعالى.
مطبعة النعمان
ـ النجف الاشرف ـ تلفون ٩٩٧ ١٣٨٧ ه ـ ١٩٦٧ م.
|