بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثِقتي

أخبَرنَا السيّدُ الأجل عميدُ الرؤساء أبو الفتح يحيى بن محمّد بن نصْر بن عليّ بن حيا (١) ـ أدام الله عُلُوّه ـ قراءةً عليه سنةَ أربعين وخمسمائة ، قال : حَدَّثنا القاضي الأجَلّ أبو المَعالي أحمد بن عليّ بن قدامَة في سنة ثمانٍ وسبعين وأربعمائة ، قال : حَدَّثني الشيخُ السعيد المُفيد أبو عبدالله محمّدُ بنُ النُعمان 2 في سنةِ إحدى عشرة وأربعمائة قال : (٢)

الحمد لله على ما ألْهَمَ من معرفته ، وهدَى إليه من سبيل طاعته ، وصلواته على خِيرته من بَريته ، محمّد سيّد أنبيائه وصفوته ، وعلى الائمة المعصومين الراشدين من عِترته ، وسلّم.‎

ــــــــــــــــــ

(١) كذا في نسخة « ق » و « ح » من دون تنقيط.

(٢) ورد هذا السند في مقدمة النسخة « ح » و « ق ».


وبعدُ :

فإنّي مُثبِتٌ ـ بتوفيق الله ومعونته ـ ما سألتَ ـ ايدك الله ـ إثباتَه من أسماءِ أئمّة الهُدى : وتاريخ أعمارهم ، وذكر مَشاهدهم ، وأسماء أولادهم ، وطُرفٍ من أخبارهم المفيدة لعلم أحوالهم ، لتِقفَ على ذلك وقوفَ العارف بهم ، ويظْهَرَ لك الفرقُ ما بين الدعاوى والاعتقادات فيهم ، فتميّزبنظرك فيه ما بين الشبهات منه والبيّنات ، وتعتمد الحقً فيه اعتماد ذويَ الإِنصاف والديانات ، وأنا مجيبك إلى ما سألت ، ومتحرٍّ فيه الإِيجاز والاختصار حَسَب ما أثرت من ذلك والتمست ، وبالله أثق ، وإيّاه أستهدي إلى سبيل الرشاد.


باب الخبر عن أمير المؤمنين

صلوات الله عليه

أوّلُ أئمّة المؤمنين ، ووُلاةِ المسلمين ، وخلفاء الله تعالى في الدين ، بعد رسول الله الصادق الأمين محمّد بن عبدالله خاتم النبيّين ، ـ صلواتُ الله عليه وآله الطاهرين ـ أخوه وابنُ عمّه ، ووزيرُه على أمره ، وصهْرُه على ابنته فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين ، أميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مَناف سيّد الوصيّين ـ عَليه أفضل الصلاة والتسليم ـ.

كُنيتُه : أبو الحسن ، وُلِد بمكّة في البيت الحرام يومَ الجمعة الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ، ولم يُولد قبله ولا بعده مولودٌ في بيت الله تعالى سواه إكراماً من الله تعالى له بذلك وإجلالاً لمحلّه في التعظيم.

وأمّه : فاطمة بنتُ أسَد بن هاشم بن عبد مناف رضي الله عنها ، وكانت كالاُمّ لرسول الله 6 ، رُبي في حِجرها ، وكان شاكراً لبرها ، وآمَنَتْ به 9 في الأوّلين ، وهاجَرَتْ معه في جُملة المهاجرين. ولمّا قبضها الله تعالى إليه كَفّنها النبي 9 بقميصه ليَدْرَأ به عنها هوامَّ الأرض ، وتوسّد في قبرها لتَأْمَنَ بذلك من ضَغْطة القبر ، ولقّنها الإقرارَ بولاية ابنها ـ أمير المؤمنين 7 ـ لتجيبَ به عند المساءلة بعد الدفن ، فخصَّها بهذا الفضل


العظيم لمنزلتها من الله تعالى ومنه 7 ، والخبر بذلك مشهور (١).

فكان أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب 7 وإخوته أوّل من ولده هاشم مرتين (٢) ، وحاز بذلك مع النشوء في حجر رسول الله 9 والتأدّب به الشرفين. وكان أوّل من آمن بالله عزّ وجلّ برسوله 9 من أهل البيت والأصحاب ، وأول ذَكَرٍ دعاه رسول الله 9 إلى الإسلام فأجاب ، ولم يزل ينصر الدين ، ويجاهد المشركين ، ويذبّ عن الإيمان ، ويَقْتُل أهل الزيغ والطغيان ، وينشر معالم السنّة والقرآن ، ويحكم بالعدل ويأمر بالإحسان. فكان مقامه مع رسول الله 9 بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة ، منها ثلاث عشرة سنة بمكّة قبل الهجرة مشاركاً له في محنه كلّها ، متحمّلاً عنه أكثرأثقاله؛ وعشر سنين بعد الهجرة بالمدينة يكافح عنه المشركين ، ويجاهد دونه الكافرين ، ويقيه بنفسه من أعدائه في الدين ، إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنّته ورفعه في عليّين ، فمضى 9 ولأمير المؤمنين 7 يومئذ ثلاث وثلاثون سنة.

فاختلفت الأمة في إمامته يوم وفاة رسول الله 9؛ فقالت شيعته ـ وهم بنو هاشم وسلمان وعمّار وأبوذر والمقداد وخزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيّوب الأنصاري وجابر بن عبدالله الأنصاري

ــــــــــــــــــ

(١) اُنظر الكافي ١ : ٣٧٧ / ٢ ، دعائم الاسلام ٢ : ٣٦١ ، خصائص الأئمة : ٦٤.

(٢) في نسخة « ح » : من ولد من هاشميين.


وأبو سعيد الخدْري ، وأمثالهم من جِلّة (١) المهاجرين والأنصار ـ : إنّه كان الخليفةَ بعد رسول الله 9 والإمامَ لفضله على كافّة الأنام بما اجتمع له من خِصال الفضل والرأي والكمال ، من سَبْقه الجماعةَ إلى الإيمان ، والتبريزِعليهم في العلم بالأحكام ، والتقدّم لهم في الجهاد ، والبَيْنونةِ منهم بالغاية في الورع والزهد والصلاح ، واخصَاصِه من النبي 9 في القُربى بما لم يَشرْكه فيه أحدٌ من ذوي الأرحام.

ثمّ لنصّ الله على ولايته في القران ، حيث يقول جلّ اسمه : ( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُه وَألَّذينَ آمَنُوا ألَّذينَ يًقيمُونَ ألصَّلاةَ ويُؤْتونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) ، ومعلومٌ أنّه لم يزكّ في حال ركوعه أحد سواه 7 ، وقد ثَبَت في اللغة أنّ الوَلي هو الأولى بلا خلاف.

وإذا كان أميرُ المؤمنين 7 ـ بحكم القرآن ـ أولى بالناس من أنفسهم ، لكونه وليّهم بالنصّ في التبيان ، وَجَبَتْ طاعتهُ على كافّتهم بجَليّ البيان ، كما وَجَبتْ طاعةُ الله وطاعةُ رسوله عليه وآله السلام بما تَضَمَّنه الخبرُ عن ولايتهما للخلق فِى هذه الآية بواضح البرهان.

وبقول النبيّ 9 يومَ الدار ، وقد جَمَع بني عبد المطلب ـ خاصّةً ـ فيها للإِنذار : « مَنْ يُؤازِرْني على هذا الأمر يَكُنْ أخي ووصّيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » فقام إليه أميرُ المؤمنين 7 من بين جماعتهم ، وهو أصغرهم يومئذ سنّاً فقال : « أنا اُؤازرك يا رسول الله » فقال له النبي 9 : « اجلس فانت أخي ووصيّي

ــــــــــــــــــ

(١) جلّة : جمع جليل.

(٢) المائده : ٥٥.


ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » وهذا صريحُ القول في الاستخلاف.

وبقوله ـ أيضاً ـ 7 يوم غدير خم وقد جمع الأمّة لسماع الخطاب : « ألستُ أولى بكم منكم بانفسكم »؟ فقالوا : اللهم بلى ، فقال لهم 7 ـ على النسق من غير فصل بين الكلام ـ : « فمن كنتُ مَوْلاه فعَلي مَوْلاه » فاوجَبَ له عليهم من فرض الطاعة والولاية ما كان له عليهم ، بما قرّرهم به من ذلك ولم يتناكروه. وهذا أيضاً ظاهرٌ في النص عليه بالامامة والاستخلاف له في المقام.

وبقوله 7 له عند توجّهه إلى تَبوك : « أنت منّي بمنزلةِ هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي » فاوجب له الوِزارة والتخصّص بالمودّة والفضل على الكافّة ، والخلافة عليهم في حياته وبعد وفاته ، لشهادة القران بذلك كلّه لهارون من موسى 8 ؛ قال الله عزّ وجل مُخبراً عن موسى 7 : ( واجعل لي وَزيراً مِنْ أهْلي * هارُونَ اَخي * أشْدُدْ بهِ اَزْري * وَأشْرِكْهُ في اَمْري * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيراً * في وَنَذْكُرَكَ كَثيراً * اِنَّكَ كُنْتَ بنَا بَصيراً * قَال قَدْ أوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسى ) (١) فثبت لهارون 7 شركة موسى في النبوّة ، ووِزارتُه على تادية الرسالة ، وشَدُّ أزْرِه به في النصرة. وقال في استخلافه له : ( أخْلُفْني في قَوْمِي وَاصْلحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اْلمُفْسِدينَ ) (٢) فثبتت له خلافته بمحكم التنزيل.

فلمّا جعل رسولُ الله 9 لأمير المؤمنين 7

ــــــــــــــــــ

(١) طه ٢٠ : ٢٩ ـ ٣٦.

(٢) الأعراف ٧ : ١٤٢.


جميعَ منازل هارون من موسى 8 في الحُكمِ له منه إلاّ النبوّة ، وجبت له وزارةُ الرسول 9 وشدّ الأزر بالنصرة والفضل والمحبّة ، لما تقتضيه هذه الخصال من ذلك في الحقيقة ، ثمّ الخلافةُ في الحياة بالصريح ، وبعد النبوّة بتخصيص الاستثناء لما أخرج منها بذكر البَعد ، وأمثالُ هذه الحجج كثيرة ممّا يطول بذكرها الكتاب ، وقد استقصينا القول في إثباتها في غيرهذا الموضع من كتبنا ، والحمد للّه.

فكانت إمامةُ أمير المؤمنين 7 بعد النبيّ 9 ثلاثينَ سَنَة ، منها أربعٌ وعشرون سنة وأشهرُ ممنوعاً من التصرّف على أحكامها ، مستعملاً للتقية والمداراة. ومنها خمس سنين وأشهر مُمْتَحَناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين ، مُضطَهَداً بفِتَن الضالّين ، كما كان رسولُ اللّه 9 ثلاث عشرة سنة من نبوته ممنوعاً من أحكامها ، خائفاً ومحبوساً وهارباً ومطروداً ، لا يتمكّن من جهاد الكافرين ، ولا يستطيع دفعاً عن المؤمنين ، ثمّ هاجر وأقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهداً للمشركين مُمْتَحَناً بالمنافقين ، إلى أن قبضه اللّه ـ تعالى ـ إليه وأسكنه جنات النعيم.

وكانت وفاةُ أمير المؤمنين 7 قبيلَ الفجر من ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة قتيلاً بالسيف ، قتله ابنُ مُلْجَم المُرادي ـ لعنه اللّه ـ في مسجد الكوفة ؛ وقد خرج 7 يُوقظ الناسَ لصلاة الصبح ليلة تسع عشرة من شهر رمضان ، وقد كان ارتصده من أول الليل لذلك ، فلمّا مرّبه في المسجد وهو مُستَخْفٍ بامره مُماكرٌ بإظهار النوم في جملة النيام ، ثار إليه فضربه على


أمّ رأسه بالسيف ـ وكان مسموماً ـ فمكث يومَ تسعة عشر وليلةَ عشرين ويومَها وليلةَ إحدى وعشرين إلى نَحْو الثلث الاوّلْ من الليل ، ثمّ قَضى نَحْبَه 7 شهيداً ولقي ربَّه ـ تعالى ـ مظلوماً.

وقد كان 7 يَعْلَم ذلك قبل أوانه ويُخْبر به الناسَ قبلَ زمانه ، وتولّى غسلَه وتكفينَه ابناه الحسن والحسينُ 8 بامره ، وحَمَلاه إلى الغَرِيّ من نَجَفِ الكوفة ، فدَفَناه هناك وعَفّيا موضِعَ قبره ، بوصيّة كانت منه إليهما في ذلك ، لما كان يعلمه 7 من دَوْلة بني أُميّة من بعده ، واعتقادهم في عَداوته ، وما ينتهون إليه بسوء النيّات فيه من قبيح الفعال والمقال بما تمكّنوا من ذلك ، فلم يزل قبرهُ 7 مخفىً حتّى دَلّ عليه الصادقُ جعفرُ بنُ محمّد 8 في الدَوْلة العبّاسية ، وزاره عند وروده إلى أبي جعفر (١) ـ وهو بالحِيْرة ـ فعَرَفَتْه الشيعة واستأنَفوا إذ ذاك زيارته 7 وعلى ذُرّيته الطاهرين ، وكان سنّه 7 يوم وفاته ثلاثاً وستين سنة.

ــــــــــــــــــ

(١) ابو جعفر المنصور ، عبدالله بن محمد بن علي بن العباس ، ثاني خلفاء بني العباس ، ولد في الحميمة من أرض الشراة سنة ٩٥ هـ وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة ١٣٦ هـ ، توفي ببئر ميمون سنة ١٥٨ هـ ، ودفن في الحجون بمكة وكانت مدة خلافته ٢٢ عاماً ، اُنظر « تاريخ بغداد ١ : ٦٢ ، شذرات الذهب ١ : ٢٤٤ ، تاريخ الطبري ٨ : ١١٣ ، العبر١ : ١٧٥ ، الاعلام ٤ : ١١٧ ».


فصل

فمن الأخبار التي جاءت بذكره 7 الحادثَ قبل كونه ،

وعلمِه به قبل حدوثه :

ما أخبر به عليُّ بن المُنْذِر الطريقي ، عن ابن الفُضَيْل العَبْدي (١) ، عن فِطْر ، عن أبي الطُفَيْل عامر بن واثِلة ـ رحمة اللّه عليه ـ قال : جَمَع أمير المؤمنين 7 الناسَ للبيعة ، فجاء عبدُ الرحمن بن مُلْجَم المُراديّ ـ لعنه الله ـ فردّه مرتين أو ثلاثاً ثمّ بايعه ، وقال عند بيعته له : « مايَحْبِسُ أشقاها! فو الّذي نفسي بيده لتُخْضَبن (٢) هذه من هذا » ووَضَعَ يدَه على لِحْيَته ورأسه 7 ، فلمّا أدْبَر ابنُ مُلْجَم عنه منصرفاً قال 7 متمثلاً :

« أشْدُدْ حَيازيمَكَ للموت

فإنّ الموتَ لاقيك

ولا تَجْزَع من الموت

إذا حَلّ بواديـك

كما أضحَكَكَ الدهرُ

كذاكَ الدهرُ يُبْكيك (٣) »


ــــــــــــــــــ

(١) لعل العبدي تصحيف الضبيّ ، فإنّه محمد بن فضيل بن غزوان الضبيّ ، مولاهم أبو عبد الرحمن ، وقد عدّه الشيخ الطوسي 1 من أصحاب الصادق 7 ووثقه ( رجال الشيخ : ٢٩٧ ) يروي عنه علي بن المنذر الطريقي ، انظر : « الطبقات الكبرى ٦ : ٣٨٩ ، انساب السمعاني ٨ : ١٤٥ ، ميزان الاعتدال ٣ : ١٥٧ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٣٨٦ و ٩ : ٤٠٥ ».

(٢) في « ق » وهامش « ش » : ليَخْضِبَنَّ.

(٣) الطبقات الكبرى ٣ : ٣٣ ، أنساب الأشراف ٢ : ٥٠٠ ، مقاتل الطالبيين : ٣١ ، الخرائج والجرائح ١٠ : ١٨٢ ذيل الحديث ١٤ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار ٤٢ : ١٩٢ / ٦ والبيت الاخير اثبتناه من « ق ».


وروى الحسنُ بنُ محبوب ، عن أبي حَمْزة الثُماليّ ، عن أبي إسحاق السَّبِيعيّ ، عن الأصْبَغ بن نُباتة ، قال : أتى ابن ملجم أميرَ المؤمنين 7 فبايعه فيمن بايع ، ثمّ أدبر عنه فدعاه أميرُ المؤمنين 7 فتوثّق منه ، وتوكّد عليه ألاّ يَغْدر ولا يَنْكث ففعل ، ثمّ أدبر عنه فدعاه أميرُ المؤمنين 7 الثانية فتوثّق منه وتوكّد عليه ألاّ يَغْدر ولا يَنْكث ففعل ، ثمّ أدبر عنه فدعاه أميرُ المؤمنين 7 الثالثة فتوثّق منه وتوكّد عليه ألاّ يَغْدرَ ولا يَنْكث ، فقال ابنُ مُلْجَم : واللّه ـ يا أمير المؤمنين ـ ما رأيتُك فعلتَ هذا بأحد غيري. فقال أميرُ المؤمنين 7 :

« أُريد حِباءهُ ويُريدُ قتلي

عَذيرَك (١) من خليلِك من مُرادِ (٢)

امض ـ يا بنَ مُلْجَم ـ فواللّه ما أرى أن تَفِيَ بما قلت » (٣).

وروى جعفر بن سُلَيمان الضُبَعيّ عن المُعَلِّى بن زياد قال : جاء عبدُ الرحمن بن مُلْجَم ـ لعنه اللّه ـ الى أمير المؤمنين 7 يستحمله ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إحمِلني. فنظرإليه أميرالمؤمنين 7 ثمّ قال له : « أنت عبدُ الرحمن بن مُلْجَم المُراديّ؟ » قال : نعم. قال : « أنت

ــــــــــــــــــ

(١) عذيرك من فلان بالنصب ، أي هات من يعذرك فيه ، فعيل بمعنى فاعل « النهاية ـ عذر ـ ٣ : ١٩٧ ».

(٢) البيت لعمرو بن معدي كرب : كتاب سيبويه ١ : ٢٧٦ ، الأغاني ١٠ : ٢٧ ، العقد الفريد ١ : ١٢١ ، خزانة الادب ٦ : ٣٦١.

(٣) ذكره ابن شهرآشوب مختصراً في المناقب ٣ : ٣١٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٩٢ / ٧.


عبدُ الرحمن بنُ مُلْجَم المرُاديّ؟ » قال : نعم. قال : « ياغَزْوان ، اِحمِله على الأشقر » فجاء بفرس أشقر فرَكِبه ابنُ مُلْجَم المُرادي وأخذ بعنانه ، فلمّا ولّى قال أمير المؤمنين 7 :

« أريد حِباءه ويريد قتلي

عَذيرَك مِنْ خَليلك من مُراد » (١)

قال : فلمّا كان من أمره ما كان ، وضَرَب أميرَ المؤمنين 7 قُبض عليه وقد خَرَج من المسجد ، فجيء به الى أمير المؤمنين ، فقال 7 : « والله لقد كنتُ أصنع بك ما أصْنَع ، وأنا أعلمُ أنّك قاتلي ، ولكن كنتُ أفعلُ ذلك بكَ لأستظهِرَ بالله عليك ».

فصل آخر

ومن الأخبار التي جاءت

بنَعْيه نَفْسَه 7 إلى أهله وأصحابه قبل قتله :

ما رواه أبو زيد الأحوَل عن الأجلَح ، عن أشياخ كِنْدَة ، قال : سَمِعتُهم أكثرَمن عشرين مرّة يقولون : سَمِعنا علياً 7 على المنبر يقول : « ما يمنَعُ أشقاها أن يَخْضِبَها من فوقها بدم؟ » ويَضَعُ يدَه على لحِيته 7 (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) اشار اليه ابن شهرآشوب في المناقب ٣ : ٣١٠ ، والراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ١٨٢ ذيل الحديث ١٤.

(٢) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٩٣ / ٨.


وروى علي بن الحَزَوَّر ، عن الأصْبَغ بن نُباتَة قال : خَطَبَنَا أميرُ المؤمنين 7 في الشهر الذي قُتِل فيه فقال : « أتاكمُ شهرُ رمضان ، وهو سيّد الشهور ، وأوّل السنة ، وفيه تدور رَحا السلطان. ألا وإنّكم حاجّ العامَ صفّاً واحداً ، وآيةُ ذلك أنّي لستُ فيكم » قال : فهو يَنْعى نفسه 7 ونحن لا نَدْري (١).

وروى الفَضْل بن دُكَين ، عن حَيّان بن العبّاس ، عن عثمان بن المُغِيرة قال : لمّا دخل شهرُ رمضان ، كان أمير المؤمنين 7 يتعشّى ليلةً عند الحسن وليلةً عند الحسين وليلةً عند عبداللّه بن جعفر (٢) ، وكان لا يَزيد على ثلاث لُقَم ، فقيل له في ليلةٍ من تلك الليالي في ذلك ، فقال : « يأتيني أمرُ اللّه وأنا خميصٌ ، إنّما هي ليلةٌ أو ليلتان » فأُصِيب 7 في آخر الليل (٣).

وروى إسماعيل بن زياد قال : حدثتني اُمّ موسى ـ خادمة (٤) علي عليه

ــــــــــــــــــ

(١) إعلام الورى : ١٦٠ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٧١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٩٣ / ٩.

(٢) في « ش » : عبداللّه بن العباس.

(٣) إعلام الورى : ١٦٠ ، المناقب للخوارزمي : ٣٩٢ / ٤١٠ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٧١ ، كنز العمال ١٣ : ١٩٥ / ٣٦٥٨٣ ، الفصول المهمة : ١٣٩ ، وذكره مختصراً الراوندي في الخرائج ١ : ٢٠١ / ٤١ ، وسيأتي في فصل من نعيه لنفسه 7 اواخر الجزء الاول.

(٤) كذا في متن النسخ وفي هامش « ش » : خادم وهو صواب أيضاً.

قال في لسان العرب ـ خدم ـ ١٢ : ١٦٦ : ألخادم واحد الخدم غلاماً كان أو جارية ... وفي حديث فاطمة وعلي 8 : « اسألي أباكِ خادماً تقيك حرً ما أنت عليه » الخادم واحد الخدم ويقع على الذكر والانثى لاجرائه مجرى الاسماء غير


السلام وهي حاضنة فاطمة ابنته 7 ـ قالت : سمعتُ عَليّاً 7 يقول لابنته اُمّ كلثوم : « يابُنيّة ، إنيّ أراني قلَّ ما أصحَبُكم » قالت : وكيف ذلك ، يا أبتاه؟ قال : « إني رأيت نبيّ اللّه 9 في منامي وهو يَمْسَحُ الغبارَ عن وجهي ويقول : يا عليّ ، لا عليك قد قَضَيْتَ ما عليك ».

قالت : فما مَكَثْنا إلاّ ثلاثاً حتى ضُرِب تلك الضربة. فصاحت اُمّ كلثوم فقال : « يا بُنيّة لا تفعلي ، فإنّي أرى رسول اللّه 9 يشير إليَ بكفّه : يا علي ، هَلمَّ إلينا ، فإنّ ما عندنا هو خيرٌ لك » (١).

وروى عمّار الدُهْني ، عن أبي صالح الحنفيّ قال : سمِعمت علياً 7 يقول : « رأيتُ النبيّ 9 في منامي ، فشَكَوْتُ إليه ما لقيت من أُمّتهِ من الأود واللدد (٢) وبكيتُ ، فقال : لاتَبكِ يا علي والتفِتْ ، فالتفتُّ ، فإذا رجلان مُصَفَدان ، وإذا جلاميد تُرْضَخ بها رؤوسهما ».

فقال أبو صالح : فغدوت إليه من الغد كما كنت أغدو كلّ يوم ، حتى إذا كنت في الجزارين لقيت الناس يقولون : قُتِل أمير المؤمنين ، قتل أمير

ــــــــــــــــــ

المأخوذة من الافعال كحائض وعاتق .. وهذه خادمنا ـ بغير هاء ، لوجوبه ، وهذه خادمتنا غداً. انتهى.

(١) المناقب للخوارزمي : ٣٧٨ / ٤٠٢ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣١١ ، كشف الغمة ١ : ٤٣٣.

(٢) الأود : العوج ، واللّدَدُ : الخصومة الشديدة ، قال ابن الأثير : ومنه حديث علي : « رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم في النوم فقلت : يا رسول الله ، ماذا لقيت بعدك من الأود واللدد! » « النهاية ـ لدد ـ ٤ : ٢٤٤ ».


المؤمنين 7 (١).

وروى عبيداللّه بن موسى ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسن البصريّ قال : سَهِرَ أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 في الليلة التي قتِل (٢) في صَبيحَتِها ، ولم يَخْرُج إلى المسجد لصلاة الليل على عادته ، فقالت له ابنته امّ كلثوم ـ رحمة الله عليها ـ : ما هذا الذي قد أسْهَرَك؟ فقال : « إنّي مقتول لو قد أصبحتُ » وأتاه ابنُ النَبّاح فآذنه (٣) بالصلاة ، فمشى غيرَ بعيد ثم رجع ، فقالت له ابنته اُمّ كلثوم : مُرْ جَعْدَة فليُصَلّ بالناس. قال : « نعم ، مُروا جَعْدة فليُصَلّ » (٤). ثمّ قال : « لا مَفَرّ من الأجل » فخرج إلى المسجد وإذا هو بالرجل قد سَهِر ليلتَه كلّها يَرْصُدُه ، فلمّا بَرَدَ السحر نام ، فحرّكه أميرالمؤمنين 7 برجله وقال له : « الصلاة » فقام إليه فضربه (٥).

ورُوي في حديث اخر : أنّ أميرَ المؤمنين 7 سَهِر تلك الليلة ، فاكثر الخروج والنظر في السماء وهو يقول : « واللّه ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ ، وإنّها الليلة التي وُعِدتُ بها » ثمّ يعاود مضجعه ، فلمّا طلع الفجر شدّ ازاره (٦) وخرج وهو يقول :

ــــــــــــــــــ

(١) ورد باختلاف يسير في إلامامة والسياسة : ٢٧٦ ، أنساب الأشراف : ٤٩٤ ، مقاتل الطالبيين : ٤٠ ، ومثله في إعلام الورى : ١٦١ ، والخرائج والجرائح ١ : ٢٣٣ / ٧٨ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣١١.

(٢) في « ح » : ضرب.

(٣) في هامش « م » : مؤذناً.

(٤) في هامش « ش » : ليصلي.

(٥) خصائص الائمة : ٦٣ ، إعلام الورى : ١٦١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣١٠.

(٦) في هامش « م » : أزراره.


« أُشدُدْ حَيازِيمَك للموت

فإن الموتَ لاقيك (١)

ولاتجْزَع من الموت

إذا حلّ بواديك »


فلمّا خرج إلى صحن الدار استقبلته (٢) الأوَزُ فَصِحْنَ في وجهه ، فجعلوا يَطرُدونهنّ فقال : « دَعُوهُنَّ فإنّهنّ نَوائح » ثمّ خرج فأُصيب 7 (٣).

فصل

ومن الأخبار الواردة بسبب قتله وكيف جرَى الأمر في ذلك :

ما رواه جماعة من أهل السير : منهم أبو مِخْنَف لوط بن يحيى ، واسماعيلُ بن راشد ، ( وأبو هِشام الرِفاعيّ ) (٤) ، وأبو عمرو الثقفيّ ، وغيرهم ، أنّ نَفَراً من الخوارج إجتمعوا بمكة ، فتذاكروا الأمراء فعابوهم وعابوا أعمالهم عليهم وذكروا أهلَ النهروان وتَرَحّمَوا عليهم ، فقال بعضهم لبعض : لوأنّا شَرينا أنفسَنا لله ، فأتينا أئمة الضَلال فطَلَبنا غِرَّتَهم فأرَحْنا منهم العبادَ والبلادَ ، وثَأرْنا بإخواننا للشُهداءِ بالنَهروان. فتعاهَدوا عند انقضاء الحجّ على ذلك ، فقال عبدُ الرحمن بنُ مُلْجَم : أنا أكْفِيكم

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : آتيك.

(٢) في « م » وهامش « ش » : استقبله.

(٣) خصائص الأئمة : ٦٣ ، إعلام الورى : ١٦١ ، مناقب آل ابي طالب ٣ : ٣١٠.

(٤) في « م » وهامش « ش » : أبو هاشم الرفاعي ، وما في المتن من « ش » وهو الصواب وهو أبو هشام محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة ، انظر : انساب السمعاني ٦ : ١٤٣ ، اللباب لابن الاثير ٢ : ٤٢ تهذيب التهذيب ٩ : ٥٢٦


علياً ، وقال البُركْ بن عبداللّه التميميّ : أنا أكْفِيكم معاوية ، وقال عَمرو بن بكر التميميّ : أنا أكْفِيكم عَمرو بن العاص ؛ ( وتعاقدوا ) (١) على ذلك ، ( وتوافقوا ) (٢) عليه وعلى الوفاء واتَعَدوا لشهر رمضان في ليلة تسعَ عشرة ، ثمّ تفرقوا.

فاقبل ابنُ مُلْجَم ـ وكان عِدادُه في كِنْدَة ـ حتى قَدِمَ الكوفة ، فلقي بها أصحابه فكتمهم أمرهَ مخافةَ أن يَنْتَشِرمنه شيء ، فهوفي ذلك إذ زار رجلاً من أصحابه ذات يوم ـ من تيم الرِباب ـ فصادف عنده قَطام بنت الأخضر التيمية ، وكان أمير المؤمنين 7 قتل أباها وأخاها بالنَهْروان ، وكانت من أجمل نساء زمانها ، فلمّا رآها ابنُ مُلْجَم شُغِف بها واشتدّ إعجابُه بها ، فسأل في نكاحها وخطبها فقالت له : ما الّذي تُسَمِّي لي من الصَداق؟ فقال لها : احتَكِمي ما بدا لك ، فقالت له : أنا محتكمةٌ عليكَ ثلاثَة الاف درهم ، ووَصيفاً وخادماً ، وقتلَ عليّ بن أبي طالب ، فقال لها : لكِ جميعُ ما سألتِ ، وأمّا قتلُ عليّ بن أبي طالب فأنّ لي بذلك؟ فقالت : تَلْتَمِس غِرّته ، فإن أنت قتلتَه شفيتَ نفسي وهنَّأك العَيش معي ، وإن قُتِلتَ فما عند الله خير لك من الدنيا. فقال : أما والله ما أقدمني هذا المصر ـ وقد كنتُ هارباً منه لا امَنُ مع أهله ـ إلاّ ما سألتِني من قتلِ علي بن أبي طالب ، فلكِ ما سالتِ. قالت : فانا طالبةٌ لكَ بعضَ من يُساعدك على ذلك ويُقوّيك.

ثمّ بَعَثتْ إلى وَرْدان بن مُجَالِد ـ من تَيمْ الرِباب ـ فخبّرتْه الخبرَ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : تعاهدوا.

(٢) في هامش « ش » و « م » ‏ : واوثقوا. وفي « م » وتوافقوا.


وسألتهْ مَعُونةَ ابنَ مُلْجَم ، فتحمّل ذلك لها ، وخرج ابن مُلْجَم فاتى رجلاً من أشجع يقال له : شَبيب بن بُجْرة ، فقال : يا شَبيب ، هل لكَ في شرف الدنيا والآخرة؟ قالَ : وما ذاك؟ قال : تُساعدُني على قتل عليّ بن أبي طالب. وكان شَبيب على رأي الخوارج ، فقال له : يا ابن ملجم ، هَبَلَتْك الهَبُول ، لقد جئتَ شيئاً إدّاً ، وكيف تقدر على ذلك؟ فقال له ابنُ مُلْجَم : نَكمن له في المسجد الأعظم فإذا خرج لصلاة الفجرفتكنا به ، وإن نحن قتلناه شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا. فلم يزل به حتى أجابه ، فأقبل معه حتى دخلا المسجد على قَطام ـ وهي معتكفة في المسجد الأَعظم ، قد ضربت عليها قبة ـ فقال لها : قد اجتمع رأيُنا على قتل هذا الرجل ، قالت لهما : فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع.

فانصرفا من عندها فلبثا أيّاماً ، ثمّ أتياها ومعهما الآخر ليلةَ الأربعاء لتسع عشرة ليلة خلتَ من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، فدعت لهم بحرير فعصبت (١) به صدورهم ، وتقلّدوا أسيافَهم ومَضَوْا وجلسوا (٢) مقابلَ السُدّة التي كان يخرُج منها أمير المؤمنين 7 إلى الصلاة ، وقد كانوا قبل ذلك ألقَوْا إلى الأشعَث بن قَيْس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين 7 ، وواطَأهم عليه ، وحضر الأشعَثُ بن قَيسْ في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه.

وكان حُجر بن عَدِيّ ـ رحمة الله عليه ـ في تلك الليلة بائتاً في المسجد ، فسَمِع الأشعثَ يقول لابن مُلْجَم : النَجاء النَجاء لحاجتك فقد فَضَحك

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « خ » : فعصبوا.

(٢) في « م » و « ح » وهامش « ش » : فجلسوا.


الصبح ، فأحسّ حُجْر بما أراد الأشعث فقال له : قتلتَهُ يا أعْور. وخرج مبادراً ليمْضِي إلى أمير المؤمنين 7 فيُخْبِرَه الخبر ويُحذِره من القوم ، وخالفه أمير المؤمنين 7 فدخل المسجد ، فسبقه ابنُ مُلْجَم فضربه بالسيف ، وأقبل حُجْر والناس يقولون : قُتِل أميرُ المؤمنين ، قُتِل أميرُالمؤمنين. وذكر محمّدُ بن عبدالله بن محمّد الأزْديّ قال : إني لاُصلّي في تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يُصَلّون في ذلك (١) الشهر من أوّله إلى آخره ، إذْ نظرتُ إلى رجال يُصَلّون قريباً من السُدّة ، وخرج عليّ ابن أبي طالب 7 لصلاة الفجر ، فاقبل يُنادي « الصلاة الصلاة » فما أدري أنادى أم رأيتُ بَريق السيوف وسمعتُ قائلاً يقول : لله الحُكم ـ يا علي ـ لا لكَ ولا لأصحابك. وسمعتُ علياً 7 يقول : « لا يَفُوتَنّكم الرجل » فإذا علي 7 مضروب ، وقد ضَرَبه شَبيبُ بن بُجرَة فاخطأه ووقعت ضربتُه في الطاق ، وهَرَب القوم نحو أبواب المسَجد وتبادر الناس لأخذهم.

فأمّا شَبيب بن بُجْرة فاخذه رجل فَصَرَعه وجلس على صدره ، وأخذ السيفً من يده ليَقْتُلَه به ، فرأى الناسَ يَقْصُدُون نحوَه فخشي أن يعجلوا عليه ولا يَسْمَعوا منه ، فوَثَب عن صدره وخَلاّه وطَرَح السيفَ من يده ، ومَضى شَبيب هارباً حتّى دخل منزله ، ودخل عليه ابنُ عم له فرآه يَحُلّ الحريرَ عن صدره ، فقال له : ما هذا ، لعلك قتلت أمير المؤمنين؟ فاراد أن يقول : لا ، فقال : نعم ، فمض ابنُ عمه فاشتمل على سيفه ، ثمّ دخل عليه فضربه حتّى قتله.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : هذا.


وأمّا ابنُ ملجم ، فإنّ رجلاً من هَمْدان لَحِقَه فطَرَح عليه قَطيفة (١) كانت في يده ، ثمّ صَرَعه وأخذ السيفَ من يده ، وجاء به إلى أميرالمؤمنين 7 ، وأفَلَت الثالث فانسلّ بين الناس.

فلمّا اُدْخِلَ ابنُ مُلْجَم على أمير المؤمنين 7 نَظَر إليه ثم قال : « النفسُ بالنفس ، إن أنا مِتُ فاقْتلُوه كما قَتَلني ، وإن سَلِمْتُ رأيتُ فيه رأيي » فقال ابنُ مُلْجَم :

واللّه لقد ابتَعْتُه بالف وسَمَمْتهُ بالف ، فإن خانني فأبْعَدَه اللّه.

قال : ونادته اُمّ كلثوم : يا عدوَّ اللّه ، قتلتَ أميرَ المؤمنين 7 قال : إنما قتلتُ أباك ، قالت : يا عدوَّ الله ، إنّي لأرجوأن لا يكونَ عليه بأسٌ ، قال لها : فاراكِ إنّما تَبكين علي إذأ ، واللّه لقد ضربتهُ ضربةً لو قسِمَتْ بين أهل الأرض لأهلكَتْهم.

فاُخْرِجَ من بين يَدَي أمير المؤمنين 7 وإنّ الناسَ ليَنْهشون (٢) لحمَه باسنانهم كأنهم سِباع ، وهم يقولون : يا عدوَّالله ، ماذا فعلت (٣)!؟ أهلكتَ اُمّة محمّدٍ وقَتَلْتَ خيرَ الناس. وإنّه لصامت ما ينطق. فذُهِبَ به إلى الحبس.

وجاء الناسُ إلى أميرالمؤمنين 7 فقالوا له : يا أمير المؤمنين مُرْنا بامرك في عدوّ الله ، فلقد أهلك الأمّة وأفسد الملّة. فقال لهم أمير المؤمنين 7 : « إن عِشْتُ رأيت فيه رأي ، وإن هَلَكْث فاصنعوا

ــــــــــــــــــ

(١) القطيفة : كساء له خمل « النهاية ـ قطف ـ ٤ : ٨٤ ».

(٢) في هامش « ش » : لينهسون.

(٣) في م وهامش « ش » : صنعت.


به (١) ما يُصْنَع بقاتل النبيّ ، اقتلوه ثمّ حَرِّقوه بعد ذلك بالنار ».

قال : فلمّا قضى أميرُ المؤمنين 7 ، وفَرَغ أهلهُ من دفنه ، جَلسَ الحسنُ 7 وأمرأن يؤتى بابن مُلْجَم ، فجِيء به ، فلمّا وقف بين يديه قال له : « يا عدؤَ اللّه ، قتلتَ أمير المؤمنين ، وأعظمت الفساد في الدين » ثمّ أمر به فضُرِبَتْ عنقًه ، واستَوْهَبتْ اُمّ الهَيْثم بنت الأسود النَخَعيّة جيفَتَه (٢) ، منه لتَتَولّى إحراقَها ، فوَهَبَهَا لها فاحْرَقَتْها بالنار.

وفي أمر (٣) قَطام وقتل أمير المؤمنين 7 يقول الشاعر :

فلم أر مَهْراً ساقَهُ ذُو سَماحةٍ

كَمَهْرِقَطامٍ من فَصيحٍ وأعْجَم

ثلاثةِ آلافٍ وعبدٍ وقَيْنَةٍ

وضرب عليّ بالحُسام المَصَمَّم (٤)

ولا مهرَ أغلى من عليٍّ وإن غلا

ولا فَتْكً إلا دونَ فَتْكِ ابنِ مُلْجَم

وأما الرجلان اللذان كانا مع ابنِ ملجم لعنهم اللّه أجمعين في العقد على قتل معاوية وعمرو بن العاص ، فإنّ أحدَهما ضَرَب معاوية وهو راكع فوقعت ضربتُه في أليته ونجَا منها ، فاُخِذَ وقُتِل من وقته.

وأما الآخَرُ فإنّه وافى عَمْراً في تلك الليلة وقد وَجَدَ عِلّةً فاستخلف رجلاً يصَلّي بالناس يُقال له : خارجة بن أبي حَبيبة العامِري ، فضربه

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » زيادة : مثل.

(٢) في هامش « ش » : جثته.

(٣) في هامش « ش » : مهر.

(٤) في هامش « ش » : المسمّم.


بسيفه وهو يَظُن أنّه عمرو ، فاُخِذ وأُتي به عَمْرو فقتله ، ومات خارجةُ في اليوم الثاني (١).

فصل

ومن الأخبار التي جاءت بموضع قبر أمير المؤمنين 7

وشرح الحال في دفنه :

ما رواه عَبّاد بن يعقوب الرَواجِنّي قال : حَدَّثنا حِبان (٢) بن علي العَنَزيّ قال : حَدَّثني مولىً لِعليّ بن أبي طالب 7 قال : لما حَضَرَتْ أميرَ المؤمنين 7 الوفاةُ قال للحسن والحسين 8 : إذا أنا متّ فاحملاني على سريري ، ثمّ أخْرِجاني واحمِلا مؤخّرَ السرير فإنّكما

ــــــــــــــــــ

(١) ذكرت هذه الواقعة مقطعة في : تاريخ الطبري ٥ : ١٤٣ ، مقاتل الطالبيين : ٢٩ ، طبقات ابن سعد ٣ : ٣٥ ، انساب الاشراف ٢ : ٤٨٩ / ٥٢٤ ، مروج الذهب ٢ : ٤١١ ، الامامة والسياسة ١ : ١٥٩ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨٩ ، مناقب الخوارزمي : ٣٨٠ / ٤٠١ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣١١ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار ٤٢ : ٢٢٨ / ٤١.

(٢) كذا في « ش » وهو أخو مندل كما في هامش « ش » ، وفي « م » بخطّ حديث : حيان ، وفي « ح » : جيّان بن علي مولى لعلي بن أبي طالب وفيه سقط ، ثم إنّ في ضبط اسمه خلافأ فقط ضبطه العلامة وابن داود بالياء المنقطة تحتها نقطتين بعد الحاء « خلاصة الرجال : ٦٤ ، ٢٦٠ ، ايضاح الاشتباه : ٩٧ ، رجال ابن داود : ١٣٦ و ٣٥٢ » لكن الظاهر كونه حِبّان بالموحدة بعد الحاء المكسورة كما في غير واحد من كتب الرجال من العامة. انظر : تبصير المنتبه : ٢٧٨ ، تقريب التهذيب ١ : ١٤٧ ، الجرح والتعديل ٣ : ٠ ٢٧ ، المجروحين لابن حبّان ١ : ٢٦١ ، الضعفاء للعقيلي ١ : ٢٩٣ ، سؤالات ابن الجنيد : ٩٦ ، الضعفاء للنسائي : ٨٩ ، الضعفاء للدارقطني : ٣٠١ ، الضعفاء الصغير للبخاري : ٤٢٦ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٥٥ ، ميزان الاعتدال ١ : ٤٤٩ ، تهذيب التهذيب ٢ : ١٧٣.


تُكفَيان مقدمَهُ ، ثم ائتيا بي الغريّينْ (١) ، فإنّكما ستريان صخرةً بيضاء تَلْمَعُ نوراً ، فاحتفِرا فيها فإنّكما تجدان فيها ساجَةً ، فادفِناني فيها ».

قال : فلما مات أخرجناه وجعلنا نحمِل مؤَخّر السرير ونُكْفى مُقَدَّمهُ ، وجعلنا نسمَع دَويّاً وحَفيفاً حتى أتينا الغَريّين ، فإذا صخرة بيضاء ( تَلمَع نوراً ) (٢) ، فاحتفرنا فإذا ساجَة مكتوب عليها : « مما أدخر نوحٌ لعليّ بن أبي طالب ». فدفنّاه فيها ، وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله لأمير المؤمنين 7 فلَحِقَنا قومٌ من الشيعة لم يَشْهَدوا الصلاة عليه ، فاخبرناهم بما جَرى وبإكرام الله أميرَ المؤمنين 7 فقالوا : نُحبّ أن نُعايِن من أمره ما عاينتم. فقلنا لهم : إنّ الموضع قد عًفي أثرهُ بوصية منه 7 ، فمضوا وعادوا إلينا فقالوا أنّهم احتفروا فلم يجدوا شيئاُ (٣).

وروى محمّد بن عُمارة (٤) قال : حَّثني أبي ، عن جابر بن يزيد قال : سالت أبا جعفر محمَّد بنَ علي الباقر 7 : أين دُفِنَ أميرُ المؤمنين

ــــــــــــــــــ

(١) الغريان : بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة بناهما المنذر بن امرئ القيس. « معجم البلدان ٤ : ١٩٨ ».

(٢) في هامش « ش » : يلمع نورها.

(٣) صدره في الخرائج والجرائح ١ : ٢٣٣ / ذيل الحديث ٧٨ ، اعلام الورى : ٢٠٢ ، فرحة الغري : ٣٦ ، ونقله المجلسي في البحار ٤٢ : ٢١٧ / ذيل الحديث١٩.

(٤) كذا في النسخ ولعلّ الصواب جعفر بن محمد بن عمارة ، وهو يروي عن أبيه عن جابر ابن يزيد الجعفي في غير واحد من الاسانيد كاسانيد كتب الصدوق ، انظر : معاني الاخبار : ٢١ ، ٥٥ ، ١٠٤ ، ٢٣٧ ، الخصال : ٥٨٥ ، التوحيد : ٢٤٢ ، وكذا يروي جعفر عن أبيه عن الصادق 7 في أسانيد متكررة ، نعم وردت رواية محمد بن عمارة عن أبيه عن الصادق 7 في صفات الشيعة ح ٦٩ لكنّه محرّف ، والصواب جعفر ابن محمد بن عمارة كما في البحار ٨ ( الطبعة القديمة ) : ١٩٦.


7؟ قال : « دُفِنَ بناحية (١) الغَرِيّنن ودُفِن قبلَ طلوع الفجر ودَخَل قبره الحسنُ والحسينُ ومحمّد بنو علي 7 وعبداللّه بن جعفر رضي الله عن » (٢).

وروى يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن رجاله ، قال : قيل للحسين (٣) بن علي 8 : أين دَفْنتم أميرَ المؤمنين 7؟ فقال : « خَرَجنا به ليلاً على مسجد الأشْعَث ، حتّى خَرَجنا به إلى الظَهْر بجنب الغَرِيّ ، فدفنّاه هناك » (٤).

وروى محمّد بن زَكَريّا قال : حدَّثنا عبيدالله بن محمّد بن عائشة (٥)

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : بجانب.

(٢) اعلام الورى : ٢٠٢ ، فرحة الغري : ٥١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ٢٢٠ / ذيل الحديث ٢٦.

(٣) كذا في « م » وهامش « ش » والبحار وكامل الزيارات وفرحة الغري وكفاية الطالب ، وفي متن « ش » ومقاتل الطالبيين : للحسن بن علي.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٤٢ ، كامل الزيارات : ٣٣ ، فرحة الغري : ٣٩ ، كفاية الطالب : ٤٧١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ٤٢ / ٢٣٤ ، وقد بينت المصادر المراد من رجال ابن ابي عمير في السند وفيها اختلاف يسير فراجع.

(٥) محمد بن عائشة وفوقه علامة التصحيح ولعل المراد ان « محمد عن ابن عائشة » تصحيف والصواب بدله محمد بن عائشة وكأنّ فوق « محمد » علامة الزيادة ( ز .. الى ) فحينئذ تصير العبارة كما اثبتناه في المتن ، وفي « م » : محمد بن عبداللّه بن محمد بن عائشة ، وفي « ح » : عبيدالله عن ابن عائشة ، ونقل في البحار هذا الخبر عن فرحة الغري باسناده الى المفيد عن محمد بن زكريا عن عبدالله بن محمد بن عائشة ، ثم أشار بعد ذكر الخبر انّ في الارشاد مثله ، ئم انّ الخبرمروي في فرحة الغري بطريق اخر عن عبيداللّه بن محمد بن عائشة عن عبداللّه بن حازم بن خزيمة وهذا نظيرما أثبتناه في المتن وهو أقرب في بادئ النظر من جهة انّ محمد بن زكريا الغلابي يروي عن ابن عائشة كما هو المصرّح في كتب الرجال وهو ابو عبد الرحمن عبيدالله بن محمد بن حفص العيشي المعروف بابن عائشة لانه من ولد عائشة بنت طلحة ، توفي في شهر رمضان ٢٢٨ انظر :


قال : حدثني عبداللّه بن خازم (١) قال : خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نَتَصيّد ، فصِرْنا إلى ناحية الغَرِيّين والثَويّة (٢) ، فرأينا ظِباءً فأرسلنا عليها الصُقورة والكِلاب ، فجاوَلتها (٣) ساعةً ثمّ لَجَأتِ (٤) الظِباء إلى أكمةٍ فسَقَطَتْ عليها فسَقَطَتِ الصُقورةُ ناحيةً ورَجَعتِ الكِلابُ ، فعَجب (٥)

ــــــــــــــــــ

تاريخ بغداد ١٠ : ٣١٥ ، انساب السمعاني ٩ : ١٠٦ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٥٥٠ ، لسان الميزان ٥ : ١٦٨ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٤٥.

هذا لكن يبعّد صحة هذه النسخة ما في متن الخبر : قال محمد بن عائشة : فكأنّ قلبي لم يقبل ذلك .. الخ ، فحينئذ امّا ان يلتزم بوقوع التحريف في ذيل الخبر وامّا ان يقال انّ المراد من محمد بن عائشة في الذيل هو عبيدالله بن محمد بن عاشة واطلق عليه اسم ابيه مجازاً كما في محمد بن عمر بن يزيد ،. وامّا ان يقال بانْ الصواب هو محمد ابن عبيدالله بن محمد بن عائشة ولا مانع من رواية الغلابي عنه مع روايته عن ابيه عبيدالله ، والغلابي توفي بعد سنة ٢٨٠ ، وعبيداللّه بن عائشة توفي سنة ٢٢٨ فبين وفاتيهما اكثر من خمسين سنة فيناسب رواية الغلابي عن ابنه ايضاً ، وفي لسان الميزان : قال الغلابي : حدثنا ابن عائشة عن ابيه ، فيحتمل كون المراد من ابن عائشة هو محمد ابن عبيدالله ، فلاحظ.

(١) كذا في « م » وفرحة الغري والبحار والدلائل البرهانية ، ونقله في فرحة الغري بطريق آخر عن عبيداللّه بن محمد بن عائشة قال : حدثنا عبداللّه بن حازم بن خزيمة ، لكن في نسخة « ش » : خازم باعجام الخاء ، وهو الصحيح ، وقد جاء ذكره في احداث خلافة المهدي والرشيد والأمين.

فقد كان على شرط المهدي سنة ١٦٧ وعزله في سنة ١٦٩ ( تاريخ الطبري ٨ : ١٦٤ و ١٨٩ ).

وولاه الرشيد طبرستان ورويان سنة ١٨٠ ( تاريخ الطبري ٨ : ٢٦٦ ).

وله ذكر في احداث سنة ١٩٥ في عهد الأمين ( تاريخ الطبري ٨ : ٣٩٥ ، ٩٩٣ ، ٤١٢. وسنة ١٩٧ ( تاريخ الطبري ٨ : ٤٦٧ ) ٠ انظر فهرست تاريخ الطبري ١٠ : ٣٠٦.

(٢) الثوية : موضع قريب من الكوفة. « معجم البلدان ٢ : ٨٧ ».

(٣) في هامش « ش » : فجاولناها.

(٤) في « م » وهامش « ش » : التجأت.

(٥) في « م » وهامش « ش » : فتعجب.


الرشيد من ذلك ، ثمّ إنّ الظِباء هَبطَتْ من الأكَمَةِ فهبَطَتْ الصُقورةُ والكِلابُ ، فرَجَعت الظِباء إلى الأَكمة فتراجعتْ عنها الكلاب والصُقورة ، ففعلت (١) ذلك ثَلاثا (٢) ، فقال الرشيد : أًرْكُضُوا ، فمن لقيتموه فأتوني به ، فأتيناه بشيخ من بني أسَد ، فقال له هارون : أخبرني ما هذه الأكمة؟ قال : إن جعلتَ لي الأمان أخبرتُك. قال : لك عهدُ اللّه وميثاقه ألاّ اهِيجَك ولا أؤذِيك. قال : حدّثني أبي عن آبائي أنّهم كانوا يقولون أنّ في هذه الأكَمَةِ قبرَعليّ بن أبي طالب 7 ، جعله (٣) الله حَرَماً لا يأوِي إليه شيءٌ إلاّ أمِن. فنزل هارون فدعا بماء وتوضّأ وصلّى عند الاكمَة وتمرَّغَ عليها وجعل يَبْكي ، ثمّ انصرفنا.

قال محمّد بن عائشة : فكأنَّ قلبي لم يقبل ذلك ، فلمّا كان بعد ذلك حججتُ إلى مكة ، فرأيتُ بها ياسراً رحّال (٤) الرشيد ، فكان يجلس معنا إذا طُفنا ، فجرى الحديث إلى ان قال :

قال لي الرشيد ليلةً من الليالي ، وقد قَدِمنا من مكةّ فنزلنا الكوفة : يا ياسر ، قل لعيسى بن جعفرفليركب ، فركبا جميعاً وركبت معهما ، حتى إذا صِرنا (٥) إلى الغَرِيّن ، فامّا عيسى فطرح نفسَه فنام ، وأمّا الرشيد فجاء إلى أكمَةٍ فصلّى عندها ، فكلّما صَلّى ركعتين دعا وبكى وتمرّغ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : ففعلن.

(٢) في هامش « ش » : ملياً.

(٣) في هامش « ش » : جعلها.

(٤) في « م » : جمّال.

(٥) في هامش « ش » : صارا.


على الأكَمَةِ ، ثم يقول : يا عمّ (١) أنا والله أعْرِف فضلَك وسابقتَك ، وبك والله جلستُ مجلسي الذي ( أنا فيه ) (٢) ، وأنت أنت ، ولكنَّ ولدَك يؤذونني ويخرُجون عليّ. ثمّ يقوم فيُصلّي ثم يعيد هذا الكلام ويدعو ويبكي ، حتّى إذا كان في وقت السحر قال لي : يا ياسر ، أقِمْ عيسى ، فأقمته فقال له : يا عيسى ، قم صَلِّ عند قبر ابن عمّك. قال له : وأيًّ عُمومتي هذا؟ قال : هذا قبرُ عليّ بن أبي طالب ، فتوضّأ عيسى وقام يُصلّي ، فلم يَزالا كذلك حتّى طلع الفجر ، فقلت : يا أمير المؤمنين أدركَك الصبحُ. فركِبنا ورَجَعنا إلى الكوفة (٣).

* * *

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : يا بن عم.

(٢) في هامش « ش » : أنا به.

(٣) فرحة الغري : ١١٩ ، والخرائج والجرائح ١ : ٢٣٤ / ذيل الحديث ٧٨ قطعة منه ، الدلائل البرهانية المطبوع في الغارات ٢ / ٨٦٢ ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ٣٣١ ذيل ح ١٦.


باب

طرف من أخبار أمير المؤمنين 7

وفضائله ومناقبه ، والمحفوظ من كلامه وحِكمه ومواعظه ،

والمرويّ من معجزاته وقضاياه وبيّناته :

فمن ذلك ما جاءت به الأخبار في تقدّم إيمانه باللّه ورسوله 7 وسبقهِ به كافَةَ المكلفين من الأنام.

أخبرني أبو الجَيْش المظفّر بن محمّد البَلْخي قال : أخبرنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن أبي الثَلْج قال : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن القاسمِ البرتي (١) قال : حدَّثنا عبدُ الرحمن بن صالح الأزْدي قال : حدّثنا سعيد بن خُثَيْم قال : حدّثني أسَد بن ( عبداللّه ) (٢) ، عن يحيى بن عَفيف (٣) ، عن أبيه قال :

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » بخط حديث و « ش » : البرقي وفي هامش « ش » : البرتي وكأن فوقه علامة التصحيح ـ وقد يأتي في السندين الآتيين اسمه أيضاً وفي « م » و « ش » كليهما : البرتي ـ فان الظاهر أنّه أحمد ابن القاسم بن محمد بن سليمان أبو الحسن الطائي البرتي ، وقد ترجم له في تاريخ بغداد ٤ : ٣٥٠ وذكر وفاته في سنة ٢٩٦ ، ثم إنْ في هامش « ش » برْت : قرية بالعراق على القاطول خربة. وفي معجم البلدان ا : ٣٧٢ : هي بليدة في سواد بغداد قريبة من المزرَفَة هـ وفي انساب السمعاني ٢ : ١٢٧ : هي مدينة بنواحي بغداد.

(٢) في « ش » و « ح » : اسد بن عبيدة ، وفي هامش « ش » : هو اسد بن عبيدة كذا هو في كتاب ابن مردويه ، والظاهر ان الصواب ما اثبتناه ، وهو اسد بن عبدالله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري البجلي القسري ، ابوعبدالله ، ويقال : ابو المنذر ، ولاه اخوه خالد ابن عبدالله القسري على خراسان سنة ١٠٨ هـ ، روى عن ابيه وعن يحيى بن عفيف وعنه سعيد بن خثيم وسالم بن قتيبة الباهلي ، توفي سنة ١٢٠ س ، انظر « تهذيب الكمال ٢ : ٥٠٤ / ٣٩٩ ، ميزان الاعتدال ١ : ٢٠٦ / ٨١٢ و ٤ : ٣٩٦ / ٩٥٨٩ ».

(٣) في هامش « ش » : هوعفيف بن قيس.


كنتُ جالساً مع العبّاس بن عبد المطّلب 2 بمكّة قبل أن يظهرَأمرُ النبي 9 فجاء شابّ فنَظَرإلى السماء حين تحلّقتِ (١) الشمسُ ، ثمّ استقبلَ الكعبةَ فقام يُصلّي ، ثمّ جاء غلامٌ فقام عن يمينه ، ثمّ جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما ، فرَكَع الشابًّ فرَكَع الغلامُ والمرأة ، ثمّ رَفَع الشابًّ فرفعا ، ثمّ سَجَدَ الشابُّ فسجدا ، فقلت : يا عبّاس ، أمر عظيم. فقال العبّاسُ : أمر عظيم ، أتَدْري مَنْ هذا الشابّ؟ هذا محمّد بن عبداللّه ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام؟ هذا عليّ بن أبي طالب ـ ابنُ أخي ـ أتَدْري مَنْ هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنّ ابن أخي هذا حدّثني أنّ ربَّه ـ ربُّ السموات والأرض ـ أمَرَه بهذا الدين الذي هوعليه ، ولا واللّه ما على ظَهْر الأرض على هذا الدين غيرُهؤلاء الثلاثة (٢).

أخبرني أبوحَفْص عُمَر بن محمّد الصيرفي قال : حدثنا محمّد بن أحمد بن أبي الثَلْج ، عن أحمد بن القاسم البرتي ، عن أبي صالح سَهْل بن صالح ـ وكان قد جاز مائة سنة ـ قال : سمعتُ أبا المعمّر عبّاد بن عبد الصمد قال : سمعتُ أنَسَ بن مالك يقول : قال رسول الله 9 : « صَلّتِ الملائكة عليَّ وعَلى عليٍّ سبعَ سنين » وذلك أنه لم يُرْفَع إلى

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : تحلقت : ارتفعت.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٣١١ ، كنز الفوائد ١ : ٢٦٢ ، مصباح الانوار : ٧٥ ، كفاية الطالب : ١٢٨ ، مناقب الخوارزمي : ٥٥ / ٢١ ، وورد باختلاف يسير في مسند أحمد ١ : ٢٠٩ ، الضعفاء الكبير للعقيلي ١ : ٢٧ وهامشه ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٨٣ ، الاصابة ٢ : ٤٨٧ ، الاستيعاب ٣ : ٣٢ ، مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ١٨ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٥٧ ، اعلام الورى : ٤٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٨ : ٢٤٤ / ذح ٤٠.


السماء شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله إلاّّ منّي ومن عليّ » (١).

وبهذا الاسناد عن أحمد بن القاسم البرتي قال : حدّثنا إسحاق قال : حدّثنا نوح بن قَيْس قال : حدّثنا سليمان بن عليّ الهاشمي ـ أبوفاطمة ـ قال. سمعت مُعاذة العَدَويّة تقول : سمعتُ علياً 7 على منبرالبصرة يقول : » أنا الصدّيق الأكبر ، آمنتُ قبل أن يؤُمِنَ أبو بكر ، واسلمتُ قبل ان يسلم » (٢).

أخبرني أبو نَصْر محمّد بن الحسين الُمقرِئ البصير ( السِيرَواني ) (٣) قال : حدَّثنا أبو بكر محمّد بن أبي الثَلجْ قال : حدَّثنا أبو محمّد النَوْفَلي ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن عمروبن عبد الغفّار الفُقَيْمي قال : أخبرني إبراهيم بن حَيّان ، عن أبي عبدالله ـ مولى بني هاشم ـ عن أبي سُخَيْلة قال : خرجت أنا وعمارحاجّين ، فنزلنا عند أبي ذرّ فأقَمْنا عنده ثلاثةَ أيام ، فلمّا دنا منّا الخُفوف (٤) قلت له : يا أباذرّ ، إنّا لا نَراه إلاّّ وقد دنا الاختلاط من الناس ، فما ترى؟ قال : اِلزَمْ كتابَ الله وعليَّ بن أبي طالب ، فأشْهَدُ على رسول اللّه 9 أنَه قال : « عليّ أوّلُ من

ــــــــــــــــــ

(١) الفصول المختارة : ٢١٥ ، مصباح الانوار : ٧٥ ، مناقب ابن المغازلي : ١٤ ، إعلام الورى : ١٨٥ ، مناقب الخوارزمي : ١٧ / ٥٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٨ : ٢٢٦ / ٣١.

(٢) الفصول المختارة : ٢١٠ ، أنساب الاشراف ٢ : ١٤٦ ، كنز الفوائد ١ : ٢٦٥ ، مناقب ابن شهر آشوب٢ : ٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٨ : ٢٢٦ / ٣٢.

(٣) في « ح » : الشيرواني باعجام الشين ويحتمل صحة كليهما بان يكون السيرواني تعريباً للشيرواني ، فقد يعبر باسمه الاصلي وقد يعبر باسمه المعرَب.

(٤) خفّ القوم : ارتحلوا « القاموس المحيط ـ خفف ـ ٣ : ١٣٦ ».


آمن بي ، وأوّلُ من يُصافحني يومَ القيامة ، وهو الصِدِّيق الأكبر ، والفاروق بينَ الحقّ والباطل ، وإنّه يَعْسُوب (١) المؤمنين ، والمال يَعْسُوب الظَلَمة (٢).

قال الشيخ المفيد (٣) : والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، وشواهدها جَمَّة ، فمن ذلك : قول خُزَيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتين ـ رحمة اللّه عليه ـ فيما أخبَرني به أبو عبيداللّه محمّد بن عِمْران المَرزْبانيّ ، عن محمّد بن العبّاس قال : أنشدنا محمّد بن يزيد النحوي ، عن ابن عائشة لخُزَيمة بن ثابت الأنصاري 2 :

ما كنتً أحسبُ ( هذا الأمرَمُنْصَرِفاً ) (٤)

عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أوّلَ منْ صلّى لِقِبْلَتهم

وأعرفَ الناسِ بالاثار (٥) والسُنَن

واخِرَ الناس عَهداً بالنبيّ ومَنْ

جبريلُ عَوْنٌ له في الغَسْل والكَفَن

مَنْ فيه ما فيهمُ لايمترون به

وليس في القوم مافيه مِنَ الحَسَن

ماذا الذي رَدَّكم عنه فنَعْلَمه (٦)

ها إنَ بَيْعَتَكم من ( أغبن الغَبَن ) (٧) (٨)

ــــــــــــــــــ

(١) اليعسوب : الرئيس الكبير ، « القاموس ـ عسب ـ ١ : ١٠٤ ».

(٢) أنساب الاشراف ٢ : ١١٨ ، امالي الصدوق : ١٧١ / ٥ ، امالي الطوسي ١ : ١٤٧ ، اختيار معرفة الرجال ١ : ١١٣ / ٥١ ، مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ٣١٥ ، اليقين : ٢٠٠ ، باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٨ : ٢١٠ ذيل ح ١٠.

(٣) في « م » زيادة : أدام تاييده.

(٤) في « م » وهامش « ش » : ان الامر منصرف.

(٥) في هامش « ش » : بالآيات.

(٦) في هامش « م » : لنعلمه.

(٧) في هامش « ش » و « م » : أول الفتن.

(٨) رواه سليم بن قيس في كتابه : ٧٨ ، والأربلي في كشف الغمة ١ : ٦٧ ، وفيهما : عن العباس ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤ عن عتبة بن أبي لهب ، والجمل : ٥٨ ، عن عبدالله بن ابي سفيان


فصل

ومن ذلك ما جاء في فضله 7 على الكافّة في العلم :

أخبَرني أبو الحسن محمّد بن جعفر التَميمي النَحْوي قال : حدّثنا محمّد بن القاسم المُحارِبي البَزّاز قال : حدَّثنا هِشام بن يونس النَهْشَلي قال : حدّثنا عائذُ بن حَبيب ، عن أبي الصباح الكِناني ، عن محمّد بن عبد الرحمن السُلَمي ، عن أبيه ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللة 9 : « عليُّ بن أبي طالب أعلمُ اُمّتي ، وأقضاهم فيما اختلفوا فيه من بعدي » (١).

أخبرني أبو بكر محمد بن عُمَر الجعابيّ قال : حدّثنا أحمد بن عيسى أبو جعفر العِجْلي قال : حدَّثنا إسماعيل بن عبدالله بن خالد قال : حدَثنا عبيداللّه ابن عمرو الرقيّ (٢) قال : حدَّثنا عبدالله بن محمّد بن عَقيل ، عن حمزة بن أبي سعيد الخُدْري (٣) ، عن أبيه قال : سمعتُ رسولَ الله 9 يقول : « أنا مدينة العلم وعلي بابُها ، فمن أراد العلمَ فليقتبسه مِنْ علي » (٤).

أخبَرني أبو بكر محمّد بن عُمَر الجِعابي قال : حدَّثنا يوسف بن

ــــــــــــــــــ

ابن الحارث بن عبد المطلب ، والفصول المختارة : ٢١٦ عن ربيعة بن الحارث ، وكنز الفوائد ١ : ٢٦٧ عن سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

(١) أمالي الصدوق : ٣٩٧ / ٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ١٤٣ / ٤٩.

(٢) ليس في متن « ش » و « م » و « ح » كلمة الرقي ، وانما اضيفت في هامش « ش » و « م » تصحيحاً.

(٣) في « ش » : عن حمزة ، عن ابي سعيد الخدري.

(٤) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٠٢ / ٧.


الحَكَم الحنّاط قال : حدَّثنا داود بن رُشَيْد قال : حدَّثنا سَلمَة بن صالح الأحمر ، عن عبد المَلِك بن عبد الرحمن ، عن الأشْعَث بن طَليقٍ قال : سمعتُ الحسنَ العُرَني يُحدِّث عن مُرّةٍ ، عن عبدالله بن مسعود قال : استدعى رسول اللّه 9 علياً فخلا به ، فلمّا خَرَج إلينا سألناه ما الذي عَهِدَ اليك؟ فقال : « علّمني ألفَ باب من العلم ، فَتَحَ لي كلًّ بابٍ ألفَ باب » (١).

أخبرني أبو الحسين محمّد بن المُظَفّر البَزّاز (٢) قال : حدَّثنا أبو مالك كثير بن يحيى قال : حدَّثنا أبو جعفر محمّد بن أبي السَرِيّ قال : حدَّثنا أحمد ابن عبداللّه بن يونس ، عن سعدٍ الكناني ، عن الأصْبَغ بن نُباتة قال : لما بويع أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب 7 بالخلافة خرج إلى المسجد مُعْتَمّاً بعِمامة رسولِ اللّه 9 ، لابِساً بُرْدَيه (٣) ، فصَعِد المِنْبَر فحمد اللّه وأثنى عليه ووَعَظ وأنذر ، ثمّ جلس مُتَمكِّناً وشَبَّك بين

ــــــــــــــــــ

(١) اعلام الورى : ١٦٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ١٤٤ / ٥٠.

(٢) في متن « ش » و « م » : أبوبكر ، وفي « ح » : أبو الجيش وقد صحح أبو بكر بأبي الحسين في هامش « ش » و « م » وقد جعل على أبي بكر في « ش » علامة الزيادة ، وكتب في هامشها معلماً بعلامة ( س ) ووجدت في نسخة منقوِلة ممّا قرئ على الشيخ : أبو الحسين محمد بن المظفر البزاز في عدة مواضع فهو الصحيح ، وأيضاَ كتب في هامشها : أبو الحسين الحافظ البغدادي وكان معاصراً للدار قطني ويعرف أبو الحسين بالبزاز الاشهب وهو محمد بن المظفر بن موسى بن عيسى ، انتهى.

وتوجد هذه الحاشية في هامش « م » أيضاً لكن محي اكثره.

وعلى أي حال أبو الحسين البزاز مترجم في تاريخ بغداد ٢ / ٢٦٢ وذكر ولادته سنة ٢٨٦ ووفاته سنة ٣٧٩ وقال : حدثني أبو بكر البرقاني قال : كتب الدارقطني عن ابن المظفر ألف حديث ، والف حديث ، والف حديث ، فعدّد ذلك مرّات.

(٣) في هامش « ش » : بردته.


أصابعه ووَضَعَها أسفل سُرته (١) ، ثمّ قال :

« يا مَعْشَر الناس ، سَلوُني قبل أن تفقدوني ، سلوني فإنّ عندي علمَ الأوّلين والآخِرين. أما ـ واللّه ـ لو ثُنيَ لي الوِساد (٢) ، لحكمتُ بينَ أهلِ التوراة بتَوْراتهم ، وبينَ أهلِ الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزَبور بزَبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم ، حتى يَزْهَرَ (٣) كل كتاب من هذه الكُتُب ويقول : يا ربّ إنّ عليّاً قَضى بقضائك. واللّه إنّي أعْلَمُ بالقران وتأوِيله من كلّ مُدعٍ علْمَه ، ولولا آيةٌ في كتاب اللّه لأخْبَرْتُكم بما يكون إلى يوم القيامة » ـ ثمّ قال ـ : « سلوني قبل أن تَفْقِدُوني ، فوالّذي فَلَق الحبّة وبَرَأ النَسَمة ، لو سألتموني عن آية آية ، لأخبرتُكم بوقت نزولها وفي مَنْ (٤) نَزَلَتْ ، وأنبأتًكم بناسخها من منسوخها ، وخاصِّها من عامّها ، ومُحْكَمها من متَشابهها ، ومكيّها من مدنيّها. والله ما فئةٌ ( تُضَلّ أو تُهْدى ) (٥) إلاّ وأنا أعرف قائدَها وسائقها وناعقَها إلى يوم القيامة » (٦).

في أمثال هذه الأخبار ممّا يطول به الكتاب.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » : بطنه.

(٢) في هامش « ش » و « م » : الوسادة.

(٣) في هامش « ش » و « م » : ينطق.

(٤) في « م » وهامش « ش » : وفيم.

(٥) في « م » وهامش « ش » : تَضِل أو تَهدِي.

(٦) التوحيد : ٣٠٤ ، امالي الصدوق : ٢٨٠ ، الاختصاص : ٢٣٥ ، مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ٣٨ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ١٤٤ / ٥١.


فصل

ومن ذلك ماجاء في فضله 7 :

أخبرني أبو الحسين محمّد بن المُظَفّر البَزّاز قال : حدَّثنا عُمَر بن عبداللّه ابن عِمْران قال : حدَّثنا أحمد بن بَشير قال : حدَّثنا عبيدالله بن موسى ، ( عن قَيْس ، عن أبي هارون ) (١) قال : أتيت أبا سعيد الخدْري ; فقلت : هل شَهِدْتَ بَدْراً؟ فقال : نعم. قال : سَمِعتُ رسولَ اللّه 9 يقول لفاطمةَ وقد جاءَتْه ذاتَ يوم تبكي وتقول : « يا رسولَ الله عَيّرتْني نساءُ قُريش بفقر عليّ. فقال لها النبي 9 : أما ترضَيْن يافاطمة ـ أني زوّجتُك أقدمَهم سِلْماً ، وأكثرَهم علماً ، إنّ اللّه اطَّلع إلى اهل الأرض اطلاعةً فاختارمنهم أباك فجعله نبيّاً ، واطّلع إليهم ثانيةً فاختارمنهم بَعْلَك فجعله وصيّاً ، وأوحى إليَّ أن ( أًنكحَكِ إيّاه ) (٢). أما عَلِمْتِ يا فاطمة أنّك بكرامة اللّه إياك زوّجْتُكِ (٣) أعظمَهم حلماً ، وأكثرهَم علماً ، وأقدمَهم سِلماً ».

فضَحِكتْ فاطمة 3 واستبشرتْ ، فقال لها رسولُ الله صلّى

ــــــــــــــــــ

(١) كذا في « ش » و « م » وفي هامش « ش » : قيس بن أبي هارون ( ج ) ، وقد جعل فوق قيس عن أبي هارون في المتن علامة التصحيح مرتين ، وفي هامش « ح » و « م » : هو قيس بن الربيع كوفي كثير الرواية عن أبي هارون العبدي وهوتابعي. روى عن أبي سعيد ، ثم إنّ في نسخة « ح » : عبيدالله بن موسى عن قيس أبي هارون.

(٢) في هامش « ش » : انكحكه هو.

(٣) في « م » و « ح » : زوّجك.


اللّه عليه واله : « يافاطمة ، إنّ لعليٍّ ثمانيةَ أضراس قواطِعَ لم تجعل لأحدٍ من الأوّلين والآخرين : هو أخي في الدنيا والآخرة ليس ذلك لغيره من الناس ، وأنت ـ يا فاطمة ـ سيّدةُ نساء أهل الجنة زوجتُه ، وسِبْطا الرحمة سبطاي ولده (١) ، وأخوُه المُزَيّن بالجَناحين فِى الجنّة يَطير مع الملائكة حيث يشاء ، وعنده علمُ الأوّلين والاخرين ، وهو أوّلُ من آمن بي واخِرُ الناس عهداً بي ، وهو وصيّي ووارثُ الأوصياء (٢) » (٣).

قال الشيخ المفيد : وجدتُ في كتاب أبي جعفر محمّد بن العبّاس الرازي : حدَّثنا محمّد بن خالد قال : حدَّثنا إبرهيم بن عبداللّه قال : حدَّثنا محمّد ابن سليمان الديلمي ، عن جابر بن يزيد الجُعفىِ ، عن عَدِيّ بن حَكِيم عن عبدالله بن العبّاس قال : قال : لنا أهل البيت سبعُ خِصالٍ ، ما منهنّ خصْلةٌ في الناس : منّا النبي 9 ، ومنّا الوصيّ خيرُ الأمّة بعده عليّ بن أبي طالب ، ومنّا حمزةُ أسد اللّه وأسدُ رسوله وسيّد الشهداء ، ومنّا جعفرُ بن أبي طالب المُزَيّن بالجَناحين يَطير بهما في الجنّة حيث يشاء ، ومنّا سِبْطا هذه الأمّة وسَيّدا شَباب أهل الجنة الحسن والحسين ، ومنّا قائمُ آل محمّد الذي أكرم اللّه به نبيّه ، ومنّا المنصور (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : ولداه.

(٢) في هامش « ش » : الوصيين.

(٣) اشار الى قطعة منه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ : ١٠١ ، ونقله الطبرسي في إعلام الورى : ١٦٤ ، والعلامة المجلسي في البحار٤٠ : ١٧ / ٣٤.

(٤) ورد نحوه في الخصال : ٣٢٠ ومصباح الأنوار : ١٥٨ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٧ : ٤٨ / ٢٥ وقال ( ره ) : « لعل المراد بالمنصور ايضأ القائم 7 بقرينة ان بالقائم يتم السبع ويحتمل ان يكون المراد به الحسين 7 فانه منصور في الرجعة » وفسّره في هامش ( م ) : « اَيْ ونحن المنصورون لانا جند الله قال اللّه تعالى : ( وانهم لهم المنصورون ).


وروى محمّد بن أَيْمَن (١) ، عن أبي حازِم ـ مولى ابنِ عبّاس ـ عن ابن عباس قال : قال رسولُ اللّه 9 لعليّ بن أبي طالب 7 : « يا عليّ ، إنّك تُخاصَم فتَخْصِمُ بسبع خصالٍ ليس لأحد مثلهن : انت أوّلُ المؤمنين معي إيماناً ، وأعظمهُم جهاداً ، وأعلمُهم بآيات (٢) اللّه ، وأوفاهم بعهدِ الله ، وأرأفهُم بالرعية ، وأقسمُهم بالسويّة ، وأعظمهُم عند اللّه مزية » (٣).

في أمثال هذه الأخبار ومعانيها ، ممّا هي أشهر عند الخاصّة والعامّة من أن يحتاجَ فيها إلى إطالة خُطَب (٤). ولو لم يكن منها إلاّ ما انتَشَر ذكرُه ، واشتهرت الرواية به من حديث الطائر ، وقول النبي 9 : « اللهَمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك ، يأكُل معي من هذا الطائر » (٥) فجاء أميرُ المؤمنين 7 لكفى ، إذ كان أحب الخلق إلى اللّه تعالى ، وأعظمَهم ثواباً عنده ، وأكثرَهم قُرباً إليه ، وأفضلهم عملاً له.

وفي قول جابر بن عبداللّه الأنصاري ، وقد سُئل عن أمير المؤمنين

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش نسخة « ش » : وهو محمد بن اسحاق بن يسار ، وقبره ببغداد ولعل كلمة ( أيمن ) كانت قد صحفت : باسحاق ، فهذه الحاشية تفسير لتلك العبارة المصحفة ولذلك جعل على كلمة ( ايمن ) علامة التصحيح.

(٢) في « م » وهامش « ش » : بأيام.

(٣) رواه عماد الدين الطبري في بشارة المصطفى : ٢٧١ ، وورد باختلاف في الفاظه في الخصال : ٣٦٣ / ٥٤ ، ومصباح الانوار : ١١٥ ، وكفاية الطالب : ٢٧٠ عن معاذ بن جبل ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ١٧ / ٣٥.

(٤) في هامش « ش » : شرح.

(٥) حديث الطائر من الاحاديث المشهورة التي جاوزت اسانيدها المئات والتي افردت بالتأليف من قبل جماعة من الحفاظ من كلا الفريقين ، انظر على سبيل المثال مجلد حديث الطيرمن كتاب عبقات الانوار.


7 فقال : « ذاك خيرُ البَشرَ ، لا يَشُكّ فيه إلاّ كافر » (١) حجةٌ واضحة فيما قدّمناه ، وقد أسْنَد ذلك جابرٌ في رواية جاءت بأسانيد متّصلة معروفة عند أهل النقل (٢).

والأدلّةُ على أنّ أميرَ المؤمنين 7 أفضلُ الناس بعد رسول اللّه 9 متناصرةٌ ، لو قَصَدنا إلى إثباتها (٣) لأفردنا لها كتاباً ، وفيما رَسَمناه من الخبر بذلك مُقنع فيما قصدناه من الاختصار ، ووضعِه فِى مكانه من هذا الكتاب.

فصل

ومن ذلك ماجاء من الخبر بأنّ

محّبته 7 عَلَمٌ على الإيمان وبغضه عَلَم على النفاق :

حدَّثنا أبو بكر محمّد بن عُمَر المعروف بابن الجِعابي الحافظ قال : حدَّثنا محمد بن سَهْل بن الحسن قال : حدثنا أحمد بن عُمَر الدِهْقان قال : حدَّثنا محمد بن كثيرقال : حدَّثنا إسماعيل بن مُسْلِم قال : حدَّثنا الأعْمَش ، عن عَدِيّ بن ثابت ، عن زِرّ بن حُبَيْش قال : رأيتُ أميرَ المؤمنين

ــــــــــــــــــ

(١) امالي الصدوق : ٧١ / ٧ ، مصباح الانوار : ١٢٥ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٦٧ ، كفاية الطالب : ٢٤٦ وفيه عن عائشة.

(٢) انظر على سبيل المثال انساب الاشراف ٢ : ١١٣ / ٥٠ ، تاريخ بغداد ٧ : ٤٢١ ، تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام علي 7 ـ ٢ : ٤٤٥ / ٩٥٨ ـ ٩٦٢ ، اللآلي ١ : ٣٢٨ ، منتخب كنزالعمال ٥ : ٣٥.

(٣) في « م » : انتهائها.


علي بن أبي طالب 7 على المنبر ، فسَمِعته يقول : « والذي فَلَق الحبة وبرأ النَسَمة ، إنّه لعهد النبي 9 إليّ أنّه لا يُحبُّك إلاّ مؤمن ولا يُبْغِضُك إلاّ منافقٌ » (١).

أخبرني أبو عبيداللّه محمّد بن عمران المرَزباني قال : حدَّثنا عبدالله بن محمّد بن عبد العزيز البَغَوِيّ قال : حدَّثنا عبيداللّه بن عُمَر القَوارِيري قال : حدَّثنا جعفر بن سُليمان قال : حدَّثنا النَضْر بن حُمَيد ، عن أبي الجارُود ، عن الحارث الهَمْداني قال : رأيتُ علياً 7 جاء حتّى صَعِد المِنْبَر ، فحَمد اللّه وأثنى عليه ثمِّ قال : « قضاءٌ قضاه اللّه عزّوجلّ على لسان النبي (٢) الاميّ 9 أنّه لا يُحبّني إلاّ مؤمنٌ ، ولا يُبْغضني إلاّ منافق ، وقد خاب مَن افترى » (٣).

أخبرني أبو الحسين محمّد بن المظفَّر البَزّاز ، قال : حدَّثنا محمّد بن يحيى ، قال : حدَّثنا محمّد بن موسى البَربَري ، قال : حدَّثنا خَلَف بن سالم ، قال : حدَّثنا وكيع ، قال : حدَّثنا الأعْمَش ، عن عديّ بن ثابِت ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن أمير المؤمنين 7 قال : « عَهِدَ إليّ رسول اللّه 9 : إنّه لا يُحَّبك إلاّ مؤمنٌ ، ولا يُبْغِضُك إلاّ منافق » (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ٨٦ / ١٣١ ، سنن الترمذي ٥ : ٩٠٦ / ٣٨١٩ ، خصائص النسائي : ٨٣ / ٩٥ ، كنز الفوائد ٢ : ٨٣ ، مناقب آل ابي طالب ٣ : ٢٠٦ ، بشارة المصطفى : ٦٤ و ٧٦ ، كفاية الطالب : ٦٨ ، فتح الباري ٧ : ٥٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٩ : ٢٥٥ / ٢٨.

(٢) في هامش « ش « و « م » : نبيّكم.

(٣) مسند أبي يعلى الموصلي ١ : ٣٤٧ ، وكنز الفوائد ٢ : ٨٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٩ : ٢٥٥ / ٢٩.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٩٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٢ / ١١٤ ، سنن النسائي ٨ :


فصل

ومن ذلك ما جاء في أنّه 7 وشيعتُه هم الفائزون :

أخبرني أبوعبَيدالله محمّد بن عمران المرزباني ، قال : حدَّثني عليّ بن محمّد بن عُبَيد الحافظ (١) قال : حدَّثنا عليّ بن الحسين بن عُبَيد الكوفي قال : حدَّثنا إسماعيل بن أبان ، عن سَعد بن طالب (٢) ، عن جابر بن يزيد ، عن محمّد بن عليّ الباقر 8 قال : « سُئِلتْ أمُّ سَلَمة زوجُ النبي 9 عن علي بن أبي طالب 7 فقالت : سَمِعْتُ رسولَ اللّه 9 يقول : إنّ علياً وشيعتَه هم

ــــــــــــــــــ

١٧١ ، خصائص النسائي : ٨٣ / ٩٦ ، ٩٧ تاريخ بغداد ٢ : ٢٥٥ و ١٤ : ٤٢٦ ، الاستيعاب ٣ : ٣٧ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٢٠٦ ، بشارة المصطفى : ١٤٨ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الانوار ٣٩ : ٢٥٥ / ٣٠.

(١) في النسخ : علي بن عمر بن عبيدالله الحافظ لكن يأتي سند مشابه عن قريب وكان فيه في نسختي « ش » و « م » عبيدالله فصحح في الهامش بعبيد ، بل صرح في هامش « م » بانه عبيد لا غير ، وفي « ح » هناك عبيد من دون تردد والظاهر غفلة النساخ من تصحيح عبارة السند هنا ولذلك صححناه فان الظاهر كونه علي بن محمد بن عبيد اللة بن عبداللّه الحافظ البزاز مات في شوال سنة ثلاثين وثلاث مائة ، وله ثمان وسبعون سنة. انظر « تاريخ بغداد ١٢ : ٧٣ ، تذكرة الحفاظ ٣ : ٨٣٦ ، العبر ٢ : ٣٧ ، طبقات الحفاظ : ٣٤٨ / ٧٨٦ ».

(٢) في هامش « ش » : لعله سعد بن طريف ، وفي هامش « م » : في نسخة : سعد بن طريف وكأن فوق العبارة في هامش « ش » علامة الزيادة ، ولعلّ متن « ش » كان في الاصل سعد عن طالب ولذلك فسّر سعد في الهامش مما فسّر ، ثم صحح عبارة المتن فحذف ما في الهامش ، وامّا ناسخ نسخة « م » فاخذ هذه العبارة وظنها نسخة ، ثم ان في هامش « ش » ينقل عن نسخة : سعيد.


الفائزون » (١).

أخبرني أبوعبيد الله محمّد بن عِمران قال : حدَّثني أحمد بن محمّد الجَوْهري قال : حدّثَني محمّد بن هارون بن عيسى الهاشمي قال : حدَّثنا تمَيم بن محمَّد بن العلاءِ : قال : حدَّثنا عبد الرزاق قال : اخبرنا يحيى بن العلاء ، عن سعد بن طَريف ، عن الأَصبغ بن نُباتة ، عن علي 7 قال : « قال رسول اللّه 9 : إن للّه تعالى قضيباً من ياقوت أحمَر لا يناله إلاّ نحن وشيعتنا ، وسائر الناس منه بريئون » (٢).

أخبرنا أبو عُبَيدالله قال : حدَّثني عليّ بن محمّد بن عُبَيد الحافظ قال : حدَّثنا علي بن الحسين بن عُبَيد الكوفي قال : حدَّثنا إسماعيل بن أبان ، عن عمرو بن حُرَيث ، عن داود بن السُليك (٣) ، عن أنَس بن مالك قال : قال رسولُ الله 9 : « يدْخُل الجنةَ من اُمّتي سبعون ألفاً لا حسابَ عليهم ولا عَذاب ، قال : ثمّ التفتَ إلى علي 7 فقال : هم شيعتُك وأنت إمامُهم » (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام علي بن ابي طالب 7 ـ ٢ : ٣٤٨ / ٨٥١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٦٨ : ٣١ / ٦٤.

(٢) نقله العلامة المجلسي في البحار ٦٨ : ٥١ / ٦٣.

(٣) في هامش « ش » و « م » : كذا كان فيما قرئ على الشيخ ، وفي هامش آخرلـ « ش » عن نسخة : السليل ، وكذلك في متن « ح » وهامش « م » ولكن صححه وذكر نسخة اخرى : السكيك. والمذكور في كتب الرجال : داود بن سليك ـ بدون اللام ـ السعدى. انظر : تاريخ البخاري ٣ : ٢٤٢ ، الجرح والتعديل ٣ : ٤١٥ ، تهذيب التهذيب ٣ : ١٨٦.

(٤) مناقب ابن المغازلي : ٢٩٣ ، مصباح الأنوار : ١٣٨ ، إعلام الورى : ١٦٥ ، بشارة المصطفى : ١٦٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٦٨ : ٣١ / ٦٦.


أخبرني أبو عبيدالله قال : حدَّثني ( أحمدُ بن عيسى الكرخي ) (١) قال : حدَّثنا أبو العَيْناء محمّد بن القاسم قاّل : حدَّثنا ( محمّد بن عائشة ) (٢) ، عن إسماعيل بن عمرو البَجَلي قال : حدَّثني عُمَر بن موسى ، عن زيد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن علي 7 ، قال : « شكوتُ إلى رسول الله 9 حَسَد الناس إيّاي ، فقال : يا عليّ ، إنّ اوّلَ أربعةٍ يدخُلون الجنةَ : أنا وأنت والحسن والحسين ، وذُرّيّتنا خَلْف ظهورنا ، وأحبّاؤنا خَلْفَ ذُرّيّتنا ، وأشياعُنا عن أيماننا وشمائلنا » (٣).

فصل

ومن ذلك ما جاءت به الأخبار في أنّ ولايتَه

7 عَلَم على طِيب المولد وعَداوتَه عَلَم على خُبثه :

أخبرني أبو الجَيْش المُظَفّر بن محمّد البَلْخي قال : حدَّثنا (٤) أبوبكر محمّد بن أحمد بن أبي الثَلْج قال : حدَّثنا جعفرُ بن محمّد العَلَوي قال :

ــــــــــــــــــ

(١) كذا في النسخ ، وفي هامش « م » : الكوفي والكرجي والكرخي وتحت الكلمة الأخيرة علامة التصحيح.

(٢) كذا في متن النسخ ، وفي هامش « ش » و « م » : ابن عائشة ، وقد تقدم ما ينفع المقام في فصل : موضع قبرأمير المؤمنين 7 ، فليراجع.

(٣) مقتل الخوارزمي : ١٠٨ ، منتخب كنز العمال ٥ : ٩٤ ، تذكرة الخواص : ٢٩١ ، فرائد السمطين ٢ : ٤٢ / ٣٧٥ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٣١ ، وفي تاريخ دمشق ـ ترجمة الأمام أمير المؤمنين 7 ـ ٢ : ٨٣٥ / ٣٢٩ أفاض الشيخ المحمودي في الهامش ذكر مصادر الحديث باسانيدها ومتونها ومظانها ، فراجع.

(٤) في « م » و « ح » وهامش « ش » : أخبرنا ، وما أثبتناه من متن « ش ».


حدَّثنا أحمدُ بن عبدِ المًنْعِم قال : حدَّثنا عبدالله بن محمّد الفزاري ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه 8 ، عن جابر بن عبداللّه قال : « سمعت رسول اللّه 9 يقول لعلي بن أبي طالب 7 : ألا أسرك؟! ألا أمنَحُك؟! ألا أبشّرك؟! فقال : بلى يارسول اللّه بشرّني. قال : فإنّي خُلقت أنا وأنت من طينة واحدة ، ففضلت منها فضلة فخلق اللّه منها شيعتنا ، فإذا كان يوم القيامة دُعي الناس بأسماء امهاتهم سوى شيعتنا فإنّهم يدعون بأسماء آبائهم لطيب مولدهم » (١).

أخبرني أبو إلجيش المظفر بن محمد ، عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج قال : حدثنا ( محمد بن سلم الكوفي ) (٢) ، قال : حدثنا عبيداللّه (٣) بن كثير قال : حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين الزُهْري قال : حدثنا عبيداللّه ابن موسى ، عن إسرائيل (٤) ، عن أبي خصَين ، عن عِكرِمة ، عن ابن عباس : إنّ رسول الله 9 قال : « إذا كان يوم القيامة يدعى (٥) الناس كلّهم باسماء أمهاتهم ، ما خلا شيعتنا فإنهم يدعون باسماء آبائهم لطيب مواليدهم » (٦).

ــــــــــــــــــ

(١) أمالي المفيد : ٣١١ ، أمالي الطوسي ٢ : ٧١ ، اعلام الورى : ١٦٥ ، بشارة المصطفى : ١٤ ، ٩٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٧ : ١٥٥ / ٢٨.

(٢) كذا في متن « ش » و « م » وفي « ح » وهامش « ش » و « م » عن نسخة : محمد بن مسلم ، وكأنّ في هامش « م » علامة التصحيح.

(٣) في « ح » : عبد الله.

(٤) كذا في متن النسخ ، وفي هامش « ش » : أبي اسرائيل « ج » : وهامش « م » أبي اسرائيل. والظاهر صحة ما أثبتأه ، فقد ذكر في تهذيب التهذيب ٧ : ٥١رواية عبيدالله بن موسى بن أبي المختار عن اسرائيل.

(٥) في « م » وهامش « ش » : دعي.

(٦) اعلام الورى : ١٦٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٧ : ١٥٦ / ٢٩.


اخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد القمي قال : حدَّثنا أبوعلي محمد ابن هَمّام بن سُهَيْل الأسكافي (١) قال : حدثني جعفر بن محمد بن مالك قال : حدَّثنا محمد بن نعمة السلولي قال : حدثنا عبداللة بن القاسم ، عن عبداللّه بن جَبَلة ، عن أبيه قال : سمعت جابر بن عبدالله بن حرام الأنصاري يقول : كنّا عند رسول اللّه 9 ذات يوم ـ جماعة من الأنصار ـ فقال لنا : « يا معشر (٢) الأنصار ، بوروا (٣) أولادكم بحبّ علي ابن أبي طالب ، فمن أحبه فاعلموا أنّه لِرَشْدة (٤) ومن أبغضه فاعلموا أنّه لغَيّة (٥) » (٦).

فصل

ومن ذلك ما جاءت به الأخبار في تسمية رسول اللّه صلّى اللّه

عليه وآله علياً 7 بإمرة المؤمنين في حياته :

أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد البلخي قال : أخبرنا (٧) أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج (٨) قال : أخبرني الحسين بن أيوب ، عن محمد

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : اسكاف ناحية بالعراق من النهروان الى البصرة.

(٢) في « م » وهامش « ش » : معاشر.

(٣) نبور : نختبر ، ومنه الحديث : « كنّا نبور أولادنا بحب عليّ ». « النهاية ـ بور ـ ١ : ١٦١ ».

(٤) هو لرشدة : أي صحيح النسب. « مجمع البحرين ـ رشد ـ ٣ : ٥١ ».

(٥) ولد غيّة : أي ولد زنا. « القاموس المحيط ـ غوي ـ ٤ : ٣٧٢ ».

(٦) اعلام الورى : ١٦٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٧ : ١٥٦ / ٣٠.

(٧) كذا في متن « ش » وفي « م » وهامش « ش » : أخبرني.

(٨) في « م » و « ح » : محمد بن أبي الثلج ، وهو أيضاً صحيح نسبة الى الجدّ.


ابن غالب ، عن ( علي بن الحسن ، عن الحسن بن محبوب ) (١) عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي اسحاق السبيعي ، عن بشير الغفاري ، عن أنس بن مالك قال : كنت خادم رسول الله 9 فلمّا كانت ليلة أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، أتيت رسول الله 9 بوَضُوء فقال لي : « يا أنَس ابن مالك ، يدخُل عليك من هذا الباب الساعة أميرُ المؤمنين وخيرُ الوصييِن ، أقدمُ الناس سِلماً ، وأكثرُهم علماً ، وأرجحُهم حِلماً » فقلتُ : اللهمَّ اجعله من قومي. قال : فلم ألبَثْ أن دَخَل عليُّ بن أبي طالب 7 من الباب ورسولُ اللّه 9 يَتَوضّأ ، فردّ رسولُ اللّه 9 الماءَ على وجه عليّ 7 حتّى امتلأت عيناه منه ، فقال علي : « يا رسولَ الله ، أحَدَثَ فيّ حَدَثٌ؟ » فقال له النبي 9 : « ما حَدَثَ فيك إلاّ خيرٌ ، أنت منّي وأنا مِنك ، تُؤدّي عنّي وتَفي بذمّتي ، وتغسلني وتُواريني في لَحْدي ، وتُسْمِع ، الناسَ عنّي وتبُينّ لهم من بعدي ». فقال علي 7 : « يا رسول الله ، أوَما بَلّغْتَ؟ قال : بلى ، ولكن تُبيّنُ لهم ما يختلفون فيه من بعدي » (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) كذا صححه في هامش « ش » ، ونسبه في هامش « م » إلى نسخة ، وفي متن النسخ : علي ابن الحسن بن محبوب ، وكتب في « ش » فوقه علامة ( ج ) ، والظاهر صحة ما أثبتناه في المتن ، ولم نجد راوٍ بهذا الأسم في ضمن الروايات ، وأما الحسن بن محبوب فانه يروي عن أبي حمزة الثمالي بكثرة وهو رواي كتابه في فهرست الشيخ : ٤١ / ١٣٧ ويروي عن ابن محبوب علي بن الحسن بن فضّال وعلي بن الحسن الطاطري ، وقد روى المصنف عين هذا السند في اماليه : ١٨ عن محمد بن غالب عن علي بن الحسن عن عبد الله بن جبلة ، وروى الصدوق في التوحيد : ١٥٧ بسنده الى ابن أبي الثلج عن الحسين بن ايوب عن محمد ابن غائب ، عن علي بن الحسين ، وفي تهذيب الشيخ ٤ : ١٦٥ / ٤٦٨ بسند آخر عن محمد بن غالب عن علي بن الحسن بن فضال.

(٢) اليقين : ٣٥ ، مصجاح الأنوار : ١٩٩ نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٧ :


أخبرَني أبو الجيش المًظَفَّر بن محمّد ، عن محمّد بن أحمد بن أبي الثَلْج قال : حدَّثني جدّي قال : حدَّثنا عبداللّه بن داهر قال : حدَّثني أبي داهر بن يحيى الأحمري المُقْرئ ، عن الأعْمَش ، عن عَبايَة الأسْدي (١) ، عن ابن عبّاس أنّ النبي 9 قال لاُمّ سلمة رضِي اللّه عنها : « إسمَعي وأشْهَدي ، هذا عليّ أمير المؤمنين وسيُد الوصيين (٢) » (٣).

وبهذا الإسناد عن محمد بن أبي الثلج قال : حدَّثني جدّي قال : حدَّثنا عبد السلام بن صالح قال : حدَّثني يحيى بن اليَمان قال : حدَّثني سُفيان الثَوري ، عن أبي الجَحّاف ، عن معاوية بن ثَعْلَبَة قال : قيل لأبي ذَرٍّ 2 : أوْص ، قال : قد أوصيتُ ، قيل : إلى من؟ قال : إلى أمير المؤمنين ، قيل : عثمان؟ قال : لا ، ولكن إلى أمير المؤمنين حَقِّاً أميرِ المؤمنين علي ابن أبي طالب ، إنّه لَزِرّ (٤) الأرض ، ورَبّانيّ (٥) هذه الأمّة ، لو قد فقدتموه

ــــــــــــــــــ

٣٣٠ / ٦٦.

(١) كذا في متن النسخ ، وفي هامش « ش » و « م » : الازدي ، ولم يعلم كونه تفسيراً أو نسخة بدل ، وعلى أي حال كتب في هامش « ش » و « م » : هو عباية بن كليب الازدي. وهامش آخر في « م » : هو الازدي ابدلت السين من الزاي ، هذا ولكن لا يبعد كون المراد من عباية الاسدي هو عباية بن ربعي الأسديَ ، فقد عنونه ابن ابي حاتم في الجرح والتعديل ٧ : ٢٩ وصرحّ بروايته عن ابن عباس ورواية الأعمش عنه ونقل عن والده : كان من عتق الشيعة ، انظر ميزان الاعتدال ٢ : ٣٨٧ أيضاً.

(٢) في « م » وهامش « ش » : في نسخة : المسلمين.

(٣) مناقب آل ابي طالب ٣ : ٥٤ ، اليقين : ٢٩ ، ٣٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٧ : ٣٣٠ / ٦٧.

(٤) زرّ الأَرض : أي قوامها ، واصله من زر القلب ، وهو عُظَيْم صغير يكون قوام القلب به « النهاية ـ زرر ـ ٢ : ٣٠٠ ».

(٥) الرباني : الكامل في العلم والعمل. « مجمع البحرين ـ ربب ـ ٢ : ٦٥ » ، وفي « م » وهامش « ش » : في نسخة : وربي.


لأنكرتم الأرضَ ومَن عليها (١).

وحديث بًرَيْدَة بن الحُصَيب الأسلَمي ـ وهو مشهور معروف بين العلماء ، بأسانيد يطول شرحها ـ قال : إنّ رسول اللّه 9 أمّرني سابعَ سبعة ، فيهم أبو بكر وعُمَر وطًلْحَة والزُبَير ، فقال : « سلّموا على عليّ بإمْرَة المؤمنين » فسلّمنا عليه بذلك ، ورسولُ اللّه 9 حيّ بين أظهرنا (٢).

في أمثال هذه الأخبار يطول بها الكتاب.

فصل

فأمّا مناقبه الغنيّةُ ـ بشهرتها ، وتواتُر النقل بها ، وإجماع العلماء عليها ـ عن إيراد أسانيد الأخبار بها ، فهي كثيرةٌ يطولُ بشرحها (٣) الكتاب ، وفي رَسْمِنا منها طرفاً كفاية عن إيراد جميعها في الغرض الذي وضعنا له الكتاب ، ان شاء اللّه.

فمن ذلك : أنّ النبي 9 جَمَعَ خاصّةَ أهله وعشيرته ، في ابتداء الدعوة الى الاسلام ، فعَرَضَ عليهم الإيمان ، واستنصرهم على أهل الكفر والعُدوان ، وضَمِنَ لهم على ذلك الحُظْوةَ في الدنيا ، والشرفَ

ــــــــــــــــــ

(١) اليقن : ١٦باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٧ : ٣٣١ / ٦٨ ..

(٢) ورد نحوه في مصباح الأنوار : ١٥٤ ، وبشارة المصطفى : ١٨٥ ، واليقين : ٤٤ و ٥٤ و ٩٨ ،

وإرشاد القلوب : ٣٢٥.

(٣) في « م » وهامش « ش » : بذكرها.


وثوابَ الجنان ، فلم يُجبه أحدٌ منهم إلاّ أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب 7 فنَحَلَه بذلك تحقيقَ الأخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة ، وأوجَبَ له به الجنّة.

وذلك في حديث الدار ، الذي أجمع على صحّته نُقّاد الآثار ، حين جَمَعَ رسول اللّه 9 بني عبد المطّلب في دارأبي طالب ، وهم أربعون رجلاً ـ يومئذ ـ يَزيدون رجلاً أو يَنْقصُون رجلاً ـ فيما ذكره الرُواة ـ وأمر أن يُصْنَع لهم فَخِذُ شاةٍ مع مُدّمن البُرّ ، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن ، وقد كان الرجل منهم معروفاً باكل الجَذَعَة في مقام (١) واحد ، ويَشرب الفَرق (٢) من الشراب في ذلك المَقام ، وأراد 7 بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهارَ الآية لهم في شِبعِهم وريّهم ممّا كان لا يُشْبِع الواحدَ منهم ولا يًروِيْه.

ثمّ أمر بتقديمه لهم ، فأكَلَت الجماعةُ كلها من ذلك اليسيرحتّى تملّؤوا منه ، فلم يَبِن ما أكَلُوه منه وشرَبوه فيه ، فبَهَرَهم بذلك ، وبَيّنً لهم اية نُبوّته ، وعلامةَ صدقه ببرهان اللّه تعالى فيه.

ثمّ قال لهم بعد أن شَبِعوا من الطعام ورَوُوْا من الشراب : « يا بني عبد المطّلب ، إنّ اللّه بعثني إلى إلخلق كافة ، وبعثني إليكم خاصة ، فقال عزّ وجلّ : ( واَنذرْ عَشِيرَتكَ الأقْرَبينَ ) (٣) وأنا أدعوكم إلى كلِمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان ، تَمْلِكون بهما العَرَب والعَجَم ،

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش ، م ، ح » : في نسخة : مقعد.

(٢) الفرق : مكيال يسع ستة عشر رطلاً ، وفي هامش « ش » و « م » : « في نسخة : الزقّ » ، وهو السقاء ، انظر « الصحاح ـ فرق ـ ٤ : ١٥٤٠ ».

(٣) الشعراء ٢٦ : ٢١٤.


وتنقادُ لكم بهما الأُممُ ، وتَدْخُلون بهما الجنة ، وتنجُوْن بهما من النار ، شهادةِ أن لا إلهَ إلاّ اللّه وأنّي رسولُ اللّه ، فَمنْ يُجِبْني إلى هذا الأمر ويُؤازرْني عليه وعلى القيام به ، يَكُنْ أخي ووصيّ ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » فلم يجب أحد منهم.

فقال أمير المؤمنين 7 : « فقمتُ بين يديه من بينهم ـ وأنا إذ ذاك أصغرُهم سنّاً ، وأحمَشُهم (١) ساقاً ، وأرمَصُهم (٢) عيناً ـ فقلتُ : أنا ـ يا رسول اللّه ـ أؤازرُك على هذا الأمر. فقال : اجْلِسْ ، ثم أعاد القول على القوم ثانيةً فاُصْمِتوا ، وقمتُ فقلتُ مثلَ مقالتي الأولى ، فقال : اجْلِسْ. ثمّ أعاد على القوم مقالَتَه ثالثةً فلم يَنْطِقْ أحدٌ منهم بحرفٍ ، فقلتُ : أنا أؤازرك ـ يا رسولَ اللّه ـ على هذا الأمر ، فقال : اجْلِس ، فانت أخي ووصّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ».

فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يا أبا طالب ، لِيَهْنِك (٣) اليوم إن دَخَلْتَ في دين ابن أخيك ، فقد جَعَل ابْنَك أميراً عليك (٤).

فصل

وهذه منقبة جليلة اختَصّ بها أميرُ المؤمنين 7 ولم يَشْرَكْه

ــــــــــــــــــ

(١) رجل أحمش الساقين : دقيقهما « الصحاح ـ حمش ـ ٣ : ١٠٠٢ ».

(٢) الرَمَصُ : وسخ يجتمع في مجرى الدمع. « انظر : الصحاح ـ رمص ـ ٣ : ١٠٤٢ ».

(٣) في هامش « ش » و « م » : ليهنئك ، وكلاهما بمعنى ليسرّك ‎.

(٤) انظر مصادر حديث الدار في تاريخ دمشق ـ ترجمة أمير المؤمنين 7 ـ ١ : ٩٧ ـ ١٠٣ والغدير ٢ : ٢٧٨ ـ ٢٨٩.


فيها أحدٌ من المهاجرين الأوّلين ولا الأنصار ، ولا أحدٌ من أهل الإسلام ، وليس لِغيره عِدلٌ لها من الفضل ولا مقاربٌ على حال ، وفي الخبر بها ما يُفيد أنَّ به 7 تَمَكّنَ النبي 9 من تبليغ الرسالة ، وإظهار الدعوة ، والصدع بالإسلام ، ولولاه لم تَثْبُتِ الملّة ، ولا استقرّتِ الشريعة ، ولا ظَهَرَتِ الدعوة. فهو 7 ناصرُ الإسلام ، ووزيرُ الداعي إليه من قِبَلِ الله ـ عزّ وجلّ ـ وبضمانه لنبيّ الهدى 7 النصرةَ تَمّ له في النبوّة ما أراد ، وفي ذلك من الفضل ما لا تُوازنه (١) الجبالُ فضلاً ، ولا تعُادله الفضائلُ كلّها محلاً وقدراً.

فصل

ومن ذلك أن النبيّ 7 لما أًمِرَ بالهجرة ـ عند اجتماع الملأ من قريش على قتله ، فلم يتمكن 7 من مُظاهَرَتهم ـ بالخروج من (٢) مكّة ، وأراد الأستسرارَ بذلك وتعميةَ خبره عنهم ، لِيَتِمَّ له الخروجُ على السلامة منهم ، ألقى خبرَه إلى أمير المؤمنين 7 واستكتمه إيّاه ، وكَلَّفه الدفاعَ عنه بالمبيت على فراشه من حيث لا يعلمون أنّه هو البائت على الفِراش ، وبَظُنّون أنّه النبيّ 9 بائتاً (٣) على حاله التي كان يكون عليها فيما سلف من الليالي.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : توازيه.

(٢) في « م » و « ش » : عن.

(٣) في هامش « م » : نائماً.


فوَهَب أميرُ المؤمنين 7 نفسَه للّه وشراها من الله في طاعته ، وبَذَلها دونَ نبيّه عليه وآله السلام ليَنْجُوَ به من كيد الأعداء ، وتَتِمً له بذلك السلامةُ والبقاءُ ، وينتظم له به الغرضُ في الدعاء إلى الملّة وإقامة الدين واظهار الشريعة. فبات 7 على فِراش رسول اللّه 9 مستتراً (١) بازاره ، وجاءه القومُ الذين تمالَؤُوا (٢) على قتله فأحْدَقُوا به وعليهم السِلاح ، يرصدُون طلوعَ الفجر لِيَقْتُلوه ظاهراً ، فيذهَبَ دمُه فِرغاً (٣) بمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل ، ولا يَتِمّ لهم الأخذُ بثاره منهم ، لا شتراك الجماعة في دمه ، وقعودِ كل قبيل عن قتال رَهْطه ومباينة أهله.

فكان ذلك سببَ نجاة رسول الله 9 وحفظِ دمه ، وبقائهِ حتى صدع بأمر ربه ، ولولا أميرُ المؤمنين 7 وما فعلّه من ذلك ، لما تَمَّ لنبيّ اللّه 9 التبليغُ والأداء ، ولا استدام له العمرُ والبقاء ، ولظَفَرَ به الحَسَدةُ والأعداء.

فلمّا أصبح القومُ وأرادوا الفَتْكَ به 7 ثار إليهم ، فتفرّقوا عنه حين عَرَفوه ، وانصرفوا عنه وقد ضلّت حِيَلهم (٤) في النبي 9 ، وانتقض ما بَنَوه من التدبيرفي قتله ، وخابت ظُنونهم ، وبَطَلتْ آمالهم ، فكان بذلك انتظامُ الإيمان ، وإرغامُ الشيطان ، وخِذلانُ أهل الكفر والعُدوان.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : متستراً.

(٢) تمالؤوا : اجتمعوا. « الصحاح ـ ملأ ـ ١ : ٧٣ ».

(٣) ذهب دمه فرغاًَ أي هدراً « الصحاح ـ فرغ ـ ٤ : ١٣٢٤ ». وفي « ح » : هدراً.

(٤) في هامش « ش » و « م » : حيلتهم.


ولم يَشْرك أميرَ المؤمنين 7 في هذه المنقبة أحدٌ من أهل الإسلام ، ولا اختصَّ بنظير لها على حال ، ولا مقاربِ لها في الفَضْل بصحيح الأعتبار.

وفي أمير المؤمنين 7 ومبيته على الفِراش ، أنزل اللّه تعالى ( وَمِنَ ألنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ ) (١ و ٢).

فصل

ومن ذلك أنّ النبي 9 كان أمينَ قريش على وَدائعهم ، فلمّا فجأه من الكفّار ما أحْوَجَه الى الهَرب من مكّة بغتةً ، لم يَجِد في قومه وأهله مَنْ يأتَمِنهُ على ما كان مؤتمناً عليه سوى أمير المؤمنين 7 فاستخلفه في ردّ الودائع إلى أربابها ، وقضاءِ ما عليه من دَيْن لمستحقّيه ، وجَمْع بَناته ونساء أهله وأزواجه والهِجرة بهم إليه ، ولم يَرَ أنّ أحداً يَقوم مقامه في ذلك من كافّة النَاس ، فوَثق بامانته ، وعَوّلَ على نجْدته وشَجاعته ، واعتمد في الدفاع عن أهله وحامَّته على بأْسه وقدرته ، واطمأن إلى ثقته على أهله وحُرَمه ، وعَرَفَ من ورعه وعصمته

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢٠٧ : ٢.

(٢) ورد حديث المبيت في تاريخ مدينة دمشق ـ ترجمة أمير المؤمنين 7 ـ ١ : ١٥٣ ـ ١٥٥ ، تاريخ بغداد ١٣ : ١٩١ ، أُسد الغابة ٤ : ١٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٤ ، مسند أحمد ١ : ٣٤٨ ، التفسير الكبير للفخر الرازي ١٥ : ١٥٥ ، ذخائر العقبى : ٨٧.


ما تَسْكُن النفسُ معه إلى ائتمانه (١) على ذلك.

فقام 7 به أحسنَ القيام ، وردّ كلَّ وديعة إلى أهلها ، وأعطى كلَّ ذي حقّ حقّه ، وحَفظَ بناتِ نبيّه 7 واله وحُرمه ، وهاجر بهم ماشياً على قَدَمِه (٢) ، يَحوُطُهم من الأعداء ، ، يكْلَؤُهم (٣) من الخُصَماء ، ويَرفق بهم في المسير حتى أوردهم عليه المدينة ، على أتمّ صيانة وحَراسة ورِفْق ورَأفة وحسن تدبير ، فأنزله النبي 9 عند وروده المدينةَ دارَه ، وأحلّه قرارَه ، وخَلَطَه بحرُمَه وأولاده ، ولم يُميّزه من خاصّة نفسه ، ولا احتشمه في باطن أمره وسرّه.

وهذه منقبة تَوَحّد بها 7 من كافّة أهل بيته وأصحابه ، ولم يَشْركه فيها أحدٌ من أتباعه وأشياعه ، ولم يحصُل لغيره من الخلق فضلٌ سواها يُعادلها عند السَبْر ، ولا يُقاربها على الأمتحان ، وهذه (٤) مُضافَةٌ إلى ما قدّمناه من مناقبه ، الباهرِ فضْلُها القاهرِ شرفُها قلوبَ العقلاء (٥).

فصل

ومن ذلك أنّ اللّه تعالى خصّه بتلافي فارِطِ من خالَفَ نبيَّه صلّى اللّه

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : امانته.

(٢) في هامش « ش » و « م » : قدميه.

(٣) في هامش « ش » و « م » : نسخة اُخرى : ويكنفهم.

(٤) في « م » وهامش « ش » نسخة اُخرى : وهي.

(٥) انظر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في قضية رد ودائع النبي 9 الى


عليه وآله في أوامره ، وإصلاحِ ما أفسدوه ، حتّى انتظمت به أسبابُ الصَلاح ، واتَّسق بيُمْنه وسعادةِ جَدّهِ وحُسْنِ تدبيره والتوفيقِ اللازم له أمورُ المسلمين ، وقام به عمودُ الدين.

ألا ترى أنّ النبي 9 أنفذ خالد بن الوَليد إلى بني جُذيمَة داعياً لهم إلى الإسلام ، ولم ينفْذه مُحارِباً ، فخالف أمرَه 9 ونَبَذَ عَهْدَه ، وعاند دينَه ، فقتل القومَ وهم على الإسلام ، وأخْفَرَ ذمّتهم وهم أهلُ الإيمان ، وعَمِلَ في ذلك على حَمِيّة الجاهليّة وطريقةِ أهل الكفر والعدوان ، فشانَ فعالُه الإسلامَ ، ونَفَّرَ به عن نبيّه عليه وآله السلام من كان يدعوه إلى الإيمان ، وكاد أن يَبْطلَ بفعله نظام التدبير في الدين.

ففَزِعَ رسولُ اللّه 9 في تلافي فارطه ، وإصلاحِ ما أفسده ، ودفعِ المَعَرّة عن شَرْعِه بذلك إلى أمير المؤمنين 7 فانفذه لعَطْف القوم وسَلِّ سخائمهم والرِفْق بهم ، في تثبيتهم على الإيمان ، وأمَرَه أن يَدِيَ القتلى ، ويرضي بذلك أولياءَ دمائهم الأحياءَ.

فبَلَغ أميرُ المؤمنين 7 من ذلك مبلغَ الرضا ، وزاد على الواجب بما تبرّع به عليهم من عَطِيّة ما كان بقي في يده من الأموال ، وقال لهم : « قد اَدّيتُ (١) ديات القَتْلى ، وأعطيتُكم بعدَ ذلك من المال ما تعودون به على مُخَلّفيهم (٢) ليرضى اللّه عن رسوله 9 وترضَوْن بفضله عليكم » وأظهر رسولُ الله 9 بالمدينة ما

ــــــــــــــــــ

اصحابها وقضاء ما كان عليه من دين : طبقات ابن سعد ٣ : ٢٢ ، تاريخ مدينة دمشق ١ : ١٥٤ ـ ١٥٥ ، اُسد الغابة ٤ : ١٩.

(١) في « م » وهامش « ش » : وديت.

(٢) في « ش » : مُخلّفيكم.


اتّصل بهم من البراءة من صَنيع خالِد بهم ، فاجتمع براءة رسول اللّه 9 ممّا جناه خالِد ، واستعطاف أمير المؤمنين 7 القومَ بما صَنَعَه بهم ، فتَمّ بذلك الصلاحُ ، وانقطعت به موادّ الفَساد ، ولم يتولَّ ذلك أحدٌ غيرُ أمير المؤمنين 7 ولا قام به من الجماعة سواه ، ولا رَضيِ رسولُ الله 9 لتكليفه أحداً ممنّ عداه.

‎ وهذه منقبة يزيد شرفها على كلّ فضل يُدَّعى لغير أمير المؤمنين 7 ـ حقّاً كان ذلك أم باطلاً ـ وهي خاصة لأمير المؤمنين 7 لم يَشْركه فيها أحدٌ منهم ، ولا حَصَلَ لغيره عِدْلٌ لها من الأعمال (١).

فصل

ومن ذلك أنّ النبي 9 لما أراد فتحَ مكّة ، سأل الله ـ جلّ اسمه ـ أن يعَمِّيَ أخبارَه على قريش ليَدْخُلَها بغتةً ، وكان عليه وآله السلام قد بنى الأمرَ في مسيره إليها على الأستسرار بذلك ، فكتب حاطِب بن أبي بلتعة إلى أهل مَكّة يُخبِرهم بعزيمة رسول اللّه 9 على فتحها ، وأعطَى الكتابَ امرأةً سَوْداء (٢) كانت وَرَدت المدينةَ تستميح بها

ــــــــــــــــــ

(١) انظر تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦١ ، مغازي الواقدي ٣ : ٨٧٥ ، الطبقات الكبرى ٢ : ١٤٧ ، دلائل النبوة ٥ : ١١٣ ـ ١١٨ ، سيرة ابن هشام ٤ : ٧٠ ـ ٧٣ ، فتح الباري ٨ : ٤٦ ، تاريخ الطبري ٥ : ٦٦ ـ ٦٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٢) في هامش « ش » و « م » : كان اسمها سارة.


الناس وتَسْتَبِرُّهم (١) ، وجعل لها جُعٍلاً على أن تُوصِلَه إلى قوم سمّاهم لها من أهل مَكّة ، وأمَرَها أن تَأخُذَ على غير الطريق.

فنزل الوحيُ على رسول الله 9 بذلك ، فاستدعى أميرَ المؤمنين 7 وقال له : « إنّ بعضَ أصحابي قد كتَبَ إلى أهل مكّة يخُبرهم بخَبَرنا ، وقد كنتُ سألتُ الله أن يُعَمِّيَ أخبارَنا عليهم ، والكتابُ مع امرأةٍ سودْاء قد أخَذَتْ على غير الطريق ، فَخُذْ سيفَك والحَقْها وانتزِعِ الكتابَ منها وخَلّها وصرْ به إليّ » ثمّ استدعى الزبير بن العَوّام فقال له : « امض مع عليّ بن أبي طالب ، في هذه الوجه » فمضيا وأخذا على غير الطريق فأدْركا المرأةَ ، فسَبَق إليها الزُبيرُ فسألها عن الكتاب الذي معها ، فأنكرتْه وحَلَفَتْ أنّه لا شيءَ معها وبكت ، فقال الزُبير : ما أرى ـ يا أبا الحسن ـ معها كتاباً ، فارجع بنا إلى رسول الله 9 لنخْبِره ببراءة ساحتها.

فقال له أمير المؤمنين 7 : « يُخْبِرُني رسولُ الله 9 أنّ معها كتاباً ويأمُرُني بأخذه منها ، وتقول أنت أنَّه لا كتاب معها » ثمّ اخترط السيفَ وتَقَدَّمَ إليها فقال : « أما واللّه لئن لم تُخْرِجِي الكتابَ لأكْشِفَنّك ، ثمّ لأَضرِبَنَّ عُنُقَك » فقالت له : إذا كان لا بُدَّ من ذلك فاعْرِضْ يا ابنَ أبي طالب بوجهِك عنّي ، فاعْرَض 7 بوجهه عنها فكشفَتْ قِناعَها ، وأخرجت الكتاب من عَقِيصَتها (٢).

فاخذه أميرالمؤمنين 7 وصار به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : تستبرهم : أي تطلب منهم البرّ.

(٢) العقيصة : الضفيرة. « الصحاح ـ عقص ـ ٣ : ١٠٤٦ ».


وآله فأمرأن يُنادى بالصلاة جامعةً ، فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتّى امتلأ بهم ، ثمّ صَعِدَ رسول اللّه 9 المِنْبرَ وأخَذَ الكتابَ بيده وقال : « أيّها الناس ، إنّي كنتُ سألتُ اللّه عزّ وجلّ أن يُخْفِيَ أخبارَنا (١) عن قريش وإنّ رجلاً منكم كتب إلى أهل مكّة يُخْبِرهُم بخبرنا ، فليَقُمْ صاحبُ الكتاب ، وإلاّ فضَحَه الوحي » فلم يَقُمْ أحدٌ ، فأعاد رسولُ اللّه 9 مقالته ثانيةً ، وقال : « ليَقُمْ صاحبُ الكتاب وإلاّ فَضَحَه الوحي » فقام حاطِب بن أبي بَلْتَعَةَ وهو يُرْعَدُ كالسَعفة في يوم الريح العاصف فقال : يا رسول اللّه أنا صاحبُ الكتاب ، وما أحْدَثتُ نفاقاً بعدَ إسلامي ، ولا شكّاً بعد يقيني. فقال له النبي 9 : « فما الذي حَمَلَك على أن كتبتَ هذا الكتاب؟ » فقال : يا رسول اللّه ، إنّ لي أهلاً بمكّة ، وليس لي بها عَشيرة ، فاشفقت أن تكون الدائرةُ لهم علينا ، فيكونُ كتابي هذا كفاً لهم عن أهلي ، ويداً لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشكٍ في الدين.

فقال عمر بن الخَطّاب : يا رسولَ اللّه مُرني بقتله فإنّه قد نافق.

فقال النبيّ 9 : « إنّه من أهل بدر ، ولعلّ اللّه تعالى اطّلع عليهم فغفرلهم. أخرِجُوه من المسجد ».

قال : فجعل الناس يَدْفَعون في ظَهْره حتّى أخرجوه ، وهو يَلتفِت (٢) إلى النبي 9 ليرقّ عليه (٣) ، فامرالنبي صلّى اللّه عليه

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : نسخة اخرى : آثارنا.

(٢) في هامش « ش » و « م » : يتلفّت.

(٣) في هامش « ش » و « م » : نسخة اخرى : له.


وآله بردّه وقال له : « قد عَفَوْتُ عنك وعن جُرمك ، فاستغفرْ ربّك (١) ولاتعُدْ لمثل ما جَنَيْتَ » (٢).

فصل

وهذه المنقبة لاحقة بما سلف من مناقبه 7 وفيها أنّ به 7 تَمَّ لرسول الله 9 التدبيرُ في دخول مَكّة ، وكُفِيَ مؤونة القوم وما كان يَكْرَهُهُ من معرفتهم بقَصْده إليهم حتى فجأهم بَغْتةً ، ولم يَثِق في استخراج الكتاب من المرأة إلا بأميرالمؤمنين 7 ولا استنصح في ذلك سواه ، ولا عَوَّل على غيره ، فكان به 7 كفايتُه المهمّ ، وبلوغهُ المرادَ ، وانتظامُ تدبيره ، وصلاحُ أمر المسلمين ، وظهورُ الدين.

ولم يكن في إنفاذ الزُبَير مع أمير المؤمنين 7 فضل يُعْتدّ به ، لأنّه لم يَكْفِ مهمّاً ، ولا أغنى بمُضيّه شيئاً ، وإنمّا أنفذه رسول الله 9 لأنّه في عِداد بني هاشم من جهة اُمّه صَفِيّة بنتِ عبد المطّلب ، فأراد 7 أن يَتَولّى العملَ ـ بما استسرّ به من تدبيره ـ خاص أهله ، وكانت للزبير شَجاعةٌ وفيه إقدام ، مع النسب الذي بينه وبين أمير المؤمنين 7 فعَلِم أنّه يُساعده على ما بعثه له ، إذْ كان تمامُ

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : نسخة اخرى : فاستغفر اللّه لذنبك.

(٢) انظر تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٨ ، صحيح البخاري ٥ : ١٨٤ ، صحيح مسلم ٤ : ١٩٤١ / ٢٤٩٤ ، مسند أحمد ١ : ٧٩ ، سيرة ابن هشام ٤ : ٤٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ٤٨ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٤ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٠١.


الأمر لهما فراجَعَ إليهما بما يَخصُّهما ممّا يَعُمُّ بني هاشم من خير أو شر. فكان الزبير تابعاً لأمير المؤمنين 7 ووَقَع منه فيما أنفذه (١) فيه ما لم يُوافِق صوابَ الرأي ، فتداركه أميرُ المؤمنين 7.

وفيما شرحناه من هذه القصّة بيانُ اختصاص أمير المؤمنين 7 من المنقبة والفضيلة بما لم يَشْرَكه فيه غيرُه ، ولا داناه سواه بفضل يُقارِبُه فضلاً عن أن يُكافِئه ، والله المحمود.

فصل

ومن ذلك أنّ النبيّ 9 أعطَى الرايةَ ( في يوم ) (٢) الفَتْح سَعْدَ بنَ عُبادة ، وأمره أن يدْخُلَ بها مكّة أمامه ، فاخذها سعد وجعل يقول :

اَليومُ يومُ المَلْحَمَه

اَليومُ تُسْتَحلُّ (٣) الحُرمه

فقال بعضُ القوم للنبي 9 : أما تَسْمَع ما يقول سعدُ بن عُبادة؟ واللّه إنّا نخاف أن يَكُون له اليوم صولة في قريش. فقال عليه وآله السلام لأمير المؤمنين 7 : « أدْرِكْ ـ يا علي ـ سَعْداً وخُذ الرايةَ منه ، فكُنْ أنت الذي تَدْخُلُ بها ».

ــــــــــــــــــ

(١) في « ح » وهامش « ش » و « م » : اُنْفِذَ.

(٢) في « م » وهامش « ش » : يوم.

(٣) في هامش « ش » و « م » : تسبى.


فاستدرك رسولُ الله 9 بأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ما كاد يَفوت من صواب التدبير ، بتهجّم سعد وإقدامه على أهل مكة ، وعَلِمَ أن الأنصارَ لا تَرضى أن يَأخُذَ أحدٌ من الناس من سيدها سعدٍ الراية ، ويَعْزلَه عن ذلك اَلمقام ، إلاّ مَنْ كان في مثل حال النبيّ 9 من جَلالة القدر ، ورفيع المكان ، وفَرْضِ الطاعة ، ومن لا يَشيِنُ سَعْدَاَّ الأنصراف به عن تلك الولاية.

ولوكان بحَضرة النبيّ 9 من يَصْلَحُ لذلك سوى أمير المؤمنين 7 لعَدَلَ بالأمر إليه ، وكان مذكوراً هناك بالصَلاح لمثل ما قام به أميرُ المؤمنين 7 ، وإذا كانت الأحكامُ إنّما تجب بالأفعالِ الواقعة ، وكان ما فعله النبيُ 9 بأمير المؤمنين 7 من التعظيم والإجلال ، والتأهيل لمِا أهَّلَه له من إصلاح الأُمور ، واستدراكِ ما كان يَفوُت بعمل غيره على ما ذكرناه ، وجب القضاءُ في هذه المنقبة بما يَبينُ بها ممّن سواه ، ويَفْضُلُ بشرفها على كافّة من عداه (١).

فصل

ومن ذلك ما أجمع عليه أهلُ السير (٢) : أنّ النبيَ 9

ــــــــــــــــــ

(١) انظر مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ ، سيرة ابن هشام ٤ : ٤٩ ، تاريخ الطبري ٣ : ٥٦ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ : ٢٧٢.

(٢) في « م » وهامش « ش » : السيرة.


بعث خالِد بن الوليد إلى أهل اليَمَن يَدْعوهم إلى الإسلام ، وأنفذ معه جماعةٌ من المسلمين فيهم البَراء بن عازِب ; فاقام خالد على القوم ستّةَ أشْهُريَدْعُوهم ، فلم يُجبْه أحدٌ منهم ، فساء ذلك رسولَ 9 فدعا أميرَ المؤمنين علَي بن أبي طالب 7 وأمَرَهُ أن يُقْفِلَ (١) خالداً ومن معه. وقال له : « إن أراد أحدٌ ممن مع خالد أن يُعقِّبَ معك فاتْرُكْه ».

قال البراء : فكنتُ فيمن عَقَّبَ معه ، فلمّا انتهينا إلى أوائل أهل اليمن ، بَلَغَ القوم الخبرُفتجمّعوا له ، فصلّى بنا عليُّ بن أبي طالب 7 الفجرَ ثمّ تقدّم بين أيدينا ، فحَمِد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قرأ على القوم كتابَ رسولِ اللّه 9 فأسلمت هَمْدان كلُّها في يومٍ واحد ، ( وكتب بذلك أمير المؤمنين 7 إلى رسول اللّه 9 ) (٢) فلمّا قَرَأ كتابَه استبشر وابتهج ، وخَرَّ ساجداً شكراً للّه عزّ وجلّ ثمّ رَفَعَ رأسَه فجلس وقال : « السلامُ على هَمْدان السلام على هَمْدان » وتتابع بعد إسلام هَمْدان أهلُ اليمن على الإسلام (٣).

وهذه أيضاً منقبة لأميرالمؤمنين 7 ليس لأحد من الصحابة مثلها ولا مقاربُها ، وذلك أنّه لمّا وَقَفَ الأمر فيما بُعِث له خالد وخيف الفسادُ به ، لم يوُجَدْ من يَتَلافى ذلك سوى أمير المؤمنين 7 فَنُدِبَ له فقام به أحسنُ قيام ، وجرَى على عادة اللّه عنده في التوفيق لما

ــــــــــــــــــ

(١) القفول : الرجوع من السفر. « الصحاح ـ قفل ـ ٥ : ١٨٠٣ ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : ( وكتب أمير المؤمنين 7 بذلك كتاباً الى رسول الله ).

(٣) اُنظر صحيح البخاري ٥ : ٢٠٦ ، دلائل النبوة ٥ : ٣٩٦ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٣١ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٠٠ ، دخائر العقبى : ١٠٩.


يلائم إيثارَ النبي 9 وكان بيمنه ورِفقه وحُسن تدبيره ، وخلوصِ نيّته في طاعة الله. هدايةُ من اهتدى بهداه (١) من الناس ، واجابةُ من أجاب إِلى الإسلام ، وعِمارةُ الدين ، وقوّةُ الإيمان ، وبلوغُ النبي صلّى الئهُ عليهِ والهِ ممّا آثره ( من المراد ) (٢) وانتظام الأمر فيه على ما قَرّت به عينُه ، وظَهَرَ استبشارهُ به وسرورُه بتمامه لكافّة أهل الإسلام.

وقد ثبت أنّ الطاعة تتعاظم بتعاظم النفع بها ، كما تَعْظُم المعصية بتعاظم الضرر بها ، ولذلك صارت الأنبياءُ : أعظمُ الخلق ثواباً ، لتعاظم النفع بدعوتهم على سائر المنافع بأعمال من سواهم.

فصل

ومثلُ ذلك ما كان في يوم خَيْبَرمن انهزام من انهزم ، وقد أُهّل لجليل المَقام بحمل الراية ، فكان بانهزامه من الفَساد ما لا خفاء به على الألبّاء ، ثمّ أعْطَى صاحبَه الرايةَ بعده ، فكان من انهزامه مثلُ الذي سَلَفَ من الأوّل ، وخيفَ في (٣) ذلك على الإسلام وشأنَهُ ما كان من الرجلين في الانهزام ، فاكبر ذلك رسولُ الله 9 وأظْهَرَ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » : بهديه.

(٢) في هامش « ش » و « م » : المراد.

(٣) في « م » : من.


النكيرَله والمساءةَ به ، ثمّ قال مُعلناً : « لأعطِينّ الرايةَ غداً رجلاً يُحِبُّه الله ورسولُه ، ويحِبّ اللّه ورسولَه ، كَرّاراً غيرَ فرّار ، لا يرجِع حتى يَفْتَحَ اللّه على يديه ».

فأعطاها أميرَ المؤمنين 7 فكان الفتحُ على يديه (١).

ودلَّ فحوى كلامِه 7 على خروج الفرّارين من الصفة التي أوجبها لأمير المؤمنين 7 كما خرجا بالفرار من صفة الكَرّ والثبوتِ للقتال ، وفي تلافي أمير المؤمنين 7 بخَيبرَما فَرَطَ من غيره ، دليل على توحُّده من الفضل فيه بما لم يَشْرَكْه فيه مَنْ عداه.

وفي ذلك يقول حَسّانُ بن ثابت الأنصارِيّ :

وكان عليُّ أرْمَدَ العَيْنِ يَبْتَغي

دَواءً فلمّا لَمْ يُحس مُداوِيا

شَفاهُ رسولُ الله منه بتُفلةٍ

فبورك مَرِقياً وبورك راقِيا

وقال سأعْطِي الراية اليومَ صارما

كَمِيّاً (٢) مُحِباً للإله مُواليا

يُحِبّ إلهي والإله يُحبُّه

به يَفْتَحُ الله الحُصُونَ الأوابِيا (٣)

فأصْفى بها دونَ البَربّة كلَّها

عَلِيّاً وسمّاهُ الوَزيرَ المُواخِيا


ــــــــــــــــــ

(١) انظر ـ على سبيل المثال لا الحصر : الطبقات الكبرى ٢ : ١١٠ ، صحيح البخاري ٥ : ١٧١ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٤١ ، مسند أحمد ٤ : ٥٢ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٨ ، دلائل النبوة ٤ : ٢٠٥ ـ ٢١٣ ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة أمير المؤمنين 7 ـ ١ : ١٧٤ ـ ٢٤٧ ، البداية والنهاية ٤ : ١٨٥ ـ ١٨٨ ، مناقب ابن المغازلي : ١٧٦ ـ ١٨٩.

(٢) الكَمِيّ : الشجاع. « الصحاح ـ كمي ـ ٦ : ٢٤٧٧ ».

(٣) الأوابي : التي تأبى وتمتنع من العدو.


فصل

ومثلُ ذلك ـ أيضاً ـ ما جاء في قِصّة البراءة (١) وقد دَفَعها النبيُّ 9 الى أبي بكر لينْبذَ بها عَهْدَ المشركين ، فلمّا سار غيربعيدِ نَزَل جبرئيل 7 على النبي 9 فقال له : إنّ الله يقُرِئُك السلام ، ويقولُ لك : لا يُؤدِّي عنك إلاّّ أنت أو رجلٌ منك. فاستدعى رسولُ الله صلّى اللة عليه وآله عليّاً 7 وقال له : « ارْكَبْ ناقتي العَضْباء والْحَقْ أبا بكر فخُذْ براءة من يده ، وامضِ بها إلى مكة ، فانْبِذْ عهدَ المشركين إليهم ، وخَيّرأبا بكر بينَ أن يَسيرمع رِكابك ، أو يَرْجِعَ إليّ ».

فرَكِب أميرُ المؤمنين 7 ناقَةَ رسول الله 9 العَضْباء ، وسارحتّى لَحِقَ أبا بكر ، فلمّا رآه فَزِغَ من لحوقه به ، واستقبله وقال : فيمَ جئتَ يا أبا الحسن؟ أسائرٌ معي أنت ، أم لغير ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين 7 : « إنّ رسولَ اللّه 9 أمَرَني أن ألْحَقَك فاقْبضَ منك الآياتِ من براءة ، وأنْبِذَ بها عهدَ المشركين إليهم ، وأمَرَني أَن أخَيِّرك بين أن تَسير معي ، أو تَرْجِع إليه ».

فقال : بل أرجعُ إليه ، وعاد إلى النبي 9 ، فلما دَخَلَ عليه قال : يا رسول اللّه ، إنّك أهّلْتَني لأمرٍ طالت الأعناقُ فيه

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ش » : براءة ، وما اثبتناه من « ح ».


إليّ ، فلما توجّهتُ له رددتَني عنه ، ما لي ، أنزل فيّ قرآنٌ؟.

فقال النبي 9 : « لا ، ولكنَّ الأمينُ هَبَطَ إليّ عن اللّه جلّ جلاله بأنّه لا يُؤَدّي عنكَ إلاّ أنتَ أو رجلٌ منك ، وعليٌّ منّي ، ولايؤَدّي عَنّي إلاّ عليّ » في حديث مشهور (١).

فكان نَبْذُ العهد مختصّاً بمن عَقَدَه ، أو بمن يَقوم مقامَه في فرض الطاعة ، وجلالةِ القدر ، وعُلوِّ الرتبة ، وشرفِ المقام ، ومن لا يُرتابُ بفعاله ، ولا يُعْتَرَضُ في مَقاله ، ومن هو كنفس العاقد ، وأمرُه أمره ، فإذا حكم بحكم مَضى واستقر به ، وأمِنَ الاعتراضُ فيه. وكان بنبذ العهد قوّةُ الإسلام ، وكمالُ الدين ، وصلاحُ أمر المسلمين ، وتمام فتح مكّة ، واتّساق أحوال الصلاح ، فأحبّ اللّه تعالى أن يَجْعَلَ ذلك على يد من ينوه اسمه ، ويُعْلِي ذكرَه ، ويُنَبّه على فضله ، ويَدُلّ على علوّ قدره ، ويبُيِنُه به ممّن سواه ، فكان ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7.

( ولم يكن ) (٢) لأحد من القوم فضلٌ يقاربُ الفضلَ الذي وصفناه ، ولا شَرِكَه فيه أحدٌ منهم على ما بيّناه.

وأمثالُ ما عددناه كثيرٌ ، إن عَمِلنا على إيراده طال به الكتاب ، واتسع به الخطاب ، وفيما أثبتناه منه في الغرض الذي قصدناه كفايةٌ لذوي الألباب.

ــــــــــــــــــ

(١) انظر ـ على سبيل المثال لا الحصر : تاريخ اليعقوبي ٢ : ٧٦ ، سيرة ابن هشام ٤ : ١٩٠ ، مسند أحمد ١ : ٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٥١ ، جامع البيان للطبري ١٠ : ٤٦ ، الدر المنثور ٣ : ٢٠٩ ، تاريخ دمشق ـ ترجمة أمير المؤمنين 7 ـ ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٩٠ ، كنز العمال ٢ : ٤١٧.

(٢) في « م » وهامش « ش » : لم يك.


فصل

فأمّا الجهاد الذي ثَبتت به قواعدُ الإسلام ، واستقرّت بثبوتها شرائعُ الملّة والأحكام ، فقد تَخَصَّصَ منه أميرالمؤمنين 7 بما اشتهر ذكره في الأنام ، واستفاض الخبرُ بهُ بين الخاصّ والعامّ ، ولم تختلفْ فيه العلماء ، ولا تَنازَعُ في صحّته الفُهَماء ، ولا شَكّ فيه إلاّ غُفْل لم يَتَامَّل الأخبارَ ، ولا دَفَعَه ممّن نظر في الآثار ، إلاّ معاندٌ بَهات لا يَستحيي من العار.

فمن ذلك ما كان منه 7 في غَزاة بدر المذكورة في القرآن ، وهي أوّلُ حرب كان بها الامتحانُ ، وملأت رَهْبَتُها صدورَ المعدودين من المسلمين في الشجعان ، وراموا التاخّرَ عنها لخوفهم منها وكَراهتهم لها ، على ما جاء به مُحكم الذِكر في التبيان ، حيثُ يقول ـ جلّ جلاله ـ فيما قصّ به من نبأهم (١) على الشرح والبيان ( كَمَا اَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ باِلحَقِّ وَاِنَّ فَريقأ مِنَ اْلمؤمِنينَ لَكَارِهُونَ *يُجَادِلُونَكَ في الحق بَعْدَ مَا تَبَينِّ كَاَنَّمَا يُسَاقوُنَ اِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) (٢) في الآي المتصلة بذلك الى قوله تعالى : ( وَلاَ تَكَوُنوا كَآلَّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ ألنّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ أللّه وَأللّه بمَا يَعْمَلوُنَ محيطٌ ) (٣) إِلى آخر

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ح » وهامش « ش » : نياتهم.

(٢) الأنفال ٨ : ٥ ـ ٦.

(٣) الأنفال ٨ : ٤٧.


السورة. فإنّ الخبرَعن أحوالهم فيها يتلُو بعضه بعضاً ، وإن اختلفت ألفاظُه واتّفقت معانيه.

وكان من جملة خبر هذه الغزاة ، أنّ المشركين حضروا بدراً مُصرِّين على القتال ، مُستظهِرين فيه بكثرة الأموال ، والعَدَد والعُدّة والرجال ، والمسلمون إذ ذاك نفر قليل عددهم هناك ، حضرتْه طوائفٌ منهم بغير اختيار ، وشَهِدَتْه على الكُرْه منها له والاضطرار ، فتحدَّتْهم قريش بالبِراز ودَعَتْهم إلى المُصافّة والنِزال (١) ، واقترحَتْ في اللقاء منهم الأكفاء ، وتطاولت الأنصارُ لمبارَزَتهم فمنعهم النبي 9 من ذلك ، وقال لهم : « إنّ القومَ دَعَوْا الأكفاء منهم » ثمّ أمر علياً أميرَ المؤمنين 7 بالبرُوز إليهم ، ودعا حمزةَ بن عبد المطّلب وعُبَيْدَة بن الحارث ـ رضي اللّه عنهما ـ أن يَبْرُزا معه.

فلمّا اصطفُّوا لهم لم يُثْبِتهم (٢) القوم ، لأنهم كانوا قد تَغَفروا (٣) فسألوهم : من أنتم ، فانْتَسَبوا لهم ، فقالوا : أكْفاءٌ كِرامٌ. ونَشِبَتْ الحربُ بينهم ، وبارز الوَليدُ أميرَ المؤمنين 7 فلم يُلَبِّثه (٤) حتّى قتله ، وبارَزَ عُتْبَةُ حمزةَ 2 فقتله حمزة ، وبارز شَيبةُ عُبَيدةَ ; فاختلفت بينهما ضربتان ، قَطَعت إحداهما فخِذَ عُبَيدة ، فاستنقذه أميرُ المؤمنين 7 بضربة بَدَر بها شَيْبَة فقتله ،

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » : والقتال.

(٢) في « ح » : يتبينهم.

(٣) تغفّروا : أي لبسوا المغافر ، والمِغفر : زَرَد ينسج من الدرع على قدر الرأس ، يلبس تحت القلنسوة : « الصحاح ـ غفر ـ ٢ : ٧٧١ ».

(٤) في « ش » و « م » : يُلبثه.


وشرَكَه في ذلك حَمْزَة ـ رضوان اللّه عليه ـ فكان قتل هؤلاء الثلاثة أوّل وَهْن لَحِق المشركين ، وذُلٍّ دَخَل عليهم ، ورَهْبةٍ اعتراهم بها الرعْب من المسلمين ، وظَهَر بذلك أماراتُ نصر المسلمين.

ثمّ بارز أميرُ المؤمنين 7 العاصَ بن سعيد بن العاص ، بعد أن أحجم عنه من سواه فلم يُلَبّثه أن قتله. وبَرَز إليه حَنْظَلةُ ابنُ أبي سفيان فقتله ، وبَرَز بعده طُعيْمَةَ بن عَدِيّ فقتله ، وقتل بعده نَوْفَلَ بنَ خُوَيْلِد ـ وكان من شياطين قريش ـ ولم يزل 7 يقتل واحداً منهم بعد واحد ، حتى أتى على شَطْر المقتولين منهم ، وكانوا سبعين قتيلاً (١) تولّى كافّة من حَضَرَ بدراً من المؤمنين مع ثلاثة آلافٍ من الملائكة المسوّمين قتلَ الشَطْر منهم ، وتولّى أمير المؤمنين قتلَ الشَطْر الآخر وحده ، بمعونة اللة له وتوفيقه وتاييده ونصره ، وكان الفتحُ له بذلك وعلى يديه ، وختم الأمر بمناوَلة النبي 9 كفّاً من الحَصى (٢) ، فرمى بها في وجوههم وقال : « شاهَت الوجوه » فلم يبقَ أحدٌ منهم إلاّ ولّى الدُبر لذلك منهزمأ ، وكفى الله المؤمنين القتال بامير المؤمنين 7 وشُرَكائه في نُصرْة الدين من خاصّة ( آل الرسول ) (٣) ـ عليه وآله السلام ـ ومن أيّدهم به من الملائكة الكرام عليهم التحية والسلام كما قال اللّه عزّ وجلّ : ( وكفى اللّه المؤْمِنينَ الْقِتَالَ وكَانَ أللّه قَوِيّاً عَزيزاً ) (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : رجلاً.

(٢) في هامش « ش » و « م » : الحصباء.

(٣) في هامش « ش » و « م » : الرسول.

(٤) الأحزا ب ٣٣ : ٢٥.


فصل

وقد أثبت رواة العامّة والخاصّة معاً أسماءَ الذين تَولّى أميرُالمؤمنين 7 قَتْلَهم ببدر من المشركين ، على اتّفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح ، فكان ممّن سمّوه :

الوَليدُ بن عُتْبة ـ كما قدّمناه ـ وكان شجاعاً جَريئاً فاتكاً وقّاحاً ، تَهابُه الرجال.

والعاصُ بن سعيد ، وكان هَوْلاً عظيماً تَهابهُ الأبطال. وهو الذي حادَ عنه عُمَر بن الخطّاب ، وقصّته فيما ذكرناه مشهورة ، ونحن نُثبتها (١) فيما نورده بعد إن شاء الله (٢).

وطُعَيْمةُ بن عَدِيّ بن نَوْفَل ، وكان من رؤوس أهل الضلال.

ونوفَلُ بن خُوَيلِد ، وكان من أشدّ المشركين عَداوةً لرسول اللّه 9 وكانت قريش تُقدّمه وتُعَظّمه وتُطيعه ، وهو الذي قَرَن أبا بكر بطلْحة ـ قبل الهجرة بمكّة ـ وأوثَقَهما بحَبْل وعذّبهما يوماً إلى الليل حتّى سُئِلَ في أمرهما (٣). ولمّا عَرَفَ رسولُ اللة 9 حضوره بدراً ، سال اللّه عزّ وجلّ ان يكفيه أمره فقال : « اللّهمّ اكفِني نَوْفَل بن خُويلِد »

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : نبيّنها.

(٢) يأتي في ص ٤١ و ٤٢.

(٣) اُنظر تفاصيل هذه القضية والردود عليها ، في الصحيح من سيرة النبي الأعظم ٢ : ٥٤ ـ ٥٧ ، للسيد جعفر مرتضى العاملي.


فقتله أمير المؤمنين 7.

وزَمْعَةُ بن الأسْوَد.

والحارِثُ بن زَمْعَة.

والنَضْرُ بن الحارث بن عَبْد الدار.

وعُميرُبن عُثمان بن كَعبْ بن تَيْم ، عمّ طَلْحة بن عُبَيداللّه.

وعُثمانُ ، ومالكُ ابنا عُبَيداللّه ، أخوا طَلْحة بن عُبَيداللّه.

ومسعود بن أبي أمَيّة بن المُغِيرة.

وقَيْسُ بن الفاكِه بن المُغِيرة.

وحُذَيْفَةُ بن أبي حذيفة بن المُغِيْرة.

وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة.

وحَنْظَلَة بن أبي سُفيان.

وعَمْروُ بن مَخزوم.

وأبو المُنذِر بن أبي رِفاعَة.

ومُنَبّهُ بن الحَجّاج السَهِميّ.

والعاصُ (١) بن مُنَبِّه.

وعَلقْمَةُ بن كَلَدَة.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ش » : العاصي وما في المتن من نسخة « ح » وهو الصحيح كما ورد في السيرة النبوية لابن هشام ٢ : ٣٧١ ، والمغازي للواقدي ١ : ١٥٢ ، والكامل لابن الاثير ٢ : ٧٤.


وأبو العاصِ بن قيسْ بن عَدِيّ.

ومعاوية بن المُغِيرة بن أبي العاص.

ولُوْذانُ بن رَبيعة.

وعبدُاللّه بن المنذر بن أبي رِفاعة.

ومسعودَ بن أمَيّة بن المُغِيرة.

وحاجِبُ بن السائب بن عويمر.

وأوسُ بن المُغَيرة بن لُوْذان.

وزيدُ بن ملَيص.

وعاصمُ بن أبي عَوْف.

وسعيدُ بن وَهْب ، حليف بني عامر.

ومعاويةُ بن عامر بن عبد القَيس.

وعبدُالله بن جَميل بن زُهَيْر بن الحارث بن أسَد.

والسائبُ بن مالك.

وأبو الحَكَم بن الأخْنَس.

وهِشامُ بن أبي اُمَيّة بن المُغِيرة.

فذلك خمسة وثلاثون رجلاً (١) ، سوى من اخْتُلِف فيه ، أو شَرِك أمير المؤمنين 7 فيه غيره ، وهم أكثر من شَطْر المقتولين

ــــــــــــــــــ

(١) في اسماء بعض المقتولين خلاف في كتب السيرة كما في قيس بن الفاكه ففيها أبو قيس.


ببدر ، على ما قدّمناه.

فصل

فمن مختصر الأخبار التي جاءت بشرح ما أثبتناه ، ما رواه شُعْبةَ ، عن أبي إسحاق ، عن حارث بن مضَرّب قال : سمعت عليَّ بن أبي طالب 7 يقول : « لقد حضرنا بدراً وما فينا فارسٌ غير المِقْدَاد بن الأسود ، ولقد رأيتُنا ليلةَ بدرٍ وما فينا إلاّ من نام ، غير رَسول اللّه 9 فإنّه كان مُنْتَصِباً في أصل شجرةٍ يُصلّي ويَدْعُوحتّى الصباح » (١).

وروى عليّ بن هاشم ، عن محمّد بن عُبَيد اللّه بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جدّه أبي رافع مولى رسول الله 9 ـ قال : لمّا أصبح الناسُ يومَ بدر ، اصطفّتْ قريش أمامَها عُتْبَة بن رَبيعة وأخوه شَيْبة وابنهً الوَليد ، فنادى عُتْبَةُ رسولَ الله 9 فقال : يا محمّد ، أخْرِجْ إلينا اكفاءَنا من قريش. فَبَدر (١) إليهم ثلاثةٌ من شُبّان الأنصار فقال لهم عُتْبَة : من أنتم؟ فانتسبوا له ، فقال لهم : لا حاجةَ بنا إلى مبارَزتكم ، إنّما طَلَبْنا بني عمّنا.

فقال رسول اللّه 9 للأنصار : « اِرجِعوا إلى

ــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٤٢٦ ، مصباح الأنوار : ٣٠٤ ، ارشاد القلوب : ٢٣٩ ، وورد باختلاف يسير في مسند أحمد ١ : ١٢٥ ، ودلائل النبوة ٣ : ٤٩ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ٢٧٩ / ١٧.

(٢) في هامش « ش » و « م » : فخرج.


مَواقِفكم » ثمّ قال : « قُمْ يا عليّ ، قُمْ يا حمزة ، قُمْ يا عُبَيْدة ، قاتلوا على حقّكم الذي بَعَث اللّه به نبيَّكم ، إذ جاؤوا بباطلهم ليُطْفِؤُوا نورَ الله » فقاموا فصَفّوا للقوم ، وكان عليهم البَيْض فلم يُعْرَفوا ، فقال لهم عُتْبَة : تكلّموا ، فإن كنتم أكفاءَنا قاتلناكم. فقال حمزة : أنا حمزةُ بن عبد المطّلب ، أسد الله وأسد رسوله ، فقال عُتْبة : كُفوٌ كريم. وقال أمير المؤمنين 7 : « أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب » وقال عُبيدة : أنا عُبيدة بن الحارثِ بن عبد المطّلب.

فقال عُتبة لابنه الوَليد : قم يا وليد ، فبرز إليه أمير المؤمنين 7 ـ وكانا إذ ذاك أصغرِي الجماعة سنّاً ـ فاختلفا ضربتين ، أخطأتْ ضربةُ الوليد أميرَ المؤمنين 7 واتقى بيده اليُسرى ضربةَ أمير المؤمنين 7 فأبانَتْها.

فرُوِي أنّه كان يذكُر بدراً وقَتْلَه الوليدَ ، فقال في حديثه : « كانّي أنظُر إلى وَميض خاتمه في شِماله ، ثمّ ضرَبته ضربةً أخرى فصَرَعتُه وسَلَبتُه ، فرأيتُ به رَدْعا (١) من خَلوق (٢) ، فعَلِمتُ أنّه قريبُ عهدٍ بعُرْس ».

ثم بارزعُتبة حمزة 2 فقتله حمزة ، ومشى عُبيدة ـ وكان أسنَّ القوم ـ إلى شَيبة ، فاختلفا ضربتين ، فأصاب ذُباب سيف (٣) شَيبة عَضَلة ساق عُبيَدة فقَطَعَتْقا ، واستنقَذَه أميرُ المؤمنين 7 وحمزةُ منه وقَتلا شيبةَ ، وحُمِلَ عُبَيدة من مكانه فمات بالصَفراء (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) الردع : اللطخ والأثر من الطيب. « الصحاح ـ ردع ـ ٣ : ١٢١٨ ».

(٢) الخلوق : نوع من الطيب. « الصحاح ـ خلق ـ ٤ : ١٤٧٢ ».

(٣) ذباب السيف : طرفه الذي يضرب به. « الصحاح ـ ذبب ـ ١ : ١٢٦ ».

(٤) الصفراء : وادٍ بين مكة والمدينة. « معجم البلدان ٣ : ٤١٢ ».


وفي قتل عُتْبةَ وشَيْبة والوليد تقول هند بنت عُتبة :

( [أ] ياعين ) (١) جُودي بدَمْع سَرِب

على خيرخِنْدِف لم يَنْقَلِب

تَداعى له رَهْطُه غُدَوةً

بنوهاشمٍ وبنوالمطّلب

يُذيقونة حَر (٢) أسيافِهم

يَجُرُّونه (٣) بعدَما قد شَجِب (٤ و ٥)

وروى الحسين بن حُمَيد قال : حدَّثنا أبوغسّان قال : حدَّثنا أبو إسماعيل عُمَير بن بَكّار ، عن جابر ، عن أبي جعفر 7 قال : « قال أمير المؤمنين 7 : لقد تعجَّبتُ يومَ بدر من جُرأة القوم ، وقد قتلتُ الوليدَ بن عُتبة وقتل حمزةُ عتبةَ وشَرِكتهُ في قتلِ شَيبة ، إذْ أقبل إليّ حَنْطَلة بن أبي سفيان ، فلمّا دنا منّي ضربتهُ ضربةً بالسيف فسالتْ عيناه ، فلَزِم الأرضَ قتيلاً » (٦).

وروى أبو بكر الهُذَلي ، عن الزُهْري ، عن صالح بن كَيْسان قال : مرّ عُثمان بن عَفّان بسعيد بن العاص فقال : إِنطلقْ بنا إلى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطّاب نتحدّث عنده ، فانطلقا ، قال : فأمّا عُثمان فصار إلى مجلسه الذي يَشتهيه (٧) ، وأمّا أنا فمِلْت في ناحية القوم ، فنظر إليّ عُمَر

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » و « م » : يا عين ، وما أثبتناه مِنَ البحار ، وفي سيرة ابن هشام : أعينيّ جُودا.

(٢) في هامش « ش » و « م » : حَرَّ. وما أثبتناه من هامشها.

(٣) في « م » و « ح » وهامش « ش » : يُعَرّونه.

(٤) شجب : هلك. « الصحاح ـ شجب ـ ١ : ١٥١ ».

(٥) انظرسيرة ابن هشام ٣ : ٤٠ ، ونقله المجلسي في البحار ٩ ١ : ٢٨٠.

(٦) إعلام الورى : ٨٦ ، وذيله في إرشاد القلوب : ٢٤٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٩ : ٢٨٠.

(٧) في « ش » و « م » : يشبهه ، وما اثبتناه من « ح ».


وقال : ما لي أراك كأنّ في نفسك عليّ شيئاً؟ أتظُنُّ أنّي قتلتُ أباك؟ والله لوَدِدتُ أني كنتُ قاتلَه ، ولو قتلتهُ لم أعتذرْ من قتل كافرٍ ، لكننّي مررتُ به يومَ بدرٍ فرأيتهُ يَبْحَث للقتال كما يَبْحَث الثورُ بقَرْنه ، وإذا شِدْقاه قد أزْبَدا كالوَزَغ ، فلما رأيتُ ذلك هِبْتُه ورُغْتُ عنه ، فقال : إلى أين يا ابن الخطّاب؟ وصَمَد له علي فتناوله ، فواللّه ما رِمْتُ مكاني حتّى قتله.

قال : وكان عليّ 7 حاضراً في المجلس فقال : « اللّهم غَفْراً ، ذَهَب الشركُ بما فيه ، ومَحا الإسلام ما تقدّم ، فما لك تَهيج الناسَ!؟ » فكَفّ عُمَر ، قال سعيد : أما إنّه ما كان يَسًّرني أن يكون قاتل أبي غيرَ ابن عمّه عليّ بن أبي طالب ، وأنشا القوم في حديث اخر (١).

وروى محمّد بن إسحاق ، عن يزيدَ بن رُوْمان ، عن عرُوة بن الزبير : أنّ علياً 7 أقبل يومَ بدر نحو طُعَيْمَة بن عَدِيّ بن نَوْفَل فشَجَره بالرُمح ، وقال له : « واللة ، لا تخاصِمُنا في اللّه بعد اليوم أبداً » (٢).

وروى عبد الرَزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزُهْريّ قال : لمّا عَرَف رسول اللّه 9 حضور نَوْفَل بن خُويَلد بدراً قال : اللّهم اكفِني نَوْفلاً « فلما انكشفَتْ قريش رآه عليّ بن أبي طالب 7 وقد تحيّر لا يَدري ما يَصْنع ، فصَمَدَ له ثمّ ضربه بالسيف فنَشِبَ في حَجَفته (٣) فانتزعه منها ، ثمّ ضرب به ساقَه ـ وكانت دِرعه مُشَمّرَة ـ

ــــــــــــــــــ

(١) مغازي الواقدي ١ : ٩٢ ، وشرح النهج لابن ابي الحديد ١٤ : ١٤٤ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٩ : ٢٨٠.

(٢) شرح النهج الحديديَ ١٤ : ١٤٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٩ : ٢٨١.

(٣) الحجفة : يقال للترس اذا كان من جلود ليس فيها خشب ولا عقب. « الصحاح ـ حجف ـ ٤ : ١٣٤١.


فقطعها ، ثمّ أجهزعليه فقتله. فلمّا عاد إلى النبي 9 سَمِعه يقول : « مَنْ له علمً بنَوْفل؟ فقال له : أنا قتلتُه يا رسولَ اللة » فكبّر النبي 9 وقال : « الحمد للّه الذي أجاب دعوتي فيه » (١).

فصل

وفيما صنعه أمير المؤمنين 7 ببدر ، قال أسَيْد بن ( أبي إياس ) (٢) يحرض مشركي قريش عليه :

في كل مَجمْعَ غايةٍ أخزاكم

جَذَعٌ أبرَّعلى المَذاكِي القرحِ (٣)

لله درًّكم أَلمّا تُنصفوا (٤)

قد يُنْصِف (٥) الحرُّالكريم ويستحي

هذا ابنُ فاطمةَ الذي أفناكم

( ذِبحاً وقِتْلَةَ قَعْصَةٍ (٦) لم تُذْبَح ) (٧)

ــــــــــــــــــ

(١) ارشاد القلوب : ٢٤٠ ، ونقله المجلسي في البحار ١٩ : ٢٨١ ، ونحوه في مغازيَ الواقدي١ : ٩١ ، ودلائل النبوة ٣ : ٩٤ ، وشرح نهج البلاغة ١٤ : ١٤٤.

(٢) في « م » : أبي اناس.

(٣) الغاية : الراية. « الصحاح ـ غيا ـ ٦ : ٢٤٥١ ».

الجذع : يقال لولد الحافر في السنة الثالثة. « الصحاح ـ جذع ـ ٣ : ١١٩٤ ».

وأبرّ : غلب. « القاموس ـ برر ـ ١ : ٢٤٥١ ».

والمذاكي : واحدها مُذَكٍ‌ الخيل ابن ست سنين أو سبع. « الصحاح ـ ذكى ـ ٦ : ٢٣٤٦ ».

والقرح : واحدها قارح ، وهو من الخيل ابن خمس سنين. « الصحاح ـ قرح ـ ١ : ٣٩٥ ».

(٤) في « م » وها مش « ش » : تنكروا.

(٥) في « م » وهامش « ش » : ينكر.

(٦) القعص : الموت السرِيع. « الصحاح ـ قعص ـ ٣ : ١٠٥٣ ».

(٧) في هامش « ح » : ذبحاً ويمشي سالماً لم يذبح.


أعْطُوه خَرْجاً واتقُوابضريبةٍ

فِعْلَ الذَليل وبيعةً لم تُرْبح

أين الكهول؟ وأينَ كلِّ دِعامة؟

في المًعْضِلات وأين زَينُ الأبطح؟

أفناهم قَعْصاً وضرباً يَفْتَرِي (١)

بالسيف يًعْمِل حَدُّه لم يَصْفَح (٢ و ٣)

فصل

في ذكر غَزاة احد

ثمّ تلت بدراً غَزاةُ احًد ، فكانت رايةُ رسول اللّه 9 بيد أميرالمؤمنين 7 فيها ، كما كانت بيده يومَ بدر ، فصار اللِواءُ إليه يومئذ ففاز بالراية واللِواء جميعاً ، وكان الفتحُ له في هذه الغزاة كما كان له ببدر ـ سواء ـ واختصّ بحسن البلاء فيها والصبر ، وثبوتِ القدم عندما زلّت من غيره الأقدامُ ، وكان له من الغَناء عن رسول اللّه 9 ما لم يكن لسواه من أهل الإسلام ، وقَتَل الله بسيفه رؤوسَ أهل الشرك والضَلال ، وفرّج اللّه به الكَرْبَ عن نبيّه 7 ، وخَطَبَ بفضله في ذلك المقام جبرئيلُ 7 في ملائكة الأرض والسماء ، وأبانَ نبيُّ الهدى عليه وآله السلام من اختصاصه به ما كان مستوراً عن عامّة الناس.

فمن ذلك ما رواه يحيى بن عُمارَة قال : حدثني الحسن بن موسى

ــــــــــــــــــ

(١) يفتري : يقطع. « الصحاح ـ فرا ـ ٦ : ٢٤٥٤ ».

(٢) الصفح : الضرب بعرض السيف لا بحده. « إنظر الصحاح ـ صفح ـ ١ : ٣٨٣ ».

(٣) الفصول المختارة : ٢٣٦ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٢١ ، اُسد الغابة ٤ : ٢٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٩ : ٩٢ / ١٢٨.


ابن رَباح (١) ـ مولى الأنصار ـ قال : حدَّثني أبو البَخْتِريّ القُرشيّ قال : كانت رايةُ قريش ولواؤها جميعاً بيد قصيَّ بن كِلاب ، ثمّ لم تَزَل الرايةُ في يد ولد عبد المطّلب يحمِلُها منهم من حَضر الحربَ ، حتّى بعث اللّه رسولَه 9 فصارت رايةُ قريش وغير ذلك إلى النبي 9 فاقرّها في بني هاشم ، وأعطاها رسولُ اللّه 9 عليَّ ابن أبي طالب 8 في غَزاة وَدّان (٢) وهي أوّلُ غَزاة حُمِل (٣) فيها راية في الإسلام مع النبي 9 ثمّ لم تَزَل معه في المشاهد ، ببدر وهي البَطْشة الكبرى ، وفي يوم اُحد وكان اللِواء يومئذ في بني عبد الدار ، فأعطاه رسولُ اللّه 9 مُصْعَبَ بن عُمَير ، فاستشهد ووقع اللِواء من يده فتشوفته القبائلُ ، فاخذه رسولُ اللّه 9 فدفعه إلى عليّ بن أبي طالب 7 فجُمِع له يومئذ الراية واللواءُ ، فهما إلى اليوم في بني هاشم (٤).

وقد روى المُفَضّل بن عبدالله ، عن سِماك ، عن عِكرْمة ، عن عبدالله بن العباس أنه قال : لعلي بن أبي طالب 7 أربعٌ ما هن لأحد : هو أوّل عَرَبيّ وعَجَميّ صلّى مع النبي 9. وهو صاحب لِوائه في كلّ زَحْف. وهو الذي ثبت معه يوم المِهراس (٥)

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » و « ح » : رياح وما اثبتناه من « م ».

(٢) ودّان : موضع بين مكة والمدينة. سميت الغزوة به. « معجم البلدان ٥ : ٣٦٥ ».

(٣) في « م » وهامش « ش » : حملت.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٢٩٩ ، كفاية الطالب : ٣٣٥ ، اعلام الورى : ١٩٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٠.

(٥) المهراس : ماء بجل أُحد. « معجم البلدان ٥ : ٢٣٢ ».


ـ يعني يومَ اُحد ـ وفَرَّ الناس. وهو الذي أدخله قبرَه (١).

وروى زيد بن وَهبْ الجُهَنِي قال : حدَّثنا أحمد بن عمّار قال حدَّثني : الحِمّاني قال : حدَّثنا شرِيك ، عن عُثمان بن المُغيرة ، عن زيد بن وَهْب ، قال : وَجَدْنا من عبداللّه بن مسعود ـ يوماً ـ طيب نفس فقلنا له : لو حدّثتَنا عن يوم اُحد ، وكيف كان؟.

فقال : أجَلْ ـ ثمّ ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحَرْب ـ فقال : قال رسولُ اللّه 9 : « أُخْرُجوا إليهم على اسم اللّه » فخَرَجْنا فصَفَفْنا لهم صفّاً طويلاً ، وأقام على الشِعْب خمسين رجلاً من الأنصار ، وأمَّر عليهم رجلاً منهم ، وقال : « لا تَبْرَحُوا عن مكانكم هذا وان قُتِلنا عن آخرنا ، فإنّما نُؤتى من موضعكم هذا » قال : وأقام أبو سفيان بن حَرْب بإزائهم خالدَ بن الوليد ، وكانت الألوِيةُ من قريش مع بني عبد الدار ، وكان لِواءُ المشركين مع طَلْحة بن أبي طَلْحة ، وكان يُدْعى كَبْشَ الكَتِيبة.

قال : ودَفَعَ رسولُ اللّه 9 لواءَ المهاجرين إلى عليّ ابن أبي طالب 7 وجاء حتّى قام تحت لِواء الأنصار.

قال : فجاء أبو سفيان إلى أصحاب اللِواء فقال : يا أصحاب الألْوِية ، إنّكم قد تعلمون أنّما يُؤتَى القومُ من قبل ألويتهم ، وإنّما أتِيتم

ــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١١١ ، الاستيعاب ٣ : ٢٧ ، شرح نهج البلاغة ٤ : ١١٦ ، كفاية الطالب : ٣٣٦ ، وذكره الصدوق في الخصال ١ : ٢١٠ / ٣٣ بأختلاف يسير ، ونقله المجلسي في البحار ٢٠ : ٨١.


يوم بدرمن قبل ألويتكم ، فإن كنتم تَرَون أنكم قد ضَعُفْتم عنها فادفعوها إلينا نَكْفِكموها.

قال : فغَضِب طَلحة بن أبي طَلحة وقال : ألنا تقول هذا؟ والله لأورِدنّكم بها اليوم حِياضَ الموت. قال : وكان طَلحة يُسمّى كَبْشَ الكَتِيبة.

قال : فتقدّم وتقدّم عليّ بن أبي طالب 7 فقال عليّ : « من أنت؟ » قال : أنا طَلحة بن أبي طَلحة ، أنا كَبشُ الكَتيبة فمن أنت؟ قال : « أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب » ثمّ تقاربا فاختلفت بينهما ضربتان ، فضربه عليّ بن ابي طالب 7 ضربةً على مقدّم رأسه ، فبدرت عيناه وصاح صيحةً لم يُسْمَع مثلها قطّ وسَقَط اللواء من يده ، فأخذه أخ له يقال مُصْعَب ، فرماه عاصم بن ثابت فقتله ، ثمّ أخذ اللواء أخ له يقال له عثمان ، فرماه عاصم ـ أيضاً ـ فقتله ، فأخذه عبد لهم يقال له صواب ـ وكان من أشدّ الناس ـ فضرب عليُّ بن أبي طالب 7 يدَه فقطعها ، فأخذ اللِواء بيده اليُسرى ، ( فضرَبه ) (١) على يده فقطعها ، فأخذ اللِواءَ على صدره وجمع يديه وهما مقطوعتان عليه ، فضربه عليّ 7 على أمّ رأسه فسَقَط صريعاً وانهزم القوم ، وأكبّ المسلمون على الغنائم.

ولمّا رأى أصحابُ الشِعْب الناسَ يَغْنمون (٢) قالوا : يَذْهَب هؤلاء بالغنائم ونبقى نحن؟! فقالوا لعبدالله بن عمرو بن حَزْم ، الذي كان رئيساً

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : فضرب.

(٢) في « م » وهامش « ش » : يغتنمون.


عليهم : نريد أن نَغْنَم كما غَنِم الناسُ ، فقال : إن رسولَ اللّه 9 أمرني أن لا أبرَحَ من موضعي هذا ، فقالوا له : إنه أمرك بهذا وهو لا يَدْري أنّ الأمرَ يَبْلُغَ إلى ما ترى ، ومالوا إلى الغنائم وتركوه ، ولم يَبْرحَ هو من موضعه ، فحَمَل عليه خالدُ بن الوليد فقتله.

وجاء من ظَهْر رسول اللّه 9 يرُيده ، فنظر إلى النبيّ في حَفٍّ من أصحابه ، فقال لمن معه : دُونكم هذا الذي تَطْلُبون ، فَشَانكم به ، فَحمَلوا عليه حملةَ رجل واحد ضرباً بالسيوف وطَعْناً بالرماح ورَمْياً بالنَبْل ورَضْخاً بالحجارة ، وجعل أصحاب النبي 9 يقاتلون عنه حتى قتل منهم سبعون رجلأ ، وثبت أمير المؤمنين 7 وأبو دُجانَة الأنصاري وسَهْل بن حُنَيْف للقوم يَدْفَعون عن النبي 9 وكَثُرعليهم المشركون ، ففَتَح رسولُ اللّه 9 عَيْنَيْه فنظر إلى أمير المؤمنين 7 ـ وقد كان اُغمي عليه ممّا ناله ـ فقال : « يا عليّ ، ما فعل الناس؟ قال : نَقَضوا العهد ووَلَّوُا الدُبُر ، فقال له : فاكفِني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي » فحمل عليهم أمير المؤمنين 7 فكَشَفهم ، ثمّ عاد إليه ـ وقد حملوا عليه من ناحية اُخرى ـ فكرَّ عليهم فكشَفَهم ، وأبو دُجانَة وسَهْل بن حُنيْف قائمان على رأسه ، بيد كلّ واحد منهما سيفهُ ليَذُبَّ عنه.

وثاب إليه من اصحابه المنهزمين أربعةَ عشر رجلاً منهم طَلحة بن عُبَيد اللّه وعاصم بن ثابت. وصَعِد الباقون الجبَل ، وصاح صائحٌ بالمدينة : قُتِل رسولُ اللّه ، فانخلعت القلوبُ لذلك ، وتحيّر المنهزمون فأخذوا يميناً وشِمالاً.


وكانت هندٌ بنت عتبة جَعَلتْ لوحشيٍ جُعْلاً على أن يَقْتُل رسولَ اللة صلّى اللة عليه وآله أو أميرَالمؤمنين علي بن أبي طالب أو حمزةَ بن عبد المطّلب 8 فقال لها : أما محمّد فلا حيلة لي فيه ، لاّنّ أصحابه ( يُطيفون به ) ، وأما عليّ فإنّه إذا قاتل كان أحذَر من الذِئب ، وأمّا حمزة فإني أطْمَع فيه ، لأنه إذا غَضِب لم يُبْصِر بين يديه.

وكان حمزة ـ يومئذ ـ قد أعْلَمَ بريشةِ نَعُامة في صدره ، فكَمن له وحشي في أصل شجرة ، فرآه حمزة فبدر اليه بالسيف فضربه ضربةً أخطأت رأسَه ، قال وحشي : وهَزَزتُ حَرْبتي حتّى إذا تمكّنت منه رميته ، فأصبتهُ في أُربِيّته (١) فأنفذتُه ، وتركتهُ حتّى إذا برد صِرت إليه فاخذت حَربتي ، وشُغِل عني وعنه المسلمون بهزيمتهم.

وجاءت هند فأمَرَتْ بشَقّ بطن حمزة وقطع كَبده والتمثيل به ، فجَدَعوا أنفه واُذَنَيْه ومَثّلوا به ، ورسولُ الله 9 مشغولٌ عنه ، لا يَعْلَم بما انتهى إليه الأمرُ.

قال الراوي للحديث ـ وهو زيد بن وَهْب ـ قلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله حتّى لم يبقَ معه إلاّ علي بن أبي طالب 7 وأبو دُجانَة وسهل بن حًنَيْف؟!

قال : انهزم الناس إلاّ علي بن أبي طالب وحده وثاب الى رسول الله 9 نفر ، وكان أولهم عاصِم بن ثابت وأبو دُجانة وسَهْل

ــــــــــــــــــ

(١) فيه هامش « ش » : ثُنّته وكلاهما معنى واحد ، وهي ما بين السرة والعانة. « الصحاح. ثنن ـ ٥ : ٢٠٩ ».


ابن حُنَيف ولحقهم طَلحة بن عُبَيداللّه.

فقلت له : فأين كان أبو بكر وعمر؟!

قال : كانا ممّن تنحّى.

قال ، قلت : فأين كان عثمان؟!

قال : جاء بعد ثلاثة من الوَقْعة ، فقال له رسول اللّه 9 : « لَقدْ ذَهَبْتَ فيها عَرِيضة » (١).

قال ، فقلت له : فأين كنتَ أنت؟.

قال : كنتُ فيمن تنحّى.

قال فقلت له : فمن حدَّثك بهذا؟.

قال : عاصم وسهل بن حنيف.

قال ، قلت له : إنّ ثبوتَ علي 7 في ذلك المقام لعَجَبٌ.

فقال : إن تعجّبت من ذلك ، لقد تعجّبتْ منه الملائكة ، أما علمتَ أنّ جبرئيل قال في ذلك اليوم ـ وهويَعْرج إلى السماء ـ : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي.

فقلت له : فمن أين عُلِم ذلك من جبرئيل؟.

فقال : سَمِعَ الناس صائحاً يَصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبي

ــــــــــــــــــ

(١) كناية عن هزيمته التي ابعد فيها ـ زماناً ومكاناً ـ عن محل الواقعة.


9 عنه فقال : « ذاك جبرئيل » (١).

وفي حديث عِمران بن حُصَيْن قال : لمّا تفرقّ الناسُ عن رسول اللّه 9 في يوم أُحد ، جاء عليّ مُتَقلّداً سيفَه حتّى قام بين يديه ، فرفع رسولُ اللّه 9 رأسَه إليه فقال له : « ما لك لم تَفِرَّ مع الناس؟ فقال : يا رسول اللّه أأرجع كافراً بعد إسلامي! » فاشار له إلى قوم انحَدَرُوا من الجبل فحَمَلَ عليهم فهَزَمهم ، ثمّ أشار لَه إلى قوم آخرين فحمل عليهم فهَزَمهم ، ثمّ أشار إلى قوم فحَمَل عليهم فهَزَمهم ، فجاء جبرئيل 7 فقال : يا رسول الله ، لقد عَجِبتِ الملائكة ( وعَجبنا معهم ) (٢) من حسن مواساة عليّ لك بنفسه ، فقال رسول الله 9 : « وما يمنعه من هذا وهو منّي وأنا منه » فقال جبرئيل 7 : وأنا منكما (٣).

وروى الحَكَم بن ظُهير (٤) ، عن السُدِّي ، عن أبي مالك ، عن ابن عبّاس رحمة الله عليه : انّ طلحة بن أبي طَلحة خرج يومئذ فوقف بين

ــــــــــــــــــ

(١) نقلت فقرات من الواقعة في مصباح الأنوار : ٣١٤ ، اعلام الورى : ١٩٣ ، ارشاد القلوب : ٢٤١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨١ ـ ٨٥.

(٢) في هامش « ش » و « م » : عجبنا معها.

(٣) ذكره بسند آخر الطبري في تاريخه ٢ : ٥١٤ ، وابن شهرآشوب في المناقب ٣ : ١٢٤ ، وقطع منه في مجمع الزوائد ٦ : ١١٤ ، وشرح النهج ١٣ : ٢٦١ ، ١٤ / ٢٥٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٥.

(٤) ضبط كلمة ظهير في « ش » و « م » مصغراً ( بضم الظاء ) ولكن في هامشهما : ظَهيرمكبراً ( بفتح الظاء ). وهامش اخر في « ش » : كان الاسم مصغراً [في] نسخة الشيخ [رضي ] ، الله عنه ، وفي هامش اخر في « ش » و « م » : والمعروف عند أصحاب الحديث مصغراً. وضبط الكلمة بالتصغير في تقريب التهذيب ١ : ١٩١.


الصفين ، فنادى : يا اصحاب محمّد ، إنّكم تَزْعمُون أنّ الله تعالى يُعَجّلنا بسيوفكم إلى النار ، ويُعَجّلكم بسيوفنا إلى الجنّة ، فأيّكم يَبْرُز إلي؟ فبرز إليه أميرالمؤمنين 7 فقال : « واللّه لا أفارقُك اليومَ حتى أُعَجّلك بسيفي إلى النار » فاختلفا ضربتين ، فضربه علي بن أبي طالب على رِجْلَيه فقطعهما ، وسقَطَ فانكشف عنه ، فقال : أنشدك اللّه ـ يا بن عَمّ ـ والرَحِم. فانصرف عنه إلى موقفه ، فقال له المسلمون : ( ألا أجزت ) (١) عليه؟ فقال : « ناشدني الله والرَحِم ، وواللّه لا عاش بعدها أبداً » فمات طَلحة في مكانه ، وبشر النبيُ 9 بذلك فَسُرَّبه وقال : « هذا كَبْش الكَتِيبة » (٢).

وقد روى محمّد بن مَروان ، عن عُمارَة ، عن عِكْرِمَة قال : سمعتُ علياً 7 يقول : « لما انهزم الناس يوم أُحد عن رسول الله 9 لَحِقني من الجَزَع عليه ما لم أمْلِك نفسي ، وكنتُ أمامه أضرِب بسيفي بين يديه ، فرَجَعتُ أطلُبه فلم أرَه ، فقلت : ما كان رسول اللّه ليفِرَّ ، وما رأيتُه في القتلى ، وأظُنُّه رُفع من بيننا إلى السماء ، فكَسَرْت جَفْنَ سيفي ، وقلتُ في نفسي لأقاتلنّ به عنه حتّى أقْتَل ، وحَمَلْتُ على القوم فافَرجوا فإذا أنا برسول الله 9 قد وقع على الأرض مَغْشِيّاً عليه ، فقمتُ على رأسه ، فنظرإليّ وقال : ما صَنَع الناس يا علي؟ فقلت : كَفَروا ـ يا رسول الله ـ ووَلَّوُا الدُبُر

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » و « م » : اجزت ، وهي لغة في اجهزت ، فكلاهما بمعنى واحد ، وما أثبتناه من هامشهما.

(٢) ورد في الفصول المهمة : ٥٧ ، وباختلاف يسير في تاريخ الطبري ٢ : ٥٠٩ ، تفسير القمي ١ : ١١٢ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٢٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار٢٠ : ٨٦.


( من العدوّ ) (١) وأسلموك. فنظر النبيُ 9 إلى كَتِيبةٍ قد أقبلتْ إليه ، فقال لي : رُدَّ عنيّ ياعلي هذه الكَتِيبة ، فحَمَلتُ عليها بسيفي أضربُها يميناً وشِمالاً حتّى وَلَّوُا الأدبار. فقال لي النبي 9 : أما تَسْمَعُ يا علي مديحَك في السماء ، إنّ مَلَكاً يقال له رضوان يُنادي : لا سيفَ إلاّ ذو الفقار ولا فَتى إلاّ عليّ. فبَكَيْتُ سروراً ، وحَمَدتُ اللّه سبحانه على نعمته » (٢).

وقد روى الحسن بن عَرَفة ، عن عُمارة بن محمّد ، عن سَعْد بن طَرِيف ، عن ابي جعفر محمّد بن علي 8 ، عن ابائه ، قال : « نادى مَلَك من السماء يومَ أُحد : لا سيفَ إلاّ ذو الفَقار ، ولا فَتى إلاّ عليّ » (٣).

وروى مثلَ ذلك إبراهيمُ بن محمّد بن مَيمون ، عن عَمرو بن ثابت ، عن محمّد بن عُبَيدالله بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جدّه قال : ما زلنا نَسْمَع أصحابَ رسول اللّه 9 يقولون : نادى في يوم أُحد منادٍ من السماء : لا سيفَ إلاّ ذو الفَقار ، ولا فَتى إلاّ علي (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : من العدد.

(٢) إعلام الورى : ١٩٤ ، ارشاد القلوب : ٢٤٢ ، وقطع منه في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٢٤ ، أُسد الغابة ٤ : ٢١ ، احقاق الحق ١٨ : ٨٣ عن تاريخ الخميس ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٦.

(٣) رواه الصدوق في أماليه : ١٦٧ / ذ ح ١٠ ، ومعاني الأخبار : ١١٩ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٨٦.

(٤) تاريخ الطبري ٢ : ٥١٤ ، والاغاني لابي الفرج الاصفهاني ١٥ : ١٩٢ ، ومناقب ابن المغازلي :


وروى سلام بن مِسكين ، عن قَتادة ، عن سَعيد بن المُسَيّب قال : لو رأيتَ مَقامَ عليّ يومَ أُحُد ، لوجدتَه قائماً على ميمنةِ رسول اللّه 9 يذُبّ عنه بالسيف ، وقد وَلّى غيره الأدبار (١).

وروى الحسن بن محبوب قال : حدَّثنا جميلُ بن صالح ، عن أبي عُبَيْدة ، عن أبي عبداللّه جعفر بن محمد ، عن آبائه : قال : « كان أصحابُ اللواء يومَ أحد تسعةً ، قَتَلَهم عليّ عن آخرهم ، وانهزم القومُ ، وطارت مخزوم منذ فَضَحها عليّ بن أبي طالب يومئذ. قال : وبارز علي الحَكَم بن الأخْنَس ، فضربه فقطع رجله من نصف الفخذ فهلك منها » (٢).

ولمّا جال المسلمون تلك الجَوْلة ، أقبل أُمَيّة بن أبي حُذَيفة بن المُغَيرة ـ وهو دارعٌ ـ وهو يقول : يومٌ بيوم بدر ، فعَرَض له رجلٌ من المسلمين فقتله اُميّة ، وصَمَدَ له عليّ بن أبي طالب فضربه بالسيف على هامته فنَشِب في بَيْضةِ مِغْفَره ، وضربه اُميّة بسيفه فاتّقاها أميرُ المؤمنين بَدَرقته فنَشِب فيها ، ونَزَع علي 7 سيفَه من مِغْفره ، وخَلَّص اُميةُ سيفَه من دَرَقته أيضاً ثمّ تناوشا ، فقال علي 7 : « فنظرتُ إلى فَتْقٍ تحت إبْطه ، فضربتُه بالسيف فيه فقتلته ، وانصرفت عنه » (٣).

ــــــــــــــــــ

١٩٧ / ٢٣٤ ، شرح النهج الحديدي ١٤ : ٢٥١ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٦.

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٧.

(٢) نقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٧ ، وذكر ذيله الواقدي في مغازيه ١ : ٢٨٣.

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٧.


ولما انهزم الناسُ عن النبي 9 في يوم اُحد ، وثبت أميرُ المؤمنين 7 فقال له : « ما لك لا تَذْهَب مع القوم؟ فقال أمير المؤمنين 7 : أذهَبُ وأدَعَك يا رسول الله ، واللهّ لا بَرِحت حتّى أُقْتَل ، أو يُنْجِزَ الله لك ما وعدك من النصر. فقال له النبي 9 « أبْشِر يا عليّ فإنّ الله منجزٌ وعدَه ، ولن ينالوا منّا مثلَها أبداً ».

ثمّ نظرإلى كَتيبة قد أقبلتْ إليه فقال له : « لوحَمَلتَ على هذه يا عليّ » فحمل أميرُ المؤمنين 7 ، فقَتَل منها هِشامَ بن أُمَيّة المخزومي ، وانهزم القوم.

ثم أقبلت كَتيبة اُخرى ، فقال له النبي 9 : « احْمِل على هذه » فحمل عليها فقتل منها عمروبن عبدالله الجُمَحِيّ ، وانهزمت أيضاً.

ثمّ أقبلت كَتيبة أُخرى ، فقال له النبي 9 : « احْمِل على هذه » فحمل عليها فقتل منها بِشْرَ بن مالك العامري ، وانهزمت الكَتيبة ، فلم يَعُد بعدها أحدٌ منهم.

وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبي 9 وانصرف المشركون إلى مكّة ، وانصرف النبي 9 إلى المدينة ، فاستقبلته فاطمة 3 ومعها إناء فيه ماء فغسل به وجهَه ، ولَحِقه أميرُالمؤمنين 7 وقد خَضب الدمُ يدَه إلى كِتفه ، ومعه ذو الفقار فناوله فاطمة 3 وقال لها : « خذي هذا السيف فقد صَدَقني اليوم ».

وأنشا يقول :


« أفاطِم هاكِ السيفَ غيرَذَميمٍ

فلستً برِعديد ولابمُليم (١)

لَعَمري لقد أعْذَرْتُ في نصرأحمدٍ

وطاعة ربٍّ بالعباد عليم (٢)

أميطي دِماءَ القوم عنه فإنّه

سقى آلَ عبد الداركاسَ حميم »

وقال رسول الله 9 : « خُذيه يا فاطمة ، فقد أدّى بعلُك ما عليه ، وقد قتل اللّه بسيفه صَناديدَ قريش » (٣).

فصل

وقد ذكر أهل السير (٤) قتلى أُحُد من المشركين ، فكان جمهورهم قتلى أمير المؤمنين 7.

فروى عبد المَلِك بن هِشام قال : حدَّثنا زياد بن عبدالله (٥) ، عن

ــــــــــــــــــ

(١) الرعديد : الجبان. « الصحاح ـ رعد ـ ٢ : ٤٧٥ ».

وفي هامش « م » و « ح » : بلئيم.

(٢) في هامش « ش » : رحيم.

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٠ ٢ : ٨٧ ٠ انظرقطعاً منه في تاريخ الطبري ٢ : ٥١٤ و ٥٣٣ ، مناقب ابن شهر اشوب ٣ : ١٢٤ ، اعلام الورى : ١٩٤.

(٤) في « ش » : السيرة.

(٥) في « ش » : زياد بن عبيدالله ، وما أثبتناه من « م » و « ح » : هو الصواب ، وهو زياد بن عبدالله ابن الطفيل ، أبو محمد البكائي الكرخي ، سمع المغازي من محمد بن اسحاق مات سنة ١٣٣ أو ١٣٢. اُنظر ترجمته في : سؤالات ابن الجنيد : ٤٠٥ / ٥٥٧ ، الجرح والتعديل ٣ : ٥٣٧ ، تاريخ بغداد ٨ : ٤٧٦ ، تهذيب الكمال ٩ : ٤٨٥ وهامشه ، وزياد بن عبدالله هو الواسطة بين ابن هشام وابن اسحاق كما صرّح به في كتب الرجال.


محمّد بن إسحاق قال : كان صاحب لِواء قريش يوم أحُد طَلحة بن أبي طَلحة بن عبد العُزّى بن عُثمان بن عبد الدار ، قتله عليّ بن أبي طالب 7 ، وقَتَل ابِنَه أبا سعيد بن طَلحة ، وقَتَل أخاه كَلَدَة بن أبي طَلحة ، وقتل عبدَاللّه بن حُميد بن زُهَرَة بن الحارث بن أسَد بن عبد العُزّى ، وقتل أبا الحَكَمَ بن الأخْنَس بن شَريق الثَقَفي ، وقتل الوليدَ ابن أبي حُذَيفة بن المغيرة ، وقتل أخاه أُمَيّة بن ابي حُذَيفة بن المغيرة ، وقتل ارطاةَ بن شُرَحْبيل ، وقتل هِشام بن أميّة ، وعمرو بن عبدالله الجُمَحي ، وبِشْر بن مالك ، وقتل صُواباً مولى بني عبد الدار ، فكان الفتح له ، ورجوع الناس من هزيمتهم إلى النبي 9 بمقامه يَذُبّ عنه دونهم.

وتوجّه العِتاب من اللّه تعالى إلى كافّتهم ، لهزيمتهم ـ يومئذ ـ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار ، وكانوا ثمانية نفر وقيل : أربعة أو خمسة.

وفي قتله 7 من قتل يوم أُحد ، وغَنائه في الحرب ، وحسن بلائه ، يقول الحَجّاج بن عِلاط السُلَميّ :

للّه أيُّ مُذَبِّب عن حِزبه (١)

أعني ابنَ فاطمة ( المُعَمّ المُخْولا ) (٢)

جادت يداك له بعاجل طَعنة

تَرَكَتْ طُلَيحةَ للجَبين مجّدَلا

وشددت شدة باسل فكشفتهم

بالسَفْح (٣) إذ يَهوون أسفل أسفلا (٤)

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « م » : حرمة.

(٢) المعم المخول : الكثير الاعمال والاخوال والكريمهم. « الصحاح ـ خول ـ ٥ : ١٩٩٢ ».

(٣) في « م » وهامش « ش » و « ح » : بالسيف.

(٤) في هامش « ش » و « م » : أخول أخولا. والمعنى : يقال ذهب القوم. أخولَ أخولَ ، إذا تفرقوا شتّى. « الصحاح ـ خول ـ ٤ : ٦٩١ ».


وعللت سيفك بالدماء ولم تكن

لتردّه حرّان حتّى ينهـلا (١) (٢)

فصل

ولما توجّه رسول اللّه 9 إلى بني النَضير ، عَمِل على حصارهم ، فضرب قُبّته في أقصى بني حَطَمَة (٣) من البطحاء.

فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم فأصاب القُبّة ، فأمر النبي 9 أن تحول قُبته إلى السفح (٤) ، وأحاط به المهاجرون والأنصار.

فلما اختلط الظَلام فقدوا أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 ، فقال الناس : يا رسول اللّه ، لا نرى علياً؟ فقال عليه وآله السلام : « أراه في بعض ما يُصْلح شانكم » فلم يَلْبَث (٥) أن جاء برأس اليهودي الذي رَمى النبي 9 ، وكان يقال له عُزورا (٦) ، فطرحه بين يدي النبي عليه وآله السلام.

ــــــــــــــــــ

(١) عللت ، ينهلا ، قال الاصمعي : إذا وردت الابل الماء فالسقية الاولى النهل والثانية العلل. « لسان العرب ـ علل ـ ١١ : ٤٦٨ ».

(٢) كشف الغمة ١ : ١٩٦ ، وذكر ذيله ابن هشام في السيرة النبوية ٣ : ١٥٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٨٩.

(٣) في هامش « ش » و « م » : حطمة من الأنصار بنو عبداللّه بن مالك بن أوس.

(٤) في هامش « ش » و « م » بعده : فحولت قبته الى الفسيح.

(٥) في هامش « ش » و « م » : ينشب.

(٦) في هامش « ش » و « م » : عِرزوا.


فقال له النبي 9 : « كيف صنعتَ؟ » فقال : « إنّي رأيتُ هذا الخبيث جَريئاً شجاعاً ، فكمنتُ له وقلت ما أجرأه أن يخرُج إذا اختلط الظَلام (١) ، يطلُب منّا غِرّةً ، فاقبل مُصْلِتاً سيفَه في تسعة نفرمن أصحابه اليهود ، فشددتُ عليه فقتلته ، وأفلت أصحابهُ ، ولم يَبْرَحوا قريبا (٢) ، فابعَثْ معي نفراً فإنّي أرجو أن أظفَرَ بهم ».

فبعث رسولُ اللّه 9 معه عشرة فيهم أبو دُجانة سِماك بن خَرْشَة ، وسَهْل بن حُنَيف ، فأدركوهم قبل أن يَلِجوا (٣) الحصنَ ، فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى النبي 9 فأمر أن تُطْرَح في بعض آبار بني حَطَمة.

وكان ذلك سببَ فتح حُصون بني النضير.

وفي تلك الليلة قُتِل كَعْبُ بن الأشرف ، واصطفَى رسولُ اللّه 9 أموالَ بني النضير ، فكانت أوّلَ صافيةٍ قَسَمها رسولُ اللّه 9 بين المهاجرين الأولين.

وأمَّرَ علياً 7 فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقةً ، فكان في يده أيامَ حياته ، ثمّ في يد أمير المؤمنين 7 بعده ، وهو في ولد فاطمة حتّى اليوم.

وفيما كان من أمير المؤمنين 7 في هذه الغَزاة ، وقَتْله

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : الليلِ.

(٢) في هامش « ش » و « م » : قليلاً.

(٣) في « م » وهامش « ش » : يلحقوا.


اليهوديَ ، ومجيئه إلى النبي 9 برؤوس التسعة النفر ، يقول حَسّان بن ثابت :

للهّ أيّ كَريهةٍ (١) أبليتَها

ببني قُرَيظة والنفوس تَطَلَّع

أردى رَئيسهُم وآبَ بتسعة

طَوْراً يَشُلُّهم (٢) وطوراً يَدْفَع

فصل

وكانت غَزاة الأحزاب بعد بني النَضير.

وذلك أنّ جماعةً من اليهود منهم سلام بن أبي الحُقَيق النَضْري ، وحُييّ بن أخطَب ، وكِنانة بن الربيع ، وهَوْذَة بن قَيْس الوالبي ، وأبو عُمارة الوالبيّ (٣) ـ في نفرمن بني والبة ـ خرجوا حتى قَدِموا مكة ، فصاروا إلى أبي سُفيان صَخْرِ بن حَرْب ، لعلمهم بعَداوته لرسول الله 9 وتسّرعه إلى قتاله ، فذكروا له ما نالهم منه وسألوه المعونة لهم على قتاله.

فقال لهم أبوسُفيان : أنا لكم حيث تُحِبّون ، فاخرجُوا إلى قريش فادعوهم (٤) إلى حربه ، واضمَنوا النصرةَ لهم ، والثبوتَ معهم حتّى

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : كريمة.

(٢) يشلهم : يطردهم. « الصحاح ـ شلل ـ ٥ : ١٧٣٧ ».

(٣) اختلفت المصادر في اسمه ، ففي سيرة ابن هشام ٣ : ٢٢٥ والطبري ٢ : ٥٦٥ : أبو عمّار ، وفي مغازي الواقديَ ٢ : ٤٤١ والسيرة للحلبي ٢ : ٣٠٩ : أبو عامر.

(٤) في هامش « ش » : فادعوها.


تستأصلوه.

فطافوا على وجوه قريش ، ودَعَوْهم إلى حرب النبي 9 وقالوا لهم : أيدينا مع أيديكم ونحن معكم حتى تستأصلوه (١) فقالت قريش : يا مَعْشرَ اليهود ، أنتم أهل الكتاب الأول والعلم السابق ، وقد عَرَفتم الدين الذي جاء به محمّد وما نحن عليه من الدين ، فديننا خيرٌ من دينه أم هو أولى بالحق منّا؟ فقالوا لهم : بل دينكم خير من دينه ، فنَشِطَتْ قريش لما دَعَوْهم إليه من حرب رسول اللّه 9.

وجاءهم أبوسفيان فقال لهم : قد مكّنكم الله من عدوّكم ، وهذه يهود تُقاتله معكم ، ولن تَنْفَلّ (٢) عنكم حتى يُؤتى على جميعها ، أو تستأصله ومن اتّبعه. فقَوِيت عزائمهُم ـ إذ ذاك ـ في حرب النبي 9.

ثمّ خرج اليهودُ حتى أتَوا غَطَفان وقَيْسَ عَيْلان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله 9 وضَمِنوا لهم النصرةَ والمعونةَ ، وأخبروهم باتّباع قريشٍ لهم على ذلك ، فاجتمعوا معهم.

وخرجت قريش وقائدها ـ إذ ذاك ـ أبو سفيان صَخْر بن حَرْب ، وخرجت غَطَفان وقائدُها عُيينةُ بن حصن في بني فَزارة ، والحارثُ بن عَوْف في بني مُرّة ، ووَبَرَةُ بن طُرَيْف في قومه من أشجَع ، واجتمعت قريشٌ معهم.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : نستأصله.

(٢) في « م » : تنفتل.


فلما سمِع رسولُ الله 9 باجتماع الأحزاب عليه ، وقوّة عزيمتهم في حربه ، استشار أصحابه ، فأجمع رأيهم على المُقام بالمدينة ، وحرب القوم إن جاؤوا إليهم على أنقابها (١).

وأشار سلمان الفارسي ; على رسول الله 9 بالخَنْدَق ، فأمر بحَفْره وعَمِل فيه بنفسه ، وعَمِل فيه المسلمون.

وأقبلت الأحزابُ إلى النبي 9 فهال المسلمين أمرُهم وارتاعوا من كثرتهم وجمعهم ، فنزلوا ناحيةً من الخَنْدق ، وأقاموا بمكانهم بِضعاً وعشرين ليلة ثمّ لم يكن بينهم حرب إلاّ الرمي بالنَبْل والحصار.

فلما رأى رسول اللّه 9 ضعفَ قلوب أكثر المسلمين من حصارهم لهم ووهنهم في حربهم ، بعث إلى عُيَيْنَة بن حِصْن والحارث بن عَوْف ـ وهما قائدا غَطَفان ـ يدعوهم إلى صلحه والكفّ عنه ، والرجوع بقومهما عن حربه ، على أن يُعطيهم ثلثَ ثِمار المدينة.

واستشار سعدَ بن مُعاذ وسعدَ بن عُبادة فيما بعث به إلى عُيَينة والحارث ، فقالا : يا رسول الله ، إن كان هذا الأمر لا بُدّ لنا من العمل به ، لأنّ الله أمَرَك فيه بما صنعتَ ، والوحيُ جاءك به ، فافعل ما بدا لك ، وإن كنتَ تُحِبُّ أن تَصْنَعه لنا ، كان لنا فيه رأي.

فقال عليه واله السلام : « لم يأتني وحيٌ به ، ولكنّي رأيتُ العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كلّ جانب ، فأردتُ

ــــــــــــــــــ

(١) الأنقاب : جمع نقب ، وهو الطريق في الجبل. « الصحاح ـ نقب ـ ١ : ٢٢٧ ».


ان أكْسِر عنكم من شوكتهم إِلى أمر ما ».

فقال سعدً بن مُعاذ : قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبدُ الله ولا نَعْرِفه ، ونحن لا نطعمهم من ثمرنا إلاّ قِرىً أو بيعاً ، والآن حين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك ، نُعطيهم أموالنا؟ ما لنا إلى هذا من حاجة ، واللّه لا نعطيهم إلّا السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم.

فقال رسولُ اللّه عليه واله : « الآن قد عرفتُ ما عندكم ، فكونوا على ما أنتم عليه ، فإنّ اللّه تعالى لن يَخْذُل نبيّه ولن يُسْلِمه حتى يُنْجِز (١) له ما وعده ».

ثم قام رسول اللّه 9 في المسلمين ، يدعوهم إلى جهاد العدو (٢) ، ويُشَجّعهم ويَعِدهم النصر.

وانتدبَتْ فوارسُ من قريش للبراز ، منهم : عَمرو بن عبدِ وَدّ بن أبي قَيْس بن عامر بن لُؤَيّ بن غالب ، وعِكْرمة بن أبي جهل ، وهُبَيرة ابن أبي وَهْب ـ المخزوميّان ـ وضِرار بن الخَطَّاب ، ومرداس الفِهْري ، فلَبِسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم ، حتى مَرّوا بمنازل بني كِنانة فقالوا : تهيؤوا ـ يا بني كِنانة ـ للحرب ، ثمّ أقبلوا تُعْنِق (٣) بهم خيلُهم ، حتى وَقَفوا على الخَندق.

فلما تأملوه قالوا : واللّه إنّ هذه مكيدةٌ ما كانت العرب تَكيدها.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : يُتمَّ.

(٢) في هامش « ش » و « م » : القوم.

(٣) العنق : سير فيه كبر وخُيلاء. « الصحاح ـ عنق ـ ٤ : ١٥٣٣ ».


ثمّ تيمّموا مكاناً من الخندق فيه ضيق ، فضربوا خَيْلَهم (١) فاقتحمَتْه ، وجاءت بهم في السَبخَة بين الخَندق وسَلْع (٢).

وخرج أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 في نفرمعه من المسلمين ، حتى أخَذوا عليهم الثغْرة التي اقتحموها ، فتقدّم عَمرو ابن عبدِ وَدّ الجماعةَ الذين خرجوا معه ، وقد أعْلَمَ ليرى مكانهُ.

فلما رأى المسلمين وَقَف هو والخيلُ التي معه وقال : هل من مبارز؟ فبرز إليه أمير المؤمنين 7 فقال له عمرو : اِرجع يا ابن أخِ فما أحِبّ أن أقتلك.

فقال له أمير المؤمنين 7 : « قد كنتَ ـ يا عمرو ـ عاهدتَ اللّه ألاّ يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خَصْلتين (٣) إلا اخترتَها منه ».

قال : أجَلْ ، فماذا؟

قال : « فإني أدعوك إلى الله ورسوله والإسلام ».

قال : لا حاجة لي بذلك.

قال : « فإني أدعوك إلى النزال ».

فقال : ارجع فقد كان بيني وبين أبيك خلّة ، وما أحبّ أن أقتلك.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : خيولهم.

(٢) سلع : موضع قرب المدينة المنورة. « معجم البلدان ٣ : ٢٣٦ ».

(٣) في « م » و « ح » : خَلّتين.


فقال له أمير المؤمنين 7 : « لكنّني ـ والله ـ أحب أن أقْتُلك ما دُمْتَ آبياً للحق ».

فَحَمِيَ عمروعند ذلك ، وقال : أتَقْتُلني!؟ ونزل عن فرسه فعَقَره وضرب وجهَه حتّى نَفَر ، وأقبل على عليّ 7 مُصْلِتاً سيفه ، وبدره بالسيف فنشِب سيفهُ في تُرس علي ، وضربه أمير المؤمنين 7 ضربةً فقتله.

فلمّا رأى عِكرِمة بن أبي جهل وهُبَيْرة وضرار عَمراً صريعاً ، ولّوا بخَيْلهم منهزمين حتى اقتحمت (١) الخندق لا تَلْوِي (٢) على شيء ، وانصرف أمير المؤمنين 7 إلى مَقامه الأوّل ـ وقد كادت نفوسُ القوم الذين خرجوا معه إلى الخندق تَطيرجَزَعاً ـ وهويقول :

« نَصَرَالحجارةَ من سفاهة رأيه

ونصرت ربَّ محمّد بصَواب (٣)

فضربتُه وتركتُه مُتَجدِّلاً

كالجذْغ بين دكادِك ورَوابي (٤)

وعَفَفْتُ عن أثوابهِ ولَوِ آنني

كنت المقَطَّر بَزَّني أثوابي (٥)

لا تَحْسَبَنَّ اللة خاذِلَ دينه

ونبيّهِ يا مَعْشرَ الأحزاب »

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : اقتحموا.

(٢) في هامش « ش » و « م » : لا يلوون.

(٣) الحجارة : الاصنام التي كانوا يعبدونها.

(٤) متجدّلاً : الساقط في الجَدَالة وهي الارض ، الجذْع : ساق النخلة. الدكادك : جمع دكداك وهو ما التبد من الرمل اللين بالارض ولم يرتفع ، الرَوابي جمع رابية وهي ما ارتفع من الارض.

(٥) المقطّر : الملقى على احد قطريه على الارض ، والقطر : الجانب. بزّني : سلبني.


وقد روى محمّد بن عُمر الواقدي قال : حدَّثنا (١) عبدُالله بن جعفر ، عن ابن أبي عَوْن ، عن الزُهري قال : جاء عَمرو بن عبدِ وَدّ وعِكرِمة بن أبي جَهْل وهُبَيرة بن أبي وَهْب ونَوْفَل بن عبدالله بن المُغيرة وضِرار بن الخطّاب ـ في يوم الأحزاب ـ إلى الخندق فجعلوا يطوفون به يطلُبون مَضيقاً منه فيعبرون ، حتّى انتهوا إلى مكان أكْرَهوا خيولَهم فيه فَعبَرتْ ، وجعلوا ( يجولون بخيلهم ) فيما بين الخندق وسَلْع ، والمسلمون وُقوفٌ لايُقْدِم واحدٌ منهم عليهم ، وجعل عمرَو بن عَبدِ وَدّ يدعو إلى البَراز و ( يُعَرِّض بالمسلمين ) (٢) ويقول :

ولقد بَحِحت من النداء بجمـ

ـعهم هل من مبارز؟

في كلّ ذلك يَقوُم عليّ بن أبي طالب من بينهم ليبارزه (٣) فيأمُره رسول الله 9 بالجلوس انتظاراً منه ليتحرّك (٤) غيرهُ ، والمسلمون كأنّ على رؤوسهم الطَير ، لمكان عمرو بن عبدِ وَدّ والخوف منه وممّن معه ووراءه.

فلمّا طال نداءُ عمرو بالبراز ، وتتابع قيامُ أمير المؤمنين 7 قال له رسول الله 9 : « أدنُ مني يا عليّ » فدنا منه ، فنَزَع

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » : حدثني ، وما اثبتناه من « م » و « ح » وهامش « ش ».

(٢) كذا في هامش النسخ الخطية ، لكن في متنها : يحرض المسلمين.

(٣) في « ش » و « م » : ليبارزهم ، وما أثبتناه من هامش « ش ».

(٤) في هامش « ش » و « م » : لتحرك.


عِمامتَه من رأسه وعمّمه بها ، وأعطاه سيفه ـ وقال له : « إِمضِ لشأنك » ثم قال : « اللهمّ أعِنْه » فسعى نحو عمرو ومعه جابر بن عبدالله الأنصاري ; ليَنْظُرَ ما يكون منه ومن عمرو.

فلمّا انتهى أمير المؤمنين 7 إليه قال له : « يا عمرو ، إنّك كنتَ في الجاهلية تقول : لا يدعوني أحدٌ إلى ثلاث إلاّ قَبِلتُها أو واحدةَ منها ».

قال : أجل.

قال : « فإني أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول اللّه وأنْ تُسلِمَ لربّ العالمين ».

قال : يا ابن أخ أخّر هذه عنّي.

فقال له أمير المؤمنين 7 : « أما إنّها خير لك لو أخذتها ».

ثمّ قال : « فها هنا أخرى ».

قال : ما هي؟

قال : « تَرْجِع من حيث جئتَ ».

قال : لا تحدث نساءُ قريش بهذا أبداً.

قال : « فها هنا أخرى ».

قال : ما هي؟

قال : « تَنزلُ فتقاتلني ».


فضَحِك عمرو وقال : إنّ هذه الخَصلة ما كنتُ أظُنُ أنّ أحداً من العرب يَرومني عليها ، وإنّي لأكره أن أقتُلَ الرجلَ الكريم مثلك ، وقد كان أبوك لي نديماً.

قال علي 7 : « لكنّني احبّ أن أقتلك ، فانزل إن شئت ».

فأسِف (١) عمرو ونزل فضرب وجهَ فرسه ( حتى رجع ) (٢).

فقال جابر بن عبداللّه ; : وثارت بينهما قَتَرة ، فما رأيتُهما وسمعتُ التكبيرتحتها ، فعَلِمتُ أن عليّاً 7 قد قتله ، وانكشف أصحابُه حتى طَفَرت خيولهُم الخندقَ ، وتبادر المسلمون حين سَمِعوا التكبيرَ ينظُرون ما صنع القوم ، فوجدوا نَوْفَلَ بن عبدالله في جوف الخندق لم يَنْهضْ به فرسُه ، فجعلوا يَرْمُونه بالحجارة ، فقال لهم : قِتْلَةٌ أجملُ من هذه ، يَنزِل بعضُكم اُقاتله ، فنزل إليه أمير المؤمنين 7 فضربه حتى قتله ، ولَحِق هُبَيرةَ فأعجزه فضرب قَربوسَ سَرْجه وسَقَطَتْ درعٌ كانت عليه ، وفَرّ عِكرِمةُ ، وهرب ضِرارُ بن الخطّاب.

فقال جابر : فما شَبَّهْتُ قتلَ علي عمراً إلاّ بما قَصّ اللّه تعالى من قصّة داود وجالوت ، حيث يقول : ( فَهَزَمُوهُمْ بِاِذْنِ أللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) (٣) (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) أسف : غضب. « الصحاح ـ أسف ـ ٤ : ١٣٣١ ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : حتى يرجع.

(٣) البقرة ٢ : ٢٥١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٤٧١ ، إعلام الورى : ١٩٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٤.


وقد روى قَيْس بن الرَبيع قال : حدَّثنا أبو هارون العَبْدي ، عن رَبيعة السَّعدي قال : أتيتُ حًذَيفةَ بن اليَمان فقلت له : يا با عبدالله ، إنّنا لنتحدّثُ عن عليّ 7 ومناقبه ، فيقول لنا أهل البصرة : إنكم تُفرِطون في عليّ ، فهل أنت مُحدّثي بحديث فيه؟

فقال حُذَيفة : يا ربيعة ، وما تسألني عن عليّ 7؟ والذي نفسي بيده ، لو وُضِعِ جميعُ أعمال أصحاب محمّد في كفّة الميزان ، منذ بَعَث اللّه محمّداً إلى يوم القيامة (١) ، ووُضِع عملُ عليّ في الكفّةُ الأخرى ، لرَجَحَ عملُ عليّ على جميع أعمالهم.

فقال رَبيعة : هذا الذي لا يُقام له ولا يُقْعَد (٢).

فقال حُذَيفة : يا لُكَع ، وكيف لا يًحْمَل؟! وأين كان أبو بكرٍ وعمر وحُذَيفة وجميعُ أصحاب محمّد يوم عَمرو بن عبدِ وَدٍّ ، وقد دعا إلى المبارَزة!؟ فأحجَمَ الناسُ كلّهُم ما خلا علياً 7 فإنّه بَرَز إليه فقتله الله على يديه ، والذي نفس حُذَيفة بيده ، لَعَمَلُه ذلك اليوم أعظمُ أجراً من أعمال أصحاب محمّدٍ إلى يوم القيامة (٣).

وقد روى هِشام بن محمّدٍ (٤) ، عن مَعروف بن خرَّبوذ قال : قال عليّ يوم الخندق :

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : الناس هذا.

(٢) في هامش « ش » و « م » : أي لا يُسمى له ، لأنه لا يدْرَك.

(٣) إعلام الورى : ١٩٥ ، شرح النهج الحديدي ١٩ : ٦٠ ، إرشاد القلوب : ٢٤٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٦.

(٤) هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي كما صرحّ به في هامش « ش » و « م ». لاحظ انساب الاشراف القسم الثاني من الجزء الرابع : ١٢٩ ، طبقات ابن سعد ٤ : ٤٥ ، ٨ : ٣٢.


« أعَلَيّ تَقْتَحِمُ الفوارسُ هكذا

عنّي وعنها خَبِّروا (١) أصحابي

اليومَ تَمْنَعَنُي الفِرارَ حَفيظتي

ومُصَمِّمٌ في الرأس ليس بِنابي

( أرديتُ عَمْرَاً حين أَخلص صَقْلَه ) (٢)

صافي الحَديد مُجَرّبِ قَضّاب

فصَدَدتُ حينَ تَرَكتُه مُتَجَدلاً

كالجِذْع بينَ دَكاَدِكٍ ورَوابي

وعَفَفْتُ عن أثوابه ولَو انّني

كُنْتُ المُقَطَّر بَزّني أثوابي (٣) »

وروى يونس بن بُكَير ، عن محمّد بن إسحاق قال : لما قَتَل عليُّ ابن أبي طالب 7 عَمراً أقبل نحوَ رسول اللّه 9 ووجهُه يتهلّل ، فقال له عمر بن الخطّاب : هلاّ سَلَبْتَه ـ يا عليّ ـ دِرعَه؟ فإنّه ليس تكون للعرب دِرْعُ مثلها ، فقال أمير المؤمنين 7 : « إنّي استحيتُ أن أكشِفَ عن سوأة ابن عمّي » (٤).

وروى عَمْرو (٥) بن الأزهر ، عن عَمْرو بن عُبَيد ، عن الحسن : أنّ علياً 7 لمّا قَتَل عَمرو بن عبدِوَدّ احتزّ رأسَه وحَمَله ، فألقاه بين يدي رسول الله 9 فقام أبو بكر وعمر ، فقبّلا رأسَ علي

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : اخبروا.

(٢) في « م » وهامش « ش » : أرديت عمراً إذ طغى بمهنّد.

(٣) رويت في هذه الأبيات بزيادة ونقصان في : المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٣ ، دلائل النبوة ٣ : ٤٣٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٣٧ ، الفصول المهمة : ٦١ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٥٧ و ٢٦٤.

(٤) دلائل النبوّة ٣ : ٤٣٩ ، إرشاد القلوب : ٣٤٥ ، ونحوه في مستدرك النيسابوري ٣ : ٣٣ ، ومجمع البيان ٨ : ٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٠ ٢ : ٢٥٧.

(٥) في النسخ : عمر بن الأزهر ، وفي هامش « م » : عمرو ، وقد وضع عليه علامة « صح » ، وفي شرح النهج لابن أبي الحديد : عمرو ، وهو الصواب ، اُنظر « تاريخ بغداد ١٢ : ١٩٣ ، لسان الميزان ٤ : ٣٥٣ ، الجرح والتعديل ٦ : ٢٢١ ».


7 (١).

وروى عليّ بن حَكِيْم الأوْديّ قال : سَمِعتُ أبا بكر بن عَيّاش يقول : لقد ضرب عليٌ 7 ضربةً ما كان في الإسلام ضربةٌ أعزُّ منها ـ يعني ضربةَ عَمْرو بن عبد وَدّ ـ ولقد ضُرِب عليٌّ ضربةً ما كان في الإسلام أشأم منها ـ يعني ضربةَ ابن مُلْجَم لعنهَ الله ـ (٢).

وفي الأحزاب أنزلّ الله عزّ وجلّ :

( اِذْ جآءُوكمْ مِنْ فَوقِكُمْ وَمِن اَسْفَلَ مِنْكُمْ وَاِذْ زَاغتً الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ اْلقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بآللّهِ آلظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُليَ اْلمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاّ شَدِيداً * وَإذُْ يقولُ اْلمُنَافِقُونَ وَآلَّذينَ فِى قُلُوَبهمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا أللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً ـ إلى قوله : ـ وَكَفَى أللّهُ المُؤْمِنينَ الْقِتَالَ وكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (٣).

فتوجه العتَبُ إليهم والتوبيخ والتقريع والعِتاب ، ولم ينجُ من ذلك أحدٌ ـ باتفاقٍ ـ إلاّ أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 ، إذ كان الفتحُ له وعلى يديه ، وكان قَتْلُه عَمراً ونَوْفَل بنَ عبدالله سببَ هزيمة المشركين.

وقال رسولُ الله 9 بعد قتله هؤلاء النَفَر : « الآن

ــــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان ٨ : ٣٤٤ ، شرح النهج الحديديَ ١٩ : ٦٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٢) مناقب ال أبي طالب ٣ : ١٣٨ ، مجمع البيان ٨ : ٣٤٤ ، شرح النهج الحديديَ ١٩ : ٦١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٣) الأحزاب٣٣ : ١٠ ـ ٢٥.


نَغْزُوهم ولا يَغْزُونا » (١).

وقد روى يوسف بن كُلَيب ، ( عن سُفيان ، عن زُبَيد ، عن مرّة ) (٢) وغيره ، عن عبدالله بن مسعود ، أنّه كان يقرأ : ( وَكَفَى الله المُؤْمِنينَ الْقِتَالَ ) بعلي ( وكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (٣).

وفي قتل عمرو يقول حسّان :

أمسى الفَتى عَمروبن عبدٍ يَبتغي

بجُنًوبِ (٤) يَثْرِبَ غارةً لم تُنْظَر

فلقد وجدتَ سُيوفَنا مشهورةً

ولقد وجدتَ جيادَنا لم تُقصِر

ولقد رأيتَ غَداةَ بدرٍ عُصْبةً

ضَرَبوك ضرباً غيرَضربِ المحسر (٥)


ــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٤١ ، مسند أحمد ٤ : ٢٦٢ ، ٦ : ٣٩٤ ، مجمع البيان ٨ : ٣٤٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٢) في متن النسخ : قرّة ، وفي هامش « ش » و « م » عن نسخة : مرّة ، وهو الصواب كما سيظهر ، ثم في هامش « ش » و « م » : ( يوسف بن حكيم عن سفيان بن زيد عن مرة ) وعليها علامة ( ع ) ولم يعلم معناها ، وقدوضع في نسخة « ش » علامة ( ج ) تحت كلمة كليب ، وعن التي تليها وفوق ( عن ) علامة النسخة ، وتحت قرّة علامة ( ج ) ، وفي هامش « ش » : كليب بن وبذيلها علامة ، ( ج ) ، وفي هامش « م » كليب بن سفيان وفوقه : ( ج صح ) ، هذا كل ما في النسخ.

والصواب : يوسف بن كليب عن سفيان عن زبيد عن مرّة ، انظر : ميزان الاعتدال. وسفيان هو سفيان الثوري ، وزبيد هو زبيد بن الحارث اليامي ، ومرة هو مرة بن شراحيل الهمداني ، انظر الجرح والتعديل ٣ : ٦٢٣ ، ٨ : ٣٦٦ ، تهذيب التهذيب ٤ : ١١٢ ، ٣ : ٣١١ ، ١٠ : ٨٨.

(٣) الدر المنثور ٦ / ٠ ٥٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٣٤ ، شرح النهج الحديدي ١٣ : ٢٨٤ عن ابن عباس ، إرشاد القلوب : ٢٤٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٣٨٠ ، تأويل الايات ٢ : ٤٥٠ / ١١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٤) جنوب : جمع جنب ، وهو الناحية. « الصحاح ـ جنب ـ ١ : ١٠٠ ».

(٥) في هامش « ش » و « م » : « المُخْسِر : هكذا ». وفي سيرة ابن هشام ٣ : ٢٨١ : الحسّر ، وهو الذي لا درع له.


أصبحتَ لا تُدعى ليوم عظيمةٍ

يا عَمرو أوْ لِجسيم أمر مُنْكَر

ويقال : أنّه لمّا بلغ شعرُحَسّان بني عامرأجابه فَتىً منهم ، فقال يَرُدُ عليه في افتخاره بالأنصار :

كَذَبتم ـ وبيتِ اللّه ـ لم (١) تقْتُلوننا

ولكن بسيف الهاشميّين فافخَروا

بسيف ابنِ عبدالله أحمدَ في الوَغى

بكفّ عليّ نلْتم ذاك فاقصُروا

فلم تَقْتُلوا عَمرَو بنَ عبدٍ ببأسكم (٢)

ولكنّه الكُفءُ (٣) الهِزَبْرُ الغَضَنْفر

عليُّ الذي في الفخر طال بناؤُه (٤)

فلا تُكثِروا (٥) الدعوى علينا فتفخروا (٦)

ببَدرٍ خَرَجتم للبَراز فَرَدَّكم

شيوخُ قريشٍ جَهرةً وتَأَخّروا

فلمّا أتاهم حمزةٌ وعُبَيدةٌ

وجاء عليٌّ بالمُهَنّد يَخْطِر

فقالوا : نعم ، أكفاءُ صِدْقٍ ، فأقبلوا

إليهم سِراعاً إذ بَغَوْا وتَجبروا

فجال عليٌّ جَوْلةً هاشميةً

فدمّرهم لمّا عَتَوا وتَكَبّروا

فليس لكم فَخرٌ علينا بغيرنا

وليس لكم فخرٌ يُعَدّ ويُذْكَر (٧)

وقد روى أحمدُ بن عبد العزيز قال : حدَّثنا سليمان بن أيّوب ، عن أبي الحسن المَدائني قال : لمّا قَتَل عليُّ بن أبي طالب 7 عَمرو بنَ عبدِ وَدّ ، نُعِيَ إلى اخته فقالت : من ذا الذي اجترأ عليه؟

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : لا.

(٢) في الاصل : ولا ابنه ، وما اثبتناه من نسخة البحار.

(٣) في هامش « م » : الليث.

(٤) فى هامش « ش » و « م » : رداؤه.

(٥) في هامش « ش » و « م » : تُنْكِروا.

(٦) في « م » وهامش « ش » : فتًحْقَروا.

(٧) الفصول المختارة : ٢٣٨ ، وشعر حسان في السيرة النبوية لابن هشام ٣ : ٢٨١ ، وشرح النهج الحديدي ١٣ : ٢٩٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٩.


فقالوا : ابن أبي طالب. فقالت : لم يَعدُ يومَه عَلى يد كُفء كريم ، لا رَقات دَمْعتي إن هَرَقْتها عليه ، قَتَل الأبطالَ وبارز الأقران ، وكانت مَنِيّتُه على ( يد كُفء كريمِ قومه ) (١) ، ما سَمِعت أفخَرمن هذا يا بني عامر ، ثمّ أنشأت تقول :

لوكان قاتلُ عَمروغيرَ قاتله

لكنتُ أبكي عليه آخرَ الأبد

لكنّ قاتلَ عَمروٍ لا يُعاب به

من كان يُدعى قَديماً بيضةَ البلد (٢) (٣)

.

وقالت أيضاً في قتل أخيها ، وذِكْرِ عليّ بن أبي طالب 7 :

أَسَدان في ضِيقِ المَكرّ تَصاولا

وكلاهما كُفء كريم باسل

فتخالسا مُهَجَ النفوس كلاهما

وَسْطَ المَذاد (٤) مخاتِل ومُقاتل

وكلاهما حَضَر القِراعِ حَفيظةً

لم يَثْنِهِ عن ذاك شُغلٌ شاغل

فاذهَبْ ـ علِيٌّ ـ فما ظَفِرْتَ بمثله

قولٌ سديدٌ ليس فيه تحامل

فالثأرعندي ـ ياعليُّ – فليتَني

أدركتُه والعقلُ منّي كامل

ذلّت قريشٌ بعد مقتل فارسٍ

فالذُلّ مُهْلِكها وخِزْيٌ شامل

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : يدكريم قومه.

(٢) بيضة البلد : علي بن أبي طالب سلام الله عليه ، أي أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تَريكَة وحدها ليس معها غيرها. « لسان العرب ـ بيض ـ ٧ : ١٢٧ ».

(٣) الفصولَ المختارة : ٢٣٧ ، الفصول المهمّة : ٦٢ باختلاف يسير ، ونحوه في المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٦٠.

(٤) المذاد : من الذياد وهو الذود والدفع ، والمراد ساحة القتال. اُنظر « الصحاح ـ ذود ـ ٢ : ٤٧١ ».


ثمّ قالت : واللّه لا ثأرت قريش باخي ما حنّت النيب (١) (٢).

فصل

ولما انهزم الأحزاب وولّوا عن المسلمين الدبُر ، عَمِل رسول اللّه 9 على قصد بني قُرَيظة ، وأنفذ أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 إليهم في ثلاثين من الخَزْرَج ، فقال له : « اُنْظُر بني قرَيظة ، هل تَرَكوا (٣) حصونَهم؟ ».

فلمّا شارف سورَهم سَمِع منهم الهُجْر ، فرجع إلى النبي 9 فأخبره ، فقال : « دَعْهم فإنّ الله سَيُمَكِن منهم ، إنّ الذي أمكنك من عمرو بن عبدِ وَدّ لا يَخْذُلك ، فقِفْ (٤) حتّى يجتمع الناسُ إليك ، وَأَبشِر بنصر الله ، فإنّ الله قد نَصرَني بالرُعب بين يديّ مسيرةَ شهرٍ ».

قال عليّ 7 : « فاجتمع الناسُ إليّ وسرتُ حتّى دنوتُ من سورهم ، فأشرَفوا عليَّ فحين رأوني صاح صائحٌ منهم : قدجاءكم قاتل عَمرو ، وقال اخر : قد أقبل إليكم قاتلُ عمرو ، وجعل بعضهم يَصيحُ ببعض ويقولون ذلك ، وألقى الله في قلوبهم الرُعب ، وسَمِعتُ راجزاً يرجز :

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « م » : جمع ناب وهو الإبل المسنّة.

(٢) الفصول المختارة : ٢٣٧ ، وروي باختلاف يسير في الفصول المهمّة : ٦٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٦٠.

(٣) في « ش » و « م » : نزلوا ، وما في المتن من هامش « ش » و « م ».

(٤) في « ش » : فتوقف.


قَتَل في عَمرا

صاد (١) عليٌ صَقْرا

قَصَم عليُّ ظَهْرا

أبرم عليّ أمرا

هَتَك عليٌّ سِتْرا

فقلت : الحمد للّه الذي أظهر الإسلامَ وَقَمَع الشرك ، وكان النبيُ 9 قال لي حين توجّهتُ إلى بني قُرَيظة : سِرْعَلى بركة اللّه ، فإنّ اللّه قد وَعَدك (٢) أرضَهم وديارَهم ، فسِرتُ مُستيقِناً (٣) لنصر اللّه عزّوجلّ حتّى رَكَزتُ الرايةَ في أصل الحِصْن ، واستقبَلوني في صَياصيهم (٤) يَسُبّون رسولَ اللّه 9!!

فلمّا سمِعتُ سبّهم له 7 كَرِهتُ أن يَسْمَعه رسولُ اللّه 9 ، فعَمِلتُ على الرُجوعِ إليه ، فإذا به 7 قد طَلَع ، فناداهم : يا إخوة القِرَدة والخنازير ، إنّا إذا نَزَلنا بساحة قوم فساءَ صَباحُ المنذَرين (٥) فقالوا له : يا أبا القاسم ، ما كنتَ جَهولاً ولا سَبّاباً! فاستحيى رسولُ اللّه 9 ورَجَع القهقرى قليلاً ».

ثمّ أمر فضُرِبت خَيْمتُه بازاء حُصونهم ، وأقام النبيّ 9 محاصراً لبني قُرَيظة خمساً وعشرين ليلةً ، حتّى سألوه

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : صار.

(٢) في « ش » و « م » : وعدكم ، وما أثبتناه من هامش « ش » و « م ».

(٣) في هامش « ش » و « م » : متيقناً.

(٤) كل شيء اْمتُنع به وتحقَن به فهو صيصة ، ومنه قيل للحصون « الصياصي ». « النهاية ـ صيص ـ ٣ : ٦٧ ».

(٥) اقتباس من قوله تعالى في سورة الصافات ٣٧ : ١٧٧ : ( فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ).


النزولَ على حُكم سَعْد بن مُعاذ ، فحكم فيهم (١) سَعدٌ بقتل الرجال ، وسَبي الذَراري والنساء ، وقسمة الأموال.

فقال النبي 9 : « يا سعدُ ، لقد حَكَمْتَ فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقِعة ».

وأمر النبي 9 بإنزال الرجال منهم ـ وكانوا تسعمائهّ رجل ـ فجيء بهم إلى المدينة ، وقسّم الأموال ، واسترقّ الذراري والنسوان.

ولمّا جيء بالأسارى إلى المدينة حُبسوا في دار من دوربني النجار ، وخًرج رسولُ الله 9 إلى موضع السوق اليوم فخندَقَ فيها خنادِق ، وحَضَر أميرُ المؤمنين 7 معه والمسلمون ، فأمَر بهم أن يُخْرَجوا ، وتقدّم إلى أمير المؤمنين أن يَضْرِب أعناقهم في الخندق.

فأُخْرِجوا أرسالاً وفيهم حُيَيُّ بن أخْطَب وكَعْبُ بن أَسَد ، وهما ـ إذ ذاك ـ رئيسا القوم ، فقالوا لكَعْب بن أَسَد ، وهم يُذْهَب بهم إلى رسول اللّه 9 : يا كَعْب ما تراه يَصْنَع بنا؟ فقال : في كلّ مَوْطنٍ لا تَعْقِلون ، ألا ترون الداعيَ لا يَنْزِعُ ، ومن ذَهَب منكم لا يَرْجِعُ ، هو واللّه القَتل.

وجيء بحييّ بن أخْطَب مجموعةً يداه إلى عُنُقه ، فلمّا نظرإلى رسول الله 9 قال : أما والله ما لُمْتُ نفسي على

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : عليهم.


عَداوتك ، ولكن من يَخذُل الله يخْذَل.

ثمّ أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس ، إنّه لا بدّ من أمر اللّه ، كتابٌ وقَدَرٌ ومَلحمةٌ كتِبَتْ على بني إسرائيل.

ثمّ اُقيم بين يدي أميرِ المؤمنين علي 7 وهويقول : قتْلةٌ شريفة بيد شريفٍ ، فقال له أمير المؤمنين : « إنّ خيارَ الناس يَقتلُون شرارَهم ، وشِرارَ الناس يقتُلون خيارَهم ، فالويلُ لمن قَتَله الأخيار الأشراف ، والسعادة لمن قَتَله الأرذال الكُفّار » فقال : صدقتَ ، لا تَسْلُبني حُلّتي ، قال : « هي أهون عليَّ من ذاك » قال : سَتَرتَني سترك اللّه ، ومَدَ عنقَه فضربها علي 7 ولم يَسْلُبه من بينهم.

ثمّ قال أميرالمؤمنين 7 لمن جاء به : « ما كان يقول حُييَّ وهويقادُ إلى الموت؟ » فقال (١) : كان يقول :

لَعَمْرُك مالأمَ ابنُ أخطَبَ نفسَه

ولكنّه من يَخْذُلِ اللّه يُخْذَلِ

لَجاهَد (٢) حتّى بَلّغَ النفسَ جُهْدَها

وحاول يَبْغِي العِزّكُلَّ مُقَلْقَلِ


فقال أمير المؤمنين 7 :

« لقد كان ذا جَدٍّ وجِدٍّ (٣) بكُفره

فِقيدَ إلينا في المَجامع

فَقلّدتُه بالسيف ضربةَ مُحْفَظ (٤)

فصار إلى قعر الجَحيم يُكبَّل


ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ح » وهامش « ش » : قالوا.

(٢) في « ح » وهامش « ش » : فجاهد.

(٣) في ، « م » و « ح » وهامش « ش » : حدّ.

(٤) احفظه : أي اغضبه. « القاموس المحيط ـ حفظ ـ ٢ : ٣٩٥ ».


فذاك مآب الكافرين ومَنْ يكن

مُطيعاً لأمر الله في الخًلد يُنْزلُ »

واصطفى رسولُ الله 9 من نسائهم عَمْرَةَ بنتَ خُنافة (١) ، وقَتَل من نسائهم امرأةً واحدةً كانت أرسلَتْ عليه 9 حَجَراً ـ وقد جاء باليهود يُناظرهم قَبلَ مُباينتهم له ـ فسلمه الله تعالى من ذلك الحَجَر.

وكان الظفر ببني قُرَيظة ، وفَتْح اللّه على نبيّه 7 بأميرِ المؤمنين 7 وما كان من قَتْله مَنْ قَتَل منهم ، وما ألقاهُ اللّه عزّوجلّ في قلوبهم من الرُعب منه ، وماثَلَتْ هذه الفضيلةُ ما تَقدّمها من فضائله ، وشابَهَتْ هذه المنقبةُ ما سَلَف ذكرهُ من مناقبه 9.

فصل (٢)

وقد كان من أمير المؤمنين 7 في غَزوة وادي الرَمْل ، ويُقال : إِنَّها كانت تًسَمّى بغزوة السَلسلة ، ما حَفِظه العلماء ، ودَوَنه الفقهاء ونَقَله أصحابُ الآثار ، ورواه نَقَلةُ الأخبار ، ممّا يَنضاف إلى‎‎

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » نسخة بدل : خناقة ، ولعل الصواب : ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، اُنظر أُسد الغابة ٥ : ٤٦٠ ، المغازي ٢ : ٥٢٠ ، السيرة الحلبية ٢ : ٣٤٦.

(٢) سقط هذا الفصل من نسخة « ش » و « ح » إلى قوله : « ثم كان من بلائه 7 ببني المصطلق » الآتي في ص ١١٨.


مناقبه 7 في الغزوات ، ويُماثل فضائله في الجهاد ، وما توحّد به في معناه من كافّة العباد.

وذلك أنّ أصحابَ السِيرذكروا : أنّ النبيَّ 9 كان ذاتَ يوم جالساً ، إذ جاءه أعرابيٌّ فجَثا بين يديه ، ثمّ قال : اني جئتك لأْنصَحَك ، قال : « وما نصيحتك؟ » قال : قوم من العرب قد عَمِلوا على أن يُثْبتوك (١) بالمدينة ، ووَصَفهم له.

قال : فأمر أميرَ المؤمنين 7 أن يُنادي بالصلاة جامعةً ، فاجتمع المسلمون ، فصَعِد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : « أيّها الناس ، إنّ هذا عدوّ اللّه وعدوَّكم قد (٢) اقبْلَ إليكم ، يَزْعَم أنَّهُ يُثبِتكم (٣) بالمدينة ، فمَنْ للوادي؟ ».

فقام رجل من المهاجرين فقال : أنا له يا رسول الله. فناوله اللواء وضمَّ إليه سبعمائة رجل وقال له : « اِمض على اسم اللّه ».

فمضى فَوافى (٤) القومَ ضَحْوةً ، فقالوا له : مَن الرجل؟ قال : أنا رسول لرسول الله ، إمّا أن تقولوا : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أو لأضْرِبنّكم بالسيف؟ قالوا له : اِرجعْ إلى صاحبك ، فإنّا في جمع لا تقوم له.

فرجع الرجل ، فأخبررسولَ الله 9 بذلك ، فقال

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « م » : يبيتوك.

(٢) نسخة في « م » : وقد.

(٣) في هامش « م » : يبيتكم.

(٤) في هامش « م » : فوافق.


النبي 9 : « مَنْ للوادي؟ » فقام رجل من المهاجرين فقال : أنا له يا رسولَ الله.

قال : فدَفَع إليه الرايةَ ومضى ، ثمّ عاد بمثل ما عاد به صاحبهُ الأوّل.

فقال رسولُ اللّه 9 : « أينَ عليُّ بن أبي طالب؟ » فقام أميرُ المؤمنين 7 فقال : « أنا ذا يا رسولَ اللّه؟ » قال : « اِمض إلى الوادي » قال : « نعم » وكانت له عِصابة لا يَتَعصّب بها حتّى يَبْعَثَه النبيُّ 7 في وجهٍ شديدٍ.

فمضى إلى منزل فاطمة 3 ، فالتمس العصابةَ منها؟ فقالت : « أين تُريد ، أين بَعَثَك أبي؟ قال : إلى وادي الرَمْل » فبكَتْ إشفاقاً عليه.

فدخل النبيّ 9 وهي على تلك الحال. فقال لها : « ما لكِ تَبكين؟ أتَخافين أن يُقْتَل بعلًك؟ كلاّ ، إن شاءَ اللّه » فقال له علي 7 : « لا تَنْفَس (١) عليّ بالجنّة ، يا رسولَ اللّه ».

ثمّ خرج ومعه لِواء النبي 9 فمضى حتى وافى القومَ بسَحَر فأقام حتّى أصبح ، ثمّ صلّى بأصحابه الغَداةَ وصَفَهم صُفوفاً ، واتكأ على سيفه مقبِلاً على العدُوّ ، فقال لهم : « يا هؤلاء ، أنا رسولُ رسول اللّه إليكم ، أن تقولوا لا إله إلاّ الله وأنَ محمّداً عبدُه ورسوله ، وإلاّ ضرَبتُكم بالسيف ».

ــــــــــــــــــ

(١) لا تَنْفَس : لا تبخل : « النهاية ٥ : ٩٧ ».


قالوا : اِرجِعْ كما رجَعَ صاحباك.

قال : « أنا أرْجِع؟! لا والله حتى تُسْلِموا أو أضْرِبكم بسيفي هذا ، أنا عليُّ بن أبي طالب بن عبد المُطَّلب ».

فاضطرب القومُ لمّا عَرَفوه ، ثمّ اجترؤوا على مُواقَعته ، فواقعهم 7 ، فقتَلَ منهم ستةً أو سبعةً ، وانهزم المشركون ، وظَفِر المسلمون وحازوا الغنائم ، وتوجّه إلى النبي 9.

فروي عن امّ سَلَمة ـ رحمة الله عليها ـ قالت : كان نبيُّ الله 7 قائلاً (١) في بيتي إذ انْتَبَهَ فَزَعاً من منامه ، فقلت له : اللّه جارك ، قال : « صدقتِ ، اللّه جاري ، لكنّ هذا جَبرئيل 7 يُخبِرني : أنّ علياً قادم » ثمّ خرج إلى الناس فأمَرَهم أن يَسْتَقبلوا علياً 7 وقام المسلمون له صَفّين مع رسول اللّه 9.

فلمّا بَصرَ بالنبي 9 ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدمَيْه يُقبّلهما ، فقال له 7 : « إرْكَبْ فإنّ اللّه تعالى ورسوله عنك راضيان » فبكى أميرُ المؤمنين 7 فَرَحاً ، وانصرف إلى منزله ، وتسلّم المسلمون الغنائمَ.

فقال النبي 9 لبعض من كان معه في الجيش : « كيف رأيتمُ أميرَكم؟ » قالوا : لم نُنِكْر منه شيئاً ، إلاّ أنّه لم يَؤُمَ بنا في صلاة إلاّ قرأ بنا فيها بقُلْ هو الله أحد. فقال النبي 9 « سأسأله عن ذلك ».

ــــــــــــــــــ

(١) قائلاً : من القيلولة ، وهي نومة نصف النهار. « مجمع البحرين ـ قيل ـ ٥ : ٤٥٩ ».


فلمّا جاءه قال له : « لمَ لم تَقْرَأ بهم في فَرائِضك إلاّ بسورة الإخلاص؟ » فقال : « يا رسولَ الله أحبَبْتها » قال له النبي 7 : « فإن الله قد أحَبّك كما أحبَبْتَها ».

ثم قال له : « يا عليّ ، لولا أنّني أشْفِقُ أن تقولَ فيك طوائفٌ ما قالت النصَارى في عيسى بن مريم ، لقلتُ فيك اليومَ مَقالاً لا تَمُرّ بملأٍ منهم إلاّ أخَذوا التراب من تحت قَدَمَيْك ».

فصل

فكان الفتح في هذه الغَزاة لأمير المؤمنين 7 خاصّةً ، بعد أن كان من غيره فيها من الإفساد ما كان ، واختصّ عليّ 7 من مَديح النبي 9 بها بفضائل لم يَحْصُل منها شيء لغيره.

وقد ذكر كثيرٌ من أصحاب السيرة (١) : أنَّ في هذه الغَزاة نَزَل على النبي 9 : ( وَالْعَادياتِ ضَبْحاً ... ) (٢) إلى آخرها فتضمّنت ذكرَ الحال فيما فعله أميرً المؤمنين 7 فيها.

ــــــــــــــــــ

(١) اُنظر : تفسير القمي ٢ : ٤ ٤٣ ، أمالي الطوسي ٢ : ٢١ ، مجمع البيان ٥ : ٥٢٨ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ١٤١.

(٢) العاديات ١٠٠ : ١.


فصل

ثمّ كان من بَلائه 7 ببني المُصْطَلِق ، ما اشتهر عند العلماء ، وكان الفتح له 7 في هذه الغَزاة ، بعد أن اُصيب يومئذ ناسٌ من بني عبد المُطّلب ، فقَتَل أميرُ المؤمنين 7 رجلين من القوم وهما مالك وابنه ، وأصاب رسولُ الله 9 منهم سَبْياً كثيراً فقَسّمه في المسلمين.

وكان فيمن (١) أصيب يومئذ من السَبايا جُوَيْرِيَة بنت الحارث بن أبي ضِرار ، وكان شعار المسلمين يوم بني المُصطلق : يا منصور أمِت (٢) ، وكان الذي سَبى جُوَيرية أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 فجاء بها إلى النبي 9 فاصطفاها النبي 7.

فجاء أبوها إلى النبي 7 بعد إسلام بقيّة القوم ، فقال : يا رسولَ اللّه ، إن ابنتي لا تسْبى ، إنّها امرأةٌ كريمةٌ ؛ قال : « اذهب فَخيِّرها » قال : أحسنت (٣) وأجملتَ.

وجاء اليها أبوها فقال لها : يا بُنَيّة لاتَفْضَحي قومَك ، فقالت له : قد اخترتُ الله ورسولَه.

فقال لها أبوها : فعل الله بك وفَعَل ، فاعتقها رسول اللّه صلّى

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : ممن.

(٢) في هامش « ش » و « م » : المنصور كل واحد منهم ، أي نُصِرتَ فاقتل.

(٣) في « م » و « ح » : قد أحسنت.


الله عليه وآله وجَعَلها في جملة أزواجه (١).

فصل

ثم تلا بني المُصْطَلِق الحُدَيْبِيَّة ، وكان اللِواء يومئذ إلى أمير المؤمنين 7 كما كان إليه في المشاهد قبلها ، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صَفّ القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبرُه واستفاض ذِكرُه.

وذلك بعد البَيعة التي أخذها النبي 9 على أصحابه والعهود عليهم في الصبر ، وكان أميرُ المؤمنين 7 المبايعَ للنساء عن النبي عليه وآله السلام ، وكانت بيعته لهنّ يومئذ أن طَرَحَ ثوباً بينه وبينهنّ ثمّ مسحه بيده ، فكانت مبايَعتهنّ للنبي 7 بمَسح الثوب ، ورسول الله 9 يَمْسَحُ ثوبَ عليّ بن أبي طالب 7 ممّايليه.

ولما رأى سُهَيل بنُ عَمْرو توجهَ الأمر عليهم ، ضرَعً إِلى النبي 7 في الصلح ، ونَزَل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك ، وأن يَجْعَل أميرَ المؤمنين 7 كاتبَه يومئذ والمتولّيَ لعقد الصلح بخطّه.

فقال له النبي عليه وآله السلام : « اُكتب يا عليّ : بسم اللّه الرحمن الرحيم ».

فقال سهيل بن عَمْرو : هذا كتابُ بيننا وبينك يا محمّد ،

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و هامش « ش » و « ح » : نسائه.


فافتَتِحْه بما نعْرِفُه (١) ، واكتُب : باسمك اللّهم.

فقال رسولُ اللّه 9 لأمير المؤمنين : « اُمْح ما كتبتَ واكتب : باسمك اللّهمّ ».

فقال له أمير المؤمنين 7 : « لولا طاعتُك يا رسولَ الله لما محوتُ بسم الله الرّحمن الرّحيم » ثمّ محاها وكتب : باسمك اللهمّ.

فقال له النبي 7 : « اُكتب : هذا ما قاضى عليه محمّد رسولُ الله سُهَيلَ بن عَمْرو ، ).

فقال سُهَيل : لوأجبتُك في الكتاب الذي بيننا إلى هذا ، لأقررتُ لك بالنبوّة! فسواء شَهدتُ على نفسي بالرضا بذلك أو أطلقتُه من لساني ، اُمْحُ هذا الاسمَ واكتُب : هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله. فقال له أمير المؤمنين 7 : « إنّه والله لَرسول اللّه على رَغْم أنفك ».

فقال سُهَيل : اُكتب اسمَه يَمضِي الشرط.

فقال له أميرالمؤمنين 7 : « ويلك يا سُهَيل ، كُفَّ عن عِنادك ».

فقال له النبي 7 : « اُمْحُها يا عليّ ».

فقال : « يا رسولَ اللّه ، إنّ يدي لا تَنطلق بمحو اسمك من النبوّة ».

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : نعرف.


قال له : « فَضَعْ يدي عليها » فمحاها رسولُ اللّه 9 بيده ، وقال لأمير المؤمنين 7 : « ستُدعى إلى مثلِها فتُجيب وأنت على مَضَض ».

ثمّ تممّ أمير المؤمنين 7 الكتاب.

ولما تمّ الصلحُ نحر رسولُ الله 9 هديَه في مكانه.

فكان نظام تدبير هذه الغَزاة مُعَلَّقاً بأمير المؤمنين 7 ، وكان ما جرى فيها من البيعة وصفِّ الناس للحرب ثمّ الهُدنةِ والكتاب كلّهِ لأمير المؤمنين 7 ، وكان فيما هيّأه اللّه تعالى له من ذلكَ حقْن الدماء وصلاح أمر الإسلام.

وقد روى الناسُ له 7 في هذه الغَزاة ـ بعد الذي ذكرناه ـ فضيلتين اختَصَّ بهما ، وانضافا إلى فضائله العِظام ومناقبه الجِسام :

فروى إبراهيم بن عُمَر ، عن رجاله ، عن ( فايد مولى عبداللّه بن سالم ) (١) قال : لمّا خرج رسولُ الله 9 في عمرة (٢) الحدَيْبيّة نزل الجُحْفَة فلم يجِد بها ماءً ، فبعث سعدَ بن مالك بالرَوايا ، حتَّى إذا كان غيرَبعيد رَجَع سعدٌ بالرَوايا فقال : يا رسولَ اللّه ، ما أستطيع أن أمضي ، لقد وقفَتْ قَدَماي رُعباً من القوم فقال له النبي عليه وآله
ــــــــــــــــــ

(١) في متن النسخ والبحار : قائد ، وفي هامش « ش » و « م » عن نسخة : فائد ، والمظنون صحة فائد فانه أشهر من قائد ، وقد أورد الخبر في الاصابة في باب الفاء في ترجمة فائد مولى عبدالله بن سلام وقال : أخرج له المفيد بن النعمان الرافضي في مناقب علي حديثاً.

(٢) في « م » وهامش « ش » : غزو.


السلام : « اِجْلِس ».

ثمّ بعث رجلاً آخر ، فخرج بالرَوايا حتى إذا كان بالمكان الذي انتهى اليه الأوّل رجع ، فقال له النبيّ 7 : « لمَ رجعت؟ » فقال : والّذي بَعَثك بالحقّ ما استطعتُ أن أمضِيَ رُعباً.

فدعا رسولُ الله أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهما فأرسله بالرَوايا ، وخرج السُقاة وهم لا يَشُكّون في رجوعه ، لما رأوا من رجوع (١) من تقدّمه.

فخرج عليّ 7 بالرَوايا حتّى وَرَد الحَرار (٢) فاستقى ، ثم أقبل بها إلى النبيّ 9 ولها زَجَل (٣).

فكبّرالنبي 9 ودعا له بخير (٤).

وفي هذه الغَزاة أقبل سُهَيل بن عَمْرو إلى النبي 9 فقال له : يا محمّد إنّ أرقّاءَنا لَحِقوا بك فاردُدهم علينا. فغَضِبَ رسولُ الله 7 حتّى تبيّن الغضبً في وجهه ، ثمّ قال : « لَتَنتهُنَّ ـ يا معشر قريش ـ أو ليَبْعَثَنَّ الله عليكم رجلاً امتحَنَ اللة قلبَه للإيمان ، يَضْرِب رِقابَكم على الدين ».

فقال بعض من حضر : يا رسولَ الله ، أبو بكر ذلك الرجل؟ قال : « لا » قيل : فعُمَر قال : « لا ، ولكنّه خاصف النعل في الحُجرة » فتبادر

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : من جزع.

(٢) الحرار : جمع حرّة ، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة. « الصحاح ـ حرر ـ ٢ : ٦٢٦ ».

(٣) الزَجَل : رفع الصوت الطرب. « لسان العرب ـ زجل ـ ١١ : ٣٠٢ ».

(٤) الاصابة في معرفة الصحابة ٣ : ١٩٩ عن المؤلّف ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٨٨ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار٢٠ : ٣٥٩.


الناسُ إلى الحُجرة يَنْظُرَون ، مَن الرجل؟ فإذا هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب 7.

وروى هذا الحديث جماعةٌ عن أمير المؤمنين 7 وقالوا فيه : إنّ علياً قصّ هذه القصّة ، ثمّ قال : « سَمِعتُ رسول الله 9 يقول : من كَذَبَ عليَّ مُتعقَداً فلَيَتَبَوّأ مقعدَه من النار » (١).

وكان الذي أصلَحَه أميرُ المؤمنين من نعل النبي صلّى الله عليهما شِسْعَها (٢) ، فإنّه كان انْقطَعَ فخَصَف موضِعَه وأصلحه.

وروى إسماعيل بن عليّ العَمّي ، عن نائل بن نَجِيح (٣) ، عن عَمْرو بن شمرٍ ، عن جابر بن يزيد ، عن أبي جعفر ، عن أبيه 8 قال : « انقَطَع شِسْعُ نعلِ رسول الله 9 فَدَفَعها إلى عليّ 7 يُصلِحُها ، ثمّ مشى في نَعل واحدةَ غَلْوةً (٤) ـ أونحوها ـ وأقبل على أصحابه فقال : إنّ منكم من يُقاتِل على التأويل كما ( قاتل معي (٥) على التنزيل ».

فقال أبو بكر : أنا ذاك ، يا رسول اللّه؟ قال : « لا » فقال عمر :

ــــــــــــــــــ

(١) روي في كفاية الطالب : ٩٦ ، مصباح الأنوار : ١٢١ ، وباختلاف يسير في سنن الترمذي ٥ : ٢٩٧ ، إعلام الورى : ١٩١ ، ونحوه في المستدرك على الصحيحين ٤ : ٢٩٨ ، تاريخ بغداد ١ : ١٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٦٠.

(٢) شسع النعل : ما يدخل بين الاصبعين في النعل العربي ممتدّاً على ظهر القدم.

« مجمع البحرين ـ شسع ـ ٤ : ٣٥٣ ».

(٣) ضبطه في متن « ش » و « م » مكبراً ، وفي هامشهما مصغراً بضم النون ، ونجيح مكبراً أشهر.

(٤) الغلوة : مقدار رمية سهم. « الصحاح ـ غلا ـ ٦ : ٢٤٤٨ ».

(٥) في هامش « ش » : قاتلت.


فانا يا رسول اللّه؟ قال : « لا » فأمْسَكَ القومً ونَظَر بعضُهم إلى بعض ، فقال رسول الله 9 : « لكنّه خاصف النعل ـ وأومأ إلى عليّ ابن أبي طالب 7 ـ وإنّه المُقاتل على التأويل إذا تُرِكَتْ سنّتي ونُبذَتْ ، وحُرّف كتابُ اللّه ، وتكلّم في الدين من ليس له ذلك ، فيُقَاتلهم علي 7 على إحياء دين اللّه عزّ وجلّ » (١).

فصل

ثمّ تلت الحُدَيبيةَ خَيْبُر ، وكان الفتحُ فيها لأمير المؤمنين 7 بلا ارتياب ، وظَهَر من فضله في هذه الغَزاة ( ما اجتمع على نقله ) (٢) الرُواة ، وتفرّد فيها من المناقب بما لم يَشْركه فيه أحدٌ من الناس.

فروى محمّد بن يحيى الأزْدِيّ ، عن مَسْعَدة بن اليَسَع وعُبَيْدالله (٣) ابن عبد الرحيم ، عن عبد المَلِك بن هِشام ومحمّد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الآثار قالوا : لمّا دنا رسولُ الله 9 من خَيبر ، قال للناس : « قِفُوا » فوقف الناسُ ، فرَفَع يدَيْه إلى السماء وقال : « اللهمّ ربَّ السماوات السبع وما أظْلَلن ، وربَّ الأرضينَ السبع وما

ــــــــــــــــــ

(١) ورد نحوه في مسند أبي يعلى الموصلي ٢ : ٣٤١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٢ ، مسند أحمد ٣ : ٨٢ ، شرح نهج البلاغة الحديدي ٣ : ٢٠٦.

(٢) في هامش « ش » و « م » : ما اجمع عليه نقلة.

(٣) كذا في متن النسخ ، وفي هامش « ش » : عبدالله واخره علامة ( ج ) ، وفي هامش « م » : عبدالله وآخر الكلمة مخروق.


أقْلَلن ، وربَّ الشَياطين وما أضْلَلن ، أسالك خيرَ (١) هذه القَرْية وخيرَما فيها ، وأعوذُ بك من شرّها وشرّ ما فيها « ثمّ نزل تحت شجرةٍ ( في المكان ) (٢) فأقام وأقمنا بقية يومنا ومِن غده (٣).

فلمّا كان نصفَ النهار نادانا منادي رسول الله 9 ، فاجتمعنا إليه فإذا عنده رجلٌ جالسٌ ، فقال : « إنّ هذا جاءني وأنا نائم ، فسَلَّ سيفي وقال : يا محمّد ، مَن يَمْنَعك منّي اليوم! قلت : الله يَمْنَعني منك ، فشامَ السيف (٤) وهو جالس كما تَرَوْن لا حَراك به » فقلنا : يا رسولَ الله ، لعلّ في عقله شيئاً ، فقال رسول الله 9 : « نعم دَعُوه » ثمّ صَرَفه ولم يُعاقبه.

وحاصر رسولُ اللّه 9 خَيبرَبضعاً وعشرين ليلةً ؛ وكانت الرايةُ يومئذ لأمير المؤمنين 7 فَلَحِقَه رَمَدٌ أعجزه عن الحرب ، وكان المسلمون يناوَشون (٥) اليهودَ من بين أيدي حصُونهم وجَنَباتِها.

فلمّا كان ذات يوم فتحوا الباب ، وقد كانوا خَنْدَقوا على أنفسهم ، وخرج مَرْحَب برِجْلهِ يتعرّض (٦) للحرب ، فدعا رسولُ الله 9 أبا بكر فقال له : « خذُ الرايةَ » فأخذها ـ في جَمع من المهاجرين ـ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : من خير.

(٢) في « ش » و « م » : من المكان ، وما اثبتناه من هامشهما.

(٣) المغازي ٢ : ٦٤٢ ، السيرة النبوية ٣ : ٣٤٣ ، مجمع البيان ٩ : ١١٩ ، دلائل النبوة ٤ : ٢٠٤ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٤ / ١١.

(٤) شام السيف : أغمده. « الصحاح ـ شيم ـ ٥ : ١٩٦٣ ».

(٥) في « ش » : يتناوشون.

(٦) في هامش « ش » : فتعرض.


فاجتهد ولم يُغنِ شيئاً ، فعاد يُؤَنّب القومَ الذين اتّبعُوه ويُؤَنّبونه.

فلمّا كان من الغد تعرض لها عمر ، فساربها غيرَبعيد ، ثمّ رجع يُجبِّن أصحابه ويجبِّنونه.

فقال النبي 9 : « ليست هذه الرايةُ لمن حَمَلها ، جيئوني بعليّ بن أبي طالب » فقيل له : إنّه أرمَد ، فقال : « أرونيه تروني رجلاً يُحِبّ الله ورسولَه ويُحبّه الله ورسولُه ، يَأخُذُها بحقّها ليس بفرارِ ».

فجاؤوا بعلي 7 يَقودونه إِليه ، فقال له النبي 9 : « ما تَشتكي يا علي؟ قال : رَمَدٌ ما أُبْصِرُمعه ، وصُداعٌ برأسي ، فقال له : اِجلس وضَعْ رأسَك على فَخذِي » ففعل عليّ 7 ذلك ، فدعا له النبي 9 وتَفَل في يده فمسحها على عَيْنَيه (١) ورأسه ، فانفتحَتْ عَيْناه وسَكَن ما كان يجِده من الصُداع ، وقال في دعائه له : « اللهم قِه الحرَّ والبَرْد » وأعطاه الرايةَ ـ وكانت رايةً بيضاء ـ وقال له : « خذ الراية وامضِ بها ، فجبرئيل معك ، والنصر أمامك ، والرُعب مبثوث في صدور القوم ، واعلم ـ يا علي ـ أنهم يَجدون في كتابهم : أنّ الذي يُدَمّرعليهم إسمه الِيا (٢) ، فإذا لقيتَهم فقل : أنا علي ، فإنّهم يُخْذَلون إن شاء اللّه ».

قال عليّ 7 : « فمَضَيتُ بها حتّى أتيتُ الحصونَ ، فخَرَج مَرْحب وعليه مغْفَر وحجرقد ثقَّبه (٣) مِثل البيضة على رأسه ، وهو

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : عينه.

(٢) في هامش « ش » و « م » : إِيليا.

(٣) في هامش « ش » و « م » نَقَبهُ.


يرتجز ويقول :

قد عَلِمَتْ خَيبرأنّي مَرْحَبُ

شاكٍ سِلاحي بَطَل مُجَرَّبُ

فقلت :

أنا الذي سَمَّتنْي أًمّي حَيْدَرة

لَيثٌ لِغاباتٍ (١) شديدٌ قَسْوَرة

أَكيلُكم بالسَيف كَيل السَنْدَرة (٢)

فاختلفنا ضربَتين ، فبَدَرْتُه فضربتُه فَقَددْت الحَجَر والمِغْفَر ورأسَه حتّى وَقع السيفً في أضراسه وخَرّ صَريعاً ».

وجاء في الحديث أنّ أمير المؤمنين 7 لمّا قال : « أنا عليّ ابن أبي طالب » قال حَبْر من أحبار القوم : غُلِبْتم وما أُنْزِل على موسى (٣). فدخل قلوبَهم من الرُعب ما لم يُمكِنْهم معه الاستيطانُ به.

ولمّا قَتَل أميرُ المؤمنين 7 مَرْحَباً ، رجع من كان معه وأغلَقوا بابَ الحِصْن عليهم دونه ، فصار أميرُ المؤمنين 7 إليه فعالجَهُ حتّى فَتَحه ، وأكثرُ الناس من جانب الخَندق لم يَعْبُروا معه ، فأخذ أميرُ المؤمنين 7 بابَ الحِصْن فجعله على الخَنْدَق جِسْراً لهم حتى عَبَروا وظَفِروا بالحِصْن ونالوا الغنائم.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : كريهات.

(٢) في هامش « ش » و « م » : عبل الذراعين شديد القصرة. والسندرة : مكيال ضخم. « الصحاح ـ سدر ـ ٢ : ٦٨٠ ».

(٣) اخرج نحوه في السيرة النبوية ٣ : ٣٤٩.


فلما انصرفوا من الحُصون ، أخذه أميرُ المؤمنين بيُمْناه فدحا به أذرُعاً من الأرض ، وكان البابُ يُغْلِقه عشرون رجلاً منهم.

ولمّا فَتَحَ أميرُ المؤمنين 7 الحِصْن وقَتَل مَرْحَباً ، وأغْنَمَ اللّه المسلمين أموالهَم ، استأذن حَسّان بن ثابت رسول الله 9 أن يقول شعراً. فقال له : « قُلْ ».

فأنشأ يقول :

وكان عليٌ أَرْمَدَ العينِ يَبْتَغي

دَواءً فلمّا لم يُحِسَّ مُداوِيا

شفاهُ رسولُ الله مِنه بتَفْلةٍ

فبُورِكَ مَرْقِيّاً وبُوركَ راقِيا

وقال سأُعْطِي الرايةَ اليومَ صارِماً

كَمِيّاً مُحبّاً للرسولِ مُوالِيا (١)

يُحبُّ إلهي والإلهُ يُحبّه

به يَفْتَحً اللّه الحصُونَ الأوابيا

فأصْفى بِها دونَ البَرِيّة كُلِّها

عَلِيّاً وسمّاه الوزيرَ المُؤاخيَا

وقد رَوى أصحابُ الاثار عن الحسن بن صالح ، عن الأعْمَش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبداللّه الجَدَليّ قال : سَمِعتُ أميرَ المؤمنين 7 يقول : « لمّا عالجتُ بابَ خَيْبرَجَعَلْتُه مجَنّاً لي وقاتلتُ القومَ فلمّا أخزاهم اللّه وَضَعتُ البابَ على حِصْنهم طريقاً ، ثمّ رَميتُ به في خَندقهم ؛ فقال له رجل : لقد حَمَلْتَ منه ثقلاً! فقال : ما كان إلاّ مثلَ جُنَّتي التي في يَدي في غيرذلك المقام » (٢).

وذكر أصحابُ السِير : أنّ المسلمين لمّا انصرفوا من خَيْبر راموا

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : مواسياً.

(٢) نقله العلامة المجلسي في البحار ٢١ : ١٦. وذكر ذيله في المناقب لابن شهرآشوب ٢ : ٦٨.


حَمْل الباب فلم يُقِله (١) منهم إلاّ سبعون رجلاً (٢).

وفي حَمل أميرالمؤمنين 7 الباب يقول الشاعر :

إنّ امرءاً حمل الرِتاج (٣) بخَيبر

يومَ اليهودِ بقدرهٍ لَمؤيد

حَمَل الرِتاجَ رتاجَ باب قَمُوصها (٤)

والمسلمون وأهلً خيبر شُهَّدُ (٥)

فَرَمى به ولقد تًكَلَّفَ رَدَّهُ

سبعون شخصاً كلّهم متشدّد

رَدّوه بعدَ مَشقَةٍ وتكلُّفٍ (٧)

ومَقالِ بعضِهم لبعض اٍردُدوا (٨)

فصل

ثمّ تلا غَزاة خَيْبَرمواقِفُ لم تَجْرِمجرى ما تقدّمها فنَصْمِد

ــــــــــــــــــ

(١) يقلّه : يحمله. « المصباح المنير ٢ : ٥١٤ ».

(٢) اُنظر : دلائل النبوّة ٤ : ٢١٢ ، مجمع البيان ٩ : ١٢١ ، مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٢٩٣.

(٣) الرتاج : الباب العظيم. « الصحاح ـ رتج ـ ١ : ٣١٧ ».

(٤) القموص : جبل بخيبر عليه حصن أبي الحقيق اليهودي. « معجم البلدان ٤ : ٣٩٨ ».

(٥) في هامش « ش » : حُشدُ.

(٦) في هامش « ش » و « م » : سبعون كلهُم له يتشدد.

(٧) في « م » وهامش « ش » : وتعتّب.

(٨) بعد هذه الأبيات في « ش » و « م » سطور اُخر ، ولكن في هامش « ص » صرح بانه : « لم يكن في نسخة الشيخ المفيد » وقريب منه في هامش « م ». وهي :

وفيه أيضاً قال الشاعر من شُعراء الشيعة يَمْدَح أميرَ المؤمنين 7 ويهَجْو أعداء‌ه ، على ما رواه أبو محمّد الحسن بن محمّد بن جمهور ، قال : قرأت على أبي عُثمان المازني :

بَعثَ النبيُّ برايةٍ مَنصورةٍ

عُمَربنَ حَنْتَمةَ الدِّلامَ (أ) الأدلما

ــــــــــــــــــ

(أ) الدلمة : اللون الأسود. اُنظر « ألصحاح ـ دلم ـ ٥ : ١٩٢٠ ».


لذكرها ، وأكثرها كان بُعوثاً لم يَشْهَدها رسول الله 9 ، ولا كان الاهتمامُ بها كالاهتمام بما سَلَف ، لضعف العدوّ ، وغَناء بعض المسلمين عن غيرهم فيها ، فأضْرَبنا عن تَعدادها ، وإن كان لأمير المؤمنين 7 في جميعها حظّ وافر من قول أو عمل.

ثمّ كانت غَزاة الفتح ، وهي التي تَوَطّد (١) أمرُ الإسلام بها ، وتَمَهّد الدين بما منّ اللّه تعالى على نبيّه 9 فيها ، وقد كان الوعدُ تقدَّمَ في قوله عزّ اسمه : ( اِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ) (٢) إلى آخر

ــــــــــــــــــ

فمضى بها حتى إذا بَرَزوا له

دونَ القَموصِ ثنى وهابَ وأحْجما

فأتى النبي برايةٍ مردودةٍ

ألاّ تَخوِّفَ عارَها فَتَذَمّما

فبكى النبي لها وأنَّبَهُ بها

ودعا أمرأً حسنَ البصيرةِ مُقْدِما

فغدا بها في فَيْلَقٍ ودعا له

ألاّ يَصُدَّ بها وألّا يُهْزَما

فَزَوى اليهودَ إلى القَمُوصِ وقد كَسا

كَبْشَ الكتيبة ذا غِرارٍ (أ) مُخْذِما (ب)

وثنى بناسٍ بعده فقَراهم

طُلْسَ (ج) الذُئابِ وكل نَسْرٍ قَشْعَما (د)

ساطَ (هـ) الإلهُ بحب آلِ محمّدٍ

وبحُبِّ مَن والاهمِ مِنّي الدَما

في أبيات اُخر.

(١) في هامش « ش » و « م » : توطّأ.

(٢) النصر ١١٠ : ١.

ــــــــــــــــــ

( أ ) الغرار : حدّ السيف. « ألصحاح ـ غرر ـ ٢ : ٧٦٨ »

( ب ) المخذم : السيف ألقاطع. « الصحاح ـ خذم ـ ٥ : ١٩١٠ ».

( ج ) طلس : جمع أطلس ، وهو الذئب الذي في لونه غبرة إلى السواد. « الصحاح ـ طلس ـ ٣ : ٩٤٤ ».

( د ) ألقشعم : النسر ألمسن. « الصحاح ـ قشعم ـ ٥ : ٢٠١٢ ».

( هـ ) ساط : خلط الشيء بعضه ببعض. « الصحاح ـ سوط ـ ٣ : ١١٣٥ ».


السورة ، وقوله تعالى قبلها بمدّة طويلة : ( لتدخلنّ اْلمَسْجدَ الْحَرَامَ انْ شَاءَ اللّهُ امِنينَ مُحلِّقينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ) (١).

فكانت الأعيُنُ إليها مُمْتَدّة ، والرِقاب إليها مَتَطاوِلة ، ودَبَر رسولُ اللّه 9 الأمر فيها بكتمان مسيره إلى مكّة ، وسَتْرِعزيمته على مراده بأهلها ، وسأل الله ـ عزّ اسمه ـ أن يَطْوِيَ خبرَه عن أهل مكّة حتّى يَبْغَتَهم بدخولها ، فكان المُؤْتَمنُ على هذا السرّ والموُدعَ له ـ من بين الجماعة ـ أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب 7 ، فكان الشريكَ لرسول الله 9 في الرأي ، ثمّ نَماه النبيُّ 9 إلى جماعة من بعدُ ، واستَتَبَّ الأمرُ فيه على أحوال كان أميرُ المؤمنين 7 في جميعها متفرّداً من الفضل بما لم يَشْرَكه فيه غيرهُ من الناس.

فمن ذلك أنّه لمّا كتب حاطِبُ بن أبي بَلْتَعة ـ وكان من أهل مكّة ، وقد شَهِد بَدْراً مع رسول اللّه ـ كتاباً إلى أهل مكّة يُطْلِعهُم على سرّ رسول اللّه 9 في المسيرإليهم جاء الوحيُ إلى رسول الله 9 بما صنَعَ وبنفوذ كتاب حاطِب إلى القوم فتلافى ذلك رسولُ الله 9 بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 ، ولو لم يَتَلافَه به لفسد التدبيرُ الذي بتمامه كان نصر المسلمين.

وقد مضى الخبرُ في هذه القصة فيما تقدّم ، فلا حاجة بنا إلى إعادته.

ــــــــــــــــــ

(١) الفتح ٤٨ : ٢٧.


فصل

ولمّا دخل أبو سفيان المدينةَ لتجديد العهد بين رسول الله 9 وبين قريش ، عندما كان من بني بكْرِفي خُزاعة وقتلهِم من قتلوا منها ، فقَصَد أبو سفيانَ ليتلافى الفارطَ من القوم ، وقد خاف من نصرة رسول اللة 9 لهم ، وأَشْفَقَ ممّا حلّ بهم يوم الفتح. فأتى النبي 9 وكلّمه فى ذلك ، فلم يَرْدُدْ عليه جواباً.

فقام من عنده ، فلَقِيه (١) ابو بكر فتشبًثَ به وظنّ أنّه يُوصِله إلى بغْيته من النبي 9 فسأله كلامَه له ، فقال : ما أَنا بفاعل. لعلم أبي بكر بأنّ سؤاله في ذلك لا يُغني شيئاً.

فظنّ أبوسفيان بعمر بن الخطاب ما ظنّه بأبي بكر فكلّمه في ذلك ، فدفعه بغِلظةٍ وفَظاظَةٍ كادت أن تفسِدَ الرَّأيَ على النبي 9.

فعدل (٢) إلى بيت أمير المؤمنين 7 فاستأذن عليه ، فأذِن له وعنده فاطمة والحسن والحسين : فقال له : يا علي ، إنّك أمسُّ القوم بي رَحِماً ، وأقربهُم منّي قرابةً ، وقد جئتُك فلا أَرجِعَنّ كما جئتُ خائباً ، إشفَعْ لي إلى رسول الله فيما قصدتُه. فقال له : « ويْحَكَ ـ يا باسفيان ـ لقد عَزَم رسول اللّه 9 على

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : فاستقبله.

(٢) في « ح » وهامش « ش » و « م » : فغدا.


أمرٍ ما نستطيع أن نُكَلِّمَه فيه » فالتفتَ أبو سفيان إلى فاطمة 3 ، فقال لها : يا بنتَ محمّد هل لكِ أن تَأمُري ابنَيْك (١) أن يُجِيرا بين الناس فيكونا سيدَي العرب إلى آخر الدهر. فقالت : « ما بَلَغ بنَيّاي أن يُجِيرا بين الناس ، وما يُجير أحدٌ على رسول اللّه 9 ».

فتحيّر أبو سفيان ( وسُقِطَ في يده ) (٢) ، ثمّ أقبل على أمير المؤمنين 7 فقال : يا با الحسن ، أرى الأمورَ قد التبستْ عَلَيّ فانصَحْ لي (٣). فقال له أميرُ المؤمنين : « ما أرى شيئاً يُغني عنك ولكنّك سيّدُ بني كِنانة فقُمْ فأجِرْ بين الناس ، ثمّ اِلحَقْ بأرضك » قال : فترى ذلك مُغنياً عنّي شيئاً؟ قال : « لا والله ما أظُنّ ولكنّي لا أجِدُ لك غيرَ ذلك ».

فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيّها الناس ، إنّي قد أَجَرْت بين الناس. ثمّ رَكِبَ بعيرَه فانطلق.

فلمّا قَدِمَ على قريش قالوا : ما وراءَك؟ قال : جئتُ محمّداً فكلّمتُه ، فواللّه ما رَدّ عليّ شيئاً ، ثمّ جئتُ ابن أبي قحافَة فلم أَجِد فيه خيراً ، ثمّ لَقِيتُ ابنَ الخطاب فوجدته فَظّاً غليظاً لا خيرَ فيه ، ثم أتيت علياً فوجدتُه ألين القوم لي ، وقد أشارعليَّ بشيء فصنعتُه ، واللّه ما أدري يُغني عنّي شيئاَ أم لا ، فقالوا : بما أمَرك؟ قال : أمرني أن

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : بنيّيك.

(٢) في هامش « ش » : أسقط.

(٣) في « م » و « ح » وهامش « ش » : فانصحني.


أُجِيرَ بين الناس ففعلت : فقالوا له : فهل أجاز ذلك محمّد؟ قال : لا. قالوا : ويلك واللّه ما زاد الرجل على أن لَعِبَ بك ، فما يُغني عنك؟ قال أبو سفيان : لا واللّه ما وَجَدتُ غيرَ ذلك.

وكان الذي فعله أميرُ المؤمنين 7 بأبي سفيان من أصوب رأيٍ لتمام أمر المسلمين وأصحّ تدبير ، وبه تَمّ للنبي 9 في القوم ما تمَّ.

ألا ترى أنَّه 7 صَدَق أبا سفيان عن الحال ، ثمّ لان له بعضَ اللين حتّى خَرَج عن المدينة وهو يَظُنُّ أنّه على شيء ، فانقطع بخروجه على تلك الحال موادُّ كيده التي كان يتشعَّثُ بها الأمرُعلى النبي 9. وذلك أنّه لوخرج آئِساً حَسَب ما أيْأسَه الرجلان ، لتجدَّدَ للقوم من الرأي في حَربه 7 والتحرّزمنه ما لم يخطر لهم ببال ، مع مجيء أبي سفيان إليهم بما جاء ، أوكان يقيم بالمدينة على التمحّل لتمام مراده بالاستشفاع إلى النبي 9 فيتجدّدُ بذلك أمرٌ يَصُدّ النبيَ 9 عن قَصد قريش ، أويُثَبِّطه عنهم تثبيطاً يفوته معه المرادُ ، فكان التوفيقُ من اللّه تعالى مقارناً لرأي أمير المؤمنين 7 فيما رآه من تدبير الأمر مع أبي سفيان ، حتى انتظَمَ بذلك للنبي 9 من فتح مكةّ ما أراد

فصل

ولما أمَرَ رسولُ اللّه 9 سعدَ بن عُبادة بدخول


مكّة بالراية ، غَلظ على القوم وأظهَرَ ما في نفسه من الحنَق عليهم ، ودخل وهو يقول :

اَليومُ يومُ المَلْحَمه

اَليومُ تـُسبَى (١) الحُرمه


فسَمِعَها العباسُ 2 فقال للنبي 9 : أما تَسْمَعُ يا رسولَ اللّه ما يقولُ سَعدُ بن عُبادة؟ إنّي لا امَنُ أن يكونَ له في قريش صَوْلةٌ. فقال النبي 9 لأمير المؤمنين 7 : « أدركْ ـ يا علي ـ سَعداً فخُذ الرايةَ منه ، وكُنْ أنت الذي يَدْخُلُ بها مكّة » فأدركه أميرُ المؤمنين 7 فأخَذَها منه ، ولم يَمْتَنعْ عليه سعدٌ من دفعها.

فكان تلافي الفارط من سَعد في هذا الأمر بأمير المؤمنين 7 ، ولم يَرَ رسولُ الله 9 أحداً من المهاجرين والأنصار يَصْلَح لأخذ الراية من سيّد الأنصار سوى أمير المؤمنين 7 ، وعَلِمَ أنَّه لو رام ذلك غيره لامتَنَع سَعدٌ عليه (٢) ، فكان في امتناعه فسادُ التدبير واختلافُ الكلمة بين الأنصار والمهاجرين ، ولمّا لم يكن سعدٌ يَخفِضُ جَناحَه لأحدٍ من المسلمين وكافّةِ الناس سوى النبي 9 ولم يكن وجهَ الرأي تَوَلّي رسولِ الله 7 أَخْذَ الرايةَ منه بنفسه ، وَلّى ذلك من يَقوُم مقامَه ولا يتميَّزُ عنه ، ولا

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » : تستحل ، وما أثبتناه من « م » وهامش « ش ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : منه.


يَعْظُمُ أحدٌ من المقُرّين بالملّة عن الطاعة له ، ولا يَراه دونه في الرتبة.

وفي هذا من الفضل الذي تَخَصّصَ به أميرُ المؤمنين 7 ما لم يَشركه فيه أحدٌ ، ولا ساواه في نظيرٍ له مساوٍ ، وكان عِلْمُ اللّه تعالى ورسوله 7 في تَمام المصلحة بإنفاذ أمير المؤمنين 7 دونَ غيره ، ما كَشَفَ عن اصطفائه لجسيم (١) الأُمور ، كما كان عِلْمُ اللّهِ تعالى فيمن اختارَه للنُبوّة وكمالِ المصلحة ببِعْثته (٢) كاشفاً عن كونهم أفضلَ الخلق أجمعين.

فصل

وكان عهدُ رسول اللّه 9 إلى المسلمين عند توجّهه إلى مكّة ، ألاّ يقتُلُوا بها إلاّ من قاتلهم ، وامَنَ من تعلق بأستار الكعبة سوى نفر كانوا يُؤذونه 9 منهم : مِقْيَسُ بن صُبابة وابنُ خَطَل عبد العُزّى وابن أبي سَرْح وقَيْنَتان كانتا تُغَنّيان بهجاء رسول اللّه 9 وبمراثي أهل بدر ، فقتل أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 إحدى القَيْنَتين وأفلَتَتِ الأخرى ، حتّى استوْمِن لها بعد ، فضَرَبها فرسٌ بالأبطح في إمارة عُمربن الخطّاب فقتلها. وقَتَل أميرُ المؤمنين 7 الحُوَيْرِث بن نُقَيذ بن

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : لِحَسْم.

(٢) في هامش « ش » و « م » : ببعثه.


كَعْب (١) ، وكان ممّن يؤُذي رسولَ الله 9 بمكّة.

وبَلَغَه 7 أنّ أُختَه أًمَّ هانئ قد آوتْ ناساً من بني مَخزُوم ، منهم : الحارث بن هِشام وقَيْسُ بن السائب ، فقصد 7 نحوَ دارها مُقَنّعاً بالحديد ، فنادى : « أَخْرِجوا من آوَيْتُم » قال : فجعلوا يَذْرُقون ـ والله ـ كما تَذْرُق الحبارى خوفاً منه.

فخَرَجَتْ اُمُّ هانئ ـ وهي لا تَعرِفه ـ فقالت : يا عبدَالله ، أنا اُمّ هانئ بنتُ عمِّ رسول اللّه واُختُ عليّ بن أبي طالب انصَرِفْ عن داري.

فقال أميرُ المؤمنين 7 : « أخْرِجوهم » فقالت : واللّه لأَشكُوَنّك إلى رسول اللّه 9 ، فنَزَع المِغْفَر عن رأسه فعَرَفَتْه ، فجاءَتْ تَشْتَدّ حتى التزَمَتْه وقالت : فَدَيْتُك ، حَلَفْتُ لأشكُوَنَّك إلى رسول الله 9 ، فقال لها : « إذهَبي فَبرِّي قَسَمَك فإنّه بأعلى الوادي ».

قالت أمّ هانئ : فجئتُ إلى النبي 9 وهو في قُبّةٍ يغتسل ، وفاطمة 3 تَسْتُرُه ، فلمّا سَمِعَ رسولُ اللّه 9 كلامي قال : « مَرْحَباً بكِ يا اُمّ هانئ وأَهلاً » قلت : بأبي أنت واُمّي ، أشكُو إليك ما لقِيتُ من عليّ اليوم. فقال رسول الله 9 « قد أَجَرت من أجرتِ » فقالت فاطمة عليها

ــــــــــــــــــ

(١) في طبقات ابن سعد ٢ : ١٣٦ ، وانساب الاشراف ١ : ٣٥٧ ، الحويرث بن نُقَيذ ، وفي سيرة ابن هشام ٤ : ٥٢ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٥٩ الحْوَيرِث بن نُقَيْذ بن وهب بن عَبْد بن قصي.


السلام : « إنّما جئتِ يا اُمّ هانئ تَشْتَكين عليّاً في أنّه أخافَ أعداءَ الله وأعداءَ رسوله! » فقال رسولُ الله 9 : « قد شَكَر اللّه لعليّ سعيَه ، وأَجَرْتُ من أجارتْ اُمّ هانئ لمكانِها من علىّ بن أبي طالب ».

ولمّا دخل رسولُ اللّه 9 المسجد ، وَجَد فيه ثلاثمائة وستّين صَنَماً ، بعضُها مشدودٌ ببعض بالرَصاص ، فقال لأمير المؤمنين 7 : « أعطِني يا عليّ كفّاً من الحَصى » فقَبَض له أميرُ المؤمنين كَفّاً فنَاوَله ، فرماها به وهو يقول : ( قُلْ جاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا ) (١) فما بَقَيِ منها صنمٌ إلا خَرَّ لوجهه ، ثمّ أَمَرَ بها فأُخْرِجَتْ من المسجد فطُرِحَتْ وكًسِرتْ.

فصل

وفيما ذكرناه من أعمال أمير المؤمنين 7 في قَتْل من قَتَل من أعداء اللّه بمكَة ، وإخافةِ من أخاف ، ومعونةِ (٢) رسول اللّه 9 على تطهير المسجد من الأصنام ، وشدّةِ باسه في اللّه ، وقطع الأرحام في طاعة اللّه أدلُّ دليلٍ على تخصّصه من الفضل بما لم يكن لأَحدٍ منهم سهمٌ فيه ، حَسَبَ ما قدّمناه.

ــــــــــــــــــ

(١) الاسراء ١٧ : ٨١.

(٢) في « ش » و « م » : تقوية ، وما أثبتناه من هامشهما.


فصل

ثمّ اتصل بفتح مكّة إنفاذُ رسول الله 9 خالدَ بن الوَليد إلى بني جَذِيمة بن عامر ـ وكانوا بالغُمَيْصاء (١) ـ يدعوهم إلى الله عزّوجلّ ، وإنّما أنفذه (٢) إليهم للترة (٣) التي كانت بينه وبينهم.

وذلك أنّهم كانوا أصابوا في الجاهلية نِسوةً من بني المُغيرة ، وقَتَلوا الفاكِهَ بنَ المُغيرة ـ عمَّ خالد بن الوليد ـ وقَتَلوا عَوْفأ ـ أبا عبد الرحمن ابن عَوْف ـ فأنفذه رسولُ الله 9 لذلك ، وأنفذ معه عبد الرحمن بن عَوْف للتِرَة أيضاً التي كانت بينه وبينهم ، ولولا ذلك ما راى رسولُ اللّه 9 خالداً أهلاً للإمارة على المسلمين. فكان من أمره ما قدّمنا ذكرَه ، وخالف فيه عَهْدَ الله وعَهْدَ رسوله ، وعَمِلَ فيه على سُنّة الجاهلية ، واطَّرَحَ حكم الإسلام وراءَ ظَهْره ، فبَرأ رسولُ الله صلّى الله لا عليه واله من صَنيعه ، وتلافى فارطَه بأمير المؤمنين 7 ، وقد شَرَحنا من ذلك فيما سلف ما يغني عن تكراره في هذا المكان.

ــــــــــــــــــ

(١) الغميصاء : موضع في بادية العرب قرب مكّة كان يسكنه بنوجَذِيمة بن عامربن عبدمَناة بن كِنانة الذين أوقع بهم خالد بن الوليد عام الفتح فقال رسول اللّه صلى اللة عليه وآله : « اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد » ووداهم على يدي علي بن أبي طالب. « معجم البلدان ٤ : ٢١٤ ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : نفّذ.

(٣) التِّرة : الثأر. « مجمع البحرين ـ وتر ـ ٣ : ٥٠٨ ».


فصل

ثمّ كانت غَزاة حنَين ، استظهَرَ رسولُ الله 9 فيها بكِثرة الجَمْع ، فَخَرج 7 متوجّهاً إلى القوم في عشرة الاف من المسلمين ، فظَنَّ أكثرُهم أنّهم لن يُغْلَبوا لمِا شاهَدوه من جمعهم وكثرة عُدَّتِهم وسِلاحهم ، وأعْجَب أبا بكر الكثرةَ يومَئذٍ فقال : لن نُغلب اليوم من قلة ، فكان الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّوه ، وعانهم (١) أبوبكر بعجبه بهم.

فلمّا التقَوْا مع المشركين لم يَلْبَثوا حتى انهزموا بأجمَعِهم ، فلم يَبْقَ منهم مع النبي 9 إلاّ عشرةُ أنفس : تسعةٌ من بني هاشم خاصّةً ، وعاشرُهم أيمنُ بن أُمّ ايمَن ، فقًتِل أَيْمَن ; وثبت تسعة النفر الهاشميّون حتى ثابَ إلى رسول اللّه 9 من كان انهزم ، فرجعوا أوّلاً فأوّلاً ، حتى تلاحَقوا ، وكانت الكَرة لهم على المشركين.

وفي ذلك أنزل الله تعالى وفي إعجاب أبي بكر بالكثرة : ( وَيَوْمَ حنين اِذْ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ فَلَمْ تغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرينَ * ثُمَّ أنْزَلَ أللّهُ سَكِينَتهُ عَلى

ــــــــــــــــــ

(١) عانه : أصابه بالعين ، وهو أثر عين الحاسد في المنظور. أنظر « الصحاح ـ عين ـ ٦ : ٢١٧١ ».


رَسُولِهِ وَعلىَ الْمُؤْمِنينَ ) (١) يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 ومن ثبت معه من بني هاشم يومئذٍ وهم ثمانية ـ أمير المؤمنين تاسعهم ـ :

العَباسُ بن عبدِ المطّلب عن يمين رسول اللّه.

والفَضْلُ بن العباس بن عبد المطلب عن يساره.

وأبوسفيان بن الحارث مُمْسِكٌ بسَرْجه عند ثَفَر (٢) بَغْلتَه.

وأميرُ المؤمنين 7 بين يَدَيْه بالسيف.

ونَوْفَلُ بن الحارث ، ورَبيعةُ بن الحارثِ ، وعبدالله بن الزُبَير بن عبد المطلب ، وعُتْبةٌ ومُعَتِّبٌ ابنا أبي لَهَبٍ حوله.

وقد وَلَت الكافَةُ مُدبِرين سوى من ذكرناه ، وفي ذلك يقول مالكُ بن عُبادة الغافقي :

لم يُواسِ النبيَّ غيرُ بَني ها

شِم عند السُيوف يومَ حُنَيْن

هَرَبَ الناسُ غيرَتسعةِ رَهْطٍ

فهُمُ يَهْتِفون بالناس أيْن

ثُمَّ قامُوامع النبي على المَوْ

تِ فآبوا ْزيناً لنا غيرَ شَينْ

وثَوئ أيمنُ الأمين من القَوْ

مِ شَهيداً فاعتاضَ قُرَّةَ عَيْن

وقال العبّاسُ بن عبد المطّلب 2 في هذا المقام :

نَصرَنا رسولَ الله في الحَرْب تسعة

وقَدْ فَرّ مَنْ قَدْ فَرَّ عنه فأقْشَعُوا

ــــــــــــــــــ

(١) التوبة ٩ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) الثفر : السير الذي في مؤخر السرج « لسان العرب ـ ثفر ـ ٤ : ١٠٥ ».


وَقَوْلي إذا ما الفَضْل شَدََّ بسَيْفه

عَلَى القَوْم أُخرى ـ يا بُنيَّ ـ ليَرْجعُوا

وعاشرنا لاقَى الحِمامَ بنَفْسه

لما نالَه في اللهِ لا يَتَوَجَّع

يعني به أَيْمَنَ بن أُمّ أَيْمَن.

ولمّا رأى رسولُ اللّه 9 هزيمةَ القوم عنه ، قال للعبّاس 2 ـ وكان رجلاً جَهْوَرِيّاً صَيّتاً ـ : « نادِ في القوم وذَكِّرْهم العَهْد » فنادى العّباسُ بأعلى صوته : يا أهلَ بَيْعَةِ الشجرة (١) ، يا اصحابَ سورة البقرة (٢) إلى أين تَفِرّون؟ اُذْكُروا العهدَ الذي عاهدتم (٣) عليه رسول الله 9 ، والقومُ على وُجوهِهم قد وَلَّوْا مُدْبِرين ، وكانت ليلةً ظَلماء ، ورسولُ الله في الوادي والمشركون قد خَرَجُوا عليه من شِعاب الوادِي وجَنَباته ومَضايِقِه مُصْلِتين بسيوفهم وعمدهم وقِسيّهم.

قالوا : فنظَرَرسولُ الله 9 إلى الناس ببعض وجهه في الظَلْماء ، فأضاءَ كأنّه القمرُ ليلةَ البَدْر. ثمّ نادى المسلمين : « أينَ ما عاهدتم اللّه عليه؟ » فأسمع أوّلهُم وآخِرهم ، فلم يَسْمَعْها رجلٌ إلاّ رَمى بنفسه إلى الأرض ، فانحدَرُوا إلى حيث كانوا من الوادي ، حتّى لحِقوا بالعدو فواقعوه.

قالوا : وأقبل رجلٌ من هَوازِن على جَمَل له أحمر ، بيده رايةٌ سوداء في رأس رُمْحٍ طويلٍ أمامَ القوم ، إذا أدرك ظَفَراً من المسلمين

ــــــــــــــــــ

( ١ ، ٢ ) في هامش « ش » و « م » : « الشجرتْ ـ البقَرَتْ ، كذا قال وهو وقف على التاء دون الهاءِ ».

(٣) في الاصل : عاهَدَكم. وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار.


اكَبَّ عليهم ، وإذا فاتَه الناسُ رَفَعه لمَن ؤراءه من المشركين فاتَّبعوه ، وهو يرتجز ويقول :

أنَا أبو جَرْوَلَ لا بَراح

حتّى نُبيحَ القومَ (١) أو نُباح

فصمِد له أميرُ المؤمنين 7 فضرب عَجُز بَعيره فصَرَعه ، ثم ضربه فقَطَّره (٢) ، ثم قال :

قدعَلِم القومُ لدى الصَباح

أنّي في الهَيْجاء ذو نِصاح

فكانت هزيمةُ المشركين بقَتْل أبي جَرْوَل لعنه الله.

ثمّ التأم المسلمون وصَفّوا للعدو ، فقال رسول اللّه 9 : « اللّهم إنّك أَذَقْتَ أوّلَ قريشٍ نكالاً فأَذِقْ آخِرَها نوالاً » وتجالَدَ المسلمون والمشركون ، فلمّا رآهم النبيُّ عليه واله السلام قام في رِكابَيْ سَرْجِهِ حتّى أشرف على جماعتهم وقال : « الآن حَمِيَ الوطيس (٣) :

أَنَا النبيُّ لأ كَذِب

أَنَا ابنُ عَبدِ المُطَّلِب »

فما كان بأسرع مِن أن وَلّى القومُ ادبارَهم ، وجيءَ بالأَسْرى إلى رسول اللّه 9 مُكَتَّفِين.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : اليوم ، هكذا.

(٢) قطَره : ألقاه على أحد جانبيه ، أسقطه. « الصحاح ـ قطر ـ ٢ : ٧٩٦ ».

(٣) حمي الوطيس : هي كلمة لِم تسمع الاّ منه 9 ، وهومن فصيح الكلام ، قال الأصمعي : يضرب مثلاً للأمر اذا اشتد. « لسان العرب ـ وطس ـ ٦ : ٢٥٥ ».


ولمّا قَتَل أمير المؤمنين 7 أبا جَرْوَل وخُذِلَ القومُ لقتله ، وَضَع المسلمون سيوفهم فيهم ، وأميرُ المؤمنين 7 يَقْدُمهم حتّى قتل أربعين رجلاً من القوم ، ثمّ كانت الهزيمة والأَسْر حينئذٍ ، وكان أبو سفيان صَخْر بن حَرْب بن اُميّة في هذه الغَزاة ، فانهزم في جُملة من انهزم من المسلمين.

فرُوِي عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال : لَقيت أبي منهزماً مع بني أبيه من أهل مكّة ، فصِحْت به : يا بن حرب واللّه ما صبرتَ مع ابن عمِّك ، ولا قاتلتَ عن دينك ، ولا كَفَفْتَ هؤلاء الأَعرابَ عن حريمك. فقال : مَنْ أنت؟ فقلت : معاوية ، قال : ابن هِند؟ قلت : نعم. قال : بأبي أنت واُمي ، ثمَّ وَقَف فاجتمع معه أناسٌ من أهل مكّة ، وانضممتُ إليهم ثمّ حَمَلنْا على القوم فضَعْضَعْناهم ، وما زال المسلمون يَقْتلُون المشركين ويَأسرون منهم حتّى ارتفع النهار ، فأمر رسولُ الله 9 بالكَفّ عنه ونادى : أنْ لا يُقْتَلَ أسيرٌ من القوم.

وكانت ئذَيْلٌ بَعَثَتْ رجلاً يقال له ابنُ الأكْوَع (١) أيامَ الفتح عيناً على النبي 7 حتّى عَلِمَ عِلْمه ، فجاء إلى هُذَيْل بخَبَره فاُسِر يوم حُنَين ، فمرّ به عُمَر بن الخطاب ، فلمّا رآه أَقْبَلَ على رجل من الأنصار وقال : عَدوّ اللّه الذي كان عَيْناً علينا ، ها هو أسيرٌ فاقتُلْه ، فضَرَب الأنصاريُ عنقَه ، وبلغ ذلك النبي 9 فكَرِهَهُ وقال : « ألم آمرُكم ألاّ تَقْتلوا أسيراً! ».

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » وهامش « م » : ابن الأنوع.


وقُتِل بعده جَميلُ بن مَعْمَر بن زهَير وهو أسير.

فبَعَث النبي 9 إلى الأنصار وهو مغْضَب فقال : « ماحَمَلَكم على قَتْله ، وقد جاءكم الرسولُ ألاّ تقتلوا أسيراً؟ » فقالوا : إنّما قَتَلْنا بقول عمر. فأعرض رسولُ اللّه 9 حتى كلّمه عُمَيْربن وَهْب في الصَفْح عن ذلك.

وقسّم رسول الله 9 غنائمَ حُنَين في قريش خاصّة ، وأجْزَلَ القِسْمَ للمؤلّفة قلوبهُم كأبي سفيان بن حَرْب ، وعِكْرِمة بن أبي جهل ، وصَفوان بن أُميّة ، والحارث بن هِشام ، وسُهَيْل ابن عَمرو ، وزُهَير بن أبي أُميّة ، وعبداللة بن أبي اُميّة ، ومعُاوية بن أبي سفيان ، وهِشام بن المُغيرة ، والأَقرع بن حابس ، وعُيَيْنة بن حِصْن في امثالهم.

وقيل : إنّه جَعَل للأنصار شيئاً يسيراً ، وأعطى الجمهورَ لمن سميناه ، فغَضِبَ قومٌ من الأنصار لذلك ، وبلغ رسولَ الله 9 عنهم مقالٌ سَخِطَه ، فنادى فيهم فاجتمعوا ثم قال لهم : « اجْلُسوا ، ولا يَقْعُد معكم أحدٌ من غيركم » فلمّا قَعَدوا جاء النبي 7 يَتْبَعُه أميرُ المؤمنين 7 حتّى جَلَس وَسْطهم ، فقال لهم : « إنّي سائلُكم عن أمرٍ فاجيبوني عنه » فقالوا : قل يا رسولَ الله ، قال : « ألستُم كُنتم ضالين فهداكم الله بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةُ ولرسوله. قال : « ألم تكونوا على شَفا حُفرة من النار ، فأَنْقَذَكم اللّهُ بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةً ولرسوله. قال : « ألم تكونوا قليلاً فكَثَّركَم اللّهُ بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةُ ولرسوله. قال : « ألم تكونوا أعداءً فألَّفَ اللهُ


بين قلوبكم بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةُ ولرسوله.

ثمّ سكت النبي 9 هُنَيْهَةً ثمّ قال : « ألأ تُجيبوني بما عندكم؟ » قالوا : بمَ نُجيعُك فِداك آباؤُنا وامّهاتنا ، قد أجبناك بانّ لك الفضلَ والمَنَّ والطَوْلَ عَلينا. قال : « أَمَ لوشئتُم لقلتم : وأنتَ قد كنتَ جِئْتَنا طَريداً فآويناك ، وجئتَنا خائِفاً فآمنّاك ، وجئتَنا مُكَذَّباً فصَدَّقناك ».

فارتفعَتْ أصواتُهم بالبُكاء وقام شيوخُهم وساداتُهم إليه فَقَّبلوا يدَيْه ورِجْلَيْه ، ثُم قالوا : رَضِينا باللّه وعنه ، وبرسوله وعنه ، وهذه أموالُنا بين يَدَيْك ، فإن شِئْتَ فاقْسِمْها على قومك ، وإنّما قال مَنْ قال منّا على غير وَغْر صدرٍ (١) وغِلٍّ في قلب ، ولكنّهم ظَنُّوا سُخْطاً عليهم وتقصيراً بهم ، وقد استغْفروا اللّه من ذنوبهم ، فاستغفِرلهم يا رسولَ اللّه. فقال النبيُ 9 : « اللهمَّ اغْفِرْ للأنصار ، ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار. يا معشرَ الأنصار ، أما تَرْضَوْن أن يرجِعَ غيركم بالشاة والنِعَم ، وتَرْجِعون أنتم وفي سَهْمِكم رسولُ الله؟ » قالوا : بلى رَضِينا. فقال النبي 9 : « الأنصارُ كِرشي وعَيْبَتي (٢) ، لو سَلَكَ الناسُ وادياً وسَلَكتِ الأنصارُ شِعْباً ، لسلكتُ شِعْبَ الأنصار ، اللّهم اغفِر للأنصار ».

وقد كان رسولُ الله 9 أعطى العبّاسَ بن مِرْداس أربعاً من الإبل يومئذ فسخِطها ، وانشأ يقول :

ــــــــــــــــــ

(١) وغر الصدر : الضغن والعداوة. « الصحاح ـ وغر ـ ٢ : ٨٤٦ ».

(٢) في الحديث : « الأنصار كرشي وعيبتي » أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته والذين يعتمد عليهم في اُموره. « النهاية ٤ : ١٦٣ ».


( أتجعَلُ نَهبي ) (١) ونَهْبَ العُبَيـْ

ــدِ (٢) بَيْنَ عُيَيْنَة والأقْرَع

فما كان حِصْنٌ ولا حابِسٌ

يَفوقان شَيْخي في المَجْمَعِ

وماكنتُ دونَ أمرِئٍ منهما

ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يرْفَع

فبلغ النبي 9 قولهُ فاستحَضرَه وقال له : « أنتَ القائل :

أتجعَل نَهْبي ونَهْبَ العبيـ

ـدِ بين الأقْرَع وعُيَيْنَة »

فقال له أبو بكر : بأبي أنت واُمّي ، لستَ بشاعر ، قال : « وكيف؟ » قال ، قال : بين عُيَيْنَة والأقْرَع.

فقال رسولُ الله 9 لأمير المؤمنين 7 : « قُمْ ـ يا عليّ ـ إليّه فاقطَعْ لسانه » (٣).

قال : فقال العبّاس بن مِرداس : فواللّه لَهذه الكَلِمة كانت أشدَّ عَلَيً من يَوم خَثْعَم ، حين أتونا في ديارنا. فأخَذَ بيدي عليّ بن أبي طالب فانطَلَقَ بي ، ولو أرى أنَ أحداً يُخَلّصنى منه لدعوتُه ، فقلت : يا

ــــــــــــــــــ

(١) في سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٢ ، ومغازي الواقدي ٣ : ٩٤٧ ، والطبري ٣ : ٩١ « فأصبح نهبي ».

(٢) العُبيد : كزبير ، فرس. « القاموس المحيط ـ عبد ـ ١ : ٣١١ ».

(٣) جاء في حاشية « ش » و « م » ما لفظه : ذكروا لما قال النبي 7 : « اقطعوا عني لسانه » قام عمر بن الخطاب فأهوى إلى شفرة كانت في وسطه ليسلها فيقطع بها لسانه ، فقال النبي 7 لأمير المؤمنين 7 : « قُم أنت فاقطع لسانه » أو كما قال.


عليّ ، إنّك لقَاطعٌ لساني؟ قال : « إنّي لمُمْضٍ فيك ما أُمرتُ ».

قال : ثمَّ مَضى بي ، فقلت : يا عليّ إنّك لقَاطعٌ لساني؟ قال : « إنّي لممضٍ فيك ما اُمِرْت » ، قال : فما زال بي حتّى أدْخَلَني الحَظائر (١) ، فقال لي : « اعتَدّ ما بينَ أربع إلى مائة » قال ، قلت : بأبي أنتم واُمّي ، ما أكْرَمَكم وَألْحَمكم وأَعْلَمكم!.

قال : فقال : « إنّ رسول الله 9 أعطاكَ أربعاً وجَعَلك مع المهاجرين ، فإن شئت فخُذْها ، وإن شئتَ فخِذِ المائة وكُنْ مع أهل المائة ».

قال ، قلتُ : أَشرِ عَلَيّ ، قال : « فإني امُرُكَ أن تاخُذَ ما أعطاك وترضى ».

قلت : فإنّي أفعل.

فصل

ولمّا قَسم رسولُ اللّه 9 غنائمَ حنَين ، أَقْبلَ رجلٌ طُوال أدَم أجنأ (٢) ، بين عَيْنَيه أثرُ السجود ، فسلّم ولم يَخُصَّ النبي 9 ثم قال : قد رأيتُك وما صنعتَ في هذه الغنائم. قال : « وكيف رأيتَ؟ » قال : لم أرَك عَدَلْتَ. فغَضِبَ رسولُ الله صلّى اللّه عليه

ــــــــــــــــــ

(١) الحظائر : جمع حظيرة ، وهي ما يعمل للإبل من شجر يقيها الحرّ والبرد. « مجمع البحرين ـ حظر ـ ٣ : ٢٧٣ ».

(٢) الأجنأ : الأحدب. « لسان العرب ـ جنأ ـ ١ : ٥٠ ».


وآله وقال : « ويلكَ ، إذا لم يكن العدلُ عندي فعندَ من يكون! ».

فقال المسلمون : ألأ نَقْتُله؟ فقال : « دعوه سَيكونُ له أتباعٌ يَمْرقُون من الدين كما يَمْرُق السهم من الرَّمِيَة ، يَقْتُلُهم اللهُ على يد أحبِّ الخلق إليه من بعدي ».

فقَتله أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب 7 فيمن قَتَل يومَ النهروان من الخَوارج.

فصل

فانظر الان إلى مناقب أمير المؤمنين 7 في هذه الغَزاة ، وتامَّلها وفَكِّرْ في معانيها ، تَجدْه 7 قد تَوَلّى كلَّ فضلٍ كان فيها ، واختصّ من ذلك بما لم يَشْركه فيه أحدٌ من الأُمّة.

وذلك أنّه 7 ثَبَتَ مع النبي 9 عند انهزامِ كافّةِ الناس ، إلاّ النَفَر الذين كان ثبوتُهم بثبوته 7.

وذلك أنّا قد أحَطْنا عِلْماً بتقدُّمه 7 في الشَجاعة والبَأْس والصَبر والنَجْدة ، على العبّاس والفَضْل ـ ابنِه ـ وأبي سُفيان بن الحارِث ، والنَفَر الباقين ، لظُهُورِ أمره في المقامات التي لم يَحْضَرْها أحدٌ منهم ، واشتهارِ خبره في مُنازَلَةِ الأقران وَقتْل الأبطال ، ولم يًعْرَف لأحدٍ من هؤلاء مقامٌ من مقاماته ، ولا قتَيل عُزِيَ إليهم بالذِكر.

فعلِمَ بذلك أنَّ ثبوتَهم كان به 7 ، ولولاه كانت


الجنايةُ على الدين لا تُتَلافى ، وأنَّ بَمقامه ذلك المَقام وصَبرِه مع النبي عليه واله السلام كان رجوعُ المسلمين إلى الحَرْب وتشجُّعِهم في لقاء العدُوّ.

ثمّ كان مِن قَتْله أبا جَرْوَل متقدّمَ المشركين ، ما كان هو السببَ في هَزيمة القوم وظَفَرِ المسلمين بهم ، وكان مِن قَتْله 7 الاربعين الذين تَوَلّى قَتْلهم الوهنُ على المشركين وسببُ خذلانهم وهلعهم ، وظفر المسلمين بهم ، وكان من بليَةِ المتقدم عليه في مقام الخِلافة من بعد رسول اللّه 9 أن عانَ المسلمينَ بإعجابه بالكَثْرة ، فكانت هَزيمتُهم بسبب ذلك ، أوكان أحدٌ أسبابها.

ثُمّ كان من صاحبه في قتل الأسْرى من القوم ، وقد نَهَن النبيُ عليه واله السلام عن قتلهم ، ما ارتكَبَ به عظيمَ الخلاف للّه تعالى ولرسوله ، حتّى أَغْضَبه ذلك وآسَفَه فأنكره وأكبره.

وكان من صَلاح أمر الأنصار بمَعونته للنبي 9 في جمعهم وخِطابهم ، ما قَويَ به الدين وزال به الخوفُ من الفتنة التي أظلّت القومُ بسبب القسمة ، فساهم رسولُ اللّه 9 في فضل ذلك وشَرِكَه فيه دون من سواه.

وتولّىّ من أمر العبّاس بن مِرداس ما كان سببَ استقرار الإيمان في قلبه ، وزَوال الرَيْب في الدين من نفسه ، والانقيادِ إلى رسول اللّه 9 والطاعة لأمره والرضا بحكمه.

ثمّ جَعَل رسولُ اللّه 9 الحُكْمَ على المُعتِرض في قضائه عَلماً على حقّ أمير المؤمنين 7 في فعاله ، وصوابه في


حرُوبه ، ونَبّه على وجوب طاعته وحَظْرِمعصيته ، وأنَّ الحَقَّ في حَيِّزه وجَنْبَتِه ، وشَهِدَ له بأنّه خيرُ الخليقة.

وهذا يُباين ما كان من خُصومة الغاصبين لمقامه من الفِعال ، ويُضادُّ ما كانوا عليه من الأعمال ، ويُخْرِجُهم من الفَضْل إلى النَقْص الذي يُوبِقُ صاحبَه ـ أو يكاد ـ فضلاً عن سُمُوّه على أعمال المُخْلِصين في تلك الغَزاة وقُرْبهم بالجهاد الذي تَوَلَّوه ، فبانوا به ممن ذكرناه بالتقصير الذي وصفناه.

فصل

ولمّا فَضَّ اللّه تعالى جمعَ المشركين بحُنَين ، تفرّقوا فِرْقتين : فأخَذَتِ الأعرابُ ومن تَبِعهم إلى أوْطاس (١) ، وأخَذَتْ ثَقيف ومن تَبِعها إلى الطائف. فبعَثَ النبيُ 9 أبا عامرٍ الأشعريّ إلى أوْطاس في جماعة منهم أبو موسى الأشعري ، وبَعَث أبا سفيانَ صَخْرَ بنَ حَرْبٍ إلى الطائف.

فاما أبو عامر فإنّه تقدّم بالراية وقاتل حتّى قُتِل ، فقال المسلمون لأبي موسى : أنت ابنُ عَمّ الأمير وقد قُتِل ، فخُذِ الرايةَ حتّى نقاتِل دونَها ، فاخذها أبو موسى ، فقاتل المسلمًون حتّى فَتَح اللهُ عليهم.

وأما أبوسفيان فإنّه لَقِيَتْه ثقيف فضَرَبوه على وجهه ، فانهزم ورَجَعَ إلى النبي 9 فقال : بَعَثْتَني مع قومٍ لا يُرْقَعُ بهم

ــــــــــــــــــ

(١) أوطاس : وادٍ في ديار هَوازن كانت فيه وَقعة حُنَين. « معجم البلدان ١ : ٢٨١ ».


الدِلاء من هُذَيل والأعراب ، فما أغْنَوا عنيّ شيئاً ، فسكت النبي 9 عنه.

ثمّ سار بنفسهِ إلى الطائف ، فحاصرهم أَيّاماً ، وأنفَذَ أميرَ المؤمنين 7 في خَيْل ، وأمَرَهُ أن يَطَأ ما وَجَد ، ويكْسِرَ كلَّ صَنَمٍ وَجَده.

فخَرَج حتى لَقِيَتْه خيلُ خَثْعم في جمع كثير ، فبرزَ له رجل من القوم يُقال له شِهاب ، في غَبْش الصبح ، فقال : هل من مبارز؟ فقال أميرُ المؤمنين 7 : « من له؟ » فلم يَقُمْ احدٌ ، فقام اليه أمير المؤمنين 7 فوثب ابو العاص بن الرَبيع زوجُ بنت رسول الله 9 فقال : تُكْفاه أيها الأمير ، فقال : « لا ، ولكن إنْ قُتِلْت فانت على الناس » فبرز إليه أميرُ المؤمنين 7 وهو يقول :

« إِنَّ على كُلِّ رئيسٍ حَقّا

أنْ يُرْوِيَ الصَعْدَة (١) أوْتًدَقّا (٢) »

ثمّ ضربه فقتله ، ومَضى في تلك الخَيْل حتّى كَسَر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله 9 وهو مُحاصر لأهل الطائِف.

فلمّا رآه النبي عليه وآله السلام كبَّر للفتح ، وأخَذَ بيده فخلا به وناجاه طويلاً.

ــــــــــــــــــ

(١) الصعدة : القناة المستوية من منبتها لا تحتاج إلى تعديل. انظر « الصحاح ـ صعد ـ ٢ : ٤٩٨ ».

(٢) في هامش « م » : تَنْدَقّا.


فروى عبدُ الرحمن بن سَيابَة والأجْلَح ـ جميعاً ـ عن أبي الزُبَير ، عن جابر بن عبداللّه الأنصاريّ : أنّ رسولَ الله 9 لمّا خلا بعليّ بن أبي طالب 7 يومَ الطائف ، أتاه عُمر بن الخَطّاب فقال : أتناجيه دوننا وتَخْلُو به دوننا؟ فقال : « يا عُمَر ، ما أنا اِنْتَجَيْتُه ، بل الله انتجاه » (١).

قال : فأعْرَض عُمر وهو يقول : هذا كما قلتَ لنا قبلَ الحُدَيْبِيّة : ( لَتَدْخُلُنَّ اْلمَسْجدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللّهُ آمِنين ) (٢) فلم نَدْخُله وصُدِدْنا عنه ، فناداه النبيَ 9 : « لم أَقُلْ إنَّكم تدخُلونه في ذلك العام! » (٣).

ثمّ خرج من حِصْن الطائف نافع بن غَيْلان بن مُعْتِب في خَيْلٍ من ثَقيفٍ ، فلَقِيَه أميرُ المؤمنين 7 بَبطْن وَجٍّ (٤) فقَتَله ، وانهزم المشركون ولَحِقَ القومَ الرعبُ ، فنزل منهم جماعة إلى النبي 9 فأسلَموا ، وكان حِصار النبي 9 الطائفَ بِضْعَةَ عشريوماً.

ــــــــــــــــــ

(١) روي باختلاف يسير في سنن الترمذي ٥ : ٣٠٣ ، تأريخ بغداد ٧ : ٤٠٢ ، مناقب المغازلي : ١٢٤ ، اُسد الغابة ٤ : ٢٧ ، كفاية الطالب : ٣٢٧.

(٢) الفتح ٤٨ : ٢٧.

(٣) إعلام الورى : ١٢٤ ، وانظر قطع منه في سنن الترمذي ٥ : ٦٣٩ / ٣٧٢٦. جامع الاصول ٨ : ٦٥٨ / ٦٥٠٥ ، تاريخ بغداد ٧ : ٤٠٢ ، مناقب المغازلي : ١٢٤ / ١٦٣ ، كفاية الطالب : ٣٢٧ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٧ ، مصباح الانوار : ٨٨ ، كنز العمال ١١ : ٦٢٥ / ٣٣٠٩٨ عن الترمذي والطبراني.

(٤) وَجّ : الطائف. « معجم البلدان ٥ : ٣٦١ ».


فصل

وهذه الغَزاةُ أيضاً ممّا خَصَّ اللّه تعالى فيها أميرَ المؤمنين 7 بما انفرد به من كافّة الناس ، وكان الفتحُ فيها على يده ، وقَتْلِ من قُتِلَ من خَثْعم به ، دون سواه ، وحَصَل له من المناجاة التي أضافها رسولُ اللّه 9 إلى اللّه ـ عزّ اسمه ـ ما ظَهَربه من فضله وخصوصيّته من الله عزّوجلّ بما بان به من كافّة الخلق ، وكان من عدوّه فيها ما دَلّ على باطنه وكشَفَ اللّهُ تعالى به عن حقيقة سرِه وضَميره ، وفي ذلك عِبْره لأولي الألباب.

فصل

ثم كانت غَزاة تَبوك ، فاوحى اللهُ تبارك وتعالى اسمه إلى نبيه صلّى اللة عليه واله : أن يَسيرَ إليها بنفسه ، ويستنفِرَ الناسَ للخروج معه ، وأعلمه أنّه لا يحتاجُ فيها إلى حَرْب ، ولا يمنى بقتال عدُوٍّ ، وأنّ الأمورَ تنقادُ له بغير سَيف ، وتَعَبَّدهَ بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم ، ليتميّزوا بذلك وتظَهرَ سرائرهُم.

فاستنفرهم النبي 9 إلى بِلاد الروم ، وقد أيْنَعَتْ ثمارهم واشتدَّ القَيْظُ عليهم ، فابطأ أكثرهُم عن طاعته ، رغبةً في العاجل ، وحِرصاً على المعيشة وإصلاحِها ، وخوفاً من شدّة القَيْظ


وبُعْدِ المسافة (١) ولقاءِ العدوّ ، ثمّ نهض بعضُهم على استثقال للنهوض ، وتخلّف آخرون.

ولما أراد رسولُ الله 9 الخروجَ استخلف أميرَ المؤمنين 7 في أهله وولده وأزواجه ومهاجره ، وقال له ، « يا عليُّ إنّ المدينةَ لا تَصْلَحُ إلاّ بي أو بك ».

وذلك أنّه 7 عَلِم من خُبث نيّات الأعراب ، وكثيرٍ من أهل مكّة ومَن حولها ، ممّن غَزاهم وسَفكَ دماءهم ، فأشْفَقَ أن يَطلبُوا المدينةَ عند نَأيه عنها وحصُولهِ ببلاد الروم أو نحوها ، فمتى لم يكنْ فيها من يقومُ مَقامه ، لم يُؤْمَنْ مِن مَعَرَّتهم ، وإيقاع الفَساد في دار هِجرته ، والتخطّي إلى ما يَشين أهلَه ومُخَلَّفِيه.

وعَلِم علهيه السلام أنّه لا يقوم مقامَه في إرهاب العدُوّ وحراسة دار الهجرة وحِياطَة من فيها ، إلاّ أميرُ المؤمنين 7 ، فاستخلفه استخلافاً ظاهراً ، ونَصَّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جلياً.

وذلك فيما تظاهرت به الرواية أنَّ أهلَ النفاق لمّا عَلِموا باستخلاف رسولِ الله 9 عليّاً 7 على المدينة ، حَسَدُوه لذلك وعَظُم عليهم مُقامُه فيها بعد خروجه ، وعلِموا أنها تَنْحَرِس به ، ولا يكون للعدوّ فيها مَطْمَع ، فساءهم ذلك ، وكانوا يؤثرون خروجَه معه ، لِما يَرجُونه من وقوع الفَساد والاختلاط عند نأيِ النبي 9 عن المدينة ، وخُلُوّها من مرهوب مخوفٍ يَحرُسُها.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : الشقة.


وغَبطوه 7 على الرفاهيّة والدَعَةِ بمُقامه في أهله ، وتكلّفِ من خرج منهم المشاقَّ بالسفر والخَطَر.

فأرجَفوا به 7 وقالوا : لَمْ يستخلفه رسول اللّه 9 إكراماً له وإجلالاًَ ومودّةً ، وإنّما خَلّفه استثقالاً له. فبَهَتوه بهذا الإرجاف كبَهْتِ قُريش للنبي عليه وآله السلام بالجنَّة تارةً ، وبالشعر أُخرى ، وبالسِحر مرّة ، وبالكِهانة اُخرى. وهم يعَلَمون ضِدَّ ذلك ونقيضَه ، كما عَلِم المنافقون ضِدَّ ما أرجفوا به على أمير المؤمنين 7 وخلافَه ، وأَنّ النبيَ 9 كان أخصّ الناس بأمير المؤمنين 7 ، وكان هو أحبَّ الناس إليه وأسعدَهم عنده وأفضلَهم لديه.

فلمّا بلغَ أميرَ المؤمنين 7 إرجافُ المنافقين به ، أراد تكذيبَهم وإظهارَ فَضيحتهم ، فلَحِق بالنبي 9 فقال : « يا رسولَ الله ، إنّ المنافقين يَزْعًمون أنّك إنّما خَلَّفْتَني استثقالاً ومَقْتاً! فقال له رسولُ الله 9 : اِرجِع يا أخي إلى مكانك ، فإنّ المدينَة لا تَصْلَحُ إلاّ بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي ».

فتضمّن هذا القول من رسول الله 9 نصَّه عليه بالإمامة ، وإبانته عن الكافّة بالخلافة ، ودلّ به على فضلٍ لم يَشْرَكه فيه سواه ، وأوجَب له به 7 جميعَ منازل هارون من موسى ، إلاّ ما خصّه العُرْف من الاخُوّة واستثناه هو 7 من النبوّة.


ألا ترى أنّه عليه وآله السلام جَعَل له كافّةَ منازل هارون من موسى ، إلاّ المستثنى منها لفظاً أوعقلًا. وقد علم كلُّ من تأمَّلَ معانيَ القران ، وتصفّح الروايات والأخبار ، أنّ هارون 7 كان أخَا موسى لأبيه وأُمهِ وشريكَه في أمره ، ووزيرَه على نبوّته وتبليغِه رسالات ربّه ، وأنّ الله تعالى شَدَّ به أزرَه ، وأنّه كان خليفتَه على قومه ، وكان له من الإمامة عليهم وفَرْضِ الطاعةِ كإمامتهُ وفَرْضِ طاعته ، وأنّه كان أحبَ قومه (١) إليه وأفضلَهم لديه.

قال الله عزّ وجل حاكياً عن موسى 7 : ( قَالَ رَبِّ أشْرَحْ لي صَدْرِي * ويسِّرْلِي أمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةَ مِنْ لِسَاني* يَفْقَهُوا قَوْلي * وَاجْعَلْ لي وَزيراً مِنْ اَهْلي * هَارُونَ اَخِي * اُشْدُدْ بِهِ اَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في اَمرِي ) (٢) فأجابَ اللّه تعالى مسألتَه وأعطاه سُؤْلَهُ في ذلك واُمنيته ، حيث يقول : ( قَدْ اُوتيتَ سُؤْلَكَ يَا موسى ) (٣) وقال حاكياً عن موسى 7 : ( وَقَالَ مُوسى لأخيهِ هَارُونَ اخْلًفْني فِي قَوْمِي وَاَصْلحْ وَلاَ تَتبِعْ سَبِيلَ اْلمفسْدِينَ ) (٤).

فلما جًعَل النبيُ 9 عليّاً 7 منه بمنزلة هارون من موسى ، أوجَب له بذلك جميعَ ما عَدَدناه ، إلاّ ما خصَّه العُرْفُ من الأخُوّهَ واستثناه من النُبؤَة لفظاً.

وهذه فضيلةٌ لم يشرَك فيها أحدٌ من الخلق أميرَ المؤمنين عليه

ــــــــــــــــــ

(١) هامش « ش » و « م » : الخلق.

(٢) طه ٢٠ : ٢٥ ـ ٣٢.

(٣) طه ٢٠ : ٣٦.

(٤) الأعراف ٧ : ١٤٢.


السلام ولا ساواه في معناها ولا قاربه فيها على حال ، ولو عَلِم اللّه تعالى أنَّ بنبيّه 7 في هذه الغَزاة حاجةً إلى الحرب والأنصار ، لمَا أذِنَ له في تخليفِ أميرالمؤمنين 7 عنه حَسَب ما قدّمناه ، بل عَلِم أنّ المصلحةَ في استخلافه ، وأنً إقامتَه في دار هِجرته مُقامه أفضلُ الأعمال ، فدبَّر الخلقَ والدين بما قضاه في ذلك وأمضاه ، على ما بيّناه وشرحناه.

فصل

ولمّا عاد رسولُ اللّه 9 من تَبوك إلى المدينة قَدِم عليه عَمروبن معدي كَرب فقال له النبي 9 : « أسلِمْ ـ يا عَمرو ـ يًؤْمِنْك الله من الفَزَع الأكبر » فقال : يا محمّد ، وما الفَزَع الأكبر ، فإنّي لا أَفْزَع!؟ فقال : « يا عَمرو ، إنّه ليس ممّا تَحْسِب وتَظُنّ ، إنّ الناس يُصاحُ بهم صَيحةً واحدةً ، فلا يَبْقى ميتٌ إلاّ نُشِر ولا حيٌّ إلاّ مات ، إلا ما شاء اللّه ، ثمّ يُصاحُ بهِم صيحةً اُخرى ، فيُنْشَر من مات ويُصَفّون جميعاً ، وتنشَقُّ السماء وتَهُدُّ الأرض وتَخِرُّ الجبال ، وتَزْفِرُ النيران (١) وتَرْمي بمثل الجبال شَرَراً ، فلا يَبقى ذو روحٍ إلاّ انخلع قلبُه وذَكَرَذَنْبَه وشُغِل بنفسه ، إلاّ ما شاء اللّه ، فأين أنت ـ يا عمرو ـ من هذا؟ » قال : ألا إنّي أسمَع أمراً عظيماً ، فآمَنَ باللّه ورسوله ، وآمَنَ معه من قومه ناسٌ ، ورَجَعوا إلى قومهم.

ثمّ إنّ عَمرو بن معدِي كَرب نَظَر الى أُبيّ بن عَثْعَثَ الخَثْعميّ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : النار.


فأخذ برَقبته ، ثمّ جاء به إلى النبي 9 فقال : أعدِني على هذا الفاجر الذي قَتَل والدي ، فقال رسولُ الله 9 : « أَهْدَرَ الإسلامُ ما كان في الجاهليّة » فانصرف عَمرو مَرتدّاً فأغار على قومٍ من بني الحارث بن كَعْب ومَض إلى قومه ، فاستدعى رسولُ الله 9 عليَّ بن أبي طالب 7 فأمّره على المهاجرين ، وأنفذه إلى بني زًبَيد ، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب وأمَرَه أن يقصد الجُعفي (١) ، فإذا التقَيا فأميرُ الناس عليُّ بن أبي طالب. فسار أمير المؤمنين واستعمل على مُقدِّمته خالدَ بن سعيد بن العاص واستعمل خالد على مُقدِّمته أبا موسى الأشْعَريّ.

فأما جُعفيّ فإنّها لَمّا سَمِعَتْ بالجيش افترقَتْ فِرقتين؟ فذهبت فِرقةٌ إلى اليمن ، وانضمَتْ (٢) الفرقةُ الأخرى إلى بني زُبيْد ، فبلغ ذلك أميرَ المؤمنين 7 فكتب إلى خالد بن الوَليد : أنْ قِفْ حيثُ أَدرككَ رسولي.

فلم يَقِفْ ، فكتب إلى خالد بن سَعيد : تَعَرَّضْ له حتى تَحْبِسَه.

فاعترض له خالد حتّى حَبَسه ، وأدركه أميرُ المؤمنين 7 فعَنَّفه على خلافه ، ثمّ سارحتّى لَقِيَ بني زُبَيد بوادٍ يُقال له كُشر (٣).

فلمّا رآه بنو زُبَيد قالوا لعمرو : كيف أنت ـ يابا ثور ـ إذا لِقيَك هذا الغلامُ القُرَشيّ فأخذ منك الأتاوة (٤)؟ قال : سيعلم إن لقيني.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : جعفي أبو قبيلة ، والقبيلة يقال لها : جعفي ، ومن الناس من يظن أنه جعف وهوخطأ.

(٢) في « م » وهامش « ش » : وانصبّت.

(٣) كُشر : بوزن زفرة من نواحي صنعاء اليمن. « معجم البلدان ٤ : ٤٦٢ ».

(٤) الأتاوة : الخراج. « لسان العرب ـ اتى ـ ١٤ : ١٧ ».


قال : وخرج عَمرو فقال : هل من مبارز؟ فنهض إليه أميرُ المؤمنين 7 فقام خالدُ بن سعيد فقال له : دَعْني يا باالحسن بأبي أنت وأُمي أُبارزه. فقال له أمير المؤمنين 7 : « إن كنتَ تَرى أنَّ لي عليك طاعةً فقِفْ مكانك » فوقف ، ثمّ بَرَزَ (١) إليه أميرُ المؤمنين 7 فصاح به صيحةً فانهزم عَمرو وقُتِل أخوه وابنُ أخيه وأخِذَتْ امرأتُه رُكانَةُ بنت سَلامة ، وسبيَ منهم نِسوانٌ ، وانصرف أميرُ المؤمنين 7 وخَلَّف على بني زُبَيد خالد بن سعيد ليقبضَ صدقاتهم ، ويُؤمِنَ من عاد إليه من هُرّابهم مُسلماً.

فرجع عَمرو بن مَعدي كَرب واستأذن على خالد بن سعيد ، فأذن له فعاد إلى الأسلام ، وكلّمه في امرأتِه وولده ، فوهبهم له.

وقد كان عَمرو لمّا وَقَفَ بباب خالد بن سعيد وَجَدَ جَزوراً قد نُحِرَتْ ، فجَمَعَ قوائِمَها ثمّ ضربها بسيفه فقَطَعَهاجميعاً ، وكان يُسمّى سيفُه الصَمْصامة.

فلمّا وَهَبَ له خالدٌ بن سعيد امرأتَه وولدَه وهب له عَمرو الصَمْصامَة.

وكان أميرُ المؤمنين 7 قد اصطَفى من السَبْي جاريةً ، فبعث خالدُ بن الوَليد بُرَيدةَ الأسْلَميّ إلى النبي 9 وقال له : تَقدّمْ الجيشَ إليه فأَعْلِمه ما فَعَل عليٌّ من اصطفائه الجاريةَ من الخُمس لنفسه ، وقَعْ فيه.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : خرج.


فسار بُرَيدة حتى انتهى إلى باب رسول الله 9 فلَقِيه عُمر بن الخطّاب فسأله عن حال غَزوتهم وعن الذي أقْدَمَه ، فأخبره أنّه إنّما جاء ليَقَعَ في عليّ ، وذكر له اصطفاءه الجاريةَ من الخُمس لنفسه ، فقال له عُمَر : اِمضِ لمِا جئتَ له ، فإنَّه سيَغْضَبُ لابنته ممّا صَنَعَ عليّ. فدخل بُرَيدةُ على النبي 9 ومعه كتابٌ من خالد بما أرْسَلَ به برَيدة ، فجعل يَقْرؤُه ووجهُ رسول اللّه 9 يتغيّر ، فقال بُرَيدةُ : يا رسولَ الله ، إنّك إن رَخَصْتَ للناس في مثل هذا ذَهَب فَيْؤُهم ، فقال له النبيُّ 9 : « وَيْحكَ ـ يا بُرَيْدَة ـ أحْدَثْتَ نِفاقاً! إنَ عليَّ بن أبي طالب يَحِلُّ له من الفَيء ما يَحِلُّ لي ، إنَّ عليَّ بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخيرُمن أُخَلّف من بعدي لكافّة أُمّتي ، يا بُرَيدة ، اِحذَرْ أن تُبغضَ علياً فيُبْغِضَك الله ».

قال بُرَيدة : فتمنّيتُ أنّ الأرضَ انشقَت بي فسُخْتُ فيها ، وقلتُ : أعوذ بالله من لسَخَط الله وسَخَط رسوله ، يا رسولَ الله ، استغفر لي فلن أُبْغِضَ علياً أبداً ، ولا أقولُ فيه إلاّ خيراً. فاستغْفَرَ له النبيُ 9.

فصل

وفي هذه الغَزاة من المنقبة لأمير المؤمنين 7 ما لا يُماثلها منقبةٌ لأحد سواه ، والفتحُ فيها كان على يديه خاصّةً ، وظَهَرَ من فضله ومُشاركته للنبي 8 فيما أحلّه اللّه تعالى له من الفَيء ،


واختصاصِه من ذلك بما لم يكن لغيره من الناس ، وبانَ من مودّة رسول الله 9 وتفضيلهِ إيّاه ما كان خفيّاً على من لا علم له بذلك ، وكان من تَحذيره بُرَيدة وغيرَه من بُغضه وعَداوته وحَثّه له على مودّته وولايته ورَدّ كيد اعدائه في نُحورهم ، ما دلّ على أنّه أفضلُ البريّة عند اللّه تعالى وعنده وأحقُّهم بمَقامه (١) من بعده ، وأخصّهم به في نفسه ، وآثرهُم عنده.

فصل

ثمّ كانت غَزاة السلسلة ، وذلك أنَّ أعرابياً جاء إلى النبي عليه وآله السلام فجَثا بين يدَيْه وقال له : جئتُك لأنْصَحَ لك. قال : « وما نصيحتُك؟ » قال : قوم من العرب قد اجتمعوا بواديَ الرَمْل ، وعَمِلوا على أن يًبَيّتُوك بالمدينة. ووَصَفهم له.

فأمر النبيُّ 9 أن يُنادى بالصلاة جامعة ، فاجتَمَعَ المسلمون فصَعِدَ المِنْبَر ، فحمد الله وأثنىَ عليه ، ثمّ قال : « أيّها الناسُ ، إنّ هذا عدوُّ اللّه وعدوُّكم قد عَمِل على تبييتكم ، فمَنْ لهم؟ » فقام جماعةٌ من أهل الصُفّة ، فقالوا : نحن نَخْرج إليهم ـ يا رسولُ الله ـ فولِّ علينا مَنْ شئتَ. فأقْرَعَ بينهم ، فخرجتِ القُرْعةُ على ثمانين رجلاً منهم ومن غيرهم ، فاستدعى أبا بكر فقال له : « خُذ الراية (٢)

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وها مش « ش » : بمكانه.

(٢) في « م » وهامش « ش » : اللواء.


وامضِ الى بَني سلَيْم فإنّهم قريبٌ من الحَرَّة » فمضى ومعه القوم حتّى قارب أرضَهم ، فكانت كثيرةَ الحجارة والشجر ، وهم ببَطْن الوادي ، والمنحدَرُ إليه صعبٌ.

فلمّا صار أبو بكر إلى الوادي وأراد الانحدار خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً ، وانهزم أبوبكرمن القوم.

فلمّا وَرَدوا (١) على النبي 9 عَقَد لعُمَر بن الخَطّاب وبعثه إليهم ، فكَمنوا له تحت الحجارة والشجر ، فلمّا ذهب ليَهْبِط خرجوا إليه فهزموه.

فساء رسولُ الله 9 ذلك ، فقال له عمرو بن العاص : اِبعَثْني ـ يا رسولَ الله ـ إليهم ، فإنّ الحربَ خُدعةٌ ، ولَعَلّي أخْدَعُهم. فأنفذه مع جماعة ووصّاه ، فلما صار الى الوادي خرجوا إليه فهزموه ، وقَتَلوا من أصحابه جماعةً.

ومكث رسولُ الله 9 أيّاماً يدَعُو عليهم ، ثمّ دعا اميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب 7 فعَقَد له ، ثمّ قال : « أرسلتُه كرّاراً غيرَ فَرّار » ورفع يديه إلى السماء وقال : « اللّهمّ إن كنتَ تَعلم أنّي رسولُك ، فاحفَظني فيه وافعَلْ به وإفعَلْ » فدعا له ما شاء الله.

وخَرَج عليُّ بن أبي طالب 7 ، وخَرَج رسولُ الله 9 لتشييعه ، وبَلَغ معه الى مسجد الأحزاب ، وعليّ عليه

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : قدموا.


السلام على فرَس أشْقَرَ مَهْلوب (١) ، عليه بُردان يمانيان ، وفي يده قَناةٌ خَطِية (٢) ، فَشَيَّعه رسولُ الله 9 وأنفذَ معه فيمن أنفذ أبا بكر وعُمَر وعَمرو بن العاص ، فسار بهم 7 نحوَ العراق مُتَنكّبْاً للطريق حتّى ظَنّوا أنّه يُريد بهم غيرَذلك الوجه ، ثمّ أخَذَ بهم على مَحَجَّة غامِضة ، فسار بهم حتّى استقبل الوادي من فمه ، وكان يَسيرُ الليل وَيكْمن النهار.

فلمّا قَرب من الوادي أمر أصحابَه أنَ يكْعَموا (٣) الخيلَ ، ووَقَفَهم مكاناً وقال : « لا تَبْرحوا » وانتبذ أمامَهم فأقامَ ناحيةً منهم.

فلمّا رأى عَمرو بن العاص ما صَنَع لم يَشُكَّ أنَ الفتح يكون له ، فقال لأبي بكر : أنا أعلم بهذه البلاد من عليّ ، وفيها ما هوأشدُّ علينا من بني سُلَيْم ، وهي الضِباع والذِئاب ، وإن خرجَتْ علينا خشيتُ أن تُقَطِّعنا ، فكَلِّمْه يَخْلُ عنّا نَعْلو الوادي.

قال : فانطَلَق أبو بكر فكلَّمَه فاطال ، فلم يُجِبْه أميرُ المؤمنين 7 حرفاً واحداً ، فرَجَعَ إليهم فقال : لا والله ما أجابَني حرفاً.

فقال عَمرو بن العاص لعُمَر بن الخَطّاب : أنتَ أقوى عليه ، فانطلق عمَر فخاطبه فصَنَع به مثلَ ما صَنَع بأبي بكر ، فرَجَع إليهم

ــــــــــــــــــ

(١) المهلوب : هو المقصوص شعر الهلب ، وهو الذنب. « القاموس المحيط ١ : ١٤٠ ».

(٢) الخط : موضع باليمامة ، وهو خط هجر ، تنسب إليه الرماح الخطَية ، لأنها تحمل من بلاد الهند فتقوّم به. « الصحاح ـ خطط ـ ٣ : ١١٢٣ ».

(٣) كعم بعيره أو فرسه : شدّ فمه كي لا يظهر منه صوت. اُنظر « الصحاح ـ كعم ـ ٥ : ٢٠٢٣ ».


فأخبرَهم أنّه لم يُجبه.

فقال عَمرو بن العاص : إنّه لا ينبغي أن نُضَيِّعَ أنْفسَنا ، اِنطلقوا بنا نعلو الوادي ، فقال له المسلمون : لا والله لا نَفْعَل ، أمَرَنا رسولُ الله 9 أن نَسْمَعَ لِعَليٍّ ونُطيع ، فَنتْرُك أمرَه ونسمَعُ لك ونُطيعُ؟!

فلم يزالوا كذلك حتى احسَّ أميرُ المؤمنين 7 الفجرَ ، فكَبَس (١) القومَ وهم غارّون (٢) ، فأمكنهُ الله منهم ، ونزلت على النبي 9 : ( وَالْعَادِيَاتِ ضبْحاً ... ) (٣) إلى آخرالسورة ، فبَشَّرَ النبيُ 9 أصحابَه بالفتح ، وأمرهم أن يستَقْبِلوا أميرَ المؤمنين 7 فاستقبَلوه ، والنبيُّ 9 يَقْدًمُهم فقاموا له صَفّين.

فلمّا بَصُرَ بالنبي 9 تَرَجَّل عن فرسه ، فقال له النبي عليه وآله السلام : « اِرْكَبْ فإنّ الله ورسولَه راضيان عنك » فبكى أميرُ المؤمنين 7 فَرَحاً ، فقال له النبي 9 : « يا عليّ ، لولا أنّني أُشْفِقُ أن تقولَ فيك طوائفُ من اُمتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلتُ فيك اليومَ مَقالاً لا تَمُرُّ بملأٍ من الناس إلاّ أخذوا الترابَ من تحت قدَمَيْك ».

ــــــــــــــــــ

(١) كَبَسُوا دار فلان : أغاروا عليه فجأة. « الصحاح ـ كبس ـ ٣ : ٩٦٩ ».

(٢) أي غافلون.

(٣) العاديات ١٠٠ : ١.


فصل

فكان الفتحُ في هذه الغَزاة لأَمير المؤمنين 7 خاصّةً ، بعد أن كان من غيره فيها من الإفساد ما كان ، واختصَّ 7 من مَديح النبي 9 فيها بفضائل لم يَحْصُل منها شيءٌ لغيره وبان له من المنقبة فيها ما لم يَشْرَكه فيه سواء.

فصل

ولما انتشرالإسلامُ بعد الفتح وما وَلِيَه من الغَزَوات المذكورة وقَويَ سلطانُه ، وفدَ الى النبي 9 الوُفودُ ، فمنهم مَن أسلمَ ومنهم مَن استأمَنَ ليعوُدَ إلى قومه برأيه 7 فيهم.

وكان في مَن وَفَدَ عليه أبو حارثة اُسْقُف نَجران في ثلاثين رجلاً من النصارى ، منهم العاقِب والسيد وعبدُ المسيح ، فقَدِموا المدينةَ وقت (١) صلاة العصر ، وعليهم لباسً الديباج والصُلُب ، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم : لستُم على شيء ، وقالت لهم اليهود : لستم على شيء ، وفي ذلك أنزل الله سبحانه : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ ، النَّصَارئ عَلى شيَء وَقَالَتِ النَّصَارى لَيْسَتِ الْيَهوُدُ عَلى

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : عند.


شَيء ... ) (١) إلى آخر الأية.

فلمّا صلّى النبي 9 العصرَتوجّهوا إليه يَقْدُمًهم الأسقُف ، فقال له : يا محمّد ، ما تقول في السيد المسيح؟ فقال النبي عليه وآله السلام : « عبدٌ لله اصطفاهُ وانتَجَبَه » فقال الأسْقف : أتَعْرِفُ له ـ يا محمّد ـ أباً ولده؟ فقال النبي عليه وآله السلام : « لم يَكُنْ عن نكاح فيكونُ له والد » قال : فكيف قلت : إِنَّه عبد مخلوق ، وأنت لم تَرَ عبداً مخلوقاً إلاّ عن نكاح وله والد؟ فانزل اللهُ تعالى الايات من سورة آل عمران إلى قوله :

( إنَ مَثَلَ عيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ ادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *الْحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَلاتَكُنْ مِنَ المُمْتَرين * فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدعُ اَبْنَاءَنَا وَابنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَانفُسَنَا وَانفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبينَ ) (٢) فتلاها النبي 9 على النصارى ، ودعاهم إلى المباهلة ، وقال : « إنّ الله عزًّ اسمه أخبَرَني أنّ العذابَ يَنْزِلُ على المُبْطِل عقيبَ المباهلة ، ويُبَينِّ الحقَّ من الباطل بذلك » فاجتمع الأسْقُف مع عبد المسيح والعاقب على المشورة ، فاتّفق رأيُهم على استنظاره إلى صَبيحةِ غدٍ من يومهم ذلك.

فلمّا رجعوا إلى رِحالهم قال لهم الأسْقُف : انْظُروا محمّداً في غَدٍ ، فان غَدا بولده واهله فاحذَروا مباهلته ، وإن غدا باصحابه فباهلوه ،

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ١١٣.

(٢) آل عمران ٣ : ٥٩ ـ ٦١.


فإنّه على غيرشيء.

فلمّا كان من الغد جاء النبي عليه وآله السلام آخذاً بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه يَمشِيان وفاطمة ـ صلوات الله عليهم ـ تَمشي خلفَه ، وخرج النصارى يَقْدُمُهم أُسْقُفهم.

فلمّا رأى النبيَ 9 قد أقبل بمن معه ، سأَل عنهم ، فقيل له : هذا ابنُ عمّه عليّ بن أبي طالب وهو صِهره وأبو ولده وأحبُّ الخلق إليه ، وهذان الطفلان ابنا بنته من عليِّ وهما من أحبِّ الخلق إليه ، وهذه الجاريةُ بنتُه فاطمة أعزُّ الناس عليه وَأقربُهم إلى قلبه.

فنَظَر الأسْقُف إلى العاقب والسيد وعبد المسيح وقال لهم : انظُروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده وأهله ليُباهِلَ بهم واثقاً بحقّه ، والله ما جاء بهم وهويتخوّف الحجةَ عليه ، فاحذَروا مباهلته ، والله لولا مكانُ قَيْصَر لأسلمت له ، ولكن صالحوه على ما يتفق بينكم وبينه ، وارْجِعُوا إلى بلادكم وارتَؤُوا لأنفسكم ، فقالوا له : رأيُنا لرأيك تَبَعٌ ، فقال الأسْقًف : يا با القاسم إنّا لا نُباهِلك ولكنّا نصالِحُك ، فصالحنا على ما نَنْهَضُ به.

فصالحهم النبيُ 9 على ألفَيْ حُلّة من حُلَل الأواقي قيمةَ كلّ حُلةٍ أربعون درهماً جياداً ، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي 9 كتاباً بما صالحهم عليه ، وكان الكتاب :


بسم الله الَّرحمن الَّرحيم

هذا كتابٌ من محمّدٍ النبي رسولِ الله لنَجْران وحاشيتها ، في كلّ صَفراء وبَيضاء وثَمرَةٍ ورقيقٍ ، لا يُؤْخَذُ منه شيءّ منهم غيرُ ألْفَيْ حُلّةٍ من حُلَلَِ الأواقِي ثمنُ (١) كلّ حُلّةٍ أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، يُؤَدّون ألفاً منها في صَفَرٍ ، وألفاً منها في رجب ، وعليهم أربعون ديناراً مثواةَ رسولي ممّا فوقَ ذلك ، وعليهم في كلّ حَدَثٍ يكون باليمن من كلّ ذي عَدْنٍ عاريةٌ مضمونةٌ ثلاثون دِرعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جَمَلاً عاريةٌ مضمونةٌ ، لهم بذلك جوارُ الله وذمّةُ ( محمّد بن عبدالله ) (٢) ، فمن أكل الرِبا منهم بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة.

وأخذ القومُ الكتابَ وانصرفوا.

فصل

وفي قصة أهل نَجران بيان عن فضل أمير المؤمنين 7 مع ما فيه من الآية للنبي 9 والمعجز الدال على نبوته.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : قيمة.

(٢) في « م » : رسول الله.


ألا ترى إلى اعترافِ النصارى له بالنبوّة ، وقطعِهِ 7 على امتناعهم من المباهلة ، وعلمِهم بأنّهم لو باهلوه لَحَلّ بهم العذابُ ، وثقتِه عليه وآله السلام بالظفربهم والفَلَجِ بالحُجَّة عليهم.

وأنّ الله تعالى حَكَم في آية المباهلة لأَمير المؤمنين 7 بانّه نفسُ رسول الله 9 ، كاشفاً بذلك عن بلوغه نِهاية (١) الفضل ، ومساواتِه للنبي عليه واله السلام في الكمال والعِصمة من الاثام ، وأن اللهَ جلّ ذكره جَعَله وزوجتَه وولَديْه ـ مع تقارب سنّهما ـ حجّةً لنبيه عليه وآله السلام وبرهاناً على دينه ، ونَصَّ على الحُكْم بأنّ الحسن والحسين أبناؤه ، وأنّ فاطمةَ 3 نساؤه المتوجِّهُ إليهن الذكر والخطاب في الدعاء الى المباهلة والاحتجاج ، وهذا فضلٌ لم يَشْركهم فيه أحدٌ من الأُمّة ، ولا قاربَهم فيه ولا ماثَلهم في معناه ، وهو لاحِقٌ بما تقدّم من مناقب أمير المؤمنين 7 الخاصّة له ، على ما ذكرناه.

فصل

ثمّ تلا وَفْدَ نَجْران من القصص المُنْبِئَة عن فضل أمير المؤمنين 7 وتَخَصُّصِه من المناقب بما بان به من كافّة العباد ، حجةً الوداع وما جرى فيها من الأقاصيص ، وكان فيها لأمير المؤمنين 7 من جليل المقامات. فمن ذلك أنّ رسولَ الله 9

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : غاية.


كان قد أنفذَه 7 إلى اليمن ليخمِّسَ زكاتها (١) ، ويَقْبِضَ ما وافق عليه أهلُ نجران من الحُلَل والعَينْ وغيرِذلك ، فتوجّه 7 لما نَدَبه إليه رسولُ الله 9 ، فأنجزه ممتثلاً فيه أمره مسارعاً إلى طاعته ، ولم يَأْتَمِنْ رسولُ الله 9 أحداً غيرَه على ما ائتمَنه عليه من ذلك ، ولا رأى في القوم من يَصْلَحُ للقيام به سواه ، فأقامه 7 مقامَ نفسه في ذلك واستَنابَه فيه ، مطمئناً إِليه ، ساكناً إلى نُهوضه بأعباء ما كَلَّفه فيه.

ثمّ اراد رسول الله 9 التوجه للحجّ وأداء فَرْض الله تعالى عليه فيه ، فأذَّنَ في الناس به ، وبَلَغَتْ دعوتُه 7 أقاصِيَ بلاد الإسلام ، فتجهَّزَ الناسُ للخروج وتأهَّبوا معه ، وحَضَرَ المدينةَ من ضَواحيها ومِنْ حَوْلها وبفربِ منها خلقٌ كثيرٌ ، وتهيَّأؤا للخروج معه ، فخرج النبيُّ 9 بهم لخَمْسٍ بقين من ذي القعدة ، وكاتَبَ أميرَ المؤمنين 7 بالتوجه إلى الحجّ من اليمن ولمِ يَذْكُرْ له نوعَ الحجّ الذي قد عَزَمَ عليه ، وخَرَجَ عليه وآله السلام قارِناً للحجّ بسِياق الهَدْي ، وأحْرَمَ من ذِي الحُلَيْفَة (٢) وأحْرَمَ الناسُ معه ، ولبّى (٣) 7 من عند المِيل الذي بالبَيْداء ، فاتَّصل ما بين الحرمين بالتَلبِيَة حتّى انتهى إلى كُرَاعِ الغَمِيم (٤) ،

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : رِكازها.

(٢) ذو الحليفة : قرية بينها وبين المدينة المنورة ستة أميال أوسبعة ، وفيها ميقات أهل المدينة. « معجم البلدان ٢ : ٢٩٥ ».

(٣) لبّى اي رفَع صوتَه بالتَلبية.

(٤) كراع الغميم : واد في طريق المدينة إلى مكة المكرمة. « معجم البلدان ٤ : ٤٤٣ ».


وكان الناسُ معه ركباناً ومُشاةً ، فشَقًّ على المُشاة المسيرُ ، وأجْهَدَهم السيرُ والتعبُ به ، فشَكَوْا ذلك إلى النبي 9 واستحْمَلُوه فأعلَمَهمُ أنه لا يَجدُ لهم ظَهْراً ، وأمَرَهم أن يَشُدًّوا على أوساطهم يخلِطوا الرَمَلَ (١) بالنَسًل (٢) ، ففَعَلوا ذلك واستَراحوا إليه ، وخَرَجَ أميرُ المؤمنين 7 بمن معه من العَسْكَر الذي كان صَحِبَه إلى اليمن ، ومعه الحُلَلُ التي أخَذَها من أهل نَجران.

فلمّا قارَبَ رسولُ الله 9 مكّة مِن طريق المدينة ، قارَبَها أميرُ المؤمنين 7 من طريق اليمن ، وتقدَّمَ الجَيشَ للقاء النبي 9 وخَلَّفَ عليهم رجلاً منهم ، فأدرك النبيَّ عليه وآله السلام وقد أشرَفَ على مكّة ، فسلَّم وخَبَّرهَ بما صنع وبقَبْض ما قَبَض ، وأنّه سارع للقائه أمامَ الجَيش ، فسُرَّ رسولُ الله 9 بذلك وابتَهَج بلقائه وقال له : « بما أهْلَلْت يا عليّ؟ فقال له : يا رسولَ الله ، إنّك لم تكْتُبْ إليّ باهلالك ولا عَرَّفْتَنِيه (٣) فَعَقَدْتُ نيتي بنيّتِك ؛ وقلتُ : اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيك ، وسُقْتُ معي من البدن أربعاً وثلاثين بدنَةً ، فقال رسولُ الله 9 : الله أكبر ، فقد سُقْت أنا سِتّاً وستّين ، وأنت شريكي في حَجّي ومناسكي وهَدْيي ، فأقِمْ على إحرامك وعُدْ إلى جَيشك فعَجِّل بهم إليَّ حتّى نجتمع بمكّة إن شاء الله ».

ــــــــــــــــــ

(١) الرَمَل : الهرولة. « الصحاح ـ رمل ـ ٤ : ١٧١٣ ».

(٢) النسل : الركض بسرعة. انظر « الصحاح ـ نسل ـ ٥ : ١٨٣٠ ».

(٣) في « م » وهامش « ش » : عرفته.


فودَّعه أميرُ المؤمنين 7 وعاد إلى جيشه ، فَلقيَهم عن قُربٍ فوجدهم قد لَبِسُوا الحُلَلَ التي كانت معهم ، فأنكر ذلك عليهم ، وقال للذي كان استخلفه فيهم : « وَيلك ، ما دعاك إلى أن تًعْطِيَهم الحُلَلَ من قبل أن نَدْفَعَها إلى النبي عليه وآله السلام ولم أكُنْ أَذِنْتُ لك في ذلك؟ » فقال : سَألوني أن يتجمّلوا بها ويحرمُوا فيها ثمّ يردّونَها عليّ. فانتزعها أميرُ المؤمنين 7 من القوم وشدَّها في الأعْدال فاضطَغنوا لذلك عليه.

فلمّا دخلوا مكّةَ كَثُرَتْ شكايتهم من أمير المؤمنين 7 ، فأَمَرَ رسولُ الله 9 مناديه فنادى في الناس : « اِرْفَعوا ألسنتَكم عن عليّ بن أبي طالب ، فإنه خَشِنٌ في ذات الله عزّوجلّ ، غيرُ مُداهِنٍ في دينه » فكفَّ الناسُ عن ذِكره ، وعَلِمُوا مَكانَه من النبي 9 ، وسَخَطَه على من رام الغَمِيْزَةَ فيه. فأقام أميرُ المؤمنين 7 على إحرامه تأسّياً برسول الله 9.

وكان قد خرج مع النبي 9 كثيرٌ من المسلمين بغير سِياق هَدْي. فأنزل الله عزّ ذكره ( وَاَتِمًّوا الْحَج وَالْعُمْرَة للّهِ ) (١) فقال رسولُ الله 9 : « دَخَلَت العًمرةُ في الحجّ ـ وشَبَّك بين أصابع إحدى يَدَيْه بالأخرى ـ إلى يوم القيامة » ثم قال عليه وآله السلام : « لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقْتُ الهَدْي » ثمّ أمَرَ مناديَه فنادى : مَنْ لم يَسُقْ منكم هَدْياً فليُحِلّ ولْيَجْعَلها عُمْرَةً ، ومن ساق منكم هَدْياً فليُقِمْ على إحرامه. فأطاع بعضُ الناس

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ١٩٦.


في ذلك وخالف بعضٌ ، وجَرَت خُطوبٌ بينهم فيه ، وقال منهم قائلون : إنَ رسولَ الله 9 أشْعَث أغْبر ، ونَلْبِسُ الثياب ونَقْربُ النساءَ وندهن!.

وقال بعضُهم : أَما تَستحيون أن تخرُجوا ورؤسُكم تَقْطُر من الغُسل ، ورسولُ الله 9 على إحرامه!.

فأنكر رسولُ الله على من خالف في ذلك وقال : « لولا أنّي سُقْتُ الهَدْي لأَحللتُ وجعلتُها عُمرةً ، فمن لم يَسُقْ هدياً فليُحِلّ » فرجع قومٌ وأقام آخرون على الخلاف.

وكان فيمن أقام على الخلاف للنبي 9 عُمَر بن الخَطّاب ، فاستدعاه رسول الله عليه وآله السلام وقال له : « ما لِي أراك ـ يا عُمَر ـ مُحرِماً أَسُقتَ هَدْياً؟! » قال : لم أسُقْ ، قال : « فلِمَ لا تُحِلّ وقد أمرتُ من لم يَسق الهَدْي بالإحلال؟ » فقال : والله يا رسولَ الله لا أَحْلَلتُ وأنتَ مُحرمٌ ، فقال له النبي عليه وآله السلام : « إنّكَ لن تُؤْمن بها حتّى تموت ».

فلذلك اقام على إنكار مُتعة الحجّ ، حتّى رَقى المِنْبرَ في إمارته فنهى عنها نَهياً مجدداً (١) وتوعّد عليها بالعقاب.

ولمّا قضى رسولُ الله 9 نُسُكَه أشرك علياً 7 في هَدْيه ، وقَفَل إلى المدينة وهو معه والمسلمون ، حتّى انتهى إلى الموضع المعروف بغَدير خُمّ ، وليس بموضع إذ ذاك للنزول لعدم الماء

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » و « م » : مجرداً ، واثبتنا ما في هامش « ش » ونسخة العلامة المجلسي.


فيه والمرعى ، فنَزَل 9 في الموضع ونَزَل المسلمون معه.

وكان سببُ نزوله في هذا المكان نزولَ القرآن عليه بنَصْبه أميرَ المؤمنين 7 خليفةً في الاُمّة من بعده ، وقد كان تَقَدَّم الوحيُ إليه في ذلك من غيرتوقيتٍ له فأخَّرَه لحضُور وقتٍ يَأْمَنُ فيه الاختلافُ منهم عليه ، وعَلِمَ اللهُ سبحانه أنّه إن تجاوز غديرَ خُمّ انفصل عنه كثيرٌ من الناس إلى بلادهم وأماكنهم وبواديهم ، فأراد اللهُ تعالى أن يَجْمعَهم لسِماع النصّ على أمير المؤمنين 7 تأكيداً للحُجّة عليهم فيه. فأنْزَل جلّت عظمته عليه : ( يَا اَيُّهَا الرَّسولُ بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ اليْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (١) يعني في استخلاف عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين 7 والنصّ بالإمامة عليه ( وَاِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (٢) فأكَّد به الفرضَ عليه بذلك ، وخوَّفَه من تأخيرالأمرِ فيه ، وضمِنَ له العِصمةَ ومَنْعَ الناس منه.

فنزل رسولُ الله 9 المكانَ الذي ذكرناه ، لما وَصَفناه من الأمر له بذلك وشرحناه ، وَنَزَلَ المسلمون حوله ، وكان يوماً قائظاً شديد الحَرّ ، فأمر 7 بدَوْحاتٍ هناك فقُمَّ ما تحتها ، وأمر بجمع الرِحال في ذلك المكان ، ووَضْعِ بعضها على بعض ، ثمَّ أمَرَ مناديه فنادى في الناس بالصلاة. فاجتمعوا من رِحالهم إليه ، وإنَّ أكثرَهم ليلُفُّ رداءه على قدمَيْه من شدّة الرَمْضاء. فلمّا اجتمعوا صَعِدَ عليه واله السلام على تلك الرِحال حتى صار في ذِرْوَتها ، ودَعا أميرَ المؤمنين 7 فرَقى معه حتّى قام عن يمينه ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ، ٢ ) المائدة ٥ : ٦٧.


ثمَّ خَطَبَ للناس فحَمَد الله وأثنى عليه ، ووَعَظَ فابلغ في الموعظة ، ونَعى إلى الأُمّة نفسَه ، فقال عليه وآله السلام : « إني قد دُعِيْت ويُوشِك أن أُجِيب ، وقد حان مني خفوفٌ (١) من بين أظْهُركم ، وإنّي مُخلِّفٌ فيكم ما إن تَمَسّكتم به لن تَضِلّوا أبداً (٢) : كتاب الله وعترتي أهلَ بيتي ، وإنَّهما لن يَفْتَرِقا حتّى يَرِدا عَليَّ الحوضَ ».

ثمّ نادى بأعلى صوته : (٣) « ألَسْتُ أولى بكم منكم بأنفسكم؟ » فقالوا : اللّهم بلى ، فقال لهم على النَسَق ، وقد أخذ بضَبْعَيْ (٤) أميرِالمؤمنين 7 فرَفَعَهما حتّى رُئيَ بياضُ إِبْطَيْهما وقال : « فَمَنْ كُنتُ مَوْلاه فهذا عليٌّ مَوْلاه ، اللّهم والِ من والاه ، وعادِ من عَاداه ، وانْصر من نَصَره ، واخْذُل من خَذَله ».

ثمَّ نَزَل 9 ـ وكان وقت الظَهيرة ـ فصَلّى ركعتين ، ثمّ زالتِ الشمس فأَذَّن مُؤَذنُه لصلاة الفَرْض فصَلّى بهم الظهر ، وجَلَس 9 في خَيمته ، وأمَرعلياً أن يَجْلِس في خَيمةٍ له بازائه ، ثُمّ أمَرَ المسلمين أن يَدْخُلوا عليه فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنَؤوه بالمَقام ، ويُسلِّموا عليه بإمْرَة المؤمنين ، ففعل الناسُ ذلك كلُّهم ، ثمّ أمَرَ أزواجَه وجميعَ نِساء المؤمنين معه أن يَدْخُلن عليه ، ويُسَلِّمن عليه بإمْرَة المؤمنين ففَعلنَ.

ــــــــــــــــــ

(١) يقال خف القوم خفوفاً : أي قلوا ، وهي كناية منه 9 عن ارتحاله من الدنيا. انظر « الصحاح ـ خفف ـ ٤ : ١٣٥٣ ».

(٢) أبداً : ليس في « ش » و « ح » وأثبتناها من « م » وهذا الموضع منها بخط متأخرعن زمن نسخها.

(٣) في « م » زيادة : أيها الناس. وهذا القطعة من النسخة : بخط متاخر عن زمن نسخها.

(٤) الضّبْع : بسكون الباء ، وسط العضد ، وقيل : هوما تحت الإبط. « النهاية ـ ضبع ـ ٣ : ٧٣ ».


وكان ممّن أطْنَبَ في تَهنئته بالمَقام عُمَر بن الخَطّاب فأظْهَر له المسَرّة به وقال فيما قال : بَخٍ بَخٍ يا عليّ ، أصبحتَ مَولاي ومَولى كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ.

وجاء حَسّان إلى رسول الله 9 فقال له : يا رسولَ اللهِ ، إئْذَن لي أن أقول في هذا المقام ما يَرضاه الله؟ فقال له : « قل يا حَسّان على اسم الله » فوَقَف على نَشَزٍ (١) من الأرض ، وتَطاول المسلمون لسماع كلامه ، فأنشأ يقول :

يُناديهمُ يومَ الغَديرِ نَبيُّهُمْ

بخُمٍّ وأسمِعْ بالرسولِ مُنادِيا

وقالَ : فمَنْ مَولاكم ووَلِيّكم؟

فقالوُا ولم يَبدُوا هُناك التعادِيا

إلهًك مَوْلانا وأنْتَ وَليّنا

ولَنْ تَجِدن مِنّا لكَ اليومَ عاصِيا

فقال له : قُمْ يا عليّ فإِنّني

رَضيتُك مِنْ بَعدي إِماماً وهادِيا

فَمَنْ كُنْتُ مَولاه فَهذا وَلِيُّه

فُكُونُوا لَهُ أنصارَصِدْقٍ موالِيا

هُناكَ دَعا : اللّهُمَّ والِ وَلِيَّه

وَكُنْ لِلّذي عادى عَلِيّاً مُعادِيا

فقال له رسولُ الله 9 : « لا تَزال ـ يا حَسّان ـ مُؤيّداً بروحِ القدُسُ ما نَصَرْتَنا بلِسانك ».

وإنّما اشترط رسولُ الله 9 في الدعاء له ، لعلمه بعاقبة أمره في الخِلاف ، ولو عَلِمَ سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الأطلاق ، ومثلُ ذلك ما اشترط اللهُ تعالى في مدح أزواج النبي 7 ، ولم يَمْدَحْهُنَّ بغير اشتراط ، لعلمه أنَّ منهنّ من يتغيّر بعد

ــــــــــــــــــ

(١) النَّشز : المرتفع من الأرض. « النهاية ـ نشز ـ ٥ : ٥٥ ».


الحال عن الصلاح الذي يُستَحَقّ عليه المدحُ والإكرامُ ، فقال عزّ قائلاً : ( يَا نِسَاءَ ألنّبِيّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ ألنِسَاءِ إن اتَّقَيْتُنَ ) (١) ولم يَجْعَلهن في ذلك حسبَ ما جَعَلَ أهلَ بيت النبي 9 في محلّ الأكرام والمِدْحَة ، حيث بَذَلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير ، فأنزل اللهُ سبحانه وتعالى في عليّ بن أبي طالب وفاطمةَ والحسنِ والحسين : وقد آثَروا على أنفسهم مع الخَصاصة التي كانت بهم ، فقال جلّ قائلاً : ( وَيُطْعِمونَ الطَعَامَ عَلى حُبّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَاَسيراً * اِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكورأَ * اِنّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبوساً قَمْطَريراً * فَوَقاهًمُ الله شَرَ ذَلِكَ أليَوْم وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صبروا جنّة وَحَريراً ) (٢) فقَطَعَ لهم بالجزاء ، ولم يَشْتَرِط لهم كما اشتَرط لغيرهم ، لعلمه باختلاف الأحوال على ما بيّناه.

فصل

فكان في حَجّة الوداع من فضل أمير المؤمنين 7 الذي اختصّ به ما شَرَحناه ، وانفرد فيه من المنقبة الجليلة بما ذكرناه ، فكان شريكَ رسول الله 9 في حجّه وهَدْيه ومناسكه ، ووَفَّقه اللهُ تعالى لمساواة نبيه عليه وآله السلام في نيّته ، ووِفاقه في عبادته ،

ــــــــــــــــــ

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٢.

(٢) الإنسان ٧٦ : ٨ ـ ١٢.


وظَهَرمن مكانه عنده 9 وجليلِ محلّه عند الله سبحانه ما نوَّه به في مِدْحَته ، فأوْجَبَ به فَرْضَ طاعته على الخلائق واختصاصه بخلافته ، والتصريح منه بالدعوة إلى اتباعه والنهي عن مخالفته ، والدعاء لمن اقتدى به في الدين وقام بنصرته ، والدعاء على من خالفه ، واللعن لمن بارَزه بعداوته. وكَشَفَ بذلك عن كونه أفضلَ خلق الله تعالى وأجلَّ بريّته ، وهذا ممّا لم يَشْرَكه ـ أيضاً ـ فيه أحدٌ من الأُمّة ، ولا تعرض (١) منه بفضل يُقاربه على شبهةٍ لمن ظنّه ، أو بصيرة لمن عرَف المعنى في حقيقته ، والله المحمود.

فصل

ثمّ كان ممّا أَكَّدَ له الفضلَ وتخصّصه منه بجليل رتبته ، ما تَلا حجّةَ الوداع من الأُمور المُتَجدِّدة لرسول الله 9 والأحداثِ التي اتّفقت ( بقضاء الله وقدره ) (٢).

وذلك أنه عليه واله السلام تَحَقَّق من دُنُوّ أجله ما كان ( قَدَّم الذِكرَ ) (٣) به لأمتّه ، فَجَعَل 7 يَقوم مَقاماً بعد مَقام في المسلمين يُحذِّرُهم من الفتنةِ بعده والخلافِ عليه ، ويُؤكِّد وَصاتَهم بالتمسك بسنته والاجتماع عليها والوفاق ، ويحُثُّهم على الاقتداء

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : تَعَوَّض.

(٢) في هامش « ش » : بعون الله وقدرته.

(٣) في هامش « ش » : تقدم الذكر.


بعِترته والطاعة لهم والنصرة والحِراسة ، والاعتصام بهم في الدين ، ويَزْجُرهم عن الخلاف والارتداد. فكان فيما ذكره من ذلك عليه وآله السلام ما جاءت به الرواة على اتفاق واجتماع من قوله 7 :

« أيّها الناس ، إنّي فَرَطُكم وأنتم واردون عليَّ الحوض ، ألا وانّي سائلُكم عن الثقلين ، فانظُروا كيف تَخْلُفوني فيهما ، فإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يَلْقَياني ، وسألتُ ربّي ذلك فأعطانيه ، ألا وإِنّي قد تَرَكتُهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فَلا تَسبقوهم فتفرّقوا ، ولا تُقَصِّروا عنهم فتَهْلِكوا ، ولا تعَلِّموهم فإنّهم أعلم منكمَ.

أيّها الناس ، لا ألفِينّكم بعدي تَرجِعون كُفّاراً يَضرب بعضُكم رقابَ بعض ، فتَلقَوْني في كَتيبةٍ كمَجَرّ السيل الجرّار ( ألا وان عليّ بن أبي طالب أخي ) (١) ووصيّي ، يُقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيِله » (٢).

فكان عليه وآله السلام يَقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه.

ثمّ إنّه عَقَد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرةَ ، ونَدَبه أن يَخْرُجَ بجمهور الأُمّة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيهُ 7 على إخراج جماعة من متقدّمي المهاجرين والأنصار في

ــــــــــــــــــ

(١) في نسخة « ش » : الا علي بن ابي طالب فانه اخي ، وفي « م » وهامش « ش » : او علي بن ابي طالب فانه اخي ، واثبتنا مافي نسخة العلامة المجلسي

(٢) وردت قطع من الحديث في الطبقات الكبرى ٢ : ١٩٤ ، تأريخ اليعقوبي ٢ : ١١١ و ١١٢ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ ، مسند أبي يعلى ٢ : ٢٩٧ ، ٣٠٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩ ، مصباح الأنوار : ٢٨٥. ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٢ : ٤٦٥ / ١٩.


معَسْكَره ، حتّى لا يَبقى في المدينة عند وفاته 9 من يَختلف في الرئاسة ، ويَطْمَع في التقدّم على الناس بم الإمارة ، ويستتِبُّ الأمرُلمن استخلفه من بعده ، ولا يُنازِعُه في حقّه مُنازع ، فعَقَد له الإمرةَ على من ذكرناه.

وجدَّ عليه وآله السلام في إخراجهم ، فأمَرَ أًسامةَ بالبرُوز (١) عن المدينة بمُعَسكره إلى الجُرْف (٢) ، وحَثَ الناسَ على الخروج إليه والمسير معه ، وحَذَّرَهم من التَلَوّم والإبطاء عنه.

فبينا هو في ذلك إذ عَرَضت له الشَّكاةُ التي تُوُفّي فيها ، فلمّا أَحَسَّ بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب 7 واتَّبعَه جماعةٌ من الناس وتَوَجَّه إلى البقيع ، فقال لمن تَبعَه : « إنّني قد أُمِرْتُ بالاستغفار لأهل البقيع » فانطَلَقوا معه حتّى وَقَف بين أظهرهم فقال 7 : « السَّلامُ عليكم يا أهلَ القُبور ، ليَهْنِئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقْبَلَت الفِتَن كقِطَع الليل المُظْلِم يَتْبَع أولَها آخرُها » ثمّ استَغْفَر لأهل البَقيع طويلاً ، وأقْبَل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 فقال : « إنّ جبرئيل 7 كان يَعْرِض عليّ القرآن كلّ سنة مَرّة ، وقد عَرَضه عليّ العامَ مرّتين ، ولا أراه إلاّ لحضور أجَلي ».

ثمّ قال : « يا عليّ ، إنّي خُيّرتُ بين خزائن الدنيا والخلُود فيها أو الجنّة ، فاخترتُ لقاءَ ربي والجنّة ، فإذا أنا متّ فَاغسِلني واستُرعَورتي ،

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : بالخروج.

(٢) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. « معجم البلدان ٢ : ١٢٨ ».


فإنّه لا يَراها أحدٌ إلاّ أكْمِهَ ».

ثمّ عاد إلى منزله عليه وآله السلام فَمَكَث ثلاثةَ أيّامٍ مَوعوكاً ، ثمّ خَرَج إلى المسجد معَصوبَ الرأس ، معتمِداً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بيُمنى يَدَيْه ، وعلى الفَضْل بن عبّاس باليَد الأخرى ، حتّى صَعِد المِنْبرَ فجلس عليه ، ثمّ قال : « معاشِرَ الناس ، قد حان منّي خفوفٌ من بين أظهركم ، فمن كان له عندي عِدَةٌ فليَأْتنِي أُعْطِه إيّاها ، ومن كان له عَلَيّ دينٌ فليُخْبِرني به.

معاشِرَ الناس ، ليس بين الله وبين أحدٍ شيءٌ يُعطيه به خيراً أو يَصْرِفُ به عنه شرّاً إلاّ العمل.

أيّها الناس ، لا يَدَّعي مُدَّعٍ ولا يَتَمَنّى متَمَنٍّ ، والذي بعثني بالحقّ لايُنَجِّي إلاّ عمل مع رحمة ولوعَصَيْتُ لهَوَيْتُ ، اللهمّ هل بلّغت؟ ».

ثمّ نزل فصَلّى بالناس صلاةً خفيفةً ودخل بيتَه ، وكان إذ ذاك بيت أُمّ سَلَمة رضي الله عنها فأقام به يوماً أويومين.

فجاءت عائشة إليها تسألُها ان تَنْقله إلى بيتها لتتولّى تعليلَه ، وسألتْ أزواجَ النبي عليه واله السلام في ذلك فأذِنَّ لها ، فانتَقَل 9 إلى البيت الذي أسكنه عائشة ، واستمَرَّ به المرضُ أيّاماً وثقل 7.

فجاء بِلال عند صَلاة الصبح ورسولُ الله 9 مغمورٌ بالمَرَض فنادى : الصلاة يَرْحَمكم الله ، فأُوذن رسولُ الله 9 بندائه ، فقال : « يُصلّي بالناس بعضُهم فإنّني مشغولٌ بنفسي ».

فقالت عائشة : مُروا أبا بكر ، وقالت حَفْصةُ : مُروا عُمر.


فقال رسولُ الله 9 حين سَمِع كلامَهما ورأى حِرصَ كلّ واحدة منهما على التَنْويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسولُ الله 9 حيٌّ! : « اُكْفُفْنَ فإنكنَّ صُوَيْحِباتُ يوسُف » (١) ثمّ قام عليه وآله السلام مُبادراً خَوفاً من تقدّم أحد الرجلين ، وقد كان أَمَرهما 7 بالخروج إلى اُسامة ، ولم يكن عنده أنّهما قد تخلّفا.

فلمّا سَمِع من عائشة وحَفْصة ما سَمِع ، عَلِمَ أنّهما مُتأخِّران عن أمره ، فبَدَر لِكَفِّ الفِتنة وإزالة الشُبهة ، فقام 7 ـ وانّه لا يستقلُّ على الأرض من الضَعف ـ فأخَذ بيده عليّ بن أبي طالب 7 والفَضْل بن عبّاس فاعتمدهما ورجلاه تَخُطّان الأرض من الضعف.

فلمّا خرج إلى المسجد وَجَد أبا بكرٍ قد سَبَق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده أن تاَخَّرْ عنه ، فتأخَّرَ أبو بكرٍ وقام رسولُ الله 9 مقامه فكَبَّرفابتدأ الصلاةَ التي كان قد ابتدأ بها أبو بكرِ ولم يَبْن على ما مَضى من فِعاله.

فلمّا سَلَّمَ انصرَفَ إلى منزله واستدعى أبا بكر وعُمر وجماعة ممّن حضر المسجدَ من المسلمين ثمّ قال : « ألم آمُر أن تُنَفذوا جَيْشَ اُسامة؟! » قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : « فِلمَ تَاَخَّرتم عن أمري؟ » فقال أبو بكر : إنّني كنتُ خرجتُ ثم غدْت لأجدِّدَ (٢) بك عهداً. وقال عُمر : يا

ــــــــــــــــــ

(١) رواه البخاري في صحيحه ١ : ١٧٢ب ٤٦ ، ومسلم في صحيحه ١ : ٣١٣ / ٩٤ ، ٩٥ ، ١٠١ ، والبيهقي في دلائل النبوة ٧ : ١٨٦.

(٢) في « م » و « ح » وهامش « ش » : لا حدث.


رسولَ الله ، لم أخْرُج لأنّني لم احِب أن أسأل عنك الركْبَ. فقال النبي 9 : « فانفذُوا جَيْشَ أُسامة فانفذوا جَيْشَ اُسامة » يُكَررها ثلاث مرات. ثمّ أُغمِيَ عليه من التَعَب الذي لَحِقه والأسَف ، فمكث هنَيْهَة مُغمىً عليه ، وبكى المسلمون وارتفع النَحيبُ من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومن حَضرَ من المسلمين (١).

فأفاق عليه واله السلام فنظر إليهم ، ثمّ قال : « اِيتوني بدواة وكَتِف ، أكتُبْ لكم كتاباً لا تَضِلّوا بعده أبداً » ثمّ اغمِيَ عليه ، فقام بعضُ من حضر يلتمس دَواةً وكَتِفاً فقال له عمر : اِرجع ، فإنّه يَهْجُر!!! فرجع. ونَدِم من حَضَره على ماكان منهم من التضجيع (٢) في إحضار الدَواة والكَتِف ، فتلاوموا بينهم فقالوا : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، لقد أشفَقْنا من خلاف رسول اللّه.

فلمّا أفاق 9 قال بعضُهم : ألا نأتيك بكَتِفٍ يا رسول اللّه ودَواةٍ؟ فقال : « أبعدَ الذي قلتم!! لا ، ولكنَّني أُوصيكم باهلِ بيتي خيراً » ثمّ أعْرَضَ بوجهه عن القوم فنَهَضوا ، وبقي عنده العبّاس والفضل وعليّ بن أبي طالب وأهل بيته خاصّة.

فقال له العبّاس : يا رسولَ اللّه ، إن يكن هذا الأمرُ فينا مستقِرّاً بعدَك فَبشِّرنا ، وإن كنتَ تَعلم أنّا نُغْلَبَ عليه فأوْصِ بنا ، فقال : « أنتم المُستضعَفون من بعدي » وأصْمْتَ ، فنَهَض القومُ وهم يَبكون قد

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : من اهل بيته.

(٢) التضجيع في الأمر : التقصيرفيه. « الصحاح ـ ضجع ـ ٣ : ١٢٤٨ ».


أيِسوا (١) من النبي 9.

فلمّا خَرَجوا من عنده قال 7 : « اُرددُوا عليّ أخي علي بن أبي طالب وعمّي » فأنْفَذوا مَنْ دَعاهما فحضرا ، فلمّا استقر بهما المجلسُ قال رسولُ اللّه 9 : « يا عبّاس يا عمَّ رسول اللّه ، تَقْبلُ وصيَّتي وتنجِزُ عِدَتي وتَقضي عنّي ديني؟ » فقال العبّاس : يا رسولَ اللّه ، عمُّك شيخٌ كبير ذو عيالٍ كثير ، وأنت تُباري الريحَ سَخاء وكَرَماً ، وعليكَ وعد لا يَنْهض به عمُّك.

فأَقْبَل على أميرِ المؤمنين 7 فقال له : « يا أخي ، تَقْبَلُ وَصيّتي وتنجِزُ عِدَتي وتَقْضي عَنّي دَيني وتَقوم بأمر أهلي من بعدي؟ » قال : نعم يا رسولَ الله. فقال له : « اُدْنُ منّي » فدنا منه فضَمَّه إليه ، ثمّ نَزَع خاتمَه من يده فقال له : « خُذْ هذا فضَعْه في يدك » ودعا بسيفه ودِرْعه وجميعَ لامته فدَفَعِ ذلك إليه ، والتَمَس عِصابةً كان يَشًدُّها على بَطنه إذا لبِسَ سِلاحه وخرَجَ إلى الحَرب ، فجِيء بها إليه فدَفَعها إلى أمير المؤمنين 7 وقال له : « اِمْضِ على اسم الله إلى منزلك ».

فلمّا كان من الغَد حُجِب الناسُ عنه وثَقلَ في مرضه ، وكان أميرُ المؤمنين لا يُفارِقه إلاّ لضرورةٍ ، فقام في بعض شؤونه ، فأفاق 7 إفاقةً فافتقد علياً 7 فقال ـ وأزواجُه حولَه ـ : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » وعاوده الضعفُ فأُصْمِتَ ، فقالت عائشة : اُدعوا له أبا بكرٍ ، فدُعِيَ فدَخَلَ عليه فقَعَدَ عند رأسه ، فلمّا فَتَح عينهَ نظَرَإليه

ــــــــــــــــــ

(١) « م » : يئسوا.


وأعْرَض عنه بوجَهه ، فقام أبو بكرٍ وقال : لو كان له إليَ حاجةٌ لأفْضى بها إلي. فلمّا خرج أعادَ رسول اللّه 9 القولَ ثانيةً وقال : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت حَفْصَة : اُدعوا له عُمر ، فدُعِي فلما حَضَر رآه النبي 7 فأعْرضَ عنه فانصرف.

ثمّ قال : 7 : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت أُمُّ سلمة رضي الله عنها : اُدعوا له علياً فإنّه لا يُريد غيرهَ ، فدُعِيَ أميرُ المؤمنين 7 فلمّا دنا منه أومأ اليه فأكَبَّ عليه فناجاه رسولُ اللّه 9 طويلاً ، ثمّ قامَ فَجَلَس ناحيةً حتّى أغْفَى رسولُ الله 9 فقال له الناسُ : ما الذي أوْعَزَ إليك يا أبا الحسن؟ فقال : « عَلَّمني ألفَ بابٍ ، فَتَح لي كلُّ بابٍ ألفَ بابٍ ، ووَصّاني بما أنا قائمٌ به إن شاء الله ».

ثم ثَقُلَ 7 وحَضَره الموتُ وأمير المؤمنين 7 حاضرٌ عنده. فلمّا قَرُبَ خروجُ نفسه قال له : « ضَعْ رأسي يا عليّ في حجْرك ، فقد جاء أمرُ اللّه عزّ وجلّ فإذا فاضَتْ نفسي فتناوَلْها بيدك وامسَحْ بها وجهَك ، ثمّ وَجِّهْني إلى القِبلة وتولَّ أمري وصَلّ عليَّ أوّلَ الناس ، ولا تُفارِقْني حتّى تُواريَني في رمسي ، واستعِنْ بالله تعالى » فأخَذ عليّ 7 رأسَه فوَضَعه في حجْره فأُغمِيَ عليه ، فاكبَّت فاطمةُ 3 تَنْظُر في وجهه وتَنْدُبه وتَبكي وتقول :

« وأبيضُ يُستسقَى الغَمامُ بوجهه

ثِمالُ (١) اليَتامى عِصمةٌ للأرامِل »

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « م » : ربيع. والثمال : الغياث « الصحاح ـ ثمل ـ ٤ : ١٦٤٩ ».


ففَتَح رسولُ اللّه 9 عَيْنَيْه وقال بصوتٍ ضَئيلٍ : « يا بُنَيّةَ ، هذا قولُ عمّك أبي طالب ، لا تَقُوليه ، ولكن قُولي : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ ألرُّسُلُ اَفَاِنْ مَاتَ اَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى اَعْقَابِكُمْ ) (١) » فبكتْ طويلاً فأومأ إليها بالدُنُوّ منه ، فدَنَتْ فأسرَّ إليها شيئاً تَهَلَّل له وجهُها.

ثمَّ قضى 7 ويدُ أمير المؤمنين 7 اليُمنى تحتَ حَنَكه ففاضتْ نفسُه 7 فيها ، فرَفَعها إلى وجهه فمَسَحَه بها ، ثمّ وَجَّهَه وغَمَّضَه ومَدَّ عليه إزارَه واشتغَل بالنظرفي أمره.

فجاءت الرواية : أنّه قيل لفاطمة 3 : ما الّذي أَسَرَّ إليك رسولُ اللّه 9 فسُرِيَ عنكِ ما كنتِ عليه من الحَزَن والقَلَق بوفاته؟ قالت : « إنّه خَبَّرني أنّني أوَّلُ أهل بيته لُحوقاً به ، وأنه لن تطولَ المدّة بي بعده حتّى أدركَه ، فسُرِيَ ذلك عنّي » (٢).

ولمّا أراد أميرُ المؤمنين 7 غَسْلَه صلوات الله عليه استَدْعى الفَضْل بن عبّاس ، فامره أن يُناوِله الماءَ لغَسْله ـ بعد أن عَصَبَ عَيْنَيه ـ ثمّ شَقَّ قميصَه من قِبَل جَيْبه حتّى بَلَغ به إلى سُرَّته ، وتولّى 7 غَسْلَه وتَحنيطَه وتكفينَه ، والفَضْلَ يُعاطيه الماءَ ويُعينه عليه ، فلمّا فَرَغَ من غَسْله وتجهيزه تقدَّم فصَلَّى عليه وحدَه لم

ــــــــــــــــــ

(١) آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٢) الطبقات الكبرى ٢ : ١٩٣ ، ٢٤٧ ، صحيح البخاري ٦ : ١٢ ، صحيح مسلم ٤ : ١٩٠٤ ، مسند أحمد ٦ : ٧٧ ، ٢٤٠ ، ٢٨٢ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٦١.


يَشْرَكه معه أحدٌ في الصلاة عليه.

وكان المسلمون في المسجد يَخُوضون فيمن يَؤُمُّهم في الصلاة عليه وأين يُدْفَن؟! فخرج إليهم أميرُ المؤمنين 7 فقال لهم : « إنَّ رسولَ اللّه 9 إمامُنا حيّاً وميتاً ، فيَدْخلُ إليه فوجٌ فوجٌ منكم فيُصَلّون عليه بغير إمام وينصرفون ، وإنّ الله تعالى لم يَقْبِض نبيّاً في مكان إلاّ وقد ارتضاه لرمْسه فيه ، وإنّي دافنه في حُجْرَته التي قُبِضَ فيها » فسَلَّم القومُ لذلك ورَضُوا به.

ولمّا صَلّى المسلمون عليه أنْفَذَ العبّاسَ بن عبد المطّلب برجل إلى أبي عبَيْدة بن الجَرّاح وكان يَحْفِرُ لأهل مكّة ويُضَرِّح (١) وكان ذلك عادةَ أهل مكّة ، وأنفذ إلى زيد بن سَهْل وكان يَحْفِر لأهل المدينة ويَلْحَد ، واستدعاهما وقال : « اللّهمّ خِرْ لنبيّك ». فوجد أبو طَلْحة زيد ابن سَهل فقيل له : احتفر لرسول الله 9 ، فحفَر له لَحْداً ، ودخل أميرً المؤمنين 7 والعبّاسُ بن عبد المطّلب والفَضْلُ بن العبّاس واسامةُ بن زيد ليتولّوْا دفنَ رسول الله 9 فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي ، إنّا نُذَكِّركُ اللّهَ وحقَّنا اليوم من رسول اللّه 9 أن يذهب ، أدخِل منّا رجلاً يكون لنا به حظٌ من مُواراة رسول اللّه 9. فقال : « ليَدْخُل أوْس بن خَوْلي » وكان بَدْرِيّاً فاضلاً من بني عَوْف من الخَزْرَج ، فلمّا دخل قال له علي 7 : « اِنزِل القبر » فنزل ووضع أميرُ المؤمنين 7 رسولَ الله 9 على يديه ودَلاّه في

ــــــــــــــــــ

(١) الضريح : الشق في وسط القبر ، واللحد في الجانب « الصحاح ـ ضرح ـ ١ : ٣٨٦ ».


حُفْرَته فلمّاحَصَل في الأرض قال له : « اُخْرُج » فخرج ، ونزَل علي بن أبي طالب 7 القبر فكشَف عن وجه رسول الله 9 ووَضَع خَدَّه على الأرض مُوَجَّهاً إلى القبلة على يمينه ، ثمّ وَضَعَ عليه اللبَن وهالَ عليه التراب.

وكان ذلك في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من هجرته وهو اِبنُ ثلاث وستّين سنة.

ولم يَحْضر دفنَ رسول الله 9 أَكثرُ الناس ، لِما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة ، وفات أكثرَهم إلصلاةُ عليه لذلك ، وأصبَحَتْ فاطمة 3 تنادي : « واسُوْءَ صباحاه » فسَمِعها أبو بكرٍ فقال لها : إِنّ صباحكِ لصباح سُوْء. واغتنم القومُ الفُرصة لشُغْل علي بن أبي طالب برسول الله 9 وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله 9 ، فتبادروا إلى ولاية الأَمر ، واتّفق لأَبي بكرِ ما اتّفق لاختلافِ الأنصار فيما بينهم ، وكراهةِ الطلقاء والمؤلّفة قلوبهُم من تأخُّر الأَمر حتّى يَفْرغ بنو هاشم ، فيستقرّ الأمرُ مقرَّه ، فبايعوا أبا بكرٍ لحضوره المكانَ ، وكانت أسباب معروفة تيسر منها للقوم ما رامُوه ، ليس هذا الكتاب موضعَ ذكرها فنَشرح القولَ فيها على التفصيل.

وقد جاءت الرواية : أنّه لمّا تَمّ لأبي بكرٍ ما تَمّ وبايَعه من بايَع ، جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين 7 وهو يُسوِّي قبرَ رسول اللّه 9 بمِسحاةٍ في يده فقال له : إِنّ القومَ قد بايَعوا أبا بكر ، ووقعت الخَذْلة في الأنصار لاختلافهم ، وبَدَر الطلقاءُ بالعقد


للرجل خوفاً من إدراككم الأمر. فوضع طَرَف المسحاة في الأرض ويدُه عليها ثمّ قال : بسْمِ اللّهِ آلرحمنِ الرحيمِ ( ألم* اَحَسِبَ ألناسُ اَنْ يُتْرَكوُا اَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ألَّذينَ مِنْ قَبْلِهمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله ألِّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَ الْكَاذِبينَ * اَمْ حَسِبَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ ألسَيِّئاتِ اَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمونَ ) (١) (٢).

وقد كان أبوسفيان جاء إلى باب رسول اللّه 9 وعليٌّ والعباسُ مُتَوفَران على النظر في أمره فنادى :

بني هاشم لا تُطمِعوا الناسَ فيكمُ

ولا سيّما تَيْمُ بن مُرّة أو عَدِيّ

فما الاّمرُإلاّ فيكمُ وإليكمُ

وليس لها إلاّ أبوحسنٍ علي

أبا حَسَنٍ فاشدُدْ بها كفَّ حازمٍ

فإنّكَ بالأمر الذي يُرْتَجى مَليّ

ثمّ نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم ، يا بني عبد مَناف ، أرَضِيتم أن يليَ عليكم أبو فَصِيْل الرَذْل بن الرَذْل ، أما واللّه لئن شئِتم لأمْلأنّها خَيْلاًَ ورجلاً. فناداه أمير المؤمنين 7 : « اِرجِع يا با سُفيان ، فواللّه ما تريد اللّه بما تقول ، وما زلتَ تَكيد الإسلامَ وأهلَه ، ونحن مَشاغيلٌ برسول اللّه 9 ، وعلى كلّ امرىءٍ ما اكتسب وهو وليُّ ما احتقب » فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فوجد بني اُميّةَ مجتمعين فيه فحرَّضَهم على الأمرفلم يَنْهَضوا له. وكانت فتنةٌ عمّت وبليّة شملت وأسباب سوء اتّفقت ، تمكّن بها

ــــــــــــــــــ

(١) العنكبوت ٢٩ : ا ـ ٤.

(٢) نقله الحويزي في تفسير نور الثقلين ٤ : ١٤٩ / ١١.


الشيطانُ وتعاون فيها أهلُ الإفك والعًدوان ، فتخاذل في إنكارها أهلُ الإيمان ، وكان ذلك تأويلُ قول اللّه عزّ اسمه : ( وَاتَقوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذين ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة ) (١).

فصل

وفيما عددناه من مناقب أمير المؤمنين 7 بعد الذي تقدّم ذكره من ذلك فِى حجّة الوداع ، أدلُّ دليل على تخصّصه 7 فيها بما لم يَشْرَكه فيه أحدٌ من الأنام ، إذ كان كلّ واحد منه باباً من الفضل قائماً بنفسه ، غيرَ محتاج في معناه إلى سواه.

ألا ترى أنَ تحقّقَه 7 بالنبي 9 في مرضه إلى أن توفّاه الله يقتضي فضله في الدين والقُربى من النبي 9 بالأعمال المرضِيّة الموجِبة لسكونه إليه ، وتعويلِه في أمره عليه ، وانقطاعِه عن الكافّة في تدبير نفسه إليه ، واختصاصه من مودّته بما لم يَشْرَكه فيه من عداه ، ثمّ وصيّتِه إليه بما وصّاه بعد أن عَرَض ذلك على غيره فأباه ، وتحمُّلِه أعباءَ حقوقه فيه وضمانِه للقيام به وأداءِ الأمانة فيما تولاّه ، وتخصُّصهِ بأُخوّة رسول الله 9 ، وصُحبتهِ المرضيّة حين دعاه ، وإيداعِه من علوم الدين ما أفرده به ممّن سواه ، وتولّي غسلَه وجهازَه إلى اللّه ، وسبقِ الكافّة إلى الصلاة عليه وتقدُّمِهم في ذلك لِمنزلته عنده وعند الله تعالى ، ودلالةِ الاُمة على كيفية

ــــــــــــــــــ

(١) الأنفال ٨ : ٢٥.


الصلاة عليه ، وقد التبس الأمرً عليهم في ذلك ، وإرشاده لهم إلى موضع دفنه ، مع الاختلاف الذي كان بينهم فيه ، فانقادوا إلى ما دعاهم إليه من ذلك ورآه ، فصار بذلك كلّه أوحداً في فضله ، وأكمَلَ به من مآثره في الإسلام ما ابتدأه في أوَّله إلى وفاة النبي 9 ، وحَصَل له به نظامُ الفضائل على الاتّساق ، ولم يتخلَّلْ شيئاً من أعماله في الدين فتور (١) ، ولا شانَ فضلَه 7 فيما عددناه قصورٌ عن غايةٍ في مناقب الإيمان وفضائل الإسلام ، وهذا لاحِقٌ بالمعجز الباهر الخارق للعادات ، وهو ممّا لا يوُجَد مثلُه إلاّ لنبيٍّ مُرْسَل أو مَلَك مقرَّب ومن لَحِقَ بهما في دَرَج الفضائل عند الله تعالى ، إذ كانت العادة جارية فيمن عدا الأصناف الثلاثة بخلاف ذلك ، على الاتفاق من ذوي العقول ، والألْسُن والعادات. واللّه نسأل التوفيقَ وبه نعتصم من الضَلال.

فصل

فأما الأَخبارُ التي جاءت بالباهر من قضاياه 7 في الدين ، وأحكامه التي افتقر إليه في علمها كافّةُ المؤمنين ، بعد الذي أثبتناه من جملة الوارد في تقدّمه في العلم ، وتبريزِه على الجماعة بالمعرفة والفهم ، وفَزَعِ علماء الصحابة إليه فيما اَعْضَل من ذلك ، والتجائِهم إليه فيه وتسليمِهم له القضاء به ، فهي أكثرُمن أن تُحصى وأجلُّ من أن تُتعاطى ، وأنا مُورِدٌ منها جملةً تدلّ على ما بعدها إن شاء اللّه.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ح » وهامش « ش ». شوب.


فمن ذلك ما رواه نَقلةُ الاثار من العامّة والخاصّة في قضاياه ورسول الله 9 حيّ فصوَّبه فيها ، وحَكَم له بالحقّ فيما قضاه ، ودعا له بخير وأثنى عليه به ، وأبانه بالفضل في ذلك مِن الكافة ، ودَلَّ به على استحقاقه الأمرَ من بعده ، ووجوب تقدّمه على من سواه في مقام الإمامة ، كما تضمّن ذلك التنزيلُ فيما دلّ علَى معناه وعُرِف به ما حواه التأويل ، حيث يقول الله عزّ اسمه : ( اَفَمَنْ يَهْدِي اِلَى الْحَقِّ أحقُّ اَنْ يُتَّبَعَ اَمَّن لا يَهِدِي اِلاّ أنْ يُهْدى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١) وقوله تعالى ذكره : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ألَّذينَ يَعْلَمُونَ وَألَّذينَ لا يَعْلَمُونَ اِنماَ يَتَذَكرُ أُولُوا الالْبَاب ) (٢) وقوله تعالى سبحانه في قصّة آدم 7 وقد قالت الملائكةَ : ( اَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيهَا وَيسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدس لَكَ قَالَ إِني اَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ* وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَهَا ثَم عَرَضَهُمْ عَلَى اْلمَلائِكَةِ فَقَالَ أنْبِؤُني باَسْمَاءِ هؤُلاَءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ* قَالوُا ْسبحانك لا عِلْمَ لَنَا إلاّ مَا عَلًّمْتَنَا اِنّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ * قَالَ يَا آدَمُ اَنْبِئْهُمْ باَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا اَنْبَأهُمْ بِاَسْمَائِهِمْ قَالَ اَلَمْ اَقُلْ لَكُمْ اِنّي اَعْلَمُ غَيْبَ السماوات وألارْضِ وَاَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كًنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) (٣).

فنَبَّه الله سبحانه الملائكةَ على أنّ آدم أحقُّ بالخلافة منهم ، لأنّه أعلمُ منهم بالأسماء وأفضلُهم في علم الأنباء.

ــــــــــــــــــ

(١) يونس ١٠ : ٣٥.

(٢) الزمر ٣٩ : ٩.

(٣) البقرة ٢ : ٣٠ ـ ٣٣.


وقال جلّ ذكره في قصّة طالوت : ( وَقَالَ لهَمْ نَبِيّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالوتَ مَلِكآَ قَالُوا اَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْك عَلَيْنا وَنَحْن أحَقٌّ بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ اِنَّ الله اصْطَفَاة عَلَيْكمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فيِ الْعِلْمِ والْجِسْمِ وَاللّهُ يؤتيِ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ واللّه وَاسِعٌ عَليم ) (١).

فجعل جهةَ حقّه في التقدم عليهم ما زاده اللّهُ من البسطة في العلم والجسم ، واصطفاءهُ إيّاه على كافّتهم بذلك ، فكانت هذه الآيات موافقةً لدلائل العقول في أنّ الأعلمَ أحقُّ بالتقدّم في محلّ الإمامة ممّن لا يُساويه في العلم ، ودلّت على وجوب تقدّم أميرالمؤمنين 7 على كافّة المسلمين في خلافةِ الرسول 9 وإمامةِ الأمّة لتقدّمه عليهم في العلم والحِكمة ، وقصُورهم عن منزلته في ذلك.

فصل

فممّا جاءت به الرواية في قضاياه والنبي 9 حيٌّ موجودٌ ، أنّه لمّا أراد رسولُ اللّه 9 تقليدَه قضاءَ اليمن ، وإِنفاذه إِليهم ليُعلِّمهم الأحكامَ ويعُرِّفَهم (٢) الحلالَ من الحرام ، ويحكُم فيهِم بأحكام القرآن ، قال له أميرُ المؤمنين 7 : « تُنْفِذُني (٣)

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ٢٤٧.

(٢) في « م » : يبيّن لهم.

(٣) في « م » وهامش « ش » : تندبني.


يا رسولَ الله للقضاء وأنا شابٌّ ولا علم لي بكلِّ القضاء » فقال له : « اُدْنُ منّي » فدنا منه فضرب على صدره بيده ، وقال : « اللّهمّ اهدِ قلبه وثبِّت لسانه » قال أميرُ المؤمنين 7 : « فما شَكَكْتُ في قضاءٍ بين اثنين بعد ذلك المقام » (١).

ولمّا استقرّت به الدار باليمن ، ونظر فيما نَدَبه إِليه رسولُ الله 9 من القضاء والحكم بين المسلمين ، رفعَ إليه رجلان بينهما جاريةٌ يَملكان رِقَّها على السواء ، قد جَهِلا حظرَ وطْئها فوَطِئاها معاً في طُهْر واحد على ظنّ منهما جواز ذلك لقرب عهدهما بالإسلام وقلّةِ معرفتهما بما تضمّنته الشريعةُ من الأحكام ، فحَمَلتْ الجاريةُ ووَضَعَتْ غلاماً ، فاختصما إليه فيه ، فقَرَعَ على الغلام باسميهما فخرجت القرعةُ لأحدهما فألحقَ الغلامَ به ، وألزَمه نصفَ قيمته لأنّه كان عبداً لشريكه ، وقال : « لو عَلِمتُ أنَّكما أقدمتُما على ما فعلتماه بعد الحجّة عليكما بحَظْره لَبالغتُ في عقوبتكما » وبَلَغَ رسولَ الله 9 هذه القضيةُ فأَمضاها ، وأقرَّ الحكمَ بها في الإسلامِ ، وقال : « الحمدُ للّه الذي جَعَل فينا ـ أهلَ البيت ـ من يَقضي على سنن داود 7 وسبيله في القضاء » يعني القضاء بالإلهام الذي هوفي معنى الوَحي ، ونزولِ النصّ به أن لو نَزَلَ على الصريح (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) روي باختلاف يسير في الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٧ ، مسند أحمد ١ : ١٣٦ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٤ ، أنساب الأشراف ٢ : ١٠١ ، مسند أبي يعلى ١ : ٢٦٨ و ٣٢٣ ، تأريخ بغداد ١٢ : ٤٤٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٤٤.

(٢) روي نحوه في الكافي ٥ : ٤٩١ ، الفقيه ٣ : ٥٤ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٣٨ ، مصباح الأنوار : ١٨٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٣.


ثم رُفِع إِليه 7 وهو باليَمَن في خبر زبيةٍ (١) حفِرت للأَسد فوقع فيها ، فغدا الناسُ ينظرون إِليه ، فوقف على شفير الزُبْية رجلٌ فزلَّت قدمُه فتعلّق بآخر وتعلّق الآخر بثالث وتعلّق الثالث بالرابع ، فوقعوا في الزُبية فدَقَّهم الأَسد وهلكوا جميعاً ، فقضى 7 أَنّ الأَوّلَ فريسةُ الأَسد وعليه ثلثُ الدِيَة للثاني ، وعلى الثاني ثُلثا الدِيَة للثالث ، وعلى الثالث الدِيَةُ كاملةً للرابع. وانتهى الخبرُ بذلك إِلى رسول اللّه 9 فقال : « لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزّوجلّ فوقَ عرشه » (٢).

ثمّ رُفِع إليه خبرُ جارية حَمَلت جاريةً على عاتقها عَبَثاً ولعِباً ، فجاءت جاريةٌ أُخرى فقَرَصتِ الحاملةَ فقَفَزَت (٣) لقَرْصَتها فوَقَعتِ الراكبةُ فاندقَّتْ عنقها وهَلَكتْ ، فقضى 7 على القارِصة بثُلثِ الدِيَة ، وعلى القامِصة (٤) بثُلُثها ، وأسقط الثُلثَ الباقي بقُموص الراكبة لركوب الواقِعة (٥) عَبَثاً القامِصَةَ. وبلغ الخبرً بذلك إِلى النبيّ 9 فأمضاه وشَهِد له بالصواب به (٦).

ــــــــــــــــــ

(١) الزبية : حفرة يحفرونها في مكان عال ليصطادوا بها الأسد. « الصحاح ـ زبى ـ ٦ : ٢٣٦٦ ».

(٢) الكافي ٧ : ٢٨٦ / ٣ ، الفقيه ٤ : ٢٧٨ / ٨٦ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٣٩ / ٩٥١ ، المقنعة : ٧٥٠ ، مصباح الأنوار : ١٨٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، و ٣٧٨ ، باختلاف يسير.

(٣) في هامش « ش » و « م » : « فقَعَصَتْ ».

(٤) والقامصة : النافرة الضاربة برجليها. قال ابن الأثير : ومنه حديث علي « أنه قضى في القارصة والقامصة والواقصة بالدية اثلاثاً ». النهاية ـ قمص ـ ٤ : ١٠٨ ، ـ قرص ـ ٤ : ٤٠.

(٥) في هامش « ش » : الواقصة ، والوقص : كسر العنق. « النهاية ـ وقص ـ ٥ : ٢١٤ ».

(٦) المقنعة : ٧٥٠ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، وروي باختلاف في تقسيم الديات


وقضى 7 في قوم وَقَع عليهم حائطٌ فقَتَلهم ، وكان في جمإعتهم امرأةٌ مملوكةٌ وأُخرى حُرّة ، وكان للحُرّة ولدٌ طِفلٌ من حُرٍّ ، وللجارية المملوكةِ ولدٌ طفلٌ من مملوكٍ ، فلم يُعْرَف الحُرُّ ـ من الطفلين ـ من المملوك ، فقَرَع بينهما وحَكَم بالحُرّية لمن خَرَج سهم الحرية عليه منهما ، وحكم بالرِّقِّ لمن خرج عليه سهمُ الرِّقّ منهما ، ثمّ أَعتقه وجعله مولاه وحَكَم في ميراثهما بالحكم في الحرّ ومولاه. فأَمضى رسولُ الله 9 عليه هذا القضاء وصَوَّبه حسبَ إِمضائه ما أَسلفنا ذكرَه ووصفنا ه (١).

فصل

وجاءت الآثار أنَّ رجلين اختصما إِلى النبي 9 في بَقَرة قتلت حِماراً ، فقال أحدُهما : يا رسول الله ، بقرةُ هذا الرجل قتلَتْ حماري. فقال رسولُ الله عليه وآله السلام : « اِذهبا إِلى أبي بكبر فاسألاه عن ذلك » فجاءا الى أبي بكرٍ وقَصّا عليه قصَّتهما ، فقال : كيف تركتما رسولَ الله 9 وجئتُماني؟ قالا : هوأمَرَنا بذلك ، فقال لهما : بَهيمةٌ قتلت بَهيمةً ، لاشيء على رَبّها.

فعادا إِلى النبيّ 9 فأخبراه بذلك فقال لهما : « امضِيا

ــــــــــــــــــ

أنصافاً لا أثلاثاً في الفقيه ٤ : ١٢٥ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٤١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٣٩٣.

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ١٦ / ٣٥٧.


إلى عُمَر بن الخَطّاب وقصّا عليه قِصّتَكما واسألاه القضاءَ في ذلك » فذهبا إليه وقَصّا عليه قِصَّتهما ، فقال لهما : كيف تركتُما رسولَ اللّه 9 وجئتماني؟ قالا : هو أَمَرَنا بذلك ، قال : فكيف لم يأَمُرْكما بالمصير إِلى أبي بكر؟ قالا : قد أَمَرَنا بذلك فصِرْنا إِليه. فقال : ما الذي قال لكما في هذه القضية (١)؟ قالا له : كيت وكيت ، قال : ما أَرى فيها إلاّ ما رأى أبو بكر.

فعادا إِلى النبي 9 فخَبَّراه الخبرَ ، فقال : « إذهَبا إِلى علي ابن أبي طالب 7 ليقضِيَ بينكما » فذهبا إِليه فقصّا عليه قِصّتَهما ، فقال 7 : « إن كانت البقرةُ دخلت على الحمارفي مأمنه ، فعلى ربها قيمةُ الحمار لصاحبه ، وِان كان الحمارُ دخل على البقرة في مأمنها فقتلته ، فلا غُرْم على صاحبها » فعادا إِلى رسول اللّه 9 فأخبراه بقضيّته بينهما ، فقال عليه وآله السلام : « لقد قض عليُّ بن أبي طالب بينكما بقضاء الله عزّ اسمه ، ثمّ قال : الحمدُ للّه الذي جَعَل فينا ـ أهلَ البيت ـ من يَقضي على سنَن داود في القضاء » (٢).

وقد روى بعضُ العامة أنَّ هذه القضية كانت من أمير المؤمنين 7 بين الرجلين باليمن ، وروى بعضُهم حسبَ ما قدّمناه ، وأمثالُ ذلك كثيرة ، وإنّما الغرضُ في ايراد موجَزٍ منه على الاختصار.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : القصة.

(٢) روي باختلاف يسير في الكافي ٧ : ٣٥٢ / ٧ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، وباختلاف في ألفاظه في تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٢٩ / ٣٤ ، وفضائل شاذان : ١٦٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٢ / ٤٠٠.


فصل

في ذكرمختصرمن قضائه 7 في إِمارة أبي بكر

ابن أبي قُحَافة

فمن ذلك ما جاء الخبرُ به عن رجال من العامّة والخاصّة : أنّ رجلاً رُفِع إِلى أَبي بكر وقد شرَب الخمر ، فأَراد أَن يُقيم عليه الحَدّ فقال له : إِنّني شَرِبتها ولا علمَ لي بتحريمها ، لأنّي نشأتُ بين قومٍ يستحلّونها ، ولم أعْلم بتحريمها حتّى الآن .. فارتجّ (١) على أبي بكر الأمرُ بالحكم عليه ، ولم يَعْلَم وجهَ القضاء فيه ، فأشارعليه بعضُ من حضره أن يَستخبر أميرَ المؤمنين 7 عن الحكم في ذلك ، فأرسل إِليه من سأله عنه ، فقال أميرُ المؤمنين 7 : « مُرْ ثِقتين من رجال المسلمين يَطًوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار ، ويُناشدانهم الله هل فيهم أحدٌ تلا عليه آيةَ التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله 9؟ فإِن شَهِدَ بذلك رَجلان منهم فأقِمْ الحَدَّ عليه ، وِان لمَ يْشَهد أحدٌ بذلك فاستتِبْه وخَلِّ سبيلَه » ففعل ذلك أبو بكر ، فلم يَشْهَد عليه أحدٌ من المهاجرين والأنصار أنّه تلا عليه آيةَ التحريم ، ولا أخبره عن رسول اللّه 9 بذلك ، فاستتابه أبو بكر وخلّى سبيله ، وسلَّم لعليّ 7 في القضاء

ــــــــــــــــــ

(١) اُرْتِجَ عليه وارتُجّ عليه : استبهم عليه. « لسان العرب ـ رتج ـ ٢ : ٢٨٠ ».


به (١).

وروَوْا : أَنّ أَبا بكر سُئل عن قوله تعالى : ، ( وَفَاكِهَةً وَأَباً ) (٢) فلم يعرِف معنى الأبّ في القرآن ، وقال : أَيُّ سَماء تُظِلّني وأَيِّ (٣) أَرض تُقِلّني أَم كيف أَصنع إِن قلتُ في كتاب اللّه تعالى بما لا أَعلم ، أَمّا الفاكهة فنَعْرِفها ، وأما الأبُّ فاللّه أعلمُ به. فبلغ أميرَ المؤمنين 7 مقالُه في ذلك ، فقال : 7 : « يا سبحان اللّه ، أما عَلِمَ أنَّ الأبَّ هو الكَلأَ والمَرعى ، وأنَّ قوله عزّ اسمه : ( وَفَاكِهَةً وَأباً ) اعتداد من الله سبحانه بإِنعامه على خلقه فيما غذّاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تُحيى به أنفسُهم وتَقُوم به أجسادُهم » (٤).

وسُئِل أبو بكر عن الكَلالة فقال : أقول فيها برأيي ، فإِن أصبت فمن الله ، وِإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. فبلغ ذلك أميرَ المؤمنين 7 فقال : « ما أغناه عن الرأي في هذا المكان! أما عَلِم أنّ الكَلالة هم الإخْوَة والأخوات من قبَل الأب والأمّ ، ومن قِبَل الأب على انفراده ، ومن قِبَل الامّ أيضاً على حِدَتها ، قال اللّه عزّ قائلاً :

ــــــــــــــــــ

(١) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١٦ ، و ٢٤٩ / ٤ ، وتهذيب الأحكام ١٠ : ٩٤ / ٣٦١ ، خصائص الرضي : ٨١ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٦ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٧٩ : ١٥٩ / ١٣.

(٢) عبس ٨٠ : ٣١.

(٣) في هامش « ش » : أم أي.

(٤) ذكر صدره ابن شهرآشوب في مناقبه ٢ : ٣٢ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣١٧ عن فضائل أبو عبيد وعبد بن جميل ، ونقله البحراني في تفسير البرهان ٤ : ٤٢٩ / ١ ، والحويزي في تفسير نور الثقلين ٥ : ١٤ / ٥١١ ، والعلامة المجلسي في البحار ٧٩ : ١٣ / ١٥٩.


( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتيكُمْ في الْكَلالَةِ إِن امْرُؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولدِّ وله اُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرثُهَا اِنْ لَمْ يَكُنْ لَهاَ ولد ) (١) وقال جلّت عظمته : ( وَاِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أًوِ امْرَاَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ اُخْتٌ فَلِكلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السُّدُسُ فَاِن كانوا اَكْثَرَ مِن ذَلِك فَهُمْ شُركاءُ في الثُلُثِ ) (٢) (٣).

وجاءت ألروايةُ : أَنّ بعضَ أَحبار اليهود جاء إِلى أَبي بكر فقال : أَنت خليفةُ نبيّ هذه الأمة؟ فقال له : نعم ، فقال : فإِنّا نَجِدُ في التوراة أَنّ خلفاءَ الأَنبياء أَعلمُ أُممهم ، فخبرني عن الله تعالى أَين هو في السماء أَم في الأَرض؟ فقال له ابو بكر : في الَسّماء على العرش ، فقال اليهودي : فأَرَى الأَرضَ خاليةً منه ، وأَراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أَبو بكر : هذا كلامُ الزَنادقة ، اُغرُبْ عنّي وإلاّ قتلتُك. فولّى الحَبْر متعجّباً يستهزئ بالإسلام ، فاستقبله أَميرُ المؤمنين 7 فقال له : « يا يهودي ، قد عرفتُ ما سألتَ عنه ، وما أُجِبتَ به ، وانّا نقول : إنّ الله جلّ وعزّ أيَّن الأَيْنَ فلا أين له ، وجلّ عن أن يحوِيَه مكان ، وهو في كلّ مكان بغيرمماسّة ولا مُجاوَرة ، يحُيط علماً بما فيها ولا يخلوشيءٌ منها من تدبيره ، وإِنّي مُخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يُصَدِّق ما ذكرتُه لك ، فان عرفتَه أتؤمِنُ به؟ » قال اليهوديُ : نعم ، قال : « ألستم تَجِدون في بعض كتبكم أنَ موسى بن عِمران 7 كان ذاتَ يوم جالساً إِذ جاءه مَلَكٌ من المَشرق ، فقال له موسى : من أين أَقبلت؟ قال : من عند الله عزّ

ــــــــــــــــــ

(١) النساء ٤ : ١٧٦.

(٢) النساء ٤ : ١٢.

(٣) سنن الدارمي ٢ : ٣٦٥ ، الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ١٦١ ، وشرح النهج ١٧ : ٢٠١ ، وفيها صدر الحديث ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٣٤٤ / ١٣.


وجلّ ، ثمّ جاءه مَلَك من المَغرب فقال له : من أين جئتَ؟ قال : من عند الله ، وجاءه مَلَك آخر ، فقال : قد جئتُك من السماء السابعة من عند الله تعالى ، وجاءه مَلَك آخر فقال : قد جئتُك من الأرض السابعة السُفلى من عند الله عزّ اسمه ، فقال موسى 7 : سبحانَ من لا يخَلو منه مكانٌ ، ولا يكون إلى مكان أقربَ من مكان » فقال اليهودي : ( أشهد أَنَ هذا هو ) (١) الحق ، وأنك أحقُّ بمقام نبيّك ممّن استولى عليه (٢).

وأمثالُ هذه الأَخبار كثيرة.

فصل

في ذكر ما جاء من قضاياه 7 في

إمارة عُمَر بن الخَطّاب

فمن ذلك ما جاءت به العامّة والخاصّة في قصّة قُدامَة بن مَظْعُون وقد شَرِب الخمرَ فأراد عمرُ أن يَحُدّه ، فقال له قُدامة : إِنّه لا يجب عليَّ الحَدُّ ، لأنَّ الله تعالى يقول : ( لَيْسَ عَلَى ألَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ألصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فيما طَعِموا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلوا

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : أشهد أن لا إله إلآ هو ، هذا هو.

(٢) الاحتجاج ١ : ٢٠٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٤٨.


الصَّالِحَاتِ ثَمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ) (١) فدرأ عمرُ عنه الحدّ ، فبَلَغ ذلك أميرَ المؤمنين 7 فمشى إِلى عُمَر فقال له : « لمَ تَرَكْتَ إِقامةَ الحدّ على قُدامة في شُربه الخمر؟ » فقال له : إِنّه تلا عليّ الآية ، وتلاها عمر على أمير المؤمنين 7 ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « ليس قًدامَة من أَهل هذه الاية ، ولا مَنْ سَلَك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللهُ عزّوجلّ ، إِنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلّون حراماً ، فاردُدْ قُدامة واستَتِبْه ممّا قال ، فإن تاب فأَقِمْ عليه الحدّ ، وإِن لم يَتُبْ فاقتًله فقد خَرَج عن المِلّة » فاستيقظ عُمَر لذلك ، وعرف قُدامة الخبر ، فأظهر التوبةَ والإقلاع ، فدرأَ عمر عنه القتلَ ، ولم يَدْرِ كيف يَحُدّه. فقال لأمير المؤمنين : أَشر عليَّ في حدّه ، فقال : « حدّه ثمانين ، إِنّ شاربَ الخمر إِذا شَرِبها سَكر ، وإِذا سَكَر هذى ، وإذا هَذى افترى » فَجَلده عمر ثمانين وصار إِلى قوله في ذلك (٢).

وروَوْا : أنَّ مجنونة على عهد عمر فَجَر بها رجلٌ ، فقامت البيّنةُ عليها بذلك ، فأمر عمر بجلدها الحَدّ ، فمُرّ بها على أمير المؤمنين 7 لتُجْلَد فقال : « ما بالُ مجنونة آل فلان تعتل (٣)؟ » فقيل له : أنّ رجلاً فجَر بها وهَرَب ، وقامت البيّنةُ عليها ، فأمر عمر بجلدها ، فقال لهم : « رُدّوها إليه وقولوا له : أما علمتُ أنّ هذه مجنونةُ آل فلان! وأنّ النبيَّ صلّى الله

ــــــــــــــــــ

(١) المائدة ٥ : ٩٣.

(٢) روي نحوه في الكافي ٧ : ٢١٥ / ١٠ ، التهذيب ١٠ : ٩٣ ، تفسير العياشي ١ : ٣٤١ / ١٨٩ ، علل الشرائع : ٥٣٩ / ٧ ، سنن الدار قطني ٣ : ١٦٦ ، والدر المنثور ٣ : ١٦١ ولم يذكرا اسم قدامة بن مظعون ، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٠ : ٢٤٩ / ٤٣ ، ٧٩ : ١٥٩ / ١٤.

(٣) تعتل : تجذب جذباً عنيفاً. « الصحاح ـ عتل ـ ٥ : ١٧٥٨ ».


عليه وآله قال : رُفع القلمُ عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق! إِنّها مغلوبةٌ على عقلها ونفسها » ، فرُدّت إِلى عمر ، وقيل له ما قال أمير المؤمنين 7 فقال : فرّج اللهُ عنه لقد كدتُ أَن أَهْلكَ في جَلدْها. ودرأ عنهأ الحَد (١).

وروَوْا : أَنّه أتي بحاملٍ قد زنت فأَمر برجمها ، فقال له أمير المؤمنين 7 : « هَبْ لك سبيلٌ عليها ، أيّ سبيل لك على ما في بطنها!؟ والله تعالى يقول : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى ) (٢) » فقال عمر : لا عِشْتُ لمُعضلةٍ لا يكون لها أبو حسنِ ، ثمّ قال : فما أَصنع بها؟ قال : « اِحتَطْ عليها حتّى تَلِد ، فإِذا وَلَدتْ ووَجَدتَ لولدِها من يكفلُه فأقِم الحدَّ عليها » فسُرّي بذلك عن عمر وعوّل في الحكم به على أميرِ المؤمنين 7 (٣).

وروَوْا : أنه استدعى امرأةً تتحدّثُ عندها الرجال ، فلمّا جاءها رسلُه فزعت وارتاعت وخرجت معهم ، فأملصت (٤) فوقع إِلى الأرض ولدُها يَسْتهِلّ ثمّ مات ، فبلغ عمر ذلك فجمع أصحابَ رسول الله

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب ال أبي طالب ٢ : ٣٦٦ ، وروي نحوه في مسند أحمد ١ : ١٥٤ ، سنن أبي داود ٤ : ١٤٠ ، مسند أبي يعلى ١ : ٤٤٠ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ٥٩ ، سنن الدارقطني ٣ : ١٣٨ / ١٧٣ ، سنن البيهقي ٨ : ٢٦٤ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ٦٧ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٧٩ : ٨٨ / ٦.

(٢) الانعام ٦ : ١٦٤ ، الإسراء ١٧ : ١٥ ، فاطر٣٥ : ١٨ ، الزمر ٣٩ : ٧.

(٣) روي باختصار في الاختصاص : ١١١ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٢ ، كفاية الطالب : ٢٢٧ ، إرشاد القلوب : ٢١٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٧٩ : ٤٩ / ٣٥.

(٤) أملصت المرأة بولدها؟ أسقطته. « الصحاح ـ ملص ـ ٣ : ١٠٥٧ ».


9 وسألهم عن الحكم في ذلك ، فقالوا بأجمعهم : نراك مؤدِّباً ولم ترِد إلاّ خيراً ولا شيءَ عليك في ذلك. وأميرُ المؤمنين 7 جالس لا يتكلّم في ذلك ، فقال له عمر : ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ قال : « قد سمعتَ ما قالوا » قال : فما تقول أنت؟ قال : « قد قال القومُ ما سمعتَ » قال : أقسمت عليك لتقولَنَّ ما عندك ، قال : « إِن كان القوم قاربوك فقد غَشّوك ، وإن كانوا ارتؤوا فقد قَصّروا ، الديةُ على عاقِلتك لأنَّ قتلَ الصبي خطأ تعلّق بك » فقال : أَنت والله نَصَحْتَني من بينهم ، والله لا تبرَح حتى تُجزِّئ الديةَ على بني عَديّ ، ففعل ذلك أميرُ المؤمنين 7 (١).

وروَوْا : أنَّ امرأتين تنازعَتا على عهد عمر في طفلٍ ادّعته كلُّ واحدة منهما ولداً لها بغيربيّنة ، ولم يُنازِعهما فيه غيرُهما ، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفَزِعَ فيه إِلى أمير المؤمنين 7 ، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوَّفهما فأقامتا على التنازع والاختلاف ، فقال 7 عند تماديهما في النزاع : « ايتوني بمنْشار » فقالت له المرأتان : ما تصنع؟ فقال : « أقُدّه نصفين ، لكَلّ واحدة منكما نصفه » فسكتت احداهما وقالت الاخرى : الله الله يا أَبا الحسن ، إِن كان لا بُدَّ من ذلك فقد سمحتُ به لها ، فقال : « الله اكبر ، هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقَّت عليه وأشفقَتْ » فاعترفتِ المرأة الأخرى بأنَّ الحقّ

ــــــــــــــــــ

(١) رواه ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٦ ، ونحوه في أنساب الأشراف ٢ : ١٨٧ ، الكافي ٧ : ٣٧٤ / ١١ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٣١٢ / ١١٦٥ ، شرح نهج البلاغة ١ : ١٧٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٣٩٤ / ٣١.


مع صاحبتها والولدُ لها دونه ، فسُرِي عن عمر ودعا لأمير المؤمنين 7 بما فَرّج عنه في القضاء (١).

ورُوِي عن يونس ، عن الحسن : أن عمر أُتي بامرأةٍ قد وَلَدت لستة أشهر فهمَّ برجمها ، فقال له أميرُ المؤمنين 7 : « إِنْ خاصمتك بكتاب الله خَصَمْتُك ، إِنّ الله عزّ اسمه يقول : ( وَحَمْلهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (٢) ويقول تعالى : ( وَاْلوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ اَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن لمِنْ اَرَادَ اَنْ يُتِمَّ آلرَّضَاعَةَ ) (٣) فإِذا تَمّمت المرأة الرَضاعة سنتين ، وكان حَمله وفصاله ثلاثين شهراً ، كان الحمَل منها ستة أشهر » فخلّى عمر سبيلَ المرأة وثبت الحكم بذلك ، يعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إِلى يومنا هذا (٤).

وروَوْا : أنَّ امراةً شَهِد عليها الشهودُ أَنّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يَطؤها ليس ببعلٍ لها ، فأمر عمر برَجمها وكانت ذات بَعْل ، فقالت : اللهم إِنّك تعلم أني بريئة ، فغضب عمر وقال : وتَجْرَح الشهودَ أَيضاً ، قال أميرُ المؤمنين 7 : « رُدّوها واسألوها ، فلعلّ لها عُذراً » فرُدَّت وسُئلت عن حالها فقالت : كان لأهلي إِبل فخرجتُ في إِبل أَهلي وحَمَلْتُ معي ماء ولم يكن في إِبلي لَبنٌ ، وخرج معي

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٧ ، ونحوه في فضائل شاذان : ٦٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٢ / ٢٦.

(٢) الأحقاف ٤٦ : ١٥.

(٣) البقرة ٢ : ٢٣٣.

(٤) روي نحوه في الدر المنثور ١ : ٢٨٨ ، و ٦ : ٤٠ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ٦٦ ، السنن الكبرى ٧ : ٤٤٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٥ ، ونقله الحويزي في تفسير نور الثقلين ٥ : ١٤ / ١٩ ، والعلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٢ / ٢٧.


خليطُنا وكانت في إِبله لبنٌ ، فنَفِذَ مائي ، فاستسقيتهُ فأبى أن يسقِيَني حتّى أُمكَنَه من نفسي ، فأبيتُ ، فلمّا كادت نفسي تخْرُج أمكنتهُ من نفسي كُرْهاً. فقال أمير المؤمنين 7 : « الله أكبر ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (١) » فلمّا سَمِع ذلك عمر خلّى سبيلها (٢).

فصل

وِممَّا جَاءَ عَنْه 7 في مَعنْى القَضَاءِ وصَوَاب الرَّأْي ، وإِرْشَادِ القَوْمِ إِلى مَصَالِحِهِمْ وَتَدَارُكِ مَا كَادَ يَفْسُدْ بهِمْ (٣) لَولاَ تَنْبيْهُهُ عَلى وَجْهِ الرَّأْي فِيْه ؛ مَا حَدَثَ بِهِ شَبَابَةُ بْنً سَوَّار ، عن أَبي بَكْر الهُذًليّ قال : سَمِعْتُ رِجَالاً مَنْ عُلَمَائنا يقولون : تَكاتَبَتِ الأعاجِمُ مِنْ أَهْلِ هَمَذانَ وأهلِ الرَّيِّ وأهل أَصْفَهانَ وقوْمِسَ (٤) ونَهَاوَنْدَ ، وأرْسَلَ بعضُهُمْ إلى بعضٍ : أَنَّ مَلِكَ العَرَب الذَّي جاءَ بدينِهِمْ وأخْرَجَ كِتابَهًمْ قد هَلَكَ ـ يَعْنُوْنَ النبي 9 ـ وانهُ مَلَكَهُمْ مِنْ بَعْدِهِ

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ١٧٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٩ ، وروي نحوه في تفسير العياشي ١ : ٧٤ ، الفقيه ٤ : ٢٥ : التهذيب ١٠ : ٤٩ / ١٨٦ ، كنز العمال ٥ : ٤٥٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٣ / ذح ٢٧ ، و ٧٩ ، ٥٠ / ٣٦.

(٣) في « م » وهامش « ش » : يفسدهم.

(٤) قومِسُ : تعريب كومس ، وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع ، وهي في ذيل جبال طبرستان ، وقصبتها المشهورة دامغان وهي بين الري ونيسابور ، ومن مدنها المشهورة بسطام وبيار وبعض يدخل فيها سمنان. « معجم البلدان ٤ : ٤١٤ ».


رَجُل مُلْكاً يَسِيْراً ثمَّ هَلَكَ ـ يعنون أَبا بكر ـ وَقامَ بعده آخَرُ قَدْ طالَ عُمُرُهُ حتّى تَنَاولكُمْ في بلادِكُمْ وأَغْزَاكُمْ جُنُودَهُ ـ يعنون عُمَرَ بنَ الخَطَّاب ـ وأنه غيرمنتهٍ عَنكم حتى تُخرجوا من في بلادكم من جنوده ، وتخرجوا إليه فتغزوه في بلاده ، فتعاقدوا على هذا وتعاهدوا عليه.

فلمّا انتَهى الخَبَرُ إِلى مَنْ بِالكُوْفَةِ مِنَ المُسْلمين أَنهوه إلى عمربن الخَطّاب ، فلمّا انتهى إليه الخبر فزع عمر لذلك فزعاً شديداً ، ثمّ أتى مسجد رسول الله 9 فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : معاشر المهاجرين والأَنصار ، إِنّ الشيطان قد جمع لكم جُموعاً ، وأقبل بها ليطفئ نور الله ، أَلا إِن أهل همذان وأهل اصفهان والري وقُومِس ونهاوند مختلفة أَلسنتُها وأَلوانها وأَديانُها ، قد تعاهَدوا وتعاقدوا أن يُخرجوا من بلادهم إخوانكم من المسلمين ، ويخرجوا إِليكم فيغزُوكم في بلادكمْ ، فأَشيروا عليَّ وأَوجِزوا ولا تُطنبوا في القول ، فإِنَّ هذا يومٌ له ما بعده من الأيام.

فتكلّموا ، فقام طلحة بن عبيدالله ـ وكان من خطباء قريش ـ فحمد الله وأَثنى عليه ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ، قد حَنَكَتْك الأُمور ، وجَرَّستك (١) الدهور ، وعَجَمَتك البلايا ، وأَحكمتك التجارب ، وأَنت مُبارَك الأَمر ، ميمون النقيبة ، قد وليت فخَبَرت واختبرت وخُبِرت ، فلم تنكشف من عواقب قضاء الله إلاّ عن خيار ، فاحضر هذا الأَمر برأيك ولا تَغِب عنه. ثمّ جلس.

فقاك عمر : تكلّموا ، فقام عثمان بن عَفّان فحمد الله وأَثنى عليه

ــــــــــــــــــ

(١) جَرّسته الأمور. جربته وأحكمته. « الصحاح ـ جرس ـ ٣ : ٩١٣ ».


ثمّ قال : أما بعد ـ يا أمير المؤمنين ـ فإِنّي أرى أن تُشْخِص أهلَ الشام من شامهم ، وأهلَ اليمن من يمنهم ، وتسير أنت فِى أهل هذين الحرمين وأهل المصرين الكوفة والبصرة ، فتلقى جمع المشركين بجمع المؤمنين ، فإِنّك ـ يا أمير المؤمنين ـ لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقيةً ، ولا تُمَتَّع من الدنيا بعزيز ، ولا تلوذ منها بحريز ، فاحضره برأيك ولا تغب عنه. ثمّ جلس.

فقال عمر : تكلّموا ، فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب 7 : « الحمد للّه ـ حتّى تم التحميد والثناء على الله والصلاهَ على رسول الله 9 ـ ثمّ قال : أما بعد ، فانَكَ إِن أشخَصْتَ أهلَ الشام من شامهم ، سارىَ الروم إِلى ذَراريهم ؛ وإِن أشخصْتَ أهل اليمن من يمنهم ، سارت الحبشة إِلى ذَراريهم ؛ وإِن أشخصتَ مَنْ بهذين الحرمين ، انتقضتِ العُرْب عليك من أطرافها وأكنافها ، حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهمّ إِليك ممّا بين يديك. وأما ذكرُك كثرةَ العجم ورَهبتك من جُموعهم ، فإِنّا لم نكن نُقاتل على عهد رسول الله 9 بالكثرة ، وإنّما كُنّا نقاتل بالنصر ، وأمّا ما بلغك من اجتماعهم على المسير إِلى المسلمين ، فإِنّ الله لمسيرهم أكره منك لذلك ، وهو أولى بتغيير ما يكره ، وِانّ الأعاجم إِذا نظروا إِليك قالوا : هذا رجل العرب ، فإِن قطعتموه فقد قطعتم العرب ، فكان أشدّ لكَلَبهم ، وكنت قد ألّبتهم على نفسك ، وأمدّهم من لم يكن يُمدّهم. ولكنّي أرى أن تقر هؤلاء في أمصارهم ، وتكتب إِلى أهل البصرة فليتفرّقوا على ثلاث فرق : فلتَقمْ فرقةٌ منهم على ذراريهم حَرَساً لهم ، ولتَقمْ فرقةٌ في أهل عهدهم لئلا ينتقِضوا ، ولتسِرْ


فرقةٌ منهم إِلى إِخوانهم مدداً لهم » فقال عمر : أجل هذا الرأي ، وقد كنتُ أُحب أن أُتابع عليه. وجعل يكرّر قول أمير المؤمنين 7 وينسِقه إِعجاباً به واختياراً له (١).

قال الشيخ المفيد 2 : فانظروا ـ أيّدكم الله ـ إلى هذا الموقف الذي يُنبئ بفضل الرأي إِذ تنازعه أولو الألباب والعلم ، وتأمّلوا التوفيقَ الذي قرن الله به أمير المؤمنين 7 في الأحوال كلّها ، وفزع القوم إِليه في المعْضِل من الأمور ، وأضيفوا ذلك إِلى ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين الذي أعجز متقدّمي القوم حتّى اضطرّوا في علمه إِليه ، تجدوه من باب المعجز الذي قدّمناه ، والله وليّ التوفيق.

فهذا طرف من موجز الأخبار فيما قضى به أمير المؤمنين 7 في إِمارة عمر بن الخَطّاب ، وله مثل ذلك في إمارة عثمان بن عفان.

فصل

فمن ذلك ما رواه نقلة الآثارمن العامّة والخاصّة : أن امرأَة نكحها شيخٌ كبير فحملت ، فزعم الشيخ أنّه لم يصل إِليها وأنكر حملها ، فالتبس الأمر على عثمان ، وسأل المرأة هل اقتضّك الشيخ؟ وكانت

ــــــــــــــــــ

(١) انظر : تاريخ الطبري ٤ : ١٢٤ ، الفتوح لابن اعثم ١ : ٢٨٧ ـ ٢٩٢ بتفصيل ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٣ / ٢٨.


بكراً فقالت : لا ، فقال عثمان : أقيموا الحَدَّ عليها. فقال أمير المؤمنين 7 : « إِنّ للمرأة سَمّين : سمّ المحيض وسمّ البول ، فلعلّ الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سمّ المحيض فحملت منه ، فاسألوا الرجل عن ذلك » فسئل فقال : قد كنت أُنزل الماء في قُبُلها من غير وصول إِليها بالاقتضاض ، فقال أمير المؤمنين 7 : « الحمل له والولد ولده ، وأرى عقوبته على الإنكار له » فصار عثمان إِلى قضائه بذلك وتعجّب منه (١).

وروَوْا : أنّ رجلاً كانت له سريّة فأولدها ، ثمّ اعتزلها وأنكحها عبداً له ، ثمّ توفّي السيد فَعُتِقَتْ بملك ابنها لها ، فورث ولدُها زوجَها ، ثمّ توفّي الأبن فورثت من ولدها زوجَها ، فارتفعا إلى عثمان يختصمان تقول : هذا عبدي ، ويقول : هي امرأتي ولستُ مفرجاً عنها ، فقال عثمان : هذه قضية مشكلة ، وأمير المؤمنين حاضر فقال : « سلوها هل جامعها بعد ميراثها له؟ » فقالت : لا ، فقال : « لو أعلم أنّه فعل ذلك لعذّبته ، إِذهبي فإِنه عبدك ليس له عليك سبيل ، إن شئت أن تسترقيه أوتعتقيه أو تبيعيه فذاك لك » (١).

وروَوْا : أَنّ مكاتبة زنت على عهد عثمان وقد عُتِق منها ثلاثة أرباع ، فسأل عثمان أمير المؤمنين 7 فقال : « يُجْلَد منها بحساب الحُريّة ، ويجْلد منها بحساب الرِقّ ».

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٦ / ٢٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٧ / ضمن ح ٢٩.


وسأل زيد بن ثابت فقال : تُجْلد بحساب الرِقّ ، فقال له أمير المؤمنين 7 : كيف تُجْلد بحساب الرق وقد عُتِق منها ثلاثة أرباعها؟ وهَلا جَلَدْتَها بحساب الحرية فإِنّها فيها أكثر! » فقال زيد : لو كان ذلك كذلك لوجب توريثُها بحساب الحُرّية فيها ، فقال له أمير المؤمنين 7 : « أجل ذلك واجب » فأُفحِم زيد ، وخالف عثمان أمير المؤمنين 7 وصار إِلى قول زيد ، ولم يُصْغِ إلى ما قال بعد ظهور الحجّة عليه (١) ، وأمثال ذلك ممّا يطول بذكره الكتاب ، وينتشر به الخطاب.

فصل

وكان من قضاياه 7 بعد بيعة العامّة له ومضي عثمان ابن عَفّان على ما رواه أهل النقل من حملة الآثار : أنّ امرأةً ولدت على فراش زوجها ولداً له بدنان ورأسان على حَقْوٍ (٢) واحد ، فالتبس الأمر على أهله أهو واحد أم اثنان؟ فصاروا إِلى أمير المؤمنين 7 يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه ، فقال لهم أمير المؤمنين 7 : « اعتبروه إِذا نام ثمّ أنبهوا أحد البدنين والرأسين ، فإِن انتبها جميعاً معاً في حالة واحدة فهما إِنسان واحد ، وإن استيقظ أحدهما والاخر نائم ، فهما

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٧ / ذح ٢٩ و ٧٩ ، ٥٠ / ٣٧.

(٢) الحقو : الخصر ومحل شد الإزار. « الصحاح ـ حقا ـ ٦ : ٢٣١٧ ».


اثنان وحقّهما من الميراث حقّ اثنين » (١).

وروى الحسن بن علي العبدي ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ ابن نُباتَة قال : بينا شرَيح في مجلس القضاء إِذ جاءه شخص فقال : يا أبا أُميّة أخْلِني فإِنّ لي حاجة ، قال فأمر من حوله أن يخِفّوا عنه ، فانصرفوا وبقي خاصّةُ من حضر ، فقال له : اذكر حاجتك ، فقال : يا أبا أمية إِنّ لي ما للرجال وما للنساء ، فما الَحكم عندك فيَّ أرجلٌ أنا أم امرأة؟ فقال له : قد سمعت من أمير المؤمنين 7 في ذلك قضيةً أنا أذكرها ، خبّرني عن البول من أيّ الفرجين يخرج؟ قال الشخص : من كليهما ، قال : فمن أيّهما ينقطع؟ قال : منهما معاً ، فتعجّب شُرَيح ، فقال الشخص : سأُورد عليك من امري ما هو أعجب ، قال شُرَيح : وما ذاك؟ قال : زوّجني أبي على أنّني امرأة فحملت من الزوج ، وابتعطَ جاريةً تخدمني فأفضيت إِليها فحملت منّي.

قال : فضرب شرَيح إِحدى يدَيْه على الاخرى متعجّباً وقال : هذا أمر لا بد من إِنهائه إِلى أمير المؤمنين 7 ، فلا علم لي بالحكم فيه. فقام وتبعه الشخص ومن حضرمعه حتّى دخل على أمير المؤمنين 7 فقصّ عليه القصّة ، فدعا أميرُ المؤمنين 7 بالشخص فساله عمّا حكاه شُرَيح فأقرّ به ، فقال له : « ومن زوجك؟ » قال : فلان ابن فلان ، وهو حاضر في المصر ، فدُعي وسئل عمّا قال : فقال : صدق ، فقال أمير المؤمنين 7 : « لأنت أجرأ من صائد الأسد ، حين تقدم على هذا الحال » ثمّ دعا قنبراً مولاه فقال :

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٧ / ٤٠ ، و ١٠٤ : ٣٥٤ / ٣.


« أدخل هذا الشخص بيتاً ومعه أربع نسوة من العدول ، ومرهن بتجريده وعَدّ أضلاعه بعد الاستيثاق من ستر فرجه » فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، ما آمن على هذا الشخص الرجال والنساء ، فأمر أن يشدّ عليه تُبّان (١) وأخلاه في بيت ، ثمّ ولجه فعدّ أضلاعه ، فكانت من الجانب الأيسر سبعة ، ومن الجانب الأيمن ثمانية ، فقال : « هذا رجل » وأمر بطمّ (٢) شعره ، وألبسه القلنسوة والنعلين والرداء ، وفرّق بينه وبين الزوج (٣).

وروى بعض أهل النقل : انّه لمّا ادّعى الشخص ما ادّعاه من الفرجين ، أمر أمير المؤمنين 7 عدلين من المسلمين أن يَحْضرا بيتا خالياً ، وأحْضَرَ الشخصَ معهما ، وأمر بنصب مِرآتين : أحدهما مقابلة لفرج الشخص والأخرى مقابلة للمرآة الاُخرى ، وأمر الشخصَ بالكشف عن عورته في مقابلة المراة حيث لا يراه العدلان ، وأمر العدلين بالنظر في المرآة المقابلة لها ، فلمّا تحقّق العدلان صحّةَ ما ادّعاه الشخص من الفرجين ، اعْتُبر حالُه بعدّ أضلاعه ، فلمّا ألحقه بالرجال أهْمَلَ قولَه في ادعاء الحمل وألغاه ولم يَعْمَل به ، وجعل حمل الجارية منه وألحقه به (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) التُبّان : سراويل صغيرة مقدار شبر ، ليستر العورة المغلظة فقط. « الصحاح ـ تبن ـ ٥ : ٢٠٨٦ ».

(٢) طم الشعر : قصّه. « الصحاح ـ طمم ـ ١٩٧٦ ».

(٣) روي نحوه في أخبار القضاة ٢ : ١٩٧ ، دعائم الإسلام ٢ : ٢٨٧ ، الفقيه ٤ : ٢٣٨ / ٧٦٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٦ ، مناقب الخوارزمي : ١٠١ / ١٠٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٨ / و ١٠٤ : ٣٥٣ / ١.

(٤) مناقب ال أبي طالب ٢ : ٣٧٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٩ ، و ١٠٤ :


وروَوْا : أنّ أمير المؤمنين 7 دخل ذات يوم المسجد ، فوجد شابّاً حَدَثاً يبكي وحوله قوم ، فسأل أميرالمؤمنين 7 عنه ، فقال : إِنّ شُرَيحاً قضى عليَّ بقضية لم يُنْصِفْني فيها ، قال : « وما شأنُك؟ » قال : إِنّ هؤلاء النفر ـ وأومأ إِلى نفر حضُور ـ أخرجوا أبي معهم في سفر ، فرجعوا ولم يَرْجع ، فسألتهُم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله الذي استصحبه ، فقالوا : ما نَعْرِف له مالاً ، فاستحلفهم شريح وتقدّم إِليّ بترك التعرّض لهم.

فقال أَمير المؤمنين 7 لقَنْبَر : « إِجمع القوم وادعُ لي شُرَط الخميس » (١) ثمّ جلس ودعا النفر والحَدَث معهم ، فسأله عمّا قال ، فأعاد الدعوى وجعل يَبْكي ويقول : أنا والله أتّهمهم على أبي يا أمير المؤمنين ، فإِنّهم احتالوا عليه حتى أخرجوه معهم ، وطَمِعُوا في ماله. فسأل أمير المؤمنين 7 القوم ، فقالوا كما قالوا لشريح : مات الرجل ولا نعرف له مالاً ، فنظر في وجوههم ثمّ قال لهم : « ماذا؟ أتظنّون أني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى! إِنّي إذاً لقليل العلم ».

ثمّ أمربهم أن يُفَرَّقوا ، فَفُرِّقوا في المسجد ، وأُقيم كلُّ رجل منهم إِلى جانب أُسطوانة من أساطين المسجد ، ثم دعا عُبَيْدالله بن أبي رافع كاتبه يومئذ فقال له : « اجلس » ثمّ دعا واحداً منهم فقال له : « أخبرني ولا تَرْفَع صوتَك ، في أيّ يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الغلام معكم؟ » فقال : في يوم كذا وكذا ، فقال لعبيدالله : « أُكتب » ثم قال

ــــــــــــــــــ

٣٥٤ / ٢.

(١) في هامش « ش » و « م » : شرط الخميس كانوا خمسة آلاف رجل ، اشترطوا مع أمير المؤمنين 7 أن يقاتلوا دونه حتى يقتلوا.


له : « في أيّ شهر كان؟ » قال : في شهر كذا ، قال : « أُكتب » ثمّ قال : « في أيّ سنة؟ » قال : في سنة كذا ، فكتب عُبَيْدالله ذلك ، قال : « فبأيّ مرضٍ مات؟ » قال : بمرض كذا ، قال : « ففي أيّ منزل مات؟ » قال : في موضع كذا ، قال : « من غَسَله وكفّنه؟ » قال : فلان ، قال : « فبمَ كَفَّنتموه؟ » قال : بكذا ، قال : « فمن صلّى عليه؟ » قال : فلان ، قال : « فمن أدخله القبر؟ » قال : فلان ، وعُبَيْدالله بن أبي رافع يكتب ذلك كلّه ، فلمّا انتهى إقرارُه إِلى دفنه ، كبّر أمير المؤمنين 7 تكبيرةً سَمِعها أهلُ المسجد ، ثمّ أمر بالرجل فرُدّ إلى مكانه.

ودعا بآخر من القوم فأجلسه بالقرب منه ، ثُمّ سأله عمّا سأل الأول عنه ، فأجاب بما خالف الأوّلَ في الكلام كلِّه. وعُبَيْدالله بن أبي رافع يكتب ذلك ، فلمّا فرغ من سؤاله كبّرتكبيرةً سَمِعها أهلُ المسجد ، ثمّ أمر بالرجلين جميعاً أن يُخْرَجا عن المسجد نحو الحَبْس (١) ، فيوقَفَ بهما على بابه.

ئمّ دعا بثالث فسأله عمّا سأل الرجلين فحكى خلافَ ما قالا ، وأثبِتَ ذلك عنه ، ثمّ كبّر وأمر بإخراجه نحو صاحبَيْه.

ودعا برابع من القوم فاضطرب قولُه ولجلج ، فوعَظه وخَوَّفه فاعترف أنّه وأصحابه قتلوا الرجل وأخذوا ماله ، وأنّهم دفنوه في موضع كذا وكذا بالقُرب من الكوفة ، فكبّرأميرُ المؤمنين 7 وأمر به إِلى السِجْن.

واستدعى واحداً من القوم فقال له : « زَعَمْتَ أنّ الرجل مات

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : السجن.


حتفَ أَنفه وقد قتلتَه ، اصْدُقني عن حالك ، وإلاّ نكّلت بك ، فقد وَضَحَ لي الحقّ في قِصّتكم » فاعترف من قتل الرجل بما اعترف به صاحبه ، ثمّ دعا الباقين فاعترفوا عنده بالقتل وسقط في أَيَديهم ، واتّفقت كلِمتُهم على قتل الرجل وأَخذ ماله. فأمر من مضى مع بعضهم إلى موضع المال الذي دفنوه ، فاستخرجه منه وسلّمه إلى الغلام ابنِ الرجل المقتول ، ثمّ قال له : « ما الذي تريد؟ قد عرفكت ما صنع القوم بأبيك » قال : أُريد أن يكون القضاء بيني وبينهم بين يدي الله عزّوجلّ ، وقد عفوتُ عن دمائهم في الدنيا ، فدرأ عنهم أَميرُ المؤمنين 7 حدَّ القتلِ وأنهكهم عقوبةً.

فقال شريح : يا أميرَ المؤمنين كيف هذا الحكم؟ فقال له : « إِنّ داود 7 مَرّ بغلمان يلعبون وينادون بواحد منهم : يا ماتَ الدين قال : والغلامُ يُجيبهم ، فدنا داودُ 7 منهم فقال له : يا غلامُ ما اسمك؟ قال : اسمي ماتَ الدين ، قال له داود : ومن سمّاك بهذا الاسم؟ قال : أُمّي ، فقال له داود 7 : وأين أُمّك؟ قال : في منزلها ، فقال داود 7 : اِنطلق بنا إلى أمّك ، فانطلق به إليها فاستخرجها من منزلها فخرجت ، فقال : يا أَمة الله ما اسم ابنك هذا؟ قالت : اسمُه ماتَ الدين ، قال لها داود : من سمّاه بهذا الاسم؟ قالت : أبوه قال : وما كان سبب ذلك؟ قالت : إنّه خرج في سفر له ومعه قوم ، وأنا حامل بهذا الغلام ، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي معهم ، فسألتُهم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله فقالوا : ما ترك مالاً ، فقلت لهم : فهل وصّاكم بوصيةٍ؟ قالوا : زعم أنّكِ حُبلى ، فإن ولدتِ جاريةً أو غلاماً فسمّيه ماتَ الدين ، فسمّيته كما


وصّى ولم أُحِبّ خلافَه ، فقال لها داود 7 : فهل تَعرِفين القوم؟ قالت : نعم ، قال لها داود : اِنطلقي مع هؤلاء ـ يعني قوماً بين يديه ـ فاستخرجيهم من منازلهم ، فلمّا حضروه حكم فيهم بهذه الحكومة ، فثبت عليهم الدم ، واستخرج منهم المال ، ثمّ قال لها : يا أَمةَ الله سمّي ابنَك هذا بعاشَ الدين » (١).

ورووا : أن امرأة هَويت غلاماً فراوَدَتْه عن نفسه فامتنع الغلامُ ، فمضت وأَخذت بيضةً فألقست بياضها على ثوبها ، ثمّ عَلِقَتْ بالغلام ورَفعَتْه إلى أمير المؤمنين 7 وقالت : إِنّ هذا الغلام كابرني على نفسي وقد فضحني ، ثمّ أخذت ثيابها فأرَت بياضَ البيض وقالت : هذا ماؤه على ثوبي ، فجعل الغلام يبكي ويبرأ ممّا ادّعته وَيحلف ، فقال أمير المؤمنين 7 لقنبر : « مُرْ من يغلي ماءً حتى تشتدّ حرارتُه ، ثمّ لتأتني به على حاله » فجِيء بالماء ، فقال : « ألقوه على ثوب المرأة » فألقوه عليه فاجتمع بياض البيض والتأم ، فأمر بأخذه ودفعه إلى رجلين من أصحابه فقال : « تَطَعّماه والفظاه » فتطعّماه فوجداه بيضاً ، فأمر بتخلية الغلام وجلد المرأة عقوبةً على ادعائها الباطل (٢).

وروى الحسن بن محبوب قال : حدّثني عبد الرحمن بن الحجاج

ــــــــــــــــــ

(١) روي نحوه في الكافي ٧ : ٣٧١ / ٨ ، الفقيه ٣ : ١٥ / ٤٠ ، التهذيب ٦ : ٣١٦ / ٨٧٥ مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٩.

(٢) كنز الفوائد ٢ : ١٨٣ ، ونحوه في الكافي ٧ : ٤٢٢ ، التهذيب ٦ : ٣٠٤ / ٨٤٨ ، خصائص الرضي : ٨٢ وفيها : في زمن خلافة عمر ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٣ / ٣١.


قال : سمعت ابن أَبي ليلى يقول : قضى أمير المؤمنين 7 بقضيةٍ ما سبقه إليها أَحد ، وذلك أَنَّ رجلين اصطحبا في سفرفجلسا يتغدّيان ، فأخرج أَحدُهما خمسةَ أَرْغِفَة وأخْرج الاخَرُ ثلاثَةَ ارغفة ، فمرَّ بهما رجلٌ فسلّم فقالا له : الغداء ، فجلس معهما يأكل ، فلمّا فَرَغ من أَكله رمى إليهما ثمانيةَ دراهم وقال لهما : هذه عوَضٌ عمّا أَكلتُ من طعامكما ، فاختصما وقال صاحب الثلاثة : هذه نصفان بيننا ، وقال صاحبُ الخمسة : بل لي خمسة ولك ثلاثة ، فارتفعا إِلى أميرالمؤمنين 7 وقصّا عليه القِصّة ، فقال لهما : « هذا أَمرٌ فيه دَناءة ، والخُصومة غيرُ جميلة فيه ، والصلح أَحسن » فقال صاحبُ الثلاثة الأَرغفة : لست أَرضى إلاّ بمُرّ القضاء ، فقال أمير المؤمنين 7 : « فإِذا كنتَ لا ترضى إلاّ بمُرّ القضاء ، فإن لك واحداً من ثمانية ولصاحبك سبعة » فقال : سبحانَ الله ، كيف صار هذا هكذا؟ فقال له : « أُخبرك ، أليس كان لك ثلاثة أرغفة؟ » قال : بلى ، قال : « ولصاحبك خمسة أرغفة » قال : بلى ، قال : « فهذه أربعة وعشرون ثُلثاً ، أكلمت أنتَ ثمانية ، وصاحبك ثمانية ، والضيف ثمانية ، فلما أعطاكم الثمانية كان لصاحبك سبعة ، ولك واحد » فانصرف الرجلان على بصيرة من أمرهما في القَضيّة (١).

وروى علماءُ السيرة : أنّ أربعةَ نَفرٍ شَرِبوا المُسْكِر على عَهْد أمير المؤمنين 7 فسَكِروا فتباعجوا بالسَكاكين ، فنال الجِراحُ كلَّ

ــــــــــــــــــ

(١) روي نحوه في الكافي ٧ : ٤٢٧ / ١٠ ، الفقيه ٣ : ٢٣ / ٦٤ ، الاختصاص : ١٠٧ ، التهذيب ٦ : ٢٩٠ / ٨٠٥ ، كنز الفوائد ٢ : ٦٩ ، الاستيعاب ٣ : ٤١ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٥٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٣ / ٣٢.


واحدٍ منهم ، ورُفِع خبرُهم إِلى أمير المؤمنين 7 فأمر بحبسهم حتى يفيقوا ، فمات في الحبس منهم اثنان وبقي منهم اثنان ، فجاء قوم الاثنين إِلى أمير المؤمنين 7 ، فقالوا : أقِدْنا من هذين النفسين فإِنّهما قتلا صاحبَيْنا ، فقال لهم : « وما علمكم بذلك؟ ولعلّ كلّ واحد منهما قتل صاحبه » فقالوا : لا ندري ، فاحكُمْ فيها بما علّمك الله ، فقال 7 : « دِيَة المقتولَيْن على قبائل الأربعة بعد مُقاصّة الحيَّيْن منها بدية جِراحهما » (١).

فكان ذلك هو الحكم الذي لا طريق إلى الحقّ في القضاء سواه ، ألا ترى أنّه لأ بَيّنة على القاتل تُفْرِده من المقتول ، ولا بَيّنة على العَمْد في القتل ، فلذلك كان القضاء فيه على حكم الخطأ في القتل ، واللَّبس في القاتل دون المقتول.

وروَوْا : أنّ ستةَ نَفر نزلوا في الفرات فتغاطّوا فيها لَعِباً ، فغَرِق واحد منهم ، فشَهِد اثنان على ثلاثةٍ منهم أنّهم غرّقوه ، وشَهد الثلاثة على الاثنين أنّهما غَرّقاه ، فقض 7 بالدية أخماساً على الخمسة النفر ، ثلاثةٌ منها على الاثنين بحساب الشهادة عليهما ، وخُمسان على الثلاثة بحساب الشهادة أيضاً. ولم يكن في ذلك قضيّة أحقّ بالصواب ممّا قضى به 7 (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) ذكره باختلاف يسير في الفقيه ٤ : ٨٧ / ٢٨٠ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٤٠ / ٩٥٥ ، وأورد نحوه في مناقب ال أبي طالب ٢ : ٣٨٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٤ / ٣٣ ، ١٠٤ : ٣٩٤ / ٣٤.

(٢) روي باختلاف يسير في الكافي ٧ : ٢٨٤ / ٦ ، الفقيه ٤ : ٨٦ / ٢٧٧ ، تهذيب الاحكام ١٠ : ٢٣٩ / ٩٥٣ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٨٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار


وروَوْا : أن رجلاً حضرته الوفاة فوصّى بجُزء من ماله ولم يُعَيّنه ، فاختلف الوُرّاث بعده في ذلك ، وترافعَوا إلى أمير المؤمنين 7 فقضى عليهم بإخراج السُبع من ماله وتلا 7 قولَه عزّ اسمه : ( لَهَا سَبْعَةُ اَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْء مَقْسُومٌ ) (١) (٢).

وقضى 7 في رجل وَصّى عند الموت بسَهْم من ماله ولم يُبَيّنه ، فلمّا مضى اختلف الوَرثة في معناه ، فقضى 7 بإِخراج الثًمن من ماله ، وتلا قولَه جلت عَظَمته : ( اِنّما ألصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء والمساكينِ وَالعَامِلينَ عَلَيْهَا ) (٣) إلى آخر الآية ، وهم ثمانيةُ أصناف لكل صنفٍ منهم سَهْمٌ من الصدقات (٤).

وقضى 7 في رجل وَصّى فقال : اعتقوا عني كلّ عبد قديم في ملْكي ، فلمّا مات لم يَعْرِف الوصيّ ما يَصْنَع ، فساله عن ذلك فقال : « يعْتِقَ عنه كلَّ عبدٍ له في ملكه ستّة أشهُر » وتلا قوله تعالى : ( وَالْقَمَرَ قَدَرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديم ) (٥) وقد ثبت أنّ العُرْجون إنّما ينتهي إلى الشبه بالهلال في تقوّسه وضؤولته بعد ستّة

ــــــــــــــــــ

٤٠ : ٢٦٤ / ذح ٣٣ و ١٠٤ : ٣٩٥ / ذح ٣٤.

(١) الحجر١٥ : ٤٤.

(٢) روي نحوه في كنز الفوائد ٢ : ٩٩ ، مناقب ال أبي طالب ٢ : ٣٨٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٥ / ٣٤.

(٣) التوبة ٩ : ٦٠.

(٤) روي نحوه في كنز الفوائد ٢ : ٩٩ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٨٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٥ / ٣٤.

(٥) يس ٣٦ : ٣٩.


أشهُرمن أخذ الثمرة منه (١).

وقضى 7 في رجل نذرأن يصوم حيناً ولم يُسَمّ وقتاً بعينه ، أن يصوم ستّة أشهر ، وتلا قوله تعالى ذكره : ( تُؤْتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بإِذْنِ رَبِّهَا ) (٢) وذلك في كلّ ستة أشهر (٣).

وجاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّه كان بين يدي تمر ، فبدرت زوجَتي فأخذت منه واحدةً فألقتها في فيها ، فحلفْتُ أنها لا تأكلها ولا تَلْفِظها ، فقال أمير المؤمنين 7 : « تأكل نصفها وترمي نصفها ، وقد تخلّصْتَ من يمينك » (٤).

وقضى 7 في رجل ضرب امرأة فألقت عَلَقَةً أنّ عليه ديتها أربعين ديناراً ، وتلا قوله عزّ وجلّ ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا ألنّطْفَةَ عَلَقَةً فخًلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فخلقنا المضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحمَاً ثُمَّ أنْشأناه خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَك اللهُ اَحْسَنُ الْخَالِقينَ ) (١) ثمّ قال : « في النُطْفة عشرون ديناراً ، وفي العَلَقَة أربعون ديناراً ، وفي المُضْغَة ستّون ديناراً ، وفي العَظْم قَبْلَ أن يستوي خَلْقاً ثمانون ديناراً ، وفي الصورة قبل أن

ــــــــــــــــــ

(١) كنز الفوائد ٢ : ٩٩ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٨٢ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٥.

(٢) ابراهيم ١٤ : ٢٥.

(٣) ورد مختصراً في تفسير العياشي ٢ : ٢٢٤ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٨٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٦ / ذح ٣٤.

(٤) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٦ / ٣٥.

(٥) المؤمنون ٢٣ : ١٢ ـ ١٤.


تلِجَها الروح مائةُ دينار ، وإذا وَلجتها (١) الروح كان فيها ألفُ دينار » (٢).

فهذا طرف من ذكر قضاياه 7 وأحكامه الغريبة التي لم يَقْضِ بها أحدٌ قبله ، ولا عرفها من العامّة والخاصّة أحد إلاّ عنه ، واتّفقت عترته على العمل بها ، ولو مُني غيره بالقول فيها لظهر عجزه عن الحقّ في ذلك ، كما ظهر فيما هو أوضح منه ، وفيما أثبتناه من قضاياه على الاختصار كفاية فيما قصدناه إن شاء الله.

فصل

في مختصر من كلامه 7

في وجوب المعرفة بالله والتوحيد له ونفي التشبيه عنه

والوصف لعدله وصُنوف الحكمة والدلائل والحجّة

فمن ذلك ما رواه أبو بكر الهُذَليّ ، عن الزهري وعيسى بن يزيد ، عن صالح بن كيسان : أنّ أميرَ المؤمنين 7 قال في الحَثّ على معرفة الله تعالى والتوحيد له : « أوّلُ عبادةِ الله معرفتُه ، وأصلُ معرفته توحيدُه ، ونظامُ تَوْحيدِه نفيُ التشبيه عنه ، جَلَّ عَنْ أنْ تَحلّه الصفات ، لشهادة العقُول أنَّ كلَّ مَنْ حَلّته الصفات مصنوعٌ ، وشهادةِ العقول أنّه ـ جَلّ جلالُه ـ صانع ليس بمصنوع ، بصُنْع الله يُسْتدَلّ

ــــــــــــــــــ

(١) في الاصل : ولجها ، واثبتنا ما في نسخة البحار.

(٢) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٦ / ذ ح ٣٥ و ١٠٤ : ٤٢٦ / ٧.


عليه ، وبالعقول تُعْتَقَد معرفتُه ، وبالنظر تَثْبُتُ حجَّتُه ، جَعَل الخلقَ دليلاً عليه ، فكشَفَ به عن رُبُوبيّته ، هو الواحد الفَرْد في أزَليّته ، لا شريكَ له في إلهيّته ، ولأ نِدّ له في ربُوبيّته ، بمضُادّته بينَ الأشياءِ المتَضادة عُلِمَ أنْ لا ضِدَّ له ، وبمُقارَنَته بينَ الأمور المُقْترِنة عُلِمَ أنْ لا قرينَ له » (١).

في كلام يطول بإِثباته الكتاب.

وممّا حفظ عنه 7 في نفي التشبيه عن الله عزّ اسمه ، ما رواه الشعبي قال : سمع أميرُ المؤمنين 7 رجلاً يقول : والذي احْتَجَب بسبع طباق ، فعلاه بالدرّة (٢) ، ثمّ قال له : « يا ويلك ، إنّ الله أجلّ من أن يحتجب عن شيء ، أويحتجب عنه شيء ، سبحان الذي لا يَحْوِيه مكان ، ولا يَخْفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء » فقال الرجل : أفأُكَفِّر عن يميني ، يا أميرَ المؤمنين؟ قال : « لا لَمْ تحلف بالله فتَلْزَمُك كفّارة ، وانّما حلفتَ بغيره » (٣).

وروى أهل السيرة وعلماء النقلة : انّ رجلاً جاء إِلى أميرالمؤمنين 7 فقال له : يا أميرالمؤمنين ، خبّرني عن الله تعالى ، أرأيته حين

ــــــــــــــــــ

(١) وردت الخطبة في الاحتجاج : ٢٠٠ ، وباختلاف يسير في تحف العقول : ٤٣ ، وبعضها في الكافي ١ : ١٠٨ / ٤ ، التوحيد : ٣٠٨ ، وامالي المرتضى ١ : ١٠٣ ، ونهج البلاغة ٢ : ١٤٤ / ١٨١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤ : ٢٥٣.

(٢) الدِرّة : التي يًضرب بها « الصحاح ـ درر ـ ٢ : ٦٥٦ ».

(٣) ورد نحوه في الغارات ١ : ١١٢ ، والتوحيد : ١٨٤ ، ونثر الدر ١ : ٢٩٦ ، وذكره المؤلف باختلاف يسير في الفصول المختارة : ٣٨ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣ : ٣١٠ / ٣ و ١٠٤ : ٢٠٥ / ١.


عبدتَه؟ فقال له أمير إلمؤمنين 7 : « لم أكُ بالذي (١) أعْبُدُ مَنْ لم أرَه » فقال له : كيف رأيتَه؟ فقال له : « يا وَيحَك لم تَرَه العيون بمشاهَدَة الأبصار ، ولكنْ رأته القلوب بحَقائق الإيمان ، معروفٌ بالدِلالات ، منعوتٌ بالعلامات ، لا يُقاس بالناس ، ولا تُدركه الحواسّ » فانصرف الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالاته (٢).

وفي هذا الحديث دليل على أنّه 7 كان ينفي عن الله سبحانه رؤية الأبصار.

وروى الحسن بن أبي الحسن البصري قال : جاء رجل إِلى أمير المؤمنين 7 بعد انصرافه من حرب صِفّين فقال له : يا أمير المؤمنين ، خَبِّرنا عمّا كان بيننا وبين هؤلاء القوم من الحرب ، أكان ذلك بقضاء من الله تعالى وقَدَر؟ فقال له أمير المؤمنين 7 : « ما عَلَوْتم تَلْعَةً ولا هَبَطْتُم وادياً ، إلاّ وللهّ فيه قضاء وقَدَر » فقال الرجل : فعند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين ، فقال له : « ولِمَ؟ » قال : إذا كان القضاء والقدر ساقانا إلى العمل ، فما وجهُ الثواب لنا على الطاعة؟ وما وجهُ العقاب لنا على المعصية؟ فقال له أمير المؤمنين 7 : « أوَظَنَنْت يا رجَلُ أنّه قضاء حَتْم ، وقدرٌ لازم ، لا تظُنَّ ذلك فإِنّ القولَ به مقالُ عَبَدَةِ الأوثان ، وحِزْب الشيطان ، وخُصَماء الرحمن ، وقَدَريَةِ هذه الأُمّةِ ومَجُوسِها ، إِنّ الله جلَّ جلاله أمَرَ تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وكلّف يَسيراً ، ولم يُطَع مُكْرهاً ، ولم يًعْصَ مغلوباً ،

ــــــــــــــــــ

(١) بالذي : سقطت من « ش » و « م » واثبتناها من « ح ».

(٢) الاحتجاج : ٢٠٩ ، وامالي المرتضى ١ : ١٠٤ ، وفيه : عن الامام الصادق 7. ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤ : ٣٢ / ٨.


ولم يَخْلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً ( ذَلِكَ ظَنُّ ألذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النار ) (١) » فقال له الرجل : فما القضاء والقَدَر الذي ذكرتَه يا أمير المؤمنين؟ قال : « الأمرُ بالطاعة ، والنهيُ عن المعصية ، والتمكينُ من فعل الحسنة وترك السيئة ، والمعونةُ على القربة إِليه ، والخِذْلانُ لمن عصاه ، والوعدُ والوعيدُ والترغيبُ والترهيبُ ، كلُّ ذلك قضاء الله في أفعالِنا وقدرهُ لأعمالِنا ، فأمّا غيرذلك فلا تظنّه ، فإِنّ الظن له مُحبِط للأعمال » فقال الرجل : فرّجتَ عنّي يا أميرَ المؤمنين فرَّج الله عنك ، وأنشأ يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يومَ المَآب مِنَ الرَّحمن غفْرانا

أوضحتَ مِنْ دينِنا ما كان مُلْتَبِساً

جزاك ربًك بالإحسانِ إحسانا (٢)

وهذا الحديث موضح عن قول أمير المؤمنين 7 في معنى العدل ، ونفي الجبر ، وِاثبات الحكمة في أفعال الله تعالى ، ونفي العبث عنها.

ــــــــــــــــــ

(١) ص ٣٨ : ٢٧.

(٢) التوحيد : ٣٨٠ ، عيون أخبار الرضا 7 ١ : ١٣٨ ، مصباح الأنوار : ١٨٧ ، الفصول المختارة : ٤٢ ، تحف العقول : ٣٤٩ ، الاحتجاج : ٢٠٨ باختلاف في الالفاظ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار٥ : ١٢٥ / ٧٤.


فصل

ومن كلامه 7 في مدح العلماء

وتصنيف الناس وفضل العلم والحكمة

ما رواه أهل النقل عن كُمَيل بن زياد ; أنّه قال : أخذ بيدي أميرُ المؤمنين 7 ذاتَ يوم من المسجد حتّى أخْرَجَني منه ، فلمّا أصْحَرَ تَنَفّس الصُعَداء ثمّ قال : « يا كميل ، إِنّ هذه القلوب أوعِيَةٌ ، فخيرُها أوعاها ، احفَظْ عنّي ما أقولُ :

الناسُ ثلاثة : عالمٌ ربّاني ، ومُتعلِّم على سبيل نَجاة ، وهَمَج رَعاع أَتباعُ كلِّ ناعقٍ ، يميلون مع كلِّ ريحٍ ، لم يَسْتضيؤوا بنور العلم ، ولم يَلجؤوا إِلى رُكنٍ وَثيقٍ.

يا كميل ، العلم خيرٌ من المال ، العلمُ يَحْرسك ، وأنت تَحْرس المال ، والمال تَنْقُصُه النفقة ، والعلم يَزْكو على الإنفاق.

يا كميل ، صُحْبَة العالم (١) دِينٌ يُدان به ، وبه تَكْمِلةُ الطَاعَة في حَياته ، وجميلُ الأحدُوثَةِ بعد مَوْته ، والعلم حاكم والمال محكوم عليه.

يا كميل ، مات خُزّان الأموال وهم أحياء ، والعلماءُ باقون ما

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : محبة العالم.


بقيَ الدَهر ، أعيانُهم مفقودةٌ وأمثالهُم في القلوب موجودة ، هاه هاه إِنّ هاهنا علماً جَمّاً ـ وأشار بيده إِلى صدره ـ لوأصَبتُ له حَمَلَةً ، بل أُصيب لَقِناً غيرَ مأمونٍ ، يَسْتَعمِلُ الة الدين للدنيا ، ويستظهرُ بحُجَج الله على أوليائه ، وبنِعَمِه على كتابه ؛ أومُنْقاداً للحكمة لا بصيرةَ له في اخباته ، يَقْدَحُ الشكً له في قلبه بأوّل عارضٍ من شبهة ، ألا لاذا ولا ذاك ، فمنهوم (١) باللذاتِ سَلِسُ القِياد للشهوات ، أو مُغْرم (٢) بالجمع والادّخار ، ليسا منِ رُعاة الدين ، أقربُ شَبَهاً بهما الأنعامُ السائِمة ، كذلك يَموت العلم بموت حامليه ، اللّهم بلى ، لا تَخْلُو الأرضُ من حجّة لك على خلقك ، إِمّا ظاهراً معلوماً أو خائِفاً ( مغموراً ، لئلا ) (٣) تبْطُل حُججك وبيناتُك ، وأين أُولئك؟ الأقلَّون عَدَداً ، الأعظمون قَدْراً ، بهم يَحْفَظُ اللهُ تعالى حُجَجَه حتّى يوُدِعوها قلوبَ أشباههم ، هَجَمَ بهم العلمُ على حقائق الايمان ، فاستلانوا رُوْحَ اليقين ، فأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون ، واستلانوا ما استَوْعَره المُتْرَفون ، صَحِبُوا الدنيا بأبدان أرواحُها معلّقةٌ بالمحلّ الأعلى ، أُولئك خلفاءُ الله في أرضه ، وحُجَجُه على عباده ـ ثمّ تنفس الصعداء وقال ـ هاه هاه ، شَوْقاً إِلى رُؤيتهم » ونَزَع يده عن يدي وقال لي : « انصَرِفْ إِذا شئت » (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : فمنهوماً.

(٢) في « م » وهامش « ش » : مغرماً.

(٣) في هامش « ش » : مغلوباً كي لا.

(٤) الغارات ١ : ١٤٨ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٥ ، العقد الفريد ٢ : ٨١ ، الخصال : ١٨٦ / ٢٥٧ ، كمال الدين : ٢٩٠ ، تحف العقول : ١١٣ ، آمالي المفيد : ٢٤٧ / ٣ ، امالي الطوسي ١ : ١٩ ، تاريخ بغداد ٦ : ٣٧٩ وفيه الى قوله : .. يستعمل آلة الدين في الدنيا ،


فصل

ومن كلامه 7 في الدُعاء

إلى معرفته وبيان فضله وصفة العلماء ،

وما ينبغي لمتعلّم العلم أن يكون عليه

ما رواه العلماء بالأخبار في خُطبةٍ تركنا ذكرَ صدرِها إلى قوله : « والحمد للّه الذي هدانا من الضَلالة ، وبصّرنا من العَمى ، ومَنَّ علينا بالإسلام ، وجَعَل فينا النُبوّة ، وجعلنا النُجَباء ، وجعل أفراطَنا أَفراط الأنبياء ، وجعلنا خيرَ أُمّة أُخْرِجَتْ للناس ، نأمُرُ بالمعروف ، وتنهى عَنِ المنكر ، ونعبدُ الله ولانُشْرِكُ به شيئاً ، ولا نَتّخِذُ من دونِهِ وَليّاً ، فنحن شهداءُ الله ، والرسولُ شهيدٌ (١) علينا ، نَشْفَعُ فنُشَفَّعُ فيمن شَفَعْنا له ، وندعو فيستَجاب دعاؤنا ويُغْفَر لمن ندعو له ذنوبه ، أخْلَصنا للهِّ فلم ندع من دونه وَليّاً.

أيّها الناس ، تعاوَنوا على البرّ والتقوى ، ولا تَعاوَنُوا على الاثم والعُدوان ، واتّقوا الله إِنّ الله شديدُ العقاب.

أيّها الناسُ إنّي ابن عمِّ نبيّكم ، وأولاكم بالله ورسوله ، فاسالوني ثمّ اسالوني ، فكانّكم بالعلم قد نَفِدَ ، وإِنّه لا يَهلِك

ــــــــــــــــــ

مناقب الخوارزمي : ٣٦٥ / ٣٨٣ ، والتفسير الكبير للفخر الرازي ٢ : ١٩٢ وفيهما الى قوله : والمال محكوم عليه.

(١) في هامش « ش » : شاهد.


عالمٌ إِلاّ هَلَكَ معه بعضُ علمه ، وِإنّما العلماء في الناس كالبَدْر في السماء ، يَضِيء نورُه على سائر الكواكب ، خذوا من العلم ما بدا لكم ، وِإيّاكم أن تطلبوه لخِصالٍ أربع : لتُباهوا به العُلَماء ، أو تُماروا به السُفهاء ، أو تراؤا به في المجالس ، أو تَصرِفوا وجوه الناس إِليكم للترؤّس ، لا يَستوي عندالله في العقوبة الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، نَفَعَنا اللهُ وِايّاكم بما عَلِمْنا ، وجَعَلَه لوجْهِهِ خالِصاً إِنّه سميعٌ مجيبٌ » (١).

فصل

ومن كلامه 7 في صفة العالم وأدب المتعلم

ما رواه الحارث الأعور قال : سمعت أمير المؤمنين 7 يقول : « من حقّ العالم أن لا يُكْثَر عليه السؤالُ ، ولا يُعْنَت في الجواب ، ولا يُلَحّ عليه إِذا كَسِل ، ولا يؤْخَذ بثوبه إذا نَهَض ، ولا يُشارَ إليه بيدٍ في حاجة ، ولا يُفْشى له سرٌّ ، ولا يُغْتاب عنده أحدٌ ، ويُعَظَّم كما حَفِظَ أمرَ الله ، ولا يَجْلسِ المتعلمُ أمامَه ، ولا يَغْرَضُ (٢) من طولِ صحبته ، وِاذا جاءه طالبُ العلم وغيره فوجَدَه في جماعةٍ عَمَّهم بالسلام وخَصّه بالتحيّة ، وليحفِظَه شاهداً وغائباً ، وليَعْرِفَ له حَقَّه ، فإِنّ العالم أعظمُ أجراً من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله ، وإذا ماتِ العالم ثلم في الإِسلام ثلمة لا يسدّها إلاّ

ــــــــــــــــــ

(١) نقلها الديلمي في أعلام الدين : ٩٤ ، والعلامة المجلسي في البحار ٢ : ٣١ / ١٩.

(٢) الغَرَض : الضجر والملال. « الصحاح ـ غرض ـ ٣ : ١٠٩٣ ».


خلف منه ، وطالبُ العلم تَسْتَغْفِر له الملائكة ، وتدعُو له في السماء والأرض » (١).

فصل

ومن كلامه 7 ، في

أَهلِ البِدَع ومن قال في الدين برأيه ،

وخالف طريق أَهل الحقّ في مَقاله

ما رواه ثِقات أهلِ النقل عند العامّة الخاصّة ، في كلام افتتاحُه الحمدُ لله والصلاة على نبيّه 9 : « أَمّا بعد ، فذِمّتي بما أَقولُ رَهينة وأَنا به زعيم ، إنّه لا يَهيجُ (٢) على التقوى زرع قوم ، ولا يظمأُ عليه سِنخُ أَصل ، وإن الخيرَ كلّه فيمن عَرَف قدرَه ، وكفى بالمرء جَهْلاً أن لا يَعْرِفَ قدرَه ، وإنّ أبغضَ الخَلْق إلى الله رجلٌ وَكَلَه إلى نفسه ، جائرٌ على قصد السبيل ، مشعوفٌ (٣) بكلام بِدْعَة ، قد لهِج فيها بالصوم والصلاة ، فهو فتنةٌ لمن افتتن به ، ضالّ عن هَدْي من كان قبله ، مُضِل لمن اقتدى به ، حَمّالُ خطايا غيره ، رهنٌ بخطيئته ، قد قَمَشَ (٤)

ــــــــــــــــــ

(١) ا لمحاسن : ٢٣٣ / ١٨٥ ، والخصال : ٥٠٤ ، واعلام الدين : ٩١ باختلاف في الفاظه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢ : ٤٣ / ١٢.

(٢) هاج النبيت هياجاً : أن يبس. « الصحاح ـ هيج ـ ١ : ٣٥٢ ».

(٣) شعفه الحب : أن أحرق قلبه. « الصحاح ـ شعف ـ ٤ : ١٣٨٢ ».

(٤) قمش : جمع القماش ، وهو ما على وجه الارض من فُتات الاشياء حتى يقال لرذالة الناس قماش. « القاموس ـ قمش ـ ٢ : ٢٨٥ ».


جهلاً في جهّالِ عشوة (١) ، غارّ (٢) بأَغباش الفتنة ، عمٍ عن الهدى ، قد سمّاه ، اشباه الناس عالماً ولم يغن فيه يوماً سالماً ، بكّر فاستكثر مِنْ جَمْع ما (٣) قلّ منه خيرممّا كَثر ، حتى اذا ارتوى من آجنٍ ، واستكثرمن غير طائل ، جلس للناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره ، إن خالف مَن سبقه لم يأمن مِنْ نَقْض حُكْمه مَنْ يأتي بعده ، كفِعله بمَنْ كان قبله ، وان نَزَلت به إِحدى المُبْهمات هَيّأ لها حَشْواً مِنْ رأيه ثمّ قَطَعَ عليه ، فهومن لَبْسِ الشُبُهات في مثل غَزْل العنكبوت ، لا يَدرِي أَصابَ أم أخطأ ، ولا يَرى أنّ مِن وراءِ ما بَلَغَ مَذْهباً ، إِنْ قاسَ شيئاً بشيءٍ لم يًكذّب رأيَه ، وان أظْلَمَ عليه أَمر اكتَتَم به ، لمِا يعلم من نفسه في الجهل والنَقْص والضرورة كيلا يُقال أنّه لا يَعْلم ، ثمّ أقْدَم بغير علم ، فهو خائضُ عَشَواتٍ ، رَكّابُ شُبُهاتٍ ، خَبّاط جَهَالاتٍ ، لا يعتذرُ ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يَعَضُّ في العلم بضِرس قاطعٍ فيغنم ، يُذرِي الروايات ذروَ الريحِ الهشيم ، تَبكِي منه المواريث ، وتَصْرَخُ منه الدماء ، ويستحلّ بقضائه الفَرْج الحرام ، ويُحَرِّم به الحلال ، لا يسْلَم بإِصدار ما عليه وَرَد ، ولا يَنْدَم على ما منه فَرط.

أيّها الناس : عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تُعْذَرون بجهالته ، فإِنّ العلم الذي هَبَط به آدم وجميعَ ( ما فضّلَتْ به ) (٤) النبيّون إلى خاتم النبيين ، في عترة محمّد (٥) 9 فأين يُتاهُ بكم؟ بل أين تذهبون؟! يا من

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » هامش « ش » : جهّالٍ غشوه.

(٢) غار : غا فل. « الصحاح ـ غرر ـ ٢ : ٧٦٨ ».

(٣) في « ش » و « م » : مما ، وما اثبتأه من هامشهما.

(٤) في « م » و هامش « م » : فصلت ، وفسره في هامش « م » : أي أتت. وما أثبتناه من هامش « ش » و « م ».

(٥) في « م » وهامش « ش » : عترة نبيكم محمّد.


نُسِخَ من أصلاب أصحاب السفينة ، هذه (١) مثلها فيكم فاركَبوها ، فكما نجا في هاتِيك مَنْ نجا ، فكذلك يَنْجُوفي هذه من دخلها ، أنا رهينٌ بذلك قسماً حقّاً وما أنا مِن المتكلّفين ، والويلُ لمِن تَخلّف ثمّ الويل لمن تخلّف! أما بَلَغكم ما قال فيهم نبيُّكم 9 حيثُ يقول في حَجّةِ الوداع : إِنّي تاركٌ فيكم الثقلين ، ما إِن تمسّكتُم بهما لن تَضِلّوا : كتابَ اللهِ وعترتي أهلَ بيتي ، وِانّهما لن يفتَرِقا حتّى يرِدا عليَّ الحوض فانظُروا كيفَ تَخْلُفوني فيهما. ألاّ هذا عَذْبٌ فُرات فاشرَبوا ، وهذا مِلحٌ أُجاج فاجتنبوا » (٢).

ومن كلامِهِ 7 في

صِفةِ الدنيا والتحِّذيرِ منها

« أمّا بعدُ : فإنَّما مَثَلُ الدُّنيا مَثْل الحَيَّةِ ، لَينٌّ مَسُّها ، شَديدٌ نهسها ، فأعْرض عمّا يُعْجِبُكَ منها لِقِلَّةِ مايَصْحَبُكَ منها ، وكُنْ أسَرَّ ما تَكونُ فيها ، أحذَرَ ما تَكونُ لها ، فإِنَّ صاحِبَها كُلَّما اطْمَأنَّ منها إِلى سُرورٍ أسْخَطَهُ منها مَكروهٌ ، والسَّلام » (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : نسخة الشيخ ، هذا. وما في المتن نسخة اخرى في هامش « ش ».

(٢) وردت قطع من هذه الخطبة في تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١١ ، ونثر الدر ١ : ٣٠٨ ، أمالي الطوسي ١ : ٢٤٠ ، تاريخ دمشق ٣ : ٢٢١ ، الكافي ١ : ٦ / ٤٤ ، الاحتجاج : ٢٦٢ ، نهج البلاغة ١ : ٤٧ / ١٦ ، ونقله المجلسي في البحار ٢ : ٩٩ / ٥٩.

(٣) دستور معالم الحكم : ٣٧ ، تنبيه الخواطر ١ : ١٤٧ ، شرح النهج لابن ميثم ٥ : ٢١٨ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٧٣ : ١٠٥ / ١٠١.


ومن كلامِهِ 7 في التَّزوُّدِ

لِلاخرةِ ، وأَخْذِ الأهْبَةِ لِلقاءِ اللهِ تعالى ،

والوَصيَّةِ لِلنَّاسِ بالعَمَلِ الصَّالحِ‎

ما رَواهُ العُلَماءُ بالأَخبار ، ونَقَلَةُ السِّيْرة والآثار : أَنَّهُ كان 7 يُنادِي في كُلِّ لَيلةٍ حِينَ يَأْخُذُ النَّاسُ مَضاجِعَهمْ لِلْمَنامِ ، بصوتٍ يَسْمَعُهُ كافَّةُ أَهْلِ المَسْجِدِ ومَنْ جاوَرَهُ مِنَ ألنَّاسِ : « تزوّدوا ـ رَحمَكُمُ اللهُ ـ فقدْ نُودِي فيكُمْ بالرَّحيلِ ، وأَقِلوا العُرْجَةَ على الدُّنيا ، وانْقَلِبوا بِصالحِ ما يَحضُرُكُمْ مِنَ الزَّادِ ، فإِنَّ أَمامَكُمْ عَقَبَةً كَؤُوداً ، ومَنازِلَ مَهُولَةً ، لا بُدَّ مِنَ الممرِّ بها ، والوُقُوفِ عَليها ، فإِمّا برَحْمةٍ مِنَ اللهِ نَجَوْتُمْ مِنْ فَظَاعَتِها ، وامّا هَلَكَة ليسَ بَعْدَها انجبار ، يا لَها حَسْرةً على ذِيْ غَفْلَةٍ أنْ يَكونَ عُمرُهُ عَليهِ حُجّةً ، وتؤدِّيهِ أيّامُهُ إِلى شِقْوَةِ ، جَعَلَنا اللهُ وِايّاكًمْ مِمَّنْ لا تًبطرُهُ نِعْمَةٌ ، ولا تَحُلُّ بهِ بَعْدَ الموتِ نِقْمَةٌ ، فإِنّما نَحنُ بِهِ وله ، وبيدِهِ الخَيْرُ وهوَ على كُلِّ شيءٍ قَديرٌ » (١).

ومِنْ كلامِهِ 7 في التَّزهيدِ

في الدُّنيا ، والتَّرغيبِ في أعمالِ الآخرةِ

« يا ابن آدمَ ، لا يَكُنْ أكبرَ همِّك يومُكَ الذي إِنْ فاتَكَ لم يَكُنْ

ــــــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق : ٤٠٢ / ٧ ، أمالي المفيد : ١٩٨ ، خصائص الرضي : ٩٨ ، نهج البلاغة ٢ :


من أجلِكَ ، فإِنَّ كلَّ يومٍ تَحْضُرُهُ يَأْتي اللهُ فيهِ برزقِكَ ، واعْلَمْ أنَّكَ لنْ تكتسِبَ شَيئاً فوقَ قُوْتكَ إلاّ كُنتَ فيهِ خازناً لغيرِكَ ، يَكْثُرُ في الدُنيا بهِ نَصَبُكَ ، ويحظى بهِ وارِثكَ ، ويَطولُ مَعَهُ يومَ القِيامَةِ حِسابُكَ ، فاسْعَدْ بمالِكَ في حَياتِكَ ، وقَدِّمْ لِيَوْمِ مَعَادِكَ زاداً يَكونُ أمامَكَ ، فإِنَّ السَّفَرَ بَعيدٌ ، والمَوْعِد القيامةُ ، والمَوْرد الجَنَّةُ أَوِ النار » (١).

ومن كلامهِ 7 في مثلِ ذلكَ ، ما

اشتهرَ بينَ العلماءِ ، وحَفِظهُ ذَوو الفَهْمِ والحُكماءُ

« أمّا بعد : أيّها الناسُ ، فإِنَّ الدُّنيا قد أدبرتْ وآذنتْ بوَداعٍ ، وِانَّ الآخرةَ قدْ أظلَّتْ وأشرفتْ باطّلاع ، ألا وانّ المِضمارَ اليومَ وغداً السباقُ ، والسبْقةُ الجنّةُ ، والغايةُ النارُ ، أَلا وِانّكمْ في أيامِ مَهَل من ورائِهِ أجَلٌ يحثّهُ عَجَلٌ ، فمَنْ أخلصَ للّهِ عملَهُ لم يضره أملُهُ ، ومن بطأ (٢) به عملُهُ في أيامِ مَهَلِهِ قبلَ حضورِ أجَلهِ فقد خَسِرَعملُهُ وضرّه أملُهُ.

ألا فاعملوا في الرغبةِ والرهبةِ ، فإِن نزلتْ بكمْ رغبةٌ فاشكروا الله واجمعوا معَها رهبةً ، وإنْ نزلتْ بكمْ رهبةٌ فاذكروا الله واجمعوا معَها

ــــــــــــــــــ

٢٠٩ / ١٩٩باختلاف في الفاظه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٧٣ : ١٠٦ / ١٠٢.

(١) وردت قطع منه في مروج الذهب ٤ : ١٧٥ ، والخصال : ١٦ ، ونزهة الناظر : ٥٢ / ٢٦ ، ونثر الدر ١ : ٢٩٥.

(٢) في هامش « ش » و « م » : أبطأ.


رغبةً ، فإِنّ اللهَ قد تاذَّنَ للمُحسنينَ بالحسنى ، ولمن شكرَهُ بالزيادةِ ، ولا كسبَ خير من كَسبْ ليومٍ تُدَّخَرُ فيه الذخائرُ ، وتجمعُ فيه الكبائرُ ، وتُبلى فيه السرائرُ ، وإنًّي لم أرَ مثلَ الجنّةِ نامَ طالبها ، ولا مثلَ النارِ نانم هاربُها.

ألا وإنّهُ من لا ينفعُهُ اليقينُ يضرُّهُ الشكُّ ، ومن لا ينفعُهُ حاضرُ لُبِّه ورأيهِ فغائبهُ عنه أعجزُ. ألا وإنّكم قد أُمرتُمْ بالظَّعْنِ ودًلِلتمْ على الزَادِ ، وإِنّ أخوفَ ما أتَخوّفُ عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطولُ الأملِ ، لأنّ اتّباعَ الهوى يصُدُّ عن الحقِّ ، وطول الأملِ ينسي للآخرةَ.

ألا وإِنّ الدنيا قد ترحلتْ مُدبِرةً ، وإنَّ الآخرةَ قد ترحَّلت (١) مقبلةً ، ولكلِّ واحدةٍ منهما بنونَ ، فكونوا إِنِ استطعتُمْ مِن ابناءِ الأخرةِ ، ولا تكونوا من أبناءِ الدنيا ، فإِنّ اليومَ عملٌ ولا حسابَ ، وغداً حسابٌ ولاعملَ » ‏ (٢).

ومن كلامِهِ 7 في

ذكرِ خِيارِ الصحابةِ وزُهّادِهمْ

ما رواهُ صَعْصَة بنُ صوْحانَ العبديّ ، قال : صلّى بنا أميرُ المؤمنينَ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : دنت.

(٢) ورد بعضه في نثر الدر ١ : ٢٢٣ ، البيان والتبيين ٢ : ٢٧ ، العقد الفريد ٤ : ١٥٩ ، الكافي ٨ : ٥٨ / ٢١ ، مروج الذهب ٢ : ٤٢٤ ، ٣ : ٤١٣ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٢٧ ، أمالي المفيد : ٩٣ ، ٢٠٧ ، نهج البلاغة ١ : ٦٦ / ٢٧ ، مصباح المتهجد : ٦٠٥ ، أمالي الطوسي ١ :


7 ذاتَ يومِ صلاةَ الصُبحِ ، فلمّا سلّمَ أقبلَ على القبلةِ بوجهِهِ يذكرُ اللهَ تعالى ، لا يلتفَتُ يميناً ولا شِمالا حتّى صارتِ الشمسُ على حائطِ مسجدِكُمْ هذا ـ يعني جامعَ الكوفةِ ـ قيسَ رُمحٍ ، ثُم أقبلَ علينا بوجهِهِ 7 فقال : « لقدْ عَهِدتُ اقواماً على عهدِ خَليلي رسولِ الله 9 ، وِانّهم لَيراوحونَ في هذا الليلِ بينَ جِباهِهِمْ وركبهم ، فإِذا أصبحوا أصبحوا شعثآً غُبرْاً بينَ أعينِهِمْ شبهُ ركَب المِعْزى ، فإِذا ذَكَروا (١) مادُوا كما تَميدُ الشجرُ في الريحِ ، ثُمَّ انهملَتْ عُيونُهم حتى تَبلَّ ثِيابَهم » ثمّ نهضَ 7 وهو يقول : « كأنَّما القومُ باتُوا غافلينَ » (٢).

ومن كلامِهِ 7 في صِفةِ شيعتِهِ المخلصيْنَ

ما رواهُ نَقَلةُ الاثارِ : أنّه خَرجَ ذاتَ ليلةٍ مِنَ المسجدِ ، وكانتْ ليلةً قمراءَ ، فأمَ الجَبّانَة ولَحِقَهُ جماعةٌ يَقْفونَ أثَرَهُ ، فوقفَ ثُمَّ قالَ : « مَنْ أنتم؟ » قالوا : نحنُ شيعتُك يا أميرَ المؤمنين ، فتفرّس في وجوهِهِم ثم قالَ : « فما لي لا أرى عليكُمْ سِيْماءَ الشيعةِ؟ » قالوا : وما سِيْماءُ الشيعةِ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال : « صُفْرُ الوجوهِ من السهر ، عُمْشُ العيونِ منَ البكاءِ ، حُدْبُ الظهورِ من القيام ، خُمْصُ البطونِ منَ

ــــــــــــــــــ

٢٣٦ ، تذكرة الخواص : ١١٦.

(١) في هامش « ش » و « م » : ذُكِّروا.

(٢) روإه الكليني في الكافي ٢ : ١٨٥ / ٢٢ ، والمصنَف في أماليه : ١٩٦ ، والآبي في نثر الدر ١ : ٣٢٥ ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص : ١٢٩.


الصيامِ ، ذُبْلُ الشِّفاهِ منَ الدعاءِ ، عليهِمْ غبرةُ الخاشعينَ » (١).

فصل

ومن كلامِهِ 7 ومواعظِهِ وذِكرهِ الموتَ

ما استفاضَ عنه من قولهِ : « الموتُ طالبٌ ومطلوبٌ حَثِيثٌ ، لا يُعجِزُهُ المُقيمُ ، ولا يَفوتُهُ الهاربُ ، فأقدموا ولا تَنْكُلوا ، فإِنّه ليسَ عنِ الموتِ مَحيصٌ ، إِنّكم إِنْ لا تُقْتَلوا تَموتوا ، والذي نَفسُ عليٍّ بيدِهِ ، لألفُ ضربةٍ بالسيفِ على الرأسِ ، أيسرُ منْ موتٍ على فِراش » (٢).

ومن ذلكَ قولُهُ 7 : « أيُّها الناسُ ، أَصبحتُمْ أغراضاً تَنْتَضلُ فيكُمُ المنايا ، وأموالكُم نَهْبٌ للمصائبِ ، ما طَعِمتم في الدنيا منْ طعام فَلَكُم فيهِ غَصَصٌ ، وما شَرِبتُم منْ شرابٍ فَلَكُم فيهِ شَرَقٌ ، وأًشهدُ باللهِ ما تنالونَ مِنَ الدنيا نعمةً تَفرحونَ بها إلاّ بفراقِ أُخرى تَكرهونَها ، أَيُّها الناسُ ، إِنّاخُلِقْنا وإِيّاكُم للبقاء لا للفناءِ ، لكنًكمِ من دارٍ إِلى دارٍ تُنْقَلونَ ، فتزوَّدوا لمِاَ أنتم صائرونَ إِليهِ وخالدون فيهِ ، والسلامُ » (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) أمالي الطوسي ١ : ٢١٩ ، مشكاة الانوار : ٥٨ ، صفات الشيعة : ٨٩ / ٢٠ و ٩٥ / ٣٣ ، وفيه مختصراً ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٦٨ : ١٥٠ / ٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٩ ، الكافي ٥ : ٥٣ ، ورواه الطوسي في أماليه ١ : ١٧٢ باختلاف يسير.

(٣) أمالي الطوسي ١ : ٢٢٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٧٣ : ١٠٦ / ١٠٣.


ومن كلامِهِ 7 في

الدعاءِ إلى نفسهِ ، والدّلالةِ على فضلِهِ ،

والإبانةِ عن حقًهِ ، والتعريضِ بظالمِهِ ،

والأشارةِ إِلى ذلكَ والتنبيهِ عليه

ما رواه الخاصّةً والعامةُ عنه ، وذَكَرَ ذلكَ أبو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بنُ المُثنى وغيرُهُ مِمَّنْ لا يَتَهمُه خُصوم الشيعةِ في روايتِهِ : أنّ أميرَالمؤمنينَ 7 قالَ في أوّلِ خُطبةٍ خَطَبها بعدَ بيعةِ الناسِ له على الأمر ، وذلك بعدَ قتل عُثمان بن عَفّانَ :

« أمّا بعدُ : ( فلا يُرْعِيَنَّ مُرْع ) (١) إِلاّ على نفسِهِ ، شُغِلَ عَنِ الجنةِ مَنِ النارُ أمامَهُ ، ساع مجتهِد ، وطالبٌ يَرجو ، ومقصِّرٌ في النارِ ، ثلاثة ، واثنان : مَلَكٌ طارَ بجَناحَيهِ ، ونبي أخذَ اللهُ بضبْعَيْهِ (٢) ، لا سادسَ. هَلكَ مَنِ ادَّعى ، ورَدِي (٣) مَنِ اقتحمَ. اليمينُ والشِّمالُ مَضلَّةٌ ، والوُسْطى الجادّةُ ، مَنهجٌ عليهِ باقي (٤) الكتاب والسنةِ وآثار النبوةِ. إِن الله تعالى داوى هذِه الأًمّةَ بدواءين : السوطَ والسيف ، لا هوادةَ عندَ الإمامَ ، فاستتروا ببيوتكم ، وأصلحوا فيما بينَكم ، والتوبة

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » و « م » : فلايرعين مرعيّ ، وفي « ح » : فلا يرعين مرعى ، وفي هامشها : يَدّعين مدع ، وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار.

(٢) في « م » وهامش « ش » : بيديه.

(٣) رَدِيَ : هلك « لسان العرب ـ ردي ـ ١٤ : ٣١٦ ».

(٤) في « م » وهامش « ش » : ما في.


من ورائكم ، مَنْ أبدى صفحتَهُ للحقِّ هَلكَ.

قد كانتْ أُمورٌ لم تكونوا عندي فيها معذورِينَ ، أما إِنّي لوأشاءُ أن أقولَ لَقلتُ ، عفا اللهُ عمّا سلفَ ، سَبقَ الرجلانِ ، وقامَ الثالثً كالغُراب همّتُهُ بطنُهُ ، وَيلَهُ لو قُصَّ جَناحاهُ وقُطِعَ رأسُهُ لَكانَ خيراً لهُ. انظُروا فإِنْ أَنكرتُمْ فأنكِروا ، وإنْ عَرفتُمْ فبادِروا (١) ، حق وباطلٌ ولكلٍّ أهلٌ ، ولَئن أمِرَ (٢) الباطلُ لَقديماً فَعلَ ، ولَئن قل الحقُّ فلرُبَّما ولعلَّ ، ولَقل ما أدبرَ شيء فأقبلَ ، ولَئن رَجَعتْ إِليكم نُفوسُكُم إِنّكم لَسُعَداءُ ، وإِنّي لأخشى أنْ تَكونوا في فَترةٍ ، وما عَلَيَّ إِلاّ الاجتهادُ.

ألا إِنّ أبرارَ عِترتي وأطايبَ أَرُومَتي (٣) ، أَحلمُ (٤) الناسِ صِغاراً ، وأعلمُ الناسِ كِباراً ، أَلا وإِنّا أهل بيت مِنْ عِلْمِ اللهِ علمنا ، وبحكمِ اللهِ حكمنا ، وبقولٍ صادقٍ أخذنا ، فإِنْ تَتبعوا اثارنا تَهتدوا ببصائرنا ، وِان لم تفعلوا يُهلككُمُ اللهُ بأيدينا ، مَعَنا رايةُ الحقِّ ، مَنْ تَبِعَها لَحِقَ ، ومَنْ تأخّر عنها غَرِقَ ، ألا وِبِنا تُدْرَكُ تِرَةُ كلِّ مؤمنٍ ، وبنا تُخْلَعُ رقبَةُ الذلِّ مِن أعناقِكُم ، وبِنا فُتِحَ لابِكُم ، وبِنا يُخْتَمُ لا بِكُم » (٥).

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : و « ح » : فادروا.

(٢) أمِرَ : كثر « لسان العرب ـ أمر ـ ٤ : ٢٨ ».

(٣) الأرومة : الأصل. « القاموس ـ أرم ـ ٤ : ٧٤ ».

(٤) في هامش « ش » : أحكم.

(٥) البيان والتبيين ٢ : ٦٥ ، العقد الفريد ٤ : ١٥٧ ، شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٧٥ ، عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٢٣٦ وفيه الى قوله ولقلّ ما أدبر شيء فأدبر ، ونثر الدر ١ : ٠ ٢٧ وفيه الى قوله وما عليً إلاّ الاجتهاد ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٣٩١ ( ط / ح ).


فصل

ومن مختصرِكلامِهِ عليهِ

السلامُ في الدعاءِ إلى نفسِهِ وعترتِهِ

قولُهُ : « إِنّ اللّهَ خَصَّ محمّداً بالنّبوّةِ ، واصطفاهُ بالرّسالةِ ، وأنبأهُ بالوَحْي ، فأنالَ (١) في النّاسِ وأنالَ. وعِندَنا ـ أهل البيت ـ معاقلُ العلمِ ، وأبوابُ الحكمِ ، وضياءُ الأمرِ ، فَمَنْ يُحبّنا يَنفعهُ إِيمانُهُ ويُتَقبّل عملُهُ ، ومن لا يُحبّنا لا يَنفعهُ إِيمانُهُ ولا يُتَقَبَّل عملُهُ ، وِانْ دأبَ الليلَ والنّهارَ » (٢).

فصل

ومن ذلكَ ما رواهُ عبدُ الرحمن بنُ جُنْدَبٍ عن أبيهِ جُندَبِ بنِ عبدِاللّه قالَ : دخلتُ على عليِّ بنٍ أبي طالب بالمدينةِ بعدَ بَيعةِ النّاسِ لعُثمانَ ، فوجدتُهُ مُطرِقاً ـ كئيباً ـ فقلتُ له : ما أًصابَ قومك؟!

قالَ : « صبرٌ جميلٌ ».

ــــــــــــــــــ

(١) أنال : أعطى الخير « لسان العرب ـ نول ـ ١١ : ٦٨٣ ».

(٢) المحاسن : ١٩٩ / ٣١ ، بصائر الدرجات : ٣٨٤ / ٩ و ١٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٧ : ١٨٢.


فقلتُ له : سبحانَ اللّهِ ، واللّهِ إِنّكَ لَصبور.

قالَ : « فأَصنعُ ماذا؟! ».

فقلتُ : تَقومُ في النّاسِ وتَدعوهُمْ إِلى نفسِكَ ، وتُخبرهُم أنّكَ أولى بالنبيِّ 9 بالفضلِ والسابقةِ ، وتَسألُهُمُ النَصرَ على هؤلاءِ المتمالئينَ عليكَ ، فإِنْ أَجابَكَ عَشرةٌ من مِائةٍ شَدَدْتَ بالعَشرةِ على المِائةِ ، فإِنْ دانوا لكَ كانَ ذلكَ على ما أحببْتَ ، وإن أبَوْا قاتلتَهُمْ ، فإِنْ ظَهَرْتَ عليهِمْ فَهوَ سُلطانُ اللّهِ الذي آتاهُ نبيَّهُ 7 وكنتَ أولى بهِ منهُمْ ، وِان قُتِلْتَ في طلبهِ قُتِلْتَ شَهيداً وكنتَ أولى (١) بالعذر عندَ اللهِ ، وأَحقَّ بميراثِ رسوَلِ اللهِ 9.

فقالَ : « أتراهُ ـ يا جُنْدَبً ـ يُبايعنُي عَشرةٌ من مائة؟! ».

قلتُ : أَرجو ذلكَ.

قال : « لكنَّني لا أَرجو ولا من كل مائةٍ اثنينِ ، وسأُخبرُكَ من أينَ ذلكَ ، إِنَّما يَنظرُ الناسُ إلى قُرَيْشٍ ، وإنَّ قريشاً تَقولُ : إِنّ الَ محمَّدٍ يَرَوْنَ لَهُمْ فضلاً على سائرِ النّاسِ ، وإِنهم أَولياءُ الأمرِ دونَ قريشٍ ، وإنّهم إِنْ وَلُوْهُ بر يَخرجْ منهم هذا السُّلطانُ إلى أحدٍ أبداً ، ومتى كانَ في غيرهِمْ تَداولتموهُ بينَكُمْ ، ولا ـ واللهِ ـ لا تَدفعُ قريشٌ إِلينا هذا السُّلطانَ طائعينَ أبداً ».

قالَ : فقلتُ له : أَفَلا أرجِعُ فأُخبرَ الناسَ بمقالتِكَ هذهِ ، وأدعوَهُمْ إِليكَ؟.

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » : أعلى.


فقالَ لي : « يا جُنْدَبُ ، ليسَ هذا زمان ذاكَ ».

قالَ : فرجعْتُ بعدَ ذلكَ إِلى العِراق ، فكنتُ كلَما ذكرتُ للنّاسِ شيئاً من فضائل علي بنِ أبي طالبِ 7 ومناقبِهِ وحُقوقِهِ زَبَرُوْني ونَهَرُوْني ، حتّى رفعَ ذلكَ مِنْ قَوْلَي إِلى الوَلِيْدِ بنِ عُقبْةَ لَياليَ وَلِيَنَا ، فبعثَ إِليَّ فحبسني حتَّى كُلِّمَ فيَّ فخلَّى سبيلي (١).

فصل

ومن كلامهِ 7 حينَ تخلّفَ عن بيعتهِ :

عبدُاللّه بنُ عُمَر ابنِ الخّطَّابِ ، وسَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ ،

ومحمّد بنُ مَسْلمةَ ، وحسان بنُ ثابتٍ ، وأُسامةُ بنُ زَيْدٍ

ما رواهُ الشَّعْبيُّ قالَ : لَمَّا اعتزلَ سَعْدٌ ومَنْ سّميناهُ أَمير المؤمنين 7 وتوقِّفوا عن بيعتهِ ، حَمِدَ اللهَ وأَثنى عليهِ ثمَّ قالَ : « أَيُّها الناسُ ، إِنّكم بايعتموني على ما بُويِعَ عليهِ مَنْ كانَ قَبْلي ، وإنّما الخِيارُ إلى النّاسِ قبلَ أَنْ يبايِعوا ، فإِذا بايَعُوا فلا خِيارَ لهم ، وإنّ على الإمامِ الاستقامةَ ، وعلى الرّعيّةِ التسليم ، وهذهِ بَيعةٌ عامّةٌ ، مَنْ رَغِبَ عنها رَغِبَ عن دينِ الإسلام واتَّبعَ غيرَ سبيلِ أهلِهِ ، ولم تَكُنْ بَيعتُكم إِيّايَ فَلْتةً ، وليسَ أَمري وأمْرُكم واحداً ، وِانّي أُريدُكم للّهِ ، وأَنتم تريدونَني لأَنْفُسِكُم ، وايْمُ الله لأَنصحَنَّ للخَصم ، ولأَنصِفَنَّ المظلومَ. وقد بَلَغَني عن سَعْدٍ وابنِ مَسْلمةَ وأُسامةَ وعبدِاللهِ وحَسَّان بنِ

ــــــــــــــــــ

(١) أمالي الطوسي ١ : ٢٣٩ ، شرح ابن ابي الحديد ٩ : ٥٧ نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ١٤٨ ( ط / ح ).


ثابتٍ اَمُورٌ كَرِهْتُها ، والحَقُّ بيني وبينَهُمْ » (١).

فصل

ومن كلامِهِ 7 عندَ نَكْثِ

طلحةَ والزُّبَيْرِ بيعتَهُ وتوجُّهِهما إِلى مكّةَ

للاجتماعِ معَ عائشةَ في التأليب عليهِ والتألُّفِ على خلافهِ

ما حَفِظَهُ العلماءُ عنهُ ؛ بعدَ أنْ حَمِدَ الله وأثنى عليهِ ثُم قالَ : « أمّا بعدُ : فانَّ اللهَ بعثَ محمّداً 9 للنّاسِ كافَةً ، وجعلَهُ رحمةً للعالمين ، فصَدَعَ بما أُمِرَبهِ ، وبَلَّغَ رسالاتِ ربِّهِ ، فَلَمَّ بهِ الصَدْع ، ورَتَقَ بهِ الفَتْقَ ، وآمّن به السُّبلَ ، وحَقَنَ بهِ الدّماء ، وألفَ بهِ بينَ ذَوي الإحَنِ والعَداوةِ والوَغْرِ (٢) في الصّدورِ والضّغائنِ الرّاسخةِ في القلوب ، ثمّ قَبَضَهُ الله تعالى إِليه حَميداً ، لم يُقصِّرْعنِ الغايةِ التي إليها أَدَاءُ الرّسالةِ ، ولا بَلَّغَ شيئاً كانَ في التّقصيرِعنهُ القَصْدُ ، وكانَ مِنْ بعلِهِ منَ التّنازُع في الإِمرةِ ما كانَ ، فتولىّ أبوبكْرٍ وبعَدهُ عُمَرُ ، ثم تولىّ عُثْمان ، فلمّا كانَ مِنْ أمرهِ ما عَرَفتموهُ أتيتموني فقُلتم : بايعْنا ، فقلتُ : لا أَفعلُ ، فقُلتم : بلى ، فقلت : لا ، وقَبضتُ يَدِي فبسَطتموها ، ونازعتُكم فجذبتموها ، وتَداكَكْتُم عليّ تدارك الإبل الهِيْم (٣) على

ــــــــــــــــــ

(١) ورد نحوه في نهج البلاغة ١ : ٢٦ / ١٣٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٣٩٧ ( ط / ح ).

(٢) الوغر : الضغن والعداوة. « الصحاح ـ وغر ـ ٢ : ٨٤٦ ».

(٣) الهيم : العطاش. « الصحاح ـ هيم ـ ٥ : ٢٠٦٣ ».


حِياضِها يومَ وُرودها ، حتّى ظَننتُ أنّكم قاتليَ ، وأنّ بعضَكم قاتِلُ بعضٍ ، فبَسَطْتُ يَدِي فبايعتموني مُختارِيْنَ ، وبايَعَني في أَوّلكم طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ طائعَيْنِ غير مُكْرَهَيْنِ ، ثمّ لم يَلبَثا أنِ استأذَناني في العُمْرةِ ، واللّهُ يَعلمُ أَنّهما أَرادا الغَدْرَةَ ، فجدَّدْت عليهما العهدَ في الطاعةِ وأَنْ لا يبغِيا للأًُمّة الغوائلَ ، فعاهَداني ثُم لم يَفِيا لي ونَكَثا بَيعتي ونَقَضا عَهدي ، فعَجَباً لهما مِنِ انقيادِهَما لأبي بَكْر وعُمَرَ وخِلافهِما لي ، ولستُ بِدونِ أَحدِ الرجلَيْن! ولو شئتُ أَنْ أقولَ لقُلتُ ، اللّهمّ احكمْ عليهِما بِما صَنَعا في حقًّي ، وصغَّرا من أمري ، وظَفِّرني بِهما » (١).

فصل

ثمّ تكلّمَ 7 في مَقامٍ آخرَ بما حُفِظ عنه في هذا المعنى ، فقالَ بعدَ حمدِ الله والثناءِ عليهِ :

« أمّا بعدُ : فإِنّ اللّهَ تعالى لمّا قَبَضَ نبيّه 7 قُلنا : نحن أَهلُ بيتِهِ وعصبَتُهُ ووَرَثَتُهُ وأَولياؤهُ وأَحق الخلائقِ بهِ ، لا نُنازَعُ حقَّهُ وسُلطانَهُ ، فبَينا نحن [على ذلك] (٢) إِذْ نَفَرَ المنافقونَ فانتزَعوا سُلطانَ نبيِّنا منّا وولّوهُ غيرَنا ، فبَكَتْ ـ واللهِ ـ لذلكَ العُيون والقُلوبُ منّا جميعاً معاً ، وخَشُنَتْ (٣) لهُ الصُّدورُ ، وجَزعَت النّفوسُ جَزَعاً أرغمَ.

ــــــــــــــــــ

(١) ورد في الاحتجاج : ١٦١ ، ونحوه في العقد الفريد ٤ : ١٦٢ و ٥ : ٦٧ ، شرح ابن ابي الحديد ١ : ٣٠٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤١٢ ( ط / ح ).

(٢) ما بين المعقوفين سقط من النسخ الخطية ، وأثبتناه من أمالي المفيد.

(٣) في « ش » و « م » : خشيت ، وما أثبتناه من هامشهما.


وايم اللهِ لولا مخافتي الفُرْقةَ بينَ المسلمينَ ، وأَنْ يَعودَ أَكثرُهم إلى الكفرِ ويَعْورَ (١) الدّينُ ، لَكُنّا قد غيَّرْنا ذلك ما استطعْنا. وقد بايعتموني الانَ وبايَعَني هذانِ الرّجلانِ طَلْحةُ والزُّبيرُ على الطَوْعِ منهما ومنكم والإيثارِ ، ثُمِّ نَهَضا يريدان البصرةَ لِيُفرِّقا جماعَتَكم ويُلقيا بأْسَكم بينَكم ، اللّهمَّ فخُذْهما بغِشًّهما لِهذهِ الاُمّةِ وبسوء نَظَرِهما للعامّةِ ».

ثمّ قال : « انفروا (٢) ـ رَحِمَكًمُ اللهُ ـ في طَلَب هذينِ النّاكِثَيْنِ القاسِطَيْنِ الباغِيَيْنِ قبلَ أَنْ يَفوتَ تَدارُكُ ما جَنَياهُ » (٣).

فصل

ولمّا اتّصلَ بهِ مسيرُعائشةَ وطلحةَ والزُّبيرِإِلى البصرة من مكة حمِدَ اللهَ وأثنى عليهِ ثمَّ قالَ : « قد سارتْ عائشةً وطلحةُ والزّبيرُ ، كلًّ واحدٍ منهما يدّعي الخلافةَ دونَ صاحبهِ ، فلا يدّعي طلحة الخلافة إِلاّ أنّه ابنُ عمِّ عائشةَ ، ولا يدّعيها الزّبيرُ إِلاّ أَنّه صِهْرُأَبيها. واللّهِ لَئنْ ظَفِرا بما يُريدانِ لَيَضربَنَّ الزّبيرُعُنقَ طلحةَ ، ولَيَضربَنَ طلحةُ عُنقَ الزّبيرِ ، يُنازِعُ هذا على المُلكِ هذا.

وقد ـ واللّهِ ـ عَلِمْت أَنّها الراكبةُ الجَمَل لا تَحُلُّ عُقدةً ولا تَسيرُ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : ويَعْوِرّ.

(٢) في هامش « ش » و « م » : أنفِذوا.

(٣) ورد في امالي المفيد : ١٥٤ باختلاف يسير ، والجمل : ٢٣٣ مختصراً ، وشرح ابن ابي الحديد ا : ٣٠٧ نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤١٥ ( ط / ح ).


عقبةً ولا تنزلُ مَنزلاً إِلاّ إِلى معصيةٍ ، حتّى تورِدَ نفسَها ومَنْ مَعَها مَوْرِداً ، يُقتَلُ ثُلثُهم ويهربُ ثُلثُهم ويَرجعُ ثُلثُهم. واللّهِ انّ طلحةَ والزّبيرَ ليعلمانِ أَنّهما مُخطئانِ وما يَجهلانِ ، ولَرُبَّما (١) عالم قَتَلَهُ جَهلُهُ وعِلمُهُ مَعَهُ لا يَنفعهُ. واللهِ لَيَنْبَحَنَّها كِلابُ الحَوْأَب ، فهل يَعتبرُ مُعتبرٌ أَو يتفكَّرُ متفكِّرٌ! ثم قال : قَدْ قامَتِ الفِئَةُ الباغِيةُ فَأَينَ المحسِنونَ؟ » (٢).

فصل

ولمّا توجّهَ أميم رُ المؤمنينَ 7 إِلى البَصْرةِ ، نَزَلَ الرَّبَذةَ (٣) فلقِيَهُ بها آخرُ الحاجِّ ، فاجتمعوا لِيسمعوا من كلامِه وهو في خِبائهِ.

قال ابن عباسِ ـ رحمة الله عليه ـ فأتيتُهُ فوجدتُهُ يَخصِفُ نَعْلاً ، فقلتُ له : نحنُ إِلى أنْ تُصلِح أمرَنا أحوجُ مِنّا إِلى ما تَصنعُ ، فلم يكلِّمْني حتّى فَرَغَ من نَعلهِ ثمِّ ضمَّها إِلى صاحبتِها ثُم قالَ لي : « قَوِّمْها » فقلتُ : ليسَ لها قيمةٌ ، قال : « على ذاكَ » قلتُ : كسر دِرْهَمٍ ، قال : « والله لهما أحبُّ إِليَ من أَمرِكم هذا ، إِلاّ أنْ أُقيمَ حقّاً أو أدفعَ باطلاً » قلتُ : إِنّ الحاجِّ قدِ اجتمعوا لِيسمعوا من كلامِك ؛ فتأذنُ لي أنْ أتكلَّمَ ، فإِنْ كانَ حَسَناَ كانَ منكَ ، وإِنْ كانَ غيرَ ذلكَ كانَ منّي ، قالَ : « لا ، أنا أتكلَّم » ثمَّ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : ولرب.

(٢) روي نحوه في شرح النهج لابن ابي الحديد ١ : ٢٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤١٦ ( ط / ح ).

(٣) الربذة : من قرى المدينة المنورة ، بينهما ثلاثة أيام ، وهي من منازل حاجّ العراق ، وفيها قبر ابي ذرّ الغفاري 2. انظر « معجم البلدان ٣ : ٢٤ ».


وَضَعَ يَدَهُ في صَدْريَ ـ وكانَ شَثْنَ (١) الكَفِّ ـ فآلمَني ، ثم قامَ ، فأخَذْتُ بثوبهِ فقلتُ : نَشَدْتُكَ اللّهَ والرَّحِمَ ، قالَ : « لا تَنْشُدْني » ثُمَ خَرَجَ فاجتمعوا عليهِ فحَمِدَ اللهَ وأَثنى عليهِ ثُمَ قالَ :

« أَمّا بعدُ : فإنّ اللّهَ بعثَ محمّداً 9 وليسَ في العَرَب أحدٌ يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّةً ، فساقَ الناسَ إِلى مَنجاتِهم ، أمَ واللهِ مازِلتُ في ساقَتِها ما غيرت ولاخُنتُ ، حتّى توليتْ بحَذافيرِها. ما لي ولِقُرَيْشٍ ، أَمَ واللّهِ لقد قاتلتهم كافرينَ ولأقاتلَنَّهم مفتونينَ ، وإِنّ مَسيري هذا عن عهلإِ إِليَّ فيهِ. أَمَ واللهِ ، لأَبقُرَنَّ (٢) الباطلَ حتّى يَخرُجَ الحقُّ من خاصِرَتِه. ما تَنقِمُ منّا قرَيشٌ إِلآ أَنّ الله اختارَنا عليهِم فأَدخلناهُم في حَيِّزنا. وأَنشدَ :

ذَنْبٌ لَعَمْريْ شرُبكَ المحض خالِصَاً

وأَكْلكَ بالزُّبْدِ اْلمُقَشَرَة (٣) البُجْرَا (٤)

وَنَحْن وَهبْنَاكَ العَلاءَ وَلَمْ تَكُنْ

عليّاًً وَحُطْنَا حَولك الجرد والسُّمْرَا » (٥) (٦)

ــــــــــــــــــ

(١) شثِن كفه : أي خشنت وغلظت. « الصحاح ـ شثن ـ ٥ : ٢١٤٢ ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : لانقبنّ.

(٣) المقشرة : الرُطب المقشر.

(٤) البُجر : جمع بجراء ، وهي المنتفخة البطن ، يعني التمر الجيد الكبار. أنظر « لسان العرب ـ بجر ـ ٤ : ٤٠ ».

(٥) الجرد والسمر : يعني الخيل.

(٦) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ٢ : ١٨٥ / ٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤١٦ ( ط / ح ).


ولمّا نَزَلَ بذي قَارٍ (١) أخَذَ البيعةَ على من حضَرَةُ ، ثمَّ تَكلَّمَ فأكثرَمِنَ الحمدِ للّهِ والثناءِ عليهِ والصلاةِ على رسولِ اللهِ 9 ، ثمّ قالَ : « قد جَرَتْ أُمورٌ صَبَرْنا فيها ـ وفي أَعْيُنِنا القَذَى ـ تسليماً لأمرِ اللّهِ تعالى فيما امتحَنَنا بهِ رَجاءَ الثّوابِ على ذلكَ ، وكانَ الصّبرُعليها أمثلَ من أنْ يَتفرَّقَ المسلمونَ وتُسفكَ دِماؤهم. نحنُ أهلُ بيتِ النّبوّةِ ، وأحقُّ الخلقِ بسُلطانِ الرّسالةِ ، ومَعْدِنُ الكَرامةِ التي ابتدأَ اللّهُ بها هذهِ الأمّةَ. وهذا طلحةُ والزُّبيرُ ليسا من أهلِ النّبوّةِ ، ولا من ذُرّيةِ الرسولِ ، حينَ رَأيا أنّ اللّهَ قد ردَّ علينا حقَّنا بعد أعْصُرٍ ، فلم يَصبرا حَوْلاً واحداً ولا شَهراً كاملاً حتّى وَثَبا على دَأب الماضِينَ قبلَهما ، لِيذهبا بحقِّي ويُفرِّقا جَماعةَ المسلمينَ عنِّي » ثمَّ دَعاَ عليهما.

فصل

وقد رَوى عبدُ الحَمِيْد بنُ عِمْرانَ العِجْليّ ، عن سَلَمة بنِ كُهَيلٍ قالَ : لمّا الْتَقى أهلُ الكُوفةِ وأميرُ المؤمنينَ 7 بذي قارٍ ، رَحَّبوا بهِ وقالوا : الحمدُ للهِّ الّذي خَصَّنا بجوارِكَ وأَكرَمَنا بنُصْرَتِكَ. فقامَ أميرُالمؤمنينَ 7 فيهم خَطيباً ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليهِ ثم قالَ :

« يا أهلَ الكُوفةِ ، إِنّكم مِنْ أكْرَم المسلمينَ ، وأَقْصَدِهِم تقويماً ، وأعْدَلِهم سنَّةً ، وأفْضَلِهِم سَهْماً في الإسلام ، وأجْوَدِهِم في العَرَبِ

ــــــــــــــــــ

(١) ذي قار : موضع في محافظة الناصرية في العراق.


مُرَكّباً (١) ونِصاباً. أَنتم أَشدُّ العَرَب وُدّاً للنّبيّ 9 ولأهلِ بيتهِ. وِانّما جِئكَم ثِقةً ـ بعدَ اللهَِ ـ بكم للّذي بَذَلتم من أنفُسِكُم عندَ نقضِ طَلحةَ والزُّبيرِوخلعِهما طاعتي ، وإقبالِهما بعائشةَ للفتنةِ ، وِاخراجِهما إِيّاها من بيتها حتّى أقدماها البَصرةَ ، فاستغوَوْا (٢) طَغامَها وغَوْغاءها ، مع أنّه قد بَلَغَني أنَّ أهلَ الفضلِ منهم وخِيارَهم في الدّين قدِ اعتزلوا وكَرِهوا ما صَنَعَ طَلْحةُ والزُّبير ».

ثمّ سكتَ فقالَ أهلُ الكُوفةِ : نحنُ أنصارُكَ وأعوانُكَ على عدوِّكَ ، ولو دَعوْتَنا إِلى أضعافِهِم مِنَ النّاسِ احتسبْنا في ذلكَ الخيرَ وَرجَوْناه.

فدعا لهم أَميرُالمؤمنينَ 7 وأثنى عليهم ، ثمّ قالَ : « قد عَلِمتم ـ مَعاشرَ المسلمينَ ـ أنّ طلحةَ والزُّبيرَ بايَعاني طائعَيْنِ راغِبَيْنِ ، ثمّ استأْذَناني في العُمرةِ فأذِنْتُ لهما ، فسارا إِلى البصرةِ فقَتَلا المسلمينَ وفَعَلا المُنْكَرَ. اللّهمّ إِنّهما قَطَعاني وظَلَماني ونَكَثا بَيعتي وألَّبا النّاسَ عَليَّ ، فاحْلُلْ ما عَقَدا ، ولا تُحْكِمْ ما أبْرَما ، وأرِهِما المَساءةَ فيما عَمِلا » (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) المركب : الأصل والمنبت. « الصحاح ـ ركب ـ ١ : ١٣٩ ».

(٢) في « ش » وها مش « م » : فاستعد وا.

(٣) أورده المصنف في الجمل : ١٤٣ ، باختلاف يسير الى قوله : احتسبنا في ذلك الخير ورجوناه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤١٦ ( ط / ح ).


فصل

ومن كلامِه 7 حينَ

نهَض من ذي قار متوجِّهاً إِلى البصرةِ

بعدَ حمدِ الله والثّناءِ عليهِ والصّلاةِ على رسول اللهِ 9 : « أَمّا بعدُ : فإِنَّ اللهَ فَرَضَ الجِهادَ وعظَّمَهُ ، وتجعَلَهُ نصْرةً له ، واللهِ ما صَلَحَتْ دُنيا قَطُّ ولا دِينٌ إِلآ به. وِانّ الشيطانَ قد جَمَعَ حِزْبَهُ ، واستجلَبَ خَيْلَهُ ، وشبَّهَ في ذلك وخَدَعَ ، وقد بانَتِ الاُمورُ وتمخَّضَتْ. واللهِ ما أنكروا عَليَّ مُنكَراً ، ولا جَعَلوا بيني وبينَهِم نِصْفاً ، وِانّهم لَيطلُبون حقّاً تَركوه ، ودماً هم سفكوه ، ولَئنْ كُنتُ شرِكتُهم فيهِ إِنَّ لهم لَنصيبَهم منه ، ولَئنْ كانوا وَلُوهُ دُوني فما تَبِعتُهُ إِلاّ قِبَلهم ، وِانّ أعظمَ حُجَّتِهم لَعَلى أنفُسِهم ، وإنّي لعَلى ـ بَصيرتي ما لُبِّسَتْ عَلَيَّ ، وإنَّها لَلفئَةُ الباغيةُ فيها الحُمّى (١) والحُمّةُ (٢) قد طالتْ هُلْبَتُها وأمكًنَتْ دِرَّتها ، يرضَعون أمَّاً فطًمَتْ ، ويحُيونَ بَيْعةً تُرِكَت ، لِيعودَ الضَّلالُ إِلى نِصابهِ.

ما أعتذِرُ ممّا فَعلتُ ، ولا أتبرأ ممّا صَنَعت ، فخَيْبةً للدّاعي ومَنْ دعا لو قيلَ له : إِلى مَنْ دَعواكَ؟ وإلى مَنْ أجَبْتَ؟ ومَنْ إِمامُكَ؟ وما سًنَّتهُ؟ إِذاً لَزاحَ الباطلُ عن مَقامِه ، ولَصَمت لِسانُهُ فَما نَطَقَ. وايمُ اللّهِ ، لافرُطَن (٣) لهم حَوضاً أنا ما تحه (٤) ، لايَصْدُرونَ عنه ولايَلْقَونَ بعدَه ريّاً

ــــــــــــــــــ

(١) الحُمى : المرض المعروف.

(٢) الحُمَة : سم العقرب ، والمراد الشدة والضيق. « الصحاح ـ حمى ـ ٦ : ٢٣٢٠ ».

(٣) أفرط الحوض : ملأه. « الصحاح ـ فرط ـ ٣ : ١١٤٨ ».

(٤) الماتح : المستقي. « الصحاح ـ متح ـ ١ : ٤٠٣ ».


أبداً ، وانّي لَراضٍ بحُجّةِ اللهِ عليهم وعُذرِه فيهم ، إِذ أنا داعيهم فمُعْذِرٌ إِليهم ، فإِن تابوا وأقبلوا فالتّوبةُ مَبذولةٌ والحقُّ مَقبولٌ ، وليسَ على اللّه كُفرانٌ ، وِانْ أَبَوْا أعطيتُهم حَدَّ السّيفِ ، وكفى بهِ شافياً من باطلٍ وناصراً لمؤمنٍ (١).

فصل

ومن كلامهِ 7 حينَ

دَخلَ البصرةَ ، وجمع أَصحابَهُ فحرّضَهم

على الجهادِ

فكانَ ممّا قالَ : « عبادَ اللّهِ ، انْهَدُوا (٢) إِلى هؤلاءِ القوم مُنشرِحةً صُدوكُم بقتالِهم ، فإِنّهم نَكَثوا بيعتي ، واخرجوا ابنَ حُنيف عاملِي بعَدَ الضربِ المُبرِّحِ والعُقوبةِ الشّديدةِ ، وقَتَلوا السّيابِجةَ (٣) ، وقَتلوا حكَيْمَ بنَ جَبَلَةَ العَبْديّ ، وقَتَلوا رِجالاً صالحِينَ ، ثمَّ تَتَبعَّوا منهم مَنْ نجا يَأخذونَهُم في كلِّ حائطٍ وتحتَ كلِّ رابيةٍ ، ثمَّ يأتونَ بهم فيَضرِبونَ رِقابَهم صَبْراً. ما لهم قاتَلَهُمُ اللّهُ أنّى يُؤفَكونَ.

ــــــــــــــــــ

(١) وردت قطع من الخطبة في الاستيعاب ٢ : ٢٢١ ، ونهج البلاغة ١ : ٣٨ / ٩ و ٥٥ / ٢١ و ٢ : ٢٦ / ١٣٣ ، ونقلها العلامة المجلسي في البحار ٨ : ١٦ ٤ ( ط / ح ).

(٢) نهد القوم لعدوهم : اذا صمدوا له وشرعوا في قتاله « النهاية ـ نهد ـ ٥ : ١٣٤ ».

(٣) السيابجة قوم صالحون كان امير المؤمنين 7 سلّم بيت المال بالبصرة اليهم فكبسهم أصحاب الجمل وقتلوهم وذلك بعد معاهدتهم ألاّ يقتلوا اصحاب امير المؤمنين 7. قال الجوهري [في الصحاح ـ سبج ـ ١ : ٣٢١ ] « السبابجة : قوم من السند كانوا جلاوزة بالبصرة واصحاب سجن ، والهاء للنسبة والعجمة » وأصل الكلمة : سياه بجكان. هامش « ش » و « م ».


انْهَدوا إِليهم وكونوا أشِدَّاءَ عليهم ، والْقَوْهُم صابرينَ محتسِبينَ تَعلمونَ أنّكم مُنازِلوهم ومُقاتِلوهم وقد وطّنتمُ أنفسَكم على الطَّعنِ الدَعْسِنيِّ (١) ، والضَّرب الطِلَخْفي (٢) ، ومُبارَزةِ الأقرانِ ، وأيُّ امرئ منكم أحَسَّ مِنْ نفسِه رَباطَةَ جَأشٍ عندَ اللقاءِ ، ورأى مِنْ أحَدٍ مِنْ إِخوانهِ فَشَلاً ، فليذُبّ عن أخيهِ الذي فُضِّل عليه كما يَذُب عن نفسِه ، فلو شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ » (٣).

فصل

ومن كلامهِ 7 حينَ

قُتِلَ طَلْحةُ وانفَضَّ أهلُ البَصرةِ :

« بنا تَسنَّمْتُمُ الشرفاءَ (٤) ، وبنا انفجرتم (٥) عنِ السّرارِ (٦) ، وبنا اهتديتُم في الظَّلماءِ؛ وُقِرَ سَمْعٌ لم يفقَهِ الواعِيةَ ، كيف يُرَاعُ للنَّبْأَةِ مَنْ أصَمَّتْهُ الصَّيْحةُ ، رُبطَ جَنانٌ لم يُفارِقْهُ الخَفَقانُ؛ ما زِلتُ أتوقَّعُ بكم عَواقِبَ الغَدْرِ ، وأتوسَّمُكَم بحِلْيةِ المغُتَرِّينَ ، سَتَرَني عنكم جِلْبابً الدّينِ ، وبَصَرَنِيكُم صِدْق النِّيَّةِ ؛ أقمتُ لَكُمً الحقَّ حيثُ تَعرِفونَ ولا دليلَ ،

ــــــــــــــــــ

(١) الدعس : الطعن الشديد. « لسان العرب ـ دعس ـ ٦ : ٨٣ ».

(٢) الطلخف : الشديد من الطعن والضرب. « لسان العرب ـ طلخف ـ ٩ : ٢٢٣ ».

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٢٩ ( ط / ح ).

(٤) في « م » وهامش « ش » : الشرف.

(٥) انفجر ، دخل في الفجر. « لسان العرب ـ فجر ـ ٥ : ٤٥ ».

(٦) السَرار : الليلة التي يستر فيها القمر. « لسان العرب ـ سرسر ـ ٤ : ٣٥٧ ».


وتَحتَفِرونَ ولا تُمِيهونَ (١) اليومَ أُنطِقُ لكمُ العَجماء ذاتَ البَيانِ ، عَزَبَ فَهْمُ امرىءٍ تخلَّفَ عنّي ، ما شككْت في الحقِّ منذُ رأيتُهُ ، كان بنو يَعقوبَ على المحجّةِ العُظمى حتَّى عَقَّوا أباهم وباعوا أَخاهم ، وبعدَ الإقرارِ كانتْ توبتُهم ، وباستغفارِ أَبيهِم وأَخيهِم غُفِرَ لهم » (٢).

ومن كلامهِ عليهِ

السّلامُ عندَ تَطوافِه على القَتلى :

« هذهِ قُرَيْشٌ ، جَدَعْتُ أنْفي وشَفَيْتُ نَفْسي ؛ لقد تقدمتُ إِليكم أُحذِّرُكم عضَّ السُّيوفِ ، وكُنتمُ أَحداثاً لا عِلمَ لكم بما ترَونَ ، ولكنَّه الحَيْنُ (٣) وسوءُ المَصرَع ، فأَعوذُ باللهِ من سُوء المَصرَعِ ».

ثمِّ مَرَّ على مَعْبَدِ بنِ المِقدادِ فقالَ : « رَحِمَ اللهً أَبا هذا ، أَمَا إنًه لو كانَ حيّاَ لَكان رأيُهُ أَحَسن من رأْيِ هذا » فقالَ عَمَّارُ بنُ ياسِرٍ : الحمدُ للّهِ الّذي أَوْقَعَهُ وجَعَلَ خَدَّهُ الأسفلَ ، إِنّا والله ـ يا أَميرَ المؤمنينَ ـ ما نُبالي مَنْ عَنَدَ عَنِ الحقِّ مِنْ وَلَدٍ ووالدٍ. فقالَ أمير المؤمنينَ 7 : « رَحِمَكَ اللّهُ وجَزاكَ عنِ الحقِّ خَيراً ».

قالَ : ومَرَّ بعبدِاللهِ بن رَبيْعَة بن دَرَّاجٍ وهو في القتلى فقال : « هذا

ــــــــــــــــــ

(١) أماه الحافر يُميه : اذا انبط الماء ووصل اليه غد حفره البئر. انظر « الصحاح ـ موه ـ ٦ : ٢٢٥ » وفي هامش « ش » و « م » : تُمهون. وكلاهما بمعنى واحد.

(٢) نهج البلاغة ١ : ٣ / ٣٣ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٤٣ ( ط / ح ).

(٣) الحين : الهلاك. « الصحاح ـ حين ـ ٥ : ٢١٠٦ ».


البائسُ ما كانَ أخرجَهُ؟ أدينٌ أخرجَهُ أمْ نَصْرٌ لعُثمانَ!؟ واللهِ ما كانَ رأْيُ عُثمانَ فيهِ ولا في أبيهِ بحسَنٍ ».

ثم مرّ بمَعْبَدِ بنِ زُهَيرِبنِ أبي أُمَيّة (١) فقالَ : « لوكانتِ الفِتنةُ برأس الثرَيّا لَتَنَاولَها هذا الغُلامُ ، واللهِ ما كانَ فيها بذي نَحِيزةٍ (٢) ، ولقد أَخبرَني مَنْ أدركَهُ وِانّه لَيُوَلْوِلُ فَرَقاً مِنَ السَّيفِ ».

ثمَّ مَرّ بمسلِمِ بنِ قَرَظَةَ فقالَ : « البرُّ أخرجَ هذا! واللّهِ لقد كلَّمَني أنْ اُكلِّمَ لَه عُثمانَ في شيءٍ كانَ يدَعيهِ قِبَلَهُ بمكَّة ، فأَعطاهُ عُثمانُ وقالَ : لَولا أَنتَ ما أعطيتُهُ ، إِنَّ هذا ـ ما عَلِمتُ ـ بِئْسَ أخو العَشِيرةِ؛ ثمّ جاءَ المَشُوْمُ للِحَيْنِ يَنْصُرُعُثمانَ ».

ثم مَرَّ بعبدِالله بن حُمَيْدِ بنِ زُهَيْرٍ فقالَ : « هذا أيضاً ممّن أَوضَعَ في قِتالِنا ، زَعَمَ يَطلُبُ اللهَ بذلك ، ولقد كَتَبَ إِليَّ كُتُباً يُؤذِي فيها عثمان فأعطاهُ شيئاً فرَضِيَ عنه ».

ومّر بعبدِاللهِ بنِ حَكِيمِ بنِ حِزامٍ فقال : « هذا خالف أَباه في الخروجِ ، وأبوهُ حيثُ لم يَنصُرْنا قد أحسنَ في بيعتهِ لنا ، وإنْ كان قد كفَّ وجَلسَ حيثُ شكَّ في القتال ، وما ألومً اليوم مَنْ كفَ عنَّا وعن غيرنا ولكنَّ المُلِيْمَ الذي يُقاتِلُنا ».

ثمَّ مَرَّ بعبدِاللهِ بنِ المُغِيرةِ بنِ الأخْنَسِ فقالَ : « أَمَّا هذا فقُتِلَ أبوهُ يومَ قُتِلَ عُثمانُ في الدَّارِ ، فخَرَجَ مُغْضَباً لمَقْتَلِ أبيهِ ، وهو غُلامٌ

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » : اُمية ، وفي « م » وهامش « ش » أبي اُمية ، وهو الصواب ، وهو : معبد بن زهير بن أبي اُمية بن عبداللة بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي ابن أخي أم سلمة زوج النبي 9. انظر « أُسد الغابة ٤ : ٣١٩ ، الإصابة ٣ : ٤٧٩ / ٤٣٢٧ ».

(٢) النحيزة : ألطبيعة. « االصحاح ـ نحز ـ ٣ : ٨٩٨ »


حَدَثٌ حُيِّنَ لقتلِه ».

ثمَّ مَرَّ بعبدِاللّهِ بنِ أبي عُثمان بنِ الأخْنَسِ بنِ شرِيقٍ فقالَ : « أمَّا هذا فإنّي (١) أنظُرُ إِليهِ وقد أخذَ القومَ السُّيوفُ هارِباً يَعدو مِنَ الصَّفِّ ، فنَهْنَهْتُ عنهُ فلم يَسمعْ مَنْ نَهْنهْتُ حتَّى قَتَلَهُ ، وكانَ هذا ممّا خَفِيَ على فِتيان قُريش ، أغمار (٢) ، لا عِلمَ لهم بالحربِ ، خُدِعوا واستُزِلُّوا ، فلمّا وَقَفَوا وَقَعُوا فقُتِلوا ».

ثمَّ مشى قليلاً فمرَّ بكَعْب بنِ سُوْرٍ فقالَ : « هذا الَّذي خَرَجَ علينا في عُنُقِه المًصحَفُ ، يَزعُمُ أنَّه ناصِرُ أمه ، يَدعو النّاسَ إلى ما فيهِ وهوَ لا يَعلَمُ ما فيهِ ، ثمَّ استفتحَ وخاب كل جبار عنيد. أمَا إِنه دعا اللّه أَن يَقتُلنَي فقَتلَهُ اللّهُ. أجلِسُوا كَعْبَ بنَ سُوْرٍ » فأجِلسَ ، فقالَ أميرُ المؤمنينَ 7 : « يا كعبُ ، قد وَجدْتُ ما وَعَدَني ربِّي حَقَّاً ، فَهلْ وَجدْتَ ما وَعَدَكَ ربُكَ حَقَّاً؟ ثَم قالَ : أَضجِعوا كَعْباً ».

ومرَّعلى طَلْحة بنِ عبيد الله فقالَ : « هذا النّاكِثً بَيعتي ، والمنشئ الفِتنةَ في الأًمّةِ ، والمُجلِبُ علي ، الدّاعي إِلى قَتْلي وقَتل عِتْرتي. أَجلِسوا طَلْحةَ » فأُجلِس ، فقالَ أميرُ المؤمنينَ 7 « يا طلحة بنَ عُبَيْدِاللّهِ ، قد وجدْتُ ما وَعَدَني ربّي حقّاً ، فهلْ وجدْتَ ما وَعدَ ربّكَ حقّاً!؟ ثمّ قالَ : أضجِعوا طلحةَ » وسارَ. فقالَ له بعضُ مَنْ كانَ معَهُ : يا أَميرَ المؤمنينَ ، أتُكلِّمُ كَعْباً وطَلْحةَ بعدَ قَتلِهما؟ قالَ : « أمَ واللّهِ ، إنّهما لقد سَمِعا كلامي كما سَمِعَ أهلُ القَلِيبِ (٣) كلامَ رسولِ اللّهِ صلى الله

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : فكأني.

(٢) الغمر : الذي لم يجرب الأمور. « الصحاح ـ غمر ـ ٢ : ٧٧٢ ».

(٣) أهل القليب : هم مشركو قريش الذين قتلوا يوم بدر ورماهم المسلمون في بئر


عليهِ وآلهِ يومَ بَدْرٍ » (١).

فصل

ومن كلامهِ 7 بالبصرةِ حينَ

ظهرَ على القومِ ، بعدَ حمدِ اللّهِ والثّناءِ عليهِ

« أمّا بعدُ : فإِنّ اللّهَ ذو رحمةٍ واسعةٍ ، ومغفرةٍ دائمةٍ ، وعفوٍ جَمٍّ ، وعقابِ أليمٍ ؛ قضى أنّ رحمتَهُ ومغفرتَهُ وعفوَهُ لأهل طاعتِه من خلقِه ، وبرحمَتِه اهتدى المهتدونَ؟ وقضى أَنّ نِقْمتَهُ وسَطَوته وعقابَهُ على أهلِ معصيتهِ من خلقِه ، وبعدَ الهُدى والبيناتِ ما ضل الضّالُّونَ. فما ظنُّكم ـ يا أهلَ البصرةِ ـ وقد نكثْتُم بيعتي وظاهَرْتُم عَلَيَّ عدوِّي؟ ».

فقامَ إِليه رجلٌ فقالَ : نَظُنُ خيراً ، ونَراكَ قد ظَفِرْتَ وقَدَرْتَ ، فإِنْ عاقبْتَ فقدِ اجترمْنا ذلكَ ، وِان عفوْتَ فالعفوُ أَحبُّ إِلى اللّهِ.

فقال : « قد عفوْتُ عنكم ، فإِيّاكم والفتنةَ ، فإِنّكم أوِّلُ الرّعيّةِ نَكَثَ البيعةَ وشقَّ عصا هذهِ الاُمّةِ » قالَ : ثمّ جلسَ للنّاسِ فبايَعوه (٢).

ــــــــــــــــــ

هناك.

(١) أورده المصنف في الجمل : ٢٠٩ ـ ٢١١ ، باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٣٧ ( ط / ح ).

(٢) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٤٢ ( ط / ح ).


فصل

ثمّ كتبَ 7 بالفتحِ إِلى أهلِ الكُوفِة

« بسمِ اللّهِ الرّخمنِ الرّحيمِ

من عبدِاللّهِ عليٍّ أميرِ المؤمنينَ إِلى أهلِ الكُوفةِ : سلامٌ عليكم ، فإِنّي أحمد إِليكم اللّهَ الذي لا إِلهَ إلاّ هو ، أمّا بعدُ : فإِنّ اللّهَ حَكم عَدل لا يغيًرُ ما بقومِ حتّى يغيّروا ما بأنفسِهم ، وإِذا أرادَ الله بقومٍ سوءاً فلا مردَّ لَه وما لهم من دونهِ من والٍ. اخبركم عنّا وعمّن سِرنا إِليهِ من جُموعِ أهلِ البَصرةِ ، ومن تأشَّبَ إِليهم (١) من قُريشٍ وغيرِهم معَ طلحةَ والزُّبيرِ ، ونكثِهم (٢) صفقةَ أيمانِهم ، فنهضتُ من المدينةِ حينَ انتهى إِلي خبرُ من سارَ إِليها وجماعتِها ، وما صنعوا بعاملي عُثمان بنِ حُنَيفٍ ، حتّى قدمت ذا قار ، فبعثتُ الحسنَ بنَ عليّ وعمارَ بنَ ياسرٍ وقيسَ بنَ سعدٍ فاستنفرتُكم بحقِّ اللّهِ وحق رسولهِ وحقّي ، فأقبلَ إِليَّ إِخوانُكم سِراعاً حتّى قَدِموا عَلَيَّ ، فسِرت بهم حتّى نزلتُ ظهرَ البصرةِ ، فأعذرتُ بالدّعاءِ ، وقمتُ بالحجّةِ ، وأقلتُ العثرةَ والزّلّةَ من أهلِ الرِّدّةِ من قُريشٍ وغيرِهم ، واستتبتُهم من نكثِهم بيعتي وعهْد اللّهِ عليهم ، فأبَوْا الاّ قتالي وقتالَ من معي

ــــــــــــــــــ

(١) تاشب اليهم : انضم اليهم واختلط بهم. « الصحاح ـ أشب ـ ١ : ٨٨ ».

(٢) في « ش » ونقضهم.


والتّماديَ في البغيِ (١) ، فناهضتُهم بالجهادِ ، فقَتلَ اللّهُ من قَتلَ منهم نكثاً ، ولدّ من وولّى إلى مصرهم ، وقُتِلَ طَلحةُ والزُبيرُ على نكثِهما وشقاقِهما ، وكانتِ المرأةُ عليهم أشأَمَ من ناقةِ الحجرِ (٢) ، فخُذِلوا وأدبروا وتقطّعتْ بهِمُ الأسبابُ ، فلمّا رأوا ما حلَّ بهم سألوني العفوَ ، فقَبلتُ منهم وغَمَدتُ السّيفَ عنهم ، وأجريتُ الحقَ والسنةً بينَهم ، واستعملتُ عبدَاللّه بنَ العباسِ على البَصرةِ ، وأنا سائرٌ إِلى الكُوفةِ إِن شاءَ اللّهُ ، وقد بعثتُ إِليكم زَحْرَبنَ قَيسٍ الجُعْفيّ لِتَسألوه فيُخبركم عنّا وعنهم ، وردّهمُ الحقَّ علينا ، وردّ اللّهِ لهم وهم كارهونَ ، والسّلامُ عليكم ورحمَةُ اللّهِ وبركاته » (٣).

فصل

ومن كلامِه 7

حينَ قَدِمَ الكُوفةَ من البصرةِ

بعدَ حمدِ الله والثنّاءِ عليهِ : « أمّا بعدُ : فالحمدُ للهِّ الّذي نَصرَ وَليَّه ، وخَذلَ عدوَّه ، وأعزَّ الصّادِقَ المُحِقَّ ، وأذلَ الكاذِبَ المُبطِلَ. عليكم ـ يا أهلَ هذا المِصر ـ بتقوى اللهِ وطاعةِ من أطاعَ اللّهَ من أهلِ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : الغي.

(٢) اشارة الى ناقة ثمود ، ونحوه ما ورد في المثل : أشأم من أحمر عاد وهو قدار بن قديرة الذي عقر ناقة صالح 7. انظر : سوائر الامثال : ٢١٢.

(٣) أورده المصنف في الجمل : ٢١٣ ، والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي ٤ : ١٣٥ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٤٢ ( ط / ح ).


بيتِ نبيِّكم ، الذينَ هم أولى بطاعتِكم من المنُتَحِلينَ المُدَّعِينَ القائلينَ : إِلينا إِلينا ، يتفضَّلونَ بفضلنا ، ويجاحِدونا أمرَنا ، وينازعونا حقّنا ويدفعونا عنه ، وقد ذاقُوا وَبالَ ما اجترحُوا ، فسوفَ يَلقَوْنَ غَيّاً. وقد قَعدَ عن نصرَتي منكم رجال ، وأنا عليهِم عاتِبٌ (١) زارٍ فاهجُروهم وأسمِعوهم ما يَكرَهونَ حتّى يُعتبونا ونَرى منهم ما نُحِبُّ » (٢).

فصل

ومن كلامهِ 7

لمّا عَمِلَ على المسير إِلى

الشّامِ لقتالِ مُعاوية بنِ أَبَي سُفيانَ

بعدَ حمدِ اللّهِ والثّناءِ عليهِ والصّلاةِ على رسولِ اللهِ 9 : « اتقوا اللّهَ ـ عبادَ اللّهِ ـ وأطيعوهُ وأطيعوا إِمامَكم ، فإِنّ الرّعيّةَ الصالحةَ تَنجو بالإمام العادلِ. أَلا وِانّ الرّعيّةَ الفاجرةَ تهلكُ بالإمام الفاجرِ ، وقد أَصبحََ مُعاويةُ غاصِباً لما في يديهِ من حقّي ، ناكِثاً لبيعتي ، طاعِناً في دِينِ اللّهِ عزَّ وجلَّ. وقد عَلِمتمُ ـ أَيُّها المسلمونَ ـ ما فَعلَ النّاسُ بالأَمسِ ، فجئتموني راغِبينَ إِليَ في أَمرِكم حتّى استخرجتُموني من منزلي لِتبايعوني ، فالْتَوَيْتُ عليكم لأبلُوَ ما عندَكم ، فرادَدْتُمُوني القولَ مِراراً ورادَدتُكُموهُ ، وتَكَأْكَأْتُم عَلَيَّ تَكَأْكُؤَ الإبِلِ على حِياضِها حِرصاً على بَيعتي ، حتّى خِفتُ أَن يَقتُلَ بعضُكم بعضاً ، فلمّا

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : عائب ، ونسبه في هامش « ش » الى نسخة الشيخ.

(٢) وقعة صفين : ٤ ، امالي المفيد : ١٢٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٦٥ ( ط / ح ).


رأيتُ ذلكَ منكم رَوَّيْتُ في أمري وأمرِكم ، فقلتُ : إِنْ أَنا لم اُجِبْهم إِلى القِيام بأمرِهم ، لم يُصيبوا أحَداً منهم يَقومُ فيهم مَقامي ، ويَعدلُ فيهم عَدْلي. وقلتُ : واللهِ لألِيَنَّهم وهم يَعرِفونَ حقّي وفضلي أحبُّ إِلي من أنْ يلُوني وهم لا يَعرِفونَ حّقيِّ وفضلي. فبسطت يدي لكم فبايَعتُموني ـ يا معشرَ المسلمينَ ـ وفيكُم المهاجِرونَ والأنصارُ والتّابعونَ بإِحسانٍ ، فأَخذتُ عليكم عهدَ بَيعتي وواجبَ صَفقتي عهدَ اللّهِ وميثاقَه ، وأشدَّ ما أُخِذَ على النّبيِّينَ من عهدٍ ومِيثاقِ ، لَتَفُنَّ لي ولَتَسْمَعُنَّ لأمري ولَتُطيعوني وتُناصِحوني وتُقاتِلونَ معي كلًّ باغٍ عَلَيَّ ، أو مارِقٍ إِنْ مَرَقَ ، فأنعمتُم (١) لي بذلكَ جميعاً. وأخذتُ عليكم عهدَ الله وميثاقَه وذمّة اللّهِ وذمِّةَ رسولهِ ، فأَجبتمُوني إِلى ذلكَ ، وأشهدتُ اللّهَ عليكم ، وأشهدتُ بعضَكم على بعضٍ ، فقمتُ فيكم بكتاب اللهِ وسنّةِ نبيِّه 9.

فالعَجبُ من مُعاوية بنِ أبي سفيانَ! يُنازعني الخلافةَ ، ويجحدُني الإمامةَ ، ويَزعمُ أنّه أحقُّ بها منّي ، جرأةً منه على اللّهِ وعلى رسولهِ ، بغيرِحقٍّ له فيها ولا حجّةٍ ، لم يبايعْه عليها المهاجرونَ ، ولا سلّمَ له الأنصار والمسلمونَ.

يا معشرَ المهاجرينَ والأنصارِ ، وجماعة من سَمعَ كلامي ، أما أوجبتُم لي على أنفسِكمُ الطّاعةَ ، أما بايعتُموني على الرّغبةِ ، أما أخذتُ عليكمُ العهدَ بالقبولِ لقولي ، أما كانتْ بَيعتي لكم يومئذٍ أوكدَ من بيعةِ أبي بكرٍ وعُمَر فما بالُ من خالفني لم يَنقُضْ عليهما حتّى مَضَيا ، ونَقَضَ عَليَّ ولم يَفِ لي!؟ أما يَجبُ عليكم نصحي ويَلزمُكم أمري؟ أما

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : انعمتم : قبلتم وقلتم نعم.


تَعلمونَ أنّ بَيعتي تَلزمُ الشّاهِدَ منكم والغائبَ!؟.

فما بالُ مُعاويةَ وأصحابِه طاعِنينَ في بَيعتي؟ ولِمَ لَمْ يَفُوا بها لي وأنا في قَرابتي وسابقتي وصِهري أولى بالأمرِ ممّن تَقدَّمَني؟ أما سَمِعْتم قولَ رسول اللّهِ 9 يومَ الغديرِ في وِلايتي ومُوالاتي!؟ فاتَّقوا اللّهَ ـ أَيّها المسلمونَ ـ وتَحاثُّوا على جهادِ مُعاويةَ القاسِطِ النّاكِثِ وأصحابِه القاسِطينَ.

اسمعوا ما أتلو عليكم من كتاب اللهِ المنُزَل على نبيِّه المرُسَل لِتَتَعِظوا ، فإِنّه والله عظة لكم ، فانتفِعوَا بمَواعظِ اللّهِ ، وازدجِروا عن مَعاصي اللهِ ، فقد وَعَظَكمُ الله بغيركِم فقالَ لنبيِّه 9 ( المْ تَرَ إِلَى اْلمَلأ مِنْ بَنيْ إِسْرَائيْلَ مِنْ بَعْدِ مُوسًى إِذْ قَالوا لِنَبِيٍّ لَهُم ابْعَثْ لَنَا مَلِكَاً نُقَاتِلْ في سَبيْل اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمً الْقِتَال ألاّ تُقَاتِلوُا قَالوُاوَمَا لًنَا ألاَّ نُقَاتِلَ فِيْ سَبيْلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَابنَائِنَا فَلَمّاَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوا إلاّ قَلِيْلاً مِنْهُمِْ وَاللّهَ عَلِيْمٌ بالظَّالمِيْنَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهمْ اِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوْتَ مَلِكَاَ قَالُوْا أنّى يًكُوْنُ لَهُ اْلمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ باْلمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادًهُ بَسْطَةً في الْعِلْم وَالْجسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِيْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ ) (١).

أيُّها النَّاس ، إِنّ لكم في هذهِ الآياتِ عِبرةً ، لِتَعلموا أنّ اللّهَ تعالى جَعلَ الخِلافةَ والإمرةَ من بعدِ الأنبياءِ في أعقابهم ، وأنه فَضَّلَ طَالُوتَ

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.


وقَدَّمَهُ على الجَماعةِ باصطفائهِ إِيّاهُ ، وزِيادتهِ بَسطةً في العلمِ والجسمِ ، فهل تَجِدونَ اللهَ اصطفى بني أُميّةَ على بني هاشم! وزادَ مُعاويةَ عَلَيَّ بَسطةً في العلمِ والجسم! فَاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ اللهِ ـ وجاهدوا في سبيلهِ قبلَ أنْ ينالَكم سخطُه بعصيانِكم له ، قالَ اللّهُ سُبحانَه : ( لُعِنَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا مِنْ بَنْي إِسْرَائِيْلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيْسى بْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوْا يَعْتَدُوْنَ * كَانُوْا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنْكَرٍ فَعَلُوْهُ لَبئْسَ مَاكَانُوْا يَفْعَلُوْنَ ) (١) ( إِنَّمَا اْلمُؤْمِنُوْنَ الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِاللّهِ وَرَسُوْلِهِ ثُمَ لَمْ يَرْتَابوْا وَجَاهَدُوْا باَمْوَالِهِمْ وانفسِهِمْ فيْ سَبيْلِ اللّهِ أولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (٢) ( يَا أيُّهَا الّذِيْنَ آَمَنُوْا هَلْ أدُلكُم فًىَ تَجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَاب ألِيْمٍ * تُؤْمِنُوْنَ بالله وَرَسُوْلِهِ وَتجَاهِدُوْن فيْ سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمَْ إنْ كُنْتًمْ تَعْلَمُوْنَ * يَغفِرْ لَكُمْ ذُنوْبكُمْ وَيُدْخلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِيْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوزُ الْعَظِيْم ) (٣).

اتَّقوا الله ـ عبادَ اللّهِ ـ وتَحاثُّوا على الجهادِ معَ إِمامِكم ، فلو كانَ لي منكم عِصابةٌ بعددِ أهلِ بَدْرٍ ، إِذا أمرتُهم أطاعوني ، وِاذا استنهضتُهم نَهَضوا معي ، لاستغنيتُ بهم عن كثيرٍ منكم ، وأسرعتُ النهوضَ إِلى حربِ مُعاويةَ وأصحابِه فإنّه الجهادُ المفروضُ » (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) المائدة ٥ : ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٥.

(٣) الصف ٦١ : ١٠ ـ ١٢.

(٤) الاحتجاج : ١٧٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٧٢ و ٦٩٧ ( ط / ح ).


فصل

ومن كلامهِ 7 وقد

بَلغَه عن مُعاويةَ وأهل الشّام

ما يؤْذيهِ مِنَ الكلام ، فقالَ :

« الحمدُ للّهِ ، قديماً وحديثاً ما عاداني الفاسقونَ فعاداهُمُ اللّهُ ، أَلم تَعجَبوا ، إِنّ هذا لَهو الخَطْبُ الجَليلُ ، انّ فُسَّاقاً غيرَ مَرضِيّينَ ، وعَنِ الإسلام وأهلِه مُنحرِفينَ (١) ، خَدَعوا بعضَ هذهِ الأمّةِ ، وأَشْرِبوا قُلوبهم حُبَّ الفِتنةِ ، واستمالوا أهواءهم بالإفكِ والبُهتانِ (٢) ، قد نَصَبوا لنا الحربَ ، وهَبُّوا (٣) في إِطفاءِ نُورِ اللّهِ ، والله مُتمّ نوره ولوكَرِهَ الكافِرونَ. اللّهمَّ فإنْ رَدُّوا الحقَّ فاقْصُصْ (٤) جَذْمَتهم ْ (٥) ، وشَتِّتْ كلمتَهم ، وأبسِلْهم (٦) بخطاياهُم ، فإِنّه لا يَذِلُّ من واليتَ ، ولا يَعِزُّمن عاديتَ » (٧).

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : متخوفين.

(٢) في « ش » : والعدوان.

(٣) في « ش » : همّوا.

(٤) كذا في هامش « ش » و « م » ومعناه : اقطع. وفي « ش » و « م » : فافضض ، وهذا يناسب ما نقله الطبري : فافضض خدمتهم ، بدل : جذمتهم ، ومعناه : فرّق جمعهم.

(٥) جذم الشيء : اصله. « الصحاح ـ جذم ـ ٥ : ١٨٨٣ ».

(٦) أبسله : أسلمه للهلكة. « الصحاح ـ بسل ـ ٤ : ١٦٣٤ ».

(٧) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٤٧٣ ( ط / ح ).


فصل

ومن كلامه 7 في

تحضيضِه على القتالِ يومَ صِفَينَ

« عبادَ الله ، اتَّقوا الله ، وغُضُّوا الأبصارَ ، واخْفِضوا الأَصواتَ ، وأَقِلُّوا الكلامَ ، ووَطِّنوا أَنفسَكم على المُنازَلةِ والمُجاوَلةِ والمُبارَزة والمُبالَطةِ » (١) والمُبالَدةِ (٢) والمُعانَقةِ والمُكادمة (٣) ، واثبتُوا ، واذكُروا الله كثيراً لعلَّكم تُفلِحونَ ، ولا تَنازَعُوا فتَفشَلوا وتَذهبَ رِيْحُكُم واصبروا إِنَّ الله معَ الصّابِرينَ. اللّهمَّ ألهمْهُمُ الصَّبرَ ، وأنزلْ عَليهمُ النَّصْرَ ، وأعْظِمْ لَهُمُ الأجْرَ » (٤).

فصل

ومن كلامهِ 7 أيضاً في هذا المعنى

« معشرَ المسلمينَ إِنّ اللهَ قد دَلَّكم على تجارةٍ تنُجِيْكم من عذابِ أليمٍ ، وتُشْفي بكم على الخيرِ العظيمِ ، الإيمان باللهِ ورسولِ صلّى اللهَ

ــــــــــــــــــ

(١) المبالطة : المضاربة بالسيوف. « الصحاح ـ بلط ـ ٣ : ١١١٦ ».

(٢) المبالدة : مثل المبالطة ، وهي المضاربة بالسيوف. « الصحاح ـ بلد ـ ٢ : ٤٤٩ ».

(٣) المكادمة : شدة القتال. انظر « لسان العرب ـ كدم ـ ١٢ : ٥١٠ ».

(٤) وقعة صفين : ٢٠٤ ، تاريخ الطبري ٥ : ١١ ، شرح النهج الحديدي ٤ : ٢٦ ، ورواه الكليني في الكافي ٥ : ٣٨ / ٢ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥١٠ ( ط / ح ).


عليه وآله والجهاد في سبيلهِ ، وجَعَلَ ثوابَه مغفرةَ الذَّنب ، ومَساكِنَ طيِّبةً في جنّاتِ عَدْنٍ. ثمَّ أخبركم أنّه يُحبُ الّذينَ يُقاتِلوَنَ في سبيلهِ صفّاً كأنّهم بُنيانٌ مَرصوصٌ ، فقَدِّموا الدّارِع وأخِّروا الحاسِرَ ، وعَضّوا على الأضراسِ فإِنّه أنْبى للِسُيوفِ عَنِ الهام ، والْتَوُوا في أطرافِ الرِّماح فإِنّه أَموَرُ للأسِنَّةِ ، وغُضُّوا الأبصارَ فإِنَّه أضبطُ (١) للجَأْشِ واسْكَنُ لِلقُلوبِ ، وامِيتوا الأصواتَ فإِنّه أطردُ للفشلِ وأولى بالوَقارِ. ورايتَكم فلا تُميلوها ولا تُخَلُّوها ولا تَجعلوها إلأ بأيدي شُجعانِكم ، فإِنّ المانِعينَ للذِّمارِ الصّابرينَ على نزُولِ الحَقائقِ أهل الحِفاظِ الّذين يَحُفًّونَ براياتِهم ويكتنِفونَها.

رَحِمَ اللّهُ امرَءاً منكم آسى أخاهُ بنفسِه ، ولمِ يَكِلْ قِرْنَه إِلى أخيهِ فيجتمعَ عليهِ قِرْنُه وقِرْنُ أخيهِ ، فيَكتسِبَ بذلكَ لائمةَ وياتيَ به دَناءةً ، فلا تَعَرَّضُوا لِمَقْتِ اللّهِ ، ولا تَفِرُّوا مِنَ الموتِ فإنّ اللّهَ تعالى يَقولُ : ( قُلْ لَنْ يَنْفَعكُمُ الْفِرَارُإِنْ فَرَرتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أوِالْقَتْلِ وَإِذا لا تُمتّعون إِلاَّ قَلِيْلاً ) (٢). وايمُ اللّهِ لَئنْ فَرَرْتُم من سَيفِ العاجِلةِ لا تَسلَموا من سَيفِ الآخِرةِ ، فاستعينوا بالصّبرِوالصّلاةِ والصِّدقِ في النِّيّةِ ، فإِنَّ اللّهَ تعالى بعدَ الصّبر يُنزلُ النّصرَ » (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : أربط.

(٢) الاحزاب ٣٣ : ١٦.

(٣) وقعة صفين : ٢٣٥ ، تاربخ الطبري ٥ : ١٦ ، الكافي ٥ : ٣٩ ، شرح النهج الحديدي ٥ : ١٨٧ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥١٠ ( ط / ح )


فصل

ومن كلامهِ 7 وقد مَرَّ

برايةٍ لأهلِ الشّامٍ لا يَزولُ اصحابُها عن

مَواقِفهم صَبْراَ على قِتالِ المؤمِنين ،

فقالَ لأصحابهِ : « إِنْ هؤلاءِ لن يَزولوا عن مَواقفِهم دونَ طَعْنٍ دِراك يخرجُ منه النَسيمُ ، وضربٍ يَفلِقُ الهامَ ويُطِيح العِظامَ وتَسقُطُ منه المَعاصِمُ والأكُفُ ، وحتّى تُصْدعَ جباهُهم بعمُدِ الحَديدِ ، وتَنتثِرَ حواجِبُهم على الصُّدورِ والأذقانِ. أينَ أَهلُ الصّبرِ؟ أينَ طلاب الأجْرِ!؟ » فثارَ إِليهم حينئذٍ عِصابةٌ مِنَ المسلمينَ فكَشَفُوهم (١).

فصل

ومن كلامهِ 7 في هذا المعنى

« إِنَّ هؤلاءِ القومَ لم يكونوا لِيُنِيبوا إِلى الحقِّ ، ولا لِيُجِيبوا إِلى كلمةِ السّواءِ حتَّى يًرْمَوْا بالمنَاسِرِ (٢) تَتبعُها العَساكِرُ ، وحتّى يُرجمَوا (٣) بالكَتائبِ تَقفوها الجَلائبُ (٤) ، وحتّى يُجَرَّ ببلادِهِمُ الخَمِيسُ يَتلوهُ الخَميسُ ، وحتّى

ــــــــــــــــــ

(١) كتاب سليم بن قيس : ٢٢٠ ، وقعة صفين : ٣٩٢ ، تاريخ الطبري ٥ : ٤٥ ، الكافي ٥ : ٤٠

(٢) المنسر : قطعة من الجيش تمرّ أمام الجيش الكبير. « الصحاح ـ نسر ـ ٢ : ٨٢٧ ».

(٣) في « م » وهامش « ش » : يزحموا.

(٤) الجلائب : الخيل التى تجلب ليقاتل عليها بعد تعب الأولى ، أو كتائب أُخرى تدخل


تَدعَقَ آلخيُولُ (١) في نَواحي أرضهم وبأعنانِ مَساربهم ومَسارحِهم ، وحتّى تُشَنَّ الغاراتُ في كلِّ فَجّ وتَخفقَ عليهمُ الرّايات ، ويَلقاهُم قومٌ صُدْقٌ صُبَّرٌ لا يَزيدهم هَلاكُ منْ هَلَكَ مِن قَتلاهم ومَوتاهُم في سبيلِ اللهِ إِلاّ جدّاً فى طاعةِ اللّهِ ، وحِرصاً على لقاءِ اللّهِ.

واللهِ ، لقد كُنّا معَ النّبيِّ 9 يُقْتَلُ آباؤنا وأبناؤنا وِاخوانُنا وأعمامُنا ، ما يَزيدُنا ذلكَ إلاّ إِيماناً وتسليماً ، ومُضِيّاً على مَضِّ الألمِ ، وجُرأةً على جهادِ العدوِّ ، واستقلالاً بمُبارزةِ الأقرانِ. ولقد كانَ الرّجلُ منّا والاخرُ من عدوِّتا يَتصاولانِ تَصاوُلَ الفَحلَينِ ، ويَتخالَسانِ أَنفسَهما أيُّهما يَسقي صاحبَه كأسَ المنيِّةِ ، فمرّةً لنا من عدوِّنا ، ومرّةً لعدوِّنا منّا ، فلمّا رآنا الله تعالى صُبُراً صُدقاً ، أنزلَ بعدوِّنا الكَبْتَ ، وأنزلَ علينا النّصر ، ولَعمري لو كُنّا نأتي مثلَ ما أتيتم ما قامَ الدِّينُ ولا عَزَّ الإسلامُ ، وايمُ اللهِ لَتَحتَلِبُنَّها دماً عَبيطاً ، فاحفَظوا ما اقولُ » (٢).

فصل

ومن كلامهِ 7 حينَ رجعَ

أصحابهُ عِنَ القتالِ بصِفِّينَ ، لمّا اغترَّهم

مُعاويةُ برفعِ المَصاحِفِ فانصرًفوا عَنِ الحربِ

« لقد فَعَلتُم فعلةً ضعْضَعَتْ مِنَ الإسلامِ قُواهُ ، وأسقطَتْ

ــــــــــــــــــ

المعركة بعد الكتائب الاولى.

(١) تدعق الخيل : اي تكثر الغارات. انظر « الصحاح ـ دعق ـ ٤ : ١٤٧٤ ».

(٢) وقعة صفين : ٥٢٠ ، شرح النهج الحديدي ٢ : ٢٣٩ ، وأورد سليم بن قيس في كتابه : ١٤٧ باختلاف وفي ألفاظه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥٠٦ ( ط / ح ).


مُنَتَه (١) ، وأورثَتْ وَهْناً وذِلّةً. لمّا كُنتُمً الأعلَيْنَ ، وخافَ عدوُّكمُ الاجتياحَ ، واستَحَر بهمُ القتلُ ، ووجدوا ألمَ الجراحِ ، رَفعوا المصَاحِفَ ودَعَوْكم إِلى ما فيها لِيَفثؤوكم (٢) ، عنهم ، ويَقطَعوا الحربَ فيما بينَكم وبينَهم ، ويتربّصُ بكم رَبْبَ المنونِ خَديعةً ومَكيدةً. فما أنتم إِنْ جامعتُموهم على ما أحبُّوا ، وأعطيتُموهمُ الّذي سَألوا إلاّ مَغرورونَ. وايمُ اللهِ ، ما أظًنكم بعدها مُوافِقي رُشْدٍ ، ولامُصِيبي حَزْمٍ » (٣).

فصل

ومن كلامهِ 7 بعدَ كَتْب

الصّحيفةِ بالموادعة والتّحكيم ، وقَدِ

اختلفَ عَليهِ أهَلُ العراقِ في ذلكَ

« واللهِ ، ما رَضِيْتُ ولا أحببْتُ أن ترْضَوْا ، فإِذْ أبيَتْم إِلاّ أن تَرْضَوْا فقد رَضِيْتُ ، واذا رَضِيْتُ فلا يَصلُحُ الرُّجوعُ بعدَ الرِّضا ، ولا التبّديلُ بعدَ الإقرارِ ، إِلاّ أن يُعصى الله بنقضِ العهدِ ، ويُتَعدّى كتابُه بحلّ العقدِ ، فقاتِلوا حينئذٍ من ترك أمر الله. وامّا الذي ذكرتُم عنِ الأشترِ من تركهِ أمري بخطِّ يدِه في الكتاب وخلافِه ما أنا عليه ، فليسَ من أُولئكَ ، ولا أخافُه على ذلكَ ، ولئتَ فيكَمِ مثلَه اثنينِ ، بل ليتَ فيكم مثلَه واحداً يَرى في عدوِّكم ما يرى ، إِذاَ لخفّت عليَّ مؤونتُكم ،

ــــــــــــــــــ

(١) المُنّة : القوة « الصحاح ـ منن ـ ٦ : ٢٢٠٧ ».

(٢) فثأه عنه : كسره وسكّن غضبه. « الصحاح ـ فثأ ـ ا : ٦٢ ».

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٢٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥٩٢ ( ط / ح ).


ورَجوتُ أن يَستقيمَ لي بعضُ أوَدِكم ، وقد نهيتُكم عمّا أتيتم فعصيتمُوني ، فكنتُ ـ أنا وأنتم ـ كما قالَ أخو هَوازِنَ :

وَهَلْ أنَا إِلّا مِنْ غَزِيًةَ إِنْ غَوَت

غَوَيْتُ وانْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أرْشُدِ » (١)

فصل

ومن كلامهِ 7 للخوارجِ

حينَ رجعَ إِلى الكُوفةِ ، وهو بظاهرِها قبلَ دخولِه إِيّاها ،

بعدَ حمدِ اللّهِ والثناءِ عليهِ : « اللّهمَّ هذا مَقامٌ من فَلَجَ فيه كانَ أَولى بالفلْجِ يومَ القيامةِ ، ومن نَطِفَ (٢) فيه أو غلّ فهو في الآخرِة أعمى وأَضلُّ سبيلاً. نَشَدْتُكم بالله أتعلمونَ أَنّهم حينَ رَفَعوا المَصاحِفَ فقلتم نُجيبهُم إلى كتاب الله ، قُلت لكم : إِنّي أعلمُ بالقوم منكم ، إِنّهم لَيسوا بأصحاب دِين ولا قُرآنٍ ، إِنّي صَحِبْتُهم وعَرَفْتُهم أطَفالاً ورِجالاً فكانوا شًرَّ أَطفالٍ وشرَّ رِجالٍ ، امضوا على حقَكم وصدقِكم. إِنّما رَفَعَ القومُ لكم هذهِ المصَاحِفَ خديعةً ووَهْناً ومَكيدةً ، فرَدَدْتم عَليَّ رأيي ، وقُلتم : لا ، بل نَقبلُ منهم ، فقلتُ لكم : اذكُروا قولي لكم ومعصيتَكم إِيّايَ ، فلمّا أبَيْتُم إلاّ الكِتابَ ، اشترطتُ على الحَكَمينِ أن يُحييا ما أحياهُ القُرآنُ وأن يُميتا ما أماتَ القُرآنُ ، فإِن حَكَما بحكمِ القُرآنِ فليسَ لنا أن نُخالفَ

ــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٩ والكامل لابن الاثير ٣ : ٣٢٢ ، وفيهما : عدوي بدل عدوكم ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥٩٣ ( ط / ح ) ، وأخو هوازن هو دريد بن الصمة. والبيت في ديوانه : ٤٧ / ١٨.

(٢) نَطِف : تلطخ بالعيب واتهم بالريبة. « الصحاح ـ نطف ـ ٤ : ١٤٣٤ ».


حُكْمَ من حَكَمَ بما في الكِتابِ ، وِانْ أبيا فنحن من حكمِهما بُرَآءُ ».

فقالَ له بعضُ الخَوارجِ : فخبِّرْنا أتراهُ عَدْلاً تحكيمَ الرِّجالِ في ا لدِّماءِ؟.

فقالَ 7 : « إِنّا لم نحكِّمِ الرِّجالَ ، إِنّما حكَّمنا القُرآنَ ، وهذا القُرآنُ إِنّما هو خظ مسطورٌ بينَ دَفتين لا يَنطِقُ ، وإِنَما يَتكلَّمُ بهِ الرَجالُ ».

قالوا له : فخبِّرْنا عَنِ الأجَلِ ، لِمَ جَعَلتَه فيما بينَك وبينَهم.

قال : « لِيَتعلَّبَم الجاهلُ ، ويتثبَّتَ العالِمُ ، ولعلَّ اللّهَ أنْ يُصلِحَ في هذهِ الهًدْنةِ هذهِ الامةَ. ادخلوا مِصْركم رَحِمَكُمُ اللّه » ودَخَلوا مِنْ عِندِ آخِرِهم (١).

فصلِ

ومن كلامهِ 7 حين نَقَضَ مُعاويةُ العَهْدَ

وبَعَثَ بالضّحّاكِ بنِ قَيْسٍ للغارةِ على أهلِ العِراقِ ، فلَقِيَ عَمْروَ ابن عُمَيْسِ بن مَسعوِد ، فقَتلَهُ الضّحّاك وقَتَلَ ناساً من أصحابه ؛ وذلكَ بعدَ أنْ حَمِدَ اللهَ وأثنى عليهِ ثم قال : « يا أهلَ الكُوفةِ ، اخرُجَوا إلى العبدِ الصّالحِ لمِ الى جيشٍ لكم قد أُصيبَ منه طَرَفٌ. اخرُجوا فقاتِلوا عدوَّكم ، وامنعوا حَرِيمَكم إِن كُنتم فاعلينَ ».

ــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ٦٥ : ٥ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٦١١ ( ط / ح ).


قال : فردوا عليهِ ردّاً ضعيفاً ، ورأى منهم عَجْزاً وفَشَلاً ، فقالَ : « واللهِ ، لَوَدِدْتُ أَنّ لي بكلِّ ثمانيةٍ منكم رجلاً منهم. ويَحْكُم ، اخرُجوا معي ثمَّ فِرُّوا عنّي إِن بدا لكم ، فوَاللّهِ ما أكرَهُ لقاءَ ربَي على نيَّتي (١) ويَصيرتي ، وفي ذلكَ رَوْحٌ لي عظيمٌ ، وفَرَجٌ من مُناجاتكم ومُقاساتِكم ومُداراتِكم مثلَ ما تُدارَى البِكارُ العَمِدة (٢) اوِ الثِّيابُ المُتَهَتِّرةُ (٣) ، كلَّما خِيْطَتْ (٤) من جانبٍ تَهتّكتْ من جانبٍ على صاحبِها » (٥).

فصل

ومن كلامهِ 7 أيضاً في استنفار القوم

واستبطائهم عَن الجهادِ وقد بَلَغَه مَسيرُ بُسرْ بنِ أرطاةَ إلَى اليَمَن

« أَمّا بعدُ : أَيُّها النّاسُ ، فإنّ أوّلَ رَفَثِكُم وبَدْء نَقْضِكم ذهَابُ أُولي النُّهى وأَهلِ الرّأيِ منكم ، الَّذينَ كانوا يلْقَؤنَ فيَصْدُقون ، ويَقولون فيَعدِلونَ ، ويُدْعَوْنَ فيُجيبونَ ، واني واللّهِ قد دَعَوتُكم عَوْداً وبَدْءاً ، وسِرَّاً وجَهْراً ، وفي الليلِ والنّهارِ ، والغُدوِّ والآصالِ ، ما يَزيدُكم دُعائي إِلاّ فِراراً وإدباراً ، ما تَنفَعُكُمُ العِظَةُ والدًّعاءُ إِلى الهُدى والحِكمةِ ، وِانّي لَعالم بما يُصلِحُكم ويُقيمُ لي أوَدَكم ،

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : بينتي.

(٢) البكار العَمِدة : ألابل التي ينفضخ سنامها من الركوب. « الصحاح ـ عمد ـ ٢ : ٥١٢ ».

(٣) متهتر : متمزق. « لسان العرب ـ هتر ـ ٥ : ٢٤٩ ».

(٤) في « م » وهامش « ش » : حيصت.

(٥) الغارات ٢ : ٤٢٣ ، شرح النهج الحديدي ٢ : ١١٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٧٠٠ ( ط / ح ).


ولكني والله لا أُصلِحُكم بفسادِ نَفْسي ، ولكنْ أمهلوني قليلاً فكأنّكم واللهِ بامرئٍ قد جاءَكم يَحْرِمُكم ويُعذَبُكم فيعذًبُه الله كما يُعذَبُكم ، إِنّ مِنْ ذلَ المسلمينَ وهَلاكِ الدِّين أن بني أبي سُفيانَ يَدعو الأرذالَ (١) الأشرارَ فيجابُ ، وأدعُوكم وأنتمُ الافضلُونَ الأخيارُ فترُاوِغُونَ وتُدافِعونَ ، ما هذا بفعلِ المُتقِينَ! » (٢).

فصل

ومن كلامهِ 7 أيضاً

في استبطاءِ مَنْ قَعَدَ عن نُصرتهِ

« أيًّها النّاسُ المجتمعةُ أبدانُهم ، المُختلِفةُ أهواؤهم ، كلامُكم يُوهن (٣) الصُّمَ الصِّلابَ ، وفعلُكم يُطْمعُ فيكُم عدوَّكمُ المُرتاب. تَقولونَ في المجالسِ كَيْتَ وكَيْتَ ، فإِذا جاءَ القتالُ قُلتم : حِيْدِيْ حَيَادِ (٤) ، ما عَزَتْ دَعوةُ مَنْ دَعاكم ، ولا استراحَ قَلْبُ مَنْ قاساكمِ ، أعاليلَ أضاليلَ ، سألتُموني التاخيرَ دِفاعَ ذِي الدَّينِ المَطُولِ. لا يَمنعُ الضيْمَ الذّليلُ ، ولا يدرَكُ الحقُّ إلاّ بالجِدِّ. أيَ دارٍ بعدَ دارِكم تَمنَعونَ؟

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : الأراذل.

(٢) رواه الثقفي في الغارات ٢ : ٦٢٤ ، وأورده مختصراً البلاذري في انساب الاشراف ٢ : ٤٥٨ ، واليعقوبي في تاريخه ٢ : ١٩٨ نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٧٠١ ( ط / ح ).

(٣) في « م » وهامش « ش » : يوهي.

(٤) في هامش « ش » : حيدي حيدي.


أمْ مَعَ أيَ إِمامٍ بَعْدي تُقاتِلونَ؟ المَغرورُ والله مَنْ غَرَرْتُموهُ ، ومَنْ فازَ بكم فازَ بالسهم الأخْيَبِ. أصبحتُ والله لا أُصَدِّقُ قولَكم ، ولا أطمَعُ في نُصرتكم ، فَرَّقَ الله بيني وبينَكم ، وأبدلني بكم مَنْ هوخيرٌ لِى منكم. واللهِ لَوَدِدْتُ أنَّ لي بكلّ عَشرهَ منكم رجلاً من بني فِرَاس بن غَنْمٍ ، صَرْفَ الدًينارِ بالدَرْهمِ » (١).

فصل

ومن كلامهِ 7 أيضاً في هذا المعنى

بعدَ حمدِ اللهِ والثّناءِ عليهِ : « ما أظنُّ هؤلاءِ القومَ ـ يعنى أهلَ الشّام ـ إِلاّ ظاهِرينَ عليكم ».

فقالوا له : بماذا يا أَميرَ المؤمنينَ؟.

قال : « أرى أُمورَهم قد عَلَتْ ، ونيرانُكم قد خَبَتْ ، وأراهم جادِّينَ ، وأراكم وانِينَ ، وأراهم مجتمِعينَ ، وأراكم متفرِّقينَ ، وأراهم لِصاحبهم مُطيعينَ ، وأراكم لي عاصِينَ. أمَ واللهِ لَئنْ ظَهَرُوا عليكم لتجدُنَّهم اربابَ سوءِ من بعدي لكم ، لكأنّي أنظُرُ إِليهم وقد شاركوكم في بلادِكم ، وحَمَلوا إِلى بلادِهم فيئَكم ، وكأنّي أنظُرُ إِليكم تَكِشُّونَ

ــــــــــــــــــ

(١) روي مثله في البيان والتبيين ٢ : ٢٦ ، والعقد الفريد ٤ : ١٦١ ، ونثر الدر ١ : ٢٧٢ ، وفي نهج البلاغة ١ : ٦٩ / ٢٨ الى قوله : لا اطمع في نصرتكم ، وامالي الطوسي ١ : ١٨٣ إلى قوله : من هو خير لي منكم ، ونحوه في الامامة والسياسة ١٥٠ : ١ ، انساب الاشراف ٢ : ٣٨٠ ، دعائم الاسلام ١ : ٣٩١ ، ونقله العلامة المجلسى في البحار ٨ : ٦٨٤ ( ط / ح ).


كَشِيْشَ (١) الضِّباب (٢) ، لا تَأخُذونَ حقَاً ولا تَمنَعونَ لله حُرْمةً ، وكأنّي أنظُرُ إِليهم يَقتُلونَ صالِحِيكم ، ويًخيفونَ قُرَّاءَكم ، ويحرِمونَكم يحَجُبونَكم ، ويُدْنُونَ النّاسَ دونَكم ، فلو قد رأيتُمُ الحِرمانَ والأَثَرَةَ ، ووَقْعَ السّيفِ ونُزولَ الخَوفِ ، لقد نَدِمتم وخَسِرتُم على تفريطِكم في جهادِهم ، وتَذاكَرْتُم ما أنتم فيهِ اليومَ مِنَ الخفضِ والعافيةِ ، حينَ لا يَنفَعُكُم التذكار » (٣).

فصل

ومن كلامهِ 7 لمّا نَقضَ

معاوية بنُ أبي سُفيانَ شرْطَ الموادَعة ،

وأقْبلَ يَشُنُّ الغاراتِ على أهلِ العِراقِ

فقالَ بعدَ حمد الله والثّناءِ عليه : « ما لِمعاويةَ قاتَلَهُ اللّهُ!؟ لقد أَرادني على أمرٍ عظيمٍ ، أَرادَ أَن أَفعلَ كما يَفعلُ ، فأَكونَ قد هَتكْتُ ذِمًتي ونَقَضْتُ عَهْدي ، فيتَخِذَها عَلَيَّ حجةً ، فتكونَ عليَّ شيْناً إِلى يوم القيامةِ كلَما ذُكِرْتُ. فإِنْ قيلَ له : أَنتَ بدأتَ ، قالَ : ما علمتُ ولاَ أَمَرتُ ، فمن قائلٍ يقولُ : قد صَدَقَ ، ومن قائلٍ يقولُ : كَذَبَ. أمَ واللّه ، إِنّ الله لَذو أناةٍ وحلمٍ عظيمٍ ، لقد حَلُمَ عن كثيرٍ من فَراعِنةِ الأَوّلينَ

ــــــــــــــــــ

(١) الكشيش : صوت جلد الافعى وغيرها من الحيوان. انظر « الصحاح ـ كشش ـ ٣ : ١٠١٨ ».

(٢) الضباب : جمع ضب ، وهو دابة برية. « مجمع البحرين ـ ضبب ـ ٢ : ١٠٤ ».

(٣) رواه الثقفي في الغارات ٢ : ٥١١ باختلاف يسيرفي الالفاظ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٧٠١ ( ط / ح ).


وعاقَبَ فَراعِنةً ، فإِنْ يُمهِلْهُ اللّهُ فلن يفوتَه ، وهو له بالمِرصادِ على مَجازِ طريقِه ، فليصنع ما بدا له فإِنّا غيرُ غادِرينَ بذِمَّتِنا ، ولا ناقِضينَ لعهدِنا ، ولا مُرَوِّعينَ لمُسلمٍ ولا مُعاهَدٍ ، حتّى ينقضيَ شرطُ الموادَعةِ بينَنا ، إِن شاء الله » (١).

فصل

ومن كلامهِ 7 في مَقامٍ آخرَ

« الحمدُ لله ، وسلامٌ على رسولِ اللّهِ.

أمّا بعدُ : فإِنّ رسولَ الله 9 رَضِيَني لنفسِه أخاً ، واختصِّني (٢) له وَزيراً. أيُها النّاسُ ، أنا أنفُ الهُدى وعيناه ، فلا تَستوحِشوا من طريقِ الهُدى لقلَةِ من يَغشاه ؛ من زَعَمَ أنّ قاتلي مؤمنٌ فقد قَتَلَني ، ألا وِانَّ لكلِّ دمٍ ثائراً يوماً ما ، وِانَّ الثائرَ في دمائنا والحاكِمَ في حقِّ نفسِه وحقِّ ذوي القُربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السّبيلِ الّذي لا يُعجِزُه ما طَلَبَ ولا يَفوته من هَرَبَ ( وَسَيَعلَمُ ألّذِيْنَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبِ يَنْقَلِبونَ ) (٣). فأُقسم باللّهِ الّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ ، لَتَنْتَحِرُنَّ (٤) عليهَا يا بَني اُمية ، ولَتَعرِفُنَّها في أيدي غيرِكم ودارِ عدوِّكم عمّا قليلِ ، وليَعَلَمُنَّ (٥)

ــــــــــــــــــ

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٧٠١ ( ط / ح ).

(٢) في هامش « ش » و « م » : نصبني.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٢٢٧.

(٤) التناحر : الاقتتال. انظر « الصحاح ـ نحر ـ ٢ : ٨٢٤ ».

(٥) في « م » وهامش « ش » : وستعلمن.


نَبَأهُ بعدَ حينٍ » (١).

فصل

ومن كلامهِ أيضاً في معنى ما تقدّمَ

« يا أهلَ الكُوفةِ ، خُذوا أُهْبَتَكم لجهادِ عدؤِّكم مُعاويةَ وأشياعهِ ».

قالوا : يا أميرَ المؤمنينَ ، أمهِلْنا يذَهبْ عنّا القًرُ.َ

فقالَ : « أمَ واللهِ الّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ ، لَيَظهَرَنَ هؤلاءِ القومُ عليكم ، ليسَ بأنّهم أولى بالحقِّ منكم ، ولكنْ لطاعتِهم مُعاويةَ ومَعصيتِكم لي. واللّهِ لقد اصبحَتِ الأممُ كلُّها تَخافُ ظُلْمَ رعاتِها ، وأصبحْتَ انا أخاف ظُلمَ رعييّتي. لقدِ استعملتُ منكم رجالاً فخانوا وغَدَروا ، ولقد جَمَعَ بعضُهم (٢) ما ائتمنتُه عليه من فيْءِ المسلمينَ فَحَمَلَه إِلى مُعاويةَ ، واخرُ حَمَلَه إِلى منزلي ، تَهاوُناً بالقرانِ ، وجُرأةً على الرّحمنِ ، حتّى لو أنَني ائتمنتُ أحدَكم على عِلاقةِ سَوْطٍ لَخانني (٣) ، ولقد أعييتُموني ».

ثمّ رَفَعَ يدَه إِلى السّماءِ فقالَ : « اللّهمَّ إِني قد سَئمتُ الحَيَاةَ بينَ ظَهْرانيْ هؤلاءِ القوم ، وتَبرَّمتُ الأمَلَ (٤) فأتحْ لي صاحِبي حتى أستريحَ منهم ويَستريحوا منّي ، وَلن يُفلحوا بَعدي » (٥).

ــــــــــــــــــ

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٧٠١ ( ط / ح ).

(٢) في هامش « ش » : بعضكم.

(٣) في « م » وهامش « ش » : لخان.

(٤) في هامش « ش » و « م » : الأجل.

(٥) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٧٠١ ( ط / ح ).


فصلَ

ومن كلامهِ 7 في مَقامٍَ آخر

« أيُّها النّاسُ ، إِنّي استنفرتُكم لجهادِ هؤلاءِ القوم فلم تَنفِروا ، وأَسمعتُكم فلم تُجيبوا ، ونَصَحتُ لكم فلم تَقْبَلوا ، شُهودٌ كالغُيَّب ، أتلو عليكُمُ الحِكمةَ فتُعرِضونَ عنها ، وأعِظُكم بالموعظة (١) البالَغة فَتَتفَرقونَ عنها ، كأنّكم حُمُرٌ مُستنفِرةٌ فَرَّتْ من قَسْوَرةٍ ؛ وأحُثّكم على جهادِ أَهلِ الجَوْرِ فما اتي على آخِر قولي حتَّى أراكم متفرِّقينَ أياديَ سَبَأ ، تَرجِعونَ إِلى مَجألِسِكم تتربّعونَ حَلَقاً ، تَضرِبونَ الأمثالَ ، وتَناشَدونَ (٢) الأشعارَ ، وتَجَسَّسونَ الأخبارَ ، حتّى إِذا تَفرَّقتُم تَسألونَ عَنِ الأسعارِ ، جَهلةً (٣) من غيرِ عِلْمٍ ، وغَفلةً من غير وَرَع ، وتَتَبُّعاً (٤) في غيرِخَوْفٍ ، نَسِيتُمُ الحربَ والاستعدادَ لها ، فأصبحَتْ قلوبكَم فارِغةً من ذكرِها ، شَغَلتُموها بالأعاليلِ والأباطيلِ. فالعَجَب كُلَّ العَجَب وما لي لا أعجَبُ مِن اجتماعِ قومٍ على باطلِهم ، وتخاذُلِكم عن حقِّكم!.

يا أهلَ الكُوفةِ ، أنتم كاُمِّ مُجالِدٍ ، حَملَتْ فأملَصَتْ ، فماتَ قيِّمُها ، وطالَ تأيُّمُها ، ووَرِثَها أبْعَدُها.

والّذي فَلَقَ الحبّةَ ، وبرأ النَّسَمةَ ، إِنّ من ورائكم للأعور

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : الموعظة.

(٢) في « م » و « ح » : تنشدون.

(٣) في « ش » : جهالة.

(٤) في هامش « ش » و « م » : تثبطاً.


الأدبر (١) جَهنّم الدُّنيا لا يُبقي ولا يَذَرُ ، ومن بعدِه النهّاسُ الفرَّاسُ (٢) الجَموعُ المنَوعُ ، ثمّ لَيَتوارثَنّكم من بني أُميّةَ عِدّةٌ ، ما الآخرُ بأرأَفَ بكم مِنَ الأوّلِ ، ما خلا رجلاًَ واحداً (٣) ، ( بلاءٌ قضاهُ اللهُ ) (٤) على هذهِ الأُمّةِ لا محالةَ كائنٌ ، يَقتلونَ خِيارَكم ، ويَستعبدونَ أراذلَكم ، ويَستخرِجونَ كنوزكم وذَخائرَكم من جَوْفِ حِجالِكم (٥) ، نِقْمةً بما ضيَّعتُم من أُمورِكم وصَلاحَ أنفسِكم ودينكم.

يا أهلَ الكُوفةِ ، أُخبركم بما يَكون قبلَ أَن يَكونَ ، لِتَكونوا منه على حَذَرٍ ، ولِتُنذِروا بهِ مَنِ اتّعظَ واعتبرَ. كأني بكم تَقولونَ : إِنَّ عليّاَ يَكذِبُ ، كما قالتْ قريشٌ لنبيِّها 9 وسيِّدِها نبيِّ الرّحمةِ محمّدِ بنِ عبدِاللّهِ حبيب اللهِ ، فيا وَيْلَكم ، أفَعلى مَنْ أَكذِبُ!؟ أَعَلَى اللّهِ ، فأنا أوّلُ من عَبَدَه ووَحًّدَه ، أم على رسولهِ ، فأنا أوّلُ من آمنَ بهِ وصدَّقَه ونَصَرَه! كلا ، ولكنَّها لَهْجَة خَدْعَة كُنتُم عنها أغبياءَ (٦).

والّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النّسَمةَ ، لَتَعْلَمنَّ نَبَأهُ (٧) بعدَ حينٍ ، وذلكَ إِذا صَيَّركم إِليها جهلُكم ، ولا يَنفَعُكم عندَها علمُكم ، فقبحاً لكم يا أشباهَ الرِّجالِ ولا رجالَ ، حُلومُ الأطفالِ وعُقولُ رَبّاتِ الحِجالِ ، أمَ والله أيُّها الشّاهدة أبدانُهم ، الغائبةُ عنهم عُقولُهم ، المختلفةُ أهواؤُهم ،

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : يعني : الحجاج بن يوسف.

(٢) في هامش « ش » و « م » : كأنه هشام بن عبد الملك.

(٣) في هامش « ش » و « م » : عمر بن عبد العزيز.

(٤) في هامش « ش » : فما قضاه اللّه.

(٥) الحجال : جمع حجلة ، وهي بيت يزين بالثياب والأسرّة والستور ، يهيأ للعروس. انظر « الصحاح ـ حجل ـ ٤ : ١٦٦٧ ».

(٦) في « م » : أغنياء ..

(٧) في « م » : وهامش « ش » : نبأها.


ما أعزَّ اللهُ نَصْرَ من دعاكم ، ولا استراحَ قلبُ من قاساكم ، ولا قرَّتْ عينُ من آواكم ، كلامُكم يوهي (١) الصمّ الصِّلابَ ، وفِعلُكم يطمع فيكم عدوكَم المرتاب. ياويَحْكُمْ ، أيَّ دارٍ بعدَ دارِكم تَمنعونَ! ومعَ أي إِمامٍ بعدي تُقاتِلونَ! المغرورُ ـ واللهِ ـ من غَرَرْتُموه ، من فازَ بكم فازَ بالسّهمِ الأخْيَبِ ، أصبحْت لا أطمَعُ في نَصرِكم ، ولا أُصدِّقُ قولَكم ، فَرَّقَ اللّهُ بيني وبينَكم ، وأعقَبَني بكم من هوخيرٌ لي منكم ، وأعقَبَكم من هو شرٌّ لكم مني.

إِمامُكم يُطيعُ اللّهَ وأنتم تَعصُونَه ، وِامامُ أهلِ الشّامِ يَعصي الله وهم يُطيعونَه ، واللّهِ لَوَدِدْتُ أنّ معُاويةَ صارَفَني بكم صرْفَ الدِّينارِ بالدِّرْهَم ، فأخَذَ منّي عَشرةً منكم وأَعطاني واحداً منهم. واللهِ لَوَدِدْتُ أنّي لم أعَرِفْكم ولم تَعرِفوني ، فإِنّها مَعرِفةُ جَرَّتْ نَدَماً. لقد وَريتُم صَدْري غَيظاً ، وأفسدتُم عليَّ أمري بالخِذلانِ والعِصيانِ ، حتّى لقد قالتْ قُريشٌ : إِنَّ عليّاً رجلٌ شجاعٌ لكنْ لا علمَ له بالحروب ، للهِّ دَرُّهمِ (٢) ، هل كانَ فيهم أحدٌ أطولَ لها مِرَاساً منّي! وأشدَّ لها مُقاَساةً! لقد نهَضْتُ فيها وما بَلَغْتُ العِشرينَ ، ثَم ها أنا ذا قد ذَرَّفْتُ (٣) على السِّتِّينَ ، لكنْ لا أمْرَ لمن لا يُطاعُ. أمَ واللّهِ ، لَوَدِدْت أنّ ربِّي قد أخرجَني من بينِ أظْهُرِكم إِلى رِضوانِه ، وإنَّ المنيّةَ لَتَرصُدُني فما يَمنَعُ أشقاها أن يَخضبَها ـ وتَرَكَ يدَه على رأسِه ولحِيتِه ـ عهدٌ (٤) عَهِدَه إِليَّ النّبيُّ الأمِّيًّ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ح » وهامش « ش » : يوهن.

(٢) في « م » وهامش « ش » : هم.

(٣) في هامش « ش » و « م » : نيّفت.

(٤) في « م » وهامش « ش » : عهداً.


وقد خابَ مَنِ افترى ، ونَجا مَنِ اتَّقى وصَدَّقَ بالحُسنى.

يا أهلَ الكُوفةِ ، دعوتُكم إِلى جهادِ هؤلاءِ ليلاً ونهاراً وسِرّاً وإعلاناً ، وقلتُ لكُمُ اغزوهم ، فإِنّه ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهم إِلا ذَلُّوا ، فتَواكَلتُم وتَخاذَلتُم ، وثَقُلَ عليكم قولي ، واستصعبَ عليكم أمري ، واتخذتمُوه وراءَكم ظِهْرِيّاً ، حتّى شُنَّتْ عليكُمُ الغاراتُ ، وظَهَرَتْ فيكُمُ الفَواحِشُ والمنُكَراتُ تُمَسِّيكم وتُصَبِّحُكم ، كما فُعِلَ بأهلِ المَثُلاتِ من قَبْلِكم ، حيثُ أخبرَ الله تعالى عنِ الجَبابِرةِ والعُتاةِ الطّغاةِ ، والمُستضعفينَ (١) الغُواةِ ، في قولهِ تعالى ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُوْنَ نِسَاءَكُمْ وَفِيْ ذلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيْمٌ ) (٢) أَمَ والّذي فَلَقَ الحبَّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ ، لقد حَلَّ بكُمُ الّذي تُوعَدونَ.

عاتَبتُكم ـ يا أهلَ الكُوفةِ ـ بمَواعِظِ القُرآنِ فلم أنتفعْ بكم ، وأدبتُكم بالدِّرَةِ فلم تَستقيموا ، وعاقَبتُكم بالسَّوطِ الّذي يُقامُ بهِ الحدُودُ فلم تَرعَوُوا (٣) ، ولقد علمتُ أنّ الّذي يُصلِحُكم هو السّيفُ ، وما كنتُ مُتحرِّياً صَلاحَكم بفَسادِ نَفْسي ، ولكن سَيُسَلَّطُ عليكم من بعدي سُلطانٌ صَعْبٌ ، لا يُوقِّرُكبيركم ، ولا يَرحَمُ صغيركم ، ولا يُكرمُ عالِمَكم ، ولا يَقسِمُ الفَيءَ بالسَّوِيَّةِ بينَكم ، ولَيَضرِبنًّكم ويُذِلَّنَّكم ويجَمِّرَنَّكم (٤) في المَغازي ويَقْطَعَنَّ سبيلَكم ، ولَيَحْجُبَنَكم على بابه ،

ــــــــــــــــــ

(١) وردت ( المستضعفين ) بفتح العين وكسرها في النسخ وفي هوامش « ش » و « م » : المستضعفون هم المعاقبون بالذبح والقتل ، وفي هامش « ش » : المستضعف : المستكبر.

(٢) البقرة ٢ : ٤٩.

(٣) في هامش « ش » : الارعواء ة وهو الندم على الشيء والانصراف عنه والترك له.

(٤) في هامش « ش » و « م » : التجمير : ترك العسكر في وجه العدو.


حتى يأْكُل قويُكم ضعيفَكم ، ثمّ لا يُبعِد الله إلاّ من ظَلَمَ منكم ، وَلَقَلَّما أدبرَ شيءٌ ثمّ أقبلَ (١) ، وإنّي لأظنُّكم في فَترةٍ ، وما عَلَيَّ إِلاّ النُّصحُ لكم.

يا أَهلَ الكوفةِ ، مًنِيتُ منكم بثلاثٍ واثنتينِ صُمٌّ ذَوو أَسماع ، وبكمٌ ذَوو ألسُنٍ ، وعُميٌ ذَوو أَبصارٍ ، لا إِخوانُ صدقٍ عندَ اللقاءِ ، ولا إِخوانُ ثقةٍ عندَ البلاءِ. اللّهمّ إِنّي قد مَللتُهم ومَلًّوني ، وسئمتُهم وسئموني. اللّهمّ لا تُرْضِ عنهم أَميراً ولا تُرْضِهم عن أميرٍ ، وأَمِثْ قلوبَهم كما يماثْ الملحُ في الماءِ. أمَ واللهِ ، لو أجِدُ بُدَّاً من كلامِهَم ومُراسلتكم ما فعلتُ ، ولقد عاتبتُكم في رُشدِكم حتّى لقد سئمتُ الحياةَ؛ كلّ ذلكَ تُراجِعونَ بالهُزء (٢) منَ القولِ فِراراً منَ الحقِّ ، وإلحاداً (٣) إِلى الباطلِ الّذي لا يُعِزُّ اللّهُ بأهلهِ الدِّينَ ، وانّي لأعلمُ أنّكم لا تَزيدونَني غيرَ تَخْسيرٍ ، كلّما أمرتُكم بجهادِ عدوِّكمُ اثّاقلتُم إِلى الأرضِ ، وسمألتمُوني التّأْخيرَدِفاعَ ذي الدَّينِ المَطولِ. إِنْ قلتُ لكم في القيظِ : سِيروا ، قلتم : الحَرُّ شديدٌ ، وإنْ قلتُ لكم في البردِ : سِيروا ، قلتمُ : القًرُّ شديدٌ ؛ كلَّ ذلك فِراراً عنِ الجَنَّةِ. إِذا كنتُم عنِ الحرِّ والبرد تَعجِزونَ ، فأنتم عن حرارةِ السّيفِ أعجزُ وأعجزُ ، فإِنّا للهِ وِانّا إِليهِ راجعونَ.

يا أهلَ الكُوفةِ ، قد أتاني الصرِيخُ يُخبِرُني أنَّ أخا غامِدٍ (٤) قد نَزَلَ

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : فاقبل.

(٢) في هامش « ش » و « م » : بالهذر.

(٣) في « ح » وهامش « ش » و « م » : اخلاداً.

(٤) أخا غامد ، هو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي ، امّره معاوية على جيش لغارة على أهل الانبار والمدائن في ايام علي 7 ، وقتل حسان بن حسان عامل علي عليه


الأنْبَارَ على أهلِها ليلاً في أربعةِ آلافٍ ، فأغارَ عليهم كما يُغارُ على الرًّوْمِ والخَزَرِ ، فقَتَل بها عامِلي ابنَ حَسَّان وقَتلَ معَه رجالاً صالحِينَ ذَوِي فَضْلٍ وعبادةٍ ونَجْدةٍ ، بوأ اللّهُ لهم جَنّاتِ النّعيم؟ وأنه أباحَها ، ولقد بَلَغَني أنّ العصبَةَ من أَهلِ الشّامِ كانوا يَدخلونَ على المرأةِ المُسلِمةِ والأخرى المُعاهَدَةِ ، فيَهتِكون سترها ، ويأخُذونَ القِناعَ من رأسها ، والخُرصَ (١) من أُذنِها ، والأَوْضاحَ (٢) من يَدَيْها ورِجلَيْها وعَضُديْها ، والخَلْخالَ والمِئزَرَ من سُوْقِها ، فما تَمْتَنِعُ إِلاّ بالاسترجاع والنِّداءِ : ياللمُسلِمينَ ، فلا يُغيثها مُغيث ، ولا يَنصُرُها ناصِرٌ. فلو أَنّ مؤمِناً ماتَ من دونِ هذا أسفاً ما كانَ عندي مَلُوْماً (٣) ، بل كانَ عندي بارّاً مُحسِناً. واعجباً كلَّ العَجَبِ ، مِن تضافر هؤلاءِ القومِ على باطِلهم وفَشَلِكم عن حقِّكم! قد صِرتُم غَرَضاً يُرمى ولا تَرْمُون ، وتُغْزَوْنَ ولا تَغْزُوْنَ ، ويُعصى اللّهُ وتَرْضَوْنَ ، تَرِبَتْ (٤) أيديكم يا أشباهَ الإبلِ غابَ عنها رُعاتها ، كلَّما اجتمعتْ من جانبٍ تَفرَّقتْ من جانب » (٥).

ــــــــــــــــــ

السلام على الانبار.

(١) الخرص : الحلقة من الذهب والفضة. « الصحاح ـ خرص ـ ٣ : ١٠٣٦ ».

(٢) الاوضاح : حلي من الفضة. « الصحاح ـ وضح ـ ١ : ٤١٦ ».

(٣) في هامش « ش » و « م » : مليماً.

(٤) في « م » وهامش « ش » : فتربت.

(٥) ورد مقطعاً في : الغارات ٢ : ٤٧٤ ، ٤٨٣ ، ٤٩٤ ، ومعاني الأخبار : ٣٠٩ / ١ ، ونثر الدر ١ : ٢٩١ ، ٢٩٨ ، ونهج البلاغة ا : ٢٦ / ٦٣ و ١٨٨ / ٩٣ ، وأورده الطبرسي في الاحتجاج : ١٧٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٦٩٧ ( ط / ح ).


فصل

ومن كلامهِ 7 في

تظلُّمهِ من أعدائه ودافِعيه عن حقِّه

ما رواه العباسُ بنُ عُبَيْدِاللّهِ العَبدْيّ ، عن عَمْرو بنِ شِمْرٍ ، عن رجالهِ ، قالوا : سَمِعْنا أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالبِ 7 يقولُ : « ما رأيتُ منذُ بَعَثَ الله محمّداً 9 رَخاءً فالحمدُ الله ، واللّهِ لقد خِفْتُ صغيراً وجاهدتُ كبيراً ، أُقاتِلُ المشركينَ وأُعادي المنافقينَ ، حتّى قَبَضَ اللّهُ نبيَّه 7 فكانتِ الطّامّةُ الكُبرى ، فلم أزَلْ حَذِراً وجِلاً أَخافُ أنْ يكونَ ما لا يَسَعُني معَه المُقام ، فلم أرَ بحمدِ اللّهِ إلاّ خيراً. واللهِ ما زِلْتُ أضرِبُ بسيفي صبيّاً حتّى صرْت شيخاً ، وإنّه لَيُصَبًّرُني على ما أنا فيه أنّ ذلكَ كلَّه في اللّهِ ورسولهِ. وأنا أرجو أن يكونَ الروح عاجلاً قريباً ، فقد رأيتُ أسبابَه ».

قالوا : فما بَقِيَ بعدَ هذهِ المقالةِ إِلاً يسيراً حتى أُصيبَ 7 (١).

وروى عبدُالله بن بُكَيْرٍ الغَنَوِيّ ، عن حَكِيمِ بن جُبيرٍ قالَ : حَدَّثَنا من شَهِدَ عليّاً بالرَّحبةِ يَخطُبُ ، فقالَ فيما قالَ : « أيُّها النّاسُ ، إِنّكم قد أبَيْتُم إِلاّ أنْ أقولَ ، أمَا وربِّ السّمواتِ والأرضِ ، لقد عَهِدَ إِليَّ

ــــــــــــــــــ

(١) أشار الى بعض فقراتها ابن ابي الحديد في شرح النهج ٤ : ١٠٨ باختلاف.


خَليلي أنّ الأمّةَ سَتغدِرُ بِكَ مِن بعدي » (١).

وروى إِسماعيلُ بنُ سالم ، عن أبي إِدْرِيسَ الأوْدِيِّ قال : سَمِعْتَ عليّاً يقولُ : « إِنّ فيما عَهِدَ إِليَّ النّبي الأمِّيُّ أنَّ الأمّةَ ستَغْدِرُ بِكَ مِن بعدي » (٢).

فصل

ومن كلامهِ 7

عندَ الشُورى وفي الدّارِ

ما رواه يَحيى بنُ عبدِ الحَميدِ الحِمّاني ، عن يَحيى بنِ سَلَمة بنِ كُهَيْل ، عن أبيه ، عن أبي صادِقٍ قالَ : لمّا جَعلَها عُمَرُ شُورى في ستّةٍ ، وقالَ : إِنْ بايَعَ اثنان لواحدٍ واثنان لواحدٍ ، فكونوا معَ الثلاثّةِ الّذينَ فيهم عبدُ الرّحمنِ ، واقتُلوا الثّلاثَة الّذينَ ليسَ فيهم عبدُ الرّحمنِ ؛ خرجَ أميرُ المؤمنينَ 7 منَ الدّارِ وهو مُعتمِدٌ على يدِ عبدِاللهِ بنِ العبّاسِ فقالَ له : « يا ابنَ عبّاس ، إِنّ القومَ قد عادَوْكم بعدَ نبيكم كمُعاداتِهم لنبيِّكم 9 في حياتِه ، أمَ واللهِ ، لا ينيبُ بهم إِلى الحقِّ إِلاّ السّيفُ ».

فقالَ له ابنُ عبّاسٍ : وكيفَ ذاكَ؟.

ــــــــــــــــــ

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٠٧ باختلاف يسير ، ونحوه في الغارات ٢ : ٤٨٦ ، ومرسلاً في اعلام الورى : ٤٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٠ ، تاريخ بغداد ١١ : ٢١٦.


قالَ : « أما سَمِعتَ قولَ عُمَرَ : إِنْ بايَعَ اثنان لواحدٍ واثنان لواحدٍ ، فكونوا معَ الثلاثةِ الّذينَ فيهم عبدُ الرّحمنِ ، واقتُلوا الثّلاثةَ الّذينَ ليسَ فيهم عبدُ الرَّحمن؟ ».

قالَ ابنُ عبّاسٍ : بلى.

قالَ : « أَفَلا تَعلم أَنّ عبدَ الرحمنِ ابنُ عمِّ سَعْدٍ ، وأَنّ عُثمانَ صِهْرُ عبدِ الرّحمنِ؟ ».

قالَ : بلى ، قالَ : « فإِنّ عُمَرَ قد عَلِمَ أَنّ سَعْداً وعبدَ الرّحمنِ وعُثمانَ لا يَختلفونَ في الرّأْيِ ، وانه من بويع منهم كانَ الاثنانِ معَه ، فأَمَرَ بقتلِ من خالفَهم ولم يُبالِ أَن يَقتُلَ طَلحةَ إِذا قَتَلَني وقَتَلَ الزبير. أَمَ واللّهِ ، لَئنْ عاشَ عمَرُ لأُعَرِّفَنَّه سُوءَ رأَيِه فينا قديماً وحديثاً ، ولَئنْ ماتَ لَيَجْمَعَنِّي وِايّاهُ يومٌ يكونُ فيه فَصْلُ الخِطابِ » (١).

فصل

وروى عَمْرُو بن سَعيدٍ ، عن حَنَشٍ الكِنانيِّ قالَ : لمّا صَفَقَ عبدُ الرّحمن على يدِ عُثمانَ بالبيعةِ في يومِ الدّارِ ، قالَ له أَميرُ المؤمنينَ 7 : « حَرَّكَكَ الصِّهْرُ وبَعَثَكَ على ما صنعتَ ، واللّهِ ما أَمّلتَ منه إِلاّ ما أَمّلَ

ــــــــــــــــــ

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٣٥١ ( ط / ح ).


صاحبُكَ من صاحبِه ، دق الله بينَكما عِطْرَمَنْشِمَ (١) » (٢).

فصل

وروى جماعةٌ من أهلِ النّقلِ من طرقٍ مختلفةٍ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ قالَ : كنتُ عندَ أمير المؤمنينَ 7 بالرَّحْبَةِ ، فذُكِرَتِ الخِلافةُ وتقدُّمُ من تقدم عليه فيها فتنفَّسَ الصُّعَداءَ ثمّ قالَ : « أمَ واللهِ لقد تقمصَها ابنُ أبي قُحافةَ ، وإنّه لَيَعلمُ أنّ مَحَلِّي منها مَحَلُّ القُطْب مِنَ الرَّحى ، يَنحدِرُ عنِّي السَّيلُ ، ولا يَرقى إِليَّ الطَيرُ ، لكنِّي سَدَلْتُ دونَها ثَوْباً ، وطَوَيْتُ دونَها (٣) كَشْحاً (٤) ، وطَفِقْتُ أرتئي بينَ أنْ أَصولَ بيدٍ جَذَّاءَ (٥) ، أو أَصبرَ على طَخْيةٍ (٦) عَمياءَ ، يَهرَمُ فيها الكبيرُ ، ويَشيبُُ فيها الصَغير (٧) ، ويَكَدَحُ فيها مؤمنٌ حتّى يَلقى ربَّه ، فرأَيتُ الصّبرَعلى

ــــــــــــــــــ

(١) مَنْشِم : اسم مرأة عطارة كانت بمكة ، وكانت خزاعة وجرهم اذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا اذا فعلوا ذلك كثّرت القتلى فيما بينهم ، فتشاءموا به.

« الصحاح ـ نشم ـ ٥ : ٢٠٤١ » وذكر الميداني في مجمع الامثال أقوال اًخر فراجع ١ : ٣٨١ حرف الشين.

(٢) ذكره المصنف في الجمل : ٦١ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٣٥١.

(٣) في هامش « ش » : عنها.

(٤) طوى كشحه على الأمر : اذا أضمره وستره « مجمع البحرين ـ كشح ـ ٢ : ٤٠٧ ».

(٥) الجذّاء : المقطوعة. « الصحاح ـ جذء ـ ٢ : ٥٦١ ».

(٦) الطخية : الظلمة. « لسان العرب طخا ـ ١٥ : ٥ ».

(٧) في « ش » و « ح » : يرضع فيها الصغير ، ويدب فيها الكبير ، وفي « م » وهامش « ش » : يهرم فيها الصغير ويشيب فيها الكبير. وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار وبقية المصادر.


هاتا أحجى ، فَصَبَرت وفي العينِ قَذىً ، وفي الحَلْقِ شَجاً من أنْ أرى تُراثي نَهْباً ، إِلى أن حَضرَهُ أجَلُه فأدلى بها إِلى عُمَرَ ، فيا عجبا! بَينا هو يَستقيلها في حياتِه إِذ عَقَدَها لاخَرَ بعدَ وفاتِه. لشَدما تَشَطَّرا ضَرْعَيْها.

شَتَّانَ مَا يَوْمِيْ عَلى كُوْرِهَا

وَيَوْمُ حَيّانَ أخِيْ جَابرِ (١)

فصَيَّرها واللهِ في ناحيةٍ خَشناءَ ، يجفو مَسُّها ، ويَغلُظُ كَلْمُها (٢) فَصاحِبُها (٣) كراكِب الصعبِةِ إِنْ أشْنَقَ (٤) لها خَرقَ (٥) وِإن أسْلَسَ لها عَسَفَ (٦) ، يَكثُرُ فيها العِثارُ ويَقِلُّ منها الاعتذار ، فَمُنيَ النّاسُ ـ لَعَمْرُ الله ـ بخَبْطٍ وشماسٍ (٧) وتَلوُّنٍ واعتراضٍ ، إِلى أَن حَضَرَتْه الوَفاةُ فجَعَلَها شورى بينَ جماعةٍ زَعَمَ أَنَي أَحدُهم.

فيا للشورى وللهِّ هُمْ ، متى اعترضَ الرّيْبُ فيَّ معَ الأوَّلينِ (٨) منهم حتّى صِرتُ الآنَ ( أُقْرَنُ بهذهِ النّظائر ) (٩) لكني أسْفَفْتً إِذ أسَفُّوا وطِرْتُ إذْ طارُوا ، صَبراً على طًولِ المحنةِ وانقضاءِ المُدَّةِ ، فمالَ رجلٌ لضِغْنِه ، وصَغَا (١٠) آخَرُ لصهْرِهِ ، معَ هَنٍ وهَنٍ ، إِلى أن قامَ ثالِثُ

ــــــــــــــــــ

(١) البيت للأعشى الكبير ، اعشى قيس. : وهو ابو بصير ميمون بن قيس بن جندل. ديوانه : ٩٦.

(٢) الكلْم : الجرح. « الصحاح ـ كلم ـ ٥ : ٢٠٢٣ ».

(٣) في « م » وهامش « ش » نسخة اخرى : صاحبها.

(٤) اشنق الراكب دابته : اذا كفّها بالزمام وهو راكب. « الصحاح ـ شنق ـ ٤ : ١٥٠٤ ».

(٥) في « م » وهامش « ش » : خَرَم.

(٦) عسف : أي أخذ على غير الطريق. « الصحاح ـ عسف ـ ٤ : ١٤٠٣ ».

(٧) شمس الفرس : منع ظهره. « الصحاح ـ شمس ـ ٣ : ٩٤٠ ».

(٨) في « م » وهامش « ش » : الأول.

(٩) في « ش » وهامش « م » : تًقرن بي هذه النظائر.

(١٠) صغا : مال. « الصحاح ـ صغا ـ ٦ : ٢٤٠١ ».


القومِ نافجاً حِضْنَيهِ (١) بين نَثِيْلِهِ (٢) ومُعْتَلَفِهِ (٣) ، وأسرعَ معَه بنو أبيه يَخضمونَ مالَ اللّهِ خَضْمَ الإبِلِ نِبْتةَ الرّبيعِ ، إِلى أن نزَتْ بهِ بِطْنَتُه وأجهزَ عليهِ عَمَلُه ، فما راعَني مِنَ النّاسِ إِلا وهم رسل إِليَّ كعُرْفِ الضبع يَسألونَني أن أُبايعَهم ، وانثالوا عَلَيَّ حتّى لقد وُطئ الحَسَنانِ وشقَّ عِطْفَايَ (٤) ، فلمّاَ نَهَضتُ بالأمرِ نَكَثَتْ طائفةٌ ومَرَقَتْ أُخرى وقَسَطَ آخَرونَ ، كأنَّهم لم يَسمعوا الله تعالى يقولُ : ( تِلْكَ الدَّارُ اْلأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِيْنَ لا يُريْدُوْنَ عُلوّاً في الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَقِيْنَ ) (٥) بلى واللّهِ ، لقد سَمِعوها ووَعَوْها ، ولكنْ حَلِيَتْ دُنياهم في أعيُنِهم ورَاقَهم زِبْرِجُها ، أمَا والّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النَسَمةَ ، لولا حُضورُ النّاصِرِ (٦) ، ولزُومُ الحجّةِ بوجودِ النّاصِر ، وما أخَذَ اللّه على أولياءِ الأمرِ ألآَ يَقِرُوا على كِظَةِ ظالمِ أو سَغَب مظلومٍ ، لأَلقيتُ حَبْلَها على غارِبها ، ولَسَقَيْتُ آخِرَها بكأس أوَّلِها ، ولالفَوْا دُنياهم أزهدَ عندي من عَفْطَةِ عَنَزٍ ».

قال : وقامَ إِليه رجلٌ من أهل السواد فناوَلَه كتاباً ، فقَطَعَ كلامَه.

قالَ ابن عبّاس : فما أسِفْتُ على شيءٍ ، ولا تَفجَّعتُ كتفجُعي على ما فاتَني من كلامِ أًميرِالمؤمنينَ 7 ، فلما فَرَغَ من قراءةِ

ــــــــــــــــــ

(١) نافجاً حضنيه : كناية عن التكبروالخيلاء. « لسان العرب ـ نفج ـ ٢ : ٣٨١ ».

(٢) النثيل : الروث. « الصحاح ـ نثل ـ ٥ : ١٨٢٥ ».

(٣) المعتلف : مكان العلف.

(٤) في « م » وهامش « ش » : عطافي.

(٥) القصص ٢٨ : ٨٣.

(٦) في « م » وهامش « ش » : الحاضر.


الكتاب قلتُ : يا أميرَ المؤمنين ، لَوِ اطّرَدت مَقالتكَ من حيثُ انتهيتَ (١) إِليها؟ قَالَ : « هَيْهاتَ هَيْهاتَ يا ابنَ عبّاس ، كانتْ شقْشقَةً هَدَرَتْ ثم قَرَتْ » (٢).

وروى مَسْعَدَةُ بنُ صَدَقَةَ قالَ : سَمِعتُ أبا عبدِاللّهِ جَعْفَرَ بنَ محمّدٍ 7 يقولُ : « خَطَبَ أميرُ المؤمنينَ 7 النّاسَ بالكُوفةِ ، فحَمِد والله وأثنى عليهِ ، ثمّ قالَ : « أنا سيدُ الشَيْب ، وفيَ سُنّةٌ من أيُّوبَ ، وسيَجمعُ الله لي أهلي كما جَمَعَ لِيَعْقُوبَ ، وذلكََ إِذا استدارَ الَفلَكُ وقُلتُم ضلَ أَو هَلَكَ ، أَلا فاستشعِروا قبلَها الصّبرَ ، وتوبوا (٣) إِلى اللّهِ بالذَنْبِ ، فقد نَبَذْتُم قُدْسَكم ، وأَطفأْتُم مَصابيحَكم ، وقلَدْتُم هِدايتكم منْ لا يَملِكُ لنفسِه ولا لكم سَمْعاً ولابَصَرَاً ، ضَعُفَ ـ والله ـ الطّالِبُ والمطلوبُ ؛ هذا ولو لم تَتَواكَلوا أَمرَكم ، ولم تَتَخاذلوا عن نُصْرةِ الحقِّ بينَكم ، ولم تَهِنوا عن تَوهينِ الباطلِ ، لم يَتشجَّعْ عليكم مَنْ ليسَ مِثلَكم ، ولم يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عليكم وعلى هَضْم الطَاعةِ وِازوائها عن أهلِها فيكم.

تِهتُم كما تاهتْ بنو إِسرائيلَ على عهدِ موسى ، وبحقٍّ أقولُ لَيُضعَفَنَ عليكُمُ التِّيْهُ من بعدي ـ باضطهادِكم ولدي ـ ضعفَ ما تاهت

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : افضيت.

(٢) وردت الخطبة المشهورة بالشقشقية في علل الشرائع : ١٥٠ ، ومعاني الأخبار : ٣٦٠ ، وأمالي الطومي ١ : ٣٨٢ ، ونهج البلاغة ١ : ٢٥ / ٣ ، ومناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٢٠٤ باختلاف يسير ، وأوردها الآبي في نثر الدر ١ : ٢٧٤ باختلاف في اللفظ.

(٣) في « م » وهامش « ش » : بوؤا.


بنو إِسرائيلَ ، فلو قَدِ استكملتم نَهَلاً (١) وامتلأتهم عَلَلاً (٢) من لسُلطانِ الشّجرةِ الملعونةِ في القُرآنِ ، لقدِ اجتمعتُم على ناعِق ضَلالٍ ولأجَبْتُمُ الباطِلَ ركْضاً ، ثمّ لَغادَرْتُم داعيَ الحقِّ ، وقَطَعْتُمُ الأدنى من أهلِ بدْرٍ ، ووَصَلْتُمُ الأبعدَ من أبناءِ حَرْبِ. ألا ولو ذابَ ما في أيديهم ، لقد دنا التّمحيصُ للجزاءِ ، وكُشِفَ الغِطاءُ ، وانقضَتِ المُدةُ ، وأزِفَ الوَعيد (٣) ، وبدا لكُمُ النّجمُ من قِبَلِ المَشرِقِ ، وأشرقَ لكم قَمرُكم كملء شَهْرِهِ وكَلَيْلَةِ تِمِّهِ ، فإِذا استتَم ذلكَ فراجِعوا التوبةَ وخالِعوا الحَوْبةَ (٤) ، واعلَموا أنّكم إِنْ أطَعْتُم طالِعَ الَمشرِقِ سَلَكَ بكم مِنهاجَ الرّسولِ 6 فتداويتُم مِنَ الصَّمَمِ ، واستشفيتُم مِنَ البَكَمِ ، وكُفِيْتُم مَؤونةَ التّعسُّفِ والطّلب ، ونَبَذْتُم الثِّقْلَ الفادحَ عَنِ الأعناقِ ، فلا يُبْعِدِ اللّهُ إلاّ مَنْ أبى الرّحمةً « وفارَقَ العِصمةَ ، وسَيَعْلمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ » (٥).

وروى مَسْعَدَةُ بنُ صَدَقَةَ ـ أيضاً ـ عن أبي عبدِالله الصّادقِ جعفرِ بنِ محمّدٍ 8 قالَ : « خَطبَ أميرُ المؤمنينَ 7 بالمدينةِ فقالَ بعدَ حمدِ اللّهِ والثّناءِ عليهِ : « أمّا بعد : فإِن اللّه لم يَقصمْ جبّاري دهرٍ قطُ إِلا من بعدِ تمهيلٍ ورخاءٍ ، ولم يَجبُرْكَسْرَعظمِ أحدٍ منَ الاُممِ إِلاّ من بعدِ أزْلً (٦) وبلاءٍ.

ــــــــــــــــــ

(١) النهل : الشرب الأول. « الصحاح ـ نهل ـ ٥ : ١٨٣٧ ».

(٢) العلل : الشرب الثاني. « الصحاح ـ علل ـ ٥ : ١٧٧٣ ».

(٣) في « م » وهامش « ش » : الوعد.

(٤) الحوبة : الخطيئة « مجمع البحرين ـ حوب ـ ٢ : ٤٧ ».

(٥) نقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٧٠١ ( ط / ح ).

(٦) الأزْل : الضيق والجدب. « الصحاح ـ أزل ـ ٤ : ١٦٢٢ ».


أيّها النّاسُ ، وفي دونِ ما استقبلتُم من خَطْب واستدبرتُم منِ عَصْرِ مُعْتَبَرٌ وماكل ذي قَلْبِ بلَبيبٍ ، ولا كل ذي سَمْع بسميعٍ ، ولاكلُّ ذي ناظِرِ عَيْنٍ ببصيرٍ. أَلا فأحسنوا النَظَرَ ـ عبادَ الله ـ فيما يَعنيكم ، ثم انظُروا إِلى عَرَصاتِ من قد أقادَه (١) الله بعملهِ ، كانوا على سُنّتن من آلِ فِرعَونَ ، أهلَ جنّاتٍ وعُيونٍ وزُروعٍ ومَقامٍ كَريمٍ ، فها هي عَرْصةُ (٢) المتوسمينَ وإنّها لَبِسبيلٍ مُقيمٍ ، تُنذرُ مَنْ نابَها (٣) من الثُّبور بعدَ النَضْرة والسُرورِ ومَقيلٍ مِنَ الأمنِ والحُبور ، ولمنْ صَبَرَ منكمُ العاقبةُ ولدِّ عاقبةً الأمور ..

فواهاً لأهلِ العُقول كيف أقاموا بَمدْرَجَةِ السُيولِ! واستضافوا غيرَ مَأمونٍ! وَيْساً (٤) لهذهِ الأمَّةِ الجائرة في قصدِها الرّاغبةِ عن رُشدِها! لا يقتفون أثَرَ نبيٍّ ، ولا يَقتدونَ بعمل وصيٍّ ، ولا يُؤمنونَ بغَيْبِ ، ولا يَرْعَوُوْنَ عن عَيْبٍ. كيفَ ومَفزعُهم في المُبهَماتِ إِلى قُلوبِهم ، فكلَُ امرِئ منهم إِمامُ نفسِه ، آخِذٌ منها فيما يَرى بعرى ثِقاتٍ ، لا يَألونَ قَصْداً ، ولن يَزدادوا إِلاّ بًعْداً ، لَشَد أنْسُ بعضِهم ببعضٍ وتصديقُ بعضِهم بعضاً ، حِياداً كل ذلكَ عمّا وَرَّثَ الرّسولُ 9 ، ونُفوراً مما اُدِّيَ إليهِ من فاطرِ السّماواتِ والأرَضِينَ العليمِ الخبير ، فهم أهل

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : أباده.

(٢) في هامش « ش » و « م » : عُرْضَة.

(٣) في هامش « ش » : أصابها.

(٤) ويس : كلمة تستعمل في موضع الرأفة. « القاموس المحيط ـ ويس ـ ٢ : ٢٥٨ » ، وفي « م » : وويساً.


غَشَوَاتٍ (١) ، كُهوف شُبُهاتٍ ، قادة حَيْرِة ورِيبةٍ. مَنْ وُكِلَ إِلى نفسِه فاغرورقَ في الأضاليلِ ، هذا وقد ضَمِنَ اللهُ قَصْدَ السّبيلِ ( ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَانَّ اللّهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ ) (٢).

فيا ما أشبهَها أُمّةً صَدَّتْ عن وُلاتِها ورَغِبَتْ عن رُعاتِها ، ويا أسفاً أسَفاً (٣) يَكلِمُ القلبَ ويُدْمِنُ الكَرْبَ من فَعَلاتِ شيعتِنا بعد مَهلكي على قرب مودتّهِا وتأشُب (٤) ألفَتِها ، كيفَ يَقتُلُ بعضها بعضاً وتَحُوْرُألفَتُها بُغْضاً. فللّهِ الأسْرَةُ المُتَزَحزِحةُ غَداً عَنِ الأصلِ ، المُخَيِّمةُ بالفَرْعِ ، المؤمَلةُ للفتحِ من غيرِجهتهِ ، المُتوَكِّفَة الرَّوْحَ من غيرِمَطْلعِه ، كلُّ حزب منهم مُعتصِمٌ بغُصْنٍ آخِذٌ به ، أيْنَما مالَ الغُصْن مالَ معَه ، معَ أنّ اللّهَ ـ وله الحمد ـ سيَجمعهم كقَزع (٥) الخَريفِ ، ويؤلِّفُ بينَهم ثمّ يَجعلهُم رُكاماً كرُكامِ السّحابِ ، يَفتَحُ اللهُ لهم (٦) أبواباً يَسِيلونَ من مسْتَثارِهم إِليها كَسَيْلِ العَرِمِ ، حيثُ لم تَسلَمْ عليه قَارةٌ (٧) ، ولم تَمنَعْ منه أكَمةٌ ، ولم يَردّ رُكْن طَوْد سَنَنَه (٨) ، يَغرِسُهمُ اللهُ في بُطونِ أوديةٍ ، ويَسلُكُهم يَنابيعَ في ،

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : عشوة.

(٢) الأنفا ل ٨ : ٤٢.

(٣) هكذا في « م » وهامش « ش » وفي متن « ش » كتب هكذا : ( يا اسَفَى ) ولعله بملاحظة ان الالِف هنا منقلبة عن ياء المتكلم وهي احدى اللغات في نداء المضاف الى ياء المتكلم.

(٤) التاشب : الاجتماع والخلطة. « الصحاح ـ أشب ـ ١ : ٨٨ ».

(٥) القزع : قطع من السحاب رقيقة. « الصحاح ـ قزع ـ ٣ : ١٢٦٥ ».

(٦) في هامش « ش » و « م » : يفتح لهم.

(٧) القارة : الأكمة المرتفعة عن الأرض. « الصحاح ـ قرر ـ ٢ : ٨٠٠ ».

(٨) السنن : « الطريق لسان العرب ـ سنن ـ ١٣ : ٢٢٦ ». وفي هامش « ش » : سَيْبه ، وهو جريان الماء « الصحاح ـ سيب ـ ١ : ١٥٠ » وهو الاولى.


الأرضِ ، يَنفي بهم عن حُرُماتِ قومٍ ، ويُمَكِّن لهم في ديارِ قومٍ ، لكي يَعْتَقِبوا ما غُصِبُوا ، يُضَعْضِعُ اللّهُ بهم رُكْناً ، ويَنقُضُ بهم طَيَّ الجَنْدَلِ من إِرَمَ ، ويَملأ منهم بُطْنَانَ الزّيتونِ.

والّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النّسَمَةَ ، لَيَذُوبَنَّ ما في أَيديهم من بعدِ التّمكُّنِ (١) في البلادِ والعُلُوِّ على العِبادِ كما يذوبُ القارُ والآنُكُ (٢) في النّارِ ، ولَعلَّ الله يَجمَعُ شيعتي بعدَ تَشتيتٍ لِشرِّ (٣) يومٍ لِهؤلاءِ ، وليس لأحدٍ على اللّهِ الخِيَرَةُ بل للهِّ الخِيَرةُ والأمرُجميعاً » (٤).

وقد روى نَقَلةُ الآثارِ (٥) أنّ رجلاًً من بني أسَدٍ وَقَفَ على أَميرِ المؤمنينَ 7 فقالَ : يا أميرَ المؤمنين ، العَجَبُ منكم يا بَني هاشمٍ ، كيفَ عُدِلَ بهذا الأمرِ عنكم ، وأَنتُمً الأعلَوْنَ نَسَباً ، نَوْطاً (٦) بالرّسولِ ، وفَهْماً للكتاب (٧)!؟ فقالَى أميرُ المؤمنين 7 : « يا ابنَ دوْدَانَ (٨) ، إِنّكَ لَقَيقُ الوَضِينِ (٩) ، ضَيِّقُ المَحزمِ (١٠) ، تًرسِلُ غيرَ ذي

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : التمكين.

(٢) الأنك : الرصاص. « لسان العرب ـ انك ـ ١٠ : ٣٩٤ ».

(٣) في هامش « ش » و « م » نسخة اُخرى : بشر.

(٤) ورد بعض كلامه الشريف في نهج البلاغة ١ : ١٥٤ / ٨٤ و ٢ : ٩٥ / ١٦١.‌

(٥) في هامش « ش » و « م » : الأخبار.

(٦) النوط : التعلق والاتصال. « لسان العرب ـ نوط ـ ٧ : ٤١٨ ».

(٧) في « ح » وهامش « ش » : بالكتاب.

(٨) دُودان : أبو قبيلة من أسد ، وهو دُودان بن أسد بن خزيمة. « الصحاح ـ دود ـ ٢ : ٤٧١ ».

(٩) الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج. « الصحاح ـ وضن ـ ٦ : ٢٢١٤ ».

(١٠) في هامش « ش » و « م » : المجمّ. والمجم : الصدر. « القاموس ـ جمم ـ ٤ : ٩١ ».


مَسَدٍّ (١). لَكَ ذِمامةُ الصِّهْر وحقُّ المسألةِ ، وقد استعلمتَ فاعلَمْ ، كانتْ أثرةً سَخَتْ بها نُفوسُ قومٍ وشَحَّتْ عليها نُفوسُ آخرين ، فدَعْ عنكَ نَهْبأ صِيْحَ في حُجُراتِه (٢) وهلمّ الخَطْبَ في أمرِابن أبي سُفيانَ ، فلقد أضحَكَني الدّهرُ بعدَ إِبكائه (٣) ولا غَرْوَ ، يَئِسَ القومَ ـ واللّهِ ـ من خَفْضِي وهِيْنَتي ، وحاوَلوا الإدهانَ في ذاتِ اللّهِ ، وهيهاتَ ذلكَ منِّي ، فإِنْ تَنْحَسِرْ عنّا مِحَنً البَلوى أحْمِلهم مِنَ الحقِّ على مَحْضِه ؛ لم وِانْ تَكُنِ الأخرى فلا تَذْهَبْ نفسُكَ عليهم حَسَراتٍ ، ولا تَأْسَ على القومِ الفاسِقينَ » (٤).

فصل

ومن كلامهِ 7 في الحِكمةِ والمَوعِظَةِ

قولُه : « خُذوا ـ رَحِمكمُ اللّهُ ـ من مَمَرّكم لِمَقَرِّكم ، ولا تَهتِكوا

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : يجوز ان يكون نصباً مفعولاً لترسل ويجوز أن يكون حالاً أي غير ذي سداد.

(٢) مثل سائر ، ذكره الميداني في مجمع الامثال ١ : ٢٦٧ / ١٤٠٣ ، وقال : « النهب المال المنهوب ، وكذلك النًهبى ، والحجرات : النواحي. يضرب لمن ذهب من ماله شيء ثم ذهب بعده ما هو أجل منه » ثم ذكر قصة المثل ، وهو شطر من بيت لامرئ القيس يقول فيه :

ودع عنك نهباً صيح في حجراته

ولكن حديثاً ما حديث الرواحلِ.

(٣) في هامش « ش » « م » : ابكائيه.

(٤) رواه الصدوق في علل الشرائع : ١٤٥ / ٢ ، والأمالي : ٤٩٤ / ٥ ، والابي في نثر الدر ١ : ٢٨٧ ، وأورده الشريف الرضي في نهج البلاغة ٢ : ٧٩ / ١٥٧ باختلاف يسيرفي الفاظه.


أستارَكم عندَ مَنْ لا يَخفى عليهِ اسرارُكم ، وأخرِجوا مِنَ الدُّنيا قُلوبكم قبلَ أن تُخْرَجَ منها أبدانُكم ، فلِلآخِرةِ خًلِقتُم وفي الدُّنيا حُبِسْتُم ، إنّ المرءَ إِذا هَلَكَ قالتِ الملائكةُ : ما قَدَّمَ؟ وقالَ النّاسُ : ما خَلَّفَ؟ فلِلّهِ اباؤكم (١) ، قَدِّموا بعضاً يَكُنْ لكم ، ولا تخلفوا كلاً فيكونَ عليكم ، فإِنّما مثلُ الدُّنيا مثل السّمِّ ، يأْكًلُه من لا يَعرِفُه » (٢).

ومن ذلكَ قولهُ 7 : « لا حياةَ إلاً بالدِّينِ ، ولا موتَ إِلا بجحُودِ اليقينِ ، فاشرَبوا العَذْبَ الفُراتَ يُنَبِّهْكم من نَوْمةِ السُّباتِ ، وِإيّاكم والسّمائم المُهْلِكاتِ ».

ومن ذلكَ قولُه 7 : « الدُّنيا دارُ صِدْقٍ لمن عَرَفَها ، ومِضّمارُ الخَلاصِ لمن تَزَوَّدَ منها ، هي مَهبطُ وحي اللهِ ، ومَتْجَرُ أوليائه ، اتَّجَرُوا فَرَبِحُوا الجنّة ».

ومن ذلكَ كلامُه 7 لرجلٍ سَمِعَه يَذُمُّ الدُّنيا من غيرِ مَعرِفةٍ بما يجبُ أن يَقولَ في معناها : « الدُّنيا دارُ صدقٍ لمن صَدقَها ، ودارُ عافيةٍ لمن فَهِمَ عنها ، ودارُغِنىً لمن تَزوَّدَ منها ، مَسجِدُ أنبياءِ اللّهِ ، ومَهبط وحيهِ ، ومُصَلَّى ملائكتِه ، ومَتْجَر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرَّحمةَ ، ورَبِحوا فيها الجنَّةَ. فمن ذا يَذُمُّها ، وقد اذَنَتْ ببينِها ، ونادتْ بفراقِها ، ونَعَتْ نفسَها ، فشوَّقَتْ بسُرورِها إِلى السُّرور ، وببلائها إِلى البلاءِ ، تخويفاً وتحذيراً وترغيباً

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : أبركم.

(٢) رواه الصدوق في أماليه : ٩٧ ، وعيون أخبار الرضا 7 ١ : ٢٩٨ ، واورده الشريف الرضي في نهج البلاغة ٢ : ٢٠٩ / ١٩٨ باختلاف يسير.


وترهيباً. فأيُّها الذّامُّ للدُّنيا والمُعتلُّ (١) بتغريرها ، متى غَرَّتْكَ؟ أبمصارِعِ آبائكَ منَ البلى! أم بِمضاجِعِ أمّهاتِكَ تحتَ الثَّرى! كم عَللْتَ بكفَّيْكَ! ومَرَّضْتَ بيَديكَ! تبتغي لهمُ الشِّفاءَ ، وتَستوصِفُ لهمُ الأطبّاءَ ، وتَلتمِس لهمُ الدّواءَ ، لم تَنفَعْهم بِطَلِبَتِكَ ، ولم تُسْعِفْهم (٢) بشفاعتِكَ. مَثَّلَتِ الدُّنيا بهم مَصْرَعَكَ ومَضْجَعَكَ ، حيثُ لايَنفَعُكَ بكاؤكَ ، ولا يُغني عنكَ أحِبّاؤكَ » (٣).

ومن ذلكَ قولُه 7 : « أيُّها النّاسُ ، خذوا عنِّي خمساً ، فواللّهِ لو رَحَلْتُمُ المَطِيَّ فيها لأَنضيتمُوها قبلَ أن تَجدوا مِثلَها : لا يَرْجُوَنَّ أحدٌ إلاّ ربَّه ، ولا يَخافَنَّ إلاّ ذنْبَه (٤) ، ولا يَسْتَحْيِيَنًّ العالِم إِذا سُئلَ عمَّا لا يَعلَمُ أن يقولَ : الله أعلمُ ، ( ولا يستحيين احد اذا لم يعلم الشيء ان يتعلمه ) (٥) والصَّبرُمِنَ الإِيمان بمنزلةِ الرأس ، منَ الجسدِ ، ولا إِيمان لمن لا صبرَله » (٦).

ومن ذلكَ قوك 7 : « كلُّ قولٍ ليس للهِّ فيهِ ذِكرٌ فلَغْوٌ ،

ــــــــــــــــــ

(١) كذا في « م » وهامش « ش » وفي « ش » والمعتبر وفي النهج ومروج الذهب : « والمغتر ».

(٢) في « ش » و « ح » : تَشْفِهم ، وفي هامش « ش » و « م » : تُشَفّعهم.

(٣) رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار ٢ : ٣٢٩ ، واليعقوبي في تاريخه ٢ : ٢٠٨ ، والمسعودي في مروج الذهب ٢ : ٤١٩ ، والشريف الرضي في النهج ٣ : ١٨١ / ١٣١ ، والآبي في نثر الدر ١ : ٢٧٣ ، وابن شعبة في تحف العقول : ١٨٦ باختلاف يسير في ألفاظه.

(٤) في « ش » : عذابه.

(٥) لم ترد في « م » و « ش » ، واثبتأها من هامش « ش » وهي موافقة لما في جميع المصادر.

(٦) صحيفة الامام الرضا 7 : ٨١ / ١٧٧ ، العقد الفريد ٤ : ١٦٩ ، عيون أخبار الرضا 7 ٢ : ٤٤ ، الخصال : ٣١٥ / ٩٦ ، نهج البلاغة ٣ : ١٦٨ / ٨٢.


وكلُ صمتٍ ليس فيه فِكَرٌ فسَهْوٌ ، وكلُّ نَطَرٍ ليس فيه اعتبارٌ فلَهْوٌ » (١).

وقولُه 7 : « ليس مَنِ ابتاعَ نقسَه فأعتَقَها كمن باعَ نفسَه فأوبقَها » (٢).

وقوله 7 : « من سُبِقَ إِلى الظِّلِّ ضَحِيَ ، ومن سُبِقَ إِلى الماءِ ظَمِئ ».

وقوله 7 : « حُسْنُ الأدَبِ يَنوبُ عَنِ الحَسَب ».

وقوله 7 : « الزّاهِدُ في الدُّنيا ، كلَّما ازدادتْ له تَحَلًّياً (٣) ازدادَ عنها تَوَلِّياً » ‏.

وقوله 7 : « المَوَدّةُ أشبَكُ الأنسابِ ، والعِلمُ أشرَفُ الأحسابِ ».

وقولهُ 7 : « إِنْ يَكُنِ الشُّغْلُ مَجْهَدةً ، فاتًصال الفَراغِ مَفْسَدة ».

وقوله 7 : « من بالَغَ في الخُصومة أثِمَ ، ومن قَصَّرَ فيهَا خُصِمَ ».

وقولهُ 7 : « العَفْو يُفسدُ مِنَ اللئيمِ بقَدرِ إِصلاحِه مِنَ الكريم ».

ــــــــــــــــــ

(١) رواه الصدوق في أماليه : ٩٦ ، والخصال : ٩٨ ، ومعاني الأخبار : ٣٤٤ ، وابن شعبة في تحف العقول : ٢١٥ باختلاف يسير.

(٢) نثر الدر ١ : ٢٩٥ ، ونحوه في نهج البلاغة ٣ : ١٨٣ / ١٣٣.

(٣) في هامش « ش » و « م » : تجلّياً.


وقولُه 7 : « مَن أحبَّ المَكارِمَ اجتنبَ المَحارِمَ ».

وقولُه 7 : « من حَسُنَتْ بهِ الظُّنونُ ، رَمَقَتْهُ الرِّجالُ با لعُيونِ ».

وقولُه 7 : « غاية الجُودِ ، أن تُعطيَ من نفسِكَ المَجهودَ ».

وقولُه 7 : « ما بَعُدَ كائنٌ ، ولا قَرُبَ بائنٌ ».

وقولًه 7 : « جَهْلُ المرءِ بعيُوبِه من أكبرِذُنوبِه ».

وقولُه 7 : « تَمامُ العَفافِ الرِّضا بالكَفافِ ».

وقولهُ 7 : « أتَمُّ (١) الجُودِ ابتناءُ المكارمِ واحتمالُ المغارِمِ ».

وقولُه 7 : « أظهر الكَرَمِ صِدقُ الإخاء في الشِّدّةِ والرَخاءِ ».

وقولُه 7 : « الفاجرُ إِن سَخِطَ ثَلَبَ ، وإنْ رَضِيَ كَذَبَ ، لمِ ان طَمعَ خَلَبَ ».

وقولُه 7 : « مَنْ لم يكنْ أكثرَما فيه عقلُه ، كانَ بأكثرِما فيه قتلُه ».

وقولُه 7 : « احتملْ زَلّةَ وَليِّكَ ، لِوَقتِ وَثبْةِ عدوِّكَ ».

وقوك 7 : « حُسْن الاعترافِ يَهدِمُ الاقترافَ ».

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » : أعم.


وقوله 7 : « لم يَضِعْ من مالِكَ ما بَصَّرَكَ صلاحَ حالِكَ ».

وقولُه 7 : « القَصْدُ أسهل مِنَ التّعسُّفِ ، والكَفُّ أودعُ من التّكلُّفِ ».

وقولُه 7 : « شرُّ الزّادِ إِلى المَعادِ احتقابُ ظُلمِ العِبادِ ».

وقولُه 7 : « لا نَفادَ لِفائدةٍ إِذا شُكِرَتْ ، ولا بَقاءَ لِنعمةٍ إِذا كُفِرَتْ ».

وقولُه 7 : « الدّهرُ يومانِ ، يومٌ لكَ ويومٌ عليكَ ، فإِنْ كانَ لكَ فلا تَبْطَرْ ، وِانْ كانَ عليكَ فاصبِر ».

وقولُه 7 : « رُبَّ عزيزٍ أذَلَّهُ خُلقُه ، وذليلٍ أعَزَّهُ خُلقُه ».

وقولُه 7 : « مَنْ لم يًجرِّب الأمورَ خُدعَ ، ومن صارعً الحقَّ صرُعَ ».

وقولُه 7 : « لو عُرِفَ الأجَلُ قَصُرَ الأمَلُ ».

وقولُه 7 : « الشُكرُ زِينةُ الغِنى ، والصّبرُ زِينةُ البَلوى ».

وقولُه 7 : « قِيمةُ كلِّ امرئ ما يحسن ».

وقولُه 7 : « النّاسُ أبناءُ ما يُحسِنونَ ».

وقولُه 7 : « المَرء مَخْبوء تحتَ لسِانهِ ».

وقولًه 7 : « مَنْ شاوَرَ ذَوي الألباب دلَّ على الصّوابِ ».


وقولُه 7 : « مَنْ قَنعَ باليسيرِ استغنى عنِ الكثير ، ومَنْ لم يَستغنِ بالكثيرِ افتقرَ إِلى الحقيرِ ».

وقولُه 7 : « مَنْ صَحَتْ عرُوقُه أثمرَتْ فرُوعُه ».

وقولُه 7 : « من أمِلَ إِنساناً هابَه ، ومن قَصُرَ عن معرفةِ شيءٍ عابَه ».

ومن كلامِه 7 في وصفِ الإنسانِ

قولُه : « أعجب ما في الإنسانِ قلبُه ، وله مواد من الحكمة وأضدادها ، فإِنْ سَنَحَ له الرّجاء أذَلهَ الطَّمَعُ ، وإنْ هاجَ به الطَّمَع أهلكه الحِرصُ ، وِان مَلَكَة اليأْسُ قَتلَه الأسَفُ ، وإن عَرَضَ له الغَضَبُ اشتدَ به الغَيْظُ ، وإن أسْعِفَ بالرِّضا نَسِيَ التّحفُّظَ ، وِانْ ناله الخوفُ شَغلَه الحَذَرُ ، وإنِ اتّسعَ له الأمنُ استولتْ عليه الغِرَّةُ (١) ، وإنْ جُددَتْ له نِعْمةٌ أخذتْه العِزّةُ ، وِانْ أصابتْه مُصيبةٌ فَضَحَه الجَزَعُ ، وانْ أفادَ مالاً أطغاه الغِنى ، وِان عَضَّتْه فاقةٌ شَغلَه البَلاءُ ، وِانْ أجهده الجُوعُ قَعَدَ به الضعفُ ، وإن أفرطَ في الشَبَعِ كَظَّتْه البِطْنةُ ، وكلُّ تقصيرٍ به مضِرٌّ ، وكلُّ إِفراطٍ له مُفْسِدٌ » (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) الغِرة : الغفلة. « الصحاح ـ غرر ـ ٢ : ٧٦٨ ».

(٢) الكافي ٨ : ٢١ ، علل الشرائع : ١٠٩ / ٧ ، خصائص الأئمة للرضي : ٩٧ ، دستور معالم الحكم : ١٣٩ ، نثر الدرّ ١ : ٢٧٦.


ومن كلامِه 7 وقد سَأل شَاهْ زَنانَ بنتَ كِسْرى حينَ أُسِرَتْ : « ما حَفِظْتِ عن أبيكِ بعدَ وَقْعةِ الفِيْل؟ » قالتْ : حَفِظْنا عنه أنّه كانَ يقولُ : إِذا غَلَبَ الله على أمرٍ ذَلَّتِ المَطامعُ دونَه ، وإذا انقضَتِ المُدّةُ كانَ الحَتْفُ في الحِيْلةِ. فقالَ 7 : « ما أحسَنَ ما قالَ أبوكِ! تَذِلُّ الأمورُ للمَقاديرِ حتّى يكونَ الحَتْفُ في التدبيرِ » (١).

ومن كلامه 7 : « مَنْ كانَ على يَقينٍ فأصابَه شكّ فليَمْضِ على يقينهِ ، فإِنَّ اليقينَ لايُدفَعْ بالشّكِّ » (٢).

ومن كلامِه 7 : « المؤمنُ مِنْ نفسِه في تَعَبٍ ، والنّاسُ منه في راحةٍ » (٣).

وقالَ 7 : « مَنْ كَسِلَ لم يُؤَدِّ حقّاً للّهِ تعالى عليهِ » (٤).

وقالَ 7 : « أَفضل العِبادةِ : الصّبرُ ، والصّمتُ ، وانتظارُ الفرجَ » (٥).

وقالَ 7 : « الصّبرُعلى ثلاثةِ أوْجُهٍ : فصبرٌ على المًصيبةِ ، وصبرٌ عَنِ المعصيةِ ، وصبرٌ على الطّاعةِ » (٦).

ــــــــــــــــــ

(١) ذيله في نثر الدرّ ١ : ٢٨٥ ، تحف العقول : ٢٢٣.

(٢) تحف العقول : ١٠٩.

(٣) الخصال : ٦٢٠ ، تحف العقول : ١١٠.

(٤) الخصال : ٦٢٠ ، تحف العقول : ١١٠ ، كنز الفوائد ١ : ٢٧٨.

(٥) تحف العقول : ٢٠١ ، ومثله في نثر الدر ١ : ٢٧٩ ، وليس فيه : « الصبر ».

(٦) الكافي ٢ : ٧٥ ، التمحيص : ٦٤ / ١٤٩ ، تحف العقول : ٢٠٦.


وقالَ 7 : « الحِلْمُ وَزيرُ المؤمنِ ، والعِلْمُ خَليلهُ ، والرِّفْقُ أخوه ، والبرُّ والدهُ ، والصّبرُ أميرُ جُنودِهِ » (١).

وقالَ 7 : « ثلاثةٌ من كنوز الجنّةِ : كِتمانُ الصّدَقةِ ، وكِتمانُ المُصيبةِ ، وكِتمانُ المَرَضِ » (٢).

وقالَ 7 : « احْتَجْ إِلى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أسيرَه ، واستغنِ عمّنِ شِئتَ تكنْ نَظيرهَ ، وأفْضِلْ على مَنْ شِئتَ تكنْ أميرهَ » (٣).

وكانَ يقول 7 : « لا غِنى معَ فُجورٍ ، ولا راحةَ لِحَسودِ ، ولا مَوَدّةَ لملول ».

وقالَ للأحْنَفِ بنِ قَيْس : « السّاكِتُ أخو الرّاضي ، ومَنْ لم يكنْ معَنا كانَ علينا ».

وقالَ 7 في « الجُوْدُ مِنْ كَرَم الطّبيعةِ ، والمَنُّ مَفْسَدةٌ لصّنيعةِ ».

وقالَ 7 : « تَرْكُ التّعاهُدِ للصَّديقِ داعِيَةُ القَطِيعةِ ».

وكانَ 7 يقولُ : « إِرجافُ العامّةِ بالشّيّءِ دَليلٌ على مقذَماتِ كَوْنه ».

وقالَ 7 : « اطلُبوا الرِّزقَ فإِنّه مضمون لطالبِه ».

ــــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٠٣ و ٢٢٢ باختلاف يسير.

(٢) دعوات الراوندي : ١٦٤ نحوه عن رسول الله 9.

(٣) ذكره الصدوق في الخصال : ٤٢٠ بتقديم وتأخير ، والكراجكي في كنزه ٢ : ١٩٤ ، ورواه المسعودي باختلاف يسيرفي مروج الذهب ٢ : ٤٢٠ ضمن وصية الامام لابنه الحسن 8.


وقالَ 7 : « أربعةٌ لا تُرَدَّ لهم دَعوة : الإمامُ العادِلُ لرعيّتِه ، والوالد البار لولده ، والولدُ البارُ لوالدِه ، والمظلومُ ، يقول اللّهُ عزّ اسمُه : وعزّتي وجَلالي ، لأنتصرَنَّ لكَ ولوبعدَ حينٍ ».

وقالَ 7 : « خيرُ الغِنى تركُ السُّؤالِ ، وشر الفقرِ لزُوم الخضوعَ ».

وقالَ 7 : « ضاحِك مُعترِفٌ بذنبِه ، أفضلُ من باكٍ مُدِلًّ على ربه ».

وقالَ 7 : « المعروفُ عِصمةٌ منَ البَوارِ ، والرِّفقُ نَعْشةٌ منَ العِثارِ ».

وقالَ 7 : « لا عُدَّةَ أنفعُ منَ العَقْلِ ، ولاعَدُوَ أضرُ منَ الجَهْلَ ».

وقالَ 7 : « لولا التّجارِبُ عَمِيَتِ المَذاهِبُ ».

وقالَ 7 : « مَنِ اتّسعَ أمَلهُ قَصرُ عَمَلهُ ».

وقالَ 7 : « أشكر الناس أقنعهم ، وأكفرهم للنّعم أجْشَعُهم ».

في أمثالِ هذا الكلامِ المفيدِ للحِكمةِ وفَصْلِ الخِطاب ، لم نَستوفِ ما جاء في معناهُ عنه 7 ، لئلا يَنتشرَ الخِطاَبُ ، ويطولَ الكتابُ ، وفيما أثبتناهُ منه مقنعٌ لذوي الألبابِ.


فصل

في آياتِ اللّهِ تعالى وبراهينِه الظّاهرةِ على

أمرِ المؤمنينَ 7 ، الدّالّة على مكانِه من

اللّهِ عزّ وجلّ واختاصهِ من الكراماتِ بما انَفردَ به ممّن سواه ،

لِلدّعوةِ إِلى طاعتهِ ، والتّمسُّكِ بِولايتهِ ، والاستبصارِ بحقه ،

واليَقِين بامامَتِهِ ، والمَعرِفَةِ بِعصمَتِهِ وكمالِه وظهورِ حُجَتِهِ.

فمن ذلكَ ما ساوى به نبيَّيْنِ من أنبياءِ اللّهِ ورُسلِه وحُجّتينِ له على خلقِه ، ما لا شُبهةَ في صحّتِه ولا ريبَ في صوابه ، قالَ اللّهُ عزّ اسمُه في ذكرِالمسيحِ عيسى بنِ مريَم رُوحِ اللّهِ وكلمتِه ونبيِّه ورسولهِ إلى خليقتِه ، وقدذكرَ قصتةَ والدتِه في حَمْلِها له ووضعِها إِيّاه والأعجوبة في ذلك ( قَالَتْ أنّى يَكُوْن ليْ غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنيْ بَشَر وَلَمْ أكُ بغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُكِ هُوَ عَلًيَّ هَينٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيةًَ لِلنّاسِ وَرَحْمةً مِنَّا وكَانَ أمْراً مَقْضِياً ) (١) وكانَ من آياتِ اللّهِ تعالى في المسيحِ عيسى بنِ مَرْيمَ 7 نُطقه في المهدِ ، وخَرقُ العادةِ بذلكَ ، والأعجوبةُ فيه ، والمُعجِزُ الباهرُ لعقولِ الرِّجالِ ، وكانَ من اياتِ اللهِ تعالى في أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبِ 7 كمالُ عقلِه ووَقارتُه ومعرفتُه باللّهِ وبرسولهِ 9 معَ تَقارُب سِنِّه وكونه على ظاهرِ الحالِ في عِدادِ الأطفالِ حينَ دعاه رسولُ الله 9 إِلى التّصديقِ به والأقرارِ ، وكلّفه العلمَ بحقَه ، والمعرفةَ

ــــــــــــــــــ

(١) مريم ١٩ : ٢٠ ـ ٢١.


بصانعِه ، والتّوحيدَ له ، وعَهدَ إِليه في الاستسرارِ بما أودعه من دينهِ ، والصيانةِ له والحفظِ وأداءِ الأمانةِ فيه.

وكانَ إِذْذاكَ 7 على قولِ بعضِهم من أبناءِ سبعِ سنينَ ، وعلى قولِ بعضٍ آخرَمن أبناءِ تسعٍ ، وعلى قولِ الأكثرِمن أبناءِ عشرٍ ، فكانَ كمالُ عقلهِ 7 وحصولُ المعرفَةِ له باللهِ وبرسولهِ 9 آيةً للّهِ فيه باهرةً خَرَقَ بها العادةَ ، ودَلَّ بها على مكانهِ منه واختصاصِه به وتأهيلِه لما رشّحه له من إِمامةِ المسلمينَ والحجّةِ على الخلقِ أجمعينَ ، فجرى في خرقِ العادةِ لِما ذكرناه مجرى عيسى ويحيى 8 بما وصفناه ، ولولا أنّه 7 كانَ في تلكَ الحالِ كاملاً وافراً وباللّهِ عزّ وجلّ عارفاً ، لمَا كلّفه رسولُ اللهِ 9 الإقرارَ بنبوّته ، ولا ألزمه الإيمانَ به والتّصديقَ لرسالتهِ ، ولا دعاه إِلى الاعترافِ بحقِّه ، ولا افتتحَ الدّعوةَ به قبلَ كل أحدٍ منَ النّاسِ سوى خديجةَ 3 زوجتهِ ، وَلماُ (١) ائتمنَه على سرِّه الّذي أُمِرَ بصيانتهِ ؛ فلمّا ـ أفرده النّبيُّ 9 بذلكَ من أبناءِ سنَه كلَهم في عصرِه ، وخصّه به دون من سواه ممّن ذكرناه ، دلّ ذلكَ على أَنّه 7 كانَ كاملاً معَ تقارُبِ سنِّه ، وعارفاً باللّهِ تعالى ونبيّه 9 قبلَ حُلْمِه ، وهذا هومعنى قولِ اللهِ عزّوجلّ في يحيى 7 ( وآتيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً ) (٢) إِذ لا حكمَ أوضحُ من معرفةِ اللّهِ ، وأظهرُ منَ العلمِ بنبوّةِ رسولِ اللهِ 9 ، وأشهرُ منَ القدرةِ على

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : ولا.

(٢) مريم ١٩ : ١٢.


الاستدلانِ ، وأيينُ من معرفةِ النّظرِ والاعتبارِ ، والعلمِ بوجوهِ الاستنباطِ ، والوصولِ بذلكَ إِلى حقائقِ الغائباتِ ؛ وإذا كان الأمرُعلى ما بيّنّاه ، ثبتَ أنّ اللّهَ سبحانَه قد خَرَقَ العادةَ في أميرِ المؤمنينَ 7 بالآيةِ الباهرةِ التّي ساوى بها نبيّنه اللذَيْن نطقَ القرآنُ بآيتهِ (١) العظمى فيهما على ما شرحناه.

فصل

ومن ايات الله عزّ وجلّ الخارقةِ للعادةِ في أمير المؤمنينَ 7 أنّه لم يُعْهَدْ لأَحدٍ من مبارزةِ الأقرانِ ومنازلةِ الأبطالِ ، مثلُ ما عُرِفَ له 7 من كثرةِ ذلكَ على مرِّ الزّمانِ ؛ ثمّ إنّه لم يوجدْ في مُمارسي الحروب إلاّ من عَرَتهُ (٢) بشرٍّ ونِيلَ منه بجراحٍ أو شَينٍ إِلاّ أميرُالمؤمنينَ ، فإنّه لمَ يَنَلْه معَ طولِ مدّةِ زمانِ حربه (٣) جراح من عدوٍّ ولا شينٌ ، ولا وصلَ إِليه أحدٌ منهم بسوء ، حتّى كانَ من أمرهِ معَ ابنِ مُلْجَمٍ لَعنَه اللّهُ على اغتيالهِ إِيّاه ما كانَ ، وهذهِ أُعجوبةٌ أفردَه الله تعالى بالآيةِ فيها ، وخصّه بالعَلَمِ الباهرِ في معناها ، فدلّ بذلكَ على مكانهِ منه ، وتخصُّصِه بكرامتهِ التّي بَانَ بفضلِها من كافّةِ الأنامِ.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : بأياته.

(٢) اي اصابته « اقرب الموارد ٢ : ٧٧٤ ».

(٣) في هامش « ش » : حروبه.


فصل

ومن آياتِ الله تعالى فيهِ 7 أنّه لا يُذكَر مُمارِسٌ للحروب التي لقيَ فيها عدوّاً إلاّ وهو ظافرٌ به حيناً وغيرُ ظافرٍ به حيناً ، ولا نالَ أحدٌ منهم خصمَه بجراح إِلاّ وقضى منها وقتاً وعوفي منها زماناً ، ولم يُعهَدْ من لم يُفْلِتْ منه قِرْنٌ في الحرب ، ولا نجا من ضربتِه أحدٌ فصَلَحَ منها إلاّ أميرُ المؤمنينَ 7 ، فَإِنّه لا مِرْيةَ في ظَفَرِه بكلّ قِرْنٍ بارَزَه ، وإهلاكِه كلّ بطلٍ نازَلَه ، وهذا أيضاً ممّا انفردَ به 7 من كافّةِ الأنام ، وخَرَقَ اللّهُ عزّ وجلّ به العادةَ في كلَ حين وزمانٍ ، وهومن دلائلهِ الواضحَةِ 7.

فصل

ومن آياتِ اللّهِ تعالى فيهِ أيضاً ، أنّه معَ طولِ ملاقاتِه للحروب ومُلابَستِه إِياها ، وكثرةِ من مُنيَ به فيها من شُجعانِ الأعداءِ وصناديدِهم ، وتَجَمُّعِهم عليه واحتيالهِم في الفَتْكِ به وبذلِ الجهدِ في ذلكَ ، ما ولّى قطٌ عن أحدٍ منهم ظَهْرَه ، ولا انهزمَ عن أحدٍ منهم ، ولاتَزَحْزَحَ عن مكانِه ، ولا هابَ أحداً من أقرانِه ، ولم يلقَ أحدٌ سواه خصماً له في حربٍ إلاّ وثَبَتَ له حيناً وانحرفَ عنه حيناً ، وأقدمَ عليه وقتاً وأحجمَ عنه زماناً.

وإذا كانَ الأمرُ على ما وصفناه ، ثبتَ ما ذكرناه من انفرادِه بالآيةِ


الباهرةِ والمعجزةِ الزّاهرةِ ، وخَرْقِ العادةِ فيه بما دلّ اللّهُ به على إِمامتِه ، وكَشَفَ به عن فرضِ طاعتِه ، وأبانَه بذلك من كافّةِ خليقتهِ.

فصل

ومن آياتِه 7 وبيِّناتِه التّي انفردَ بها ممّن عداه ، ظُهورُ مَناقبِه في الخاصّةِ والعامّةِ ، وتَسخير الجمهورِ لنقلِ فضائلِه وما خصّه الله به من كرائمِه ، وتسليم العدوِّ من ذلكَ بماُ (١) فيه الحجّةُ عليه ، هذا معَ كثرةِ المنحرفينَ عنه والأعداءِ له ، وتَوَفُّرِ أسبابِ دواعيهم إِلى كتمانِ فضلهِ وجَحْدِ حقِّه ، وكونِ الدُّنيا في يدِ خًصومِه وانحرافِها عن أوليائه ، وما اتّفقَ لأضدادِه من سُلطانِ الدُّنيا ، وحَمْلِ الجمهورِ على إِطفاءِ نورِه ودَحْضِ أمرِه ، فخَرَقَ اللهُ العادةَ بنشرِفضائله ، وظُهورِ مَناقبِه ، وتسخيرِ الكلِّ للاعترافِ بذلكَ والإقرارِ بصحّتهِ ، واندِحاضِ ما احتالَ به أعداؤه في كتمانِ مَناقبه وجَحْدِ حقوقِه ، حتّى تمّتِ الحجّةُ له وظَهَرَ البرهانُ لحقِّه.

ولمّا كانتِ العادةُ جاريةً بخلافِ ما ذكرناه فيمنِ اتّفقَ له من أسباب خُمولِ أمرِه ما اتّفقَ لأميرِ المؤمنينَ 7 فانخرقتِ العادةُ فيه ، دلّ ذلكَ على بَينونتِه من الكافّةِ بباهرِ الآيةِ على ما وصفناه.

وقد شاعَ الخبرُ واستفاضَ عنِ الشّعْبِيِّ أنّه كانَ يقولُ : لقد كنتُ أسمع خطَباءَ بني أُميّةَ يَسُبُّونَ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ على

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : ما.


مَنابرِهم فكأنماُ (١) يُشال بضَبْعهِ إِلى السّماءِ ، وكنتُ أسمعهُم يَمدحونَ أسلافَهم على مَنابرِهم فكأنمّاُ (٢) يَكشِفونَ عن جِيفةٍ (٣).

وقالَ الوَليدُ بنُ عبدِ المَلِكِ لبنيه يوماً : يا بَنيَّ عليكم بالدِّينِ فإِنِّي لم أرَ الدِّينَ بنى شيئاً فهَدَمَتْه الدُّنيا ، ورأيتُ الدُّنَيا قد بَنَتْ بُنياناً هَدَمَهُ (٤) الدِّينُ. ما زِلتُ أسمعُ أصحابَنا وأهلَنا يَسُبُونَ عليَّ بنَ أبي طالبِ ويَدفِنونَ فضائلَه ، يحَمِلونَ النّاسَ على شَنآنِه ، فلا يَزيدُه ذلكَ منَ القَلوب إلاّ قُرباً ، ويجَتهدونَ في تَقرييِهمُ (٥) من نُفوسِ الختقِ فلا يَزيدُهم ذلكَ إلاّ بُعداًُ (٦).

وفيما انتهى إِليه الأمرُ في دفنِ فضائلِ أميرِ المؤمنينَ 7 والحيلولةِ بينَ العلماءِ ونشرِها ، ما لا شبهةَ فيه على عاقلٍ ، حتّى كانَ الرّجلُ اذا أرادَ أن يَرويَ عن أميرِ المؤمنينَ روايةً لم يَستطعْ أن يُضيفَها إِليه بذكرِ اسمِه ونَسَبِه ، وتَدعوه الضّرورةُ إِلى أن يقولَ : حدَّثَني رجلٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ 9 ، أو يقولَ : حدَّثَني رجلٌ من قًريْشٍ ، ومنهم من يقولُ : حدَّثَني أبو زينبَ.

وروى عِكْرِمَةُ عن عائشةَ ـ في حديثِها له بمرضِ رسولِ اللّهِ 9 ووفاتِه ـ فقالتْ في جملةِ ذلكَ : فخرجَ رسولُ اللّهِ 9 متوكَّئاً على رجلَينِ من أهلِ بيتهِ ، أحدُهما الفَضْلً بنُ

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : وكانّما.

(٢) في « م » وهامش « ش » : وكانما.

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٨ ضمن حديث ٦.

(٤) في هامش « ش » فهدمه.

(٥) كذا في الاصل ، ولعل الانسب : تَقَرُّبهمِ.

(٦) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٨ / ذيل الحديث ٦.


العَبَّاسِ. فلما حَكَى عنها ذلكَ لعبدِاللّهِ بن عبّاسٍ ; قالَ له : أتعرف الرّجلَ الآخرَ؟ قال : لا ، لم تسمًّهِ لي ، قالَ : ذلكَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، وما كانتْ أُمُّنا تَذكرُه بخيرٍ وهي تَستطيعُُ (١).

وكانتِ الوُلاةُ الجَوَرةُ تَضرب بالسِّياطِ من ذكره بخيرِ ، بل تَضرب الرِّقابَ على ذلكَ ، وتَعترضُ النّاسَ بالبراءةِ منه ؛ والعادةَ جاريةٌ فيمنِ اتّفقَ له ذلكَ إلا يُذْكَرَ على وجهٍ بخيرٍ ، فضلاً عن أن ْتذكَرَله فضائلٌ أوتُروى له مَناقبٌ أو تُثْبَتَ له حجّةٌ بحقٍّ. وإذا كانَ ظهورُ فضائلِه 7 وانتشارُ مناقبِه على ما قدَّمنا ذِكرهَ من شياع ذلكَ في الخاصّةِ والعامّةِ وتسخيرِ العدوِّ والوليِّ لنقلِه ، ثَبتَ خرقُ العادِة فيه ، وبانَ وجهُ البرهانِ في معناه ، بالآيةِ الباهرةِ على ما قدَّمناه.

فصل

ومن آياتِ اللّهِ تعالى فيهِ 7 أنّه لم يمْنَ أحدٌ في ولدِه وذًريَّتهِ بما منيَ 7 في ذريَّتِه ، وذلكَ أنّه لم يُعْرَفْ خوفٌ شَمِلَ جماعةً من ولدِ نبيٍّ ولا إِمامٍ ولا مَلِكِ زمانٍ ولا بَرٍّ ولا فاجرٍ ، كالخوفِ الّذي شَمِلَ ذرِّيَّةَ أميرِ المؤمنينَ 7 ، ولا لحقَ أحداً منَ القتلِ والطّردٍ عن الدِّيارِ والأوطانِ والإخافةِ والإرهاب ما لحقَ ذُرِّيَّةَ أميرِ المؤمنين 7 وولدَه ، ولم يَجْرِ على طائفةٍ منَ الَنّاسِ من ضروبِ

ــــــــــــــــــ

(١) اخرجه البخاري في صحيحه ٦ : ١٣ ، وباختلاف يسير في صحيح مسلم ١ : ٣١١ / ٤١٨. ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٨ ضمن حديث ٦.


النّكالِ ما جرى عليهم من ذلكَ ، فقُتِلوا بالفَتْكِ والغِيْلةِ والاحتيالِ ، وبُنيَ على كثيرٍ منهم ـ وهم أحياءٌ ـ البُنيانُ ، وعُذِّبوا بالجوعِ والعطشِ حتَّى ذهبتْ أنفسُهم على الهلاكِ ، وأحوجَهم ذلكَ إِلى التّمزُّقِ في البلادِ ، ومُفارقةِ الدِّيارِ والأهلِ والأوطانِ ، وكتمانِ نَسَبهم عن أكثرِ النّاسِ. وبلغَ بهم الخوفُ إِلى الاستخفاء من أحبّائهم فضلاً عنِ الأعداءِ ، وبلغَ هربُهم من أوطانِهم إِلى أقصى الشّرق والغربِ والمواضعِ النّائيةِ عنِ العُمْرانِ ، وزَهِدَ في معرفتِهم أكثرُ النَّاسِ ، ورَغِبوا عن تقريبِهم والاختلاطِ بهم ، مخافةً على أنفسِهم وذراريِّهم من جبابرةِ الزّمانِ.

وهذهِ كلها أسبابٌ تقتضي انقطاعَ نظامِهم ، واجتثاثَ أُصولهِم ، وقلّةَ عددِهم. وهم معَ ماوصفناه أكثرُ ذرِّيَّةِ أحدٍ منَ الأنبياءِ والصّالحينَ والأولياءِ ، بل أكثرُ من ذراريِّ كلِّ أحدٍ منَ النّاسِ ، قد طبقوا بكثرتِهم البلادَ ، وغَلَبوا في الكثرةِ على ذراريِّ أكثرِ العِبادِ ، هذا معَ اختصاصِ مَناكحِهم في أنفسِهم دونَ البُعَداءِ ، وحصرِها في ذوي أنسابهم دِنْيةً منَ الأقرباءِ ، وفي ذلكَ خرقُ العادةِ على ما بيّنّاه ، وهو دليلُ الآَيةِ الباهرةِ في أمير المؤمنينَ علي بن أبي طالب 7 كما وصفناه وبيّنّاه ، وهذا ما لا شُبْهَةَ فيه ، والحمدُ لله.

فصل

ومن آياتِ اللّهِ عزّ وجلّ الباهرةِ فيه 7 والخواصِّ التي أفردَه بها ، ودلَّ بالمعجزِ منها على إِمامتِه ووجوبِ طاعتِه وثبوتِ حجّتِه ، ما


هو من جملةِ الخرائج (١) التي أبانَ بها الأنبياءَ والرُّسُلَ : وجَعَلَها أعلاماً لهم على صدقِهم.

فمن ذلكَ ما استفاضَ عنهُ 7 من إِخبارِه بالغائباتِ والكائنِ قبلَ كونه ، فلا يَخْرِمُ من ذلكَ شيئاً ، ويُوافِقُ المُخْبَرُمنه خَبَرَه حتّى يُتَحَقَّقَ الصدقُ فيه ، وهذا من أبهرِ مُعجزاتِ الأنبياءِ :.

ألا تَرى إِلى قولهِ تعالى فيما أبانَ به المسيح عيسى بن مريمَ 7 منَ المعجزِ الباهرِ والآيةِ العجيبةِ الدّالّةِ على نبوّته : ( وَأُنبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدخِروْنَ فيْ بيُوْتِكُمْ ) (٢). وجعلَ عزّاسمُه مثلَ ذلكَ من عجيب آياتِ رسولِ اللّهِ 9 فقالَ عندَ غَلَبةِ فارسٍ الرُّومَ : ( آلمَ *غُلبَتِ الرُّومُ * فيْ أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبوْنَ * فيْ بِضْعِ سِنِين ) (٣) فكانَ الأمرُفي ذلكَ كما قالَ.

وقالَ عزّ وجلّ في أهلِ بَدْرٍ قبلَ الوَقعةِ : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّوْنَ الدُّبُرَ ) (٤) فكانَ كما قالَ من غيرِ اختلافٍ في ذلكَ.

وقالَ عزّ قائلاً : ( لَتَدْخُلُنَّ اْلمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شاء اللّهُ امِنِيْنَ مُحَلِّقِيْنَ

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : « الخرائج : هي المعجزات ، يقال : خرائج الشريعة وهي التي تخرج على ايديهم مصححة لدعاويهم وكذلك هي في كتاب الجليس والانيس للمعافي ابن زكريا من خ رج ».

(٢) آل عمران ٣ : ٤٩.

(٣) الروم ٣٠ : ١ ـ ٤.

(٤) القمر ٥٤ : ٤٥.


رُءُؤْسَكُمْ وَمُقَصِّرِيْنَ لا تَخَافُوْنَ ) (١) فكانَ الأمر في ذلكَ كما قالَ.

وقالَ جلّ وعزّ : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأيتَ النَّاسَ يَدْخُلُوْنَ فِيْ دِيْنِ اللّهِ أفْوَاجَاً ) (٢) فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ.

وقالَ مُخبِراً عن ضمائرِقومِ من أهلِ النِّفاقِ : ( وَيَقُوْلُوْنَ فِيْ أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ) (٣) فخبَّرَعن ضمائِرِهم وما أخفَوْه في سرائرِهم.

وقالَ عزّ وجلّ في قصّةِ اليهود : ( قُلْ يا أيُّهَا الَّذِيْنَ هَادُوْا إِنْ زَعَمْتُمْ أثَكُمْ أوْليَاءُ للّهِ مِنْ دُوْنِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا اْلمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أبَدَاً بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيْهِمْ وَاللُّه عَلِيْمٌ بالظَّاِلمِيْنَ ) (٤) فكانَ الأمر كما قالَ ، ولم يجسر أحد منهم أنْ يَتمنّاه ، فحقّقَ ذلك خبرَه ، وأبان عن صدقِه ، ودلّ به على نبوته 7 ؛ في أمثالِ ذلكَ ممّا يطول به (٥) الكتابُ.

فصل

والّذي كانَ من أمير المؤمنينَ 7 من هذا الجِنْس ، ما لا يُستطاعُ إِنكارُه إلاً معَ الغَباوةِ والجهلِ وألبَهْتِ والعِناد ؛ ألا ترى إِلى ما تظاهرتْ به الأخبار ، وانتشرتْ به الآثارُ ، ونقلتْه الكافّةُ عنه 7 من قوله قبلَ

ــــــــــــــــــ

(١) الفتح ٤٨ : ٢٧.

(٢) النصر ١١٠ : ١ ـ ٢.

(٣) المجادلة ٥٨ : ٨.

(٤) الجمعة ٦٢ : ٦ ـ ٧.

(٥) في « م » وهامش « ش » : باثباته.


قتالِه الفِرَقَ الثّلاثَ بعدَ بيعتِه : « أُمرتُ بقتالِ النّاكِثينَ والقاسِطينَ والمارِقينَ » (١) فقاتلَهم 7 وكانَ الأمرُ فيما خبر به على ما قالَ.

وقالَ 7 لطلحةَ والزُّبير حين استأذناه في الخروجِ إِلى العُمرةِ : « لا واللّهِ ما تريدانِ العُمرةَ ، وإنمّا ترَيدانِ البَصرةَ » (٢) فكان الأمرُ كما قالَ.

وقالَ 7 لابنِ عبّاسٍ وهويخبرُه عنِ استئذانِهما له في العُمرةِ : « إِنّني أذِنت لهما معَ عِلمي بما قدِ انطويا عليه منَ الغدرِ ، واستظهرتُ باللّهِ عليهما ، وإنّ اللّهَ تعالى سيردُّ كيدَهما يُظفِرُني بهما » (٣) فكانَ الأمرُ كما قالَ.

وقالَ 7 بذي قارٍ وهوجالسٌ لأخذِ البيعةِ : « يأتيكم من قِبَل (٤) الكُوفةِ الفُ رجلٍ ، لا يَزيدونَ رجلاً ولا يَنقُصون رجلاً ، يُبايعوني على الموتِ » قال ابنُ عبّاسٍ : فجزِعتُ لذلكَ ، وخِفْتُ أن يَنقُصَ القومُ عنِ العددِ أو يَزيدوا عليه فيَفسُدَ الأمرُ علينا ، ولم أزَلْ مهموماً ( دَأبي إِحصاءُ ) (٥) القومِ ، حتّى وردَ أوائلهم ، فجعلتُ أُحصيهم فاستوفيتُ عددَهم تسعَمائةِ رجلٍ وتسعةً وتسعينَ رجلاً ، ثمّ انقطعَ مجئ القومِ ، فقلتُ : إِنّا للّهِ وإنّا إِليهِ راجعونَ ، ماذا حملَه على ما قالَ؟ فبينا أنا مفكّرٌ في ذلكَ إذ رأيتُ شخصاً قد أقبلَ ، حتّى دنا فإِذا هو راجلٌ عليهِ قَباءُ

ــــــــــــــــــ

(١) رواه الصدوق في الخصال : ١٤٥.

(٢) ذكره المصنف في الجمل : ٨٩.

(٣) ذكره المصنف في الجمل : ٨٩.

(٤) في « ش » : اهل.

(٥) في « م » وهامش « ش » : واني احصي.


صوفٍ معَه سيفُه وتُرْسُه وإداوتُهُ (١) ، فقَربَ من أميرِ المؤمنينَ 7 فقالَ له : امدُدْ يدَكَ أُبايِعْكَ ، فقالَ له أميرُ المؤمنين 7 : « وعلامَ تبايعُني؟ » قالَ : على السّمعِ والطّاعةِ ، والقتالِ بينَ يَدَيْكَ حتى أموتَ أو يَفتحَ اللّهُ عليكَ ، فقالَ له : « ما اسمُك؟ » قالَ أُويرٌ ، قالَ : « أنتَ أُويسٌ القَرَنيُّ؟ » قالَ : نعم ، قالَ : « الله أكبرُ ، أخبرَني حبيبي رسولُ اللّهِ 9 أنِّي أُدرِكُ رجلاً من أُمّتِه يُقالُ له أُويسٌ القَرَنِيَّ ، يكونَ من حزبِ اللهِ ورسوله ، يموت على الشّهادةِ ، يدخلُ في شفاعتِه مثلُ ربيعةَ ومُضَرَ ». قالَ ابنُ عبّاسٍ فسُرِّيَ عنِّيُ (٢).

ومن ذلكَ قولُه 7 وقد رفعَ أهلُ الشّام المصاحفَ ، وشكَّ فريقٌ من أصحابه ولَجَؤوا إِلى المسالمةِ ودَعَوْه إِليها : « ويَلَكم إِنّ هذهِ خديعة ، وما يُريدُ القَومُ القرآن ، لأنّهم ليسوا باهلِ قرآني ، فاتّقوا اللّهَ وامضُوا على بصائرِكم في قتالِهم ، فإِنْ لم تفعلوا تفرّقتْ بكم السبُلُ ، ونَدِمتم حيثُ (٣) لا تنفعُكم النّدامةً » (٤) فكانَ الأمرُ كما قالَ ، وكفرَ القومُ بعدَ التّحكيمِ ، ونَدِموا على ما فَرَطَ منهم في الإجابةِ إِليه ، وتفرّقتْ بهم السُّبُلُ ، وكانَ عاقبتهم الدَّمار.

وقالَ 7 وهومتوجِّهٌ إِلى قتالِ الخوارج : « لولا أنّني أخافُ

ــــــــــــــــــ

(١) الاداوة : اناء يحمل يستفاد من مائه في التطهير. « الصحاح ـ ادا ـ ٦ : ٢٢٦٦ ».

(٢) اخرجه الكشي في اختيار معرفة الرجال ١ : ٥٦ / ٣١٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥٩٣ ( ط / ح ).

(٣) في « م » و « ح » : حين.

(٤) ذكر الديلمي في الارشاد : ٢٥٥ نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥٩٣ ( ط / ح ).


أن تتكلوا وتتركوا العملَ لأخبرتُكم بما قضاه اللّهُ على لسانِ نبيًه 9 فيمن قاتلَ هؤلاءِ القومَ مستبصِراً بضلالتهِم ، وإنّ فيهم لَرجلاً مَوْدُوْنَُ (١) اليدِ ، له كثَدْي المرأةِ ، هم شرُّ الخَلقِ والخليقةِ ، قاتِلهُم أقربُ الخلقِ إلى الله وسيلة » ولم يكنِ المُخْدَجً معروفاً في القومِ ، فلمّا قُتلوا جعلَ 7 يطلًبُه في القتلى ويقولُ : « واللّهِ ما كَذَبْت ولا كُذِبْت » حتّى وُجِدَ في القومِ ، فشُقَّ قميصُهُ (٢) فكانَ على كتفهِ سِلْعَةٌ (٣) كثَدْي المرأةِ ، عليها شَعَراتٌ إذا جُذِبَتِ انجذبَ (٤) كتفُه معَها ، وإذا تُرِكَتْ رجعَ كتفُه إِلى موضعِه. فلما وجدَه كبر ثمّ قالَ : « إِنّ في هذا لَعبرةً لمنِ استبصرَ » (٥).

فصل

وروى أصحابُ السيرة عن جُندب بنِ عبدِاللهِ الأزْدِيِّ قالَ : شَهِدتُ معَ عليٍّ 7 الجَمَلَ وصِفَيْنَ لاَ أشُكُّ في قتالِ من قاتَله ، حتى نزلْنا النهروَانَ فدخلني شكّ وقلتُ : قُراؤنا وخِيارُنا نقتلهُم!؟ إِنّ هذا لأمرٌ عظيمٌ. فخرجت غُدْوَةً أمشي ومعي إداوةُ ماءٍ حتّى برزتُ عنُِ (٦)

ــــــــــــــــــ

(١) المودون : القصير العنق والالواح واليدين الناقص الخلق الضيق المنكبين « القاموس ـ ودن ـ ٤ : ٢٧٥ ».

(٢) في « م » وهامش « ش » : عن قميصه.

(٣) السلعة : هي غدة تظهر بين الجلد واللحم اذا غمزت باليد تحركت « النهاية ٢ : ٣٨٩ ».

(٤) في « م » وهامش « ش » : انجذبت.

(٥) اشار الى نحوه ابو يعلى في مسنده ١ : ٣٧١ ، ٣٧٤ ، ٤٢١ ، وابن ابي الحديد في شرح النهج ٢ : ٢٧٦ ، ونقله المجلسي في البحار ٤١ : ٢٨٣ / ٢.

(٦) في « م » وهامش « ش » : من.


الصًّفوفِ ، فرَكَزتُ رُمحي ووضعتُ تُرسي إليه واستترت منَ الشّمس ، فإِنّي لَجالسٌ حتّى وردَ علي أميرُ المؤمنينَ 7 فقالَ لي : « يا أخا الأزدُ (١) ، أمعَكَ طَهورٌ؟ » قلت : نعم ، فناولتُه الإداوةَ ، فمض حتّى لم أرَهُ ثمّ أَقبلَ وقد تَطَهَّرَ فَجَلَسَ في ظِلِّ التُرْسِ ، فإِذا فارسٌ يَسألُ عنه ، فقلتُ : يا أميرَ المؤمنينَ هذا فارسٌ يُريدُكَ ، قالَ : « فأشِرْ إِليه » فأشرتُ إِليه فجاءَ فقالَ : يا أميرَالمؤمنينَ قد عبرَالقومً وقد قطعوا النّهرَ ، فقالَ : « كلّا ما عبروا » قالَ : بلى واللّهِ لقد فعلوا ، قالَ : « كلّا ما فعلوا » قالَ : فإِنّه لكذلكَ إذ جاءَ آخرُ فقالَ : يا أميرَ المؤمنينَ قد عبرَ القومُ ، قالَ : « كلا ما عبروا » قالَ : والله ما جئتًكَ حتّى رأيت الرّاياتِ في ذلكَ الجانبِ والأثقالَ ، قال : « واللّهِ ما فعلوا ، وِإنّه لَمصرعُهم ومُهراقُ دمائهم » ثمّ نهضَ ونهضتُ معه.

فقلتُ في نفسي : الحمدُ للهِّ الّذي بصّرني هذا الرّجلَ ، وعرّفني أمرَه ، هذا أحدُ رجلينِ : إِمّا رجلٌ كذّابٌ جريء أوعلى بيِّنةٍ من ربِّه وعهدٍ من نبيِّه ، اللّهمّ إِنّي أُعطيك عهداً تسألني عنه يومَ القيامِة ، إن أنا وجدتُ القومَ قد عبروا أنْ أكونَ أوّلَ من يقاتلُه وأوّلَ من يَطعنُ بالرُّمحِ في عينهِ ، وِانْ كانوا لم يَعبروا ( أنْ أُقيمَ ) (٢) على المناجزةِ والقتالِ. فدُفِعْنا إِلى الصُّفوفِ فوَجَدْنا الرّاياتِ والأثقالَ كما هي ، قالَ : فأخذَ بقَفايَ ودَفعَني ثمّ قالَ : « يا أخا الأزْدُ (٣) ، أتبينِّ لكً الأمرُ؟ » قلتُ : أجلْ يا أميرَالمؤمنينَ ، قالَ : « فشأْنكَ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : أزد.

(٢) في هامش « ش » و « م » نسخة ثانية : ان اُتِم ، وفي متن « ش » هكذا : اَثِم ، واثبتنا ما في نسخة « م » ونسخة من هامش « ش ».

(٣) في هامش « ش » نسخة اخرى : اخا أزد.


بعدوِّكَ » فقتلتُ رجلاً ، ثم قتلتُ اخرَ ، ثمّ اختلفتُ أنا ورجلٌ آخر أضربُه ويَضرِبُني فوَقعْنا جميعاً ، فاحتملني أصحابي فأفقتُ حينَ أفقتُ وقد فَرغَ القومُُ (١).

وهذا حديثٌ مشهورٌ شائعٌ بينَ نَقَلةِ الآثارِ ، وقد أخبرَ به الرّجلُ عن نفسِه في عهدِ أميرِ المؤمنين 7 وبعدَه ، فلم يَدفعْه عنه دافع ولا أنكرَ صدقَه فيه مُنكِر ، وفيه إِخبارٌ بالغيب ، وِابانةٌ عن علمِ الضّميرِ ومعرفة ما في النَفوسِ ، والايةُ باهرةٌ فيه لا يُعادِلهُا إِلاّ ما ساواها في معناها من عظيمِ المعجزِوجليلِ البرهانِ.

فصل

ومن ذلكَ ما تواترتْ به الرِّواياتُ من نعيِه 7 نفسَه قبلَ وفاتِه ، والخبرِ عنِ الحادثِ في قتلِه ، وأنه يَخرجُ منَ الدُّنيا شهيداً بضربةٍ في رأْسهِ يَخضِب دمُها لحيتَه ، فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ.

فمنَ اللفظِ الّذي رواه الرواة في ذلكَ قولُه 7 : « واللهِ لتُخْضبَنَّ هذهِ من هذا » ووضع يدَه على رأْسِه ولحيتهِ (٢).

وقولهُ 7 : « واللهِ لَيَخْضِبَنَّها من فوقِها » وأومأَ إِلى شيبتهِ « ما

ــــــــــــــــــ

(١) الكافي ١ : ٢٨٠ / ٢ نحوه ، وكذا كنز العمال ١١ : ٢٨٩ عن الطبراني في الوسيط ، وابن ابي الحديد في شرح النهج ٢ : ١ ٢٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٢٨٤ / ٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٣ : ٣٤ ، الغارات ٢ : ٤٤٣ ، الكنى للدولابي : ١٤٣ ، الاستيعاب ٣ : ٦١.


يَحبِسُ أشقاها!؟ » (١).

وقولُه 7 : « ما يَمنعُ أشقاها أن يَخضِبَها من فوقِها بدم؟! » (٢).

ًوقولُه 7 : « أتاكم شهر رمضانَ ، وهوسيد الشهور وأوّلُ السّنةِ ، وفيه تَدورُ رَحَى السُّلطانِ ، ألا وانّكم حاجُّوا العام صفّاً واحداً ، وآيةُ ذلكَ أنّي لستُ فيكم » فكانَ أصحابُه يقولونَ : إِنّه يَنعى إِلينا نفسَه (٣) ، فضُرِبَ 7 في ليلةِ تسعَ عَشرةَ ، ومضى في ليلةِ إِحدى وعشرينَ من ذلكَ الشّهرِ.

ومنها ما رواه الثِّقات عنه : أنّه كانَ يُفطِرُ في هذا الشّهرِ ليلةً عندَ الحسنِ ، وليلةً عندَ الحسينِ ، وليلةً عندَ ابنِ عبّاسُ (٤) ، لا يَزيدُ على ثلاثِ لُقَمٍ ، فقالَ له أحدُ ولديه ـ الحسنُ أو الحسينُ 8 ـ في ذلكَ ، فقالَ : « يا بُنيَّ ، يأْتي أمرُ اللّهِ وأنا خَميصٌ ، إِنّما هي ليلة أو ليلتانِ » فاُصيبَ منَ الليلُِ (٥).

ومنها ما رواه أصحابُ الأثارِ : أنّ الجَعْدَ بنَ بَعْجَةُ (٦) ـ رجلاً منَ

ــــــــــــــــــ

(١) الغارات ٢ : ٤٤٤.

(٢) الغارات ١ : ٣٠ ، الاستيعاب ٣ : ٦١.

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٩٣ / ٩.

(٤) في هامش « ش » و « م » نسخة اخرى : عبدالله بن جعفر. وهو الاولى ، انظر اوائل الارشاد.

(٥) اخرجه الخوارزمي في المناقب : ٣٩٢ / ٤١٠ ، وابن الأثير في اُسد الغابة ٤ : ٣٥ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة : ١٣٩ ، وانظر مصادر اُخرى في أوائل الكتاب في فصل آخر من الاخبار التي جاءت بنعيه.

(٦) في « ش » و « م » : نعجة ، وفي هامشها : بعجة وليس منهم نعجة.


الخوارج ـ قالَ لأميرِ المؤمنينَ 7 : اتّقِ اللّهَ ـ يا عليُّ ـ فإِنّك ميِّت ، فقالَ اميرُ المؤمنينَ : « بل واللّهِ مقتولٌ قتلاً ، ضربه على ( هذا وتخضبُ هذه ) (١) ـ ووضعَ يَده على رأْسِه ولحيتِه ـ عهدٌ معهود وقد خابَ منِ افترى » (٢).

وقولُه 7 في الليلة التي ضربَه الشّقيُّ في آخرِها ، وقد توجّهَ إِلى المسجدِ فصاحَ الإوَزُّ في وجهِه فطردهنَّ النّاسُ عنه ، فقالَ : « اتركوهنَّ فإِنّهن نَوائحُ » (٣).

فصل

ومن ذلكَ ما رواه الوليدُ بنُ الحارثِ وغيرُه عن رجالهِم : أنّ أميرَ المؤمنينَ 7 لمّا بَلَغَه ما صَنَعَه بُسْرُ بنُ أرطاةَ باليَمَنِ قالَ : « اللّهمّ إِنّ بُسْرأ باعَ دينَه بالدُّنيا ، فاسلُبْه عقلَه ، ولا تُبقِ له من دينهِ ما يَستوجبُ به عليكَ رحمتَك » فبقيَ بُسْرٌ حتّى اختلطَ ، فكانَ يدعوبالسّيفِ ، فاتُّخِذَ له سيفٌ من خشبٍ ، فكانَ يَضرِبُ به حتّى يغشى عليه ، فإذا أفاقَ قالَ : السيّفَ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : هذه تَخْضِبُ هذه.

(٢) رواه الثقفي في الغارات ١ : ١٠٨ ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٣ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ ترجمة امير المؤمنين 7 ـ ٣ : ٢٧٨ / ١٣٦٤ ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص : ١٥٨ ، والطبري في ذخائر العقبى : ١١٢ ، وذكره الطيالسي في مسنده : ٢٣ ، قائلاً : جاء رأس الخوارج الى علي.

(٣) اخرجه ابن الأثير في اُسد الغابة ٤ : ٣٦ ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص : ١٦٢ ، والطبري في ذخائر العقى : ١١٢ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة : ١٣٩.


السيّفَ ، فيُدفَعُ إِليه فيَضرِبُ به ، فلم يَزَلْ ذلكَ دأْبه حتّى ماتَ (١).

ومن ذلكَ ما استفاضَ عنه 7 من قوله : « إِنّكم ستُعرَضُونَ من بعدي على سَبِّي فسُبُّوني ، فإِنْ عُرِضَ عليكُمُ البراءةُ منِّي فلا تبَرَؤوا (٢) منِّي فإِني على الإسلام ، فمن عًرِضَ عليه البراءة منَي فليَمْدُدْ غنقَه ، فإنْ تبرأ منِّي فلا دُنياَ له ولا آخرة » فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ.

ومن ذلكَ ما رَوَوْه أيضاً عنه 7 من قوله : « أيُّها النّاسُ ، إِنِّي دَعَوْتُكم إِلى الحقِّ فتَلَوَّيتم عليَّ ، وضرًبْتُكم بالدِّرَةِ (٣) فأعْيَيْتُمُوني ؛ أمَا إِنّه سيَلِيْكم بعدي وُلاةٌ لا يَرْضَوْنَ منكم بهذا حتّى يعَذِبوكم بالسِّياطِ وبالحديدِ ، إِنّه من عَذَبَ النّاسَ في الدُنيا عَذَّبَه اللّهُ في الآخرةِ ، وآيةُ ذلكَ أنْ يأْتيَكم صاحبُ اليَمنِ حتى يحُلّ بين أظهرِكم ، فيأخذ العُمّالَ وعُمّالَ العُمّالِ ، رجلٌ يُقالُ له يُوسُفُ بنُ عُمَر » (٤) فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ.

ومن ذلكَ ما رواه العلماءُ : أنّ جُويْرِيَةَ بنَ مُسْهِر وقفَ على بابِ القَصْرِ فقالَ : أينَ أمير المؤمنينَ؟ فقيلَ له : نائمٌ ، فنادى : أيُها النّائمُ استيقظْ ، فَوَالّذي نفسي بيدِه ، لَتُضْرَبَنَّ ضربةً على رأْسِكَ تُخْضَبُ منها لحيتُكَ ، كما أخبرتَنا بذلكَ من قبلُ. فسمعَه أميرُ المؤمنينَ 7

ــــــــــــــــــ

(١) روى الثقفي في الغارات ٢ : ٦٤٠ و ٦٤٢ نحوه ، وكذا ابن ابي الحديد في شرح النهج ٢ : ١٨ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ١٩ / ٢٠٤.

(٢) في « م » وها مش « ش » : تتبرؤوا.

(٣) الدرّة : التي يضرب بها « الصحاح ـ درر ـ ٢ : ٦٥٦ ».

(٤) اخرجه ابن ابي الحديد في شرح النهج ٢ : ٣٠٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٢٨٥ / ٤.


فنادى : « أقبِلْ يا جويريةُ حتى أُحدًثكَ بحديثِكَ » فأقبَلَ ، فقالَ : « وأنتَ ـ والّذي نفسي بيدِه ـ لَتُعْتَلَنَّ إِلى العًتُلِّ الزّنيمِ ، ولَيَقْطَعَنَّ يدَكَ ورِجلَكَ ، ثمّ لَيَصْلبَنَّكَ تحتَ جذع كافرٍ » فمضى على ذلكَ الدّهرُحتّى وُليَ زياد في أيّام معاويةَ ، فقطعَ يدَه ورجلَه ثمّ صلبَه إِلى جذعِ ابنِ مُكَعْبَرٍ (١) ، وكان جذعاً طويلاً فكانَ تحتَه (٢).

ومن ذلكَ ما رَوَوْه : أنّ مِيْثَمَ (٣) التّمّارَ كانَ عبداً لامرأةٍ من بني أسَدٍ ، فاشتراه أميرُ المؤمنينَ 7 منها وأعتقَه وقالَ له : « ما اسمكَ؟ » قالَ : سالِم ، قال : « أخبرَني رسولُ اللّهِ 9 أنّ اسمَكَ الّذي سمّاكَ به أبَوَاكَ في العَجمِ مِيْثَم » قالَ : صدَقَ اللّه ورسوله وصَدَقْتَ يا أميرَ المؤمنينَ ، واللّهِ إِنّه لاسمي ، قالَ : « فارجِعْ إِلى اسمِكَ الّذي سمّاكَ به رسولَ اللهِ 9 ودَعْ سالِماً » فرجعَ إِلى مِيْثَم واكتنى بأبي سالِم.

فقالَ له عليّ 7 ذاتَ يومِ : « إِنّكَ تُؤخَذُ بعدي فتُصْلَب وتُطْعَن بحَرْبةٍ ، فإِذا كانَ اليومُ الثالثَُ ابتدرَ مَنْخِراكَ وفَمُكَ دماً فيَخْضبُ لحيتَكَ ، فانتظرْ ذلكَ الخِضابَ ، وتُصْلَبُ على باب دارِ عَمْرِو ابن حُرَيْثٍ عاشر عَشرةٍ أنتَ أقصرُهم خَشَبَةً وأقربهم مِنَ الَمَطْهَرة (٤) ، وامضِ حتّى أُرِيَكَ النّخلةَ التّي تُصْلَبُ على جِذْعِها » فأراه إِيّاها.

فكان مِيْثَم يأتيها فيصلِّي عندَها ويقولُ : بوركتِ من نخلةٍ ، لكِ

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : معكبر.

(٢) اخرجه ابن ابي الحديد في شرح النهج ٢ : ٢٩١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٤٨ / ١١.

(٣) في « م » : ميثماً.

(٤) المطهرة : اناء يتطهر به وتزال به الأقذار « مجمع البحرين ـ طهر ـ ٣ : ٣٨٢ ».


خُلِقْتُ ولي غُذَيْتِ. ولم يَزَلْ يَتعاهَدُها حتّى قُطِعَتْ وحتّى عرفَ المَوضع الّذي يُصْلَبُ عليها (١) بالكُوفةِ. قالَ : وكانَ يَلقى عَمْرَو بنَ حُرَيْثٍ فيقول له : إِنِّي مُجاوِرُكَ فأحْسِنْ جِواري ، فيقولُ له عَمْروٌ : أتُريدُ أن تَشتريَ دارَ ابنِ مَسْعود أو دارَ ابنِ حكيم؟ وهو لا يَعلمُ ما يُريدُ.

وحَجّ في السّنةِ التّي قُتِلَ فيها فدخلَ على أُمَ سَلَمَةَ رضيَ الله عنها فقالتْ : مَنْ أنتَ؟ قال : أنا مِيْثَم ، قالتْ : واللّهِ لَربما سمعتُ رسولَ اللهِ 9 يُوْصِي بِكَ علياً في جَوْفِ الليل. فسألَها عنِ الحُسينِ ، قالتْ : هو في حائطٍ له ، قالَ : أخبِرِيهِ أنِّي قد أَحبَبْتُ السّلامَ عليه ، ونحنُ مُلتَقُونَ عندَ ربِّ العالَمِينَ إِنْ شاءَ الله. فدَعَتْ له بطيبٍ فطيّبتْ لحيتَه ، وقالتْ له : أمَا إِنها ستُخْضَبُ بدم.

فقَدِمَ الكوفةَ فأخذَه عبيْدُ اللّه بن زياد فاُدخلَ عليه فقيلَ : هذا كانَ من آثَر النّاس عندَ عليّ ، قالَ : ويَحْكم ، هذا الأعجميّ؟ قيلَ له : نعم ، قالَ له عُبَيْدُ اللّهِ : أَينَ ربُّكَ؟ قالَ : بالمِرصادِ لِكلِّ ظالم وأنتَ أحدُ الظَّلَمةِ ، قالَ : إِنكَ على عُجمتِكَ لَتَبْلُغُ الّذي تُريدُ ، ما أخبركَ صاحبُك أنِّي فاعلٌ بكَ؟ قالَ : أخبرَني أنّكَ تَصلِبُني عاشِرَ عَشرة ، أنا أقصرُهم خَشَبَة وأقربُهم مِنَ المَطْهَرَةِ ، قالَ : لَنُخالِفَنَّه ، قالَ : كيفَ تُخالِفُه؟ فواللّهِ ما أخبرَني إلاّ عنِ النبي 9 عن جَبْرئيْلَ عنِ اللّهِ تعالى ، فكيفَ تُخالِفُ هؤلاءِ!؟ولقد عَرفتُ الموضعَ الّذي أُصلَبُ عليه أينَ هو مِنَ الكُوفةِ ، وأنا أوّلُ خَلْقِ الله أُلْجَمُ (٢) في الإسلام ، فحبسَه وحبسَ معَه المُختارَ بنَ أبي عُبَيْدٍ ، فقالَ مِيْثَم التّمّارُ للمُختارِ : إِنّكَ تُفْلِتُ وتَخْرُجُ ثائراً بدم الحُسين فتَقتُلُ هذا الّذي يَقتُلُنا. فلآ دعا عُبَيْدُالله

ــــــــــــــــــ

(١) كذا في النسخ.

(٢) في « م » وهامش « ش » : أُلجِمَ.


بالمُختارليقتلَه طلعَ بَريْد بكتاب يَزيْدَ إِلى عُبَيْدِاللهِ يأْمرُه بتَخليةِ سبيلهِ فخلاه ، وأمرَ بمِيْثَم أَنْ يُصلَبَ ، فاُخرِجَ فقَالَ له رجلٌ لَقِيَه : ما كانَ أغناك عن هذا يا مِيْثَمُ! فتبسّمَ وقالَ وهو يومئ إِلى النّخلة : لها خُلِقْتُ ولي غُذِّيَتْ ، فلمّا رُفعَ على الخَشَبةِ اجتمعَ النّاسُ حولَه على باب عَمْرِو بنِ حُرَيْثٍ. قالَ عَمْروٌ : قد كان واللهِ يقولُ : إِنِّي مُجاوِرُكَ. فلما صلِبَ أمرََ جاريتَه بكَنْس تحت خَشَبتهِ ورشِّه وتجميرِه ، فجعلَ مِيْثَم يُحدِّثُ بفضائلِ بني هاشِمٍ ، فقيلَ لابنِ زِيادٍ : قد فَضَحَكم هذا العَبْدُ ، فقالَ : ألجِموه ، فكانَ أوّلَ خلقِ اللهِ أُلجِمَ في الإسلام. وكانَ مَقْتَلُ مِيْثَم رحمةُ اللهِ عليه قبلَ قُدوم الحسينِ بنِ عليٍّ 7 الَعِراقَ بعشرةِ أيّامِ ، فلمّا كانَ يومُ الثّالث من صًلبه ، طُعِنَ مِيْثَم بالحَرْبةِ فكبّرَثمّ انبعثَ في آخرِ النّهَارِ فمه وأنفُه دماً (١).

وهذا من جملةِ الاخبار عنِ الغُيوب المحفوظةِ عن أميرِ المؤمنينَ 7 ، وذِكْرُه شائعٌ والرِّوايةَ به بينَ العلماَءِ مستفيضة.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه ابنُ عيّاش ، عن مُجالدٍ ، عنِ الشَعبيّ ، عن زيادِ بنِ النَّضرِ الحارثيِّ قال : كنتُ عند زيادٍ إِذ أُتيَ برُشَيْدٍ الهجريِّ ، فقالَ له زيادٌ : ما قالَ لكَ صاحبُكَ ـ يعني عليّاً 7 ـ إِنّا فاعلونَ بكَ؟ قالَ : تَقطَعونَ يديَّ ورجليَّ وتَصلبونني ، فقالَ زيادٌ : أمَ واللهِ لاُكَذِّبنَ حديثَه ، خَلُّو سبيلَه. فلمّا

ــــــــــــــــــ

(١) رجال الكشي ١ : ٢٩٣ / ١٣٦ ، الاختصاص : ٧٥ ، شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ : ٢٩١ ، وابن حجر في الاصابة ٣ : ٥٠٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٢٤ / ٧.


أرادَ أن يَخرجَ قالَ زيادٌ : واللّهِ ما نجدُ له شيئاً شرّاً ممّا قالَ صاحبُه ، اقطَعوا يديه ورجليه واصلبوه. فقالَ رُشَيْدٌ : هيهاتَ ، قد بقيَ لي عندَكم لشيءٌ أخبرَني به أميرُ المؤمنينَ 7؟ قالَ زيادٌ : اقطَعوا لسانَه ، فقال رُشَيْدٌ : الآن واللّهِ جاءَ تصديقُ خبرِأميرِ المؤمنينَ 7 (١).

وهذا حديثٌ قد نقلَه المؤالفُ والمخالفُ عن ثِقاتِهم عمّن سمّيناه ، واشتهرَ أمرهُ عندَ علماءِ الجميعِ ، وهو من جملةِ ما تقدّمَ ذكرهُ منَ المعجزاتِ والاخبارِ عنِ الغُيوبِ.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه عبدُ العزيز بن صُهَيْبٍ ، عن أبي العالِيةِ قالَ : حدّثَني مزَرّعُ بنُ عبدِ اللّهِ قالَ : سمعتُ أمير المؤمنين 7 يقولُ : « أمَ واللّهِ لَيُقْبِلَنَّ جَيْشٌ حتّى إِذا كانَ بالبَيداءِ (٢) خُسِفَ بهم » فقلتُ له : إِنّكَ لتحَدِّثُني بالغَيب ، قالَ : احفَظْ ما أقولُ لكَ ، واللّهِ لَيَكونَنَ ما خَبَّرَني به أميرُ المؤمنينَ 7 ، وليؤْخَذَنَ رجلٌ فلَيُقْتَلَنَّ وليصْلَبَنَّ بين شرفَتَيْنِ من شُرَفِ هذا المسجِدِ ، قلتُ : إِنّكَ لَتًحدِّثَني بالغَيْب ، قالَ : حدّثَني الثقة المأمونُ عليُّ بن أبي طالبٍ 7 (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد ٢ : ١٩٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٢٥.

(٢) البيداء : اسم لارض ملساء بين مكة والمدينة ؤهي الى مكة اقرب. « معجم البلدان ١ : ٥٢٣ ».

(٣) شرح ابن ابي الحديد ٢ : ٢٩٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٢٥٨ / ٥.


قالَ أبو العالِية : فما أتتْ علينا جُمعةٌ حتّى أُخِذَ مُزَرّعٌ فقُتِلَ وصُلِبَ بينَ الشُّرفتينِ ؛ قالَ : وقد كانَ حدّثَني بثالثة فنَسِيْتُها.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه جَرِيْرٌ عنِ المُغِيرة قالَ : لمّا وُلِّيَ الحَجّاجُ طلبَ كُمَيْلَ بنَ زياد فهربَ منه ، فحرمَ قومه عطاءهم ، فلمّا رأى كُمَيْل ذلكَ قالَ : أنا شيخٌ كبيرٌ قد نَفِدَ عُمري ، لا ينبغي أن أحرِمَ قومي عطيّاتِهم ، فخرجَ فدفعَ بيدِه إِلى الحَجّاجِ ، فلمّا رآه قالَ له : لقد كنتُ أُحِبُّ أن أجِدَ عليكَ سبيلاً ، فقالَ له كُمَيْل : لا تَصْرِفْ (١) عليَّ أنيابكَ ولا تَهَدَّمْ عليّ (٢) فواللهِ ما بقيَ من عُمري إِلاّ مثلُ كَواسِلِ (٣) الغُبارِ ، فاقض ما انتَ قاضٍ فإِنّ الموعدَ الله وبعدَ القتلِ الحساب ، ولقد خَبّرَني أَميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ 7 أنّكَ قاتِلي ؛ قالَ : فقالَ له الحجّاجُ : الحجّةُ عليكَ إذنْ ، فقالَ كُمَيْل : ذاكَ إن كانَ القَضاءُ إليكَ ، قالَ : بلى قد كنتَ فيمنْ قتلَ عُثْمانَ بنَ عَفّان ، اضرِبوا عُنقَه ، فضُربَتْ عُنقه (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) الصريف : صوت الأَنياب ، وهو كناية عن التهديد « لسان العرب ـ صرف ـ ٩ : ١٩١ ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : تهدم عليه : اذا اشتد غضبه عليه ، انظر « الصحاح ـ هدم ـ ٥ : ٢٠٥٦ ».

(٣) في هامش « ض » و « م » : كأنها بقايا الغبار التي كسلت عن أوائله.

(٤) الاصابة ٣ : ٣١٨ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٤٨ / ١٢.


وهذا ـ أيضاً ـ خَبَرٌ رواه نَقَلةً ـ العامّةِ عن ثِقاتِهم ، وشارَكَهم في نقلِه الخاصّةُ ، ومَضمونُه من بابِ ما ذكرناه منَ المعجزاتِ والبراهينِ البيِّناتِ.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه أصحابُ السِّيرة من طرقٍ مختلفةٍ : أنّ الحجّاجَ بنَ يوسفَ الثَقَفيّ قالَ ذاتَ يومٍ : أُحبُّ أن أُصيب رجلاً من أصحاب أبي ترابٍ فأتقرّب إِلى اللّهِ بدمهِ!! فقيلَ له : ما نَعلم أحداً كانَ أطولَ صحبةًَ لأبي ترابٍ من قَنْبَرمولاه ، فبعثَ في طلبه فأُتيَ به فقالَ له : أنت قَنْبَر؟ قالَ : نعم ، قال : أبو هَمْدانَ؟ قال : نعم ، قالَ : مولى عليِّ بنِ أبي طالبٍ؟ قالَ : اللهُ مولايَ ، وأميرُ المؤمنينَ عليّ وليّ (١) نعمتي ، قالَ : ابرَأ من دِينهِ ، قالَ : فإذا بَرِئتُ من دِينهِ تَدُلُّني على دين غيرِه أفضلَ منه؟ فقالَ : إِنِّي قاتِلُكَ فاخترْ أيّ قتلةٍ أحبّ إِليك ، قال : قد صَيَرتُ ذلكَ إِليكَ ، قالَ : ولِمَ؟ قالَ : لأنّك لا تقتلُني قتلة إلاّ قتلتُكَ مثلَها ، ولقد خبّرني أميرُ المؤمنينَ 7 أنّ منيّتي (٢) تكونُ ذبحاً ظلماً بغيرِ حقٍّ ، قال : فأمرَ به فذُبِحَ (٣).

وهذا أيضاً منَ الأخبارِ التّي صحّت عن أميرِ المؤمنينَ 7 بالغيبِ ، وحصلتْ في باب المعجزِ القاهرِ والدّليلِ الباهرِ ، والعلمِ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : مولى.

(٢) في « م » وهامش « ش » : ميتتي.

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٢٦.


الذي خصَّ الله به حُجَجَه من أنبيائه ورُسُلِه وأوصيائه : ، وهو لاحقٌ بما قدّمناه.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه الحسنُ بنُ مَحبوب ، عن ثابتٍ الثّمالِيِّ ، عن أبي إِسحاقَ السّبيعي ، عن سُوَيْدِ بنِ غَفَلةَ : أنًّ رجلاً جاءَ إلى أميرِ المؤمنينَ 7 فقالَ : يا أميرَ المؤمنينَ ، إِنِّي مررتُ بوادي القُرى ، فرأَيتُ خالدَ بنَ عُرْفُطَةَ قد ماتَ بها فاستغفِرْ له ، فقالَ أميرُ المؤمنينَ 7 : « مَهْ ، إِنّه لم يَمُتْ ولا يموتُ حتّى يقودَ جيشَ ضلالةٍ صاحبُ لوائه حبيبُ بنُ حِمازٍ » فقامَ رجل من تحتِ المِنبرِ فقالَ : يا أميرَ المؤمنينَ ، واللّهِ إِنّي لكَ شيعةٌ ، وِانِّي لكَ مُحِب ، قالَ : « ومن أنتَ؟ » قالَ : أنا سبيبُ بنُ حِمازٍ ، قالَ : « إِيّاكَ أن تَحمِلَها ، ولَتَحْمِلَنَّها فتَدخل بها من هذا الباب » وأومأ بيدِه إِلى بابِ الفِيْلِ.

فلمّا مضى أَميرُ المؤمنينَ 7 وقضى الحسنُ بن عليٍّ من بعدِه ، وكانَ من أمرِ الحسينِ بن عليِّ 8 ومن ظهوره ما كانَ ، بعثَ ابنُ زياد بعُمَر بن سعد إِلى الحسيَنِ بنِ عليٍّ 8 وجعلَ خالدَ ابنَ عُرْفُطَةَ على مقدِّمتهِ ، وحبيبَ بنَ حِمازٍ صاحبَ رايتهِ ، فسارَ بها حتّى دخلَ المسجدَ من بابِ الفِيْلِ (١).

ــــــــــــــــــ

(١) شرح ابن ابي الحديد ٢ : ٢٨٦ ، والمصنف في الاختصاص : ٠ ٢٨ ، وذكره ابو الفرج في مقاتل الطالبيين : ٧١ ، والصفار في بصائر الدرجات : ٣١٨ / ١١ ، والخصيبي في الهداية


وهذا ـ أيضاً ـ خبرٌ مُستفيضٌ لا يَتناكرُه أهل العلمِ الرُّواةُ للآثارِ ، وهو منتشرٌ في أهلِ الكوفةِ ، ظاهرٌ في جماعتِهم لا يتناكرُه منهم اثنانِ ، وهو منَ المعجزِ الّذي بيّناه.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه زكريّا بن يَحيى القَطّان ، عن فُضيلِ بنِ الزُّبيرِ ، عن أبي الحكم قالَ : سمعتُ مَشيختَنا وعلماءنا يقولونَ : خطبَ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالبِ 7 فقالَ في خطبتِه : « سلوني قبلَ أن تَفقِدوني ، فواللهِ لا تسألوني عن فئةٍ تُضِلُّ مائةً وتَهدي مائةً إلاّ نبَّاْتُكم بناعقِها وسائقِها إِلى يومِ القيامةِ » (١).

فقامَ إليه رجلٌ فقالَ : أخبِرْني كم في رأْسي ولحيتي من طاقةِ شَعرٍ. فقامَ أميرُ المؤمنينَ 7 وقالَ : « واللهِ لقد حدّثَني خليلي رسولُ اللهِ 9 بما سَألْتَ عنه ، وإِنّ على كلِّ طاقةِ شَعر في رأْسِكَ مَلَكاً يَلعنُكَ ، وعلى كلِّ طاقةِ شَعرٍ في لحيتِكَ شيطاناً يَستفِزُكَ ، وإِنّ في بيتِكَ لَسَخْلاً (٢) يقَتلُ ابنَ رسولِ اللّهِ ، وآيةُ ذلكَ مِصداقُ ما

ــــــــــــــــــ

الكبرى : ١٦١ ، ونقله العلامه المجلسي في البحار ٤٤ : ٢٦٠ / ١٢.

(١) لقد ثبت عن أمير المؤمنين 7 قوله « سلوني قبل ان تفقدوني ... » ونقلتها معظم المصادر التاريخية وباسانيد صحيحة ومتعددة لا يرقى اليها الشك ، وللاطلاع عل ذلك انظر. « الغدير ٦ : ١٩٣ ـ ١٩٤ و ٧ : ١٠٧ ـ ١٠٨ ».

(٢) السخل : الولد « مجمع البحرين ـ سخل ـ ٥ : ٣٩٤ » ‏ وفي هامش « ش » : السخل : المولود يحببه الى ابويه.


خبّرتُكَ به ، ولولا أنّ الّذي سألتَ عنه يَعسرُ برهانهُ لأخبرتُكَ به ، ولكنْ آيةُ ذلكَ ما نبّأْتُ به عن لعنتِكَ وسَخْلِكَ الملعونِ » وكان ابنُه في ذلكَ الوقتِ صبيّاً صغيراً يَحبو (١) فلمّا كانَ من أمرِ الحسينِ 7 ما كانَ تولّى قَتْلَه ، وكانَ الأمرُ كما قالَ أميرُ المؤمنينَ 7 (٢).

فصل

ومن ذلكَ ما رواه إِسماعيلُ بنُ صَبِيْحٍ ، عن يَحيى بن المُساوِرِ العابدِ ، عن إِسماعيل بن زيادٍ قالَ : إِنّ عليّاً 7 قالَ للبَراَءِ بنِ عازبِ يوماً (٣) : « يا بَرَاءُ ، يُقتَلُ ابني الحسينُ وانتَ حيٌّ لا تنصرُه » فلمّا قُتِلً الحسينُ بنُ عليّ 8 كانَ البَراءُ بنُ عازب يقولُ : صدقَ ـ الله ـ عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، قُتِلَ الحسينُ ولم أنصُرْه. ثمّ يُظهرُ الحسرة على ذلكَ والنّدمَ (٤).

ـــــــــــــــــ

(١) اختلفت الروايات والمصادر في من تولى قتل الحسين 7 هل كان شمر بن ذي الجوشن الضبايى ، أو سنان بن أنس الأصبحي ، فالسائل عن شعر رأسه ولحيته أبو احد هذين ، وأما عمر بن سعد بن ابي وقاص فقيل انه ولد في عصر النبي 9 ، وعده ابن فتحون في الصحابة ، وقيل ولد عام مات عمر بن الخطاب ، ومهما كان لم يكن آنذاك صبياً يحبو.

(٢) شرح ابن ابي الحديد ٢ : ٢٨٦ و ١٠ : ١٤ ، وأخرج نحوه بسند آخر ابن قولويه في كامل الزيارة : ٧٤ ، والصدوق في اماليه : ١١٥ / ١ ، ومرسلاً ذكره الشريف الرضي في خصائص الأئمة : : ٦٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ٢٥٨ / ٧.

(٣) في « م » وهامش « ش » : ذات يوم.

(٤) شرح ابن ابي الحديد ١٠ : ١٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤ : ٢٦٢ / ١٨.


وهذا ـ أيضاً ـ لاحق بما قدّمنا ذِكْرَه منَ الانباءِ بالغُيوبِ والأعلامِ القاهرِة للقُلوبِ.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه عُثمانُ بنُ عيسى العامريّ ، عن جابرِ بنِ الحُر ، عن جُوَيرية بن مُسْهِر العبديِّ قالَ : لمّا توجّهْنا معَ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ 7 إِلى صِفِّيْنَ فبَلَغْنَا طُفوفَ كربلاءَ وقفَ 7 ناحيةً منَ العسكرِ ، ثمّ نظرَ يميناً وشمالاً واستعبرَ ثمّ قالَ : « هذا ـ والله ـ مُناخُ رِكابهم ومَوضعُ مَنِيَّتِهم » فقيلَ له : يا أميرَالمؤمنينَ ، ما هذا الموضعُ؟ قَالَ : « هذا كربلاءُ ، يقتَل فيه قومٌ يَدخلونَ الجنّةَ بغيرِ حسابٍ » ثمّ سارَ.

فكانَ النّاسُ لا يَعرفونَ تأويلَ ما قالَ حتّى كانَ من أمرِ أبي عبدِاللهِ الحسينِ بنِ عليٍّ 8 وأصحابِه بالطَّفِّ ما كانَ ، فعَرفَ حينئذٍ من سَمِعَ مقالَه مِصداقَ الخبرِ فيما أنبأهم به (١).

وكانَ ذلكَ من علمِ الغيبِ والخبرِ بالكائنِ قبلَ كونه ، وهو المعجزُ الظّاهرُ والعَلَمُ الباهرُ حسبَ ما ذكرْناه.

والأخبارُ في هذا المعنى يَطولُ بها الشّرح ، وفيما أثبتْناه منها كفاية فيما قَصَدْناه.

ـــــــــــــــــ

(١) وأشار الى الواقعة نصر بن مزاحم في وقعة صفين : ١٤٠ ـ ١٤١ ، والصدوق في أماليه : ١١٧ / ٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٢٨٦ / ٦.


فصل آخر

ومن أعلامِه 7 الباهرةِ ما أبانَه الله تعالى به منَ القدرةِ ، وخصَّه به منَ القوّة ، وخرق العادة بالأعجوبةِ فيه.

فمن ذلكَ ما جاءتْ به الآثارُ وتظاهرت به الأخبارُ ، واتّفقَ عليه العلماءُ ، وسَلّمَ له المخالفُ والمؤالفُ من قصّةِ خَيْبَرَ وقلعِ أميرِ المؤمنينَ 7 بابَ الحصْنِ بيدِه ، وَدحْوه به على الأرضِ ، وكانَ منَ الثِّقلِ بحيثُ لا يَحملهُ أقلُ من خمسينَ رجلاً.

وقد ذكر ذلكَ عبدُالله بن أحمد بن حَنْبَلٍ ، فيما رواه عن مشيختهِ فقالَ : حدّثَنا إِسماعيلُ بنُ إِسحاقَ القاضي قالَ : حدّثَنا إِبراهيمُ بنُ حَمْزةَ قالَ : حدّثَنا عبدُ العزيز بن محمد ، عن حَرَامٍ ، عن أبي عَتِيْق ، عن ابني جابِرٍ ، عن جابر : أنّ النّبي 9 دَفَعَ الرّايةَ إِلى عليِّ بنِ أبًي طالبِ 7 في يومِ خَيْبَرَ بعدَ أنْ دعا له ، فجعلَ علي 7 يُسرِعُ المَسيْر (١) وأصحابُه يقولونَ له : ارْفُقْ ، حتّى انتهى إِلى الحِصْنِ فاجتذبَ بابَه فألقاه بالأرضِ ، ثمّ اجتمعَ عليه منّا سبعونَ رجلاً وكان جَهْدَهم أن أعادوا البابَ (٢).

وهذا ممّا خصَه اللّه تعالى به منَ القوّةِ ، وخَرَقَ به العادةَ ، وجعلَه عَلَماً مُعجِزاً كما قدّمناه.

ـــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : السير.

(٢) انظر حديث فتح خيبر في تاريخ دمشق ١ : ١٧٤ ـ ٢٤٨.


فصل

ومن ذلكَ ما رواه أهلُ السِّيرة ، واشتهرَ الخبرُ به عند (١) العامّةِ والخاصّةِ ، حتّى نَظَمَتْه (٢) الشُّعَراء ، وخَطَبَتْ (٣) به البُلَغاء ، ورواه الفُقَهاء والعُلَماءُ ، من حديثِ الرّاهب بأرضِ كربلاءَ والصّخرةِ ، وشُهرتُه تُغني عن تكلًّفِ إِيرادِ الاسنادِ له. وذَلكَ أنّ الجماعةَ رَوَتْ : أن أميرَالمؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالب 7 لمّا توجّهَ إِلى صِفِّيْنَ ، لَحِقَ أصحابَه عطشٌ شديدٌ ونَفِدَ ما كانَ معَهم منَ الماءِ ، فأخذوا يميناً وشِمالاً يَلتمسونَ الماءَ فلم يجدوا له أثراً ، فعَدَلَ بهم أميرُ المؤمنينَ عنِ الجادّةِ وسارَ قليلاً فَلاحَ لهم دَيْرٌ في وَسَطِ البَرِّيةِ فسارَ بهم نحوَه ، حتّى إِذا صارَ في فِنائه أمرَ مَنْ نادى ساكِنَه بالاطِّلاعِ إِليهم فنادَوْه فاطَّلعَ ، فقالَ له أميرُ المؤمنينَ 7 : « هل قُرْبَ قائمِكَ هذا ماء يَتَغوَّثُ به هؤلاءِ القومُ؟ » فقالَ : هَيْهاتَ ، بيني وبينَ الماءِ أكثرُ من فَرْسَخَيْن ، وما بالقُرْب منِّي شيء منَ الماءِ ، ولولا أنَني أُوتى بماءٍ يَكفيني كلًّ شهرٍ على الَتّقتير لَتَلِفْت عَطَشاً.

فقالَ أميرُ المؤمنينَ 7 : « أسَمِعْتُم ما قالَ الرّاهبُ؟ » قالوا : نعم ، أفَتَأْمُرُنا بالمَسِيْرِ إِلى حيثُ أومأ إِليه لَعَلَّنا نُدرِكُ الماءَ وبنا

ـــــــــــــــــ

(١) في « ش » : في.

(٢) في هامش « ش ». نظمه.

(٣) في هامش « ش » : خطب.


قوّةٌ؟ فقالَ أميرُ المؤمنينَ 7 : « لا حاجةَ بكم إِلى ذلكَ » ولَوَى عُنقَ بغلتِه نحوَ القِبلةِ وأشارَ لهم إِلى مكانٍ يَقربُ منَ الدَّيْرِ فقالَ : « اكشِفوا الأرضَ في هذا المكانِ » فعَدَلَ جماعةٌ منهم إِلى الموضعِ فكشفوه بالمَساحي ، فظهرتْ (١) لهم صخرةٌ عظيمةٌ تَلمعُ ، فقالوا : يا أَميرَ المؤمنينَ ، هنا صخرةٌ لا تَعملُ فيها المَساحي ، فقالَ لهم : « إِنّ هذهِ الصّخرةَ على الماءِ فإِنْ زالتْ عن موضعِها وَجَدْتُم الماءَ ، فاجتَهِدوا في قَلْبِها » فاجتمعَ القومُ ورامُوا تحريكَها فلم يَجِدُوا إِلى ذلكَ سبيلاً واستصعبتْ عليهم. فلمّا رآهم 7 قدِ اجتمعوا وبذلوا الجهدَ في قلع الصّخرةِ فاستصعبتْ (٢) عليهم ، لوى 7 رِجْلَه عن سَرْجِه حتّى صارَ على الأرضِ ، ثمّ حَسَرَ عن ذِراعيه ووَضَعَ أصابِعَه تحتَ جانبِ الصّخرةِ فحرّكَها ، ثمّ قَلَعَها بيدِه ودَحا بها أذرُعاً كثيرةً ، فلمّا زالتْ عن مكانِها ظهرَ لهم بَياضُ الماءِ ، فتَبادَروا إِليه فشرِبوا منه ، فكان أَعذَب ماءٍ شرِبوا منه في سَفرِهم وأبردَه وأصفاه ، فقالَ لهم : « تَزوَدوا وارتَوُوا » ففعلوا ذلكَ.

ثمّ جاءَ إِلى الصّخرةِ فتَناوَلهَا بيدِه ووَضَعَها حيثُ كانت ، وأمرَ أنْ يُعفى أثرُها بالتُّراب ، والرّاهبُ ينَظرُ من فوقِ دَيْرِه ، ـ فلمّا استوفى عِلْمَ. ما جرى نادى : ياَ مَعْشَرَ النّاس أنْزِلُوني أنْزِلُوني. فاحتالوا في إنزالهِ فوقفَ بين يَدَيْ أميرِ المؤمنينَ 7 فقالَ له : يا هذا أَنتَ نبيٌ مُرسَل؟ قالَ : « لا » قالَ : فمَلَكٌ مقرَّبٌ؟ قالَ : « لا » قالَ : فمن أَنتَ؟

ـــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : وظهرت.

(٢) في هامش « ش » و « م » نسخة : فامتنعت.


قالَ : « أنا وصي رسولِ الله محمّد بنِ عبدِالله خاتمِ النّبيِّينَ » قالَ : ابسُطْ يدَكَ أُسْلِمْ للهِ تباركَ وتعالى على يدِكَ ، فبسطَ أميرُ المؤمنينَ 7 يدَه وقالَ له : « اشهَدِ الشّهادَتَين » فقالَ : أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ الله ، وأشهَدُ أنّ محمّداً رسولُ اللهِ ، وأشهَدُ أنًّكَ وصيُّ رسولِ اللّهِ وأحقُ النّاسِ بالأمرِ من بعدِه. فأخذَ أميرُ المؤمنينَ 7 عليه شرائطَ الإسلامِ ثمّ قالَ له : « ما الّذي دعاكَ الآنَ إِلى الإسلامِ بعدَ طولِ مُقامِكَ في هذا الديْرِ على الخِلافِ؟ » فقالَ : أُخبرُكَ ـ يا أميرَ المؤمنينَ ـ إنّ هذا الديْرَ بًنِيَ على طَلَب قالِع هذهِ الصّخَرةِ ومُخرِجِ الماءِ من تحتِها ، وقد مضى عالم قبليَ لم يُدرِكوا ذلكَ ، وقد رَزَقَنِيْه اللّهُ عزّوجلّ ، وإنّا نَجِدُ في كتابٍ من كُتُبنا ونَأْثُرُعن علمائنا ، أنّ في هذا الصّقعِ عيناً عليها صخرةٌ لا يَعرِفُ مكَانَها إِلاّ نبي أو وصيُّ نبيٍّ ، وانّه لا بدّ من وليٍّ للّهِ يَدعوإِلى الحقِّ آيتهُ معرِفةُ مكانِ هذهِ الصّخرةِ وقدرتهُ على قلعِها ، وإِثَي لمّا رأيتُك قد فعلتَ ذلكَ تَحَقَقْتُ ما كُنّا ننتظِرُه وبَلَغْتُ الأمْنِيّةَ منه ، فأنا اليومَ مُسلِمٌ على يدِكَ ومؤمنٌ بحقِّكَ ومولاكَ.

فلمّا سَمِعَ ذلكَ أميرُ المؤمنينَ 7 بكى حتّى اخضَلّتْ لحيتهُ منَ الدُّموعِ ثمّ قالَ : « الحمدُ للّهِ الّذي لم أكُنْ عندَه مَنْسِيّاً ، الحمدُ لله الّذي كُنتُ في كُتُبِه مَذكوراً » ثمّ دعا النّاسَ فقالَ لهم : « اسمَعوا ما يَقولُ أخوكم هذا المُسلِمُ » فسَمِعُوا مَقالتَه (١) ، وكَثُرَ حَمْدُهم للهِّ وشُكْرُهم على النِّعمةِ الّتي أَنعمَ اللّهُ بها عليهم في معرفتِهم بحقِّ أميرِ المؤمنينَ 7.

ـــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : مقاله.


ثمّ سارَ 7 والرّاهبُ بينَ يديهِ في جملةِ أصحابه حتّى لَقِيَ أهلَ الشّام ، فكانَ الرّاهب من جملةِ مَنِ اسْتُشْهِدَ معَه ، فتولى 7 الصّلاةََ عليهِ ودَفنَه وأكثرَ منَ الاستغفارِ له ، وكانَ إِذا ذكرَه يقولُ : « ذاكَ مولاي » (١).

وفي هذا الخبرِ ضرُوبٌ منَ المعجزِ : أحدُها : علمُ الغيبِ ، والثّاني : القوّةُ الّتي خَرَقَ العادةَ بها وتميّزَ بخصوصيَّتِها منَ الأنامِ ، معَ ما فيه من ثبوتِ البشارةِ به في كُتُب اللّهِ الأولى ، وذلكَ مِصداقُ قولهِ تعالى : ( ذَلِكَ مَثًلهُمْ فيِ التَّورَاةِ وَمَثَلُهُمْ فيِ الإنْجِيْلِ ) (٢) وفي ذلكَ يقولُ إِسماعيلُ بنُ محمّدٍ الحِمْيريّ في قصيدتِه البائيّةِ المُذهبَةِ :

[١] وَلَقَدْسَرَى فِيْما ( يًسَيِّرُ ليلَةً ) (٣)

بَعْدَ العِشَاءِ بِكَربلا فِيْ مَوْكِبِ

[٢] حتَى أتَى متبتلاً فيْ قَائم

ألْقَى قَوَاعِدَهُ بِقَاع مُجْدِب

[٣] يأتيه ليس بِحَيْثُ ( يُلْفِيْ عامراً ) (٤)

( غيرالوحوشِ ) (٥) وغير أصْلَعً أشيَبِ

[٤] فدَنَا فَصَاحَ بهِ فَأشْرَفَ مَاثِلاً

كَالنَّسْرِفَوْقَ شَظِيَّةٍ مِنْ مَرْقَبٍ

[٥]هَلْ قُرْبَ قَائِمِكَ الَّذِيْ بُوِّئتهُ

مَاءٌ يُصَاب فقالَ مَامِنْ مَشْرَب

[٦] إلاّبِغَايَةِ فَرْسَخَيْنِ ومَنْ لَنَا

بِاْلمَاءِ بَيْنَ نَقَاًوَقِيّ سَبْسَبِ

ـــــــــــــــــ

(١) نقل هذه الحادثة باختلاف في الالفاظ كل من الرضي في خصائص الائمة : ٥٠ ، وابن شاذان في فضائله : ١٠٤ ، والراوندي في الخرائج ١ : ٢٢٢ / ٦٧ ، والطبرسي في اعلام الورى : ١٧٨ ، وكذلك نقلها نصر بن مزاحم في وقعة صفين : ١٤٤ ، وعن ابن ابي الحديد في الشرح ٣ : ٢٠٤ ، ونقلها العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٢٦٠ / ٢١ ؛ ولمزيد من المصادر انظر احقاق الحق ٨ : ٧٢٢.

(٢) الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٣) في هامش « ش » و « م » : يَسِيْرُ بلَيْلَةٍ.

(٤) في هامش « ش » و « م » : يُلْقَىَ عَامر غَيْرُ.

(٥) في « ش » : الّا الوًحُوْشَ.


[٧] فَثَنَى الأعِنَةَ نَحْوَ وعث فاجْتَلَى

مَلْسَاءَ تَلْمَعُ كَاللُّجَيْنِ المُذْهَب

[٨] قَالَ اقْلِبُوْهَا إِنَّكمْ إِنْ تَقْلِبُوْا

تَرْوَوْا وَلاَ تَرْوَوْنَ إِنْ لَمْ تقْلَبَ

[٩] فَاعْصَوْصَبوْا في قَلْبهَا فَتَمَنَعَتْ

عَنْهُمْ تَمَنُّعَ صعبَةٍ لَم تُرْكَب

[١٠] حَتَى إِذَا أعْيَتْهُمُ أَهْوَت (١) لَهَا

كَفٌّ مَتَى تَرُمِ (٢) المُغَالِبَ تَغْلِبَ

[١١] فَكَأنَّهَا كُرَة بِكَفِّ حَزَوَرٍ

عَبْلِ الذِّرَاعِ دَحَا بهَا فيْ مَلْعَبِ

[١٢] فَسَقَاهُمُ مِنْ تَحْتِهَا مُتَسَلْسلاً

عَذْبَاً يَزِيْدُ عَلَى الألَذًّ الأعَذَبِ

[١٣] حَتَّى إذاشَرِبُوْا جَمِيْعَاً رَدَهَا

وَمَضَى فَخِلْتَ مَكَانَهَا لَمْ يُقْرَب

[١٤] أعْنِي ابْنَ فاطمة الْوَصِيّ ْومن يَقُلْ

فيْ فضلِهِ وفعاله لم (٣) يَكْذِبِ (٤)

ـــــــــــــــــ

(١) في « ش » أهوى.

(٢) في « م » وهامش « ش » : تُردِ.

(٣) في « م » : لا.

(٤) قال السيد المرتضى 2 في شرح هذه القصيدة ـ وقد وزعناه على تسلسل الابيات ـ قال :

[١] السرى : سير الليل كله.

[٢] والمتبتّل : الراهب ، والقائم : صومعته ، والقاع : الارض الحرّة الطين التي لا حزونة فيها ولا انهباط ، والقاعدة : اساس الجدار وكلّ ما يبنى ، والجدب : ضدّ الخصب.

[٣] ومعنى « يأتيه » : أي يأتي هذا الموضع الذي فيه الراهب ، ومعنى [ليس بحيث يلقى] « عامراً » : أنه لا مقيم فيه سوى الوحوش ، ويمكن أن يكون مأخوذاً من العمرة التي هي الزيارة ، والأصلع الأشيب : هو الراهب.

[٤] الماثل : المنتصب ، وشبه الراهب بالنسر لطول عمره ، والشظيّة : قطعة من الجبل مفردة. والمرقب : المكان العالي.

[٦] والنقا : قطعة من الرمل تنقاد محدودبة ، والقيّ : الصحراء الواسعة ، والسبسب : القفر.

[٧] والوعث : الرمل الذي لا يسلك فيه ، ومعنى « اجتلى ملساء » : نظر الى صخرة ملساء فتجلت لعينه ، ومعنى « تبرق » : تلمع ، ووصف اللجين بالمذهب لأنه أشدّ لبرقيه ولمعانه.

[٩] ومعنى « اعصوصبوا » : اجتمعوا على قلعها وصاروا عصبة واحدة.

[١٠] ومعنى « اهوى لها » : مدّ إِليها ، والمغالب : الرجل المغالب.

[١١] والحزوّر : الغلام المترعرع ، والعبل : الغليظ الممتلئ الممتك.


فصل

ومن ذلكَ ( ماتَظاهَربهِ الخبرُمن بعثةِ ) (١) رسولِ الله 9 له إلى وادي الجنِّ ، وقد أخبرَه جَبْرئيْلُ 7 بأَنّ طوائفَ منهم قدِ اجتمعوا لِكَيْدِه ، فأغنى عن رسولِ اللهِ 9 وكفى الله المؤمنينَ به كيدهم ، ودفعهم عن المسلمين بقوّته الّتي بان بها من جماعتهم.

فروى محّمدُ بنُ أبيِ السرَّيّ التّميميّ ، عن أحمد بن الفَرجِ ، عنِ الحسنِ بنِ موسى النَهديِّ ، عن أبيهِ ، عن وَبَرَة بن الحارثِ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ رحمةُ اللّهِ عليهِ قالَ : لمّا خرجَ النبي 9 إِلى بني المُصْطَلِقِ جَنَّبَ عنِ الطّريقِ ، وأدركَه الليلُ فنزلَ بقرب وادٍ وَعْرٍ ، فلمّا كانَ في آخرِ الليلِ هبطَ عليه جْبرئيْلُ 7 يُخبرهُ أن طَائفةً من كفار

ـــــــــــــــــ

[١٢] والمتسلسل : الماء السلسل في الحلق ، ويقال انه البارد أيضاً.

[١٤] وابن فاطمة : هو أميرالمؤمنين 7. انتهى كلامه رفع الله مقامه ، نقله العلامة المجلسي في البحار٤١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٦.

انظر مصادر حديث الراهب في :

وقعة صفيم ت : ١٤٤ ، امالي الصدوق : ١٥٠ ، خصائص الأئمة : ٥١ ، شرح النهج لابن ابي الحديد ٣ : ٢٠٤.

وفي المطبوعة زيادة : « وزاد فيها ابن ميمون قوله :

وَأبَانَ رَاهِبهَا سرَيرةَ مُعْجِزٍ

فيْهَا وآمَنَ بالوَصي المُنتجب

وَمَضَ شَهِيْدَاً صَادِقَاَ فيْ نَصْرِه

أَكْرمْ بهِ من رَاهِب مُتَرهبَ

رجُلاً كِلا طَرَفَيْهِ منْ سَام وَمَا

حَامٌ لَهَُ بأَب وَلاًَ بأبي أبِ

منْ لا يَفِرّ وَلاَ يرَى فيْ مَعْرَكٍ

إِلأَ وَصَارِمُهَُ الْخَضِيبَ المَضرْب »

(١) في « ش » : ما تظاهرت به الاَخبار من بعثه رسول الله 9.


الجنِّ قدِ استبطنوا الواديَ يريدونَ كيدَه وإيقاعَ الشّرِّ بأصحابه عندَ سلوكِهم إِيّاه ، فدعا أميرَ المؤمنينَ علي بنَ أبي طالبٍ 7 وقالَ له : « اذهبْ إِلى هذا الوادي ، فسيَعرِضُ لكَ من أعداءِ اللّهِ الجنَ مَنْ يُريدُك ، فادفعْه بالقوّة الّتي أعطاكَ اللهُ عزّ وجلّ ، وتَحصَّنْ منه بأسماءِ اللهِ الّتي خَصَّكَ بعلمِها » وأنفذَ معَه مائةَ رجلٍ من أخلاطِ النّاسِ ، وقالَ لهم : « كونوا معَه وامتثِلوا أمرَه ».

فتوجّهَ أميرُ المؤمنينَ 7 إِلى الوادي ، فلمّا قاربَ شَفِيرَه أمرَ المائةَ الّذينَ صَحِبوه أن يَقِفوا بقرب الشّفيرِ ، ولا يُحدِثوا شيئاً حتّى يَأذنَ لهم. ثمّ تقدّمَ فوقفَ على شفيرِ اَلوادي ، وتعوّذَ باللهِ من أعدائه ، وسمّى الله عزّوجلّ وأومأ إِلى القوم الّذينَ تَبِعوه أن يَقرُبوا منه فقَربوا ، فكانَ بينَهم وبينَه فُرجةٌ مسافتُها غًلْوةٌ (١) ، ثمّ رَامَ الهبوطَ إِلى الوادي فاعترضتْه (٢) ريحٌ عاصفٌ كادَ أن يَقَعَ القومُ على وجوهِهم لشدّتِها ، ولم تَثبُتْ أقدامُهم على الأرضِ من هَوْلِ ما لَحِقَهم. فصاحَ أميرُ المؤمنينَ : « أنا عليُّ بنُ أبي طالبِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ ، وصيُّ رسولِ الله وابنُ عمِّه؛ اثبُتُوا إِنْ شِئتم » فظهَرَ للقوم أشخاص على صورةِ الزُّطِّ (٣) تخيّل في أيديهم شُعَلُ النّارِ ، قدِ اطمأنوا بجَنَبَاتِ الوادي ، فتوغّلَ أميرُ المؤمنينَ 7 بطنَ الوادي وهو يتلو القرآنَ ويُومِئ بسيفِه يميناً وشِمالاً ، فما لَبِثَتِ الأشخاصُ حتّى صارتْ كالدُّخَانِ الأسودِ ، وكبّرَ

ـــــــــــــــــ

(١) الغلوة : المسافة التي يبلغها السهم عند رميه « مجمل اللغة ـ غلو ـ ٣ : ٦٨٣ ».

(٢) في « م » وهامش « ش » : فاعترضت.

(٣) الزط : جيل من الناس ، الواحد زطي. « الصحاح ـ زطط ـ ٣ : ١١٢٩ » وفي هامش « ش » : الزط : قوم من الزنج.


أميرُ المؤمنينَ 7 ثمّ صَعِدَ من حيثُ انهبطَ ، فقامَ معَ القومِ الّذينَ اتبعوه حتّى أسفرَ الموضِعُ عمّا اعتراه.

فقالَ له أصحابُ رسولِ اللهِ 9 : ما لقيتَ يا أبا الحسنِ؟ فلقدْ كِدْنا أنْ نَهلِكَ خوفاً وِاشفاقنا (١) عليك أكثر ممّا لَحِقَنا. فقالَ لهم 7 : « إِنّه لمّا تَراءى لي العدوُّ جَهَرْتُ فيهم بأسماءِ اللّهِ عزّ وجلّ فتضاءلوا ، وعلمتُ ما حلَّ بهم منَ الجزع فتوغّلْتُ الواديَ غيرَ خائفٍ منهم ، ولو بَقُوا على هيئاتِهم لأتيتُ على آخرهم (٢) ، وقد كفى اللّهُ كيدَهم وكفى المسلمينَ شرَّهم ، وسيَسبِقُني بقيّتهُم إِلى النّبيِّ عليهِ وآلهِ السّلامُ فيُؤمِنونَ بهِ ».

وانصرفَ أميرُ المؤمنينَ بمن تبعَه إِلى رسولِ اللّهِ 9 فأخبرَه الخبرَ ، فسُرِّيَ عنه ودعا له بخيرٍ ، وقالَ له : « قد سبقَكَ ـ يا عليّ ـ إليّ من أخافَه الله بكَ ، فأسلمَ وقَبِلتُ إِسلامَه » ثمّ ارتحلَ بجماعةِ المسلمينَ حتّى قطعوا الواديَ آمِنينَ غيرَ خائفينَ (٣).

وهذا الحديثُ قد روتْه العامّةُ كما روتْه الخاصّةُ ، ولم يتناكروا شيئاً منه.

والمُعتزِلةُ لميلِها إلى مذهبِ البَراهِمة (٤) تَدفَعُه ، ولبُعدِها

ـــــــــــــــــ

(١) في « ش » وهامش « م » : واشفقنا.

(٢) في « ش » : انفسهم.

(٣) ذكره القوشجي مختصراً في شرح تجريد العقائد : ٣٧٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٩ : ١٧٥ / ١٨.

(٤) وجه الشبه أن البراهمة ـ وهي فرقة من كفرة الهند ـ تقدس العقل وترى انه يغني عن النبوة ، والمعتزلة ـ وهي من فرق المسلمين ـ تقدس العقل وتؤوِّل ما خالفه من الامور


عن (١) معرفةِ الأخبارِ تُنكرُه ، وهي سالكةٌ في ذلكَ طريق الزنادقة فيما طعنتْ به في القرآنِ ، وما تَضمنَه منَ أخبارِ الجنِّ وإيِمانِهم باللهِ ورسوله عليهِ وآلهِ السّلامُ ، وما قصَّ اللّهُ تعالى من نبإِهم في القرانِ في سورةِ الجنِّ وقولهم : ( إِنَا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبَاً * يَهْدِيْ إِلَى الرًّشْدِ فَآمَنَا بِهِ ) (٢) إلى آخرِ ما تَضمّنَه الخبرُ عنهم في هذه السُورةِ.

واِذا بطلَ اعتراضُ الزّنادقة في ذلكَ بتجويزِ العُقولِ وجودَ الجنِّ ، وإمكان تكليفِهم وثبوت ذلكَ معَ إِعجازِ القرانِ والأعجوبةِ الباهرةِ فيه ، كانَ مثلَ ذلكَ ظهورُ بطلانِ طُعُونِ المعتزِلةِ في الخبرِ الّذي رَوَيْناه ، لعدمِ استحالةِ مضمونه في العقولِ. وفي مجيئِه من طريقينِ مختلفينِ وبروايةِ فريقينِ في دلالتِه متباينينِ برهانُ صحّتِه ، وليس في إِنكارِ مَنْ عَدَلَ عنِ الأنصافِ في النّظرِ ـ منَ المُعتزِلةِ والمُجبرةِ ـ قدحٌ فيما ذكرْ ناه من وجوبِ العملِ عليه.

كما انّه ليس في جحدِ الملحدةِ وأصنافِ الزّنادقة واليهودِ والنّصارى والمجوسِ والصّابئينَ ما جاءَ مجيئَه منَ الأخبارِ بمعجزاتِ النّبيِّ 9 ـ كانشقاقِ القمر ، وحَنينِ الجِذْعِ ، وتسبيح الحصى ، وشكوى البعيرِ ، وكلام الذًّراعِ ، ومجيءِ الشّجرةِ ، وخروجِ الماءِ من بينِ أصَابعِه في المِيضَأةِ ، وِاطعامِ الخلقِ الكثيرِ منَ الطّعامِ القليلِ (٣) ـ قدحٌ في صحّتِها ، وصدقِ رُوَاتِها ، وثبوتِ الحجّةِ

ـــــــــــــــــ

الغيبية أو تردّه. انظر « الملل والنحل ٢ : ٢٥٨ وما بعدها ».

(١) في « م » وهامش « ش » : من.

(٢) الجن ٧٢ : ١ ـ ٢.

(٣) في « م » وهامش « ش » : اليسير.


بها ، بلِ الشُّبَهةُ لهم في دفعِِ ذلكَ ـ وإن ضَعُفتْ ـ أقوى من شبهةِ منكِري معجزاتِ أميرِ المؤمنين 7 وبراهينهِ ، لما لا خفاءَ على أهلِ الاعتبارِ به ، ممّا لا حاجةَ بنا إِلى شرحِ وجوهِه في هذا المكانِ.

وإذا ثبتَ تخَصُّصُ أميرِ المؤمنينَ 7 منَ القوم بما وصفْناه ، وبينونتهُ من الكافّةِ في العلمِ بما شرحْناه ، وَضَحَ القولُ في الحكمِ له بالتّقدّمِ على الجماعةِ في مَقامِ الإمامةِ ، واستحقاقِه السّبْقَ لهم إِلى محلِّ الرِّئاسة ، بما تَضمَّنَه الذِّكرُ الحكيمُ من قصةِ داود 7 وطالوتَ ، حيثُ يقولُ اللّهُ عزّ اسمهُ : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبيُهمْ إِنَ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوْتَ مَلِكَاً قَالُوْا أنّى يَكُوْنُ لَهُ الْمُلْكَُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ اَحَقّ بالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فيِ الْعِلْمِ وَالْجسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِيْ مُلْكَة مَنْ يَشَاءً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ ) (١) فجعلَ تعالى الحَجّةَ لِطالوتَ في تقدُّمِه على الجماعةِ من قومهِ ما جعلَه لوَليِّه وأخي نبيِّه 8 في التّقدُّم على كافّةِ الأمّةِ ، من اصطفائه عليهم ، وزيادتِه في العلمِ والجسمِ بسطةً؛ وأكّدَ ذلك بمثلِ ما تـأكد به الحكم لأميرِ المؤمنينَ 7 منَ المعجزِ الباهرِ المضافِ إِلى البَينونةِ منَ القومِ بزيادةِ البَسْطةِ في العلمِ والجسمِ ، فقالَ سُبحانَه : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يأتِيَكُمُ التابوتُ فِيْهِ سَكِيْنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وبَقِيَّةٌ مِما تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هَارُوْنَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين ) (٢) فكانَ (٣)

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٤٧.

(٢) البقرة ٢ : ٢٤٨.

(٣) في « ش » : وكان.


خَرْقُ العادةِ لأميرِ المؤمنينَ 7 بما عددناه ـ من علمِ الغيوب وغيرِذلكَ ـ كخَرْقِ العادةِ لِطالوتَ بحملِ التّابوتِ سواءً ، وهذا بَيِّنٌ والله وليُّ التّوفيق.

ولا أَزالُ أجِدُ الجاهلَ منَ النّاصِبةِ والمعُاندَ يُظهرُ العجبَ (١) منَ الخبرِ بمُلاقاةِ أميرِ المؤمنينَ 7 الجنِّ وكفِّه شرَّهم عنِ النّبيِّ 9 وأصحابِه ، وَيتضَاحَكُ لذلكَ ، ويَنْسبُ الرواية له إلى الخرافاتِ الباطلةِ ، وَيصنعُ مثلَ ذلكَ في الأخبارِ الواردةِ بسوى ذلكَ من معجزاتِه 7 ويقول : إِنّها من موضوعاتِ الشيعةِ ، وتَخَرُّص مَنِ افتراه منهم للتّكسُّب بذلكَ أوِ التّعصُّبِ ؛ وهذا بعينِه مَقالُ (٢) الزّنادقةِ وكافّةِ أعداءِ الإسلامِ فيمَا نطقَ به القرآنُ من خبرِ الجنِّ وإسلامِهم وقولهم ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبَاً * يَهْدِيْ إلىَ الرُّشْدِ ) (٣) وفيما ثبتَ به الخبرُ عن ابنِ مَسْعود في قصّتِه ليلةَ الجنِّ ، ومشاهدتِه لهم كالزط (٤) ، وفي غيرِذلكَ من معجزاتِ الرّسولِ عليهِ وآلهِ السّلامُ ، فإِنّهم يظهِرونَ العَجَبَ من جميعِ ذلكَ ، ويَتضاحَكونَ عندَ سماعِ الخبرِبه والاحتجاجِ بصّحتهِ ، ويَستهزِئونَ ويْلغِطُونَ فيما يُسرِفُونَ به مِن سَبِّ الإسلام وأهلِه ، واستحماقِ مُعتقِدِيه والنّاصِرينَ له ، ونِسبتِهِم إِيّاهم إِلى العجزَِ والجهلِ ووضعِ الأباطيلِ ، فلينظُرِ القومُ ما جَنَوْه على الإسلامِ بعداوتِهم أميرَ المؤمنينَ 7 واعتمادِهم في دفعِ فضائلِه ومناقبِه وآياتِه على ما

__________________

(١) في « م » وهامش « ش » : التعجب.

(٢) في « م » و « ح » : فعال.

(٣) الجن ٧٢ : ١ ـ ٢.

(٤) دلائل النبوة لابي نعيم ٢ : ٤٧١ / ٢٦٢ ، الفخر الرازي في تفسيره ٣ : ١٥٢ ، الدر المنثور ٨ : ٣٠٧ ، مجمع الزوائد ٨ : ٣١٤ رواه عن الطبراني.


ضاهَوْا به أصنافَ الزّنادِقةِ والكفّارِ ، ممّا يخرج عن طريقِ الحِجاجِ إِلى أبوابِ الشغب والمُسافَهاتِ (١) وباللهِ نستعين (٢).

فصل

وممّا أظهَره اللّه تعالى منَ الأعلام الباهرةِ على يدِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبِ 7 مَا استفاضتْ به الأخبارُ ، ورواه علماءُ السِّيرةِ والاثَارِ ، ونظَمتْ فيه الشُّعراءُ الأشعار : رُجُوعُ الشّمسِ له 7 مرّتَينِ (٣) : في حياةِ النّبيِّ 9 مرّةً ، وبعدَ وفاتِه مرّةً أُخرى.

وكانَ من حديثِ رجوعِها عليه في المرّةِ الأولى ما رَوَتْه أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ ، وأُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبيِّ 9 ، وجابرُ بنُ عبدِاللهِ الأنصارِيّ ، وأبو سَعِيْدٍ الخُدرِيّ ، في جماعةٍ منَ الصّحابة (٤) : أنّ النّبي 9 كانَ ذاتَ يومٍ في منزلِه ، وعليّ 7 بينَ يديه ، إِذ جاءهُ جَبْرَئِيْلُ 7 يناجيه عنِ اللهِ سُبحانَه ، فلمّا تغشّاه الوحيُ تَوسَّدَ فخِذَ أميرِ المؤمنينَ 7 فلم يَرْفَعْ رأْسَه عنه حتّى غابتِ الشّمسُ ، فاضْطُرَّ أمير المؤمنينَ 7 لذلكَ

__________________

(١) في هامش « ش » : المشاتمات.

(٢) في « م » وهامش « ش » : استعين.

(٣) للتحقق من تواتر الحديث راجع طرقه في تاريخ دمشق ٢ : ٢٨٣ ـ ٣٠٥ ، وكفاية الطالب : ٣٨١ ـ ٣٨٨ ، والغدير ٣ : ١٢٧ ـ ١٤١ ، وإحقاق الحق ٥ : ٥٢١ ـ ٥٣٩.

(٤) في هامش « ش » : « روى هذا الحديث أيضاً ابو هريرة وابو الطفيل عامر بن واثلة ».


إِلى صلاةِ العصر جالساً يومئُ برُكوعِه وسُجُودِه إِيماءً ، فلمّا أفاقَ من غَشْيَتِه قالَ لأَميرِ المؤمنينَ 7 : « أفاتَتْكَ صلاةُ العصر؟ » قال له : « لم أسْتَطِعْ أنْ أُصَلِّيَها قائماً لِمَكانِكَ يا رسولَ اللهِ ، والحالِ اَلّتي كنتَ عليها في استماعِ الوحي » فقالَ له : « ادعُ اللهَ لِيَرُدَّ عليكَ الشّمسَ حتّى تُصَلِّيَها قائماً في وقتها كما فاتَتْكَ ، فإِنّ اللهَ يُجيْبُكَ لِطاعتِكَ للّهِ ورسوله » فسَألَ أميرُ المؤمنينَ اللهَ عزّ اسمُه في ردِّ الشّمَس ، فرُدَّتْ عليه حتّى صارتْ في موضعِها منَ السّماءِ وقتَ العصرِ ، فصلّىَ أميرُ المؤمنينَ 7 صلاةَ العصرِ في وقتِها ثمّ غربتْ. فقالتْ أسماءُ : أمَ واللهِ لقد سَمِعْنا لها عندَ غُروبِها صرَيراً كصرَيرِ المِنْشارِ في الخَشَبَةِ (١).

وكانَ رُجوعُها عليهِ بعدَ النّبيِّ 9 : أنّه لمّا أرادَ أنْ يَعبُرَ الفُراتَ ببابلَ ، اشتغلَ كثيرٌ من أصحابه بتعبيرِ دوابِّهم ورِحالهِم ، وصلّى 7 بنفسِه في طائفةٍ معَه العصَرَ ، فلم يَفرغِ النّاسُ من عُبورِهم حتّى غَربتِ الشّمسُ ، ففاتَتِ الصّلاةُ كثيراً منهم ، وفاتَ الجمهورَ فضلُ الاجتماع معهَ ، فتكلّموا في ذلكَ. فلمّا سَمعَ كلامَهم فيه سألَ اللهَ تعالى ردَّ الشَّمسِ عليه ، ليجتمعَ (٢) كافّةُ أصحابِه على صلاةِ العصرِ في وقتِها ، فأنجابَه اللهُ تعالى إِلى ردِّها عليه ، فكانتْ (٣) في الأفقِ على الحالِ الّتي تكونُ عليها وقتَ العصرِ ، فلمّا سلّمَ بالقوم غابتْ فسُمِعَ لها وَجِيْبٌ (٤) شَديدٌ هالَ النّاسَ ذلكَ ، وأكثَروا منً

__________________

(١) في « م » وهامش « ش » : الخشب.

(٢) في « ش » : لتجمع.

(٣) في « م » وهامش « ش » : وكانت.

(٤) الوجيب : صوت السقوط. انظر « مجمع البحرين ـ وجب ـ ٢ : ١٨٠ ».


التسبيحِ والتهليلِ والاستغفارِوالحمدِ للّهِ على نِعمتهِ الّتي ظهرتْ فيهم.

وسارَ خبرُ ذلكَ في الآفاقِ وانتشرَ ذِكرُه في النّاسِ ، وفي ذلكَ يَقولُ السّيِّدُ بنُ محمّدٍ الحِمْيَرِيّ ; :

رُدّتْ عَلَيْهِ الشَمْسُ لما فَاتَه

وَقْتُ الصَّلاةِ وَقَدْ دَنَتْ لِلْمَغْرِب

حَتَّى تَبَلَّجَ نورهاْ وَقْتِهَا

لِلْعَصرْثُمَّ هَوَتْ هَوِيَّ الكَوْكَبِ

وَعَلَيْهِ قَدْ ردَتْ بَبَاَبِلَ مَرَّةً

أُخْرَى وَمَا رُدَتْ (١) لِخَلْقِ مُعْرِبِ

إِلاّّ لِيُوْشَعَ أوْلَهُ مِنْ بَعْدِهِ

ولِرَدِّهَا تَأْوِيْلُ أمْرٍ مَعْجِبِ

فصل

ومن ذلكَ ما رواه نقلةُ الأخبارِ ، واشتهرَ في أهلِ الكوفةِ لاستفاضتهِ بينَهم ، وانتشَر الخبرُ به إِلى من عَداهم من أهلِ البلادِ ، فأثْبَتَهُ العلماء من كلامِ الحِيتانِ له في فُراتِ الكُوفة.

وذلكَ أنَّهم روَوْا : أنَّ الماءَ طغى في الفراتِ وزادَ حتّى أشفقَ أهلُ الكوفة منَ الغرقِ ، ففَزِعوا إِلى أميرِ المؤمنينَ 7 فرَكِبَ بغلةَ رسولِ اللهِ 9 وخرجَ والنّاسُ معَه حتّى أتى شاطئ الفراتِ ، فنزلَ عليه وأسبغَ الوضوءَ وصلّى منفرِداً بنفسهِ والنّاسُ يَرَوْنَه ، ثمّ دعا الله بدَعَوَاتٍ سَمِعَها أكثرُهم ، ثمّ تقدّمَ إِلى الفراتِ متوكئاً على قضيبٍ بيده حتّى ضربَ به صفحةَ الماءِ وقالَ : « انقُصْ بإِذنِ اللهِ ومشيئتِه » فغاضَ الماءُ حتّى بَدِتِ الحِيتان من قعرِ البحرِ فنطقَ

__________________

(١) في هامش « ش » : وما حبست.


كثيرمنها بالسّلام عليه بامرةِ المؤمنينَ ، ولم يَنطِقْ منهِا أصنافٌ من السُّموك ، وهي : الجِرِّي (١) ، والزِّمّارُ (٢) والمارماهي (٣).

فتعجّبَ النّاسُ لذلكَ وسألوه عن علّةِ نُطْقِ ما نطقَ وصمُوت ما صمتَ ، فقالَ : « أنطقَ اللّهُ لي ما طَهَرمنَ السموكِ ، وأصْمَتَ عثًي ما حرّمَه ونَجّسَه وبعّدَه » (٤) وهذا خبرٌ مستفيضٌ شُهرتُه بالنّقلِ والرِّوايةِ كشُهرةِ كلامِ الذِّئبِ للنّبيِّ 9 وتسبيحِ الحصى بكفه (٥) وحَنينِ الجِذْعِ إِليه ، وإطعامِه الخلقَ الكثيرَمنَ الطّعام القليلِ. ومن رَامَ طعناً فيه فهولا يجدً منَ الشُّبهةِ في ذلكَ إِلاّ ما يتعلقُ به الطّاعِنونَ فيما عَدَدْناه من معجزاتِ النّبيِّ 9.

فصل

وقد روى حَمَلةُ الأخبارِ أيضاً من حديثِ الثًّعبانِ والأية فيه والأعجوبة مثلَ ما رَوَوْه من حديثِ كلامِ الحِيتانِ ونقصانِ ماءِ الفُراتِ.

ورَووا : أن أميرَالمؤمنينَ 7 كانَ ذاتَ يومٍ يَخطُبُ على مِنْبرِ

__________________

(١) الجري : صنف من السمك لا فلس له ، ويقال له الجريث. ( مجمع البحرين ـ جرر ـ ٣ : ٢٤٤ ».

(٢) الزمار والزمير : نوع من السمك. « مجمع البحرين ـ زمر ـ ٣ : ٣١٩ ».

(٣) المارماهي : معرب وأصله حية السمك. « مجمع البحرين ـ مرر ـ ٣ : ٤٨٥ ».

(٤) المسعودي في اثبات الوصية : ١٢٨ ، والرضي في خصائص الأئمة : ٥٨.

(٥) في هامش « ش » : في كفه.


الكُوفةِ ، إِذْ ظهرَثُعبانٌ من جانب المنبرِ فجعلَ يَرقى حتّى دنا من أميرِ المؤمنينَ 7 فارتاعَ النّاَسُ لذلكَ ، وهَمُّوا بقصدِه ودفعِه عن أميرِ المؤمنينَ فأومأ إِليهم بالكفِّ عنه ، فلمّا صارَ على المِرقاةِ الّتي عليها أميرُ المؤمنينَ قائمٌ ، انحنى إِلى الثُّعبانِ وتَطاوَلَ الثُّعبانُ إِليه حتّى الْتَقَمَ أُذنَه ، وسكتَ النّاسُ وتحيَّرُوا لذلكَ ، فَنَقَّ نقيقاً سَمِعَه كثيرٌ منهم ، ثم إِنَّه زالَ عن مكانِه وأميرُ المؤمنينَ 7 يحرِّكُ شفتيهِ والثُّعبانُ كالمُصغي إليه ، ثمّ انسابَ فكأنَّ (١) الأرضَ ابتلعتْه ، وعادَ أميرُ المؤمنينَ 7 إِلى خُطبتهِ فتمّمَها.

فلما فرغَ منها ونزلَ اجتمعَ إِليه النّاسُ يسألونَه عن حالِ الثُّعبانِ والاعجوبة فيه ، فقالَ لهم : « ليسَ ذلكَ كما ظَنَنْتُم ، وإنّما هو حاكمٌ من حُكّام الجنَ ، التبستْ عليه قضيّة ، فصارَ إِليَّ يَستَفْهِمُني عنها فأفهمتُه إِيّاها ، ودعا لي بخيرٍ وانصرفَ » (٢).

فصل

وربّما استبعدَ جُهّالٌ منَ النّاسِ ظهورَ الجنِّ في صُوَرِ الحيوانِ الّذي ليسَ بناطقٍ ، وذلكَ معروفٌ عندَ العربِ قبلَ البعثةِ وبعدَها ، وقد

__________________

(١) في « م » وهامش « ش » : وكأنّ.

(٢) ذكر نحوه الصفار في بصائر الدرجات : ١١٧ / ٧ ، والمسعودي في اثبات الوصية : ١٢٩ ، وابن شاذان في الفضائل : ٧١ ، وانظر احقاق الحق ٨ : ٧٣٢ نقله عن ابن حسنويه في در بحر المناقب المخطوط : ١٢١ ، والقوشجي في شرح تجريد العقائد : ٣٧٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٣٩ : ١٧٨ / ٢٠.


تناصرتْ به أخبارُ أهلِ الإسلامِ ، وليسَ ذلكَ بآبعدَ ممّا أجمعَ (١) عليه أهلُ القبلةِ من ظهورِ إِبليسَ لأهلِ دارِ النّدوةِ في صورةِ شيخٍ من أهلِ نَجد ، واجتماعِه معَهم في الرّأيِ على المَكْرِ برسولِ اللّهِ 9 ، وظهورِه يومَ بدرٍ للمشركينَ في صورةِ سُرَاقَة بن جْعشُمٍ المُدْلجي ، وقوله : ( لا غاَلِبَ لكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وإني جار لكم ) (٢) قالَ اللهُ عزّ وجل : ( فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّيْ بريء مِنْكُمْ إِنيْ أرَى ما لا تَرَوْنَ إِنِّيْ أخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقَابِ ) (٣).

وكلُّ من رَامَ الطّعنَ فيما ذكرْناه من هذهِ الأياتِ ، فإِنّما يُعوِّل في ذلكَ على الملحدةِ وأصنافِ الكفّارِ من مُخالفي الملّةِ ، وَيطعنُ فيها بمثلِ ما طعنوا به في آياتِ النّبيِّ 9؛ وكلهم راجعٌ إِلى طُعونِ البَراهِمة والزّنادِقةِ في آياتِ الرُّسلِ : ، والحجّة عليهم ثبوتُ النُّبوّةِ وصحّةُ المعجزِلرسُلِ اللهِ صلّى اللهُ عليهم.

فصل

ومن ذلكَ ما رواه عبدُ القاهر بن عبدِ الملكِ بنِ عطاءِ الأشجعيّ ، عنِ الوليدِ بنِ عِمران البَجَليّ ، عن جُمَيْعِ بنِ عمَيْرٍ قالَ : اتّهمَ عليٌ 7 رجلاًَ يُقالَ له العَيْزَار برفعِ أخبارِه إِلى معاويةَ ، فأنكرَ ذلكَ وجَحَدَه ، فقالَ له أميرُ المؤمنينَ 7 : « أتحلِفُ بالله يا هذا انكَ ما

__________________

(١) في هامش « ش » : اجتمع.

( ٢ ، ٣ ) الأنفال ٨ : ٤٨.


فعلتَ ذلكَ؟ » قال : نعم. وبدر (١) فحلفَ ، فقالَ له أميرُ المؤمنينَ 7 : « إِنْ كنتَ كاذباً فأعمى اللهُ بصرَكَ » فما دارتِ الجمعةُ حتّى أُخرِجَ أعمى يُقادُ قد أذهبَ اللهُ بصرَه (٢).

فصل

ومن ذلكَ ما رواه إِسماعيلُ بنُ عَمرْوٍ قالَ : حدّثَنا مِسعرُ بنُ كِدامِ قال : حدّثَنا طلحةُ بنُ عُميرةَ قالَ : نَشَمدَ عليٌّ 7 النّاسَ في قولِ النّبي 9 « مَنْ كُنتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ » فشهدَ اثنا عشرَ رجلاً منَ الأَنصارِ ، وأَنسُ بنُ مالكٍ في القوم لم يَشهدْ ، فقالَ له أميرُ المؤمنينَ 7 : « يا أَنسُ » قالَ : لَبَّيْكً ، قالَ : « ما يَمنعُكَ أن تَشهدَ وقد سمعتَ ما سمعوا؟ » فقالَ : يا أَميرُ المؤمنين ، كَبرت ونسيتُ ، فقالَ أَميرُ المؤمنينَ 7 : « أللّهمّ إنْ كان كاذباً فاضربه ببياضٍ ـ أو بِوَضَحٍ ـ لا توارِيه العِمامة » قالَ طلحةُ بنُ عميرةَ : فأشهد باللهِ لقد رأيتُها بيضاءَ بينَ عينيهِ (٣) (٤).

__________________

(١) في « ش » : فبدر.

(٢) انظر احقاق الحق ٨ : ٧٣٩ نقله عن أرجح المطالب : ٨٦١ ( ط لاهور ) ومطالب السؤول ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ١٩٨ / ١١.

(٣) في هامش « ش » و « م » : قيل : كان أنس اذا أَخذ في ذكر مناقب أَهل البيت : تتوارى تلك البرصة واذا امتنع منها تلوح.

(٤) شرح ابن ابي الحديد ٤ : ٧٤ و ١٩ : ٢١٧ ، والمعارف لابن قتيبة : ٣٢٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٢٠٤ / ٢٠. وحديث من كنت مولاه ومناشدة أمير المؤمنين 7 يطلب من كتاب الغدير الجزء الأَول بأجمعه ، واحقاق الحق ٦ : ٣٠٥ ـ ٣٤٠ و ٨ :


فصل

ومن ذلكَ ما رواه أبو إِسرائيلَ ، عنِ الحكمِ ، عن أبي سَلمانَ المؤذِّنِ ، عن زيدِ بنِ أرْقَمَ قالَ : نشدَ عليٌّ النّاسَ في المسجدِ فقالَ : « أنشُدُ اللهَ رجلاً سمعَ النّبيَّ 9 يقولُ : من كنتُ مولاه فعلي مولاه ، اللّهمَّ والِ من والاه وعادِ من عاداه » فقامَ اثنا عشرَ بدرياً ، ستّةٌ منَ الجانبِ الأيمن ، وستّةٌ منَ الجانب الأيسرِ ، فشهدوا بذلكَ. قالَ زيدُ بنُ أرْقَمَ : وكنتُ أَنا فيمن سمعَ ذلكَ فكتمتُه ، فذهبَ الله بَبصري ، وكانَ يتندّمُ على ما فاتَه منَ الشّهادةِ ويَستغفِرُ (١).

فصل

ومن ذلكَ ما رواه عليُّ بنُ مُسْهِرٍ (٢) ، عنِ الأعمشِ ، عن موسى بن طَريف ، عن عَبايةَ. وموسى بن أُكَيلٍ النُمَيريُّ ، عن عِمْران بن ميْثم ، عن عَبايةَ. وموسى الوجيهيُّ (٣) ، عنِ المِنْهالِ بنِ عَمْروٍ ، عن عبدِالله بنِ

__________________

٧٤١ ـ ٧٤٨ وتاريخ دمشق ٢ : ٥ ـ ٣٤ ، وهامش صحيفة الامام الرضا 7 حديث رقم ١٠٩ ( ط مدرسة المهدي ).

(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ : ٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٣٠٥ / ٢١.

(٢) في هامش « ش » و « م » : علي بن مسهر ـ قاضي الموصل ـ الكوفي.

(٣) في هامش « ش » و « م » : الوجيهي هو موسى بن عمر.


الحارثِ. وعُثمانُ بنُ سعيدٍ ، عن عبدِاللّهِ بنِ بُكَيْر ، عن حكيمِ بن جُبَيْرٍ قالَوا : شَهِدْنا عليّا أميرَ المؤمنينَ 7 على المِنْبرِ يَقولُ : « أَنا عبدُ اللهِ ، وأخوِ رسولِ اللّهِ ، وَرِثْتُ نبيّ الرّحمةِ ، ونكحتُ سيِّدةَ نساءِ أهلِ الجنّةِ ، وأنا سيِّدُ الوصيِّينَ ، وآخِرُ أوصياءِ النّبيِّينَ ، لا يَدَعي ذلكَ غيري إلاّ أصابَه اللةُ بسوء ».

فقالَ رجلٌ من عَبْسٍ كانَ جالساً بينَ القوم : مَن لا يُحسِنُ أنْ يقولَ هذا؟ أنا عبدُ الله وأخو رسولِ الله ، فلم يَبْرح مكَانَه حتّى تَخبَّطَه الشّيطانُ ، فجرَ برجلِه إِلى باب المسجدِ ، فسألْنا قومَه عنه فقُلْنا : هل تَعرِفونَ به عَرضاً قبلَ هذا؟ قالَوا : اللّهمّ لا (١).

قالَ الشّيخُ المفيدُ 2 : والأخبارُ في أمثالِ ما ذكرْناه وأثبتْناه يطولُ بها الكتابُ ، وفيما أودعْناه كتابَنا هذا من جملتِها غِنىً عمّا سواه ، واللهَ نسألُ التّوفيقَ ، وِايّاه نستهدي ( إِلى سبيلِ الرّشادِ ) (٢).

__________________

(١) شرح ابن ابي الحديد ٢ : ٢٨٧ ، ونقله العلامة المجلمي في البحار ٤١ : ٢٠٥ / ٢٢.

(٢) في « م » وهامش « ش » : السبيل الى الرشاد.


باب

ذكر أولاد أميرِ المؤمنينَ 7

وعَدَدِهم وَأسمائِهم ومختصرٍ من أخبارهم

فأولادُ أميرِ المؤمنينَ صلواتُ الله عليهِ سبعةٌ وعشرونَ ولداً ذكراً وأُنثى : الحسنُ والحسينُ وزينبُ الكُبرى وزينبُ الصُّغرى المكنّاةُ أمّ كًلْثومَ ، أُمهم فاطمةُ البتولُ سيِّدةُ نساءِ العالمينَ بنتُ سيِّدِ المرسلينَ محمّدٍ خاتم النّبيِّينَ 9.

ومحمّدٌ المكنى أبا القاسمِ ، امُّهُ خَوْلةُ بنتُ جعفر بن قيس الحَنَفِيًةُ.

وعُمَرُ ورُقيةً كانا توأمَينِ ، وأُمًّهما أُمُّ حبيب بنتُ رَبيعةَ.

والعبّاسً وجعفر وعُثمانُ وعبدُ الله الشُهداءُ معَ أخيهمِ الحسينِ ابن عليٍّ صلواتُ الله عليه وعليهم بطفِّ كربلاءَ ، أُمهم أُمُ البنينَ بنتُ حِزَامَ بنِ خالدِ بنِ دَارم.

ومحمّدُ الأصغر المكًنّى أبا بكرٍ وعًبَيْدُاللهِ الشّهيدانِ معَ أخيهما الحسينِ 7 بالطّفِّ ، أُمُّهما ليلى بنتُ مسعود الدّارميّةُ.

ويَحيى أُمُّه أسماءُ بنتُ عُمَيْس الخَثْعَمِيّةُ رضيَ اللّهُ عنها.

وأُمُ الحسنِ ورَمْلَةُ ، أُمهما اُمُ سعيدٍ بنتُ عُرْوة بن مَسْعودِ الثّقفيِّ.

ونَفِيْسةُ وزينبُ الصُّغرى ورُقَيّةُ الصغرى وأُمُّ هانئٍ وأُمُّ


الكِرام وجُمانةُ المكناةُ أُمَّ جَعْفَرٍ وأُمَامة وأمُّ سَلَمَةَ ومَيْمُوْنَةُ وخَديجةُ وفاطمة ، رحمةُ اللّهِ عليهنَّ لأمهاتٍ شتّى (١).

وفي الشِّيعةِ من يَذكرُ أنّ فاطمةَ صلواتُ الله عليها أسقطَتْ بعدَ النّبي 9 ولداً ذكَراً كانَ سَمّاه رسولُ اللّهِ 7 ـ وهوحملُ ـ مُحَسِّنَاً (٢) فعلى قولِ هذهِ الطّائفةِ أولادُ أَميرِ المؤمنينَ 7 ثمانيةٌ وعشرونَ ، واللّهُ أعلمُ (٣).

__________________

(١) في هامش « ش » و « م » نسخة أُخرى : لأمهات أولاد شتى.

(٢) لقد تعددت المصادر التي تؤكد وبوضوح وجود المحسن ضمن اولاد علي من فاطمة 8 ، ولم يقتصر هذا الامر في حدود كتب الشيعة ، بل ان الكثيرمن كتب العامة ذكرت ذلك الامر وسلمت بوجوده من دون تعليق أو ترديد ، انظر « الكافي ٦ : ١٨ / ٢ ، الخصال : ٦٣٤ ، تاريخ اليعقربي ٢ : ٢١٣ ، المناقب لابن شهراشوب ٣ : ٣٥٨ ، تاريخ الطبري ٥ : ١٥٣ ، الكامل في التاريخ لابن الاثير ٣ : ٣٩٧ ، انساب الاشراف للبلاذري ٢ : ١٨٩ ، الاصابة لابن حجر ٣ : ٤٧١ ، والذهبي في لسان الميزان ١ : ٢٦٨ ، وميزان الاعتدال ا : ١٣٩ ، القاموس المحيط للفيروز آبادي ٢ : ٥٥ » وغيرها من المصادر المختلفة.

(٣) في « ش » اضافة : وله ايضاً من النهشلية عبيدالله المدفون بالمذار. ولعله اشتباه وقع فيه النساخ لانه ليس من اصل الكتاب قطعاً للاسباب التالية :

اولاً : ان عبيدالله هذا قد تقدم ذكره مع اخيه محمد الاصغر المكنى بابي بكر ، وامهما ليلى بنت مسعود الدارمية ، المعروفة بالنهشلية ، وهو وان اختلفت المصادر في وقت ومكان استشهاده الا انه عين المتقدم.

انظر « تاريخ اهل البيت : ٩٥ ، مقاتل الطالبيين : ٨٦ و ٢٥ ، تاريخ الطبري ٥ : ١٥٤ ، الكامل في التاريخ لابن الاثير ٣ : ٣٩٧ و ٤ : ٢٧٢ ، ٢٧٧ ».

ثانياً : انه يتعارض مع ما ذكره المصنف في اول الباب من حصر اولاده عليه السلام بسبعة وعشرين ولداً ذكراً واُنثى ، او ثمانية وعشرين عند اضافة المحسن اليهم ، فان عددهم سيزيد واحداً في الحالين.

ثالثاً : ان هذه ـ الاضافة لم ترد في باقي النسخ « م » و « ح » ونسخة العلامة المجلسي.


( تم الجزء الأول من كتاب الإرشاد في معرفة حجج الله تعالى على العباد ، ويتلوه في الجز الثاني إن شاء الله باب ذكرالأئمة : بعد أميرالمؤمنين 7 ، وتاريخ مواليدهم ، ودلائل إمامتهم ، ومدة خلافتهم ، ووقت وفاتهم ، وموضع قبورهم ، وعدد أولادهم ، وطرف من أخبارهم صلوات الله عليهم وسلم تسليماً كثيراً ) (١).

__________________

رابعاً : كان الأولى ان ترد هذهِ الاضافة ان صحت في الاسطر السابقة لتعليق الشيخ الاخير حول المحسن كما في سابقاتها. فتامل.

(١) في نسخة « ح » : تم الجزء الأول تعليقاً في أوقات متفرقة على يد أضعف العباد وأفقرهم وأحوجهم الى رحمة مالك الدنيا والمعاد أسير ذنبه المرتهن بعمله الراجي بشفاعة سادته ومواليه العفو والصفح عن خطله وزلَله وسوء عمله سلمان بن عمد بن سلماذ الحائريَ المجاور بالظل للاشرف الغروي صلوات الله ورحمته وبركاته على مشرفه ، اللهم اغفر ذنوبه واستر عيوبه وعجل له الفرج بجمع شمله بمواليه وسادته واحسن بهم خاتمته وعاقبته وابداً بالمؤمنين والمؤمنات وبصاحبه وبوالديه وبربه يا رب العالمين ويا ارحم الراحمين بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين. وما اثبتأه من نسخة « م ».


محتوى الكتاب

المقدمة المؤلف ٣

باب الخبر عن أمير المؤمنين 7 ٥

اخباره 7 بمقتله وعلمه به ١١

نعيه 7 نفسه إلى اهله واصحابه قبل مقتله ١٣

ما جاء عن تآمر الخوارج لقتله 7 ١٧

الاخبار الدالة على موضع قبره 7 ٢٣

باب طرف من أخبار أمير المؤمنين 7 ٢٩

انه 7 أول الناس اسلاما ٢٩

انه 7 اعلم الصحابة ومبلغ علمه ٣٣

فضله ومكانته ومكانة أهل بيته : ٣٧

حديث الطائر ودلالته على منزلته 7 ٣٨

ما جاء في الخبر بان محبته ايمان وبغضه كفر ٣٩

ما روي عن انه وشيعته هم الفائزون ٤١

الاخبار الدالة على ان ولايته علم على طيب المولد ٤٣

تسمية رسول الله 9 له بامير المؤمنين في حياته ٤٥

حديث الدار ومقامه 7 ٤٩

مبيته 7 في فراش رسول الله 9 ٥١

استخلاف رسول الله 9 له 7 في رد ودائعه ٥٣

ارسال رسول الله 9 له 7 إلى بني جذيمه ٥٥

انقياده المطلق 7 لرسول الله 9 في قضية

حاطب بن أبي بلتعة ٥٦

تسلمه الراية من سعد بن عبادة يوم الفتح ٦٠

اسلام همدان على يديه 7 ٦٢


وقعة خيبر وما بان فيها من شجاعته وقوته 7 ٦٣

ابلاغه 7 سورة براءة لمشركي قريش وغيرهم ٦٥

فضل جهاده 7 في تثبيت ركائز الاسلام ٦٧

غزوة بدر وفضله 7 في انتصار المسلمين ٦٨

اسماء من قتلهم 7 في غزوة بدر من المشركين ٧٠

نتف مما روي عن دوره 7 في غزوة بدر ٧٣

غزوة احد وما ظهر فيها من عظيم فضله وشجاعته 7 ٧٨

ونداء الملائكة في السماء يوم احد بفضله 7 ٨٧

شجاعته الفائقة 7 في مبارزة الابطال وقتلهم ٨٨

جملة ممن قُتلوا بسيفه 7 في اُحد ٩٠

ما جاء عن فضله 7 في غزوة بني النضير ٩٢

غزوة الاحزاب ودوره 7 فيها ٩٤

مبارزته 7 لعمرو بن عبدود وقتله ٩٨

ارسال النبي 9 له 7 إلى بني قريظة ١٠٩

غزوة وادي الرمل وفعال امير المؤمنين 7 فيها ١١٣

ما جاء عن فضله 7 في غزوة بني المصطلق ١١٨

صلح الحديبية وما بان من فضله 7 في هذا الامر ١١٩

ما جاء عن شجاعته 7 في الحديبية ١٢١

غزوة خيبر وما بان فيها من فضله 7 دون الجميع ١٢٤

فتح مكة وبلاء امير المؤمنين 7 فيه ١٣٠

مقدم أبي سفيان إلى المدينة ، وتوسله بأمير المؤمنين واهل بيته عليهم : ١٣٢

دخول امير المؤمنين 7 مكة براية رسول الله 9 ١٣٤

قتله 7 للمشركين الذين كانوا يؤذون رسول الله 9 ١٣٦

ذكر ارسال رسول الله 9 له 7 إلى بني جذيمة ١٣٩

ما بان من فضله وشجاعته 7 في غزوة حنين ١٤٠

تقسيم رسول الله 9 لغنائم حنين واعتراض بعض الانصار ١٤٥


اشارة رسول الله 9 إلى قتل علي 7 للخوارج من بعده ١٤٨

ارسال رسول الله 9 له 7 لتحطيم الاصنام ١٥٢

غزوة تبوك واستخلاف رسول الله 9 له 7 في المدينة ١٥٤

قدوم عمرو بن معدي كرب على رسول الله 9 ١٥٨

مبارزة علي 7 لعمرو بن معدي كرب وقتله ١٦٠

خبر بريدة الاسلمي وزجر النبي 9 له ١٦٠

غزاة السلسلة وما بان فيها من فضله 7 دون الباقي الصحابة ١٦٢

قدوم وفد النصاري على رسول الله 9 ١٦٦

استصحاب رسول الله 9 اهل بيته : للمباهلة مع نصارى نجران ١٦٧

كتاب صلح رسول الله 9 مع نصارى نجران ١٦٩

ذكر حجة الوداع ولحاق أمير المؤمنين 7 برسول الله 9 ١٧٠

مخالفة عمر لرسول الله 9 في امر متعة الحج ١٧٤

نزول آية التبليغ على رسول الله 9 بحق علي 7 ١٧٥

تبليغ رسول الله 9 المسلمين باستخلافه لعلي 7 ١٧٦

شعر حسان بن ثابت بعد مبايعة المسلمين لعلي 7 بالخلافة ١٧٧

استغفار رسول الله 9 لاهل البقيع ١٨١

مرض رسول الله 9 واخباره المسلمين بأوان رحيله ١٨٢

تأكيده 9 على صحابته بانفاذ جيش اسمامة بن زيد ١٨٤

طلب رسول الله 9 دواة وكتف واعتراض عمر بن الخطاب ١٨٤

ايصاء رسول الله 9 علياً 7 بقضاء دينه بعد وفاته ١٨٥


دفعه 9 بخاتمه وسيفه ودرعه ولامته لعلي 7 ٥١٨

اعراضه 9 عن أبي بكر وعمر ١٨٦

مناجاته 9 علياً قبل وفاته ١٨٦

اشتداد المرض على رسول الله 9 ١٨٦

وفاة رسول الله 9 ١٨٧

اخبار رسول الله 9 فاطمة 3 بانها أول أهله لحوقاً به ١٨٧

قيام الامام علي 7 بتغسيل رسول الله 9 وتحنيطه وتكفينه ١٨٧

قرار الامام علي 7 بدفن رسول الله 9 في بيته ١٨٨

تدبير البيعة لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة ١٨٩

محاولة أبي سفيان اثارة الفتنة بين المسلمين ١٩٠

لجوء كبار الصحابة إلى علي 7 في حل معضلات الامور ١٩٢

دعاء رسول الله 9 له 7 في ان يهدي الله قلبه ويثبت لسانه ١٩٤

انفاذه 7 من قبل رسول الله 9 للقضاء في اليمن ١٩٥

جانب من قضاياه 7 في اليمن ١٩٥

طرف من أخبار قضائه 7 في إمارة أبي بكر ١٩٩

ما جاء من قضاياه 7 في امارة عمر بن الخطاب ٢٠٢

ماجاء من قضاياه 7 في امارة عثمان بن عفان ٢١٠

جملة مما روي عن قضاياه 7 في ايام خلافته ٢١٢

في مختصر من كلامه 7 ٢٢٣

من كلامه 7 في وجوب المعرفة بالله والتوحيد له ٢٢٣

من كلامه 7 في مدح العلماء وتصنيف الناس ٢٢٧

من كلامه 7 في الدعاء إلى معرفته وبيان فضله ٢٢٩

من كلامه 7 في صفة العالم وادب المتعلم ٢٣٠


من كلامه 7 في اهل البدع ٢٣١

ومن كلامِهِ 7 في صفه الدنيا والتحذير منها ٢٣٣

من كلامِهِ 7 في التَّزوُّدِ للآخرة ٢٣٤

مِنْ كلامِهِ 7 في التَّزهيدِ في الدنيا ٢٣٤

من كلامِهِ 7 في ذكر خيار الصحابة وزهّادهم ٢٣٦

من كلامِهِ 7 في صِفةِ شيعتِهِ المخلصيْنَ ٢٣٧

من كلامه 7 ومواعظه وذكره للموت ٢٣٨

من كلامِهِ 7 في الدعاء إلى نفسه ٢٣٩

من مختصر كلامه 7 في الدعاء إلى نفسه وعترته ٢٤١

من كلامه 7 حين تخلف بعض الصحابة عن بيعته ٢٤٣

من كلامه 7 عند نكث طلحة والزبير بيعته ٢٤٤

من كلامه 7 عندما اتصل به خبر مسير عائشة وجماعتها إلى البصرة ٢٤٦

من كلامه 7 في الربذة عند توجهه إلى الشام ٢٤٧

من كلامه 7 عند لقائه اهل الكوفة بذي قار ٢٤٩

من كلامه 7 حين نهض من ذي قار متوجهاً إلى البصرة ٢٥١

من كلامه 7 حين دخل البصرة ٢٥٢

من كلامه 7 حين قتل طلحة وانفض اهل البصرة ٢٥٣

ومن كلامهِ 7 تطوافه على قتلى اهل الجمل ٢٥٤

من كلامه 7 بالبصرة حين ظهر على القوم ٢٥٧

كتابه 7 بالفتح إلى اهل الكوفة ٢٥٨

من كلامه 7 حين قدم الكوفة من البصرة ٢٥٩

من كلامه 7 لما عزم على المسير لقتال معاوية ٢٦٠

من كلامه 7 رداً على اقاويل معاوية واهل الشام ٢٦٤

من كلامه 7 في تحضيضه على القتال يوم الصفين ٢٦٥

من كلامه 7 اثناء صفين ٢٦٧

من كلامه 7 حين رجع اصحابه عن القتال بصفين ٢٦٨

من كلامه 7 بعد كتابة الصلح مع معاوية ٢٦٩


من كلامه 7 مع الخوارج حين رجع إلى الكوفة ٢٧٠

من كلامه 7 حين نقض معاوية العهد ٢٧١

من كلامه 7 في استنفار اهل الكوفة ٢٧٢

من كلامه 7 في استبطاء م قعد عن نصرته ٢٧٣

من كلامه 7 لما نقض معاوية شرط الموادعة ٢٧٥

من كلامه 7 في حث اهل الكوفة على الجهاد ٢٧٧

من كلامه 7 في ذم تقاعس اهل الكوفة عن الجهاد ٢٧٨

من كلامه 7 في تظلمه عن اعدائه ٢٨٤

من كلامه 7 عند الشورى وفي الدار ٢٨٥

خطبته المسماة بالشقشقية ٢٨٧

من كلامه 7 في تحذير قومه ٢٩٠

من كلامه 7 عن عدل الامر عن اهل البيت : ٢٩٤

من كلامه 7 في الحكمة والموعظة ٢٩٥

من كلامِه 7 في وصفِ الإنسانِ ٣٠١

مشابهته 7 في كراماته للانبياء : ٣٠٥

ما تميز به 7 من شجاعة لا تقارن ٣٠٧

اضطرار اعدائه إلى الاعتراف بمناقبه ونشرها ٣٠٩

عكوف اعدائه على محاربة ولده وذريته بغضاً له 7 ٣١١

ما جاء عنه 7 من اخبار بالغائبات وتحقق ذلك ٣١٢

اشارته 7 إلى قدوم وفد الكوفة لمبايعته ٣١٥

تحذيره لجماعته من سوء الاستجابة لاهل الشام ٣١٦

حديثه 7 عن مصير الخوارج ومقتلهم ٣١٦

ما رواه جندب الازدي عنه 7 في النهروان ٣١٧

اخباره 7 بمقتله وكيفيته ٣١٩

دعاؤه 7 على بسر بن ارطاة ٣٢١

اشارته 7 إلى ما يبتلى به شيعته من بعده ٣٢٢

اخباره 7 جويرية بن مسهر بمقتله وكيف يكون ٣٢٢


حديثه 7 مع ميثم التمار وما جرى عليه بعد ذلك ٣٢٣

مقتل رشيد الهجري كما اخبر بذلك الامام 7 ٣٢٥

حديث مزرع بن عبد الله عن اخبار امير المؤمنين 7 بالغيبيات ٣٢٦

قتل الحجاج بن يوسف لكميل بن زياد ٣٢٧

مقتل قنبر بيد الحجاج كما اخبره الامام 7 ٣٢٨

اخباره 7 بدخول حبيب بن جماز المسجد براية ابن زياد ٣٢٩

قوله 7 سلوني قبل ان تفقدوني ٣٣٠

اخباره 7 البراء بعدم نصرته للامام الحسين 7 ٣٣١

مروره 7 بكربلاء واشارته إلى وقعة الطف ٣٣٢

جانب مما روي من كراماته العظيمة ٣٣٣

قلعه 7 لباب خيبر ودحوه به على الارض ٣٣٣

حديث الراهب بارض كربلاء وما قيل في ذلك ٣٣٤

مواجهته 7 لطوائف من الجن وانهزامهم امامه ٣٣٩

قصة رد الشمس له 7 ٣٤٥

ما روي عن طغيان ماء الفرات في خلافته 7 ٣٤٧

حديث الثعبان وما روي عن فضل امير المؤمنين 7 ٣٤٨

ما روي عن اصابة العيزار بالعمى لكذبه على امير المؤمنين 7 ٣٥٠

دعاء امير المؤمنين 7 على انس بن مالك ٣٥١

توقف زيد بن ارقم عن الشهادة لامير المؤمنين 7 واصابته بالعمى ٣٥٢

ما اصاب رجلاً استخف بقول امير المؤمنين 7 ٣٥٢

ذكر أولاد أميرِ المؤمنينَ 7 ٣٥٤

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ١

المؤلف: محمد بن محمد النعمان العكبري ( الشيخ المفيد )
الصفحات: 363